مقباس الهداية في علم الدراية
الجزء الثاني
تألیف: الشیخ محمد رضا المامقاني
موسسه آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث
الطبعة: الأولی - ذي الحجة 1413 ه . ق
ص: 1
ص: 2
مقباس الهداية في علم الدراية
ص: 3
مقباس الهداية في علم الدراية
الجزء الثاني
تألیف: الشیخ محمد رضا المامقاني
موسسه آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث
الطبعة: الأولی - ذي الحجة 1413 ه . ق
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 5
جمیع الحقوق محفوظة ومسجلة
لموسسه آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث
ص: 6
الامام الباقرعليه السلام :
يَا بُنَيَّ اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَ مَعْرِفَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ وَ بِالدِّرَايَاتِ لِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فَوَجَدْتُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ امْرِئٍ وَ قَدْرَهُ مَعْرِفَتُهُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
معاني الاخبار(للصدوق)،ص1و2.
عنه بحارالأنوار 1 / 106
ص: 7
ص: 8
الفصل السادس فيمن تقبل روايته، و من تردّ روايته، و ما يتعلق به من الجرح و التعديل(1).
و ينبغي قبل الأخذ في ذلك تقديم مقدمة، ذكرها في البداية(2) و هي: ان معرفة من تقبل روايته و من تردّ من أهم أنواع علم الحديث، و أتمها نفعا، و ألزمها ضبطا و حفظا، لأن بها يحصل التمييز بين صحيح الرواية و ضعيفها، و التفرقة بين الحجّة
ص: 9
اللاحجّة، و لذا جعلوا مصلحته أهم من مفسدة القدح في المسلم المستور(1)، و إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، و اللازمين لذكر الجرح في الرواة، و جوّزوا لذلك هذا البحث، و وجه الأهمية ظاهر، فان فيه صيانة الشريعة المطهرة من ادخال ما ليس منها فيها، و نفيا للخطإ و الكذب عنها(2)، و قد روى انه قيل لبعض العلماء(3): اما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماء لك عند اللّه يوم القيامة؟.
فقال: لان يكونوا خصمائي احب اليّ من أن يكون رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلّم) خصمي، يقول ليّ: لم لم تذبّ الكذب عن حديثي؟!. و روى أن بعضهم سمع من بعض العلماء شيئا من ذلك فقال: يا شيخ! لا تغتاب(4) العلماء، فقال له: ويحك! هذه نصيحة، و ليست غيبة(5).
و قد ادّعى غير واحد من الأواخر الاجماع على استثنائه من حرمة الغيبة(6) و استدلوا على ذلك مضافا اليه بأهمية مصلحة حفظ أحكام اللّه
ص: 10
تعالى عن الضياع من مفسدة الغيبة، و بالأخبار الواردة عنهم (عليهم السّلام) في ذم جملة من الرواة، و بيان فسقهم و كذبهم.. و نحو ذلك. فالجواز مما لا شبهة فيه، بل هو من فروض الكفايات، كأصل المعرفة بالحديث. نعم يجب على المتكلم في ذلك التثبت في نظره و جرحه لئلا يقدح في برء(1) غير مجروح بما ظنه جرحا، فيجرح سليما، يسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، فقد أخطأ في ذلك غير واحد، فطعنوا في أكابر من الرواة استنادا الى طعن ورد فيهم له محمل، كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال المبسوطة. و لقد أجاد في البداية حيث قال بعد التنبيه على ذلك: (انه ينبغي للماهر(2) في هذه الصناعة، و من وهبه اللّه تعالى أحسن بضاعة، تدبر ما ذكروه، و مراعاة ما قرّروه، فلعله يظفر بكثير مما اهملوه، و يطّلع على توجيه في المدح و القدح قد أغفلوه، كما اطلعنا عليه كثيرا، و نبهنا عليه في مواضع كثيرة، وضعناها على كتب القوم، خصوصا مع تعارض الأخبار في الجرح و المدح، فانه وقع لكثير من أكابر الرواة، و قد أودعه الكشي في كتابه من غير ترجيح، و تكلم من بعده في ذلك فاختلفوا في ترجيح أيهما على الآخر اختلافا كثيرا، فلا ينبغي لمن قدر على البحث تقليدهم في ذلك، بل ينفق مما آتاه اللّه تعالى، فلكل
ص: 11
مجتهد نصيب، فان طريق الجمع بينها ملتبس على كثير حسب اختلاف طرقه و أصوله في العمل بالأخبار الصحيحة و الحسنة و الموثقة و طرحها أو بعضها، فربما لم يكن في أحد الجانبين حديث صحيح فلا يحتاج الى البحث عن الجمع بينها، بل يعمل بالصحيح خاصة، حيث يكون ذلك من أصول الباحث، و ربما يكون بعضها صحيحا، و نقيضه حسنا أو موثقا، و يكون من أصله العمل بالجميع، و يجمع بينهما بما لا يوافق أصل الباحث الآخر و.. نحو ذلك، و كثيرا ما يتفق لهم التعديل، بما لا يصلح تعديلا)(1) أو يجرحون بما لا يكون جرحا، فلذلك يلزم المجتهد بذل الوسع في ذلك(2).
و اذ قد عرفت المقدمة، فاعلم أن هنا جهات من الكلام:
الأولى: انهم قد ذكروا شروطا لقبول خبر الواحد في الراوي(3). و اشتراط أغلبها مبني على اعتبار الخبر من الأدلة
ص: 12
الخاصة(1)، و أما بناء على اعتباره من باب مطلق الظن، أو من باب الاطمئنان، فلا وجه لاعتبار غير العقل و الضبط، بل المدار حينئذ على حصول الظن على الأول، و الاطمئنان على الثاني.
و توهم ان اعتبار تلك الشرائط على هذا المبنى إنما هو للتنبيه على أن الخالي عن المذكورات لا يفيد الظن أو الاطمئنان، أو لبيان مراتب الظن أو(2) الاطمئنان، أو لاثبات تحريم العمل بالخالي عن الشرائط كالقياس، كما ترى، ضرورة كون حصول الاطمينان من خبر الفاسق و المخالف في جملة من المقامات، و إن لم يحتف بقرائن قطعية وجدانيا، و تحريم العمل بالاطمئنان العادي الذي على العمل به اتفاق العقلاء لا يحتمله أحد. نعم تحريم العمل بمطلق الظن الغير(3) البالغ حد الاطمينان موجّه، كما برهن عليه في محله.
و كيف كان فالأول: من الشروط التي اعتبروها في الراوي:(4)
فان المشهور اعتباره، بل نقل في البداية اتفاق ائمة الحديث
ص: 13
و الأصول الفقهية عليه(1)، فلا تقبل رواية الكافر مطلقا، سواء كان من غير أهل القبلة كاليهود و النصارى أو من أهل القبلة، كالمجسمة و الخوارج و الغلاة عند من يكفرهم(2)، و الظاهر أن القسم الأول و هو غير أهل القبلة محل الاتفاق.
و أما الثاني ففيه خلاف، و قد حكي عن أبي الحسين - من العامة - قبول روايته ان كان مذهبه تحريم الكذب، و عدم القبول ان لم يكن مذهبه ذلك. و قد ادعى السيد عميد الدين في منية اللبيب في شرح التهذيب الاجماع على عدم قبول رواية غير أهل القبلة من الكفار(3)،
ص: 14
سواء كان من مذهبه تحريم الكذب أو لم يكن. قيل: و أبو حنيفة و إن كان يقبل شهادة الذمي على مثله للضرورة، صيانة للحقوق، اذ أكثر معاملاتهم لا يحضرها مسلمان الا أنه صرح بعدم قبول روايته، فلم يكن قادحا في الإجماع.
و كيف كان فقد استدل جمع منهم ثاني الشهيدين في البداية على عدم القبول بوجوه:
أحدها: ما في البداية و غيره من: (أنه يجب التثبت عند خبر الفاسق، فيلزم عدم اعتبار خبر الكافر بطريق أولى، إذ يشمل الفاسق الكافر، و قبول شهادته في الوصية - مع أن الرواية أضعف من الشهادة(1) - بنص خاص(2)، فيبقى العام معتبرا في الباقي)(3).
و أقول: لا يخفى عليك أن بين قوله في البداية: (فيلزم...
إلى آخره)، و قوله: (إذ يشمل.. إلى آخره) تهافتا، فإن ظاهر الأول عدم شمول الفاسق في الآية(4) للكافر، و أن الاستدلال بها
ص: 15
بمئونة الأولوية، و ظاهر الثاني شمول لفظ الفاسق للكافر، فيندرج تحت الآية(1).
على أنه يمكن المناقشة في الأول بمنع الأولوية، فإن الفاسق إنما لم تقبل روايته لما علم من اجترائه على فعل المحرمات، مع اعتقاد تحريمها، و هذا المعنى غير متحقق في حق الكافر، إذا كان عدلا في دينه، معتقدا لتحريم الكذب، ممتنعا منه، حسب امتناع العدل المسلم منه.
و يتّجه على الثاني ما في مسالكه من منع دلالة آية النبأ على اشتراط الإسلام في الشاهد، معللا بأن الفسق إنما يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونه معصية، أما مع عدمه، بل مع اعتقاد أنه طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا.. إلى أن قال:
(و الحق أن العدالة تتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم، و يحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل)(2)
ص: 16
و إن كان يردّ ما ذكره تصريح جمع منهم الشيخ في الخلاف(1)و المبسوط(2)، و أبو الصلاح(3) و.. غيرهما(4) بصدق الفاسق على الكافر حقيقه لغة و شرعا، فإن الكافر يحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى، و قد قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (5).
ثانيها: إن الكافر ظالم، و كل ظالم لا يجوز قبول خبره، فالكافر لا يجوز قبول خبره.
ص: 17
أما الصغرى، فلأنه لا يحكم بما أنزل اللّه تعالى، و كل من كان كذلك، فهو ظالم لقوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (1)، و لا يختص هذا بمن نزل فيه و هم اليهود، لأن العبرة بعموم الجواب، لا خصوص المورد.
و أما الكبرى فلعموم قوله تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ (2) و لا ريب في كون قبول روايته ركونا إليه، لكن يمكن التأمل في صدق الركون على قبول خبره، كما يأتي.
ثالثها: فحوى ما دلّ على عدم قبول شهادة الكافر، و عدم جواز الوصية، و في تمامية الفحوى نظر(3).
رابعها: إن قبول خبر الكافر يستلزم المساواة بينه و بين المسلم، و قد نفى اللّه تعالى المساواة بقوله عز من قائل: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (4) و قال اللّه تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ اَلنّارِ وَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ (5)، و أنت خبير بعدم شمول المساواة المنفية لمثل ذلك.
احتج أبو الحسين لقبول رواية أهل القبلة من الكفار كالخوارج
ص: 18
و الغلاة بأن أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف كالحسن البصري، و قتادة، و عمرو بن عبيدة، مع علمهم بمذهبهم، و اعتقادهم كفر القائل بذلك المذهب.
ورد:
أولا: بالمنع من قبول أصحاب الحديث رواية من يعتقدون بكفره منهم.
و ثانيا: بأن المراد إن كان مجموع أصحاب الحديث بحيث يكون ذلك إجماعا منهم منعناه، لوضوح أن المشهور بينهم عدم القبول، و إن كان البعض لم يكن قبوله حجة(1).
عدم الاطمئنان و الوثوق بخبره، مضافا إلى رفع القلم عنه حتى يفيق(1)، و فحوى عدم قبول شهادته، و عدم صحة توكيله و الوصية إليه، و الظاهر انصراف إطلاق جمع إلى المطبق، ضرورة عدم المانع من قبول خبر الأدواري حال إفاقته التامة إذا انتفى عنه أثر الجنون بالمرة، و اجتمعت بقية شرائط قبول الرواية، لوجود الوثوق حينئذ، و ثبوت القلم عليه، نعم يعتبر الاطمئنان بإفاقته و لا يكفي الظن به على الأظهر، لعدم الدليل على حجيته حتى يرفع اليد به عن الاستصحاب.
ص: 20
و يلحق بالمجنون السكران، و النائم، و المغمى عليه، و الساهي.
و أما السفيه فإن جمع الشرائط و منها الضبط قبلت روايته، و إلا فلا.
قيل(1): إنه المعروف من مذهب الأصحاب و جمهور العامة، و حكي عن جمع من العامة القبول إذا أفاد خبره الظن(2) و ظاهر بعض الأواخر من أصحابنا الميل إلى موافقتهم مطلقا، أو إذا أفاد الاطمئنان.
أحدها: أصالة حرمة العمل بالظن، خرج من ذلك خبر البالغ، و بقي غيره، و منه خبر الصبي المميز تحتها.
و يمكن المناقشة في ذلك بعدم جريانها في قبال بناء العقلاء على قبول الخبر المفيد للاطمئنان.
ثانيها: حديث رفع القلم(3) عنه حتى يحتلم و يبلغ، فإن لازمه سقوط جميع أفعاله و أقواله عن الاعتبار شرعا.
ثالثها: فحوى ما نطق بعدم قبول خبر الفاسق، فإن للفاسق خشية من اللّه تعالى، و(4) ربما تمنعه عن الكذب؛ سيما في أحكام اللّه تعالى بخلاف الصبي فإنه لعدم توجه التكاليف إليه، و عدم خوفه، قد يجتري على الكذب.
ص: 22
و نوقش في ذلك بمنع اطّراد الخشية من اللّه تعالى في الفاسق، و منع كلية عدم الخشية في الصبي، كما هو ظاهر.
رابعها: فحوى ما دل على عدم جواز معاملته، و توكيله، و الإيصاء إليه(1)، و فيه تأمل.
أحدها: إنه يجوز الاقتداء به، فيجوز قبول روايته.
و ردّ ببطلان القياس أولا، و بمنع الأصل ثانيا، و بوجود الفارق ثالثا، فإن العامة يجيزون الاقتداء بالفاسق و لا يقبلون خبره.
ثانيها: إنه يقبل قوله في الأخبار عن كونه متطهرا، حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة، فيلزم قبول أخباره بغير ذلك.
و الجواب عنه على نحو سابقه، مضافا إلى عدم تعقل الطهارة من الصبي على القول بكون عباداته تمرينية، و الى منع توقف صحة صلاة المأموم على صحة صلاة الإمام.
ثالثها: إن شهادة الصبي في الجراح مقبولة، فيجب قبول روايته.
و الجواب منع القياس أولا، و منع الأصل على الأظهر الأشهر
ص: 23
ثانيا، كما أوضحناه في منتهى المقاصد(1)، و وجود الفارق ثالثا.
أما اولا: فلا مكان أن يكون قبول شهادته في القتل احتياطا في الدم، لصحة خبره، كما يكشف عن ذلك تقييد النص: القبول بأول كلامه، و أنه لا يؤخذ بالثاني(2).
و أما ثانيا: فلأن منصب الرواية أعظم، إذ الحكم بها مستمر و الثابت عنها شرع عام في المكلفين إلى ظهور الحجة عجل اللّه تعالى فرجه و جعلنا من كل مكروه فداه، و ليس كذلك الشهادة في الجراح.
و أما ثالثا: فلأن مورد النص خصوص الجراح، فقياس كل
ص: 24
حكم به قياس مع الفارق(1).
رابعها: إن الصبي ليس بفاسق، فلا يجوز ردّ خبره، بل يقبل لعموم مفهوم آية النبأ.
و فيه مضافا إلى الإشكالات الواردة على مفهوم آية النبأ المذكورة في بشرى الشيخ الوالد العلامة (أنار اللّه تعالى برهانه)(2) و..
غيره، و إلى أن العدالة شرط عند جمع، لا أن الفسق مانع، حتى يكفي عدمه، و إلى انصراف الآية إلى البالغ، أن مقتضى ما مرّ في حجة المشهور هو مانعية نفس الصبا، فهو مانع مستقل غير الفسق، فالقول المشهور أقوى، و اللّه العالم.
و المراد به كونه إماميا اثنى عشريا، و قد اعتبر هذا الشرط جمع
ص: 25
منهم الفاضلان، و الشهيدان، و صاحب المعالم و المدارك و..
غيرهم(1)، و مقتضاه عدم جواز العمل بخبر المخالفين، و لا سائر فرق الشيعة. و خالف في ذلك الشيخ (رحمه اللّه) في محكي العدة، حيث جوز العمل بخبر المخالفين إذا رووا عن أئمتنا (عليهم السّلام) إذا لم يكن في روايات الأصحاب ما يخالفه، و لا يعرف لهم قول فيه(2)، لما روى عن الصادق (عليه السّلام) أنه قال: (إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون(3) حكمها فيما روى(4) عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي (عليه السّلام) فاعملوا به)(5). قال: و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، و غياث بن كلوب، و نوح بن دراج، و السكوني و.. غيرهم من العامة عن أئمتنا (عليهم السّلام) فيما لم ينكروه، و لم يكن عندهم خلافه(6)، و قال
ص: 26
في محكي العدة أيضا: ان ما رواه سائر فرق الشيعة و الفطحية و الواقفية و الناووسية و.. غيرهم إن كان ليس هناك ما يخالفه، و لا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أن يعمل به إذا كان متحرجا(1) في روايته موثوقا به في أمانته، و إن كان مخطئا في أصل الاعتقاد. و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد اللّه بن بكير و.. غيره، و أخبار الواقفية مثل سماعة بن مهران، و علي بن أبي حمزة، و عثمان بن عيسى، و من بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال، و بنو سماعة، و الطاطريون و.. غيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلاف(2)، و تبعه على ذلك أكثر الأواخر(3) بل لم يقل بالأول منهم إلا النادر.
ص: 27
أحدها: أول وجوه اعتبار البلوغ المتقدم، مع جوابه.
ثانيها: إن غير المؤمن فاسق، إذ لا فسق أعظم من عدم الإيمان، فيجب رد خبره بحكم الآية.
و فيه: إن الآية لم تنطق بردّ خبر الفاسق مطلقا، بل أوجبت التبين عند خبره. و التوثيق نوع تثبت.
ثالثها: انه لو جاز الاعتماد على خبر غير المؤمن، لساوى المؤمن، و هو منفي بقوله تعالى: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (1).
و فيه ما مرّ من عدم شمول المساواة المنفية لمثل ذلك.
رابعها: إن غير المؤمن ظالم، لقوله تعالى: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
ص: 28
أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (1) ، و للأخبار الناطقة بضلالة المخالف، و إن من مات و لم يعرف إمام زمانه مات موتة كفر و نفاق(2)، و حينئذ فلا يجوز الاعتماد على خبره، لأنه ركون إليه، و هو منهي عنه بقوله تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ (3).
و فيه: إنه لا ملازمة بين عدم الإيمان و بين الحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى حتى يترتب عليه كونه ظالما مطلقا، و ظاهر الذين ظلموا في الآية الجائرون، و الركون إليهم مفسّر بالمودّة و النصيحة و الطاعة، و عن الصادق (عليه السّلام) هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده كيسه فيعطيه(4)، فلا يشمل العمل بخبره الموثوق به.
خامسها: فحوى ما دل على عدم قبول شهادته، و عدم صحة الاقتداء به، و عدم جواز الوصية إليه.
و فيه: منع الفحوى.
ص: 29
أحدها: إن غير المؤمن إذا كان ثقة في مذهبه محترزا عن الكذب يحصل الاطمينان من خبره، فيجب قبول خبره. أما الصغرى فوجدانية، و أما الكبرى فلبناء العقلاء، و لذا ترى أصحابنا - حتى أهل القول الأول - متفقين خلفا عن سلف على الاعتماد على خبر غير المؤمن في متعلقات الأحكام من اللغة و التفسير و النحو و الصرف و التجويد و.. نحوها بمجرد الوثوق به، فيطالبون بالفارق(1) بين المقامين.
ثانيها: ما تمسك به في القوانين(2) من انه إن قلنا بصدق العدالة مع فساد العقيدة و عدم اطّلاع(3) الفاسق عليهم، فيدلّ على الحجية مفهوم الآية، و إن لم نقل بذلك و قلنا بكونهم فساقا لأجل عقائدهم، فيدلّ على الحجية منطوق الآية لأن التوثيق نوع من التثبت، سيما مع ملاحظة العلّة المنصوصة، فإن التثبت إنما يحصل بتفحص حال كل واحد واحد من الأخبار، أو بتفحّص حال الرجل في خبره، فإذ حصل التثبت في حال الرجل و ظهر أنه لا يكذب في خبره، فهذا تثبت في خبره، لاتحاد الفائدة. و ان أبيت عن ذلك مع ظهوره، فالعلة المنصوصة تكفي في ذلك.
ص: 30
ثالثها: ما سمعت التمسك به من الشيخ (رحمه اللّه) في العدة، و مرجعه إلى أمرين:
أحدهما: الرواية التي نقلها.
و ثانيهما: إجماع الطائفة على العمل بأخبار طائفة من غير(1)الإمامية. و قد نوقش في الرواية بالإرسال، و في الإجماع بالمنع، قال المحقق (رحمه اللّه) في رده: انا لا نعلم إلى الآن أن الطائفة عملت بأخبار هؤلاء(2).
قيل: و لعله أراد منع إجماعهم على العمل، و انه لا حجية في عمل البعض، و إلا فلا مجال لإنكار العمل مطلقا، كيف لا و قد عمل هو (رحمه اللّه) في المعتبر بأخبار المخالفين كثيرا، فلا وجه لإنكاره أصل العمل، بل الوجه هو المناقشة بأن عملهم بها لعله كان لاحتفافها بقرائن قطعية، و الفعل مجمل، فلا يكون حجة.
و قد يجاب عن المناقشة في السند بأن احتجاج الشيخ (رحمه اللّه) في إثبات هذا الأصل العظيم يكشف عن كون سنده معتبرا، فتأمل.
ص: 31
و لا يضرّ كون مورده رواية المخالفين عن علي (عليه السّلام) بعد ظهور عدم القائل بالفصل بين ما يروونه عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) و ما يروونه عن غيره من الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
رابعها: أمره (عليه السّلام) بالأخذ بما رواه بنو فضال و ترك ما رأوه(1)، فإن أمره (عليه السّلام) بذلك مع كونهم فطحيين يكشف عن عدم اعتبار الإيمان في الراوي، لعدم الفرق بين الفطحي و.. غيره من أصناف غير الإمامي بالإجماع، فالقول الثاني أقرب، و اللّه العالم.
و قد وقع الخلاف تارة في موضوعها، و أخرى في اعتبارها في الراوي في قبول خبره. و محل الأول علم الفقه، و قد أوضحنا الكلام فيه في شهادات منتهى المقاصد، و أثبتنا أنها عبارة عن ملكة نفسانية راسخة باعثة على ملازمة التقوى، و ترك ارتكاب الكبائر، و الإصرار على الصغائر، و ترك ارتكاب منافيات المروءة(2) الكاشف ارتكابها عن
ص: 32
قلة المبالاة بالدين بحيث لا يوثق منه التحرز عن الذنوب، و أنه لا يكفي فيها مجرد الإسلام، و لا مجرد عدم ارتكاب الكبيرة ما لم ينبعث الترك عن ملكة. و لا حسن الظاهر فقط، و أنها تنكشف بالعلم و الاطمينان الحاصل من المعاشرة، و من مراجعة المعاشرين له، و أنه ليس الأصل في المسلم العدالة، و أنها لا تزول بارتكاب الصغيرة مرّة من غير إصرار، و لا بترك المندوبات و ارتكاب المكروهات، إلا أن يبلغ إلى حد يؤذن بالتهاون بالسنن و المكروهات و قلّة المبالاة بالدين، ذكرنا هناك معنى الكبائر، و عددها و.. غير ذلك مما يتعلق بتحقيق موضوع العدالة.
و أما حكمها المتعلق بالمقام - أعني اشتراطها في الراوي في قبول روايته - فتوضيح القول في ذلك أنهم اختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: الاشتراط، فلا تقبل رواية غير العدل و إن حاز بقية الشروط، و هذا هو خيرة المعارج(1) و النهاية(2)، و التهذيب(3)، و المبادي، و شرحه(4) و المنية(5) و كنز
ص: 33
العرفان(1)، و شرح الدراية(2)، و المعالم(3) و الزبدة(4). و غيرها. بل في البداية: إن عليه جمهور أئمة الحديث و أصول الفقه(5) و في المعالم و محكي غاية المأمول: أنه المشهور بين الأصحاب(6).
ثانيهما: عدم الاشتراط، و هو خيرة جمع مفترقين على قولين:
أحدهما: حجية خبر مجهول الفسق، و هو المنقول عن ظاهر جمع من المتأخرين(7).
ص: 34
ثانيهما: عدم حجية خبر مجهول الحال، بل من يوثق بتحرزه عن الكذب خاصة، و هو خيرة الشيخ (رحمه اللّه) في العدّة، حيث قال: فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح، و كان ثقة في روايته، متحرزا فيها، فإن ذلك لا يوجب ردّ خبره، و يجوز العمل به، لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه، و إنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته، و ليس بمانع من قبول خبره، و لأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم(1)، و وافقه على ذلك جمع كثير من الأواخر، بل لعله المشهور بينهم(2)، حتى تداولوا العمل بالأخبار الحسان(3).
حجة الأولين: هي نظير الوجوه الخمسة المتقدمة حجة لاشتراط الإيمان. و تقرير الوجه الثاني هنا أن الآية أمرت بالتثبت عند خبر
ص: 35
الفاسق، فصار عدم الفسق شرطا لقبول الرواية، و مع الجهل يتحقق الجهل بالمشروط(1)، فيجب الحكم بنفيه حتى يعلم وجود سبب انتفاء التثبت. هكذا قرره في البداية ناقلا عن أهل القول الأول(2)، ثم تنظّر فيه بأن مقتضى الآية كون الفسق مانعا من قبول الرواية، فإذا جهل حال الراوي، لا يصح الحكم عليه بالفسق، فلا يجب التثبت عند خبره بمقتضى مفهوم الشرط، و لا نسلّم أن الشرط عدم الفسق. بل المانع ظهوره، فلا يجب العلم بانتفائه حيث يجهل، و الأصل عدم الفسق في المسلم و صحة قوله، ثم قال: و هذا بعض آراء شيخنا أبي جعفر الطوسي، فإنه كثيرا ما يقبل خبر غير العدل و لا يبيّن سبب ذلك، و مذهب أبي حنيفة قبول رواية مجهول الحال محتجا بنحو ذلك و بقبول قوله في تذكية اللحم، و طهارة الماء، ورق الجارية، و الفرق بين ذلك و بين الرواية واضح(3).
و أقول: أما منعه كون عدم الفسق شرطا فمتين، لما تقرّر في محله من أن الأمر العدمي لا يكون شرطا، مضافا إلى أن لسان الآية مانعية الفسق، لا شرطية العدالة أو عدم الفسق. و من هنا ظهر صحة ما ذكره من دفع المانع - و هو الفسق - بأصالة العدم، و إن كان فيه ما يأتي.
ص: 36
و ربما ناقش الفاضل القمي (رحمه اللّه)(1) في التمسك بالأصل، بأن الأظهر أن العدالة أمر وجودي، فالأصل بالنسبة إليهما سواء، مع أنه معارض بغلبة الفسق في الوجود، و أنه مقتضى الشهوة و الغضب اللتين هما غريزتان في الإنسان، و الراجح وقوع مقتضاهما ما لم يظهر عدمه.
و فيه إن التمسك بالأصل لا يسلّم شرطية العدالة، و إنما غرضه مانعية الفسق، و أصالة عدم المانع محكمة، و الظاهر لا يعارض الأصل، فلا تذهل.
و أما ما ذكره من وضوح الفرق بين قبول قول المسلم في التذكية و الطهارة ورق الجارية و.. نحو ذلك ففي محله أيضا، ضرورة أن قبول قوله في تلك الموارد إنما هو لقيام الدليل المخرج عن القاعدة على حمل فعله و قوله في نحو ذلك على الصحة، مضافا إلى موافقة بعض ذلك للأصل، كأصالة الطهارة و أصالة حجية قول ذي اليد في الاخبار عما بيده.
و ربما استدل في القوانين(2) لهذا القول بآية النبأ بتقريب أن الفاسق فيها من ثبت له الفسق في الواقع، لا خصوص من علم فسقه، لأن الألفاظ موضوعة لمعاني(3) النفس الأمرية، فإذا وجب التثبت عند خبر من له هذه الصفة في الواقع توقف القبول على العلم
ص: 37
بانتفائها، و هو يقتضي اشتراط العدالة، إذ لا واسطة بين الفاسق و العادل في نفس الأمر فيما يبحث عنه من رواة الأخبار، لأن فرض كون الراوي في أول سن البلوغ مثلا بحيث لم يحصل له ملكة قبل البلوغ و لم يتجاوز عن أول زمان التكليف بمقدار تحصل له الملكة، و لم يصدر منه(1) فسق أيضا، فرض نادر لا التفات إليه.
و أما في غير ذلك، فهو إما فاسق في نفس الأمر أو عادل، و الواسطة إنما تحصل بين من علم عدالته و بين من علم فسقه، و هو من يشكّ في كونه عادلا أو فاسقا، و تلك الواسطة إنما هي في الذهن لا في نفس الأمر(2)، و الواجبات المشروطة بوجود شيء إنما يتوقف وجوبها على وجود المشروط(3)، لا على العلم بوجودها، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط، و مقتضى تعليق الحكم على المتصف بوصف في نفس الأمر لزوم الفحص، ثم العمل على مقتضاه، و يؤيده التعليل المذكور في الآية، فإن الوقوع في الندم يحصل بقبول خبر من كان فاسقا في نفس الأمر و إن لم يحصل العلم به فيه، و أما خبر العدل و إن ظهر كذبه فيما بعد فلا ندم عليه(4)، و لا ذمّ فيه على عدم الفحص، لأنه عمل على مقتضى الدليل، و مقتضى طريقة العرف
ص: 38
و العادة، بخلاف مجهول الحال، و من حكاية التعليل يظهر أن في صورة فرض ثبوت الواسطة أيضا لا يجوز العمل، لعدم الاطمينان بخبر مثله، فهو يوجب(1) الندم أيضا، مع أن العلم بتحقق الواسطة متعذر، لعدم إمكان العلم بانتفاء المعاصي الباطنية عادة، هذا ما في القوانين ملخصا(2)، و ما ذكره لا بأس به.
إن اللّه تعالى علّق وجوب التثبت على فسق المخبر، و ليس المراد الفسق الواقعي، و إن لم نعلم به، و إلا لزم التكليف بما لا يطاق، فتعيّن أن يكون المراد الفسق المعلوم، و انتفاء التثبت عند عدم العلم بالفسق يجامع كلا من الرد و القبول، لكن المراد ليس هو الأول، و إلا لزم كون مجهول الحال أسوأ حالا من معلوم الفسق، حيث يقبل خبره بعد التثبت، فتعين الثاني، و هو القبول.
و ردّ بأن المراد بالفسق في الآية هو فسق(3) النفس الأمري لا المعلوم كما عرفت، و بعد إمكان تحصيل العلم به أو الظن، فلا يلزم تكليف بما لا يطاق.
الفاسق إذا كان ثقة في روايته متحرزا فيها.
أولا: بالمنع من ذلك، و المطالبة بالدليل.
و ثانيا: بأنا لو سلمناها لاقتصرنا على المواضع التي عملت فيها بأخبار خاصة، و لم يجز التعدي في العمل إلى غيرها(1)، و زاد في المعالم(2) تعليل الاقتصار بأن عملهم لعله كان لانضمام القرائن إليها لا بمجرد الخبر.
و ثالثا: بأن دعوى التحرز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعد، إذ الذي يظهر فسقه لا يوثق بما يظهر مما يخرجه عن الكذب، و قد وجّه الاستبعاد في القوانين(3) بأن الداعي على ترك المعصية قد يكون هو الخوف من فضيحة الخلق، و قد يكون لأجل إنكار الطبيعة لخصوص المعصية، و قد يكون من أجل الخوف من الحاكم، و قد يكون هو الخوف من اللّه تعالى، و هذا هو الذي يعتمد عليه في عدم حصول المعصية في السر و العلن، بخلاف غيره، فمن كان فاسقا بالجوارح، و لا يبالي عن معصية الخالق، فكيف يعتمد عليه في ترك الكذب؟!.
و أقول: أما إنكار عمل الطائفة بأخبار غير العدول فبعيد عن
ص: 40
الإنصاف، فإن من تتبع كتب الحديث و الرجال و الفقه وجد عملهم به في غاية الوضوح، حتى أنه (رحمه اللّه) بنفسه عمل في المعتبر و الشرائع بجملة منها(1). و أما قصر ذلك على موارد عملهم لاحتمال كونه لانضمام القرائن إليها، فيردّه كلمات جمع منهم، حيث إنها ظاهرة في العمل بالخبر من حيث هو، و لو سلم فلا وجه للاقتصار على مورد عملهم، بل اللازم التعميم لكل مورد قامت القرائن و الأمارات المفيدة للوثوق بالخبر، مضافا إلى أن الظاهر أن كل من جوّز الاعتماد على خبر الفاسق المتحرز عن الكذب في الجملة و في مورد خاص، جوّزه مطلقا، فالتفصيل خرق للإجماع المركب
و أما ما ذكره ثالثا فمدفوع بملاحظة سيرة كثير من الناس من أهل الإيمان و الإسلام و الكفر من التحاشي و التحرز جدا عن الكذب، و ارتكاب كثير من المحرمات، و الاستبعاد إنما يتّجه حيث يكون الأمر على خلاف العادة، و من الظاهر أن ما ذكرناه مما جرت به العادة، و لقد أجاد الفاضل القمي (رحمه اللّه) حيث قال: إن إنكار حصول الظن منه مطلقا لا وجه له، كما ترى بالعيان ان كثيرا ممن لا يجتنب عن أكل الحرام أنه يهتم في الصلاة و ترك الشرب و الزنا و.. غيرها
ص: 41
كثيرا، و كذلك ممن هو مبتلى بأنواع الفسوق أنه لا يستخف بكتاب اللّه تعالى و سائر شعائره، و كذلك الكذب خصوصا في الرواية بالنسبة إلى الأئمة (عليهم السّلام) - كما هو ظاهر كلام الشيخ (رحمه اللّه) فمجرد ظهور سائر الفسوق ممن يعظم في نظره الكذب على الإمام (عليه السّلام) لا يوجب عدم حصول الظن بصدقه، و كذلك إذا كانت طبيعته مجبولة على الاجتناب عن الكذب. نعم إن كان ترك الكذب محضا من جهة أن الشارع منعه أو وعد عليه لا يحصل الظن به، مع صدور ما هو أعظم منه مما يدلّ على عدم الاعتناء بوعيده تعالى و نواهيه(1).
ثانيها: إن طريق الإطاعة موكول إلى العقل و العقلاء، حتى إن ما ورد الأمر به من طرقه إنما هو من باب الإرشاد، و نحن نرى العقلاء مطبقين على العمل بخبر الفاسق بالجوارح، المتحرز عن الكذب في أمور معاشهم و معادهم عند الوثوق به.
ثالثها: آية النبأ، بتقريب أن معرفة حال الراوي بأنه متحرز عن الكذب في الرواية تثبّت إجمالي محصل للاطمئنان بصدق الراوي، فيجوز العمل به، لأن الظاهر من الآية انه إذا حصل الاطمئنان من جهة خبر الفاسق بعد التثبت بمقدار يحصل من خبر العدل، فهو يكفي، سيما
ص: 42
العدل الذي ثبتت عدالته بالظن، و الأدلة الظنية، فإن المراد بالعادل النفس الأمري هو ما اقتضى الدليل اطلاق العادل عليه في نفس الأمر، لا ما كان عادلا في نفس الامر، و الدليل قد يفيد القطع، و قد يفيد الظن، و بالجملة فقول الشيخ (رحمه اللّه) هو الأقوى(1)، و اللّه العالم.
لما يرويه، بمعنى كونه حافظا له مستيقظا غير مغفل(2) إن حدّث من حفظه، ضابطا لكتابه(3)، حافظا له من الغلط و التصحيف و التحريف إن حدّث منه، عارفا بما يختل به المعنى حيث يجوز له ذلك، و قد صرح باعتباره جمع كثير(4)، بل نفى الخلاف في اشتراطه جمع. و الوجه في ذلك أنه لا اعتماد و لا وثوق إلا مع الضبط، لأنه قد يسهو فيزيد في الحديث أو ينقص أو يغيّر أو يبدّل بما يوجب اختلاف الحكم، و اختلاف مدلوله المقصود، و قد يسهو عن الواسطة
ص: 43
مع وجودها، و بذلك قد يحصل الاشتباه بين السند الصحيح و الضعيف و.. غير ذلك. و أيضا الاعتماد على الخبر من باب بناء العقلاء، و من البيّن عدم اعتمادهم إلا على خبر الضابط. و أيضا فمفهوم آية النبأ. المقتضي لقبول خبر العدل مطلقا. مخصص بالضابط، لإشعار المنطوق به، و لإجماعهم ظاهرا عليه(1).
الأول: إن المراد بالضابط، من يغلب ذكره سهوه، لا من لا يسهو أصلا، و إلا لانحصر الأمر فيما يرويه المعصوم (عليه السّلام) من السهو، و هو باطل بالضرورة، فلا يقدح عروض السهو عليه نادرا، كما صرح به جماعة(2).
و قد فسر الضبط: بغلبة ذكره الأشياء المعلومة له على نسيانه إياها جماعة، منهم السيد عميد الدين في محكي المنية، قال: فلو كان بحيث لا يضبط الأحاديث و لا يفرق بين مزايا الألفاظ و لم يتمكن من حفظها لا تقبل روايته(3).
ص: 44
الثاني: إنه قال جمع منهم الشهيد الثاني في البداية: إن اعتبار العدالة في الحقيقة يغني عن اعتبار الضبط، لأن العدل لا يروي إلا ما ضبطه و تحققه على الوجه المعتبر، و تخصيصه بالذكر تأكيد و(1) جرى على العادة(2).
و ناقش في ذلك في محكي مشرق الشمسين(3) بأن العدالة إنما تمنع من تعمد نقل غير المضبوط عنده، لا من نقل ما يسهو عن كونه غير مضبوط فيظنه مضبوطا(4)، و ما ذكره موجّه.
و توهّم أن العادل إذا عرف من نفسه كثرة السهو لم يجترئ على الرواية تحرزا من إدخال ما ليس من الدّين فيه، مدفوع بأنه إذا كثر سهوه، فربما يسهو عن أنه كثير السهو، فيروي، فالحق أن اعتبار العدالة لا يغني عن اعتبار الضبط.
لا يقال: لو كان الضبط شرطا للزم أهل الرجال الاعتناء به و تحقيقه و التصريح به كما في العدالة.
لأنا نقول: ما ذكرته مدفوع بما ذكره جمع منهم الشيخ البهائي
ص: 45
(رحمه اللّه) في محكي مشرق الشمسين بقوله: فإن قلت: فكيف يتمّ لنا الحكم بصحة الحديث بمجرد توثيق علماء الرجال رجال سنده من غير نص على ضبطهم.
قلت: إنهم يريدون بقولهم: فلان ثقة أنه عدل ضابط، لأن لفظة الثقة من الوثوق، و لا وثوق بمن يتساوى سهوه [مع](1) ذكره أو يغلب سهوه على ذكره، و هذا هو السّر في عدولهم عن قولهم عدل إلى قولهم ثقة(2).
الثالث: أنه صرّح جمع بأنه يكفي في إطلاق الضابط على الراوي كثرة اهتمامه في نقل الحديث، بأن يكون بمجرد سماعه الحديث يكتبه و يحفظه و يراجعه و يزاوله، بحيث يحصل له(3) الاعتماد و إن كان كثير السهو، إذ ربما يكون الإنسان متفطنا ذكيا لا يغفل عن درك المطلب حين الاستماع، و لكن يعرضه السهو بعد ساعة أو أكثر، فمثل هذا إذا كتب و أتقن حين السماع فقد ضبط الحديث، و هو ضابط، و بمثل هذا يجاب عما يقال من أن حبيبا الخثعمي(4) ممن وثقوه في الرجال، مع أن الصدوق (رحمه اللّه) روى في الفقيه أنه
ص: 46
سأل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) فقال: (إني رجل كثير السهو فما أحفظ على صلاتي... الحديث)(1) فإن كونه كثير السهو يجتمع مع توثيقهم له بأنه كان يضبط الخبر بالكتابة و الإتقان حين السماع.
و احتمل في القوانين الجواب بوجه آخر، و هو أن كثرة السهو في الصلاة لا تنافي الضبط و عدم السهو في الرواية، و بوجه ثالث و هو أن المراد كثير الشك لكثرة استعمال السهو في الشك(2).
الرابع: أنه يعتبر ضبط الراوي بأن تعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط و الإتقان، فإن وجدت رواياته موافقة لها غالبا، و لو من حيث المعنى بحيث لا يخالفها، أو تكون المخالفة نادرة عرف حينئذ كونه ضابطا ثبتا، و إن وجدت(3) كثيرة المخالفة لروايات
ص: 47
المعروفين عرف اختلال ضبطه، أو اختلال حاله في الضبط، و لم يحتجّ بحديثه(1).
ثم إن ضبط الراوي إن ثبت بالاعتبار المذكور أو بالبينة العادلة، فلا إشكال. و كذا إن حصل الاطمينان من شهادة ثقة ماهر.
و إن جهل الحال، قيل: يلزم التوقف، و قيل: يبنى حينئذ على ما هو الأغلب من حال الرواة بل مطلق الناس من الضبط، و عدم غلبة السهو، و هذا القول أظهر لحجية الظن في الرجال، و الغلبة تفيده وجدانا، و قد تؤيد الغلبة بأصالة بقاء التذكّر و العلم بالمعنى المنافي للنسيان لا بمعنى التذكّر الفعلي حتى يكون متعذرا أو متعسرا. و أصالة عدم كثرة السهو المنافية للقبول، فتأمل.
الخامس: إن الأظهر أن الإكثار من الرواية لا تدلّ على عدم ضبط الراوي، كما صرح به جماعة، منهم العلامة في النهاية(2).
السادس: إنه قال في البداية(3) أن اشتراط الضبط إنما يفتقر إليه فيمن يروي الأحاديث من حفظه، أو يخرّجها بغير الطرق المذكورة في المصنفات، و أما رواية الأصول المشهورة فلا يعتبر فيها ذلك.
السابع: إذا أحرز ضبط الراوي و وثاقته أخذ بخبره، و لو لم
ص: 48
يكن له موافق فيما يرويه، و لم يعضده ظاهر مقطوع من كتاب أو سنّة متواترة و لا عمل بعض الصحابة به(1)، و لم يكن منتشرا و مشهورا بينهم، وفاقا لجماعة منهم العلامة و ابن أخته العميد(2)، بل قيل:
إن عليه المعظم، بل استظهر بعضهم اتفاق الأصحاب عليه، و خالف في ذلك أبو علي الجبائي فاعتبر تعدد الرواية، فلا تقبل عنده رواية الواحد إلا إذا اعتضد بظاهر مقطوع، أو عمل بها بعض الصحابة، أو كانت منتشرة بينهم. و احتجوا عليه بقبول أمير المؤمنين (عليه السّلام) و سائر الصحابة لخبر الواحد المجرد عن الأمور المذكورة، مضافا إلى مفهوم آية النبأ، و إلى بناء العقلاء و.. غير ذلك(3).
ثم إنه لا يخفى عليك أن جمعا من الفقهاء (رضي اللّه عنهم) قد تداولوا ردّ بعض الأخبار بعدم عمل الأصحاب به، و قد قرّرنا في محله أن شرطية عمل الأصحاب بالخبر في حجيته مما لا دليل عليه، و إنما الثابت مانعية إعراضهم عن الخبر عن حجيته. و تظهر الثمرة فيما إذا كان عدم العمل ثابتا، و الإعراض مشكوكا، فإنه على الشرطية يسقط عن الحجية، و على المانعية يدفع المانع بالأصل، فاحفظ ذلك و اغتنم، فقد اشتبه في ذلك أقوام.
ص: 49
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى المتكفلة لشروط الخبر.
و قد بقي هنا أمران ينبغي تذييل هذه الجهة بهما:
الأول: أنه لا يشترط في الخبر غير ما ذكر من الشروط، و قد وقع التنصيص في كلماتهم على عدم اشتراط أمور للأصل، و وجود المقتضي و عدم المانع.
أحدها: الذكورة، فتقبل رواية الأنثى و الخنثى إذا جمعت الشروط المذكورة(1)، حرة كانت أو مملوكة، كما صرح بذلك كله الفاضلان و.. غيرهما، بل نفى العلامة في النهاية الخلاف فيه(2)و ادّعى في البداية إطباق السلف و الخلف على الرواية عن المرأة(3).
و الأصل في ذلك ما مرّ من الأصل، و عدم المانع. مضافا إلى أن شهادتها تقبل، فروايتها أولى بالقبول(4).
ثانيها: الحرية، فتقبل رواية المملوك مطلقا و لو كان قنّا، إذا جمع سائر الشرائط، كما صرح به الفاضلان و.. غيرهما، بل نفى في نهاية الأصول الخلاف فيه(5)، لنحو ما ذكر في سابقه(6).
ص: 50
ثالثها: البصر، فتقبل رواية الأعمى إذا جمع الشرائط، كما صرح بذلك جمع، بل نفى الخلاف فيه في النهاية، و ظاهر البداية اتفاق السلف و الخلف عليه(1)، و عن شرح المختصر نقل اتفاق الصحابة عليه، للأصل و.. غيره مما مرّ. نعم يخالفه نقل بعضهم عن غير واحد من علماء العامة ردّ رواية الأعمى، و إن كان هو كما ترى.
رابعها: عدم القرابة، فيجوز رواية الولد عن والده و بالعكس، لاتفاق الصحابة عليه - كما قيل - للأصل، و.. غيره، و كذا الحال في عدم العداوة و عدم الصداقة بين الراوي و المروي له، فإنه لا يعتبر شيء من ذلك.
خامسها: القدرة على الكتابة، فتقبل رواية الأمّي إذا جمع الشرائط بلا خلاف و لا إشكال، للأصل و.. غيره.
سادسها: العلم بالفقه و العربية، فإنه لا يشترط ذلك(2)، كما صرح بذلك جماعة للأصل و.. غيره مما مرّ، مضافا إلى أن الغرض من الخبر الرواية لا الدراية، و هي تتحقق بدونهما، و لعموم قوله
ص: 51
(صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): (نضّر(1) اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها و أداها كما سمعها، فربّ حامل(2) فقه ليس بفقيه)(3).
نعم في البداية أنه ينبغي مؤكدا معرفته بالعربية حذرا من اللحن
ص: 52
و التصحيف(1) و قد روى عنهم (عليهم السّلام) أنهم قالوا: (أعربوا كلامنا فإنّا قوم فصحاء)(2) و هو يشمل إعراب القلم و اللسان، و قال بعض العلماء: جاءت هذه الأحاديث عن الأصل معربة، و عن آخر(3): أخوف ما أخاف على طالب الحديث إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يكن يلحن، فمهما روى عنه حديثا و قد لحن فيه فقد كذب عليه. ثم قال: و المعتبر حينئذ أن يعلم قدرا يسلم معه من اللحن و التحريف(4).
سابعها: معروفية النسب، فلو لم يعرف نسبه، و حصلت الشرائط قبلت روايته، للأصل و.. نحوه مما مرّ، و لو كان جامعا للشرائط لكنه ولد الزنا، فعلى القول بعدم كفره فلا شبهة في قبول خبره، و أما على القول بكفره فلا يقبل خبره لفقد الشرط، و هو الإسلام(5).
ص: 53
و هو بأحدهما أشهر، جازت الرواية عنه، و لو كان مترددا بينهما و هو بأحدهما مجروح، و بالآخر معدل ففي القبول تردد.
كما زعمه بعض القاصرين(1)، بل المدار على جمع الخبر للشرائط أينما وجد، و ليس من شرائط حجيته وجوده في هذه الأربعة، كيف و قصر
ص: 54
الحجية على ما فيها من الأخبار يقتضي سقوط ما عداها من كتب الحديث عن درجة الاعتبار، مع أن كثيرا منها يقرب من هذه الأربعة في الاشتهار، و لا يقصر عنها بكثير في الظهور و الانتشار، كالعيون، و الخصال، و الإكمال من مصنفات الصدوق (رحمه اللّه) و.. غيرها من الكتب المعروفة المشهورة الظاهرة النسبة إلى مؤلفيها الثقات الأجلة و علماء الطائفة، و وجوه الفرقة المحقة، لم يزالوا في جميع الأعصار و الأمصار يستندون إليها و يفرعون عليها فيما تضمنته من الأخبار و الآثار المروية عن الأئمة الأطهار (عليهم صلوات اللّه الملك الجبار) و لم يسمع من أحد منهم الاقتصار على الكتب الأربعة، و لا إنكار الحديث لكونه من غيرها، و إقبال الفقهاء على تلك الأربعة، و انكبابهم عليها، ليس لعدم اعتبار غيرها عندهم، بل لما في الأربعة - مع جودة الترتيب، و حسن التهذيب و كون مؤلفيها رؤساء الشيعة، و شيوخ الطائفة - أجمع كتب الحديث و أشملها لما يناسب أنظار الفقهاء من أحاديث الفروع، و ما عدا الكافي منها مقصور على روايات الأحكام، موضوع لخصوص ما يتعلق بالحلال و الحرام، و سائر كتب الحديث و إن اشتملت على كثير من الأخبار المتعلقة بهذا الغرض، إلا أن وضعها لغيره اقتضى تفرق ذلك فيها، و شتاته في أبوابها و فصولها، على وجه يصعب الوصول إليه، و يعسر الإحاطة به، فلذلك قلّت رغبة من يطلب الفقه فيها، و انصرفت عمدة همتهم إلى تلك الأربعة، لا لقصر الحجية عليها لعموم أدلة حجية الخبر إذا جمع الشرائط. نعم، يعتبر كونه موجودا في كتب معتبرة معلومة النسبة إلى مؤلفيها، مأمونة من الدسّ و التغيير و التبديل، مصححة على
ص: 55
صاحبها، معتنى بها بين العلماء و شيوخ الطائفة، لا مرغوبة عنها و ساقطة من أعينهم، فإن ذلك من أعظم الوهن فيها.
ثم كما لا يعتبر وجوده في أحد الكتب الأربعة، فكذا لا يكفي في حجيته وجوده في أحدها ما لم يشتمل على شرائط القبول.
و ما زعمه بعضهم من كون أخبارها كلا مقطوعة الصدور، استنادا إلى شهادات سطرها في مقدمات الحدائق لا وجه له، كما أوضحناه في محله(1). نعم، لا بأس بجعل وجود الخبر في الكتب الأربعة بمقتضى تلك الشهادات من المرجحات عند التعارض بينه و بين ما ليس فيها(2).
الأمر الثاني
إنه قد صرح جماعة بأن المعتبر في شرائط الراوي هو حال الأداء، لا حال التحمل، فلو كان حال الأداء جامعا للشرائط مع فقده للشرائط كلا أو بعضا حال التحمل قبلت روايته، فتقبل رواية البالغ إذا تحمل في حال الصبا، و قد ادعى في محكي نهاية الأحكام إجماع السلف و الخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث، و قبولهم بعد البلوغ لما تحملوه في حال الصبا(3)، و كذا من تاب و رجع عما كان عليه من مخالفة في دين
ص: 56
أو فسق أو.. نحو ذلك، تقبل روايته حال استقامته، و قد جعلوا من هذا الباب قبول الصحابة رواية ابن عباس و.. غيره ممن تحمل الرواية قبل البلوغ، فإن ثبت ذلك، و إلا لكان لمانع منع قبولهم إلا لما تحمله بعد البلوغ، و جعل بعض الأصحاب ردّ الصدوق رواية محمد بن عيسى، عن يونس من باب كون تحمله في حال الصبا(1)، ورد بأن الوجه ليس ذلك، لأن الصدوق (رحمه اللّه) أيضا لا يعتبر الشروط حال التحمل بل حال الأداء خاصة، و جعل الشيخ (رحمه اللّه) من أمثلة المقام رواية أبي الخطاب و.. غيره قال (رحمه اللّه) في العدة: فأما ما يرويه الغلاة و المتهمون و المضعفون و.. غير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة، و حال غلو، عمل بما رووه حال الاستقامة، و ترك ما رووه حال خطئهم(2)، فلأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب
ص: 57
محمد بن أبي زينب في حال استقامته، و تركوا ما رواه في حال تخليطه، و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي(1) و ابن أبي العزاقر(2)..
و غير هؤلاء. و أما ما يروونه في حال تخليطهم، فلا يجوز العمل به على كل حال(3).
و نوقش في جعله رواية أبي الخطاب من هذا الباب بأن خطأ مثله لم يكن بعنوان السهو و الغفلة، بل دعته الأهواء الفاسدة إلى تعمد الكذب، و أنه لم يكن في المدة التي لم يظهر منه الكفر بريئا من غاية الشقاوة، بل كان قلبه على ما كان، و لكن جعل إخفاء المعصية و إظهار الطاعة وسيلتين إلى ما أراد من الرئاسة، و إضلال الجماعة، فكيف يمكن الاعتماد على روايته و رواية أمثاله كعثمان بن عيسى، و علي بن أبي حمزة البطائني، و في وقت من الأوقات؟!
و أقول: ليس هنا محل التعرض لأحوال آحاد الرجال حتى نسوق الكلام في ذلك و الغرض التمثيل(4).
ص: 58
و كيف كان فإذا ورد خبر من أخبار من له حالة استقامة، و حالة قصور، فإن علم تاريخ الرواية فلا شبهة في العمل بها إن كانت في حال الاستقامة و تركها إن كانت في حال القصور، و إن جهل التاريخ لزم الرجوع إلى القرائن الخارجية و الاجتهاد فيها، و قد جعل الفاضل القمي (رحمه اللّه)(1) و غيره من القرائن عمل جمهور الأصحاب بها، و هو كذلك حيثما يفيد الاطمينان العادي، فإن المعيار عليه، فلا بد من الفحص و البحث و التدبر حتى يحصل الاطمينان فيعمل به، أو لا يحصل فيترك، و قد جعل غير واحد من باب الوثوق على الرواية لأجل صدور الرواية حال الاستقامة، أو لأجل القرائن الخارجية ما يرويه الأصحاب عن الحسين بن بشار الواقفي و علي بن أسباط الفطحي، و.. غيرهما ممن كانوا من غير الإمامية ثم تابوا و رجعوا، و اعتمد الأصحاب على رواياتهم، و كذا ما يرويه الثقات عن علي بن رياح، و علي بن أبي حمزة، و إسحاق بن جرير من الواقفية الذين كانوا على الحق ثم توقفوا. فإن قبول الثقات رواياتهم إما للعلم بصدورها في حال الاستقامة أو للقرائن الخارجية، ضرورة أن المعهود من أصحاب الأئمة (عليهم السّلام) كمال الاجتناب عن الواقفية و.. أمثالهم
ص: 59
من فرق الشيعة، و كانت معاندتهم معهم، و تبرّيهم عنهم، أزيد منها من العامة، سيما مع الواقفية، حتى إنهم كانوا يسمونهم الممطورة - أي الكلاب التي أصابها المطر - و كانوا يتنزهون عن صحبتهم و المكالمة معهم، و كان أئمتهم (عليهم السّلام) يأمرونهم باللعن عليهم، التبري منهم(1)، فرواية ثقاتهم و أجلائهم عنهم قرينة على أن الرواية كانت حال الاستقامة، أو أن الرواية عن أصلهم المعتمد المؤلف قبل فساد العقيدة، أو المأخوذ عن المشايخ المعتمدين من اصحابنا، ككتب علي بن الحسن الطاطري الذي هو من وجوه الواقفية، فإن الشيخ (رحمه اللّه) ذكر في الفهرست أنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم و بروايتهم(2)، و قد استظهر المحقق البهائي (رحمه اللّه) في محكي مشرق الشمسين كون قبول المحقق (رحمه اللّه) رواية علي بن حمزة المذكور - مع شدة تعصبه في مذهبه الفاسد - مبنيا على كونها مأخوذة من أصله، فإنه من أصحاب الأصول(3)، و كذا قول العلامة (رحمه اللّه) بصحة رواية إسحاق بن جرير عن الصادق (عليه السّلام) فإنه ثقة من أصحاب الأصول أيضا(4)، و تأليف هؤلاء أصولهم كان قبل الوقف، لأنه وقع في زمن الصادق (عليه السّلام)، فقد بلغنا
ص: 60
عن مشايخنا (قدس اللّه تعالى أسرارهم) أنه كان من دأب أصحاب الأصول أنهم إذا سمعوا من أحد الأئمة (عليهم السّلام) حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم، لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه أوكله بتمادي الأيام و توالي الشهور و الأعوام، كما صرح بذلك كله جمع منهم المحقق القمي (رحمه اللّه) في القوانين(1)، فيلزم بذل الجهد و الجدّ في تمييز من يقبل خبره عمن لا يقبل، وفقنا اللّه تعالى و إياك للعلم و العمل.
***
ص: 61
ص: 62
أنه تثبت عدالة الراوي(1) بشيء من أمور:
أحدها: الملازمة و الصحبة المؤكدة، و المعاشرة التامة المطلعة على سريرته و باطن أمره، بحيث يحصل العلم أو الاطمئنان العادي بعدالته. لكن لا يخفى عليك اختصاص هذا الطريق بالراوي المعاصر، و اشتراك بقية الطرق بينه و بين الراوي السابق على زماننا.
ثانيها: الاستفاضة و الشهرة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم من أهل الحديث و.. غيرهم، و شاع الثناء عليه بها، كفى في عدالته(2) و لا يحتاج مع ذلك إلى معدّل ينص عليها، كمشايخنا السالفين من عهد الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (رحمه اللّه) و..
ص: 63
ما بعده إلى زماننا هذا، فإنه لا يحتاج أحد من هؤلاء المشايخ المشهورين إلى تنصيص على تزكية، و لا تنبيه على عدالة لما اشتهر في كل عصر من ثقتهم و ضبطهم و ورعهم زيادة على العدالة، و إنما يتوقف على التزكية غير هؤلاء من الرواة الذين لم يشتهروا بذلك، ككثير ممن سبق على هؤلاء، و هم طرق الأحاديث المدونة في الكتب غالبا(1).
ثالثها: شهادة القرائن الكثيرة المتعاضدة الموجبة للاطمئنان بعدالته ككونه مرجع العلماء و الفقهاء، و كونه ممن يكثر عنه الرواية من لا يروي إلا عن عدل و.. نحو ذلك من القرائن، فإنه إذا حصل الاطمئنان و العلم العادي منها بوثاقة الرجل كفى في قبول خبره، لبناء العقلاء على ذلك.
رابعها: تنصيص عدلين على عدالته، بأن يقولا: هو ثقة أو عدل أو مقبول الرواية إن كانا ممن يرى العدالة شرطا أو.. نحو ذلك، و كفاية ذلك مما لا خلاف فيه و لا شبهة، لما قررناه في محله من حجية البينة في غير المرافعات أيضا مطلقا(2).
ص: 64
و تابعوه و منهم](1) سيد المدارك(2).
الأول: أصالة عدم الاشتراط بعد عدم الدليل عليه، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
الثاني: ما أشار إليه في البداية(3) و اشتهر الاستدلال به بين المتأخرين من أن العدالة شرط في الرواية، و شرط الشيء فرعه، و الاحتياط في الفرع لا يزيد على الاحتياط في الأصل(4)، و قد اكتفى في الأصل و هي الرواية بواحد، فيكفي الواحد في الفرع أيضا - أعني العدالة - و إلا زاد الاحتياط في الفرع على الأصل(5).
ص: 67
أحدها: أنه يشبه القياس، و توهم أنه من القياس، بالطريق الأولى ممنوع، لعدم القطع بالأولوية، بل يمكن دعوى كونه من القياس مع الفارق الذي لا يقول به حتى أهل القياس، و ذلك لأن ثبوت الحكم في الأصل أقوى منه في الفرع، لأن الأصل - و هو الرواية - معلوم أنه ليس بشهادة، فلا يعتبر فيه التعدد جزما، بخلاف الفرع لاحتمال كونه شهادة كما ادّعاه بعضهم، و إن كان فيه ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
ثانيها: منع لزوم زيادة الفرع على الأصل بناء على اعتبار التعدد، و ذلك لأن الأصل مشروط بثلاثة: الراوي، و مزكّييه، و الفرع باثنين و هما: المزكّيان، فالفرع لم يزد على الأصل.
و ردّ بأن المزية للفرع على الأصل بناء على اعتبار التعدد غير قابلة للانكار، ضرورة أنك تقبل رواية عدل واحد زكاه عدلان، و لا تقبل تزكية عدل واحد زكاه عدلان.
ثالثها: منع عدم جواز زيادة الفرع على الأصل بهذا المعنى، إذ لا دليل عليه من عقل و لا نقل، و الاستدلال عليه بأن المتبادر من الشرط أن لا يكون وجوده و اعتباره زائدا على المشروط كما هو شأن المقدمات، و إنكاره مكابرة، مردود بأن ذلك لو سلم فإنما هو من
ص: 68
جهة التبعية لا من حيث هو، أ لا ترى أن الإيمان شرط لصحة الصلاة، مع أن وجوده و اعتباره زائدا على المشروط من جهة اعتبار اليقين فيه، و الاكتفاء بالظن في المشروط، و كونه من أصول الدين، و هي من فروعه، مع أن فرض التعدد في الفرع دون الأصل أيضا موجود في الأحكام الشرعية، فإن بعض الحقوق يثبت بشهادة واحد، بل مرأة واحدة كربع ميراث المستهل، و ربع الوصية، مع أن تزكية الشاهد لا بد فيه من عدلين كما نبّه على ذلك في القوانين، ثم قال:
و أما ما مثّل به من ثبوت وجوب الحد بالقذف بخبر الواحد، و هو مشروط بثبوت القذف و بلوغ القاذف و كل منهما يتوقف ثبوته على الشاهدين، ففيه نظر، فإنه إن أريد من خبر الواحد حكم الحاكم فهو فرع الشهادة لا أصلها، و إن أريد منه الرواية الدالّة على أصل المسألة فهو ليس بمشروط بثبوت القذف بالشاهدين، بل المشروط به هو إجراؤه في المادة المخصوصة.
و ما قيل في دفعه: من أن هذه شهادة، و ثبوت التعدد فيها لا يوجب ثبوته في غيرها، و بعبارة أخرى إن هذا مخرّج بالدليل.
ففيه: إن عدم زيادة الفرع على الأصل إن سلّم فهي قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص(1). و ما ذكره في محله(2).
ص: 69
الثالث: إن حجية خبر الواحد إنما هي من باب الاطمئنان العقلائي كما هو المختار، و لا شبهة في كفاية تزكية الواحد إذا أفاد الاطمئنان، بل لا معنى لاشتراط العدالة عليه إلا باعتبار أعلام طرق الاطمئنان و التنبيه عليها، و التنبيه على أن خبر الفاسق لا يفيد الاطمئنان.
و ربما جعل المحقق القمي في القوانين(1) مقتضى القاعدة كفاية الواحد في التزكية بناء على اعتبار خبر الواحد من حيث أنه خبر، أو اعتباره من باب أنه خبر مصطلح مروي عن المعصوم (عليه السّلام) أيضا، و بعض ما ذكره لا يخلو من نظر، فراجع و تدبر(2).
الرابع: آية النبأ، بتقريب أن النبأ يصدق على التزكية من جهة الأخبار عن موافقة المعتقد، فيلزم قبول الواحد فيها.
و فيه: إن غاية ما يفيده مفهوم الآية هو جواز العمل بنبإ غير الفاسق في الجملة، و إن كان من جهة كونه أحد شطري البينة، و ذلك
ص: 70
لا يفيد إلا جواز العمل به في الجملة، لا خصوص العمل إذا كان واحدا مطلقا كما هو المطلوب.
و ربما أجاب بعضهم عن الاستدلال بالآية بأنه مؤد إلى حصول التناقض في مدلول الآية، لأنه يدلّ على أن قبول خبر الواحد موقوف على انتفاء الفسق في نفس الأمر، و انتفاء الفسق في نفس الأمر لا يعلم إلا مع العلم بالعدالة، فشرط قبول الخبر هو العلم بالعدالة، و خبر المزكي الواحد لا يفيد العلم و إن كان عدلا، فإذا اعتبرنا تزكية الواحد فقد عملنا بالخبر مع عدم حصول العلم بعدالة الراوي، لعدم إفادته العلم، و هذا تناقض، فلا بد من حملها على ما سوى الاخبار بالعدالة(1).
و ردّ بأن المراد بالفاسق النفس الأمري و العادل النفس الأمري هو ما يجوز إطلاق العادل و الفاسق عليه، فنفس الأمر هنا مقابل مجهول الحال، لا مقابل مظنون الفسق و العدالة، أ لا ترى انا نكتفي في معرفة العدالة بالاختبار و الاشتهار، و هما لا يفيدان العلم غالبا، بل العدلان أيضا لا يفيدان العلم، فمن ظنناه عادلا بأحد الأمور المذكورة فنقول إنه عادل، و يؤيده قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ (2)، و كذلك المرض المبيح للتيمم و الإفطار و إنبات
ص: 71
اللحم، و شد العظم، و.. غير ذلك فإنه يطلق على ما هو مظنون أنه كذلك، و الكلام فيها و في العدالة على السواء، سلمنا، لكن لا ريب أن مع انسداد باب العلم يكتفى بالظن في الأحكام و الموضوعات جميعا، مع أن اشتراط العلم بالعدالة مستفاد من المنطوق، فلا مانع من تخصيصه بمفهومها حيث أفاد بعمومه قبول خبر العدل الواحد في التزكية.
و توهّم أن تخصيص المنطوق بالمفهوم ليس بأولى من العكس، بل العكس أولى، مدفوع بأن المفهوم إذا كان أقوى بسبب المعاضدات الخارجة فيجوز تخصيص المنطوق به، و هو معتضد بالشهرة و..
غيره، مع أنه مخصص بشهادة العدلين جزما، و هو لا يفيد العلم، و ذلك أيضا يوجب و هنا في عمومه، و إن كان العام المخصص حجة في الباقي(1).
الخامس: إن باب العلم بعدالة الرواة السلف للأخبار مسدود، و قيام البينة المصطلحة التي ثبتت حجيتها في الشريعة المطهرة متعذر، لأنا لا نجد الآن شهادة قطعية حسيّة بعدالة راو إلا نادرا، و أغلب ما يوجد في كتب الرجال من قبيل الشهادة الحدسية المبتنية على الظن و الاطمئنان، فتعين الاكتفاء في التزكية بالظن
ص: 72
و الاطمئنان، حتى لو جعلناها من باب الشهادة، و لا ريب في حصوله بشهادة الواحد، و الأصل عدم اشتراط ما زاد على ذلك، على أن كونها من باب الشهادة ممنوع، لأن الشهادة اخبار جازم و ذلك غير ممكن التحقق بالنسبة إلى الرواة، لاقتضائه إدراك الشاهد لهم، و هذا غير واقع بالنسبة إلى من كان سابقا بأزمنة كثيرة كزرارة و.. أمثاله، و ما كتب في كتب الرجال ليس من باب الشهادة، لأنه نقش، و الشهادة لا بد أن تكون من باب اللفظ، مع أن أكثره من باب فرع الفرع، بل فرع فرع الفرع، فلا يندرج في الشهادة المصطلحة.
و لقد أجاد الفاضل القمي (رحمه اللّه) حيث قال: إن التزكية من باب الظنون الاجتهادية لا الرواية و الشهادة، و إن المعيار حصول الظن على أي نحو يكون، كيف لا و المزكون لم يلقوا أصحاب الأئمة (عليهم السّلام)، و إنما اعتمدوا على مثل ما رواه الكشي، و قد يفهمون منه ما لا دلالة فيه، أو فيه دلالة على خلافه، بل و كل منهم قد يعتمد على تزكية من تقدم عليه الحاصلة باجتهاده، و من ذلك قد يتطرق الخلل من جهة فهم كلام من تقدمه أيضا، فضلا عن عدم كونه موافقا للحق، أو كونه موافقا، مثل أن العلامة (رحمه اللّه) وثّق في الخلاصة حمزة بن بزيع، مع أنه لم يوثقه أحد ممن اعتمد عليه العلامة (رحمه اللّه)، و لعله توهمه من جهة عبارة النجاشي كما نبّه عليه جماعة من المحققين، فإن النجاشي قال: في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع: (إن ولد بزيع ليس(1) منهم حمزة بن بزيع) و ذكر بعد ذلك:
ص: 73
(كان هذا من صالحي هذه الطائفة و ثقاتهم) و مراده محمد لا حمزة، و لعلك تقول: فإذا كان الأمر كذلك فيلزم أن يكون مثل العلامة (رحمه اللّه) مقلدا لمن تقدمه، و كذلك من تقدمه لمن تقدمه، فإنهم قلّما ثبت لهم عدالة الرواة من جهة الاشتهار، كسلمان، و أبي ذر، أو من جهة المزكين الذين عاشروا الراوي و مع ذلك فلم يميزوا بينهم، و لم يفرقوا بين من ثبت عدالته عندهم من مثل ما ذكر، أو من جهة الاجتهاد، و يلزم من جميع ذلك جواز تقليد المجتهد للمجتهد، و إذا كان كذلك فلا فرق بين ما ذكر و بين أن يقول الصدوق مثلا أو الكليني مثلا: إن ما ذكرته من الروايات صحيحة، أو يقول العلامة هذه الرواية صحيحة، مع كون السند مشتملا على من لم يوثقه أحد من علماء الرجال.
قلت: إن اشتراط العدالة في الراوي إما للإجماع، أو للآية.
أما الأول: فلم يثبت إلا على اشتراطه لقبول الخبر من حيث هو، و إلا فلا ريب في أن أكثر الأصحاب يعملون بالأخبار الموثقة و الحسنة و الضعيفة المعمول بها عند جلّهم، و أما الآية فمنطوقها يدلّ على كفاية التثبت في العمل بخبر الفاسق فضلا من مجهول الحال، و هذا نوع تثبّت، مع أنّا قد حققنا سابقا أن المعيار في حجية خبر الواحد هو حصول الظن، و كذا الكلام في إثبات العدالة، فأي مانع من الاعتماد على هذا الظن؟ و ليس ذلك من باب التقليد، بل لأنه مفيد للظن للمجتهد كما يرجع إلى قول اللغوي، بل و اجتهادات المصنفين في اللغة، و ذلك لا ينافي حرمة تقليدهم في الفروع الشرعية، فإذا
ص: 74
حصل الظن من جهة تصحيح الصدوق (رحمه اللّه) للرواية أو تصحيح العلامة (رحمه اللّه) للسند، و لم يحصل ظن أقوى منه من جهة تزكية غيره للراوي صريحا أو غير ذلك، فيتبع، و لا مانع منه(1)هذا كلامه علا مقامه، و هو كلام متين، فإن الرجوع إلى أهل الخبرة لا يسمى تقليدا حتى يحرم، و لو سلم، فلا يحرم على المجتهد التقليد فيما انسد عليه باب الاجتهاد، و لا العمل بالاجتهاد الظني فيما انسد عليه باب العلم، كما هو ظاهر، لأن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها(2).
ص: 75
الأول: إن التزكية شهادة، و من شأن الشهادة اعتبار التعدد فيها(1).
و اجيب عن ذلك: تارة بمنع الصغرى، و أخرى بمنع الكبرى.
أحدهما: المعارضة، بأنها ليست بشهادة، بل خبر، و من شأن الخبر قبول الواحد فيه.
و ردّ بأنه إن اريد بأنه من الخبر مقابل الإنشاء، ففيه: أن كل
ص: 76
شهادة كذلك، و إن اريد أنه من الخبر بالمعنى الخاص، فواضح الفساد.
ثانيهما: منع كونها شهادة لأنها اخبار بحق لازم للغير من غير الحاكم، و لا يصدق على المقام هذا العنوان، لعدم كون المراد بها إثبات حق لازم للمخلوق أو الخالق، و إفادته لذلك بالآخرة بعد العلم بالرواية بسبب التعديل مشترك الورود في الخبر و الشهادة، مع أن العلم معتبر في الشهادة غالبا، بخلاف ما نحن فيه، لاستحالة العلم بالعدالة واقعا، و إذ لم تكن شهادة بقيت تحت باقي أقسام الخبر بالمعنى العام، الذي يقبل فيها الواحد لمفهوم آية النبأ، أو يقال: إنها ليست من باب الشهادة و لا الرواية بالمعنى الأخص، بل هو من قبيل الفتوى، و أنه من الظنون الاجتهادية الحاصلة لأرباب الخبرة بكل مسلك، كمعرفة المرض المبيح للتيمم و الإفطار، و.. نحوهما، و القيمة، و الأرش، و.. غير ذلك. و إن اعتراه الخبرية بالعرض أيضا من جهة أنه اخبار عما هو مطابق لظنه، فخبر أهل الخبرة إنما يعتبر بالنظر إلى كون ما ذكروه مطابقا لنفس لأمر بمعتقدهم و بحسب ظنهم. و اعتبار العدالة في هؤلاء إنما هو لأجل حصول الاعتماد بعدم كذبهم في ذلك، و عدم مسامحتهم في اجتهادهم، فبهذا يحصل الاطمئنان، بل قد يكتفى بما يحصل الاطمئنان و إن كان أهل الخبرة فساقا(1)، فالأصل يقتضي الاكتفاء بالواحد في مطلق التزكية، إلا أن تزكية الشاهد خرج بالدليل من الإجماع كما ادّعاه بعضهم، أو لأجل
ص: 77
مقابلة حق المسلم، و لذلك خصّ حمل أفعال المسلمين و أقوالهم على الصحة بما لو لم يعارضه مثله أو أقوى منه، مع تأمل في الأخير، لأن الخبر أيضا قد يكون كذلك.
و أما الثاني: فتقريره أنّا نمنع أن كل شهادة يعتبر فيها التعدد، و سند المنع عدم الدليل عليه مع ثبوت كفاية الواحد في جملة من موارد الشهادة كربع ميراث المستهل، و ربع الوصية، و هلال شهر رمضان عند بعض، بل اجتزى بعضهم بالمرأة الواحدة في بعض الأحيان، و لا دليل على عدم كون التزكية مما يقبل فيه الواحد، فدعوى لزوم التعدد في كل شهادة إلا ما أخرجه الدليل ليس بأولى من دعوى كفاية مطلق الخبر إلا ما أثبت الدليل فيه اعتبار العدد فيتبع.
و توهم أن اعتبار التعدد في الشهادة صار أصلا من جهة الاستقراء و تتبع الآيات و الأخبار، خرج ما خرج و بقي الباقي، مدفوع بمنع حجية الاستقراء، مع عدم تماميته، لاختلاف المقامات.
و مجرد غلبة اعتبار التعدد في الشهادة لا دليل على حجيتها، كما لا يخفى.
الثاني: إن مقتضى اشتراط العدالة في الراوي هو اعتبار حصول العلم بها، و لا يحصل العلم بتزكية الواحد، و اكتفينا بالعدلين مع عدم إفادته العلم لقيامه مقامه شرعا، و لا دليل على قيام تزكية الواحد مقام العلم فلا يجتزي به(1).
ص: 78
ص: 79
و ردّ بمنع اعتبار العلم فيها، كيف، و كل ما جعلوه طريقا لمعرفة العدالة لا يفيد إلا الظن؟ سلمنا، لكنه إنما يسلم إذا أمكن تحصيل العلم، و مع انسداد بابه يكفي الظن كما مرّ، و هو يحصل بالمزكى الواحد.
قلت: مضافا إلى أنه لو اعتبر العلم بها لزم عدم الاكتفاء بتزكية عدلين أيضا في خصوص المقام، لما مرّ من عدم تحقق الشهادة الحسية المصطلحة هنا حتى تكون بيّنة نازلة شرعا منزلة العلم.
الثالث: إن العدالة شيء واحد، و المشروط بالعدالة مشروط بماهيتها، فإن كانت تثبت و تتحقق في الخارج و يحصل شرط القبول في مشروطها بتزكية الواحد، فلتثبت في كل من الرواية و الشهادة، و إلا فلا فيهما، و التفرقة بينهما لا وجه لها، و حيث إن اعتبار التعدد في مزكي الشاهد غير قابل للإنكار، لزم اعتبار التعدد في مزكي الراوي أيضا بحكم اتحاد حقيقتها.
و اجيب بأن المراد أن قبول شهادة العدل موقوف على كون مزكيه اثنين دون الرواية، لا أن ثبوت العدالة في الشاهد مشروط بتزكية اثنين دون الرواية، فهو شرط لقبول شهادة العدلين، لا لثبوت العدالة.
فتلخص من ذلك كله أن القول الأول، هو الأظهر(1)، و اللّه العالم.
ص: 80
و توهّم الفرق(1) بأن تزكيته من باب شهادة العدوّ بالفضل غير مشوب بالتهمة بخلاف جرحه فإنه مشوب فلا يقبل، لا وجه له، بعد كون المدار على الظن، و هو يستوي فيهما بعد إباء وثاقته عن جرحه من لا يستأهل الجرح(2)، فتأمل(3).
***
ص: 82
انه قد وقع الخلاف في قبول الجرح و التعديل(1) مطلقين، بأن يقال: فلان عدل أو ضعيف من دون ذكر سبب العدالة و الضعف، على أقوال:
أحدها: عدم كفاية الشهادة بكل من العدالة و الفسق مطلقة، و عدم قبول الشهادة فيهما إلا بعد تفسير ما شهد به من العدالة و الجرح، بأن يقول: هذا عدل لأني عاشرته سفرا و حضرا، و لم أجده يرتكب المعصية، و وجدته صاحب ملكة، أو يقول: هذا عدل لأني أراه حسن الظاهر.. إلى غير ذلك من التفاسير المختلفة بالآراء في العدالة، فلا تقبل الشهادة بالتعديل إلا مع تفسيره بما يطابق رأي من يريد تصحيح السند، و هكذا في طرف الجرح، فيلزم أن يقول: هو فاسق لأني وجدته يرتكب الكبيرة الفلانية مثلا، فإن طابق رأي من يريد التصحيح قبل شهادته و إلاّ ردها، و هذا القول حكاه جمع قولا من دون تسمية قائله(2)، و عزاه في قضاء المسالك إلى الإسكافي(3).
ثانيها: كفاية الإطلاق فيهما، فلو قال أشهد أن فلانا عدل أو
ص: 83
فاسق قبل، و إن لم يبين سبب العدالة و الفسق، أرسله جمع قولا، و في خلاف الشيخ الطوسي (قدس سره) أن عليه أبا حنيفة(1)، و(2) عزاه بعض من عاصرناه إلى كثير من فقهائنا (رضي اللّه عنهم)(3)، و عزاه السيد عميد الدين في شرح التهذيب(4) إلى القاضي أبي بكر(5)، و المنقول عنه في كلام غيره القول الخامس.
ثالثها: كفاية الإطلاق مطلقا في التعديل دون الجرح، فإنه لا يقبل إلا مفسرا، و هو خيرة الشيخ (رحمه اللّه) في قضاء الخلاف(6)، حاكيا له عن الشافعي أيضا(7)، و عزاه غير واحد إلى الأكثر، بل في المسالك(8) و.. غيره(9) أنه المشهور.
ص: 84
رابعها: عكس الثالث(1)، نقله الغزالي و الرازي(2) قولا(3)، و نقله السيد العميد في شرح التهذيب عن جمع(4) و في المسالك و..
غيره عن العلامة (رحمه اللّه)(5).
ص: 85
خامسها: القبول فيهما من غير ذكر السبب، إذا كان كل من الجارح و المعدّل عالما بأسباب الجرح و التعديل، و بالخلاف في ذلك بصيرا مرضيا في اعتقاده و أفعاله. و لزوم التفسير فيما إذا لم يكونا عارفين بالأسباب، اختاره العلامة(1) (رحمه اللّه)، و هو المحكي عن إمام الحرمين(2) و الغزالي(3) و الرازي و الخطيب(4) و الحافظ أبي الفضل العراقي(5) و البلقيني(6) في محاسن الاصطلاح(7).
ص: 86
سادسها: القبول فيهما مع العلم بالموافقة فيما يتحقق الجرح و التعديل، و عدم القبول إلا مفسرا في صورة عدم العلم بالموافقة، اختاره السيد عميد الدين في شرح التهذيب(1) و الشهيد الثاني(2)و ولده(3) و الفاضل القمي(4) و.. غيرهم(5).
ص: 87
سابعها: ما رجّحه بعض الأواخر من اعتبار التفسير إن كان اختلافهما بحسب المفهوم أو احتمل ذلك، و عدم وجوب التفسير مع عدم ذلك(1).
الأول: أنه لو كفى الإطلاق في الجرح لكفى في ثبوت الرضاع و.. نحوه. و التالي باطل إجماعا، فكذا المقدم، و الملازمة ظاهرة، فإن الملاك هو وقوع الخلاف في موجباته.
و أنت خبير بأنه مع الإغماض عن كونه قياسا، و تسليم اتحاد المناط فيهما قطعا، و عدم كون اعتبار التفسير في الرضاع من باب الاحتياط في الفروج، نقول: إن لازم هذا الوجه هو اختيار القول السادس، لأنهم صرحوا في الرضاع أيضا بكفاية الإطلاق لو علم أن الشاهدين لا يخرجان عن مذهب الحاكم، بأن يكونا فقيهين مؤتمنين موافقين له في جميع أحكام الرضاع، أو يكونا من جملة مقلديه الموثوق بمراعاتهما في الشهادة مذهبه مع كونهما عارفين به.
الثاني: انه لو ثبت التعديل أو الجرح مع الإطلاق، لثبت مع الشك أيضا، إذ لا يزيد عليه، لمكان اختلاف الآراء في معنى العدالة و الفسق و ما يحصلان به، و في معنى الكبيرة و.. غير ذلك، فالمعاني مختلفة، و الإطلاق لا يثبت بعضها.
ص: 88
و فيه ما يأتي في حجة الثاني.
الثالث: اصالة عدم كفاية الإطلاق، تمسّك بها بعضهم.
و أنت خبير بكونها محكومة باصالة عدم اشتراط التفسير.
الرابع: إن الشاهد إنما يشهد بما يراه و يعتقده، و ذلك لعله غير معتبر عند المشهود(1) عنده، فبعد اختلاف الآراء في العدالة و موجباتها، و الكبائر و غيرها، لا يصح الاعتماد على الشهادة المطلقة.
الأول: ان العدالة و الفسق صفتان مستقلتان خارجتان، فإذا شهد الشاهدان العدلان بهما، وجب قبوله، كما في سائر الموارد التي يشهد بها، لشمول إطلاق أدلتها لجميعها، و إخراج خصوص مورد التزكية و الجرح عنها لا يخلو من تحكّم بحسب المحاورات لغة و عرفا، و دعوى الإجماع على ذلك واضحة المنع كدعوى الشهرة المعتبرة القادحة في التمسك بالإطلاقات و العمومات، و ذلك لكثرة الأقوال و تشتتها على وجه لا يحصل الظن بإرادة خلاف الإطلاقات في خصوص ذلك.
و جعل اختلاف(2) الآراء في أسباب العدالة و الفسق مانعا من قبول الشهادة عليهما مطلقة، مدفوع بأن عدالة الشاهدين مع
ص: 89
علمهما بهذا الاختلاف تأبى من الأخبار بما لا يوافق الواقع و نظر الحاكم، و أنت خبير بأن لازم هذا الوجه - إن تمّ - هو اختيار القول الخامس.
الثاني: أن كلا من المعدّل و الجارح لا بد أن يكون في نظر الحاكم عالما بسببهما، و إلا لم يصلح لهما، و مع العلم لا معنى للسؤال.
و ردّ بأنه لو سلّم لا يتمّ إلا مع علم الحاكم بموافقة مذهب المزكي لمذهبه في أسباب الجرح و التعديل، بأن يكون مقلدا له، أو موافقا له في الفتوى، و ذلك هو القول الخامس دون الثاني.
و قد يقرّر الدليل المذكور بأن المزكي إن كان من ذوي البصائر بهذا الشأن، لم يكن معنى للاستفسار، و إن لم يكن منهم لم يصلح للتزكية.
و يجاب بأنه مع اختلاف المجتهدين في معنى العدالة و الجرح و عدد الكبائر و.. غير ذلك فلا يكفي كونه ذا بصيرة، إذ لعله يبني كلامه على مذهبه، و لا يعلم موافقته للحاكم و المجتهد.
و هذا الجواب مخدوش، بأن إطلاق المزكي مع عدم علمه بالموافقة و احتماله عدم الموافقة تدليس تمنع منه عدالته.
فالأولى الجواب بما ذكر في ردّ التقرير الأول. إلا أن يقال: إن اللازم حينئذ اعتبار علمه بأسباب الجرح و التعديل حتى يكون إطلاقه في الشهادة مع عدم علمه بالسبب المتفق عليه تدليسا.
ص: 90
الثالث: إن ذلك مقتضى ما هو المعلوم من طريقة الشرح من حمل عبارة الشاهد على الواقع، و إن اختلف الاجتهاد في تشخيصه، و من هنا لا يجب سؤاله عن سبب التملك مع الشهادة به، و كذا التطهير و التنجيس و.. غيرها و إن كانت هي أيضا مختلفة في الاجتهاد، بل يحمل قول الشاهد على الواقع كما يحمل فعله على الصحيح في نفس الأمر، لا في حق الفاعل خاصة، و ما العدالة و الفسق إلا من هذا القبيل.
و المناقشة بأن الاختلاف في التعديل و الجرح في معناهما بخلاف الملك و التطهير و التنجيس و.. نحوها، فإنه اختلاف في أسبابها، كما ترى، فإن ذلك لا يصلح فارقا بين المقامين.
نعم لازم هذا الوجه - أيضا - اعتبار علمهما بالأسباب حتى يمكن منهما الشهادة المذكورة.
الرابع: إن العدالة حالة لها مقتضيات، منها: قبول قول صاحبها في الشهادة، و الفسق(1) حالة لها مقتضيات منها رد قول صاحبها في الشهادة، فإذا قامت الحجة الشرعية و هي البينة على وجود تلك الحالة و كشفت عن تحققها، وجب القبول لإطلاق الأدلة.
و أنت خبير بأن مرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول، فجوابه جوابه.
ص: 91
أما على الشق الأول - و هو كفاية الإطلاق في التعديل - فهو إطلاق ما دلّ على حجية البيّنة، و حيث إن المستدل أراد منع الإطلاق في الشق الثاني قرر ذلك بأن إطلاق أدلّة حجية البينة يقضي بلزوم سماع الشهادة مطلقة مطلقا، خرجنا عن ذلك في الجرح، لإعراض الأصحاب عن الإطلاقات فيه، و رجعنا فيه إلى الأصل، و بقي التعديل تحت الإطلاقات(1).
و فيه: منع قيام الإعراض الموهن للإطلاقات بعد تشتت الآراء في المسألة، فالإطلاقات في الجرح و التعديل كليهما محكمة.
و أما على الشق الثاني - و هو عدم كفاية الإطلاق في الجرح - فأمران:
الأول: إن المذاهب فيما يوجب الفسق مختلفة، فلا بد من البيان، ليعمل المجتهد باجتهاده، إذ لو لم يبيّن فربما جرح بما يعتقده جرحا، و ليس بجرح في نفس الأمر، أو في اعتقاد الآخر، فلا بد من ذكر سببه لينظر فيه أ هو جرح أم لا؟ قال في البداية: و قد اتفق لكثير من العلماء جرح بعض، فلما استفسر ذكر ما لا يصلح جارحا.
ص: 92
قيل لبعضهم(1): لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون(2). و سئل آخر من الرواة فقال: ما أصنع بحديثه؟ ذكر يوما عند حماد فامتخط(3) حماد(4).
و نوقش في ذلك بأنه لا فرق بين الجرح و التعديل، بل التعديل تابع للجرح، فإن العدالة ترك لما هو موجب للجرح، و الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة، فإن الاختلاف مثلا في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتب الفسق على فعله، يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الاصرار عليه، فربما يزكيه المزكي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها، و هو قادح عند الحاكم، و كما اتفق لكثير الجرح بما ليس بجارح - كما سمعته من البداية - فكذا اتفق لكثير التعديل بما ليس موجبا للعدالة، فقد وثّق
ص: 93
بعضهم بعضا برؤية لحيته و حسن هيئته، مع أن ذلك يشترك فيه العدل و غيره.
الثاني: إن الاطلاع على العدالة لا يحصل إلا بالمعاشرة مدة طويلة، و بملاحظة المزايا و الخفايا في أفعاله و أعماله و عباداته و معاملاته حتى يعرف منها باطنه من ظاهره، و حقه من باطله، و خلقه من تخلقه، و في ذكر هذه الأمور تعسّر بل تعذّر، و أيضا فأسباب العدالة كثيرة يشق ذكرها، لأن ذلك يحوج المعدل إلى قول لم يفعل كذا..، لم يرتكب كذا..، فعل كذا.. و كذا..، فيعدّد جميع ما يفسق بفعله أو تركه، و ذلك شاق جدا، بخلاف الجرح فإنه يكفي فيه معاينة صدور معصية كبيرة واحدة منه من غير أن يكون له تقادم عهد بالنسبة إليه.
و فيه: أن أحدا ممن يقول باعتبار التفسير في العدالة لم يعتبر ذكر المزايا و الدقائق المذكورة، و إنما اعتبر ذكر أنه صاحب ملكة، أو حسن الظاهر أو.. نحو ذلك من الأقوال في العدالة، و ذلك لا مشقة فيه كالجرح، مع أن التعسر لا يوجب سقوطه إن قام على اعتباره دليل، فتدبر.
الأول: أن اللبس كثيرا ما يقع في العدالة، بخلاف الجرح، و أيضا فالجارح إنما يشهد عن حس غالبا فلا يحتاج إلى ذكر السبب كما في سائر الحسيات المشهور بها، بخلاف المعدّل فإنه إنما يشهد عن
ص: 94
حدس، و الحدسيات مظنة الخطأ، فلا بد من ذكر السبب عند الحاكم كي يتضح خطأه من صوابه، فيعمل عليه عند الحاكم.
و ردّ بأن اللبس يقع في الجرح أيضا، فكثيرا ما ترى تفسيق جمع لشخص لأمر ليس قادحا في العدالة، كما سمعت من البداية التنبيه عليه، و الاخبار بالعدالة و إن كان ناشئا عن حدس، إلا أنه قد يكون الحدس الحاصل من أسبابه أقوى من الحس، و حينئذ فأما أن يعمل فيهما بقول الشاهد من غير تفسير لأصالتي الصحة و عدم الغفلة و الخطأ، و أما أن يطلب التفسير فيهما.
الثاني: إن مطلق الجرح كاف في إبطال الوثوق برواية المجروح و شهادته، و ليس مطلق التعديل كذلك، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فيها، فلا بد من ذكر السبب.
و ردّ بما مر من أن الجرح أيضا مما وقع الاختلاف في أسبابه، فكيف يكتفى بمطلقه في إبطال الاعتماد؟ مع أن التسارع إلى البناء على الجرح أغلب و أقرب إلى طباع الناس من العدالة، لعدم اجتنابهم كثيرا من الظن، مضافا إلى أن تسارع الناس على البناء على الظاهر في العدالة مبني على القول المهجور عند عامة متأخري أصحابنا، بل و أكثر متقدميهم أيضا، و هو كون العدالة عبارة عن حسن الظاهر، فلا تذهل.
على الشق الأول؛ هي حجة القول الثاني، و على الشق
ص: 95
الثاني؛ هي حجة القول الأول، بعد ضم ما ذكر في الجواب عن حجة الثاني إليهما، فإنّا قد ذكرنا أن غاية ما تفيده تلك الأدلة إنما هو اعتبار التفسير في شهادة من لا يعرف الأسباب و الخلافات فيها، و إلا فبعد معرفته بذلك تمنع عدالته من الشهادة بما يحتمل أن لا يكون كذلك عند المشهور عنده، لكون ذلك تدليسا و إغراء بالجهل، و هما قبيحان لا يصدران من العادل.
أما على كفاية الإطلاق عند فقد المخالفة بين الشاهد و الحاكم فحجة القول الثاني، و أما على اعتبار التفسير عند المخالفة فحجة الأول.
و فيه: إن إطلاق اعتبار التفسير في صورة المخالفة لا وجه له بعد منع عدالته من أن يشهد بما لا يدري موافقة الحاكم له فيه، فالقول الخامس أجود من هذا القول.
إن المفهوم هو الذي وقع فيه الخلاف، و أما المصداق فإنما يحتمل فيه عدم صحة الشهادة من باب احتمال الخطأ، و أصالة عدم الغفلة و الخطأ تنفي ذلك الاحتمال.
فتحصّل من ذلك كله أن الأقرب في المسألة هو القول الخامس.
و قد كنّا رجحنا في كتاب القضاء قولا ثامنا، و هو قبول الشهادة
ص: 96
مطلقة إن كان اختلافهما في المصداق، و التفصيل في صورة الاختلاف في المفهوم بين العارف بالأسباب و الخلافات و غير العارف بالقبول مطلقة من الأول دون الثاني، و إنما عدلنا هنا إلى القول الخامس نظرا إلى أن إجراء أصالة عدم غفلته، و عدم خطئه في المصداق فرع معرفته بالأسباب و الخلافات(1).
الأول: إنه ربما حكى بعض العامة(2) عن شيخ الإسلام منهم قولا زعمه الحاكي خارجا عن أقوال المسألة و حسّنه، و هو أنه إن كان من جرح مجملا و قد وثّقه أحد من أئمة الفن لم يقبل الجرح فيه من
ص: 97
أحد كائنا من كان إلا مفسرا، لأنه قد تثبت(1) له رتبة الثقة، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي، فإن أئمة هذا الفن لا يوثّقون إلا من اعتبروا حاله في دينه، ثم في حديثه و نقدره كما ينبغي، و هم أيقظ الناس، فلا ينقض حكم أحدهم إلا بأمر صريح، و إن خلا عن التعديل قبل الجرح فيه غير مفسر إذا صدر من عارف، لأنه إذا لم يعدّل فهو في حيز المجهول، و إعمال قول الجارح(2) فيه أولى من إهماله.
و فيه: منع أولوية إعمال قول الجارح في حق المجهول من إهماله إذا لم يحرز معرفته بالأسباب و الاختلافات كما مرّ، فالقول الخامس هو الأظهر.
و اعلم أنه يرد على المذهب المشهور من اعتبار التفصيل(1) في الجرح إشكال مشهور، من حيث إن اعتماد الناس اليوم في الجرح و التعديل على الكتب المصنفة فيهما، و قلّ ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقصرون على قولهم: فلان ضعيف و.. نحوه. فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، و سد باب الجرح في الأغلب.
و أجيب: بأن ما أطلقه الجارحون في كتبهم من غير بيان سببه، و إن لم يقتض الجرح على مذهب من يعتبر التفسير، لكن يوجب الريبة القوية في المجروح كذلك، المفضية إلى ترك الحديث الذي يرويه، فيتوقف عند(2) قبول حديثه إلى أن تثبت العدالة، أو يتبين زوال موجب الجرح، و من انزاحت عنه تلك الريبة بحثنا عن حاله بحثا أوجب الثقة بعدالته فقبلنا روايته، و لم نتوقف، أو عدمها فنترك خبره(3).
ثانيهما: ما سلكه آخرون، و هو أن مذاهب علماء الرجال غير معلومة لنا الآن، فكيف نعلم موافقتهم لما هو مختارنا في العدالة، حتى يرجع إلى تعديلهم؟ إذ هم يطلقون العدالة و الجرح و لا نعلم سببه عندهم، بل نرى أن العلامة (رحمه اللّه) يبني تعديله على تعديل الشيخ (رحمه اللّه) مثلا، مع أنا نعلم مخالفتهما في المذهب.
ص: 99
و قد أجيب عنه بما توضيحه ما في قوانين المحقق القمي (قدس سره) من أن احتمال أن يكون تعديلهم على وفق مذهبهم خاصة، مع كونهم عارفين بالاختلاف و تفاوت المذاهب، مع أن تأليفهم إنما هو للمجتهدين و أرباب النظر لا لمقلديهم في زمانهم، إذ لا يحتاج المقلد إلى معرفة الرجال، و الظاهر أن المصنف لمثل هذه الكتب لا يريد اختصاص مجتهدي زمانه به، حتى يقال: إنه صنفه للعارفين بطريقته، سيما و طريقة أهل العصر من العلماء عدم الرجوع إلى كتب معاصريهم من جهة الاستناد غالبا، و إنما تنفع المصنفات بعد موت مصنفه غالبا، و سيما إذا تباعد الزمان، فعمدة مقاصدهم في تأليف هذه الكتب بقاؤها أبد الدهر، و انتفاع من سيجيء بعدهم منها(1)، فإذا لوحظ هذا المعنى منضما إلى عدالة المصنفين و ورعهم و تقواهم و فطانتهم و حذقهم(2)، يظهر أنهم أرادوا بما ذكروا من العدالة المعنى الذي هو مسلّم الكل، حتى ينتفع الكل.
و احتمال الغفلة للمؤلف عن هذا المعنى حين التأليف - سيما مع تمادي زمان التأليف و الانتفاع به في حياته(3) - في غاية البعد، و خصوصا من مثل هؤلاء الفحول الصالحين.
ص: 100
لا يقال: إن ما ذكرت معارض بأن إرادة المعنى الأعلى و إن كان مستلزما لتعميم النفع، و لكنه مفوت لفائدة أخرى، و هي أنه قد يكون مذهب المجتهدين اللاحقين أن العدالة هو المعنى الأدنى، فلا يعلم حينئذ هل كان الراوي متصفا بهذا المعنى أم لا؟ فلو لم يسقط المؤلف اعتبار هذا المقدار لكان النفع أكثر.
لأنّا نقول:
أولا: إن هذا النفع بالنسبة إلى الأول أقلّ، لمهجورية القول بكون العدالة هو ظاهر الإسلام عند المتأخرين(1).
و ثانيا: إنّا نراهم كثيرا ما يمدحون الرجل بمدائح كثيرة توجب العدالة، بمعنى حسن الظاهر، بل و أكثر منه، و مع ذلك لا يصرحون بعدالتهم، بل امتنعوا من تعديل أشخاص لا ينبغي الريب في عدالتهم، كإبراهيم بن هاشم و غيره، و اقتصروا على بيان مدائحه، فمن لحق بهؤلاء و ليس مذهبه في العدالة هو المعنى الأعلى فليأخذ بمقتضى هذا المدح، و يجعله عدالة. و هذا من أعظم الشواهد على أنهم أرادوا بالعدالة المعنى الأعلى، فهم لاحظوا الأطراف، و أخذوا بمجامع النفع، سيما و قولهم: ثقة، لا يحتمل مجرد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق كما هو واضح، بل الظاهر أنه ليس مجرد حسن الظاهر أيضا، فإن الوثوق غالبا لا يحصل إلا مع اعتبار الملكة.
و يؤيده أن العلماء اكتفوا بمجرد التعديل، و لم يتأملوا من هذه الجهة،
ص: 101
و لم يحصل لهم تشكيك من هذه الجهة(1).
و أقول: لا يخفى عليك أن هذا التقرير أولى من التقرير الأول، لأن هذا رافع للإشكال بتقريرية، بخلاف ذاك، فإنه ينحل إلى الالتزام بالإشكال لأن التوقف في حال من نص عليه بجرح من دون ذكر سببه نوع قبول للجرح.
لكن الإنصاف عدم رفع هذا الجواب للإشكال الأول، و إن الإشكالين لا يرجعان إلى إشكال واحد، لأن الأول ناظر إلى حيث الجرح، و الثاني ناظر إلى حيث التعديل، و من لاحظ كتب الرجال و أمعن النظر في أحوال أهل الحديث بأن له نهاية تدقيقهم في أمر العدالة، و عدم توثيقهم إلا من هو ثقة على المذاهب، و اكتفائهم في أمر الجرح بمجرد ما يكون موهنا، أ لا ترى إلى إخراج القميين عدّة من أجلاء الرواة من قم لأمور جزئية غير موجبة للفسق؟! فالحق الاكتفاء في أمر العدالة على التوثيقات الموجودة في كتب الرجال(2)، لما عرفت من مداقتهم في ذلك، الكاشفة عن إرادتهم الوثاقة المتفق عليها، و عدم الاكتفاء في أمر الجرح إلا بالتضعيف المبين سببه، بمعنى
ص: 102
التوقف عند الجرح المطلق و الفحص و البحث إلى أن يحصل الاطمئنان بضعفه فيردّ خبره، أو بوثاقته فيقبل حديثه، لأن المبادرة إلى ردّ خبر كل من ضعّفوه - مع ما ترى من مسامحتهم في أمر الضعف و مبادرتهم إلى التضعيف - قد يؤدي إلى رد خبر منحصر فيه الوقوف على الحكم الشرعي مع وثاقة راويه في الواقع، فعليك بالجدّ و الجهد في ذلك، فإنه من موارد دوران الأمر بين المحذورين - أعني هنا محذور الأخذ بقول الفاسق الجعّال، و الفتوى بما يخالف الواقع. و محذور ترك الحديث الصادر من مصدر الشرع، و الرجوع إلى الأصل المحتمل مخالفته للواقع -، وفقنا اللّه تعالى و إياك لنيل الصواب، بمحمد و آله الأطياب، عليهم صلوات اللّه الملك الوهاب.
[ثانيها(1): إنه كيف يجوز التعويل على توثيق الموثقين مع العلم بعدم ملاقاتهم للموثقين، مع أنه إن كانت التزكية رواية فالجرح و التعديل من النجاشي و أضرابه ممن لم يلق الراوي رواية مرسلة منقطعة معضلة، للعلم بسقوط الواسطة، و ظهورات(2) الواسطة ثقة عنده و من بعد الأول ثقة عند الأول، و من بعد الثاني ثقة عند الثاني، و..
هكذا لا يجدي نفعا، ضرورة أن الوثاقة عنده لا تستلزم الوثاقة عند غيره، و إن كانت التزكية شهادة؟
فاولا: يعتبر تعدد الشاهد على توثيق كل طبقة، و هو غير
ص: 103
معلوم، لاحتمال أن يكون الواسطة في توثيق النجاشي لزرارة مثلا غير الواسطة في توثيق الكشي.
و ثانيا: شهادة فرع الفرع غير مسموعة، فحاصل الكلام عدم قبول الجرح و التعديل من النجاشي و الشيخ و.. أضرابهما إلا فيمن لقوه، أو كانت الواسطة واحدا على بعض الوجوه.
و الجواب عنه: أولا: إن العلم أو الظن بالعدالة المعتبرين في جواز الشهادة بها لا يشترط أن يكونا حاصلين من معاشرة الرجل و ملاقاته، بل يكفيان و إن حصلا من إمارات خارجية تحصل غالبا في الأزمنة القريبة من عصر الراوي، كزمان الكشي و النجاشي و أضرابهما، بل لا يبعد حصولها في أمثال زماننا أيضا، لكن لا يخفى الفرق بينه و بين الحاصل من الاجتهاد.
و ثانيا: إن التزكية رواية، و الإرسال غير قادح هنا، للإجماع على تصحيح التوثيق على مذهب الجميع، و حمل التزكية على ما زعمه من العدالة ينافي ثمرة التزكية، فقرينة المقام تقضي بتزكية كل طبقة للأخرى، و قد تقدم اختلاف المقام بالنظر إلى ظهور الأخبار عن الاجتهاد و الرأي، و الأخبار عن الأمر الواقعي، و لا ريب أن مقام التوثيق مما يظهر منه الثاني، و إن سلمنا كون التزكية شهادة.
نقول(1): لا دليل على عدم قبول شهادة فرع الفرع في المقام،
ص: 104
بل مقتضى دليل حجية البينة عموم حجيتها في المقام و غيره، فالذي خرج بالدليل شهادة فرع الفرع في إثبات الحقوق و نحو ذلك من المخاصمات التي تظهر من قوله (عليه السّلام): (إنما أقضي بينكم بالبينات)(1) هو حجية نفس البينة المعلوم حصولها إلا ما أثبتته البينة، فشهادة الفرع خارجة عن ذلك، فضلا عن شهادة فرع الفرع. نعم، دل دليل آخر على اعتبار شهادة الفرع و لا ينافي ذلك لفظة: إنما، التي هي من أدوات الحصر على المشهور، إذ الدليل الدال على اعتبار شهادة الفرع كالقرينة على أن المراد بالبينات أعم مما علم حصوله أو أثبتته البينة، فتدبر جيدا.
ثالثها: إنه كيف يحكم باتفاق زمان الوثاقة و زمان الرواية مع العلم بأن كل راو له حالة خالية عن ملكة العدالة، مع أنّا لم نر للموثقين تحديدا و تاريخا للوثاقة، و لا من الرواة تاريخا للرواية.
و الجواب عن ذلك:
أولا: إنه إن سبق فسقه على زمان عدالته و كانت روايته في زمان العدالة، فواضح أنه كاف، لأن المدار على العدالة زمان الرواية، و إن سبق فسقه و كانت روايته حال فسقه، فسكوته في زمان عدالته بعد ذلك عن الأخبار بأن روايته حال فسقه لم تكن صحيحة
ص: 105
كاف في ترتب آثار خبر العدل على خبره(1) و إن سبقت عدالته على فسقه، كشف تعديل علماء الرجال له عن إحرازهم وقوع رواياته في حال العدالة.
و ثانيا: إن ظاهر التزكية له هو التوثيق بعد كونه راويا، و إن سبق له زمان لم يكن موثوقا به، فتوثيقهم كاشف عن وثاقته في زمان روايته. نعم يمكن ردّ الإشكال في ترجيح الجارح على المعدّل بعد ظهور كليهما في بيان صفة الراوي و عدم ظهور الجرح في تأخره أو في كونه إخبارا عن الجرح في زمان التوثيق، لأن يقال: إن الجرح مقدم على التوثيق، لأن الجارح يخبر عن أمر خفي على المعدّل.
و الحاصل: إن ثمرة تقديم الجارح على المعدل لا تظهر إلا بعد معرفة اتفاق زمان الجرح و التعديل و زمان الرواية، و إلا فلا يكاد شخص غير معصوم يخلو عن العلم بخلوه عن الملكة في بعض الأزمنة، فإن كان الجرح إخبارا عن عدم الملكة في زمان، فالعلم به حاصل قبل الاخبار عنه، و إن كان عدم قبول رواية المجروح للشبهة المحصورة، فالشبهة حاصلة قبل الاخبار بالجرح أيضا، فينبغي أن لا يسمع قول المعدّل. أو لا يكون في سماعه ثمرة إلا إذا تشخص زمان الوثاقة و الرواية أو كان زمان الجرح معينا، فيحكم بتأخر زمان الرواية و التعديل عن زمان الجرح، فإن ظهر أيضا صدور الرواية بعد فرض
ص: 106
تحقق العدالة صحت الرواية، لكن ترى الأصحاب من السلف إلى الخلف يجرحون بمجرد وجود الجارح، و يقدمونه على المعدّل، و حيث خلا رجل عن الجرح حكموا بصحة التوثيق فيه. و لعل السر فيه ما ذكرناه من أن التوثيق ظاهر في الوثاقة بعد صيرورته راويا، و هو لا ينافي العلم بوجود حالة للرجل قد خلت عن العدالة، بخلاف ما لو كان هناك جرح، فإن الجرح أيضا ظاهر في الاخبار عن جرح الراوي، لا من لم يصدر منه الرواية.
لا أقول: إن الجرح و التعديل ظاهران في الاخبار عن الأمرين بعد صدور الرواية، فيخرج تلك الرواية التي اعتبر تقدمها، فتشتبه بغيرها، فيخرج الباقي عن الحجية.
بل أقول: إن المراد أنهما ظاهران في أن الراوي حال روايته موثق أو مجروح، فيقدم الجرح على التعديل، لما ذكروه من أن الجارح يخبر عن أمر خفي على المعدّل.
و يرد عليه بالنّقض بما لو أخبر المعدل بوجود ملكة مانعة عن صدور ما يخبر عنه الجارح، فيكون كلاهما أمرين وجوديين لا ترجيح في أحدهما على الآخر. نعم، يمكن أن يقال: إن احتمال الخطأ في التّعديل أقوى - خصوصا في بعض الأزمنة - من احتماله في الجرح، فيقدّم الجرح حيث لا مرجّح في جانب التّعديل، و بالحمل على أنّ الجارح يخبر زيادة على ملكة الفسق بوجود أمر خارجي مناف للأصل، فتأمّل. و يكفي في الجرح عدل واحد أيضا، و من اعتبر التعدّد في التّعديل اعتبر هنا أيضا، لاتحاد المدرك. و لعلّه يوافق
ص: 107
المشهور في الجرح دون التّعديل، لقوّة الجرح، و موافقة لازمة للأصل، فيكفي فيه الواحد، و فيه ما فيه.
رابعها: إن في معنى العدالة خلافا معروفا، فلعلّ بناء المزكّي فيها على الدّرجة النّازلة، فكيف يجوز الاعتماد على تزكيته لمن لم يوافقه في المسلك؟ فما لم يعلم الموافقة في المسلك لا يجوز التّعويل عليها.
و الجواب عن ذلك: إن كون وضع كتب الرجال لرجوع من بعدهم إليها - مع العلم باختلاف المسالك في العدالة - قرينة واضحة على إرادتهم بالتّوثيق فيها الدّرجة العليا، و إلاّ لكان تدليسا يحاشون منه.
خامسها: إن جماعة كثيرة كانوا غير إماميّين في أول الأمر، ثمّ رجعوا و تابوا و حسنت عقيدتهم، كحسين بن بشار و عليّ بن أسباط(1)و غيرهما، و جماعة أخرى كانوا إماميّين على الحق ثمّ توقّفوا و وقفوا في ضلال مبين، مثل عليّ بن رياح(2) و عليّ بن أبي حمزة(3) و نحوهما، و قد ورد توثيق القبيلتين من أئمّة الرّجال، فكيف يعمل بروايتهم للتّوثيق، مع الجهل بالتّاريخ؟ و أصالة تأخّر الحادث غير مجدية، لا لكونها أصلا مثبتا، كما صدر من المحقّق الكاظمي(4)، إذ فيه: أنّ
ص: 108
الأصول المثبتة إنّما لا تعتبر في الأحكام من حيث عدم كون بيان العقليات و العاديات وظيفة الشارع، و أما في الموضوعات فلا مانع من حجيتها، بل لأنها معارضة بالمثل.
و الجواب عن ذلك: إن من كان فاسد المذهب ثم رجع إلى الحق يؤخذ برواياته مطلقا، لأن سكوته بعد رجوعه إلى الحق عن روايات حال اعوجاجه تكشف بمقتضى عدالته عن صدقه فيها(1) و من رجع من الحق إلى المذهب الفاسد لا يؤخذ من رواياته إلا بما علم أو ظن بصدور الرواية منه حال الاستقامة، و مجرد توثيق أئمة الرجال له لا يدلّ على الأخذ برواياته مطلقا، مع تنبيههم على حاله(2)، مضافا إلى أن الرجوع إلى الوقف و نحوه من المذاهب الفاسدة لا يقدح في حجية خبره و اعتباره، ما لم يؤد إلى الكفر، غاية الأمر كون روايته موثقة لا صحيحة، و مما يكشف عن صدور روايات الراجع عن الحق في زمان استقامته إجماعهم على العمل برواياته، كما في الحسين بن بشار(3) و علي بن محمد بن رياح(4) و لقد أجاد الشيخ (رحمه اللّه) في
ص: 109
العدة حيث قال: أما ما يرويه الغلاة و المصنفون(1) و غير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته، فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة و حال غلو عمل بما رووه حال الاستقامة، و ترك ما رووه حال التخليط، و لأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال الاستقامة، و تركوا ما رواه في حال تخليطه، و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي، و ابن أبي العزاقر، و غير هؤلاء. و أما ما يروونه في حال التخليط، فلا يجوز العمل به على كل حال(2).
و يقرب من الإشكالات المزبورة إشكالات سطرناها مع أجوبتها في أوائل حجج النافين للحاجة إلى علم الرجال، في المقام الثالث، من المقامات في مقدمة كتاب تنقيح المقال، فلاحظ(3) و تدبر جيدا](4).
***
ص: 110
أنه إذا اجتمع في واحد جرح و تعديل(1)، فالذي يظهر منهم في تقديم أيهما أقوال:
ص: 111
أحدها: تقديم الجرح مطلقا(1)، و هذا هو المنقول عن جمهور العلماء(2)، لأن المعدّل يخبر عما ظهر من حاله، و قول الجارح يشتمل(3) على زيادة علم لم يطلع عليه المعدّل، فهو مصدّق للمعدّل فيما أخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه يخبر عن أمر باطن خفي على المعدل.
و ان شئت قلت: ان التعديل و ان كان مشتملا على اثبات الملكة، الا أنه من حيث نفي المعصية الفعلية مستند الى الأصل، بخلاف الجرح فانه مثبت لها، و الاثبات مقدم على النفي.
و إن شئت قلت: إن كلا من المعدل و الجارح مثبت من جهة
ص: 112
و ناف من جهة أخرى، فالمعدّل مثبت من حيث ثبوت أصل الملكة، و ناف اتكالا على الأصل من حيث صدور المعصية. و الجارح مثبت من حيث صدور المعصية، و ناف من حيث تعقبه بالتوبة و الرجوع، فيقدم إثبات الجارح على نفي المعدل، لكونه نصا بالنسبة إليه، و ذاك ظاهر(1).
ثانيها: تقديم قول المعدل مطلقا، نقله بعضهم قولا(2)، و لم نقف على قائله، و لا على دليل له، و قصارى ما يتصور في توجيهه أنه إذا اجتمعا تعارضا، لأن احتمال اطلاع الجارح على ما خفي على المعدّل معارض باحتمال اطلاع المعدّل على ما خفي على الجارح من مجدد التوبة و الملكة، و إذا تعارضا تساقطا و رجعنا إلى أصالة العدالة في المسلم(3) و فيه:
ص: 113
أولا: إن أصالة العدالة في المسلم ممنوعة، كما أوضحنا ذلك في محله.
و ثانيا: إن قول الجارح نص في ثبوت المعصية الفعلية، فلا محيص عن وروده و حكومته على الأصل الذي هو مناط التعديل.
و ثالثا: إن اللازم عند تحقق التعارض هو التماس المرجح لا التساقط.
و رابعا: إن ذلك لا يكون من تقديم التعديل على الجرح، بل هو طرح لهما و رجوع إلى الأصل.
ثالثها: التفصيل بين صورة إمكان الجمع بينهما، بحيث لا يلزم تكذيب أحدهما في شهادته، كما إذا قال المزكي: هو عدل، و قال الجارح: رأيته يشرب الخمر، فإن المزكي إنما شهد بالملكة، و هي لا تقتضي العصمة، حتى ينافي صدور المحرم منه، فيجتمعان، و بين صورة عدم إمكان الجمع كما لو عيّن الجارح السبب و نفاه المعدل، كما لو قال الجارح: رأيته في أول الظهر من اليوم
ص: 114
الفلاني يشرب الخمر، و قال المعدّل: إني رأيته في ذلك الوقت بعينه يصلي، بتقديم الجرح على الأول لأنهما حجتان مجتمعتان، فيعمل بهما مع الإمكان، و الرجوع إلى المرجحات من الأكثرية و الأعدلية و الأورعية و الأضبطية و نحوها على الثاني، فيعمل بالراجح و يترك المرجوح، لما تقرّر في محله من الرجوع إلى المرجحات عند تعارض البينتين(1)، فإن لم يتفق الترجيح وجب التوقف، للتعارض، مع استحالة الترجيح، من غير مرجح(2) اختاره الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية(3) و المحقق القمي(4) و غيرهما(5).
رابعها: هو الثالث مع التوقف في الصورة الثانية مطلقا، و هو المحكي عن الشيخ (رحمه اللّه) في الخلاف(6)، و علّل بأن مقتضى
ص: 115
القاعدة في صورة تعارض البينتين هو التساقط و التوقف، إلا أن يكون أصل في المورد فيرجع إليه، و الرجوع إلى الترجيح بالأكثرية و الأعدلية و نحوها في تعارض البينتين في الأملاك إنما هو لدليل خاص، فيقتصر على مورده، و يتوقف في غيره.
خامسها: التفصيل بين أن يتعارضا في أصل ثبوت الملكة و عدمه، كأنّ يقول أحدهما: هو عدل ذو ملكة رادعة، و قال الآخر: هو عشّار(1) في جميع ما مضى من عمره، بالتعارض و التساقط و الرجوع إلى الأصل الموجود، و هو في المقام على عدم الملكة بين أن يتعارضا في مجرد صدور المعصية و عدمه، فيقدم قول المعدّل و يعمل عليه، لأن الملكة قد ثبتت بقوله، و قد تساقطا من حيث صدور المعصية و عدمه فيرجع إلى أصالة العدم.
و هذا القول أقرب في مسألة تعارض البينتين في باب القضاء، لأن حجية البينة هناك ليست من باب الظن و الاطمئنان، كي تنفع فيها المرجحات الظنية، و إنما هي من باب التعبد، و لا مسرح
ص: 116
للمرجحات الظنية في مثله، لعدم تقويتها لمناط الحجية التي هي المناط في الترجيح، إلا أن الأظهر هنا هو القول الرابع، لأن اعتبار التعديل هنا من باب الاطمئنان، و لذا أسقطنا فيه اعتبار التعدد. و لا ريب في مدخلية المرجحات الظنية للاطمئنان في جانب مصاحبها، فيتعين تقديمه (1).
***
ص: 117
ص: 118
إنه يعتبر في تصحيح السند أمران:
أحدهما: تعيين رجال السند واحدا بعد واحد، و تمييز المشترك منهم بين اثنين فما زاد، إذ بعد العلم الإجمالي بكثرة المشتركات لا يجوز الحكم بأن صاحب هذا الاسم هو الذي وثقه الكشي مثلا، إذ لعله غيره ممن سمي باسمه، فلا بد أولا من الجد و الجهد بحسب الوسع و الطاقة في تعيين رجال السند، و إحراز أن صاحب هذا الاسم هو الذي وثقه الكشي أو النجاشي مثلا، أما لاتحاد المسمى بذلك الاسم أو للقرائن المعينة للرجل من بين المسمّين بهذا الاسم من راو و مروي عنه و نحوهما.
ثانيهما: الفحص عن معارض التوثيق الصادر عن أحد علماء الرجال و مخصصه، لأن العلم الإجمالي بوجود المتعارضات في الرجال كثيرا يلجئنا إلى ذلك، كما أن العلم الإجمالي الجأنا إلى ترك العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص و اليأس منه، و ترك الخبر حتى
ص: 119
يحصل اليأس عن وجود معارض له، فحال التزكية و الجرح حال إخبار الآحاد في عدم جواز العمل بها إلاّ بعد الفحص و اليأس عن المعارض و المخصص، و العلم الإجمالي المذكور هو الفارق بين المقام و بين التعديل للبينة في المرافعات حيث يؤخذ به من غير فحص عن المعارض في وجه.
و مما ذكرنا ظهر أنه إذا قال الثقة: حدثني ثقة بكذا و لم يسم الثقة لم يكف ذلك الإطلاق و التوثيق في عدّ الخبر صحيحا اصطلاحا حتى على القول بكفاية الواحد في تزكية الراوي، لأنه إذا لم يسمه لم يمكن النظر في أمره و الفحص عن وجود معارض لتوثيقه و عدمه، و من هنا سموا الرواية الصحيحة إلى من كان من أصحاب الإجماع كالصحيح، و لم يعدوه صحيحا.
إلا أن يقال: إن اعتبار الفحص إنما هو حيث يمكن، و لا يمكن ذلك في المجهول، و لا مانع من قبول مثل هذا التوثيق ما لم يظهر الخلاف.
و كيف كان، ففي جواز العمل بمثل هذا الخبر و عدمه وجهان، بل قولان: أولهما عدم الجواز، و هو للعلامة في النهاية(1) و ثاني الشهيدين في البداية(2)، و صاحب المعالم(3)، و غيرهم(4).
ص: 120
و ثانيهما: الجواز، و هو للمحقق البهبهاني(1)، و سيد الرياض، و الآمدي في محكي الأحكام(2)، و غيرهم، و هو المستفاد من عبارة المحقق(3)، بل في المفاتيح(4) أنه لو قيل إن ذلك مذهب المعظم لم يكن بعيدا.
إنه يجوز أن يكون المروي عنه ثقة عند الراوي المصرح بوثاقته، و كأن غيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عند هذا الشاهد أيضا، و إنه إنما وثقه بناء على ظاهر حاله، و لو علم بما علم به الجارح لما وثقه. و أصالة عدم الجارح مع ظهور تزكيته غير كاف في هذا المقام لمنع العلم إجمالا بوقوع الاختلاف في شأن كثير من الرواة من جريانها، فلا بد حينئذ من تسميته لينظر في أمره هل أطلق القوم عليه
ص: 121
التعديل أو تعارض كلامهم فيه أو لم يذكروه، و لا بد من البحث عن حال الرواة على وجه يظهر به أحد الأمور الثلاثة من الجرح و التعديل أو تعارضهما حيث يمكن، بل إضرابه عن تسميته مريب في القلوب، كما نبّه عليه في البداية(1).
بأن المدار في التعديل و الجرح على الظن، فإن أراد أهل القول الأول أن ذلك لا يفيد الظن بسبب ذلك الاحتمال فهو باطل، لظهور حصول الظن من تعديل العدل العالم بأحوال الجرح و التعديل، و عدم الظفر بما يوجب الجرح، و لو كان الاحتمال المذكور مانعا من حصول الظن للزم أن لا يحصل من خبر العدل الظن بالحكم الشرعي أو المطلب اللغوي أو الجرح و التعديل و.. نحو ذلك، لاحتمال الخطأ في مستند عمله بالمذكورات، و أنه لو أبرزه لكان غير تام عندنا، و ذلك باطل بالضرورة. و إن أرادوا أن هذا الظن ليس بحجة لأنه يشترط في حجية كل ظن حصول ظن آخر من جهة الفحص بعدم وجود معارض له فهو باطل، لأن ذلك لو سلم فإنما هو في صورة إمكان الفحص عن المعارض، و أما مع عدمه فلا يشترط، كما هو الظاهر من سيرة العقلاء في موارد عملهم بالظن، و كذلك معظم الأصحاب.
و أقول: في إطلاق كل من الحجتين نظر، ضرورة أن اعتبار
ص: 122
الفحص في العمل بالتعديل على نحو العمل بالعام المتوقف على الفحص على(1) المخصص مما لا ينبغي التأمل فيه، كما لا ينبغي التأمل في اختصاص اعتبار الفحص بصورة الإمكان، و لازم الفقرتين هو التفصيل في المسألة بين إمكان استعلام الراوي الشاهد بالعدالة و الفحص عن حال المشهود له، و أنه هل ورد فيه جرح أم لا؟ و بين عدم إمكان الاستعلام باعتبار الاستعلام في الأول لتوقف قوة الظن عليه، و قضاء العلم الإجمالي بوجود الاختلاف في شأن كثير من الرواة بذلك، و وضوح أن من تمكن من تحصيل الاطمينان لم يجز له الاقتصار على مطلق الظن، و عدم اعتبار الاستعلام في الثاني، لأن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، و لقضاء بناء العقلاء على ذلك، فإنهم في الرجوع إلى الخبرة يعتمدون على خبر ذي الخبرة إذا لم يمكنهم الفحص، و يتفحصون في صورة إمكانه، و لازم ما ذكرنا جواز الاعتماد على تصحيح الغير للسند إذا لم يمكن للمجتهد الفحص عنه، و عدم جواز الاعتماد في صورة إمكان الفحص تحصيلا لقوة الظن.
و مما ذكرنا ظهر ما في إطلاق صاحب المعالم في قوله في آخر المسألة: اعلم أن وصف جماعة من الأصحاب كثيرا من الروايات بالصحة من هذا القبيل، لأنه في الحقيقة شهادة بتعديل رواتها، و هو بمجرده غير كاف في جواز العمل بالحديث، بل لا بد من مراجعة
ص: 123
السند و النظر في حال الرواة ليؤمن من معارضة الجرح(1). بل اللازم تقييده بصورة إمكان الفحص، [و لعل القيد مراد له، بل لا ينبغي الريب في ذلك](2) فلا تذهل.
الأول: إنه لا ينبغي الإشكال في كون قول الثقة حدثني ثقة به(3) تزكية للمروي عنه، لصراحة كلامه في ذلك، و ثمرة ذلك أنه إذا سماه بعد ذلك و تفحصنا عن حاله و لم نجد ما يعارض ذلك التوثيق جاز الاعتماد عليه و الاستناد إليه. و ربما يظهر من الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية اعتبار إحراز قصده بقوله: حدثني الثقة التوثيق، حيث قيّد كون ذلك توثيقا بقصده ذلك بعبارته، معللا بأنه قد يقصد به مجرد الاخبار من غير تعديل، فإنه قد يتجوّز في مثل هذه الألفاظ في غير مجلس الشهادات(4).
ص: 124
و أنت خبير بأن ظاهر كلامه حجة، و حمله على خلاف ظاهره من غير قرينة لا وجه له، و لذا قال في البداية بعد ذلك: انه هل(1) ينزل الإطلاق على التزكية أم لا بد من استعلامه؟ وجهان، أجودهما تنزيله على ظاهره من عدم مجازفة الثقة في مثل ذلك(2).
ص: 125
الثاني: إنه إذا روى العدل الذي يعتمد على تزكيته عن رجل غير معلوم العدالة و سماه باسمه، و لم يعلم من حال العدل الراوي أنه لا يروي إلا عن ثقة، فهل مجرد روايته عنه يكون تعديلا له، مثل ما لو عدّ له صريحا أم لا؟ وجهان، فالمعروف بين العلماء من الفقهاء و الأصوليين و أهل الدراية و الحديث العدم(1)، و أرسل جمع قولا بكونه تعديلا من دون تسمية قائله، و عزاه في البداية إلى شذوذ من المحدثين(2).
و الحق المألوف هو القول المعروف.
لنا على ذلك أن رواية العدل عن غيره لا تدلّ (3) على تعديله له بشيء من الدلالات، أما المطابقة و التضمن فظاهر، و أما الالتزام فلأنه لا ملازمة بين الأمرين لا عقلا و لا شرعا و لا عادة، و العدل كما يروي عن العدل فكذا يروي عن غيره. و قد جرت عادة أكثر الأكابر من المحدثين و المصنفين الرواية عن كل من سمعوه، و لو كلفوا الثناء عليه لسكتوا و توقفوا.
و توهم أن رواية العدل عمن عرف فسقه غش و تدليس في الدين، مدفوع بالمنع من كون ذلك غشا و تدليسا، لأنه لم يوجب على
ص: 126
غيره العمل، بل قال: سمعت فلانا قال.. كذا، و قد صدق في ذلك، ثم قد يكون لم يعرف عدالة المروي عنه و لا فسقه، و أحال البحث عن حاله إلى من يريد العمل بروايته كما هي سجيتهم.
و دعوى أن ظاهر إطلاق العدل الرواية كون المروي عنه عدلا واضحة الفساد(1).
ثم على المختار، فهل يعمّ ذلك ما لو علم أن ذلك العدل لا يروي إلا عن العدل دون غيره، أو يختص بغيره؟ وجهان، اختار العضدي الأول، و حكي عن نهاية الأصول(2) و تهذيبه(3) و المبادئ و المنية و غاية المبادئ و المحصول و الأحكام(4) و.. غيرها الثاني(5)، بل هو ظاهر الأكثر، حيث اعتمدوا على مراسيل ابن أبي عمير و.. غيره
ص: 127
ممن علم أنه لا يروي أو لا يرسل إلا عن ثقة. و الأظهر إدارة الأمر مدار حصول الاطمينان و عدمه، فإن حصل الاطمينان اجتزئ به، و إلا فلا، و من منع من الاجتزاء به فإنما ذلك منه لعدم الاجتزاء بتزكية مجهول العين.
الثالث: إن عمل المجتهد العدل في الأحكام و فتياه لغيره بفتوى على طبق حديث ليس حكما منه بصحته، و لا مخالفته له قدحا فيه و لا في رواته(1)، كما صرح بذلك جماعة منهم ثاني الشهيدين (رحمهما اللّه) في البداية(2)، خلافا لما حكى عن التهذيب(3) و الأحكام(4)و المحصول(5) و المنهاج(6) و المختصر(7) و.. غيرها. بل عن الأحكام دعوى الاتفاق عليه(8) و إن كان ظاهر الفساد.
ص: 128
ان كل واحد من العمل و المخالفة أعم من كونه مستندا إليه أو قادحا فيه، لإمكان كون الاستناد في العمل إلى دليل آخر من حديث صحيح أو غيره، أو إلى انجبار بشهرة أو قرينة أخرى توجب ظن الصدق، و إمكان كون المخالفة لشذوذه أو معارضته بما هو أرجح منه أو.. غيرهما، و العام لا يدلّ على الخاص.
ما تمسّك به جمع من أهل هذا القول؛ من أن الراوي الذي عمل العدل بروايته لو لم يكن عدلا لزم عمل العدل بخبر غير العدل، و هو فسق، و التالي باطل، لأن المفروض عدالة العامل، فبطل المقدم.
و فيه: منع كون عمله بخبر غير العدل فسقا مطلقا، لما عرفت من إمكان استناد العمل إلى قيام قرينة من شهرة جابرة و.. نحوها بصدقه مع فسق راويه، فالقول الأول أظهر.
نعم لو علم أن العدل المذكور لا يعمل إلا بخبر الثقة، بحيث حصل الاطمينان باستناده إلى ذلك الخبر بخصوصه دون دليل آخر(1)، و بعدم قيام قرينة خارجية بصدقه كان ذلك منه تعديلا، لكنه فرض نادر.
الرابع: الحق أن موافقة الحديث للإجمال(2) لا يدلّ على صحة
ص: 129
سنده، لجواز أن يكون مستند المجمعين غيره، أو يكونوا قد استندوا إليه لقيام قرينة خارجية بصدقه، و كذا إبقائهم خبرا تتوفر الدواعي إلى إبطاله لا يدلّ على صحة سنده، لما أبديناه من الاحتمال. المانع للملازمة بين الإبقاء و بين صحة سنده.
الخامس: إنه قد يدخل في بعض الأسانيد من لم يقع في كتب الرجال تصريح بعدالته و وثاقته و لا بضعفه و مجروحيته(1)، فمقتضى القاعدة إدخالهم في المجهولين، بل لعل القاصر يستكشف من عدم تعرضهم لذكرهم في كتب الرجال عن عدم الاعتماد عليهم، بل و عدم الاعتداد بهم. و لكن التأمل الصادق يقضي بخلاف ذلك، فإنا إذا وجدنا بعض الأعاظم من علمائنا المحدثين يعتني كثيرا بشأنه، و يكثر الرواية عنه، أو يترحّم عليه، و يترضّى عنه، كما يتفق ذلك للصدوق (رحمه اللّه) في بعض من يروي عنه، و لم يكن حاله معروفا من غير هذه الجهة. أو يقدح في سند روايته من غير جهته و هو في طريقها، فلا ريب و لا إشكال في إفادة ذلك مدحا معتدا به، بل ربّما يبلغ هذا و أمثاله - بسبب تكثّر الأمارات و تراكم الظنون - حدّ التوثيق، و يحصل لذلك الظن بعدالته و ضبطه، و يكون حاله حال الرجل المعدّل بتعديل معتبر. و قد نبّه على ذلك جمع منهم الشيخ البهائي (رحمه اللّه) في مشرق الشمسين حيث قال: قد يدخل في أسانيد بعض الأحاديث من ليس له ذكر في كتب الجرح و التعديل بمدح و لا قدح غير أن أعاظم علمائنا المتقدمين - قدس اللّه أرواحهم -
ص: 130
قد اعتنوا بشأنه و أكثروا الرواية عنه، و أعيان مشايخنا المتأخرين قد حكموا بصحة روايات هو في سندها، و الظاهر أن هذا القدر كاف في حصول الظن بعدالته(1). و لو تنزّلنا عن دعوى إفادته الظن بالعدالة، فلا أقل من إفادته الظن بوثاقته من جهة الخبر، و كونه موثوقا بصدقه، ضابطا في النقل، متحرزا عن الكذب، و ذلك كاف في الخبر، إذ الشرط في قبوله عندنا هو هذا.
و الحاصل: أنه لا يقطع النظر عن الراوي بمجرد عدم النص عليه بجرح أو تعديل، بل لا بد من الفحص عن حاله، و تطلب الأمارات الدّالة عليه، فلربما تبلغ حد القبول و إن لم تبلغ حد التوثيق و التعديل، و من ذلك: أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد(2)، فإن المذكور في كتب الرجال توثيق أبيه. و أما هو ففي مشرق الشمسين(3)أنه غير مذكور بجرح و لا تعديل، و مثله عن الحاوي(4)، فإنه ذكره في خاتمة قسم الثقات التي عقدها لمن لم ينص على توثيقه، بل يستفاد من قرائن أخر أنه من مشايخ الإجازة و من مشايخ المفيد (رحمه اللّه) و الواسطة بينه و بين أبيه. و عن الوجيزة(5) و الشهيد الثاني (رحمه
ص: 131
اللّه)(1) توثيقه، و عن المتوسط(2) أنه من المشايخ المعتبرين، و قد صحح العلامة (رحمه اللّه) كثيرا من الروايات(3) و هو في الطريق، بحيث لا يحتمل الغفلة، و لم أدر إلى الآن و لا أسمع من أحد يتأمل في توثيقه. فمثل هذا الشيخ الجليل - و إن لم ينص على تعديله كما ذكروا - و لكن فيما سمعت مما يتعلق بأحواله كفاية، و مثله: أحمد بن محمد بن يحيى العطار(4)، فإن الصدوق (رحمه اللّه) يروي عنه كثيرا، و هو من مشايخه، و الواسطة بينه و بين سعد بن عبد اللّه، و مثلهما:
أبو الحسين علي بن أبي جيد(5)، فإن الشيخ (رحمه اللّه) يكثر الرواية
ص: 132
عنه سيما في الاستبصار و سنده أعلى من سند المفيد، لأنه يروي عن محمد بن الحسن بن الوليد بغير واسطة، و هو من مشايخ النجاشي أيضا. قال في مشرق الشمسين: فهؤلاء و أمثالهم من مشايخ الأصحاب لنا ظن بحسن حالهم و عدالتهم، و قد عددت حديثهم في الحبل المتين و في هذا الكتاب في الصحيح جريا على منوال مشايخنا المتأخرين، و نرجو من اللّه سبحانه أن يكون اعتقادنا فيهم مطابقا للواقع، و هو ولي الإعانة و التوفيق(1). و هو كلام متين، فإن من البعيد جدا اتخاذ أولئك الأجلاء الرجل الضعيف أو المجهول شيخا يكثرون الرواية عنه، و يظهرون الاعتناء به، مع ما علم من حالهم من القدح في جملة من الرواة، و إخراجهم لهم عن قم بأمور غير موجبة للفسق، أ لا ترى إلى إخراجهم رئيسهم أحمد بن محمد بن عيسى البرقي عنها لكونه يروي عن الضعفاء و يعتمد المراسيل، و حينئذ فرواية الجليل فضلا عن الأجلاء عن شخص مما يشهد بحسن حاله، بل ربما يشير إلى الوثاقة و الاعتماد، و إذا انضمت إلى ذلك قرائن أخر أفادت الظن بالعدالة و الثقة، و كان الخبر الذي رواه حجة شرعية، فعليك بالجد و الاجتهاد حتى لا تبادر إلى ترك ما هو حجة(2).
السادس: انه إذا روى ثقة عن ثقة حديثا، و روجع المروي عنه في ذلك الحديث فنفاه و أنكر روايته، و كان جازما بنفيه، بأن قال
ص: 133
على وجه الجزم ما رويته، أو كذب عليّ و.. نحوه، فقد صرح جمع بأنه يتعارض الجزمان، و الجاحد هو الأصل(1)، و حينئذ فيجب ردّ ذلك الحديث، لكن لا يكون ذلك جرحا للفرع و لا يقدح في باقي رواياته عنه و لا عن غيره، و إن كان مكذّبا لشيخه في ذلك، إذ ليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا، و مقابل قول الجماعة أقوال أخر:
فمنها: عدم ردّ ذلك الحديث المروي، حكي اختياره عن السمعاني و الشافعي(2).
و منها: عدم قدح ذلك في صحة ذلك الحديث، إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن ذلك الأصل، جزم به الماوردي و الروياني(3).
و منها: أنهما يتعارضان و يرجّح أحدهما بأحد المرجحات، حكي ذلك عن إمام الحرمين(4).
ص: 134
و كل ذلك عدا الأول فاسد.
هذا إذا أنكر الأصل رواية ذلك الحديث و كان جازما بنفيه(1).
و أما إذا لم ينكره و لكن قال: لا أعرفه، أو لا أذكره، أو..
نحو ذلك مما يقتضي جواز نسيانه لم يقدح ذلك في رواية الفرع على الأصح الأشهر، لعدم دلالة كلامه على تكذيب الفرع لاحتمال السهو و النسيان من الأصل، و الحال أن الفرع ثقة جازم فلا يرد بالاحتمال(2)، بل كما لا تبطل رواية الفرع و يجوز لغيره أن يروي عنه بعد ذلك، فكذا يجوز للمروي عنه أولا الذي لا يذكر الحديث روايته عمّن ادعى أنه سمعه منه فيقول: هذا الأصل الذي قد صار فرعا إذا أراد التحديث بهذا الحديث: حدثني فلان عني أني حدثته عن فلان بكذا و كذا(3). و قد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها، و كان أحدهم يقول: حدثني فلان عني عن فلان بكذا، و صنّف في ذلك الخطيب البغدادي أخبار من حدث و نسى، و كذلك الدارقطني(4)، و من ذلك حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن
ص: 135
سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قضى باليمين مع الشاهد(1). قال عبد العزيز الدراوردي: فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة - و هو عندي ثقة - أني حدثته إياه و لا أحفظه، قال عبد العزيز: و قد كان سهيل أصابته علّة أذهبت بعض عقله و نسى بعض حديثه، و كان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة، عنه، عن أبيه(2).
و كيف كان فجمهور أهل الحديث و الفقه و الكلام على أن من روى حديثا ثم نسيه، جاز العمل به لوجود المقتضى و عدم المانع، إذ ليس إلا صيرورة الأصل فرعا، و ذلك غير صالح للمانعية، و خالف في ذلك بعض الحنفية فأسقطوه عن الاعتبار، و هو منهم خطأ.
و الاستدلال لذلك بأن الأصل كما أنه معرض للسهو و النسيان فكذا الفرع مردود، بأن الأصل غير ناف وقوعه، غايته أنه غير ذاكر، و الفرع جازم فيقدم عليه(3).
ص: 136
قد استعمل المحدثون و علماء الرجال ألفاظا في التزكية و المدح، و أمارات دالة على المدح و ألفاظا في الجرح و الذم، و أمارات دالة على الذم، و لا بد من البحث عن كل منها ليتبين الصريح منها من الظاهر، و تذييلها بسائر الألفاظ المستعملة في كلمات أهل الرجال الغير(1)الدالّة على التحقيق على مدح و لا قدح.
فنضع الكلام في مقامات:
ص: 137
ص: 138
المقام الأول في ألفاظ المدح(1)و هي على أقسام:
فإن منها: ما يستفاد منه مدح الراوي و حسن حاله مطابقة، و حسن روايته بالالتزام، كثقة و عدل و.. نحوهما.
و منها: ما هو بالعكس، كصحيح الحديث، و ثقة في الحديث، و صدوق، و شيخ الإجازة، و أجمع على تصديقه، أو على تصحيح ما يصح عنه و.. نحو ذلك.
ص: 139
و كل من القسمين: إمّا يبلغ المدح المستفاد منه إلى حد التوثيق أم لا.
ثم كل منهما: إما أن يكون دالا على الاعتقاد الحق أو خلافه أم لا(1).
فهذه اثنا عشر قسما، و يزيد بضم بعض الامور إليه، بأن يكون مع ما ذكر، له دخل في قوة المتن كفقيه، و رئيس العلماء، و فهيم، و حافظ، و له ذهن وقّاد و طبع نقّاد، و.. هكذا، أو لا يكون كذلك، و كذا بتعميم المدح إلى ما ليس له دخل لا في السند و لا في المتن كقارئ و منشئ و شاعر و.. نحوها(2).
ص: 140
ثم اعلم أن الذي فهمته أن الأواخر إذا قالوا الوثاقة بالمعنى الأعم أرادوا بذلك كون الرجل في نفسه محل وثوق و طمأنينة من دون نظر إلى مذهبه، و إذا قالوا الوثاقة بالمعنى الأخص أرادوا به كونه عدلا إماميا ضابطا، و إذا قالوا العدالة بالمعنى الأخص أرادوا به العدالة في مذهبنا، و إذا قالوا العدالة بالمعنى الاعم أرادوا بذلك كونه ذا ملكة و إن لم يكن إماميا، بأن كان عدلا في مذهبه.
و إذا قد عرفت ذلك فاعلم: أن من ألفاظ المدح قولهم:
فلان عدل إمامي ضابط،
أو عدل من اصحابنا الإمامية ضابط.
و هذا أحسن العبائر و أصرحها في جعل الرجل من الصحاح.
و قد نفى بعض من عاصرناه من الأجلة(1) الخلاف في إفادته التزكية
ص: 141
المترتب عليها التصحيح بالاصطلاح المتأخر، حتى إذا كان المزكي من إحدى فرق الشيعة الغير(1) الاثنى عشرية(2)، فإن كونه منهم لا يكشف عن إرادته بالإمامي الإمامي بالمعنى الأعم الشامل لتلك الفرق، ضرورة ظهور الإمامي في الاثنى عشري، و كونه اصطلاحا فيه، فوثاقة المزكى تمنع من إرادته باللفظ خلاف ظاهره، كما أنها تمنع من إرادته بالعدالة إلا ما وقع الاتفاق عليه، كما مر توضيحه في ذيل المسألة الثالثة.
ثم لو اقتصر على أحد الألفاظ الثلاثة أو اثنين منها فإن كان أحد الأخيرين أو هما فلا ريب في عدم إفادته المدح البالغ حدّ التوثيق، بل و لا مطلق المدح، و إن كان غيرهما فإما أن يكون الأول خاصة، أو هو مع الثاني، أو هو مع الثالث.
أما على الأول - أعني الاقتصار على كلمة عدل - ففي الاقتصار على المذكور أو استفادة مفاد الأخيرين منه وجهان: للأول منهما أن إحراز كل من الثلاثة شرط في قبول خبره، و الأصل عدم تحقق الشرط إلا بمقدار ما وقع التصريح به، و الاقتصار على المتيقن و دفع المشكوك بالأصل لازم، و لكن الأظهر هو الوجه الثاني(3)، وفاقا لجمع من أهل التحقيق(4).
ص: 142
لنا؛ أما على الشق الأول - أعني إغناء قولهم عدل عن التصريح بكونه إماميا - فهو أن العدالة المطلقة فرع الإسلام و الإيمان، فإن الكافر و المخالف و الفرق الباطلة من الشيعة ليسوا بعدول قطعا، فحمل العدل في كلام الشاهد على ظاهره - و هو الإمامي العدل - لازم، إذ لا يعدل عن الظاهر إلا لدليل هو هنا مفقود بالفرض. و قد يؤيد هذا الظاهر تارة بالاصالة المستفادة من ولادة كل شخص على الفطرة الظاهرة في التامة في الحق، و لو لانصرافها إليها، فتأمل.
و اخرى: بشهادة كلمات أهل الرجال بذلك، فإن المذكور في أوائل كثير من الكتب الرجالية ككتاب النجاشي(1)، و الفهرست(2)، و رجال ابن شهرآشوب(3) أنها موضوعة لذكر رجال الشيعة. و قد حكي عن الحاوي أنه قال: اعلم أن إطلاق الأصحاب لذكر الرجال يقتضي كونه إماميا، فلا يحتاج إلى التقييد بكونه من أصحابنا، و لو
ص: 143
صرح كان تصريحا بما علم من العادة(1).
و عن رواشح السيد الداماد: إن عدم ذكر النجاشي كون الرجل إماميا في ترجمته يدلّ على عدم كونه عاميا عنده(2).
و في منتهى المقال في ترجمة: عبد السّلام الهروي: إن الشيخ محمدا (رحمه اللّه) قال في جملة كلام له ذكرناه في بعض ما كتبنا على التهذيب أن عدم نقل النجاشي كونه عاميا يدلّ على نفيه(3).
و أما على الشق الثاني - و هو كفاية قولهم عدل في التزكية المترتب عليها التصحيح، و عدم اعتبار التصريح بالضبط - فهو أنه يستفاد
ص: 144
الضبط بمئونة غلبة الضبط في الرواة المؤيدة تلك الغلبة بالأصل، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في ذيل الكلام على اعتبار الضبط(1)، فراجع.
و ربما علّل بعضهم إغناء قولهم: عدل عن التصريح بالإمامية و الضبط بظهور قولهم في ذلك عند الإطلاق، أما لانصرافه إلى الفرد الكامل، أو لأن القائل إذا شهد به فظاهره بيان أنه ممن يترتب على قوله ما يترتب على قول البينة إذا انضم إلى مثله، و على الشاهد الواحد مع عدمه، بل ظاهره بيان أنه ممن يثبت له جميع آثار العدالة خصوصا في علم الرجال الموضوع لتشخيص من يؤخذ بقوله و لو مع فقد قرائن أخر للاعتماد و الاعتبار، و لعله لذلك يكتفي بالشهادة بالعدالة في تزكية الشاهد في مقام المرافعات و التقليد مع اعتبار الإمامية و الضبط في الشاهد و المجتهد المقلد أيضا. و قد يؤيد المطلوب بأنهم يصفون الخبر بالحسن إذا مدح رواته بما لا يبلغ الوثاقة مع اعتبار الضبط و الإمامية في العمل به، بل في مفهومه أيضا، و كذا في الموثق بالنسبة إلى الضبط، و أقوى تأييدا لاستفادة الضبط بعد البناء على اعتباره أنهم قلّما يذكرونه في حق الرجال، فلو لا دلالة المدح و التوثيق و.. نحوهما على الضبط لكان مدحهم و توثيقهم من غير تصريح بالضبط خاليا عن فائدة، فتصريحهم في بعض الرجال بالضبط تأكيد منهم.
و مما ذكرنا ظهر الحال فيما لو اقتصر على اللفظ الأول مع الثاني أو هو مع الثالث(1).
ص: 145
و منها: قولهم: ثقة(1) [(2)و أصلها من الوثوق، يقال: وثق به ثقة ائتمنه، و الوثيق: المحكم، كذا قال في القاموس(3) و.. غيره(4)، فهي صفة مشبهة تدل على الدوام و الثبوت، و تقتضي الاطمئنان من الكذب و التحرز عن السهو و النسيان، إذ مع اعتياد الرجل الكذب و كثرة السهو و النسيان لا يمكن الوثوق به، و يمكن أن يسري إلى باقي
ص: 146
أنواع المعاصي، فإن العادة تقضي بعدم الوثوق بشارب الخمر و مرتكب الفجور و.. غير ذلك من المعاصي، و هذا هو المراد بالعدالة بمعنى الملكة التي تبعث على ملازمة التقوى و اجتناب الكبائر و الإصرار على الصغائر، و لذلك اتفق الكل على إثبات العدالة بهذه الكلمة من غير شك و لا اضطراب(1)، و حينئذ فحيثما](2) تستعمل هذه الكلمة في كتب الرجال مطلقا من غير تعقيبها بما يكشف عن فساد المذهب تكفي في إفادتها التزكية المترتب عليها التصحيح باصطلاح المتأخرين، لشهادة جمع باستقرار اصطلاحهم على إرادة العدل الإمامي الضابط من قولهم: ثقة(3). و قد سمعت في تنبيهات الكلام على اشتراط
ص: 147
الضبط عبارة مشرق الشمسين الناطقة بذلك(1) و بان السر في عدولهم عن قولهم: عدل الى قولهم: ثقة افادة الضبط، لاجتماع العدالة مع عدم الضبط بخلاف قولهم: ثقة، اذ لا وثوق بمن يتساوى سهوه و ذكره أو يغلب سهوه على ذكره، فقولهم ثقة اقوى في التزكية المصححة للحديث من قولهم: عدل. لان الضبط هناك كان يحرز بالاصل و الغلبة، و هنا بدلالة اللفظ بعد استقرار اصطلاحهم المذكور مع ما تقرر في محله من حمل كلام كل ذي اصطلاح على مصطلحه عند عدم القرينة على الخلاف، و كفى بالمحقق البهائي (رحمه اللّه) شاهدا باستقرار الاصطلاح(2)، مضافا الى تأييدها بشهادة المحقق الشيخ محمد (رحمه اللّه) بانه اذا قال النجاشي: ثقة، و لم يتعرض لفساد المذهب، فظاهره انه: عدل امامي، لان ديدنه التعرض للفساد، فعدمه ظاهر في عدم ظفره، و هو ظاهر في عدمه، لبعد وجوده مع عدم ظفره، لشدة بذل جهده و زيادة معرفته، و عليه جماعة من المحققين(3). [و ان كان قصره على النجاشي محل منع، فان الاصحاب لا يفرقون بين صدور هذه الكلمة من النجاشي أو..
غيره، و لقد اجاد الوحيد البهبهاني (رحمه اللّه) حيث جعل](4) ذلك من
ص: 148
المسلّمات في حق النجاشي و.. غيره. قال في التعليقة - بعد نقل عبارة الشيخ محمد (رحمه اللّه) ما لفظه -: لا يخفى ان الرواية المتعارفة المسلّمة المقبولة انه اذا قال عدل إمامي - النجاشي كان أو غيره - فلان ثقة انهم يحكمون بمجرد هذا القول بانه عدل إمامي(1)، اما لما ذكر، أو لأن الظاهر من الرواة التشيّع(2)، و الظاهر من الشيعة حسن العقيدة، أو لأنهم وجدوا منهم انهم اصطلحوا ذلك في الإمامية و ان كانوا يطلقون على غيرهم مع القرينة، فان معنى ثقة عادل أو عادل ثبت، فكما ان عادلا ظاهر فيهم فكذا ثقة، أو لأن المطلق ينصرف الى الكامل أو.. لغير ذلك على سبيل منع الخلو(3).
و يؤيد ذلك انك تراهم يصححون السند اذا كان رجاله ممن قيل في حقه ثقة أو عادل بدون التصريح بالضبط او كونه اماميا، مع ان المعروف المدعى عليه الاجماع اعتبار كونه اماميا ضابطا في التسمية
ص: 149
بالصحيح، فعملهم مع بنائهم على اشتراط الضبط أقوى شاهد على استفادة الضبط من هذه اللفظة(1) فتأمل كي يظهر لك إمكان استفادة الضبط من الخارج صرفا للأصل أو للغلبة على ما مرّ(2).
و ربما جعل بعضهم قولهم: ثقة مع عدم التنبيه على فساد المذهب دالا على أمور:
أحدها: إنه ضابط، للأصل و الغلبة المزبورتين، مضافا إلى تصريح اللغويين بما يقتضي ذلك، قال في المصباح المنير: وثق الشيء
ص: 150
- بالضم - وثاقة، قوي و ثبت فهو وثيق ثابت محكم. و أوثقته جعلته وثيقا، و وثقت به أثق - بكسرهما - ثقة و وثوقا ائتمنته، و هو و هي و هم ثقة لأنه مصدر، و قد يجمع في الذكور و الإناث فيقال: ثقاة(1) كما قيل: عدات(2). و مثله في كلمات غيره من أهل اللغة(3)قال في فتح المغيث: 18/1: إن تفسير الثقة بمن فيه وصف زائد على العدالة و هو الضبط إنما هو اصطلاح لبعضهم.
أقول: لا تنافي في كلام المصنف (رحمه اللّه) هنا و ما سيأتي من البحث في كيفية الجمع بين قولهم: ثقة غير ضابط، حيث الكلام هنا ناظر إلى الاقتضاء الأولي للكلمة و المنصرف العرفي لها.(4)، و لا اعتماد مع عدم الضبط، و إذا ثبت ذلك لغة فكذا عرفا لأصالة عدم النقل، مضافا إلى التنافر في عرف أهل الرجال في قولهم: فلان ثقة كثير النسيان، ما ليس في قولهم فلان ثقة فطحي أو واقفي، و يقال كثيرا:
فلان نصراني ثقة، و لا يقال: ثقة كثير النسيان(4).
ثانيها: أنه إمامي، للشهادات المزبورة، مضافا إلى كشف اللفظة عن العدالة كما يأتي، فتكشف عن الإمامية بالطريق الأولي(5)، لوضوح عدم اجتماع العدالة المصطلحة مع فساد المذهب.
ثالثها. أنه مأمون الكذب صدوق معتمد عليه، لأنه مقتضى ما سمعت من أهل اللغة في تفسير اللفظة، مضافا إلى أنه المفهوم
ص: 151
و المتبادر منها عرفا، و إلى عدم صحة سلبها عمن اتصف بذلك.
رابعها: إنه عادل متجنب عن المعاصي مقبول الشهادة، لتبادر ذلك من اللفظة و صحة السلب، فإنه يصح أن يقال لمن لم يكن عادلا أنه ليس بثقة و إن كان صدوقا، و يكذب من قال رأيت الثقة إذا رأى فاسقا متحرزا عن الكذب، و يستقبح قول فلان ثقة و يشرب النبيذ، كما يستقبح أن يستفهم بعد قوله فلان ثقة عن ارتكاب الفجور.
لا يقال: المعنى المذكور مخالف للمعنى اللغوي، و هو مطلق الأمانة، فصيرورته حقيقة في هذا المعنى يستلزم النقل، و الأصل عدمه.
لأنّا نقول: أصالة عدم النقل لا تجري في قبال الوجوه المزبورة المثبتة للنقل.
لا يقال: إن غاية ما يستفاد من تلك الوجوه كون لفظ الثقة حقيقة في المعنى المزبور في هذه الأزمنة، و لا يستلزم ذلك أن يكون كذلك في الأزمنة السابقة، كزمان الشيخ و النجاشي و العلامة، بل مقتضى أصالة تأخر الحادث الحكم بموافقة زمانهم لزمان اللغة.
لأنّا نقول: أولا: إن كلماتهم تكشف عن سبق النقل كما لا يخفى على من لاحظها، و كفاك قول الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية: إن لفظة الثقة و إن كانت مستعملة في أبواب الفقه أعمّ من العدالة، لكنها هنا لم تستعمل إلا بمعنى العدل، بل الأغلب
ص: 152
استعمالها خاصة(1).
و ثانيا: إن أصالة تأخر الحادث محكومة بأصالة تشابه الأزمان(2)، و لو تنزّلنا عن جميع ذلك و سلمنا عدم استقرار اصطلاح علماء الرجال على إرادة العدل من الثقة، فقد يقال بإمكان دعوى لزوم الحكم بعدالة من صرحوا بأنه ثقة إذا لم يقم على فسقه دليل.
أما لأن الغالب استعماله في العدل، فالإطلاق ينصرف إليه.
أو لأنه إذا لم يتعرضوا لفسقه يظهر عدمه، لأنه يبعد عدم اطّلاعهم على فسقه أو سكوتهم عن بيان فسقه بعد الاطلاع عليه.
أو لأن الغالب كون الصادق المتحرز عن الكذب عادلا فيلحق الفرد المشكوك فيه بالغالب عملا بالاستقراء.
أو لأن المستفاد من طريقة متأخري الأصحاب الحكم بعدالة الراوي بمجرد قولهم فلان ثقة.
أو لأنه إنما يصرحون بالتوثيق ليعمل بخبره، و هو لا يجوز إلا مع عدالته.
الأول: إن قائل اللفظة لو عقبها متصلا بها أو منفصلا أو أتى
ص: 153
غيره ممن يقدم قوله على قول القائل المذكور أو يعارض بقوله بما فيه نفي أحد المعاني المزبورة، كما إذا قال القائل: إن فلانا ثقة غير عدل، أو ثقة غير إمامي، أو ثقة فطحي، أو مخالف، أو ثقة غير ضابط، او كثير السهو، أو قال القائل: إنه ثقة، فهل يستند إلى اللفظة في غير المنفي من مداليلها أم لا؟.
أو يفصل بين ما ينفي العدالة و بين ما ينفي الضبط أو الإمامية بالقبول في الباقي على الثاني دون الأول.
أو بين ما إذا كان نفي أحد المعاني من القائل نفسه أو من غيره بالعمل بما بقي بعد النفي من مداليلها على الأول، و إلقاء التعارض و التماس المرجّح على الثاني، وجوه:
للأول منها: إن اللفظة تنحل إلى المعاني المذكورة، فنفي أحد المعاني إنما يعارض اللفظة في ذلك المعنى خاصة، فيجب قبولها في الباقي لعدم المعارض، فإنه لا ملازمة بين نفي مفاد أحد مداليل لفظ نفي غيره حتى يتصور التعارض، فهو كعام خصّ، أو مطلق قيّد، فكما أنهما حجة في الباقي فكذا هنا.
و للثاني: إنه إذا كانت اللفظة دالّة على المعاني المزبورة كان نفي أحدها معارضا لها، فتسقط اللفظة عن الاعتبار بالنسبة إلى الباقي أيضا على نحو ما قيل في العام المخصص، و أنت خبير بأنه غلط فاحش، ضرورة أن رفع اليد عن بعض ظواهر لفظ لقرينة لا يوجب رفع اليد عما لا قرينة على إخراجه. و ما أقيم دليلا على عدم حجية
ص: 154
العام المخصص في الباقي واضح الفساد، كما قرّر في محله.
و للثالث: أما على القبول في الباقي إذا كان المنفي غير العدالة فحجة الأول، و أما على عدم القبول فيما إذا كان المنفي العدالة فهو أن قولهم: عدل، و قولهم: ثقة مترادفان، فنفي العدالة يعارض إثبات الثقة.
و فيه: منع ترادفهما، و إنما الوثاقة تنحل إلى معاني أحدها:
العدالة، فنفي أحدها لا يستلزم نفي الباقي، فقوله: هو ثقة غير عدل، بمنزلة قوله: هو إمامي ضابط(1) مأمون الكذب و ليس بصاحب ملكة، فكما لا منافاة بين قوله إمامي ضابط مأمون الكذب و قوله ليس بصاحب ملكة، فكذا لا منافاة بين قوله ثقة و ليس بعدل، فيؤخذ باللّفظة في غير المخرج من ظواهرها.
و للرابع: أما على الشق الأول فحجة الأول، و أما على الشق الثاني: فهو أن لفظة ثقة ظاهرة في المعاني المزبورة، فيعارضه نفي أحد تلك المعاني لإثباتها، و ليس النفي و الإثبات من واحد حتى يجعل النفي نصا في عدم بعض المعاني مقدما على ظاهر اللفظة في ذلك المعنى بالخصوص، و إبقاء اللفظة بالنسبة إلى بقية المعاني على أصالة حجية الظاهر، فإن كلام شخص لا يكون قرينة على المراد بكلام الآخر.
و فيه: أنه كما التزم هذا القائل بجعل النفي عند اتحاد القائل قرينة على كون المثبت غير المنفي، فليلتزم بتقديم نص النافي فيما نفاه
ص: 155
من المعاني على ظاهر المثبت، و الأخذ في غير المنفي من المعاني بظاهر المثبت السليم عن المعارض، فكأن المثبت قال: هو عدل إمامي ضابط. و قال النافي: أما عدالته أو إماميته أو ضبطه فلا، و أما الوصفان الآخران فلا أدري، فإن شهادة المثبت تبقى بالنسبة إلى ما سكت عنه النافي سليما عن المعارض.
فظهر أن أظهر الاحتمالات الأربعة هو الأول، و عليه عمل المتأخرين في ملاحظة أسانيد الأخبار(1)، كما لا يخفى.
الثاني: قد يورد على ما بيناه من استقرار الاصطلاح على ارادة العدل الإمامي الضابط من قولهم ثقة إشكال، تقريره: إنهم كثيرا ما يطلقون اللفظة في حق شخص ثم يصرحون متصلا به أو منفصلا، و كذا يصرح غيرهم بأنه فطحي أو واقفي أو عامي، فلو كان فيها دلالة على الإمامية كان بين التصريحين تناف و تناقض، و نحن نراهم لا يرتبون آثار التنافي، بل يبنون على الجمع بينهما إلا عند مرجح خارجي للأول. و بالجملة، فمقتضى التناقض التزام الترجيح مطلقا، فالتزامهم بتقديم الأخير على الأول و عدم التماس المرجح يكشف عن عدم دلالة اللفظة على الإمامية(2).
و يمكن دفع هذا الإشكال تارة: بأن عملهم يكشف عن
ص: 156
إرادتهم بقولهم ثقة فيما إذا عقبوه بقولهم واقفي أو.. نحوه أنه موثق مؤتمن ضابط(1).
و أخرى: بأن استفادة الإمامية من نفس قولهم ثقة أو مع القرينة لم تكن لدعوى صراحتها في ذلك حتى يلزم ما ذكر، بل المدعى ظهورها فيه، و لا ريب في أنه يخرج عن الظهور بالتصريح بالخلاف إذا لم يكن موهونا في نفسه، أو بأمر خارج، و لم يكن الظهور معتضدا بما لا يقاومه التصريح المذكور، فإن الجمع بين إطلاق توثيق شخص و رمي الآخر للموثق بالفطحية و.. نحوها ليس من الجمع بين المطلق و المقيد تعبدا أو ما يقرب منه، بل للظهور النوعي الذي يقدم عليه الظهور الشخصي على البناء على اعتبار الظن - كما هنا و في باب الألفاظ -، و الموثّق لعله لم يقف على ما ذكره المضعّف، أو اكتفى بظهور حال المضعف، أو بقرينة أخرى خارجية، فلا نقول بمسامحته و لا تقصيره و لا خطئه، مع أنه لا يوجب خطأه في أصل مدلول اللفظ، و هو العدالة المطلقة.
و المناقشة في ذلك بناء على القول بالملكة بأن المعدّل ادّعى كونه عادلا في مذهبنا، فإذا ظهر كذبه فالعدالة في مذهبه من أين؟ مدفوعة، بمنع ظهور كذبه بمجرد ظهور كونه فطحيا أو عاميا بعد إمكان وجود الملكة في المشهود له، غايته أنه ليس عدلا على مذهبنا. و خطأه في كونه من أهل مذهبنا لا يستلزم خطأه في إحراز كونه ذا ملكة رادعة.
ص: 157
و بعبارة اخرى، أصل المعنى المعبّر عنه بالعدالة و الوثوق الموجب للركون إلى قول صاحبه و الاعتماد عليه هو معنى عام لا يختص بدين دون دين، و لا بمذهب دون مذهب، فإنه عبارة عن التزام العبد بمهمات ما في دينه، و معظمات ما في مذهبه، أو عن حالة ذلك فيه.
و إنما الاختلاف فيما في الدين و المذهب، غايته ظهورها عند الإطلاق و موافقة المعدّل و المعدّل في المذهب في العدالة في ذلك المذهب، و لذا يقيدونها عند الاختلاف في المذهب بالعدالة في مذهبه، صرفا للفظ عن الظهور الناشئ من الإطلاق الموجب للاختصاص ببعض أفراد المطلق، فتدبر جيدا.
الثالث: إنه إذا قال غير الإمامي: إن فلانا ثقة، دلّ على أنه متحرز عن الكذب صدوق مؤتمن، بل لا يبعد دلالته على أنه عادل في مذهبه، و في دلالته على كونه إماميا عدلا في مذهبنا مبني على إحراز التزام ذلك القائل بالاصطلاح الجاري في لفظ الثقة، فإن علم إرادته الثقة بالاصطلاح المزبور اعتبر، و إلا فالأظهر عدم دلالتها(1) على كون المشهود له إماميا، و لا كونه عدلا على مذهبنا، ضرورة أن حمل اللفظ على المعنى المصطلح فرع إحراز كون المتفوه به من أهل ذلك الاصطلاح، فما لم يحرز ذلك يلزم حمل اللفظ على معناه اللغوي، و قد مرّ أن الثقة في اللغة و العرف هو المؤتمن المعتمد المتحرز عن الكذب، و ذلك أعم من كونه إماميا أو عدلا على مذهبنا، بل لو شهد غير الإمامي بعدالة شخص بقوله: هو عدل، كان ظاهر حاله
ص: 158
بالظهور النوعي إرادته العادل عنده و في مذهبه، فيلزمه موافقة مذهب المشهود له لمذهب الشاهد. نعم لو أحرز من الخارج التزام الشاهد بالاصطلاح الحادث في لفظي الثقة و العدل كان لازم ديانته و وثاقته في مذهبه ارادته من لفظ الثقة الإمامي العدل الضابط، و لو شك في التزامه بالاصطلاح فالأصل العدم. فظهر مما ذكرنا سقوط ما صدر من بعض أجلّة من عاصرناه من إطلاق دلالة قول غير الإمامي فلان ثقة على كون المشهود له إماميا بالمعنى الأخص عادلا بمذهبنا، فلاحظ ما ذكره و تأمل(1).
الرابع: إنه إذا قال عدل من أهل الرجال: إن فلانا ليس بثقة
ص: 159
فعند من ينكر استقرار الاصطلاح في لفظ الثقة، و يدعى استفادة عدالة الراوي، و كونه إماميا من القرائن الخارجية لا تفيد الشهادة المزبورة إلا نفي تحرزه عن الكذب، و أما عند من التزم باستقرار الاصطلاح(1)، فمفاد الشهادة المذكورة أنه ليس فيه مجموع الصفات الثلاث، و لا يدلّ على انتفاء جميعها أو بعض منها بالخصوص، فلو قام دليل على اتصافه ببعضها لم يكن ذلك معارضا له. نعم لو قام دليل على اتصافه بجميعها كان ذلك معارضا له، و وجب الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض. و يحتمل بعيدا عدم دلالة النفي المزبور إلاّ على نفي تحرزه عن الكذب حتى على المختار من استقرار الاصطلاح، لأن الاصطلاح المذكور إنما ثبت استقراره عند إثبات الثقة لشخص دون نفيها عن شخص(2)، فتأمل(3).
- منهم ابن دريد في الجمهرة(1) - أن من جملة الاتباع قولهم: ثقة نقة - بالثاء في الأول و النون في الثاني - و حينئذ فاحتمل بعضهم أن يكون ما وقع فيه الجمع بين هاتين الجملتين جرى على طريق الاتباع لا التكرار، ثم ضعف فاعتقد أنه مكرر(2) و يبعد هذا الاحتمال جزم جمع منهم ابن داود(3) في رجاله بالتكرار، و لا يضرّ خلو كلام السابقين عليه عن التعرض لبيان المراد منه، [(4)و يزداد الاحتمال بعدا بعدم تداول كلمة نقة - بالنون - على ألسن أهل الرجال و الحديث، و لا تكلّم بها أحد قط، و استعمالها عقيب ثقة فقط لا
ص: 161
مقتضي له، و يبعد اختصاصه من بين جميع مواضع استعمالاتها بهذا الموضع مع عدم استعمالها في غيره](1).
و منها:
قولهم: ثقة في الحديث أو في الرواية:
و لا ريب في إفادته المدح التام(2) و كونه معتمدا ضابطا، فيكون حكمه حكم الموثّق. و في دلالته على كونه إماميا وجهان، استظهر أولهما بعض من عاصرناه من الأجلة في أول كلامه، بل جزم بذلك في آخر كلامه حيث قال: لا ينبغي التأمل في استفادة الإمامية منه على حد استفادته من إطلاق الثقة ما لم يصرح بالخلاف(3). بل مقتضى ما ذكره الوحيد البهبهاني (رحمه اللّه) دلالته على عدالته أيضا، فيكون حديثه من الصحيح قال (رحمه اللّه): المتعارف المشهور أنه تعديل و توثيق للراوي نفسه، و لعل منشأه الاتفاق على ثبوت العدالة، و إن يذكر لأجل الاعتماد على قياس ما ذكر في التوثيق، و إن الشيخ الواحد ربما يحكم على واحد بأنه ثقة و في موضع آخر بأنه ثقة في
ص: 162
الحديث، مضافا إلى أنه في الموضع الأول كان ملحوظ نظره الموضع الآخر كما سيجيء في: أحمد بن إبراهيم بن أحمد، فتأمل(1).
و أقول: حيث إن المدار في التزكية و الجرح على الظن، فالأظهر دلالة قولهم ثقة في الحديث أو في الرواية على كون المشهود له إماميا عادلا، لكفاية شهادة مثل الوحيد (رحمه اللّه) بكونه المتعارف المشهور في إفادة الظن بالعدالة و الإمامية، مضافا إلى شهادة الجمع بين قولهم ثقة و بين قولهم ثقة في الحديث في حق أشخاص باتحاد المراد بهما. و قد مرّ دلالة الأول على العدالة و الإمامية، فكذا الثاني. و أما الضبط فيكفي في إحرازه الأصل و الغلبة، و حينئذ فلا ينبغي التأمل في دلالة قولهم ثقة في الحديث في حق شخص على كونه عدلا إماميا.
و كون حديثه من الصحيح بالاصطلاح المتأخر، [(2)بل ادّعى بعض المحققين(3) كون قولهم ثقة في الحديث أبلغ من مطلق ثقة، لكونه نصا في ضبطه المعتبر انضمامه مع العدالة في قبول حديثه بخلاف ثقة، فإنه ظاهر في ذلك.
لا يقال: الجار لا يصح تعلقه بلفظ ثقة، بل هو خبر لمبتدإ محذوف، فالتقدير فلان ثقة و وثاقته في الحديث، فينساق منه الانحصار.
ص: 163
لأنّا نقول: إن كلمة ثقة مصدر كعدة، فالجار متعلق به و التقدير خلاف الظاهر. و إذا كان موثوقا به في الحديث فبغيره أولى، نظير: يا عدتي في شدتي، فلا وجه حينئذ لقول] بعض من عاصرناه من المشايخ(1): إن في استفادة العدالة بالمعنى الأخص أو الأعم من ذلك لا يخلو من نوع خفاء، لظهور التقييد في اختصاص وثاقته بالرواية، و لعل المستفاد منه كونه متحرزا عن الكذب، و هو الذي نقل عن الشيخ (رحمه اللّه) كفايته في حجية الخبر، بل و زيادة اهتمامه في الرواية بأخذها عمن يوثق به و.. غير ذلك مما مرجعه الوثوق بالرواية(2). و سبقه في إنكار الدلالة على العدالة غيره على ما حكى الوحيد (قدس سره) في التعليقة بقوله: و ربما قيل بالفرق بين الثقة في الحديث و الثقة، و ليس ببالي القائل، و يمكن أن يقال بعد ملاحظة اشتراطهم العدالة أن العدالة المستفادة من الأول هي بالمعنى الأعم، و قد أشرنا و سنشير أيضا إلى أن التي وقع الاتفاق على اشتراطها هي بالمعنى الأعم. و وجه الاستفادة إشعار العبارة و كثير من التراجم مثل ترجمة(3) أحمد بن بشير، و أحمد بن الحسن، و أبيه الحسن بن علي بن فضال، و الحسين بن أبي سعيد، و الحسين بن أحمد بن المغيرة، و علي بن الحسن الطاطري، و عمار بن موسى و..
غير ذلك. إلا(4) أن المحقق (رحمه اللّه) نقل عن الشيخ (رحمه اللّه)
ص: 164
أنه قال: يكفي في الراوي أن يكون ثقة متحرزا عن الكذب في الرواية و إن كان فاسقا بجوارحه، فتأمل(1).
و اعترض عليه بأن إشعار العبارة - أعني قولهم ثقة في الحديث - إنما هو في اختصاص الوثوق بالرواية لا أعمّية العدالة بحيث يجامع فساد العقيدة، و ما وجدنا في شيء من التراجم المزبورة إشعارا بما ذكره، فلا ينبغي التأمل في استفادة الإمامية منه على حد استفادتها من إطلاق الثقة ما لم يصرح بالخلاف، مضافا إلى استفادتها(2) من جمعهم
ص: 165
بين ثقة على الإطلاق و بين ثقة في الحديث في ترجمة شخص واحد من واحد أو متعدد الكاشف عن اتحاد المراد بهما، بل ذلك يكشف عن الدلالة على العدالة أيضا على نحو دلالة لفظة ثقة إذا أطلقت(1) [و احتمل بعضهم كون تقييد الثقة بالحديث للإشارة إلى مأخذ التوثيق، لأنه يمكن عدم تمكن المعدل على الوقوف على جميع أحوال الرجل فيراه مراقبا على العبادات محترزا من الكذب و الغيبة و سائر المحرمات و لا يدري أنه يحترز من الباقي أم لا؟ لكنه يطمئن بعدالته بسبب مراقبة أحاديثه، فيقيد تعديله بأن منشأه الوثوق بأحاديثه بالمزاولة، فتدبر](2).
و منها:
قولهم: صحيح الحديث:
لا ينبغي التأمل في إفادته صحة روايته بالاصطلاح المتأخر إن كانت العبارة في كلام أهل هذا الاصطلاح، ضرورة أن كلام كل ذي اصطلاح يحمل على مصطلحه عند عدم القرينة على خلافه، كما أوضحناه
ص: 166
في محله، و من البين عدم الفرق بين تصريح أهل هذا الاصطلاح بأنه عدل إمامي ضابط، و بين تصريحهم بأنه صحيح الحديث، و أما إن كانت العبارة في كلمات القدماء فلا ريب و لا شبهة في إفادتها مدح الراوي مدحا كاملا في روايته، بل في نفسه أيضا، و كون روايته من القوى(1).
و في إفادته كونه عدلا وجهان: أظهرهما ذلك(2)، ضرورة أن إضافة الصحة إلى مطلق حديثه يكشف عن أن له أوصافا تورث بنفسها الاطمئنان به، و الائتمان بحديثه، و لا ريب في عدم الاطمئنان بمطلق حديث من لم يكن عادلا.
ص: 167
و استظهر بعض من عاصرناه من الأجلة(1) عدم إفادته العدالة في عبائر القدماء، و أنه أضعف من قولهم: ثقة في الحديث. و استدل على ذلك بما حكاه غير واحد منهم الوحيد (قدس سره) في الفوائد من أن المراد بالصحيح عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم (عليه السّلام) أعم من أن يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات أو أمارات اخر، و من أن يقطعوا بصدوره عنه (عليه السّلام) أو يظنوا به(2).
و أقول: ما نقله الوحيد و.. غيره في محله، و قد مرّ منا في تنبيهات الفصل الرابع(3) بيان أن الصحيح عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم، أعمّ من أن يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات أو من أمارات أخر، إلا أن ذلك لا يدل على مختار البعض هنا، لوضوح الفرق بين إطلاق اسم الصحيح على حديث، و بين
ص: 168
إطلاق صحيح الحديث على شخص، فإن الأول يجامع ما إذا كان منشأ الوثوق أمارات أخر، و أما الثاني فلا يجامع ذلك، لأنه لا يكون ممن يوثق بصدور جميع رواياته من المعصوم (عليه السّلام) إلا إذا كان عدلا إماميا ضابطا، كما هو ظاهر بأدنى تأمل. فالذي يظهر لي أن قولهم: صحيح الحديث ليس بأضعف من قولهم: ثقة في الحديث إن لم يكن أقوى منه، بل الأظهر أنه أقوى منه(1). و يؤيد ما قلناه قول الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية: ألفاظ التعديل الدالة عليه صريحا قول المعدل: هو عدل، أو هو ثقة(2).. إلى أن قال: و كذا قوله: هو حجة... إلى أن قال: و كذا قوله هو صحيح الحديث، فإنه يقتضي كونه ثقة ضابطا، ففيه زيادة تزكية(3).
ص: 169
و لا شبهة في إفادته في حق من أطلق عليه مدحا كاملا في روايته، بل نفسه، و كون روايته من القوي، بل الأظهر دلالته على كونه عدلا إماميا ضابطا، لاستقرار اصطلاحهم على ذلك، كما شهد به الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية حيث قال: حجة - أي ممن يحتج(1) بحديثه - و في إطلاق اسم المصدر عليه مبالغة ظاهرة في الثناء عليه بالثقة(2)، و الاحتجاج بالحديث و إن كان أعمّ من الصحيح،
ص: 170
كما يتفق بالحسن و الموثق بل بالضعيف على ما سبق تفصيله، لكن الاستعمال العرفي لأهل هذا الشأن لهذه اللفظة يدلّ على ما هو أخص من ذلك، و هو التعديل و زيادة. نعم، لو قيل يحتج بحديثه و نحوه لم يدلّ على التعديل لما ذكره، بخلاف إطلاق هذه اللفظة على نفس الراوي بدلالة العرف الخاص(1). و مثل هذه الشهادة بضرس قاطع كاف في إثبات المطلوب(2).
و النجاشي(1)، ثم من بعدهما من المتقدمين و المتأخرين كابن طاوس و العلامة(2) و ابن داود(3) و صاحب المعالم(4)و الشهيدين(5) و الشيخ سليمان(6) و السيد الداماد(7) و.. غيرهم(8)،
ص: 173
حتى أنه لو صح وصف الإجماع المنقول بالتواتر، لصح أن يقال إن هذا الإجماع قد تواتر نقله(1)، و صار أصل انعقاده في الجملة من ضروريات الفقهاء و المحدثين و أهل الدراية و الرجال، و المراد بهذا الإجماع ليس هو المعنى اللغوي - و هو مجرد اتفاق الكل -(2) بل المعنى المصطلح، و هو الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم، على أن يكون المجمع عليه هو القبول و العمل بروايات أولئك الذين قيل في حقهم ذلك، إذ إمام ذلك العصر عليه السّلام بمرأى من أولئك العاملين بأخبار هؤلاء و مسمع، مع عدم ظهور إنكار لهم و لا ردع، بل أقرهم
ص: 174
على ذلك، بل و أمر بالرجوع إليهم و الأخذ منهم(1).
ص: 175
و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام يقع هنا في مقامين:
الأول: في المراد بهذه العبارة، فإن فيه احتمالات بكل منها قائل.
أحدها: أن المراد بذلك تصحيح رواية من قيل في حقه ذلك بحيث لو صحت من أول السند إليه عدّت صحيحة، من غير اعتبار ملاحظة أحواله و أحوال من يروي عنه إلى المعصوم (عليه السّلام)(1)، و لا فرق بين العلم بمن رووا عنه و معرفة حاله و عدمه،
ص: 176
فلا فرق حينئذ بين مسانيدهم و مراسيلهم و مرافيعهم، و هذا القول قد وصفه المحقق الوحيد (رحمه اللّه) في فوائده الرجالية بالشهرة، و جعله هو ظاهر هذه العبارة(1). و قد جعله في منتهى المقال أيضا هو الظاهر المنساق إلى الذهن من العبارة. و حكى عن بعض أجلاء عصره أيضا وصفه بالشهرة، بل هو أيضا في آخر كلامه وصفه بالشهرة و المعروفية(2)، بل نسب ذلك المحقق الداماد إلى الأصحاب
ص: 177
مؤذنا بدعوى الإجماع، حيث قال - في محكي الرواشح السماوية(1)، بعد عدّ الجماعة -: و بالجملة هؤلاء على اعتبار الأقوال المختلفة في تعيينهم أحد و عشرون أو اثنان و عشرون رجلا، و مراسيلهم و مرافيعهم و مقاطيعهم و مسانيدهم إلى من يسمون من غير المعروفين معدودة عند الأصحاب من الصحاح من غير اكتراث منهم، لعدم صدق حد الصحيح على ما قد علمته عليها...(2) إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.
قلت: لا يخفى عليك أن عطفه مقاطيعهم على مراسيلهم و مرافيعهم محل نظر و تأمل، ضرورة خروج ذلك عن منصرف هذا الإجماع، فإن منصرفه ما إذا نسبت الرواية إلى الإمام (عليه السّلام) دون ما إذا وقفت على غيره و صارت مقطوعة.
و كيف كان، فهذا القول في تفسير هذا الإجماع هو الذي عزاه في أول الوافي إلى جماعة من المتأخرين(3) حيث قال - بعد نقل عبارة
ص: 178
الكشي المتضمنة لنقل هذا الإجماع -: أنه قد فهم جماعة من المتأخرين من قوله: أجمعت العصابة(1) على تصحيح ما يصح عن هؤلاء الحكم بصحة الحديث المنقول عنهم، و نسبته إلى أهل البيت (عليهم السّلام) بمجرد صحته عنهم، من دون اعتبار العدالة في من يروون عنه حتى لو رووا عن معروف بالفسق أو بالوضع فضلا عما لو أرسلوا الحديث كان ما نقلوه صحيحا محكوما على نسبته إلى أهل العصمة (صلوات اللّه عليهم)(2). و حكى في منتهى
ص: 179
المقال(1) نحوه عن البهائي في مشرق الشمسين(2)، و الشهيد الثاني(3)، و الشيخ محمد أمين الكاظمي(4)، و السيد محمد(5)، و من عدا سيد الرياض من أساتيذه و مشايخه، و استظهره من الفوائد النجفية أيضا، و حكاه المجلسي عن جماعة من المحققين منهم والده المقدس التقي(6).
و ربما نوقش في هذا التفسير بأن لازمه كون مراسيلهم بحكم المسانيد الصحاح، و نحن نرى أن الشيخ (رحمه اللّه) ربما يقدح فيما صح عن هؤلاء بالإرسال الواقع بعدهم، و أيضا ابن أبي عمير من هؤلاء الجماعة، و المناقشة في قبول مراسيله معروفة.
ص: 180
و أجاب عن ذلك في الفوائد(1) ب (أن القادح و المناقش ربما لم يثبت عندهما الإجماع، أو لم يثبت وجوب اتباعه لعدم كونه بالمعنى المعهود، بل كونه مجرد الاتفاق، أو لم يفهما على وفق المشهور، و لا يضرّ ذلك، أو لم يقنعا بمجرد ذلك، و الظاهر هو الأول بالنسبة إلى الشيخ (رحمه اللّه) لعدم ذكره إياه في كتابه كما ذكره الكشي، و كذا(2)بالنسبة إلى النجاشي و.. أمثاله، فتدبر).
قلت: مضافا إلى أن مناقشة بعض في مراسيل ابن أبي عمير لا تدفع الشهرة و المعروفية، فإن المعروف الاعتماد على مراسيله، بل في رجال النجاشي إن أصحابنا يسكنون إلى مراسيله(3)، و في الذكرى إن الأصحاب أجمعوا على قبول مراسيله(4).. إلى غير ذلك من الشهادات في حق مراسيله(5).
ص: 181
ثانيها: إن المراد به كون من قيل في حقه ذلك صحيح الحديث لا غير، بحيث إذا كان في سند فوثق من عداه ممن قبله و بعده، أو صحح السند بغير التوثيق بالنسبة إلى غيره، عدّ السند حينئذ صحيحا، و لا يتوقف من جهته، و أما من قبله و بعده فلا يحكم بصحة حديث أحد منهم لهذا الإجماع. و قد نقل هذا الوجه في منتهى المقال عن أستاذه السيد صاحب الرياض و معاصر له قال (رحمه اللّه) - بعد نقل القول الأول ما لفظه -: و السيد الأستاذ - دام علاه - بعد حكمه بذلك - يعني بالقول الأول - و سلوكه في كثير من مصنفاته كذلك، بالغ في الإنكار، و قال: بل المراد دعوى الإجماع على صدق الجماعة و صحة ما ترويه إذا لم يكن في السند من يتوقف فيه، فإذا قال أحد الجماعة: حدثني فلان، يكون الإجماع منعقدا على صدق دعواه، و اذا كان فلان ضعيفا أو غير معروف لا يجديه ذلك نفعا(1).
و قد ذهب إلى ما ذهب إليه بعض أفاضل العصر(2)، و ليس لهما - دام
ص: 182
فضلهما - ثالث، و ساير أساتيذنا و مشايخنا على ما ذهب إليه الأستاذ العلامة - أعلى اللّه تعالى في الدارين مقامهم و مقامه - و ادّعى السيد الأستاذ - دام ظله - أنه لم يعثر في الكتب الفقهية من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات على عمل فقيه من فقهائنا (رضي اللّه عنهم) بخبر ضعيف، محتجا بأن في سنده أحد الجماعة و هو إليه صحيح، و إذا وقفت على ما تلوناه عليك عرفت أن كلامه - سلمه تعالى - ليس على حقيقته(1). انتهى ما في منتهى المقال(2).
ص: 183
و أقول: الإنصاف إن هذا التفسير خلاف ظاهر العبارة، و إن ظاهرها هو التفسير الأول، للفرق الواضح بين إجماعهم على صحته أو صحة حديثه، و بين إجماعهم على صحة ما يصح عنه، فإن ظاهر الثاني الأول، و ظاهر الأول الثاني، فإما أن ينكر الإجماع المزبور رأسا، أو يفسّر بالتفسير الأول. و إما إنكاره الوقوف على عملهم بخبر ضعيف، محتجا بأن في سنده أحد هؤلاء فمن الغرائب، فإن كلمات متأخري فقهائنا من الطهارة إلى الديات مشحونة بذلك، و كفاك منها بحث جماعة مختلف العلامة فيما تبين فسق الإمام(1)، و بيع غاية المراد للشهيد(2)، و بحث الارتداد من المسالك(3) و..
ص: 184
غيرها(1).
ثالثها: إن المراد به توثيق خصوص من قيل في حقه ذلك، حكى في الفصول(2) إسناد هذا التفسير إلى الأكثر عن قائل لم يسمه، و اختاره الفاضل الاسترآبادي في لب اللباب مدعيا عليه الإجماع حيث قال: إن قولهم أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ظاهر في مدح الرواية، و لكنه يفيد وثاقة الراوي أيضا... إلى أن قال: فلا بد من كون الموصوف بذلك الوصف ثقة معتمدا حتى يمكن أن يقال في حقه: إن ما يصح عنه فهو صحيح، مع أن الإتيان بلفظ المضارع دون الماضي دليل على ما ذكر كما لا يخفى، مضافا إلى أنه أجمعت العصابة على أن
ص: 185
قولهم أجمعت العصابة يفيد الوثاقة بالنسبة إلى من ورد في حقه تلك اللفظة، و لا نزاع في ذلك و إنما النزاع في إفادته صحة الحديث مطلقا، فلا يلاحظ من كان بعد ذلك الشخص في الذكر إلى المعصوم (عليه السّلام)، بل لو كان ضعيفا لم يكن قادحا في الصحة كما عن المشهور. و عدمها - كما عن بعض - كما هو المتيقن، فإن دلالة الألفاظ بالوضع(1) أو بالقرينة، و الوضع إما لغوي أو عرفي، عام أو خاص، و لم يثبت الوضع بأنواعه بالنسبة إلى إفادة تعديل من كان واقعا بعد ذلك الشخص و كذا القرينة، و إن كان الأول لعله الظاهر من العبارة كما قيل(2).
و ربما استدل بعضهم(3) لدلالة العبارة على وثاقة المقولة فيه بأن من المستبعد جدا إجماعهم على تصحيح جميع ما يرويه من ليس بثقة، سيما بعد ملاحظة دعوى الشيخ (رحمه اللّه) الاتفاق على اعتبار العدالة لقبول خبرهم، و ملاحظة اختلاف مشاربهم، بل رميهم كثيرا من الثقات بالضعف و فساد العقيدة، سيما القميين منهم، خصوصا بعد استثناء مثل الصدوق (رحمه اللّه) و شيخه روايات جماعة عن أخرى، كرواية محمد بن عيسى من كتب يونس، و رواية محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن يحيى المعاذي، أو عن أبي عبد اللّه
ص: 186
الرازي و.. غير ذلك، فإجماعهم مع هذا المسلك على صحة جميع ما رواه شخص، بل جميع ما يرويه، كما هو مفاد هيئة المضارع يكشف عن كونه ثقة.
هذا و نوقش في هذا التفسير بوجوه:
الأول: إن كونه ثقة أمر مشترك، فلا وجه لاختصاص الإجماع بالمذكورين(1). و ردّ ذلك المولى الوحيد (رحمه اللّه) في الفوائد بأنه:
بظاهره في غاية السخافة، إذ كون الرجل ثقة لا يستلزم وقوع الإجماع على وثاقته(2).
ثم قال: إلا أن يكون المراد ما أورده بعض المحققين(3) من أنه ليس في التعبير بها لتلك الجماعة دون غيرهم ممن لا خلاف في عدالته فائدة.
و فيه: إنه إن أردت عدم خلاف من المعدّلين المعروفين في
ص: 187
الرجال(1) ففيه:
أولا: إنّا لم نجد من وثقه جميعهم، و إن أردت عدم وجدان خلاف منهم.
ففيه: إن هذا غير ظهور الوفاق، مع أن سكوتهم ربما يكون فيه شيء، فتأمل.
و ثانيا: إن اتفاق خصوص هؤلاء(2) غير إجماع العصابة، و خصوصا إن مدعي هذا الإجماع الكشي ناقلا عن مشايخه، فتدبر.
هذا مع أنه لعل عند هذا القائل يكون تصحيح الحديث أمرا زائدا على التوثيق، فتأمل.
و إن أردت اتفاق جميع العصابة فلم يوجد إلا في مثل سلمان ممن هو عدالته ضرورية لا تحتاج إلى الإظهار، و أما غيره(3) فلا يكاد يوجد ثقة جليل سالما عن قدح، فضلا عن أن يتحقق اتفاقهم على سلامته منه، فضلا عن أن يثبت عندك، فتأمل(4).
ص: 188
الثاني: ما عن بعض المحققين من منع الإجماع على الوثاقة، لأن بعض هؤلاء لم يدّع أحد توثيقه، بل قدح بعض في بعضهم، و بعض منهم و إن ادّعى توثيقه إلا أنه ورد منهم قدح فيه. قال في الفوائد: و هذا الاعتراض أيضا فيه تأمل، و سيظهر لك بعض من وجهه(1).
الثالث: ما ناقش به في الفوائد من: أن تصحيح القدماء حديث شخص لا يستلزم توثيقه منهم، لما مرّت الإشارة إليه(2).
ص: 189
و توضيح ذلك ما في الفصول(1) من أن اعتمادهم على رواية رجل في خصوص مقام لا يدلّ على توثيقه بشيء من الدلالات، أ لا ترى أن علي بن حمزة قد ذكر الشيخ في حقه أنه واقفي، و ذكر النجاشي أنه أحد عمد الواقفة، و قال علي بن الحسن بن فضال: أنه كذاب متهم ملعون، و قال ابن الغضائري: هو أصل الوقف و أشد الناس عداوة للولي من بعد أبي إبراهيم (عليه السّلام).
و روى الكشي في ذمّه روايات، و لم يحك عن أحد توثيقه. و مع ذلك فقد ذكر الشيخ (رحمه اللّه) في الفهرست أن له أصلا نقل عنه ابن أبي عمير و صفوان.. إلى غير ذلك من النظائر مما يطلع عليه المتتبع الماهر.
و أما ما يقال: من أن أصحابنا الإمامية كانوا يتبرءون من فرق المخالفين لهم لا سيما الواقفية، و كانوا يسمونهم الكلاب الممطورة، فكيف يعقل ركونهم(2) إليهم و روايتهم عنهم؟ بل كل ما يوجد من رواياتهم عنهم فلا بد أن يكون في حال استقامتهم، فمما لا وجه له، إذ الذي يظهر أن أصحابنا كانوا يعتمدون على الأخبار المحفوفة بأمارة الوثوق و إن كان الراوي غير إمامي، و كفاك في ذاك روايتهم عن
ص: 190
النوفلي و السكوني مع أنهما عاميان، و لم يكن لهما حال استقامة(1)، فتأمل(2).
رابعها: إن المراد به توثيق من كان بعد من قيل في حقه ذلك، أسنده في الفوائد إلى توهم بعض(3)، و لا ريب في أن مراد هذا القائل توثيق المقول في حقه أيضا، كما يشهد بذلك أن صاحب الفصول
ص: 191
(رحمه اللّه) بعد(1) نقل القول السابق قال: و ربما قيل بأنها تدلّ على وثاقة الرجال الذين بعده أيضا(2).
و أقول: يتّجه على هذا التفسير ما نوقش به في سابقه و زيادة.
و تحقيق القول في المسألة: أنك قد عرفت فيما مضى حجية الظن في الرجال لانسداد باب العلم في هذا الباب، و لا ريب في إيراث الإجماع المزبور الظن، كما لا ريب في حجية ما يظهر من اللفظ المزبور لكونه كغيره من الألفاظ التي هي حجة. و الذي يظهر لكل ذي ذهن مستقيم هو التفسير الأول الذي فهمه المشهور، بل قيل(3): إنه لو كان في الظهور المزبور في نفسه قصور فهو بفهم المشهور مجبور، و إن لم نقل بجبر الشهرة لقصور الدلالة في الأخبار، لأن المدار هنا على مطلق الظن دون الأخبار، فإن المدار فيها على الاطمئنان(4).
و أما التفسير الثاني، فقد عرفت سقوطه.
ص: 192
و أما التفسير الثالث، فقد سمعت ما فيه من المناقشات، مضافا إلى ما قيل عليه(1) من أنه إن كان المراد به ما ينفي التفسير الأول فلا ريب في ضعفه، فإن الظهور بمرأى منّا و هو مع التفسير الأول كما أن مصير المشهور هو ذاك، بل لم نقف على مصرح بالثالث غير من مرّ(2).
فأين الكثرة و الإجماع اللذان ادعاهما الأسترآبادي؟! و إن كان المراد به زيادة على التفسير الأول إثبات وثاقة الرجل المقول في حقه اللفظ المزبور نظرا إلى ما نقلناه عن البعض الاستدلال للتفسير الثالث به، ففيه أن ذلك على فرض تسليم إفادته بنفسه أو بانضمام اللفظ المزبور شرطا أو شطرا للظن المعتبر معارض بظهور عبارات المشهور، بل صراحتها في نفي ذلك، مع أن الظاهر خلافه، بل هو استدلال بالأعم، لإمكان أن يكون منشأ إجماعهم مع اختلاف مشاربهم هو وقوفهم على نهاية دقّة المقول فيه ذلك اللفظ في نقل الرواية بحيث لا يروي إلا ما علم أو ظن بصحته، مع معرفته بعيوب الرواية و الرواة، و هذا لا يستلزم وثاقته في نفسه، غاية الأمر كونه ثقة في نقل الحديث خاصة كما مرّ في اللفظ المزبور، إلا أن هناك استظهرنا وثاقته في نفسه من قرائن أخر، فلو وجد مثلها في المقام لم نكن نأبى عنه، و إلا فالمسلم وثاقته في الحديث لا وثاقته في نفسه حتى يحكم بكونه ثقة بالاصطلاح المتأخر.
فإن قلت: أنّا لم نستفد من نفس العبارة وثاقة هؤلاء في
ص: 193
أنفسهم، فلا اقلّ من استفادة ذلك بضميمة أنه يبعد كل البعد عدم وثاقة الراوي في نفسه بالمعنى الأخص، و مع ذلك اتفق جميع العصابة على تصحيح جميع ما رواه و على الاعتماد على أحاديثه و أخباره، مع ملاحظة أن كثيرا من الأعاظم الثقات من الرواة لم يتحقق منهم الاتفاق على تصحيح حديثه، و لا قيل في حقه هذا القول، و لا ادعيت هذه الدعوى له، فليس إلا لكون هؤلاء بمرتبة فوق العدالة بمراتب.
قلت: نعم، و لكنا لما وجدنا منهم من هو فطحي كعبد اللّه بن بكير، بل و الحسن بن علي بن فضال - على قول - علمنا بأن المراد بالوثاقة الموثقية و العدالة بالمعنى الأعم، دون الوثاقة، فتأمل جيدا.
و أما التفسير الرابع فقد قيل: إن منشأه الأخذ بالتفسير الأول مع حمل لفظ التصحيح و الصحة في العبارة على الصحة بالاصطلاح المتأخر المتوقفة على عدالة الرواة.
و أنت خبير بأنه لا وجه لذلك، لأن لعبارة المزبورة أصلها من الكشي و. نحوه من القدماء الذين لم يكن اصطلاحهم في لفظ الصحيح هو الاصطلاح المتأخر، بل الصحة في اصطلاحهم عبارة عن كون الرّواية معتبرة موثوقا بصدورها عن المعصوم (عليه السّلام) و لو لقرائن خارجيّة، فلازم حمل كلام كل ذي اصطلاح على مصطلحه هو كون مرادهم بالإجماع على صحة ما يصحّ عن هؤلاء الإجماع على كون ما يوثق برواية هؤلاء له موثوقا بصدوره عن المعصوم (عليه السّلام) و لو لقرائن خارجيّة.
لا يقال: كما نقل الإجماع المزبور الكشّي و.. غيره من القدماء
ص: 194
فكذا نقله المتأخّرون الذين اصطلاحهم في الصّحة: الوثاقة و العدالة و الإماميّة(1)، فكما نحمل ما في كلام القدماء على اصطلاحهم، يلزمك حمل ما في كلمات المتأخرين أيضا على مصطلحهم، فيثبت مطلوب أهل التّفسير الرابع.
لأنّا نقول: حيث إن انعقاد الإجماع في الزّمان المتأخّر على خلاف ما انعقد في الزّمان السّابق غير ممكن على طريقتنا في الإجماع، كشف ذلك عن إرادة المتأخّرين بالصّحة في هذه العبارة الصحيح بالاصطلاح المتقدّم و هو المطلوب، فتأمّل.
و قد تلخّص من ذلك كلّه أنّ المعتمد في تفسير العبارة هو التّفسير الأول، و إن ما يصح عن هؤلاء مع ضعف أحد من بعدهم من رجال السّند لا ينبغي أن يسمّى صحيحا بالاصطلاح المتأخّر، بل ينبغي تسميته قويّا أو كالصحيح، و لعلّ هذا هو مراد المحقّق الوحيد (قدّس سره) بقوله - في آخر كلامه -: و عندي أنّ رواية هؤلاء إذا صحّت إليهم لا تقصر عن أكثر الصّحاح(2). و لا وجه لما صدر من الشيخ أبي عليّ (3) في منتهى المقال من التأمّل في اعتبار الإجماع المزبور، حيث قال: الإنصاف أن مثل هذا الصّحيح ليس في القوّة كسائر الصّحاح، بل و أضعف من كثير من الحسان لا لما فهّمه السّيد الاستاذ
ص: 195
- مدّ في بقاه - و من شاركه، إذ لا يكاد يفهم ذلك من تلك العبارة أبدا، و لا يتبادر إلى الذّهن مطلقا، و من المعلوم أنّ صدق الرجل غير تصحيح ما يصحّ عنه، بل لوهن الإجماع المزبور إذ لم نقف على ما(1)وافق الكشي في ذلك من معاصريه و المتقدمين عليه و المتأخرين عنه إلى زمان العلامة (رحمه اللّه) أو ما قاربه. نعم ربما يوجد ذكر هذا الإجماع في كلام النجاشي فقط من المتقدمين، و ذلك بعنوان النقل عن الكشي، إلا أن غير واحد من علمائنا منهم الشيخ البهائي (رحمه اللّه) صرح بأن الأمور الموجبة لعد الحديث من الصحيح عند قدمائنا وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم، فتدبر. لكن هذا الإجماع لم يثبت وجوب اتباعه كالذي بالمعنى المصطلح لكونه مجرد وفاق(2).
فإن فيه: أنه قد حكي عن الشيخ - أيضا - نقل هذا الإجماع، و قد نقله العلامة (رحمه اللّه) و من تأخر عنه أيضا، و حكاه النجاشي بعنوان القبول دون مجرد النقل، بل كلمات الكل صريحة في المسلمية و القبول، و كفى بأحد هؤلاء ناقلا بعد إفادته الظن الكافي في الرجال، حتى لو اريد به الوفاق دون الإجماع المصطلح، مع أن ظاهرهم الإجماع المصطلح، و هو صريح الشيخ الحر في فوائد وسائل الشيعة حيث قال - بعد نقل عبارة الكشي، ما لفظه -: و ذكر أيضا - أي الكشي - أحاديث في حق هؤلاء و الذين قبلهم تدلّ على مضمون
ص: 196
الإجماع المذكور(1)، فعلم من هذه الأحاديث الشريفة دخول المعصوم بل المعصومين (عليهم السّلام) في هذا الإجماع الشريف المنقول بخبر هذا الثقة الجليل و.. غيره، و قد ذكر نحو ذلك، بل ما هو أبلغ منه الشيخ (رحمه اللّه) في كتاب العدة(2) و جماعة من المتقدمين و المتأخرين، و ذكروا أنهم أجمعوا على العمل بمراسيل هؤلاء الأجلاء و أمثالهم كما أجمعوا على العمل بمسانيدهم(3). و لا يخفى عليك أن ما في ذيله يقوي ما اخترناه من التفسير الأول، فلاحظ و تدبر جيدا(4).
و حيث إن أول من نقل الإجماع هو الكشي(5)، لزمنا نقل
ص: 197
كلامه برمته، قال (رحمه اللّه) - ما هذا لفظه -: قال الكشي: أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) و انقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، و معروف بن خربوذ، و بريد، و أبو بصير الأسدي، و الفضيل بن يسار، و محمد بن مسلم الطائفي. قالوا: و أفقه الستة زرارة. و قال بعضهم: مكان أبي(1) بصير الأسدي: أبي(2) بصير المرادي و هو ليث البختري(3).. ثم أورد أحاديث كثيرة في مدحهم و جلالتهم و علو منزلتهم و الأمر بالرجوع إليهم ثم قال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون و أقرّوا لهم بالفقه
ص: 198
- من دون أولئك الستة الذين عددناهم و سميناهم - ستة نفر: جميل بن دراج، و عبد اللّه بن مسكان، و عبد اللّه بن بكير، و حماد بن عيسى، و حماد بن عثمان، و أبان بن عثمان. قالوا: و زعم أبو إسحاق الفقيه - يعني ثعلبة بن ميمون - أن أفقه هؤلاء جميل بن دراج، و هم أحداث أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السّلام)(1).
.. ثم قال بعد ذلك: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم، و أبي الحسن الرضا (عليهما السّلام) أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم و أقروا لهم بالفقه و العلم و هم ستة نفر أخر - دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السّلام) - منهم: يونس بن عبد الرحمن، و صفوان بن يحيى بياع السابري، و محمد بن أبي عمير، و عبد اللّه بن المغيرة، و الحسن بن محبوب، و أحمد بن محمد بن أبي نصر. و قال بعضهم: مكان الحسن بن محبوب الحسن بن علي بن فضال، و فضالة بن أيوب، و قال بعضهم: مكان فضالة: عثمان بن عيسى، و أفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيى(2): ثم ذكر أحاديث في حق هؤلاء و الذين قبلهم.
و أقول: قد جعل (قدس سره) في الستة الأولى الخلاف في
ص: 199
واحد و هو أبو بصير حيث قال: إنه الأسدي، و حكى عن بعضهم أنه ليث المرادي، و في الستة الأخيرة جعل مكان ابن محبوب الحسن بن علي بن فضال، و فضالة - على قول - و ابن محبوب و عثمان بن عيسى - على قول آخر -.
و قد نظم العلامة الطباطبائي (قدس سره) في الستة الأخيرة من عيّنه هو و في الستة الأولى من نقله عن بعض قولا، و جعل ذلك الأصح عنده(1) قال (رحمه اللّه):
قد أجمع الكل على تصحيح ما *** يصح عن جماعة فليعلما
و هم أولو نجابة و رفعة أربعة و خمسة و ستة(2)
فالستة الاولى من الأمجاد أربعة منهم من الأوتاد
زرارة(3) كذا يريد(4) قد أتى ثم محمد(5) و ليث(6) يا فتى
كذا فضيل(7) بعده معروف(8) و هو الذي ما بيننا معروف
ص: 200
و الستة الوسطى أولو الفضائل *** رتبتهم أدنى من الأوائل
جميل(1) الجميل مع أبان(2) و العبدلان(3) ثم حمادان(4)
و الستة الأخرى هم صفوان(5) و يونس(6) عليهما الرضوان
ثم ابن محبوب(7) كذا محمد(8) كذاك عبد اللّه(9) ثم أحمد(10)
ص: 201
و ما ذكرناه الأصح عندنا *** و شذّ قول من به خالفنا(1)
قلت: وجه الأصحّية في عد ابن محبوب في الستة الأخيرة ظاهر لموافقته لإجماع الكشي، و أما الأصحية في عدّ الليث بدل الأسدي فلم أفهم وجهها لمخالفته لعدّ الكشي الذي هو الأصل في هذا الإجماع(2)، فتدبر جيدا. بقي هنا شيء و هو: أن من عدا الكشي عدّ الستة الأولى ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، و عبارة الكشي المزبورة قاصرة عن إفادة ذلك، لأنه نقل الإجماع على
ص: 202
تصديقهم، و ظاهر التصديق غير تصحيح ما يصح عنهم، لكن دعوى غيره ممن نقل الإجماع سيما مثل العلامة الحلي(1) و العلامة الطباطبائي(2) و.. غيرهما يكشف عن وجود قرينة على إرادة الكشي من تصديق هؤلاء تصحيح ما يصح عنهم، و لو أغمضنا عن ذلك ففي دعوى مثل العلامتين الاجماع كفاية في إفادة الظن الكافي في الرجال، فلا وجه لما حكي عن السيد الأجل السيد محسن الأعرجي (قدس سره) في عدّته من التأمل في كون الستة الاولى ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم حيث قال: إنه قد حكي الإجماع على تصحيح ما يصح عن الأواسط و الأواخر غير واحد من المتأخرين كابن طاوس و العلامة و ابن داود، و حينئذ فما اشتهر بين جملة من أهل هذا الفن كالشيخ أبي علي في كتابه منتهى المقال، و صاحب المعالم في كتابه منتقى الجمان و.. غيرهما من أن الطائفة أجمعت على تصحيح ما يصح عن ثمانية عشر، ستة من الأوائل و ستة من الأواسط و ستة من الأواخر مما لا وجه له و لا أصل، فان الستة الاوائل لم يدع في حقهم هذه الدعوى و لا قيل فيهم هذا القول، و إنما المدعى فيهم إنما هو إجماع العصابة على تصديقهم و الانقياد لهم بالفقه، و أين هذه الدعوى من تلك؟(3).
فإن فيه ما عرفت من كفاية نقل من ذكر في إفادة الظن الكافي في الرجال، و ما أبعد ما بينه و ما بين ما صدر من بعضهم من عدّهم
ص: 203
اثنين و عشرين جمعا بين الأقوال(1).
غيرهم(1) إن الذين رووا عن الصادق (عليه السّلام) من الثقات كانوا أربعة آلاف رجل، و زاد الطبرسي أنه: (صنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب معروفة و تسمى الأصول)(2)، و أما
ص: 205
الأصول المعتمدة و الكتب المعوّل عليها و ما حكموا بصحته فكثيرة جدا(1). و أما الذين وثقهم الأئمة (عليهم السّلام) و أمروا بالرجوع إليهم و العمل بأخبارهم، و جعلوا منهم الوكلاء و الامناء فكثيرون أيضا يعرفون بالتتبع في كتب أهل الفن. و أما من عرف بين الأصحاب بأنه لا يروي إلا عن ثقة، فقد اشتهر بذلك جماعة منهم: محمد بن أبي عمير، و صفوان، و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي بل ادعى على ذلك الإجماع، و لذلك اشتهر بين الأصحاب قبول مراسيلهم كما في
ص: 206
الذكرى(1) و.. غيرها، بل عن ظاهر الشهيد (رحمه اللّه) دعوى الإجماع على ذلك(2).
لكن قد يقال: إنّا وجدناهم كثيرا ما يروون عن الموثقين كأبان بن عثمان، و عثمان بن عيسى، و منه رواية ابن أبي عمير و البزنطي عن عبد الكريم بن عمرو الثقة الواقفي، فلعلهم أرادوا بالثقة في قولهم لا يروون إلا عن ثقة - كما عن الشيخ (رحمه اللّه) في العدة و غيره - المعنى الأعم، فإنهم كثيرا ما يطلقونه على ذلك.
لا يقال: إنّا قد وجدناهم يروون عن الضعفاء أيضا كعلي بن أبي حمزة البطائني الضعيف على المشهور.
ص: 207
لأنّا نقول: إن علي بن أبي حمزة ممن قال الشيخ (رحمه اللّه) إن الطائفة عملت بأخباره، و له حالة استقامة(1)، فلعل رواية هؤلاء عنه كانت في حال استقامته، و إن الطائفة إنما عملت بأخبار زمان استقامته فتأمل جيدا، [(2)و عليك بمراجعة ما نقلناه في ذيل ترجمة عبد اللّه بن سنان عن السيد صدر الدين، فإنه من مكملات المقام(3)].
فإن بعضهم جعل ذلك من ألفاظ المدح، و استفاد منه كون
ص: 208
المقول فيه إماميا إذا كان القائل إماميا، و لا بأس به. و الاستدلال على العدم(1) بظهور عباراتهم في عدم اختصاصه بالفرق الناجية كما في عبد اللّه بن جبلة، و معاوية بن حكيم، حيث عدّا من أصحابنا مع أن الأول واقفي، و الثاني فطحي. و بقول الشيخ في أول الفهرست:
كثير من مصنفي أصحابنا و أصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة(2)، مردود بأن استعمالهم العبارة في مورد أو موردين في خلاف ظاهرها للقرينة لا يسقط ظاهرها عن الاعتبار. و أما عبارة الشيخ (رحمه اللّه) فلا دلالة فيها على مدعى المستدل، إذ لعل غرضه فساد عقيدتهم بعد التصنيف، فتدبر(3).
منهما قولا لم يسمّ قائله بإفادته التعديل، ثم قال: و يظهر ذلك من المصنف(1) (رحمه اللّه) في ترجمة الحسن بن علي بن زياد(2)، و سنذكر عن جدي(3) في تلك الترجمة معناهما، و استدلاله على كونهما توثيقا.
و ربما يظهر ذلك من المحقق الداماد - أيضا - في الحسين بن أبي العلاء، و عندي أنهما يفيدان مدحا معتدا به(4). و أشار بما يظهر من المصنف إلى ما حكى عن مصنفه في تلك الترجمة من قوله: ربما استفيد توثيقه من استجازة أحمد بن محمد بن عيسى، و لا ريب أن كونه عينا من عيون هذه الطائفة، و وجها من وجوهها أولى(5). و عن
ص: 210
التعليقة في الترجمة المزبورة عن جده أنه قال: عين توثيق، لأن الظاهر استعارته(1) بمعنى الميزان(2) باعتبار صدقه كما كان الصادق (عليه السّلام) يسمى أبا الصباح بالميزان لصدقه، و يحتمل أن يكون بمعنى شمسها أو خياره، بل الظّاهر أن قولهم وجه توثيق، لأن دأب علمائنا السّابقين في نقل الأخبار كان عدم النّقل إلاّ(3) عمّن كان في غاية الثقة، و لم يكن يومئذ مال و لا جاه، حتّى يتوجهوا إليهم بها بخلاف اليوم، و لذا يحكمون بصحة خبره(4).
قلت: إن تمّ ما ذكره كان المقول فيه من الموثق، و إلا لكونه اجتهادا منه لم يعلم إصابته، و عدم كونه نقلا للاصطلاح فهو من القوي. و على كل منهما فاسم التفضيل منه أدلّ على ذلك، فقولهم فلان أوجه من فلان يفيد الوثاقة على اجتهاده إذا كان المفضل عليه وجها، و القوة على القول الآخر(5). و أما قولهم: أوثق من فلان مع
ص: 211
وثاقة المفضل عليه فلا شبهة في دلالته على الوثاقة، كما أن قولهم أصدق من فلان أو أورع من فلان مع وثاقة فلان يكون توثيقا، قضاء لحق اسم التفضيل(1).
و لا ريب في إفادته المدح في الجملة لا الوثاقة و لا الإمامية(2)، بل و لا المدح المعتد به الموجب لصيرورة الحديث حسنا، ضرورة أن من المدح ما له دخل في قوة السند و صدق القول مثل: صالح، و خيّر. و منه مالا دخل له في السند بل في المتن مثل: فهيم، و حافظ. و منه مالا دخل له فيهما. مثل: شاعر، و قارئ فحيث يطلق و لا توضع قرينة على إرادة الأول لم يدل على المدح المعتد به، لأن العام لا يدل على الخاص.
و منها:
ص: 212
و منها قولهم: من أولياء أمير المؤمنين (عليه السّلام)(1):
و لا ريب في دلالته على المدح المعتد به الموجب لصيرورة السند من القوي إن لم يثبت كونه إماميا، و من الحسن إن ثبت كونه إماميا، و ربما جعل ذلك دالا على العدالة، و يستشهد له بعدّ العلامة (رحمه اللّه) سليم بن قيس من أولياء أمير المؤمنين (عليه السّلام) في آخر القسم الأول من الخلاصة(2). و أنت خبير بعدم الشهادة إلا على أنه
ص: 213
معتمد، لأن القسم الأول وضعه فيمن يعتمد هو عليه أعمّ من العدالة و عدمها. فالأظهر أعمية العبارة من العدالة.
و في حكمها قولهم: من أولياء أحد الأئمة (عليهم السّلام).
نعم في الفوائد: إن قولهم من الأولياء من دون إضافة ظاهر في العدالة(1). و لم أفهم الوجه في ذلك، و لعله لذا أمر بالتأمل.
[(2)نعم يمكن الاستئناس لذلك بما رواه في البحار(3) عن محمد بن الحسين، عن محمد بن جعفر، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، قال: (قال علي بن الحكم: من أولياء علي (عليه السّلام) العلم الأزدي، و سويد بن غفلة الجعفي، و الحرث(4) بن عبد اللّه الأعور الهمداني، و أبو عبد اللّه الجدلي، و أبو يحيى حكم(5) بن سعد
ص: 214
الحنفي(1). و معنى الأولياء يظهر ما رواه - أيضا - في البحار عن محمد بن الحسن الشحاذ، عن سعد، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن الهيثم، عن علي بن الحسين الفزاري، عن آدم التمار الحضرمي، عن ابن ظريف(2)، عن ابن نباتة قال: (3)و ضرب علي (عليه السّلام) على كتفي ثم شبك أصابعه في أصابعي، ثم قال: يا أصبغ! قلت: لبيك و سعديك يا أمير المؤمنين(4) (عليه السّلام). فقال: إن ولينا ولي اللّه، فإذا مات ولي اللّه كان من اللّه بالرفيق الأعلى، و سقاه من نهر أبرد من الثلج، و أحلى من الشهد، و ألين من الزبد. فقلت: بأبي أنت و أمي و إن كان مذنبا؟! فقال: نعم، و إن كان مذنبا. أما تقرأ القرآن فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) يا أصبغ! إن ولينا لو لقى اللّه و عليه من الذنوب مثل زبد البحر، و مثل عدد الرمل لغفرها اللّه إن شاء اللّه)(6) هذا.
ص: 215
و أما قولهم: خاصي(1)
فإن أريد به ما يراد من قولهم من خاصة الإمام الفلاني (عليه السّلام) دلّ على المدح المعتد به و أفاد الحسن، و إن أريد ما قابل قولهم عامي - كما هو الأظهر - لم يفد إلا كونه إماميا، و عند الإطلاق يكون الأمر فيه مشتبها و تعيّن الأخذ منه بالقدر المتيقن و هذا بخلاف قولهم:
ص: 216
كما في قول كميل(1) للأمير (عليه السّلام): أ لست صاحب سرك؟! حين سأله عن الحقيقة. فإن الظاهر أنه يفيد ما فوق الوثاقة، فإن تحميل السّر إنما يكون لمن هو فوق العدالة ممن له نفس قدسية مطمئنة منقادة مطيعة لحبس ما تحملت، أمينة على ما اطلعت، و لذلك قال (عليه السّلام) في الحديث المشهور: (لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله)(2) و لقد كان أكثر أصحابه ثقات عدولا، و لم يكن صاحب سره إلا معدودا، و لذا كان كاتما للأسرار لا يبيّن منها إلا نادرا لنادر، و كذلك كان أصحاب سائر الأئمة (عليهم السّلام). فكون الرجل صاحب السر مرتبة فوق مرتبة العدالة
ص: 217
بمراتب شتى كما لا يخفى](1).
و لا ريب في إفادته المدح المعتد به، و في الفوائد(2) أن المتعارف عدّه من أسباب الحسن.
قلت: و في دلالته على الوثاقة وجهان؛ و قد حكى دلالته في التعليقة عن المجلسي الأول، و مصنّفه الميرزا محمد الأسترآبادي في ترجمة: الحسن بن علي بن زياد، و نادرة الزمان الشيخ سليمان البحراني، بل حكى عن الأخير أنه في أعلى درجات الوثاقة و الجلالة، ثم نفى هو (رحمه اللّه) خلوه عن قرب، إلا أنه تأمل في كونه في أعلى درجاتها(3).
ص: 218
و أقول: نسبة ذلك إلى مصنفه لم يقع في محله، لأن الموجود فيه في ترجمة الحسن بن علي بن زياد هو قوله: و ربما استفيد توثيقه من استجازة أحمد بن محمد بن عيسى، و لا ريب أن كونه عينا من عيون الطائفة و وجها من وجوهها أولى بذلك(1). فإن ظاهره نقل الاستفادة عن مجهول دون أن يكون هو المستفيد، فتدبر.
و على أي حال، فقد حكي عن المعراج(2) أن التعديل بهذه الجهة طريقة كثير من المتأخرين.
و قال الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية: إن مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم.. إلى أن قال: إن مشايخنا من عهد الكليني إلى زماننا لا يحتاجون إلى التنصيص، لما اشتهر في كل عصر من ثقتهم و ورعهم(3).
ص: 219
قلت: هذا ليس منه شهادة باستقرار الاصطلاح حتى يكون حجة، بل تمسكا بالاستقراء أو بالغلبة و لا بأس بذلك إن تمّ لإفادته الظن الذي ثبتت حجيته في الرجال.
و قال المولى الوحيد إنه: إذا كان المستجيز ممن يطعن على الرجال في روايتهم عن المجاهيل و الضعفاء و غير الموثقين فدلالة استجازته على الوثاقة ففي غاية الظهور، سيما إذا كان المجيز من المشاهير، و ربما يفرق بينهم و بين غير المشاهير بكون الأول من الثقاة(1) و لعله ليس بشيء(2).
ص: 220
و أقول: الوجه فيما ذكره ظاهر، لأن كون المستجيز و المجيز على الحالة التي ذكرها يقوي الظن بوثاقة المجيز، و لعل مراد المحقق الشيخ محمد بقوله: عادة المصنفين عدم توثيق الشيوخ(1) بيان أن جريان عادتهم على ذلك يكشف عن كون وثاقته مسلما بينهم، فتأمل(2).
ص: 221
تذييل(1):
كما نصّ عليه بعض أساطين الفن(2)، و الفرق بينهما على ما أفاده صاحب التكملة في ترجمة أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد أن الأول من ليس له كتاب يروى و لا رواية تنقل، بل يخبر كتب غيره و يذكر في السند لمحض اتصال السند، فلو كان ضعيفا لم يضرّ ضعفه. و الثاني هو من تؤخذ الرواية منه و يكون في الأغلب صاحب كتاب بحيث يكون هو أحد من تستند إليه الرواية، و هذا تضرّ جهالته في الرواية، و يشترط في قبولها عدالته، و طريق العلم بأحد الأمرين هو أنه إن ذكر له كتاب كان من مشايخ الرواية، و إلا كان من مشايخ
ص: 222
الإجازة على إشكال في الثاني(1).
و منها: قولهم: شيخ الطائفة أو من أجلائها أو معتمدها(2):
فإن دلالة كل منها على المدح المعتدّ به ظاهرة لا يرتاب فيها،
ص: 223
بل في التعليقة، إن: إشارتها إلى الوثاقة ظاهرة مضافا إلى الجلالة، بل أولى من الوكالة و شيخية الاجازة و.. غيرهما مما حكموا بشهادته على الوثاقة، سيما بعد ملاحظة أن كثيرا من الطائفة ثقات فقهاء فحول أجلّة، و بالجملة، كيف يرضى منصف بأن يكون شيخ الطائفة في أمثال المقامات فاسقا(1).
فإذا قيل: فلان شيخ الطائفة كان التعرض لإماميته و وثاقته مستنكرا حشوا، لكون مفاد العبارة عرفا أعظم من الوثاقة، أ لا ترى أنك لو سألت أحدا عن عدالة شيخ من شيوخ الطائفة استنكر أهل العرف ذلك؟!(2).
أحدها: أنه لا يفيد شيئا حتى المدح، أرسله في الفصول(1)و.. غيره(2) قولا، و لم يعلم قائله و لا مستنده. نعم في البداية(3)عن المشهور أن نفي البأس يوهم البأس، و لعله أراد المشهور بين العوام(4).
ثانيها: إنه يفيد مطلق المدح أعمّ من المعتد به و غيره، عزاه في الفصول(5) إلى الأكثر، و هو اشتباه، و إنما الأكثر على ثالثها:
و هو إفادته المدح المعتد به الموجب لحسن من كان صحيح العقيدة، و هذا هو المستظهر من العلامة (رحمه اللّه) في الخلاصة(6)، بل في التعليقة أنه المشهور(7).
ص: 225
رابعها: انه يفيد الوثاقة المصطلحة الموجبة لإطلاق اسم الصحيح عليه، حكاه في البداية عن بعض المحدثين(1).
و ردّه: بأنه اصطلاح مخصوص به لا يتعداه(2)، و قد اختار هذا القول بعض من عاصرناه(3)، و مال إليه المولى الوحيد حاكيا له عن وسيط الميرزا محمد(4) مصنفه حيث قال: و الأوفق بالعبارة
ص: 226
و الأظهر أنه لا بأس به بوجه من الوجوه، و لعله لذا(1) قيل بإفادته التوثيق و استقربها(2) المصنف (رحمه اللّه) في متوسطه، و يومي إليه ما في تلك الترجمة - يعني ترجمة إبراهيم بن محمد بن فارس - و ترجمة بشار بن يسار، و يؤيده قولهم ثقة لا بأس به، و منه ما سيجيء في:
حفص بن سالم(3).
و أقول: أما جعله الأظهر نفي البأس من جميع الجهات فلظهور النكرة المنفية في العموم، و أشار بما في ترجمة إبراهيم إلى ما قيل في حقه من أنه: لا بأس به في نفسه، و لكن ببعض من يروي هو عنه(4). و بما في ترجمة بشار إلى قول علي بن الحسين (عليهما السّلام) فيه: هو خير من أبان، و ليس به بأس(5). و بما في ترجمة حفص إلى قول الصادق (عليه السّلام) فيه: إنه ثقة لا بأس به(6)، حيث جعل
ص: 227
(عليه السّلام) لا بأس به بدلا عن قوله: ثقة، فإن من مجموع ذلك يحصل الظن بإفادته التوثيق. قال بعض الأجلة ممن عاصرناه: إن هذا الاختلاف من جهة المعنى العرفي مع ملاحظة القرائن، و إلا فظاهر معناه اللغوي التوثيق، فإن من لا عذاب له أي لا استحقاق له لا يكون في الغالب إلا عدلا، فتدبر. و حيث إن النظر إلى العرف فالذي يظهر لنا منه أنه لا يقدح في السند من جهته - أي يعمل به - و هذا يلازم كونه ممدوحا مدحا معتدا به، بل ثقة في الرواية، بل مطلقا و إن لم يكن كسائر الثقات انتهى المهم من كلامه(1).
و أقول: من حصل له الظن مما ذكر بإفادته الوثاقة(2)، و إلا فإفادته غاية المدح مما لا ينبغي التأمل فيه.
على هذه الكلمة إلا في كلام الشيخ (رحمه اللّه)(1). و ما ربّما يوجد في الخلاصة فإنما أخذه من رجال الشيخ (رحمه اللّه)، و الشيخ (رحمه اللّه) إنما ذكرها في رجاله دون فهرسته، و في أصحاب الصادق (عليه السّلام) دون غيره(2)، إلا في أصحاب الباقر (عليه السّلام) ندرة غاية الندرة(3). ثم نقل أقوالا في كيفية قراءته و مرجع ضميره:
أحدها: قراءته بالمجهول، و إرجاع الضمير إلى صاحب الترجمة(4): قال: و لعل عليه الأكثر، و قالوا بدلالتها على المدح لأنه
ص: 229
لا يسند إلا عمن يسند إليه و يعتمد عليه(1).
ثم ناقش في ذلك: بأن تعقيب أسند عنه في ترجمة: محمد بن عبد الملك الأنصاري بأنه ضعيف(2)، يكشف عن عدم دلالة أسند عنه على المدح، ثم أمر بالتأمل، و لعله للإشارة إلى إمكان منع المنافاة بأن الإسناد و الاعتماد عليه من المحدثين لا ينافي اطلاع القائل على ما يوجب ضعفه، فكأنه قال: اعتمدوا عليه و لكنه عندي ضعيف.
ثم إنه نقل في وجه اختصاص هذه العبارة ببعض دون بعض أنها لا تقال إلا في حق من لم يكن معروفا بالتناول منه و الأخذ عنه.
ثانيها: قراءته بالمعلوم، و إرجاع الضمير إلى الإمام (عليه السّلام) الذي صاحب الترجمة من أصحابه، نقل ذلك عن المحقق الشيخ محمد، و الفاضل الشيخ عبد النبي في الحاوي، و استشهد لذلك بقول العلامة (رحمه اللّه) في الخلاصة في ترجمة: يحيى بن سعيد الأنصاري أنه: تابعي أسند عنه(3) فإنه بصيغة المعلوم. ثم ردّه
ص: 230
بأنه ينافيه الجمع بين أسند عنه و بين روى عن الإمام الفلاني من الشيخ في ترجمة: جابر بن يزيد، حيث قال: جابر بن يزيد أسند عنه، روى عنهما(1).
و قوله في محمد بن إسحاق بن يسار: أسند عنه يكنى: أبا بكر، صاحب المغازي من سبي عين التمر، و هو أول سبي دخل المدينة، و قيل: كنيته أبو عبد اللّه، روى عنهما(2).
ثالثها: قراءته كالثاني، لكن تفسيره بعدم السماع عن الإمام (عليه السّلام) بل روايته عن أصحابه الموثقين، و هو الذي حكى عن المحقق الداماد في الرواشح(3) جعله اصطلاحا للشيخ (رحمه اللّه) حيث قال - ما ملخصه على ما حكي -: إن الصحابي على
ص: 231
مصطلح الشيخ (رحمه اللّه) في رجاله على معان، منها: أصحاب الرواية عن الإمام (عليه السّلام) بالسماع منه، و منها: بإسناد عنه، بمعنى أنه روى الخبر عن أصحابه الموثوق بهم و أخذ عن أصولهم المعتمد عليها، فمعنى أسند عنه أنه لم يسمع منه بل سمع من أصحابه الموثقين و أخذ منهم(1) عن أصولهم المعتمد عليها. و بالجملة قد أورد الشيخ (رحمه اللّه) في أصحاب الصادق (عليه السّلام) جماعة جمّة إنما روايتهم عنه بالسماع من أصحابه الموثوق بهم، و الأخذ من أصولهم المعتمد عليها(2)، ذكر كلا منهم و قال: أسند عنه(3).
ص: 232
و ردّ بأن جماعة ممن قيلت فيه رووا عنه (عليه السّلام) مشافهة، و ما أبعد ما بين هذا التفسير و بين ما حكاه عن بعض السادة الأزكياء من جعل الأشبه كون المراد أنه أسند عن المعصوم (عليه السّلام) و لم يسند عن غيره من الرواة، نظرا إلى أنه تتبع فلم يجد رواية أحد ممن قيل في حقه ذلك عن غيره (عليه السّلام) إلا أحمد بن عائذ، فإنه صحب أبا خديجة و أخذ عنه كما نص عليه النجاشي، و الأمر فيه سهل فكأنه مستثنى لظهوره(1).
فإن فيه: إن غير واحد ممن قيل في حقه أسند عنه - غير أحمد بن عائذ - رووا عن غيره (عليه السّلام) أيضا، منهم:
محمد بن مسلم، و الحارث بن المغيرة، و بسام بن عبد اللّه الصيرفي و.. غيرهم.
رابعها: قراءته بالمعلوم، و إرجاع الضمير إلى الراوي، إلا أن
ص: 233
فاعل أسند ابن عقدة(1)، حكي ذلك عن بعضهم(2)، لأن الشيخ (رحمه اللّه) ذكر في أول رجاله أن ابن عقدة ذكر أصحاب الصادق (عليه السّلام) و بلغ في ذلك الغاية. قال (رحمه اللّه): و إني ذاكر ما ذكره و أورد بعد(3) ذلك ما لم يذكره(4). فيكون المراد أخبر عنه ابن عقدة و ليس بذلك البعيد. و ربما يظهر منه وجه عدم وجوده إلا في كلام الشيخ (رحمه اللّه). و سبب ذكر الشيخ (رحمه اللّه) ذلك في رجاله دون فهرسته، و في أصحاب الصادق (عليه السّلام) دون غيره، بل و ثمرة قوله (رحمه اللّه) أني ذاكر ما ذكره ابن عقدة، ثم أورد ما لم يذكره فتأمل جدا(5).
و نوقش فيه: أولا: بتنافر أسند عنه مع أخبر عنه، بل القريب إليه أسند به(6)، إذ مفاد أخبر عنه أنه نقل عنه أمرا آخر و هو غير مقصود في توجيهه.
و ثانيا: بأن مقتضى كلام الشيخ (رحمه اللّه) حيث ذكر أنه يذكر ما ذكره مع اعترافه بأنه بلغ في ذلك الغاية أن يكون أكثر رجال
ص: 234
الصادق (عليه السّلام) ممن أسند عنه، و الواقع خلافه(1).
و إذ قد عرفت ذلك كله فاعلم: أن ظاهر المولى الوحيد (رحمه اللّه) عدم الريب في إفادة هذه اللفظة المدح المعتد به، حيث حكى عن جده - يعني المجلسي الأول (قدس سره) - أن المراد بها أنه روى عنه الشيوخ و اعتمدوا عليه و هو كالتوثيق، و لا شك أن هذا المدح أحسن من لا بأس به(2). ثم قال: قوله (رحمه اللّه) و هو كالتوثيق
ص: 235
لا يخلو من تأمل، نعم إن أراد منه التوثيق بما هو أعمّ من العدل الإمامي فلعله لا بأس به، فتأمل، لكن لعله توثيق من غير معلوم الوثاقة، أما أنه روى عنه الشيوخ كذلك حتى يظهر وثاقته لبعد اتفاقهم على الاعتماد على من ليس بثقة أو بعد اتفاقهم(1) كونهم بأجمعهم غير ثقات، فليس بظاهر. نعم و ربما يستفاد منه مدح و قوة، لكن ليس بمثابة قولهم لا بأس به، بل أضعف منه لو لم نقل بإفادته التوثيق، و ربما قيل بإيمائه إلى عدم الوثوق، و لعله ليس كذلك، فتأمل(2).
قلت: دلالته على المدح إنما هو على القراءة الأولى(3)، و قد عرفت عدم تعينها، فلا اعتماد على هذه اللفظة في المدح [(4)ضرورة أن الذي يدلّ على التوثيق هو العمل بالرواية و القبول لها، و هذه العبارة أعمّ من ذلك، لوقوع الإسناد عن الضعفاء أيضا، اللهم إلا أن ينضم إلى ذلك قرائن تدلّ على إرادته الإسناد عنه على جهة القبول،
ص: 236
و أنى لنا بإثبات ذلك. و يشهد بالعدم أمور:
منها: توقف العلامة في الحسن بن محمد بن القطان(1)، مع أنه ممن قال الشيخ (رحمه اللّه) فيه أسند عنه(2).
و منها: إن الشيخ (رحمه اللّه) قال في حفص بن غياث القاضي ذلك مع رميه له بأنه عامي(3).
و منها: إنه لو كانت فيها دلالة على الوثوق لشاع بين أهل الرجال و الحديث التمسك به للوثاقة، مع أن كلّهم أو جلّهم يضعفون الحديث بجهالة من قيل في حقه ذلك، و لم يعتبروا تلك العبارة في الوثاقة و لا الحسن كما لا يخفى على المتتبع].
و أما من جعله دالا على الذم فلعله بالنظر الى قراءته مجهولا مع دعوى إشعاره بعدم الاعتناء و عدم الاعتداد به، و أنه ليس ممن يعتنى برواياته، بل هو مهجور متروك ساقط من الأعين، و لكن قد تتفق الرواية عنه، فتأمل(4).
ص: 237
و منها: قولهم: خاصيّ (1):
و فيه احتمالان:
أحدهما: كون المراد به الشّيعي مقابل العاميّ.
و الثاني: كون المراد به أنّه من خواصّ الأئمة (عليهم السّلام) و على الأوّل: فهو دالّ على كونه إماميّا.
و على الثاني: فهو دالّ على المدح المعتد به، بل يمكن استفادة التوثيق(2) منه لبعد تمكينهم (عليهم السّلام) من صيرورة غير الثقة من خواصهم، لكن استعمال اللفظة في الأول في هذه الأزمنة أشيع، و إن كان في الأزمنة السابقة بالمساواة إن لم يكن بالعكس.
و في البداية(3) - ما معناه - إن قولهم خاص مدح معتد به إلا أنه
ص: 239
لا يدل على التوثيق، لأن مرجع وصفه إلى الدخول مع إمام معين أو في مذهب معين و شدة التزامه به أعم من كونه ثقة في نفسه، كما يدلّ عليه العرف(1).
و مثله: حافظ، و ثبت و ضابط:
و قد صرح في البداية بإفادة كل منها المدح الملحق لحديث المقول فيه بالحسن إن أحرز كونه إماميا، و بالقوي إن لم يحرز. و جزم بعدم إفادتها التوثيق(2)، لأن كلا منها يجامع الضعيف و إن كان من صفات الكمال. [(3)و قال بعض الأجلة(4): إن قولهم ثبت صفة مشبهة دالّة على ثبوت التثبت في الحديث و دوامه، أو في جميع أموره، فلا
ص: 240
يجزيه(1) إلا عن ثبوت المخبر به عنده و تيقنه لديه، و لا يحكم إلا عن اطمينان و اعتقاد، و هكذا في جميع أموره، قال في المصباح المنير:
و ثبت الأمر صح.. إلى أن قال: و رجل ثبت - ساكن الباء - متثبت في أموره، و على هذا فيستفاد من هذه الكلمة الحسن قطعا كما نص عليه بعض أهل الفن، و هو الظاهر من الشهيد الثاني في الدراية و شرحها(2)، و كان هذا في مقابلة من قيل في حقه يروي عن الضعفاء و يعتمد المراسيل و لا يبالي عمن أخذ، و مرادفه في المصداق قولهم متقن و ضابط، هذا إذا قيل في حق إمامي، و أما إذا قيل(3) في حق غيره من الزيدية أو الواقفية أو الفطحية فهي مرادفة لثقة، إذ ليس لكلمة ثقة بالنسبة إلى غير الإمامي أكثر من التثبت و التحرز عن الكذب، فبينهما تلازم في الخارج، و لا فرق بين أن يطلق أنه ثبت(4)بالنسبة إلينا هو الحديث، فكلما كان بالنسبة إلى غيره فلا يضرنا و لا
ص: 241
ينفعنا](1).
و قد صرح في البداية بمثل ما في سابقه(2) من إفادته المدح دون التوثيق، لأنه قد يحتج بالضعيف إذا انجبر(3).
و قد صرح فيهما - أيضا - بإفادة المدح المعتد به دون التوثيق(4)لأن الوثاقة الصدق و زيادة، و الذي أظن أن قولهم محله الصدق أقوى في الدلالة على المدح من قولهم صدوق، بل يمكن استشعار التوثيق
ص: 242
من قولهم محله الصدق، لأن غير الثقة ليس محله الصدق، فتأمل.
و لا ريب في إفادة كل منهما المدح المعتد به، لدلالته على كونه محل اعتناء و اعتماد في الحديث. نعم هو أعم من التوثيق، و ربما فسّرهما في البداية بأنه لا يطرح حديثه، بل ينظر فيه و يختبر حتى يعرف حاله فلعله يقبل، ثم استظهر دلالتهما على عدم التوثيق(1)، و هو كما ترى.
و على كل حال فقد أذعن بإفادته المدح الملحق حديث المتصف به بالحسن.
صرح في البداية بإفادته المدح المعتد به دون التوثيق، لأنه و إن أريد به المقدم في العلم و رئاسة الحديث، لكن لا يدلّ على التوثيق فقد يقدم من ليس بثقة(2).
قلت: ليته علله بعدم معلومية متعلق الشيخوخة و التقدم، و إلا فالتقدم في الحديث - سيما في الأزمنة السابقة - ربما يدلّ على الوثاقة،
ص: 243
كما مرّ وجهه عند الكلام في شيخ الإجازة و شيخ الطائفة(1).
و قد صرح في البداية(2) بإفادته المدح المعتد به دون التوثيق، لأنه قد يكون غير الثقة جليلا. و مثله: جليل القدر.
و لا شبهة في إفادته المدح المعتد به، و في إفادته التوثيق وجهان: من أن غير الثقة لا يكون صالح الحديث على الإطلاق، و مما في البداية من أن الصلاح أمر إضافي، فالموثق بالنسبة إلى الضعيف صالح و إن لم يكن صالحا بالنسبة إلى الحسن و الصحيح، و كذا الحسن بالإضافة إلى ما فوقه و ما دونه(3)، و لذا جزم في البداية
ص: 244
بالثاني، و مما ذكرنا ظهر الحال في قولهم:
نقي الحديث:
و هو من ألفاظ المدح المعتد به، كما صرح به المولى الوحيد(1)و.. غيره. و يظهر من ترجمة أحمد بن علي بن العباس، و أحمد بن محمد بن الربيع و.. غيرهما(2) أيضا.
و منها: قولهم: مشكور. و مثله: خيّر و مرضي(3):
و لا ريب في دلالة كل منها على المدح المعتد به، و في إفادتها التوثيق وجهان: من شيوع استعمالها عرفا سيما الثاني في الثقة، و من أنه قد يكون الشكران على صفات لا تبلغ حد العدالة و لا يدخل فيها، و كذا الخيرورة [كذا] قد لا تبلغ العدالة، و كذا كونه مرضيا، و قد احتمل في البداية دلالة الأولين على التوثيق مائلا إلى ذلك(4).
ص: 246
و لا شبهة في دلالته على المدح المعتد به المقارب للتوثيق، بل يحتمل دلالته على ذلك، لأن الدّين لا يطلق إلا على من كان ملتزما بجميع أحكام الدين، و من كان كذلك فهو عدل(1).
و قد صرح في البداية(2) بإفادته المدح الملحق لحديث المقول فيه بالحسن و عدم افادته التوثيق لظهور أعميته من الوثاقة، لأن مرجع الفضل إلى العلم و هو يجامع الضعيف بكثرة.
قلت: الفضل في اللغة الزيادة(3)، فيحتمل أن يكون المراد بالفاضل من كان عالما بما يزيد على علم الدين من العلوم، و أظن أن منشأ انتزاع كلمة الفاضل؛ النبوي المعروف: (العلم علمان: علم الأبدان و علم الأديان و ما عدى ذلك فضل)(4)، فيكون الفاضل من
ص: 247
علم بغير علمي الطب و الفقه و متعلقاته من العلوم، و لا يضرّ في ذلك إنكار الشيخ البهائي (رحمه اللّه) هذا الحديث و عدّه له من الأحاديث المجعولة(1).
و هو دالّ على المدح التام القريب من الوثاقة، بل لعله دالّ عليها، لأن الورع - بكسر الراء - هو من يتصف بالورع - بفتح الراء - على وجه يكون صفة لازمة له، و الورع لغة هو الكفّ عن محارم اللّه تعالى و التحرج منها(1) و لا يكون كذلك إلا من له ملكة العدالة، و يؤيده أنه عرفا لا يطلق إلا على من كان في أعلى درجات الثقة و العدالة.
يطلقهما إلاّ على العادل. و ربّما يظهر من ثاني الشهيدين (رحمهما اللّه) في البداية(1) أن صالحا أظهر في العدالة من الزاهد حيث جعل كلا من زاهد و عالم و صالح دالاّ على المدح الملحق للمتصف به بالحسن، ثم قال: مع احتمال دلالة الصلاح على العدالة و زيادة، ثم قال:
لكن فيه إن الشرط مع التعديل الضبط الذي من جملته عدم غلبة النسيان و الصلاح يجامعه أكثريا(2). فإن في تخصيصه الصلاح من بين أخويه في احتمال الدلالة على العدالة إيذانا بما قلناه، لكن الأقرب خلاف ذلك، فإن الزهد عرفا يتضمن الصلاح و زيادة، فهو في الدلالة على العدالة أظهر، فتدبر جيدا.
و قد اتفق هذا الوصف للربيع بن سليمان، و مصبح بن هلقام، و هيثم بن أبي مسروق النهدي(3). و قد صرح في البداية بإفادته المدح الملحق لحديث المتصف به بالحسن إن أحرز كونه إماميا،
ص: 250
و بالقوي إن لم يحرز، و بعدم إفادته العدالة. قال في وجه عدم دلالته على الوثاقة ما لفظه: و أما قريب الأمر فليس بواصل إلى حد المطلوب، و إلا لما كان قريبا منه، بل ربما كان قريبا إلى المذهب من غير دخول فيه رأسا(1). و أنت خبير بأن ما ذكره يناسب قول قريب من الأمر، و قريب إلى الأمر، دون قريب الأمر - بالإضافة -، و أما بالإضافة كما هو المبحوث عنه فهو إن لم يدلّ على الذم فلا دلالة فيه على المدح بوجه، لأن المراد به قريب الأمر بالحديث، كما يشهد بذلك أنهم أطلقوا قريب الأمر في مصبح بن هلقام إلا أنهم قيدوه بقولهم بالحديث في الربيع، و قرب الأمر بالحديث لا يخلو من ذم، لأن من كان قريب عهد به لا يكون ماهرا فيه، فيكثر اشتباهه كما لا يخفى على المتدبر. و إنما أدرجنا هذه العبارة في عبائر المدح تبعا للبداية(2)، فتأمل كي يظهر لك استعمالهم قريب الأمر بالإضافة في المعنى الذي
ص: 251
ذكره هو (رحمه اللّه) في ترجمة علي بن الحسن بن فضال و.. غيره، ففي ترجمته من الفهرست: أنه غير معاند قريب الأمر إلى أصحابنا الإمامية القائلين بالاثنى عشر(1).
فإنه على المدح المعتد به، بل ربّما جعل في مقام التوثيق، و هو كما ترى، فإن الاعتماد على كتابه أعمّ من عدالته في نفسه(2).
و منها:
ص: 252
أي عالي الرتبة، و هو من ألفاظ المدح الأعم من العدالة، و في الحديث: (اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا)(1) أي منازلهم و مراتبهم في الفضيلة و التفضيل.
فإن فيه دلالة على المدح، بل في التعليقة: أنه ربّما زعم بعضهم أنه يزيد على التوثيق. و فيه نظر ظاهر(2). و وجه النظر أنّا نرى بالوجدان في(3) صاحب جمع من المعصومين (عليهم السّلام) من لا يوثق به، غايته أنّا نستفيد المدح من ظهور كون إظهارهم لذلك في ترجمة راو لإظهار كونه ممن يعتنى به و يعتد بشأنه(4)، و من هنا يظهر
ص: 253
الحال في قولهم: مولى الإمام الفلاني (عليه السّلام)(1). و قد روى في ترجمة معتب مسندا عن الصادق (عليه السّلام) أنه قال: هم - يعني مواليه - عشرة، فخيرهم و أفضلهم معتب و فيهم خائن فاحذروه(2). و فيه دلالة على ذم بعض مواليه(3).
تذنيب: قد جعل محدثو العامة للتعديل مراتب(4)،
و جعلوا المرتبة الأولى التي هي أعلى المراتب قولهم: أوثق الناس، أو اتقن الناس،
ص: 254
أو أثبت الناس، أو أعدل الناس، أو أحفظ الناس، أو أضبط الناس(1). و دونها:
المرتبة الثانية: و هي قولهم: ثقة أو متقن، أو ثبت، أو حجة، أو عدل، أو حافظ، أو ضابط، مع التكرار بأن يقال: ثقة ثقة(2). و دونها:
المرتبة الثالثة: و هي الألفاظ المذكورة من غير تكرار(3). و دونها:
المرتبة الرابعة: و هي صدوق، أو محله الصدق(4)، أو لا بأس
ص: 255
به، أو مأمون، أو خيار، أو ليس به بأس(1). و دونها:
المرتبة الخامسة: و هي قولهم: يكتب حديثه و ينظر فيه(2).
و دونها:
السادسة: و هي قولهم: صالح الحديث(3).
و هذا الذي نقلناه لبّ مقالهم، و إلا فلهم في ذلك خلاف و أقوال طوينا شرحها لعدم الفائدة فيها و ابتنائها على الخرافات(4).
ص: 256
فإنه من أقوى أمارات المدح بل الوثاقة و العدالة(1)، لأن من الممتنع عادة جعلهم (عليهم السّلام) غير العدل وكيلا، سيما إذا كان وكيلا على الزكوات و.. نحوها من حقوق اللّه تعالى، و قد صرح المولى الوحيد في ترجمة إبراهيم بن سلام نقلا عن الشيخ البهائي (قدس سره) بأن قولهم: وكيل من دون إضافته إلى أحد الأئمة (عليهم السّلام) أيضا يفيد ذلك، لأن من الاصطلاح المقرّر بين علماء الرجال من أصحابنا أنهم إذا قالوا فلان وكيل يريدون أنه وكيل أحدهم (عليهم السّلام)، فلا يحتمل كونه وكيل بني أمية، قال: و هذا مما لا يرتاب فيه من مارس كلامهم و عرف لسانهم، نعم من غيروه عن الوكالة و هم معروفون لا يعتمد عليهم(2).
ص: 258
[(1)ثم ان شيخنا البهائي ذكر أن اصطلاح علماء الرجال من أصحابنا جرى على أنهم اذا قالوا فلان وكيل و أطلقوا أرادوا به أنه وكيل لأحدهم (عليهم السّلام) قال: و هذا مما لا يرتاب فيه من مارس كلامهم، و عرف لسانهم. ثم أفاد أن الوكالة عنهم (عليهم السّلام) من أقوى أسباب الوثوق، لأنهم لا يجعلون الفاسق وكيلا. و قرّره المولى الوحيد (رحمه اللّه) على ذلك، ثم اعترض على نفسه بأن في الوكلاء عنهم (عليهم السّلام) جماعة مذمومين، فكيف تجعل الوكالة أمارة الوثاقة، ثم أجاب بأن ظاهر توكيلهم لهم هو حسن حال الوكلاء و الاعتماد عليهم و جلالتهم، بل وثاقتهم، إلا أن يثبت خلافه و تغيير و تبديل و خيانة، و المغيّرون معروفون.
و بالجملة فالأصل في الوكالة عنهم الثقة، بل ما فوقها، فيحتج بها عليها الى أن يثبت الخلاف(2).
و لقد أجاد (قدس سره) فيما أفاد، و يستفاد ما ذكره من كلمات غيره - أيضا - فلا وجه لما صدر من الشيخ عبد النبي الجزائري (رحمه اللّه) من منع دلالة اللفظة على العدالة(3)، ضرورة عدم
ص: 259
تعقل تسليط الإمام (عليه السّلام) غير العادل على حقوق اللّه، و جعله (عليه السّلام) واسطة بين عباد اللّه في امورهم الشرعية و بين نفسه، و لو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من إفادته المدح المعتد به الملحق للسند بالحسن، كما هو ظاهر](1).
فإنه يكشف عن جلالته، و كذا لو خصص الكتاب أو المجمع عليه بها كما اتفق كثيرا، و كذا الحال فيما ماثل التخصيص(2).
و دون ذلك أن يؤتى بروايته بإزاء روايتهما أو غيرها من الأدلة فتوجه و تجمع بينهما أو تطرح من غير جهة(3).
الدينية الاصولية و الفروعية، فإنه يدلّ على اهتمامه في امور الدين، و يكشف عن فضيلته، و يورث مدحه. و قد صرح جماعة منهم الشهيد
ص: 260
(رحمه اللّه) بإيجاب ذلك العمل بروايته ان لم يرد فيه طعن(1)، و عن المجلسي الأول في ترجمة علي بن الحسين السعدابادي أن الظاهر أنه لكثرة الرواية عدّ جماعة حديثه من الحسان(2).
و بالجملة فيظهر من كثير من التراجم أن كثرة الرواية من أسباب المدح و القوة و القبول(3).
ص: 261
و منها: كونه ممن يروى عنه أو كتابه جماعة من الأصحاب(1)،
فإنه من أمارات الاعتماد عليه. قال: بل بملاحظة اشتراطهم العدالة في الراوي يقوى كونه من أمارات العدالة،(2) سيما و أن يكون الراوي عنه كلا أو بعضا ممن يطعن على الرجال بروايتهم(3) عن المجاهيل و الضعفاء(4). و ما في بعض التراجم مثل: صالح بن الحكم(5) من تضعيفه مع ذكره ذلك لا يضرّ، إذ لعله ظهر ضعفه من الخارج(6)، و إن كان الجماعة معتمدين عليه. و التخلف في الأمارات الظنية غير عزيز(7).
ص: 262
قلت: جعل ذلك أمارة على العدالة محل تأمل، إلا أنه أمارة قوته و كونه معتمدا.
عدّه(1) من الأمارات. و فيه نظر ظاهر.
القبول من هذه العلة و نظيرهما البزنطي(1)، و قريب منهم علي بن الحسن الطاطري.
ص: 264
عنه، أو روايته عنهما. قال (رحمه اللّه): فإن كلا منهما أمارة التوثيق لما ذكر في ترجمتهما(1).
قلت: المذكور في ترجمة كل منهما أنه روى عن الثقات و رووا عنه(2)، و أنت خبير بعدم دلالة ذلك على ما رامه (قدس سره) لأن روايته عن الثقات و رواية الثقات عنه لا ينافي روايته عن الضعفاء و رواية الضعفاء عنه، و إنما كان يدلّ على التوثيق لو كانت العبارة أنه لم يرو إلا عن الثقات، و لم يرو عنه إلا الثقات، و ليس كذلك، فلا تذهل(3).
قال: فإنه مدح و أمارة للاعتماد(4) و أنت خبير بأن الرواية عن الثقات لا دلالة فيها على ما رامه. نعم لو قيل في حقه: لا يروي إلا عن الثقات دلّ على المدح.
عن
ص: 265
شخص. قال: فإنها من المرجحات، لما ذكر في ترجمتهم(1).
قلت: الموجود في ترجمته: أنه قل ما روى عن ضعيف و كان فطحيا، و لم يرو عن أبيه شيئا(2).. و دلالته على ما رام إثباته كما ترى، لأن قلّة روايته عن الضعيف تجتمع مع كون من نريد استعلام حاله ضعيفا، لأنهم لم يشهدوا بعدم روايته عن ضعيف، بل بقلّة روايته عن ضعيف، فلا تذهل.
[(3)و توهم إمكان الاستدلال للمطلوب بما ورد من الأمر بالأخذ بما رووا بنو فضال و ترك ما رأوا(4)، مدفوع، بأن الأخذ بما يرويه عبارة عن تصديقه في روايته، و أين ذلك و كيف هو من الدلالة على عدالة من رووا عنه شيئا أو صدقه؟ فهم مصدّقون في الأخبار بأن فلانا روى عن الصادق (عليه السّلام) كذا، و ذلك لا يستلزم بوجهه صدق فلان أيضا، هذا مضافا الى أنه ان تمّ لاقتضى كون رواية كل من بني فضال كذلك لا خصوص عليّ، و لم يلتزم بذلك أحد(5) كما لا يخفى].
ص: 266
فإنه أمارة الاعتماد عليه كما هو ظاهر(1). و قد اعترف بذلك المحقق (رحمه اللّه) في ترجمة السكوني(2)، و إذا كان مجرد كثرة الرواية عنه يوجب العمل بروايته بل و من شواهد الوثاقة، فما نحن فيه بطريق أولى.
و كذا رواية جماعة من الأصحاب عنه تكون من أماراتها على ما
ص: 267
ذكر، فهنا بطريق أولى [بل(1) قد ورد عنهم (عليهم السّلام) التنصيص على كشف كثرة الرواية عن علو قدر الرجل. ففي أول رجال الكشي عن حمدويه بن نصير الكشي قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن سنان عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: (اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنا)(2). و فيه أيضا عن إبراهيم بن محمد بن العباس الختلي قال: حدثنا أحمد بن إدريس القمي المعلم، قال: حدثني أحمد بن محمد بن يحيى بن عمران(3) قال: حدثني سليمان الخطابي قال: حدثني محمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن محمد بن حمران العجلي، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: (اعرفوا منازل الناس منّا على قدر رواياتهم عنّا)(4).
دلّ الخبران على كشف كثرة رواية الرجل عنهم (عليهم السّلام) عن قربه منهم معنى و تقرّبه عندهم، و كونه باحثا عن أحكام دينه الكاشف عن قوة ديانته.
ص: 268
ثم ان ظاهر الخبرين الكم، و هناك خبر ثالث رواه أيضا الكشي يدلّ على الكيف، و هو ما رواه عن محمد بن سعيد الكشي بن يزيد(1)، و أبي جعفر محمد بن أبي عوف النجاري(2) قالا: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن(3) حماد المروزي المحمودي، رفعه قال: قال الصادق (عليه السّلام): (اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا، فانا لا نعد الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدثا)(4)، فقيل له: أو يكون المؤمن محدثا؟ قال: (يكون مفهما، و المفهم محدث)(5).
ص: 269
بيان: حيث ورد في حق الأئمة (عليهم السّلام) أنهم محدثون(1) - أي يتحدثون مع الملك، أو يحدثهم اللّه سبحانه بصوت يخلقه - و زعم الراوي كون المراد بالمحدث في الشيعة ذلك. فاستغرب ذلك فأجابه (عليه السّلام) بأن المؤمن يكون مفهّما أي ملهما من جانب اللّه تعالى، و قوله: (المفهم محدث) يعني به أن الملهم منهم بمنزلة المحدث منه تعالى، و لذا أطلق عليه المحدث. و من هنا يعلم أن المحدث من له ملكة فهم الأحاديث لا مجرد رواية الحديث كما ارتكز في أذهان البسطاء.
و كيف كان فرواية الكيف لا تعارض روايتي الكم المزبورتين، إذ لا مانع من الأخذ بظاهر كل منهما، و جعل كثرة هذه الرواية مدحا للكشف عن اهتمامه في أحكام دينه، و حسن فهم الرواية مدحا آخر لكشفه عن عناية ربانية به.
ثم أنه هل يختص كون كثرة الرواية مدحا بما إذا روى عن الإمام (عليه السّلام) بغير واسطة، أو يشمل ما إذا روى بالواسطة؟ وجهان، أظهرهما الثاني، فإن الرواية عنهم (عليهم السّلام) و إن كان ظاهرا في كلمات علماء الرجال في الرواية عنهم (عليهم السّلام) بغير واسطة، و لذا يصرحون في حق من روى عنهم (عليهم السّلام) بواسطة أنه لم يرو عنهم (عليهم السّلام)، إلا أن ذلك في العرف العام الوارد عليه الأخبار يعمّ الرواية عنهم (عليهم السّلام)
ص: 270
بغير واسطة أو بواسطة.
لا يقال: إن قوله (عليه السّلام): (اعرفوا) خطاب للحاضرين، و هو قرينة على أن المراد الراوي من غير واسطة.
لانا نقول: الاستلزام ممنوع، لأن الرواة الموجودين في زمنهم (عليهم السّلام) كما كانوا يروون بغير واسطة فكذا كانوا يروون بواسطة، كما لا يخفى](1).
و خصوصا بملاحظة اشتراطهم العدالة، و خصوصا اذا كانوا ممن يطعن في الرواية عن المجاهيل و نظائرها(1).
و منها: اعتماد القميّين عليه أو روايتهم عنه(2)،
فإنه أمارة الاعتماد، بل الوثاقة في الرّواية، لأنهم كانوا يخدشون في الرّواة بأدنى شيء، فاعتمادهم عليه يكشف عن عدم الخدشة فيه، و يقرب من ذلك اعتماد ابن الغضائري عليه و روايته عنه(3).
و منها: أن يكون رواياته كلّها أو جلّها مقبولة أو سديدة(4)،
ص: 272
فإن ذلك أمارة كونه ممدوحا، بل معتمدا و موثّقا في الرّواية(1).
جهته(1)، فإن السّكوت عنه و التعرّض لغيره ربما يكشف عن عدم مقدوحيّته، بل ربّما يكشف عن مدحه و قوّته، بل وثاقته.
و منها: إكثار الكافي و الفقيه من الرّواية عنه(2)، فإنه - أيضا -
أخذ دليلا على قوّته، بل وثاقته كما لا يخفى على من راجع التّعليقة في محمد بن إسماعيل البندقي(3)، فلاحظ و تأمّل(4).
قال: و عندي أن هذه الرواية قوية غاية القوة، بل و أقوى من كثير من الصحاح، و ربّما يعدّ من الصحاح بناء على أنه يبعد أن لا يكون فيهم ثقة، و فيه تأمل(5).
قلت: وجه التأمل ظاهر، ضرورة كون المدار على الظن، و هو لا يحصل من مجرد الاستبعاد.
ص: 274
ثم أنه نقل عن المحقق الشيخ محمد (رحمه اللّه) أنه قال:
إذا قال ابن أبي عمير عن غير واحد عد روايته من الصحيح حتى عند من لم يعمل بمراسيله. و قال في المدارك: (لا يضر إرسالها، لأن في قوله: (غير واحد) إشعارا بثبوت مدلولها عنده)(1) و في تعليله تأمل فتأمل(2).
فإن علم أن فيهم ثقة فالظاهر صحة الرواية، لأن هذه الإضافة تفيد العموم، و إلا فإن علم أنه من مشايخ الإجازة، أو فيهم من جملتهم، فالظاهر - أيضا - صحتها. و قد عرفت الوجه، و كذا الحال فيما إذا كانوا أو كان فيهم من هو مثل شيخ الإجازة، و إلا فهي قوية غاية القوة مع احتمال الصحة لبعد الخلو عن الثقة. ثم قال:
و رواية حمدويه عن أشياخه من قبيل الأول، لأن من جملتهم العبيدي و هو ثقة(3)، و أيضا يروي عن الثقة و هو من جملة الشيوخ، فتدبر(4).
فإنه يكشف عن
ص: 275
حسن ذلك الشخص بل جلالته(1).
قلت: قد أوضحنا ذلك في خامس تنبيهات المسألة الخامسة(2)، فراجع.
و يسمى ثقة أو
ص: 276
ممدوحا، فإن ظاهرهم العمل به و البناء عليه(1). و قد يتأمل فيه بأنه لا دليل على حجية ظنّه بكون الواسطة هو من سماه، و ثبوت حجية الظن في الرجال لا يستلزم حجية الظن بالرجل أيضا، فتأمل.
قال (رحمه اللّه):
و في إفادته التوثيق المعتبر خلاف معروف، و حصول الظن منه ظاهر، و احتمال كونه في الواقع مقدوحا لا يمنع الظن فضلا عن احتمال كونه ممن ورد فيه قدح كما هو الحال في سائر التوثيقات(2).
قلت: قد مرت الإشارة الى الخلاف في إفادته التوثيق في أول تنبيهات المسألة الخامسة، فراجع و تدبر.
ثم إنه قال أيضا - أعني الوحيد (رحمه اللّه) -: و ربما يقال:
الأصل تحصيل العلم و لما تعذّر اكتفى بالظن الأقرب، و هو الحاصل بعد البحث. و يمكن أن يقال مع تعذّر البحث يكتفى بالظن كما هو الحال في التوثيقات و سائر الأدلة و الأمارات الاجتهادية، و ما دلّ على ذلك دلّ على هذا، و مراتب الظن متفاوتة جدا، و كون المعتبر هو أقوى مراتبه لم يقلّ به أحد، مع أنه على هذا لا يكاد يوجد حديث صحيح،
ص: 277
بل و لا يوجد. و تخصيص خصوص ما اعتبر من الحد بأن هذا الحد معتبر دون ما هو أدون؛ انى لك بإثباته؟ بل ربما يكون الظن الحاصل في بعض التوثيقات بهذا الحد، بل و أدون، فتأمل)(1).
قلت: لعل وجه التأمل أنه لو فرض تعيين حد له يكون الحاصل في بعض التوثيقات الذي هو أدون من الحد غير معتبر. نعم أصل التحديد غير ثابت، و مقتضى دليل الانسداد المتقدم تقريره في كفاية توثيق الواحد هو حجية كل ظن في الرجال، فراجع و تدبر(2).
حمزة، و عثمان بن عيسى من غير العامة(1)، فإن جميع هؤلاء نقل الشيخ عمل الطائفة بما رووه(2)، و ربما ادعى بعضهم ثبوت الموثقية من نقل الشيخ هذا، و هو في محله، بل ربما جعل ذلك من الشيخ (رحمه اللّه) شهادة بالموثقية، و هو غير بعيد.
و حكى المولى الوحيد(3) (قدس سره) عن المحقق الشيخ محمد إنكار كون الإجماع على العمل بروايته توثيقا، ثم نفى البعد عن كونه توثيقا على قياس ما ذكر في قولهم: أجمعت العصابة.
ص: 279
قلت: ان لم يكن ذلك توثيقا لهم في أنفسهم باعتبار عدم إمكان إجماعهم على العمل برواية غير الثقة، سيما مع اختلاف مشاربهم، و اعتبار جمع منهم العدالة، فلا أقل من كون ذلك توثيقا لهم في خصوص الرواية، و ذلك كاف على الأظهر(1).
ثم انه حكى المولى عن المحقق الشيخ محمد (رحمه اللّه) أنه قال: قال شيخنا أبو جعفر (رحمه اللّه) في غير موضع من كتبه:
إن الإمامية مجمعة على العمل برواية السكوني، و عمار و.. من ماثلهما من الثقات، و أظن أن توثيق السكوني أخذ من قول الشيخ (رحمه اللّه) و من ماثلهما من الثقات، و احتمال أن يريد من ماثلهما من مخالفي(2) الثقات، لأن كون السكوني ثقة ممكن و ان بعد، إلا أن عدم توثيقه في الرجال يؤيده ثم قال - أي المولى -: و لا يخفى ما فيه، على أنه قال في العدة: يجوز العمل برواية الواقفية و الفطحية
ص: 280
إذا كانوا ثقات في النقل و ان كانوا مخطئين في الاعتقاد، و إذا علم من اعتقادهم تمسكهم بالدين و تحرزهم عن الكذب و وضع الأحاديث، و هذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمة (عليهم السّلام) نحو عبد اللّه بن بكير، و سماعة بن مهران، و نحو بني فضال من المتأخرين، و بني سماعة و من شاكلهم.. على إنا نقول الظن الحاصل من عمل الطائفة أقوى من الموثقية بمراتب شتى، و لا أقل من التساوي، و كون العمل برواية الموثق من جهة عدالته محل تأمل)(1).
قال: فإنه حكم بعض بتوثيقه من هذه الجهة، و منهم المصنف (رحمه اللّه) في ترجمة: الحسن بن متيل، و إبراهيم بن مهزيار، و أحمد بن عبد الواحد و... غيرهم(2).
و فيه: إن العلامة (رحمه اللّه) لم يقصر إطلاق الصحة في الثقات إلا أن يقال: إطلاقه إياها على غيرها نادر، و هو لا يضر، لعدم منع ذلك ظهوره فيما ذكرنا، سيما بعد ملاحظة طريقته، و جعل الصحة اصطلاحا فيها.
ص: 281
لكن لا يخفى أن حكمه بصحة حديثه دفعة أو دفعتين مثلا غير ظاهر في توثيقه، بل ظاهر في خلافه، بملاحظة عدم توثيقه و عدم قصره.
نعم لو كان ممن أكثر تصحيح حديثه مثل: أحمد بن محمد بن يحيى، و أحمد بن عبد الواحد و.. نظائرهما فلا يبعد ظهوره في التوثيق(1)، و احتمال كون تصحيحه كذلك من أنهم من مشايخ الإجازة فلا يضر مجهوليتهم، أو لظنه بوثاقتهم فليس من باب الشهادة، فيه ما لا يخفى. على أن بناءه التصحيح على كونهم من مشايخ الإجازة لا وجه له، ضرورة أن مشايخ الإجازة كثيرون، فلا وجه لقصر التصحيح على بعض دون بعض.
نعم الاعتراض بأن كثيرا من مشايخ الاجازة كانوا فاسدي العقيدة، مندفع بأن ذلك ينافي العدالة بالمعنى الأخص لا بالمعنى الأعم، و خصوصية الاخص تثبت بانضمام ظهور كونه اماميا من الخارج، فتأمل.
على أنه ربما يكون ظاهر شيخوخة الاجازة حسن العقيدة الا أن يظهر الخلاف، فتأمل.
و قال جمع أن مشايخ الإجازة لا يضر مجهوليتهم، لأن حديثهم مأخوذ عن الأصول المعلومة، و ذكرهم لمجرد الاتصال أو للتبرك.
و فيه: إن ذلك غير ظاهر، مضافا الى عدم انحصار ما ذكر في خصوص تلك الجماعة، فكم معروف منهم بالجلالة و الحسن لم
ص: 282
يصححوا حديثه فضلا عن المجهول؟ على أنه لا وجه حينئذ لتضعيف أحاديث سهل بن زياد و.. أمثاله من الضعفاء ممن حاله في الوساطة للكتب حال تلك الجماعة، مشايخ الإجازة كانوا أم لا، فلا وجه للتخصيص بمشايخ الإجازة، و لا من بينهم بتلك الجماعة.
و دعوى أن غيرهم ربما يروي من غير تلك الأصول و الجماعة لا يروون عنه أصلا و كان ذلك ظاهرا على العلامة، بل و من تأخر عنه أيضا الى حد لم يتحقق خلاف و لا تأمل منهم، و إن كان في أمثال زماننا خفيا لعله جزاف، بل خروج عن الانصاف، على أن النقل عنها غير معلوم اغناؤه عن التعديل لعدم معلومية كل واحد من أحاديثنا بالخصوص، و كذا بالكيفية المودعة. و القدماء كانوا لا يروونها إلا بالإجازة أو القراءة و.. أمثالهما، و يلاحظون الواسطة غالبا، حتى في كتب الحسين بن سعيد الذي رواية تلك الجماعة جلّها عنه.. الى أن قال: و ربما يقال في وجه الحكم بالصحة إن الاتفاق على الحكم بها دليل على الوثاقة(1).
و فيه: أن الظاهر إن منشأ الاتفاق أحد الأمور المذكورة(2).
ص: 283
فإن المظنون تحققها فيه و إن لم يصل الحديث الى حد الصحة حتى يكون حجة في نفسه عند المتأخرين، و الظن نافع في مقام الاعتداد و الاكتفاء به، و إذا تأيد مثل هذا الحديث باعتداد المشايخ و نقلهم إياه في مقام بيان حال الرجل و عدم إظهار تأمل فيه الظاهر في اعتمادهم عليه قوي الظن، و ربما يحكمون بثبوتها بمثله(1)كما في تراجم كثيرة، و إذا تأيد بمؤيد معتد به يحكمون بها البتة.
ص: 284
المذكورة، و هذا أضعف من السابق، و قد يحصل الظن به بسبب اعتداد المشايخ و.. غيره و قد اعتبروا مثل هذا في كثير من التراجم(1).
و منها: أن يكون الراوي من آل أبي جهم(2)،
لما ذكره النجاشي و.. غيره في ترجمة: منذر بن محمد بن المنذر بن سعيد بن أبي الجهم من أنه: ثقة من أصحابنا من بيت جليل(3). و في ترجمة: سعيد بن أبي الجهم من أنّ: آل أبي الجهم بيت كبير بالكوفة(4). فإن مدح البيت مدح لرجاله لا محالة(5).
و منها: أن يكون الراوي من آل أبي شعبة(6)،
لما ذكره النجاشي و.. غيره - أيضا - في ترجمة: عبيد اللّه بن عليّ بن أبي
ص: 285
شعبة الحلبي من أنّ: آل أبي شعبة(1) بيت مذكور من أصحابنا(2). و روى جدهم أبو شعبة عن الحسن و الحسين (عليهما السّلام)، و كانوا جميعهم ثقات مرجوعا الى ما يقولون.
و منها: كون الرّاوي من بيت آل نعيم الأزدي(3)،
لما ذكره النجاشي في ترجمة: بكر بن محمد الأزدي(4) من أنه: وجه في هذه الطّائفة، من بيت جليل بالكوفة من آل نعيم(5). [(6)و قد بسط العلامة الطباطبائي (قدس سره) في أول كتابه في الرجال الكلام في جملة من أهل البيوت تحت عنوان الآل و بني، و بالنظر الى فوائده نأمر بطبعه عينا بعد هذه الرسالة إن شاء اللّه تعالى(7)].
و منها: أن يذكره الكشّي و لا يطعن عليه(8)،
فإنه ربّما جعله
ص: 286
بعضهم سبب قبول روايته، أ لا ترى الى قول الشهيد (رحمه اللّه) في مبحث الجمعة من الذّكرى: أنّ وجود الحكم بن مسكين في السّند غير قادح و لا موجب للضّعف، لأنّ الكشّي (رحمه اللّه) ذكره و لم يطعن عليه(1)، فتأمّل.
فقد قال المحقّق (رحمه اللّه): إنه يقبل و ان لم يصفه بالعدالة إذا لم يصفه بالفسوق، لأنّ اخباره بمذهبه شهادة بأنّه من أهل الأمانة، و لم يعلم منه الفسق المانع من القبول، فإن قال: عن بعض أصحابنا لم يقبل، لإمكان أن يعني نسبته الى الرّواة و أهل العلم، فيكون البحث فيه كالمجهول(2). و أنت خبير بأنّ ما ذكره غير
ص: 287
مستقيم، لأنّ السّكوت عن تفسيقه أعمّ من التّوثيق، مضافا الى عدم صراحة بعض أصحابنا في كون المقول فيه إماميا كما مرّ، فتأمّل(1).
الأول: إنه قال الوحيد (رحمه اللّه) - بعد إيراد ما ذكر من الأمارات -: اعلم أن الأمارات و القرائن كثيرة، و من القرائن لحجية الخبر وقوع الاتفاق على العمل به، أو على الفتوى به، أو كونه مشهورا بحسب الرواية أو الفتوى، أو مقبولا مثل مقبولة عمر بن حنظلة، أو موافقا للكتاب أو السنة أو الإجماع أو حكم العقل أو التجربة، مثل ما ورد في خواص الآيات و الأعمال و الأدعية التي خاصيتها مجربة، مثل قراءة آخر الكهف للانتباه في الساعة التي تراد،
ص: 288
و.. غير ذلك، أو يكون في متنه ما يشهد بكونه من الأئمة (عليهم السّلام) مثل خطب نهج البلاغة و.. نظائرها و الصحيفة السجادية، و دعاء أبي حمزة، و الزيارة الجامعة الكبيرة.. الى غير ذلك، و مثل كونه كثيرا مستفيضا، أو عالي السند مثل الروايات التي رواها الكليني و ابن الوليد و الصفار و.. أمثالهم، بل و الصدوق و.. أمثاله أيضا عن القائم المنتظر - عجل اللّه تعالى فرجه - و العسكري و التقي و النقي (عليهم السّلام).
و بالجملة ينبغي للمجتهد التنبّه لنظائر ما نبّهنا عليه، و الهداية من اللّه تعالى(1).
الثاني: إنه لا يخفى عليك أن المدار فيما ذكرناه في هذا المقام و سابقه من ألفاظ التوثيق و المدح و أماراتها إنما هو على الظن الفعلي، فما لم يفد منها الظن الفعلي لا عبرة به، و ما أفاده كان معتبرا و إن كان من أضعف الألفاظ دلالة، فقد تكون كلمة (مرضي) من شخص أدل على الوثاقة من قول آخر (ثقة) بملاحظة مسامحة الثاني و نهاية دقّة الأول، أ لا ترى الى وقوع التأمل في توثيقات جماعة حتى عدوه من إمارات المدح دون التوثيق، فمن تلك الجماعة ابن فضال و ابن عقدة
ص: 289
و.. من ماثلهما في عدم كونه إماميا، فإنه قد تأمل جمع في توثيقاتهم نظرا الى عدم كونهم من الإمامية، و هو بناء على كون اعتبار التزكية من باب الشهادة لا بأس به، و أما على المشهور المنصور من كونها من باب الوثوق و الظن الذي ثبتت حجيته في الرجال فلا وجه له.
قال المولى الوحيد (رحمه اللّه): و أما توثيق ابن نمير و.. من ماثله فلا يبعد حصول وثاقة منه، بعد ملاحظة اعتداد المشايخ به و اعتمادهم، سيما إذا ظهر تشيع من وثّقوه كما هو في كثير من التراجم، و خصوصا إذا اعترف الموثّق نفسه بتشيعه.
و منهم: العلامة و ابن طاوس، فإن المحقق الشيخ محمدا توقف في توثيقاته، و توقف صاحب المعالم في توثيقاتهما و توثيق الشهيد، و هو كما ترى، و لذا اعترض عليهما المجلسي الأول بأن العادل أخبر بالعدالة أو شهد بها فلا بد من القبول(1).
ص: 290
و دعوى قصرهم توثيقهم في توثيقات القدماء، مدفوعة بأنه غير ظاهر، بل ظاهر جملة من التراجم خلافه، مع أن ضرر القصر غير ظاهر، بل لا شبهة في إرادتهم بالثقة العدل. نعم لو قالوا في حق شخص أنه صحيح لم يفد في إثبات الاصطلاح المتأخر، لأن الصحة عندهم أعم من الصحة عند المتأخرين، نعم لو قامت أمارة على توهم منهم في موضع في أصل التوثيق لزم التوقف، و أما حيث لم يظهر التوهم فالأقوى الاعتبار.
و منهم: المفيد (رحمه اللّه) في الإرشاد، فإنه(1) تأمل المولى الوحيد في استفادة العدالة من توثيقاته فيه قال: نعم يستفاد منها القوة و الاعتماد، و ربما تأمل المحقق الشيخ محمد (رحمه اللّه) أيضا في توثيقاته لتحققها بالنسبة الى جماعة اختص بهم من دون كتب الرجال، بل وقع التصريح بضعفهم من غيره على وجه يقرب الاتفاق، و لعل مراده من التوثيق أمر آخر(2).
و هو كما ترى، فإن توثيقه من ضعفوه أو توقفوا في حاله لا يوجب وهن توثيقاته، غايته عدم الأخذ بتوثيقه عند تحقق اشتباهه،
ص: 291
فإن الخطأ من غير المعصوم (عليهم السّلام) غير عزيز(1).
ص: 292
قولهم: فاسق، و مثله شارب الخمر و النبيذ، و كذاب، و وضاع للحديث من قبل نفسه، و يختلق الحديث كذبا(2)، و لا شبهة في كون كل من هذه الألفاظ دالا على الجرح و الذم(3).
و منها:
قولهم: ليس بعادل، و ليس بصادق، و ليس بمرضي، و ليس بمشكور و.. نحو ذلك مما تضمن نفي أحد الفاظ المدح المزبورة،
ص: 293
فإن نفي المدح ذم، بل بعضها نص في الجرح(1).
و منها:
قولهم: غال و مثله ناصب و فاسد العقيدة(2) و.. نحوها، مما يدلّ على فساد الاعتقاد.
و منها:
قولهم: ملعون(3) و مثله خبيث و رجس و.. نحوها، فإن كلا منها ذم أكيد.
و منها:
ص: 294
و ساقط(1)، و متروك(2)، و ليس بشيء(3)، و لا شيء(4)، و لا يعتد به، و لا يعتنى به، و.. نحو ذلك(5)، فإن كلا منها يدلّ على عدم الاعتبار بل الذم.
و منها:
قولهم: ضعيف، و لا ريب في دلالته على الذم و القدح، بل عدّه جمع منهم ثاني الشهيدين (رحمهما اللّه) من ألفاظ الجرح (6).
ص: 295
و قال بعض الأجلة(1): إنه لا ريب في إفادته سقوط الرواية و ضعفها(2)، و إن لم يكن في الشدة مثل أكثر ما سبق، فيتميز عند التعارض. و أما إفادته القدح في نفس الرجل كالألفاظ السابقة فلعله كذلك حيث أطلق و لم يكن قرينة كتصريح أو غيره على الخلاف، و لعله عليه يبتني ما حكاه المولى الوحيد (رحمه اللّه) عن الأكثر من أنهم يفهمون منه القدح في نفس الرجل و يحكمون به بسببه(3)، لكنه قد تأمل هو (رحمه اللّه) في ذلك نظرا إلى أعمية الضعف عند القدماء من الفسق، لأن أسباب الضعف عندهم كثيرة، فإنهم أطلقوه على أشخاص لمجرد قلّة الحفظ أو سوء الضبط أو الرواية من غير إجازة، أو الرواية عمن لم يلقه، أو الرواية لما ألفاظه مضطربة، أو الرواية
ص: 296
عن الضعفاء و المجاهيل، أو رواية راوي فاسد العقيدة عنه، أو أبرز الرواية التي ظاهرها الغلو أو التفويض أو الجبر أو التشبيه أو.. نحو ذلك مما لا يوجب الفسق، فكما أن تصحيحهم غير مقصور على العدالة، فكذا تضعيفهم غير مقصور على الفسق، كما لا يخفى على من تتبع و تأمل(1). و قد يعترض عليه بأن فهم الأكثر منه القدح في نفس الرجل إنما هو عند الإطلاق، و الموارد التي أشار إليها مما قامت فيه قرينة على الخلاف، و لا مانع من استفادة الجرح منه عند الإطلاق
ص: 297
و عدم القرينة(1).
و منها:
الكاف -(1) و لين الحديث(2) - أي يتساهل في روايته من(3) غير الثقة - و ساقط الحديث، و متروك الحديث(4)، و ليس بنقي الحديث(5)، و يعرف حديثه و ينكر(6)، و غمز عليه في حديثه، و واهي الحديث - اسم فاعل من وهى أي ضعف في الغاية، تقول: و هى الحائط إذا ضعف و هم بالسقوط، و هو كناية عن شدة ضعفه و سقوط اعتبار حديثه -(7)، و كذا ليس بمرضي الحديث، و.. أمثال ذلك(8)، و لا شبهة في إفادة كل منها الذم في حديثه،
ص: 299
و في دلالتها على القدح في العدالة وجهان: من أن مقتضى مصيرهم الى استفادة وثاقة الرجل من قولهم: ثقة في الحديث هو القدح في وثاقته بما ذكر، فكما أنه يبعد الوثوق بأحاديث رجل ما لم يكن ثقة في نفسه، فكذا يبعد الحكم بأمثال ما ذكر ما لم يكن ضعيفا في نفسه.
و من أنه لا ملازمة بين ما ذكر و بين فسق الرجل أو ضعفه في نفسه، و ظاهر تقييد الضعف و نحوه بالحديث هو عدمه في نفسه، و الفرق بين ثقة في الحديث و ضعيف في الحديث ظاهر، ضرورة كون الوثاقة منشأ الوثوق بالرّواية، و ضعف الحديث غير ملازم للفسق.
و من هنا استظهر بعض الأجلّة الوجه الثاني، بل زاد أنه لم يذهب الى الأول ذاهب(1) و أن كان فيه إن الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في البداية عدّ مضطرب الحديث و منكره و لينه و ساقطه من ألفاظ الجرح(2)، و كفى به ذاهبا الى الأول.
و فرّق المولى الوحيد(3) بين قولهم: ضعيف الحديث و بين ما بعده من العبارات المزبورة، حيث جزم بعد التأمّل في دلالة ضعيف
ص: 300
على القدح بكون ضعيف الحديث أدون منه دلالة، ثم جزم في بقيّة العبارات بعدم الظّهور في القدح في العدالة، و عدم كونها من أسباب الجرح و ضعف الحديث على رواية المتأخرين، و إنما هي أسباب مرجوحية الرواية تعتبر في مقام الترجيح، و بينها تفاوت في المرجوحية، فمضطرب الحديث أشد بالقياس الى الثاني و..
هكذا(1).
ثم إنّ ما ذكر إنما هو فيما إذا أضيفت الألفاظ المزبورة الى الحديث، و أما مع عدم الإضافة كقولهم: متروك، و ساقط، و واهي، و ليس بمرضيّ و.. نحو ذلك فلا ينبغي التأمّل في إفادتها ذمّا في الراوي نفسه، بل عدّها في البداية من ألفاظ الجرح(2).
و منها:
قولهم: ليس بذلك الثّقة أو العدل أو الوصف المعتبر في ذلك، عدّه في البداية من ألفاظ الجرح(3)، و حكى الوحيد عن جده المجلسي الأول عدّ قولهم: ليس بذلك؛ ذمّا، ثم قال: و لا يخلو من تأمّل، لاحتمال أن يراد أنه ليس بحيث يوثق به وثوقا تامّا، و إن كان فيه نوع من وثوق من قبيل قولهم: ليس بذلك الثقة، و لعل هذا هو
ص: 301
الظاهر، فيشعر بنوع مدح، فتأمّل(1).
و الإنصاف أن ما في البداية و ما ذكره في طرفي الإفراط و التّفريط، و إن الأظهر كون ليس بذلك ظاهرا في الذّم غير دال على الجرح، و مجرد الاحتمال الّذي ذكره لا ينافي ظهور اللفظ في الذّم، و أما قولهم ليس بذلك الثّقة و.. نحوه فلا يخلو من إشعار بمدح ما، فتدبّر(2).
و منها:
عصره - أيضا - ظاهر في القدح، لظهوره في فساد العقيدة، ثم قال:
و فيه نظر، بل الظاهر أن المراد بأمثال هذين اللفظين من لا يبالي عمّن يروي و عمّن(1) يأخذ، يجمع(2) بين الغث و السّمين، و العاطل و الثمين، و ليس هذا طعنا في الرجل، ثم قال: و لو كان المراد فاسد العقيدة، كيف يقول سديد الدين محمود الحمصي(3) أن ابن إدريس مخلّط؟ و كيف يقول الشيخ (رحمه اللّه) في باب من لم يرو عنهم (عليهم السّلام) أنّ عليّ بن أحمد العقيقي مخلّط(4)؟ مع عدم تأمّل من أحد في كونه إماميّا و(5) في: النجاشي في محمد بن جعفر بن أحمد بن بطّة(6)، بعد اعترافه بكونه كثير(7) المنزلة بقم، كثير الأدب و العلم و الفضل قال: كان يتساهل في الحديث، و يعلّق الأسانيد
ص: 303
بالإجازات. و في فهرست: ما رواه غلط كثير، قال ابن الوليد كان ضعيفا مختلطا فيما يسنده(1)، فتدبّر. و قوله: في جابر بن يزيد أنه كان في نفسه مختلطا(2)، و يؤيد ما قلناه، لأن الكلمة إذا كانت تدلّ بنفسها على ذلك لما زاد قبلها كلمة بنفسه لهذا، مع أن تشيّع الرجل في الظهور كالنور على الطّور. و في ترجمة: محمد بن وهبان الدّبيلي:
ثقة من أصحابنا واضح الرّواية قليل التّخليط(3)، فلاحظ و تدبّر، فإنه ينادي بما قلناه و صريح فيما فهمناه، و في محمد بن أرومة(4) في النجاشي: كتبه صحاح إلاّ كتابا ينسب إليه من ترجمة(5) تفسير الباطن، فإنّه مختلط(6) و نحوه في الفهرست(7).
فإن قلت: الأصل ما قلناه، الى أن يظهر الخلاف فلا خلاف.
قلت: اقلب تصب، لأن الكلمتين المذكورتين مأخوذتان من
ص: 304
الخلط و هو الخبط - أي المزج - و الأصل بقاؤهما على معناهما الأصلي الى أن تتحقّق حقيقة ثانية، فتدبر(1). و ما ذكره لا بأس به.
و منها:
قولهم: مرتفع القول، جعله في البداية من ألفاظ الجرح، و فسّره بأنه لا يقبل قوله و لا يعتمد عليه(2)، و لم أفهم الوجه في هذا التفسير و لا في جعله من أسباب الجرح، فإن عدم قبول قوله قد يكون لجهات اخر غير الفسق، و العام لا يدل على الخاص، فلا يكون من ألفاظ الجرح، بل الذم خاصة، إلا أن يريد بالجرح مطلق الذم، كما لعله غير بعيد بملاحظة بعض آخر من الألفاظ التي جعلها من أسباب الجرح، و إن كان إطلاق الجرح على مطلق الذم خلاف الاصطلاح، و خلاف جعله في صدر العنوان للجرح مقابل التعديل، و الذي أظن أن المراد بقولهم مرتفع القول أنه من أهل الارتفاع و الغلو(3) فيكون
ص: 305
ذلك جرحا حينئذ لذلك، فتأمل.
و منها:
كثرة رواية المذمومين عنه، أو ادعاؤهم كونه منهم.
و هذا كسابقه في عدم الدلالة على الذم، بل أضعف من سابقه، لأن الرواية عن الضعيف تحت طوعه دون رواية المذموم عنه، فتأمل.
و منها:
أن يروي عن الأئمة (عليهم السّلام) على وجه يظهر منه أخذهم (عليهم السّلام) رواة لا حججا، كأن يقول: عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عن علي (عليه السّلام) أو عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلّم). قال المولى الوحيد (رحمه اللّه):.. فإنه مظنة عدم كونه من الشيعة، إلا أن يظهر من القرائن كونه منهم، مثل أن يكون ما رواه موافقا لمذهبهم و مخالفا لمذهب غيرهم، أو أنه يكثر من الرواية عنهم غاية الإكثار، أو أن غالب رواياته يفتون بها و يرجحونها على ما رواه الشيعة أو.. غير ذلك، فيحمل كيفية روايته على التقية، أو تصحيح مضمونها عند المخالفين و(1) ترويجه فيهم سيما المستضعفين و(2) غير الناصبين منهم، أو تأليفا لقلوبهم، أو استعطافا لهم الى التشيع، أو.. غير ذلك(1).
ص: 308
قلت: مجرد كيفية الرواية لا دلالة فيه على كونه من غير الشيعة بوجه، فكان الأولى جعل الأصل عدم الدلالة، و ذكر ضد الشواهد المذكورة شواهد على الدلالة، بحيث تفيد بانضمامها عدم كونه شيعيا، و لعله لذا أمر في ذيل كلامه بالتأمل.
و منها:
كونه كاتب الخليفة أو الوالي أو من عماله، فإن ظاهره الذم كما اعترف به العلامة في ترجمة: حذيفة(1)، حيث أنه قيل في حقه إنه كان واليا من قبل بني أمية، فقال العلامة (رحمه اللّه): إنه يبعد انفكاكه عن القبيح(2). و يؤيد ذلك ما رواه في أحمد بن عبد اللّه الكرخي(3) من أنه: كان كاتب إسحاق بن إبراهيم فتاب، و أقبل على تصنيف الكتب(4) فإن التوبة لا تكون إلا عن ذنب. نعم يرفع
ص: 309
اليد عن الظاهر المذكور بورود المدح و التعديل فيه كما في علي بن يقطين(1) و.. نحوه. و قال المولى الوحيد: إنا لم نر من المشهور التأمل من هذه الجهة كما في يعقوب بن يزيد، و حذيفة بن منصور و..
غيرهما. و لعله لعدم مقاومتهما(2) التوثيق المنصوص أو المدح المنافي باحتمال كونها باذنهم (عليهم السّلام) أو تقية و حفظا لأنفسهم أو غيرهم، أو اعتقادهم الإباحة أو.. غير ذلك من الوجوه الصحيحة.. الى أن قال: و بالجملة، تحققها منهم على الوجه الفاسد بحيث لا تأمل في فساده و لا يقبل الاجتهاد في تصحيحه بأن تكون في اعتقادهم صحيحة و إن أخطئوا في اجتهادهم غير معلوم، مع أن الأصل في أفعال المسلمين الصحة. و ورد: كذّب سمعك و بصرك ما تجد إليه سبيلا، و أمثاله كثيرة، و أيضا أنهم عليهم السّلام أبقوهم على حالهم و أقرّوا لهم ظاهرا مع أنهم كانوا متدينين بأمرهم (عليهم السّلام) مطيعين لهم و يصلون الى خدمتهم، و يسألونهم عن أحوال أفعالهم و.. غيرها. و ربما كانوا (عليهم السّلام) ينهون بعضهم فينتهي.. الى غير ذلك من أمثال ما ذكر، بل ربما ظهر مما ذكر أن القدح بأمثالها مشكل و إن لم يصادمها التوثيق و المدح، فتأمل(3).
ص: 310
قلت: لعل وجه التأمل أن ظاهر الفعل القدح ما لم تقم القرائن الصارفة، فما لم يصادمه التوثيق و المدح ينبغي عدّه قادحا، كما بنى على ذلك بعض من تأخر عنه.
[(1)و منها:
كون الرجل من بني أمية، فإنه من أسباب الذم، و لذا توقف بعضهم في رواية سعد الخير مع دلالة الأخبار على جلالته و علو شأنه، و جعل منشأ التوقف و الإشكال أنه قد تواتر عنهم (عليهم السّلام) لعن بني أمية قاطبة كما في زيارة عاشوراء المقطوع أنها منهم (عليهم السّلام). و ما استفاض عنهم (عليهم السّلام) من أن بني أمية يؤاخذون بأفعال آبائهم لأنهم يرضون بها، و ما رواه في الصافي(2)عن الاحتجاج عن الحسن بن علي (عليهما السّلام) في حديث قال لمروان بن الحكم: أما أنت يا مروان، فلست أنا سببتك و لا سببت أباك(3)، و لكن اللّه(4) لعنك و لعن أباك و أهل بيتك و ذريتك و ما خرج من صلب أبيك الى يوم القيامة على لسان نبيه محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلّم). و اللّه يا مروان! ما تنكر أنت و لا أحد ممن حضر
ص: 311
هذه اللعنة من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) لك و لأبيك من قبلك، و ما زادك اللّه(1) بما خوفك إلا طغيانا كبيرا.(2) الحديث.
و ألطف منه تعميم كلام اللّه المجيد و الشجرة الملعونة في القرآن(3)، فإنه روى الخاصة و العامة مستفيضا أنها في بني أمية(4)، فهذا التعميم مع أنه متواتر النقل محفوف بالقرائن على إرادة التعميم، فإن رمت تخصيصه بما ورد في حق سعد و.. نحوه كان ذلك هادما لأساس جواز تعميم اللعن. و قد ورد التعبد به، بل وجوبه، فلو كان يجوز ذلك لحرم تعميمه و إطلاقه، فكان يجب تقييده، مع أن الذي ورد فيه زيادة على ذلك تأكيده كما في زيارة عاشوراء ب «قاطبة»، ثم قال البعض:
فإن قلت: قد ورد الذم و المدح لطوائف و أهل قبائل و بلدان على ذلك النحو، كما ورد أن أهل أصفهان لا يكون فيهم خمس
ص: 312
خصال: الغيرة، و السماحة، و الشجاعة، و الكرم، و حبنا أهل البيت (عليهم السّلام)(1). و مثله: في مدح أهل مصر، و الظاهر من أمثال هذه الإطلاقات هو الأغلب من أولئك، لأنا نجد في بعض الأفراد على خلاف ما ورد، و لا سيما أهل مصر، فإنه لا يبعد أن يقال انقلب المدح الى الذم.
قلت: لا يبعد ذلك في أمثال هذه الخطابات، و لكن في خصوص الشجرة الملعونة حيث تأكدت العمومات و تعبدنا اللّه بلعنهم وجوبا، و لا يتمّ هذا التعبد إلا بالتعميم الحقيقي، و متى قام احتمال التخصيص و لو بفرد امتنع التعبد قطعا، ففرق بين الأمرين، فلذلك لا يجوز اللعن و الذم فيما ورد من غير الشجرة. و يؤيده احتجاج أبي ذر بإطلاق قول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا، و عباده خولا، و دينه دخلا(2)، على ذم عثمان بن عفان، فلو كان التخصيص محتملا لما
ص: 313
صح الاستدلال. و يؤكده استدلال الحسن (عليه السّلام) على ذم مروان بن الحكم بعموم رواية الاحتجاج، على أن الظاهر من سياق الحديث التعميم كما لا يخفى.
و أما تأويل تلك الآية و الأخبار بأن المراد ببني أمية جميع و الجهنميين من أهل الإسلام سواء كانوا من نسل أو غيرهم، فمردود، بأن ذلك ان تمّ يكون شاهدا للتعميم لغيرهم من حذوهم، و لا يوجب التخصيص بغير الثقة العدل منهم.
و الاستشهاد للتخصيص بكثرة الأخبار بمدح علي بن يقطين مع كونه أمويا مردود، بعدم نطق أحد بهذا النسب لابن يقطين، و لو ثبت أمكن كون نسبته الى بني أمية لتبني واحد منهم إياه، لا لكونه من نسلهم حقيقة، و كذا الحال في كون سعد الخير من ولد عمر بن عبد العزيز، و قد كان التبني دأبا في الجاهلية و الإسلام كما ذكرنا شرحه في ترجمة: زيد بن حارثة الكلبي(1). و لقد تبنى النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) زيدا كما في قوله تعالى وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ (2)مع أنه عمه أو زوج أمه، سمي بالأب لتبنيه إياه. فظهر من ذلك كله أن كون الرجل من بني أمية من أسباب الذم، إلا أنه ما دام احتمال التبني الذي كان شائعا قائما لا يجرح العدل به.
ص: 314
هذا ثم لا يخفى عليك أن ما ذكرناه على فرض تماميته لا يتم في كل من لقّب بالأموي ما لم يعلم انتسابه الى بني أمية المعروفين، ضرورة أن الأموي - بفتح الهمزة و الميم - نسبة الى أمية بن نخالة(1) بن مازن، - و بضم الهمزة و فتح الميم - نسبة الى أمية بن عبد بن شمس ابن مناف، كما قاله السمعاني(2)، و المذموم إنما هو المنتسب الى أن الموسوم بالأمية الأكبر دون الأول المدعو بأمية الأصغر.
و قد عثرت بعد حين على ما يهدم أساس ما ذكرناه، و هو ما رواه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في كتاب الاختصاص بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، قال: دخل سعد - و كان أبو جعفر (عليه السّلام) يسميه سعد الخير و هو من ولد عبد العزيز بن مروان - على أبي جعفر (عليه السّلام) فبينا ينشج كما تنشج النساء، فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): ما يبكيك يا سعد؟ قال: و كيف لا أبكي و أنا من الشجرة الملعونة في القرآن؟ فقال (عليه السّلام): لست منهم أموي، أنت(3) منّا أهل البيت (عليهم السّلام) أ ما سمعت قوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي )(4). فإنه يدلّ على أن المدار على الإيمان و التقوى، و هو الذي يساعد عليه أصول المذهب و قواعد العدل و الأخبار و الآيات الكثيرة، حيث ترى نفي الولاية عن ابن نوح
ص: 315
و إثبات الجزئية لمن تبع](1).
و منها:
فساد العقيدة، سواء كان في نفس الأصول أو في فروعها، و حيث جرى الكلام الى هنا لزمنا الإشارة إجمالا الى أسباب فساد العقيدة ليعلم المراد بها حيثما استعملت في كتب الرجال فنقول:
من فرق الإسلام(2) - بالمعنى الأعم - العامة، و هم معروفون.
ص: 316
السّلام)، أو]. أصحاب المختار بن أبي عبيدة الثقفي المشهور، سموا بذلك لأن اسم المختار كان كيسان(1). و قد قيل: إن أباه حمله و وضعه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السّلام) فجعل يمسح بيده على رأسه و يقول: يا كيس يا كيس(2). و اعتقاد هذه الفرقة أن الإمام بعد الحسين (عليه السّلام) هو ابن الحنفية(3)، و أنه هو المهدي
ص: 318
الذي يملأ اللّه الأرض به قسطا و عدلا، و أنه حي لا يموت، و قد غاب في جبل رضوى [باليمن](1)، و ربما يجتمعون ليالي الجمعة و يشتغلون بالعبادة، و أقصى تعلقهم في قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) له يوم البصرة: (أنت ابني حقا) و أنه كان صاحب رايته كما كان هو صاحب راية رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، فكان أولى بمقامه، و في أنه المهدي قول النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): (لن تنقضي الأيام و الليالي حتى يبعث اللّه تعالى رجلا من أهل بيتي، اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، و اسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا)(2)، قالوا: و كان من أسماء أمير المؤمنين (عليه السّلام) عبد اللّه لقوله: أنا عبد اللّه و أخو رسوله (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم). و في حياته، [كذا]، و أنه لم
ص: 319
يمت أنه إذا ثبتت إمامته، و أنه القائم تعين بقاؤه لئلا تخلو الأرض من حجة.
و حكي عن فرقة أخرى منهم أن ابن الحنفية هو الإمام بعد أمير المؤمنين (عليه السّلام) دون الحسنين، و إن الحسن إنما دعي في الباطن إليه بأمره، و الحسين إنما ظهر بالسيف، و أنهما كانا داعيين إليه و امرين من قبله.
و عن فرقة ثالثة منهم أنه مات و انتقلت الإمامة الى ولده(1)، و عدّ بعضهم منهم الواقفية.
و عن فرقة رابعة: أن محمدا مات و أنه يقوم بعد الموت، و أنه المهدي(2).
ص: 320
و منها:
و هم القائلون بالإمامة الى مولانا الصادق (عليه السّلام) ثم من بعده الى ابنه إسماعيل(1)، و هم على ما عن
ص: 321
أتباع رزام، ساقوا الإمامة بعد أبي هاشم بن محمد بن الحنفية الى عبد اللّه بن العباس بالنص].
و منها:
الفطحيّة(1):
و هم القائلون بإمامة الأئمة الاثنى عشر (عليهم السّلام) مع عبد اللّه الأفطح بن الصّادق (عليه السّلام) يدخلونه بين أبيه و أخيه. و عن الشّهيد (رحمه اللّه) أنهم يدخلونه بين الكاظم و الرّضا (عليهما السّلام)(2)، و عن الاختيار(3) أنهم سمّوا بذلك لأنه قيل أنه كان أفطح الرّأس - أي عريضه(4) -.
و قال بعضهم: نسبوا الى رئيس لهم يقال له عبد اللّه بن فطيح من أهل الكوفة، و الذين قالوا بإمامة عامة مشايخ العصابة و فقهائها،
ص: 323
قالوا بهذه المقالة فدخلت عليهم الشّبهة لما روى عنهم (عليهم السّلام) أنهم قالوا الإمامة في الأكبر من ولد الإمام (عليه السّلام) إذا مضى إمام، ثم منهم من رجع عن القول بإمامته لمّا امتحنه بمسائل من الحلال و الحرام لم يكن عنده جواب، و لما ظهر منه الأشياء التي لا ينبغي أن تظهر من الإمام.
ثم ان عبد اللّه مات بعد أبيه بسبعين يوما فرجع الباقون إلا شذاذا منهم عن القول بإمامته الى القول بإمامة أبي الحسن موسى (عليه السّلام)، و رجعوا الى الذي روى أن الإمامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن و الحسين (عليهما السّلام)(1)، و بقي شذاذ منهم على القول بإمامته، و بعد أن مات قالوا بإمامة أبي الحسن موسى (عليه السّلام)(2).
و لازمه صحة قول من قال أنّهم يدخلونه بين الصّادق و الكاظم (عليهما السلام)(3).
ص: 324
[تذييل: لا يخفى عليك أن القول بالفطحية أقرب مذاهب الشّيعة الى الحق، كما نبّهنا على ذلك في ذيل الفائدة السّابعة من مقدّمة تنقيح المقال(1)، فراجع و تدبّر](2).
رئيس لهم يقال له: يحيى بن أبي السمط(1).
و منها:
الناووسيّة(2):
[اتباع رجل يقال له: ناووس(3)، و قيل نسبوا الى قرية ناووسيا](4) و هم القائلون بالإمامة الى مولانا الصادق (عليه السّلام) و وقفوا عليه، و قالوا إنه حي لن يموت حتى يظهر و يظهر أمره، و هو القائم المهدي. و عن الملل و النحل أنهم زعموا أن عليا (عليه السّلام) مات و ستنشق الأرض عنه قبل يوم القيامة فيملأ
ص: 326
الأرض عدلا(1).
قيل نسبوا الى رجل يقال له: ناووس، و قيل إلى قرية تسمى بذلك، [و يسمون: الصارمية أيضا](2).
و منها:
الواقفية:
و هم الذين وقفوا على مولانا الكاظم (عليه السّلام) كما هو
ص: 327
المعروف من هذا اللفظ حيثما يطلق. و ربما يقال لهم: الممطورة - أي الكلاب المبتلّة من المطر - و وجه الإطلاق ظاهر(1)، و إنما وقفوا على الكاظم (عليه السّلام) بزعم أنه القائم المنتظر، أما بدعوى حياته و غيبته، أو موته و بعثته، مع تضليل من بعده بدعوى الإمامة، أو باعتقاد أنهم خلفاؤه و قضاته الى زمان ظهوره.
[(2)و صريح بعض المتأخرين أن القائلين بختم الإمامة على الكاظم (عليه السّلام) هم: الموسوية، و لهم ثلاث فرق.
فمنهم: من يشكون في حياته و مماته، و يسمون: بالممطورة.
و منهم: من يجزمون بموته و يسمون: بالقطعية.
و منهم: من يقولون بحياته، و يسمون: بالواقفية.
و عليه فالممطورة قسيم للواقفية، و روى الكشي عن أبي القاسم الحسن بن محمد، عن عمر بن يزيد، عن عمه قال]: كان بدء الواقفة أنه كان اجتمع ثلاثون ألف دينار عند الأشاعثة زكاة أموالهم، و ما كان يجب عليهم فيها، فحملوها الى وكيلين لموسى (عليه السّلام) بالكوفة، أحدهما حيان السراج، و آخر كان معه، و كان موسى (عليه السّلام) في الحبس فاتخذوا بذلك دورا و عقارا(3)،
ص: 328
و اشتروا(1) الغلات، فلما مات موسى (عليه السّلام) و انتهى الخبر إليهما أنكرا موته، و أذاعا في الشيعة أنه لا يموت لأنه القائم، فاعتمدت عليهما طائفة من الشيعة و انتشر قولهما في الناس حتى كان عند موتهما أوصيا بدفع المال الى ورثة موسى (عليه السّلام)، و استبان للشيعة أنهما انما قالا ذلك حرصا على المال(2). [(3)و في العيون(4)و العلل(5)، و كتاب الغيبة(6)، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: مات أبو الحسن (عليه السّلام) و ليس من نوابه أحد إلا و عنده المال الكثير، و كان سبب وقوفهم و جحودهم لموته، و كان عند زياد القندي سبعون ألف دينار(7)، و عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألفا. قال:
و لما رأيت ذلك و تبين لي الحق و عرفت من أمر أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) ما عرفت، تكلمت و دعوت الناس إليه، فبعثا إليّ و قالا:
ص: 329
ما يدعوك الى هذا؟ إن كنت تريد المال فنحن نعينك(1)؛ و ضمنا لى عشرة آلاف، و قالا لي: كف، فأبيت، و قلت لهم: انا روينا عن الصادقين (عليهما السّلام) أنهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان، و ما كنت لادع الجهاد في أمر(2) على كل حال، فناصباني و اظهرا لي العداوة. و رواه الكشي(3) - أيضا -].
هذا و ربما يطلق الواقفي على من وقف على غير الكاظم (عليه السّلام)(4) كمن وقف على أمير المؤمنين (عليه السّلام) او وقف على الصادق (عليه السّلام) او الحسن العسكري (عليه السّلام) كما وقع ذلك في إكمال الدين و إتمام النعمة(5)، لكن مع التقييد بالموقوف عليه كما يقال الواقفة على الصادق (عليه السّلام). و إن كان لهم أسماء اخر كالناووسية لمن وقف عليه كما مرّ، و من ذلك قولهم في عنبسة بن مصعب واقفي على أبي عبد اللّه (عليه السّلام)(6).
ص: 330
و كيف كان فقد جزم المولى الوحيد(1) و.. غيره(2) بأن إطلاق الواقفي في الرجال ينصرف الى من وقف على الكاظم (عليه السّلام) و لا يحمل مع الإطلاق إلا عليه. نعم مع القرينة يحمل على من قامت عليه، و لعل من جملة القرائن عدم دركه للكاظم (عليه السّلام) و موته قبله أو في زمانه (عليه السّلام) مثل سماعة بن مهران، و علي ابن حيان، و يحيى بن القاسم.
و حكى الوحيد (رحمه اللّه)(3) عن جده المجلسي الأول أن الواقفة صنفان: صنف منهم وقفوا عليه في زمانه، بأن اعتقدوا كونه قائم آل محمد (صلوات اللّه عليهم) و ذلك لشبهة حصلت لهم مما ورد عنه و عن أبيه أنه صاحب الأمر، و لم يفهموا أن كل واحد منهم صاحب الأمر - يعني أمر الإمامة -. و منهم(4): سماعة بن مهران، لما نقل أنه مات في زمانه (عليه السّلام) قال: و غير معلوم كفر هذا الشخص، لأنه عرف إمام زمانه و لم يجب عليه معرفة الإمام الذي بعده. نعم لو سمع أن الإمام الذي بعده فلان و لم يعتقد صار كافرا(5)، ثم أيد كلام جده بأن: الشيعة من فرط حبهم دولة الأئمة (عليهم السّلام) و شدة تمنيهم إياها، و بسبب الشدائد و المحن التي
ص: 331
كانت عليهم و على أئمتهم من القتل و الخوف و سائر الاذايا، و كذا من بغضهم أعداءهم الذين كانوا يرون الدولة و بسط اليد و التسلط و ساير نعم الدنيا عندهم.. الى غير ذلك كانوا مشتاقين(1) الى دولة قائم آل محمد (صلوات اللّه عليه و آله) الذي يملأ الأرض قسطا(2)، مسلمين أنفسهم بظهوره، متوقعين لوقوعه عن قريب، و هم (عليهم السّلام) كانوا يسلون خاطرهم، حتى قيل إن الشيعة تربى بالأماني(3)، ثم استشهد (رحمه اللّه) لذلك بما ذكره في ترجمة:
يقطين(4)، مما تضمن قول علي بن يقطين، أن أمرنا لم يحضر فعلّلنا بالأماني. فلو قيل لنا أن هذا الأمر لا يكون إلا بعد مأتي سنة و ثلاث مائة سنة لقست قلوب، و لرجع عامة الناس عن الإسلام. و لكن قالوا ما أسرعه و ما أقربه تألفا لقلوب الناس و تقريبا للفرج(5) ثم قال: و من ذلك أنهم كثيرا ما يسألونهم عن قائمهم فربما قال واحد منهم: فلان - يعني الذي بعده - و ما كان يظهر مراده من القائم مصلحة(6)، و تسلية لخواطرهم، سيما بالنسبة إلى من علم عدم بقائه الى ما بعد زمانه، كما وقع من الباقر (عليه السّلام) بالنسبة الى
ص: 332
جابر(1)، كما سنذكره في ترجمة عنبسة، و ربما كانوا يشيرون الى مرادهم، و هم من فرط ميل قلوبهم و زيادة حرصهم ربما كانوا لا يتفطنون(2).
قلت: أشار بما يذكره في ترجمة عنبسة الى ما رواه في الكافي في باب النص على الصادق (عليه السّلام) عن أبي الصباح، أن الباقر (عليه السّلام) قال مشيرا الى الصادق (عليه السّلام): هذا من الذين قال اللّه عز و جل وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا الآية(3).
و عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السّلام) قال: سئل عن القائم عليه السّلام(4) فقال: هذا و اللّه قائم آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم). قال عنبسة: فلما قبض [أبو جعفر] (عليه السّلام) دخلت على الصادق (عليه السّلام) فاخبرته بذلك فقال: صدق جابر، ثم قال: أ ترون أن ليس كل إمام فهو القائم (عليه السّلام) بعد الإمام الذي كان قبله(5).. الى آخر ما ذكره في تلك الترجمة(6)،
ص: 333
و هو كما ترى يشير الى حصول الشبهة لعنبسة من جهة قوله: هذا و اللّه قائم آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و لذا سأل مولانا الصادق (عليه السّلام) و لم ترتفع عنه الشبهة حتى كشف له عن المراد بأن كلا منّا قائم آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) - بمعنى القائم بأمر الإمامة و الخلافة - لا القائم المعروف الذي يكون في آخر الزمان - عجل اللّه تعالى فرجه، و جعلنا من كل مكروه فداه -.
و على كل حال، فمجرد الرمي بالوقف لعله لا يرتب عليه الأثر إلا بعد الفحص و البحث عن أن الوقف هل كان في حياة الكاظم (عليه السّلام) أو قبل زمانه أو بعد موته، و هل هو عند التحمل أو الاداء، كما لا يخفى وجهه.
[(1)و ينبغي تذييل المقام بالأخبار التي رواها الكشي (رحمه اللّه) في حق الواقفة، مثل ما رواه هو (رحمه اللّه) عن محمد بن مسعود، و محمد بن الحسن البراني(2)، قالا: حدثنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن فارس، قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن عبدوس الخليجي(3) أو.. غيره عن علي بن عبد اللّه الزهري(4)، قال: كتبت الى أبي الحسن (عليه السّلام) أسأله عن الواقفة،
ص: 334
فكتب: الواقف عاند عن الحق، و مقيم على سيئة ان مات بها كانت جهنم مأواه و بئس المصير(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن جعفر بن معروف، قال: حدثني سهل بن يحيى(2)، قال: حدثني الفضل بن شاذان - رفعه - عن الرضا (عليه السّلام) قال: سئل عن الواقفة فقال:
يعيشون حيارى، و يموتون زنادقة(3).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - قال: وجدت بخط جبرئيل ابن أحمد كتابه(4)، قال: حدثني سهل بن زياد الآدمي، قال:
حدثني محمد بن أحمد بن الربيع الأقرع، قال: حدثني جعفر بن بكير، قال: حدثني يوسف(5) بن يعقوب، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام): أعطي هؤلاء الذين يزعمون أن أباك حي من الزكاة شيئا؟ قال: لا تعطهم، فإنهم كفار مشركون زنادقة(6).
قال: حدثني عدة من أصحابنا، عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: سمعناه يقول(7): هو كافر إن مات موسى بن جعفر
ص: 335
(عليه السّلام) قال: فقلت: هذا هو(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن أبي صالح خلف بن حامد الكشي، عن الحسن بن طلحة، عن بكير(2) بن صالح، قال: سمعت الرضا (عليه السّلام) يقول: ما يقول الناس في هذه الآية؟ قلت: جعلت فداك، فأي آية؟ قال: قول اللّه عز و جل:
وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ (3) قلت: اختلفوا فيها، قال أبو الحسن (عليه السّلام): و لكن(4) أقول: نزلت في الواقفة أنهم قالوا: لا إمام بعد موسى (عليه السّلام)، فردّ اللّه عليهم بل يداه مبسوطتان، و اليد هو الإمام في باطن الكتاب، و إنما عنى بقولهم لا إمام بعد موسى ابن جعفر (عليه السّلام)(5).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن خلف، عن الحسن بن طلحة المروزي، عن محمد بن عاصم، قال: سمعت الرضا (عليه السّلام) يقول: يا محمد! بلغني أنك تجالس الواقفة. قلت: نعم، جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال: لا تجالسهم، فإن
ص: 336
اللّه عز و جل يقول: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (1) يعني بالآيات الأوصياء الذين كفروا بها الواقفة(2).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن خلف، قال: حدثني الحسن بن علي، عن سليمان الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن (عليه السّلام) بالمدينة إذ دخل عليه رجل من أهل المدينة فسأله عن الواقفة، فقال أبو الحسن (عليه السّلام): «ملعونين أينما ثقفوا اخذوا و قتلوا تقتيلا، سنة اللّه في الذين خلوا من قبل و لن تجد لسنة اللّه تبديلا»(3). و اللّه، إن اللّه لا يبدلها حتى يقتلوا عن آخرهم(4).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني(5)، قال: حدثني أبو علي الفارسي، قال حدثني عبدوس الكوفي، عن حمدويه، عمّن حدثه، عن الحكم بن مسكين، قال:
حدثني بذلك إسماعيل بن محمد بن موسى بن سلام، عن الحكم بن
ص: 337
عيص(1) قال: دخلت مع خالي سليمان(2) فقال: من هذا الغلام؟ فقال: ابن أختي فقال: يعرف(3) هذا الأمر؟ فقال:
نعم، فقال: الحمد اللّه الذي لم يخلقه شيطانا، ثم قال: يا سليمان! نعوذ(4) باللّه ولدك من فتنة شيعتنا، قلت: جعلت فداك، و ما تلك الفتنة؟ قال: إنكارهم الأئمة، و وقوفهم(5) على ابنى موسى (عليه السّلام)، قال: ينكرون موته، و يزعمون أن لا إمام بعده، أولئك شر الخلق(6).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني أبو علي، قال: حدثني يعقوب بن زيد(7)، عن محمد بن أبي عمير، عن رجل من أصحابنا، قال: قلت للرضا (عليه السّلام): جعلت فداك، قوم قد وقفوا على أبيك يزعمون أنه لم يمت، قال: قال: كذبوا، و هم كذّاب(8) بما أنزل اللّه - عز
ص: 338
و جل - على محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)، و لو كان اللّه يمد في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمدّ اللّه في أجل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن محمد بن الحسن البراني، قال:
حدثني أبو علي الفارسي، قال حدثني ميمونة النحاس(2)، عن محمد ابن الفضيل قال: قلت للرضا (عليه السّلام): جعلت فداك، ما حال قوم قد وقفوا على أبيك موسى (عليه السّلام)؟ قال: لعنهم اللّه، ما أشد كذبهم، أما أنهم يزعمون أني عقيم، و ينكرون من يلي هذا الأمر من ولدي(3).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن محمد بن الحسن البراني، قال:
حدثني أبو علي، قال: حدثني أبو القاسم الحسين بن محمد بن عمر ابن يزيد، عن عمه، عن جده عمر بن يزيد، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فحدثني مليا في فضائل الشيعة ثم قال: إن من الشيعة بعد ثامنهم (عليه السّلام) شرّ من النصاب،(4) قلت:
جعلت فداك، بيّن لنا نعرفهم فلعلنا منهم؟ قال: كلا يا عمر ما أنت منهم، إنما هم قوم يفتنون بزيد و يفتنون بموسى (عليه
ص: 339
السّلام)(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني أبو علي، قال: حدثني محمد بن إسماعيل، عن موسى ابن القاسم البجلي، عن علي بن جعفر (عليه السّلام)، قال: جاء رجل الى أخي (عليه السّلام) فقال له: جعلت فداك، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: أما أنهم يفتنون بعد موتي فيقولون هو القائم، و ما القائم إلا بعدي بسنين(2).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني أبو علي الفارسي، قال: حدثني أبو القاسم الحسين بن محمد بن عمر بن يزيد، عن عمّه، قال: كان بدو الواقفة أنه كان اجتمع ثلاثون ألف دينار عند الأشاعثة لزكاة مالهم(3)، و ما كان يجب عليهم فيها، فحملوه الى وكيلين لموسى (عليه السّلام) بالكوفة أحدهما: حنان(4) السراج و الآخر كان معه، و كان موسى (عليه السّلام) في الحبس، فاتخذا بذلك دورا و عقدا العقود و اشتريا الغلات، فلما مات موسى فانتهى(5) الخبر إليهما أنكرا موته، و اذاعا في الشيعة أنه لا يموت، لأنه هو القائم، فاعتمدت
ص: 340
عليه(1) طائفة من الشيعة، و انتشر قولهما في الناس حتى كان عند موتهما أوصيا بدفع ذلك المال الى ورثة موسى (عليه السّلام) فاستبان للشيعة أنهما قالا ذلك حرصا على المال(2).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني أبو علي، قال: حدثني محمد بن رجاء الحناط، عن محمد بن علي الرضا (عليه السّلام)، أنه قال: الواقفة هم حمر(3) الشيعة، ثم تلا هذه الآية إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (4).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني(5) قال: حدثني أبو علي، قال: حدثني منصور، عن(6)محمد بن علي الرضا (عليه السّلام): ان الزيدية و الواقفة و النصاب عنده بمنزلة واحدة(7).
ص: 341
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني الفارسي - يعني أبا علي -، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عمن حدثه، قال: قال سألت محمد بن علي الرضا (عليه السّلام) عن هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (1) قال: نزلت في النصاب و الزيدية، و الواقفة من النصاب(2).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن محمد بن الحسن البراني، قال:
حدثني أبو علي، قال: حدثني إبراهيم بن عقبة، قال: كتبت الى العسكري (عليه السّلام): جعلت فداك، قد عرفت هؤلاء الممطورة، فاقنت عليهم في الصلاة(3)؟ قال: نعم، أقنت عليهم في الصلاة(4).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - عن محمد بن الحسن البراني، قال: حدثني أبو علي الفارسي، عن محمد بن الحسين الكوفي، عن محمد بن جبار(5)، عن عمر بن فرات، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن الواقفة، قال: يعيشون حيارى
ص: 342
و يموتون زنادقة(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - بهذا الإسناد عن(2) أحمد بن إدريس القمي، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني العباس بن معروف، عن الحجال، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: ذكرت الممطورة و شكهم فقال: يعيشون ما عاشوا في شك، ثم يموتون زنادقة(3).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن حمدويه، قال: حدثني محمد بن عيسى، عن إبراهيم بن عقبة، قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن (عليه السّلام) - جعلت فداك: قد عرفت بعض هذه الممطورة، أ فأقنت عليهم في صلاتي؟ قال: نعم أقنت عليهم في صلاتك(4).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن خلف(5) بن جابر الكشي، قال:
ص: 343
أخبرني الحسن بن طلحة المروزي، عن يحيى بن المبارك، قال:
كتبت الى الرضا (عليه السّلام) بمسائل فأجابني، و كتبت(1) و ذكرت في آخر الكتاب قول اللّه عز و جل: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ (2) فقال: نزلت في الواقفة. و وجدت الجواب كله بخطه: ليس هم من المؤمنين و لا من المسلمين، هم ممن كذّب بآيات اللّه، و نحن أشهر معلومات، فلا جدال فينا و لا رفث، و لا فسوق فينا، انصب لهم من العداوة - يا يحيى - ما استطعت(3).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) عن محمد بن الحسن، قال:
حدثني(4) محمد بن الصباح، قال: حدثنا إسماعيل بن عامر، عن أبان، عن حبيب الخثعمي، عن ابن أبي يعفور، قال كنت عند الصادق (عليه السّلام) إذ دخل موسى (عليه السّلام) فجلس، فقال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): يا ابن أبي يعفور! هذا خير ولدي و احبهم إليّ غير أن اللّه عز و جل يضل قوما من شيعتنا(5) بعد موته جزعا عليه فيقولون لم يمت، و ينكرون الأئمة من بعده، و يدعون
ص: 344
الشيعة الى ضلالتهم، و في ذلك ابطال حقوقنا، و هدم دين اللّه، يا ابن أبي يعفور، و اللّه و رسوله منهم بريء، و نحن منهم براء(1).
و ما رواه هو (رحمه اللّه) - أيضا - بهذا الإسناد، قال: حدثني أيوب بن نوح، عن سعيد العطار، عن حمزة الزيات، قال:
سمعت حمران بن أعين يقول: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام):
أمن شيعتكم أنا؟ قال: إي و اللّه في الدنيا و الآخرة، و ما أحد من شيعتنا إلا و هو مكتوب عندنا اسمه و اسم أبيه، إلا من يتولى منهم عنّا، قال: قلت جعلت فداك، أو من شيعتكم من يتولى عنكم بعد المعرفة؟ قال: يا حمران! نعم، و أنت لا تدركهم. قال حمزة:
فتناظرنا في هذا الحديث فكتبنا به الى الرضا (عليه السّلام) نسأله عمن استثنى به أبو جعفر (عليه السّلام)، فكتب: هم الواقفة على موسى بن جعفر (عليه السّلام)(2).
و روى في العيون(3) و غيبة الشيخ(4) (رحمه اللّه) عن يونس بن عبد الرحمن، قال: مات أبو الحسن (عليه السّلام) و ليس من نوابه(5)أحد إلا و عنده المال الكثير، و كان ذلك سبب وقوفهم
ص: 345
و جحودهم(1) لموته (عليه السّلام)، و كان عند زياد القندي سبعون ألف دينار، و عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار، قال: و لما رأيت ذلك، و تبين لي الحق، و عرفت أمر أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) ما عرفت، فكلمت(2) و دعوت الناس إليه، فبعثا إليّ و قالا لي: ما يدعوك الى هذا؟ إن كنت تريد المال فنحن نغنيك، و ضمنّا لك عشرة آلاف دينار، و قالا: كف، فأبيت و قلت لهما: إنا روينا عن الصادق (عليه السّلام)(3) إذا ظهرت البدع فعلى العالم(4) ان يظهر علمه، و إن لم يفعل سلب نور الإيمان من قلبه، و ما كنت لادع الجهاد في أمر اللّه على كل حال، فناصباني و اظهرا لي العداوة(5).
و في العيون(6) - أيضا - عن ربيع بن عبد الرحمن قال: كان و اللّه موسى بن جعفر (عليه السّلام) من المتوسمين، يعلم من يقف عليه بعد موته (عليه السّلام)(7). و كان يكظم عليهم غيظه و لا
ص: 346
يبدي لهم ما يعرف منهم، فسمي الكاظم (عليه السّلام) لذلك(1)].
و منها:
الزيدية:
و هم القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين (عليهما السّلام) و هم فرق(2) أغلبهم يقولون بإمامة كل فاطمي عالم صالح ذي رأي
ص: 347
يخرج بالسيف، و زيد هذا قتل و صلب بالكناسة موضع قريب من الكوفة، و قد نهاه الباقر (عليه السّلام) عن الخروج و الجهاد فلم ينته فصار الى ذلك، و اختلفت الروايات في أمره، فبعضها يدلّ على ذمه بل كفره لدعواه الإمامة بغير حق، و بعضها يدل على علو قدره و جلالة شأنه، و ربما جمع بعضهم بينهما بحمل النهي عن الخروج على التقية، أو(1) أنه ليس نهي تحريم، بل شفقة و خوفا عليه، [(2)و قد أوضحنا في ترجمته في تنقيح المقال(3) حسن حاله بنفسه، و صحة خروجه، فلاحظ و تدبر](4).
ص: 348
و منها:
البترية(1) - بضم الباء الموحدة و قيل بكسرها(2)، ثم سكون التاء المثناة من فوق(3) -، فرق من الزيدية، قيل نسبوا الى المغيرة بن سعد(4)، و لقبه: الأبتر، و قيل(5): البترية، هم أصحاب كثير النوا الحسن(6) بن صالح بن حي(7) و سالم بن أبي حفصة، و الحكم بن عيينة(8)، و سلمة بن كهيل، و أبي المقدام(9) ثابت الحداد، و هم الذين دعوا الى ولاية علي (عليه السّلام) ثم خلطوها بولاية أبي بكر و عمر، و يثبتون لهم الإمامة و يبغضون عثمان و طلحة و الزبير
ص: 349
و عايشة، و يرون الخروج مع بطون ولد علي (عليه السّلام)، و يثبتون [من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر](1) لكل من خرج منهم عند خروجه الإمامة(2).
[(3)و الذي اعتقده ان البترية هم زيدية العامة.
ثم إن في وجه تسمية البترية وجهين:
أحدهما: ما هو المعروف من أنه بتقديم الباء الموحدة، نسبة الى المغيرة بن سعد(4) الأبتر(5)، أو لأنهم لما تبرءوا من أعداء الشيخين التفت إليهم زيد بن علي (عليه السّلام) و قال: أ تبرءون من فاطمة (عليها السّلام)؟! بترتم أمرنا بتركم اللّه. فقد روى الكشي (رحمه اللّه)(6) عن سعد(7) بن جناح الكشي، عن علي بن محمد بن
ص: 350
يزيد القمي(1)، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن الحسين(2) بن عثمان الرواسي، عن سدير قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السّلام) و معي سلمة ابن كهيل، و أبو المقدام، و(3) ثابت الحداد، و سالم بن أبي حفصة، و كثير النوا و جماعة معهم(4) و عند أبي جعفر (عليه السّلام) أخوه زيد ابن علي (عليه السّلام) فقالوا لأبي جعفر (عليه السّلام): نتولى عليا و حسنا و حسينا و نتبرأ من أعدائهم؟ قال: نعم قالوا: نتولى أبا بكر و عمر و نتبرأ من أعدائهم، قال فالتفت اليهم زيد بن علي (عليه السّلام) قال لهم: (أ تبرءون(5) من فاطمة (عليها السّلام)؟! بترتم أمرنا بتركم اللّه). فيومئذ سموا البترية(6).
ثانيهما: إنه بتقديم التاء المثناة من فوق على الباء الموحدة، و هو
ص: 351
الذي اختاره الفاضل الكاظمي في تكملة النقد(1)، حيث روى الرواية هكذا: أ تتبرءون من فاطمة (عليها السّلام)؟! تبرأتم أمرنا تبرأكم اللّه، فيومئذ سموا التبرية. ثم فرع على هذه الرواية أن التبرية بتقديم التاء المثناة على الموحدة، و هو كما ترى.
و على كل حال، فقد روى الكشي في رجاله عن سعد بن جناح(2) الكشي، عن علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن فضيل، عن أبي عمر سعد الجلاب(3)، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: لو أن التبرية(4) صف واحد ما بين المشرق و المغرب ما أعزّ اللّه لهم(5)دينا(6).
ص: 352
و منها:
الجارودية:]
و يقال لهم: السرحوبية أيضا، لنسبتهم الى أبي جارود زياد بن المنذر السرحوب [الأعمى المذموم بالذم المفرط](1)، و هم القائلون بالنص على علي (عليه السّلام) و كفر الثلاثة و كل من أنكره(2). و في مجمع البحرين: هم فرقة من الشيعة ينسبون الى الزيدية و ليسوا منهم، نسبوا الى رئيس لهم من أهل خراسان يقال له أبو الجارود زياد ابن المنذر. و عن بعض الأفاضل أنهم فرقتان زيدية و هم شيعة، و فرقة بترية و هم لا يجعلون الإمامة لعلي (عليه السّلام) بالنص، بل عندهم هي شورى، و يجوّزون تقديم المفضول على الفاضل(3). و في بعض الكتب(4) أن الجارودية لا يعتقدون إمامة الشيخين، و لكن حيث رضي علي (عليه السّلام) بهما لم ينازعهما جريا مجرى الأئمة في
ص: 353
وجوب الإطاعة(1).
و منها:
السليمانية:
و هم القائلون بإمامة الشيخين و كفر عثمان، منسوبون الى سليمان بن جرير(2) [(3)القائل بان الإمامة شورى فيما بين الخلق، و يصح أن ينعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، و أثبت لذلك إمامة الشيخين، و قال بكفر عثمان للأحداث التي أحدثها، و كفر عائشة و طلحة و الزبير لإقدامهم على قتال علي أمير المؤمنين (عليه السّلام)](4).
ص: 354
الزور على من خالفهم و خادعهم لمخالفتهم له في العقيدة إذا حلف على صدق دعواه، قاله في المجمع، ثم قال: و في الحديث سأله رجل:
اؤخر المغرب حتى يشتبك النجوم؟(1) فقال: خطابية، أي سنة سنها أبو الخطاب محمد بن مقلاص المكنى بأبي زينب(2).
قلت: الذي يفهم من الحديث أن أبا الخطاب - أيضا - كان مبدعا، و يظهر من تمام ما ذكره أن للخطابية إطلاقين:
أحدهما: المنسوبون الى محمد بن وهب.
و الآخر: المنسوبون الى أبي الخطاب(3)، و لعل الثاني هو الذي قيل إنه كان يزعم أن الأئمة (عليهم السّلام) أنبياء ثم آلهة(4)، و الآلهة نور من النبوة و نور من الإمامة، و لا يخلو العالم من هذه الأنوار، و ان الصادق (عليه السّلام) هو اللّه تعالى، و ليس المحسوس الذي
ص: 356
يرونه، بل أنه لما نزل الى العالم لبس هذه الصورة(1) الإنسانية لئلا ينفر منه، ثم تمادى الكفر به.. الى أن قال: (إن اللّه تعالى انفصل من الصادق (عليه السّلام) و حلّ فيه: و أنه أكمل من اللّه، تعالى عما يقولون علوا كبيرا)(2).
فعن تاريخ أبي زيد البلخي(1) أنهم أصحاب بزيع الحائك، أقرّوا بنبوته و زعموا أن الأئمة (عليهم السّلام) كلهم أنبياء، و أنهم لا يموتون و لكنهم يرفعون. و زعم بزيع أنه صعد الى السماء، و أن اللّه تعالى مسح على رأسه و مج في فيه، فإن الحكمة تثبت في صدره. و في التعليقة: أنهم فرقة من الخطابية يقولون الإمام بعد أبي الخطاب بزيع، و ان كل مؤمن يوحى إليه، و ان الإنسان إذا بلغ الكمال لا يقال له مات، بل رفع الى الملكوت، و ادعوا معاينة أمواتهم بكرة و عشية(2).
[(1)و منها:
البنانية(2):
- بالباء الموحدة، و نونين بينهما ألف - و هم اتباع بنان بن سمعان الهندي الذاهب الى الحلول، و القائل بإمامة أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، و قد يطلق البنانية على أتباع بنان التبّان الذي ذكرنا ما ورد فيه و في بزيع الحائك من الذم و اللعن في ترجمتهما من تنقيح المقال(3)، فلاحظ].
و منها:
الحرورية:
و هم الذين تبرّءوا من عليّ (عليه السّلام) و شهدوا عليه
ص: 359
بالكفر - لعنهم اللّه(1) -.
[و قد روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكم(2)، و حمّاد(3) بن أبي مسروق قال:
سألني أبو عبد اللّه (عليه السّلام) عن أهل البصرة فقال لي: ما هم؟ قلت: مرجئة و قدريّة و حروريّة، فقال: لعن اللّه تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد اللّه على شيء(4).
هذا ثم لا يخفى عليك أن الحروريّة](5) نسبة الى حروراء موضع بقرب الكوفة(6) كان أول مجمعهم فيه(7). و في المجمع: أن الحروريّة - بفتح الحاء و ضمّها - و هم الخوارج، كان أول مجتمعهم
ص: 360
فيها، تعمّقوا في الدّين حتّى مرقوا منه، فهم المارقون(1)، و منه الخبر: أ حروريّة أنت - بفتح الحاء، و ضم الراء الاولى - أي خارجيّة، توجبون قضاء صلاة الحيض. [(2)و قال بعض الأعاظم: إن الحروريّة فرقة من الخوارج، و يسمّون بالشّراة أيضا - بالشين المعجمة - جمع شاري، زعموا أنهم شروا أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون و يقتلون، و يظهر من بعضهم أن كل خارجي فهو من الشراة](3).
و منها:
العلياوية(1):
و هم - على ما في اختيار الكشي(2) - يقولون إن عليا (عليه السّلام) رب، و ظهر بالعلوية الهاشمية، و أظهر أنه عبده و أظهر وليه من عنده و رسوله بالمحمدية، و وافق أصحاب أبي الخطاب في أربعة أشخاص: علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السّلام)، و أن مضي الأشخاص الثلاثة فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السّلام) تلبيس، و الحقيقة شخص علي (عليه السّلام)، لأنه أول هذه الأشخاص في الإمامة، و أنكروا شخص محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) و زعموا أن محمدا عبد علي، و أن عليا (عليه السّلام) هو رب، و أقاموا محمدا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) مقام ما أقامت المخمسة سلمان، و جعلوه رسولا لعلي (عليه السّلام)، فوافقوهم في الإباحات و التعطيل و التناسخ.
و العلياوية تسميها المخمسة: عليائية، و زعموا أن بشارا الشعيري لما أنكر ربوبية محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و جعلها في
ص: 362
علي، و جعل محمدا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عبد علي (عليه السّلام)، و أنكر رسالة سلمان [و أقام مقام سلمان محمدا] مسخ على صورة طير يقال له: علياء، يكون في البحر، فلذلك سموهم:
العليائية، [و بشار الشعيري هو الذي روى الكشي في ترجمته عن الصادق (عليه السّلام) أنه: شيطان بن شيطان خرج من البحر فأغوى أصحابي(1)]. و في ترجمة محمد بن بشير: و زعمت هذه الفرقة و المخمسة و العلياوية و أصحاب أبي الخطاب أن كل من انتسب الى أنه من آل محمد فهو مبطل في نفسه مفتر على اللّه تعالى كاذب، و أنهم الذين قال اللّه تعالى فيهم أنهم يهودا أو و نصارى في قوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ (2) محمد في مذهب الخطابية، و علي (عليه السّلام) في مذهب العلياوية، فهم ممن خلق، هذان كاذبون(3) فيما ادعوا من النسب، إذ كان محمد (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) عندهم و علي (عليه السّلام) هو رب لا يلد و لم يولد و لم يستولد، جلّ اللّه و تعالى عما يصفون علوا كبيرا(4).
ص: 363
و منها:
القدرية:
و هم على ما في المجمع(1) و غيره(2): المنسوبون الى القدر، و يزعمون ان كل عبد خالق فعله، و لا يرون المعاصي و الكفر بتقدير اللّه و مشيئته، فنسبوا الى القدر لانه بدعتهم و ضلالتهم. و في شرح المواقف: قيل: القدرية هم المعتزلة، لإسناد أفعالهم الى قدرتهم.
و في الحديث: لا يدخل الجنة قدري، و هو الذي يقول(3): لا يكون ما شاء اللّه و يكون ما شاء إبليس(4). [و روى عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): إن القدري(5) مجوس هذه الامة].
ص: 364
و قد يقال: إنه لما كان المعتزلي من العدلية لقوله بالقدرة و الاختيار دون الجبر - كما عليه العدلية - من أن أفعال اللّه تعالى مخلوقة لهم لقدرتهم عليها و اختيارهم لها من غير إجبار عليها و لا مشارك فيها، فلذا نسبوا الى القدر لقولهم به، فهم مشاركون لاولئك من هذه الجهة. و أما من جهة نفي القضاء و القدر بالنسبة الى اللّه - كما هي مقالة أولئك - فغير معلوم موافقتهم لهم فيه، بل لعلهم موافقون الإمامية في ثبوت القضاء و القدر للّه، إذ القول بنفيه مخالف لصريح القرآن.
و كيف كان فتسميتهم به غير مناسبة(1)، لعدم قولهم به حتى ينسبوا إليه، فهي من باب تسمية الشيء باسم ضده كالبصير للأعمى(2).
[(3)ثم أن القدرية يسمون: المعتزلة أيضا، و هم فرق مختلفة فمنهم: الواصلية: أصحاب أبي حنيفة، واصل بن عطا الغزال(4).
ص: 365
و الهذيلية: أصحاب أبي الهذيل العلاف(1).
و النظامية: أصحاب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام(2).
و البشرية: أصحاب بشر بن المعتمر(3).
و المعمرية: أصحاب معمر بن عباد السلمي(4).
ص: 366
و المزوارية(1): أصحاب عيسى بن صبيح المكنى: بأبي موسى الملقب: بالمزوار(2).
و الثمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري(3).
و الهشامية: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي(4).
ص: 367
و الجاحظية: أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ(1).
و الخياطية: أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط(2).
و الجبائية(3) و البهشمية(4): أصحاب أبي علي محمد بن
ص: 368
عبد الوهاب الجبائي، و ابنه أبي هاشم عبد السّلام.
و إن شئت العثور على خرافاتهم فراجع الكتب المعدّة لشرح الملل و النحل](1).
فقيل(1): هم فرقة من المسلمين يقولون الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدموا القول و أرجئوا(2) العمل أي أخروه، لأنهم يريدون أنهم لو لم يصلّوا و لم يصوموا لنجاهم إيمانهم، ذكره في تاج العروس(3)، و حكي تفسيره به عن ابن قتيبة(4).
و قيل: هم فرقة من المسلمين يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن اللّه تعالى أرجأ تعذيبهم عن المعاصي أي أخره عنهم(5).
قلت: لا يبعد اتحاد هذا القول مع سابقه، و إن عدّمها بعضهم قولين، نعم هما مختلفان في وجه التسمية.
و قيل: هم الفرقة الجبرية الذين يقولون إن العبد لا فعل له، و إضافة الفعل إليه بمنزلة إضافته إلى المجازات، كجرى النهر
ص: 370
و دارت الرحى، و إنما سميت المرجئة: مجبرة(1) لأنهم يؤخرون أمر اللّه و يرتكبون الكبائر، حكي ذلك عن بعض أهل المعرفة بالملل. و عن المغرب عنه أنهم سمّوا بذلك لإرجائهم حكم الكبائر إلى يوم القيامة(2).
و قيل: هم الذين يقولون كل الأفعال من اللّه تعالى.
و قيل: المرجي هو الأشعري.
و ربما يطلق على أهل السنة لتأخيرهم عليا (عليه السّلام) عن الثلاثة(3).
و في الأحاديث المرجي يقول: من لم يصل و لم يصم و لم يغتسل من جنابة و هدم الكعبة و نكح امه فهو على إيمان جبرئيل و ميكائيل، و في الحديث خطابا للشيعة: أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟! قيل: أراد بهم ما عدا الشيعة من العامة، اختاروا من عند أنفسهم رجلا بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و جعلوه رئيسا و لم يقولوا بعصمته عن الخطأ، و أوجبوا طاعته في كل ما يقول، و مع ذلك قلدوه في كل ما قال، و أنتم نصبتم رجلا - يعني عليا (عليه السّلام) - و اعتقدتم عصمته عن الخطأ و مع ذلك خالفتموه في كثير من الامور، و سماهم مرجئة لأنهم زعموا أن اللّه تعالى أخر نصب الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(4). و في
ص: 371
حديث آخر قال: ذكرت المرجئة و القدرية و الحرورية فقال: لعن اللّه تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد اللّه على شيء(1).
[(1)و قيل: انه يقول بإمامة محمد بن عبد اللّه بن الحسن بعد الباقر، و ان محمد بن عبد اللّه حي لا يموت.
و يردّ ذلك ان لازمه حدوث المغيرية بعد الباقر (عليه السّلام)، و ظاهر رواية جابر المذكورة في الخوارج وجود هذا المذهب في زمان الباقر (عليه السّلام)، و هي ما رواه في الخرائج، عن جابر قال: كنّا عند الباقر (عليه السّلام) نحوا من خمسين رجلا، إذ دخل عليه كثير النوا - و كان من المغيرية - فسلم و جلس ثم قال: إن المغيرة بن عمران عندنا بالكوفة يزعم ان ملكا يعرّفك الكافر من المؤمن، و شيعتك من أعدائك قال: ما عرفتك(2)؟ قال: أبيع الحنطة، قال: كذبت، قال: و ربما أبيع الشعير، فقال: ليس كما قلت، بل تبيع النوا، قال: من أخبرك بهذا؟ قال: الملك الذي يعرّفني شيعتي من عدوي، و لست تموت إلا تائها، قال جابر الجعفي: فلما انصرفنا الى الكوفة ذهبت في جماعة نسأل عنه فدللنا على عجوز، فقالت مات تائها منذ ثلاثة أيام(3)].
و ربما استظهر المولى الوحيد من التراجم كونهم من الغلاة، قال: و بعضهم نسبوهم إليهم(4).
ص: 373
و منها:
النصيريّة:
و هم - على ما في التعليقة(1) - من الغلاة أصحاب محمد بن نصير النّميري(2) - لعنه اللّه - كان يقول: الرّب هو عليّ بن محمد العسكري (عليهما السّلام)، و هو نبيّ من قبله، و أباح المحارم، و أحلّ نكاح الرجال. و عن الكشّي أنهم فرقة قالوا بنبوّة محمد بن نصير الفهري النّميري(3).
و قال بعض أجلّة من عاصرناه(4): أن المعروف عند الشّيعة - عوامهم و أكثر خواصّهم - لا سيّما شعرائهم إطلاق النّصيري
ص: 374
على من قال بربوبية عليّ (عليه السّلام). قال: و في بعض الكتب حكاية قتله (عليه السّلام) لرئيسهم أو جمع منهم ثم إحيائهم ليرتدعوا عن ذلك فما نفعهم حتّى فعل بهم ذلك مرارا، بل أحرقهم ثم أحياهم فأصرّوا و زادوا في العقيدة المزبورة قائلين: إنّا اعتقدنا بربوبيّتك قبل أن نرى منك احياء، فكيف و قد رأيناه؟ ثم قال: إلاّ ان الكتاب المزبور لم يثبت اعتباره، و ان كان مسندا الى ثاني المجلسيّين (رحمهما اللّه) و هو كتاب تذكرة الأئمّة(1).
[و منها:
الشّريعيّة:(2)
و هم فرقة ينتسبون الى الحسن الشّريعي الّذي ادّعى السّفارة عن الحجّة عجّل اللّه تعالى فرجه كذبا، و ادّعى مقاما ليس له بأهل، و لعنته الشيعة، و خرج التّوقيع الشّريف بلعنه(3)، و من الشّريعيّة: محمد بن موسى بن الحسن بن فرات، و ابنه محمد(4)و أحمد بن الحسين بن بشر بن زيد(5)].
ص: 375
و منها:
المفوّضة:
و هي على ما أفاده الوحيد(1) و العلاّمة المجلسي(2) و.. غيرهما (رحمهم اللّه) تطلق على معان كثيرة فيها الصّحيح و الفاسد:
أحدها: ما ذكره في آخر التّعليقة(3) من: أن اللّه تعالى خلق محمدا (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و فوّض إليه أمر العالم، فهو الخلاق للدّنيا و ما فيها.
و قيل: فوّض ذلك إلى عليّ (عليه السّلام)(4). و ربما يقولون بالتّفويض إلى سائر الأئمّة (عليهم السّلام) أيضا، كما يظهر من
ص: 376
بعض التّراجم(1).
قلت: قد نسب الاعتقاد بذلك إلى طائفة، فإن أرادوا ظاهره و هو أنهم هم الفاعلون لذلك حقيقة فهو الكفر الصّريح، و قد دلّت الأدلّة العقليّة و النّقليّة على بطلانه، و في العيون عن الرّضا (عليه السّلام): إن من زعم أن اللّه تعالى فوّض أمر الخلق و الرّزق إلى حججه فهو مشرك.. الحديث(2). و إن أرادوا أنّ اللّه تعالى هو الفاعل وحده لا شريك له، و لكن مقارنا لإرادتهم و دعائهم و سؤالهم من اللّه ذلك كشقّ القمر و إحياء الموتى و قلب العصا و.. غير ذلك من المعجزات فهو حق، لكرامتهم عند اللّه، و زيادة قربهم منه،
ص: 377
و إظهار فضلهم و رفعة مقامهم بين خلقه و عباده حتّى يصدّقوهم و ينقادوا لهم، و يهتدوا بهداهم و يقتدوا بهم، فإنّهم الدّعاة إلى اللّه، و الأدلاء على مرضاته، و لكن هذا المعنى ليس من التّفويض في شيء، بل هو المعجز الصّرف نشأ على يدي حجّة اللّه تعالى لبلوغه أعلى مراتب الاخلاص و العبوديّة، فتفسير التّفويض بذلك لا وجه له.
الثّاني: التّفويض في أمر الدين، بمعنى أن اللّه تعالى فوّض إليهم أن يحلّلوا ما شاءوا و يحرّموا ما شاءوا، و يصحّحوا ما شاءوا و يبطلوا ما شاءوا بآرائهم من غير وحي، و هذا أيضا ضروريّ البطلان، و قد تظافرت الآيات و تواترت الأخبار بأنّهم لا ينطقون عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، و انّ اللّه تعالى كان متفضّلا عليهم بملكة كانوا يفهمون من كتاب اللّه تعالى ما كان و ما يكون، و أنّ الكتاب تبيان كل شيء، و إن أرادوا بذلك أنه تعالى لمّا أكمل نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بحيث لا يختار إلاّ ما يوافق الحق و لا يخالف مشيّته، فوّض إليه تعيين بعض الأمور كزيادة بعض الرّكعات و تعيين النّوافل من الصّلاة و الصّيام، و طعمة الجد و.. نحو ذلك إظهارا لشرفه و كرامته، ثم لما اختار أكد ذلك بالوحي من عنده، فلا فساد عقلا و لا نقلا فيه، بل في كثير من الأخبار ما يدل عليه، و قد عقد له في الكافي بابا(1)، بل نسبه بعضهم إلى أكثر
ص: 378
المحدّثين(1).
الثالث: تفويض أمر الخلق إليهم في السّياسة و التّأديب و التّكميل، و أمرهم بطاعتهم، بمعنى أنه يجب عليهم طاعتهم في كل ما يأمرون به و ينهون عنه، سواء علموا وجه الصّحة أم لا، بل و لو كان بحسب ظاهر نظرهم عدم الصّحّة، بل الواجب عليهم القبول و تفويض الأمر إليهم و التّسليم لهم بحيث لا يجدون حرجا فيما قضوا و يسلّموا تسليما، كما قال سبحانه(2)، و هذا لا شبهة في صحّته.
الرّابع: تفويض بيان العلوم و الأحكام على ما أرادوا و رأوا
ص: 379
المصلحة فيه، لاختلاف عقول النّاس أو للتّقيّة، فيفتون بعض الناس بالأحكام الواقعيّة و بعضهم بالتّقيّة، و يسكتون عن جواب آخرين بحسب المصلحة، و يجيبون في تفسير الآيات و تأويلها و بيان الحكم و المعارف بحسب ما يحتمله عقل كل سائل، و قد جاء في غير واحد من الأخبار: عليكم أن تسألوا و ليس علينا أن نجيب(1). و هذا أيضا لا ريب في صحّته.
الخامس: التّفويض في الإعطاء و المنع، فإن اللّه تعالى خلق لهم الأرض و ما فيها، و جعل لهم الأنفال و صفو المال و الخمس و..
غيرها، فلهم أن يعطوا ما شاءوا و يمعنوا كذلك، و هذا أيضا لا إشكال في صحّته(2).
السّادس: الاختيار في أن يحكموا في كل واقعة بظاهر الشّريعة أو بعلمهم أو ما يلهمهم اللّه تعالى من الواقع، كما دلّ عليه بعض الأخبار، ذكره السّيد (رحمه اللّه) في محكي رجاله. و هو على ظاهره من التّخيير المطلق في الحكم في كل واقعة من دون ملاحظة
ص: 380
خصوصيّات المقام، و ما فيه من المصالح و المفاسد و الحكم المترتّبة عليه كالتّخيير الابتدائي الثّابت بدليله كالقصر و الاتمام في مواضع التّخيير و خصال الكفّارة التّخييريّة و.. نحوهما محل تأمّل و إشكال(1).
السابع: تفويض تقسيم الأرزاق، جعله في الفوائد مما يطلق عليه التفويض(2) و صحته و فساده يعرف من المعنى الأول، و لعله يرجع إليه أو عينه، إلا أن يعمم الأول للخلق و الرزق و الآجال و..
غيرها.
و يختص هذا بخصوص الأرزاق كما هو ظاهره.
الثامن: ما عليه المعتزلة من أن اللّه سبحانه لا صنع له و لا دخل في أفعال العباد سوى أن خلقهم و أقدرهم ثم فوض إليهم أمر الأفعال يفعلون ما يشاءون على وجه الاستقلال، عكس مقالة المجبّرة، فهم بين إفراط و تفريط، و هو الذي ينبغي أن ينزل عليه قولهم (عليهم السّلام): لا جبر و لا تفويض لمقابلته بالجبر، إذ كما أن في الجبر نسبة العدل الرءوف الى الظلم و العدوان، فكذا في التفويض عزل للمحيط القائم على كل نفس بما كسبت من السلطان.
ص: 381
و قد جاءت الأخبار بذم الفريقين، و ان الحق أمر بين الأمرين(1).
التاسع: قول الزنادقة و أصحاب الإباحات، و هو القول برفع الحضر عن الخلق في الأفعال و الإباحة لهم ما شاءوا من الأعمال(2).
و إذ قد عرفت ذلك كله و أن بعض الأقسام صحيح، و بعضها فاسد، فلا ينبغي المسارعة الى القدح في الرجل بمجرد عد بعضهم له من المفوضة، إذ لعله يقول بالقسم الصحيح من التفويض، بل لا بد من التأمل و التروي.
و دعوى اشتهار التفويض في المعاني المنكرة فينصرف الإطلاق إليها و ينزل عليها(3) كما ترى.
ص: 382
الأشاعرة، و من القدرية المعتزلة، لأنهم شهروا أنفسهم بإنكار ركن عظيم من الدين و هو كون الحوادث بقدرة اللّه تعالى و قضائه، و زعموا أن العبد قبل أن يقع منه الفعل مستطيع تام - يعني لا يتوقف فعله على تجدد فعل من أفعاله تعالى - و هذا أحد معاني التفويض(1).
و قال علي بن إبراهيم: المجبرة الذين قالوا ليس لنا صنع و نحن مجبرون، يحدث اللّه لنا الفعل عند الفعل، و إنما الأفعال منسوبة الى الناس على المجاز لا على الحقيقة، و تأولوا في ذلك بآيات من كتاب اللّه لم يعرفوا معناها مثل قوله:
وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ (2) ، و قوله: «من يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (3) و.. غير ذلك من الآيات التي تأويلها على خلاف معانيها، و فيما قالوه ابطال للثواب و العقاب، و إذا قالوا ذلك ثم أقرّوا بالثواب و العقاب نسبوا الى اللّه تعالى الجور، و ان يعذب على غير اكتساب و فعل، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا أن يعاقب أحدا على غير فعل، و بغير حجة واضحة عليه، و القرآن كله و العقل(4) ردّ عليهم(5)، كما لا يخفى على من راجع و تدبر.
ص: 384
[(1)ثم لا يخفى عليك أن الجبرية فرق: فمنهم:
الجهمية: أصحاب جهم بن صفوان(2).
و النجارية: أصحاب الحسين بن محمد النجار(3).
و الضرارية: أصحاب ضرار بن عمرو(4) و.. غيرهم و يطلب
ص: 385
شرح عقائدهم الفاسدة من الكتب المعدة لبيان الملل و النحل(1).
ثم ان الخوارج فرق منهم:
الأزارقة: أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق(2).
و البيهسية: أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر(3).
و العجاردة: أصحاب عبد الكريم بن عجرد(4).
ص: 386
و الصلتية: أصحاب عثمان بن أبي الصلت(1).
و الحمزية: أصحاب حمزة بن أدرك(2).
و الشعيبية: أصحاب شعيب بن محمد(3).
و الميمونية: أصحاب ميمون بن خالد(4).
ص: 387
و الأطرافية: القائلين بمعذورية أصحاب الأطراف(1).
و الحازمية: أصحاب حازم بن علي(2).
و الثعالبة: أصحاب ثعلبة بن عامر(3).
ص: 388
و الرشيدية: أصحاب الطوسي، و يقال لهم: العشيرية(1).
و الشيبانية: أصحاب شيبان بن سلمة(2).
و المكرمية: أصحاب مكرم بن عبد اللّه العجلي(3).
و الإباضية: أصحاب عبد اللّه بن إباض(4).
ص: 389
و الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام(1).
و الحارثية: أصحاب الحارث الإباضي(2).
و اليزيدية: أصحاب يزيد بن نيسة(3).
ص: 390
و الصفرية الزيادية: أصحاب زياد بن الأصفر(1).
و اليونسية: أصحاب يونس السمري(2).
و العبيدية: أصحاب عبيد المكبت(3).
و الغسانية: أصحاب غسان الكوفي(4).
ص: 391
و الثوبائية: أصحاب أبي ثوبان المرجي(1).
و الصالحية: أصحاب صالح بن عمرو الصالحي(2) و..
غيرهم.
و لكل من هذه الفرق عقائد سخيفة، جملة منها موجبة للكفر، و اخرى مورثة للفسق(3)، و شرح ذلك كله يطلب من الكتب المعدة لشرح الملل و النحل].
و منها:
ص: 392
الغلاة(1):
ص: 393
و منهم: اليونسية: و هم بايعوا يونس القمي(1).
و منهم: النعمانية: و هم قوم محمد بن نعمان(2).
و منهم: السبئية، و هم اتباع عبد اللّه بن سبأ(3)، حيث قال لعلي (عليه السّلام): أنت الإله حقا! فنفاه (عليه السّلام) الى المدائن، و الذي يظهر من الشهرستاني أن عبد اللّه هذا كان يهوديا فاسلم، و كان في حال تهوّده يقول في يوشع بن نون وصي موسى
ص: 395
(عليه السّلام) بمثل ما قال في علي (عليه السّلام)(1)، و في المواقف إن ابن سبأ كان يقول إن عليا لم يمت و لم يقتل و إنما قتل ابن ملجم شيطانا، و علي (عليه السّلام) في السحاب و الرعد و البرق سوطه، و أنه ينزل بعد هذا الى الأرض و يملأها عدلا، و هؤلاء يقولون عند سماع الرعد عليك السّلام يا أمير المؤمنين(2).
و منهم: الطيارة(3):
.. الى غير ذلك من فرقهم(4)].
و المشهور أن الغلاة هم الذين يقولون في أهل البيت (عليهم السّلام) ما لا يلتزمون أهل البيت (عليهم السّلام) بثبوت تلك المرتبة لهم، كمن يدعى فيهم النبوة كالبزيعية(5)، و الإلهية(6) كالنصيرية(7)
ص: 396
و العلياوية(1) و المخمسة(2) و... نحوهم، مأخوذ من الغلو بمعنى التجاوز عن الحد، قال اللّه تعالى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ (3) أي لا تجاوزوا الحد. و قد يقال في الرجال: فلان كان من أهل الطيارة، و من أهل الارتفاع، و يريدون بذلك أنه كان غاليا.
لكن لا يخفى عليك أنه قد كثر رمي رجال بالغلو و ليس(4) من الغلاة عند التحقيق، فينبغي التأمل و الاجتهاد في ذلك و عدم المبادرة الى القدح بمجرد ذلك، و لقد أجاد المولى الوحيد حيث قال: اعلم أن كثيرا من القدماء - سيما القميين منهم و ابن الغضائري - كانوا يعتقدون للأئمة (عليهم السّلام) منزلة خاصة من الرفعة و الجلال، و مرتبة معينة من العصمة و الكمال بحسب اجتهادهم و رأيهم، و ما كانوا يجوزون التعدي عنها، و كانوا يعدون التعدي ارتفاعا و غلوا على حسب معتقدهم، حتى أنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوا، بل
ص: 397
ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم أو التفويض المختلف فيه أو المبالغة في معجزاتهم، و نقل العجائب من خوارق العادات عنهم و الإغراق في شأنهم أو إجلالهم و تنزيههم عن كثير من النقائص و إظهار كثرة قدرة لهم، و ذكر علمهم بمكنونات السماء و الأرض ارتفاعا أو موروثا للتهمة به، سيما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين.
و بالجملة الظاهر أن القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصولية أيضا، فربما كان شيء عند بعضهم فاسدا و كفرا أو غلوا أو تفويضا أو جبرا أو تشبيها أو.. غير ذلك و كان عند آخر مما يجب اعتقاده، أولا هذا و لا ذاك. و ربما كان منشأ جرحهم بالأمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم كما أشرنا إليه آنفا. أو ادعاء أرباب المذهب كونه منهم، أو روايتهم عنه. و ربّما كان المنشأ روايتهم المناكير عنهم.. الى غير ذلك.
فعلى هذا ربما يحصل التأمل في جرحهم بأمثال الأمور المذكورة.. الى أن قال: ثم اعلم أنه - يعني أحمد بن محمد بن عيسى و ابن الغضائري - ربما ينسبان الراوي الى الكذب و وضع الحديث أيضا بعد ما ينسبانه الى الغلو، و كأنه لرواية(1) ما يدلّ عليه، و لا يخفى ما فيه(2).
ص: 398
قلت: فلا بد حينئذ من التأمل في جرحهم بأمثال هذه الأمور، و من لحظ مواضع قدحهم في كثير من المشاهير كيونس بن عبد الرحمن، و محمد بن سنان، و المفضل بن عمر و أمثالهم عرف الوجه في ذلك، و كفاك شاهدا إخراج أحمد بن محمد بن عيسى لأحمد ابن محمد بن خالد البرقي من قم، بل عن المجلسي الأول أنه أخرج جماعة من قم(1)، بل عن المحقق الشيخ محمد بن صاحب المعالم أن أهل قم كانوا يخرجون الراوي بمجرد توهم الريب فيه(2)، فإذا كانت هذه حالتهم و ذا ديدنهم فكيف يعول على جرحهم و قدحهم بمجرده، بل لا بد من التروي و البحث عن سببه و الحمل على الصحة مهما أمكن، كيف لا و لو كان مجرد اعتقاد ما ليس بضروري البطلان عن
ص: 399
اجتهاد موجبا للقدح في الرجل للزم القدح في كثير من علمائنا المتقدمين، لأن كلا منهم نسب الى القول بما ظاهره مستنكر فاسد، كما نبّه على ذلك المولى الوحيد في ترجمة أحمد بن محمد بن نوح السيرافي حيث قال: أنه حكى في الخلاصة أن الشيخ (رحمه اللّه) كان يذهب الى مذهب الوعيدية(1)، و هو و شيخه المفيد الى أنه تعالى لا يقدر على غير مقدور العبد، كما هو مذهب الجبائي، و السيد المرتضى (رحمه اللّه) الى مذهب البهشمية من أن إرادته عرض لا في محل، و الشيخ الجليل إبراهيم بن نوبخت الى جواز اللذّة العقلية عليه سبحانه، و ان ماهيته تعالى معلومة كوجوده، و ان ماهيته الوجود، و ان المخالفين يخرجون من النار و لا يدخلون الجنة، و الصدوق و شيخه ابن الوليد و الطبرسي الى جواز السهو على(2) النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلم)، و محمد بن عبد اللّه الأسدي(3) الى الجبر و التشبيه و..
غير ذلك مما يطول تعداده، و الحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزمه أحد يؤمن باللّه، و الذي ظهر لي من كلمات أصحابنا المتقدمين و سيرة أساطين المحدثين أن المخالفة في غير الأصول الخمسة لا توجب الفسق، إلا أن تستلزم إنكار ضروري الدّين كالتجسيم بالحقيقة لا بالتّسمية، و كذا القول بالرؤية بالانطباع أو الانعكاس، و أمّا القول بها لا معهما فلا، لأنّه لا يبعد حملها على إرادة اليقين التّام
ص: 400
و الانكشاف العلمي، و أما تجويز السّهو عليه و إدراك اللذّة العقليّة عليه تعالى مع تفسيرها بإرادة(1) الكمال من حيث أنّه كمال فلا يوجب فسقا، و أمّا الجبر و التّشبيه فالبحث في ذلك عريض... الى أن قال: و نسب ابن طاوس و نصير الدّين المحقّق الطوسي و ابن فهد و الشّهيد الثّاني و شيخنا البهائي و جدّي العلاّمة و.. غيرهم من الأجلّة الى التّصوف، و غير خفي أن ضرر التّصوف إنما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول أو الوحدة في الوجود أو الاتّحاد أو فساد الأعمال(2) المخالفة للشّرع الّتي يرتكبها كثير من المتصوّفة في مقام الرّياضة أو العبادة، و غير خفيّ على المطّلعين على أحوال(3) هؤلاء الأجلّة من كتبهم و غيرها أنّهم منزّهون من كلتا المفسدتين قطعا، و نسب جدّي العالم(4) الرّباني و المقدّس الصّمداني مولانا محمد صالح المازندراني و غيره من الأجلّة الى القول باشتراك اللفظ، و فيه أيضا ما أشرنا إليه، و نسب المحمّدون الثّلاثة و الطّبرسي رضي اللّه عنهم الى القول بتجويز السّهو على النّبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)،(5)و نسب ابن الوليد و الصّدوق - أيضا - منكر السّهو(6) الى الغلو.
و بالجملة أكثر الأجلّة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا إليه، و من
ص: 401
هذا يظهر التّأمل في ثبوت الغلو و فساد المذهب بمجرّد رمي علماء الرّجال(1) من دون ظهور الحال. انتهى ما في التّعليقة(2).
فظهر أنّ الرّمي بما يتضمّن عيبا فضلا عن فساد العقيدة مما لا ينبغي الأخذ به بمجرّده، بل لا يجوز لما في ذلك من المفاسد الكثيرة العظيمة، إذ لعلّ الرّامي قد اشتبه في اجتهاده، أو عوّل على من يراه أهلا في ذلك، و كان مخطئا في اعتقاده، أو وجد في كتابه أخبارا تدلّ على ذلك و هو بريء منه و لا يقول به، أو ادّعى بعض أهل تلك المذاهب الفاسدة أنّه منهم و هو كاذب، أو روى أخبارا ربما توهّم من كان قاصرا أو ناقصا في الإدراك و العلم أنّ ذلك ارتفاع و غلو و ليس كذلك، أو كان جملة من الأخبار يرويها و يحدّث بها و يعترف بمضامينها و يصدق بها من غير تحاشي و اتّقاء من غيره من أهل زمانه، بل يتجاهر بها لا تتحمّلها أغلب العقول فلذا رمي.
[(3)و قد ورد في ذمّ الغلاة و تفسيقهم و تكفيرهم أخبار أوردها الكشّي في رجاله(4):
ص: 402
فمنها: ما رواه عن حمدويه و ابراهيم، قالا: حدّثنا العبيدي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) و ذكر الغلاة فقال: أنّ فيهم من يكذب حتّى أنّ الشّيطان ليحتاج الى كذبه.
ص: 403
و منها: ما رواه محمد بن مسعود(1)، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن مرازم، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): قلّ (2) للغالية: توبوا الى اللّه فإنّكم فسّاق كفّار(3).
و منها: ما رواه حمدويه قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم الكرخي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال:
أنّ ممّن ينتحل هذا الأمر لمن هو شرّ من اليهود و النّصارى و المجوس و الّذين أشركوا(4).
و منها: ما رواه حمدويه قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام):
يا أبا محمد! أبرأ ممّن يزعم أنّا أرباب، قلت: برىء اللّه منه، فقال: أبرأ ممن يزعم أنّا أنبياء، قلت: برىء اللّه منه(5).
ص: 404
و منها: ما رواه حمدويه قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن المغيرة، قال: كنت عند أبي الحسن (عليه السّلام) أنا و يحيى بن عبد اللّه بن الحسن (عليه السّلام) فقال يحيى: جعلت فداك أنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، فقال: سبحان اللّه! ضع يدك على رأسي فو اللّه ما بقيت في جسدي شعرة و لا في رأسي إلاّ قامت، قال: ثم قال: لا و اللّه ما هي إلاّ رواية(1) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)(2).
و منها: ما رواه حمدويه قال: حدّثنا يعقوب، عن ابن أبي عمير، عن شعيب، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إنّهم يقولون، قال: و ما يقولون؟ قلت: يقولون تعلم قطر المطر، و عدد النجوم، و ورق الشجر، و وزن ما في البحر، و عدد التراب، فرفع يده الى السماء و قال: سبحان اللّه! سبحان اللّه! لا و اللّه ما يعلم هذا إلا اللّه(3).
و منها: ما رواه حمدويه، قال: حدثنا محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن يحيى(4) بن المفضل بن عمر، قال:
سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول: لو قام قائمنا بدأ بكذابي
ص: 405
الشيعة فقتلهم(1).
و منها: ما رواه حمدويه و إبراهيم، قال(2): حدثنا محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أبي حمزة(3) قال أبو جعفر محمد بن عيسى و لقد لقيت محمدا رفعه الى أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: جاء رجل الى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) فقال: السّلام عليك يا ربي، فقال: مالك - لعنك اللّه -؟! ربي و ربك اللّه، أما و اللّه لكنت ما علمتك لجبانا في الحرب، لئيما في السّلام(4)(5).
و منها: ما رواه خالد بن حماد(6)، قال: حدثني الحسن بن طلحة رفعه، عن محمد بن اسماعيل، عن علي بن يزيد الشامي، قال: قال ابو الحسن (عليه السّلام): قال ابو عبد اللّه (عليه السّلام): ما انزل اللّه
ص: 406
سبحانه آية في المنافقين الا و هي فيمن ينتحل التشيع(1).
و منها: ما رواه محمد بن مسعود قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثني به(2) محمد بن أحمد، عن محمد بن عيسى، عن الحسن(3) بن مياح، عن عيسى، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): إياك و مخالطة السفلة، فإن السفلة لا يئون(4) الى خير(5).
و منها: ما رواه قال: وجدت بخط جبرئيل بن أحمد، قال:
حدثني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن حماد بن عثمان، عن زرارة، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): أخبرني عن حمزة أ يزعم أن أبي يأتيه؟ قلت: نعم، قال: كذب - و اللّه - ما يأتيه إلا المتكون(6)، إن إبليس سلط شيطانا يقال له المتكون يأتي في أي صورة شاء، إن شاء في صورة كبيرة، و إن شاء في صورة صغيرة(7)، و لا و اللّه ما يستطيع أن يجيء في صورة أبي (عليه
ص: 407
السّلام)(1).
و منها: ما رواه، محمد بن مسعود، قال حدثني علي بن محمد، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن زكريا، عن ابن مسكان، عن قاسم الصيرفي، قال:
سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول: قوم يزعمون إني لهم إمام(2)، و اللّه ما أنا لهم بإمام، لعنهم اللّه(3) كلما سترت سرا(4)هتكوه، هتك اللّه ستورهم، أقول: كذا، يقولون إنما يعني كذا، أنا إمام من أطاعني(5).
و منها: ما رواه محمد بن مسعود، قال: حدثني عبد اللّه بن محمد بن خالد، قال: حدثني الحسن الوشاء، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: من قال بأنا(6) أنبياء فعليه لعنة اللّه، و من شك في ذلك فعليه لعنة اللّه(7).
و منها: ما رواه قال: حدثني الحسين بن الحسن بن بندار، و محمد بن قولويه القميان، قالا: حدثنا سعد بن عبد اللّه بن أبي
ص: 408
خلف، قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال سمعته يقول: لعن اللّه بنان(1) التبان، و أما بنان(2) - لعنه اللّه - كان يكذب على اللّه(3)، أشهد أن أبي علي بن الحسين كان عبدا صالحا(4).
و منها: ما رواه سعد، قال: حدثنا محمد بن الحسين و الحسن بن موسى، قال: حدثنا صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عمّن حدثه من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال سمعته يقول: لعن اللّه المغيرة بن سعيد إنه كان يكذب على أبي فأذاقه اللّه حرّ الحديد، لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، و لعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا و إليه مآبنا و معادنا، و بيده نواصينا(5).
و منها: ما رواه سعد، عن أحمد بن محمد، عن أبيه و يعقوب ابن يزيد، و الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن حصين(6) بن عمرو النخعي، قال: كنت جالسا
ص: 409
عند أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقال له رجل: جعلت فداك، إن أبا منصور حدثني أنه رفع الى ربه و مسح على رأسه و قال له بالفارسية: يا پسر! فقال له أبو عبد اللّه (عليه السّلام): حدثني أبي عن جدي(1) رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قال: ان إبليس اتخذ عرشا فيما بين السماء و الأرض و اتخذ زبانية بعدد(2) الملائكة، فإذا دعا رجلا، فأجابه و وطئ [كذا] عقبه و تخطت إليه الأقدام تراءى له إبليس و رفع إليه، فإن أبا منصور كان رسول إبليس، لعن اللّه أبا منصور ثلاثا(3).
و منها: ما رواه سعد، قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: إن بنانا(4) و السري و بزيعا - لعنهم اللّه - تراءى لهم الشيطان في أحسن ما يكون صورة آدمي من قرنه الى سرته، قال فقلت: ان بنانا يتأول هذه الآية وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّماءِ إِلهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلهٌ (5) إن الذي في الأرض غير اله السماء، و اله السماء غير اله الأرض، و ان اله السماء أعظم من اله الأرض، و إن أهل الأرض يعرفون فضل اله السماء و يعظمونه، فقال: و اللّه ما هو إلا اللّه وحده لا شريك له، إله السماوات(6) و إله
ص: 410
في(1) الأرضين، كذب بنان، عليه لعنه اللّه لقد صغّر اللّه جل جلاله(2)و صغّر عظمته(3).
و منها: ما رواه سعد، قال: حدثني أحمد بن محمد، عن أبيه الحسين(4) بن سعيد، عن ابن أبي عمير، و حدثني محمد بن عيسى، عن يونس و محمد بن أبي عمير، عن محمد بن عمر بن أذينة، عن بريد بن معاوية العجلي، قال: كان حمزة بن عمارة اليزيدي(5) - لعنه اللّه - يقول لأصحابه:
إن أبا جعفر (عليه السّلام) يأتيني في كل ليلة، و لا يزال إنسان يزعم أنه قد أراه إياه فقد ولى(6) إني لقيت أبا جعفر (عليه السّلام) فحدثته بما يقول حمزة، فقال: كذّب عليه - لعنه اللّه(7) -، ما يقدر الشيطان أن يتمثل في صورة نبي و لا وصي نبي(8).
و منها: ما رواه سعد، قال: حدثني العبيدي، عن يونس،
ص: 411
عن العباس بن عامر القصباني.
و حدثني أيوب بن نوح، و الحسن بن موسى الخشاب، و الحسن ابن عبد اللّه بن المغيرة، عن العباس بن عامر، عن حماد بن أبي طلحة، عن ابن أبي يعفور، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقال: ما فعل بزيع؟ فقلت له: قتل، فقال: الحمد للّه، أما أنه ليس لهؤلاء المغيرة(1) شيء خيرا من القتل، لأنهم لا يتوبون أبدا(2).
و منها: ما رواه محمد بن مسعود(3)، قال: حدثني محمد بن أورمة، عن محمد بن خالد البرقي، عن أبي طالب القمي، عن حنان بن سدير عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إن قوما يزعمون أنكم آلهة، يتلون علينا بذلك قرآنا(4)يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (5) قال: يا سدير! سمعي و بصري و شعري و بشري و لحمي و(6) دمي من هؤلاء براء، براء(7) اللّه منهم و رسوله، ما هؤلاء على
ص: 412
ديني و دين آبائي، لا يجمعني(1) و إياهم يوم القيامة إلا و هو عليهم ساخط، قال قلت: فما أنتم جعلت فداك؟ قال: خزان علم اللّه، و تراجمة وحي اللّه، و نحن قوم معصومون، أمر اللّه بطاعتنا، و نهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء و فوق الأرض.
قال الحسين بن أشكيب: و سمعت من أبي طالب عن سدير - إن شاء اللّه تعالى(2).
و منها: ما رواه إبراهيم بن علي الكوفي، قال: حدثنا إبراهيم ابن إسحاق الموصلي، عن يونس بن عبد الرحمن، عن العلاء بن رزين، عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: و إياك و السفلة، إنما شيعة جعفر بن محمد من عف بطنه و فرجه، و اشتد جهاده، و عمل لخالقه، و رجا ثوابه، و خاف عقابه(3).
و منها: ما رواه محمد بن مسعود، قال: حدثني علي بن محمد
ص: 413
القمي، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سلام، عن حبيب الخثعمي، عن ابن أبي يعفور(1)، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فاستأذن عليه رجل حسن الهيئة فقال: اتق السفلة، فما تقارب(2) في الأرض حتى خرجت، فسألت عنه فوجدته غاليا(3).
و منها: ما رواه إبراهيم بن محمد بن العباس، قال: حدثني أحمد بن إدريس القمي، عن حمدان بن سليمان، عن محمد بن الحسين، عن ابن فضال، عن ابن المعزا(4)، عن عنبسة، قال:
قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): لقد أمسينا و ما أحد ادعى(5) لنا ممن انتحل(6) مودتنا(7).
و منها: ما رواه محمد بن الحسن البرقي(8) و عثمان بن حامد،
ص: 414
قالا: حدثنا محمد بن يزداد، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن بشار، عن عبد اللّه بن شريك، عن أبيه(1) قال: بيّنا علي (عليه السّلام) عند امرأة(2) من عنزة، و هي أم عمرو، إذ أتاه قنبر فقال(3): إن عشرة نفر بالباب يزعمون انك ربهم، فقال:
ادخلهم(4). قال: فدخلوا عليه، فقال(5): ما تقولون؟ فقالوا نقول: إنك ربنا، و أنت الذي خلقتنا، و أنت الذي رزقتنا(6)، فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا، إنّما(7) أنا مخلوق مثلكم، فأبوا أن يفعلوا(8) فقال لهم: ويلكم، ربي و ربكم اللّه، ويلكم توبوا و ارجعوا، فقالوا: لا نرجع عن مقالتنا، أنت ربّنا ترزقنا(9)، و أنت خلقتنا، فقال قنبر(10): ائتني بالفعلة، فخرج قنبر فأتاه بعشرة رجال
ص: 415
مع الزبل و المرور(1)، فأمرهم(2) أن يحفروا لهم في الأرض، فلمّا حفروا خدا أمر بالحطب و النار فطرح فيه حتى صار نارا تتوقد، قال لهم: توبوا،(3) قالوا: لا نرجع، فقذف(4) على بعضهم ثم قذف بقيتهم في النار(5)، قال علي (عليه السّلام):
إني إذا أبصرت شيئا منكرا ***
أوقدت نارا(6) و دعوت قنبرا(7)].
ص: 416
ص: 417
ص: 418
الموضوع الصفحة
الفصل السادس:
من تقبل روايته و من ترد 9
شروط قبول خبر الواحد في الراوي 12
الشروط المعتبرة في الراوي:
الاول: الاسلام 13
الثاني: العقل 19
الثالث: البلوغ 21
الرابع: الايمان 25
الخامس: العدالة 32
السادس: الضبط 43
تنبيهات:
الاول: ما المراد من الضابط؟ 44
الثاني: هل قيد العدالة يغني عن الضبط؟ 45
الثالث: من يطلق عليه ضابط؟ 46
الرابع: كيفية اعتبار الضبط في الراوي؟ 47
ص: 419
الخامس: الاكثار من الرواية لا يدل على عدم الضبط 48
السادس: رواية الاصول لا تحتاج الى الضبط 48
السابع: تفرد الضابط الثقة، حجة و إن لم يكن له موافق 48
تذييل: فيه امران.
الاول: لا يلزم غير ما ذكر من الشروط كالذكورية و الحرية و غيرهما 50
فرع: من كان له اسمان جازت الرواية عنه! 54
فائدة: لا يعتبر في حجية الخبر وجوده في أحد الكتب الاربعة 54
الثاني: شرائط الراوي معتبرة حين الاداء لا حال التحمل 56
الجهة الثانية:
كيفية ثبوت عدالة الراوي 63
هل تكفي تزكية العدل الواحد في قبول الرواية؟ 65
تنبيهات:
الاول: تكفي تزكية غير الامامي الموثق ايضا 81
الثاني: اعتبار التعدد و عدمه جار في الجرح كالتزكية 81
الجهة الثالثة:
الخلاف في قبول الجرح و التعديل مطلقين او مع ذكر السبب، اقوال: 83
حجة القول الاول 88
حجة القول الثاني 89
حجة القول الثالث 92
حجة القول الرابع 94
حجة القول الخامس 95
حجة القول السادس 96
حجة القول السابع 96
تنبيهان:
الاول: الجرح المجمل من ائمة الفن لا أثر له 97
الثاني: الاشكالات الواردة في المقام 98
ص: 420
الجهة الرابعة:
الاقوال في ما لو اجتمع الجرح و التعديل 111
الجهة الخامسة:
ما يعتبر في تصحيح السند 119
هل يقبل التوثيق المجهول؟ 120
تنبيهات:
الاول: قول الثقة حدثني الثقة تزكية للمروي عنه 124
الثاني: هل مجرد رواية العدل عن رجل يكون تعديلا له؟ 126
الثالث: فتوى المجتهد على طبق حديث ليس حكما منه بصحته 128
الرابع: موافقة الحديث للاجماع لا يدلّ على صحة سنده 129
الخامس: من لم يقع في كتب الرجال تصريح بعدالته فهو مجهول 130
السادس: اذا روى ثقة عن ثقة حديثا و نفاه المروي عنه 133
الجهة السادسة:
الالفاظ المستعملة في التعديل و الجرح 137
المقام الاول:
الفاظ المدح و اقسامها 138
قولهم: فلان عدل امامي ضابط 141
قولهم: عدل من اصحابنا الامامية ضابط 141
قولهم: ثقة 146
تنبيهات:
الاول: حكم ما لو قال القائل: ثقة غير عدل أو ما شاكل ذلك 154
الثاني: تقرير اشكال على المختار 156
الثالث: حكم قول الامامي ان فلانا ثقة 158
الرابع: حكم قول العدل: إن فلانا ليس بثقة 159
الخامس: من كرر في حقه لفظ الثقة 160
قولهم: ثقة في الحديث أو في الرواية 162
ص: 421
قولهم: صحيح الحديث 166
قولهم: حجة 170
قولهم: اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه 171
مقامان:
الاول: ما المراد من هذه العبارة؟ 176
الثاني: تعداد الجماعة و تعيين اسمائهم 197
تذنيب:
قد شهد الثقاة بوثاقة جمع غير اصحاب الاجماع 204
قولهم: من اصحابنا 208
قولهم: عين و وجه 209
قولهم: ممدوح 212
قولهم: من اولياء أمير المؤمنين عليه السّلام 213
قولهم: خاصي 216
قولهم: صاحب سر أمير المؤمنين عليه السّلام 217
قولهم: من مشايخ الاجازة أو شيخ الاجازة 218
تذييل:
الفرق بين شيخوخة الرواية و الاجازة في افادة الوثاقة 223
قولهم: شيخ الطائفة أو من اجلائها أو معتمدها 223
قولهم: لا بأس به 224
قولهم: أسند عنه 228
قولهم: مضطلع بالرواية 238
قولهم: سليم الجنبة 238
قولهم: خاصي 239
قولهم: متقن 240
قولهم: حافظ و ثبت و ضابط 240
قولهم: يحتج بحديثه 242
ص: 422
قولهم: صدوق 242
قولهم: محل الصدق 242
قولهم: يكتب حديثه 243
قولهم: ينظر في حديثه 243
قولهم: شيخ 243
قولهم: جليل 244
قولهم: صالح الحديث 244
قولهم: نقي الحديث 245
قولهم: مسكون الى روايته 245
قولهم: بصير بالحديث و الرواية 246
قولهم: مشكور 246
قولهم: مرضي 246
قولهم: ديّن 247
قولهم: فاضل 247
قولهم: فقيه 248
قولهم: عالم و محدث و قارئ 248
قولهم: ورع 249
قولهم: صالح (من دون اضافة الى الحديث) 249
قولهم: زاهد 249
قولهم: قريب الأمر 250
قولهم: معتمد الكتاب 252
قولهم: كثير المنزلة 253
قولهم: صاحب الامام الفلاني (عليه السّلام) 253
تذنيب
قولهم: مراتب التعديل عند العامة 254
***
ص: 423
المقام الثاني
في ساير اسباب المدح و أماراته 257
منها: كونه وكيلا لأحد الائمة (عليهم السّلام) 258
منها: من يترك رواية الثقة أو الجليل.. 260
منها: من يروي عنه أو كتابه جماعة من الاصحاب 262
منها: روايته عن جماعة من الاصحاب 263
منها: رواية الجليل او الاجلاء عنه 263
منها: رواية صفوان بن يحيى و ابن ابي عمير عنه 263
منها: رواية محمد بن اسماعيل أو جعفر بن بشير عنه 264
منها: كونه ممن يروي عن الثقات 265
منها: رواية علي بن الحسن بن فضال و نظائره عنه 265
منها: كونه ممن تكثر الرواية عنه و يغنى بها 267
بيان:
معنى كونهم عليهم السّلام محدثون 270
منها: رواية الثقة عن شخص مشترك الاسم و اكثاره منها 271
منها: اعتماد شيخ على شخص 271
منها: اعتماد القميين عليه 272
منها: كون رواياته كلها او جلّها مقبولة أو سديدة 272
منها: وقوعه في سند حديث وقع اتفاق الكل أو الجلّ على صحته 273
منها: وقوعه في سند حديث صدر الطعن فيه من غير جهته 273
منها: اكثار الكافي و الفقيه من الرواية عنه 274
منها: رواية الثقة عن رهط مطلقا او مقيدا بقوله: من اصحابنا 274
منها: رواية الثقة الجليل عن اشياخه 275
منها: ذكر الجليل شخصا مترضيا أو مترحما عليه 275
منها: ان يقول الثقة: لا أحسبه الا فلانا 276
منها: ان يقول الثقة: حدثني الثقة 277
ص: 424
منها: ان يكون الراوي ممن ادعي اتفاق الشيعة على العمل بروايته 278
منها: وقوع الراوي في سند حكم العلامة بصحة حديثه 281
منها: نقل حديث غير صحيح متضمن لوثاقته أو جلالته 284
منها: أن يكون الراوي من آل ابي جهم 285
منها: أن يكون الراوي من آل ابي شعبة 285
منها: أن يكون الراوي من آل ابي نعيم الأزدي 286
منها: ان يذكره الكشي و لا يطعن عليه 286
منها: قول العدل: حدثني بعض اصحابنا 287
تذييل: يتضمن أمرين:
الاول: كون هذه الامارات كثيرة جدا 288
الثاني: كون المدار في هذه الامارات على الظن الفعلي 289
وقوع كلام في توثيق جماعة 289
المقام الثالث:
في الفاظ الذم و القدح 293
قولهم: فاسق.. و ليس بعدل... و غيرهما 293
قولهم: ضعيف 295
قولهم: ضعيف الحديث 298
قولهم: مخلط أو مختلط 302
قولهم: مرتفع القول 305
قولهم: متهم بالكذب أو الغلو.. 306
المقام الرابع:
في ساير اسباب الذم و ما تخيل كونه من ذلك
منها: كثرة روايته عن الضعفاء و المجاهيل 307
منها: كثرة رواية المذمومين عنه 308
منها: روايته عنهم (ع) على وجه يظهر منه كونهم رواة لا حججا 308
منها: كونه كاتب الخليفة و من عماله 309
ص: 425
منها: كون الرجل من بني امية 311
منها: فساد العقيدة 316
من الفرق الفاسدة: العامة 316
من الفرق الفاسدة: الكيسانية 317
من الفرق الفاسدة: الاسماعيلية 321
من الفرق الفاسدة: الهاشمية 322
من الفرق الفاسدة: الحيانية 322
من الفرق الفاسدة: الرزامية 322
من الفرق الفاسدة: الفطحية 323
من الفرق الفاسدة: السمطية 325
من الفرق الفاسدة: الناووسية 326
من الفرق الفاسدة: الواقفية 327
اصناف الواقفية 331
الاخبار الواردة في الواقفية 334
من الفرق الفاسدة: الزيدية 347
من الفرق الفاسدة: البترية 349
من الفرق الفاسدة: الجارودية 353
من الفرق الفاسدة: السليمانية 354
من الفرق الفاسدة: الصالحية 355
من الفرق الفاسدة: الخطابية 355
من الفرق الفاسدة: البزيعية 357
من الفرق الفاسدة: البيانية 358
من الفرق الفاسدة: البنانية 359
من الفرق الفاسدة: الحرورية 359
من الفرق الفاسدة: المخمسة 361
من الفرق الفاسدة: العلياوية 362
ص: 426
من الفرق الفاسدة: القدرية 364
فرق القدرية أو المعتزلة 365
من الفرق الفاسدة: المرجئة 369
من الفرق الفاسدة: المغيرية 372
من الفرق الفاسدة: النصيرية 374
من الفرق الفاسدة: الشريعية 375
من الفرق الفاسدة: المفوضة 376
معاني التفويض 377
من الفرق الفاسدة: الجبرية 383
فرق الجبرية 385
من الفرق الفاسدة: الغلاة 393
فرق الغلاة 394
الاخبار الذامة للغلاة 402
ص: 427