أَبُوْ طَاْلَب وَبَنُوْه المجلد 3

هویة الکتاب

السيد علاء آل السيد علي خان

المدني

أَبُوْ طَاْلَب

وَبَنُوْه

الجزء الثالث

إصدار

مؤسسة مسجد السهلة المعظم

الطبعة الثالثة (1436ه- -2015 م)

جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

تفضل به سماحة المفكر الإسلامي العلامة السيد محمد علي الحلودام تسديده.

ولم يكن أبوطالب سوى جذوة النصر في محتدمات الصراع بين جبهتين متنافستين تعيد الى الاذهان الحاضرة نزاعاً عميقاً يحتفر في أغوار ذاكرة التاريخ حينما يستعيد مدياته الشاسعة في لهوات الماضي السحيق، ولم يكن في وسع الباحث أن يغض النظر عن دواعي هذه التدافعات الرهينةُ بهواجس الخشية من مستقبل مزهو بنصر يستحث الخطى الى مصير من عنفوان الرسالة المليئة بتحديات قادمة من وراء غيب.. لكنه مقروء بعين البصيرة المحمدية التي ما فتأت تستشرف المستقبل البعيد لكنه القريب في خضم تطلعات المرحلة الآتية، وتراني استغرقت كثيرا في تحضير الفكرة التي أود إلقاءها بين ثنايا أفكار تختلج في نفس الكاتب الذي يستثيره أبوطالب في بحث تاريخي، يُنتشل من بين تراكمات الرؤى والقراءات الحثيثة، وأجدني مضطراً أن أفصح عما تعتريه مشاعري في مسك أطراف الحديث لأعرف من أين المبدأ لأعرف الى أين المنتهى.. وكم أستجد السير في وعثاء قاحلة من الإنصاف، بل مليئة بتحديات القداسة المفترضة التي تهيمن على أجواء البحث، حيث يلجها باحثٌ مرهوب بتحضيرات السلطة في الاحتفاظ بمشروعية الصحابة، أو ناقدٌ مهددٌ في مطاردة ضمير الإنصاف، أو ثالثٌ يتخبط بين اجتهادات الآخرين، وبين هذا و ذاك يستجد البحث يوماً

ص: 2

بعد آخر وكأنه يولد من جديد لكنه بين ثنايا التهم وبين دواعي الدفاع في استنهاض الهمم، وتتنامى الحاجة في توضيح الحقائق كلما دعت مثلها في إيغال الأحقاد مبثوثة في صدور قوم، أو مرتسمة على شفاه مرتجفة يسيلُ منها لعاب السُم، أو متطايرة على صفحات صفراء ينبعث منها شرراً مستطيراً، و تنكبحُ الشبهة تلو الأخرى في خضم الدفاع عن ذلك الذي أوقف نفسه من أجل (محمد) (صلی الله علیه و آله) ، ذلك النبي الذي آمن به أبوطالب قبل مبعثه فأغدق عليه الحنان كما أفاضت عينا فاطمة بنت أسد شفقة على ذلك الفتى الذي جعلته أعز من أبنائها، وهو يعيش بين عِز أبي طالب وبين حنان بنت أسد ليولد من بين ذلك فتى يكمل عطاء أبي طالب في ابن أخيه (محمد) (صلی الله علیه و آله) حين يرقى عليٌّ (علیه السلام) على كتف محمد (صلی الله علیه و آله) مرتين، أحدهما وهو وليد الكعبة يتكفله عطفاً وتربية وأدباً فيحمله على كتفه الشريف ليرعاه كما يرعى الوالد ولده، وأخرى يرقى على كتفه ليحطم أصنام مكة من على كعبة البيت الحرام فيكون ظهيراً لمحمد (صلی الله علیه و آله) ، وأبو طالب يرعى هذه العلاقة ليؤصل بين خاتم وفاتح، بين خاتم النبين محمد (صلی الله علیه و آله) ، وبين فاتح الاوصياء عليٍّ (علیه السلام) ذلك الفتى الذي نذره أبوه لدعوة ابن أخيه ناصراً وداعياً ونذيراً..

وأبو طالب سيد قريش وزعيمها العتيد يتقدم الفتح على مدى تاريخ طويل ليحرز النصر في كل مواطن الصراع، لكن معركة الفتح لا تزال حاميةً الوطيس، فيتقدم عليٌّ (علیه السلام) ليحسم الصراع ليكون هو الأجدر في البدء كما هو الأجدر في الخاتمة.

ص: 3

وهكذا هو كتاب (أبو طالب وبنوه) للعلامة السيد محمد علي السيد علي خان ذلك السفر الخالد الذي تخلد بعطائه الفذ حين أشرك مع أبي طالب أبناءه الميامين فتكتمل الصورة في عليٍّ (علیه السلام) ذلك العطاء الالهي ليدركه المؤلف في مشروعه منسجماً مع دراسته الحثيثة المستوحاة من هاجسه العلوي الذي حمله موسوماً بوسام الولاء.

وشاءت إرادة العلي القدير أن ينتقل السيد الجليل إلى دار الرضوان دون أن يرى النور الجزآن الآخران من سفره المبارك؛ فانبرى نجله الميمون الأستاذ السيد علاء الذي وجد أن من برِّ البنوة بالأبوّة القيام على استكمال الكتاب فأتمّ ما نوى إصداره والده المعظم، ولم يكد الجزء الثالث أن يرى النور حتى قيض الله له من يرعاه في وقت متأخر عن حياة المؤلف ليبرّ به ابن أخيه السيد الفاضل مضر السيد علي خان مأخوذا بولائه العلوي ومتشوفاً لتكريمه وتخليده، فرحم الله السيد المؤلف خالداً مخلداً في جنان الخلد محفوفاً برحمةٍ تزكى كلما قلبت صفحات كتابه أيدي الباحثين.

السيد محمد علي الحلو

ص: 4

المُقَدِّمَة

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

﴿رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾

(سورة هود - الآية 73)

﴿إنَّما يريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيراً ﴾

(سورة الأحزاب - الآية33)

وجدتني لا أستَشرِفُ لشيء استشرافيَ للكتابةِ في أبي الحسنين، ولا أتشوفُ لشيء تشوفي للحديثِ عنه، وبعلمي إنه لأمر يُتَكَلَّفُ على مشقة ومضيق؛ وذلك لوعورةِ المطلب وصعوبةِ المرتقى، فبينا أنا حيرانٌ بين الإقدامِ والإحجامِ والرغبةِ والرهبةِ، بين عهد يقتضِيني الوفاءُ به، ومانعٍ يُقَصِّرُ بِي مُرادي، وهاجسِ خوفٍ يَعتريني ف-:

مَا أرَانا نَقولُ إلاّ مُعاراً *** أو مُعَاداً مِنْ لَفْظِنَا مَكرُوْراً

مُدركاً بأنَّ رَسولَ الرجلِ ترجمانُ عقلهِ وكتابُه أبلغُ ما ينطِقُ عنهُ - وهي مقُولتُكَ يا أبا الحسنين - مما أشعرني بثقل العِبءِ.. ولكنني استعنتُ بالقوي العزيز في الإضطلاعِ بحملهِ، وخطرَ على بالي حكايةٌ عن رجلٍ دعاكَ يا عليّ إلى طعامٍ، فكان قولُك: ((نأتيك على أنْ لا

ص: 5

تتكلف ما ليس عندك))؛ فهاونت نفسي، فانقلب الروع أمنا وتنفست الصعداء، ورجوتُ دَرْكَ المأمول حتى ولوكانَ على سبيلِ الإشارةِ لا على نحو التقصي وبلوغِ الغايةِ.

نَعم .. إنَّ المرءَ ليجد نفسَه عند الكتابةِ فيك يا أبا السِّبطين كَمَنْ يقفُ بإزاء طودٍ أشم لا مرقى فيه ولا مرتقى، وبحر لا يوقف له على ساحل، ونجم بعيد من يد المتناول، بَلَهَ يجد نفسه أمام رجل ما أظل أديم السماء أكرمَ منه ولا وَطأَ عفرَ التراب أعزَّ منه، أوليّةٌ بيّنةٌ وأحقيّةٌ قاهرةٌ وأسبقيّةٌ غالبةٌ؛ فلا يسع المفكر فيه إلاّ الإعترافَ له بكلِّ ذلك وفوق ذلك، وهل يجدُ المتحدثُ كلمةً يرضاها لتُفصِحَ عن علو شأنِ من هو عنوانُ صحيفةِ المجد الإنساني!؟ وهل تسخو النفسُ بعبارةٍ تلمُّ بجوانبِ عظمةِ من كانَ ((يُسمَعُ وَطأ جبريلَ (علیه السلام) فوق بيتِهِ))؟

فحسبي أنَّ الاقرارَ بالعجزِ في موضعهِ هو كالاستطالةِ بالقدرةِ في موضِعِها.. فانفحني يا أبا الريحانتين بنفحةٍ من روحِك؛ لأنك نفحةٌ مِن نفحاتِ السماءِ، وهَبْ لي من بعضِ هباتكَ فإنَّك هبةٌ من هباتِ الله، وتقبل مني يا سيدي يا أبا تراب هذا الجهد - على العلاَّت - مِنْ مُقلٍ، وإنْ هو إلاّ نقطةٌ في دائرةِ مجدِك ونُغبةُ من بحرِ محيطِ عظَمتك، مُستشفعاً بك اللهَ ورسولَه - والشفيعُ جناحُ الطالبِ - أنْ يجعلَ محبَّتك والايمانَ بولايَتِك سبباً لدخولِ الجنة والنجاةِ من النار، لأنَّك بابُ اللهِ التي يؤتَى منها ((وينبوعُ الخيرِ ومعدنُ البركاتِ ومُنجي غَرقى بحارِ المعاصي من المخازي والمهاوي والدَّرَكَات))، وبابُ حِطَّةٍ، وقد وقفتُ ببابِك واستوقفتُ وأنشدتُ لِنفسي:

ص: 6

قِفْ عندَهم وقفةَ الراجي شفاعتَهم *** يومَ الجزاءِ إذا ما سُعِّرَتْ نارُ

وَاهتف عليُّ أغثني مِن لَظى سقرٍ *** إنِّي إليكَ بعينِ الذُّلِ نظَّارُ

بَابُ الإلهِ التي مَا خَابَ طَارِقُها *** سَحابُ فَضلٍ عميمُ الخيرِ مدرار

ص: 7

وَلِيْدُ ٱلكَعْبَةِ

في يوم الجمعة لثلاثِ عشرةَ خلت من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وفي بقعة هي من أشرف بقاع الأرض (مَكَّة)، وفي أقدس بيت أضافه الله تعالى إلى نفسه بقوله عزّ من قائل:﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ (1) الذي اختصَّه اللهُ بتشريفهِ وتعظيمهِ وفي أجل موضعٍ منه (الكعبة) كان ميلادُ عَلِيٍّ بنِ أبِي طَالبٍ (علیه السلام) ، وكانت إطلالتُه على الدنيا بطلعةٍ هي من القمر أضوأ ومن البدر أتمّ.

لقد أطَلَّ عَلِيُّ بنُ أبي طالب (علیه السلام) مِنْ غَياهِبِ الجاهليةِ فأطلَّت معه دنيا أظلها بِلواءٍ مَجيد، كُتِبَ عليه بأحرفٍ من نور: لا إلهَ إلاَ الله! اللهُ أكبر (2).

وإذا نحنُ نظرنا إلى ميلاد المعاني الانسانية في قلبٍ وَرُوحٍ، رأينا: أنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالب (علیه السلام) إنما وُلِدَ مؤمِنا بالرسالةِ الخيِّرة ونصيراً لها، فإنَّ خصائصَ البيتِ الطالبيِّ الذي رُبِّيَ فيه محمد، انتقلت بصورة طبيعية إلى ابن عمِّه ساعةَ ميلادِه (3)، فلم يكن في مواليد حواء أعظمَ منه شأناً وأبعد أثراً، وأخلدَ ذكراً (4).

ص: 8


1- سورة قريش - الآية: 3.
2- سلامة، بولس، عيد الغدير الطبعة الثانية - دار الاندلس - بيروت 1961 م -ص.10
3- جرداق، جورج: علي صوت العدالة الإنسانية.
4- سلامة، بولس، عيد الغدير ص10.

وكون أمير المؤمنين (علیه السلام) وُلد في البيت أمرٌ مشهورٌ في الدنيا .. ولم يشتهر وضع غيره كما اشتهر وضعه بل لم تتفق الكلمة عليه، وما أحرى بإمام الأئمةِ أن يكون وضعه فيما هو قبلةٌ للمؤمنين! وسبحانَ من يضعُ الأشياءَ في مَواضِعِها (1).

فقد رُوي: أنَّه لما ضَرب فاطمة بنت أسد (رضی الله عنها) المخاض أدخلها أبوطالب (علیه السلام) الكعبة بعد العِشَاء فولَدت فيها عليَّ بنَ أبي طالب (علیه السلام) ، ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولودٌ في بيتِ اللهِ الحرام سواه إكراماً من الله - عزّ اسمُه - وإجلالاً لمحلِّه في التعظيم (2).

ففي رواية الصدوق عن سعيد بن جبير (رضی الله عنه) قال: قال يزيد بن قعنب: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بأزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد (رضی الله عنها) أمّ امير المؤمنين (علیه السلام) ، وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: ربّي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، وأنه بنى البيت العتيق، فبحق من بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لمّا يسرت عليّ ولادتي (3).

ص: 9


1- الاميني، الامام عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنة والادب - دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان ج6، ص22 نقلا عن شهاب الدين السيد محمود الآلوسي - صاحب التفسير الكبير في (سرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية للعمري، ص15).
2- الديلمي، أبو محمد الحسن بن ابي الحسن، ارشاد القلوب - دار الفكر - بيروت، ج1، ص5
3- القمي، الشيخ عباس، الانوار البهية - مؤسسة منشورات ديني - مشهد ص55-56

ولو أنك استعدت الماضي الى ذاكرتك رأيت ابنة أسد - فاطمة - (رضی الله عنها) تجول بالبيت الحرام تلتمس البركة، ثم لرأيتها تأتي الكعبة تطوف بها مرّة فمرّات، متمسحة بأستارها آونة مقبلتها أخرى، وإذا هي تتشبث أصابعها بأستار الكعبة تستعين بها وتجيل فيما حولها عيناً حائرة، لعلها تبصر زوجها أبا طالب يسعى هنا أوهناك ولكنها لا تراه...

ثم لعلك تتبعها وقد خشيت هي أن تلقفها الابصار المتطلعة ممن حضر من أناس كان دأبهم الاجتماع في أروقة البيت وفي أفنائه، فإذا رأيتها قد انحازت ناحية، ودلفت إلى أستار الكعبة فتوارت خلفها عن عيون القوم فكفاك ما شهدت...

وقد يأخذك العجب، وتملكك الدهشة، ولكنه عجب قصير أجله، ودهشة لن يطول بك مداها ما دامت فاطمة قد بدت ثانية لناظريك، واهنة وأشدّ ضعفاً ممّا رأيتها من قبل، وقد احتملت - مدّثراً بستر الكعبة الشريف - وليدها بين صدرها وكفيها (1).

هذا وقد اهتز لوصف لهذا المشهد أحد الشعراء فتغرد:

هذه فاطمة بنت أسد *** أقبلت تحمل لاهوت الأبدْ

فاسجدوا ذلاً له فيمن سجدْ *** فله الأملاك خرّت سجدا

ص: 10


1- عبد المقصود، عبد الفتاح، الامام علي بن ابي طالب - المجموعة الكاملة - الطبعة الاولى - دار المختار - القاهرة 2006 م، ج1 ص39

إذ تجلى نوره في آدم ِ

هل درت أمّ العلا ما وضعتْ *** أم درت ثدي النهى ما أرضعتْ

أم درت كف الهدى ما رفعتْ *** أم درى ربّ الحجى ما ولدا

جلّ معناه فلمّا يعلم ِ

سيدٌ فاق على كل الأنامْ *** كان إذ لا كائن وهو إمامْ

شرف الله به البيت الحرامْ *** حين أضحى لسناه مولدا

فوطى تربته بالقدم ِ

ص: 11

إن يكن يجعل لله البنون *** ( فتعالى الله عما يصفون )

فوليد البيت أحرى أن يكون *** لولي البيت حقّاً ولدا

لا عزير لا ولا ابن مريم

ولما نمي إلى أبي طالب (علیه السلام) النبأ العظيم يعود مسرعاً ليحتبس طفله بين ذراعيه ويضمه إلى صدره يتنشق عبقه في كثير من الحب والرحمة .. وبين قبلات الأمّ الحانية وعطف الأب الشفيق ترتسم على ثغر الوليد ابتسامة شعر الأبوان معها أنهما ولدا فيه من جديد، وتحاورا في تسميته، قالت فاطمة (رضی الله عنها) : فلنسمه حيدرة، وقال أبوطالب (علیه السلام) : بل عليٌّ، وقال (1):

سميته بعليٍّ كي يدوم له *** عزّ البقاء وفخر العزّ أدومه

وفاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف تجتمع بأبي طالب في هاشم جدّ النبي (صلی الله علیه و آله) .

وكان بيت هاشم بن عبد مناف من البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بيت قريش (2).

ص: 12


1- الأربلي، أبو الفتح، علي بن عيسى، كشف الغمة، الطبعة الاولى - دار المرتضى - بيروت - لبنان -2006 م، ج1، ص82
2- إبراهيم حسن، د. علي، التاريخ الاسلامي العام، الطبعة الثانية - مكتبة الانجلو المصرية، 1959 م، ص31

وما من شك في أن فاطمة بنت أسد (رضی الله عنها) من المؤمنات السابقات، وإنها لم تزل تحت أبي طالب (علیه السلام) حتى مات (1).

وازاء شبهة من زعم خلاف ذلك يعجب سيدنا علي بن الحسين (علیهما السلام) كل العجب فيستفهم على وجه الإنكار بقوله: أعلى أبي طالب (علیه السلام) أو على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد نهاه الله تعالى أن يقر مؤمنة - يعني فاطمة بنت أسد - مع كافر - يعني أبا طالب - في غير آية في القرآن! (2)

ولقد تعلم أن فاطمة بنت أسد (رضی الله عنها) هي اول هاشمية ولدت لهاشمي، كان عليٌّ (علیه السلام) أصغر بنيها، وجعفر أسنّ منه بعشر سنين، وعقيل أسنّ منه بعشر سنين، وطالب أسنّ من عقيل بعشر سنين! وفاطمة بنت أسد أمّهم جميعاً.

ولمّا ماتت فاطمة بنت أسد (رضی الله عنها) أمّ علي بن أبي طالب (علیه السلام) ألبسها رسول الله (صلی الله علیه و آله) قميصه واضطجع معها في قبرها وقال: اللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد، ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها، بحقّ نبيك محمّد والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين.

ص: 13


1- الموسوي، شمس الدين فخار بن معد، ايمان ابي طالب، تحقيق السيد د. محمد بحر العلوم، الطبعة الثانية، مطبعة الآداب، النجف،1965 م، ص123 وعلي خان، السيد محمد علي، أبو طالب وبنوه، والخنيزي، عبد الله، أبوطالب مؤمن قريش، المؤسسة الثقافية للنشر والتأليف، 1961 م، ص257ِ
2- نفس المصادر السابقة.

فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بفاطمة! فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها (1).

كان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخوين ونسبهما من هاشم بن عبد مناف سيان، وكان علي (علیه السلام) يقول: ديني دين النبيّ وحسبي حسب النبيّ، من تناول من حسبي أوديني يتناول من رسول الله (صلی الله علیه و آله) (2).

وفي ذلك قال بعض الشعراء، وأحسن ما شاء:

إن عليَّ بن أبي طالب *** جدَّا رسول ِ الله جدَّاه

أبو عليٍ وأبو المصطفى *** من طينةٍ طيبها الله (3)

ص: 14


1- ابن عبد البر، أبو عمر يوسف، الاستيعاب في معرفة الاصحاب، الطبعة الاولى، تحقيق د. خليل مأمون شيحا - دار المعرفة - بيروت - لبنان، 2006 م، ص909، والذهبي، شمس الدين، محمد بن احمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق محمد ايمن الشبراوي - دار الحديث - القاهرة - ص414-415، والشبلنجي الحنفي، مؤمن بن حسن، نور الابصار مطبعة عاطف، مصر 1380 ه- ص 76
2- الزرندي الحنفي، جمال الدين محمد بن يوسف، نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين، الطبعة الاولى - مطبعة القضاء - النجف الاشرف 1958 م ص79.
3- الموسوي، فخار بن معد، الحجة على الذاهب الى تكفير ابي طالب، ص66.

فلقد ضمن عليٌّ (علیه السلام) السيادة وليداً، وتسنم ذروة الشرف يافعاً، فتطامن له المجد خافض الجناح ... فقد ((نما خلق علي بن أبي طالب (علیه السلام) على شمائل بيت أبيه أبي طالب، ذلك الذي أصغت جدرانه لأول عبارة من محمد، وخرجت منه الدعوة الإسلامية إلى الوجود)) (1).

وها هو ذا عليٌّ (علیه السلام) يذَّكِرُ بموضعِه من رسولِ الله (صلی الله علیه و آله) بالقرابةِ القريبة والمنزلةِ الخصيصةِ فيقولُ (علیه السلام) : ((وضعني في حِجْرِه، وأنا وليد يضمني إلى صدرِه ويَكْنَفُني فراشَه، ويَمَسُّني جَسَدَه، ويَشُمُني عرفَه، وكان يمضغُ الشيء ثم يُلْقمنيه، وما وجدَ لي كِذْبةً في قولٍ، ولا خَطلةً في فِعل، ولقد قرَنَ اللهُ به (صلی الله علیه و آله) مِن لَدُن أن كان فطيماً أعظم ملكٍ مِنْ ملائكتِهِ يسلُكُ به طريقَ المكارم، ومحاسنَ أخلاقِ العالم، ليلَه ونهارَه.

ولقد كنتُ أتبعُه اتباعَ الفصيلِ إثرَ أمه، يرفعُ لي في كلِّ يومٍ من أخلاقِه علماً، ويأمرني بالاقتداءِ به.

ولقد يجاورُ في كل سنة بِحِرَاءَ فأراه، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخديجة (رضی الله عنها) وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة)) (2)، فكان مما

ص: 15


1- جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، الطبعة الاولى - دار صعصعة - مملكة البحرين 2003 م، ج1، ص59 .
2- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص

أنعم الله به على عليٍّ (علیه السلام) أنه رُبّي في حجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل الإسلام (1).

((وحين نزول الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنت أسمع رنّة الشيطان فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال (صلی الله علیه و آله) : هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلّا أنك لست بنبيّ، ولكنك لوزير وإنك لعلى خير)) (2).

هذا وقد صح أن عليّاً (علیه السلام) كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم، وهو ابن سبع سنين! وابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز! على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب واستخذاء الجوارح، إذا شاهد شيئاً من جلال الله سبحانه وآياته (3).

فعن سعيد بن المسيب قال: سمعت رجلاً يسال ابن عباس (رضی الله عنه) عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: صلّى القبلتين وبايع البيعتين، ولم يعبد صنماً ولا وثناً، ولم يضرب على رأسه بزلم ولا قدح، ولد على الفطرة ولم يشرك بالله طرفة عين (4).

ص: 16


1- ابن الاثير، اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج2، ص93
2- المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج13، ص197
3- المصدر السابق نفسه، ج1، ص15
4- علي خان، الامام صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ص126

ومنقطع الامر هوما روي عنه (علیه السلام) قوله: اللهم لا أعرف أن عبداً لك من هذه الأمّة عبدك قبلي غير نبيك (1).

ولله در الشاعر المفلق عبد الباقي العمري حيث يقول:

وأنت والحق يا أقضى الأنام به *** غداً على الحوض حقاً تحشران معا

لقد ترعرعت في حجر عليه لذي *** حجر براهين تعظيم بها قطعا

وأنت أنت الذي للقبلتين مع *** النبيّ أول من صلّى ومن ركعا

ولذلك يقال عند ذكر اسمه الشريف: كرّم الله وجهه، أي عن أن يسجد لصنم (2)، وذهب كثير من الناس إلى القول بأن عليّاً (علیه السلام) لم يشرك بالله شيئاً حتى يستأنف الإسلام، بل كان تابعاً للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) في جميع فعاله مقتدياً به، وبلغ وهو على ذلك، وأن الله عصمه وسدده ووفقه لتبعيته لنبيه؛ لأنهما كانا غير مضطرين ولا مجبورين على فعل الطاعات، بل مختارين قادرين فاختارا طاعة الربّ وموافقة أمره واجتناب منهياته (3).

ص: 17


1- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص82
2- الشبلنجي الحنفي، نور الابصار، ص76.
3- المسعودي، مروج الذهب، ج1، ص400.

والذي أراه أن هذا المعنى هو الذي يعبر عنه في تعبير علم النفس العام (الثنائية النفسية الجسمية)، التي تنشأ من عاملين: فطري يأتي مع الروح، والثاني يأتي كحصيلة للملاحظات الحسية (1).

ص: 18


1- دوكلاس، ه-. فراير وجماعته، علم النفس العام، ترجمة د. إبراهيم يوسف المنصور - مطبعة شفيق - بغداد، 1965 م، ص2.

مُحَمَّد وعَلِيّ (صلوات الله عليهما)

من هنا كان بدؤ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعلي (علیه السلام) إذ كان أقرب الناس إليه وأتبعهم له، فلقد بلغ من حبّ عليٍّ لابن عمّه محمد (صلوات الله عليهما) أنه كان يقول منوهاً: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ (1).

وحين آخى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار أخوين أخوين...أخذ بيد عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فقال: هذا أخي؛ فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) - سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول ربّ العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير في العباد -، وعليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، أخوين (2).

وقد كان آخاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرتين، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعليٍ (علیه السلام) في كل واحدة منهما: أنت أخي في الدنيا والآخرة (3).

ص: 19


1- المبرد، الكامل، ج2، ص175.
2- ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص150 وما بعدها.
3- ابن الاثير، عز الدين ابي الحسن علي بن محمد الجزري، اسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق، محمد إبراهيم البنا وآخرون، دار الشعب، ج4، ص 91.

وبالإسناد إلى الأستاذ أبي إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي المفسر قال: رأيت في بعض الكتب أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لمّا أراد الهجرة، خلّف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال له: اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل (علیهما السلام) : إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: أفلا كنتما مثل عليِّ بن أبي طالب؟! آخيت بينه وبين نبييِّ محمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.

فنزلا، فكان جبريل عند رأس علي، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخٍ بخٍ! من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله عزَّ وجلَّ به الملائكة!!؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ على رسوله، وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي (1): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّه﴾ (2).

ص: 20


1- ابن الاثير، عز الدين، اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج4، ص103-104.
2- سورة البقرة - الآية: 207.

لقد كانت حياة علي (علیه السلام) مفعمة بالأحداث مليئة بجلائل الأمور، فلقد ناضل المشركين واليهود على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان فارس الحلبة، ومسعّر الميدان، صليب النبع، جميع الفؤاد (1).

كان (علیه السلام) سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) الماضي الحدّ ومهنّده الذي كم فلَّ بين يديه الجموع، فما اعترض إلاّ قط َّ ولا اعتلى إلاّ قدَّ (2)، وما صارع أحداً قطُّ إلّا صرعه، وهو الذي قلع باب خيبر...وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيماً جداً، وألقاه إلى الأرض (3).

وهو الشجاع الذي ما فرَّ قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلّا قتله، ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولى إلى ثانية.

وفي الحديث: ((كانت ضرباته وتراً)) .. وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنه (علیه السلام) قتلهم أظهر وأكثر (4).

ص: 21


1- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص20.
2- النويري، نهاية الارب، ج7، ص168.
3- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص21.
4- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص20.

يشهد له يوم الخندق - على حداثة سنّه - إذ خرج عمرو بن عبد وَد، وقد كعم عنه الأبطال وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقطّ الأقران قطّاً (1).

ولمّا اشتدّ القتال يوم أُحد وأرسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) أن قدّم الراية، فتقدّم عليٌّ (علیه السلام) فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، وهو صاحب لواء المشركين، فبرزا بين الصفّين، فاختلفا ضربتين، فضربه عليٌّ (علیه السلام) فصرعه، ثم انصرف عنه ولم يجهز عليه؛ فقال له أصحابه: أ فلا أجهزت عليه؟ فقال: إنّه استقبلني بعورته، فعطفتني عنه الرحم، وعرفت أن الله عزَّ وجلَّ قد قتله (2).

ويروى أيضا مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي (علیه السلام) يوم صفّين (3).

وكتب المحققون بهامش السيرة النبوية: وقد فعل علي (علیه السلام) هذه مرة أخرى يوم صفّين، حمل على بسر بن أرطأة، فلمّا رأى بسر أنّه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه (4).

ص: 22


1- الكوفي، العلامة احمد ابن اعثم، الفتوح، الطبعة الاولى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1986م، ج2، ص159.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا واخرون، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر، 1936 م، ج3، ص78.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص78.
4- ينظر: قلم التحقيق بهامش السيرة النبوية لابن هشام، ج3، ص78.

ممّا حدا بأحد فتيان أهل الكوفة أن يصيح بأهل الشام: ويلكم أما تستحون من كشف السوءات؟ فجعل بسر بن أرطأة يضحك من عمرو، وصار عمرو يضحك منه، وجعل معاوية يضحك عليهما ويهون عليهما ما نزل بهما، وقال ذلك الفتى ساخراً:

أ في كل يوم فارس بعد فارس *** له عورة تحت العجاجة بادية

يكف عليٌّ عنه أعلى سنانه *** ويضحك منها في الخلاء معاوية

ولله درُّ أبي فراس وهو يصور تلك السوءة التي أعقبت الفضيحة، حيث يقول:

ولا خير في ردّ الردى بمذلةٍ *** كما ردّها يوما بسوءته عمرو (1)

ولما دعا علي (علیه السلام) معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلاّ اليوم! تأمرني بمبارزة أبي الحسن! وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! (2)

ص: 23


1- العلامة محمد الصبان، اسعاف الراغبين، المطبوع على هامش نور الابصار للشبلنجي الحنفي، ص95.
2- المعتزلي، ابن ابي الحديد، ج1، ص20.

ومنقطع القول في شجاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ... وجملة الأمر أن كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادى في مشارق الأرض ومغاربها (1).

وقد قيل لعلي (علیه السلام) أ تقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء ؟! فقال (علیه السلام) : أ بالموت أخوّف ؟! والله ما أبالي أ سقطت على الموت أم سقط الموت عليَّ، وبذلك يعني (علیه السلام) أن من فكّر في ظفر قرنه به وعلوه عليه لم يُقدم، وإنما كان الحزم عند عليٍّ (علیه السلام) أنّه يحضر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت (2).

ويجسد علي (علیه السلام) الإرتباط العضوي بابن عمّه (صلی الله علیه و آله) بقوله (علیه السلام) : ((أنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد، وكالكفّ من الذراع، ربّاني صغيراً، وآخاني كبيراً، ولقد علمتم أنّي كان لي منه مجلس سرٍّ لا يطّلع عليه أحد غيري، وإنّه أوصى إليّ دون أصحابه وأهل بيته)) (3).

ص: 24


1- المعتزلي، ابن ابي الحديد ، ص20 -21.
2- المبرد، الكامل، ج1، ص140.
3- الحسيني، العلامة، السيد عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة واسانيده، ج،1، ص158.

وكان موضع التكليف بظاهر قوله تعالى:﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (1).

فاحتضان النبيّ (صلی الله علیه و آله) هذا العقل المجنح رجلاً ثانياً هو عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) قطب آخر من أقطاب العقل البشري، كان بالنسبة للجزيرة خطاً مزدوج النتائج؛ لأن الرجلين جاءا في وقت واحد.

وكأن الثاني إنّما جاء لتكملة الأول فكان هالته وكان إطاره (2)، ومن هنا أيضاً يتجلى لنا أن مبعث النبوة والإمامة كانا في يوم واحد.

وللنبوة آيات تنصّ لنا *** على الخفيين من حكم ومن حكم ِ

وللإمامة أنوار مقدسة *** تجلو البغيضين من ظُلْم ومن ظُلم

ص: 25


1- سورة الشعراء - الآية: 214
2- كتاني، سليمان، عليٌّ نبراس ومتراس

ترابيّة ولكن ...

إنّه والله لسرٌّ جليٌّ من أسرار النبوة، ودليل من دلائل إعجازها، وبركة نفس محمدي (1)، سرٌّ لا يستطيع المرء أن يقف على مستسرّه، وأمر عظيم يتعذر بلوغ كنهه؛ لذلك استخصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) بهذا السر (أبوتراب) وحول حمى هذا السر الذي قلّ ما اطلع عليه يحاول البعض أن يحوم حوله.

ومن أولئك سيدنا الإمام السيد علي خان المدني (قدس سره) بقوله:

أمير المؤمنين فدتك نفسي *** لنا من شأنك العجب العجابُ

تولّاك الأُلى سعدوا ففازوا *** وناواك الذين شقوا فخابوا

يمين الله لو كشف المغطّى *** ووجه الله لو رفع الحجابُ

ص: 26


1- ينظر: الامام المحقق الشيخ الاميني عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنة والادب - دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان - الطبعة الثالثة، 1967 م، ج6، ص337 نقلا عن الشيخ علاء الدين السكتواري في كتابه:- ( محاضرة الاوائل ) ص113

خفيتَ عن العيون وأنت شمس *** سمت عن أن يجللها سحابُ

لسرٍّ ما دعاك أبا ترابٍ *** محمدٌ النبيُّ المستطابُ

فكان لكل من هومن ترابٍ *** إليك وأنت علّته انتسابُ

فلولا أنت لم تُخلق سماءٌ *** ولولا أنت لم يُخلق ترابُ

وفيك وفي ولائك يوم حشرٍ *** يُعاقب من يُعاقب أو يثابُ (1)

ويبدع الشاعر المفلق عبد الباقي العمري في هذا المعنى الشريف فيقول:

يا أبا الأوصياء أنت لطه *** صهره وابن عمّه وأخوه

إن لله في معانيك سرّاً *** أكثر العالمين ما عرفوه

ص: 27


1- علي خان، الإمام صدر الدين المدني، رياض السالكين، ج1، ص40-41، والإمام الأميني الغدير، ج11، ص.346.

أنت ثاني الآباء في منتهى *** الدور وآباؤه تعد بنوه

خلق الله آدماً من تراب *** فهو ابن له وأنت أبوه (1)

ص: 28


1- الإمام الأميني، الغدير، ج6، ص338.

الكُنى في كلام العرب

وجدير بنا أن نذكر أن الكنى وقعت في كلام العرب قديماً وحديثاً، وكانت تقصد بها التفخيم والتعظيم وهو أن يعظم الرجل: أن لا يدعى باسمه (1)؛ ولذلك يجاء بها للإنسان في مقام الإكرام والاحترام.

والكنى على قسمين: معتاد ونادر.

فمن المعتاد: الكنية بالأولاد، والنادر: كأبي تراب (2).

كان الغالب على علي (علیه السلام) من الكنية بالأولاد: أبا الحسن، وكان ابنه الحسن (علیه السلام) يدعوه في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أبا الحسين، ويدعوه الحسين (علیه السلام) : أبا الحسن، ويدعوان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أباهما، فلمّا توفي النبيُّ (صلی الله علیه و آله) دعواه: بأبيهما (3).

كما كان يكنى (علیه السلام) بأبي الريحانتين وابي السبطين (4).

ص: 29


1- المبرد، محمد بن يزيد، الكامل، شرح الدلجموني الازهري، مطبعة محمد علي صبيح، مصر، ج2، ص210-211.
2- الالوسي، محمود شكري، بلوغ الارب، المكتبة الاهلية، مصر، ج3، ص196-197.
3- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص11
4- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص107

فمما ورد عن جابر (رضی الله عنه) أنه قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) قبل موته بثلاثة أيام: سلام عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا.. (1).

والنادر الغريب والخارج عن المعتاد كأبي تراب (2)، وكانت أحبّ الكنى إليه، وكان يفرح إذا دعي بها (3).

والذي بدا لي: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنّى عليّاً (علیه السلام) بها مرتين: قم أبا تراب، إجلس أبا تراب، مع الاختلاف في المكان، فمرّة في المسجد النبوي الشريف، ومرّة في غزوة العشيرة (4)، ومؤداهما واحد... وهو أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجد عليّاً (علیه السلام) نائماً، وقد سقط رداؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره؛ فجعل يمسح التراب عن ظهره، فو الله ما سمّاه به إلّا رسول الله! ووالله ما كان له اسم أحبّ إليه منه (5).

ص: 30


1- الزرندي الحنفي، درر السمطين ، ص98
2- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص12.
3- المبرد، الكامل ج3، ص 134، والمعتزلي شرح نهج البلاغة، ج1، ص11، والصبان، الاستاذ الشيخ محمد، إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل اهل بيته الطاهرين، الطبعة السابعة، مطبعة عبد السلام محمد بن شقرون - مطبعة عاطف - مصر، 1960 م، ص160.
4- قيل: أن أول غزوة غزاها (صلی الله علیه و آله) /ذات العشيرة، وهي من بطن ينبع، ينظر المسعودي، مروج الذهب، المطبعة البهية المصرية، ج1، ص402-403.
5- البخاري، أبو عبد الله، محمد بن اسماعيل، صحيح البخاري - طبعة جديدة مصححة وملونة، الطبعة الاولى - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، 2001 م، ص1109، وابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا واخرون - مصطفى البابي واولاده - مصر، 1936 م، ج2، ص248-250.

وفي حال نوم علي (علیه السلام) في المسجد يقول الإمام العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر (قدس سره) : هو من تلطفاته (صلی الله علیه و آله) وحبّه لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، ولكن تلطفه به حال نومه في المسجد من دون إشعار بالكراهة دليل على عدم كراهة النوم له فيه، وعلى مساواته للنبي (صلی الله علیه و آله) في الحكم والطهارة، كما يفيده حديث سدّ الأبواب إلّا بابه، مضافاً إلى دلالة هذا الحديث على شدة زهده البالغ أقصى الغايات، الذي يمتاز به على سائر أهل الدرجات؛ لأنه من بيت النعمة والشرف، وابن شيخ البطحاء وبيضة البلد، مع ما هو عليه من علو النفس وعزتها، وما فيه من الشجاعة وريعان الشباب، فيكون ذلك الزهد منه دليلاً على فضل إيمانه ومعرفته وزيادة تقواه ويقينه (1).

هذا وقد تستعجب من رواية ابن إسحق -وأنت تقف على سيرة ابن هشام - عن بعض أهل العلم: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنما سمّى عليّاً أبا تراب أنّه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئا تكرهه، إلّا إنّه يأخذ تراباً فيضعه على رأسه!

قال: فكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا رأى عليه التراب عرف أنّه عاتب على فاطمة؛ فيقول: مالك يا أبا تراب؟! (2)

ص: 31


1- المظفر، الامام الشيخ محمد حسن، دلائل الصدق، المطبعة الحيدرية - النجف، 1953 م، ج2، ص292.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص248-250.

ولست أدري أيّ رجلٍ هزأة سخرة يتعيّب عليّاً والزهراء (علیهما السلام) ، فما العجب من كذب هؤلاء الكذبة الجهلة الأوقاح، وإنما العجب من تصديق الناس لكلامهم.

إنني لأترك الكلام لشيخ المحققين الإمام الأميني ليردّ في (غديره) على رواية ابن إسحق تلك بقوله: إن هي إلاَ نفثات قوم حناق، لفظتها رمية القول على عواهنه، تلويثاً لقداسة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتشويهاً لعشرته الحميدة مع حليلته المطهرة، وفيها حطّ الصديق الأكبر والصديقة الكبرى عن مكانتهما الراقية في مكارم الأخلاق.

وقد أثمر اليوم ما بذرته أمس يد الإحن والشحناء من تلكم المفتعلات، حتى سوّد مؤلف اليوم صحائف تأريخه بقوله: وكان علي (علیه السلام) يحرد بعد كل منافرة، ويذهب لينام في المسجد، وكان حموه يربته على كتفه ويعظه، ويوفق بينه وبين فاطمة إلى حين، وممّا حدَّث: أن رأى النبيُّ ابنته في بيته ذات مرة وهي تبكي من لكم عليٍّ لها.. (1).

فلا أخالك تعجب من أن يجعل بنو أميّة من هذه الفضيلة (أبو تراب) مثلبة ومذمّة، وقد استأجروا لهذا الغرض أقلاماً ومحابر، وخطباء ومنابر؛ ثأراً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 32


1- الإمام الأميني، الغدير، ج6، ص337.

فكانت ترغب خطباءها أن يسبّوه بها على المنابر وجعلوها نقيصة، ووصمة عليه؛ فكأنما (كسوه بها الحلي والحلل) (1)، فكان له بها النعت الأعلى، ولأعدائه النعت الأرذل؛ فانحطّوا ملعونين يلازمهم الصَغار إلى يوم يبعثون.

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ *** طويت أتاح لها لسان حسود ِ

لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العودِ

وعلى الرغم من كثافة الظلام الأموي، وكل الجنايات التي اقترفها الأمويون، والتي يطوّق عارها أصحابها، فإنّ ترابية علي بن أبي طالب (علیه السلام) صارت تبدو أكثر تألقاً وإشراقاً بالنور والضياء، وبما لا تحتاج معه إلى شمس أو قمر، لأنها: تخلّت عن مقابح الزهو والكبرياء، وصفت من شوائب الغرور والخيلاء.

كانت جماع الخير كله، وضمام الفضل جميعه، نقية كالفطرة، بيضاء كالحنيفية، نزهت عن أوضار الجاهلية، فتزينت بالحياء، وتكرمت بالتقى.

ص: 33


1- المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج1، ص129نقلا عن (الحسن البصري).

بها تنال المقاصد، وتتناجح الآمال (1)، وتقدست فكان فيها الشفاء ومنها الطهور (2).

وما أظنك تصاب بالدهش وأنت تستذكر قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) : لولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم (علیه السلام) ، لقلت فيك اليوم مقالاً بحيث لا تمرّ على ملأٍ من المسلمين إلّا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به: الحديث...

حتى قال قائل:

إذا ما مقلتي رمدت فكحلي *** ترابٌ مسَّ نعل أبي تراب ِ (3)

ولله درّ الآخر حيث يقول:

أنا وجميع من فوق التراب *** فداء تراب نعل أبي تراب ِ (4)

ص: 34


1- ينظر: الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق المحامي فوزي عطوي، شركة الكتاب اللبناني - بيروت - ج3، ص487، والجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق، احمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة - دار العلم للملايين -القاهرة - 1987 م، ج1، ص90 حيث ذكر حديث (صلی الله علیه و آله) /قال: ((إذا كتب أحدكم فليترب كتابه فإن التراب مبارك، وقال: هو انجح للحاجة)).
2- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص63.
3- الإمام الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس - دار ليبيا للنشر والتوزيع - بنغازي، ج1، ص160.
4- المصدر السابق نفسه، ج1، ص160.

ترابية رقَت فأبصرت - يا عليُّ - ما وراءها: (الخليقة الأولى: أصل البشرية آدم) (1)، وإن منها المنشر وإليها المحشر.

قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (2)، وهي المسجد والصعيد الطيب والطهور، وهي القبضة التي رمى بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجوه أهل الشرك ليلة الهجرة، فكان فيها الظفر، ونصر الله بها رسوله وابن عمّه عليّاً بالرعب على من كفر:

وفراش أحمد حين همَّ به *** جمع الطغاة وعصبة الكفرِ

من بات فيه يقيه محتسباً *** من غير ما خوف ولا ذعرِ

وترنمت بمزامير داود أناشيد أدعية وصلوات تحميد وتمجيد، وكون التربي - وهو لغة في التراب - عند أهل مكة: هو المؤتى بعض مزامير آل داود (3)، ومن هنا تعرف بعض خفايا هذه الكنية الشريفة.

ص: 35


1- قال الجاحظ في البيان والتبيين، ج3، ص487: وذكر عزَّ وجلَّ آدم، الذي هو أصل البشر فقال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ(، (سورة آل عمران - الآية:59)، واستطرد فقال: ((لذلك كنّى النبيُّ عليّاً أبا تراب، قالوا: وكانت أحبَّ الكنى لديه)).
2- سورة طه - الآية: 55.
3- ينظر: الزمخشري، محمود بن عمر، اساس البلاغة، دار ومطابع الشعب - القاهرة - 1960 م، ص78، والشرتوني، سعيد الخوري، أقرب الموارد في الفصح العربية والشوارد، ج3، ص62، والإمام الزبيدي محمد مرتضى، تاج العروس، ج1، ص160، ود. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الاولى - انتشارات الشريف الرضي - إيران 1380 ه-، ج6، ص556.

ترابية شفّت فعرفت من خلالها نفسك فعرفت ربّك، وعظم الخالق عندك فصغر المخلوق في عينيك، فإذا أوله نطفة وآخره جيفة، لا يرزق نفسه ولا يدفع حدفه (1)، ونظم ذلك بعضهم فقال:

ما بال من أوله نطفة *** وجيفة آخره يفخرُ

أصبح لا يملك تقديم *** ما يرجو ولا تأخير ما يحذر

وقال آخر:

عجبت من فاخر بنخوته *** وكان من قبل نطفة مذرة

وفي غد بعد حسن صورته *** يصير في القبر جيفة قذرة

ص: 36


1- ينظر: المبرد، محمد بن يزيد، الكامل، ج1، ص103 قول علي بن أبي طالب (علیه السلام) /: ((ما ابن آدم والفخر، إنما أوّله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه ولا يدفع حدفه.))، وعلي خان، الإمام صدر الدين، المدني، رياض السالكين، ج3، ص301.

وهو على عجبه ونخوته *** ما بين جنبيه يحمل العذرة

وعن قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : ((أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه))، سُئل السيد الشريف المرتضى (رضی الله عنه) ما معناه؟ فأجاب (رضی الله عنه) فقال: معنى هذا الخبر أن أحدنا إذا كان عالماً بأحوال نفسه وصفاته، فلا بدّ أن يكون عالماً بأحوال من جعله على هذه الصفات، وصيّر له هذه الأحوال والأحكام؛ لأن من علم الفرع لابدّ أن يكون عالماً بأصله الذي يستند عليه، ويتفرع عليه، وإذا دخل التزايد وكان بالفرع أعلم فهو بالأصل أعلم ..وليس بممتنع أن نعكس لفظ هذا الخبر فنقول: أعلمكم بربّه أعلمكم بنفسه؛ لأنّه من كان بالله أعلم فلابدّ من أن يكون عالماً بأنّه خالقنا ورازقنا ومميتنا ومحيينا، والجاعل لنا على هذه الأحوال والصفات، فمن حيث تعلّق كل واحد من الأمرين بصاحبه جاز أن يجعل كل من الأمرين تارة فرعاً وتارة أصلاً (1).

وقد سُئل أمير المؤمنين (علیه السلام) : بمَ عرفت ربك؟ قال: بما عرّفني نفسه، قيل: وكيف عرّفك نفسه؟ فقال: لا تشبهه صورة، ولا يحسّ بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه (2).

ص: 37


1- ينظر: الشريف المرتضى، علي بن الحسين، أمالي المرتضى، الطبعة الثانية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - نشر - ذوي القربى - إيران - 1983م، ج2، ص277 وما بعدها.
2- الحر العاملي، الإمام محمد بن الحسن، الفصول المهمة في أصول الأئمة (علیهم السلام) /، الطبعة الثانية، المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الاشرف، 1378 ه-، ص42.

وفي العبارة التي تضمنتها المحاورة الشريفة المشهورة بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وكميل بن زياد (رضی الله عنه) تتجلى ماهية حقيقة المعرفة عند عليٍّ (علیه السلام) ، بأنها نور يشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره (1).

إنّها ترابية تحدثت إليك - فإن هي لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً - (فأفضت إليك بما يجري عليك إلى يوم القيامة وما جرى) (2).

فها هي تباثثك سرّها وتبثّك حديث نفسها، وها أنت تحقّ هذا الخبر! فعن الأصبغ بن نباتة قال: خرجنا مع علي (علیه السلام) وهو يطوف في السوق، ويأمرهم بوفاء الكيل والوزن، حتى انتهى إلى باب القصر، ركض الأرض برجله! فتزلزلت فقال من كلام: ((أما والله إني الإنسان الذي تنبئه الأرض أخبارها، أو رجل مني ...)) (3).

وتكشفت لك حال الدنيا فألفيتها فرصة تنتهز وفريسة تنتهس وقصعة تمتشق، بل تمثلتها كمضغة خنزير في يد مجذوم، ومهما تبدت لك في زخرفها وأخفت من بشاعتها بتبرجها،

ص: 38


1- ينظر الشيبي، د. كامل مصطفى، ديوان أبي بكر الشبلي، جعفر بن يونس المشهور ب- (دلف بن جحدر)، الطبعة الاولى، مطابع دار التضامن - بغداد - 1386 ه- \ 1967 م، ص56.
2- الإمام الاميني، الغدير، ج6، ص377، نقلا عن الشيخ السكتواري، محاضرة الاوائل، قال: ((كان التراب يحدثه بما يجري إلى يوم القيامة وبما جرى فافهم سرّاً جليّاً دلائل النبوة)).
3- الإمام المحدث الحر العاملي، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص12، المطبعة العلمية بقم.

فإنها لم تغررك، فاشحت بوجهك عنها، وأضربت عنها صفحاً، وطويت عنها كشحاً، بل لقد طلقتها - على سلامة من دينك - ثلاثاً، فكان طلاقها مهر الجنّة.

ولعمري ما كان زهدك في الدنيا إلّا معرفتك بها فهي ((إن أقبلت بلت، وإن أدبرت برت، أو أطنبت نبت، أو أركبت كبت، أو أبهجت هجت، أو أسعفت عفت، أو أينعت نعت، أو أكرمت رمت، أو عاونت ونت، أو ماجنت جنت، أو سامحت محت، أو صالحت لحت، أو واصلت صلت، أو بالغت لغت، أو وفرت فرت، أو زوجت وجت، أو نوهت وهت، أو ولهت لهت، أو بسطت سطت)).

ولقد علمت من تصميم القوم على صرف الأمر عنك، وإنه لو نازعتهم فيه لنازعوك، ولو قاتلتهم عليه لقاتلوك، وإن ذلك يوجب التغرير في الدين، والخطر بالأمّة؛ فاخترت الكفّ احتياطاً على الإسلام، وإيثاراً للصالح العام، وتقديماً للأهمّ على المهم (1).

لذلك فقد سدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت ترتئي بين أن تصول بيد جذّاء، أو تصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه! ورأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، ترى تراثك نهباً (2).

ص: 39


1- شرف الدين، الإمام عبد الحسين، النص والاجتهاد، ص9.
2- المعتزلي، العلامة ابن أبي الحديد، نهج البلاغة، ج1، ص151، من خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) /(الخطبة الثالثة).

فليس شيئاً بدعاً إذا ما انشرح لتلك الترابيّة صدرك، ولا عجب أن تتهلل لها أساريرك، وتشرق بها قسماتك إذا ما نعتَّ: أبا تراب، وكفى بها رفعة وشرفاً.

تشعر قلبك الرحمة لهم، وتذودهم كما يذود الراعي الشفيق إبله عن موارد الهلكة، وتحنو عليهم حنو الأب البر، متحريّاً أنحاء الصدق متقلباً بين أحناء الحق.

فمما روي عن عمّار بن ياسر (رضی الله عنه) قوله: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي بن ابي طالب:( (يا عليُّ، إن الله عزَّ وجلَّ قد زيّنك بزينة لم يتزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها: الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً .. ووهب لك حبّ المساكين، ورضوا بك إماماً، ورضيت بهم أتباعاً، فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويلٌ لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الذين أحبوك وصدّقوا فيك، فهم جيرانك في دارك، ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الذين أبغضوك وكذبوا عليك، فحقّ على الله أن يوقفهم موقف الكذّابين يوم القيامة ..)) (1).

فعن أبي عثمان النهدي عن عليًّ (علیه السلام) قال: بينما رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخذ بيدي، ونحن نمشي في سكك المدينة فمررنا بسبع حدائق، وكل ذلك أقول له: ما أحسنها، فقال (صلی الله علیه و آله) : ما أحسنها، ولك في الجنة أحسن منها، فلمّا خلى له الطريق أعتنقني ثم أجهش باكياً، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: ضغائن لك في صدور أقوام لا يبدونها لك إلّا من بعد موتي، قال: قلت: يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك.

ص: 40


1- ابن الاثير، عز الدين، أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق، محمد إبراهيم البنا وآخرون، دار الشعب، ج4، ص 101.

الترابيّ والترابيّون

ويعرف الترابي في أيام بني أميّة: من يميل إلى أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) المكنّى (أبا تراب) (1).

وقد ذكر المسعودي (الترابيون) بصيغة الجمع في معرض حديثه عن موقعة: (عين الوردة)، وكيف استقتلوا وكسروا أجفان السيوف عندما سالت عليهم عساكر أهل الشام كالليل، ينادون: الجنّة الجنّة.. إلى التقيّة من أصحاب أبي تراب.. الجنّة الجنّة إلى الترابية ...

وقد قيل: إن الوقعة المذكورة كانت في سنة ست وستين في أيام عبد الملك بن مروان (2).

فقد تحولت الترابيّة شجىً في حلوق الأمويين وبني مروان، وقذىً في أعينهم، وهاجساً يؤرقهم وينغص عليهم عيشهم، وقد دفع الترابيون ضريبة هذا الإنتساب وثمن هذا الانتماء - وإن بهضهم - فجعل معاوية يتتبعهم ويقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويأخذ على التهمة والظنّة، وسارت على طريقته وسياسته الخرقاء الدولة المروانية فزادت على ذلك.

ويبلغ الصلف بمعاوية- ومن يبغ في الدين يصلف -: ((أن يكتب إلى عماله: أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته؛ فقامت الخطباء في كلّ كورة، وعلى كل منبر يلعنون عليّاً (علیه السلام) ، ويتبرؤن منه، ويقعون في أهل بيته...

ص: 41


1- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، والشرتوني، سعيد، أقرب الموارد، ج3، ص62.
2- المصدر السابق نفسه، ج2، ص112.

ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشى في كل مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضل الصحابة، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وائتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته (1).

وإلى هذا المعنى يشير فضيلة الدكتور أحمد فريد رفاعي بقوله: لقد بلغت خطط الأمويين مدىً بعيداً من حيث بثّهم البغضاء في النفوس لعليٍّ وشيعته وصرف الناس عن ذكرهم، وما كان من لعنهم على المنابر (2).

حتى أنّه - أعني معاوية - لم يألُ في استغواء سعد بن أبي وقاص ليسبَّ أبا تراب! فيمتنع سعد ويتأبّى عليه، ويقول لمعاوية: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلن أسبّه، لئن يكون لي واحدة منهن أحبّ اليّ من حمر النعم:

فلقد: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) وقد خلّفه في بعض مغازيه: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبوة بعدي)).

وسمعته يقول يوم خيبر: ((لأعطينَّ الراية رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه))، ودفع الراية اليه، ففتح الله عليه.

ص: 42


1- علي خان، صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ص.
2- رفاعي، د. احمد فريد، عصر المأمون، الطبعة الرابعة - مطبعة دار الكتب المصرية - القاهرة، 1928 م، ج1، ص36.

وأُنزلت هذه الآية: ﴿فَقُل ْتَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾ (1)، دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: ((اللهمَّ هؤلاء أهلي)) (2).

يحدثنا الشيخ العلّامة محمود أبو ريَة، عن الواقدي، أن معاوية لمّا عاد من العراق إلى الشام سنة 41 ه-، خطب فقال: أيّها الناس إن رسول الله قال: إنّك - يعني معاوية - ستلي الخلافة من بعدي! فاختر الأرض المقدسة، فإن فيها الأبدال، وقد أخبرتكم فالعنوا أبا تراب! - أي عليَّ بن أبي طالب-

فلمّا كان من الغد كتب كتاباً، ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله، والذي بعث محمداً نبيّاً وكان لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله وزيراً كاتباً أميناً، وكان الوحي ينزل على محمد وأنا اكتبه، وهو لا يعلم ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال الحاضرون: صدقت!

ثم يستطرد الشيخ أبو ريَة فيقول: ومعاوية كما هو معلوم أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، وهو بذلك من الطلقاء، وكان كذلك من المؤلفة قلوبهم، وهو الذي هدم مبدأ الخلافة الرشيدة في الإسلام، فلم تقم له من بعده إلى اليوم قائمة..

ص: 43


1- سورة آل عمران - الآية: 61.
2- ابن الاثير، عز الدين، اسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق محمد إبراهيم البنا واخرون - دار الشعب - مصر، ج4، ص154.

وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث -والكلام لمّا يزل لفضيلة الشيخ أبي ريَة - فإن إسحق بن راهويه، وهو الإمام الكبير وشيخ البخاري قد قال: إنّه لم يصح في فضائل معاوية شيء.

ويتابع فضيلته حديثه فيقول: قال ابن حجر: وأخرج ابن الجوزي، من طريق ابن عبد الله احمد بن حنبل، سألت أبي ما تقول في عليٍّ ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن عليّاً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا؛ فعمدوا إلى رجل قد حاربه، أطروه كيداً منهم لعليٍّ.

فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل ممّا لا أصل له.

أمّا قصة النسائي التي أشار إليها ابن حجر، وهو صاحب أحد كتب الحديث المشهورة، فقد رواها الذهبي فقال: سُئل النسائي وهو بدمشق عن فضائل معاوية فقال: ألا يرضى رأساً برأس! حتى يفضل؟!

قال الذهبي: فما زالوا يدفعونه حتى أُخرج من المجلس، وحُمل الى مكة فتوفي بها رحمه الله.

ص: 44

أمّا وجهة اختصاص الشام بموضوعة الأبدال، فيقول المحدث الفقيه السيد رشيد رضا رحمه الله: إن هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية، سنداً ومتناً، وإنما راجت في الأمّة بعناية المتصوفة، وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات، وطعن فيها واحداً بعد واحد (1).

لقد كان معاوية والذين يحطبون في حبله رجلاً غشوماً عسوفاً تعجابة، تمادى به الطغيان والتعتّي في مكابرته أهل الحق، وهذا هو شأن أهل البغي في كل زمان ومكان.

لقد تخدم الناس واستخولهم وما مقولته: ((نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتضع)) إلّا دليل على أنّه الهموط الغموط .. فانظر: كيف تكون الرعية (مسوسة) إذا كان راعيها (سوسة)!

ولقد ضرب أصحاب أبي تراب أروع الأمثلة في التضحية والفداء حين انتدبوا للحقّ فجاهروا به، ونازلوا الباطل فدحضت حجّته.

وما كان ذلك من أولئك الأفذاذ لطمع في مال أوجاهٍ عند عليٍّ (علیه السلام) ..بل كان (عقيدة حق وغريزة إيمان وصخرة يقين) (2).

فهذا قنبر مولى أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) يأمر به الحجّاج فيذبح كما تُذبح الشاة؛ لأنّه أحبّ أن يصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب.

ص: 45


1- أبو رية، محمود، اضواء على السنة المحمدية، الطبعة الثانية، منقحة ومزيدة - مطبعة صور الحديثة - 1964 م، ص122-123-125.
2- كاشف الغطاء، الإمام محمد الحسين، أصل الشيعة واصولها، ص93.

ومثله كميل بن زياد الذي بلغ من الكبر عتيّاً، وكان من خاصة عليٍّ (علیه السلام) ، ومثله سعيد بن جبير، جهبذ العلماء من التابعين (1).

وممّا لا يختلف عليه اثنان ما كان يتصف به هذا الرجل - أعني الحجّاج -من نزعة سادية تندرج تحتها كل تصرفاته العدوانية، من العسف والغشم والبطش، وهي غالباً ما تكون واعية ومقصودة في نظر علماء التحليل النفسي ...

وإنني لا أظنك تخفي تقززك إذ ترى إلى الذين يبغضون عليّاً (علیه السلام) ويوالون أعداءه، يتقربون إلى الحجّاج ومن على شاكلته؛ فيكثرون في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، ويكثرون من الغضِّ من عليٍّ (علیه السلام) والطعن فيه والشنآن له.

حتى أن إنسانا وقف للحجّاج، -ويقال: إنّه جدّ الأصمعي، عبد الملك بن قريب - فصاح به: أيّها الأمير إن أهلي عقّوني، فسمّوني عليّاً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج؛ فيتضاحك له الحجّاج ويقول له: للطف ما توسّلت به، قد ولّيتك موضع كذا (2).

وهذا أنموذج آخر من أولئك المتسخين الأصاغر الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، وقصارى كل واحد منهم رذال متاع، وشيء من تافه خسيس.

ص: 46


1- مغنية، العلامة الشيخ محمد جواد، الشيعة والحاكمون، ص91.
2- علي خان، الإمام صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة.

فيقال: إن عبد الله بن هانئ - وكان من خواص الحجّاج -وكان دميماً شديد الأدمة مجدوراً، في رأسه نتوء، وكان مائل الشدق، أحول العين، قبيح الوجه، فزوّجه الحجاج بقوة السيف بنت أسماء بن خارجة سيّد بني فزارة، وبنت سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية، فقال الحجاج له يوماً فيما قال: زوّجتك بنت سيّد فزارة وسيّد اليمانية، ولست هناك، فقال له: لا تقل ذلك، فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب.

قال الحجّاج: وما هي؟

قال: ما سُبَّ عثمان في نادينا قطّ.

قال الحجّاج: منقبة والله.

قال: وشهد منّا مع معاوية في صفّين سبعون رجلاً، وما شهد منّا مع أبي تراب إلّا واحد، وكان امرئ سوء.

قال الحجّاج: وهذه منقبة والله.

قال: وما تزوّج أحد منّا امرأة تحبّ أبا تراب.

قال الحجّاج: منقبة والله.

قال: وما منّا امرأة إلّا نذرت إن قُتل الحسين أن تنحر عشر جزر.

قال الحجّاج: منقبة والله.

ص: 47

قال: وما منّا رجل عرض عليه شتم أبي تراب إلّا شتمه، وزاد عليه شتم الحسن والحسين وأمّهما فاطمة.

قال الحجّاج: منقبة والله.

ويسأل الحجّاج الشعبيّ عن الفريضة المخمّسة، وهي أخت وأمّ وجدّ، التي فيها خمسة أقوال اختلف فيها خمسة: عبد الله، وزيد، وعليّ، وعثمان، وابن عباس.

قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت جعلها ستة: أعطى الأخت النصف، وأعطى الأمّ الثلث، وأعطى الجدّ السدس.

قال: فأطرق ساعة - يعني الحجّاج - ثم رفع رأسه فقال: فإنّه المرء يرغب عن قوله، أي يعدل عنه ويصرف (1).

وذلك لأن عليّاً (علیه السلام) كان أصدع الخمسة بالصواب، ومن الطبيعي أن من لم يتبين بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، فانظر إلى ما يضطغنه هذا الرجل في صدره من غلٍّ ويضطمره من حسد، وما تضطم عليه طويته من حنق على عليٍ (علیه السلام) وإحنة.

ص: 48


1- المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص144، والمبرد، الكامل، ج1، ص151.

وما ذلك بغريب من رجل شديد الجرأة على الله وعلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1)، ممّا استحقّ معه أن ينعت بالكفر؛ فقد ذكر العلّامة محمد بن يزيد المعروف بالمبرد النحوي المتوفى سنة 285 ه- في كتابه - الكامل - قال: ((وممّا كفرت به الفقهاء الحجّاج بن يوسف قوله: والناس يطوفون بقبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنبره، إنما يطوفون بأعواد ورمَة)) (2).

ممّا أثار هذا حفيظة حضرة العالم إبراهيم الدلجموني الأزهري - من علماء الأزهر الشريف - شارح الكتاب؛ ليردّ على هذا الأفّاك الأثيم غيرة منه على الإسلام وقداسة نبيّه (صلی الله علیه و آله) وحياطة لدينه بقوله: ((وهذه جرأة عظيمة وقلة مبالاة بذلك المقام الكبير، وأيّ مؤمن صادق تسمح له نفسه أن يقول مثل هذا القول في حق محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولكنه الحجّاج أسرف في القول والفعل أيّما إسراف)) (3).

وإن تعجب فعجبٌ قول بعضهم: دخلت مسجد دمشق ((فإذا أنا بجماعة عليهم سمة العلم، فجلست إليهم، وهم ينقصون من عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ؛ فقمت من عندهم مغضباً فرأيت شيخاً جميلاً يصلّي، فظننت به الخير فجلست إليه، فقلت له: يا عبد الله أما ترى هؤلاء القوم يشتمون عليَّ بن أبي طالب وينقصونه!؟ وهو زوج فاطمة الزهراء وابن عمّ نبيّنا محمد (صلی الله علیه و آله)

ص: 49


1- ينظر الزمخشري، اساس البلاغة، (مادة جرأ)، ص114.
2- المبرد، الكامل، ج1، ص150-151.
3- المصدر السابق نفسه، ج1، ص151.

، فقال لي: يا عبد الله لونجا أحد من الناس لنجا منهم أبو محمد (رحمه الله تعالى) قال: فقلت: ومن أبو محمد؟ قال: الحجّاج بن يوسف؛ فقمت من عنده وحلفت لا أُقيم بها)) (1).

فلقد والله ما رضي الله جل ثناؤه أن يسوي مثل هؤلاء بالأنعام، حتى جعلهم أضلّ سبيلاً! فقال تبارك وتعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (2).

ولننظر إلى حادثة رواها المسعودي في مروج الذهب قال: لمّا طلب عبد الله بن علي مروان ونزل بالشام، وجّه إلى أبي العباس أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفّاح ما علموا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أميّة، حتى وليتم الخلافة (3).

وقد بلغ من أمر هؤلاء في طاعة معاوية: أنّه صلّى بهم عند مسيرهم الى صفّين الجمعة في يوم الأربعاء (4).

ص: 50


1- الحموي، ابن حجة، علي بن محمد، ثمرات الاوراق في المحاضرات، تقديم وشرح د. مفيد قميحة - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1983 م، ص136 .
2- سورة الفرقان - الآية: 44.
3- رفاعي، د. احمد فريد، عصر المأمون، ج1، ص36.
4- زيدان، جرجي، مختارات، ص129.

أولاء هم العامّة في كل زمان ومكان، ممّن رضوا الذل والصَغار، وألفوا الظلم وتعودوا الرياء، بجهلهم وضعف قلوبهم، ممن لم يكن لهم شأن يُراعى ولا صوت يُسمع، وإنما كانوا آلة يتوكّأ عليها أهل المطامع لنيل السيادة (1).

ولقد كان الخاصة ورجال المطامع إذا انقسموا إلى أحزاب استعانوا بالعامّة، وتضاربوا بهم، وأقدر الأحزاب على اكتساب ثقة العامّة أغلبهم في ميادين السياسة.

وأيم الحق إنهم ليشترون موتهم في سبيل حياة غيرهم، كلما ازدادوا اتساخاً ازداد جهلهم تفاقماً.

ولقد بلغ أمير المؤمنين علي (علیه السلام) في وصف هؤلاء الغاية، حيث يقول، وقد سئل عن العامة: ((همجٌ رعاعٌ، أتباع كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستضيؤا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)) (2).

فقد نسب التوحيدي أبو حيّان الى عليِّ بن أبي طالب (علیه السلام) أنّه قال لرجل من بني تغلب يوم صفّين: أأثرتم معاوية؟ فقال: ما آثرناه، ولكن آثرنا القسب الأصفر، والبرّ الأحمر، والزيت الأخضر (3).

ص: 51


1- زيدان، جرجي، مختارات ، ص128
2- الأندلسي، ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج2، ص8.
3- التوحيدي، أبو حيان، الامتاع والمؤانسة، ج2، ص63.

وقد سئل أمير المؤمنين (علیه السلام) أيّ الخلق أشقى؟ قال: من باع دينه بدنيا غيره (1).

ومن كتاب له (علیه السلام) إلى سهل بن حنيف الانصاري (رضی الله عنه) ، وهو عامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية بعد كلام طويل ... منه: ((وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الإثرة فبعداً لهم وسحقاً)).

ذلك هو علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، أسد الله الكرار، أبو الأئمة الأطهار، المشرّف بمزية مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاهُ، والمؤيد بدعوة اللهمَّ والِ مَنْ والاهُ وعادِ مَنْ عاداهُ.

كاسر الأنصاب وهازم الأحزاب، المتصدق بخاتمه في المحراب، فارس ميدان الطعان والضراب، هزبر كل عرين وضرغام كل غاب، الذي كلّ لسان كل معتاب ومغتاب، وبيان كل ذام ومرتاب عن قدح في قدح معاليه لنقا حبابه عن كل ذم وعاب، المخصوص من الحضرة النبوية بكرامة الإخوة والإنتخاب.

المنصوص عليه بانه لدار الحكمة ومدينة العلم باب، وبفضله واصطفائه نزل الوحي ونطق الكتاب، المكنى بأبي الريحانتين، وأبي الحسن، وأبي التراب (2).

ص: 52


1- رفاعي، احمد فريد، عصر المأمون، ج1، ص3.
2- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص 77-78.

فمنقطع القول: لقد أضحت ترابية عليٍّ (علیه السلام) على مدى الزمكان وثيقة عهد كتبها محبّوه بمهجهم، وتمنى من لم يلحق بهم أن لو أتيحت لهم الشهادة في ساحات الجهاد والفضيلة بين يديه (علیه السلام) .

وقد تقدم: ((إنّه استولى بنو أميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره (علیه السلام) ، والتحريف عليه، ووضع المعائب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلّا رفعة وسمواً، وكان كالمسك، كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً واحدة أدركته عيون كثيرة)) (1).

ورحم الله الإمام الشافعي الذي استشرف هذا المعنى حين قيل له: ما تقول في عليٍّ (علیه السلام) ؟ قال: ما تقول فيمن أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين (2).

ص: 53


1- المعتزلي، ابن ابي الحديد، نهج البلاغة، ج1، ص17، والقمي، المحقق الشيخ عباس، الانوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية - مؤسسة منشورات ديني - إيران - مشهد، ص56-57.
2- القمي، المحقق الشيخ عباس، الانوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية -مؤسسة منشورات ديني - إيران - مشهد، ص59.

آل ابي طالب - شرف باذخ وعز شامخ

لا يعرف التاريخ أسرة كأسرة أبي طالب، بلغت الغاية من شرف الأرومة وطيب النجار، فالعرق صحيح من آدم (علیه السلام) .

فالأب أبوطالب، والجدّ عبد المطلب، وأبو الجدّ هاشم بن عبد مناف بن قصي.

والأمّ فاطمة بنت أسد بن هاشم.

والأخ جعفر الطيار، ذو الجناحين يطير مع الملائكة في الجنة.

وعقيل الذي قال له النبيُّ (صلی الله علیه و آله) : يا عقيل إنّي أحبّك حبين: حبّاً لقرابتك، وحبّاً لحبّ عمّي أبي طالب إيّاك.

والأخت أمّ هانئ التي خرج النبيُّ (صلی الله علیه و آله) من بيتها إلى المسجد الأقصى، إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى قاب قوسين أو أدنى.

والعمّ حمزة أسد الله ... والعبّاس ساقي الحجّاج ...

والعمّة صفيّة وعاتكة، أسلمتا وهاجرتا إلى المدينة.

وابن العمّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 54

والزوجة فاطمة الزهراء (علیها السلام) سيد نساء أهل الجنّة.

والولد الحسن والحسين (علیهما السلام) سيّدا شباب أهل الجنّة (1).

ثم الذي تهيأ واتفق، وخصّ به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل، ما لم نجده في أحد سواهم، وذلك أن أول هاشمي، هاشميّ الأبوين كان في الدنيا، ولد لأبي طالب.

لأن أباهم كان عبد مناف، وهو أبو طالب بن شيبة، وهو عبد المطلب بن هاشم، وهو عمرو، وهو أبو شيبة، وشيبة هو عبد المطلب (2)، وهو أبو الحارث وسيد الوادي غير مدافع، بن عمرو، وهو هاشم بن المغيرة، وهو عبد مناف.

ومن الغرائب التي خُصّوا بها، أعني ولد أبي طالب، أنّا لا نعلم الاذكار في بلد من البلدان، وفي جيل من الأجيال إلّا فيهم، وما تهيأ لبني أبي طالب الأربعة: أن أربعة إخوة، كان بين كل واحد منهم وبين أخيه في الميلاد عشر سنين سواءً، وهذا عجب (3).

وبنو أبي طالب فهم ثلاث بطون: بنو عليٍّ بن أبي طالب بن عبد المطلب: وهم العلويون.

ص: 55


1- القندوزي الحنفي، الحافظ، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، الطبعة الثامنة، دار الكتب العراقية، ص155، سنة 1385 ه-، والعسكري، نجم الدين، عليّ والوصية، ص394
2- قال الجاحظ في رسائله، مجلد3-4، ص183: ((ولوكان الكبر فضيلة وفي التيه مروءة، لما رغب عنه بنو هاشم ولكان عبد المطلب أولى الناس منه بالغاية، وأحقهم بأقصى النهاية)).
3- الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الاولى - 1979 م، مجلد 3-4، ص122-123.

وبنو جعفر الطيار: وهم الجعفريون.

وبنو عقيل بن ابي طالب: وهم العقيليون.

فالعلويون خمس أفخاذ:

-بنو الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام) .

- وبنو الحسين بن علي (علیهما السلام) .

- وبنو محمد بن الحنفية: وهم المحمديون.

- وبنو العباس السقاء بن عليٍّ (علیه السلام) : سُمّي بذلك لأنه كان قد سقى أخاه الحسين (علیه السلام) الماء بالقربة في الطف.

- وبنو عمر الأطراف بن عليًّ (علیه السلام) .

وفي كل فخذ منهم عدة عشائر.

وأمّا الجعفريون فثلاث أفخاذ:

-بنو علي ّبن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب، وهم الزينبيون؛ لأن أمّ عليٍّ هذا: زينب (علیها السلام) بنت عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) (1)، وأمّها فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 56


1- الهندي، علي رضا، القصيدة الزينبية، الطبعة الاولى، مطبعة الازهر - بغداد، 1966 م، ص12-13 . عقيلة البيت الطالبي السيدة المفضالة الحوراء -التي اوتيت محاب القلوب - بطلة كربلاء لسان الطالبيين الصارم في مجلس الفاجر يزيد ابان رزية الطف الفظيعة رزية كربلاء ( فلقد ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء .. فيوم كربلاء يوم الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) / واصحابه) ينظر المبرد، ج3، ص237. -حيث: - لا كرب لا - إلّا رزية كربلا -فاستحقرت الفاجر وفضحته وحقته بخطبتها الدامغة: ((أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟!))... كما تمثل دور المرأة في حركة الإصلاح والتغيير الساند لأخيها أبيّ الضيم أبي الأحرار الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) /في الثورة ضد الكفر والفساد والطغيان. فلله در واصفها: أرأيت فاقدة أعز حماتها في السبي *** مثل الطود تسند من سبي وعلى الطوى ومع الظما ولدى الأسى *** وعلى النياق، وفي المسير المتعبِ خطبت ونبهت العقول واطلعت *** شمس الحقيقة من ستار الغيهب فبدا جلال النصر فوق جبينها *** وعلى الخصيم بدا انهيار المذنبِ وإذا بحكمة سبيها مضمونها *** ان الهدى سيموت لو لم تخطبِ

- وبنو إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

- وبنو إسحق العرضي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والعرض: موضع بالمدينة.

وفي كل فخذ عدة عشائر.

ص: 57

وأمّا العقيليون، ففخذان:

-بنو محمد ومسلم ابني عبد الله الأحول بن محمد بن عقيل بن أبي طالب (1).

ص: 58


1- النويري، شهاب الدين، احمد، بن عبد الوهاب، نهاية الارب في فنون الادب، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ج2، ص360.

آل البيت (علیهم السلام) - بجالة وجلالة

وآل البيت: المراد بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعليٌّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (علیهم السلام) .

وإن الوثيقة في ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (1).

فمما روي عن السيدة عائشة قالت: ((خرج النبيُّ (صلی الله علیه و آله) غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليٍّ (علیه السلام) فأدخله، ثم جاء الحسين (علیه السلام) فدخل معه، ثم جاءت فاطمة (علیها السلام) فأدخلها، ثم جاء عليٌّ (علیه السلام) فأدخله، ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾)) (2).

أمّا إطلاق لفظ أهل البيت على الأئمة (علیه السلام) فهو على جهة التغليب.

ص: 59


1- سورة الأحزاب - الآية:33.
2- مسلم، أبو الحسن، ابن الحجاج، صحيح مسلم، الطبعة الاولى: مخرجة من صحيح البخاري وبترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث (محمد فؤاد عبد الباقي)، مؤسسة المختار - مصر الجديدة - 2005 م، ص1027.

وعند إنزال قوله عز وجل: ﴿فَقُل ْتَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾ (1)، دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهمَّ هؤلاء أهلي)) (2).

وفي هذا الصدد يقول العلامة النويري: ومن شرف الإستشهاد بالكتاب العزيز إقامة الحجّة، وقطع النزاع، وإرغام الخصم، كما روي أن الحجّاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين من ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله عزَّ وجلَّ وإلّا قتلتك، فقرأ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (3).

وعيسى هو ابن بنته، فأسكت الحجاج.

ص: 60


1- سورة آل عمران - الآية: 61.
2- ابن الاثير، عز الدين أبو الحسن، علي بن محمد، اسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق وتعليق: محمد إبراهيم البنا واخرون - دار الشعب - مصر، ج4، ص104 وما بعدها، والزرندي الحنفي، جمال الدين، محمد بن يوسف، نظم درر السمطين، ص108.
3- سورة الأنعام - الآيات: 83 -86.

يقول النويري: وقد تقوم الآية الواحدة المستشهد بها في بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة، والأدلة القاطعة! (1)

كما حُكي أن الرشيد سأل موسى بن جعفر (علیهما السلام) فقال: لمَ قلتم إنّا ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجوزتم للناس أن ينسبوكم إليه، ويقولوا: يا بني نبيِّ الله، وأنتم بنو عليٍّ، وإنّما يُنسب الرجل إلى أبيه دون جدّه!؟ فقرأ: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ (2)، وليس لعيسى أب، وإنّما أُلحقَ بذريّة الأنبياء من قبل أمّه، وكذلك أُلحقنا بذرية الرسول (صلی الله علیه و آله) من قبل أمّنا فاطمة (علیها السلام) ، وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى:﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ (3).

ويشير هامش النسخة المصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة - السفر الثامن -: لم يذكر عليّاً (علیه السلام) مع إنّه خرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذه المباهلة، أنظر روح المعاني عند تفسير الآية المتقدمة.

ص: 61


1- النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب، نهاية الارب في فنون الادب، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، مطابع كوستا سوماس وشركاه، القاهرة، ج8، ص173.
2- سورة الأنعام - الآيات: 83 -86.
3- سورة آل عمران - الآية: 61.

وقال: وهما الأبناء أي -وهما الحسن والحسين-المقصودان بلفظ الأبناء في الآية، وإذاً فالخبر مطابق للمبتدأ في التثنية (1).

هذا ويحسن بنا في هذا المورد الإشارة إلى كلام أبي المكارم بن عبد السلام من شعراء الخريدة: هذا شعيب النبيّ بابنته صفوراء استاجر موسى كليم الله، وهذا سيد المرسلين، أبقى الله بفاطمة ابنته نسله الى يوم الدين (2)، فتأمل.

وفي رواية مجمع قال: ((دخلت مع أمّي على عائشة فسألتها -في كلام طويل -عن علي (علیه السلام) فقالت: تسألني عن أحبّ الناس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، لقد رأيت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وجمع رسول الله بثوب عليهم ثم قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت: قلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: إنّك إلى خير)) (3).

وورد أيضاً عن السيدة أمّ سلمة (رضی الله عنها) : ((إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أدخل عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً (علیهم السلام) في كسائه وقال: اللهم إن هؤلاء أهلي أو أهل بيتي، فقالت أمّ سلمة: وأنا منكم؟ قال: أنت بخير، أو على خير)) (4).

ص: 62


1- النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب، نهاية الارب في فنون الادب، ج8، ص173.
2- النويري، نهاية الارب، ج5، ص135.
3- الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص133.
4- الأربلي، أبو الحسن، علي بن عيسى، ابن ابي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة - الطبعة الاولى - دار المرتضى - بيروت - لبنان، 2006 م، ج1، ص49.

هذا وقد علّق الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات: لمّا كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) عبداً محضاً، أي خالصاً قد طهّره الله تعالى وأهل بيته تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس وكلما يشينهم، فإن الرجس هو القذر عند العرب على ما حكاه الفرّاء ... فهم المطهّرون، بل عين الطهارة (1).

وهل ترى كرامة أنفس من إذهاب الأرجاس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافة، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى بعنايته، وهو غير مقيد برجس خاص، ولا من شيء معين، فيدل عموم التطهير من كل عيب وذنب.

ولابدّ لنا ونحن في صدد الإرادة الإلهية أن نقرر أنّ الإرادة إرادتان:

أولاً: إرادة تكوينية، وهي ذات صلة بفعل المريد نفسه، فلا يصحّ أن يريد القدير سبحانه شيئاً بالإرادة التكوينية، ثمّ لا يفعله.

ثانياً: إرادة تشريعية، وهي ذات صلة بفعل الغير، على أن تصدر من الغير، وهي التي تكون في التكاليف، ولوكان المقصود بها الإرادة التشريعية فلا نرى وجهاً لإرادة التطهير من أهل البيت خاصة؛ لأنّه تعالى يريده من الناس كافة.

فاختصاصه بهم (علیهم السلام) على وجه الميزة والفضيلة يدلنا على تكوينه فيهم، فهل بعد هذا شك في أن المعنى هو المعنى الاول، يعني أن المقصود منها أناس مخصوصون، وهم الذين كانوا

ص: 63


1- علي خان، الإمام صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة، ص209

في بيت سيد الرسل (صلی الله علیه و آله) وقد جللهم بكسائه، والتحف معهم به، فنزلت الآية عليهم وفيهم، وهم: عليٌّ وفاطمة وابناهما (علیهم السلام) .

كما يستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي؛ لأن كل ذنب رجس، وارتكاب الذنوب لا تجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها، فهم إذاً بحكم هذه الآية مطهرون من الأرجاس والذنوب، وهل العصمة شيء وراء هذا؟ (1)

وال محمد (صلی الله علیه و آله) هم موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، لا يقاس بهم من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً.

هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيئ الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص الولاية، وفيهم الوصية والوراثة (2).

وهم شجرة الإيمان، أصلها نبوّة وفرعها مروَة، وأغصانها تنزيل وورقاتها تأويل، وخدمها ميكال وجبريل (3).

ص: 64


1- ينظر: المظفري، الإمام محمد الحسين، الصادق (علیه السلام) /، مطبعة الغري - النجف - 1365 ه-، ج1، ص5-6.
2- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص24(مقتبس من خطبة لعلي (علیه السلام) /بعد منصرفه من صفّين من نهج البلاغة ).
3- ينظر: الحصري القيرواني، أبو اسحق إبراهيم بن علي، زهر الآداب، الطبعة الرابعة، تحقيق د. زكي مبارك - دار الجيل- بيروت - لبنان، ج4، ص1162 وما بعدها.

فقد ذكر عن الإمام الحسن بن علي (علیهما السلام) قوله: ((إنّا من أهل البيت الذين كان جبرئيل ينزل فينا، ويصعد من عندنا)) (1).

ومثل آل البيت في الأمّة كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له.

وهم عيش العلم وموت الجهل الذين يخبر حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية (2).

ومما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أمير المؤمنين عليٍّ بن ابي طالب (علیهم السلام) أنّه قال: ((إن الله حين شاء تقدير الخليقة وذرء البرية وإبداع المبدعات، نصب الخلق في صور كالهباء، قبل دحو الأرض ورفع السماء، وهو في انفراد ملكوته وتوحد جبروته، فأتاح نوراً من نوره فلمع، ونزع قبساً من ضيائه فسطع، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصور الخفية، فوافق ذلك صورة نبينا محمد (صلی الله علیه و آله) فقال الله عزَّ من قائل: أنت المختار المنتخب، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي، من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الماء، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصب أهل بيتك للهداية، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا

ص: 65


1- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص270.
2- المصدر السابق نفسه، ص24 وما بعدها.

يشكل عليهم دقيق، ولا يعييهم خفي، وأجعلهم حجّتي على بريّتي، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي)) (1).

ثم أخذ الله الشهادة عليهم بالربوبية والإخلاص بالوحدانية، فقبل أخذ ما أخذ جلّ شأنه ببصائر الخلق انتخب محمداً وآله، وأراهم أن الهداية معه، والنور له، والإمامة في آله؛ تقديماً لسنّة العدل، وليكون في الإعذار متقدماً ثم اخفى الله الخليقة في غيبه وغيبها في مكنون علمه.

ثم نصب العالم، وبسط الزمان، وموّج الماء، وأثار الزبد، وأهاج الدخان، فطفا عرشه على الماء؛ فسطح الأرض على ظهر الماء، ثم استجابهما إلى الطاعة، فأذعنتا بالاستجابة.

ثم أنشأ الله الملائكة من أنوار أبدعها، وأرواح اخترعها، وقرن توحيده بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله) ؛ فشهرت في السماء قبل بعثته في الأرض.

فلمّا خلق الله آدم أبان فضله للملائكة، وأراهم ما خصّه به من سابق العلم، حيث عَرفه عند استنبائه إيّاه أسماء الأشياء، فجعل الله آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة، وأسجد إليها الأبرار والروحانيين والأنوار.

ص: 66


1- المسعودي، أبو الحسن، علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المطبعة البهية المصرية، 1346 ه-، ج1، ص17 وما بعدها.

ثم نبّه آدم على مستودعه، وكشف له عن خطر ما ائتمنه عليه، بعدما سمّاه إماماً عند الملائكة، فكان حظّ آدم من الخير ما آواه من مستودع نورنا، ولم يزل الله تعالى يخبّئ النور تحت الزمان، إلى أن وصل محمّداً (صلی الله علیه و آله) في ظاهر الفترات.

فدعا الناس ظاهراً وباطناً، وندبهم سرّاً وإعلاناً، واستدعى (علیه السلام) التنبيه على العهد الذي قدمه الى الذرِّ قبل النسل، فمن وافقه واقتبس من مصباح النور المقدم اهتدى الى سيره، واستبان واضح أمره، ومن ألبسته الغفلة استحق السخط.

ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة، ومنّا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهديّنا تنقطع الحجج، خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمّة، وغاية النور، ومصدر الأمور، فنحن أفضل المخلوقين، وأشرف الموحدين، وحجج ربِّ العالمين، فليهنأ بالنعمة من تمسّك بولايتنا، وقبض عروتنا (1).

أولاء هم آل البيت، معادن العلم وينابيع الحكم، هم كالنجوم، إذا خوى نجم طلع نجم.

وقد حافظ الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) على تراث النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وكانت بيوتهم مدارس، وقد اخذ علماء الأمّة عنهم، واقتدى بهداهم الناس.

والأئمة هم:

ص: 67


1- المسعودي، أبو الحسن، علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المطبعة البهية المصرية، 1346 ه-، ج1، ص17 وما بعدها.

•عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) (40 ﻫ ).

• الحسن (علیه السلام) (49 ﻫ ).

•الحسين (علیه السلام) (61ﻫ ).

•عليٌّ زين العابدين: عليّ السجاد (علیه السلام) (95ﻫ ).

•محمّد الباقر (علیه السلام) (114ﻫ ).

•جعفر الصادق (علیه السلام) (148ﻫ ).

•موسى الكاظم (علیه السلام) (183ﻫ ).

•عليّ الرضا (علیه السلام) (203ﻫ ).

•محمد الجواد (علیه السلام) (220ﻫ ).

•عليّ الهادي (علیه السلام) (254ﻫ ).

•الحسن العسكري (علیه السلام) (260ﻫ ).

•محمد المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

وقد أتيح لأهل البيت (علیهم السلام) أن ينشروا من علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ما صدع كالفجر، ووضح كالصبح، ولاح كالبرق، وأن يظهروا من تراثه ما أشرق كالسراج الوهاج.

ص: 68

وقد دوّن أهل البيت (علیهم السلام) - وهم عترة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأسرته منذ البداية - وحفظوا هذا التراث، واحتفظوا به، وحافظوا عليه، ولازموا السيرة والسُنّة، حديثهم حديث النبيِّ (صلی الله علیه و آله) وقولهم قوله، وسيرتهم سيرته، وفعلهم فعله (1).

فمما ذكره الإمام المحسن الأمين العاملي (قدس سره) عن الشيخ الكليني (أعلى الله مقامه)، بسنده عن الباقر (علیه السلام) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضی الله عنه) قال: ((دخلت على فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين يديها لوح، فيه أسماء الأوصياء والأئمة من ولدها، فعددت اثني عشر اسماً، آخرهم القائم من ولد فاطمة، ثلاثة منهم محمد، وأربعة عليّ)) (2).

لا يداني أحداً منهم أحدٌ، كلٌّ منهم واحد دهره، لا يساميه عالم، ولا يوجد منه بدل، وليس له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله، من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب (3).

وذكر أهل الإستدلال للإمام خصالاً كثيرة، ينال بها أعلى درجات الفضل، لا يشاركه فيها أحد، وإن ذلك كله وُجد في عليٍّ بن أبي طالب وولده (علیهم السلام) .

ص: 69


1- من بحث نفيس مخطوط لفضيلة الاستاذ العلامة الدكتور حسين علي محفوظ، وقفنا عليه في مكتبة الاستاذ د. عبد الحليم السيد علي خان المدني.
2- الأمين العاملي، الإمام محسن، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، الطبعة الثالثة، مطبعة النعمان، النجف، ج5، ص455.
3- الحر العاملي، الإمام محمد بن الحسن، الفصول المهمة في معرفة اصول الائمة، الطبعة الثانية، المطبعة الحيدرية - النجف - 1378 ه-، ص142.

وإن عليّاً (علیه السلام) نصّ على ابنه الحسن ثمّ الحسين، والحسين على عليّ بن الحسين، وكذلك من بعده إلى صاحب الوقت: الثاني عشر (1) (سلام الله عليهم أجمعين).

ولم يعهد من أحد منهم التعلم من أحد من العلماء، وكلّ واحد منهم في زمانه كان أعلم أهل الدنيا (2).

الإمام عليٌّ أمير المؤمنين (علیه السلام)

ومدينة العلم عندنا هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعليٌّ (علیه السلام) بابها، كما صرح الحديث الصحيح الشريف.

وإذا كان بين الصحابة الكرام اختلاف في كتابة العلم، فكره كتابة الحديث كثير منهم، وأباحها بعضهم، فقد كان عليٌّ (علیه السلام) أوّل من كتب حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجمعه ووعاه، وهو أول من ألّف في الإسلام.

جمع عليٌّ (علیه السلام) القرآن، وهو أول العشرة الذين اشتهروا بالتفسير من الصحابة، وأكثر ما روي عنه.

ص: 70


1- المسعودي، أبو الحسن، علي بن الحسين، مروج الذهب، المطبوع على هامش كتاب نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب للمقري المغربي، الطبعة الاولى - مطبعة الازهر المصرية - 1302ه-، ج3، ص45.
2- الحر العاملي، محمد بن الحسن، اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، المطبعة العلمية - قم - ج1، ص31.

وما من آية يسألونه عنها إلّا أخبرهم، وما من آية إلّا وهو أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل، وما نزلت آية إلّا وقد علم فيم أُنزلت.

وهب له ربّه قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً.

جمع عليٌّ (علیه السلام) القرآن على ترتيب النزول، وكتبه على التنزيل عقيب وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد قال ابن سيرين: لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم.

هذا.. وقد أقسم عليٌّ (علیه السلام) وحلف وآلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يجمع ما بين اللوحين؛ فما وضع رداءه ولا ارتدى به حتى جمع القرآن، وانقطع مدة إلى أن جمعه وكتبه (1).

وها هو أمير المؤمنين (علیه السلام) يؤكد هذا المعنى بقوله: ((وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معدٍّ لمن أخلص لله عمله، وسلم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه)) (2).

قال الأستاذ جرجي زيدان: ((فقد ظلّ عند بعض المسلمين نسخ من مصاحف أخرى أشهرها مصحف عليٍّ، ويعتقد الشيعة أن عليّاً أول من خطّ المصاحف عند وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتنوقل مصحفه في شيعته، وبقي عند أهل جعفر، وقد ذكر ابن النديم في كتاب الفهرست - والكلام

ص: 71


1- مدونة، د. محفوظ.
2- النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب، نهاية الارب، ج7، ص226.

لمّا يزل للأستاذ زيدان - أنّه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسني مصحفاً بخطّ عليٍّ، يتوارثه بنو حسن)) (1).

وترك عليٌّ (علیه السلام) أيضاً كتاباً أملى فيه ستين نوعاً من أنواع علوم القران، وهو أول كتاب في الإسلام.

وعندما اتسعت رقعة الفتوح، واتسعت للمسلمين الدولة، ضربوا في الأرض، وانبسطوا في الآفاق، وخالطوا صفراء الأمم وحمراءها، واحتكت لغاتهم بلغاتهم، ولم تكد تستقر بهم الحواضر حتى أنسوا فارط اللحن يتمشى في حواشي لغتهم، ويدبّ على ألسنة أحداثهم، فراعهم ذلك، وعزَّ عليهم أن تطغى العجمة على لغتهم، ولغة دولتهم بل لغة ملتهم؛ فحفّزت الحميّة القومية والغيرة الدينية رجالاً منهم لنصرتها والذبِّ عنها.

وكان مجلِّي حلبتها في هذا المضمار أبو الأسود الدؤلي الكناني، أحد أعلام التابعين بإرشاد من الإمام عليٍّ (علیه السلام) ، وكان من أرباب البصائر الحية، فاستعرض طائفة من كلام العرب، وتوصل الى استخراج طائفة من المسائل، واستنباط بعض القواعد أسماها (النحو)، ودوّنها في صحيفة له، عرفت عند النحاة بالتعليقة، وهي أول كتاب دوّن في علم اللسان العربي (2).

ص: 72


1- زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص213.
2- الراوي، العلامة طه، نظرات في اللغة والنحو، الطبعة الاولى، منشورات المكتبة الاهلية، بيروت، 1962 م، ص7.

وروي أن سبب وضع عليٍّ (علیه السلام) هذا العلم - النحو- أنّه سمع أعرابيا يقرا: ((لا يأكله إلّا الخاطئين))، وقيل غير ذلك.

والصحيح أن أول من وضع النحو عليٌّ بن أبي طالب (علیه السلام) ؛ لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبي الأسود بسنده إلى عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

فإنّه روي عن أبي الأسود أنّه سُئل من أين لك هذا النحو؟ فقال: لقفت حدوده من عليٍّ بن أبي طالب، ثم ذكر أن أبا الأسود مات (سنة 69 ﻫ )، ثم ذكر تفصيل من أخذ عنه، ومن أخذ عن تلامذته، إلى زمن المصنف.

وروي عن أبي الأسود أنّه قرأ القرآن على عليٍّ بن أبي طالب، وكان أستاذه في القراءة والنحو.

قال صاحب طبقات الأدباء: إن علوم الأدب ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم، وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما، وهما علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو. انتهى.

وقال ابن خلكان في تأريخه: أبو الأسود ظالم بن عمر بن سفيان الدؤلي، كان من سادات التابعين وأعيانهم.

صحب عليَّ بن أبي طالب، وشهد معه صفّين، وهو بصريّ، وكان من أكمل الرجال رأياً.

ص: 73

وهو أول من وضع النحو، فقيل: إن عليَّ بن أبي طالب وضع له الكلام ثلاثة أضرب: إسم، وفعل، وحرف، ثم دفعه إليه، وقال: تمّم على هذا.

إلى أن قال: وسُمّي النحو نحواً؛ لأن أبا الأسود استأذن عليَّ بن أبي طالب أن يضع نحو ما وضع. انتهى. وقال عبد الرحمن السيوطي في كتاب النظاير والأشباه في النحو: قال أبو القاسم الزجاجي في أماليه، حدثنا محمد بن رستم الطبري، قال: حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثني يعقوب بن إسحق الحضرمي، حدثنا سعيد بن مسلم الباهلي، حدثنا أبي عن جدّي، عن أبي الأسود الدؤلي قال: دخلت على عليٍّ بن أبي طالب فرأيته مطرقاً متفكراً، فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً؛ فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، ثم أتيته بعد ثلاث، فألقى إليّ صحيفة فيها:

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْمِ: الكلام كلّه إسم وفعل وحرف، فالإسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بإسم ولا فعل.

ثم قال لي: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء لا ظاهر ولا مضمر، وإنّما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.

قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء، وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت فيها: إنَّ، وأنَّ، وليت، ولعلَّ، وكأنَّ، ولم اذكر لكنَّ، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها فزد فيها.

ص: 74

قال الحرُّ العاملي: ومن تتبع ما أشرنا إليه من الكتب علم أن ذلك بلغ حد التواتر، فكل خبر منها مؤيد للآخر، والله أعلم (1).

وخلّف علي (علیه السلام) الجامعة، والجامعة: هي: (كتاب عليٍّ)، و(الصحيفة)، و(الصحيفة العتيقة من صحف عليٍّ).

وهي صحيفة فيها الحلال والحرام، والفرائض، وفيها كل ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتى إرش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة، وربع الجلدة.

وما على الأرض شيء يحتاج إلّا وهو فيها، وما خلق الله من حلال أو حرام إلّا وهو فيها.

وهي: سبعون ذراعا بذراع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عرض الأديم، إملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، من فلق فيه، وخطِّ عليٍّ (علیه السلام) بيده، فهو أثر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان عند الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) .

وإن عندهم ما لا يحتاجون معه إلى أحد، وإن الناس ليحتاجون إليهم، وإن في الصحيفة لجميع ما يحتاج إليه الناس، كما نصّت الأخبار.

ص: 75


1- ينظر: الحر العاملي، شيخ المحدثين محمد بن الحسن، الفصول المهمة في أصول الأئمة (علیهم السلام) /، الطبعة الثانية، المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الاشرف، 1378 ه-، ص273-274.

وخلّف عليٌّ (علیه السلام) الجفر والجامعة، فيهما جميع العلوم، وهما: إهاب ماعز، أو إهاب ضأن، أو جلد بعير، أو جلد ثور، وهما - كما قال السيد الشريف الجرجاني في شرح المواقف - كتابان لعليٍّ (علیه السلام) قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم (1).

والجفر في روايات أهل البيت (علیهم السلام) : أديم عكاظيّ، قد كتب فيه حتى ملئت أكارعه، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وما من شيء يحتاج إلى علمه إلّا وهو فيه، كتب فيه ما يحتاج إلى علمه، وكلّ ما يكون (2).

وقد كان الأئمة المعروفون من ولد عليٍّ (علیهم السلام) يعرفونهما، أعني: الكتابين، ويحكمون بهما.

وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه الإمام عليُّ بن موسى الرضا (علیهما السلام) إلى المأمون:((إنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك، فقبلت منك ولاية العهد، إلّا إن الجفر والجامعة يدلاّن على أنّه لا يتمُّ)).

ولمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف ينتسبون فيه إلى أهل البيت (علیهم السلام) ، وإنّه - أي

ص: 76


1- البهائي العاملي، بهاء الدين، الكشكول، تحقيق د. طاهر الزاوي، دار احياء الكتب العربية، مصر، ج2، ص199. وعلي خان، الإمام صدر الدين، رياض السالكين، ج1، ص112.
2- مدونة، د. محفوظ.

الشريف الجرجاني - كان رأى بالشام نظماً أشير فيه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر، كما سمع أنّه مستخرج من ذينك الكتابين (1).

ويرجح العلّامة كمال الدين الدميري- على رأي كثير من الناس - نسبة كتاب الجفر إلى الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ، ويرى نسبته إلى الإمام عليٍّ (علیه السلام) وهماً، فيقول: إن كثيراً من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وهو وهم، والصواب أن الذي وضعه جعفر الصادق (علیه السلام) .

ويعزز الدميري رأيه بما ذكره عن ابن قتيبة في أدب الكاتب، في أن كتاب الجفر جلد جفرة، كتب فيه الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) لأهل البيت (علیهم السلام) كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، وكذا حكاه ابن خلكان عنه أيضاً (2).

ومما يؤثر عن عليٍّ (علیه السلام) صحيفة الفرائض، وهي: (صحيفة كتاب الفرائض)، التي هي إملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) من فِيْهِ، وخطِّ علي (علیه السلام) بيده.

ومما يؤثر عن عليٍّ (علیه السلام) كتاب في صدقات النعم وزكاتها، وكتاب في أبواب الفقه، وكتاب آخر في الفقه، وقضايا عليٍّ (علیه السلام) وعجائب أحكامه.

ص: 77


1- البهائي العاملي، بهاء الدين، الكشكول، تحقيق د. طاهر الزاوي، دار احياء الكتب العربية، مصر، ج2، ص199. وعلي خان، الإمام صدر الدين، رياض السالكين، ج1، ص112.
2- الدميري، كمال الدين، حياة الحيوان الكبرى، دار القاموس الحديث للطباعة والنشر - بيروت - لبنان،ج2، ص90.

ويؤثر عنه أيضاً (مصحف فاطمة) أو (كتاب فاطمة) (علیها السلام) ، وفيه علم ما يكون، وفيه وصيّتها، وفيه ما يكون من حادث، وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة، إملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وخطّ عليٍّ (علیه السلام) بيده.

والمصحف -هنا- بمعنى الكتاب؛ باعتبار جميع الصحف فيه، وهو اصطلاح مستعمل في بعض الأحايين، وله شواهد معروفة.

كما كتب عليٌّ (علیه السلام) العلم كلّه، القضاء، والفرائض، والحديث، غير الخطب وجوامع الكلم في نهج البلاغة، من كلامه (علیه السلام) وخياره فيه (1).

فهو كما قال الشريف الرضيُّ: مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه (علیه السلام) ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلتها حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ.

مع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدّم وتأخروا، ولأن كلامه (علیه السلام) عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي (2).

ص: 78


1- مدونة، د. محفوظ.
2- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص45، والسامرائي، العلامة يونس الشيخ إبراهيم، البطل الغالب علي بن ابي طالب، مكتبة الرصافي، بغداد، لسنة 1989، ص16.

وأمّا فصاحته فهو (علیه السلام) إمام الفصاحة، وسيد البلغاء! وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين.

ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.

وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلّا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليٍّ بن أبي طالب.

ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيى الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.

ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجارى في الفصاحة، ولا يُبارى في البلاغة.

وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر، مما دوّن له (1).

قال العلّامة الجاحظ في قول عليٍّ (علیه السلام) : ((قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُ)): فلولم نقف من هذا الكتاب إلّا على هذه الكلمة، لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية (2).

ص: 79


1- المعتزلي، ابن الي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص25.
2- الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص58-59.

وقال أيضاً في رسائله: وأجمعوا على أنهم لم يجدوا كلمة أقلّ حرفاً، ولا أكثر ريعاً، ولا أعمّ نفعاً، ولا أحثّ على بيان، ولا أدعى إلى تبين، ولا أهجى لمن ترك التفهم وقصر في الافهام، من قول أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) : ((قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُ)) (1).

ونقل الخطيب البغدادي في تأريخه عن ابن أبي الدنيا، قال عمرو بن بحر: لا أعلم في كلام الناس كلمة أحكم من هذه الكلمة: ((قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُ)) (2).

وقد توهم البعض أن آثار عليٍّ (علیه السلام) كلّها قد جمعت من نهج البلاغة، والصحيح أن ما في النهج بعض آثاره، وإن للإمام عليٍّ (علیه السلام) من الخطب والأدعية ما لم يتصل به الشريف الموسوي، جامع نهج البلاغة، ليثبتها فيه، فشذّت عنه، ولا تزال متفرقة في جملة من أسفار أئمة أهل السنة والشيعة.

ولو جمعت في سفر، لصحّ أن يطلق عليها اسم (مستدرك النهج)، وقد عرفنا أن بعض

ص: 80


1- الجاحظ، رسائل الجاحظ، مجلد 3-4، ص29.
2- الخطيب البغدادي، للحافظ أبي أحمد بن علي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام منذ تأسيسها حتى سنة 463 ه-، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ج5، ص35.

العلماء في النجف وجّه همّه إلى استدراك ما فات الشريف الرضيّ من آثار الإمام (علیه السلام) ، فوقف على أشياء لا يستهان بها (1).

وفي إسلوب عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) تبرز قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، فهو هنا يتحدث إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم.

ولجمال هذا الاسلوب ووضوحه شأن كبير في تأثيره ووصوله إلى قرارة النفوس، وقوة عارضته، وسطوع حجته، ونبرات صوته، ومحكم شارته.

ومن أظهر مميزات هذا الاسلوب التكرار، واستعمال المترادفات، وضرب الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين، وتعاقب ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام الى تعجب الى استنكار.

ومن خير الأمثلة لهذا الاسلوب لمّا أغار سفيان بن عوف الأسدي على الانبار، وقتل عامله عليها، فانظر كيف تدرج ابن أبي طالب في إثارة شعور سامعيه، حتى وصل إلى القمّة!

فإنّه أخبرهم بغزو الأنبار أولاً، ثمّ بقتل عامله، وإن ذلك لم يكفِ سفيان بن عوف، فأغمد سيوفه في نحور كثير من رجالهم وأهليهم.

ص: 81


1- تنظر: مجلة لغة العرب، شهرية، ادبية علمية تاريخية، صاحب امتيازها الاب، أنستاس ماري الكرملي، المجلد الثاني، تموز 1912 م - حزيران 1913 م، العدد 11 عن ايار سنة 1913، ص522 (بقلم ابن الأعرابي).

ثم توجّه في الفقرة الثانية إلى مكان الحميّة فيهم، ومثار العزيمة والنخوة من نفس كلّ عربيّ كريم، ألا وهو المرأة، فإن العرب تبذل أرواحها رخيصة في الذود عنها، والدفاع عن خدرها؛ فقال: إنهم استباحوا حماها، وانصرفوا آمنين.

وفي الفقرة الثالثة أظهر الدهش والحيرة من تمسّك أعدائه بالباطل ومناصرته، وفشل قومه عن الحق وخذلانه، ثم بلغ الغيظ منهم مبلغه فعيّرهم بالجبن والخور (1).

ويروى لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) شعر كثير، ولا يوجد شكٌّ في أن عليّاً (علیه السلام) كان مطبوعا على قول الشعر، وإنّه كان ذا شاعرية، وله مواهب تؤهله لنظمه، كما كان من الحفّاظ للشعر.

وقد أورد له أهل الأخبار والأدب شعراً ذكروه في المواضع المناسبة، وإنّه لمما صحّ له (علیه السلام) هذين البيتين، على رواية أبي عثمان المازني، وهما قوله:

تلكمْ قريشٌ تمنّاني لتقتلني *** فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا

فإنْ هلكتُ فرهنٌ ذمّتي لهمُ *** بذاتِ روقين لا يعفو لها أثرُ (2)

ص: 82


1- ينظر: علي الجارم ومصطفى امين، البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع)، شركة مكملان بلندن، الطبعة 21، مطابع دار المعارف بمصر، 1389 ه- / 1969 م.
2- علي، الدكتور جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، انتشارات الشريف الرضي، المطبعة شريعت، الطبعة الاولى، 1380 ه-، ج9، ص701.

الإمامان الحسنُ والحسينُ (علیهما السلام)

وأمّا الحسنُ والحسينُ (علیهما السلام) من قولِ جدِّهما (صلی الله علیه و آله) : أنّهما سيّدا شباب أهل الجنة، وحظّهما في الأعمالِ المرضيةِ والعلومِ الزكيةِ فوقَ كلِّ ذي حظ .. (1)

وجملةُ القولِ في ولدِ عليِّ (علیه السلام) : إنهم مُعَظّمون مُكَرَّمون عند الناسِ بدونِ اختيارِهم، والمؤمنون بتعظيمِهم وتكريمِهم واثقون وموقنون، فلهم سِرٌّ كريم، وكمالٌ جسيم، وشيمٌ عجيب، وعرقٌ طيِّب، وفضلٌ مبين، ووقارٌ متين، وعرقٌ تام، وغصنٌ باقٍ، وأصلٌ ثابت، وفرعٌ نابت؛ فلهذا لم يكتفوا ولم يقنعوا بذلك التعظيم والتكريم، واشتغلوا بالتكاليف الشداد، والمحنِ الغلاظ، والعباداتِ الشاقة، والمجاهداتِ التامة (2).

وفي حديثٍ حذيفةَ بنِ اليمان، فيما نقله الإمام أبو محمّد عبد الله بن محمد بن حيّان، المعروف بأبي الشيخ، صاحب كتاب السُّنة، بسندهِ إلى ربيع السعدي، قال: أتيت حذيفةَ بنَ

ص: 83


1- القندوزي الحنفي، الحافظ سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، تقديم العلامة السيد محمد مهدي الخرسان، الطبعة الثامنة، منشورات دار الكتب العراقية - الكاظمية -، مكتبة المحمدي، قم، إيران، 1385 ه-، ص153. (في ايراد رسالة ابي عثمان عمروبن بحر الجاحظ البصري المعتزلي، صاحب كتاب البيان والتبيين).
2- المصدر السابق نفسه.

اليمان (رضی الله عنه) ، فسألتهُ عن أشياءَ، فقال من حديثٍ طويل: إنَّ الفضلَ والشرف َوالمنزلةَ والولايةَ لرسولِ الله (صلی الله علیه و آله) وذُرِّيَتهِ، فلا تَذْهَبَنَّ بكُم الأباطيلُ (1).

ولطالما استوصى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحسن والحسين (علیهما السلام) خيراً فكان يقول: ((هَذانِ إبناي وابنا ابنتي، اللهم إنّي أحبُهما))، وفي رواية، ((اللهمّ إنّي أحبُهما فأَحبَّهما، وأبغض من أبغضَهما)) (2).

ومن كلام لعليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم صفّين -وهو يستوصي بالحسنين (علیهما السلام) -قال:((املكوا عنّي هذين الفتيين، أخاف أن ينقطع بهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) )) (3).

وكان قيل لمحمد بن الحنفية (رضی الله عنه) : لمَ يغرر بك أبوك في الحرب، ولا يغرر بالحسن والحسين (علیهما السلام) ؟ فقال (رضی الله عنه) : إنّهما عيناه، وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه (4).

ص: 84


1- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص208، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص279.
2- الإمام محمد الصبان، اسعاف الراغبين، المطبوع بهامش نور الابصار في مناقب ال بيت النبي المختار للعالم الشيخ سيد الشبلنجي المدعوب- (مؤمن) مطبوعات مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون، الطبعة السابعة، مصر، 1380 ه- \ 1960م، ص 115.
3- المعتزلي، ابن ابي الحديد، نهج البلاغة، ج1، ص244.
4- المعتزلي، ابن ابي الحديد، نهج البلاغة، ج1، ص244.

وعن عليٍّ (علیه السلام) قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) مُغضَباً حتى استوى على المنبر، فحمدَ الله وأثنى عليهِ، ثم قال: ما لرجالٍ يُؤذوني في أهل بَيتي، والذي نفسِي بيدهِ، لا يؤمنُ عبدٌ حتى يُحبَّني، وَلا يُحبَّني حَتى يُحِبَّ ذُرِّيَتي (1).

وَرَوَى أبو الشيخ أيضاً بسندهِ إلى جعفر بن مُحمَّد (علیهما السلام) عن عمِّهِ زيد (رضوان الله عليه) قال: خلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَّا سبعةً لم يخلقْ مثلَهم قطُّ، وذكر فيهم حسناً وحسيناً سيدي شبابِ أهلِ الجنة (2).

وفي مورد آخر أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسجد، فقام على قدميه والحسن والحسين (علیهما السلام) على عاتقيه، ثم قال (صلی الله علیه و آله) من حديث طويل: ((اللهمّ إنك تعلم أن الحسن والحسين في الجنّة، وعمَّهما في الجنّة، وعمَّتهما في الجنّة، ومن أحبّهما في الجنّة، ومن أبغضهما في النار)) (3).

ص: 85


1- الصبان، محمد، الإمام، إسعاف الراغبين، ص114.
2- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص214.
3- الطبري، الحافظ محب الدين احمد بن عبد الله، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، تقديم ومراجعة جميل إبراهيم حبيب، طبع دار القادسية - بغداد -، 1984 م، ص140-141.

الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام)

وكان الحسن (علیه السلام) يجلس في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويجتمع الناس حوله فيسألونه، وكان يعظ الناس .. ومن مواعظه: ((يا ابن آدم عِفَّ عن محارمِ الله تكنْ عابداً، وارضَ بما قسمَ اللهُ لكَ تكنْ غنيَّاً، وأحسِنْ جِوارَ مَنْ جاورَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَصَاحِبْ الناسَ بِمثلِ ما تُحبُ أنْ يُصاحِبوك بِمثلِه تَكُنْ عَادِلاً)) (1).

وكان (علیه السلام) كثير الإجتهاد في العبادة والتصدق، وروي أنّه قال: ((إني لأستحي من الله أن ألقاه ولم أمش ِإلى بيته))؛ فمشى عشرين مرة من المدينة إلى مكة على رجليه.

وقيل حج الحسن (علیه السلام) خمسَ عشرةَ حجةٍ ماشياً، وإن الجنائب لتقاد معه، وقاسمَ اللهَ مالَه ثلاثَ مراتٍ (2).

وقيل له (علیه السلام) : نراكَ لا تردُّ سائلاً وإنْ كُنْتَ على فاقةٍ، فقالَ: إني للهِ سائلٌ وفيهِ راغبٌ، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً، وإنَّ اللهَ تعالى عوَّدني عادةً، عوَّدني أنْ يُفيضَ نِعمَهُ عليّ، وعَودتُّهُ أنْ أفيضَ نِعَمَهُ على الناسِ، فأخشى إنْ قَطعْتُ العادةَ أنْ يَمنَعني العادةَ (3).

ص: 86


1- الشيخ سيد الشبلنجي المدعوب- (مؤمن)، نور الابصار في مناقب آل بيت النبي المختار وبهامشه كتاب اسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل اهل بيته الطاهرين للأستاذ الشيخ محمد الصبان، ص120.
2- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص196.
3- المصدر السابق نفسه، ص122-123.

يحدثنا العلّامة المبرد في كامله، عن ابن عائشة، عن أبيه، أن رجلاً من أهل الشام دخل المدينة فقال: رأيت رجلاً على بغلة لم أرَ أحسن وجهاً ولا أحسن لباساً ولا أفره مركباً منه، فسألت عنه فقيل: هو الحسن بن علي بن أبي طالب، فامتلأت له بغضاً؛ فصرت إليه فقلت: أ أنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن إبنه، فقلت: ما فيك وبك وبأبيك أسبّهما فقال (علیه السلام) : أحسبك غريباً، قلت: أجل، فقال (علیه السلام) : إن لنا منزلاً واسعاً، ومعونة على الحاجة، ومالاً نواسي منه، فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحبّ إليّ منه (1).

ولما حَشَدَ له معاوية كُهولَ قُريش وشبانها ليصغّره في أعين الناس، حين طلب إليه أن يخطب فيهم ظانّاً أنّه سَيُعيِيه، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيِّ (صلی الله علیه و آله) ، ثم قال:

((أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ما أحد جدُّهُ نبيٌّ غيري.

أنا ابن نبي الله، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن بريد السماء، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بُعث للجن والإنس.

أنا ابن من قابلت معه الملائكة، أنا ابن من جُعلت له الأرض مسجداً وطهوراً ...

أنا ابن من كان مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من تنشق عنه الأرض، وينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة.

ص: 87


1- المبرد، محمد بن يزيد، الكامل في اللغة والادب، ج3، ص34.

أنا ابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن، أنا ابن من لا يسامى كرماً.

فقال له القوم: حسبك يا أبا محمد، ما أعرفنا بفضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال الحسن (علیه السلام) : يا معاوية إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعمل بطاعته، وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن، واتخذ الدنيا أمّاً وأباً، لكن ذاك ملك تمتع في ملكه، وكان قد انقطع وانقطعت لذته وبقيت تبعته، ثم قال: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، ثم نزل عن المنبر (علیه السلام) (1).

ص: 88


1- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص 200-201.

الإمام الحسين الشهيد (علیه السلام)

اشارة

وفي أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) نقل الإمام أبو محمد، صاحب كتاب السُنَّة، بسنده إلى حذيفة (رضی الله عنه) ، أن النبيَّ (صلی الله علیه و آله) قال: ((ألا إن الحسين بن عليٍّ أعطي من الفضل ما لم يعطه أحدٌ من ولد آدم، ما خلا يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (علیهم السلام) )) (1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ((حسين منّي، وأنا من حسين، أحبّ اللهُ من أحبَّ حسيناً، حسينٌ سبط من الأسباط)) (2).

وقال (صلی الله علیه و آله) : ((من أحبني فليحبَّ هذين))، يعني حسناً وحسيناً (3).

وقال جابر بن عبد الله (رضی الله عنه) : من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى الحسين (علیه السلام) (4).

ص: 89


1- المصدر السابق نفسه، ص 207، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص22-23.
2- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص208-209.
3- المصدر السابق نفسه، ص209.
4- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص208.

كان الحسين (علیه السلام) كثير الصلاة والصوم والحج والعبادة، سخياً كريماً، حجّ خمساً وعشرين حجة ماشياً، ونجائبه تقاد معه، وقد استوصفه أحد الانصار عقيل بن أبي طالب، فقال عقيل: ذاك أصبح قريش وجهاً، وأفصحهم لساناً، وأشرفهم بيتاً (1).

فإذا ما كان بنو حرب قد ضحوا بالدين يوم كربلاء يوم الحسين (علیه السلام) (2)، فذلك لان الله عزَّ وجلَّ جعل الإمامة في عقبه (علیه السلام) لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (3)، أي جعل الإمامة في عقب الحسين (علیه السلام) إلى يوم القيامة.

وتفسير ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (4) في المناقب عن عليّ بن الحسين (علیهما السلام) قال: إن الله متمُّ الإمامة، وهي النور، وذلك بقوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (5)، ثم قال: النور هو الإمام (6).

ص: 90


1- الزرندي الحنفي، درر السمطين ، ص208.
2- المبرد، محمد بن يزيد، الكامل في اللغة والادب ، ج3، ص237.
3- سورة الزخرف - الآية: 28.
4- سورة التوبة - الآية: 32.
5- سورة التغابن - الآية: 8.
6- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص117-118.

تداعيات المصرع الشريف

وبعد مصرع الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) ، وحمل ابن زياد رأسه (علیه السلام) إلى يزيد بن معاوية، وما فعله بالحسين (علیه السلام) تفاقم الأمر، واشتد على الشيعة في ذلك، يقول أبو الأسود الدؤلي:

أقول وذاك من جزع ووجد *** أزال الله ملك بني زياد

وأبعدهم بما غدروا وخانوا *** كما بعدت ثمود وقوم عادِ

يقول المسعودي: لقد شمل الناس جور يزيد وعماله، وعمّهم ظلمه، وما ظهر من فسقه، بعد مقتل ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنصاره، وما ظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه برعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته.

أخرج أهل المدينة عامله عليهم وهو (عثمان بن محمد بن أبي سفيان)، و(مروان بن الحكم)، وسائر بني أميّة، وذلك عند تنسّك ابن الزبير وتألهه، وإظهار الدعوة لنفسه، وذلك في سنة ثلاث وستين.

وكان إخراجهم لما ذكرنا من بني أميّة وعامل يزيد، عن إذن ابن الزبير؛ فاغتنمها مروان منه، إذ لم يقبضوا عليهم ويحملوهم إلى ابن الزبير؛ فحثوا السير نحو الشام.

ص: 91

ونما فعل أهل المدينة ببني أميّة وعامل يزيد إلى يزيد؛ فسيّر إليهم الجيوش من أهل الشام، عليهم مسلم بن عقبة المري، الذي أخاف المدينة ونهبها وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنهم (عبيد ليزيد).

وسمّى المدينة (نتنة)، وقد سمّاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) (طيبة)، وقال (صلی الله علیه و آله) : ((من أخاف المدينة أخافه الله ..))؛ فسمّي مسلم هذا لعنه الله بمجرم ومسرف؛ لما كان من فعله (1)).

وفي هذا السياق يحسن بنا أن نشير إلى ما قاله الأستاذ الدكتور أحمد فريد رفاعي (2): إن إلمامنا بما كان من مسلم بن عقبة الذي انتهك المدينة لمقنعاً بما نقول.

لقد كان جند يزيد بعد واقعة الحرة وغيرها يطلبون إلى الرجل القرشي أن يبايع ليزيد، لا من ناحية اقتناعه الديني طبعاً، ولا بدافع الترغيب بالمال، ولا بسياسة الرقّة واللطف التي قد ينال بها أكثر مما ينال بالشدة والعنف، بل من ناحية السيف والإرهاب، يجب أن يبايع وأنفه راغم، ويجب أن يبايع مع ما يرى من انتهاكهم المدينة.

كانت جند يزيد تقول للقرشي: بايع على إنك عبد قنّ ليزيد! فإن أبى ضرب عنقه، فكانت مقتلة ذريعة، ثم انظر ما كان من حصارهم مكة إذ قال قائلها: ((يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية، يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله يا أهل الشام، صاح الشاميون: الطاعة الطاعة)).

ص: 92


1- ) المسعودي، مروج الذهب، المطبعة البهية المصرية، ج2، ص95.
2- عصر المأمون، ج1، ص 29-30-31.

وإذا ما رددنا الطرف في حياة يزيد بن عبد الملك، فنجد أبا الفرج الأصفهاني يذكر لنا، في غير موضع من حياة سلامة القس وحبابة، وغيرهما، شيئاً لا يستهان به عن إسرافه في تهتكه..

ثم لينظر الآن إلى أي مدى كان هذا الضعف من الخلفاء تحت تأثير عشيقاتهم من القيان والمغنيات، وما كان لهن من سلطان في أمور الدولة وتولية العمال وعزلهم ..

أمّا استخفاف الوليد بن يزيد بالدين فقد فاقت خمرياته خمريات يزيد بن معاوية ..

ثم لننظر فيما يقوله ابن الأثير عنه حين ولّاه هشام الحج، فإنه يخبرنا: أنّه لمّا أراد هشام أن يقطع عنه ندماءه ولّاه الحجّ سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلاباً في صناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن تنصب القبة على الكعبة، وتشرب فيها الخمر.

وقد أيّد المؤرخون هذه الحادثة، ويقول اليعقوبي: إن الوليد بعث مهندساً ليقوم بذلك ..

ولتنظر معي أيضاً إلى عبد الملك بن مروان، وما كان من جبروته وضعف الوازع الديني عنده، حتى استباح لنفسه أن يقول وهو على المنبر: ((من قال لي بعد مقالي هذا: اتّقِ الله ضربت عنقه)).

ولو أنّ الله جلّ ثناؤه أجاز سفك دماء أهل البيت (علیهم السلام) ، واعتقاد عدواتهم نصّاً في محكم التنزيل، مكان ما أنزله في الحضِّ على مودتهم، لما زاد المعاندون لهم على ما فعلوا بهم،

ص: 93

بل قد أنزل الله في قتل المشركين، فما انتهك من حريمه، ولا سبي من نسائهم، ولا ذبح أطفالهم، ولا قتل ساداتهم، ولا شرّدوا عن أوطانهم، ولا أُخيفوا في مأمنهم، ولا استفرغ المجهود في مكارههم.

وقد فعل ذلك كله بآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولعمري ما رجع ضرر ذلك إلاّ على من فعله، ولا احتقب الوزر فيه إلاّ الذي ارتكبه، وعند الله المجازاة للمظلومين، والانتصاف لهم من المعتدين، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (1))) (2).

وإلاّ فأيّ ذنب للطفل الرضيع، وقد جفّ لبنه وذبلت شفتاه عطشاً، أن يُقتل على صدر أبيه، حتى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح!؟

وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح، ولم يلجوا حومة الحرب أن يُذبحوا صبراً، أو يداسوا بالخيل قسراً!؟

وأيّ ذنب للنساء، عقائل الرسول (صلی الله علیه و آله) أن تسبى على الهزَل بعد السلب والسبِّ والضرب، ولماذا تحمل من بلد لآخر، تساق كما يساق السبي المجلوب الذي حارب أهل الإسلام!؟.

ص: 94


1- سورة الشعراء - الآية: 227.
2- الاصبهاني، أبو بكر، محمد بن داود، الزهرة - تحقيق - أ. د. إبراهيم السامرائي، وأ. د. نوري حمود القيسي، الطبعة الثانية، مكتبة المنار، الزرقاء، الاردن، 1985 م، ج1، ص519.

ولو أن الحسين (علیه السلام) ورهطه قد حاربوا طلباً للسلطان لما استحق بعد القتل أن يداس جسمه، ويرفع على القناة رأسه! وتسبى على المهازيل أهله.

أ ترى أن قطع الرؤوس، ورضَ الصدور والظهور بسنابك الخيل، وسلب الجثث وتركها عارية وإبقاءها بالعراء بلا دفن، وأخذ النساء أسارى ممّا يجازى به القتيل الناهض للملك والسلطان ؟! (1)

يقول الأستاذ العلّامة أحمد صقر: ولا يعرف التاريخ أسرة ظل عنها حقّها كأسرة أبي طالب (علیه السلام) ، فقد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها، وأذاقوها ضروب النكال، وصبّوا عليها صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمّة، ولم يراعوا لها حقاً ولا حرمة، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء، والأطفال، والرجال جميعاً، في عنف لا يشوبوه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، حتى غدت مصائب أهل البيت (علیهم السلام) مضرب الأمثال في فضاعة النكال.

وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودة في قلوب الناس، وأشاعت الأسف الممضّ في ضمائرهم، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجناً، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء

ص: 95


1- ينظر: المظفري، الإمام محمد الحسين، الصادق (علیه السلام) /، ج1، ص36.

حديثا يروى، وخبراً يتناقل، وقصصاً يجد فيه الناس، إرضاء عواطفهم، وإرواء مشاعرهم؛ فتطلّبوه وحرصوا عليه (1).

يقول الجاحظ: فبعد تلك الفتن المتصلة، والحروب المترادفة، كحرب الجمل ووقائع صفّين، وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة ... (2)، الى أن قتل أشقاها عليَّ بن أبي طالب (علیه السلام) ؛ فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللعنة.

إلى أن كان من اعتزال الحسن (علیه السلام) الحروب وتخليته الأمور، عند انتشار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره وما عرف من اختلافهم على أبيه (علیه السلام) وكثرة تلونهم عليه.

فعندها استوى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسروياً، والخلافة غصباً قيصرياً.

ولم يعدُ ذلك أجمع الظلال والفسق، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتبنا، حتى ردّ قضية رسول الله (صلی الله علیه و آله) رداً مكشوفاً، وجحد حكمه جحداً ظاهراً، في ولد الفراش،

ص: 96


1- الاصبهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، شرح وتحقيق، السيد أحمد صقر، انتشارات المكتبة الحيدرية، الطبعة الاولى، 1423 ه-، ص13، وكتاني، سليمان، الإمام عليّ (علیه السلام) / نبراس ومتراس (مقتبس من مقدمة مقاتل الطالبيين بقلم الاستاذ أحمد صقر الذي شرحه وحققه).
2- موضع قريب من البصرة كانت فيه وقعة الجمل اول النهار.

وما يجب للعاهر، مع إجماع الأمّة أن سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وإنّه إنما كان بها عاهراً! وخرج بذلك من حكم الفجّار الى حكم الكفار.

وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر وبيعته يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس جحد الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة.

وسواء في باب ما يستحق من الإكفار جحد الكتاب ورد السُنّة! إذ كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره، إلّا أن أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد، أ كفرة كانت في الأمّة ... ثم لم تكن إلّا فيمن يدعي إمامتها والخلافة عليها.

على أن كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك اكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبّوه فإن له صحبة! وسبّ معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السُنّة، فزعمت أن من السُنّة ترك البراءة ممن جحد السُنّة.

وهل عساك تنسى ما الذي كان من يزيد ومن عماله وأهل نصرته، من غزو مكة، ورمي الكعبة، وإباحة المدينة، وقتل الحسين (علیه السلام) في أكثر أهل بيته، مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام! ..فاحسبوا قتله ليس بكفر، وهتك الحرمة ليس بحجة، كيف تقولون في رمي الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبلة المسلمين ...

ص: 97

واحسب ما رووا عليه من الأشعار التي قولها شرك، والتمثل بها كفر شيئاً مصنوعاً، كيف يصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين (علیه السلام) ، وحمل بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) حواسر على الأقتاب العارية والإبل الصعاب .. كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين.

وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته: دعوني أقتله - يعني علي بن الحسين (علیهما السلام) - فإنه بقية هذا النسل، فأحسم به هذا القرن، وأميت به هذا الداء، وأقطع به هذه المادة.

خبرونا على ما تدل عليه هذه القسوة وهذه الغلظة، بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبّوا فيهم؟ أتدل على نصب وسوء رأي وحقد وبغضاء ونفاق، وعلى يقين مدخول وإيمان ممزوج؟ أم تدل على الإخلاص وعلى حبّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) والحفظ له، وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟

فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال - وذلك أدنى منازله - فالفاسق ملعون، ومن نهى عن لعن الملعون فملعون.

ويستطرد الجاحظ في كلامه فيقول: وزعمت نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا أن سبّ ولاة السوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإن كانوا يأخذون السميّ بالسميّ، والوليّ بالوليّ، والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء وآمنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار القدرة، والتهاون بالأمّة، والقمع للرعيّة، وإنهم في غير مداراة ولا تقية.

ص: 98

وإن عدا ذلك إلى الكفر، وجاوز الضلال إلى الجحد، فذلك أضلّ لمن كف عن شتمهم والبراءة منهم.

على إنه ليس من استحقّ اسم الكفر بالقتل كمن استحقه بردّ السُنّة وهدم الكعبة، وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير.

والنابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه، وابن زياد وأبيه.

ولو ثبت أيضاً على أنّه تمثل بقول ابن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لاستطاروا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تسل (1)

قد قتلنا الغرّ من ساداتهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

كأن تجوير النابتي لربّه، وتشبيهه لخلقه، أعظم من ذلك وأفضع.

على إنهم مجمعون على أنّه ملعون من قتل مؤمناً متعمداً أو متأولاً.

فإذا كان القاتل سلطاناً جائراً، أو أميراً عاصياً، لم يستحلوا سبّه ولا خلعه، ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير وظلم الضعيف، وعطل الحدود والثغور، وشرب الخمور، وأظهر الفجور.

ص: 99


1- البيت ليس من كلام ابن الزبعرى، وإنما صنعه يزيد وأقحمه.

ثم مازال الناس يتسكعون مرّة ويداهنونهم مرّة، ويقاربونهم مرّة، ويشاركونهم مرذة، إلّا بقية ممن عصى الله تعالى ذكره، حتى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجاج بن يوسف، ومولاه يزيد بن أبي مسلم؛ فأعادوا على البيت بالهدم، وعلى حرم المدينة بالغزو؛ فهدموا الكعبة، واستباحوا الحرمة وحولوا قبلة واسط، وأخّروا صلاة الجمعة إلى مغيربان الشمس.

فإن قال رجل لأحد منهم: إتّقِ الله فقد أخّرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهاراً غير ختل، وعلانية غير سر.

ولا يعلم القتل على ذلك إلّا أقبح من إنكاره، فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه؟

وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ بعض الجبابرة، وخوّفه العواقب، وأراه أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه، وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

فاحسب أن تحويل القبلة كان غلطاً، وهدم البيت كان تأويلاً، واحسب ما رووا من كل وجه إنهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله أرفع من رسوله إليهم، باطلاً ومصنوعاً مولداً.

واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات، وردّهم بعد الهجرة إلى القرى، وقتل الفقهاء، وسبّ أئمة الهدى، والنصب لعترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، لا يكون كفراً! كيف تقول في جمع ثلاث صلوات فيهن الجمعة ولا يصلون أولاهن حتى تصير الشمس على أعالي الجدران كالملاء المعصفر.

ص: 100

فإن نطق مسلم خبط بالسيف، وأخذته العمد، وشكّ بالرماح.

وإن قال قائل: إتّقِ الله، أخذته العزّة بالإثم، وثمّ لم يرضَ إلّا بنثر دماغه على صدره، وبصلبه حيث تراه عياله.

ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلّا في طريق التمرد على الله عزَّ وجلَّ، والاستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين، والابتذال لأهل الحق، أكل أمرائهم الطعام، وشربهم الشراب على منابرهم أيام جمعهم وجموعهم، فعل ذلك حبيش بن دلجة، وطارق مولى عثمان، والحجاج بن يوسف، وغيرهم (1).

الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (علیهما السلام)

وإمّا عليُّ بن الحسين (علیهما السلام) فكان يقال له: (آدم بني حسين)؛ لأنّه تشعبت منه أفنانه وتفرعت عنه أغصانه (2)، ومناقبه وفضائله أكثر من أن تحصى ..

ص: 101


1- مكتبة الجاحظ، ابي عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، الناشر - مكتبة الخانجي، القاهرة، 1964 م، ج2، ص10 الى ص 18.
2- القمي، الشيخ عباس، الانوار البهية، ص 95، وعلي خان، الإمام صدر الدين المدني، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين (علیهما السلام) /تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي - قم - إيران، 1415 ه-، المقدمة، ج1، ص212.

وكان عليّ بن الحسين (علیهما السلام) يعظ الناس، ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الاخرة، وكان ذلك في كل جمعة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكان يُحفظ عنه ويكتب (1).

ومما أثر عنه الصحيفة السجادية: وهي إضافة إلى كونها تراثاً ربانيّاً، ومدرسة أخلاق ومشعل هداية، فإنها تعبر أيضاً عن عمل اجتماعي عظيم، كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام (علیه السلام) ، فقد قيل في حقها: إنها أخت القران، وقد اشتهرت هذه الصحيفة بإنجيل آل محمد، وزبور آل محمد، كما سمّاها العلّامة ابن شهر آشوب في معالم العلماء (2).

وعن المسعودي في كتاب إثبات الوصية: إن علي بن الحسين (علیهما السلام) ورث عن أبيه الحسين (علیه السلام) كتاباً فيه ما يحتاج إليه ولد آدم الى فناء الدنيا وقيام الساعة (3).

وفي كتاب عيون المعجزات المنسوب إلى السيد المرتضى (رضی الله عنه) إن الحسين (علیه السلام) أوصى إلى ابنه عليّ بن الحسين (علیهما السلام) بمواريث الأنبياء، والنصّ عليه بالإمامة من بعده (4).

ص: 102


1- الكليني، أبو جعفر، محمد بن يعقوب، الروضة من الكافي، تحقيق الغفاري، مؤسسة دار الكتب الإسلامية، طهران، ص72.
2- علي خان، الإمام صدر الدين المدني، رياض السالكين، ص212 وما بعدها، وشرح الصحيفة السجادية، ج1، ص6. والكعبي، د. كريم علكم، إبن معصوم المدني أديباً وناقداً، الطبعة الأولى، دار الضياء للطباعة والتصميم، 2008 م، ص91.
3- الحر العاملي، إثباة الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص316.
4- المصدر السابق نفسه، ج5، ص315 وما بعدها.

وعليّ بن الحسين (السجاد) (علیه السلام) ممن لا تفتح العين على مثله، وبحسبنا ما وصفه به الفرزدق الشاعر حين استوصفه الرجل الشاميّ عليّاً بن الحسين (علیهما السلام) .

فقد قيل: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الاسود ليستلمه، فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر الى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام.

فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ (علیهم السلام) ، وكان من أجمل الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام: مَنْ هذا الرجل الذي هابه الناس هذه الهيبة؟! فقال هشام: لا أعرفه؛ مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً، فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق:

هذا ابن خير عباد الله كلهمُ *** هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ

إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ

ص: 103

يُنمى إلى ذروة العزّ التي قصرت *** عن نيلها عرب الإسلام والعجمُ

يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ

في كفه خيزران ريحه عبق *** من كف أروع في عرنينه شممُ

يغضي حياءً ويُغضى من مهابته *** فما يُكلّم إلّا حين يبتسمُ

ينشق نور الهدى من نور غرّته *** كالشمس ينجاب عن ظلمائها القتمُ

مشتقةٌ من رسول الله نبعته *** طابت عناصره والخيم والشيمُ

هذا ابن فاطمة إنْ كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد ختموا

الله شرّفه قدماً وعظّمه *** جرى بذاك له في لوحه القلمُ

وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرتَ والعجمُ

ص: 104

كلتا يديه غياث عمَّ نفعهما *** يستوكفانِ ولا يعروهما عدمُ

سهل الخليقة لا تُخشى بوادره *** يزينه اثنانِ حسن الخلق والشيمُ

ما قال لا قطّ إلّا في تشهده *** لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ

عمَّ البرية بالإحسان فانقشعت *** عنها الغيابة والإملاق و العدمُ

من معشر حبّهم دين وبغضهمُ *** كفر وقربهمُ منجىً ومعتصمُ

إنْ عُدَّ أهل التُقى كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير اهل الأرض قيل همُ

لا يستطيع جواد بعد غايتهم *** ولا يدانيهمُ قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت *** والأُسد أُسد الشرى والبأس محتدمُ

لا ينقص العسر بسطاً من أكفّهمُ *** سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا

ص: 105

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهمُ *** في كلّ بدءٍ ومختوم به الكلمُ

أيّ الخلائق ليست في رقابهم *** لأولية هذا أو له نعمُ

من يعرف الله يعرف أولية ذا *** فالدين من بيت هذا ناله الأممُ (1)

ومما ينقل عن الجاحظ في رسالة صنّفها في فضائل بني هاشم قوله: وإمّا عليّ بن الحسين فلم أرَ الخارجيّ فيه إلّا كالشيعيّ، ولم أرَ الشيعيّ فيه إلّا كالمعتزلي، ولم أرَ المعتزليَ إلّا كالعاميّ، ولم أرَ العاميّ إلّا كالخاصيّ، ولم أرَ أحداً يتمارى في تفضيله، ويشكّ في تقديمه (2).

ويقول الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل من عليّ بن الحسين (علیهما السلام) (3).

وقيل لعلي بن الحسين (علیهما السلام) وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلی الله علیه و آله) (4).

ص: 106


1- ينظر: الدميري، حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص9
2- ينظر: علي خان، الإمام صدر الدين المدني، رياض السالكين، ج1، ص213 ( قلم التحقيق ).
3- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص377. والدميري، حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص127.
4- المعتزلي، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص27.

وقال محمد بن سعد: كان زين العابدين ثقة مأموناً كثير الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عالماً ... (1)

الإمام محمّد الباقر (علیه السلام)

وحين يتناول العلامة الدكتور الأستاذ حسين علي محفوظ (رحمه الله) في مدونته شخصية الإمام الباقر (علیه السلام) العلمية يقول: ولقد أظهر الإمام الباقر (علیه السلام) من مخبّأت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى.

وهو مصدر التفسير والكلام والفتيا والأحكام والحلال والحرام.

وكان ابن عمر - وهومن كبار الصحابة - إذا سأله رجل عن مسألة فلم يدر ما يجيب قال له: ((إذهب إلى الباقر وسله وأعلمنا بما يجيب))، وكان يقول: ((انهم أهل بيت مفهّمون، وإنهم أهل ذكر)).

وما رؤي العلماء عند تحد قطّ أصغر منهم عند الباقر (علیه السلام) .

كان أعلم الناس بين يديه، مع جلالته في القوم، كأنه صبي بين يدي معلمه، أو كأنه عصفور مغلوب، وقد سأله أحدهم ذات مرة عن ثلاثين ألف حديث.

ص: 107


1- الدميري، حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص127.

وحدث جابر الجعفي عنه سبعين ألف حديث، وقال أبو زرعة: ((إن الباقر لمن أكبر العلماء، وإنهم أهل الذكر)).

الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)

وهكذا الصادق (علیه السلام) ، وقد أدرك الحسن بن عليّ الوشّا في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كلُّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد الصادق، والوشّا من أصحاب الرضا (علیه السلام) حفيد الصادق (علیه السلام) .

وروى عنه راوٍ- وهو أبان بن تغلب-ثلاثين ألف حديث.

ونقل الناس عن الإمام الصادق (علیه السلام) من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلاد.

ونقل أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل من مشهوري أهل العلم من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام.

وانتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول، وكتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِف سموها أصولاً، وهي أساس الأصول الأربعة من بعد (1).

ص: 108


1- مدونة، د. محفوظ.

ولم يتحرج الإمام أبو حنيفة النعمان من القول فيه (علیه السلام) : ((أ ليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف النّاس؟)) (1).

الإمام موسى الكاظم (علیه السلام)

ثم كان الإمام موسى الكاظم (علیه السلام) الملقب بالعالم والصابر، أعبد أهل زمانه، وأفقههم، وأحفظهم لكتاب الله، وكان أجلّ الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وافصحهم لسناً كما كان أشجعهم وأسخاهم وأكرمهم، وكان يحسن الى من يسيء إليه.

وقد روى عنه العلم والدين والحديث والفقه مئات من العلماء والرواة والأصحاب والمحدّثين والرجال، ويبلغ المعروف منهم مائتين وواحداً وسبعين.

وقد ألّف أكثر من خمسين منهم عشرات الكتب في علوم القرآن، وعلوم الحديث، والعلوم الأدبية، وعلوم الدين.

ص: 109


1- القمي، الشيخ عباس، الانوار البهية، ص138.

الإمام عليُّ الرضا (علیه السلام)

وما رؤي الرضا (علیه السلام) سئل عن شيء إلّا علمه، ولا رؤي أعلم منه بما كان في الزمان الى عصره، وما رؤي ولا سمع بأحد أفضل منه.

كان سيد بني هاشم، وكان يفتي في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ابن نيّف وعشرين سنة، وكان لا ينزل بلداً إلاّ قصده الناس، يستفتونه في معالم دينهم فيجيبهم، ويحدثهم الكثير عن أبيه وعن آبائه (علیهم السلام) .

وفيه يقول المأمون: ((هذا خير أهل الأرض وأعلمهم)).

وما رؤي أعلم منه، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل هذه الشهادة، كما قال أبو الصلت الهروي: كان (علیه السلام) يجلس في الروضة، والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليه بأجمعهم، وبعثوا إليه المسائل فأجاب عنها.

وقد جمع اليقطينيّ من مسائل الرضا (علیه السلام) ممّا سئل عنه وأجاب فيه ثمانية عشر ألف مسألة، أو خمسة عشر ألف مسألة، وصحيفة الرضا، وعيون أخبار الرضا بعض ما يؤثر عنه (علیه السلام) .

ص: 110

وقد جمع المأمون سائر الملل مثل: الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب زرادشت، ونطاس الرومي والمتكلمين، ثم أحضر، فسألوه فقطع الرضا (علیه السلام) واحداً بعد واحد (1).

الإمام محمد الجواد (علیه السلام)

ثمّ الإمام محمد الجواد (علیه السلام) - وهو شبه جدّه وأبيه - تعجوبة في العلم والفضل، بالرغم من صغر سنّه، وقد بلغ في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه أحد من مشايخ أهل زمانه، ولم يمنعه صغر السنّ فيه من الكمال.

وكان الخليفة المأمون قد شغف بالإمام الجواد (علیه السلام) لما رأى من فضله مع فتائه وطراءة سنه، وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره، وتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل .. ولم يزل المأمون مكرماً له، معظماً لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (2).

ص: 111


1- مدونة، د. محفوظ.
2- المصدر السابق نفسه.

الإمام عليّ الهادي (علیه السلام)

وكان الإمام الهادي (علیه السلام) أفضل وأعلم أهل زمانه.

وقد روي عنه من العلوم والآداب، والحكمة والموعظة، والعلم، والتقوى، والحياء، والسكينة، والإخبات، والتواضع، والسداد والرشاد، والهدى، والفضل، والخير والاصلاح، ما بلغ الغاية العليا والنهاية القصوى.

الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)

وما رؤي مثل الحسن العسكري (علیه السلام) ، ولا سمع به في هديه وسكونه، وعفافه ونبله وكرمه، وما سئل عنه أحد إلّا وجده عنده في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له.

ولم ير له وليٌّ ولا عدوّ إلّا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه، في فضله وعفافه، وهديه وصيانة نفسه، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه وصلاحه، و(ما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذلك البيت)، كما قال فيلسوف العرب (الكندي) فيه: كان العسكريّ إمام أهل البيت، وإليه ينتهي العلم والفضل.

وقد بلغ ما ألّف في علوم الدين من عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) إلى أيام العسكري (علیه السلام) ستة آلاف وستمائة كتاب.

ص: 112

وهي فترة طولها قرنان ونصف، فضلاً عما صنّفه من ائتمّ بهم من طبقات العلماء في الغيبتين الصغرى والكبرى، ومن قبل ومن بعد (1).

الامام الثاني عشر الحجة بن الحسن(المهديّ) (عجل الله تعالی فرجه الشریف)

المهديّ (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مِنْ نَسلِ فاطمةَ (علیها السلام) ، يُوافق اسمُه اسمَ رسولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) وإسْمُ أبيه إسْمَ أبيه، مِن أهلِ بيتِ رَحمةٍ اخْتَّصَّهُم اللهُ تباركَ وتعالى بها (2).

قال أبو جعفر (علیه السلام) : (نحنُ والحمدُ للهِ لا نُدخِل أحداً في ظلالةٍ ولا نُخرِجُه من هدى، إن الدنيا لا تَذهبُ حتى يبعثَ اللهُ عزَّ وجلّ رَجلاً مِنّا أهل البيت، يَعملُ بكتابِ اللهِ لا يَرى فِيكم مُنكَراً إلَا أنْكَرَهُ) (3).

ص: 113


1- مدونة، د. محفوظ.
2- الصبان: محمد، اسعاف الراغبين في سيرة المصطفى و فضائل اهل بيته الطاهرين، الطبعة السابعة، مطبعة عاطف، مصر، 1380 ه- - 1960 م ، ص140 .
3- الكليني: محمد بن يعقوب، الروضة من الكافي، تصحيح وتعليق: الغفاري، دار الكتب الاسلامية، طهران، ج8، ص5.

وقَدْ تَواتَرَتْ الأخْبَارُ عَن النّبي (صلی الله علیه و آله) عَن خروجهِ، وإنه مِنْ أهلِ بيتهِ، وأنه يَملأُ الأرضَ عدلاً، وأنهُ يساعدُ عِيسى (علیه السلام) عَلى قَتْلِ الدَّجَّالِ، وأنهُ يَؤمُّ هذهِ الأمّةَ، وَيُصَلّي عِيسى (علیه السلام) خَلْفَهُ، وَأكثرُ الرّواياتِ مُتفقةٌ عَلى تَحَقُّقِ مُلْكِهِ سَبْعَ سِنين.

مَولِدُهُ النِّصفُ مِن شَعبان سَنة 255 ه-، أبوهُ الحسنُ العسكريّ (علیه السلام) (1).

قالَ الشيخُ مُحي الدِّين فِي الفتوحاتِ: إعْلَمُوا أنهُ لابدَّ مِن خُروجِ المهدي (علیه السلام) ، لَكن لا يَخرُج حَتَّى تَمتَلِئَ الأرضُ جوراً وظلماً؛ فَيملؤها قِسطاً وعَدلاً، وهو مِن عِترةِ رَسولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) ، وَمِنْ ولْدِ فاطمةَ (علیها السلام) ، يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ بعدَ ذِلَّةٍ (2).

ومِن الجديرِ بالذكرِ أنَّ الشيعةَ الإثني عشريةَ - الإمامية-يَعتقدون أنَّ الأرضَ لَم تَخلُ مِن حُجة للهِ على خلقهِ، ولا تخلوَ منهُ كذلك، وثاني عشر هؤلاءِ الائمةِ عندهم هو المهديّ بنُ الحسنِ العسكريّ (عجل الله تعالی فرجه الشریف) المولودِ بسامراء سنة 255 ه-.

ويعتقدون فيه أنه لايزالُ حياً كحياةِ نوحٍ (علیه السلام) ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً بين قومه، وكحياةِ عيسى (علیه السلام) الذي ما قتلوهُ ولا صلبوهُ، ولكنْ شُبِّهَ لَهم، بَلْ رَفعه اللهُ إليه.

ص: 114


1- الصبان: محمد، اسعاف الراغبين في سيرة المصطفى و فضائل اهل بيته الطاهرين، الطبعة السابعة، مطبعة عاطف، مصر، 1380 ه- - 1960م ، ص140 .
2- ) المصدر السابق نفسه، ص140-143.

وإن مما يُذكر من فوائدِ وجودهِ (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أنه: إذا احتاجَ المسلمون إلى بيان رأي خفي فيه وجه الصواب يقوم بإرشاد العلماء الى صواب الرأي في الامر.

أمّا ظهوره فإنّهم يجمعون على أنّه من الغيب الذي لا يعرفه إلّا الله، وأن لظهوره علائم، منها ما هو حتميُّ الوقوع، وأخرى غير حتميةٍ، على ما في الاحاديثِ، وإنه يبدأ ظهورهُ من مكةَ على الأشْهَر.

وتكونُ حملتُه الأولى مِن جيشٍ عددُه كعددِ جيشِ رسولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله) في بدرٍ، وأنه يملأُ الأرضَ عدلاً، وإنهُ يحكُم بين الناسِ بالواقعِ، وإنْ خالفَ ذلكَ شهادةَ الشّاهدين، قالَهُ العلامةُ مرتَضى العسكري، وذكرَ ذلك محمود أبو ريّه (1).

وَلِلهِ دَرُّ مَن تَخَلَّصَ إلى مَديحِ مَقامِ المهديّ الّذي هوَ خليفةُ اللهِ لتنفيذِ أحكامهِ على عبادهِ، وظلَّ اللهُ في الأرضِ الذي يأوي إليه كلُّ مظلومٍ مِن سكانِها، قالَ البهائي في رائيتِه الرائعةِ؛ لرصانةِ مبانيها، ودقةِ معانيها، الموسومةِ (بوسيلة الفوز والأمان، في مدْحِ صاحبِ الزمان) (2) مستصرخاً ومستنهضاً:

هو العروة الوثقى الذي من بذيله *** تمسّك لا يخشى عظائم أوزارِ

ص: 115


1- أبو ريّه: محمود، اضواء على السنة المحمدية، الطبعة الثانية، 1383 ه- - 1964م ، ص195-196 .
2- العاملي: بهاء الدين 953 ه- -1031م الكشكول، تحقيق : طاهر احمد الزاوي ، دار احياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي و شركاه ، مصر ، ج2 ، ص431 و ما بعدها.

إمام هدىً لاذ الزمان بظلّه *** وألقى إليه الدهر مِقودَ خَوَّار

علوم الورى في جنب أبحر علمه *** كغرفة كفٍّ أو كغمسة منقار

إمام الورى طود النهى منبع الهدى *** وصاحب سرِّ الله في هذه الدار

أ يا حجة الله الذي ليس جاريا ً *** بغير الذي يرضاه سابق أقدار

ويا من مقاليد الزمان بكفّه *** وناهيك من مجدٍ به خصّه الباري

و أنعشْ قلوباً في انتظارك قرّحت *** وأضجرها الأعداء أيّة إضجارِ

وخلّص عباد الله من كلّ غاشم *** وطهّر بلاد الله من كل كفّار

وعجّلْ فداك العالمون بأسرهم *** وبادر على اسم الله من غير إنظار

تجد من جنود الله خير كتائب *** وأكرم أعوان و أشرف أنصارِ

((أولئك هم آل البيت النبويّ (علیهم السلام) أئمة الأمّة، وكاشفوا الغمّة، وسبل الهداية، وسفن النجاة، وأبواب المناجاة، ذوي الأعراق الزكية، والقبلة المكيّة، والعلوم اللدنيّة، والمراتب العلّية، والمناقب العلويّة، وأولو النفوس القدسية، الذين عظّمهم الله توقيراً، وطهّرهم تطهيراً.

ص: 116

مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومعارج البركة ومصابيحها، أعلام الإسلام وأيمان الإيمان، الطيبون الأخيار، الطاهرون الأبرار، الذين أذهب الله عنه الأرجاس وجعل مودتهم واجبة على الناس؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (1).

((فنحن مأمورون بموالاتهم، ومسؤولون عن هذه الولاية التي أثبتها النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأهل البيت (علیهم السلام) يوم القيامة لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (2).

والاعتصام والاستمساك بحبلهم كما ورد في الحديث المشهور المتواتر: ((إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تظلّوا من بعدي أبداً)).

وهل والوا علياً حقّ الموالاة كما أوصاهم النبي (صلی الله علیه و آله) أم أضاعوها وأهملوها ؟!)) (3).

لقد هتف القران المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت (علیهم السلام) آمراً بمودّتهم، مخبراً عن طهارتهم، حاثّاً على الاعتصام بهم، حاضّاً على طاعتهم، معلناً عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.

واتبعه الرسول (صلی الله علیه و آله) طيلة حياته كاشفاً عمّا جمعه آله من الفضائل، وحبوا به من المفاخر، يوجب تارة طاعتهم واتّباعهم، ويلزم مرّة أخرى بمودتهم، ويعطف طوراً القلوب عليهم، ويستميل مرّة النفوس إليهم .. وما كان ذلك إلاّ لسعادة الناس أنفسهم؛ ليأخذوا الدين من

ص: 117


1- سورة الشورى - الآية:23.
2- سورة الصافات - الآية: 24
3- الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص109 (عن أبي الحسن الواحدي، الإمام)، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص270.

أهله، والعلم من معدنه، فكان الحق على الناس احترامهم، والانقطاع إليهم، والانصراف عن غيرهم، فلمّا انقلب الحال فصار دأب الناس معهم على العكس مما أراده الله تعالى والرسول (صلی الله علیه و آله) لهم.

لقد كان أهل البيت (علیهم السلام) أعني: علياً (علیه السلام) ، والزهراء (علیها السلام) (1)، وابنيهما (علیهما السلام) ، وأبناء الحسين (علیهم السلام) مثالاً للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) في شمائله وفضائله، وخصاله وفعاله.

فمن أراد علم الرسول (صلی الله علیه و آله) كانوا باب مدينته، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته، ومن أراد خلقه وجدهم أمثلة سيرته، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته، ومن أراد زهده، وجد فيهم منهاج طريقته، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذريته، ومن أراد النظر إليه كانوا جمال صورته.

هكذا كان أهل البيت (علیهم السلام) إن قستهم الى صاحب البيت (صلی الله علیه و آله) ، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالاً لشخصيته الكريمة (صلی الله علیه و آله) .

ص: 118


1- فمما روت سيدتنا فاطمة بنت رسول الله عن أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) / أنه قال: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيراً إلّا أعطاه إياه))، فقلت: يا أبت، أيّ ساعة هي؟ قال: ((إذا تدلى نصف الشمس للغروب)). وكانت فاطمة (علیها السلام) / إذا كان يوم الجمعة تأمر غلاماً لها يقال له زيد يرصد لها الشمس، فإذا تدلى نصف الشمس للغروب أعلمها، فتقوم فتدخل المسجد فتدعو حتى تغرب الشمس وتصلي) ينظر: النويري، نهاية الارب، ج5، ص 291.

ومن كانت له عند الرسول (صلی الله علیه و آله) ترة فمنهم الأخذ بترته، أو كان له مع الإسلام عداء فهم للإسلام أقوم عدته، أو كان له مع الدين غضاضة فإنهم للدين أوقى جنته، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته، أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطته.

وإذا ذكر الخير كانوا أدلاّءه، أو سار الفضل كانوا لواءه أو نشر العدل كانوا أخلّاءه، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعراً، وأثمنهم درّاً، أو تسابق أهل الفخر الى المكارم كانوا أسبقهم جولة، وأبعدهم شوطا، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والإحجام، فما من فضيلة إلاّ وإليهم مآلها، ومنهم انتقالها (1).

فكيف يضل إذاً من أخذ بالمناهج النيّرة والمحاجّ الواضحة والأعلام القائمة والمنار المنصوبة، ومن عذيره من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) إن هو خالف عن أمرهما أعني: الكتاب والعترة ..

فويل لمن سيكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) خصمه يوم القيامة إذ آذوه في أهل بيته وعترته، فقضوا عليهم قتلاً وسمّاً وسجناً وتشريداً، وسعوا في إخفاء مكارمهم الشريفة، وإقصائهم عن مقاماتهم ومراتبهم، والإيغال في دمائهم ودماء أوليائهم.

وبمَ سيجيب أولئك الكذبة الأوقاح المراؤون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، من عمال السوء وقضاة السوء، في كل بلدة يتقربون به إلى أوليائهم ليحدثوا بالأحاديث المكذوبة

ص: 119


1- ينظر: المظفري، الإمام محمد الحسين، الصادق (علیه السلام) /، مطبعة الغري - النجف - 1365ه-، ج1، ص28 وما بعدها.

الموضوعة؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا بذلك الأموال والضياع، ورووا عن آل البيت (علیهم السلام) ما لم يقولوه وما لم يفعلوه؛ ليبغضوهم إلى الناس، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين، فقبلوها ورووها، وهم يضنون أنها حقّ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها وتدينوا بها (1).

وعن هؤلاء الديّانين يقول الأستاذ العلّامة الدكتور خليل شرف الدين في كتابه الموسوم (أبو العلاء المعرّي)، مستهجناً أمرهم مستنكرا فعلهم: أولئك الذين أصبح الدين في نظرهم سلعة تباع وتشترى، سلعة يتخفى وراءها إنسان علقة فقد كل مقومات الإنسانية وكل قيم الدين.

أولئك الديانون الذين يهاجمهم أبو العلاء المعرّي باستمرار ويفضحهم، ولو كان يملك أبو العلاء غير تلك التي شهرها في وجه المزيفين لامتشق سيف عليّ وأبي ذرّ والحسين وأعمله في رقاب لصوص الدين .. سلاحه الوحيد ضميره .. والأصداء المؤلمة المتراكمة عن أفاعيلهم، يملك تلك الكلمة الجريئة الهادرة الصريحة التي تملك أن تنتحر أو تنفجر لكنها لا تملك - لدى الاحرار-أن تصبح بخوراً يحرق على أقدام الجلاّدين الذين:

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها *** وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

في زمن رديء يقتل فيه مثل الحسين ويستخلف فيه مثل يزيد !!

ص: 120


1- علي خان، الإمام صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة، ص5 وما بعدها، وكاشف الغطاء، الإمام محمد الحسين، أصل الشيعة واصولها، ص89.

أرى الايام تفعل كل نكر *** فما أنا بالعجائب مستزيدُ

أ ليس قريشكم قتلت حسيناً *** وصار على خلافتكم يزيد (1)

ص: 121


1- أ. د. خليل شرف الدين، أبو العلاء المعرّي، ص100.

إمتدادُ النبُّوةِ الطّبيعي

بعد انتقال الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى .. فغرت الفتنة فاها، وأفعم الوادي وحشد النادي، وبهرج بالقوم الطريق، ووحرت صدور رجال، وورمت أنوف آخرين، وركب الناس عشواء مظلمة، قد فقد البصير فيها رشده، وأخطأ الأعمى قصده.

فيما آل إليه أمر الناس من التقادع في أمر خلافته (صلی الله علیه و آله) مما أشار إليه القرآن الكريم مرهصاً بوقوعه بوضوح، بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (1).

كما استشرف عليٌّ (علیه السلام) هذا المعنى بما نسب اليه من أبيات:

رزينا رسول الله فينا فلن ترى *** بذلك عدلاً ما حيينا من الردى

وكان لنا كالحصن من دون أهله *** لهم معقل فينا حريز من العدى

ص: 122


1- سورة آل عمران - الآية: 144.

وكنا برؤياه نرى النور والهدى *** صباح مساء راح فينا أو اغتدى

فقد غشيتنا ظلمة بعد موته *** نهاراً وقد زادت على ظلمة الدجى

فيا خير من ضمّ الجوانح والحشى *** ويا خير ميت ضمّه الترب والثرى

كأن أمور الناس بعدك ضمنت *** سفينة نوح البحر والبحر قد طمى

فضاق فضاء الأرض عنهم برحبه *** لفقد رسول الله إذ قيل قد قضى

فقد نزلت بالمسلمين مصيبة *** كصدع الصفا لا شعب للصدع في الصفا

ص: 123

وكان اليهود يتربصون ويرتصدون تطورات الأحداث.. حتى أن بعضهم قال لعليِّ (علیه السلام) : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم! فقال (علیه السلام) : إنما اختلفنا عليه لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (1).

وكان بعض الصحابة يتوجس خيفة بغب تلك الفتنة، وكانوا يرون أن لا سبيل الى النجاة من اصطخاب أمواجها إلّا لمن عصمهم الله بمحمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) لما خصّهم الله تعالى بمجموع الفضائل والمناقب ووضعهم في أشرف المناصب والمناسب، وإن أمير المؤمنين (علیه السلام) إمام المسلمين بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأن الإمامة لا تخرج عنه وعن بنيه.

ويجمعهم القول بوجوب التعيين للإمام والتنصيص عليه ممن قبله، وثبوت عصمة الأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر.

وقد ألّف جمٌ غفير من أعاظم علماء الدين مؤلفات عديدة في إثبات الوصية، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه العلاّمة نجم الدين الشريف العسكريّ، يتضمن الأحاديث الصحيحة المرويّة عن أهل السنة في مضانّها، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) التي تنصّ على أن عليّاً (علیه السلام) وصيُّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وخليفته من بعده، وقوله (صلی الله علیه و آله) : ((إنّ وصيّي والخليفة من بعدي عليُّ

ص: 124


1- سورة الأعراف - الآية: 138.

بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمة ابرار)) (1).

وكتاب (الوصيّ) لفضيلة العلامة الكبير الحجة السيد علي نقي الحيدري (2).

ولم يكن هاذان الكتابان الوحيدين الذين صدرا في هذا الباب فقد سبق لمؤلفين أعاظم، وعلى امتداد حقب تأريخية مختلفة، أشار إليهم الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) في كتابه المنيف (أصل الشيعة وأصولها) لا نجد منتدحا من الإشارة إليها.

1-كتاب (الوصية) لهشام بن الحكم، المشهور.

2-كتاب (الوصية) للحسين بن سعيد.

3-كتاب (الوصية) للحسين بن مسكين.

4-كتاب (الوصية) لعليّ بن المغيرة.

5-كتاب (الوصية) لعليّ بن الحسين بن المفضل.

6-كتاب (الوصية) لمحمد بن عليّ بن الفضل.

7-كتاب (الوصية) لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال.

8-كتاب (الوصية) لأحمد بن محمد بن خالد البرقي (صاحب المحاسن).

ص: 125


1- الشريف العسكري، العلامة نجم الدين، عليٌّ والوصية، برواية الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، ج2، باب 31، وقد جعل المؤلف هذا الحديث وجهة لكتابه المذكور.
2- الحيدري، العلامة محمد - معتمد مكتبة اهل البيت العامة - بغداد مع د. محي الدين في ادب المرتضى، ص90.

9-كتاب (الوصية) للمؤرخ الجليل عبد العزيز بن يحيى الجلودي.

10-كتاب (الوصية) ليحيى بن المستفاد.

11-كتاب (الوصية) لمحمد بن احمد الصابوني.

12-كتاب (الوصية) لمحمد بن الحسن بن فروخ.

13-كتاب (الوصية والإمامة) للمؤرخ الثبت الجليل علي بن الحسين المسعودي، صاحب (مروج الذهب).

14-كتاب (الوصية) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.

15-كتاب (الوصايا) لمحمد بن علي الشلمغاني.

16-كتاب (الوصية) لموسى بن الحسن بن عامر.

17-كتاب (إثبات الوصية) للمؤرخ علي بن الحسين المسعودي.

ومثل خلافة الرسول (صلی الله علیه و آله) - هذا المنصب الخطير - الذي يمثل رئاسة عامة في أحكام الدين والدنيا نيابة عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) (1)، وقضية كهذه مما تدور عليها رحى النظام العام، ومما لا يستقيم النظام إلّا به.

ص: 126


1- شرف الدين، الإمام، السيد عبد الحسين، النص والاجتهاد، القسم الاول، ص4، النجف الاشرف، 1375 ه-.

وقد ورد في بعض خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يشير إلى هذه القضية وتعلقها بنحو الفرض الواجب بقوله (علیه السلام) : ((فرض الله تعالى الإيمان تطهيراً من الشرك، والجهاد عزّاً للإسلام، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، والإمامة نظاماً للأمّة، والطاعة تعظيماً للإمامة)) (1).

فالإمامة كالنبوة منصب إلهيّ يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وإن العرض التأريخي لقضية الخلافة يقوم على أساس اعتقاد الإمامية القائل: (إن الرسول (صلی الله علیه و آله) استخلف أمير المؤمنين (علیه السلام) في حياته، ونصّ عليه بالإمامة بعد وفاته، وإن من دفع ذلك فقد دفع فرضاً من الدين).

فعن بُرَيدة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ((لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ ووارثٌ، وإنَّ عَلِياً وَصِيِي ووارِثِي)) (2)، وعن أمّ سلمة (رضی الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ((إنَّ اللهَ اختارَ مِنْ كُلِّ نَبيٍّ وَصِياً، وعَلِيٌّ وصِيِي فِي عِترتي وأهلِ بَيتي وأمَّتي بَعدي)) (3).

والإمامة إذاً زمام الدين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا والدين، وخلافة الله، وخلافة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ومنزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء (علیهم السلام) .

ص: 127


1- النويري، العلامة شهاب الدين، نهاية الارب، ج8، ص183.
2- الطبري، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص81، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص79.
3- القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص 79.

وإن الإمامية ترى وفقاً لذلك عدم جواز إيكال أمرها إلى من اجتمع اليه أهل الحلّ والعقد، أومن تولّى أمرها بالقهر والغلبة.

قال شيخ المؤرخين المسعودي في معرض حديثه عن موضوعة الإمامة والخلافة في نظر الطوائف الإسلامية: إن انفراد أهل الإمامة - الشيعة الإمامية - من أن الإمامة لا تكون إلّا نصاً من الله ورسوله على عين الإمام واسمه واشتهاره كذلك ..

وفي سائر الأعصار لا تخلو الناس من حجة لله فيهم ظاهراً أو باطناً على حسب استعماله التقية والخوف على نفسه، ثم الاستدلال بالنصّ على أن الإمامة في قريش، وبدلائل كثيرة من المعقول وجوامع من النصوص في وجوبها وفي النص عليهم في عصمتهم .. وأن الله قد أخبر عن بواطنهم وموافقتها لظواهرهم، ووصفه لهم فيما صنعوه من الإطعام للمسكين واليتيم والأسير، وأن ذلك لوجهه خالصاً.

ثم في إخباره عزَّ وجلَّ عما أذهب عنهم من الرجس وفعل بهم من التطهير، وفي غير ذلك - والكلام لمّا يزل للمسعودي - مما أوردوه دلائل لما قالوه، وأن عليّاً نصّ على ابنه الحسن، ثم الحسين، والحسين على عليّ بن الحسين، وكذلك من بعده إلى صاحب الوقت الثاني عشر (1).

ص: 128


1- المسعودي، المثاني والمثالث، المطبوع على هامش كتاب نفح الطيب للمقري.

ومن الدلائل على إمامتهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قوله عزَّ وجلَّ مخبرا عن إبراهيم (علیه السلام) : ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (1).

ومسألة إبراهيم (علیه السلام) بقوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾؟ وإجابة الله تعالى له بأنه: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

فلولم تكن الإمامة نصاً من الله -وكان موكلاً نصّها إلى الناس - ما كان لمسألة إبراهيم ربّه وجه، ولما كان الله قد أعلمه أنّه اختاره، وقوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، دلالة على أن عهده يناله من ليس بظالم.

والأئمة جمع إمام، وهو المقتدى به في أمر الدين والهدى، ونعت الإمام في نفسه أن يكون معصوماً من الذنوب؛ لأنّه إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما يدخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج إلى أن يقام عليه الحدّ، كما يقيمه هو على غيره، فيحتاج الإمام إلى إمام، إلى غير نهاية، ولم يؤمن عليه أيضاً أن يكون في الباطن فاسقاً فاجراً كافراً...

ولما كان الله أعلم بالفرد الصالح الجامع للكمالات والملكات العالية، القادر على تحمل أعباء الرسالة السماوية والدعوة العامة، لأن ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (2) كان انتخابه من

ص: 129


1- سورة البقرة - الآية: 124.
2- سورة الأنعام - الآية: 124.

الله، وجعله خليفة في الأرض بقوله عزَّ من قائل: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (1).

فكذلك الإمام، لأنه ينوب عن النبيّ في بيان الأحكام، ويقوم مقامه أكمل قيام، ويحفظ الشريعة من الزيادة والنقصان، فلا ينتخبه إلّا من انتخب النبيّ، فهو سبحانه وحده بيده التعيين لهما والنص عليهما؛ لقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (2).

كما إن بيده سبحانه الاختيار: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ (3).

فإذا عين الله أحداً من خلقه للنبوة أو الإمامة فلا يحقّ لأيّ إنسان - بعد ذلك - أن يغير خليفة الله أو يختار سواه (4)؛ لقوله تعالى شأنه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (5).

ولعل الأحاديث التي وردت - في شأن الوصيّة - مستفيضة، بل متواترة عند غيرنا، فضلاً عنّا .. وقد عرض ابن أبي الحديد ما يومئ لذلك.

ص: 130


1- سورة البقرة - الآية: 30.
2- سورة البقرة - الآية: 124.
3- سورة القصص - الآية: 68.
4- ينظر: الحيدري، العلامة الأديب الكبير السيد محمد، مع أ. د. عبد الرزاق محي الدين في أدب المرتضى، ص6-7، ص50.
5- سورة الأحزاب - الآية:33.

حسبنا منه ما ذكره في شرح قول عليٍّ (علیه السلام) في شرح خطبة له: ((لا يقاس بآل محمد (صلی الله علیه و آله) من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله)) (1).

ولا يخفى لطف قوله (علیه السلام) : رجع الحق إلى أهله، وما فيه من الدلالة (2).

قال العلّامة آل صاحب الجواهر (قدس سره) : وكانت مدة إمامته (علیه السلام) ثلاثين سنة، منها أيام أبي بكر (سنتان وأربعة أشهر)، وأيام عمر (تسع سنين وأشهر وأيام)، وعن الضرباني: (عشر سنين وثمانية أشهر)، وأيام عثمان (عشر سنين)، ثم أتاه الحق (خمس سنين وأشهر) (3).

وكان عامة المهاجرين، وجلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّاً (علیه السلام) هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... (4)

ص: 131


1- المعتزلي، ابن أبي الحديد، ج1، ص138-139، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص24.
2- ينظر، المظفر، الإمام محمد حسن، دلائل الصدق، المطبعة الحيدرية النجف، 1369 ه-، ج2، ص242-243.
3- آل صاحب الجواهر، العلامة الشيخ شريف، مثير الاحزان، المطبعة الحيدرية في النجف، 1370 ه-، ج2، ص 239.
4- علي خان، الإمام صدر الدين، الدرجات الرفيعة، ص143.

لقد كان لعليٍّ (علیه السلام) المقام الأول بين صحابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الإيمان برسالته، وعدَّ في طليعة الذين دافعوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناصروه.

كان أبو بكر يستشيره في مهام الأمور، كما كان عمر لا يعمل إلّا بمشورته؛ لما يعهده فيه من الفقه والذكاء والدين.

وبعد مقتل عمر: آلت الخلافة إلى عثمان، وكان عثمان في صدر خلافته يستشيره في كثير من الأمور، ولكن محاباة عثمان ذوي قرباه غيّرت رأي عليٍّ (علیه السلام) فيه ... (1).

ولعل أحد الأسباب الموضوعية التي غيرت رأي عليٍّ (علیه السلام) في عثمان يعود إلى تقريب عثمان مروان بن الحكم إليه، واتخاذه مشيراً له؛ فأصبح بذلك ساعد عثمان وكاتبه ومدبره (2).

ومما تجدر الإشارة إليه في المقام أن مروان هذا هو المعني بقول السيدة أمّ المؤمنين عائشة: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعن أباه وهو في صلبه، وإنه فضض من لعنة الله، أي قطعة منها (3).

ص: 132


1- حسن، د. علي إبراهيم، التاريخ الإسلامي العام.
2- المصدر السابق نفسه.
3- الزمخشري، الإمام محمود بن عمر، أساس البلاغة، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960 م، ص718 ( مادة فضض).

كما يحسن بنا أن نعرض لسبب آخر، هو ما أشار إليه فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عباس صالح في مجلة الكاتب المصرية، في معرض حديثه عمّا تعرض له الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أيّام كان خازناً لبيت المال بالكوفة، قال: ((فهذا عبد الله بن مسعود، يعزل من وظيفته كخازن لبيت المال في الكوفة؛ لأنه طالب بوفاء حق لبيت المال على أحد قرابة عثمان، كان قد اقترضه، ولمّا ألحّ عليه بردّ الدين شكاه لعثمان فأرسل الخليفة يعنفه، ويفهمه إنّه ليس إلّا (خازناً لنا)، وكان عبد الله بن مسعود يحسب أنه خازن لمال المسلمين، وأنه بالتالي مسؤول عنه أمام ضميره وأمام المسلمين؛ فألقى بمفاتيح بيت المال، واعتزل وظيفته ولزم بيته؛ فأرسل الخليفة في طلبه، فأرسله الأمير .

ولا نعلم -والقول لمّا يزل للأستاذ عباس صالح -بأية صورة أرسله، ولكنه ما إن وصل حتى سبَّه عثمان على مرأىً من الناس سبَّا موجعاً، دفع السيدة عائشة إلى أن تقول صائحة على الملأ: ((اي عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول الله؟)).

وقام عليٌّ فاحتج على عثمان، ولكن الذي حدث أنه أخرج بأمر عثمان، وضُرب ضرباً مبرحاً حتى كُسرت له ضلع، ثم أمر عثمان فمُنع مرتبه، وظل كذلك إلى أن حضرته الوفاة (1).

وفي هذا الصدد يقول أ. خليل عبد الكريم: إن توازنات القوى والمصالح - داخل قبيلة قريش - دفعت إلى تنصيب عثمان بن عفان خليفة، وكان هذا الاختيار فاتحة حدوث ما عرف

ص: 133


1- مجلة الكاتب المصرية، 1974 م، العدد 156، ص 66، (من مقال الاستاذ أحمد عباس صالح).

في التاريخ الإسلامي ب- (الفتنة الكبرى)، التي أوجدت في الأمّة الإسلامية صدعاً ما زالت آثاره حيّة إلى اليوم.

وأيّاً كان الأمر ...-والقول لمّا يزل للأستاذ خليل - فالذي لا مشاحة فيه أن انتصار حزب الأغنياء والتجار منذ تولي عثمان الخلافة، وبعد ذلك معاوية وانتقالها إلى الأمويين: سفيانيين ومروانيين، ثم إلى العباسيين كان له أثر بالغ على التأريخ الإسلامي، لا في بواكيره الأولى، بل على طول امتداده.

ولم يقتصر التأثير على الناحية السياسية فحسب، بل طال النواحي الفكرية والفقهية، وطبع الفقه الإسلامي بطابع خاص لم يستطع أن يتخلص منه (1).

قال فضيلة الدكتور أحمد فريد رفاعي: وقد ذكر الطبري حادثة نستطيع أن نستنبط منها نظر معاوية إلى المال، وإلى مبلغ استعماله إيّاه؛ ليملك به ضمائر أهل المكانة والنفوذ من معاصريه:

ذكر أن أبا منازل قال له حين أعطاه معاوية سبعين ألفاً، بينما أعطى جماعة من الزعماء ممن في مرتبته مائة ألف: فضحتني في بني تميم، أمّا حسبي فصحيح! أولست ذا سن!؟ أولست مطاعاً في عشيرتي!؟ فقال معاوية: بلى، قال: فما بالك خسست بي دون القوم!؟

ص: 134


1- عبد الكريم، خليل، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية-، الطبعة الثانية (مزيدة ومنقحة)، سينا للنشر - القاهرة - الانتشار العربي - بيروت، 1997 م، ص 23-24-25.

فقال: إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك، ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانياً - فقال: وأنا فاشترِ مني دِيني! فأمر له بتمام جائزة القوم.

كان عمر بن الخطاب يقول: ((أقضانا عليٌّ)) (1)، وكان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن (2)، وكان أبو بكر يقول: ((صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة ونحن خارجان من الغار نريد المدينة: ))كفّي وكفُّ عليٍّ في العدل سواء)) (3).

ص: 135


1- البخاري، صحيح البخاري، ص789، والطبري محب الدين، ذخائر العقبى، ص93.
2- ابن عبد البر، الاستيعاب، ص532.
3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج5، ص37.

الخليفة والإمام

والخليفة والإمام بمعنى، إلّا أن بينهما فرقاً، فالخليفة من استخلف في الأمر مكان من كان قبله، فهو مأخوذ من أنه خلف غيره، وقام مقامه.

والإمام مأخوذ من التقدم، فهو المتقدم في ما يقتضي وجوب الإقتداء لغيره، وفرض طاعته فيما تقدم فيه.

وقد دلت الوقائع التأريخية على أن عليّاً قد توفر على خصائص لا يمكن للمرء المنصف إلّا أن يعترف له بها ويقرّ ويذعن، ((فاستغناء عليٍّ (علیه السلام) عن الكلّ، واحتياج الكلّ إليه دليل على أنه إمام الكلّ، وأولى الكلّ بمنصب الإمامة))، وأن محله (علیه السلام) منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.

قال الشريف الرضيّ: وواجب أن يكون الإمام أفضل من رعيته وأعلم؛ لقبح تقديم المفضول على الفاضل، فيما كان أفضل منه فيه في العقول.

فإذا وجبت عصمته وجب النصّ من الله تعالى عليه، وبطل اختيار الأمّة؛ لأن العصمة لا طريق للأنام إلى العلم بمن هو عليها.

فإذا تقرر وجوب العصمة فالإمام بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله) بلا فصل أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب (علیه السلام) ؛ للإجماع على نفي القطع - على هذه الصفة - عن غيره (علیه السلام) ممن ادعى الإمامة في تلك الحال، وخبر الغدير، وخبر غزوة تبوك يدلّان على ما ذكرناه من النصّ عليه.

ص: 136

إلّا إن العلَّامة ابن أبي الحديد المعتزلي - وهو من هو- ممن لا أخال أحداً ينكر ما تضمنته تآليفه القيّمة النفيسة من فضائل ومناقب، لا يجد المرء - وهو يقف عليها في مضانها - ملتحداً عن الإذعان بأولية عليٍّ (علیه السلام) وإمامته .. لكنك تجد هذا الرجل يشجّ مرة ويأسو أخرى، ومثله الجاحظ.

ومع أنني لا أريد الإغراق في السرد أو التنطع في الحديث .. فإن كلّ ما قيل أو يقال عن أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ما هو إلّا كقطرة من بحر محيط، أو كذرة في مجرّة، فبحسبنا كتاب الله العزيز، وسُنّة رسوله (صلی الله علیه و آله) قولاً وفعلاً وتقريراً ووصفاً معينين في المقصد، مغنين عن غيرهما، ناهيك عن العقل السوي الذي يحكم باستحسان الحسن واستقباح القبيح.

ويحسن بنا - ونحن في هذا الصدد - أن نقف وقفة تأمّل، نجيل فيها النظر، ونسرح خلالها الفكر، مع ابن أبي الحديد، العالم الفذّ، وهو من المشايخ العظام الذين يقولون بالحسن والقبح العقليين، الموجبين لإثبات العدل بالنسبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإنه لا يجوز عليه سبحانه أن يفعل القبيح والمنافي؛ لأنهما خلاف العدل، غير أنه عن قصد أو عن دون قصد يجعل من مقدمة كتابه الموسوم ب- (شرح نهج البلاغة) لسيدنا أمير البلاغة وإمام البيان، مولى الأولياء وقدوة الأصفياء أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) مستهلاً لتحميد الله الواحد العدل في تقديم المفضول على الأفضل والحال: إن تقديم المفضول على الأفضل قبيح عقلاً، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يصدر عن الله العادل الحكيم!؟

ص: 137

فما أظنك تقنع بعذر كهذا، وما أخالك الآن أن تقول وبصوت عال: إنه عذر أقبح من ذنب، ولست أرى أدنى مقبولية لهذا التمحّل ... وبخاصة إذا ما علمنا أنَّ الصحابة (لم يكونوا طرازاً واحداً في الفقه والعلم، ولا نمطاً متشابهاً في الإدراك والفهم، وإنما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة، ودرجات متباينة، شأن الناس جميعاً في هذه الحياة على مرّ الدهور، (سنة الله في خلقه) (1).

ولا يخفى عليك - أيها القارئ الفاضل -ماذا أراد ابن أبي الحديد بالمفضول المقدم والأفضل المؤخر.

ولقد روى - أعني ابن أبي الحديد - عن أشياخه المعتزلة من البغداديين وغيرهم تقدم عليّ (علیه السلام) ، وسبقه وأفضليته على كافة الصحابة، فكيف يمكن معه أن يجتمع تفضيلهم هذا مع تقديم من هو دونه بمراقٍ عليه ؟!

ثم إن تقديم المفضول على الأفضل إمّا أن يكون صادراً عن الله العليم الحكيم، وإمّا أن يكون صادراً عن الناس.

فعلى تقدير صدوره عن الله تعالى، فإنه من أقبح القبائح وأكبر المنكرات، الذين يستحيل صدورهما عنه عزَّ وجلَّ، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وابن أبي الحديد وأساتذته يدّعون تنزيهه تعالى عن مثل ذلك؛ لأنه يتنافى والعدل الذي بنوا عليه أساس الدين.

ص: 138


1- أبو ريّه العلامة الشيخ محمود، أضواء على السنة المحمدية، الطبعة الثانية، مطبعة صور الحديثة، بيروت، 1964، ص.

وعلى تقدير صدوره عن الناس العقلاء فقبيح أيضاً؛ لأن العقلاء بطبيعة الحال يرون أن الأفضل هو الأقرب للواقع، والأدنى إلى الصواب، والأبعد عن الخطأ، فيتعين عندهم، ويقدم في نظرهم، مع جريان سيرتهم على ذلك سيّما وأنها قضية تتعلق بالوصاية والخلافة، وإن التعامل بآراء هذا مؤداها، إنما يعد تهافتاً وخطلاً.

وإن أراد بالتقديم الصادر عن سواد الناس وعامتهم، فذلك أمرُ لا يؤبَه له ولا يُعبأ به؛ لأنه غيرُ مبتنٍ على تفهُمٍ وإدراكٍ، فأيّ عقل يجّوز أن يترك منصب الخلافة الذي عليه ثبات أركان الدين وقواعد الشرع المبين مع هذا الاختلاف المشاهد في نوع الانسان!؟ (1).

لكن قد يُلتمس لابن أبي الحديد، ومن غزا هذا المغزى ورمى هذا المرمى، العذر فيما لو كان قد وافق إخواننا الأشاعرة، ونهج طريقهم في هذه المسألة، وحذا حذوهم في تصورهم.

وهذا منه إن دلّ إنما يدل على ازدواجية لا تخفى في هذا المقام، فالحسن عند إخواننا الأشاعرة ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه ليس الاّ ..

وقد أدى بهم ذلك إلى أمور قد تتنافى وقداسة الله تعالى وكبرياءه، وربما وجدوا أنفسهم مضطرين للدفاع عن أنفسهم بأن الله اشترط على نفسه أن يبتعد عن القبيح، وأن لا يقرب منافيات العدل، كما اشترط على نفسه أيضاً أن يقرب من كل عمل خير وكل شيء عادل.

ص: 139


1- شبر، الإمام عبد الله، حق اليقين في معرفة اصول الدين، ج1، ص216.

على أن هذا الاشتراط غير نافع، بل لا يزيد المسألة إلّا تعقيداً وتمحلاً وغموضاً .. كيف ومرجعه إلى أن الله -تعالى شأنه -لا يحرز من نفسه العمل على وفق العدل ومقتضيات الاحسان، فيكون عزَّ وجلَّ -والحالة هذه - مضطراً إلى تقييد نفسه بشروط وإثقالها بقيود كي يتسنى له (تعالى) قهر نفسه على العدل، وقسرها على الإحسان، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ص: 140

عليُّ بنُ أبي طالب (علیه السلام) - خَصائصُ وسِمات

قد يعيب علينا البعض في تفضيلنا عليّاً (علیه السلام) ظنّاً منهم أنه لا يجوز تفضيله إلّا بانتقاص غيره من الصحابة، وهذا ما لا نرمي إليه على الإطلاق.

((فلو كان في وقته من يماثله في الفضيلة، أو من ينيف عليه، استلزم تعينه الترجيح، بلا مرجح أو التطفيف في كفة الميزان)) (1)، فكيف يفضلون عليه غيره، ويحطّونه عن رتبة من قد أقرّوا أنه أكبر منه، ما هذا إلّا عجيب! (2)

فقد ثبت عند العلماء إن أصول الفضائل أربعة: العلم، والعفة، والشجاعة، والعدالة، وأمير المؤمنين (علیه السلام) بلغ في هذه الأصول الغاية، وتجاوز النهاية (3).

وقال بعض أصحاب النبيّ (صلی الله علیه و آله) : ((لقد كان لعليٍّ من السوابق ما لو أن سابقة منها بين الخلائق لوسعتهم خيراً)) (4).

ص: 141


1- الاميني، الديلمي، المناقب، ج2، ص6.
2- الاربلي، كشف الغمة، ج1، ص66-67.
3- الديلمي، المناقب، ج2، ص6.
4- ابن الاثير، عز الدين، اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج4، ص101.

نعم علم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أن هذه الصفات والملكات المؤهلة للإمامة اجتمعت في أفراد معينين من عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؛ لذلك فلو أن أحداً من الناس اتصف بصفاتهم، وملك جميع خصائصهم، ورقى إلى مستواهم لكان قابلاً للتعيين وجديراً بالنص، ولو لم يكن من عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ومن لم تتوفر فيه كل تلك الخصائص والمؤهلات لا يصلح للإمامة، ولا يقع عليه نص، وإن كان من عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) (1).

ومما دار حوله فكري -وأنا في هذا الصدد - كلام جميل للأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر، يقول فضيلته: ولا شك أن الإعتراف بفضيلة الآخر فضيلة، ولكن هذه الفضيلة تقتضي في صاحبها سعة الأفق، وضبط الأعصاب، وبعد النظر، وحدَّة الذوق، وإلّا فليس سهلاً أن تقدّم غيرك على نفسك (2).

وهنا يحسن بي أن أذكر نكتة مستطرفة وملحة مستظرفة، نقلها ابن خلكان في وفيّاته عن العلامة أبي الفرج ابن الجوزي، قال: وكانت لأبي الفرج ابن الجوزي في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يُحكى عنه، إنّه وقع النزاع ببغداد بين أهل السُنّة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعليٍّ، فرضي الكلّ بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاما شخصاً

ص: 142


1- العلامة الحيدري، السيد محمد - معتمد مكتبة أهل البيت العامة -، مع أ.د. محي الدين، عبد الرزاق في ادب المرتضى - مطبع الزهراء، بغداد، 1958 م، ص.8
2- الطاهر، د. علي جواد، وراء الافق الادبي، ص69.

سأله عن ذلك، وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك.

فقالت السُنّة: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشة تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقالت الشيعة: هو عليٌّ (علیه السلام) ؛ لأن فاطمة (علیها السلام) ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) تحته، وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة (1)، فالأذن الواعية للغة القرآن تعي المراد بجواب الشيخ، فتأمل ...

ومنقطع الأمر إن الشيعة تقول: إن استحقاق الإمامة بالفضائل النفسية عطاء من الله لا بالنسب، وإن هذا الفضل وجد في العترة دون غيرهم، وإنما الذي يقول: إن الإمامة بالقرابة والنسب هم غير الشيعة (2)؛ لذلك فنحن حين نقول بتفضيل عليٍّ (علیه السلام) لم نكن جائرين عن القصد في تفضيلنا إياه، ولم نرفعه فوق قدره، فلقد أوجب الله تعالى معاداة أعدائه، كما أوجب مولاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها، إذ دلّ العقل عليها، وأوضح الخبر عنها بقوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم

ص: 143


1- ابن خلكان، وفيات الاعيان
2- الامين العاملي، الإمام محسن، أعيان الشيعة، مطبعة الاتقان، دمشق - سنجقدار - 1947 م، ج1، ص200.

بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (1).

عن أبي أوس الأودي قال: أدركت الناس وهم ثلاث طبقات:

أولاً: أهل دين، يحبّون عليّاً.

ثانياً: أهل دنيا، يحبون معاوية.

ثالثاً: خوارج.

فولاؤنا لعليٍّ (علیه السلام) هو ولاؤنا لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ؛ لأن عليّاً (علیه السلام) نفس النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمقتضى قوله تعالى ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ (2).

فمما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: ((لا ترفعوني فوق قدري، فتقولوا فيَّ ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً)) (3).

ص: 144


1- سورة المجادلة - الآية: 22.
2- سورة آل عمران - الآية: 61
3- المبرد، الكامل، ج1، ص161.

وممّا ورد عن عليٍّ (علیه السلام) قال دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: ((إن فيك مثلاً من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمّه، وأحبته النصارى حتى نزلوه بالمنزلة التي ليس فيها))، ثم قال: ((يا علي: ألا وإنه يهلك فيك اثنانِ: محبٌّ مفرط يقرظني بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني)) (1).

ومثله قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) لعليٍّ (علیه السلام) : ((يا عليُّ يهلك فيك اثنان ....))، ويشير عليٌّ (علیه السلام) نفسه إلى طبيعة هذا الحب المهلك في قوله (علیه السلام) : قال: ((يهلك فيَّ فتيان: محبٌّ مفرط، ومبغض مفرط)).

وينهانا الإمام أبو عبد الله (علیه السلام) عن المغالاة ومجاوزة الحدّ في المبالغة في حب الأئمة من آل البيت (علیهم السلام) ، فقال: ((لا ترفعوا البناء فوق طاقته فينهدم، واجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم)) (2).

وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، وقال: ألا ترى عليّاً (علیه السلام) قال: ((يهلك فيَّ فتيان: محبٌّ مفرط، ومبغض مفرط، وهذه صفة أنبه الناس، وأبعدهم غاية في مراتب الدين وشرف الدنيا (3).

ص: 145


1- القندوزي الحنفي، الإمام الحافظ سليمان، ينابيع المودة، ص283.
2- الحر العاملي، محمد بن الحسن، اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص379.
3- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، ج1، ص265.

فالحبّ في الله واجب، والبغض في الله واجب، وإلّا لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ولا البراءة منه، ولكانت تلك العداوة تكلفاً ... فلقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبّ أن يعادي أعداء الله ولو كانوا أقرب الناس إليه، كما يحبّ أولياء الله وإن كانوا أبعد الخلق نسباً منه.

فإن من أوثق عرى الإسلام ما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أن تحبَّ في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله تعالى (1).

والشاهد على ذلك إجماع الأمّة على أن الله أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام، وعداوة من نافق، وإن كان من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو الذي أمر بذلك ودعا إليه لقوله (صلی الله علیه و آله) : من أحبّ عليّاً فقد أحبني، ومن أبغض عليّاً، فقد أبغضني، ومن آذى عليّاً فقد آذى الله (2).

وإنه لمما يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار: أن الصحابة ناس كغيرهم، مع فضل الصحبة، منهم العدول الثقاة، والقادة الهداة، ومنهم الناكثون، والمارقون، والبغاة، وفيهم من لعبت بهم الأهواء.

ص: 146


1- الدميري، حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص127.
2- ابن عبد البر، الاستيعاب، ص531-532.

وفيهم من خرج عن الحق، وفيهم من رجع إليه والأمور بعواقبها، والأعمال بخواتمها، وإلى الله المصير (1).

وفي حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي رواه مسلم مصداق لما ذكر آنفاً أن النبيّ (صلی الله علیه و آله) قال: ((ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم، ورُفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ! أصيحابي..أصيحابي ، فليقالنّ لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (2).

فمن علمنا أنّه انقلب على عقبه، وأظهر العداوة لأهل البيت (علیهم السلام) عاديناه وتبرأنا إلى الله منه، ونسكت عن المجهولة حاله.

وقد ورد في عيون الأخبار لمحمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن الرضا (علیه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: محض الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله... إلى أن قال: وحبُّ أولياء الله عزَّ وجلَّ واجب، وكذلك بغض أعداء الله والبراءة منهم ومن أئمتهم، إلى أن قال: والبراءة من الذين ظلموا آل محمد (علیهم السلام) ، وهمّوا بإخراجهم، وسنّوا ظلمهم، وغيّروا سُنّة نبيّهم.

والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين .. وحاربوا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقتلوا الشيعة المتقين (رحمهم الله) واجبة.

ص: 147


1- الحسيني، الخطيب، عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة واسانيده، ج1، ص137-138، وحيدر، العلامة أسد، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة.
2- القشيري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، ص 979 -980، (رقم الحديث 2304).

والبراءة ممن نفى الأخيار وشرّدهم، وآوى الطريد اللعين، وجعل الأموال دولة بين الأغنياء، واستعمل السفهاء ..

والبراءة من أشياعهم الذين حاربوا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقتلوا الأنصار والمهاجرين، وأهل الفضل والصلاح من السابقين، وقادة الجور كلّهم، والبراءة من أشباه عاقري الناقة أشقياء الأولين والآخرين ومن يتولاهم (1).

لذلك انصرفت إلى عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) الآمال، وانعطفت إليه القلوب.

فمما يروى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنه قال لعليٍّ بن أبي طالب (علیه السلام) : ((يا عليُّ كذب من زعم أنّه يحبُّني ويبغضك، يا عليُّ من أحبك فقد أحبني، ومن أحبني أحبّه الله وأدخله الجنة، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار)) (2).

ويراهن أمير المؤمنين (علیه السلام) على موضوعة البغض والمولاة، وأن حبّه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، فيقول (علیه السلام) : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك إنه

ص: 148


1- الحر العاملي، الفصول المهمة، ص 170.
2- الزرندي الحنفي، درر السمطين، ص103.

قضي فانقضى على لسان النبيِّ الأمّيّ (صلی الله علیه و آله) أنه قال لي: ((لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق)) (1).

ص: 149


1- ينظر: القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ص48 نقلا عن نهج البلاغة.

مصادر الجزء الثالث

القرآن الكريم

1-الامين العاملي، الإمام محسن، أعيان الشيعة، مطبعة الاتقان، دمشق - سنجقدار - 1947 م

2-الذهبي، شمس الدين، محمد بن احمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق محمد ايمن الشبراوي - دار الحديث - القاهرة

3-الشبلنجي الحنفي، مؤمن بن حسن، نور الابصار مطبعة عاطف، مصر 1380 ه-

4-إبراهيم حسن، د. علي، التاريخ الاسلامي العام، الطبعة الثانية - مكتبة الانجلو المصرية، 1959 م

6-ابن الاثير، عز الدين ابي الحسن علي بن محمد الجزري، اسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق، محمد إبراهيم البنا وآخرون، دار الشعب

7-ابن عبد البر، أبو عمر يوسف، الاستيعاب في معرفة الاصحاب، الطبعة الاولى، تحقيق د. خليل مأمون شيحا - دار المعرفة - بيروت - لبنان، 2006 م

8-ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا واخرون - مصطفى البابي واولاده - مصر، 1936 م

9-أبو رية، محمود، اضواء على السنة المحمدية، الطبعة الثانية، منقحة ومزيدة - مطبعة صور الحديثة - 1964 م

ص: 150

10-الأربلي، أبو الفتح، علي بن عيسى، كشف الغمة، الطبعة الاولى - دار المرتضى - بيروت - لبنان -2006 م

11-الاصبهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، شرح وتحقيق، السيد أحمد صقر، انتشارات المكتبة الحيدرية، الطبعة الاولى، 1423 ه-

12-الاصبهاني، أبو بكر، محمد بن داود، الزهرة - تحقيق - أ. د. إبراهيم السامرائي، وأ. د. نوري حمود القيسي، الطبعة الثانية، مكتبة المنار، الزرقاء، الاردن، 1985 م،

13-آل صاحب الجواهر، العلامة الشيخ شريف، مثير الاحزان، المطبعة الحيدرية في النجف، 1370 ه-

14-الحيدري، السيد محمد - معتمد مكتبة أهل البيت العامة -، مع أ.د. محي الدين، عبد الرزاق في ادب المرتضى - مطبع الزهراء، بغداد، 1958 م

15-الالوسي، محمود شكري، بلوغ الارب، المكتبة الاهلية، مصر

16-الأمين العاملي، الإمام محسن، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، الطبعة الثالثة، مطبعة النعمان، النجف

17-الاميني عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنة والادب -دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان - الطبعة الثالثة، 1967 م

18-بحث نفيس مخطوط لفضيلة الاستاذ العلامة الدكتور حسين علي محفوظ، وقفنا عليه في مكتبة الاستاذ د. عبد الحليم السيد علي خان المدني.

ص: 151

19-البخاري، أبو عبد الله، محمد بن اسماعيل، صحيح البخاري - طبعة جديدة مصححة وملونة، الطبعة الاولى - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، 2001 م

20-البهائي العاملي، بهاء الدين، الكشكول، تحقيق د. طاهر الزاوي، دار احياء الكتب العربية، مصر

21-الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق المحامي فوزي عطوي، شركة الكتاب اللبناني - بيروت

22-الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الاولى - 1979 م

23-جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، الطبعة الاولى - دار صعصعة - مملكة البحرين 2003 م

24-الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق، احمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة - دار العلم للملايين -القاهرة - 1987 م

25-الحر العاملي، الإمام محمد بن الحسن، الفصول المهمة في أصول الأئمة (علیهم السلام) ، الطبعة الثانية، المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الاشرف، 1378 ه-

26-الحر العاملي، محمد بن الحسن، اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، المطبعة العلمية - قم

27-الحسيني، العلامة، السيد عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة واسانيده

ص: 152

28-الحموي، ابن حجة، علي بن محمد، ثمرات الاوراق في المحاضرات، تقديم وشرح د. مفيد قميحة -دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1983 م

29-الخطيب البغدادي، للحافظ أبي أحمد بن علي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام منذ تأسيسها حتى سنة 463 ه-، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت

30-د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الاولى - انتشارات الشريف الرضي - إيران 1380 ه-،

31-الدميري، كمال الدين، حياة الحيوان الكبرى، دار القاموس الحديث للطباعة والنشر - بيروت - لبنان

32-دوكلاس، ه-. فراير وجماعته، علم النفس العام، ترجمة د. إبراهيم يوسف المنصور -مطبعة شفيق - بغداد، 1965 م

33-الديلمي، أبو محمد الحسن بن ابي الحسن، ارشاد القلوب - دار الفكر - بيروت

34-الراوي، العلامة طه، نظرات في اللغة والنحو، الطبعة الاولى، منشورات المكتبة الاهلية، بيروت، 1962 م

35-رفاعي، د. احمد فريد، عصر المأمون، الطبعة الرابعة - مطبعة دار الكتب المصرية - القاهرة، 1928 م

36-الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس - دار ليبيا للنشر والتوزيع -بنغازي

ص: 153

37-الزرندي الحنفي، جمال الدين محمد بن يوسف، نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين، الطبعة الاولى - مطبعة القضاء - النجف الاشرف 1958 م

38-الزمخشري، الإمام محمود بن عمر، أساس البلاغة، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960 م

-39-السامرائي، العلامة يونس الشيخ إبراهيم، البطل الغالب علي بن ابي طالب، مكتبة الرصافي، بغداد، لسنة 1989

40-سلامة، بولس، عيد الغدير الطبعة الثانية - دار الاندلس - بيروت 1961 م

41-سيد الشبلنجي المدعوب- (مؤمن)، نور الابصار في مناقب آل بيت النبي المختار وبهامشه كتاب اسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل اهل بيته الطاهرين للأستاذ الشيخ محمد الصبان

42-شبر، الإمام عبد الله، حق اليقين في معرفة اصول الدين

43-الشرتوني، سعيد الخوري، أقرب الموارد في الفصح العربية والشوارد

44-شرف الدين، الإمام، السيد عبد الحسين، النص والاجتهاد، النجف الاشرف، 1375 ه-.

45-الشريف المرتضى، علي بن الحسين، أمالي المرتضى، الطبعة الثانية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - نشر - ذوي القربى - إيران -1983م

ص: 154

46-الشيبي، د. كامل مصطفى، ديوان أبي بكر الشبلي، جعفر بن يونس المشهور ب- (دلف بن جحدر)، الطبعة الاولى، مطابع دار التضامن - بغداد - 1386 ه- \ 1967 م،

47-الصبان، الاستاذ الشيخ محمد، إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل اهل بيته الطاهرين، الطبعة السابعة، مطبعة عبد السلام محمد بن شقرون - مطبعة عاطف - مصر، 1960 م

48-الطبري، الحافظ محب الدين احمد بن عبد الله، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، تقديم ومراجعة جميل إبراهيم حبيب، طبع دار القادسية - بغداد -، 1984 م،

49-عبد الكريم، خليل، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية-، الطبعة الثانية (مزيدة ومنقحة)، سينا للنشر - القاهرة - الانتشار العربي - بيروت، 1997 م

50-عبد المقصود، عبد الفتاح، الامام علي بن ابي طالب - المجموعة الكاملة - الطبعة الاولى - دار المختار - القاهرة 2006 م

51-علي الجارم ومصطفى امين، البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع)، شركة مكملان بلندن، الطبعة 21، مطابع دار المعارف بمصر، 1389 ه- \ 1969 م.

ص: 155

52-علي خان، الإمام صدر الدين المدني، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين (علیهما السلام) تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي - قم - إيران، 1415 ه-

53-علي خان، الامام صدر الدين، المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة/ المطبعة الحيدرية/ النجف 1962.

54- علي خان، السيد محمد علي، أبو طالب وبنوه الطبعة الأولى/ مطبعة الآداب/ النجف 1969.

55-علي، الدكتور جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، انتشارات الشريف الرضي، المطبعة شريعت، الطبعة الاولى، 1380 ه-،

56-القمي، الشيخ عباس، الانوار البهية - مؤسسة منشورات ديني - مشهد

57-القمي، المحقق الشيخ عباس، الانوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية -مؤسسة منشورات ديني - إيران - مشهد،

58-القندوزي الحنفي، الحافظ سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، تقديم العلامة السيد محمد مهدي الخرسان، الطبعة الثامنة، منشورات دار الكتب العراقية - الكاظمية -، مكتبة المحمدي، قم، إيران، 1385 ه-

59-القندوزي الحنفي، الحافظ، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، الطبعة الثامنة، دار الكتب العراقية، ص155، سنة 1385 ه-

ص: 156

60-كاشف الغطاء، الإمام محمد الحسين، أصل الشيعة واصولها

61-كتاني، سليمان، الإمام عليّ (علیه السلام) نبراس ومتراس (مقتبس من مقدمة مقاتل الطالبيين بقلم الاستاذ أحمد صقر الذي شرحه وحققه).

62-الكعبي، د. كريم علكم، إبن معصوم المدني أديباً وناقداً، الطبعة الأولى، دار الضياء للطباعة والتصميم، 2008 م

63-الكليني، أبو جعفر، محمد بن يعقوب، الروضة من الكافي، تحقيق الغفاري، مؤسسة دار الكتب الإسلامية، طهران

64-الكوفي، العلامة احمد ابن اعثم، الفتوح، الطبعة الاولى، دار الكتب العلمية، بيروت -لبنان، 1986م

65-المبرد، محمد بن يزيد، الكامل، شرح الدلجموني الازهري، مطبعة محمد علي صبيح، مصر

66-مجلة لغة العرب، شهرية، ادبية علمية تاريخية، صاحب امتيازها الاب، أنستاس ماري الكرملي، المجلد الثاني، تموز 1912 م - حزيران 1913 م، العدد 11 عن ايار سنة 1913،

67-محمد الصبان، محمد، اسعاف الراغبين، المطبوع على هامش نور الابصار للشبلنجي الحنفي

ص: 157

68-المسعودي، أبو الحسن، علي بن الحسين، مروج الذهب، المطبوع على هامش كتاب نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب للمقري المغربي، الطبعة الاولى - مطبعة الازهر المصرية - 1302ه-

69-مسلم، أبو الحسن، ابن الحجاج، صحيح مسلم، الطبعة الاولى: مخرجة من صحيح البخاري وبترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث (محمد فؤاد عبد الباقي)، مؤسسة المختار - مصر الجديدة - 2005 م

70-المظفر، الامام الشيخ محمد حسن، دلائل الصدق، المطبعة الحيدرية - النجف، 1953 م

71-المظفري، الإمام محمد الحسين، الصادق (علیه السلام) ، مطبعة الغري - النجف - 1365 ه-، -الحصري القيرواني، أبو اسحق إبراهيم بن علي، زهر الآداب، الطبعة الرابعة، تحقيق د. زكي مبارك - دار الجيل-بيروت - لبنان

72-الموسوي، شمس الدين فخار بن معد، ايمان ابي طالب، تحقيق السيد د. محمد بحر العلوم، الطبعة الثانية، مطبعة الآداب، النجف،1965 م

-73-النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب، نهاية الارب في فنون الادب، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، مطابع كوستا سوماس وشركاه، القاهرة

ص: 158

-73-الهندي، علي رضا، القصيدة الزينبية، الطبعة الاولى، مطبعة الازهر -بغداد، 1966 م

ص: 159

فهرست الجزء الثالث

1-تقديم سماحة السيد محمد علي الحلو................................... 2

2-مقدمة المؤلف.............................................................. 5

3-وليد الكعبة................................................................... 8

4-محمد (صلی الله علیه و آله) وعليٌّ (علیه السلام) .........................................................18

5-ترابية، ولكن.................................................................25

6-الكنى في كلام العرب.......................................................28

7-الترابي والترابيون.........................................................40

8-آل أبي طالب: شرف باذخ وعز شامخ.................................53

9-آل البيت (علیهم السلام) بجالة وجلالة...............................................58

10-الإمام عليٌّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ...............................69

11-الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ...................................85

12-الإمام الحسين الشهيد (علیه السلام) ...................................88

13-تداعيات المصرع الشريف...................................90

14-الإمام عليّ زين العابدين (علیه السلام) ..............................100

15-الإمام محمد الباقر (علیه السلام) .....................................106

16-الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ..................................108

ص: 160

17-الإمام موسى الكاظم (علیه السلام) ...............................109

18-الإمام عليّ الرضا (علیه السلام) .................................110

19-الإمام محمد الجواد (علیه السلام) ...............................111

20-الإمام عليّ الهادي (علیه السلام) ...............................112

21-الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) .........................113

22-الإمام المهديُّ (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ..................................114

23-إمتداد النبوة الطبيعي.................................123

24-الخليفة والإمام........................................136

25-عليٌّ (علیه السلام) : خصائص وسمات......................141

26-مصادر الجزء الثالث................................150

27-فهرست الجزء الثالث..............................160

ص: 161

فهرست كتاب (أبو طالب وبنوه)

الجزء الأول

1-مقدمة مؤسسة مسجد السهلة المعظم......................... 2

2-تقديم آية الله الراحل السيد نصر الله المستنبط............... 5

3-بين يدي الكتاب................................................... 7

4-المؤمن الأول...................................................... 8

5-أبو طالب يتمتع بكل صفات الخير............................. 17

6-أبو طالب يكفل النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويؤازره............................. 20

7-أبو طالب وتجارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .................................... 28

8-أبو طالب يزوج النبيّ (صلی الله علیه و آله) ...................................... 31

9-أبو طالب وبدء الدعوة الإسلامية............................ 33

10-أبو طالب والشِعب............................................. 44

11-أبو طالب يفك الحصار........................................ 52

12-أبو طالب يدعو الحمزة إلى الإسلام........................ 68

13-أبو طالب يستسقي للناس.................................... 78

ص: 162

14-أبو طالب يدعو ملك الحبشة إلى الإسلام.................. 91

15-أبو طالب يطلب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) المعجزة..................... 97

16-أبو طالب ينشئ وصيته....................................... 102

17-أبو طالب يصير إلى الفردوس الأعلى...................... 118

18-أبو طالب والدليل على إيمانه............................... 126

19-أبو طالب في نظر النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعليّ (علیه السلام) .....................140

20-أبو طالب في نظر آل البيت (علیهم السلام) .............................150

21-أبو طالب في نظر الإمام الكاظم (علیه السلام) ...................... 160

22-أبو طالب في نظر الإمام الرضا (علیه السلام) ........................ 162

23-أبو طالب في نظر ابن عباس................................ 166

24-أبو طالب في نظر المأمون................................... 172

25-أبو طالب في نظر أبي لهب.................................. 175

26-أبو طالب وإجماع آل البيت (علیهم السلام) على إيمانه.............. 177

27-أبو طالب في نظر أئمة الزيدية............................. 179

28-أبو طالب في نظر علماء المغرب العربي................. 184

29-أبو طالب في نظر العامة.................................... 187

30-أبو طالب في نظر الشيعة الإمامية.........................189

31-أبو طالب في نظر ابن حجر.................................194

ص: 163

32-أبو طالب في نظر الإسكافي..............................213

33-أبو طالب في نظر ابن أبي الحديد.......................217

34-أبو طالب وأهل الكهف....................................234

35-أبو طالب في بطون الكتب................................259

36-أبو طالب والمؤلفون......................................482

37-مصادر الكتاب............................................. 486

38-فهرست الموضوعات....................................488

الجزء الثاني

1-تقديم سماحة آية الله الراحل الشيخ القرشي..................... 2

2-مقدمة المؤلف....................................................... 7

3-الفصل الأول......................................................... 10

4-بنو أبي طالب....................................................... 11

5-أول الأبناء........................................................... 14

6-بين التي واللتيا..................................................... 19

7-الفصل الثاني...................................................... 29

ص: 164

8-عقيل.................................................................30

9-بين عقيل وعلي................................................... 41

10-وجهاً لوجه مع معاوية................................ 50

11-بنو عقيل................................................ 65

12-الفصل الثالث........................................... 74

13-جعفر بن أبي طالب..................................... 75

14-في الحبشة............................................... 82

15-بخير دار................................................. 88

16-في مؤتة................................................. 91

17-إحدى الحسنين......................................... 94

18-عبد الله بن جعفر..................................... 105

19-عون بن جعفر........................................ 135

20-مصادر الكتاب........................................ 137

21-فهرست الجزء الثاني............................... 144

الجزء الثالث

1-تقديم سماحة السيد محمد علي الحلو................................. 2

ص: 165

2-مقدمة المؤلف............................................................ 5

3-وليد الكعبة................................................................. 8

4-محمد (صلی الله علیه و آله) وعليٌّ (علیه السلام) ........................................................18

5-ترابية، ولكن................................................................25

6-الكنى في كلام العرب......................................................28

7-الترابي والترابيون........................................................40

8-آل أبي طالب: شرف باذخ وعز شامخ.................................53

9-آل البيت (علیهم السلام) بجالة وجلالة...............................................58

10-الإمام عليٌّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ...............................69

11-الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ...................................85

12-الإمام الحسين الشهيد (علیه السلام) ...................................88

13-تداعيات المصرع الشريف...................................90

14-الإمام عليّ زين العابدين (علیه السلام) ..............................100

15-الإمام محمد الباقر (علیه السلام) .....................................106

16-الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ..................................108

17-الإمام موسى الكاظم (علیه السلام) ..................................109

18-الإمام عليّ الرضا (علیه السلام) ..................................110

ص: 166

19-الإمام محمد الجواد (علیه السلام) .................................111

20-الإمام عليّ الهادي (علیه السلام) ...................................112

21-الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) .............................113

22-الإمام المهديُّ (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .......................................114

23-إمتداد النبوة الطبيعي.....................................123

24-الخليفة والإمام............................................136

25-عليٌّ (علیه السلام) : خصائص وسمات...........................141

26-مصادر الجزء الثالث.....................................150

27-فهرست الجزء الثالث....................................160

28-فهرست كتاب (أبو طالب وبنوه)......................162

ص: 167

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.