تراثنا المجلد 124

هوية الکتاب

المؤلف: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم

الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم

المطبعة: نمونه

الطبعة: 0

الموضوع : مجلّة تراثنا

تاریخ النشر : 1436 ه.ق

الصفحات: 494

ص: 1

اشارة

تراثنا

صاحب

الامتیاز

مؤسّسة

آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

المدير

المسؤول :

السيّد

جواد الشهرستاني

العددان الرابع

[124]

السنة

الواحد والثلاثون

محتويات العدد

* نظرة سريعة في منهج الشريف المرتضى في تصحيح الأخبار وتضعيفها

........................................................... الشيخ محمّد باقر ملكيان 7

* حقيقة الإيمان والكفر في فكر الشريف المرتضى

.............................................................. الشيخ حيدر البيّاتي 35

* ملامح منهج الشريف المرتضى في التفسير (كتاب الأمالي أنموذجاً)

....................................................... د. محمّد حسن محيي الدين 68

شوّال - ذو

الحجّة

1436

ه

* تعيين الإمام في ضوء تقريرات الشريف المرتضى

............................................................ د. جواد حسين الورد 99

* مع ديوان الشريف المرتضى (ت 436ه)

........................................... السيّد محمّد علي السيّد راضي الحكيم 162

* من ذخائر التراث :

* غُرر الغُرر ودُرر الدُرر لابن العتائقي في تلخيص غُرر السيّد المرتضى

................................................... تحقيق : د. عليّ أكبر الفراتيّ 205

* من أنباء التراث.

.................................................................. هيئة التحرير 479

ص: 2

* نظرة سريعة في منهج الشريف المرتضى في تصحيح الأخبار وتضعيفها

........................................................... الشيخ محمّد باقر ملكيان 7

* حقيقة الإيمان والكفر في فكر الشريف المرتضى

.............................................................. الشيخ حيدر البيّاتي 35

* ملامح منهج الشريف المرتضى في التفسير (كتاب الأمالي أنموذجاً)

....................................................... د. محمّد حسن محيي الدين 68

شوّال - ذو

الحجّة

1436

ه

* تعيين الإمام في ضوء تقريرات الشريف المرتضى

............................................................ د. جواد حسين الورد 99

* مع ديوان الشريف المرتضى (ت 436ه)

........................................... السيّد محمّد علي السيّد راضي الحكيم 162

* من ذخائر التراث :

* غُرر الغُرر ودُرر الدُرر لابن العتائقي في تلخيص غُرر السيّد المرتضى

................................................... تحقيق : د. عليّ أكبر الفراتيّ 205

* من أنباء التراث.

.................................................................. هيئة التحرير 479

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (غُرر الغُرر ودُرر الدُرر) لابن العتائقي (ت بعد 778ه) في تلخيص (غُرر الفوائد ودُرر القلائد) للسيّد المرتضى (ت436ه) والمنشورة في هذا العدد.

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

نظرة سريعة في منهج الشريف المرتضى

في

تصحيح الأخبار وتضعيفها

الشيخ محمّد باقر ملكيان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الهداة الميامين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

إنّ منهج قدماء الإماميّة - رضي الله عنهم - في تصحيح الخبر وتضعيفه يختلف عن منهج المتأخّرين ، فإنّ المتأخّرين يصفون الخبر بالصحيح والضعيف من خلال تقييم السند فحسب ، بينما القدماء يلاحظون في تصحيح الخبر وتضعيفه السند والمتن معاً.

ونحن في هذا المقال بصدد استخراج قواعد تصحيح الأخبار وتضعيفها من مصنّفات الشريف المرتضى قدس سره ، وبيان منهجه في ذلك.

وقبل الدخول في صلب البحث لابدّ من تقديم أمور :

ص: 7

أوّلا : الخبر وأقسامه من حيث الصحّة والضعف :

قال الشريف المرتضى قدس سره : «اعلم أنّ الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

أوّلها : يعلم أنّ مخبره على ما تناوله.

وثانيها : يعلم أنّ مخبره ليس على ما تناوله.

وثالثها : يتوقّف فيه.

وما يعلم أنّ مخبره على ما تناوله على ضربين :

أحدهما : يعلم ذلك من حاله باضطرار ، ومثاله بغير خلاف خبر من أخبرنا بأنّ السماء فوقنا والأرض تحتنا.

والآخر : أن يعلم أنّ مخبره على ما تناوله باكتساب كالخبر المتواتر.

وأمّا الخبر الّذي يعلم أنّ مخبره ليس على ما تناوله ، فينقسم إلى قسمين :

أحدهما : يعلم ذلك من حاله باضطرار.

والثّاني : يعلم باكتساب»(1).

وقد فصّل قدس سره الكلام في القسم الأخير في فصل مستقلّ عنونه بقوله : «فصلٌ فيما يعلم كذبه من الأخبار باضطرار أو اكتساب» ، حيث قال : «اعلم أنّ الخبر إنّما يعلم باضطرار أواكتساب أنّ مخبره ليس على ما تناوله بغيره لا بنفسه.

ومثال ما يعلم بطلانه باضطرار خبر من أخبر بأنَّ السَّماء تحتنا ، 5.

ص: 8


1- الذريعة : 2 / 6 - 7. وقريب منه في العدّة في أصول الفقه : 1/65.

والأرض فوقنا ، وأنّ جبلاً بحضرتنا ونحن لا نراه مع السّلامة وارتفاع الموانع.

فأمّا الخبر الّذي يعلم بطلانه باكتساب ؛ فهو كلّ خبر علمنا أنَّ مخبره ليس على ما تناوله بدليل عقلىّ أو بالكتاب أو السنّة أو الإجماع»(1).

ثمّ قال(2) : «وقد ألحق قوم بهذا الباب لواحق :

منها : أن يكون الخبر لو كان صحيحاً لوجب قيام الحجّة به على المكلّفين ، فإذا لم يقم به ؛ علم أنّه باطل.

ومنها : أن يكون الخبر ممّا لو كان صحيحاً لعلم أهل العلم إذا فتَّشوا عنه ذلك ، فإذا لم يعلم مع التَّفتيش علم كونه كذباً.

ومنها : أن يكون المخبر عنه ممّا تقوى الدّواعي إلى نقله ، وتمنع من 7.

ص: 9


1- الذريعة : 2 / 35.
2- والظاهر أنّه تعريض برأي الشيخ - قدّس سرّه - حيث قال : «يعلم أنّه على خلاف ما تناوله بضرب من الاستدلال ، وهو على ضروب : منها : أن يعلم بدليل عقلي أو شرعي أنّه على خلاف ما تناوله. ومنها : أن يعلم أنّ مخبره لو كان صحيحاً لوجب نقله على خلاف الوجه الّذي نقل عليه ، بل على وجه تقوم به الحجّة ، فإذا لم ينقل كذلك علم أنّه كذب. ومنها : أن يكون مخبره ممّا لو فتش عنه من يلزمه العمل به لوجب أن يعلمه ، فإذا لم تكن هذه حاله علم أنّه كذب. ومنها : أن يكون مخبر الخبر حادثة عظيمة ممّا لو كانت لكانت الدواعي إلى نقلها يقتضي ظهور نقلها إذا لم يكون هناك مانع ، فمتى لم ينقل علم أنّه كذب. ومنها : أن يعلم أنّ نقله ليس كنقل نظيره ، والأحوال فيهما متساوية ، فيعلم حينئذ أنّه كذب» العدّة في أصول الفقه : 1/67.

كتمانه ، فإذا لم ينقل والحال هذه علم كونه كذباً.

ومنها : أن تكون الحاجة ماسَّة في باب الدّين إلى نقله ، فإذا لم ينقل كما نقلت نظائره ، علم بطلانه.

ومنها : أن يكون في الأصل وقع شائعاً ذائعاً ، ومثله في العادة لا يضعف نقله ، بل يكون حاله في الاستمرار كحاله في الأوَّل.

واعلم أنّ هذه الوجوه إن صحّت كلُّها أو بعضها ، فإنّما هي تفصيل لما أجملناه في قولنا : بدليل عقلىّ ؛ لأنّ الأدلَّة العقليّة المبتنية على العادات واختيارها إليها فزع من ألحق هذه الوجوه ، فما صحَّ منها من كلّ أو بعض فهو داخل في الجملة الَّتي ذكرناها»(1).

ثانياً : الحديث الصحيح عند القدماء واختلافهم مع المتأخّرين :

من الواضح أنّ الحديث عند قدماء أصحابنا نوعان : صحيح - وإن شئت قلت معتبر - وضعيف ، وهذا لا يخفى على من سبر كتبهم.

كما أنّه لا إشكال في أنّ الصحيح عند القدماء ليس مساوق للصحيح عند المتأخّرين ، فتوصيف الخبر بالصحّة عند القدماء لأجل القرائن الداخلية أو الخارجية.

فما قاله المحدّث النوري رحمه الله بأنّ الصحيح عند القدماء هو نفسه عند 7.

ص: 10


1- الذريعة : 2/35 - 37.

المتأخّرين(1) ليس على ما ينبغي من مثله.

بناءً على ذلك نجد روايات كثيرة عبّر عنها قدماء أصحابنا ب- : (الصحيحة) ، مع أنّها ضعيفة ، أو ليست بصحيحة على مصطلح المتأخّرين.

منها : ما رواه الصدوق قدس سره والشيخ قدس سره بإسنادهما عن الفضل بن شاذان قال : «روى عبد الله بن الوليد العدني صاحب سفيان قال : حدّثني أبو القاسم الكوفي صاحب أبي يوسف ، عن أبي يوسف قال : حدّثنا ليث بن أبي سليم عن أبي عمرو العبدي ، عن علىّ بن أبي طالب عليه السلام».

ثمّ نقلا عن الفضل أنّه قال : «هذا حديث صحيح على موافقة الكتاب»(2).

وظاهرهما تقرير الفضل على ذلك ، مع أنّه لا شكّ في أنّ رجال السند لم يوثّقوا عند الشيعة بل بعضهم مثل أبي يوسف مذموم.

ومنها : «ما رواه الصدوق قدس سره عن علىّ بن عبد الله بن أحمد الأسواري الفقيه قال : حدّثنا مكّي بن سعدويه البرذعي قال : حدّثنا أبو محمّد نوح بن الحسن قال : حدّثنا أبو سعيد جميل بن سعد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الواحد بن سليمان العسقلاني قال : حدّثنا القاسم بن حميد قال : حدّثنا حمّاد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش». 7.

ص: 11


1- خاتمة المستدرك : 7/35.
2- من لا يحضره الفقيه : 4/259 ، ح5063 ؛ علل الشرائع : 2/569 ؛ تهذيب الأحكام : 9/250 ، ح7.

ثمّ قال في ذيله : «هذا الخبر صحيح»(1).

والأمر فيه كسابقه.

ومنها : «ما رواه إبن إدريس رحمه الله عن غياث بن كلّوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر عليه السلام ، ثمّ قال في ذيله : هذا خبر صحيح ، لأنّ الإجماع منعقد من أصحابنا عليه»(2).

وغياث عاميٌّ ، ولو قلنا بوثاقته فالخبر من جهته ليس بصحيح عند المتأخّرين ، فإنّهم - كما ترى - استندوا في صحّة الخبر إلى موافقته الكتاب إو الإجماع.

وعلى العكس من ذلك نجد روايات كثيرة عبّر عنها قدماء أصحابنا ب- : (الضعيفة) مع أنّها صحيحة أو ليست بضعيفة على مصطلح المتأخّرين.

منها : «ما رواه الشيخ قدس سره بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال سألت الرضا عليه السلام ... إلى آخره».

ثمّ قال الشيخ قدس سره في ذيله : «هذا خبر ضعيف شاذّ»(3).

مع أنّ الخبر صحيح سنداً.

ومنها : «ما رواه الشيخ قدس سره أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن النضر ، عن عاصم ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر ... إلى آخره». 2.

ص: 12


1- علل الشرائع : 2/379 - 380.
2- السرائر : 2/200.
3- تهذيب الأحكام : 1/18 ، ح42.

وقال الشيخ قدس سره في ذيله : «هذا الخبر ضعيف مخالف لما قدّمناه من الأخبار الصحيحة ولظاهر القرآن»(1).

مع أنّ الخبر صحيح سنداً.

ومنها : «ما رواه الشيخ قدس سره أيضاً بإسناده أحمد بن محمّد ، عن الحسن(2) بن علىّ بن النعمان ، عن حمّاد بن عثمان ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله ... إلى آخره»(3).

ثمّ قال الشيخ قدس سره في ذيله : «هذا الخبر ضعيف مخالف للأصول».

مع أنّ الخبر صحيح سنداً.

وهذا صريح كلام الشيخ قدس سره في كتابه العدّة حيث قال : «القرائن التي تدلّ على صحّة متضمّن الأخبار التي لا توجب العلم أربع أشياء :

[1] منها : أن تكون موافقة لأدلّة العقل وما اقتضاه.

[2] ومنها : أن يكون الخبر مطابقاً لنصّ الكتاب ، إمّا خصوصه أو عمومه ، أو دليله ، أو فحواه ، فإنّ جميع ذلك دليل على صحّة متضمّنه.

[3] ومنها : أن يكون الخبر موافقاً للسنّة المقطوع بها من جهة التواتر.

[4] ومنها : أن يكون موافقاً لما أجمعت الفرقة المحقّة عليه ، فإنّه متى 4.

ص: 13


1- تهذيب الأحكام : 10/88 ، ح107.
2- في المصدر : الحسين. وما أثبتناه هو الصواب ، كما في الكافي : 7/382 ، ح1 ؛ تهذيب الأحكام : 6/258 ، ح86.
3- الاستبصار : 3/22 ، ح4.

كان كذلك دلّ أيضاً على صحّة متضمّنه»(1).

وقال الشيخ البهائي رحمه الله : «كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلّ حديث اعتُضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والرّكون إليه وذلك أمور :

[1] منها : وجوده في كثير من الأصول الأربعمئة الّتي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة - سلام الله عليهم - ، وكانت متداولة لديهم في تلك الأعصار ، مشتهرة فيما بينهم اشتهار الشّمس في رابعة النّهار.

[2] ومنها : تكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.

[3] ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، والفضيل بن يسار ، أو على تصحيح ما يصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، أو على العمل بروايتهم ، كعمّار السّاباطي ونظرائه ، ممّن عدّهم شيخ الطائفة في كتاب العدّة ، كما نقله عنه المحقّق في بحث التراوح من المعتبر.

[4] ومنها : اندراجه في أحد الكتب الّتي عرضت على أحد الأئمّة - سلام الله عليهم - ، فأثنوا على مؤلّفها ، ككتاب عبيد الله الحلبي ، الذي عرض 5.

ص: 14


1- عدّة الأصول : 1/143 - 145.

على الصادق عليه السلام ، وكتابي يونس بن عبد الرّحمن ، والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه السلام.

[5] ومنها : أخذه عن أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفها من الفرقة الناجية الإماميّة ، ككتاب الصّلاة لحريز بن عبد الله السّجستاني ، وكتب بني سعيد ، وعلي بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السّعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطّاطري»(1) انتهى.

وقال الوحيد قدس سره في التعليقة : «إنّ الصحيح عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصومين عليهم السلام أعمّ من أن يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات ، أو أمارات أخر ، ويكونوا يقطعون بصدوره عنه عليه السلام أو يظنّون»(2).

ثالثاً : المذاهب في حجّية خبر الواحد إلى عصر السيّد المرتضى والشيخ الطوسي(3) : ثر

ص: 15


1- مشرق الشمسين : 26 - 29.
2- تعليقة على منهج المقال : 6.
3- وهنا نكتة لا بأس من إشارة عابرة إليها. وهي أنّ تأليف كتاب الذريعة كان بعد تأليف كتاب العدّة للشيخ - قدّس سرّه - وذلك لوجوه ، منها تصريح الشيخ بذلك حيث قال : «لم يصنّف أحد من أصحابنا في هذا المعنى ، إلاّ ما ذكره شيخنا أبو عبد الله - رحمه الله - في المختصر الّذي له في أصول الفقه ولم يستقصيه ، وشذَّ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها ، وتحريرات غير ما حرَّرها فإنّ سيّدنا الأجل المرتضى وإن كثر

يمكن تلخيص أقوال فقهاء الشيعة ومتكلّميهم إلى عصر الشريف المرتضى وشيخ الطائفة الطوسي قدس سرهما بما يلي :

1 - عدم الحجّية مطلقاً : وإليه ذهب الشيخ المفيد ، لكنّه استثنى الخبر المقترن بسبب أو قرينة ، يقول : «لا يجب العلم والعمل بشيء من أخبار الآحاد ... إلاّ أن يقترن به ما يدلّ على صدق راويه»(1).

2 - جواز التعبّد به عقلاً لا شرعاً : وإليه ذهب الشريف المرتضى حيث يقول : «الصحيح أنّ العبادة ما وردت بذلك ، وإن كان العقل يجوّز التعبّد بذلك. نعم ، هذا غير كاف في حجّية خبر الواحد»(2).

3 - التفصيل بين الأخبار : فبعضها تصحّ العبادة به شرعاً وعقلاً ، وهي أخبار الطائفة المحقّة ، لكن بشروط منها العدالة ، وأمّا غيرها فلا تصحّ شرعاً وإن كان يجوز عقلاً ، وهو مذهب الشيخ الطوسي(3).

في حين أنّ الشريف المرتضى قدس سره لم يقل بحجّية خبر الواحد ، كما أنّه 0.

ص: 16


1- لاحظ أوائل المقالات : 132 ؛ التذكرة بأصول الفقه : 28.
2- لاحظ الذريعة : 2/528.
3- لاحظ العدّة في أصول الفقه : 1/100.

كثيراً ما بنى استدلالاته ومناقشاته الفقهية على ذلك(1).

وكيفما كان ، فنحن في هذا المقال بصدد بيان معايير ضعف الخبر وصحّته عند الشريف المرتضى قدس سره. ا.

ص: 17


1- وعلى سبيل المثال لاحظ الانتصار في انفرادات الإمامية : 182 ؛ 235 ؛ 236 ؛ 247 ؛ 250 ؛ 266 ؛ 278 ؛ 283 ؛ 305 ؛ 311 ؛ 351 ؛ 375 ؛ 380 ؛ 397 ؛435 ؛ 451 ؛ 468 ؛ 492 ؛ 502 ؛ 517 ؛ 519 ؛ 529 ؛ 541 ؛ 546 ؛ 547 ؛ رسائل الشريف المرتضى : 1/235 ؛ 1/238 ؛ 1/260 ؛ 1/261 ؛ 1/317 ؛ 1/347 ؛ 2/13 ؛ 2/30 ؛ 2/32 ؛ 3/155 ؛ ك3/270 ؛ 4/336 ؛ 4/336 ؛ 4/337 ؛ وغيرها.

معايير ضعف الخبر وصحّته عند الشريف المرتضى

إنّ معايير صحّة الخبر وضعفه عند الشريف المرتضى قدس سره قد تكون معايير داخلية - وقد نعبّر عنها بالمعايير المتنية - ، وقد تكون معايير خارجية - وقد نعبّر عنها بالمعايير السندية -. هذا إجمال الكلام ، وأمّا تفصيله :

أوّلا : معايير ضعف الخبر وصحّته من حيث السند :

ألف : كون الخبر مرسلاً :

إنّ الشريف المرتضى قدس سره قد ضعّف كثيراً من الأخبار لإرسالها :

1 - روى الشعبي والنخعي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يذهب إلى العول في الفرائض.

فردّ السيّد قدس سره هذا الخبر بأنّه مرسل ؛ فإنّ الشعبي ولد في سنة ستّ وثلاثين ،النخعي ولد سنة سبع وثلاثين ، وقتل أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - سنة أربعين ، فكيف تصحّ روايتهما عنه(1)؟!

2 - روي عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أُمامة الباهلي قال : سمعت النبىّ(صلى الله عليه وآله) يقول في خطبته عام حجّة الوداع : «ألا إنّ الله تعالى قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصيّة لوارث».

فأورد السيّد عليه : «بأنّ حديث أبي أُمامة لا يثبت وهو مرسل ، لأنّ 6.

ص: 18


1- الانتصار في انفرادات الإمامية : 566.

الذي رواه عنه شرحبيل بن مسلم ، وهو لم يلق أبا أمامة»(1).

وهكذا ردّ الأحاديث التالية حيث نشير إليها إجمالا :

3 - عن جويبر عن الضحّاك أن النبىّ (صلى الله عليه وآله) قال : «لا يقتل اثنان بواحد»(2).

4 - عن عطاء بن سيان أنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) دعي إلى جنازة رجل من الأنصار ، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «ما ترك؟ فقالوا : ترك عمّته وخالته.

فقال : اللّهم رجل ترك عمّته وخالته ، فلم ينزل عليه شيء. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا أجد لهما شيئاً»(3).

5 - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّه لا يتوارث أهل ملّتين»(4).

6 - الشعبي ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «لا يتوارث أهل ملّتين»(5).

7 - عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده»(6).

ب : عدم وثاقة راوي الخبر :

وهذا تارة لجهالة وعدم إحراز وثاقته ، وأخرى لإحراز ضعفه ككونه 8.

ص: 19


1- الانتصار في انفرادات الإمامية : 600.
2- الانتصار في انفرادات الإمامية : 538.
3- المسائل الناصريات : 420.
4- الانتصار في انفرادات الإمامية : 590.
5- الانتصار في انفرادات الإمامية : 590.
6- الانتصار في انفرادات الإمامية : 498.

كذّاباً أو ضعيفاً أو متّهماً في الحديث.

فقد ضعّف الشريف المرتضى قدس سره أحاديث كثيرة لضعف رواتها ، فنذكر في المقام نماذجاً منها :

1 - روى شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن عثمان ، عن عمرو بن خارجة ، عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «لا يجوز لوارث وصيّة».

فأورد عليه السيّد المرتضى قدس سره بأنّ شهر بن حوشب هو عند نقّاد الحديث مضعّفٌ ، كذّاب ، ولا يرويه عن عبد الرحمن إلاّ شهر بن حوشب ، وهو ضعيف متّهم عند جميع الرواة(1).

2 - روي عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) في أمّ إبراهيم - ولده - أنّه قال : «أعتقها ولدها».

فأورد عليه السيّد بقوله : «هو من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ، وهم يروونه عن أبي بكر بن أبي سبرة ، وهو عند نقّاد أصحاب الحديث من الكذّابين ،يرويه ابن أبي سبرة عن الحسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عبّاس ، وهو عندهم من الضعفاء المطعون في روايتهم»(2).

3 - روى الهذيل بن شرحبيل أنّ أبا موسى الأشعري سئل عن رجل ترك بنتا وابنة ابن وأختاً من أبيه وأمّه؟ فقال : لابنته النصف وما بقي فللأخت.

فضعّف الشريف قدس سره هذا الخبر - مضافاً إلى أن أبا موسى ليس في قضائه بذلك حجّة ، ولأنّه ما أسنده عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) - بأنّه قد قدح أصحاب الحديث في 91

ص: 20


1- الانتصار في انفرادات الإمامية : 599 - 600. ك
2- الانتصار في انفرادات الإمامية : 391

رواته وضعّفوا رجاله ، وقيل : إنّ هذيل بن شرحبيل مجهول ضعيف(1).

4 - روي عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً».

فقال السيّد : «طعنوا في رواية الخبر بأنّ راويه عبد الملك بن عمير ، وهو من شيع بني أمية ، وممّن تولّى القضاء لهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت أيضاً ، ظنيناً في نفسه وأمانته.

وروي أنّه كان يمرّ على أصحاب الحسين بن علىّ عليهم السلام وهم جرحى فيجهز عليهم فلمّا عوتب على ذلك قال : إنّما أريد أن أريحهم»(2).

5 - عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته».

قال السيّد المرتضى قدس سره : «هذا الخبر مطعون عليه مقدوح في راويه ، فإنّ راويه قيس بن أبي حازم ، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الأخبار.

وهذا قدحٌ لا شبهة فيه ؛ لأنّ كلّ خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب أن يكون مردوداً ، لأنّه لا يؤمن أن يكون ممّا سمع منه في حال الاختلال.

على أنّ قيساً لو سلم من هذا القدح كان مطعوناً فيه من وجه آخر ، وهو أنّ قيس بن أبي حازم كان مشهوراً بالنصب والمعاداة لأمير المؤمنين - 8.

ص: 21


1- الانتصار في انفرادات الإمامية : 558.
2- الشافي في الامامة : 2/307 - 308.

صلوات الله وسلامه عليه - والانحراف عنه»(1).

وهكذا الأمر في الروايات التالية حيث أشكل عليها الشريف المرتضى :

6 - روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل - وهو على المنبر - عن بنتين وأبوين وزوجة؟ فقال عليه السلام بغير رويّة : صار ثمنها تسعاً(2).

7 - عن أبي أُمامة الباهلي قال : سمعت النبىّ (صلى الله عليه وآله) يقول في خطبته عام حجّة الوداع : «ألا إنّ الله تعالى قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصيّة لوارث»(3).

8 - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أنّه لا يتوارث أهل ملّتين»(4).

9 - عن جابر بن عبد الله ، عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «لا وصية لوارث»(5).

10 - روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة»(6).

11 - روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أىّ امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل»(7). 5.

ص: 22


1- تنزيه الأنبياء : 178.
2- الانتصار في انفرادات الإمامية : 566.
3- الانتصار في انفرادات الإمامية : 600.
4- الانتصار في انفرادات الإمامية : 590.
5- الانتصار في انفرادات الإمامية : 600.
6- الشافي في الامامة : 3/106 ؛ 4/30.
7- رسائل الشريف المرتضى : 1/235.

12 - ما ورد حول خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بنت أبي جهل بن هشام(1).

ج - تفرّد الراوي :

إنّ الشريف المرتضى - تبعاً لكثير من الفقهاء والمتكلّمين - يرى أنّ تفرّد الراوي برواية كان يوجب ضعف الخبر ، فلأجل ذلك ردّ بعض الأخبار بتفرّد الراوي ، منها :

1 - روى الزهري ، عن علىّ بن الحسين عليه السلام ، عن عمرو بن عثمان بن عفّان ، عن أُسامة بن زيد أنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) قال : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».

فقال السيّد قدس سره : «أمّا خبر أسامة فمقدوح فيه ، لأنّ أسامة تفرّد به عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وتفرّد به أيضاً عنه عمرو بن عثمان ، وتفرّد به علي بن الحسين عليه السلامعن عمرو ، وتفرّد به الزهري عن علىّ بن الحسين عليه السلام ، وتفرّد الراوي بالحديث ممّا يوهنه ويضعفه لوجوه معروفة»(2).

2 - روى شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن عثمان ، عن عمرو بن خارجة ، عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «لا يجوز لوارث وصيّة».

فقال الشريف المرتضى معلّقاً على هذا الخبر : «فأمّا خبر شهر بن حوشب ؛ فإنّه تفرّد به عن عبد الرحمن بن عثمان ، وتفرّد به عبد الرحمن ، 9.

ص: 23


1- تنزيه الأنبياء : 219.
2- الانتصار في انفرادات الإمامية : 589.

ولا يرويه عن عبد الرحمن إلا شهر بن حوشب»(1).

ثانياً : معايير ضعف الخبر وصحّته من حيث المتن :

ألف - مخالفته مع الدليل العقلي :

قد مرّ في كلام الشريف قدس سره أنّ مخالفة الدليل العقلي توجب ضعف الخبر.

كما قد صرّح في موضع آخر «بأنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول ، ولا تقبل في خلال ما تقتضيه أدلّة العقول»(2).

وقال أيضاً : «الرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلّة لا يلتفت إليها لو كانت قوية صحيحة ظاهرة ، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية؟»(3).

كما سبق عن الشيخ قدس سره أنّ من القرائن التي تدلّ على صحّة متضمّن الأخبار أن تكون موافقة لأدلّة العقل وما اقتضاه.

فالسيّد المرتضى قدس سره قد ضعّف بعض الأخبار - سيّما في المباحث الاعتقادية - لمخالفتها الدليل العقلي ، وهذا مثل أخبار الجبر والتشبيه(4).

فنحن نذكر بعض كلماته ممّا يرتبط بالمقام :

1 - قد روي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا رأى تولّي قومه عنه شقّ عليه ما هم1.

ص: 24


1- الانتصار في انفرادات الإمامية : 599 - 600.
2- تنزيه الأنبياء : 33.
3- تنزيه الأنبياء : 133.
4- تنزيه الأنبياء : 33 ؛ 171.

عليه من المباعدة والمنافرة ، وتمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبينهم ، وتمكّن حبّ ذلك في قلبه.

فلمّا أنزل الله تعالى عليه : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) وتلاها عليهم ، ألقى الشيطان على لسانه - لما كان تمكّن في نفسه من محبّة مقاربتهم - : (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجي) ، فلمّا سمعت قريش ذلك سرّت به وأعجبهم ما زكّى به آلهتهم ، حتّى انتهى إلى السجدة فسجد المؤمنون وسجد أيضاً المشركون لمّا سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم.

ولكن الشريف المرتضى قدس سره أورد على هذه الأخبار بأنّ الأحاديث المروية في هذا الباب لا يلتفت إليها من حيث تضمّنت ما قد نزّهت العقول الرسل صلوات الله عليهم عنه(1).

2 - وقد سئل السيّد المرتضى قدس سره : «ما قولكم في الخبر الذي رواه محمّد بن جرير الطبري ، بإسناده عن أبي هريرة ، عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) : إنّ النار تقول : هل من مزيد إذا ألقي فيها أهلها ، حتّى يضع الربّ تعالى قدمه فيها. وتقول قط ، قط ، فحينئذ تمتلئ ، وينزوي بعضها إلى بعض؟ وقد روي مثل ذلك عن أنس بن مالك».

وقد أورد السيّد قدس سره على هذا الخبر وأجاب بقوله : «لا شبهة في أنّ كلّ خبر اقتضى ما تنفيه أدلّة العقول فهو باطل مردود ، إلاّ أن يكون له تأويل سائغ 3.

ص: 25


1- تنزيه الأنبياء : 153.

غير متعسّف ، فيجوز أن يكون صحيحاً ، ومعناه مطابقاً للأدلّة»(1).

3 - قد ورد في بعض الأخبار عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إنّ الميّت ليعذّب ببكاءِ الحيّ عليه».

وفي رواية أُخرى : «إنّ المّيت يعذّب في قبره بالنياحة عليه».

وروى المغيرة بن شعبة عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «من نَيْحَ عليه فإنّه يعذّب بما يُناح عليه».

ولكن أورد عليه السيّد قدس سره «بأنّ هذا الخبر منكر الظاهر ، لأنّه يقتضي إضافة الظلم إلى الله تعالى ، وقد نزّهت أدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والاتّساع والمجاز»(2).

4 - ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره قد عدّ من الدليل العقلي أن يكون المُخْبَر عنه ممّا تقوى الدّواعي إلى نقله ، وتمنع من كتمانه ، فإذا لم يُنقل والحال هذه عُلم كونه كذباً ، وقد مرّ تفصيل ذلك في الأمر الأوّل من المقدّمة.

وقد أورد السيّد قدس سره على خبر العشرة المبشّرة بأنّ هذا الخبر لو كان صحيحاً لاحتجّ به أبو بكر لنفسه ، واحتجّ له به في السقيفة وغيرها. وكذلك عمر وعثمان ، فهو أقوى من كلّ شيء احتجّوا به في مواطن كثيرة لو كان صحيحاً.

وممّا يبيّن أيضاً بطلانه إمساك طلحة والزبير عن الاحتجاج به لمّا دعوا 2.

ص: 26


1- تنزيه الأنبياء : 171.
2- تنزيه الأنبياء : 172.

الناس إلى نصرتهما واستنفارهم إلى الحرب معهما ، وأىّ فضيلة أعظم وأفخم من الشهادة لهما بالجنّة؟ وكيف يعدلان مع العلم والحاجة عن ذكر إلاّ لأنّه باطل(1).

5 - روي عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) : «أنّه سيكون فتنة ، وإنّ عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى».

فأورد عليه الشريف المرتضى قدس سره «بأنّ هذه الرواية لو كانت معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار ، وقد احتجّ عليهم بكلّ غثٍّ وسمين ، وقيل ذلك لمّا خوصم وطولب بأن يخلع نفسه ، ولاحتجّ عنه بعض أصحابه وأنصاره ، وفي علمنا بأنّ شيئاً من ذلك لم يكن دلالة على أنّها مصنوعة موضوعة»(2).

ب - مخالفته مع ظاهر القرآن أو فحواه :

إنّ الشريف المرتضى قدس سره قد ضعّف بعض الروايات لمخالفتها القرآن ، كما هو الحال في معاملته مع أخبار التشبيه ، فإنّها مخالفة مع محكم القرآن ؛ كما صرّح الشريف المرتضى بذلك(3).

فنحن نذكر جملةً من هذه الأخبار : 1.

ص: 27


1- الشافي في الامامة : 4/346 - 347
2- الشافي في الامامة : 4/243.
3- تنزيه الأنبياء : 171.

1 - قال القاضي عبد الجبّار في ذيل آية : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) : قد روي أنّها نزلت في عبادة بن الصامت ، لأنّه كان قد دخل في حلف اليهود ، ثمّ تبرأ منهم ومن ولايتهم ، وفزع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية مقوّية لقلوب من دخل في الإيمان ، ومبيّناً له أنّ ناصره هو الله ورسوله والمؤمنون(1).

ولكن أورد عليه السيّد المرتضى قدس سره مضافاً إلى أنّه مخالف لما أطبق على نقله جماعة أصحاب الحديث من الخاصّة والعامّة - بأنّ مفهوم الآية ممتنعٌ ممّا ذكره ، لأنّا قد دللنا على اقتضائها فيمن وصف بها معنى الإمامة ، فليس يجوز أن يكون المعنيّ بها عبادة بعينه ؛ للاتّفاق على أنّه لا إمامة له في حال من الأحوال(2).

2 - روي عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «في ولد الزنا أنّه شرّ الثلاثة».

فأورد عليه الشريف المرتضى بأنّه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ، ولا يرجع بمثله عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم(3).

وقال أيضاً : خبرٌ مقدوحٌ في روايته وطريقه بما هو معروف ، ومع هذا فإنّه يخالف ظاهر الكتاب الذي تلوناه ، والعمل بالكتاب أولى من العمل به(4). 8.

ص: 28


1- المغني : 20 ق 1/138.
2- الشافي في الامامة : 2/248.
3- الانتصار في انفرادات الإمامية : 502.
4- المسائل الناصريات : 408.

3 - (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيدُ الآخِرَةَ وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1).

فظاهر الآية عتاب النبىّ ، وروي أنّه (صلى الله عليه وآله) لمّا استشار أصحابه ، فأشار عليه أبو بكر باستبقائهم ، وعمر باستيصالهم ، رجع إلى رأي أبي بكر ، فعوتب النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل ذلك.

ولكن السيّد المرتضى - بعد أن فسّر الآية بما لا يدلّ على عتاب النبىّ (صلى الله عليه وآله) - قال : «إذا كان القرآن لا يدلّ بظاهر ولا فحوى على وقوع معصية منه - صلوات الله عليه - في هذا الباب ، فالرواية الشاذّة لا يعوّل عليها ولا يلتفت إليها»(2).

4 - روى أبو الأسود الدؤلي أنّ رجلاً حدّثه أنّ معاذاً قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : «الإسلام يزيد ولا ينقص» ، فورث معاذ المسلم ، وورثه معاوية بن أبي سفيان وقال : «كما لا يحلّ لنا النكاح منهم ولا يحلّ لهم منّا ، فكذلك نرثهم ولا يرثونا».

فأورد السيد المرتضى قدس سره عليه : «بأنّ الخبر إذا صحّ فظاهر القرآن يدفعه ، وأخبار الآحاد لا يخصّ بها القرآن»(3).

ج - مخالفته مع السنّة :

إنّ الخبر إذا كان مخالفاً للسنّة الصحيحة كان ذلك دليل على ضعفه ، 3.

ص: 29


1- سورة الأنفال : 67.
2- تنزيه الأنبياء : 159.
3- المسائل الناصريات : 423.

كما أنّ مطابقته لنصّ الكتاب - إمّا خصوصه أو عمومه ، أو دليله ، أو فحواه ، فإنّ جميع ذلك - دليل على صحّة متضمّنه ، كما قال الشيخ قدس سره(1).

والشريف المرتضى قدس سره بعد تصريحه ببطلان كلّ خبر مخالف للسنّة(2) قال : «قد دلّت العقول ومحكم القرآن والصحيح من السنّة على أنّ الله تعالى ليس بذي جوارح ، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ، وكلّ خبر نافى ما ذكرناه وجب أن يكون إمّا مردوداً أو محمولاً على ما يطابق ما ذكرنا من الأدلّة»(3).

د - مخالفته مع الواقع التاريخي :

قد ضعّف الشريف المرتضى قدس سره بعض الأخبار لمخالفتها الواقع التاريخي ، فنحن في المقام نذكر نموذجاً منها :

قد روي عن سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أنّ الخلافة بعدي ثلاثون».

وقد أورد الشريف المرتضى على هذا الخبر : «بأنّا وجدنا سنيّ خلافة هؤلاء الأربعة تزيد على ثلاثين سنة شهورا ؛ لأنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) قبض لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة عشر ، وقبض أمير المؤمنين عليه السلام لتسع ليال بقيت من شهر رمضان سنة أربعين ، فهاهنا زيادة على ثلاثين سنة بينه ولا يجوز أن يدخل مثل ذلك فيما يخبر به ؛ لأنّ وجود الزيادة كوجود النقصان 1.

ص: 30


1- عدّة الأصول : 1/144.
2- الذريعة : 2/35.
3- تنزيه الأنبياء : 171.

في إخراج الخبر من أن يكون صدقاً»(1).

ه- - مخالفته مع الإجماع :

إنّ الشريف المرتضى قدس سره قد صحّح بعض الأخبار للإجماع على قبولها.

منها خبر الغدير ، فإنّ السيّد قد صحّح هذا الخبر وقال : «وممّا يدلّ على صحّة الخبر إطباق علماء الأمّة على قبوله .... وما نعلم أنّ فرقة من فرق الأمّة ردّت هذا الخبر واعتقدت بطلانه ، وامتنعت من قبوله ، وما تجمع الأمّة عليه لا يكون إلاّ حقّاً عندنا وعند مخالفينا ، وإن اختلفنا في العلّة والاستدلال»(2).

وكذا صحّح ما روي من حمل رأس سيّد الشهداء عليه السلام إلى الشام ، وقال : «هذا أمرٌ قد رواه جميع الرواة والمصنّفين في يوم الطّفّ وأطبقوا عليه»(3).

وهكذا صحّح الخبر المرويّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من قوله : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ؛ فإنّ غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين» ؛ لأنّه قد أجمعت الأمّة على قبوله(4).

كما أنّه قد ضعّف ما روي عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، وقال : «لو كان هذا الخبر صحيحاً لكان موجباً لعصمة 1.

ص: 31


1- الشافي في الامامة : 3/105 - 106.
2- الشافي في الامامة : 2/262
3- رسائل الشريف المرتضى : 3/130.
4- رسائل الشريف المرتضى : 2/20 - 21.

كلّ واحد من الصحابة ؛ ليصحّ ويحسن الأمر بالاقتداء بكلّ واحد منهم ، وليس هذا قولاً لأحد من الأمّة فيهم»(1).

كما قد ذهب بطرح أو تأويل كلّ خبر نافى النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنّ الأخبار بثبوت النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام مجمعٌ على صحّتها متّفقٌ عليها(2).

وقد ردّ الخبر المروي عن عبد الله بن مسعود من أنّه عُلّم التشهد ثمّ قال : «إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك».

حيث قال : «لأنّ ظاهر الخبر متروك بإجماع»(3).

ثمّ إنّ هناك معايير أخرى قد استند اليها الشريف المرتضى قدس سره في تضعيفه بعض الأخبار ، نكتفي بالإشارة إليها فقط :

1 - مخالفة الرواية مع فتوى الراوي وقوله(4).

2 - اختلاف لفظ الخبر وإذا كان الطريق إليه واحد(5). 0.

ص: 32


1- الشافي في الامامة : 3/130.
2- الشافي في الامامة : 3/99.
3- المسائل الناصريات : 212.
4- لاحظ المسائل الناصريات : 408.
5- الانتصار في انفرادات الإمامية : 555 ؛ 590.

المصادر

1 - الأمالي : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، تصحيح : السيّد محمّد بدر الدين النعساني الحلبي ، قم : مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ، 1403 ه.

2 - الانتصار في انفرادات الإمامية : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، قم : مؤسّسة النشر الإسلامي ، شوال المكرّم 1415 ه.

3 - تنزيه الأنبياء : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، بيروت : دار الأضواء ، 1409 ه.

4 - جمل العلم والعمل : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، تحقيق : السيّد أحمد الحسيني ، النجف الأشرف : مطبعة الآداب ، 1378 ه.

5 - الذريعة إلى أصول الشريعة : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، تصحيح : أبو القاسم گرجى ، طهران : جامعة طهران ، 1346 ش.

6 - رسائل الشريف المرتضى : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ ابن الحسين الموسوي ، تقديم : السيّد أحمد الحسيني ، إعداد السيّد مهدي الرجائي ، قم : دار القرآن الكريم ، 1405 ه.

ص: 33

7 - الشافي في الإمامة : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، تحقيق : السيّد عبد الزهراء الحسيني الخطيب ، مراجعة السيّد فاضل الميلاني ، طهران : مؤسّسة الصادق ، 1410 ه.

8 - العدّة في أصول الفقه : أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، تحقيق : محمّد رضا الأنصاري القمّي ، قم ، 1417 ه.

9 - مسائل الناصريّات : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، قم : مركز البحوث والدراسات العلمية ، 1417 ه.

10 - المقنع في الغيبة : الشريف المرتضى ، علم الهدى ، أبو القاسم علىّ بن الحسين الموسوي ، تحقيق : السيّد محمّد علي الحكيم ، قم : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1416 ه.

ص: 34

حقيقة الإيمان والكفر في فكر الشريف المرتضى

الشيخ حيدر البيّاتي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة :

ارتبط ظهور الكثير من الأبحاث والنظريّات الكلاميّة في التاريخ الإسلامي بأحداث معيّنة أدت إلى إبرازها والتركيز عليها ، ومن تلك الأحداث التاريخية التي أدّت إلى ظهور بعض النظريّات الكلامية هي حروبُ أمير المؤمنين عليه السلام ، والتي منها معركة صفّين ، فعندما شارفت المعركة على أن تضع أوزارها ، وتنكشف الغبرة عن انتصار كاسح لأمير المؤمنين عليه السلام ، إذا بمجموعة تمرق من داخل جيشه ينقلبون عليه ، ويؤدّي انقلابهم إلى إيقاف الحرب والتحاكم بين الطرفين ، وبعد ذلك ندم المارقون على فعلتهم ، وتوصّلوا - حسب ما أدّى إليه فكرهم - إلى أنّ ما قاموا به من القبول بالتحاكم كان ذنباً كبيراً ينبغي التوبة منه ، وإنّ مَن لم يَتُبْ منه يكون كافراً!!

ص: 35

ومن هنا ظهروا على العالَم بنظريّة جديدة أدّت إلى انعكاسات خطيرة على مستوى الواقع الإسلامي ، من تكفير لكبار الشخصيّات ، وعلى رأسها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وكلّ المخالفين لنظريّتهم من المسلمين ، إضافةً إلى نشوب حروب عديدة - أوّلها النهروان - انتهت بسفك دماء آلاف المسلمين ، إلى غير ذلك من الانعكاسات ، وبذلك تشكّلت ظاهرة جديدة عُرفت باسم : (الخوارج) ، وقسّمت المسلمين إلى مؤمن وكافر(1).

وفي مقابل هذه النظريّة المتطرّفة ظهرت نظريّة متطرّفة أُخرى ، فيها شيء من الانفتاح المتطرّف في مقابل انغلاق الخوارج المتطرّف ، إنّها نظريّة (الإرجاء) ، فقد ركّزت هذه النظريّة على أنّ مرتكب الكبيرة يُرجأ أمره إلى الله تعالى مهما ارتكب من الجرائم والكبائر من ظلم وقتل ومعاصي ، وأنّه لا يحقّ لنا اعتباره كافراً ، أو قتله(2) ، وقد استغلّ بنو أميّة هذه النظريّة ودعموها ؛ باعتبارها يمكن أن تبرّر أعمالهم الظالمة ، خاصّة وأنّهم أخذوا يواجهون تحدّي تيّار الخوارج الذي كان لا يتردّد في الإعلان عن كفرهم ، وخروجهم عن الدين(3).

لقد أدّت النظريّتان المتطرّفتان المذكورتان - إضافة إلى آثارهما على الواقع الإسلامي - إلى تأثير كبير في الجانب النظريّ الكلاميّ ، حيث أدّتا إلى 8.

ص: 36


1- انظر : الكامل للمبرّد ، ص567 وما بعدها.
2- انظر : فِرَق تسنن (بالفارسية) ، ص216 وما بعدها.
3- الانحرافات الكبرى ، ص488.

بروز نزاعات كلامية كبيرة ، وطرح تساؤلات كثيرة حول مرتكب الكبيرة ، وهل أنّ مرتكب الكبيرة من أهل القبلة كافر ، ويستحقّ القتل؟ وما هي حقيقة الكفر؟ وما هي حقيقة الإيمان الذي يقع في مقابله؟ وما هو مصير مرتكب الكبيرة يوم القيامة ، هل يخلد في النار ، أم يخرج منها بعد دخوله لمدّة فيها؟ كلّ هذه وغيرها تساؤلات مهمّة فرضت نفسها على طاولة البحث الكلامي ، وتطلّبت تقديم إجابات واضحة عليها.

وفي الفترة الواقعة ما بين نهايات القرن الأوّل وبدايات القرن الثاني ، وقعت حادثة في البصرة كان لها ارتباط بالنزاع المتقدّم ، وأدّت إلى ظهور فرقة كلامية كبيرة استمرّ وجودها قروناً ، وكان لها أثرٌ بارزٌ على مجمل تاريخ علم الكلام الإسلامي.

فقد دخل يوماً رجلٌ على حلقة الحسن البصري في الجامع بالبصرة ، حيث كان قد تجمّع حوله مجموعة من تلامذته ، ومنهم تلميذه واصل بن عطاء الذي أصبح له بعد هذه الحادثة شأن كبير ، وسأل ذلك الرجل الحسنَ البصري عن النزاع الدائر حول حقيقة مرتكب الكبيرة ، وهل هو مؤمن أو كافر ، فقال ما مضمونه : «يا إمام الدين!! لقد ظهرت في زماننا جماعةٌ يكفّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفرٌ يخرج به عن الملّة ، وهم وعيدية الخوارج. وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان ، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ، ولا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأُمّة ، فكيف تحكم لنا في

ص: 37

ذلك اعتقاداً؟»(1).

وقبل أن يجيب الحسن عن السؤال ، ويكشف عن رأيه الذي يبدو أنّ واصلا كان يعلم به ويختلف معه ، قام واصل من المجلس ، وقال : «أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ، ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر»(2) ، ثمّ انتحى جانباً من المسجد ، وجلس إلى اسطوانة أخرى ، واعتزل من ذلك اليوم درس الحسن ؛ وبذلك ظهر على العالَم بفرقة جديدة سمّيت : (المعتزلة) ، وصارت عقيدة (المنزلة بين المنزلتين) أحد أصولها ، ومن العلامات الفارقة التي يتميّز بها المعتزلي من غيره ، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام : مؤمن ، وكافر ، ولا مؤمن ولا كافر ، وهو المسمّى : ب- : الفاسق.

وبذلك أخذ بحث حقيقة الإيمان والكفر يأخذ مكانه شيئاً فشيئاً بين البحوث والكتب الكلامية ، حتّى خُصّص له باب مستقلّ ، وقد طرح هذا البحث في الكتب الكلامية المتقدّمة تحت عنوان : (الأسماء والأحكام) ، حيث يُبحث هناك عن حقيقة اسم المؤمن والكافر والفاسق ، وعن حكم هذه الأسماء ، من حيث التخليد في النار وعدمه ، وغير ذلك.

فقد أصرّ المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة - رغم عدم كفره - مخلّد في النار ، ولا يخرج منها أبداً ، أي إنّ ما توعّد به الله تعالى مرتكبي الكبائر من ق.

ص: 38


1- الملل والنحل ، ج1 ، ص48.
2- المصدر السابق.

العقاب لابدّ أن يتحقّق ، ولذلك عُرف المعتزلة باسم : (الوعيدية) ، وصار (الوعيد) أحد أصولهم الخمسة المشهورة(1).

وقد ظهر هذا البحث عند الإماميّة ، فأدلوا بدلوهم ، وبيّنوا رأيهم حوله ، ومن هؤلاء المتكلّمين الإماميةِ الشريفُ المرتضى الذي كان له دورٌ في تأسيس نظرة خاصّة إلى حقيقة الكفر والإيمان ، وما يتعلّق بذلك من بحوث ، مستعيناً بنظريّات شيخه المفيد ، فقد كانت نظريّاته حول الإيمان والكفر قريبة جدّاً من الشيخ المفيد.

وحاولنا في هذه الدراسة استعراض نظريّة الشريف المرتضى حول حقيقة الإيمان والكفر ، وتأثيرات نظريّته على البحوث الكلامية الأخرى.

وقد تطرّقنا إلى نظريّات وآراء للمرتضى قد تبدو مبهمة أو غريبة في عصرنا - مثل نظريّة (الموافاة) - لكنّها كانت حاضرة وبقوّة في فكر المرتضى ومدرسته الكلامية ، حيث اهتمّ بها في مختلف كتبه ورسائله ، لكنّنا حاولنا أن نكشف عنها ونبيّنها للباحثين ، عسى أن نكون قد وُفّقنا في الكشف عن بعض الزوايا المغفول عنها في فكره.

حقيقة الإيمان والكفر :

تنوّعت النظريّات المطروحة حول حقيقة الإيمان والكفر ، فقد جعلهما الخوارج مرتبطين بالعمل ، فصار الإيمان والكفر اسمَين للطاعات والمعاصي ، 8.

ص: 39


1- مقالات الإسلاميّين ، ص278.

فمن يفعل الطاعات يكون مؤمناً ، ومن يرتكب المعاصي وبالتحديد الكبائر يكون كافراً(1).

ولم يختلف المعتزلة مع الخوارج في تعريف الإيمان ، حيث ربطوه بالعمل وفعل الطاعات ، وقد كان من المتوقّع أن يعرّفوا الكفر كذلك ، ويجعلوا للعمل دوراً فيه ، لكنّهم رأوا أنّ تعريف الكفر بذلك سوف يوقعهم في مطبّات ، فإنّ الكثير من المسلمين قد يرتكبون بعض المعاصي الصغيرة ، كما أنّ مَن يرتكب الكبائر لا يستحقّ اسم الكفر ، ولذلك عرّفوا الكفر بنتائجه ، فقالوا إنّه : (اسم لما استُحقّ به عقاب عظيم ، وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة)(2).

وقد أضاف المعتزلة قسماً ثالثاً غير الإيمان والكفر وهو الفسق ، حيث جعلوا للعمل أيضاً دوراً في تعريفه ، فقد وجدوا أنّ شريحة من المسلمين ممّن يرتكب الكبائر لا يستحقّون اسم المؤمن ؛ لارتكابهم الكبائر ، كما لا يستحقّون اسم الكافر ؛ لأنّ معصيتهم لم تصل إلى حدّ يجعلهم يستحقّون القتل أو المنع من التوارث والنكاح ، لذلك قالوا إنّ مرتكب الكبيرة يسمّى فاسقاً ، وهذا يعني ربط تعريف الفسق بالعمل أيضاً(3).

أمّا الإماميّة فذهب بعضهم إلى أنّ الإيمان هو الإقرار بالله وبرسوله 1.

ص: 40


1- مقالات الإسلاميّين ، ص86.
2- الذخيرة ، ص537.
3- شرح الأصول الخمسة ، ص471.

وبالإمام وبجميع ما جاء من عندهم ، ولتفصيل أقوالهم مجال آخر(1).

ولكن عندما وصلت النوبة إلى الشريف المرتضى(2) ، ذهب إلى تعريف الإيمان بأنّه (التصديق بالقلب) ، ولا اعتبار بما يجري على اللسان ، أي إنّه جعل الإيمان من سنخ المعرفة والعلم والتصديق بما يجب على المكلّف معرفته ، مثل معرفة الله تعالى ، وكلّ ما أوجب معرفته(3) ، وجعل الكفر في مقابله ، فعرّفه بأنّه (الجحود بالقلب) ، أي جحود ما أوجب الله تعالى معرفته ، وبذلك انقسم الناس حسب هذا التعريف إلى مؤمن وكافر.

وقد منح تعريف الإيمان والكفر بالتصديق والجحود للمرتضى مرونة في تسمية مرتكب الكبيرة ، فلو كان قد ربط الإيمان - بالعمل كما فعل المعتزلة - لاضطر إلى إخراج مرتكب الكبيرة من دائرة الإيمان الذي كان عندهم اسماً للطاعات ، لكنّه ربط تعريف الإيمان بالاعتقاد القلبي ، وبما أنّ ارتكابَ الكبيرة مرتبط بالعمل ، لذا صار من الممكن الحفاظ على صفة الإيمان لمرتكب الكبيرة ، مع إعطائه في نفس الوقت اسم الفاسق ، فمرتكب الكبيرة مؤمن قلباً واعتقاداً ، وفاسق فعلاً.

وقد قال الشيخ المفيد بهذا الصدد : «وأقول : إنّ مرتكبي الكبائر من أهل 6.

ص: 41


1- مقالات الإسلاميين ، ص53.
2- تقدّم أنّ آراء الشريف المرتضى قريبة جدّاً في هذا المجال من آراء الشيخ المفيد ، لكنّنا ركّزنا البحث هنا على المرتضى لأنّه مورد بحثنا ، ولوجود مادّة علميّة في كتبه حول هذا الموضوع أكثر غزارة من كتب المفيد.
3- الذخيرة ، ص536.

المعرفة والإقرار مؤمنون بإيمانهم بالله وبرسوله وبما جاء من عنده ، وفاسقون بما معهم من كبائر الآثام»(1).

وقد قال المرتضى : «إنّ الفاسق يجتمع استحقاقهما - وإن كانا متقابلين - له ، استحقاق الذم والمدح ، والتعظيم والاستخفاف ، بإيمانه وطاعته ، وفسقه ومعاصيه»(2).

لكن وفقاً للنظرة الاعتزاليّة كان مرتكب الكبيرة قد خرج من الإيمان ، فلا هو مؤمن ولا كافر ، بل هو واقع في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر ، وهي منزلة الفسق.

هذا كلّه بالنسبة إلى مرتكب الكبيرة بحسب النظرة الاعتزاليّة التي فرّقت بين الصغيرة والكبيرة ، وأمّا المرتضى فقد ركّز على أنّه لا فرق بين صغيرة وكبيرة ، فإنّ كلّ معصية لله تعالى تعدّ كبيرة ، وأمّا الاختلاف بالصغر والكبر يرجع إلى الإضافات والمقارنات ، فعندما نقارن معصيةً مع أُخرى ، تبدو إحداهما كبيرة بالنسبة إلى الأخرى ، وإلاّ فكلاهما كبيرة في حدِّ ذاتها ، ولذلك عرّف الشريف المرتضى الفسق بأنّه عبارة عن (كلّ معصية لله تعالى).

فشمل مصطلحُ الفسق عنده كلّ معصية ، سواء كانت كبيرة أم صغيرة(3) ، وهو مخالف لمصطلح المعتزلة الذي ميّز بين الصغيرة والكبيرة ،3.

ص: 42


1- أوائل المقالات ، ص84.
2- رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الرسّية الأولى) ، ج2 ، ص376 ؛ (جُمل العلم والعمل) ، ج3 ، ص18.
3- الذخيرة ، ص533.

وخاصّة في الآثار المترتّبة عليها كما سيأتي. وبهذا يكون تعريف اسم الفاسق عند الشريف المرتضى إنّه : (المرتكب للمعصية) ، لا المرتكب للكبيرة فقط كما كان يرى المعتزلة.

إنّ نظرة الشريف المرتضى لحقيقة الفسق فسحت المجال أمام الفاسق للحفاظ على اسم الإيمان إجمالاً ، وبذلك صار هناك أمل لنجاته ، بينما خروجه من دائرة الإيمان عند المعتزلة جعلته - كما سيأتي - خالداً في جهنّم ، ولا مجال لنجاته إذا هو خرج من الدنيا بلا توبة. كما أنّ جَعْل التصديق القلبي أساساً للإيمان سمح للمرتضى بإخراج المنافقين من دائرة الإيمان بكلّ سهولة ، فإنّ المنافق مهما أظهر من الإيمان القولي والفعلي ، فإنّه لا يكتسب عنوان المؤمن أبداً ما دام قلبه جاحداً للمعارف الحقّة(1).

ويمكن أن يُطرح إشكال على تعريف الكفر بأنّه الجحود القلبي ، وأنّه لا اعتبار باللّسان وحتّى الأفعال ، والإشكال هو أنّ هذا التعريف يعني أنّ مَن فعل بعض الأفعال الكُفرية - مثل السجود للشمس - لا يمكن عدُّه كافراً ؛ بسبب أنّ السجود فعل خارجي ، وليس جحوداً قلبياً ، والكفرُ في الحقيقة هو الجحود القلبي - حسب رأي الشريف المرتضى - لا السجود.

أجاب الشريف المرتضى على هذا الإشكال من دون أن يضطرّ إلى التنازل عن تعريفه للكفر بالقول : لا شبهة في وصف مَن سجد للشمس بأنّه كافر ، لكن هذا لا يعني أنّ نفس السجود للشمس كفرٌ ، بل لأنّ هناك إجماعاً 1.

ص: 43


1- الذخيرة ، ص 541.

من قبل المسلمين على تكفير مَن يسجد للشمس ، فنجعل هذا الإجماع دليلاً على أنّ الساجد للشمس جاحد ومكذّب في قلبه ، وأنّه لا إيمان ولا تصديق له في قلبه ، لأنّه لو لم يكن كذلك لمَا حصل إجماع على كفره ، فيكون السجود دليلاً على الجحود والكفر القلبي.

وقد استدلّ الشريف المرتضى على رؤيته إلى حقيقة الإيمان والكفر بعدّة أدلّة ، نذكر بعضها باختصار :

أوّلا : إنّ الإيمان في اللغة بمعنى التصديق(1) ، وليس اسماً لأفعال الجوارح ، ولذلك يقال : (فلان يؤمن بالمعاد) أي يصدّق به ، و (فلان لا يؤمن بكذا) ، أي لا يصدّق به(2).

ثانياً : لو كانت الطاعات كلّها إيماناً ، لم يكن لأحد من البشر - حتّى الأنبياء عليه السلام - كامل الإيمان ؛ لأنّهم لم يستكملوا جميع الطاعات. ولو كان الواجب من الطاعات هو الإيمان ، لوجب أن يكون مَن فعل الصغائر من الأنبياء عليه السلام - على قول مَن يجوّزها عليهم - غير كامل الإيمان ؛ لأنّه قد أخلّ بفرض.

ثالثاً : قوله تعالى : (الّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيْمانَهُمْ بِظُلْم)(3) ، فهذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ المعاصي والظلم لا تتنافى مع الإيمان. وقوله 2.

ص: 44


1- معجم مقاييس اللغة ، ج1 ، ص133 ؛ لسان العرب ، ج13 ، ص21.
2- الذخيرة ، ص538.
3- الأنعام ، الآية 82.

تعالى : (وَالّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِمْ مِن شَيء حَتّى يُهَاجِرُوا)(1) ، فقد دلّت هذه الآية على أنّهم مؤمنون وإن لم يهاجروا(2).

أحكام أصحاب الأسماء :

تعرّض المتكلّمون عامّة ومنهم الشريف المرتضى إلى البحث عن مصير وحُكم أصحاب الأسماء المتقدّمة ، أي اسم : المؤمن ، والكافر ، والفاسق ، فما هو مصيرهم ، وهل ينتهون إلى النعيم الباقي ، أو العقاب الدائم ، أو يُعفى عنهم؟ وغير ذلك من تساؤلات نستعرضها في ما يلي بشيء من الاختصار :

أوّلاً : حكم المؤمن

رأى المعتزلة أنّ المؤمن يستحقّ لأجل إيمانه المدح والتعظيم والموالاة(3) ، ولو كان مرتكباً لبعض المعاصي الصغيرة - لا الكبيرة ، لأنّ ارتكاب الكبائر يخرجه من الإيمان كما تقدّم ، فالمؤمن عندهم لا يرتكب من الذنوب إلاّ الصغائر - فيمكن أن تسقط بواسطة الطاعات التي عملها ، فلو كانت طاعاته أكثر من معاصيه فسوف يزول أثر المعاصي بواسطة تلك الطاعات(4). 4.

ص: 45


1- الأنفال ، الآية 72.
2- الذخيرة ، ص543.
3- شرح الأصول الخمسة ، ص 474.
4- شرح الأُصول الخمسة ، ص434.

وذهب الشريف المرتضى على أنّ المؤمن يستحقّ الثواب الدائم الأبدي ، واستدلّ على ذلك بالإجماع(1) ، والذي يظهر منه أنّه إجماع الأمّة ، وهو يعني أنّ المعتزلة يشتركون معه في ذلك.

وأمّا رأيه في الصغائر والكبائر - وقد تقدّم أنّ ارتكاب الكبائر عنده لا يُخرج المؤمن من الإيمان - فقد ذهب إلى أنّها يمكن أن تزول بعفو مَن بيده العفو ، وهو الله تعالى. وأمّا فكرة زوال أثر المعاصي بواسطة الطاعات فهو أمر مرفوض عنده كما سوف يأتي خلال البحث إن شاء الله تعالى.

الموافاة على الإيمان :

ذكر الشريف المرتضى عند حديثه عن الإيمان والمؤمن شرطاً للإيمان ، وهو شرط : (الموافاة على الإيمان).

ولتوضيح هذا الشرط ينبغي الإشارة إلى أساسه الذي ابتنى عليه ، فقد وجد المرتضى أنّ هناك إجماعاً على أنّ الإيمان يُستحقّ عليه الثواب الدائم الأبدي ، كما أنّ هناك إجماعاً آخر على أنّ الموت على الكفر يُستحقّ به العقاب الدائم الأبدي ، وعلى هذا إذا كفر المؤمن بعد إيمانه ومات على الكفر صار مستحقّاً للثواب والعقاب الدائميَّين الأبديَّين!!

لكنّ هناك إجماعاً ثالثاً دلّ على أنّ الإنسان لا يستحقّ الثواب والعقاب 1.

ص: 46


1- الذخيرة ، ص521.

بصورة دائميّة وأبديّة(1) ، فكيف يمكن الجمع بين هذه الإجماعات الثلاثة المتعارضة ظاهراً؟

لأجل حلّ هذه الإشكالية صرّح المرتضى بأنّ من صار مؤمناً ؛ فإنّه لا يكفر أبداً ؛ وذلك لكي لا يجتمع عليه الثواب والعقاب الدائميان ، فهو يستحقّ لإيمانه الثواب الدائم فقط(2).

وأمّا من كان مؤمناً بحسب الظاهر ، ثمّ كفر في نهاية حياته ومات على الكفر ؛ فهو في الحقيقة لم يجتمع فيه الإيمان والكفر ، وإنّما نعلم مِن ختم حياته بالكفر أنّه ما كان مؤمناً حقّاً منذ البداية ، بل كان منافقاً يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر ، أي أنّه ما كان مؤمناً ثمّ كفر ، بل كان كافراً منذ البداية ؛ لأنّه تقدّم أنّه لو كان مؤمناً ثمّ كفر لاستحقّ الثواب والعقاب الدائميّين الأبديّين ، وهو خلاف الإجماع ، وهذا يعني أنّه ما كان مؤمناً حقّاً ، وإنّما كان يتظاهر بالإيمان ، وهو ما يسمّى ب- : النفاق ، فهو يستحقّ لكفره العقاب الدائم الأبدي فقط.

ولإكمال فكرة (الموافاة على الإيمان) التي أردنا توضيحها ، نقول : بما أنّ الإيمان حالة باطنية (تصديق قلبي) كما تقدّم ، فلا يمكن التعرّف على المؤمن من ظاهره ؛ لأنّه قد يكون منافقاً كما تقدّم ، فما هو السبيل لمعرفة 2.

ص: 47


1- المصدر السابق ؛ وانظر : رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص148 ؛ (جوابات المسائل الرازيّة) ، ج1 ، ص131.
2- الذخيرة ، ص302.

المؤمن؟

أجاب الشريف المرتضى على هذا التساؤل من خلال جعل شرط للايمان ، وهذا الشرط هو (الموافاة على الإيمان).

ومعناه : أنّ مَن يسمّى مؤمناً يجب أنْ يبقى على ظاهر الإيمان إلى آخر لحظة من حياته ، ولا يُنهي حياته بالكفر الصريح ، كالخروج على إمام الزمان الشرعي ، أو إنكار إمامة أحد الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام ، أو غير ذلك ، فإنّه لو أنهى حياته بمثل هذا النوع من الكفر ، لعلمنا أنّه لم يكن مؤمناً منذ البداية ، بل كان منافقاً ، بينما إذا وافى على الإيمان ، أي وصل إلى آخر محطّة من حياته وهو مؤمن ، فحينئذ نعلم أنّه كان مؤمناً حقاً(1).

قال الشريف المرتضى : «والصحيح - وهو مذهب أصحاب الموافاة منّا - أنّ من علمنا موته على كفره ، قطعنا على أنّه لم يؤمن بالله طرفة عين ، ولا أطاعه في شيء من الأفعال ، ولم يعرف الله تعالى ولا عرف رسوله (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ الذي يُظهره مِن المعارف أو الطاعات مَن علمنا موته على الكفر إنّما هو نفاقٌ وإظهارٌ لما في الباطن بخلافه»(2).

وفي الحقيقة ليست الموافاة شرطاً للإيمان ، وإنّما هي دليل على الإيمان ، فهي تكشف لنا عن الإيمان ، وتميّز المؤمن من غير المؤمن(3). 2.

ص: 48


1- الذخيرة ، ص521 - 522.
2- رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطرابلسيّات الثانية) ، ج1 ، ص336.
3- الذخيرة ، ص522.

وبعبارة علمية : «الموافاة دليل إثباتي على الإيمان ، وليست شرطاً ثبوتيّاً له».

إنّ فكرة (الموافاة) سمحت للمرتضى ولغيره من الإمامية ممّن آمنوا بها أن يعتبروا مَن أظهر الإيمان في البداية من أمثال معاوية ، ثمّ قام بحرب أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يُظهر التوبة من ذلك إلى آخر حياته ، أن يعتبروه أنّه ما كان مؤمناً منذ البداية بل كان منافقاً ، فقد قال المرتضى بهذا الصدد : «قتالُ أمير المؤمنين عليه السلام بغيٌ وكفرٌ ، جار مجرى قتال النبيّ (صلى الله عليه وآله) ... فمن حاربه عليه السلام ومات من غير توبة ، قطعنا على أنّه ما كان في وقت من الأوقات مؤمناً ، وإنْ أظهر الإيمان»(1).

كما سمحت فكرة الموافاة للمؤمنين بها أن يجيبوا بكل سهولة على الاستدلال على إيمان بعض السابقين إلى الإسلام بآيات مثل قوله تعالى :

(وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(2).

فإنّ مثل هذه الآيات إنّما تدلّ على استحقاق السابقين للجنّة ، لكن بشرط موافاتهم على الإيمان ، أمّا إذا اختلّ هذا الشرط وقاموا في فترات متأخّرة من حياتهم بارتكاب أفعال تخالف الإيمان ، فإنّهم سوف لن يكونوا مشمولين بالآية ، وبذلك سوف لن يستحقّوا الجنّة. 0.

ص: 49


1- رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الميَّافارقيّات) ، ج1 ، ص283.
2- التوبة ، الآية 100.

قال الشيخ المفيد عند تعليقه على الاستدلال بالآية الآنفة الذكر : «إنّ الله سبحانه لا يَعِدُ أحدا بالثواب إلاّ على شرط الإخلاص والموافاة ... وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، فالحاجة ماسّة إلى ثبوت أفعالِ مَن ذكرتَ في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهراً على وجه الإخلاص ، ثمّ الموافاة بها على ما ذكرناه ، حتّى يتحقّق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم ، وهذا لم يقم عليه دليل»(1).

ثانياً : حكم الكافر :

اتّفق المعتزلة والإماميّة على أنّ الكافر يستحقّ العقاب الدائم الأبدي ، وقد تقدّم أنّ الشريف المرتضى استدلّ على ذلك بالاجماع ، فلا خلاف إذن في ذلك.

ومن الأفضل هنا البحث عن تحديد بعض مصاديق الكفر من وجهة نظر الشريف المرتضى ، وذلك كما يلي :

1 - من مصاديق الكفر عند الشريف المرتضى التقليد ، فقد ذهب رحمه الله إلى كفر المقلّد في أُصول الدين ، والسبب في ذلك يعود إلى أنّه كان يَعتبر المقلّد مكلّفاً بالمعرفة ، وقادراً على تحصيلها ؛ لامتلاكه العلوم اللازمة لذلك ، فإن أهمل تحصيلها صار كافراً.

نعم ، إذا كان فاقداً للقدرة على تحصيل المعرفة بسبب عدم امتلاكه 8.

ص: 50


1- الإفصاح ، ص77 - 78.

للعلوم اللازمة لتحصيلها لم يكن مكلّفاً ، فيكون كالصغار والمجانين ، بل كالأنعام في عدم التكليف.

قال الشريف المرتضى : «إنّ مَن لا يقدر على تمييز الحقّ من الباطل في فروع الدين ، لا يقدر على مثل ذلك في أصوله ، ومَن هذه صفته فهو عامّي في الأصول والفروع ، ولا يجب عليه شيء من النظر والبحث ، وكما لا يجبان عليه فلا يجب عليه التقليد في الفروع ، كما لا يجب عليه مثل ذلك في الأُصول ، وهذا جار مجرى البهائم والأطفال الخارجين عن التكليف ، فلا حرام عليهم ولا حلال لهم»(1).

2 - ومن مصاديق الكفر لدى المرتضى الجهلُ بالأصول ، فإنّ الجهل بالله تعالى والنبوّة وغير ذلك من أصول الدين يعتبر كفراً من وجهة نظره ، وذلك لأنّ لأصول الدين أدلّة قاطعة وواضحة ، وإنّ التوصّل إلى العلم واليقين فيها أمرٌ ممكن ، فلا يبقى هناك مجال للظنّ أو عدم العلم في ذلك ، بل لابدّ من تحصيل العلم واليقين فيها(2).

3 - كما أنّ من مصاديق الكفر عند المرتضى هو محاربة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام(3) ، وجحد النص عليه(4) ، وإنّ مَن فعل ذلك ومات من غير توبة ، علمنا أنّه ما كان مؤمناً في حياته قط ، وذلك وفقاً لمبدأ الموافاة الذي 6.

ص: 51


1- رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل التبانيّات) ، ج1 ، ص43.
2- المصدر السابق (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص154.
3- المصدر السابق (جوابات المسائل المَيّافارِقِيّات) ، ج1 ، ص283.
4- المصدر السابق (جوابات المسائل الطرابلسيّات الثانية) ، ج1 ، ص336.

تقدّم الحديث عنه(1).

ثمّ إنّ الشريف المرتضى قد ركّز على نقطة مهمّة من وجهة نظره ، وهي نفي المعرفة عن الكفّار ، فقد ذهب إلى أنّ الكفّار غير عارفين بالله تعالى ؛ وذلك لأنّ المعرفة إيمانٌ ، ويُستحَقّ عليها الثواب الدائم ، بينما الكفر يُستحَقّ عليه العقاب الدائم ، ولا يمكن اجتماع الثواب والعقاب الدائميّين كما تقدّم ، أي إنّ المنكرين للنبوّة مثلاً لا يمكن أن يكونوا عارفين بالله تعالى ؛ لأنّ إنكار النبوّة كفر ، ومعرفة الله إيمان.

ولهذا لا يصحّ أن يقال : إنّ هؤلاء الكفّار ينظرون في أدلّة إثبات وجوده تعالى كما ننظر فيها نحن ، فتحصل عندهم المعرفة به تعالى ؛ لا يقال هذا ؛ لأنّنا لا نعلم يقيناً أنّهم ينظرون في أدلّتنا ، ولو فرضنا أنّهم نظروا فيها ، فلا نعلم أنّه قد توفّرت عندهم جميع الشروط لتحقّق المعرفة ؛ إذ لعلّ بعض الشروط اللاّزمة لتحقّق المعرفة غير موجودة عندهم ، ولو سملّنا بحصول المعرفة لبعض الكفّار ، لكنّهم سوف لن يستحقّوا الثواب على هذه المعرفة ؛ لأنّ الثواب إنّما يُستحَقّ إذا فُعل الفعل لوجه وجوبه ، لا لوجه آخر كالرياء والسمعة(2).

وقريبٌ من هذا الكلام قولُ الشيخ المفيد : «لا طاعة من كافر ؛ لأنّه لا 1.

ص: 52


1- انظر مصادر الهامشيَن السابقين.
2- المصدر السابق (جوابات المسائل الرسّية الأولى والثانية) ، ج2 ، ص328 - 329 ، 391.

يعرف ربّه ، وإذا لم يعرفه لم تصحّ منه طاعة ؛ إذ الفعل إنّما يكون طاعة بقصد الفاعل به إلى المُطاع ، وإذا كان جاهلاً بالمُطاع لم يصحّ منه توجيه الفعل إليه»(1).

ويبدو أنّ كلّ هذا الكلام لا يشمل المستضعفين ، والذين لا بصيرة لهم في الدين ، فإنّ هؤلاء لا يحكم عليهم بالكفر(2).

ثالثا : حكم الفاسق :

ذهب المعتزلة إلى أنّ الفاسق المرتكب للكبيرة خالد في نار جهنّم(3) ، واختلف الشريف المرتضى معهم حول هذا الموضوع ، فذهب إلى انقطاع عذابه ، ومصيره إلى الجنّة كما سيأتي بعد قليل.

لقد صار هذا البحث مثاراً لجدل طويل وعريض بين المتكلّمين ، وقد أثاره المعتزلة في البداية ، ثمّ دخل في أروقة البحث الكلامي ، وركّز المعتزلة بحوثهم على دوام عقاب مرتكب الكبيرة ، فذهبوا إلى أنّ مرتكب الكبيرة خالد في جهنّم لا محالة ، وذلك فيما لو مات من دون توبة ، وأمّا البحث عن دوام الثواب فيبدو أنّهم بحثوا عنه استطراداً. 0.

ص: 53


1- الفصول المختارة ، ص66.
2- رسائل الشريف المرتضى (مسألة في امتناع علي عليه السلام عن محاربة الغاصبين لحقّه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)) ، ج3 ، ص320.
3- شرح الأصول الخمسة ، ص449 - 450.

وفي ما يلي بحثٌ عن كلا المسألتين :

1 - دوام العقاب : ميّز المرتضى بين عقاب الكفر وعقاب باقي المعاصي ، أي : أنّه ميّز بين عقاب الكفر وعقاب الفسق ، فقد تقدّم أنّه عرّف الفسق بأنّه ارتكاب المعاصي ، فذهب إلى أنّ عقاب الكفر دائميّ ؛ وذلك لإجماع الأمّة ، أمّا عقاب سائر المعاصي - عقاب الفسق - سواء الكبائر والصغائر فلا دليل عقليّ على دوام عقاب مرتكبها وخلوده في جهنّم ، فلابدّ من الرجوع إلى السمع ، وإذا رجعنا إلى السمع وجدناه يدلّ على أنّ عقاب المعاصي غير الكفر منقطع وجوبا ، وذلك بشرط أن يرافقه الإيمان(1).

ويؤيّد ذلك بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، مثل ما رواه إبراهيم بن العبّاس ، قال : كنّا في مجلس الرضا عليه السلام ، فتذاكروا الكبائر وقول المعتزلة فيها : إنّها لا تغفر.

فقال الرضا عليه السلام : «قال أبو عبد الله عليه السلام : قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة ، قال الله عزّ وجلّ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة لِلنّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)»(2).

وروى محمّد بن أبي عمير ، قال : سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول : «لا يخلّد الله في النار إلاّ أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك ، ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يُسئل عن الصغائر ، قال الله تبارك وتعالى : 6.

ص: 54


1- الذخيرة ، ص300.
2- التوحيد للصدوق ، ص395 ، والآية من سورة الرعد ، الآية 6.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلَكُمْ مُدْخَلا كَرِيْماً)»(1).

أمّا المعتزلة فقد تحدّثوا عن دوام عقاب مرتكبي المعاصي كلّها ، وإن لم تكن كفراً(2) ، سوى أنّهم ركّزوا على مرتكبي الكبائر (وهم الفسّاق حسب تعريفهم) ؛ باعتبار أنّهم ذهبوا إلى أنّ الصغائر يمكن أن يزول أثرها إذا كان في مقابلها طاعات أكثر منها أو تساويها ، كما سيأتي إن شاء الله.

إذن فقد ركّز المعتزلة بحثهم على الكبائر ، وقالوا بخلود مرتكب الكبيرة (الفاسق) في جهنّم ، بينما رفض الشريف المرتضى ذلك ، وذهب إلى وجوب انقطاع عذاب الفاسق ؛ فإنّ الفاسق - وفقاً لما تقدّم من بيان لنظرية المرتضى - مؤمن في عقيدته ، فاسق في أفعاله ، فهو بإيمانه يستحقّ الثواب الدائم إجماعاً.

فلا يمكن أن يستحقّ في نفس الوقت العقاب الدائم لفسقه ، وإلاّ اجتمع عليه الثواب والعقاب الدائميّان ، وقد تقدّم وجود إجماع على عدم اجتماعهما ، إذن لابدّ أن يكون عقابه منقطعاً. وهذا كلّه مستفاد مما تقدّم من آراء المرتضى.

2 - دوام الثواب : رأى الشريف المرتضى أنّه لا دلالة في العقل على 0.

ص: 55


1- التوحيد للصدوق ، ص396 ، والآية من سورة النساء ، الآية 31.
2- الذخيرة ، ص300.

دوام الثواب على فعل الطاعات ، بل المرجع في ذلك إلى الإجماع والسمع ؛ فإنّ الإجماع قد دلّ على دوام ثواب الطاعة ، فهو قد اتّفق مع بعض المتكلّمين على دوام ثواب الطاعة ، سوى أنّه اختلف معهم في دليل ذلك ، وهل هو العقل ، أو السمع والإجماع؟(1)

وقد ناقش الشريف المرتضى الأدلّة العقليّة التي أُقيمت لإثبات دوام الثواب ، والتي منها : إنّ الوجه في استحقاق المدح والثواب واحد ، كما أنّ وجه استحقاق الذمّ والعقاب واحد ، فإذا كان المدح والذمّ دائميّين ، صار الثواب والعقاب دائميّين أيضاً.

وناقش المرتضى هذا الاستدلال من خلال التشكيك في الصغرى حيث قال : «غير مسلّمٌ لكم أنّ وجه استحقاق المدح والذمّ هو وجه استحقاق الثواب والعقاب، وكيف يصحّ ذلك والقديم تعالى يستحقّ المدح على فعل الواجب ولا يستحقّ الثواب، ولو فعل القبيح - تعالى عن ذلك - لا يستحقّ الذمّ دون العقاب»(2).

وقد تقدّم أنّ القول بدوام الثواب هو أحد الأمور التي دعت الشريف المرتضى إلى تبنّي نظرية الموافاة(3). 1.

ص: 56


1- الذخيرة ، ص280 - 281 ؛ رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص148.
2- الذخيرة ، ص281.
3- المصدر السابق ، ص521.

مُسقطات الثواب والعقاب :

استمرّ البحث حول أحكام الفاسق المرتكب للمعاصي - حسب تعريف المرتضى للفاسق والفسق - ، أو المرتكب للكبيرة - حسب تعريف المعتزلة - ، فكانت أحد الأبحاث المهمّة التي تطرّق اليها المتكلّمون في هذا المجال هي كيفية سقوط العقاب عنه.

ومن الواضح أنّ البحث عن سقوط العقاب عن الفاسق يشمل - وفقاً لرأي المرتضى - سقوطه في الدنيا والآخرة ، أي يمكن الحديث عن سقوط العقاب عنه في الدنيا لأمور يفعلها فيها كالتوبة ، كما يمكن الحديث عن ذلك في الآخرة لأمور تحصل له فيها كالشفاعة ، إلاّ أنّ بحث سقوط العقاب يختصّ حسب رأي المعتزلة بحالة الدنيا فقط ؛ وذلك لأنّهم حكموا بخلود الفاسق في النار إذا مات من دون توبة ، وهذا يعني عدم إمكان سقوط العقاب عنه في الآخرة بأيّ حال من الأحوال.

ومهما يكن من أمر ، فقد استعرض المتكلّمون مجموعة من الأمور المسقطة للعقاب ، ولكن قبل التعرّض لها ينبغي الإشارة إلى مسقطات الثواب ؛ لوجود ارتباط وثيق بين البحثين ، وذلك كما يلي :

1 - مُسقطات الثواب :

رفض الشريف المرتضى - ناسباً ذلك إلى الإماميّة - أن يَسقط الثواب

ص: 57

بشيء من الأشياء ، فإنّ الثواب عنده إذا ثبت لا يزيله شيء(1). وقد تقدّم قبل قليل أنّ الإجماع قد دلّ على دوام ثواب الطاعة.

أمّا المعتزلة فذهبوا إلى إمكان زوال الثواب إمّا من خلال الندم على الطاعة ، وإمّا من خلال التحابط ، والذي يعني أنّ المعاصي قد تصل إلى حدّ بحيث تُبطِل وتُحبِط الطاعات ، وخاصّة إذا كانت تلك المعاصي من الكبائر ، فإنّها تُحبِط ثواب الطاعات ، فالتحابط هو إبطال المعصية للطاعة ، أو إبطال عقاب المعصية لثواب الطاعة(2).

وقد وقف الشريف المرتضى في وجه نظرية التحابط وناقشها بعدة مناقشات :

منها : أنّه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ، ولا بين الثواب والعقاب ؛ لأنّه يمكن أن يكون المكلّف مؤمناً بقلبه - وهذه طاعة - وعاصياً بجوارحه في نفس الوقت ، ولا تنافي بين الأمرين. وأمّا المستحَقّ على الطاعة والمعصية من الثواب والعقاب فلا تنافي بينهما أيضاً ؛ لأنّ المستحَقّ من الثواب والعقاب أمر معدوم ، فإنّهما إنّما يوجدان بعد الموت ، وذلك في الجنّة أو النار ، أمّا الآن فالثواب والعقاب معدومان ، ولا تضادّ بينهما(3).

ومنها : أنّه بناءً على التحابط سيكون مَن جمع بين إحسان وإساءة 3.

ص: 58


1- الذخيرة ، ص302.
2- شرح الأصول الخمسة ، ص422 ؛ المنقذ من التقليد ، ج2 ، ص42.
3- شرح جُمَل العلم والعمل ، ص147 ؛ الذخيرة ، 303.

متساويين كمَن لم يُحسِن ولم يُسِئ ، وإذا كان المستحَقّ على إساءته هو الزائد ، لكان كمن لم يحسن ، كما لو كان المستحَقّ على إحسانه هو الزائد ، لكان كمن لم يسئ ، ومن الواضح أنّ كلّ هذا مخالف للضرورة والبداهة(1).

وقد ناقش الشريف المرتضى الأدلّة التي أقامها المعتزلة لإثبات التحابط ، كما قام بتأويل الآيات القرآنية التي دلّت بظاهرها على التحابط(2).

2 - مُسقطات العقاب :

ذهب الشريف المرتضى إلى أنّ العقاب لا يزيله شيء إلاّ عفو مالكه عنه ، فالذي يملك العفو هو الوحيد الذي يستطيع أن يزيل العقاب ، ولا توجد طريقة أخرى لإزالة العقاب ، لأنّه لا يوجد وجه آخر يقتضي زوال العقاب ، وقد نسب المرتضى ذلك إلى الإمامية(3).

ولكن من جهة أخرى سوف يأتي أنّ الشريف المرتضى كان يرى إمكان زوال العقاب بأمور أخرى ، مثل التوبة والشفاعة ، فكيف يمكن الجمع بين عدم زوال العقاب بشيء إلاّ عفو صاحبه عنه ، وبين إمكان زواله بأمور أخرى غير ذلك؟

للإجابة على ذلك يمكن أن يقال : إنّ عفو مَن بيده العفو يمكن أن 2.

ص: 59


1- الذخيرة ، ص303.
2- المصدر السابق ، ص303 - 316.
3- المصدر السابق ، ص302.

يحصل من خلال التوبة أو الشفاعة ، لكن لا وجوباً ، فهذه الأمور لا توجب العفو على مَن بيده العفو ، وإنّما هي عامل مساعد عليه.

وعلى أيّ حال ، فإنّ المرتضى ذهب إلى أنّ الطريق الوحيد لزوال العقاب هو : عفو مَن بيده العفو.

أمّا المعتزلة ؛ فقالوا : إنّ العقاب يزول بالتفضّل ، كما يزول بالندم - وهو التوبة - لكن على نحو الوجوب. كما أنّ عقاب المعاصي الصغيرة يزول إذا زاد ثواب الطاعات على عقاب المعصية ، وهو الذي يسمّى : (التكفير) ، وهو عكس (التحابط) ، والذي يعني زوال الثواب بالعقاب(1).

أمّا الشفاعة فسوف يأتي أنّها عندهم غير مسقطة للعقاب ، وإنّما هي رافعة للدرجات(2) ، فلا تدخل من وجهة نظرهم في ضمن مسقطات العقاب.

إذن إنّ أهم مسقطات العقاب من وجهة نظر المرتضى والمعتزلة هي (العفو ، والتوبة ، والشفاعة ، والتكفير).

وفي ما يلي نتعرّض إلى بحث أهمّ المسقطات للعقاب وهي التوبة والشفاعة ، ونبيّن الخلاف حول حقيقتهما بين الشريف المرتضى والمعتزلة.

أمّا التكفير : فقد تقدّم الحديث عنه عند الكلام عن التحابط ؛ لأنّ التكفير والتحابط متعاكسان ومتقابلان ، وإنّ روحهما واحدة ، فلا حاجة إلى 5.

ص: 60


1- المنقذ من التقليد ، ج2 ، ص42.
2- شرح الأصول الخمسة ، ص463 - 465.

إعادة الكلام. كما تقدّم الكلام قبل قليل عن العفو.

حقيقة التوبة :

ذهب الشريف المرتضى إلى أنّ التوبة - والتي تعني الندم على الفعل القبيح ، والعزم على أنّ لا يعود الفاعل إلى فعله القبيح(1) - لا تزيل العقاب على نحو الوجوب ، وإنّما تزيله من باب التفضّل من الله تعالى ؛ وذلك لدلالة الإجماع والسمع(2) ، أي أنّه عند التوبة لا يجب زوال العقاب ، وإنّما يتفضّل الله تعالى بإزالته.

وهذا الكلام يتلائم مع ما تقدّم من أنّ التوبة ليست من مسقطات العقاب عند المرتضى ، وإنّما المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو ، وهو الله تعالى في محلّ كلامنا.

وبذلك يختلف الشريف المرتضى مع المعتزلة مرّة أخرى ، حيث ذهبوا إلى أنّ التوبة تُسقِط العقاب وتحبطه على نحو الوجوب ، فتكون من وجهة نظرهم من مسقطات العقاب.

وقد رفض الشريف المرتضى أن تكون التوبة مسقطة للعقاب بنفس الطريقة التي رفض بها التحابط ، فقال : إنّه لا تنافي ولا تضادّ بين التوبة في نفسها وبين العقاب ، فكيف تبطل ما لا تنافيه ولا تضادّه؟! ق.

ص: 61


1- الذخيرة ، ص320.
2- المصدر السابق.

إضافةً إلى أنّ العقاب المُستحَقّ أمر معدوم ، والتوبة موجودة ، والموجود لا يبطل المعدوم(1). وهذه نفس الطريقة التي أبطل بها التحابط كما تقدّم.

واستدلّ المعتزلة على أنّ التوبة تزيل العقاب وجوباً بأدلّة ناقشها المرتضى كلّها ورفضها ، منها : إنّ التوبة إذا لم ترفع العقاب وجوباً ، لأدّى ذلك إلى قبح تكليف الفاسق بعد فسقه ؛ لأنّ التكليف إنّما يحسن تعريضاً للثواب ، والفاسق إذا استحق العقاب فإنّه لا يجوز أن يستحقّ الثواب ، فينبغي على ذلك أن تكون له طريقة للتخلّص من العقاب لكي ينتفع بما عُرِّض له من الثواب على الطاعة ، ولا طريق سوى التوبة ، فلابدّ أن تُسقِط العقابَ وجوباً(2).

من الواضح أنّ هذا الدليل ناشي من تشبُّع روح المعتزلة بفكرة التحابط والتنافي بين الثواب والعقاب ، بحيث إذا استحقّ الإنسان العقاب بسبب فسقه ، فإنّ هذا العقاب سوف لن يفسح المجال لأيّ ثواب ، وذلك بسبب التعارض والتنافي بينهما ، فلابدّ أوّلا من زوال العقاب من خلال التوبة ، حتّى يُفسَح المجال أمام استحقاق الثواب.

ولهذا رفض الشريف المرتضى هذا الاستدلال من خلال مناقشة الصغرى ، فإنّه مَن قال إنّ الفاسق المُستحِقّ للعقاب لا يمكنه أن يحصل على 7.

ص: 62


1- الذخيرة ، ص316 - 317.
2- المغني (التوبة) ، ج14 ، ص340 ؛ الذخيرة ، ص317.

شيء من الثواب؟ إنّ هذا أوّل الكلام ، وهو محلّ النزاع ؛ فإنّ المرتضى يرى أنّه لا يستحيل اجتماع استحقاق الثواب والعقاب معاً وفي آن واحد ، كما تقدّم عند البحث عن إبطال التحابط(1).

حقيقة الشفاعة :

اختلف الشريف المرتضى مع المعتزلة أيضاً حول حقيقة الشفاعة ، فالشفاعة عنده تعني إسقاط العقاب عن مُستحِقّه ، ولكن هذا الإسقاط - كما تقدّم في التوبة - ليس واجباً على الله تعالى ، بل هو تفضّل منه(2). وبذلك يتّضح ما تقدّم من أنّ المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو ، أمّا التوبة والشفاعة فليستا إلاّ شروطاً أو مقدّمات للعفو والتفضّل بإسقاط العقاب.

أمّا المعتزلة فلم يعرّفوا الشفاعة بذلك أي إسقاط العقاب ، وذلك لأنّهم قسّموا المعاصي إلى كبائر وصغائر ، أمّا الكبائر فعقابها لا يسقط برأيهم أبداً ، بل صاحبها مخلّد في النّار ، وأمّا المعاصي الصغيرة فيمكن أن يرتفع عقابها من خلال إحباطه وإزالته ، وبذلك لم تبقَ لهم حاجة بحسب الظاهر إلى تفسير الشفاعة بسقوط العقاب.

أمّا الشفاعة الواردة في الآيات والروايات ففسّروها بزيادة المنافع 0.

ص: 63


1- الذخيرة ، ص317.
2- المصدر السابق ، ص505 ؛رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص150.

والدرجات ، وذهبوا إلى أنّ الشفاعة ترفع من منزلة المشفوع له.

لكن أشكل الشريف المرتضى على هذا التعريف للشفاعة بأنّه يلزم منه أن نكون شفعاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا دعونا الله تعالى له بزيادة الدرجات ، ومن الواضح أنّه لا أحد يرضى بتسمية الأشخاص العاديّين شفعاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، لا لفظاً ولا معنىً(1).

واستدلّ الشريف المرتضى على تعريفه للشفاعة من خلال الحديث النبويّ المشهور : «ادخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي»(2) ، فإنّه دلّ على أنّ الشفاعة خاصّة بأهل المعاصي والعقاب ، وذلك لأجل إسقاط العقاب عنهم ، لا رفع منزلتهم(3).

نتيجة البحث

الإيمان عند المرتضى هو التصديق القلبي ، والكفر هو الجحود القلبي ، ولا عبرة باللفظ والفعل ، نعم قد تعتبر بعض الأفعال - مثل السجود للشمس - علامة على الكفر. وأمّا الفسق فهو ارتكاب المعاصي مطلقاً ، من دون تمييز بين الصغيرة والكبيرة. 1.

ص: 64


1- الذخيرة ، ص505 ؛ رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص150.
2- المعجم الأوسط ، ج6 ، ص106.
3- الذخيرة ، ص507 ؛ رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الطبريّة) ، ج1 ، ص151.

أمّا حكم المؤمن فهو الخلود في الجنّة ، وقد كان يرى المرتضى أنّ الثواب إذا ثبت فإنّه لا يزيله شي ، وإنّ المؤمن لا يمكن أن يكفر أبداً. وحكم الكافر الخلود في جهنّم. وأمّا حكم الفاسق فهو انقطاع عقابه - لو حصل - وجوباً ، وذلك لأنّ إيمانه يدعوه إلى الجنّة.

وأخيراً ذهب الشريف المرتضى إلى أنّ المُسقِط الوحيد للعقاب هو عفو مَن بيده العفو.

ص: 65

المصادر

1 - الإفصاح في الإمامة : الشيخ المفيد ، تحقيق : مؤسسة البعثة ، الناشر : دار المفيد - بيروت ، ط2 ، 1414 - 1993.

2 - الانحرافات الكبرى ، سعيد أيوب : الناشر : دار الهادي - بيروت ، ط1 ، 1412 - 1992.

3 - أوائل المقالات : الشيخ المفيد ، تحقيق : الشيخ إبراهيم الأنصاري ، الناشر : دار المفيد ، قم ، 1414 - 1993.

4 - التوحيد : الشيخ الصدوق ، تحقيق : هاشم الحسيني الطهراني ، الناشر : منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم.

5 - الذخيرة في علم الكلام : الشريف المرتضى ، تحقيق : السيد أحمد الحسيني ، الناشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم ، 1411.

6 - رسائل الشريف المرتضى : تقديم وإشراف : السيد أحمد الحسيني ، إعداد : السيد مهدي الرجائي ، دار القرآن الكريم ، قم ، ط1 ، 1405.

7 - شرح الأصول الخمسة : القاضي عبد الجبار ، تعليق : أحمد بن الحسين بن أبي هاشم ، عُني به : سمير مصطفى رباب ، الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت ، ط 1 ، 1422 - 2001.

8 - شرح جُمل العلم والعمل : الشريف المرتضى ، تحقيق : يعقوب الجعفري المراغي ، الناشر : دار الأسوة ، قم ، ط1 ، 1414.

ص: 66

9 - فِرَق تسنن (مجموعة بحوث بالفارسية) : اعداد : مهدي فرمانيان ، الناشر : نشر أديان ، قم ، ط1 ، 1386ش.

10 - الفصول المختارة من العيون والمحاسن : الشريف المرتضى ، الناشر : المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، ط1 ، 1413.

11 - الكامل في اللغة والأدب : أبو العباس المبرّد ، تحقيق : جُمعة حسن ، الناشر : دار المعرفة - بيروت ، ط1 ، 1425 - 2004.

12 - لسان العرب : محمّد بن مكرم ابن منظور الأنصاري ، الناشر : نشر أدب الحوزة ، قم ، 1405.

13 - معجم مقاييس اللغة : أبو الحسين أحمد ابن فارس ، ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، الناشر : مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، 1404ق.

14 - المعجم الأوسط : الحافظ الطبراني ، تحقيق : قسم التحقيق بدار الحرمين ، الناشر : دار الحرمين ، 1415 - 1995.

15 - المغني في أبواب التوحيد والعدل (التوبة) ، ج14 : القاضي عبد الجبّار الهمذاني ، راجعه : د. ابراهيم مدكور ، حقّقه : مصطفى السقا ، إشراف : د. طه حسين.

16 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين : أبو الحسن الأشعري ، ، عُني

بتصحيحه : هلموت ريتر ، الناشر : منشورات فرانز شتاينر - فيسبادن ، ط3 ، 1400 - 1980م.

17 - الملل والنحل : محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، تحقيق : محمد سيد كيلاني ، الناشر : دار المعرفة - بيروت.

18 - المنقذ من التقليد : الشيخ سديد الدين الحمّصي الرازي ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشرالإسلامي - قم ، ط1 ، 1414ق.

ص: 67

ملامح منهج الشريف المرتضى في التفسير (كتاب الأمالي أنموذجاً)

د. محمّد حسن محيي الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة :

شهدت بغداد في المئة الرابعة الهجريّة عصراً مجيداً من عصور تطوّرها ، فارتفعت فيها منارات العلم ، وكانت مدينة العلم ومثابة العلماء والأدباء والكتّاب ، وفي تلك الحقبة النادرة من تاريخ العلوم ، وفي ذلك العصر «الحالي بأزاهير الفنون والآداب ، وفي تلك الدولة التي قام في أكنافها العلماء والشعراء عاش الشريف المرتضى علي بن الحسين وأخوه الشريف الرضي محمّد بن الحسين ، واتخذا مكانهما بين ذوي المثالة ، وأعيان الشرف والفضيلة من الأعلام»(1).

ص: 68


1- الأمالي (غرر الفوائد ودرر القلائد) المقدمة : 1 / 4.

وقد أسماه والده (عليّاً) «ولعلّ ذلك تيمّناً باسم جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذ قد عرف بعد أن كبر بالمرتضى ، وهو لقبٌ للإمام عليّ بن أبي طالب من بين أئمّة أهل البيت عليهم السلام»(1).

وصف المعرّيُّ الأخوين في رثائه لأبيهما (ت400ه) بقصيدته التي مطلعها :

«أوْدَى فليْتَ الحادثات كفَافِ

مالُ المسيفِ وعنبرُ المستافِ

فقال:

أبقيتَ فينا كوكَبيْن سناهما

في الصبحِ والظلماءِ ليسَ بِخَافِ

متأنّقَيْن وفي المكارم أرتعا

متألّقَين بسؤدد وعفافِ

قدَرَينِ في الأرزاءِ بل مطريَنِ في ال-

-أجدَاءِ ، بل قمرَين في الإسدافِ

رُزِقَا العلاءَ فأهلُ نجْد كلَّمَا

نَطَقَا الفصاحةَ مثلَ أَهلِ ديافِ(2)

ساوى الرضىُّ المرتضى وتَقَاسَمَا

خططَ العُلا بتناصف وتصافِ»(3)

«أمّا أبوه فقد حلاّه المؤرّخون بألقاب كثيرة ، فهو الأجلّ الطاهر الأوحد ، ذو المناقب الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم عليه السلام سابع أئمّة الإمامية ، وأمّا أمّه فهي فاطمة بنت الحسن نقيب العلويّين في بغداد ابن أحمد بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر 5.

ص: 69


1- أدب المرتضى : 63.
2- دياف : موضع فيه نبط لا فصاحة لهم.
3- سقط الزند : 35.

الأشرف بن زين العابدين عليه السلام رابع أئمّة الإماميّة»(1).

كان مولد السيّد المرتضى ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمئة ، وقد ذهبت به أمّه مع أخيه الرضي إلى الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد وهما في سنّ الحداثة ، ويرى محقّق الأمالي أنّه كان «أعظم الشيوخ الذين تأدّب بهم وأفاد منهم»(2).

وقد روي عن تعليمهما «أنّ الشيخ المفيد رأى في حلمه أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين فأسلمتهما إليه وقالت : علّمهما الفقه ، فانتبه الشيخ عجباً ...»(3).

درس الأدب على ابن نباتة .. حتّى إذا بلغ السابعة والعشرين من عمره عُدَّ مرجعاً فقهيّاً وكلاميّاً ، وبدأ الإمامية وغيرهم يتوجّهون إليه بالكتب والرسائل في علمَي الفقه والكلام من مختلف البلاد المسلمة(4).

وفاته :

كانت وفاته سنة (436ه) «ودفن في مساء اليوم الذي توفّي فيه ، 9.

ص: 70


1- أدب المرتضى : 63 - 65 ، وينظر مصادر ترجمته فيه.
2- الأمالي ، المقدّمة : 1/6.
3- أدب المرتضى : 76 ، وانظر مصادره في ذلك وتعقيبه على الحلم الآخر في المصدر نفسه :68.
4- المصدر السابق : 69.

فانطوى بموته عَلَمٌ من أعلام القرن الخامس الهجري ببغداد»(1).

كتابه الأمالي :

عدّ محقّقُ أماليه من مؤلّفاته ما زاد على السبعين(2) ، بينها كتابه الموسوم غرر الفوائد ودرر القلائد الذي شاع إطلاق اسم الأمالي عليه ، وقد طبع بمجلّدين كبيرين وهو : «مجالس مختلفة ، أملاها في أزمان متعاقبة ، تنقّل فيها من موضوع إلى موضوع ، ومن غرض إلى غرض ، اختار بعض آي القرآن الكريم ، ممّا يغمّ تأويله على الخاصّة ، بَلْهَ العامة ، ويدور حولها السؤال ، ويثار الإشكال ، وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة(3) وأصحاب العدل(4) كما كان يسمّيهم ، وحاول جهده أن يوفّق بين تأويل الآيات المتشابهة وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة ، وفي هذا أبدى تفوّقاً عجيباً ، وأبان عن ذهن وقّاد ، وذكاء ملتهب ، وبصر نافذ ، وأعانه فيما فسّر وأوّل وفرةُ محفوظه من الشعر واللغة ، ومأثور ك.

ص: 71


1- المصدر السابق : 76.
2- الأمالي ، المقدّمة : 1/18.
3- كون السيّد المرتضى على طريقة المعتزلة ، مسألة أثارت كثيراً من تباين الرأي ، وكانت من الملاحظ التي وردت على كتاب د. عبد الرزاق محيي الدين (أدب المرتضى) وبعضها نشر ، وبعضها مخطوط بأقلام أصحابه لدىّ من بعضه نسخ مصوّرة لا أجد أنّ البحث يتّسع لإيرادها هنا.
4- وفي هذا ما يرد على القائل : أنّ المرتضى من أصحاب المعتزلة، فليس المعتزلة وحدهم من القائلين بالعدل، فقد سبقهم الإمامية إلى القول بذلك.

الكلام»(1).

وقد ضمّت الأمالي إلى جانب التفسير علوماً أُخر من قبيل اللغة والشعر ، والنقد الأدبي ، زيادة على ما فيها من الأخبار النادرة والطرائف المستملحة في عرض شائق وأسلوب متين ينبئ عن مقدرة الرجل وحسن تأتّيه ، وأبرز ما تكشف عنه تلك الأخبار قدرته على التحرّي والتدقيق ، والإطلاع الواسع ، الذي ينمّ عن ثقافة موسوعيّة واضحة ، ونفس تأبى التعصّب ، ليّن من لهجتها صلات متشعّبة ، ودراسات تأخذ من كلّ فنّ بطرف في مقدرة موسوعية ، تبدو من خلالها طبيعة النهضة العلمية التي بلغتها بغداد في ذلك العصر ، وما اتّسمت به تلك النهضة من انفتاح على الرأي الآخر ، ونبذ التعصّب الذي هو صورة من صور الجهل ، واتّساع الفكر وشموليّته مع تمسّك بأصول الإعتقاد ، لا يبلغ حدّ التعصّب ، ولا يتضاءل حدّ الترخّص ، مع عدم تحيّز نحو الآخرين من حملة الآراء المختلفة.

وتلك نزعة ترتكز على أساس مكين من العلم والورع والإطّلاع ، يتيح القدرة على مقارعة الخصم بالحجّة الداحضة ، زيادةً على فهم لأسس الحوار الموضوعي ، وسبل الحجاج والمخاصمة ، ومحاكمة الآراء ، وصولاً إلى زبد المخاض والرأي الناضج الذي يفرض على الخصم احترامه وإن كنتَ وإيّاه على طرفي نقيض ، إن كان لديه قليل من الإنصاف والعلم. 8.

ص: 72


1- الأمالي ، المقدمة : 1/18.

التفسير ومناهجه في عصر المرتضى :

«التفسير من (فسّر) بمعنى : أبان وكشف ، قال الراغب الإصفهاني : «الفَسر والسَفْر متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفَسر لإظهار المعنى المعقول لإبراز الأعيان للأبصار يُقال : سَفَرَت المرأة عن وجهها وأسفرت ، وأسفر الصبح ، وقال تعالى : (وَلاَ يَأْتُوْنَكَ بِمَثَل إلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحسَنَ تَفْسِيْراً)(1) ، أي بياناً وتفصيلاً.

واصطلحوا على أنّ التفسير ، هو : إزاحة الإبهام عن اللفظ المشكل ، أي المشكل في إفادة المعنى المقصود»(2).

و «هو العلم الذي يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمّد (صلى الله عليه وآله) ، بيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه»(3) ، وهو - بحقّ - أرفع العلوم الإسلامية قدراً وأعلاها شأناً».

وقد اقترن ظهوره بنزول القرآن الكريم ، فكان الرسول (صلى الله عليه وآله) أول المفسّرين وهو يردّ ما أُشكل فهمه لدى الصحابة ، ولم تقف حركة التفسير ، بل ظلّت تسير بسير من اشتهر بالتفسير من الصحابة ، وتستقرّ حيثما استقرّوا ، وحيثما يقم عالم التفسير في أىّ الأمصار يجلس للناس يفسّر لهم كتاب الله عزّوجلّ ، فيحملوا منه علمه ، وينقلوه بعد لمن وراءهم»(4). 1.

ص: 73


1- الفرقان : 2.
2- التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب : 1/17.
3- علم التفسير : 6.
4- علم التفسير : 30 - 31.

وقد نشأت لذلك مدارس للتفسير قامت على علم هؤلاء الأعلام من الصحابة ، أبرزها :

1 - مدرسة مكّة : وقد قامت على علم عبد الله بن عبّاس ، وتلاميذه من التابعين ، ومنهم سعيد بن جبير (ت64ه) ومجاهد (ت104ه) وعكرمة (ت105ه) وغيرهم.

2 - مدرسة المدينة : وتنتمي إلى أُبَي بن كعب ، وأشهر تلاميذه من التابعين : أبو العالية (ت90ه) والقرظي محمّد بن كعب (ت118ه) وزيد بن أسلم (ت 136ه).

3 - مدرسة الكوفة : وقد وضع أسسها عبد الله بن مسعود ، وأشهر تلاميذه من التابعين علقمة بن قيس النخعي (ت62ه) ومسروق بن الأجدع الهمداني (ت63ه) والأسود بن يزيد (ت75ه) ومُرّة الهمداني (ت110ه) وقتادة السدوسي (ت117ه).

وقد انماز التفسير في هذه المرحلة بدخول كثير من الإسرائيليّات والنصرانيّات فيه بسبب تساهل بعض المفسّرين من التابعين في قبولها ، وظلّ التفسير محتفظاً بطابع التلقّي والرواية ، فكان علماء كلّ مصر يعنون بالتلقّي عن إمام مصرهم ممّن ذكرنا ، وقد ظهر في تفاسير التابعين الانتصار لبعض المذاهب التي بدأت بالظهور ، وكثر الخلاف بينهم عمّا كان عليه بين الصحابة ، وإن كان الخلاف قليلاً إذا ما قورن بما وقع بعد ذلك بين متأخّري

ص: 74

المفسّرين(1).

وجاء عصر التدوين - تدوين الحديث - فبدأت مرحلة جديدة في علم التفسير شهدت ظهور كتب التفسير الكبيرة منفصلة عن كتب الحديث ، فأصبح علماً قائماً بنفسه ووضع التفسير لكلّ آية من القرآن على حسب ترتيب المصحف ، وأبرز كتب التفسير في هذه المرحلة : تفسير محمّد بن جرير الطبري (ت310ه) الذي اشتهر بأنّه أبرز ممثّلي منهج التفسير بالمأثور ، فقد ذكر الأقوال ، ثمّ وجّهها ، ورجّح بعضها على بعض ، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت الحاجة اليه ، كما استنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات»(2).

وقد بلغت مدرسة التفسير بالأثر لدى الجمهور ذروتها على يده وكان «حافظاً للقرآن بصيراً بالسنن ، فقيهاً بالأحكام»(3).

«أمّا للإمامية فقد انتهى إلى القرن الرابع كتب كثيرة غالبها من التفسير بالأثر ، منها : تفسير سعيد بن جبير التابعي (ت64ه) وتفسير إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي (ت127ه) وله كتاب أمثل التفاسير ، وتفسير محمّد بن السائب ابن الكلبي ، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع ... ، وتفسير جابر بن يزيد الجعفي (ت127ه) والحسن بن خالد البرقي ، له كتب في التفسير منها تفسيره الكبير البالغ (120) مجلّداً من إملاء الإمام العسكري عليه السلام 2.

ص: 75


1- نفس المصدر : 34.
2- علم التفسير : 36.
3- أدب المرتضى : 32.

وتفسير عليّ بن الحسن بن فضّال ومحمّد بن سعيد بن هلال الكوفي (ت282ه)»(1) وغيرهم.

وكان على رأس التفسير بالدراية (الرأي) جماعة من المعتزلة منذ عهد النظّام والجاحظ حتّى إذا طلع القرن الرابع نهض بأعبائها : أبو علي الجبّائي ، والقاضي عبد الجبّار المعتزلي ، وأبو مسلم محمّد بن بحر الإصبهاني (ت370ه)(2).

وقد شهد المرتضى في بواكير حياته العلمية وجود هاتين المدرستين في التفسير ، وهما مدرسة التفسير بالرواية (المأثور) وبالدراية (الرأي) ، ولا بدّ من أن يتأثّر منهجه في التفسير بهما.

ولابدّ من عرض سريع لأهمّ منهجين في التفسير عاصر المرتضى شيوعهما وانتفع بهما :

1 - التفسير بالمأثور : ويقصد به - على أوسع الأقوال - «ما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وما نقل عن صحابته ... وما نقل عن التابعين من كلّ ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم»(3).

ويستند على الأُسس الآتية كقواعد في التفسير ومصادر له ، وهي :

- تفسير القرآن بالقرآن : فهو يفسّر بعضه بعضاً ، فما كان مطلقاً في 0.

ص: 76


1- المصدر نفسه : 32 - 33.
2- نفس المصدر : 33.
3- علم التفسير : 40.

مكان قيّد في مكان آخر ، وما أُجمل في مكان فصّل في مكان آخر ... وهكذا.

- السنّة النبوية : ويقصد بها السنّة التي جاءت مفسّرة للقرآن الكريم.

- آراء الصحابة : استناداً إلى معرفتهم بأسباب النزول واطّلاعهم الدقيق على أسرار اللغة ، وعادات المجتمع ، وتأسّيهم بالرسول (صلى الله عليه وآله). ولابدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هناك رأيين في الصحابة ، فهناك من يرى أنّ جميع الصحابة عدول ينبغي الأخذ بما ينقلون ، وبين من يرى أنّ شأن الصحابة كشأن بقيّة المسلمين ، فمنهم من تأكّدت عدالته فيؤخذ بقوله ، ومنهم من قام دليل على عدم عدالته ، فلا يمكن الأخذ بما ينقل.

- أسباب النزول : ويُستعان بها على فهم الآية الكريمة ، ودفع الإشكال عنها ، ومعرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

وقد مرّ هذا المنهج بطورَين : طور الرواية وطور التدوين ، وفي الطور الثاني بدأ بتدوين موسوعات في التفسير ، جمعت كلّ ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأبرز مَن مثّل هذه المدرسة كما تقدّم تفسير ابن جرير الطبري.

2 - المنهج العقلي في التفسير : وقد بدأ على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض ، مستفيدة من تطوّر المعارف

ص: 77

والعلوم المتنوّعة والآراء والعقائد ، وشهدت تلك المرحلة تدوين علوم اللغة والنحو والصرف.

ويسمّى التفسير العقلي أو ما يدعى بالرأي ، وأرى أنّ التفسير بالرأي جزء من التفسير العقلي وليس مرادفاً شاملاً له ، ويسمّى أيضاً : تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسّر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها ، والاستعانة بالشعر الجاهلي(1) ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ من آيات القرآن الكريم ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج اليها المفسّر(2).

مميّزات منهج السيّد المرتضى :

وفيما يأتي عرض لأبرز مميّزات منهجه في التفسير كما تتجلّى من خلال النصوص الواردة في كتابه (الأمالي) :

أوّلاً : قوله في الجبر والاختيار : ومن ذلك ما ورد في معرض حديثه على بيتَي لبيد بن ربيعة العامري :

إنّ تَقْوَى ربّنا خَيْرُ نفلْ

وبإذنِ اللهِ ريثِي وعجلْ7.

ص: 78


1- إنّ حصر الشعر بالجاهلي فقط غير دقيق ، والأصوب أن يُقال : الشعر الممتدّ إلى عصر الإحتجاج.
2- علم التفسير : 47.

مَن هداهُ سبلَ الخيْرِ اهْتَدَى

ناعمَ البَالِ ومَن شاءَ أضلْ

إذ قال : «وقيل : إنّ لبيداً كان على مذهب أهل الجبر ... وإن كان لا طريق إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلاّ هذان البيتان ، فليس فيهما دلالة على ذلك ، أمّا قوله : وبإذن الله ريثي وعجلْ ، فيحتمل أنّه يريد : بعلمه ، كما يتأوّل عليه قوله تعالى : (وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ ِمنْ أَحَد إلاّ بِإِذْنِ الله)(1) أي بعلمه ... فأمّا قوله : مَن هداه اهتدى ومَن شاء أضلْ ، فيحتمل أن يكون مصروفاً إلى بعض الوجوه التي يتأوّل عليها الضلال والهدى المذكور في القرآن ، ممّا يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار»(2).

- ومثله ما ورد في تفسير قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِيْنَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوْرِ)(3) إذ ردّ القائل : أليس ظاهر الآية يقتضي أنّه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ ... وهذا خلاف مذهبكم؟ فقال : أمّا النور والظلمة المذكوران في الآية فجائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر ، وجائز أيضاً أن يُراد بهما الجنّة والنّار ... فلو كان الأمر على ما ظنّوه لما صار الله تعالى وليّاً للمؤمنين ...(4).

ومثله ما ورد في المجلس الذي بعده(5). ه.

ص: 79


1- البقرة : 102.
2- الأمالي :1/21.
3- البقرة : 257.
4- أنظر المصدر السابق : 2 / 14 - 15 ، وقد أوجزنا في النقل تجنّباً للإطالة ، فليراجع.
5- نفس المصدر : 1/26 - 28 المجلس (51) ، ومثله كثير دعانا الإيجاز إلى تجنّب ذكره.

وفي الموضعَين يصرف ظاهر الآية على وفق مذهبه في الاختيار (أو الأدقّ قوله بالأمر بين الأمرين).

- ومنه قوله : «فإذا ورد عن الله تعالى كلامٌ ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول ، وجب صرفه عن ظاهره - إن كان له ظاهر - وحمله على ما يوافق الأدلّة العقليّة ويطابقها ، ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه ، أو ما لا يجوز عليه تعالى»(1).

- بل أنّه صرّح بذلك في تأويله لقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ...)(2) فقال : «إذا ثبت بأدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه العقول من صفاته تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ...»(3).

ثمّ زاد على ذلك قائلاً : «ولهذه الآية وجوه من التأويل ، كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية»(4).

- ونظير ما تقدّم ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (وَنَادَى نُوْحٌ رَّبَّهُ قَالَ 2.

ص: 80


1- نفس المصدر : 2/30.
2- يوسف : 24.
3- الأمالي 1/477.
4- نفس المصدر : وانظر أيضاً :1/481 - 482.

رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ...) الآية(1) ، فقد قال : «ظاهر قوله تعالى (إنّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِكَ) يقتضي تكذيب قوله : (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) والنبيُّ لا يجوز عليه الكذب ، فما الوجه في ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخبر عن ابنه بأنّه (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) وما المراد به؟ الجواب ...»(2).

ثانياً : عرض الآراء المختلفة وترجيح أحدها :

- ومنها : عرضه للآراء التي قيلت في تفسير النصّ ، ثمّ التعقيب عليه بقوله : «وجواب أبي عبيد أحسن الأجوبة وأسلمها ، وجواب أبي بكر أبعدها ...»(3).

- ومنها ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمَاً آخَرِيْنَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهمُ السّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِيْنَ)(4) ، وردّه على مَن يسأل : «كيف يجوز أن يضيف البكاء اليهما (أي إلى الأرض والسماء) وهو ما لا يجوز في الحقيقة عليهما؟ الجواب : يُقال في هذه الآية وجوه أربعة من التأويل : أوّلهما ... وثانيهما ... وثالثها ... ورابعها ... ويمكن في الآية وجه خامس وهو ...»(5).قد

ص: 81


1- هود : 45 - 46.
2- ينظر: نفس المصدر :1/502 ، ومثله ما ورد في 1/429 و1/430 و2/69 و2/120 و2/144 و2/163 وغيرها من الموارد المشابهة.
3- نفس المصدر :1/34.
4- الدخان : 28 - 29.
5- نفس المصدر : 1/49 - 55 ، وينظر في هذا الباب الأمالي :1/87و1/201 وقد

- ويعمد في اُسلوبه في الغالب إلى طريقة المناقشة والحوار لنخل الآراء وغربلتها ، ومن ثمّ الخروج بترجيح أحدها فيتكرّر قوله : «قالوا ... قلنا ...»(1) أو «فإن قيل ... قلنا ..»(2) ويبدأ أكثر مجالسه بقوله : إن سأل سائل عن قوله تعالى : ...

- وممّا نقل فيه آراءً رجّح أحدها قوله : «هذا قول أبي عبيد ، وقال ابن قتيبة رداً عليه ...»(3) ، ثمّ عقّب عليه بقوله : «ليس الذي ذكره أبو عبيد ببعيد ...».

- ومنه قوله : «قد ذكر في الآية وجوه من التأويل نحن نذكرها ونرجّح الأرجح منها»(4).

- بل تجده مرّات كثيرة يكشف عن وجوه أُخر ، فيقول - مثلاً - «ويمكن في الآية وجه آخر» (أو) «ويمكن أن يكون في الآية وجه آخر ...»(5) أو «ويمكن في الآية وجه ثالث ...»(6).

- وقد لا يذكر اسماً معيّناً ، وإنّما يكتفي بالقول : «وقال بعض أهل 2.

ص: 82


1- نفس المصدر : 2/306.
2- نفس المصدر : 2/68و 2/307.
3- نفس المصدر : 1/156 - 157 ، ومثله ما ورد في 1/427 - 428.
4- نفس المصدر : 1/578.
5- ينظر الأمالي : 1/338.
6- نفس المصدر : 1/442.

اللغة ...»(1). ومثله : «وحكي عن بعض علماء أهل اللغة أنّه قال : ...»(2).

- وقد يلجأ إلى مقاييس أُخر ، كالعرف والشرع في تعليله للأوجه التي يذكرها في الآية ، ومثال ذلك ما ورد في تأويل قوله تعالى : (أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيْبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ)(3) فقد قال : «وهذا الجواب مبنيّ أيضاً على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يُسمّى حساباً في لغة ولا عرف ولا شرع ...»(4).

ثالثاً : وقد يلجأ إلى تعضيد الدليل العقلي بشهادة اللفظ :

- ومنه ما ورد في تأويل الآية : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَة وَلاَ يَزَالُوْنَ مُخْتَلِفِيْنَ إلاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(5) فقد قال : «فأمّا لفظة ذلك في الآية ، فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف ، لدليل العقل وشهادة اللفظ.

فأمّا دليل العقل : فمن حيث علمنا أنّه تعالى كره الاختلاف والذهاب عن الدين ، ونهى عنه وتوعّد عليه ، فكيف يجوز أن يكون شائياً له ، ومجرياً بخلق العباد إليه؟ 9.

ص: 83


1- نفس المصدر : 1/369.
2- نفس المصدر : : 1/419.
3- البقرة : 202.
4- نفس المصدر : 1/390.
5- هود : 118 - 119.

وأمّا شهادة اللفظ : فلأنّ الرحمة أقرب إلى هذه الكتابة من الاختلاف وحمل اللفظ على أقرب المذكورين أولى في لسان العرب».

- وقد(1) يستشهد بأقوال علماء اللغة ، ناسباً تلك الأقوال إلى أصحابها ، ومنه قوله : «وحكي عن الفرّاء في ذلك جوابان ...»(2) ، وقوله : «فأمّا البيت الأوّل فإنّ أبا العبّاس المبرّد حمله على الشذوذ ...»(3) وقوله : «وقال الفرّاء وغيره : يجوز في النحو ...»(4) «وأنشد الفرّاء ...»(5) وقوله : «قال الفرّاء ...»(6).

رابعاً : وفي عرضه لمسائل النحو واللغة يكشف عن أنّه لغويٌّ ثَبَتٌ واسع الإطّلاع ، ضليع بعلوم اللغة :

- فمن ذلك قوله : «فأمّا قوله (والمؤمنون) ففي رفعه وجهان : أحدهما ... والوجه الآخر ...» وقوله : «وأمّا نصب (الصابرين) ففيه وجهان : أحدهما ... والوجه الآخر ...»(7) ، ثمّ يعرض خلال ذلك آراء علماء النحو ناسباً تلك الآراء إلى أصحابها ، ويتكرّر ذكر كثيرين منهم كما مرّ في البحث. ه.

ص: 84


1- نفس المصدر :1/70 - 71.
2- نفس المصدر : 1/91.
3- نفس المصدر : 2/317.
4- نفس المصدر : 2/147.
5- نفس المصدر : 1/46 و1/577 و1/591.
6- نفس المصدر : 1/110و1/343و 1/356و ...
7- الأمالي : 1/205 - 206 ، ومثله كثير غيره.

وقد يشير إلى اللغوي بقوله : «ووجدتُ بعض المتقدّمين في علم اللغة يحكي في كتاب له قال : ...»(1).

- ومنه ما ورد في تأويل قوله تعالى : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)(2) ، فقال : ما المراد بالنفس في هذه الآية؟ و... الجواب قلنا : «النفس في اللغة لها معان مختلفة ...»(3).

- وقد يوازن بين آراء اللغويين في المسألة الواحدة كما ورد في تأويله قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتَاً)(4) فإنّه بعد عرضه لرأي ابن الأنباري وابن قتيبة قال : «والمقدار الذي ذكره ابن الأنباري لا يقدح في جواب ابن قتيبة ...»(5). ثم قال : «فإن قيل : فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الذي ذكرتموه أخيراً؟ قلنا : الفرق ...»(6).

- ولقد تدقّ أحكامه اللغوية في براعة لا تخفى من قبيل تمييزه بين الحذف والاختصار في قوله «... والاختصار يرجع إلى المعاني ، وهو أن تأتي بلفظ مفيد لمعان كثيرة لو عبّر عنها بغيره لاحتيج إلى أكثر من ذلك اللفظ ، فلا حذف إلاّ وهو اختصار ، وليس كل اختصار حذفاً ، فمثال 9.

ص: 85


1- نفس المصدر : 1/219.
2- المائدة : 116.
3- نفس المصدر : 1/324.
4- النبأ : 9.
5- نفس المصدر : 1/340.
6- نفس المصدر : 1/339.

الحذف ... ومثال الاختصار الذي ليس بحذف ... وفي معنى الاختصار ...»(1).

- ومنه قوله : «... وإنّما فضل الكلام الفصيح بعضه على بعض ، لقوّة حظّه من إفادة المعاني الكثيرة بالألفاظ المختصرة»(2).

- وممّا ورد في تعقيبه على خلاف المتكلّمين والنحويّين قوله : «فكم من معنى كاد يضيع بسوء العبارة عنه ، وقصور الإشارة إليه ...»(3).

- ثم قوله : «وكلّ كلام خلا من مجاز وحذف واختصار واقتصار بَعُدَ عن الفصاحة ، وخرج عن قانون البلاغة والأدلّة لا يجوز فيها مجاز ، ولا ما يخالف الحقيقة ، وهي القاضية على الكلام والتي يجب بناؤه عليها ، والفروع دائماً تبنى على الأُصول»(4).

خامساً : وممّا يدخل تحت باب التفسير بالمأثور ما ورد في مواضع كثيرة من أماليه ، نورد في الآتي بعضاً من الأمثلة عليها منها :

- قوله : «... وما يشهد لهذا الوجه من طريق الرواية ما رواه سلام بن مسكين عن أبي زيد المدني أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل ، فقيل له : يا أبا الحكم أتصافح هذا الصبي؟ فقال : والله إنّي لأعلم أنّه 9.

ص: 86


1- نفس المصدر : 2/73 - 75.
2- نفس المصدر : 2/73 - 75.
3- نفس المصدر : 2/295.
4- الأمالي : 2/300 وانظر ما ورد في 2/296 و2/309.

نبيّ ، ولكن متى كنّا تبعاً لبني عبد مناف؟ ...»(1).

- وفي خبر آخر : «... وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام ...»(2).

- ومنه «وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن ... وقد روي مثل ذلك عن ابن عبّاس والسدّي ومجاهد وغيرهم ...»(3).

- ومثله قوله «... وروي عن ابن عبّاس في قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِئَةِ أَلْف أَوْ يَزِيْدُوْنَ)(4) قال : كانوا مئة ألف وبضعاً وأربعين ألفاً»(5).

- ومنه ما ورد في تأويل قوله تعالى (وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب)(6) فقد استند - في بيان أحد أوجه تأويلها - إلى ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال : عنى بها أموال بني قريضة والنضير ، وأنّها تصير إليكم بغير حساب ولا مثل ، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها(7).

- ومثله ما ورد في تأويل قوله تعالى (وَيَسْأَلُوْنَكَ مَاذَا يُنْفِقُوْنَ َ قُلِ الْعَفْوَ)(8) وما نقله عن ابن عبّاس «وغيره من المفسّرين في تفسير قوله تعالى 9.

ص: 87


1- نفس المصدر : 2/264.
2- نفس المصدر : 2/267 ، ويلحظ أنّ كلّ هذه الروايات وردت في تأويل آية واحدة ، وقد أشفعها بما ورد عن الكسائي وما قاله : «بعض الشعراء ...».
3- نفس المصدر : 2/109 ، وانظر أيضاً : 2/282 - 290.
4- الصافات : 147.
5- نفس المصدر : 2/56 ، وانظر أيضاً : 2/45و149و170.
6- البقرة : 212.
7- نفس المصدر : 1/92 ، وانظر أيضاً : 1 / 470 و514 وغيرها.
8- البقرة : 219.

(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)»(1)(2) ومثله قوله : «فمن الأدلّة على ما ذكرناه ما رواه ابن عبّاس أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ...»(3).

- ويتوسّع في الاستناد على الرواية في تفسيره توافقاً مع مذهبه فيستشهد بنصوص منقولة عن الأئمّة عليهم السلام ، ممّا يهيئ له كثيراً من الروايات التي تعينه في التفسير لاسيّما أنّه قريب العهد من عصرهم ، وقد عاصر تدوين الأُصول الأساسية في الحديث لدى الإماميّة ، ولعلّ في هذا الاستشهاد دليل على أنّ السيّد المرتضى لا يمكن أن يكون من المعتزلة ، فهم لا يؤمنون بالأئمة عليهم السلام من قريب ولا من بعيد.

وممّا استعان به في ذلك ما رواه عن الباقر والصادق والرضا عليهم السلام في تفسيره للآيات الدالّة على الرؤية في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى)(4) وما تلاها من آيات في السورة نفسها ، إذ نفى الرؤية البصريّة ؛ مستدلاًّ بما ورد عن الأئمّة المذكورين عليهم السلام(5) ، ولا يتحرّج من أن يسند رأيه بما يروى عن غيرهم من وجوه المذاهب الإسلاميّة ، الأخر ، فيروي عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت(6) وينقل عن الحسن البصريّ(7) ، 5.

ص: 88


1- البقرة : 102.
2- نفس المصدر : 1/502 - 504.
3- نفس المصدر : 1/396.
4- النجم : 13 - 14.
5- الأمالي : 1/149 - 150.
6- نفس المصدر : 1/151.
7- نفس المصدر : 1/152 - 155.

وغيرهم(1).

- ومعلومٌ أنّ من أهمّ موارد التفسير بالمأثور : تفسير القرآن بالقرآن ، ونجد أمثلة لذلك في كثير ممّا أورده في سياق تأويله لبعض الآيات.

ومنه ما ورد في المجلس الثالث ما نصّه : «فإن قيل على هذا الوجه : كيف يصحّ ما ذكرتموه مع قوله تعالى : (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِيْنٌ)(2). وهذا يقتضي أنّها صارت ثعباناً بعد الإلقاء بلا فصل؟

قلنا : تفيد الآية ما ظُنَّ(3) ، وإنّما فائدة قوله تعالى : (فَإذَا هِيَ) الإخبار عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصفة ، وأنّه لم يطل الزمان في مصيرها كذلك ، ويجري هذا في مجرى قوله تعالى : (أَوَ لَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيْمٌ مُّبِيْنٌ)(4) ، مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيماً مبيناً»(5).

- ومن هذا أيضاً ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَل سَأُرِيْكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُوْنَ)(6) فقد استشهد بقوله تعالى : (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُوْلا)(7) ، وما ورد في آيات أُخر(8).6.

ص: 89


1- نفس المصدر : 1/143 و162 و165 و178 و182 ، وغيرها كثير.
2- الشعراء : 32.
3- والأقرب أنّ بداية النصّ : لا تفيد بدليل قوله وإنّما.
4- يس : 77.
5- الأمالي : 1 / 27.
6- الأنبياء : 37.
7- الإسراء : 11.
8- نفس المصدر : 1/465 - 466.

- وقد يستدلّ بالمدلول اللغوي لآية مّا لبيان تفسير آية أخرى لتقارب لَحِظَهُ الشريف المرتضى بين المدلولين في النتيجة النهائية.

ومن ذلك ما ورد في تأويله آية : (فَغَشِيَهُمْ فِي الْيَمِّ مَا غَشِيَهُم)(1) فقد قال : «ويمكن في الآية وجه آخر لم يذكر فيها يليق بمذاهب العرب في استعمال هذا اللفظ ، وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى (مَا غَشِيَهُم) تعظيم الأمر وتفخيمه كما يقول القائل : فلان ما فعل ، وأقدم على ما أقدم ، إذا أراد التفخيم ، وكما قال تعالى (وَفَعَلْتَ فِعْلَتُكَ الَّتِي فَعَلْتَ)(2) ، وما يجري هذا المجرى(3).

سادساً : ولا تفوته الإشارة إلى القراءات المعروفة في الآية الكريمة بما يكشف عن إلمام بوجوه صرفها :

- من ذلك قوله : «وقد اختلف القرّاء في فتح الميم وكسرها في قوله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى)(4) فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معاً ، وفي رواية حفص عن عاصم : لا يكسرهما ، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة ، ولكلّ وجه ، أمّا من ترك إمالة الجميع فإنّ قوله حسن ، لأنّ كثيراً من العرب لا يميلون هذه الفتحة ، 2.

ص: 90


1- طه : 78.
2- الشعراء : 19.
3- الأمالي : 1/350 ، وينظر أيضاً : 2/182و 196 - 197.
4- الإسراء : 72.

وأمّا من أمال الجميع فوجه قوله أن ينحو بالألف نحو الياء ، ليعلم أنّها تنقلب إلى الياء ، وأمّا قراءة أبي عمرو بإمالة الأولى وفتح الثانية فوجه قوله أنّه جعل الثانية أفعل من كذا مثل أفضل من فلان ، وإذا جعلها كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة ، لأنّ آخرها هو من كذا ، وإنّما تحسن الإمالة في الأواخر ...»(1).

- ومن ذكره للقراءات قوله : «وروي عن سعيد بن جبير أنّه كان يقرأ ....»(2).

- ومنها قراءة ابن عبّاس في قوله تعالى (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ممّا يَدْعُوْنَنِي إلَيْهِ)»(3)(4) في إشارته إلى قراءة (السَجن) بفتح السين.

- وما ورد في قوله تعالى : (إنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح)(5)(6).

- وقوله : «وقد اختلفت قراءة القرّاء السبعة في رفع الراء ونصبها في قوله تعالى (لَيْسَ البِرّ)»(7)(8).

- ومن إشاراته إلى القراءات قوله : «وقيل : إنّ قراءة أُبَي ... ، (ثُمّ 07

ص: 91


1- نفس المصدر : 1/94.
2- نفس المصدر : 1/333.
3- يوسف : 33.
4- نفس المصدر : 1/491.
5- هود : 46.
6- نفس المصدر : 1/505.
7- البقرة : 177.
8- نفس المصدر : 1/206 - 207

عَرَضَها)(1) وفي قراءة عبد الله بن مسعود : ... ، (ثم عرضهن) وعلى هاتين القراءتين يصلح أن تكون عبارة عن الأسماء»(2).

- ومن ذلك ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ)(3) فقد أورد ما زاد على أربع عشرة قراءة ، ووازن بينها مرجّحاً بعضها(4).

سابعاً : الاستشهاد بالشواهد الأدبيّة شعراً ونثراً وأمثالا :

ولابدّ لمن يتّبع المنهج العقلي في التفسير من أن يلجأ إلى الشواهد الشعرية لإيضاح النصوص التي يتصدّى لتفسيرها ، ولذلك فإنّ ظاهرة الاستشهاد بالشواهد الشعرية أكثر الظواهر بروزاً في تفسيره ، ولم يخلُ تفسير أيّ نصّ من إيراد شواهد من الشعر والنثر وأنّ الغالب على ما ورد في الأمالي من تفسير هو الاستعانة بالنصوص ، ويصلح معظمها ؛ ليكون أمثلةً على ما أسلفنا ، نورد بعض ما اتّسم به استشهاده بهذه النصوص في الآتي :

- أمّا من حيث عدد الشواهد فإنّ المرتبة الأولى للشعر ، وهو ما طبع مجمل تفسيره الوارد في كتابه الأمالي.

- أمّا الأمثال فقد وردت الإشارة إليها من دون ذكر نصوصها ، ومن ذلك 0.

ص: 92


1- البقرة : 31.
2- نفس المصدر : 2 / 75 و2 / 290.
3- التكوير : 8 - 9.
4- نفس المصدر : 2 / 280.

قوله : «ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثالهم ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم وتصرّف كلامهم»(1).

- ويكشف عن قدرة فائقة على فهم النصوص ، وتعيين المتقدّم منها أو المتأخّر وتحديد السبق بناءً عليه(2).

- ومن آرائه في الشعر وشيوعه قوله : «ويقال إنّ هذا الشعر حفظ وصار من أكثر من يسبّون به ويسبّ قومهم ، ولربّ مزح جرّ جدّاً ، وعثرة الشعر لا تستقال ، والشعر يسير بحسب جودته»(3).

- وممّا استعان فيه بشواهد من الشعر ، ورجع إلى اللغة ، ليخرج برأي طريف ما ورد في تأويله لقوله تعالى : (إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(4) فقد حمل ذلك على معنى «أنّه أراد به نعمة ربّها ، لأنّ الآلاء : النعم ، وفي واحدها أربع لغات : (ألا) مثل قفا ، و (ألْي) مثل رمْي ، و (إلى) مثل مِعى ، و (ألىَّ) مثل حسىّ ، قال أعشى بكر بن وائل :

أَبْيَضٌ لاَ يَرْهَبُ الهَزالَ وَلاَ

يَقْطَعُ رَحْمَاً وَلاَ يَخُوْنُ إلى

أراد : أنّه لايخون نعمة ، فأراد ب- : (إلى رَبِّها) نعمة ربّها ، وأسقط التنوين للإضافة ، فإن قيل : فأيّ فرق بين هذا الوجه وبين تأويل مَن حمل الآية على أنّه أريد بها (إلى ثواب ربّها ناظرة) ، بمعنى : رائية لنعمة ربّها ، قلنا : ذلك 3.

ص: 93


1- الأمالي : 1 / 428.
2- نفس المصدر : 2 / 257.
3- نفس المصدر : 2 / 270.
4- القيامة : 23.

الوجه يفتقر إلى محذوف لأنّه إذا جعل (إلى) حرفاً ولم يعلّقها بالربّ تعالى ، فلابد من تقدير محذوف ، وفي الجواب الذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف لأنّ (إلى) منه اسم يتعلّق به الرؤية ولا يحتاج إلى تقدير غيره»(1).

ثامناً : وفي عرضه للنصوص والشواهد يلجأ إلى الموازنة بينها والحكم عليها بنظرة نقديّة لا يعوزها التعليل النقدي :

- فمن ذلك : ما ورد في ردّه على ابن عمّار في ذمّه بيتاً للكميت ، وقد تعرّض أثناء الموازنة لأبيات لذي الرمّة وللمجنون وأبي نوّاس وأبي تمّام ليصل إلى تغليط ابن عمّار ووصفه بالغفلة(2).

- ومنه قوله موازناً بين شعر الفرزدق وليلى الأخيلية : «وليس أبيات الفرزدق بدون أبيات ليلى ، بل هي أجزل ألفاظاً ، وأشدّ أسراً ، إلاّ أنّ أبيات ليلى أطبع وأنصع ...»(3).

- ومن أحكامه النقدية ، وقد قرنها بتاريخ الأدب قوله : «وكان أبو دهبل من شعراء قريش وممّن جمع إلى الطبع التجويد واسمه ... فأمّا كنيته فهي مشتقّة من الدهبلة ، وهي المشي الثقيل ، يقال : دهبل الرجل دهبلة ، إذا مشى ثقيلاً.

ثمّ ينقل رأي أبي عمرو ابن العلاء في شعر أبي دهبل ليقول بعدها : 8.

ص: 94


1- نفس المصدر : 1/40 - 41 ، وينظر أيضاً : 1 / 44 و71 و105 و110 - 115.
2- الأمالي : 2/255 - 257.
3- نفس المصدر : 1 / 58.

«وروى أبو عمرو الشيباني لأبي دهبل ...»(1).

- وممّا يكشف عن منهج نقدي يجنح إلى التعليل قوله : «وأنّي لأستحسن القصيدة التي من جملتها البيت الذي أوردناه لأبي نوّاس لأنّها دون العشرين بيتاً ، وقد نسّب في أولها ، ثمّ وصف الناقةَ بأحسن وصف ، ثمّ مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه حاجته ، كلّ ذلك بطبع يتدفّق ورونق يترقرق وسهولة مع جزالة»(2).

فهو في هذا قد علّل حكمه النقدي وأردف القول المتقدّم - بعد ذكر النصّ - بتحليل للمعاني التي وردت في القصيدة ، ولم يفُتْهُ خلاله الإستشهاد بأبيات لشعراء آخرين(3).

- وكثيراً مّا يورد - في عرضه للنصوص - موازنات للمعاني لأكثر من شاعر ، مبيّناً أوجه التفضيل التي يراها ، وقد يورد على سبيل الاستطراد أحسن ما يراه ممّا ورد في ذلك المعنى ، مع إشارة إلى ظاهرة الإجتلاب لدى الشعراء ، كما في استحسانه لأبيات الخنساء(4).

- ولا يكتفي بالموازنات وإنّما يُخَطّئ آخرين ممّن اشتهروا بموازناتهم ومنهم الآمدي متّهماً إيّاه بظلم البحتري فيقول : «وجدتُ الآمدي قد ظلم البحتري في تفسير بيت له مضاف إليه مع ظلمه له في أشياء كثيرة 9.

ص: 95


1- نفس المصدر : 1/116 - 117.
2- نفس المصدر : 1/279 - 281 ، وهذا يكشف عن الحاجة إلى الوقوف عند المنهج النقدي للسيّد المرتضى ودراسته.
3- نفس المصدر : 1/279.
4- نفس المصدر : 1/279.

تأوّلها ...»(1).

ومرّة أُخرى يقول : «وقد ظلم الآمدي البحتري في قوله ...»(2).

وأُخرى : «وممّا خطّأ الآمدي فيه البحتري وإن كان له فيه عذر صحيح لم يهتد إليه قوله ...»(3).

- والسيّد المرتضى وإن لم يؤلّف «كتاباً في اللغة ليُعدّ من أعلامها الذين يظفرون بذكر في قائمة أسماء اللغويّين ، ولكنّه من غير شكٍّ أحد أعلام اللغة المبرّزين ، وذلك بما وعت كتبه من مفردات لغويّة تطرّق فيها إلى شرحها وتحديد مفاهيمها»(4) ومنها في كتابه الأمالي.

نتائج البحث :

ويمكن تلخيص أبرز مزايا تفسير السيّد المرتضى في كتابه الأمالي بالآتي :

1 - يعتمد تفسيره بصفة غالبة على الدليل العقلي مع التمسّك بالضوابط المسوّغة لهذا المنهج من التفسير ؛ ولذلك فيمكن عدّه في طليعة المفسّرين بالرأي من الإماميّة.

2 - يقوم منهجه على عرض الآراء المتعدّدة في تفسير الآية وترجيح أحدها ، ولا يجد غضاضة في تبنّي قول أحد أعلام المفسّرين ممّن تعرّض 2.

ص: 96


1- نفس المصدر : 2/91.
2- نفس المصدر : 2/93.
3- الأمالي : 2/94 ، وانظر من موازناته : 1/397 - 401.
4- أدب المرتضى : 42.

لأقوالهم.

3 - يلجأ إلى الشواهد الشعرية أو النثرية لإلقاء الضوء على النصّ ، وهو منهج قديم بدأت ملامحه فيما أُثر عن ابن عبّاس وغيره من الصحابة ، وقد أفصح ما ورد في أماليه عن أنّه لغويٌّ ثبت ، ملمٌّ بالنصوص ، قديرٌ على استكشاف معان دقيقة فيها.

4 - قد يلجأ إلى الرواية - وأعني به الاستناد على المأثور - غير أنّه توافقاً مع مذهبه يتوسّع في الاستشهاد بالنصوص المنقولة معتمداً على الرواية الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

5 - يُخضِع تفسيره لآرائه الكلاميّة فيما يرى وجوب صرفه عن معناه الظاهر ، ولاسيّما في تنزيه الأنبياء.

6 - يلجأ مرّات قليلة إلى التفسير بالمأثور معتمداً على تفسير القرآن بالقرآن ، وأخالُهُ لم يعطِ الروايات اهتماماً كبيراً لشكّه في طريق رواية بعضها ، ممّا قد يُدخل الإسرائيليّات وغيرها فيها.

7 - قد يلجأ إلى تعضيد الدليل العقلي بدليل اللفظ ومعناه اللغوي.

8 - لم تفُتْهُ الإشارة إلى وجوه القراءات المعروفة في النصّ ممّا يكشف عن إلمام بها وبوجوه صرفها.

9 - وفي معالجته للنصوص الشعريّة الواردة كشواهد يكشف عن قدرة متقدّمة على النقد الذي لا تعوزه المعايير النقديّة الموضوعيّة.

10 - يلجأ أحياناً إلى الموازنة بين النصوص الشعريّة الواردة في معنى واحد ليصل إلى تفضيل أحدها في نظرة نقديّة عميقة.

ص: 97

فهرس المصادر

1 - القرآن الكريم.

2 - أدب المرتضى من سيرته وآثاره : د. عبد الرزاق محيي الدين ، مطبعة المعارف ، بغداد ، ط1 ، 1957م.

3 - أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) : الشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي العلوي (355 - 436ه) القسم الأول ، تحقيق : محمّد أبي الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ، ط1 ، 1373ه/1954م.

4 - أمالي المرتضى (غررالفوائد ودرر القلائد) : الشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي العلوي (355 - 436ه) القسم الثاني (ومعه التكملة) ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1378ه/1967م.

5 - التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب : الأستاذ المحقّق محمّد هادي معرفة ، تنقيح : قاسم النوري ، نشر : الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلامية ، مؤسّسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة ، ط2 ، 1425ق/1383ش.

6 - سقط الزند : أبو العلاء المعرّي ، دار صادر ، بيروت ، 1383ه/1963م.

7 - علم التفسير : د. محمّد حسين الذهبي ، دار المعارف ، مصر ، 1977م.

ص: 98

تعيين الإمام في ضوء تقريرات الشريف المرتضى

د. جواد حسين الورد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

المقدّمة :

تعدّ مسألة الإمامة من أهمّ المسائل الكلامية الّتي تناولها أهل النظر ، بل من أخطر المسائل الاعتقادية في الإسلام ، وأشدّها خلافاً وحسّاسية ، وما جرى بسببها - منذ الصدر الأوّل وحتّى يومنا هذا - من سفك للدماء ، وهتك للحرمات ، ونهب للأموال ، وسبي للذراري ، وتشريد من الديار ، وغيرها من الفجائع الأليمة ، والوقائع العظيمة ما يقصر عند حدّ الوصف ؛ وإلى ذلك أشار أبو الفتح الشهرستاني بقوله : «وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة ؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ

ص: 99

زمان»(1).

وما خطّته الأقلام فيها ، وقاله الخطباء على المنابر عنها ، وجرى بين المتكلّمين من مناظرات حولها لا يقلّ أثراً عن السيف المسلول عليها.

ولا يخفى أنّ الاختلاف لم يقع في أصل الإمامة ، ولكن في وجوبها ، والقائلون بوجوبها اختلفوا في كونها واجبة عقلاً أو سمعاً؟ وهل تعدّ من أصول الدين أو فروعه؟ وهل هي بحسب النصّ أو الاختيار؟ فضلاً عن كيفية استحقاقها. ومن أبرز المتكلّمين الذين تناولوا هذه المسألة - بالرجوع إلى صريح المعقولات ، ولوازم المقولات ، وصحيح المنقولات - وأفردوها بالتصنيف : عيسى بن روضة (ت حدود 150 ه) وأبو جعفر الأحول المعروف بمؤمن الطاق (ت نحو 160 ه) والخليل بن أحمد (ت 170 ه) وهشام بن الحكم (ت 179 ه) وعلي بن إسماعيل الميثمي (ت حدود 200 ه) وثبيت ابن محمّد العسكري (ت حدود 200 ه) ومحمّد بن عمرو الزبيري (ت حدود 200 ه) وعبد الله بن هارون الزبيري (ت 218 ه) وأبو جعفر السكّاك (ت حدود 230 ه) والحكم بن هشام بن الحكم (ت حدود 240 ه) والفضل بن شاذان الأزدي (ت 260 ه) وداود بن أسد بن أعفر المصري (ت حدود 290 ه) وإسماعيل بن علي النوبختي (ت حدود 300 ه) وعبد الله ابن جعفر الحميري (ت حدود 300 ه) وإسماعيل بن محمّد المخزومي (ت قبل 300 ه) وجعفر بن ورقاء الكاتب (ت 352 ه) وأبو 3.

ص: 100


1- الملل والنحل ج1 ص13.

نصر الأنباري (ت 356 ه) والفضل بن عبد الرحمن البغدادي (من أعلام القرن الرابع) وابن قبّة الرّازي (من أعلام القرن الرابع) ويحيى بن محمّد الزباري العلوي (ت 376 ه) والشيخ أبو عبد الله المفيد (ت 413 ه) والشيخ أبو جعفر الطوسي (ت 460 ه) وسديد الدين الحمصي (ت حدود 585 ه) والحسين بن جبر (ت بعد 600 ه) والنصيرالطوسي (ت 672 ه) وابن ميثم البحراني (ت 679 ه) والعلاّمة الحلّي (ت 726 ه) وغيرهم من المتقدّمين والمتأخّرين رحمهم الله.

ويعدّ الشريف المرتضى - الذي لم يدانه أحد في زمانه فيما حازه من العلوم - من أبرز من تناول مسألة الإمامة بالبحث والتحقيق في غير واحد من مصنّفاته ، ولكن يبقى كتابه الشافي في الإمامة - شافياً بحقّ في نقض ما قرّره القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في مسألة الإمامة - جهداً مميزاً في تقرير هذه المسألة بالأدلّة المحكمة ، والبراهين اليقينية ، والملازمات العقلية ، والآثار الصحيحة.

ونحن إذ نتقدّم بهذه المساهمة إحياءً لذكراه الطيّبة بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته ، وعرفاناً بفضله وجهوده العلمية.

ويأتي بحثنا في ثلاثة مطالب ، مطلب تمهيدي نجمل فيه أراء الفرق الإسلامية في الإمامة ، وسنبين في المطلب الثاني الصّفات الّتي ينبغي أن يتّصف بها الإمام بحسب الأدلّة العقلية والنقلية ، على ما قرّره الشريف المرتضى رحمه الله في مصنّفاته ، أمّا المطلب الثالث فخصّصناه لمسألة تعيين الإمام.

ص: 101

وسنحاول توثيق الأراء والآثار بالرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة عند كلّ فرقة ، فضلاً عن تخريج الأحاديث النبوية المرتبطة بالمقام من مصادر الجمهور المعتمدة كما تقتضيه القواعد الجدلية.

والله ولي التوفيق

ص: 102

تمهيد

آراء الفرق الإسلامية في الإمامة

الإمامة إجمالاً :

هي رئاسة عامّة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنيوية ، وزجرهم عمّا يضرّهم بحسبها.

- وهي عند الأشاعرة وجمهور الصفاتية ليست من الأصول ، بل تعدّ من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين(1).

- وذهب بعض الأشاعرة إلى أنّها من الأصول(2). وعند المعتزلة من تفرّعات العدل ، وجوّزوا تقديم المفضول على الفاضل(3). أمّا عند الشيعة فهي من الأصول.

- واختلف الناس في نصب الإمام ، فقال بعضهم بوجوبه عقلاً ، وبعضهم بوجوبه سمعاً ، وبعضهم بلا وجوبه وذهب الشريف المرتضى إلى وجوبه عقلاً ، وقد اشترط المرتضى لوجوبه شرطين : أحدهما ثبوت التكليف 3.

ص: 103


1- انظر : إرشاد الجويني ص345 ، نهية الأقدام ص478 ، المواقف ص395 ، شرح المقاصد ج5 ص232 ، شرح المواقف ج2 ص344.
2- منهاج الوصول في معرفة علم الأصول ص167.
3- المغني ج20 ق1 ص215 ، شرح ابن أبي الحديد ج1 ص3.

العقلي ، والآخر ارتفاع العصمة عن المكلّفين ، فلو زال أحد هذين الشرطين فلا وجوب لنصب الرئيس والإمام.

وأضاف : أنّ الرئيس الذي نوجب رئاسته هنا أعمّ من أن يكون نبيّاً يوحى إليه ، أو لا يكون كذلك(1).

- والذين يوجبونه عقلاً اختلفوا ، فقال بعضهم بوجوبه من الله تعالى ، وبعضهم بوجوبه على الله تعالى ، وبعضهم بوجوبه على الخلق.

- أما القائلون بوجوبه من الله ، فهم الغلاة والإسماعيلية.

- وأما القائلون بوجوبه على الله تعالى ، فهم الشيعة القائلون بإمامة علي عليه السلام بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله). واختلفوا في طريق معرفة الإمام بعد أن اتفقوا على أنّه هو النصّ من الله ، وهو منصوص من قبل الله تعالى لا غير ، فقالت الإمامية الاثنى عشرية والكيسانية : إنّه إنّما يحصل بالنصّ الجليّ لا غير. وقالت الزيدية : إنّه يحصل بالنصّ الخفيّ أيضاً.

- وأما القائلون بوجوبه على الخلق عقلاً فهم أصحاب الجاحظ ، وأبي القاسم البلخي ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة.

- وأما القائلون بوجوبه سمعاً فهم أهل السنة. وهذان الفريقان أجمعوا على أنّ الأئمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم الخلفاء.

- وأما القائلون بلا وجوبه فهم الخوارج ، والأصمّ من المعتزلة. 9.

ص: 104


1- الذخيرة ص409.

هذه هي المذاهب في الإمامة(1) وفيما يأتي مجمل لرأي هذه الفرق في نصب الإمام.

أوّلاً : القائلون بعدم وجوب نصب الإمام - وهم الخوارج والأصمّ - وحجتهم : أنّه يقع في نصب الأئمّة فتن ، وقتل بعض الناس بعضاً ، كما جرى زمن عليّ ومعاوية ومن بعدهما في أكثر الأوقات ، والاحتراز عمّا يوقع الفتنة والمحاربة أولى بالاتفاق ، والشريعة كافية لمن أراد أن يكون على الحقّ ويتقرّب إلى الله بطاعته(2).

ثانياً : القائلون بوجوب الإمامة سمعاً - وهم الأشاعرة وجمهور الصفاتية - وأنّه يجب نصب الإمام على من يقدر على ذلك ؛ لإجماع السلف عليه ، وأنّ الإمام يُعرف إمّا بنصّ من يجب أن يقبل قوله كنبيّ ، أو باجماع المسلمين عليه ، وتنعقد الإمامة بيعة اثنين بل بيعة واحد(3) ، وبالاستخلاف ، بل تثبت عندهم بالقهر والغلبة والاستيلاء(4). وجوّزوا إمامة الفسّاق والفجّار والظلمة ، وأوجبوا طاعتهم والصلاة وراءهم ، ولم يجوّزوا الخروج عليهم(5). 5.

ص: 105


1- انظر : قواعد العقائد ص458.
2- المصدر نفسه ص462.
3- انظر : مجرّد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري ص183 ، تمهيد الأوائل ص467 ، إرشاد الجويني ص357 ، شرح المواقفج8 ص352 - 353.
4- تمهيد الأوائل ص470 ، غياث الأمم ص87 ، شرح المقاصدج5 ص233.
5- انظر : أصول السنّة ص80 - 81 ، مجرّد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري ص190 ، تمهيد الأوائل ص478 ، إرشاد الجويني ص458 ، شرح المقاصد ج5 ص235.

ثالثاً : القائلون بوجوب نصب الإمام على الخلق عقلاً - وهم جماعة من المعتزلة - وحجّتهم في ذلك ، منع الضرر المتوقّع من عدم نصب الإمام ، ودفع الضرر واجب عقلاً ، وذلك إنّما يندفع بنصب إمام يقوم بأحكام الشرع. وهم موافقون لجمهور الصفاتية والأشاعرة في تعيين الأئمّة.

رابعاً : القائلون بوجوب نصب الإمام من الله ، وهم الغلاة والإسماعيلية.

- أمّا الغلاة فبعضهم قال : إنّ الله تعالى يظهر في بعض الأوقات في صورة إنسان ، يسمّونه نبيّاً أو إماماً ، يدعو الناس إلى الدين القويم والصراط المستقيم ، ولولا ذلك لضلّ الخلق ، كالنصيرية والإسحاقية ، وبعضهم قال : بالحلول أو الاتحاد كما هو الحال عند بعض المتصوّفة. وليس في تفصيل مذاهبهم زيادة فائدة.

- وأمّا الإسماعيلية ، فهم المنتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام ويسمّيهم خصومهم بالباطنية ؛ لقولهم : إنّ كلّ ظاهر له باطن يكون مصدراً له ، والظاهر مظهراً له ، وعالم الباطن هو عالم الأمر والغيب ، وعالم الظاهر هو عالم الخلق والشهادة. والزمان عندهم لا يخلو إمّا عن نبيّ وشريعته - والنبيّ عندهم هو الحاكم في عالم الظاهر ، ولشريعته تنزيل ظاهر وتأويل باطن - وإمّا عن إمام ودعوته ، وهي ربّما تكون خفيّة مع ظهوره ، وقد تكون ظاهرة مع خفائه ، لإتمام الحجّة على الناس. وكما يُعرف النبيّ بالمعجز القولي أو الفعلي كذلك يُعرف الإمام بدعوته إلى الله وبدعواه ، فالمعرفة بالله لا تحصل

ص: 106

إلاّ به ، ولا يكون إماماً إلاّ وهو ابن إمام ، فلا يخلو الزمان عن إمام إمّا ظاهر أو مستور.

وأمّا في تعيين أئمّة الإسلام فقالوا : الإمام في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان علياً عليه السلام ، وبعده كان ابنه الحسن إماماً مستودعاً ، والحسن إماماً مستقرّاً ، ولذلك لم تذهب الإمامة في ذرّية الحسن عليه السلام ، ثمّ نزلت الإمامة في ذرّية الحسين عليه السلام وانتهت بعده إلى علي ابنه ، ثمّ إلى محمّد ابنه ، ثمّ إلى جعفر ابنه ، ثمّ إلى إسماعيل ابنه ، وهو السابع.

وقالوا : إنّ الأئمّة في عهد ابن إسماعيل محمّد صاروا مستورين ولذلك سمّوهم أيضاً بالسبعية ، لوقوفهم على السبعة الظاهرة ، ودخل في عهد محمّد زمان استتار الأئمّة وظهور دعاتهم. ثمّ ظهر المهدي ببلاد المغرب وادَّعى أنّه من أولاد إسماعيل ، واتّصل أولاده ابن بعد ابن إلى المستنصر ، واختلفوا بعده ، فقال بعضهم بإمامة نزار ابنه ، وبعضهم بإمامة المستعلي ابنه الآخر ، وبعد نزار استتر أئمّة النزاريين ، واتصلت إمامة المستعليّين إلى أن انقطع في المعاضد ، وكان الحسن بن علي بن محمّد الصبّاح المستولي على قلعة (آلموت) من دعاة النزاريين ، ثمّ ادعوا بعده أنّ الحسن الملقّب بذكره السلام كان إماماً ظاهراً من أولاد نزار ، واتصل أولاده إلى أن انقرضوا في زماننا هذا(1).

خامساً : القائلون بوجوب نصب الإمام على الله عقلاً وهم : الكيسانية ، 0.

ص: 107


1- انظر : قواعد العقائد ص459 - 460.

والزيدية ، والإمامية.

- أما الكيسانية فقالوا بإمامة علي عليه السلام وبعده الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ محمّد بن الحنفية ، وقالوا : إنّه الإمام المنتظر ، وهو مستقرّ في جبل رضوى بقرب المدينة ، وبعضهم قدّموه على الحسن والحسين ، وبعضهم ساق الإمامة إلى ابنه أبي هاشم ، وهم من الفرق المنقرضة. وسمّوا بالكيسانية نسبة إلى كيسان مولى المختار ، وقيل هو لقب المختار.

- وأمّا الزيدية فقالوا بإمامة علي والحسن والحسين وأثبتوها بالنص الجليّ ، وأثبتوا باقي أئمّتهم بعدهم بالنصّ الخفيّ ؛ وذلك أنّ شرائط الإمامة عندهم كون الإمام عالماً بشريعة الإسلام ليهدي الناس إليها ولا يُضلّهم. وزاهداً لكي لايطمع في أموال المسلمين ، وشجاعاً لئلاّ يفرّ في الجهاد مع المخالفين فيظفروا على أهل الحق ، وكونه من أولاد فاطمة ، أعني من أولاد الحسن والحسين ، لقوله (صلى الله عليه وآله) : «المهدي من ولد فاطمة» ، وكونه داعياً إلى الله تعالى وإلى دين الحقّ ظاهراً ، يشهر سيفه في نصرة دينه ، قالوا : وقد نصّ النبيّ والأئمّة من بعده : أنّ كلّ من استجمع هذه الشرائط الخمسة فهو إمام مفترض الطاعة ، وذلك هو النصّ الخفيّ ، ولم يوجبوا في الحسن والحسين الدعوة بالسيف ، لقوله (صلى الله عليه وآله) : «هما إمامان ، قاما أو قعدا» ، ويجوّزون خلوّ الزمان عن الإمام ، وقيام إمامين في بقعتين متباعدتين إذا استجمعا هذه الشرائط ، ولذلك لم يقولوا بإمامة زين العابدين ، لانّه لم يشهر سيفه في الدعوة إلى الله تعالى ، وقالوا بإمامة زيد ابنه ؛ لاستجماع الشرايط فيه ، وإليه

ص: 108

نُسبوا ، إذ فارقوا سائر الشيعة بقولهم بإمامته ، ولقّبوا باقي الشيعة بالرافضة ، إذ رفضوا زيداً.

والزيدية فرق كثيرة ، منهم الصالحية ، وهم لاينكرون خلافة الخلفاء الذين كانوا قبل عليّ ، لرضا عليّ بخلافتهم. ومنهم الجارودية. ومنهم السليمانية. وقيل : لهم فرق غيرها. وأكثرهم في الفروع متابعون لأبي حنيفة ، إلاّ في مسائل قليلة خالف أئمّتهم فيها(1).

- وأما الإمامية فالإمامة عندهم : رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا لشخص من الإشخاص ، أصالة ونيابة عن النبيّ ؛ لأنّها لطف يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية ، ويحفظ الشرع ، واللطف واجب عقلاً ، فتكون واجبة(2).

واتفقوا على إمامة علي عليه السلام بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثمّ ساقوا الإمامة بعده إلى الحسن ابنه ، ثمّ إلى أخيه الحسين ، ثمّ إلى ابنه علي بن الحسين ، ثمّ إلى ابنه محمّد الباقر ، ثمّ إلى ابنه جعفر الصادق ، ثمّ إلى ابنه موسى الكاظم ، ثمّ إلى ابنه علي الرضا ، ثمّ إلى ابنه محمّد التقي ، ثمّ إلى ابنه علي النقي ، ثمّ إلى ابنه الحسن الزكي العسكري ، ثمّ ابنه محمّد المهدي المنتظر (سلام الله عليهم أجمعين) الذي سيظهر ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، وهو الثاني عشر من أئمّتهم ، ولذلك لقّبوا بالإثني عشريّة. 9.

ص: 109


1- انظر : قواعد العقائد ص459 - 460.
2- انظر : شرح جمل العلم والعمل ص191 ، الذخيرة ص409 ، المنقذ من التقليد ج2 ص235 ، قواعد المرام ص174 ، أنوار الملكوت في شرح الياقوت ص202 ، كشف المراد ص288 ، مناهج اليقين ص289.

هذه هي مذاهب الناس في الإمامة وسيأتي في المطلبين التاليين بيان أيّ من هذه المذاهب يتوافق رأيه في الإمامة مع الكتاب والسّنة والعقل في ضوء تقريرات الشريف المرتضى.

ص: 110

المطلب الأوّل

صفات الإمام

يجب أن يتّصف الإمام بالصفات الآتية بمقتضى العقل والنقل :

أوّلاً : أن يكون أفضل من رعيته :

ومجمل ما أفاده الشريف المرتضى رحمه الله بأنّ هذه الأفضلية واجبة عقلاً وسمعاً ، وهي شاملة للسبق في الإيمان ، والأعلمية ، والشجاعة ، والتقوى ، وغيرها من الكمالات.

- أمّا من جهة العقل : فلقبح تقديم المفضول المحتاج إلى التكميل ورفع مرتبته على الفاضل الكامل وخفض مرتبته(1).

ويدلّ أيضاً على ذلك هو أنّه إمام في جميع الدين ورئيس في الشرع كلّه ، فلا واجب عقلي ، ولا عبادة شرعية إلاّ وهو الرئيس فيها والإمام ؛ لدخول ذلك كلّه في جملة الدين الذي هو إمام في جميعه(2).

- وأمّا من جهة السمع : فيدلّ عليه قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ 4.

ص: 111


1- الشافي ص 326 ، شرح جمل العلم والعمل ص194 ، نهج الحق ص 168.
2- الذخيرة ص434.

يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألْبَابِ)(1) ، وقوله تعالى : (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2).

ثانياً : وجوب عصمة الإمام :

- استدلّ الشريف المرتضى على عصمة الإمام بأنّ حاجة الأمّة إلى الإمام تثبت عند جواز الغلط عليهم ، وانتفاء العصمة عنهم ، فلو كانوا جميعاً معصومين ، لما احتاجوا إلى الإمام ، فإن افترضنا أنّ الإمام يشارك الأمّة في جواز الخطأ ، فهذا يعني أنّه يشاركهم في علّة الحاجة إلى الإمام ، فيكون محتاجاً إلى إمام فوقه ، وهذا يلزم منه إثبات ما لا يتناهى من الأئمّة ، أو الوقوف عند إمام معصوم(3).

- واستدلّ أيضاً بأنّ الإمام لابدّ أن يكون مقتدى به ؛ لأنّ لفظ الإمامة مشتقّ من معنى الاقتداء والاتّباع ، والإجماع أيضاً حاصل على هذه الجملة ، يعني أنّ الإمام مقتدى به ، وإن كان الخلاف واقعاً في كيفية الاقتداء به وصورته ، وإذا ثبت وجوب الاقتداء به وجب أن يكون معصوماً ؛ لأنّه إذا كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله أن يكون قبيحاً ، ويجب علينا موافقته 0.

ص: 112


1- سورة الزمر 39 : 9.
2- سورة يونس 10 : 35.
3- الذخيرة ص430.

فيه من حيث وجب الاقتداء به ، وفي استحالة تعبدنا بالأفعال القبيحة دليل على أنّ من أوجب علينا الاقتداء به لابدّ أن يكون ذلك منه مأموناً ، ولا يكون كذلك إلاّ وهو معصوم(1).

ولا يلزم على ذلك عصمة الأمراء والحكّام ؛ لأنّهم متى ما لم يكونوا معصومين ، أحوجناهم إلى رئيس يكون فوقهم ، وهو الإمام ، وأمّا الإمام فهو رئيس الكلّ ، ولا رئيس له ، ولا يد فوق يده ، فتجب له العصمة(2).

وهذه العصمة واجبة عقلاً وسمعاً :

- أمّا من جهة العقل : فلمّا يترتب على القول بعدم عصمته من المفاسد الآتية :

1 - لزوم اجتماع النقيضين : لوجوب اتّباعه ووجوب الامتناع عن فعل المعصية ، فعلى تقدير وقوع المعصية منه يلزم اتّباعه فيها والامتناع عنها ، وهو تكليف بما لا يطاق.

2 - لزوم الدور والتسلسل : لأنّ الوجه في الاحتياج إلى الإمام هو تصحيح أخطاء الأمّة ، كالنبيّ ، فلو وقع منه الخطأ لزم تصحيحه من إمام آخر ، فيدور أو يتسلسل.

3 - لزوم نفي الغرض : لأنّ الغرض من الإمامة هو هداية العباد إلى ما فيه صلاحهم ، ونهيهم عمّا فيه مفسدة لهم ، فبتقدير وقوع المعصية منه جاز 4.

ص: 113


1- الشافي في الإمامة ج1 ص309.
2- شرح جمل العلم والعمل ص194.

أن يأمرهم بما هو مفسدة لهم وينهاهم عمّا هو مصلحة لهم ، فينتفي الغرض.

4 - لزوم إفحامه وعدم اتباعه فيما لو جاز عليه الخطأ : لأنّ الرعية لاتتّبعه إلاّ في ما علمت صوابه ، ولا يعلم الصواب إلاّ منه ، فيلزم الدور.

5 - لزوم عدم كون فعله وقوله حجّة مطلقاً : للشكّ في صحة أقواله وأفعاله.

6 - لزوم وقوع الخلل في الشريعة : لأنّ الإمام حافظ للشرع ، فبتقدير وقوع المعصية منه أو الخطأ يلزم عدم حفظ الشريعة وذهاب كثير من أحكامها.

7 - حطّ منزلته من القلوب ، وسقوط محلّه من النفوس.

8 - وجوب أمر الرعية له بالمعروف ونهيهم إيّاه عن المنكر : ولا يخفى ما في ذلك من فساد.

9 - لزوم كونه غير مقبول الشهادة والرواية في بعض الصور.

10 - لو جاز عليه الخطأ والسهو لجاز أن يتعدّى الحدود خطأ وسهواً.

11 - لو جاز عليه الخطأ والسهو لجاز أن يترك بعض الواجبات وأن يفعل بعض المحرّمات ، ولجاز أن يترك الجميع بناءً على وحدة الملاك والملازمة.

12 - لزوم كونه أقلّ درجة من عوام الناس وهو قبيح(1). ص

ص: 114


1- انظر : الذخيرة في علم الكلام ص 429 - 431 ، شرح جمل العلم والعمل ص

وأمّا من جهة السمع فلما يلي :

1 - لقوله تعالى : (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(1) والإمامة عهد الله تعالى كالنبوة ، والظالم عاص ولو لنفسه لقوله تعالى : (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)(2) ، فلزم أن لا يكون الإمام عاصياً مطلقاً.

- روى ابن أبي حاتم وابن جرير وابن إسحاق عن ابن عبّاس في معنى قوله تعالى : (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يخبره أنّه كائن في ذرّيته ظالم لا ينال عهده ، ولا ينبغي أن يولّيه شيئاً من أمره(3).

- وعن مجاهد وعكرمة في معنى الآية : لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به.

- وفي لفظ : لا يكون إماماً ظالماً(4).

- وفي لفظ عن عطاء : فأبى أن يجعل ظالماً إماماً.

- وعن مقاتل نحو ذلك(5).

2 - ولقوله تعالى : (وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ 8.

ص: 115


1- سورة البقرة 2 : 124.
2- سورة البقرة 2 : 229.
3- انظر : تفسير ابن أبي حاتم ج1 ص222 ح1175 ، الدرّ المنثور ج1 ص288.
4- انظر : تفسير الطبري ج1 ص578 - 579 ح1948 - 1955 ، الدرّ المنثور ج1 ص288.
5- انظر : تفسير ابن أبي حاتم ج1 ص223 ح1178.

الظَّالِمُونَ)(1) فعلى تقدير خطأ الإمام أو معصيته أو تعدّيه الحدود لم يكن ممّن يحكم بما أنزل الله فيكون ظالماً.

3 - ولقوله تعالى : (أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)(2) فعلى تقدير معصية الإمام يلزم أن يكون الله جلّ وعلا هو الذي يأمر بفعل المعصية ؛ للزوم طاعة وليّ الأمر على الإطلاق ، وهو باطل ؛ كما يستلزم الجمع بين النقيضين ؛ لأمره تعالى بعدم فعل المعاصي ، فوجب أن يكون الإمام معصوماً.

4 - ولقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(3) فعلى تقدير وقوع الخطأ من وليّ الأمر لاستلزم عدم حصول العلم ، وهو مناف لمفاد الآية الكريمة ، فوجب أن يكون معصوماً.

5 - ولقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «لا طاعة في معصية الله».

- وفي لفظ : «لا طاعة لأحد في معصية الله».

- وفي لفظ : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

- وفي لفظ : «لا طاعة لبشر في معصية الله»(4). ضع

ص: 116


1- سورة المائدة 5: 45.
2- سورة النساء 4: 59.
3- سورة النساء 4 : 83.
4- انظر : صحيح مسلم ج6 ص15 - 16 ، صحيح البخاري ج9 ص159 ح32 ومواضع أخر ، سنن أبي داود ج3 ص31 ح2625 و2626 ، سنن الترمذي ج4 ص182 ح1707 ، سنن النسائي ج7 ص159 - 160 ، سنن ابن ماجة ج2 ص955 - 956 ح2863 - 2865 ، مسند أحمد ج1 ص94 و129 و131 و409 ؛ وج4 ص426 و427 و432 و436 ؛ وج5 ص66 و67 و70 ، المعجم الكبير ج3 ص208 ح150 وص211 ح3159 و3160 ؛ وج18 ص150 ح324 وص165 ح367 وص170 ح381 وص171 ح385 وص177 ح407 وص184 - 185 ح432 - 438 وص229 ح570 و571 ، مسند أبي يعلى ج1 ص241 ح279 و308 - 309 ح377 ، مسند البزّار ج9 ص11 ح3511 وص54 ح3581 ، وص54 ح3581 ، وص70 - 71 ح3599 وص81 ح3614 ، صحيح ابن حبّان ج7 ص47 - 48 ح4548 - 4550.

ولا يخفى ما في ذلك من معارضة لقوله تعالى : (أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ، لو كان وليّ الأمر عاصياً ، فلزم أن يكون معصوماً.

ثالثاً : أن يكون تعيين الإمام بالنصّ وليس بالاختيار :

وهذا النصّ يجب أن يكون من الله تعالى ، أو من النبيّ ، أومن إمام سابق ثبتت إمامته بالنصّ ، أو ظهور المعجزة على يده ، والأدلّة على ذلك كثيرة عقلاً وسمعاً.

- أمّا من جهة العقل فلما يأتي :

1 - إنّ نصب الإمام لطف من الله تعالى ورحمة ، واللطف واجب عليه تعالى ؛ لأنّه يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ، فنصب الإمام واجب عليه تعالى.

ص: 117

ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا للهدَى)(1) ، وقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(2).

2 - وجوب كون الإمام معصوماً كما تقدّم ، والعصمة من الأمور الخفيّة الّتي لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى.

3 - وجوب كونه أعلم الأمّة ؛ لحاجة الأمّة إلى العلم بكلّ ما كلّف الله به عباده ، ولحفظ الشريعة وإدامة هذا الحفظ إلى قيام الساعة ، ولا سبيل للعلم بأعلم الأمّة إلاّ بنصّ عليه ، وإلاّ لاستلزم الدور أو التسلسل لوكان التعيين من الناس.

4 - إنّ اختيار الله تعالى أفضل من اختيار الناس ضرورة ؛ لجواز حصول الخطأ في اختيارهم ، وعدمه في اختياره ؛ لأنّه تعالى أعلم بمن يختار ، والقول بخلاف ذلك يوجب الكفر.

5 - إنّه يقبح بالحكيم أن يهمل الناس ويدعهم بلا راع أو سائس أو رقيب ؛ لما يستلزمه ذلك من حصول الاختلاف المؤدّي إلى الفوضى والهرج والتناحر والتقاتل.

6 - إنّ الأمّة قد تختار أكثر من إمام واحد في آن واحد بسبب اختلاف الآراء ، ولا يخفى ما في ذلك من فساد قد يؤدّي إلى القتال بين المختلفين.

7 - إنّ دعوى انعقاد الإمامة باختيار شخص أو شخصين أو خمسة 4.

ص: 118


1- سورة الليل 92 : 12.
2- سورة الأنعام 6 : 54.

أشخاص من أهل الحلّ والعقد فيه حيف لباقي المسلمين وإجحاف بحقّهم ؛ لأنّ الحلّ والعقد لا يقتصر على هؤلاء كما لا يخفى.

8 - إنّه يلزم من القول بالاختيار التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه إن تعلّق بجميع الناس على سبيل الرضا والاتفاق ، فهو محال ، وإن تعلّق ببعضهم دون بعض ، فهو ترجيح بلا مرجّح(1).

- وأمّا من جهة السمع فلما يأتي :

1 - لقوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(2).

2 - ولقوله تعالى : (وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ)(3) ، ولا يخفى أنّ نصب الإمام من قصد السبيل ضرورة.

3 - ولقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا للهدَى) ، ولا يخفى أنّ نصب الإمام إمّا من الهدى فيجب ، أو مقدّمة له فتجب.

4 - ولقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ)(4) ، فبدون تعيينه لا تصحّ الدعوة به. 1.

ص: 119


1- انظر : الذخيرة في علم الكلام ص 436 - 437 ، شرح جمل العلم والعمل ص 199 - 201.
2- سورة القصص 28 : 68.
3- سورة النحل 16 : 9.
4- سورة الإسراء 17 : 71.

5 - ولقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»(1).

- وفي لفظ : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(2).

وفيه دلالة واضحة على وجوب معرفة الإمام ، وهذه المعرفة لا تتم إلاّ بالنصّ.

6 - ولقول علي أمير المؤمنين عليه السلام : «اللّهم إنّك لا تخلي الأرض من حجّة على خلقك إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ؛ لئلاّ تبطل حججك وبيّناتك»(3).

أمّا الروايات الواردة من طرق أهل البيت عليهم السلام فهي متواترة بهذا المعنى. 4.

ص: 120


1- انظر : مسند أحمد ج4 ص96 ، المعجم الكبير ج10 ص289 ح10687 ؛ وج19 ص388 ح910 ، المعجم الأوسط ج6 ص128 ح5820 ، مسند الشاميّين ج2 ص 437 - 438 ح1654 ، مسند أبي يعلى ج13 ص366 ح7375 ، السنّة ص489 ح1057 ، مسند الطيالسي ص259 ح1913 ح 1654 ، صحيح ابن حبّان ج7 ص49 ح4554 ، حلية الأولياء ج3 ص224 ، وقال : هذا حديث صحيح ثابت أخرجه مسلم بن الحجّاج في صحيحه.
2- انظر : شرح العقائد النسفية ص232 ، شرح المقاصد ج5 ص239.
3- انظر : الفصول المختارة ص325 ، الغارات ص91 ، غرر الحكم ودرر الكلم ج2 ص362 رقم 384.

المطلب الثاني

تعيين الإمام

بيّنا في ما تقدّم - في ضوء ما قرّره الشريف وغيره من الأعلام - أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل الناس ، وأن يكون معصوماً ، وأن تكون إمامته بالنصّ ؛ وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ هذه الشروط الثلاثة لم تثبت إلاّ لعليّ بن أبي طالب عليه السلام والعلم بذلك ضروري لما سنبيّنه.

أوّلاً : كونه عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

استدلّ الشريف المرتضى على أفضلية أمير المؤمنين(ع) بعدّة أدلّة :

منها : إجماع الشيعة الإمامية ، فإنّهم قد أجمعوا على أنّه صلوات الله عليه أفضل الأمّة بعد رسول الله(ص) ، وإجماع الإمامية حجّة.

ومنها : خبر تبوك أو المنزلة ، فإنّ النبيّ(ص) قد جعل له(ع) جميع منازل هارون من موسى ، إلاّ ما خصّه العرف وأخرجه الاستثناء ، ومن المعلوم أنّ أحد منازل هارون من موسى أنّه كان أفضل أمّته ، وخيرهم ، وأعلاهم قدراً.

ومنها : خبر الطائر المشوي ، فإنّ المحبّة إذا أضيفت إلى الله تعالى ، فلا وجه لها إلاّ ما يرجع إلى الدين ، وكثرة الثواب ، فيكون الأحبّ إلى اللهِ منهم

ص: 121

هو الأفضل(1).

وهذه الأفضلية شاملة لما يأتي :

1 - الإيمان والإسلام :

قد ثبت بالتواتر أنّ أوّل الناس إسلاماً وأقدمهم إيماناً هو عليّ بن أبي طالب حتّى استفاض عنه قوله عليه السلام : «صلّيت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة»(2).

وتوقّفُ بعضهم في ذلك بدعوى صغر سنّه مردود ؛ لأنّ فيه طعناً في النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى ؛ فإنّه دعاه إلى الإسلام ولم يدع غيره إلى أن أَمَرَهُ الله تعالى بدعوة عشيرته الأقربين ، وهم بنو عبد المطّلب ، وكان ذلك في سنة ثلاث من تاريخ البعثة المشهور ، ثمّ كانت بعد ذلك دعوة عموم الناس. 1.

ص: 122


1- الذخيرة ص491.
2- انظر : مسند أحمد ج1 ص99 و141 ؛ وج4 ص368 و371 ؛ وج5 ص26 ، سنن الترمذي ج5 ص600 ح3734 ، سنن النسائي الكبرى ج5 ص43 - 44 ح8137 وص105 - 107 ح8391 - 8396 ، سنن ابن ماجة ج1 ص44 ح120 ، المعجم الكبير ج11 ص21 ح10924 وص321 ح12151 ؛ وج19 ص291 ح648 ، المعجم الأوسط ج2 ص240 ح1767 ؛ وج7 ص302 ح7427 ، مسند أبي يعلى ج1 ص348 ح447 ، مسند الطيالسي ص93 ح678 ، مصنّف عبد الزاق ج5 ص325 ح9719 ؛ وج11 ص227 ح20392 ، مصنّف ابن أبي شيبة ج7 ص498 ح21 و22 وص503 ح49 ، طبقات ابن سعد ج3 ص19 - 20 ، السنّة ص584 ح1324 ، فوائد ابن منده ج1 ص54 ح133 ، المستدرك على الصحيحين ج3 ص121 ح4584 و4585 وص528 ح5963 وص571 ح6121.

وقد أثبتنا في بعض تحقيقاتنا أنّ عمره الشريف عند بداية البعثة كان اثنى عشر عاماً في أقلّ الاحتمالات ، وقد ذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك.

كما أثبتنا أيضاً في بعض تحقيقاتنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل عليه الوحي وعمره سبعة وثلاثون عاماً ، فيكون قد سبق غيره إلى الإسلام بسبع سنين.

قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(1).

وروي عن أبن عبّاس أنّه قال : سابق هذه الأمّة عليّ بن أبي طالب(2).

أضف إلى ذلك أنّ المسلمين أجمعوا على أنّه عليه السلام لم يسجد لصنم قط ؛ فلذلك يُقال فيه : «كرّم الله وجهه» أي كرّمه الله تعالى عن السجود لأيّ صنم ، وهذا مما اختص به دون غيره ، وقد عدّ الشافعي اختصاص صيغة (رض) بالصحابة ، واختصاص (كرّم الله وجهه) بعليّ ، فلا يقال لغير عليّ : كرّم الله وجهه ؛ لأنّه لم يسجد لصنم بخلاف غيره من الصحابة(3).

2 - العلم :

وحصول العلم بأعلميته عليه السلام ضروري نصّاً وفعلاً.

أمّا من طريق النصّ فلما يأتي : 7.

ص: 123


1- سورة الواقعة 56 : 10 و11.
2- ما نزل من القرآن في علي ص240 ، شواهد شواهد التنزيل ج2 ص216 ح929 ، تاريخ دمشق ج42 ص44.
3- انظر : إيضاح الفوائد ج1 ص6 ، طبقات ابن سعد ج3 ص20 ، الصواعق المحرقة ص72 ، تفسير فرات الكوفي ج1 ص249 ح337.

- لقوله تعالى : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد)(1) فلابدّ أن يكون هذا الهادي هو الأعلم وإلاّ لم تحصل الهداية.

وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أنا المنذر وعليّ

الهادي ، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون من بعدي».

- وفي لفظ عن عليّ : «والهادي رجل من بني هاشم»(2).

- ولقوله تعالى : (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(3).

فقد روي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ : «إنّ الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك ، وأن تعي ، وحقّ لك أن تعي» فنزلت هذه الآية (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(4).

- ولقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) لفاطمة عليها السلام : «أما ترضين أنّي زوّجتك أقدم أمّتي 7.

ص: 124


1- سورة الرعد 13 : 7.
2- انظر : مسند أحمد ج1 ص126 ، المعجم الأوسط ج2 ص94 ح1383 ، المعجم الصغير ج1 ص261 ، تفسير ابن أبي حاتم ج7 ص2225 ح12152 ، تفسير الطبري ج7 ص344 ح20161 ، المستدرك على الصحيحين ج3 ص140 ح4646 ، تفسير الثعلبي ج5 ص272 ، معرفة الصحابة ج1 ص88 ح344 ، تاريخ بغداد ج12 ص 372 ، فردوس الأخبار ج1 ص42 ح103 ، تاريخ دمشق ج42 ص359 - 360.
3- سورة الحاقة 69 : 12.
4- انظر تفسير ابن أبي حاتم ج10 ص3369 - 3370 ح18961 و18962 ، تفسير الطبري ج12 ص213 ح34771 - 34773 ، أنساب الأشراف ج2 ص363 ، تفسير الثعلبي ج10 ص28 ، معرفة الصحابة ج1 ص88 ح345 ، حلية الأولياء ج1 ص67 ، تفسير الماوردي ج6 ص80 ، أسباب النزول ص245 ، الكشّاف ج4 ص151 ، تاريخ دمشق ج42 ص361 ، تفسير ابن كثير ج4 ص414 ، الدرّ المنثور ج8 ص267.

سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً»(1).

- ولقوله عليه السلام : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها».

- وفي لفظ : «أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها»(2).

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، كقوله (صلى الله عليه وآله) : «أقضاكم عليّ» ، قال المقدسي : «يعني أفقهكم»(3) وهو يستلزم الأعلمية.

ودعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) له بأن يهدي قلبه ويثبّت لسانه ، عندما بعثه إلى اليمن

ليقضي بينهم ، ثم قوله (صلى الله عليه وآله) : «فما شككت في قضاء بين اثنين» مشهور ، وقد رواه جمع من أصحاب السنن والمسانيد(4) ، وأعلميته بالقضاء معروفة بينود

ص: 125


1- انظر : مسند أحمد ج5 ص26 ، المعجم الكبير ج1 ص94 ح156 ؛ وج20 ص230 ح538 ، مصنّف عبد الرزاق ج5 ص490 ح9783 ، مصنّف ابن أبي شيبة ج7 ص505 ح68 ، المستدرك على الصحيحين ج3 ص140 ح4645 ، تلخيص المتشابه - للخطيب ج1 ص472 رقم 786 ، المتّفق والمفترق - للخطيب - ج1 ص162 ح39 ، تاريخ دمشق ج42 ص126 و131 - 133 ، مجمع الزوائد ج9 ص101 و114 ، وقال : رواه أحمد ، والطبراني برجال وثِّقوا.
2- معرفة الرجال ج1 ص79 رقم 231 ؛ وج2 ص242 رقم 831 و832 ، فضائل الصحابة ج2 ،789 ، سنن الترمذي ج5 ص596 ، المعجم الكبير ج11 ص55 ، تهذيب الأثار - مسند علي - ص104 - 105 ، المستدرك ج3 ص137- 138 ، معرفة الصحابة ج1 ص88 ، حلية الأولياء ج1 ص64 ، تاريخ جرجان ص65 ، الاستيعاب ج3 ص1102 ، تاريخ بغداد ج2 ، 377 وج4 ص348 ؛ وج7 ص173 ؛ وج11 ص48 - 50 ، تلخيص المتشابه ج1 ص162 رقم 251 ، أحسن التقاسيم ص127 ، فردوس الأخبار ج1 ص42 ، مصابيح السنّة ج4 ص174 ، تاريخ دمشق ج42 ص378 - 387.
3- انظر : أحسن التقاسيم ص127.
4- انظر : مسند أحمد ج1 ص88 و111 و136 و156 ومواضع أخر ، سنن أبي داود

الصحابة ، حتّى اشتهر عن عمر بن الخطاب قوله : «أقضانا عليّ»(1).

وقيل لابن عبّاس - وهو حبر الأمّة - : أين علمك من علم ابن عمّك؟

فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط(2).

أمّا على المستوى الفعلي ، فعدم احتياجه لأحد واحتياج الكلّ إليه ، والعلم بذلك ضروري ، واشتهر عن عمر قوله : «لولا عليّ لهلك عمر»(3) ، وكان يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(4).

وقال الشريف المرتضى : «وليس يجوز أن يكون أقضى الأمّة ، ومَن الحقّ معه في كلّ حال ، ومَن هو باب العلم والحكمة يرجع إلى غيره في الأحكام ، وليس يرجع في الأحكام إلى غيره إلاّ مَن ذهب عنه بعضها ، وافتقر إلى معرفة غيره فيها ، ومن هذا حكمه لا يجوز أن يكون أقضى الأمّة ، لأنّ أقضاها لا يجوز أن يغرب عنه علم شيء من القضايا والأحكام»(5).

- وعن سعيد بن المسيّب قال : «لم يكن أحد من أصحاب النبيّ يقول : 3.

ص: 126


1- انظر : صحيح البخاري ج6 ص46 ح8.
2- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص19.
3- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص19.
4- انظر : تأويل مختلف الحديث ص150 ، الاستيعاب ج3 ص1103 ، الرياض النضرة ج3 ص161.
5- الشافي ج1 ص202 - 203.

سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب»(1).

3 - الشجاعة :

لا خلاف بين الناس في أشجعية عليّ عليه السلام ، وقد أجمعوا على أنّه كان أشجع الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعلم بذلك حاصل بالتواتر المعنوي.

فهو لم يبرز إلى أحد إلاّ قتله ، ولم يفرّ من ساحة قتال قط ، وثباته يوم أحد عندما فرّ الجميع - سوى أبي دجانة ، وسهل بن حنيف ، ونسيبة الأنصارية - وكذلك يوم حنين عندما فرّ الجميع - سوى تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن أمّ أيمن - أفضل شاهد على شجاعته ، فضلاً عن موقفه يوم الخندق ، ويوم خيبر وغيرها من المواقف.

قال ابن أبي الحديد : «وأمّا الشجاعة ، فأنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده»(2).

4 - العبادة :

والعلم بأفضليته في العبادة ضروري.

قال ابن أبي الحديد : «كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوماً ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير ، فيصلّي عليه 20

ص: 127


1- انظر : فضائل الصحابة ج2 ص802 ح1098 ، الاستيعاب ج3 ص1103 ، الفقيه والمتفقّه ج2 ص352 ح1083 ، تاريخ دمشق ج42 ص399.
2- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص20

ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟! وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده؟!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له(1) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة - : أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال : «عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).

5 - الزهد :

أجمع الناس على أنّه (صلى الله عليه وآله) كان أزهد أهل زمانه ، فهو الذي طلّق الدنيا ثلاثاً(3) ، وقد كان قوته الشعير غير المأدوم ، ولم يشبع من البُر ثلاثة أيّام.

قال قبيصة بن جابر : «ما رأيت أزهد في الدنيا من عليّ بن أبي طالب (رض)»(4).3.

ص: 128


1- الاستحذاء : الخضوع والذل.
2- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص27.
3- انظر : نهج البلاغة : 480 رقم 77 ، أمالي القالي ج2 ص147 ، حلية الأولياء ج1 ص84 - 85 ، الاستيعاب ج3 ص1107 - 1108.
4- الزهد ص166 ح403.

وقال عمر بن عبد العزيز : «أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب (رض)».

- وفي لفظ : «ما علمنا أنّ أحداً كان في هذه الأمة أزهد من عليّ بن أبي طالب بعد النبيّ»(1).

وقال ابن أبي الحديد : «وأمّا الزهد في الدنيا ، فهو سيّد الزهاد ، وبدل الأبدال ، وإليه تشدّ الرحال ، وعنده تنفضّ الأحلاس ، ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً»(2).

6 - السخاء :

أمّا السخاء والجود فقد كان أسخى الناس ، كيف لا؟! وقد جاد بنفسه عند مبيته على فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليلة هجرته ، فأنزل الله في حقّه : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله)(3).

- وعن ابن عبّاس في حديث قال : «وشرى عليّ نفسه ، لبس ثوب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثمّ نام مكانه .. الحديث»(4). ير

ص: 129


1- انظر : أمالي ابن سمعون ص108 - 109 ح40 ، تاريخ دمشق ج42 ص489 ، البداية والنهاية ج8 ص5 ، مناقب ابن شهر آشوب ج2 ص108 عن اللؤلؤيات.
2- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص26.
3- انظر : تفسير الثعلبي ج2 ص125 - 126 ، مستدرك الحاكم ج3 ص5 ح4263 و4264 ، تاريخ دمشق ج42 ص67 - 68 ، تفسير الرازي ج5 ص222 ، تفسير القرطبي ج3 ص16.
4- مسند أحمد ج1 ص331 ، السنن الكبرى ج5 ص113 ح8409 ، المعجم الكبير

- وهو الّذي نزل فيه قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً)(1).

وقد شهد له بذلك حتّى أعداؤه ومبغضوه.

- قال الشعبي - وقد ذكره عليه السلام - «كان أسخى الناس ، كان على الخلق الّذي يحبّه الله : السخاء والجود ، ماقال لا لسائل قط»(2).

- وقال معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبّي لمّا قال له : «جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك! كيف تقول : إنّه أبخل الناس؟ لو ملك بيتاً من تبر وبيتا من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه»(3).

7 - الحلم :

لم يعهد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هو أكثر حلماً من عليّ عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد : «وأمّا الحلم والصفح ، فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسيء(4). والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة. 2.

ص: 130


1- انظر : تفسير عبد الرزاق ج1 ص108 ، تفسير ابن أبي حاتم ج2 ص543 ح2883 ، تفسير ابن المنذر ج1 ص48 - 49 ح22 ، المعجم الكبير ج11 ص80 ح11164 ، تفسير الثعلبي ج2 ص279 ، تفسير الماوردي ج1 ص347 ، أسباب النزول ص49 ، تاريخ دمشق ج42 ص358.
2- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص22.
3- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص22.
4- شرح ابن أبي الحديد ج1 ص22.

منها : عفوه عن أصحاب الجمل وفيهم مثل مروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص.

ومنها : عدم معاملته لأهل الشام بالمثل عندما سيطر على الماء بعد أن أزاحهم عنه ، وكانوا قد منعوا أهل العراق من شرب الماء كي يموتوا عطشاً.

ومنها : صفحه عن بعض الخوارج عندما سبّوه وعزموا على قتله(1).

ثانياً : كونه عليه السلام معصوماً :

وعصمته ثابتة سمعاً وفعلاً.

- أمّا من جهة السمع ، فلكونه أحد الخمسة الذين نزل فيهم قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).

واختصاص الآية الكريمة بالخمسة عليهم السلام مرويّ عن أمّ سلمة ، وعائشة ، وابن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن أرقم ، وأبي الحمراء ، وأبي الدرداء ، وعمر بن أبي سلمى ، وسعد بن أبي وقّاص ، وثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وواثلة بن الأسقع ، فضلاً عمّا روي من طرق أهل البيت عليهم السلام ، قد خرّج ذلك جمع من الأئمة والحفّاظ والمفسّرين(3). 05

ص: 131


1- انظر : نهج البلاغة ص550 رقم 420 ، المبسوط ج10 ص124 - 125.
2- سورة الأحزاب 33 : 33
3- انظر : صحيح مسلم ج7 ص130 ، سنن الترمذي ج5 ص327 - 328 ح3205

ولا يخفى أنّ هذه الطرق تربو على حدّ التواتر بحسب مبنى كثير من أعلام الجمهور ، فضلاً عن تواتره من طرق أهل البيت عليهم السلام.

ويدلّ على الاختصاص أيضاً ، أنّ لفظة (إنّما) محقّقة لما أُثبت بعدها - وهو إرادة الطهارة من الرجس - نافية لما لم يثبت - وهو عدمها - وهو وصف سلبي عمّ غير الخمسة عليهم السلام ، فلو كان المراد من الإرادة التعميم لانتفت أيّة فضيلة في ذلك ؛ لاستواء المكلّفين في ذلك ، فلم يبق إلاّ الاختصاص ، وهو الحقّ(1). 4.

ص: 132


1- انظر : الشافي ج3 ص : 134.

وما روي عن عكرمة الخارجي من كون المراد بها نساء النبيّ مردود ؛ لضعف عكرمة ، وعدم نهوض ما ذكره في معارضة ما يربو على حدّ التواتر.

أما وجه الاستدلال بالآية الكريمة على عصمته ، فهو لنفي الرجس عنه ، والرجس هو مطلق الذنب ، أو عمل الشيطان ، وما ليس لله فيه رضاً كما عن ابن عبّاس.

ولا يعني ذلك الإلزام بها والجبر عليها ، وإنّما امتناعه عن الذنب باختياره مع القدرة عليه وإلاّ لانتفت أيّة فضيلة له في ذلك ؛ لأنّه يصبح مجبراً على أن يكون معصوماً ، ويكون غير المعصوم المطيع لله تعالى أفضل حالاً منه ، وهو ينافي الحكمة.

وبناءً على ثبوت هذه العصمة تثبت إمامة عليّ عليه السلام لأنّه لا خلاف في أنّه ادعى الخلافة لنفسه ، والكذب من أعظم الرجس ، ولاسيّما في مثل هكذا دعوة ، فيكون صادقاً بالضرورة.

وهذه الآية وحدها كافية في إثبات عصمته (وسنقتصر عليها وإلاّ فغيرها كثير.

- أما ثبوت عصمته من الجهة الفعلية ، فلم يعهد عنه معصية أو ذنب مدّة حياته ، بل لم يسجد لصنم قبل الإسلام ، فلذلك يقال عنه : (كرم الله وجهه) ، كما تقدّم.

ص: 133

ثالثاً : كونه عليه السلام منصوصاً على إمامته :

والنصوص على ذلك كثيرة :

منها : قوله تعالى : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)(1).

فقد روى جمع من الأئمّة والمفسّرين من عدّة طرق وبألفاظ متقاربة عن عليّ ، وأبي رافع ، وابن عبّاس عن عليّ ، أنّه عند نزول هذه الآية في مبدأ الدعوة الإسلامية أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) عليّاً أن يصنع له صاعاً من طعام ويجعل عليه رجل شاة ، وأن يعدّ عسّاً من لبن ، وأن يدعو له بني عبد المطّلب وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فأكلوا حتّى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، وشربوا حتّى رووا وبقي الشراب كأنّه لم يُمسّ ... ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وإنّ ربّي أمرني أن أدعوكم ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟». فأحجم القوم جميعاً غير عليّ - وكان أصغرهم - فقام وقال : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ رسول الله برقبته ثم قال : «هذا أخي ووصيّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا«فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

- وفي لفظ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «أنت أخي ، وصاحبي ، ووريثي ، 4.

ص: 134


1- سورة الشعراء 26 : 214.

ووزيري».

- وفي لفظ : «أنت أخي ، ووزيري ، ووصيّي ، وقاضي ديني ، ومنجز عداتي».

- وفي لفظ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي».

- وفي لفظ : «من يؤاخيني ويؤازرني ، ويكون وليّ ، ووصيّي بعدي ، وخليفتي في أهلي ، وقاضي ديني».

- وفي لفظ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «أنت أخي ، ووصيّي ، وخليفتي من بعدي ، وقاضي ديني»(1).

ويعدّ هذا الحديث الشريف أوّل نصّ - كما هو المشهور - على خلافة ة.

ص: 135


1- السنن الكبرى ج5 ص125 - 126 ح8451 ، مسند أحمد ج1 ص111 و159 ، فضائل الصحابة ج2 ص707 - 7 - 8 ح1108 وص871 ح1196 وص887 ح1220 ، طبقات ابن سعد ج1 ص158 ، مسند البزّار ج2 ص105 - 106 ح456 ، تهذيب الآثار - مسند علي - ج4 ص60 - 63 ح127 ، وفي تفسيره ج9 ص483 - 484 ح26806 ، وفي تاريخه ج1 ص542 - 543 ، شرح معاني الآثار ج3 ص284 - 285 ؛ وج4 ص387 ، تفسير ابن أبي حاتم ج9 ص2826 - 2827 ح16015 ، والدارقطني في علله ج3 ص75 رقم ، تفسير الثعلبي ج7 ص182 ، دلائل النبوة لأبي نعيم ج2 ص425 ح331 ، دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص179 - 180 ، تفسير البغوي ج3 ص341 - 342 ، تاريخ ابن عساكر ج42 ص48 - 50 ، المنتظم ج2 ،ص124 ، تفسير ابن كثير ج3 ص339340 ، المواقف ص406 ، مجمع الزوائد ج8 ص302 ، عن البزّار وأحمد والطبراني في الأوسط وقال : رجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح ، غير شريك وهو ثقة.

عليّ عليه السلام من بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لقرينة قوله (صلى الله عليه وآله) : «وخليفتي من بعدي» مع فرض السمع والطاعة له بقرينة قوله (صلى الله عليه وآله) : «فاسمعوا له وأطيعوا».

وما ورد في بعض النصوص من قوله «وخليفتي في أهلي» فالظاهر أنّه من إضافات الرواة أو تحريفاتهم كما لا يخفى ، وإلاّ فلا وجه لقوله (صلى الله عليه وآله) لبني عبد المطّلب «فأسمعوا له وأطيعوا» إذا كانت خلافته مقتصرة على أهله فحسب.

أمّا ما رواه جمع من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد عن أبي هريرة أنّه قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أنزل الله عزوجل : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ، قال : «يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد مناف ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، ياعبّاس بن عبد المطّلب ، لا أغنى عنك من الله شيئاً ، ويا صفيّة عمّة رسول الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمّد ، سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئاً»(1).

وروي نحو هذا اللفظ عن ابن عبّاس ، وعائشة ، وأبي موسى 5.

ص: 136


1- انظر : صحيح البخاري ج4 ص53 ح16 ؛ وج6 ص203 ح264 ، صحيح مسلم ج1 ص133 ، سنن الترمذي ج5 ص316 ح3185 ، سنن النسائي ج6 ص248 - 250 ، سنن الدارمي ج2 ص210 ح2728 ، مسند أحمد ج2 ص333 و350 و360 و398 و449 و519 ، المعجم الكبير ج8 ص225 ح7890 ، المعجم الأوسط ج8 ص284 -285 ح8511 ، مسند أبي يعلى ج11 ص213 ح6327 ، صحيح ابن حبّان ج8 ص173 ح6515.

الأشعري ، وأبي أمامة الباهلي.

وجاء في لفظ أبي أمامة أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا حفصة بنت عمر ، ويا أمّ سلمة ، ويا فاطمة بنت محمّد ، ويا أمّ الزبير عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشتروا أنفسكم من النار ... فبكت عائشة وقالت : يا حبّي وهل يكون ذلك يوم لا تغني عنّا شيئاً؟ ...» الحديث.

إلاّ أنّ هذا ليس بتام ؛ لكونه حديثاً معلولاً من حيث السماع ، فضلاً عن نكارة متنه.

- أمّا من جهة السماع ، فلأنّ هذه الحادثة سبقت إسلام أبي هريرة - راوي الحديث - بثمانية عشر عاماً أو أكثر ، وكان عمره في ذلك الوقت نحو عشر سنين ، يكتنفه البؤس والجوع ، منشغلاً برعي الغنم والحُمر في جبال دوس باليمن ، واللعب مع هرته - كما حكاه الترمذي وابن سعد وابن عساكر وغيرهم(1) - التي كنّي بها حتّى لازمته إلى أن مات ، ولم يعرف له اسم صحيح على التحقيق إلى يومنا هذا ، ولا ندري متى حضر ورأى قيام النبيّ وسمع خطابه لقريش وما ألَّم بالإسلام إلاّ بعد غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة؟!

- وكذلك الحال بالنسبة لرواية أبي موسى الأشعري ؛ فإنّه لم يسلم إلاّ بعد غزوة خيبر.

- وأيضاً لا يمكن قبول ما روي عن ابن عبّاس ؛ لأنّه لم يكن قد ولد 8.

ص: 137


1- انظر : سنن الترمذي ج5 ص644 ح3840 ، طبقات ابن سعد ج5 ص234 ، تاريخ دمشق ج67 ص312 - 313 ، سير أعلام النبلاء ج2 ص588.

بعد.

- وكذلك ما روي عن عائشة ، فالمشهور أنّها لم تكن ولدت بعد ، أو صغيرة السنّ ، فقد كان عمرها نحو خمس سنين كما حقّقناه في بعض مصنّفاتنا(1).

- أمّا بالنسبة لما روي عن أبي أمامة ، فكذلك لا يصحّ ؛ لصغر سنّه ، فقد كان عمره نحو ثمان أو تسع سنين ، فضلاً عن كونه باهليّاً من قيس عيلان ، فما وجه دخوله مع بني عبد المطّلب ، والخطاب موجّه إليهم بمقتضى لسان روايته.

وأمّا من جهة نكارة المتن ، فلدعوى مخاطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فاطمة عليها السلام مع أنّها لم تكن ولدت بعد على المشهور ، أو كان عمرها سنة واحدة على التحقيق ، وكذلك دعوى مخاطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعائشة وحفصة وأمّ سلمة - كما في لفظ أبي أمامة - باعتبارهنّ زوجاته مع أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يكن قد تزوّج بهنّ بعد.

كما لا يمكن عدّ قريش عشيرته الأقربون كما عن غير واحد من أعلام الجمهور ، كالطحاوي وغيره.

وعليه فلا يصحّ هذا الخبر للمعارضة وللعلل المتقدمة.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ 8.

ص: 138


1- انظر : كتابنا شبهات السلفية ص 238.

يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1).

فقد أجمع الأئمّة والمفسّرون على نزولها في عليّ عليه السلام(2) ، وذلك عندما سأل سائل في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يعطه أحد ، وكان عليّ راكعاً ، فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، فأخبر رسول الله بذلك ، فنزلت هذه الآية.

- وفي لفظ للطبراني - زاد : فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(3).ر.

ص: 139


1- سورة المائدة 5 : 55.
2- المواقف ص405 ، شرح المقاصد ج5 ص270 ، شرح المواقف للجرجاني ج8 ص360 شرح التجريد ص476. نعم ، ذهب بعضهم إلى أنّها نزلت في عبادة بن الصامت ، ولا يصحّ ؛ لأنّه لم يحدث أن تصدّق أحد في ركوعه غير علي على الإطلاق.
3- انظر جامع الأصول ج8 ص664 ح6515 ، عن رزين العبدري في الجمع بين الصحاح الستة عن النسائي ، المعجم الأوسط ج6 ص294 ح6232 ، تفسير مقاتل ج1 ص307 ، تفسير الطبري ج4 ص628 - 629 ح12215 - 12129 ، تفسير ابن أبي حاتم ج4 ص1162 ح6549 ، المعيار والموازنة : 228 ، أنساب الأشراف ج2 ص381 ، أحكام القرآن ج2 ص625 - 626 ، معرفة علوم الحديث ص102 ، تفسير الماوردي ج2 ص49 ، المتّفق والمفترق ج1 ص258 ح106 ، أسباب النزول ص110 - 111 ، تفسير البغوي ج2 ص38 ، الكشّاف ج1 ص624 ، تاريخ دمشق ج42 ص357 ، زاد المسير ج2 ص227 ، تفسير الرازي ج12 ص28 ، تفسيرالقرطبي ج6 ص143 - 144 ، تفسير ابن كثير ج2 ص67 - 68 ، مجمع الزوائد ج7 ص17 ، الدرّ المنثور ج3 ص104 - 106 ، عن عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والخطيب ، وابن عساكر.

- واستدلّ الشريف المرتضى بهذه الآية ، فقال : «ترتيب الاستدلال بهذه الآية على النصّ هو أنّه قد ثبت أنّ المراد بلفظة (وليّكم) المذكورة في الآية من كان متحقّقاً بتدبيركم والقيام بأموركم ويجب طاعته عليكم ، وثبت أنّ المعنى ب- : (الذين آمنوا) أمير المؤمنين عليه السلام. وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماماً لنا»(1).

والوجه في الاستدلال بالآية الكريمة على إمامته عليه السلام أنّ الله تعالى قرن ولايته بولاية رسوله وبولايته تعالى ، فيكون معنى الآية : إنّما الأولى بكم ، والقائم بإموركم هو الله ورسوله وأمير المؤمنين عليّ.

ومنها : قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(2).

فقد روى جمع من أئمّة التفسير والحفّاظ أنّ هذه الآية الشريفة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب(3).

وقال الشريف المرتضى مقرّراً لوجه الاستدلال بحديث الغدير : «الوجه ر.

ص: 140


1- الشافي ج2 ص217.
2- سورة المائدة 5 : 67.
3- انظر تفسير ابن أبي حاتم ج4 ص1172 ح6609 ، تفسير الثعلبي ج4 ص92 ، ما نزل من القرآن ص86 ، أسباب النزول ص112 ، تاريخ دمشق ج42 ص237 ، تفسيرالرازي ج12 ص53 ، عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج18 ص206 ، الدرّ المنثور ج3 ص117 ، عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.

المعتمد في الاستدلال بخبر الغدير على النصّ هو ما نرتّبه فنقول : إنّ النبيّ صلّى اللهُ عليه وآله استخرج من أمّته بذلك المقام الإقرار بفرض طاعته ، ووجوب التصرّف بين أمره ونهيه ، بقوله صلّى الله عليه وآله : (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟) وهذا القول وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير ، وهو جار مجرى قوله تعالى : (ألستُ بِرَبِّكُم) فلمّا أجابوه بالاعتراف والإقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام وقال عاطفاً على ما تقدّم : (فمن كنت مولاه فهذا مولاه) وفي روايات أخرى (فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فأتى عليه السلام بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدمها وإن كان محتملاً لغيره ، فوجب أن يريد بها المعنى المتقدّم الذي قرّرهم به على مقتضى استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم ، وإذا ثبت أنّه صلّى الله عليه وآله أراد ما ذكرناه من إيجابه كون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بالإمامة من أنفسهم ، فقد أوجب له الإمامة ، لأنّه لا يكون أولى بهم من أنفسهم إلاّ فيما يقتضي فرض طاعته عليهم ، ونفوذ أمره ونهيه فيهم ، ولن يكون كذلك إلاّ من كان إماماً»(1).

ولابدّ - هنا - من تحقيق ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند نزول هذه الآية يوم غدير خم.

فنقول : إنّ المشهور من حديث الغدير أنّه يقتصر على قوله (صلى الله عليه وآله) : «من 1.

ص: 141


1- الشافي ج2 ص260 - 261.

كنت مولاه فعليّ مولاه»(1).

وليس بصحيح ؛ لأنّه يعدّ طرفاً لحديث الغدير ؛ إذ يضمّ معه قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تظلّوا بعدي أبداً ، وإنّ اللطيف الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» وهو المعروف بحديث الثقلين ؛ فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قالهما في مقام واحد مع خطبة جليلة ، ولا يمنع ذلك من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد قال كلّ طرف منه بمفرده في مناسبات أخرى.

والذي يؤكّد ذلك أنّ جمعاً من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمستخرجات والمعاجم قد خرّجوا حديث الثقلين ، وورد فيها أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ظ.

ص: 142


1- مسند أحمد ج1 ص84 و88 و118 و152 ؛ وج4 ص281 ومواضع أخر ، تاريخ البخاري ج1 ص375 ، رقم 1191 ، سنن الترمذي ج5 ص591 ح3713 ، سنن ابن ماجة ج1 ص43 ح116 وص45 ح121 ، السنن الكبرى ج5 ص45 ح8144 وص131 - 132 ح8468 - 8473 وص 134 - 135 ح8478 - 8481 ، المعجم الكبير ج3 ص179 ح3049 ومواضع أخرى كثيرة ، المعجم الأوسط ج1 ص166 - 167 ح348 ، ومواضع أخرى كثيرة ، المعجم الصغير ج1 ص64 ، مسند أبي يعلى ج1 ص428 - 429 ح567 ؛ وج11 ص307 ح6423 ، مسند البزّار ج3 ص171 ح958 ؛ وج4 ص41 ح1203 ؛ وج10 ص211 - 214 ح4298 - 4300 وص233 ح4327 ؛ وج12 ص286 ح6103 ، صحيح ابن حبّان ج9 ص42 ح6892 ، مصنّف عبد الرزاق ج11 ص225 ح20388 ، مصنّف ابن أبي شيبة ج7 ص495 - 496 ح9 و10 وص499 ح28 وص503 ح55 ، السنّة ص590 - 593 ح1354 - 1376 ، مسند الروياني ج1 ص36 ح62 ، مسند الشاشي ج1 ص127 ح63 وص165 - 166 ح106 ، مستدرك الحاكم ج3 ص118 ح4576 و4577 وص126 ح4601 ، تاريخ ابن عساكر ج42 ص204 - 238 ح8678 - 8745 من طرق كثيرة جدّاً ، وغيرهم من الأئمّة والحفّاظ.

قد قاله بماء يدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، منهم - على سبيل المثال لا الحصر - : مسلم ، والنسائي ، وأحمد ، والطبراني ، والبزار ، وابن خزيمة ، وابن أبي عاصم ، وعبد بن حميد ، والطحاوي ، والبيهقي ، وابن عساكر وغيرهم(1).

كما خرّجه - بلفظ الجمع بين النصّين - جمع من الأئمّة والحفّاظ ، كالنسائي ، والطبراني ، وابن أبي عاصم ، والحاكم ، وابن عساكر وغيرهم(2).

ويعدّ حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، فقد روي عن أكثر من ثلاثين صحابيّاً ، وكذا حديث «من كنت مولاه» الذي يبلغ عدد رواته من الصحابة أكثر من مائة ، وخرّجهما السيوطي والشيخ نوح الحنفي في رسالتيهما في الأحاديث المتواترة ، وخرّج الثاني الزبيدي في لقط اللآلي وبذلك يحصل تواتر الكلّ ؛ لتواتر أطرافه.

وبضميمة مفاد حديث الثقلين إلى حديث «من كنت مولاه» ينتفي ما 9.

ص: 143


1- انظر : صحيح مسلم ج7 ص122 ، سنن النسائي الكبرى ج5 ص51 ح8175 ، مسند أحمد ج4 ص366 - 367 ، المعجم الكبير ج5 ص182 - 183 ح5026 - 5028 ، مسند البزّار ج10 ص231 ح4324 وص240 ح4336 ، صحيح ابن خزيمة ج4 ص62 ح2357 ، السنّة ص630 ح1550 - 1552 ، منتخب عبد بن حميد ص114 ح265 ، مشكل الآثار ج4 ص254 ح3797 ، سنن البيهقي ج2 ص148 ، تاريخ دمشق ج42 ص213.
2- انظر : سنن النسائي الكبرى ج5 ص45 ح8148 وص130 ح8464 ، المعجم الكبير ج3 ص180 ح3052 ؛ وج5 ص166 - 167 ح4969 - 4971 وص171 - 172 ح4976 ، السنّة ص630 ح1555 ، المستدرك على الصحيحين ج3 ص118 ح4576 و4577 وصحّحه وأقرّه الذهبي وص613 ح6272 وصحّحه هو والذهبي ، تاريخ دمشق ج42 ص213 وص219.

أثير من لغط حول صرف المعنى الظاهر للمولى - وهو الأولى بالشيء - إلى معان أجنبية عن المقام - كالمحبّ ، والناصر ، والصديق ، والحليف ، والمنعم ، والتابع ، والصاحب ، والجار ، والصهر - وإلاّ استلزم عبثيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو منزّه عن العبث والخطأ ضرورة.

- أما أهمّ لوازم هذا الحديث الشريف فهي :

أوّلاً : عصمة الكتاب والعترة للملازمة وإلاّ استلزم الجمع بين النقيضين ، والدور أو التسلسل ، ونقض الغرض.

ثانياً : عدم التمسّك بهما يوجب الضلال.

ثالثاً : دوام خلافة العترة بلا فصل أو انقطاع إلى قيام الساعة ، وإلاّ لحصل الافتراق بين الكتاب والعترة ، وهو بخلاف ما نص عليه الحديث.

ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) لعليّ عندما خرج إلى تبوك وقد استخلفه على المدينة : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ من بعدي»(1).ج1

ص: 144


1- انظر : صحيح البخاري ج5 ص89 ح202 ؛ وج6 ص18 ح408 ، صحيح مسلم ج7 ص120 ، سنن الترمذي ج5 ص596 ح4372 وص599 ح3730 و3731 ، سنن ابن ماجة ج1 ص42 - 43 ح115 وص45 ح121 ، السنن الكبرى ج5 ص44 ح8138 - 8143 وص119 - 125 ح8429 - 8449 وص240 ح8780 ، مسند أحمد ج1 ص170 و173 ، ومواضع أخر ، مسند البزّار ج3 ص276 - 279 ح1065 ومواضع أخر ، مسند أبي يعلى ج1 ص285 - 286 ح344 ، ومواضع أخر ، المعجم الكبير ج1 ص146 ح328 ، ومواضع أخرى كثيرة ، المعجم الأوسط ج3 ص211 ح2749 ، ومواضع أخر ، المعجم الصغير ج2 ص22 و54 ، صحيح ابن حبّان ج8 ص221 ح6609 ؛ وج9 ص40 - 41 ح6887 و6888 ، مسند الطيالسي ص28 ح205 وص29 ح209 ، مسند الحميدي ج1 ص38 ح71 ، مصنّف عبد الرزاق ج5 ص406 ح9745 ؛ وج11 ص226 ح20390 ، مصنّف ابن أبي شيبة ج7 ص496 ح11 - 15 ؛ وج8 ص562 ح4 ، طبقات ابن سعد ج3 ص22 - 23 ، مسند سعد بن أبي وقّاص للدورقي ص51 ح19 وص103 ح49 وص136 ح75 و76 وص139 ح80 وص174 - 177 ح100 - 102 ، السنّة ص551 ح1188 وص586 - 589 ح1331 - 1351 وص595 - 596 ح1381 - 1387 ، الجعديات ج2 ص77 ح2058 ، مسند الروياني ج1 ص167 ح412 ، مسند الشاشي ج1 ص161 ح99 وص165 - 166 ح105 و106 وص186 ح134 وص188 - 189 ح137 وص195 ح147 و148 ، المستدرك على الصحيحين ج2 ص367 ح3294 ؛ وج3 ص117 ح4575 ، سنن البيهقي ج9 ص40 ، تاريخ دمشق ج42 ص142 - 186 من طرق كثيرة جدّاً ، وخرّجه السيوطي والزبيدي والكتّاني في رسائلهم في الأحاديث المتواترة.

وقرّر الشريف المرتضى الاستدلال بحديث المنزلة بما يلي : «إنّ قوله صلّى الله عليه وآله «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسى عليه السلام لأمير المؤمنين إلاّ ما خصّه الاستثناء المتطرّق به في الخبر وما جرى مجرى الاستثناء من العرف ، وقد علمنا أنّ منازل هارون من موسى هي الشركة في النبوّة ، وأخوة النسب والفضل والمحبّة والاختصاص على جميع قومه والخلافة له في حال غيبته على أمّته ، وأنّه لو بقي بعده لخلّفه فيهم ولم يجز أن يخرج القيام بأمورهم عنه إلى غيره ، وإذا خرج بالاستثناء منزلة النبوة ، وخصّ العرف منزلة الأخوة في النسب لأنّ من المعلوم لكلّ أحد ممّن عرفهما عليهما السلام أنّه

ص: 145

لم يكن بينهما أخوة نسب وجب القطع على ثبوت ما عدا هاتين المنزلتين ، وإذا ثبت ما عداهما وفي جملته أنّه لو بقي لخلّفه ودبّر أمر أمّته وقام فيهم مقامه ، وعلمنا بقاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وجبت له الإمامة بعده بلا شبهة»(1).

ووجه الاستدلال بالحديث الشريف على إمامة عليّ عليه السلام ، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) جعل جميع المنازل الّتي كانت لهارون لعليّ باستثناء النبوّة ؛ لأنّ الاستثناء دليل على العموم كما قرّر في محلّه من علم الأصول ، ومن بين تلك المنازل الإمامة والخلافة ، ولو لم يتوفّى هارون في حياة موسى لكان هو الخليفة من بعده ؛ فإن المراد بالأمر في قوله تعالى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) النبوّة ، والإمامة ، والخلافة ، وبما أنّ النبوّة مستثناة من عليّ ، فتثبت له الإمامة والخلافة ضرورة(2). والذي يؤكّد أنّ الأمر يعمّ النبوّة والإمامة ، هو أنّ الله تعالى جعل إبراهيم عليه السلام نبيّاً وإماماً بجعلين مستقلّين ، كما أنّ كثيراً من الأنبياء في زمن إبراهيم وموسى كانوا غير أئمّة ، وإنّما أتباع لهما ويخضعون لإمامتهما.

- ويشهد له قوله (صلى الله عليه وآله) : «اللّهم أقول كما قال أخي موسى : اللّهم اجعل لي وزيراً من أهلي ، عليّاً أخي ، اشدد أزري وأشركه في أمري»(3). ،

ص: 146


1- الشافي ج3 ص7.
2- الشافي ج3 ص 7.
3- فضائل الصحابة ج2 ص843 - 844 ح1159 ، تاريخ ابن عساكر ج42 ص52 ، الطيوريّات : 753 ح25م ، وابن مردويه والخطيب كما في الدرّ المنثور ج5 ص566 ،

ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) : «لايزال الدين قائماُ حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش».

- وفي لفظ : «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش».

- وفي لفظ : «يكون اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش».

- وفي لفظ : «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش».

- وفي لفظ : «لايزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ، كلّهم من قريش»(1).9.

ص: 147


1- انظر : مسند أحمد ج5 ص86 و87 و88 و89 و90 و92 و93 و98 و99 و100 و101 و106 و107 و108 ومواضع أخر ، صحيح مسلم ج6 ص3 - 4 من عدّة طرق صحيح البخاري ج9 ص147 ح79 ، تاريخ البخاري الكبير ج1 ص446 ؛ وج3 ص185 ؛ وج8 ص410 - 411 ، سنن أبي داود ج4 ص103 - 104 ح4279 - 4281 ، سنن الترمذي ج4 ص434 ح2223 ، مسند أبي يعلى ج13 ص456 - 457 ح7463 ، مسند البزّار ج10 ص153 - 154 ح4224 وص158 ح4230 ، المعجم الكبير ج2 ص195 - 197 ح1791 - 1801 ومواضع أخر ، المعجم الأوسط ج2 ص122 ح1452 ؛ وج3 ص279 ح2943 ؛ وج4 ص366 ح3938 ؛ وج6 ص285 ح6211 ، صحيح ابن حبّان ج8 ص230 ح6626 - 6628 ، مسند الطيالسي ص105 ح767 وص180 ح1278 ، السنّة ص518 ح1123 ، مسند أبي عوانة ج4 ص369 - 373 ح6976 - 6998 ، المستدرك على الصحيحين ج3 ص715 - 716 ح6586 و6589.

- وفي لفظ لأحمد ، والطبراني ، وأبي يعلى ، والبزّار عن عبد الله بن مسعود ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل كم يملك هذه الأمّة من خليفة؟ فقال : «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل»(1).

ولا يخفى دلالة الحديث على إرادة أئمّة أهل البيت الاثني عشر لما يأتي :

1 - حصر الخلافة الشرعية في اثني عشر خليفة ، وهو لا يتم إلاّ على مذهب الإمامية.

2 - لزوم بقاء الخلافة فيهم ودوامها إلى قيام الساعة بحسب مفاد الحديث ، وهو لا يتمّ إلاّ على مذهب الإمامية.

3 - لزوم كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وهو المنزّه عنه - لوكان المراد جميع من تولّى الخلافة من قريش ؛ لأنّ عددهم أكثر من خمسين خليفة ، والقول بإرادة اثني عشر خليفة من بينهم بحاجة إلى دليل ، ولا دليل في البين.

ولو تنزّلنا وذهبنا إلى اختيار الخلفاء الأربعة أو معهم الإمام الحسن عليه السلامعلى ما ذهب إليه بعضهم ؛ لما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «الخلافة بعدي في أمّتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك»(2). لكن يبقى الإشكال في اختيار بقيّة الاثني46

ص: 148


1- انظر : مسند أحمد ج1 ص398 و406 ، مسند أبي يعلى ج8 ص444 ح5031 ؛ وج9 ص222 - 223 ح5322 و5323 ، المعجم الكبير ج10 ص157 - 158 ح10310 ، مسند البزّار ج5 ص320 ح1937 و1938.
2- انظر : مسند أحمد ج5 ص220 و221 ، سنن أبي داود ج4 ص210 ح4646

عشر ، ودون إثبات خلافتهم خرط القتاد.

4 - سلامة الحديث من المعارض فيما إذا قلنا بخلافة أئمّة أهل البيت الاثني عشر.

5 - إنّ عدم تمكّنهم من تولّي الخلافة والإمرة الفعلية ليس بمانع من ثبوت إمامتهم الإلهية التي يملكون بها التصرّف ، حالهم كحال الأنبياء المقهورين من قبل ملوك زمانهم ، فإنّهم ولاة الأمر وإن تغلّب عليهم الظلمة والجبابرة.

6 - الاضطراب الكبير الحاصل في آراء القوم حول مفاد الحديث ، فقد تباينت آراؤهم وأقوالهم في تعيين المراد من الاثني عشر خليفة تبايناً فاحشاً ، وفي ما يأتي بعض تلك الأقوال :

- قال ابن العربي المالكي في شرحه - بعد أن أحصى خمسة وأربعين أميراً - : وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان بن عبد الملك ، وإذا عددناهم بالمعنى كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر ابن عبد العزيز ، ولم أعلم للحديث معنى ولعلّه بعض حديث ، وقد ثبت أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : «كلّهم من قريش»(1).

- وقال القاضي عياض في ما حكاه النووي - بعد أن أورد عدّة وجوه 7.

ص: 149


1- عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج5 ص67.

لتوجيه مفاد الحديث ، لا يعود أيّ منها إلى معنى محصّل - : «ويحتمل أوجهاً أخر ، والله العالم بمراد نبيّه»(1).

- وقال ابن بطّال عن المهلّب في ما نقله ابن حجر العسقلاني : «لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث - يعني بشيء معيّن -»(2).

- وقال ابن الجوزي في كشف المشكل كما عن ابن حجر : «قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث ، وتطلّبتُ مظانّه ، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به»(3).

أقول : ولن تقعوا على المقصود به - على رأيكم في الخلافة - إلى قيام الساعة ، ولو سألتم عنه الأوّلين والآخرين.

- وشرَّق ابن كثير في تفسيره ، وغرّب في تاريخه ، وذكر عدّة آراء ، ثم عقّب عليها معترضاً بقوله :

«فهذا الذي سلكه البيهقي ، وقد وافقه عليه جماعة ... فإنّه مسلك فيه نظر»(4).

- وقال ابن حجر - بعد أن أورد أقوال من سبقه - : «والوجه الذي ذكره 6.

ص: 150


1- شرح النووي على صحيح مسلم ج12 ص159 - 160.
2- فتح الباري ج13 ص262.
3- فتح الباري ج13 ص263.
4- انظر : تفسير ابن كثير ج2 ص31 ، البداية والنهاية ج6 ص185 - 186.

ابن المنادي ليس بواضح ، ويعكّر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جدّه رفعه : (سيكون من بعدي خلفاء ، ثمّ من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثمّ يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، فوالذي بعثني بالحقّ ما هو دونه) ، فهذا يرد على ما نقله ابن المنادي من (كتاب دانيال). وأمّا ماذكره عن أبي صالح فواه جدّاً ، وكذا عن كعب ، وأمّا محاولة ابن الجوزي الجمع بين حديث (تدور رحى الإسلام) وحديث (الباب) ظاهر التكلّف ، والتفسير الذي فسّره به الخطابي ثمّ الخطيب بعيد»(1).

- وقال السيوطي - بعد أن أورد بعض أقوال من سبقه - : «قلت : وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر خليفة الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية ، ويحتمل أن يضمّ اليهم المهتدي من العبّاسيين ؛ لأنّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر ؛ لما أوتيه من العدل ، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما المهدي عليه السلام لأنّه من آل بيت محمّد (صلى الله عليه وآله)»(2).

أقول : لا يخفى ما في هذا الكلام من الوهن ؛ لأنّ هذا الاختيار عار عن أيّ دليل يؤكّده ، كما أنّ خلافة عبد الله بن الزبير معارضة بخلافة عبد الملك 5.

ص: 151


1- انظر : فتح الباري ج13 ص261 - 266.
2- تاريخ الخلفاء ص15.

ابن مروان ، ثمّ هل تبقى الأمّة مدّة من الزمن بلا خلافة بعد وفاة عبد الله بن الزبير إلى أن تولّى عمر بن عبد العزيز ، وكذا ما بين وفاة عمر بن عبد العزيز وتولّي المهتدي ، وما بين المهتدي والظاهر؟

وكيف يتمّ توجيه ذلك مع قوله (صلى الله عليه وآله) : «من مات وليس عليه إمام ، مات ميتة جاهلية»(1).

ولا أدري ماذا يقصد بالمنتظر الثاني ، فالثابت عنه (صلى الله عليه وآله) أنّ هناك منتظراً واحداً لا ثاني له.

ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك»(2). د.

ص: 152


1- انظر : مسند أحمد ج3 ص446 ؛ وج4 ص96 ، صحيح مسلم ج6 ص22 ، المعجم الكبير ج10 ص289 ح10687 ؛ وج19 ص334 ح769 وص388 ح910 ، المعجم الأوسط ج1 ص127 ح227 ؛ وج6 ص128 ح8520 ، مسند أبي يعلى ج13 ص366 ح7375 ، مسند الطيالسي ص259 ح1913 ، صحيح ابن حبّان ج7 ص49 ح4554.
2- الفضائل ج2 ص987 ح1402 ، المعجم الكبير ج3 ص45 - 46 ح2636 - 2638 ؛ وج12 ص27 ح12388 ، وفي المعجم الأوسط ج4 ص104 ،ح3478 ؛ وج6 ص17 ح5553 وص147 ح5870 ، وفي المعجم الصغير ج1 ص139 ؛ وج2 ص22 ، مسند البزّار ج9 ص343 ح3900 ؛ وج11 ص329 ح5142 ، المعرفة والتاريخ ج1 ص296 ، الكنى والأسماء ج1 ص76 ، عيون الأخبار ج1 ص310 ، المعارف ص146 ، العلل المتناهية ج6 ص236 رقم 1098 مستدرك الحاكم ج2 ص373 ح3312 ؛ وج3 ص163 ح4720 ، الحلية ج4 ص306 ، تاريخ الخطيب ج12 ص 91 ، مشكاة المصابيح ج3 ص378 ح6183 عن مسند أحمد.

ولا يخفى دلالة الحديث على لزوم التمسّك بإمامة أهل البيت عليهم السلام ؛ فإنّ التخلّف عنهم وعدم اتباعهم يستلزم الهلاك بحسب مفاد الحديث.

هذه بعض الأدلّة التي يمكن أن يستدلّ بها في المقام وغيرها كثير ، وما روي من طرق أهل البيت عليهم السلام يفوق ذلك وأكثر صراحة.

ص: 153

الخاتمة

هذا مجمل لما أفدناه في مطالب البحث المتقدّمة.

فقد أشرنا في المقدّمة إلى أهمية مسألة الإمامة في الإسلام وما جرى بسبب الخلاف فيها من خطوب وأهوال.

وأجملنا في المطلب التمهيدي أراء الفرق الإسلامية في الإمامة ، ومعناها وكيفية انعقادها ، وكيف يتم نصب الإمام.

وبيّنا في المطلب الأوّل الصفات التي يجب أن يتّصف بها الإمام عقلاً وسمعاً ، وهي أن يكون أفضل من رعيّته ، وأن يكون معصوماً ، وأن يكون منصوصاً عليه.

أمّا المطلب الثاني فعيّنا فيه الإمام الذي تنطبق عليه الصفات المحرّرة في المطلب الثاني وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والعلم بذلك ضروري ، لكونه أفضل الناس من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وهذه الأفضلية شاملة للسبق بالإيمان والإسلام ، والأعلمية ، والشجاعة ، والعبادة ، والزهد ، والسخاء ، والحلم - ولكونه معصوماً ، ولكونه منصوصاً على إمامته ، كما تقدّم بيانه.

والحمد لله أولاً وآخراً

وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليماً كثيراً

ولابدّ هنا أن أتقدّم بالثناء الجميل والشكر الجزيل إلى سماحة الشيخ حيدر البياتي دام عزّه الذي ساهم بلمساته العلمية في هذه المقالة.

جواد حسين الورد

ص: 154

المصادر

1 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة : للجويني ، مؤسّسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1996م.

2 - الاستيعاب : لابن عبد البرّ ، دار الجيل ، بيروت ، 1992 م.

3 - الأمالي : لأبي علي القالي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1996م.

4 - إيضاح الفوائد في شرح القواعد : لمحمّد بن الحسن الحلّي ، المطبعة العلمية ، قم 1387ه.

5 - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم : للبشّاري المقدسي ، مطبعة بريل ، ليدن 1909م.

6 - أحكام القرآن : للجصّاص ، دار الفكر ، بيروت ، 1993م.

7 - أسباب النزول : للواحدي ، دار الفكر ، بيروت ، 1994م.

8 - أصول السنّة : لأحمد بن حنبل ، دار السلام للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1988م.

9 - أمالي ابن سمعون : دار البشائر الإسلامية ، بيروت ، 2002م.

10 - أنساب الأشراف : للبلاذري ، دار الفكر ،بيروت ، 1996م.

11 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت : لأبن المطهّر الحلّي ، نشر الرضي ، قم ،1405ه.

ص: 155

12 - البداية والنهاية : لابن كثير ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1994م.

13 - تاريخ بغداد : للخطيب البغدادي ، مطبعة السعادة ، مصر 1349ه.

14 - تاريخ جرجان : للسهمي ، عالم الكتب ، بيروت ، 1987م.

15 - تاريخ الخلفاء : للسيوطي ، دار الجيل ، بيروت ، 1994م.

16 - تاريخ دمشق : لابن عساكر ، دار الفكر ، بيروت ، 1995م.

17 - تأويل مختلف الحديث : لابن قتيبة ، دار الفكر ، بيروت ، 1995م.

18 - تفسير ابن أبي حاتم : دار الفكر ، بيروت ، 2003م.

19 - تفسير ابن كثير : دار الجيل ، بيروت.

20 - تفسير البغوي : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1993م.

21 - تفسير الثعلبي : دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1422ه.

22 - تفسير الطبري : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1992م.

23 - تفسير فرات الكوفي : مؤسّسة النعمان ، بيروت ، 1992م.

24 - تفسير القرطبي : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1993م.

25 - التفسير الكبير : للفخر الرازي ، دار الفكر ، بيروت ، 1993م.

26 - تفسير الماوردي : دار الكتب العلمية ، بيروت.

27 - تفسير مقاتل : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 2003م.

28 - تلخيص المتشابه : للخطيب البغدادي ، دار الملابس ، دمشق ، 1985م.

29 - تمهيد الأوائل : للباقلاّني ، مؤسّسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1987م.

30 - تهذيب الآثار : لابن جرير الطبري ، مطبعة المدني ، القاهرة ، 1372ه.

31 - جامع الأصول : لابن الأثير ، دار الفكر ، بيروت ،1983م.

32 - الجعديات : لأبي القاسم البغوي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1994م.

ص: 156

33 - حلية الأولياء : لأبي نعيم الأصبهاني ، مطبعة السعادة ، مصر ، 1351ه.

34 - دلائل النبوّة : لأبي نعيم الأصبهاني ، دار النفائس ، بيروت ، 1986م.

35 - دلائل النبوّة : للبيهقي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1985م.

36 - الدرّ المنثور : للسيوطي ، دار الفكر ، بيروت ، 1993م.

37 - ذخائر العقبي : للمحبّ الطبري ، مكتبة الصحابة ، جدّة ، 1995م.

38 - الذخيرة في علم الكلام : للشريف المرتضى ، مؤسّسة النشر الإسلامية ، قم ،1407ه.

39 - الرياض النضرة : للمحبّ الطبري ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

40 - زاد المسير : لابن الجوزي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،1994م.

41 - الزهد : لابن أبي الدنيا ، دار ابن كثير ، دمشق ، 1999م.

42 - سنن ابن ماجة : دار إحياء الكتب العلمية ، مصر ، 1373ه.

43 - سنن أبي داود : دار الجيل ، بيروت ، 1992م.

44 - سنن الترمذي : دار الكتب العلمية ، بيروت.

45 - سنن الدارمي : دار الفكر ، بيروت ، 1994م.

46 - السنن الكبرى : للبيهقي ، مجلس دائرة المعارف العثمانية ، حيدر آباد الدكن ، 1355ه.

47 - السنن الكبرى : للنسائي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1991م.

48 - سنن النسائي : دار الجيل ، بيروت.

49 - السنّة : لابن أبي عاصم ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1993م.

50 - سير أعلام النبلاء : للذهبي ، مؤسّسة الرسالة ، بيروت ، 1994م.

51 - الشافي في الإمامة : للشريف المرتضى ، مؤسّسة الصادق ، طهران ، 1986م.

ص: 157

52 - شرح ابن أبي الحديد : دار الجيل ، بيروت ، 1996م.

53 - شرح جمل العلم والعمل : للشريف المرتضى ، دار الأسوة ، قم ، 1414ه.

54 - شرح معاني الآثار : للطحاوي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1996م.

55 - شرح المقاصد : للتفتازاني ، ط1 ، 1409ه.

56 - شرح المواقف : للشريف الجرجاني ، مطبعة السعادة ، مصر ، 1325ه.

57 - شرح النووي على صحيح مسلم : دار الفكر ، بيروت ، 1995م.

58 - شواهد التنزيل : للحاكم الحسكاني ، مؤسّسة الأعلمي ، بيروت ، 1974م.

59 - صحيح ابن حبّان : دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1987م.

60 - صحيح ابن خزيمة : المكتب الإسلامي ، بيروت ،1992م.

61 - صحيح البخاري : المطبعة المنيرية ، مصر ، 1348ه.

62 - صحيح مسلم : ط استانبول ، 1334ه.

63 - الصواعق المحرقة : لابن حجر الهيثمي ، المطبعة الميمنية ، مصر ، 1312ه.

64 - الطبقات الكبير : لابن سعد ، مكتبة الخانجي - القاهرة ، 2001م.

65 - الطيوريّات : لأبي طاهر السلفي ، دار البشائر ، دمشق ، 2001م.

66 - عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : لابن العربي ، دار الفكر ، بيروت ، 1995م.

67 - العلل : للدارقطني ، دار طيبة ، الرياض ، 2003م.

68 - عمدة القاري : للعيني ، المطبعة المنيرية ، مصر ، 1348ه.

69 - عيون الأخبار : لابن قتيبة ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

70 - الغارات : للثقفي ، دار الأضواء ، بيروت ، 1987م.

71 - غرر الحكم : للآمدي ، مؤسّسة الأعلمي ، بيروت ، 1987م.

ص: 158

72 - غياث الأمم في التياث الظلم : للجويني ، دار الدعوة ، الإسكندرية ، 1979م.

73 - فتح الباري : لابن حجر العسقلاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1989م.

74 - فردوس الأخبار : للديلمي ، دار الفكر ، بيروت ، 1997م.

75 - الفصول المختارة : للمفيد ، اختيار الشريف المرتضى ، دار المفيد ، بيروت ،1993م.

76 - فضائل الصحابة : لأحمد بن حنبل ، دار ابن الجوزي ، السعودية ، 1999م.

77 - الفقيه والمتفقّه : للخطيب البغدادي ، دار ابن الجوزي ، السعودية ، 1996م.

78 - الفوائد : لابن منده الأصبهاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 2002م.

79 - قواعد العقائد : للنصير الطوسي ، دار الأضواء ، بيروت.

80 - قواعد المرام في علم الكلام : لابن ميثم البحراني ، مهر ، قم ، 1398ه.

81 - الكشّاف : للزمخشري ، دار الفكر ، بيروت.

82 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : لابن المطهّر الحلّي ، شكوري ، قم ، 1415ه.

83 - الكنى والأسماء : للدولابي ، مجلس دائرة المعارف العثمانية ، حيدر آباد الدكن ،1322ه.

84 - ما نزل من القرآن في عليّ : لأبي نعيم الأصبهاني ، ط / وزارة الإرشاد الإيرانية.

85 - المبسوط : للسرخسي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1989م.

86 - المتّفق والمفترق : للخطيب البغدادي ، دار القادري ، دمشق ،1997م.

87 - مجرّد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري : لابن فورك الأصبهاني ، دار المشرق ، بيروت ،1987م.

ص: 159

88 - مجمع الزوائد : للهيثمي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1988م.

89 - محصَّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : للفخر الرازي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ،1984م.

90 - المستدرك على الصحيحين : للحاكم النيسابوري ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،1990م.

91 - مسند أبي يعلى الموصلي : دار المأمون للتراث ، دمشق ، 1990م.

92 - مسند أحمد بن حنبل : الطبعة الميمنية ، مصر ،1313ه.

93 - مسند البزار : مكتبة العلوم والحكم ، المدينة المنورة ، 1988م.

94 - مسند سعد بن أبي وقّاص : للدورقي ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت ،1987م.

95 - مسند الشاشي : للهيثم بن كليب الشاشي ، مكتبة العلوم والحكم ، المدينة المنورة ،1993م.

96 - مسند الشاميّين : للطبراني ، مؤسّسة الرسالة ، بيروت ، 1996م.

97 - مسند الطيالسي : دار المعارف النظامية ، حيدر آباد الدكن ، 1321ه.

98 - مشكاة المصابيح : للخطيب التبريزي ، دار الفكر ، بيروت ،1991م.

99 - مشكل الآثار : للطحاوي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ،1995م.

100 - مصابيح السنّة : للبغوي ، دار المعرفة ، بيروت ،1987م.

101 - المصنّف : لابن أبي شيبة ، دار الفكر ، بيروت ، 1989م.

102 - المصنّف : لعبد الرزاق الصنعاني ، دار القلم ، بيروت ، 1983م.

103 - المعجم الأوسط : للطبراني ، دار الحديث ، القاهرة ، 1996م.

104 - المعجم الصغير : للطبراني ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص: 160

105 - المعجم الكبير : للطبراني ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

106 - معرفة الرجال : ليحيى بن معين ، مجمع اللغة العربية بدمشق ،1985م.

107 - معرفة الصحابة : لأبي نعيم الأصبهاني ، دار الوطن ، الرياض ، 1998م.

108 - معرفة علوم الحديث : للحاكم النيسابوري ، المكتبة العلمية ، المدينة المنورة ، 1977م.

109 - المعيار والموازنة : لأبي جعفر الإسكافي ، مؤسّسة المحمودي ، بيروت ،1981م.

110 - المغني : للقاضي عبد الجبار ، المؤسّسة المصرية للتأليف والنشر ، مصر ،1961م.

111 - الملل والنحل : للشهرستاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

112 - مناقب ابن شهر أشوب : دار الأضواء ، بيروت ، 1991م.

113 - مناهج اليقين : لابن المطهّر الحلّي ، مطبعة ياران ، إيران ، 1416ه.

114 - المنتخب من مسند عبد بن حميد : عالم الكتب ، بيروت ، 1988م.

115 - المنقذ من التقليد : لسديد الدين الحمصي ، مؤسّسة النشر الإسلامية ، قم ، 1412ه.

116 - المواقف : للإيجي ، مكتبة المتنبّي ، القاهرة.

117 - نهاية الإقدام في علم الكلام : للشهرستاني ، مكتبة الثقافة الدينية.

118 - نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ، دار الكتاب المصري ، القاهرة ، 1991م.

ص: 161

مع ديوان الشريف المرتضى (ت 436ه)

(ت436ه)

السيّد محمّد علي السيّد راضي الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله خير البريّة المنتجبين الأطهار.

لكلّ شاعر إذا قرأنا ديوانه واطّلعنا على أشعاره بِنيةٌ شعرية يعرف بها ، وطالما عُبّر عنها في كتب الأدب ب- : (مسلك) أو (مذهب) الشاعر في أسلوبه وطابعه الشعريّ ، ثمّ إنّ هذا المسلك أو المذهب الشعريّ إنّما هو نتاج مرحلتين مهمّتين مرّ بهما الشاعر صقلته وصقلت شاعريّته معاً ، فالمرحلة الأولى تتمثّل في بناء شخصيّته التي تكشف عن البيئة المحيطة به ونشأ بها منتزعاً منها ثقافته الشعريّة بفطنته وحسّه المرهف التي تركت آثارها وبصماتها على شعره وشاعريّته حيث صار يعرف ويمتاز بها عن الآخرين في ذوقه

ص: 162

الأدبيّ وحسّه الشاعريّ وملكته في الصناعة الشعرية.

فإنّ السلوك الشخصيَّ الذي يعرف به الشاعر قبل شاعريّته يحذو حذوه حتّى يأخذ طابعاً أدبيّاً معه في أشعاره.

وأمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة اقتباس الشعر والأدب الذي يترك على ذهنية الشاعر أثراً كبيراً في شحذ موهبته الشعرية وبراعته وحذاقته وصقل شاعريّته في فصاحتها وبلاغتها وفيما يمتاز به هذا الجانب من استعارات وكنايات وصنائع أدبية يتفوّق بها شعره من شعر تصنعه الخطوب وتتذوّقه القلوب.

وإذا علمنا هذين المفهومين واجتزناهما ونحن بصدد قراءة سريعة ومقتضبة لديوان السيّد المرتضى علم الهدى لنتعرّف على مسلكه الشعريّ بهذين المفهومين أي معرفة شخصيّته ومعرفة المسلك الأدبيّ في شعر السيّد المرتضى رضي الله عنه وهو عملاقٌ من عمالقة الشعر وسيّد من ساداته ونابغة من ألمع نوابغه دون إطناب في إطراء ومبالغة في ثناء ، وهو أحقّ بالمدح والثناء ، حيث جُهِلَ شعره ولم يعرف منه في الأوساط إلاّ من اطّلع عليه خُبراً فأبهره ذلك الأدب والشعر الذي ينحدر عنه انحدار السيل ، فلنبدأ بمعرفة جوانب من شخصيّته الفذّة من خلال أدبه وشعره الشامخ.

شخصيّة السيّد المرتضى :

هي المرحلة الأولى التي نخوضها من خلال دراسة شعره لنتعرّف على

ص: 163

أصالته وعراقته وعلى جودة شعره ومتانته فلو أردنا أن نتعرّف على شخصيّته من خلال التراجم لطال بنا المقال وخرجنا عمّا نقصده من منال ، وإنّما سيكون معوّلنا عليها في نقل بعض ما يكون متمّماً للكلام ومعزّزاً للمقام.

فإنّ شخصيّة السيّد المرتضى كانت ذا جوانب وأبعاد عديدة من علمية واجتماعية وسياسية وأخلاقية ، وإنّ هذه الصفات والسجايا التي كان يتمتّع بها السيّد المرتضى رضي الله عنه إنّما جاءته إثر المنشأ الذي نشأ فيه والعناية التي حفّت به منذ طفولته ، فلم تكن وجاهته أو شخصيّته اكتسابيةً قطّ ، بل كانت ذاتيةً ، والحقّ أن نقول : إنّ العناية الإلهية التي حظي بها هي التي أحدقت به وأرشدته وساقته إلى أن يكون (علم الهدى) مع ما له من همّة عالية وذكاء متوقّد ؛ فإنّ قصّة رؤيا أستاذه الشيخ المفيد لفاطمة الزهراء في عالم المنام وهي تقود إليه الحسن والحسين عليهما السلام ليعلّمهما الفقه(1) والتي طالما تناقلتها الكتب وذكرها العلماء والخطباء لخير دليل على مصداقيّة هذه العناية التي احتفّت به واحتوته منذ طفولته ونعومة أظفاره ، هذا وإنّ اعتناء والده به حيث جعل له خيرة الأساتذة والمعلّمين لتعجن طينته على طلب العلم والتمرّس في الفنون والعلوم هو العامل الآخر الذي ترك على شخصيّة الشريف المرتضى آثار الرفعة والسموّ والجلالة والوقار ، فخاض سبل العلم من شتّى روافده وورده من جميع أبوابه حتّى يكون علماً من أعلام العلم والحِكَم وسيّداً من سادة الأمم ورائداً من روّاد القلم. ولم ينس لوالده الجميل والفضل ، فقد أثنى عليه 9.

ص: 164


1- قاموس الرجال : 9 / 229.

في شعره في عدّة مواطن مشيداً بذكره حيث كان له الأثر الكبير في بناء شخصيّته وإعدادها فصار يتذكّر ذاك البيت الذي ترعرع به ونشأ وكأنّه يعترف بما أسداه إليه والده من معروف قد غمره به في تربيته وتعليمه وشحذ مواهبه قائلا :

سقى الله منزلنا بالكثيب

بكفّ السحائب غمر الحيا

محلّ الغيوث ومأوى الليوث

وبحر النّدى ومكان الغنى

فكم قد نعمت به ما اشتهيت

مشتملا بإزار الصّبا

تعانقني منه أيدي الشمال

ويلثم خدّي نسيم الصّبا

إذا ما طمت بي أشواقه

دعوت (الحسين) فغاض الأسى(1)

وصار يفتخر بأبيه قائلا في مدحه :

ولي صاحبٌ لا يصحبُ الضيم ربُّه

له في دماء الدّارعين قِرابُ

وأسمرُ عسّال الكعوب سنانه

رسول المنايا في يديه كتابُ

إذا ما وجا أوداج قرن مصمّم

أعاد مشيب الوجه وهو شبابُ

ملاني فخراً أنّك اليوم والدي

وأنّك طودي والأنام شعابُ

ألست من القوم الذين إذا دنوا

لحرب تدانت أرؤسٌ ورقابُ

سُيُوفُهمُ ألحاظهم وقناتهم

سواعِدُهم مهما استحرّ ضرابُ(2)

فإنّه لم يُعهد من تراجم السيّد الشريف المرتضى رحمه الله أو ممّن كتب عن 7.

ص: 165


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 153.
2- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 197.

حياته أنّه كان كميّاً وفارساً شجاعاً يرتدي لامة حربه ويحمل في إحدى يديه سيفاً بتّاراً وفي الأخرى قناةً وسمهريّاً ذابلا يقارع في الحرب فرسانها ويناوش في الطعن ذؤبانها ثمّ يفخر بأبيه أنّه من القوم الذين إذا دنوا لحرب تدانت أرؤس ورقاب ، ولكن كلّ ما نلمسه من هذه الاستعارات والكنايات الشعرية أنّه يفخر بوالده حيث أنشأه خير منشأ وأعدّه حتّى صار علماً من الأعلام ، مسلّحاً بسلاح العلم والحكمة والمعرفة.

ومن جيد شعره ما قاله في رثاء أبيه وأعرب عن بالغ أساه هي قصيدته التي مطلعها :

ألا يا قوم للقدر المُتاح

وللأيّام ترغب عن جراحي

قال فيها :

ويا لملمّة نزعت يميني

وحصّت بالقوادم من جناحي

وقال أيضاً :

ألا قل للأخاير من قريش

وسكّان الظواهر والبطاحِ

هوى من بينكم جبل المعالي

وعرنين المكارم والسماحِ

وقال :

سلام الله تنقله الليالي

ويهديهِ الغدُوُّ إلى الرّواحِ

على جَدَث تشبّث من لُؤيٍّ

بينبوع العبادة والصّلاحِ

فتىً لم يروَ إلاّ من حلال

ولم يك زاده غير المباحِ

ولا دَنِسَت له أُزُرٌ بعار

ولا عَلِقَت له راحٌ براحِ

ص: 166

خفيف الظهر من حمل الخطايا

وعريان الصحيفة من جُناحِ

مسوقٌ في الأمور إلى هداها

ومدلولٌ على باب النجاحِ

من القوم الذين لهم قلوبٌ

بذكر الله عامرة النّواحي

بأجسام من التقوى مراض

لمبصرها وأديان صحاحِ(1)

وكذلك فمن أروع ما قاله في مدح أبيه قوله :

لقد ألصقتني بالحسين خلائقٌ

أعدن قديم المجد غضّاً مجدّداً

هو المرء إن قلّ التقدّم مقدِمٌ

وإن عزّ زادٌ في العشيرة زوّدا

أبيٌّ على قول العواذل سمْعُهُ

إذا أعرضوا دون الحفيظة والنّدا

كرامٌ سعوا للمجد من كلّ وجهة

كما بسطوا في كلّ مَكرُمة يدا(2)

وما فيهم إلاّ فتىً ما تلبّست

به الحرب إلاّ كان عضباً مجرّدا

ثمّ وإن كان لوالده السهم الأوفر والفضل الأوّل في تعليمه وتربيته وبناء مجده إلاّ أنّ البيئة التي نشأ بها شريفنا المرتضى أيضاً كان لها الثقل العظيم في شحذ مواهبه وصقلها ، نعم إنّ إطلاق كلمة ذي المجدين على شريفنا المرتضى وإن أعطاه وساماً عالياً - لأنّه انحدر من نسلين علويّين ، وكان والده يلقّب بالطاهر الأجلّ ذو المناقب الأوحد وكان نقيب الطالبيّين وعالمهم وزعيمهم(3) ثمّ انتهت النقابة إلى الشريف المرتضى بعد رحيل والده وأخيه 5.

ص: 167


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 346.
2- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 383.
3- الكنى والألقاب : 1 / 5.

الشريف الرضي رحمه الله - إلاّ أنّ نشأته في بيت علميّ حيث كان جدّه لأمّه الحسن الملقّب بالناصر الصغير نقيب العلويّين في بغداد وعالمهم وزاهدهم وشاعرهم(1) أيضاً ، فهو أمرٌ يعدّ من العوامل المؤثّرة في إعداده شاعراً من أعلام الشعراء ، كما أنّ البيئة التي أحاطت به من كبار العلماء والشخصيّات من علماء وأدباء هي الأخرى أيضاً تعدّ من العوامل التي حدت به وساقته لسلوك طريق المجد والرفعة والشموخ العلميّ ، فهاهم أساتذته ومشايخه الذين لمعت أسماؤهم في صفحات التاريخ وهم :

الشيخ المفيد (ت 413ه) : العالم المتكلّم المشهور ، اشتهر بكثرة علمه. وهو محمّد بن محمّد بن عبدالسلام العكبري البغدادي المكنّى بأبي عبد الله وابن المعلّم.

ابن نباتة : الشاعر المشهور ، وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمّد بن أحمد بن نباتة السعدي (ت 405ه).

المرزباني : وهو أبو عبد الله محمّد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المعروف بالمرزباني (ت 384ه) كان راويةً للأخبار والآداب والشعر.

ابن جنيقا : وهو أبو القاسم بن عبد الله بن عثمان بن يحيى الدقّاق المعروف بابن جنيقا (ت 390ه) ، كان قاضياً محدّثاً ثقةً مأموناً حسن الخلق.

أبو عبد الله القمّي : وهو الحسين بن عليّ بن الحسين بن بابويه (ت أواخر القرن الرابع الهجري) ، أخو الشيخ الصدوق ، كان جليل القدر عظيم 2.

ص: 168


1- شرح نهج البلاغة : 1 / 32.

الشأن في الحديث. وقد وثّقه أصحاب التراجم ، وأخباره مشهورة في كتبهم.

أبو علي الفارسي : الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار بن محمّد بن سليمان بن أبان الفارسي المولود في (فسا) عام 288ه- والمتوفّى في الشونيزي عام 377ه.

- وكذلك لو اطّلعنا على تلامذته خبراً لرأيناه واحد دهره وفريد عصره ممّا اكتسبه من علم وأجزله من عطاء في تربية وإنشاء جهابذة وأعلام لا زالوا للعلم عماداً وللعلماء ركناً واعتماداً ، وكلّ ذلك يدلّنا على هيمنة شخصيّة سيّدنا الشريف المرتضى العلمية ومحبّته ومهابته في القلوب إجلالا وتقديراً وإعظاماً له ، ومن عظيم شأنه أنّ بعض خلفاء وملوك زمانه وأبنائهم ورهط من الوزراء و... عدّوا من تلامذته ، وذلك ما يزيد القارئ إعجاباً بشخصيّته الفذّة وبجلالة شأنه وذلك أنّه كان عالماً عَلَماً بمعنى الكلمة.

وهنا نذكر قائمةً بأسماء تلامذته :

الطوسي : وهو أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي (ت 460ه) ، الفقيه الأصولي والمحدّث الشهير.

أبو يعلى الديلمي (سالار) : وهو محمّد بن حمزة أو ابن عبد العزيز الطبرستاني (ت 463ه). وكان ينوب عن أستاذه المرتضى في التدريس ، وهو فقيه متكلّم.

أبو الصلاح الحلبي : وهو الشيخ تقيّ الدين بن النجم الحلبي (ت 447ه) ، خليفة المرتضى في البلاد الحلبية ومن كبار علماء الإمامية.

ص: 169

ابن البرّاج : وهو أبو القاسم القاضي السعيد عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البرّاج (ت 481ه).

أبو الفتح الكراجكي : وهو الشيخ الإمام العلاّمة أبو الفتح محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي (ت 449ه) ، عالم ، فاضل ، متكلّم ، فقيه ، محدّث ، ثقة جليل القدر.

عماد الدين ذو الفقار : وهو السيّد الإمام عماد الدين ذو الفقار محمّد ابن معبد بن الحسن بن أبي جعفر الملقّب بحميدان ، أمير اليمامة بن إسماعيل بن يوسف بن محمّد بن يوسف بن الأخيضر بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، كان فقيهاً عالماً متكلّماً ورعاً.

الدوريستي : هو أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن أحمد بن العبّاسي الرازي الدوريستي (ت 473ه) ، من أكابر علماء الإمامية اشتهر في جميع الفنون.

من الخلفاء : الطائع لأمر الله ، والقادر ، وابنه القائم بأمر الله وأبو العبّاس محمّد بن القائم بأمر الله.

من الملوك : بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة ، وسلطان الدولة ، وركن الدين جلال الدولة ، وأبو كاليجار المرزبان.

من الوزراء : أبو غالب محمّد بن خلف ، وأبو علي الرخجي : وأبو علي الحسن بن حمد ، وأبو سعيد بن عبد الرحيم ، وأبو الفتح ، وأبو الفرج

ص: 170

محمّد بن جعفر بن فسانجس ، وأبو طالب محمّد بن أيوّب سليمان البغدادي ، وأبو منصور بهرام بن مافنة.

من النقباء : والده الشريف أبو أحمد الموسوي ، وخاله الشريف أحمد ابن الحسن الناصر ، وأخوه الشريف أبو الحسن محمّد الرضي ، والشريف أبو علي عمر بن محمّد بن عمر العلوي ، وأبو الحسن الزينبي ، وأبو الحسين بن الشبيه العلوي.

من الأمراء : أبو الغنائم محمّد بن مزيد ، وأبو علي أستاذ هرمز ، وأبو منصور بويه بن بهاء الدولة ، وأبو شجاع بكران بن بلفوارس ، وعنبر الملكي ، وعقيل غريب بن مقفّى.

من العلماء والقضاة والأدباء : الشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد ، وسعد الأئمّة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمّد ، وأبو الحسين ابن الحاجب ، وأبو إسحاق الصابي ، وابن شجاع الصوفي ، وأبو الحسين الأقساسي العلوي ، وأبو الحسين البتّي أحمد بن علي الكاتب ، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي ، وأبو الحسن السمسمي ، والشاعر أبو بكر محمّد بن عمر العنبري.

- قيل في الشريف المرتضى الكثير في تعداد مزاياه وفضائله ومراتبه ، وممّا قيل فيه :

في مرآة الجنان : «وذكره ابن بسّام الأندلسي ... إمام أئمّة العراق بين

ص: 171

الاختلاف والافتراق ، إليه فزع علماؤنا ، وأخذ عنه عظماؤنا ، صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها ، ممّن سارت أخباره وعرفت بها أشعاره ، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره ، وتواليفه في أصول الدين ، وتصانيفه في أحكام المسلمين ممّا يشهد أنّه فرع تلك الأصول ، ومن أهل ذلك البيت الجليل»(1).

في جامع الأصول قال ابن الأثير : «إنّ مروّج المائة الرابعة بقول فقهاء الشافعية هو أبو حامد أحمد بن طاهر الأسفرايني ، وبقول علماء الحنفية أبو بكر محمّد بن موسى الخوارزمي ، وباعتقاد المالكيه أبو محمّد عبد الوهّاب ابن نصر ، وبرواية الحنبلية هو أبو عبد الله الحسين ابن علي بن حامد ، وبرواية علماء الإمامية هو الشريف المرتضى الموسوي»(2).

في تتمّة يتيمة الدهر قال الثعالبي : «قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم ، وله شعر في نهاية الحسن»(3).

وفي لسان الميزان نقل ابن منظور هذا القول : «قال ابن طيّ : هو (الشريف المرتضى) أوّل مَن جعل داره دار علم ، وقدّرها للمناظرة ، وكان قد 9.

ص: 172


1- مرآة الجنان : 3 / 44.
2- جامع الأصول : 11 / 323.
3- يتيمة الدهر : 5 / 69.

حصل على رئاسة الدنيا .. العلم مع العمل الكثير ، والمواظبة على تلاوة القرآن ، وقيام اليل ، وإفادة العلم».

وقد روي في تقييم الشاعر أبي العلاء المعرّي للمرتضى .. أنّه لمّا خرج من العراق سُئل عن السيّد الشريف المرتضى ، كيف وجده؟ فقال في جوابه لسائله :

يا سائلي عنه لمّا جئت تسأله

ألا وهو الرجل العاري من العارِ

لو جئته لرأيت الناس في رجل

والدهر في ساعة، والأرض في دارِ(1)!

وهكذا نجد شريفنا المرتضى ملك مجامع القلوب بحكمته الناجحة وسجاحة خلقه الراجحة ، وفرض مكانته دون سطوة وسلطان ، وبلغ بمسؤوليّته إلى ساحل الأمان ، وهو يعيش عصره العلمي الذي عرف في صفحات التاريخ بالعصر الذهبي للدولة العبّاسية ، حيث ازدهرت أصقاع المعمورة الإسلامية آنذاك بروّاد العلم في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، وكثرت بها المدارس وانعقدت بها حلقات الدروس حتّى عادت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية محطّاً لرحالهم ومبلغاً لآمالهم ، لقد لمعت في سماء مجد العالم الإسلامي أعلام وأمجاد لم ير التاريخ آنذاك مثيلا لهم في الأمم المعاصرة لها والغابرة عنها ، وهاهم ثلّة من أعلام ذاك الزمان وأعاظمهم في شتّى العلوم المعاصرين لشريفنا المرتضى ممّن كانوا قبله أو في أيّامه أو بعده 3.

ص: 173


1- لسان الميزان : 4 / 223.

في كلا القرنين الرابع والخامس الهجريّين.

ابن الهيثم مؤسّس علم البصريّات (ت 430ه).

أبو الطيّب المتنبّي أحد أعظم شعراء العرب (ت 354ه).

أبو الريحان البيروني عالم مسلم في عدّة مجالات (ت 439ه).

ابن عراق كان معلّماً للبيروني (ت 427ه).

ابن جلجل الطبيب الأندلسي (ت 377ه).

أبو حيّان التوحيدي الأديب المسلم (ت 414ه).

أبو العلاء المعرّي من أشهر الشعراء في العصر العبّاسي (ت 449ه).

أبو الوفاء البوزجاني العالم في الرياضيّات (ت 388ه).

أبو نعيم الأصبهاني المؤرّخ المسلم (ت 430ه).

ابن سينا الطبيب العربي (ت 427ه).

تصانيفه :

وقد بلغت تصانيفه ورسائله ومؤلّفاته مئة وسبعة عشر مصنّفاً مذكورة في العديد من الكتب ، والمقام لا يسع إلى ذكرها.

شعره وشاعريّته :

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أخيه الشريف الرضي رحمه الله ورضي

ص: 174

عنه ، فإنّ كلّ ما نقوله في شاعريّة الشريف المرتضى يصدق على أخيه الشريف الرضي أيضاً ؛ لأنّهما غُذِيا العلم والأدب من يفاعتهما ونشئا عليه فكان كلّ منهما معوّلا للآخر ، ويبدو أنّ الشريف المرتضى كان أكثر تعويلا على أخيه الشريف الرضي ، فقد عرف أنّه كان أجزل من أخيه المرتضى شعراً وأبسط باعاً وأكثر انسياباً.

ويدلّنا على اعتماد المرتضى على أخيه ما قاله في طيف الخيال : «... وأن أعتمد على إخراج ما في ديوان الطائيّين وشعر أخي نظّر الله وجهه وأحسن منقلبه»(1) ، وقال : «وسمع أخي رضي الله عنه هذه الأبيات لأنّه قلّ ما كان يخرج لي شيئاً من الشعر إلاّ ويسمعه وينشده ولا يخرج له رحمه الله طول حياته إلاّ ما ينشد فيه»(2).

وذكر العلاّمة المجلسي أيضاً ما يدلّ على معوّل المرتضى على أخيه الرضيّ أنّه : «دخل أبو الحسن الحذّاء وكيل الرضي والمرتضى يوماً على المرتضى فسمع منه هذه الأبيات فكتبها وهي :

سرى طيف سعدى طارقاً فاستفزّني

سُحَيراً وصحبي بالفلاة رقودُ

فلمّا انتبهنا للخيال الذي سرى

إذا الدار قَفْرٌ والمزار بعيدُ0.

ص: 175


1- طيف الخيال : 26.
2- طيف الخيال : 80.

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي

لعلّ خيالا طارقاً سيعودُ

ثمّ دخل أبو الحسن الحذّاء على الرضيّ وهي في يده فاستعرضها هو : ما معه فعرضها عليه وقال الرضيّ : أين أخي من هذه الأبيات وترك منه بيتين وأخذ القلم وكتب تحتها :

فردّت جواباً والدموع بوادرٌ

وقد آن للشَّمل المشتِّ ورودُ

فهيهات من ذكرى حبيب تعرّضت

لنا دون لقياه مهامه بيدُ

ثمّ عاد إلى المرتضى فشرح له القصّة وعرض عليه القرطاس الذي فيه الأبيات فعجب فقال عزّ عليّ يا أخي قتله الذكاء»(1).

فلا يخفى وكما بيّنّا سابقاً أنّ البيئة التي احتضنت الشريف المرتضى لها السهم الكبير في إعداده ، كما أنّها تُعدّ العامل الأساسيَّ المؤثّر على شخصيّة السيّد المرتضى رحمه الله في إنشائه عالماً وأديباً شاعراً ، فمن مقوّمات هذه البيئة هم أساتذته الذين أنشأوه خير منشأ ، فلو أردنا أن نذكر أبعاد شخصيّة كلّ منهم لطال بنا المقال ولخرجنا عن أصل الحال أوبَعُدَ عنّا المنال ، ولكن ولما نقصده من شاعريّة سيّدنا المرتضى نذكر يسيراً عن أستاذه في الأدب والشعر ، الذي احتواه منذ يفاعته واحتفّ به وغذّاه الأدب والشعر وغرس فيه 0.

ص: 176


1- بحار الأنوار : 107 / 20.

مبادئ العلوم العربية وصقل موهبته وصيّره عملاقاً من عمالقة الشعر العربي ونابغة من نوابغه ، وهو أستاذه الشاعر العربي المعروف بابن نباتة السعدي (ت 405ه) أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة بن حميد بن نباتة بن الحجّاج بن مطر السعدي التميمي (من بني سعد من قبيلة بني تميم) ، ولد في بغداد عام (327ه) ونشأ بها ، ودرس اللغة العربية على أيدي علماء بغداد في عصره حتّى نبغ ، وكان شاعراً محسناً مجيداً بارعاً جمع بين السبك وجودة المعنى(1) ، قال عنه أبو حيّان : «شاعر الوقت ، حسن الحذو ، على مثال سكّان البادية لطيف الائتمام بهم خفيّ المغاص في واديهم ، هذا مع شعبة من الجنون وطائفٌ من الوسواس»(2). وقال عنه ابن خلّكان : «معظم شعره جيّد ، توفّي ببغداد»(3).

وقال عنه الثعالبي : «من فحول شعراء العصر ، وآحادهم ، وصدور مجيديهم ، وأفراد الذين أخذوا برقاب القوافي ، وملكوا رقّ المعاني ، وشعره من قرب لفظه بعيد المرام ، مستمرّ النظام ، يشتمل على غرر من حرّ الكلام ، كقطع الروض غبّ القطر ، وفقر كالغنى بعد الفقر ، وبدائع أحسن من مطالع الأنوار وعهد الشباب ، وأرقّ من نسيم الأسحار وشكوى الأحباب»(4).

له ديوان شعر احتوى على أكثر من (297) قصيدة. 5.

ص: 177


1- أعيان الزمان : 37 و38.
2- أنظر : الأعلام للزركلي : 4 / 24.
3- وفيات الأعيان : 3 / 191 و192.
4- يتيمة الدهر : 2 / 447 ، رقم 135.

وكذلك من أساتذته في الشعر والأدب هو عليّ أبو عبيد الله المرزباني (ت 994ه) صاحب معجم الشعراء والموشَّح وغيرها ، وإنّ أكثر روايات المرتضى في كتابه الأمالي عنه(1) ، حيث كان راوية للأخبار والآداب والشعر ، ومنهم أيضاً أبو علي الفارسي ، فهؤلاء هم حصون الأدب العربي ومناهله وجهابذته وفطاحله الذين اقتبس منهم الشريف المرتضى وارتشف من معينهم وانتهل ، وهكذا أصبح المرتضى ترجماناً من ترجماني الشعر والأدب ، حيث نشأ شاعراً عالماً بفنون اللغة العربية وعلومها وآدابها ، من تصاريفها الفعلية وقواعدها النحوية ومعاني مفرداتها وبيانها وبديعها من فصاحة وبلاغة ، كما كان ملمّاً بأنساب العرب وقبائلها ووقائعها وأيّامها ، وكلّ هذه الأمور لائحة معالمها في ديوانه ، واضحة مفاهيمها في بيانه ، ممّا تزيد القارئ إعجاباً بجزالة الألفاظ والمعاني وتشدُّ الخبير إليها طلاباً لما يدركه من قوّة التعبير والمباني ، فلولا اشتغاله بالعلوم التي خاض غمارها محتملا أوقارها ومحتوياً أسرارها حتّى ساد أخيارَها وأبرارها لقيل فيه كما قيل في الكميت بن زيد «ذاك هو أشعر الأوّلين والآخرين»(2) ، وإن لم يقلّ عنه وعن سائر الشعراء معرفةً وعلماً وقدراً وغزارة وجزالة وأخذاً برقاب القوافي ، فهو الأديب اللّوذعي والشاعر الألمعي دونه أبو العلاء المعرّي والأصمعي ، وقد جارى الشعراء صناعة وصياغةً فأبهرهم في البيان فصاحةً وبلاغة ، فلا بِدعَ إن قلنا 6.

ص: 178


1- الانتصار : 24.
2- أنظر : الغدير : 2 / 196.

ضاها الفرزدق والكميت والحميري وأبا تمّام وبشّار والبحتري ، فهذا هو عصره الزاخر بفحول الشعراء من القرنين الرابع والخامس الهجريّين أمثال :

شعراء القرن الرابع :

منصور بن سلمة الهروي.

أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد.

أحمد بن محمّد بن الحسن الصنوبري.

عليّ بن أصدق الحائري.

أبو الحسن السرّي بن أحمد الرفاء الموصلي.

محمود بن الحسين بن السندي كشاجم.

طلحة بن عبيد الله العوني المصري.

عليّ بن إسحاق الزاهي الشاعر.

الأمير أبو فراس الحمداني.

محمّد بن هاني الأندلسي.

الناشي الصغير أبو الحسن علي بن عبدالله بن الوصيف.

الأمير محمّد بن عبد الله السوسي.

سعيد بن هاشم الخالدي.

الأمير تميم بن الخليفة.

عليّ بن أحمد الجرجاني الجوهري.

الصاحب إسماعيل بن عبّاد.

ص: 179

محمّد بن هاشم الخالدي.

الحسين بن الحجّاج.

عليّ بن حمّاد العبدي.

أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمداني.

الشريف الرضي.

شعراء القرن الخامس :

أحمد بن منصور القطّان.

أحمد بن عبدالله.

ابن جبر المصري.

أبو العلاء المعرّي.

أبو نصر بن نباتة.

الأمير عبد الله الخفاجي.

زيد الموصلي النحوي.

فارس بن محمّد بن عنان.

أبو الحسن مهيار الديلمي البغدادي.

أبو محمّد عبد المحسن ابن غلبون الصوري.

فكيف لا يجاريهم ولا يباريهم أو يكون دونهم أدباً وصناعة وشعراً وهو الشاعر المفلّق الذي شهدت له قوافيها ونواديها من حواضرها وبواديها ،

ص: 180

حتّى أبدى ديوانه قوّة شعره وما نطق به من أوائل قوله ولعلّها قصيدة قالها في عنفوان شبابه لصديق له قدم من سفر مطلعها :

حلّ ذاك الكناس ظبيٌ ربيب

عاصت الصبْرَ في هواه القلوبُ(1)

وكذلك أبدى لنا هذا الديوان من قصائده ما طلب منه أن يردّ أو يجيب على نفس الوزن والقافية ، فمن روائع ما جادت به قريحته التي تعرب عن تمرّسه وتظلّعه في الصناعة الشعرية وذلك لمّا سأله الوزير (أبو عليّ الحسن ابن حمد) عمل أبيات تتضمّن المعنى الذي قصده جرير بقوله :

تقول العاذلات علاك شيبٌ

أهذا الشيب يمنعني مراحي

فقال شريفنا المرتضى ردّاً عليه بأبيات على نفس الرّويّ :

وما مرح الفتى تزورُّ عنه

خدود البيض بالحدق الملاحِ

ويصبح بين أعراض مبين

بلا سبب وهجران صراحِ

وقالوا لا جناح فقلت كلاّ

مشيبي وحده فيكم جناحي

أليس الشيب يدني من مماتي

ويطمع من قلاتي في رواحي

مشيبٌ شنّ في شعر سليم

كشنّ العرّ في الإبلِ الصحاحِ

كأنّي بعد زورته مهيضٌ

أدفُّ على الوطيف بلا جناحِ

أو العاني تورّط في الأعادي

فسُدّ عليه مُطَّلَعُ السراحِ8.

ص: 181


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 188.

سقى الله الشباب الغضّ راحاً

عتيقاً أو زلالاً مثل راحي

ليالي ليس لي خلقٌ معيبٌ

فلا جِدِّي يذمّ ولا مزاحي

وإذ أنا من بطالات التصابي

ونشوات الغواني غير صاحِ

وإذ أسماعهنّ إليَّ ميلٌ

يصخن إلى اختياري واقتراحي

فدونكها ابن حمد ناقضات

لقول فتىً تجلّد للّواحي

فقال وليس حقّاً كلّ قول

«أهذا الشيب يمنعني مراحي»

وقاني الله فقدك من خليل

ثنت منّي مودّته جماحي

فكان على قذى الأيّام صفوي

وكان على مناديها صباحي(1)

وهكذا إذا سرنا في ربوع ديوانه وارتشفنا من سلسال شعره وزلال روافد بيانه وانتشقنا من أريج عبَق زهور جنانه لراقنا نضيد جمانه ولرأيناه كيف أخذ الأدب من زمامه وعنانه وقارع به الفحول من أقرانه وفاقهم أدباً وشعراً في عصره وزمانه.

وهذا هو ديوانه قد جمع لنا بين دفّتيه شعره اللامع وبيانه الجامع ما يحكي عن جميل صناعته وبراعته في صنوف الشعر وما ساقه إليه طيف الخيال في الأدب والبرق والتفريع من البديع والتشوّق والتلهّف وفي التوكلّ على الله وفي الذمّ والتذمُّم وفي الحكمة والتهنئة والمدح والحماسة والفخر وفي الرثاء والتعزية وفي الزهد وفي الشكوى والتوجُّع والشيب والطيف والعتاب والاعتذار والعزّ وفي ما قاله غرض له وفي الغزل وفنون شتّى وفي 5.

ص: 182


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 345.

اللغز والنسيب والوصف والوعظ والاعتبار. أجل هو الشاعر المفلّق ذو الشعر المؤلَّق الذي شمّر عن باع وحسَر عن يراع وأبهر في إبداع.

المسلك الشعري :

لقد علّمتنا دواوين الشعر وكتب الأدب أن نتعرّف على المنهج الشعري لكلّ شاعر ومسلكه الأدبي ورويَّته الشعرية التي صار يعرف ويمتاز بها عن الآخرين ، فيقال في أحدهم أنّه في شعره بدويٌّ والآخر حضريٌّ ، وهذا غزليٌّ وذاك حماسيٌّ ، وهذا «يغرف من بحر» لرقّة شعره وذاك «ينحت في صخر» لرصانة شعره ومتانته ، كما قيل ذلك في جرير والفرزدق(1) و... هكذا كلّما تطوّر الشعر في صنائعه فقد امتازت المذاهب والمسالك في بدائعه وصنائعه ، وقد مرّ علينا آنفاً ردّ الشريف المرتضى على قصيدة جرير على نفس المسلك والرويّة وكأنّ جرير عاد لينقض شعره بعد أكثر من ثلاثة قرون ، ولو شئنا أن نستزيد من ديوانه معرفة بأسلوبه ورويّته لزادنا ديوانه دون ملل وكَلل وذلك لمّا سُئل - رضي الله عنه - إجازة قول النوّاح المرادي :

يا إبلي روحي على الأضيافِ

إن لم يكن فيك غُبوقٌ كافِ

فأبشري بالقِدْرِ والأثافي

وغارف ومِغرَف جرّافِ

فقال على تلك الرويّة :

يا إبلي كوني قِرى الأضيافِ

فليس عند الجوف بالإنصافِ6.

ص: 183


1- تاريخ دمشق : 48 / 116.

أإنّ لي نعلا وجاري حافِ

وإنّني مثر وجاري عافِ

يؤمنُني اللّوّام أن تخافي

وأن تبيتي نهزة الطّوّافِ(1)

... إلى آخر ما قال في أرجوزته.

وكذلك يزوّدنا الديوان ما قاله موازناً قصيدة أخيه الرّضي رحمه الله :

مرّت بنا بمُصلّى الخيف سانِحةٌ

كظبية أفلتت أثناء أشواكِ

نبكي ويضحكها منّا البكاء «لها»

ماذا يمرّ من المسرور بالباكي(2)

ولمّا كاتبه أبو سعد علي بن محمّد بن خلف بقصيدة يعزّيه فيها عن والده ، أوّلها :

يا برق حام على حياك وغايرِ

أن تستهلّ بغير أرض الحائرِ

فأجابه على نفس الوزن والقافية بقصيدة أوّلها :

هل أنت من وصب الصبابة ناصري

أو أنت في نصب الكآبة عاذري(3)

وهكذا يحمل لنا ديوانه من لآلي شعره ودرره ما يحكي ويفصح عن قوّة شاعريّته وتصرّفه في فنون الشعر ، فإذا أردنا أن نميّز أسلوبه ومسلكه الشعري فهو الشاعر البَدَويّ الحضريّ الحماسيّ الغزليّ ... فرياض شعره ممرعة ونواديه ممتعة وحياضه مترعة ، واعتماداً على ما ذكرناه وعلى ما يضمّه ديوانه من كوامن شعره التي صار يضاهي بها تارة شعراء الجاهلية 8.

ص: 184


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 135.
2- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 233.
3- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 518.

وكأنّك تمرّ على معلّقة من معلّقاتهم وتارة المخضرمين وأخرى المولّدين لأحرزنا حينها - مروراً بعصور الشعر - أنّه الشاعر الجاهلي والإسلامي المخضرم والمولّد أو (المحدث).

وهذا أنموذج من رائق شعره المتألّق الذي حذا به حذو شعراء الجاهلية في وصفه للذئب من قصيدته التي مطلعها :

أيا حادي الأضعان لم لا نُعرِّس

لعلّك أن تحضى بقربك أنفس(1)

إلى أن قال في لوحة أدبيّة رائعة :

وليلة بتنا بالثنية سُهَّداً

وما حشوها إلاّ ظلامٌ وحندسُ

وقد زرانا بعد الهُدُوِّ توصّلا

إلى الزاد غرثان العشيّة أطلسُ

شديد الطوى عاري الجناجن ما به

من الطُّعم إلاّ ما يُظَنّ ويُحدَسُ

أتاني مغبرّ السراة كأنّه

من الأرض لولا أنّه يتلمّسُ

تضاءل في قطريه يكتم شخصه

وأطرق حتّى قلت ما يتنفّس

وضمَّ إليه حسّه متوجِّساً

وما عنده في الكيد إلاّ التوجُّسُ

يخادعني من كيده عن مطيّتي

ولم يدر أنّي منه أدهى وأكيسُ

وأقعى إزاء الرحْلِ يطلبُ غِرَّةً

ويلقي إليه الحرصُ أن سوف أنعسُ

وما كنت أحميك القِرى لو أردته

برفق ولكن دار منك التغطرسُ

فلمّا رأى صبري عليه وأنّني

أضِنُّ على باغي خداعي وأنفسُ3.

ص: 185


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 563.

عوى ثمّ ولّى يستجير بشدّة

ويطلب بهماً نام عنها المُحَبِّسُ(1)

الحياة الشعرية للشريف المرتضى :

هي سيرته وأخلاقه وسجاياه ومشاعره وعواطفه وكلّ ما يملكه من نبل وقيم وإحساس نراها طافحةً في ديوانه لائحة أعلامها في شعره وبيانه ، فكلّما قرأنا الديوان وسرنا في ربوعه رأيناه حسن العشرة نقيّ السريرة يحمل مع قوّة شعره الصّدق والوفاء والودّ والإخلاص لكلّ من ألفه وعاشره ، وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعله محبوباً يتشوّق إليه كلّ من تعرّف عليه معزّزاً مكرّماً مبجّلا ، ولعلّ القارئ إذا تطلّع على أوّل قصيدة من الديوان التي يرثي بها الخليفة العبّاسي القادر بالله ويهنّئ بها القائم وقد بويع له بالخلافة - وكان الشريف المرتضى أوّل من بايع له - أن يحكم عليه أنّه كان شاعراً مقرّباً عند الملوك ولابدّ للشاعر المحبوّ عندهم أن يبلغ بشعره إلى ما يرضيهم ويتقرّب بشعره إليهم في مدحهم ورثائهم وما إلى ذلك من الأساليب التي تنهجها الشعراء عند الخلفاء والملوك ، ولكن للإنصاف كلّما سرنا في شعره وتصفّحنا ديوانه رأينا نفس هذا الأسلوب وهو أسلوب الصدق والوفاء وإسداء المحبّة لكلّ من عاشره الشريف المرتضى بيّناً واضحاً ، فإنّ حمولة الديوان من مراثيه ومدايحه كثيرة ، وتواتر الألفاظ والمعاني وتراكيبها فيه غزيرة فهلمّ نغترف من زلال شعره العذب نميره ، وننشق من ربوع فيحائه عبيره ، فهذه أوّل قصيدة 4.

ص: 186


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 564.

بها الديوان قد صدح ، يعرض لنا مزيجاً ممّن رثاه ومدحْ ، ونمطاً من شعره الذي امتاز ورجَحْ.

أراعك ما راعني من ردى

وجدت له مثل حزّ المدى

وهل في حسابك أني كرعت

برزءِ الإمام كؤوس الشجا

كأنّي وقد خيل لي أنّه

أتاه الرّدى في يمين الردّى

فقل للأكارم من هاشم

ومن حلّ من غالب في الثرى

ردوها المريرة طول الحياة

وكم وارد كدراً ما انروى

وشُقُّوا القلوب مكان الجيوب

وجزُّوا مكان الشعور الطُّلى

وحلّوا الحبا فعلى رزئه

كرام الملائك حلّوا الحُبا

ولِم لا وما كتبوا زلّةً

عليه وأيُّ امرئ ما هفا

إلى أن يقول :

فخلّ الأسى فالمحلّ الذي

جثمتَ به ليس فيه أسى

فإمّا مضى جبلٌ وانقضى

فمنك لنا جبلٌ قد رسا

وإمّا فُجعنا ببدر التمام

فقد بقيت منك شمس الضحى

وإن فاتنا منه ليث العرين

فقد حاطنا منك ليث الشّرى

وأعجب ما نالنا أنّنا

حُرمنا المنى وبلغنا المنى

لنا حَزَنٌ في محلّ السرور

وكم ضحك في خلال البُكا(1)

فهذا أنموذج من شعره الذي رثا به القادر بالله ومدح به القائم وهذه 9.

ص: 187


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 149.

أبيات من القصيدة التي يمدح بها أباه ويهنّئه بشهر رمضان وقد مرّ علينا بعض أبياتها والتي مستهلّها :

لقد ضلّ من يسترقّ الهوى

وعبد الغرام طويل الشقا

يقول فيها :

فتىً لا تُعَثِّرُ آراءه

بطرق المكارم صمُّ الصَّفا

يجود بما عزّ من ماله

فإن سيل أدنى علاه أبى

ويوماه في الفخر مستيقنان

فيوم العطاء ويومُ الوغى

يُفيض بهذا جزيل الحباء

ويقري بهذا القنا في القرا

تعرَّف في الخلق بالمَكرُمات

فأغنته عن رائقات الكُنى

وأخرس بالمجد قول العُداةِ

وأنطق خرس اللَّها باللُّها

أيا من كبا فيه طِرف الحسود

فأمّا جواب مديح فلا(1)

وهذا آخر ما اخترته من أُنموذج في مضمار مدحه ورثائه من قصيدة جاء عنوانها :

وقال يرثي صديقاً له :

ناد امرءاً غُيِّبَ خلف النَّقا

فكم فتىً ناديته ما وعى

وقل لمن ليس يرى قائلا

بأيّ عهد دبّ فيك البِلى

وكيف دلِّيت إلى حفرة

يمحوك محو الطّرس فيها الثرى

كذي ضنىً ملقىً وليت الذي

سيط به جسمك كان الضنى4.

ص: 188


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 154.

أرّقني فقدك من راحل

واستلَّ من عينيَّ طعم الكَرى

وبنت لا عن ملل من يدي

وغبت عن عينيَّ لا عن قِلى

فكيف ولّيت وخلّفتني

أكرع من بعدك كأس الأسى

كأنّني سار على قفرة

مسلوبة أعلامُها والصُّوى

أو منفض من كلّ أزوادِه

يحرقه القيظ بنار الصّدى(1)

إنّ هذا المزيج الذي يحكي تارةً عن بكاء ونشيج ، وأخرى عن قلب بهيج ، لخير دليل على أنّه كان يحمل في جوانحه الودّ والوفاء والإخلاص ، ونقاء السريرة وحسن السيرة ، فنراه كيف يتألّم ويتوجّع ويتفجّع ويتحرّق ويبدي بالغ الأسى سواء إذا رثى القادر بالله أم إذا رثى صديقاً له ، وكيف يسرّ ويبتهج ويهدي أرقّ المدائح وأعذبها ويسدي أسمى آيات المودّة والثناء سواء كان الممدوح هو القائم أم أباه أو أيّ شخص آخر حفل به ديوانه ، حيث نرى فيه قصائد المدح والرثاء جَزِلَة وأوراقه بسلسال ندى الشعر خضِلة ، وحقّ لمن كانت هذه سجيّته ونواياه وسجائحه وعطايا ومناه وهداياه أن يتقرّب إليه الرفيع والوضيع والعالي والداني والقويّ والواني ، حتّى عُدّ - وكما ذكرنا سابقاً - بعض الخلفاء وأبناء الخلفاء والملوك وأبناء الملوك والولاة والأمراء و... من تلامذته ، فإنّه لم يكن من شعراء الملوك بل من ملوك الشعراء ، وهذا هو الديوان يدلّنا على تشوّق الملوك إلى استماع شعره والإنصات إليه فقد ذكر لنا من بين طيّات صفحاته أنّ الشريف المرتضى 5.

ص: 189


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 155.

رحمه الله : قال يمدح سلطان الدولة بن بهاء الدولة - وكان عزم على ترك الشعر بعد فخر الملك - فلمّا قدم سلطان الدولة بن بهاء الدولة بغداد سنة (416 ه) طلب من الملك فعرّفه ما عزم عليه ، فألحّ عليه مرّات فلم يسعه إلاّ الإجابة فقال يمدحه :

أرسلها ترعى ألاءً ونفلْ

تامِكَةً بين الجبال كالجبلْ

حنّ لها نبت الخزامى بالورى

وشبّ حوذان العميم واكتهلْ

من يعملات ما وردن عن هوىً

ولم تبت من شكّها على وجلْ(1)

إلى آخر ما قاله من أرجوزته الرائعة ، وودت لو أنّي ذكرتها برمّتها لولا خشية الإطناب والإسهاب ، وها هو ذا شريفنا المرتضى يتبجّح بشعره في مدحه لفخر الملك قائلا :

وكم لي فيه من غُرر بواق

ومن سحر سقيت به حلالِ

يغور إلى القلوبِ بلا حجاب

ويشفيك الجوابُ بلا سؤالِ

وقافيةٌ متى استُمِعت أبرّت

عذوبتها على الماءِ الزلالِ

فلولا أنّها كلمٌ لكانت

فريد نحور ربّاتِ الحِجالِ(2)

وذلك لما كان يعلمه من تشوّق المستمعين إلى شعره وإعجابهم به.

وكيف يكون الشريف المرتضى رضي الله عنه ممّن يتقرّب إلى الملوك لنيل عطاياهم ومنحهم وهو الذي يصرّح في طلب العزّ مترفّعاً عن كلِّ ذلك 2.

ص: 190


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 386.
2- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 342.

ويذكر ما لديه من المواهب والنِّعم ممّا حباه اللّه تعالى دونهم قائلاً :

فلو أنّني أنصفت نفسي لصنتها

ونزّهتها عن أن تذلّ لمطمعِ

ومالي وأبواب الملوك وموضعي

من الفضل والتجريب والفضل موضعي

وما لهم مالي من العلم والتّقى

ولا معهم يوماً من العلم ما معي

وهل أنا إلاّ طالب النّقص عندهم

وإلاّ ففضلي يعلم الله مقنعي

وهل لصحيح الجلد من متمعِّك

لذي العرِّ والجلد المفرّى بمضجعِ

وما أنا بالرّاجي لما في أكُفِّهم

فلِمْ نحوهم يا ويحَ نفسي تطلُّعي(1)

ولمّا علمنا أنّ مدحه للخلفاء والملوك لم يكن لتقرُّب إليهم فلا يسعنا إلاّ أن نقول إنّ شخصيَّته العملاقة ونفسيّته الأبية النقيّة كانت قد فرضت عليهم مودّته وأُلفته ، وذلك لما كان يحمله من صفاء النيّة وحسن المعاشرة والصدق في القول والعمل.

أمّا مدحه للخلفاء العبّاسيّين الذين عاشرهم وإطنابه في مدحهم والثّناء عليهم ربّما يحمل على التّقية ؛ ولكن التّتبّع في سيرة حياته من خلال كتب التراجم وخاصّةً من خلال ديوانه الذي هومقصد البحث والكلام لا يدلاّن على ذلك ، لأنّ الخلفاء العباسيّين كانوا يعلمون حقّ المعرفة أنّ الشريف المرتضى لم يتنازل عن عقيدته العلوية قيد أنملة ، أو حتّى قيد شعرة ، ولكن في نفس الحال كانوا يأمنون جانبه ويعلمون أنّه لم يكن من أهل عدّة وعدد ، ولم يك من أهل سياسة وخديعة ومكر وفلتة ، مع ما له من قوّة وحكمة 0.

ص: 191


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 80.

وذكاء وحنكة ، هذا ومن جانب آخر فإنّ عصر القادر والقائم يعدّ عصر انكماش الدولة العباسية وضعفها وتقهقرها ، فلم تك للخلفاء تلك المنعة والسطوة في إرغام مخالفيهم وصدّهم وردّهم ، فكانوا يخشون على سلطانهم تفاقم الأوضاع وتدهور الأمور لعظيم ما شغلهم من الإنحلال والإنهيار ، فكان لابدّ لهم أن يعمدوا إلى جانب المسايسة والمداراة ، ومع ذلك كلّه فإنّه حتّى بعد تزلزل أركان دولتهم وزوالها لم نر في ديوان الشريف المرتضى أيّ ذمّ وقدح وهجاء للطائع والقادر والقائم من الخلفاء العباسيّين الذين عاشرهم ، وذلك الالتزام بالخلق النبيل دليل على وفائه في مضمار الصداقة الإنسانية ، وإن كان التحامل منه على الدولة العباسية بشكل عام جليّاً في المرحلة التي ورد بها البويهيّون واستقرّ لهم الأمر ، ولكن أشعاره التي يفخر فيها بمجده وسؤدده العلويّ والنبويّ على حدّ سواء لخير دليل على أنّه رحمه الله كان يجهر بمنطقه أمام الدولة العباسية ، التي تأسّست على نقض الحقّ العلويّ الفاطميّ في نيل الخلافة الإلهية المتمثّلة بأئمّة أهل البيت عليهم السلام المعصومين الأبرار الأطهار ، وإنّه كان يدعو للالتزام بدوحتهم وعروتهم التي لا انفصام لها دعوة حقّ بالحكمة والموعظة الحسنة ، ملتزماً في تبليغ الدين الحنيف سيرة آبائه وأجداده الطيّبين الطاهرين عليهم آلاف التحيّة والسلام ، فها هو يقول في مدح آل الرسول ويفتخر بهم عليهم السلام

لأنتم آل خير الناس كلّهم

المنهل العذب والمستورد الغَدَقُ

وليس لله دينٌ غير حبّكم

ولا إليه سواكم وحدكم طرقُ

ص: 192

وإن يكن من رسول الله غيرُكم

سوى الوجود فأنتم عنده الحدَقُ

رزقتم الشرف الأعلى وقومُكمُ

فيهم غضابٌ عليكم كيف ما رُزقوا

وأنتم في شديدات الورى عصرٌ

وفي سواد الدياجي أنتم الفَلَقُ

وما للرّسول سوى أولادكم ولدٌ

ولا لنشر له إلاّ بكم عبقُ

فأنتم في قلوب الناس كلّهم

السَّمت نقصده والحبل نعتلقُ

هل يستوي عند ذي عين ربىً ورُبَىً

أو الصباح على الأوتاد والغسقُ

ودِّي عليه مقيمٌ لا براح له

من الزمان ورهني عندكم علقُ

وتقت منكم بأن تستوهبوا زللي

عند الحساب وحسبي من به أثقُ(1)

فهو لا يتمسّك إلاّ بعروتهم ولا يتوسّل إلى الله إلاّ بدوحتهم ولا يعترف إلاّ بحقّهم دون منازع.

وهذه عقيدته الخالصة نراها لائحةً واضحةً دون أيّ مساومة ومداهنة في غديريّته التي مطلعها :

على مثل هذا اليوم تحنى الرواجبُ

وتطوى بفضل حيز فيه الحقائبُ

إلى أن يقول :

فلمّا مضى من كان أمّرنا لكم

أتتنا كما شاء العقوق العجائبُ

فقل لأناس فاخرونا ضلالةً

وهم غرباءٌ من فخار أجانبُ

متى كنتمُ أمتاً لنا ومتى استوت

بنا وبكم في يوم فخر مراتبُ5.

ص: 193


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 154 و155.

فلا تذكروا قربى الرسول لتدفعوا

منازعكم يوماً فنحن الأقاربُ(1)

وهنا يحدو بنا البحث ويسوقنا الكلام ويأول بنا الأمر إلى ذكر جانب الفخر من شعره الثرّ وأدبه الرائق ، فإن كان الفخر عند الشعراء هو الافتخار بقوّة وبأس عشائرهم وغاراتهم على سائر القبائل وأسرها وإذلالها ، وبوقائعهم وحروبهم وأيّامهم التي تشير إلى مثل هذه النزعات ، فإنّ فخر الشريف المرتضى رضوان الله عليه إنّما جاء فخراً بمجده الأصيل وتراثه الأثيل الذي ينحدر من سلالة النبوّة ويعزو إلى علا الشجرة التي أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء حيث قال :

أيفخر قومٌ مالهم مثل مفخري

وأين من النهج القويم التعسُّفُ

ولي فوق أسماك المجرّة منزلٌ

وفي موقف الزهر الكواكب موقفُ

وقومي الأُلى لمّا توقّف معشرٌ

عن الذروة العلياء لم يتوقّفوُا

ثمّ أخذ يحلّق في سماء ذاك المجد الإلهي ذاكراً ما فضّل الله به الدوحة النبويّة ، وما خصّ الله به أجداده من نصرها في مواطن عديدة ، وتضحيتهم بمهجهم دون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وما فضّلهم به الله والرسول من كرامة أن جعلهم من أصحاب الكساء قائلا :

لنا من قريش كلّما لنبيِّهم

ومن بينهم ذاك الستارُ المسجَّفُ

فإن مسحوا أركانه فبذكرنا

ويدعو بنا إن طُوِّف المتطوِّفُ

ونحن نصرناه بأحد وخيبر

وقد فرّ عنه ناصروه فأُرجِفُوا1.

ص: 194


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 181.

ونحن فديناه الردى في فراشه

وللموت إرقالٌ إليه وعجرَفُ

وآثرنا دون الأنام بصهره

وقد ذيد عنه الطالب المتشوِّف

وأسكننا يوم العباءة وسطها

وألبابُ من يعط ذاك ترجَّفُ(1)

ثمّ أخذ يفخر بمجده الإلهي وهو يقسّم بما حباهم الله من معالم الرشاد والهداية قائلا :

أما ترى خير الورى معاشري

ثمّ قبيلي أفضل القبائلِ

ما فيهم إن وزِنوا من ناقص

وليس فيهم خُبرةٌ من جاهلِ

أقسمت بالبيت تطوف حوله

أقدام حاف للتُّقى وناعِلِ

وما أراقوه على وادي مِنىً

عند الجمار من نجيع سائلِ

وأذرُع حاسرة ترمي وقد

حان طلوع الشمس بالجنادلِ

والموقفين حطّ ما بينهما

عن ظهره الذنوب كلّ حاملِ

فإن يخب قومٌ على غيرهما

فلم يخب عندهما من آملِ

لقد نمتني من قريش فتيةٌ

ليسوا كمن تعهد في الفضائلِ(2)

وهكذا صار يجهر بهذا الفخر والمجد الإلهيِّ ويذبّ عنه بإيمان راسخ ومنطق تكلُّ عن ردِّه العُدّة والعَدَد والجلبُ والمدد ودونه كلّ مقارعة وصدّ :

أمّا الطّريف من الفخار فعندنا

ولنا من المجد التليد سنامُه

ولنا من البيت المحرّم كلّما

طافت به في موسم أقدامُه4.

ص: 195


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 112.
2- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 344.

ولنا الحطيمُ وزمزمٌ وتراثنا

نعم التراث عن الخليل مقامُه

ولنا المشاعر والمواقف والذي

تهدى إليه من منى إنعامُه

وبجدِّنا وبصنوه دُحِيتَ عن ال-

-بيت الحرام وزُعزِعَت أصنامُه

وهنا علينا أطلعا شمس الهدى

حتّى استنار جلاله وحرامُه

وأبي الّذي تبدو على رغم العدا

غرّاً محجّلةً لنا أيّامُه

كالبدر يكسو الليل أثواب الضحى

والفجر شبَّ على الضلام ضرامُه

وهو الذي لا يقتضي في موقف

إقدامه نكصٌ به أقدامُه

حتّى كأنّ حياته في حتفه

ووراءه ممّا يخاف أمامُه

ووقى الرسول على الفراش بنفسه

لما أراد حمامه أقوامُه

ثانيه في كلّ الأمور وحصنه

في النائبات وركنه ودِعامُه(1)

فأين بني العبّاس من هذا المجد وتلكم المناقب والفضائل التي خصّ بها الله السلسلة العلوية الفاطمية بمنّه وفضله وكساهم بها كرامته وبهاءه ونوره وجلاله.

وكيف وأنّى يكون الشريف المرتضى ليتقرّب إلى خلفاء بني العبّاس وهذا ما علمناه من منطقه الذي صار يهوي عليهم كالسيف القاطع الذي لا ينبو عن ضريبته ، فهو وإن مدحهم وأطنب في مدحهم لكن كان لا يصفح عن ذمّهم إن اقتضى ذلك ما لو مسّ أحدٌ منهم كرامته وأراد له الصغار والهوان ، فكلّ شيء دون مجده وإيمانه وعقيدته التي وصلت إليه عن آبائه الكرام وعن6.

ص: 196


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 396.

أجداده الطيّبين الطاهرين وعن رسول الله وعن الوحي واللوح والقلم ، فإنّ ذلك دينه وولاؤه ومجده وبهاؤه ومنعته وإباؤه ، فأين الحصا من نجوم السما ، وأين زهو بني العبّاس وبهوهم من تلكم المنزلة الرفيعة والعزّة المنيعة ، وهذا هو ديوانه ينقل إلينا ذمّه وتقريعه العنيف لبني العبّاس حيث ذكر لنا قصيدته وقد صدِّرَت بالعنوان التالي :

«وقال في غرض له يندّد به بعض العبّاسيّين فيمن مدحه أوّلا» :

مدحتكم علماً بأنّ مدائحي

تضيع وتذرى في الرّياح العواصفِ

فلم أك إلاّ موقداً في ظهيرة

بلا صرَد أو هاتفاً في تنائفِ

وشاطرتكم منّي المودّة كلّها

شطاري ما بين الشريك المناصفِ

فيا ضيعةً للطالعات إليكمُ

طلوع المطايا من خلال النفانفِ

كأنّي أهديهنّ نحو بيوتكم

أقود إلى العهّار بعض العفائفِ

وكنت وقد وصّفت ما تاه عندكم

أودّ وداداً أنّني غير واصفِ

وما غرّني إلاّ مشيرٌ بمدحكم

وكم عارف يقتاده غير عارفِ

فخالفت حزمي سالكاً غير مذهبي

وما كنت يوماً للحجى بمخالفِ(1)

فلم يكترث ولم تأخذه لومة لائم وهو كما يقول الشاعر :

إمّا أن تكون أخي بصدق

فأعرف منك غثّي من سميني

وإلاّ فاطّرحني واتّخذني

عدوّاً أتَّقيك وتتّقيني(2)ي.

ص: 197


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 142.
2- مغني اللبيب : 1 / 61 ، للمنقّب العبدي.

فإنّه لم يتّخذ الظالمين عضداً ، ولم يستمدّ بهم مَدَداً ، ولم يجعل أهل طائفته دونهم معتمداً وسنداً ، فكم خاطب في شعره قومه وعشيرته وأهل طائفته يذكّرهم بأنّه لا زال لهم الحصن المنيع والطود الرفيع واليد التي تمتدّ لنصرهم وإغاثتهم فتناضل دونهم وتذبّ عنهم وتكفيهم الملمّات وتدفع عنهم الدواهي ، حيث يرى رضوان الله تعالى عليه أنّ عزّته ومنعته ومجده ورفعته في نصر طائفته الحقّة والوقوف إلى جانبهم وإعلاء كلمتهم وتقوية أُلفتهم وتعزيز شوكتهم.

وهكذا جاءت طريقته وبدأ أسلوبه في ذمّ العبّاسيّين وتقريعهم أو قل هجائهم ، وما ذكرناه إنّما هو انتقاءٌ من قصيدته لبعض أبياتها وإن كانت كلمة الهجاء لا تناسب الطابع الشعري أدبيّاً لأنّها تطلق على السبّ والشتم عند الشعراء كأمثال جرير والفرزدق الذين كان ينمّ الهجاء بينهما ، وكذلك لا يناسب الطابع السلوكي عند سيّدنا علم الهدى الشريف المرتضى رضوان الله تعالى عليه ، حيث كان يعرف بعفّة الجنان واللسان ويشهد له بارتدائه جلباب الحشمة والوقار ، كما شهد له ذلك في غزله العفيف الذي أبى أن يتّخذ فيه طريقة الشعراء مترفّعاً عن الخلاعة والمجون ، ونرى ديوانه حافلا بالغزل الذي تصدّر به في أكثر قصائده ، فربّما خاطب بها الخلفاء والملوك والشخصيّات أو أصدقاءه وأحبّته في مناسبات شتّى ليشتقّ من الغزل معاني الودّ والإخلاص والوفاء لمن يخاطبه ويقصده ، وقد بدت في غزله قوّة التخيّل واشتقاق المعاني التي يميل إليها الطبع الإنساني العفيف ويأنس بها ،

ص: 198

كما نستطيع أن نعدّ ذكره للمشيب أيضاً من قصائده الغزلية وأشعاره ولوحاته الأدبية الرائعة ، فذكر الشيب في ديوان الشريف المرتضى هو واحته النضرة وأزهاره العطرة وأغصان دوحته المثمرة الذي ما ذكر في أبيات أو مرّ عليه في أغلب قصائده إلاّ واشتقّ له معنى جديداً أو كساه بصياغة جديدة ، وهكذا برع شريفنا المرتضى في خوض غمار الغزل ، وخرج منه نقيّ الأذيال صافي البال لم يغيّره عن عفّته وتقواه حالٌ عن حال ، وكيف يمكن إغلاق هذا الباب وهو عماد من أعمدة الأدب التي عليها المعوّل وبها يزدان الشعر بفنون البديع والبيان ، وهو طريق لحفظ اللغة بجميع مفرداتها ومعانيها وأسسها ومبانيها ، وهنا أفصح الديوان عن أسلوبه العفيف واحتشامه الشريف ذاكراً :

قال في الغزل والعفّة :

بأبي زائراً أتاني ليلا

سارقاً نفسه من البوّابِ

ما ثناه عنّي تقضّي شبابي

وهو في وجنتيه ماء الشبابِ

بان بيني وبينه خشية

الله وخوف العذاب يوم العذابِ

لم أزده شوقاً وبين ضلوعي

كلّ شوق على مليح العتابِ

ثمّ ولّى كما أتى أرِجَ الأخبار

في الناس طيِّب الأثوابِ

عالماً أنّني وإن كنت أهواه

فغيرُ الحرام منه طلابي

ولقد جاءني وما كان في نفسي

إسعافه ولا في حسابي

غير أنّي عففت حتّى كأنّي

لا أباليه أو بغيريَ ما بي(1)2.

ص: 199


1- ديوان الشريف المرتضى : 1 / 222.

فهو مهذّب النفس يخشى الله ويتذكّره ويخشى العقاب والعذاب ، ولم يكن ليطلب مراماً ، وكلّما سرنا في ديوانه نراه يزوّدنا بالوعظ والزهد وذمّ الدنيا ، وبأشعار إيمانية في التوكّل على الله والاعتبار والحكمة وتهذيب النفس ، وأروع ما قاله رحمه الله في تهذيب النفس قصيدته التي ملئت حكماً ولا ميّته التي عندما قرأتها ظننت أنّه اقتبسها من لامية العجم للطّغرائي وذلك لما فيها من تشابه في اقتباس المعاني وسرد المفردات ، فلمّا قصدت تاريخ ولادتهما ووفاتهما رحمهما الله رأيت أنّ الطغرائي ولد بعد وفاة الشريف المرتضى بتسع عشرة عام وذلك حيث إنّ وفاة الشريف المرتضى سنة (436ه) ومولد الطغرائي سنة (455ه) هناك ازددت إعجاباً بشاعريّة الشريف المرتضى وعلمت أنّه ممَّن يعوّل عليه الشعراء ويتّخذون شعره مصدراً ومرجعاً يعتمدون عليه ويستمدّون منه ، ويا للعجب أنّ لاميّة الطغرائي قد بلغت شهرتها الآفاق ولكن لاميّة شريفنا المرتضى لم نطّلع عليها خُبْراً ولم نعرف لها أثراً ولم نسمع لها ذكراً ، وها هي لاميّة سيّدنا المرتضى أذكر بعض أبياتها :

لا تقطعنّ رجاءَ العيش بالعللِ

فالعمرُ أقصرُ أوقاتاً من الشُغُلِ

وما السرور على خلق بمتّئد

وما النّعيم على الدنيا بمتّصلِ

قضى الزمان بأن يبتزّ نحلته

ما يبرم الصّبحُ تعريه يد الطفلِ

أقول إذ لامني في الحبِّ جاهله

لو كنت لاقيت ما ألقاه لم تقلِ

خفِّض عليك فإنّي غير منعطف

على ملام ولا مصغ إلى عذلِ

وشافع الحبّ لا تنفكُّ طاعته

أدنى إلى النفس من همٍّ إلى جَذَلِ

ص: 200

لا تأْنَسَنّ بلين الصّعب تركبه

فالليث يصبو ويعلو منكب البطلِ(1)

هذا وفي آخر المطاف وخير ما نختم به مقالنا الذي بدأناه شغفاً وولعاً بديوانه وبشعره وشاعريّته وبتراثه الأدبيِّ الثرِّ هو أدبُ الطفّ الذي ما برح يذكر بين طيّات قصائده وأشعاره ، قصيدةً لجدِّه أبي عبدالله الحسين عليه السلامولمجده المضمّخ بالدماء في يوم عاشوراء على أرض الحسين كربلاء أرض الطفوف ومربع الحتوف ومهد مشتبك السيوف ، أرض الإباء والولاء والعزاء ، وأرض الإيمان والوفاء والإنقطاع إلى ربّ السماء بكلّ تضحية وفداء والصبر على أنواع البلاء ، فما إن تصفّحنا هذا الديوان الزاخر بألوان الشعر وفنون الأدب حتّى نرى عنواناً يثير الشجون وتدمع له العيون ويسبل له الدمع الهتون «وقال يرثي جدّه الحسين عليه السلام» فهو يتوجّع ويتفجّع ، ويتأوّه ويتألّم ويتحرّق أسىً لجدّه الحسين ولتلك الدماء الزاكيات والأجساد المرمّلة بالدماء التي أبت إلاّ أن تسفك مهجها دون الحسين عليه السلام وفي سبيل نصر ابن بنت رسول الله وريحانته (صلى الله عليه وآله) :

يا يوم أيّ شجىً بمثلك ذاقه

عُصب الرسول وصفوة الرحمانِ

جرّعتهم غصص الردى حتّى ارتووا

ولذعتهم بلواذع الإيمانِ

وطرحتهم بدداً بأجواز الفلا

للذئب آونةً وللعقبانِ

عافوا القرار وليس غير قرارهم

أو بردهم موتاً بحدّ طعانِ

منعوا الفرات وصرّعوا من حوله

من تائق للورد أو ظمآنِ

أوَما رأيت قراعهم ودفاعهم؟

قدماً وقد أعروا من الأعوانِ8.

ص: 201


1- ديوان الشريف المترضى : 2 / 378.

متزاحمين على الردى في موقف

حشي الظبا وأسنّة المرّانِ

ما إن به إلاّ الشجاع وطائرٌ

عنه حذار الموت كلّ جبانِ

يوم أذلّ جماجماً من هاشم

وسرى إلى عدنان أو قحطانِ

أرعى جميم الحقّ في أوطانهم

رعي الهشيم سوائم العدوانِ

وأنار ناراً لا تبوخ وربّما

قد كان للنيران لون دخانِ

وهو الذي لم يبق من دين لنا

بالغدر قائمةً من البنيانِ

يا صاحبَيَّ على المصيبة فيهم

ومشاركيّ اليوم في أحزاني

قوما خذا نار الصّلا من أضلعي

إن شئتما «والماء» من أجفاني

وتعلّما أنّ الذي كتّمته

حذر العدا يأبى على الكتمانِ

فلو انّني شاهدتهم بين العدا

والكفر مُعلول على الإيمانِ

لخضبت سيفي من نجيع عدوّهم

ومحوت من دمهم حجول حصاني

وشفيت بالطعن المبرّح بالقنا

داءَ الحقود ووعكة الأضغانِ

ولبعتهم نفسي على ضَنٍّ بها

يوم الطفوف بأرخص الأثمانِ(1)

والحمد لله ربّ العالمين

اللهمّ تقبّل منا هذا القليل

السيّد محمّد علي الحكيم

نجل السيّد راضي الحكيم 0.

ص: 202


1- ديوان الشريف المرتضى : 2 / 560.

المصادر

1 - الأعلام : خير الدين الزركلي (ت 1410ه)دار العلم للملايين بيروت 1980م الطبعة الخامسة.

2 - أعيان الزمان وجيران النعمان : وليد الأعظمي : بغداد - مكتبة الرقيم ، 2001م.

3 - الانتصار : الشريف المرتضى (ت 436ه) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي - قم

-4 - بحار الأنوار : العلاّمة المجلسي ، بيروت ، مؤسّسة الوفاء سنة 1402ه.

5 - تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر (ت 571ه) تحقيق علي شيري ، دار الفكر - بيروت - 1415ه.

6 - تنزيه الأنبياء : الشريف المرتضى ، الطبعة الثانية ، دار الأضواء ، بيروت ، لبنان ، سنة 1409ه.

7 - جامع الأصول في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) : ابن الأثير ، تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط ، مكتبة الحلواني ومطبعة الملاّح ومكتبة البيان ، مصر ، 1972م.

8 - ديوان الشريف المرتضى : تحقيق رشيد الصفّار ، دار البلاغ - بيروت الطبعة الأولى 1418ه.

9 - طيف الخيال : موسوعة الشريف المرتضى ، بيروت ، مؤسّسة التاريخ العربي ، سنة 1433ه).

ص: 203

10 - الغدير : العلاّمة الأميني (ت 1390ه) ، دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الرابعة 1397ه.

11 - قاموس الرجال : التستري (ت 1415ه) ، مؤسّسة النشر الإسلامي قم 1419ه.

12 - الكنى والألقاب : الشيخ عبّاس القمّي (ت 1359ه) ، مكتبة الصدر طهران.

13 - لسان الميزان : ابن حجر (ت 852ه) ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات (1390ه) الطبعة الثانية.

14 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان : عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي اليمني المكّي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان.

15 - مغني اللبيب : ابن هشام (ت 761ه) ، تحقيق : محمّد محيي الدين عبد الحميد ، منشورات المرعشي النجفي ، قم إيران 1404ه.

16 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء آخر الزمان : ابن خلّكان (ت 681ه) ، لبنان - دار الثقافة 1415ه.

17 - يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر : الثعالبي (ت 429ه) ، تحقيق : د. مفيد محمّد قمحية. دار المكتبة العلمية بيروت - لبنان 1403ه.

ص: 204

من ذخائر التراث

ص: 205

ص: 206

غرر الغرر ودرر الدرر

في تلخيص غرر الفوائد ودرر القلائد

للسيّد المرتضى

(ت 436 ه)

تأليف

عبد الرحمن بن محمّد بن إبراهيم الحلّي

(ابن العتائقيّ)

(ت بعد 778 ه)

تحقيق

د. عليّ أكبر الفراتيّ

ص: 207

ص: 208

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

لمحة من سيرة المؤلّف(1) :

هو الفقيه الإماميّ الفاضل المدقّق كمال الدين عبد الرحمن بن محمّد بن إبراهيم بن محمّد يوسف الحلّي المعروف بابن العتائقي نسبة إلى قريته العتائق وهي من قرى الحلّة.

__________________-

(1) ينظر في سيرة المؤلف وتأليفاته : مقدمة مفصلة كتبها السيد محمّد جواد الحسيني الجلالي كمقدمة لمختصر تفسير القمي ، أما بعض المصادر الأخرى في ترجمته : الأعلام ، 4 : 106/ أعيان الشيعة ، 2 : 268/ إيضاح المكنون ، 1 : 49/ الحقائق الراهنة : 109/ الذريعة ، 1 : 510 ، و357/ 2 : 502 و509/ 3 : 356/ 4 : 184/ 8 : 74/ 11 : 225و 220 / 12 : 28/ 13 : 176 و276 و382/ 14 : 131 و259/ 15 : 51/ 17 : 79/ 20 : 198/ 24 : 11/ روضات الجنات ، 4 : 193/ رياض العلماء ، 3 : 103/ ريحانة الأدب ، 8 : 106/ سفينة البحار : 2 : 329/ الغدير ، 4 : 188/ فوائد الرضوية : 227/ الكنى والألقاب ، 1 : 354/ لغت نامه ، 2 : 329/ مصادر الدراسة : 28/ معجم المؤلفين ، 5 : 167/ هدية الاحباب : 74/ هدية العارفين ، 1 : 528/ مجلة العرفان ، 11 : 379/ معجم رجال الفكر والأدب ، 1 : 82. (مع علماء النجف الأشرف ، 1 : 180).

ص: 209

ولد بالحلّة في سنة (699) من الهجرة بعد شهرين من وفاة أبيه محمّد ، فنشأ عند عمّه محمود.

درس العلوم في الحلّة وبرع في كثير من الفروع العلمية وصنّف في مجالات مختلفة ، منها الحديث ونهج البلاغة ، والقرآن والكلام والفقه والتاريخ والطب والفلسفة والمنطق ووالهيئة والأدب وعلوم اللغة وغيرها ، ممّا جعله من أوتاد عصره باقيا اسمه بعد مضي قرون.

أخذ ابن العتائقي عن علماء منهم :الحسن بن يوسف ابن المطهّر المعروف بالعلاّمة الحلّي ، ونصير الدين علي بن محمّد الكاشاني (ت755ه) ، والشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي ، والشيخ جعفر الزهدري ، والسيّد بهاء الدين عبد الحميد النجفي.

وقد أخذ عنه : محمّد بن جعفر النباطي ، والحسين بن محمّد ، والعلاّمة الشيخ بهاء الدين عبد الحميد النيلي الحلّي النجفي.

رحل إلى إيران سنة (746ه) ، وأقام فيها أكثر من عشرين عاماً ، وجاب بلادها وقضى معظم هذه الفترة في مدينة إصفهان مركز العلم آنذاك ، إلاّ أنّه قد ألمّ به مرض اضطره أن يعود إلى موطنه العراق ، وفي العراق جاور المضجع العلوي الشريف بالنجف وبقي هناك حتّى وافاه الأجل ، أمّا بالنسبة لتاريخ وفاته فليس عندنا معلومات وافية تدلّنا عليه ، غير أنه كان حيّا في سنة (786 ه) ولعلّه مات حوالي سنة (790) للهجرة ، أو بعد (787 ه) على ما صرّح به آية الله المرعشي النجفي في النسخة.

ص: 210

تأليفاته :

له تأليفات عديدة في مختلف المجالات تصنيفاً وشرحاً وتلخيصاً ونقداً ، منها ما يلي :

أ) التصنيف :

1 - الأضداد في اللغة.

2 - الحدود النحويّة (في الأدب العربي). ألّفه في سنة (787 ه).

3 - الرسالة الفارقة والملحّة الفائقة في (الفرق والملل) ألّفه سنة (778ه).

4 - الرسالة المفردة في الأدوية المفردة (في الطبّ) ؛ ذكر فيه أسامي النباتات الطبيّة على ترتيب حروف المعجم وذكر خواصّها.

5 - الرسالة المفيدة لكلّ طالب في معرفة مقدار أبعاد الأفلاك والكواكب (في الهيئة). فرغ منها في سنة (787ه).

6 - القسطاس المستقيم والنهج القويم (في المنطق).

7 - المعيار في المنطق.

8 - الناسخ والمنسوخ (في علوم القرآن).

9 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، قد أشار إليه في بعض كتبه منها في مختصر تفسير القمّي وفي شرحه لنهج البلاغة وفي غرر الغرر ودرر الدرر ، وهذا كتاب مستقل عن مختصر تفسير القمّي.

ص: 211

ب) الشرح :

1 - الإرشاد في معرفة مقادير الأبعاد (في الهيئة) ، شرح على الباب الرابع من كتاب التذكرة في الهيئة ؛ تأليف خواجه نصير الدين الطوسي (ت 672ه) كتبه سنة (788ه).

2 - الإيماقي في شرح الإيلاقي (في الطبّ).

3 - الإيضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين أو مناهج اليقين.

4 - البسط والبيان في شرح تجريد الميزان (في المنطق). شرح مزجيّ على كتاب تجريد الميزان ، أتمّه في سنة (788ه).

5 - التصريح في شرح التلويح إلى أسرار التنقيح ، الذي هو تأليف فخرالدين الخجندي في (الطبّ أيضاً) ، ألّفه في سنة (744ه).

6 - درر النقّاد في شرح إرشاد الأذهان ؛ لاُستاذه العلاّمة الحلّي (ت 726ه) في الفقه.

7 - شرح الچغميني (شرح الملخّص في الهيئة) ، شرح على كتاب الملخّص في الهيئة تأليف محمود بن محمّد الچغميني ، فرغ منه في (787ه).

8 - شرح ديوان المتنبّي ، شرح على ديوان أبي الطيّب أحمد بن حسين الكوفي المشتهر بالمتنبّي (ت 354ه) ، شرحها في سنة (781ه).

9 - شرح رسالة في الدلالة (في المنطق).

10 - شرح قصيدة أبي دلف ، شرح على قصيدة مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي المعروف بأبي دلف.

ص: 212

11 - الشهدة في شرح تعريب الزبدة (في الهيئة) ، وأصل كتاب الزبدة هو من تأليف الخواجة نصير الدين الطوسي وسمّاه : زبدة الإدراك في علم الأفلاك (بالفارسية) ، ثمّ عرّبه نصير الدين عليّ بن محمّد الكاشي (ت 755ه) وسمّاه : تعريب الزبدة ، كتبه سنة (788ه).

12 - صفوة الصفوة للعارف في شرح صفوة المعارف ، وصفوة المعارف منظومة في الهيئة نظمها سعد بن عليّ الحضرمي ، وشرحها ابن العتائقي في سنة (787ه).

13 - شرح منتخب القصائد العشر ، انتخب ابن العتائقي من القصائد العشر المعروفة أبياتاً ، ثمّ شرحها.

14 - إيضاح كتاب الأعمار.

15 - شرح نهج البلاغة. وهذا الشرح هو من أشهر آثار ابن العتائقي ، ألّفه في أربعة مجلّدات ، مختار من شروح أربعة : شرح ميثم الكبير ، وشرح ابن أبي الحديد ، وشرح قطب الدين الكيدري ، وشرح القاضي عبد الجبّار.

لعلّ من الحق ألّا نذكر شرحه لنهج البلاغة هنا في الشروح لأنه في الواقع مختار من شروح سابقة كما تقدم ، ولا يعدّ شرحا مستقلا بنفسه.

ج) الاختصار والاختيار :

1 - غرر الغرر ودرر الدرر (أو مختصر غرر الفوائد) ، مختصر من أمالي السيّد المرتضى علم الهدى التي تسمّى بغرر الفوائد ودرر القلائد (وهو

ص: 213

الذي بين أيدينا).

2 - مختصر الأوائل (أو الأوّليّات) ، هو مختصر الجزء الثاني من كتاب الأوائل تصنيف أبي هلال العسكري ، في ذكر أوّل وقوع أكثر الاُمور ومبدئها ، فرغ ابن العتائقي من اختصاره سنة (753ه).

3 - مختصر تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، ملخّص من كتاب تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، أتمّه في غرّة ذي الحجّة من شهور سنة (768ه).

4 - مختصر شرح حكمة الإشراق (في الحكمة) ، الذي هو تصنيف القطب الشيرازي محمّد بن مسعود الشيرازي (ت 710ه).

5 - زبدة رسالة العلم (أو الرسالة المكمّلة لشرح المنهاج) في الحكمة. لخصّ ابن العتائقي في رسالته هذه الرسالة المسمّاة برسالة العلم ؛ وهي الرسالة التي تشتمل على أسئلة سألها كمال الدين ابن ميثم البحراني من الخواجة نصير الدين الطوسي وأجاب الطوسي عنها ، وقد جعل ابن العتائقي هذه الرسالة تكملةً لكتابه (الإيضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين في اُصول الدين).

6 - تجريد النيّة من الرسالة الفخريّة (في الفقه) ، اختصار لِقسم نيّة العبادات من الرسالة الفخريّة لاُستاذه العلاّمة الحلّي ، أتمّها في سنة (753ه).

7 - اختيار حقائق الخلل في دقائق الحيل ، وكان أصل هذا الكتاب من غيره وهو قد اختاره.

8 - الدرّ المنتخب في لباب الأدب سنة (776 ه).

ص: 214

9 - المنتخب في تعداد فرق المسلمين.

10 - المنتخب في المعاني والبيان والبديع.

د) النقد :

المآخذ على الحاجبيّة ؛ نقد على كتاب الكافية في النحو لابن الحاجب. ألّفه في سنة (787ه).

إنّ معظم مؤلفات العالم ابن العتائقي شرح لما سبق ، وكثير منها في الاختصار والتلخيص والانتخاب ، وإنّ شروحه - على سبيل المثال شرحه لنهج البلاغة - مختار من عدة شروح ، وإن لم يكن تلخيصاً واختصاراً لكتاب ، وكذا كتابه شرح منتخب القصائد ، فهو انتخب بعض القصائد ثمّ شرحها ، فمن الفنون التي اشتهر فيها ابن العتائقي اختصاره وانتزاعه العلمي لمصنّفات من سبقه ، وهل أنّ كلّ ما أدرجناه في تصانيفه يجب اعتباره من تأليفه أم يعدّ شرحاً وإيضاحاً ، كما أنّ كتاب (الأعمار) قد نراه باسم الأعمار وقد نجده باسم (إيضاح كتاب الأعمار).

نظرة في كتاب غرر الغرر ودرر الدرر

هو مختصر من أمالي السيّد المرتضى ، علم الهدى التي تسمّى بغرر الفوائد ودرر القلائد ، والأمالي كتاب هامّ يحتوي على مجالس علمية عقدها السيّد في موضوعات متنوّعة ، منها ما يتعلّق بتفسير الآيات ، ومنها شرح

ص: 215

الأخبار والأحاديث ، وقد عمد الشريف المرتضى في اختيار الأخبار والآيات إلى ما يبدو منها في ظاهره بعض التناقض أو التعارض أو بعض الملاحظات الأدبية والغرائب اللغوية أو المسائل الكلامية ، ومن هذه المجالس استطرادات أدبية ، ومنها ما يتعلّق بأخبار الشعراء والأدباء وآثارهم وشرحها والموازنة بينهم ، وقد أخذ قسماً كبيراً من الكتاب ، وهذا الكتاب فريد في بابه ، غزير الفرائد ، جمّ الفوائد ، يجدر بالبحث والتدقيق والدراسة.

وقد أهمل ابن العتائقي الموضوعات الأدبية والتاريخية والكلامية ، فوضع مختصره هذا على قسمين : قسم في تأويل الآيات وتفسيرها ، وقد اختار سبعين آية ممّا ورد في الأمالي ، وقسم في تأويل الأخبار وشرحها ، وقد انتخب خمساً وعشرين حديثاً ، وأضاف إيضاحات قصيرة في بعض المواضع. كما قال في مقدّمته ، بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله :

«فإني وقفت على كتاب (غرر الفوائد ودرر القلائد) للمولى الإمام الأعظم العالم الكامل المعظّم ، إنسان ناظر نوع الإنسان ، قطب رحاء العلوم والبرهان ، علم الهدى وبحر النُهى ، السيّد المرتضى (قدس الله روحه ونوّر ضريحه بمحمد وآله) ، فأحببت أن أجرّد ما فيه من تأويل الآيات والأخبار مع تلخيص واختصار ، وربما أضيف إلى ذلك شيئاً ممّا استفدته ، وسمّيته ب- : (غرر الغرر ودرر الدرر)».

وأمّا تاريخ تأليف الكتاب حسب ما صرّح به المؤلف فهو سنة (767

ص: 216

هجرية قمرية) ، وقد ذكر في نهاية قسم الآيات سنة (766ه) ، وأغلب الظنّ أنّ التاريخ الأوّل صحيح ، وقد ذكره عنه آية الله العظمى المرعشي النجفي في تقريضه على النسخة وتعريفه الموجز بالكتاب.

إنّ ابن العتائقي لم يكتف بتلخيص الكتاب والحذف منه فحسب ، وإنّما قد أضفى عليه بعض الزيادات والإيضاحات والنقد بصورة موجزة لا تتجاوز أسطر قليلة ، بقوله : (أقول) ، على أنّه هناك موضعان من الكتاب قد فصّل ابن العتائقي كلامه فيهما بقوله : (قال عبد الرحمن بن محمّد بن العتائقي - وفّقه الله لمراضيه -) و (قال عبد الرحمن بن محمّد العتائقي - عفا الله عنهم -) ، فأكثر في الكلام عن الموضوع المعنيّ وبسط القول فيه.

والملاحظ في الكتاب أنّه ذكر في بعض إيضاحاته اسم كتاب له آخر هو تفسيره المسمّى ب- : (الوجيز في تفسير القرآن العزيز) ، وأحال عليه ، قائلا : «أقول هنا : قد ذكرت في كتاب (الوجيز في تفسير القرآن العزيز) وجوها كلّها حسنة ، فمن رآها فليطالعه من هناك ، فإنّه غاية في المعنى ، ليس فيه مزيد». ممّا فيه إشارة إلى أنّه ألّف تفسيره هذا قبل الغرر.

تقريظ العلاّمة آية الله العظمى المرعشي النجفي

قال سماحة آية الله العظمى السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي في ابتداء مجموعة تحتوي على نسخة الكتاب :

«وكتاب غرر الغرر ودرر الدرر ، في تلخيص أمالي سيّدنا الشريف

ص: 217

المرتضى المعروف بالدرر والغرر ، والتلخيص لابن العتائقي ، وقد فرغ منه سنة (767ه). والنسختان [هذه وما قبلها] بخطّه الشريف ، وهو من أجلّة علماء الشيعة ، توفّي بعد سنة (787ه) فليغتنم قدرها ، وله كتب عديدة ، منها : شرح نهج البلاغة ونسخته موجودة بخطّه في خزانة كتب مولاي أمير المؤمنين روحي لتراب أقدامه الفداء ، ومنها : كتاب الأضداد في اللغة ، وكتاب تلخيص تفسير علي بن إبراهيم القمّي وكتاب الإيضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين لمولانا العلاّمة الحلّي وتلخيص كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري ، وكتاب الشهدة في شرح معرّب الزبدة ، وغيرها ، وهو يروي عن فخر المحقّقين وعن شيخنا الشهيد الأوّل ، والعتائقي نسبة إلى عتائق قرية من قرى الحلّة الفيحاء.

حرّره الداعي شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

ببلدة قم المشرّفة (1387ه).

حامدا مصلياّ مسلّماً مستغفراً».

النسخ المعتمدة :

لغرر الغرر نسختان اعتمدنا عليهما في تحقيق الكتاب :

الاُولى : مخطوطة مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي بقمّ المقدسة ، ضمن مجموعة بخطّ المصنّف رقمها (282) ، ويقع المختصر هذا

ص: 218

من الورقة (111) من المجموعة إلى الورقة (168) منها ، وهي نسخة كاملة لها ابتداء وانتهاء في كلّ من القسمين الآنف ذكرهما ، إلاّ ورقة واحدة سقطت منها في الأخبار ، وقد ذكرناها في موضعها ، وقد رمزنا إليها في الهامش ب- : (ر).

الثانية : مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي بطهران برقم (292) ، وهي (34) ورقة ، وهي تشتمل على تأويل الآيات ، ولا تتضمّن قسم الأخبار ، ورمزنا في الهامش إليها ب- : (م).

عملنا في تحقيق الكتاب :

لقد قمنا في تحقيق هذا الكتاب واعتماداً على النسختين المذكورتين بما يلي :

1 - المقابلة بين النسختين وتصحيح بعض ببعض لعدم الحصول على نسخة الأصل ، وأنّ كليهما لم يخل من تصحيف أو سقط ، ولا نستبعد أن تكون إحداهما مستنسخة من أختها.

2 - مقارنة النسختين مع أمالي الشريف المرتضى ، فهناك بعض الفرق بينه وبينهما ، وهناك مواضع نجد نسخة غرر الغرر أصحّ ، وقد يصدق عكسه.

3 - وضع آيات القرآن الكريم بين قوسين : () وذكرنا اسم السورة ، ثمّ رقم الآية في الهامش ، وجعل الأحاديث الشريفة بين قوسين مزدوجين : «».

ص: 219

4 - شرح بعض الكلمات الغامضة الواردة في الأشعار والنصوص.

5 - تخريج الأشعار ، والإشارة إلى الدواوين إن كان للشاعر ديوان ، أو المصادر الأولى القديمة التي سبقت الأمالي ، إلاّ عندما لم تتوفر لدينا ، وتكميل الأبيات وذكر اختلاف الروايات.

6 - تصويب بعض الأخطاء في التنقيط أو التذكير والتأنيث ما لم يكن من أسلوب المؤلف ، دون إدراجه في الهامش.

والله الموفّق إلى الطريق السويّ

علي أكبر فراتيّ

أستاذ مساعد بجامعة طهران (1) ir

ص: 220


1- a.forati@ut.ac.ir

صورة

ص: 221

صورة

ص: 222

صورة

ص: 223

صورة

ص: 224

صورة

ص: 225

صورة

ص: 226

صورة

ص: 227

غُرَر الغُرَر ودُرَر الدُرَر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكرمنا بكتابه الكريم وشرّفنا بالسبع المثاني والقرآن الحكيم ، ونفعنا بما أنزله من الآيات والذكر العظيم ، وصلواته على أشرف المرسلين وسيّد الأوّلين والآخرين المؤيّد بأوضح الحجج والبراهين ، محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين ..

وبعدُ ، فإنّي وقفت على كتاب غرر الفوائد ودرر القلائد للمولى الإمام الأعظم العالم الكامل المعظّم إنسان(1) ناظر نوع الإنسان ، قطب رحاء(2) العلوم والبرهان علم الهدى وبحر النُهى(3) السيّد المرتضى (قدس الله روحه ونوّر ضريحه بمحمّد وآله) ، فأحببت أن أجرّد ما فيه من تأويل الآيات والأخبار مع تلخيص واختصار ، وربّما أضيف إلى ذلك شيئاً ممّا استفدته ، وسمّيته ب- : غرر الغرر ودرر الدرر ، وبالله التوفيق والعصمة من الخلل في القول والعمل ، ل.

ص: 228


1- إنسان الناظر : سواد العين ، يقال له الإنسان للمثال الذي يرى في سوادها.
2- الرحاء : الرحى ، ومن مدّها جعلها منقلبة عن الواو ، ولكن الألف في الرحى منقلبة عن الياء ، والرحى أداة الطحن ، وهي حجران مستديران يوضع أحدهما على الآخر ويدار الأعلى على قطب ، فقطب الرحى : محورها القائم الذي تدور حوله الرحى ولا فائدة لرحى ليس لها قطب ، وهو مثل قوله (ع) : «إنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى». (نهج البلاغة : خ3).
3- النهى : جِ النُّهية ، وهي العقل.

وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال السيّد علم الهدى المرتضى - قدّس الله روحه ونوّر ضريحه - :

1 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً)(1).

قد ظنّ قوم من الجهلة أنّ الجواب عمّا سئل عنه لم يحصل وأنّ الامتناع منه لم يحصل إنّما هو لفقد العلم به ، وإنّ قوله : (وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاّ قَلِيْلاً) تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما وإنّما هو على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب ، وفي هذه الآية وجوه من تأويل تبطل ما ظنّوه(2).

أوّلها : أنّه تعالى إنّما عدل عن جوابهم لعلمه بأنّ ذلك أدعى لهم إلى الصلاح وأنّ الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادًا وعنادًا ، إذ كانوا بسؤالهم متعنّتين لا مستفيدين ، وقيل : إنّ اليهود قالوا لكفّار قريش : سلوا محمّداً عن الروح ، فإن أجابكم فليس بنبيّ وإن لم يجبكم فهو نبيّ ، فإنّا نجد ر.

ص: 229


1- الإسراء : 85.
2- ح (م) : يمكن التوجيه في الآية بأنّ إعلام الروح بكم أمر عظيم لأنّها من أمر ربّي فكأنّكم لا تقدرون على فهمها ويؤيّده قوله عزّ وجلّ بعده : (وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلاّ قَلِيْلاً) أي قليلاً من العلم ، يعني علمكم قليل ويجب في إدراك الروح علم كثير.

ذلك في كتبنا ، فأمر الله تعالى بالعدول عن ذلك ليكون دلالة على صدقه وتكذيباً لليهود الرادّين عليه وهذا جواب أبي علي بن عبد الوهّاب الجبائي(1).

أقول : لو كان الأمر على ما ذكره الجبائي لقال : لا أعلمه لكونه أصرح لمراده.

وثانيها : أنّهم سألوه عن الروح هل هي محدثة مخلوقة ، أو ليست ذلك ، فأجابهم أنّها من أمر ربّي ، وهذا جوابهم عمّا سألوا عنه بعينه ؛ إذ(2) لا فرق أن يقول في الجواب : إنها محدثة مخلوقة وبين قوله : (مِن أمرِ ربّي) ، لأنّه أراد أنّها من فعله وخلقه وسواء على هذا الجواب أن تكون الروح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أو عيسى أو جبريل (ع).

أقول : سؤالهم عن الروح التي(3) هي النفس الناطقة فقط.

وثالثها : أنّهم سألوه عن الروح الذي هو القرآن فقال : إنّه من أمر ربّي وليس من فعل المخلوقين ولا ممّا يدخل في إمكانهم ، فقد وقع الجواب موقعه وهذا جواب الحسن البصري ، ويقويه قوله تعالى بعد هذه الآية : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذي أَوْحَيْنا إلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا ).

ص: 230


1- ح (م) : لا يخفى أنّه يلزم الكذب للرسول ، لأنّهم يقولون : إنّه عالم بالروح لكن لم يظهر بقول لهم لتكذيبهم له فهو لا يرد عليه.
2- ر : (إذ).
3- م : (الذي).

وَكيلاً)(1).

أقول(2) : وهذه الأجوبة كلّها ضعيفة على ما لا يخفى ، والصواب أن يقال : العالم كلّه عالمان ؛ عالم الخلق وعالم الأمر ، بدليل قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْر)(3)[205]-

فعالم الخلق عالم الشهادة ، وعالم الأمر عالم الروحات والمجرّدات ، أي عالم العقول والنفوس الناطقة ، والمراد بالروح هنا النفس الناطقة ، ولا شكّ أنّ النفس من عالم الأمر ، أي عالم الغيب لا عالم الخلق الذي هو عالم الشهادة ، فقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من عالم الأمر وهذا الجواب لا يحتاج فيه إلى تعسّف وتمحّل(4) ، ولا أنّه ما أجاب ، فإنّه لا يصلح(5) على الأنبياء ذلك لقدرتهم على الوحي ، ولأنّ ذلك ممّا ينفر عنهم عليهم السلام.

2 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفيها فَفَسَقُوا فيها ).

ص: 231


1- الإسراء : 86.
2- م : (أقول).
3- الأعراف : 54.
4- ح (م) : قوله : هذا الجواب .. : أقول : لا يخفى أنّ هذا الجواب لا يلائم السؤال لأنّهم سألوا عن ماهيّة الروح ، فكيف يقال في جوابهم أنّها من عالم الغيب؟! إلاّ أن يراد به عدم تعليمهم وهو لا ينفع لأنّهم قائلون بعدم علم الرسول لها ، فالواجب في توجيه الآية أن يكون على وجه يردّ قولهم.
5- ر : (لا يصحّ).

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْميراً)(1).

في هذه الآية وجوه من التأويل :

الأوّل : أنّ الإهلاك قد يكون حسناً وقد يكون قبيحاً ، فإذا كان مستحقّاً أو على سبيل الامتحان كان حسناً ، وإنّما يكون قبيحاً إذا كان ظلماً ، فتعلّق الإرادة به لا يقتضي تعلّقها به على الوجه القبيح ، ولا ظاهر الآية يقتضي ذلك ، إذا علمنا بالأدلّة تنزيه القديم عن القبائح علمنا أنّ الأرادة لم يتعلّق إلاّ بالإهلاك الحسن ، وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفيها) المأمور به محذوف ، وليس يجب أن يكون المأمور هو الفسق وإن وقع بعده الفسق ، وإنّما يجري هذا مجرى قول القائل : أمرته فعصى ودعوته فأبى ، والمراد أنّني أمرته بالطاعة ودعوته إلى الإجابة ، والذي حسّن قوله : (وَإِذا أَرَدْنا .. أمَرنا) هو أنْ تكرّر الأمر بالطاعة والإيمان إعذاراً إلى العصاة وإنذاراً لهم وإيجاباً للحجّة عليهم.

الثاني : أن يكون قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيْها) من صفة القرية وصلتها ولا يكون جواباً لقوله : (وَإِذا أَرَدْنا) ويكون تقدير الكلام : وإذا أردنا أن نهلك قريةً من صفتها أنّا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، وتكون إذا لم يأت له جواب ظاهر للاستغناء عنه ، بما في الكلام من الدلالة عليه لقوله تعالى : (حتّى إذا جاؤوها)(2) الآية ، فلم يأت لإذا جواب. ).

ص: 232


1- الإسراء : 16.
2- الزمر :73 ؛ (وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدين).

الثالث : أن يكون ذكر الإرادة في الآية مجازاً واتّساعاً وتنبيهاً على المعلوم من حال القوم وعاقبة أمرهم وأنّهم متى أمروا فسقوا وخالفوا ، كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت خلط في مآكله ومعلوم أنّ العليل لم يرد ذلك ، لكن لما كان المعلوم من حاله الهلاك حسن هذا الكلام واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه ، وكلام العرب وحي وإشارات واستعارة ومجاز ، ولهذا كان كلامهم في الرتبة العليا من الفصاحة فإنّ الكلام متى جرى كلّه على الحقيقة كان بعيداً من الفصاحة بريّاً من البلاغة ، وكلام الله أفصح الكلام وأبلغه.

الرابع : أنّ تحمل الآية على التقديم والتأخير ، ويكون تقديرها : إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة فعصوا واستحقّوا العقاب أردنا إهلاكهم. والتقديم والتأخير في الشعر وكلام العرب كثير.

وأمّا قراءة من قرأ الآية بالتشديد فقرأ (أمّرنا) وقراءة من قرأها بالمدّ والتخفيف فقرأ (آمرنا) ، فلن يخرج معنى قراءتيهما عن الوجوه المذكورة إلاّ الوجه الأوّل ، فإنّ معناه لا يليق إلاّ بأن يكون ما تضمّنته الآية هو الأمر الذي يُستدعى به الفعل.

3 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَالأَرْضَ مَدَدْ ناها وَأَلْقَيْنا فيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فيها مِنْ كُلِّ شَيء مَوْزُون)(1) ، قال أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني : إنّما خصّ 9.

ص: 233


1- الحجر :19.

الموزون بالذكر دون المكيل لأنّ المكيل ينتهي إلى الوزن وأيضاً في الوزن معنى الكيل ، فخصّ بالذكر لاشتماله على معنى الكيل ، والوجه عن ما قاله ، وإنّما أراد تعالى بالموزون المقدّر الواقع تحت الحاجة ، فلا يكون ناقصاً ، ولا زائداً عليها كقولهم : كلام فلان موزون وأفعاله موزونة مقدّرة ، قال مالك الفزاري(1) :

وَحَديث ألَذُّه(2) هُوَ مِمّا

يَشتَهِي النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزنا

مَنطِقٌ صَائِبٌ وَتَلحَنُ أحيا

ناً وَخَيرُ الحَديثِ ما كانَ لَحنا

قوله : وتلحن أحياناً ، فلم يرد اللحن في الإعراب الذي هو ضدّ الصواب ، وإنّما أراد الكناية عن الشيء والتعريض بذكره والعدول عن الإفصاح عنه على معنى قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْل)(3).

وقيل : اللحن هنا الفطنة وسرعة الفهم ومنه قوله عليه السلام : «لعلّ أحدَكم أن يكونَ ألحنَ(4) بحجّته»(5) ، أي أفطن لها وأغوص عليها ، وقد ظنّ هِ

ص: 234


1- هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، أبو الحسن. (ت 100 ه).
2- م : (أكده).
3- محمّد : 30.
4- م : (اللحن) ، والصحيح ما أثبتناه.
5- والحديث لرسول الله (ص) في (معاني الأخبار : 279) وغيره من كتب الحديث ، نصّ كامله : (وَاخْتَصَمَ رَجُلانِ إِلَى النَّبِيِّ فِي مَوَارِيثَ وَأَشْيَاءَ قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ ص لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءء مِنْ حَقِّ أَخِيهِ

الجاحظ أنّ اللحن هنا اللحن في الإعراب وقال : إنّ اللحن مستحب في النساء وليس مستحب منهنّ كلّ الصواب(1) ، والتشبيه بفحول الرجال ، واستشهد بأبيات مالك بعينها ، وتبعه على هذا الغلط عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ.

4 - تأويل آية

إن سأل سائل فقال : ما تقولون في قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبينٌ)(2) وقال في موضع آخر : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ)(3) والثعبان هو الحية العظيمة الخلقة والجانّ الصغير من الحيّات ، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟!

الجواب : إنّ الذي ظنّه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة 1.

ص: 235


1- م : (الصوت).
2- الأعراف : 107 ؛ الشعراء : 32.
3- القصص : 31.

باطل ، بل الحالتان مختلفتان ، والحال التي عن العصا فيها بصفة الجانّ كانت في ابتداء النبوة والحال التي صارت العصا فيها ثعبانا كانت عند لقائه فرعونَ وإبلاغه الرسالة والتلاوة تدلّ على ذلك ، وإذا اختلف القضيّتان فلا مسألة ولا مناقضة ، وقد ذكر المفسّرون أيضاً وجهين تزول بكلّ منهما الشبهة في تأويلها :

أحدهما : أنّه تعالى إنّما شبّهها بالثعبان في أحد الآيتين لعظم جثّتها وكبر جسمها وهول منظرها ، وشبّهها في الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها ، فاجتمع لها أنّها في جسم الثعبان وكبر خلقه ونشاط الجانّ وسرعة حركته ، وهذا أنهى في باب الإعجاز وأبلغ في خرق العادة ولا تناقض بينهما.

وثانيهما : أنّه تعالى لم يرد بالجانّ الحيّة ، وإنّما أراد أحد الجنّ فكأنّه تعالى أخبر بأنّ العصا صارت ثعباناً في الخلقة وعظم الجسم ، وكانت مع ذلك كأحد الجنّ في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها ، ولهذا قال : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّب يا موسى ..)

ويمكن في الآية وجه آخر وهو أنّ العصا لمّا انقلبت حيّة صارت أوّلا بصفة الجانّ على صورته ثمّ صارت بصفة الثعبان على تدريج ، ولم تصِر كذلك بضربة واحدة.

أقول : وهذا الوجه هو الوجه وعليه تحقّق المفسّرين.

ص: 236

5 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم)(1) الآية.

قد ظنّ من لا بصيرة له ولا فطنة أنّ تأويل هذه الآية أنّ الله استخرج من ظهر آدم جميع ذريّته وهم في خلق الذرّ فقرّرهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل مع أنّ العقل يبطله ويحيله -.

أقول : لأنّه يلزم منه التناسخ الذي قامت الدلائل على بطلانه - ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنّه قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم) ولم يقل : من آدم ولا من ظهره ، وقال : ذريّاتهم ، ولم يقل : من ذريّته ، وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذريّة ولد آدم شهادة العقل ، فمن حيث لا تخلو هذه الذريّة التي استخرجت من ظهر آدم فخوطب من أن تكون كاملة العقل مستوفية لشروط التكليف ، أو لا ، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم ما كانوا عليه في تلك الحال وما قرروا به واستشهدوا عليه مع أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية ، وذلك أنّ الله سبحانه أخبر أنّه قرّرهم وأشهدهم كيلا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك فتسقط الحجة عليهم ، وإن كانوا على الصفة الثانية من زوال العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وإشهادهم ، والصحيح في تأويلها وجهان : ).

ص: 237


1- الأعراف : 172 ؛ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنيو آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىْ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلينَ).

أحدهما : أن يكون تعالى إنّما عنى بها جماعة.

أقول : أيضاً يلزم من هذا التأويل التناسخ الذي قامت الدلائل على بطلانه لاستحالته في العقل من ذريّة بني آدم لأنّه خلقهم وكلّفهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على لسان رسله عليهم السلام بمعرفته وبطاعته ، فأقرّوا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به كيلا يقولوا يوم القيامة : (إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غَافِلِيْنَ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وثانيهما : أنّه تعالى لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته فأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم المقرّ المعترف ، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ)(1) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منها جواب ، مثله قوله : (شاهِدِينَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر)(2) والكافر لم يعترف بلسانه وإنّما ظهر منه ظهوراً لا يمكن من دفعه ، فكان بمنزلة المعترف به ، وما روي عن بعض الحكماء من قوله : «سَل الأرض : من شقّ أنّهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً»(3). :

ص: 238


1- فصلت : 11.
2- التوبة : 17.
3- نسب هذا الكلام ابن الشجري إلى الإمام علي (ع). (أمالي ابن الشجري ، 2 :

وكقولهم : «قال الحائط للوتد(1) : لِمَ تشقّني ، قال الوتد : سل من يدقّني». وإنّما هذا القول منهما بلسان الحال لا بلسان المقال.

6 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعْقِلُون)(2).

وظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم من فعله بإذنه وأمره وليس هذا مذهبكم ، فإن حمل الإذن هنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه وهذا بخلاف مذهبكم ، ثمّ جعل الرجس الذي هو العذاب على الذين لا يعقلون ، ومن كان فاقداً لعقله لا يكون مكلّفاً ، وهذا بضدّ الخبر المرويّ أنّه قال : «أكثر أهل الجنّة البله»(3).يل

ص: 239


1- م : (الودّ) ، الوَدُّ : الوتِدُ إلاّ أَنّه أَدغم التاء في الدال فقال (وَدّ). (لسان العرب : وتد).
2- يونس : 100.
3- الحديث لرسول الله (ص) ، كما في أمالي الشريف المرتضى (1 : 38) ؛ قال الخليل في (بله) مستشهداً بالحديث هذا : البَلَهُ : الغفلة عن الشرّ. رجل أَبْلَهُ ، والبُلْهُ : جماعته. (كتاب العين ، 4 : 55).

والجواب في قوله : (إلاّ بِإذنِ الله) وجوه :

منها : أن يكون الإذن الأمرَ ، ويكون معنى الكلام أنّ الإيمان لا يقع من أحد إلاّ بعدَ أن يأذن الله فيه ويأمر به ، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنّه لا يكون للفاعل فعله إلاّ بإذنه ويجري هذا مجرى قوله : (وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله)(1) وإن كان الأشبه في هذه الآية الأخيرة أن يكون المراد بالإذن العلمَ.

منها : أن يكون الإذن هو التوفيقَ والتيسير والتسهيل.

منها : أن يكون الإذن العلمَ من قولهم : «أذنت لكذا وكذا» إذا استمعته وعلمته ، و (أذنت فلاناً بكذا) أي أعلمته ، فيكون فائدة الآية الإخبارَ عن علمه تعالى بسائر الكائنات.

منها : أن يكون الإذن العلمَ ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله ، فيكون معنى الآية : وما كان لنفس أن تؤمنَ إلاّ بإعلام الله لها ما يبعثها على الإيمان ويدعوها إلى فعله.

أقول : ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ وقد علم الله أنّها تؤمن من الأزل ، والعلم لا يؤثّر في المعلوم ، فإنّه تعالى يعلم المستقبل والحال والماضي. 5.

ص: 240


1- آل عمران : 145.

وأمّا قوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُون) فلم يعن به الناقصي العقول ، وإنّما أراد الذين لم يعقلوا ويعلموا أنّ ما وجب عليهم علمه من معرفة حالتهم والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم ووصفهم بأنّهم لا يعقلون تشبيهاً قال : (صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ)(1).

أقول : أراد بذلك الذين لم ينتفعوا بعقولهم ، لأنّهم لم يستعملوها حيث الواجب عليهم ، فكانوا لا يعقلون وكان من شأنهم أن يقبلوا ما خلقوا لأجله وما فعلوا ذلك فوقع عليهم العذاب لذلك ، وأمّا الحديث فإنّه لم يرد بالبُله ذوي الغفلة والنقص والجنون ، وإنّما أراد البله عن الشرّ والقبيح ، وسمّاهم بلهاً عن ذلك حيث يستعملونه ولا يعتادونه(2) ، لا من حيث فقدوا العلم والعقل ، قال أبو النجم(3) :

مِن(4) كُلِّ

بَلهاءَ سَقوطِ البُرقُعِ

بَلهاءُ لَم تُحفَظ وَلَم تُضَيَّعِ(5)

أراد بالبلهاء ما ذكرنا ، وقوله : سقوط البرقع ، أراد أنّها لم تبرز وجهها ولا تستره ثقةً بحسنه ، وقوله : لم تحفظ ، أيّ استقامة طريقتها يغني عن ).

ص: 241


1- البقرة : 171.
2- (م) : يتعادونه.
3- وهو الفضل بن قدامة العجلي ، أبو النجم ، من بني بكر بن وائل (ت 130 ه).
4- م : (مِن).
5- في هذا البيت روايات مختلفة في بعض ألفاظه ، وفي ديوانه : (كلّ بيضاء) بدل (كلّ بلهاء). (ديوان أبي النجم العجلي : 262) ؛ وفي أمالي المرتضى رحمه الله : كلّ عجزاء ، بدل كلّ بلهاء. (1 : 40).

حفظها لعفافها ، وقوله : لم تضيّع ، أي لم تهمل في أغذيتها فتشقى.

أقول : الأبله هو الذي عليه غلبة سلامة الصدر وبه فسّر قوله عليه السلام : (أكثر أهل الجنّة البله). والأبله هو الذي يكون منشغلاً بأمور الآخرة لا بأمور الدنيا ، فتسمية أهل الدنيا أبله ، ويقال : عيش(1) أبله ، إذا كان ناعماً قليل الغموم(2).

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر ، وهو أن نحمله على البَله الذي هو الغفلة والنقصان ، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنّة الذين كانوا بلهاً في الدنيا ، فعندنا أنّه تعالى ينعّم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم ، وإنّما لم نجعلهم بُلهاً في الجنّة لأنّهم إذا دخلوها لم يدخلوها إلاّ وهم على أفضل الحالات وأكملها.

7 - تأويل آية

قوله تعالى مخبراً عن يوم القيامة : (.. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَل مَعْدُود * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ..)(3) وقال في موضع آخر : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ)(4) وفي 5.

ص: 242


1- م / ر : عيس.
2- م / ر : (ضنياً كديداً عوداً) وفيه غموض ، فاستبدلنا به (ناعماً قليل الغموم) كما ورد في المصادر اللغوية.
3- هود : 103و 104و 105.
4- المرسلات : 35.

موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْض يَتَساءَلُون)(1).

وظاهر هذه الآيات التناقض :

وقد قال قوم من المفسّرين في تأويلها : أنّ يوم القيامة يوم طويل ممتدّ فقد يجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم فيه في بعض آخر ، وهذا ضعيف ، لأنّ الإشارة فيه إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن يجعل الحالات فيه مختلفة.

أقول : مواطن القيامة كثيرة ، فيجوز أن يكون في موضع يتكلّمون ، وفي آخر لا يتكلّمون ، وفي آخر يتعاتبون.

والجواب الصحيح أن يقال : إنّما أراد تعالى نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم فيه عذراً أو حجّة ولم ينفِ النطق الذي ليس هذه حاله ، ويجري ذلك مجرى قولهم : خَرِسَ فلانٌ عن حجّته ، ولم يقل شيئاً ، وإن كان قد تكلّم بكلام كثير ، لكن بما لَم يكن فيه حجّة ، ولا به منفعة ، جاز إطلاق القول الذي حكيناه عليه ، ومثله قول الشاعر(2) :

أعمَى إِذا ما جارَتي خَرَجَت

حَتَّى يُوارِيَ(3) جارَتي

الخِدرُ).

ص: 243


1- الصافات : 27 ؛ الطور : 25.
2- البيتان لمسكين الدارميّ ، وهو ربيعة بن عامر بن أُنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله بن عدس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم المعروف بمسكين الدارمي التميمي. (ت 89 ه).
3- م : (تواري) ، والصحيح (يواري).

وَيَصَمُّ عَمَّا كانَ بَينَهُما

سَمعِي وَما بِي غَيرهُ وَقرُ(1)

وقوله : ولا يؤذن لهم فيعتذرون أي لا يستمع إليهم ولا يقبل عذرهم والعلّة ما ذكرناه(2).

8 - تأويل آية

قوله تعالى مخبراً عن مهلك قوم فرعون : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرينَ)(3).

قيل : كيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما ولا يجوز عليهما؟!

الجواب : في هذه الآية وجوه من التأويل :

أوّلها : أنّه أراد أهل السماء والأرض ، لقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَة)(4).

وثانيها : أنّه تعالى أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر وسقوط المنزلة ، لأنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصائب بالهالك ، قالت : كسفت ، لفقده الشمس وأظلم القمر ، وبكاء الليل والنهار والسماء والأرض ، يريدون 2.

ص: 244


1- ديوان مسكين الدارمي : 60 و61.
2- ح (م) : أقول : يمكن أن يكون المراد من عدم نطقهم باختيارهم إي أنّهم لا ينطقون في هذا اليوم باختيارهم ، بل هو موقوف على إذن ربّهم.
3- الدخان : 29 ؛ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ * فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).
4- يوسف : 82.

بذلك المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره ، قال جرير(1) :

الشّمسُ طالِعَةٌ لَيسَت بِكاسِفَة

تَبكِي عَلَيكً نُجُومُ اللَّيلِ وَالقَمَرا(2)

أقول : التقدير : الشمس طالعة تبكي عليك ليست بكاسفة نجوم الليل والقمر لفقدان ضوئها وعدم إنارتها.

وفي هذا قولهم : لأرينّك الكواكب بالنهار(3) ، وفي البيت وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّه أراد أنّ الشمس طالعةٌ وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر ، لأنّ عظم الرزيّة سلبها نورها.

والثاني : أن يكون انتصاب ذلك كما في قولهم : لا أكلّمك الأبد والدهر ، أخبر بأنّ الشمس تبكيه ما(4) طلعت النجوم وظهر القمر.

والثالث : أن يكون القمر والنجوم باكين الشمس على هذا المرثيّ فبكتهنّ أي غلبتهنّ بالبكاء ، كما تقول : باكاني فلان ، فبكيته أي غلبته وفضلت عليه. ة.

ص: 245


1- هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي ، أبو حزرة ، من تميم. (ت 110 ه).
2- والبيت في ديوانه بشرح محمّد بن حبيب مختلف قليلاً : فَالشَمسُ كاسِفَةٌ لَيسَت بِطالِعَة تَبكي عَلَيكَ نُجومُ اللَيلِ وَالقَمَرا (ديوان جرير : 736).
3- ومعناه أورد عليك ما يظلم له فى عينك النهار ، فتظنّه ليلا ذا كواكب. (أمالي المرتضى ، 1 : 53).
4- (ما) مصدرية زمانية.

أقول : الوجهان الأخيران في غاية البُعد ، لأنّ اللفظ لا يدلّ عليهما ، والتقدير لا يساعدهما كما ترى ، فالمراد هو الوجه الأوّل فقط لأنّ سياق الكلام يدلّ عليه فقط.

وثالثها : أن يكون معنى الآية الإخبارَ عن أنّه لا أحد أخذ بثأرهم ولا انتصر لهم ، لأنّ العرب لا تبكي على قتيل إلاّ بعد الأخذ بثأره.

ورابعها : أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منهما إلى السماء ويطابق هذا قول ابن عبّاس ، وقد قيل له السماء والأرض يبكيان على أحد ، فقال : نعم مصلاّه في الأرض ومصعّدٌ عمله في السماء ، وروى أنس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : (ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعد منه عملُه وباب ينزل منه عملُه وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه). ومعنى البكاء هنا الإخبار عن الاختلال بعده ، فإذا لم يكن له عمل صالح جاز أن يقال فيهم : فما بكت عليهم السماء والأرض.

قال السيّد - رحمه الله - : ويمكن في الآية وجه خامس وهو أن يكون البكاء فيها كناية عن المطر والسقيا ، لأنّ العرب تشبّه المطر بالبكاء ويكون معنى الآية أنّ السماء لم تسقِ قبورهم ولم تجد عليهم بالقطر ، لأنّ العرب كانوا يستسقون السحائب لقبور أعزّائهم ، ويستنبتون لمواضع قبورهم الزهر والرياض ويجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام والرضوان والفعل الذي أضيف إلى السماء وإن كان لا يجوز إضافته إلى الأرض فقد يصحّ عطف الأرض على السماء بأن يقدّر لها فعل يصحّ نسبته إليها والعرب تفعل مثل

ص: 246

هذا ، قال الشاعر(1) :

يَا لَيتَ زَوجَكِ قَد غَدا

مُتَقَلِّداً سَيفاً وَرُمحا(2)

أرادوا : حاملاً رمحاً ؛ ومثله يقدّر في الآية ، فيقال : أراد أنّ السماء لم تسقِ قبورهم وأنّ الأرض لم تعشِب عليها ، وكلّ هذا كناية عن حرمانهم رحمةَ الله سبحانه ورضوانَه ، [ومثله قول الشاعر(3) :

..................................

علَّفتُها تِبناً وَماءً بارِداً(4)

أي وسقيتها ماءً ، وقول الآخر(5) :

..................................

وزَجَّجنا الحَواجِبَ والعُيونا(6)ني

ص: 247


1- هو عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي ، وأمه عاتكة الجمحية بنت عبد الله بن عمير.(ت 15 ه).
2- قال المبردّ في عقب البيت شارحاً لمعنى تقلّد السيف والرمح معاً : «لأنّ معناهما الحمل ، وكما قال : شرّاب ألبان وتمر وأقط ، فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق». (الكامل في اللغة والأدب ، مبردّ ، 1 : 303).
3- هو ذو الرمّة ، وهو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي ، من مضر. (ت 117 ه).
4- الشطر الأوّل : لمّا حططت الرحل عنها وارداً. (ديوان ذي الرمّة بشرح التبريزي : 626)
5- كأن الشاعر هو الراعي النمري ، عُبَيد بن حُصين بن معاوية بن جندل ، النميري ، أبو جندل. (ت 90 ه).
6- الشطر الأوّل : (إذا ما الغانيات برزن يوماً) ، كما أورده ابن جنّي في كلامه حول الحمل على المعنى (الخصائص ، 2 : 192) وابن الأنباري في (الزاهر في معاني

أي كحلنا العيونا](1).

9 - تأويل آية

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِيْنَ إلاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم)(2).

وظاهر هذه الآية يقتضي أنّه تعالى ما شاء أن يكونوا أمّةً واحدةً وأن يجتمعوا على الإيمان والهدى وهذا بخلاف ما تذهبون إليه ، وقوله : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) لا يخلو من أن يكون عنى أنّه للاختلاف خلقهم وللرحمة ولا يجوز أن يعني الرحمة ، لأنّ الكناية عن الرحمة لا تكون بلفظ ذلك ولو أرادها لقال : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ، فلمّا قال : (ولِذلك) كان رجوعه إلى الاختلاف أولى.

الجواب : قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) ، فإنّما عنى به المشيئة على سبيل الاختيار لا الإجبار ، وإنّما أراد تعالى أن يخبرنا عن قدرته وأنّه ممّن لا يغالب ولا يعصى مقهوراً ؛ من حيث كان قادراً على إلجاء العباد وإكرامهم على ما 8.

ص: 248


1- ما بين المعقوفتين ليس في الأمالي.
2- هود : 118.

أراده منهم فأمّا لفظة (ذلك) في الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف ، لدليل العقل وشهادة اللفظ ، أمّا دليل العقل فمن حيث علمنا أنّه تعالى كره الاختلاف والذهاب عن الدين ونهى عنه وتوعّد عليه ، فكيف يجوز أن يكون شائياً له ، ومخبراً بخلق العباد عليه ، وأمّا شهادة اللفظ فلأنّ الرحمة أقرب إلى هذه الكتابة من الاختلاف وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب ، وأمّا ما طعن به السائل وتعلّق به من تذكر الكناية وأنّها لا تكون إلاّ مؤنّثة فباطل ، لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي وإذا كنّى عنها بلفظ التذكير كانت الكناية عن المعنى لأنّ معناها هنا(1) هو الفضل والإنعام ، قال تعالى : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)(2) ولم يقل : هذه ، وإنّما أراد هذا فضل من ربّي ، وقالت الخنساء(3) :

فَذَلِكَ يا هِندُ الرَزِيَّةُ فَاعلَمي

وَنيرانُ حَرب(4) حينَ شُبَّ

وَقودُها(5)

أرادت الرُّزء.

وقال آخر :

قامَت تُبَكّيهِ على قَبرِهِ

مَن لِىَ مِن بَعدِكَ يا عَامِرُ1.

ص: 249


1- م : (معناهنا) بدل (معناها هنا).
2- الكهف : 98.
3- هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد ، الرياحية السّلمية ، من بني سليم ، من قيس عيلان ، من مضر (ت 24ه).
4- م : (حزن) ، والصحيح حرب كما أثبتناه.
5- الأغاني ، و4 : 401.

تَرَكَتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُربَة

قَد ذَلَّ مَن لَيسَ لَهُ ناصِرُ(1)

فقال : ذا غربة ، ولم يقل : ذات ، لأنّه أراد شخصاً ذا غربة ، وقال زياد الأعجم(2) :

إنَّ الشَّجاعَةَ وَالسَّماحَةَ ضُمِّنا

قَبراً بِمَروَ عَلَى الطَّريقِ الوَاضِحِ(3)

فقال : ضمّنا ، ولم يقل : ضمنتا ، لأنّ السماحة والشجاعة مصدران ، على أنّ قوله : (إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) كما يدلّ على رحمة يدلّ على أن يرحم ، فإذا جعلنا الكناية لفظة (ذلك) عن أن يرحم ، كان التذكير في موضعه ، لأنّ الفعل مذكّر ، ويجوز أن يكون قوله : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) كناية عن اجتماعهم على الإيمان وكونهم في أمّة واحدة لا محالة أنّه لهذا خلقهم ويطابق هذه الآية قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ 4.

ص: 250


1- لامرأة من العرب ، وقد عزاه ابن سيده (المحكم والمحيط الأعظم : عمر) إلى الأعشى ، مذكّرا بأنّ سياقه يقتضي كون القائل امرأة. فقال : «وإنّما أنشدنا البيت الأوّل لنُعلِم أنّ قائل هذا البيت امرأة». ونسبه ابن عبد ربّه أيضاً إلى أعرابيّة : (العقد الفريد ، 6 : 236).
2- هو زياد بن سليمان - أو سليم - الأعجم ، أبو أمامة العبديّ ، مولى بني عبد القيس المعروف (ت نحو 100 ه).
3- ديوان زياد الأعجم : 54.

لِيَعْبُدُونِ)(1)69 وقد قال قومٌ في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) : إنّ معناه لو شاء أن يدخلهم كلّهم الجنّة فيكونوا في وصولهم إلى النعيم أمّة واحدة ، وأجرى هذه الآية مُجرَى قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها)(2) أراد هداها إلى طريق الجنّة.

أقول : المعنى هدى على سبيل الجبر والقهر ، وذلك مُحال ، لأنّه ينافي التكليف ، لأنّه اختياريّ.

فعلى هذا التأويل أيضاً يمكن أن يرجع لفظة ذلك إلى إدخالهم أجمعين إلى الجنّة ، لأنّه إنّما خلقهم للمصير إليها ، والوصول إلى نعيمها ، وأمّا قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفين) فمعناه الاختلاف(3) في الدين والذهاب عن الحقِّ فيه بالهوى والشبهات وذكر أبو مسلم بن بحر في قوله : (مختلفين) ، وجهاً غريباً وهو أن يكون معناه خلق هؤلاء الكافرين يخلف سلفهم في الكفر ، لأنّه سواء قولك : خلف بعضهم بعضاً ، وقولك : اختلفوا ، كما سواء قولك : قتل بعضهم بعضاً ، وقولك : واقتتلوا ، ومنه قولهم : لا أفعل كذا ما اختلف العصران والجديدان ، أي جاء كلّ واحد منها بعد الآخر.

قال عبدالرحمن بن محمّد بن العتائقي - وفّقه الله لمراضيه - : المنتزع لهذه الآيات من كتاب السيّد - قدّس الله روحه - : اعلم أنّ اختلاف الأمّة ليس ).

ص: 251


1- الذاريات : 56.
2- السجدة : 13.
3- م : (والاختلاف).

لتقصير من الله سبحانه ، ولا من جبريل ولا من النبيّ والأئمة عليهم السلام ، ولا من الأمّة مع الاجتهاد البالغ ، بل هو لازم في الطبيعة ، سببه الفاعلي اختلاف الاستعدادات وسبب اختلاف الاستعدادات اختلاف أسبابها المعدّة وسببها العالي الرحمة ، وهو واقع في أمم الأنبياء بمشيئة الله تعالى ويدلّ عليه ما روي عنه عليه السلام : (اختلاف أمّتي رحمة)(1) وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) الآية ، فقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مقدّمة شرطية ، وقوله : (وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفين) لازم المقدّمة الاستثنائية أقامه مقام ملزومه ، وهو أنّه(2) لم يخلقهم أمّةً واحدةً ينتج نقيض الملزوم ، وهو أنّه تعالى لم يشأ كونهم أمّةً واحدةً ، وهو المطلوب ، وقوله : (إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) يريد أنّ الواصلين إلى درجات الكمال الذين هم أهل الفضيلة وأهل التجريد ، لا يختلفون ما داموا في طريق الرحمة المطلقة بحسب اختلاف طرقهم التي هي الاستعدادات المختلفة ، وقوله : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ، إشارة إلى اختلافهم والرحمة معاً ، أي أنّهم خلقوا ليختلفوا في طريق الرحمة وتجمعهم الرحمة بعد وصولهم إلى المقصد الأقصى وقول السيّد - رضي الله عنه - : كيف يكون الاختلاف بمشيئة الله تعالى وقد كرهه وتوعّد عليه وأمرهم ).

ص: 252


1- من وجوه معنى هذا الحديث ما ذكره ابن جرير الطبري في المسترشد من أنّ الاختلاف من التردد لا مخالفة بعض بعضاً ، حيث قال : «أي اختلافهم إليّ رحمة لهم ما دمت حيّاً بين ظهرانيهم ليردّوا الأمر إليّ حتّى أقوّم ميلهم ، وأقفهم على الطّريقة الواضحة." (المسترشد في إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام : 572).
2- م : (لكنّه) بدل (أنّه).

بالاجتماع في الهدى والدين وتأويل الآية بأنّ المراد مشيئة الله تعالى على وجه الإلجاء وأي لو شاء ربّك لجعلهم أمّة واحدة في اجتماعهم على الهدى على وجه الإلجاء ، لأنّه قادر على ذلك غالب غير مغلوب ، لكنّه لم يجعلهم أمّة واحدة بالإلجاء ، ولايلزم من ذلك عدم مشيئته لكونهم أمّة واحدة بالاختيار ، فإنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ ، ثمّ جعل قوله : (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ، إشارة إلى الرحمة دون الاختلاف لكون الرحمة أقرب ، والجواب أنّه ليس المراد من الاختلاف في الدين والهدى ، فإنّه لا نزاع في أنّه تعالى أراد اجتماعهم على الهدى بسبب اختلافهم في مراتب الإيمان والهدى والدين ، وجميع تلك المراتب طرق إلى رحمة الله والاختلاف كما يكون بسبب اختلاف الفاعل الذي يكون بسبب اختلاف القابل ، ألا ترى كيف تؤثّر النار في الشمع بالإذابة وفي البيض بالانعقاد؟! وكيف يجمع الصبّاغ الثياب في جبٍّ واحد فيخرجها مختلفة الألوان لاختلاف استعداداتها؟! وكيف تؤثّر الشمس مع اتحادها تأثيرات مختلفة بحسب اختلاف القوابل؟! كذلك الشارع يجمع الناس في جبّ الشريعة ليصنع كلّ واحد منهم بصنع يناسب لاستعداده فيحصل الاختلاف بحسب اختلاف استعداداتهم ، وهو المراد في الآية والخبر ، وأمّا ما فيه الاختلاف فاعلم أنّ الإنسان مركّب من خمسة أشياء ؛ من النفس والقلب والروح والطبيعة وآلاتها ، واختلاف الإنسان باختلافها جميعاً. أمّا النفس فالمراد به النفس العاقلة المجرّدة واختلافها في ذاتها بالكمال والنقصان حتّى تكون بين كامل وبين جاهل وبينهما وسائط لا تُحصى كثرةً ،

ص: 253

وفي فعلها لها وجهان : وجه إلى مباديها ، ومظهرها حينئذ الدماغ ، وتختلف بهذا الاعتبار في اكتساب العلوم النظرية وعدم اكتسابها بالسهولة والصعوبة والقلّة والكثرة ، ووجه آخر إلى البدن بتدبيرها الأمر والنهي لا بالمباشرة واستخراج الآراء المحمودة ، ومظهرها حينئذ القلب ونسبة هذا الوجه إلى الأوّل نسبة الوزير إلى الملك ، واختلافها بهذا الاعتبار بالكمال والنقصان وصواب الرأي وخطئه ، ومثله إلى المصالح الدنيوية والأخروية ، أو إليها معاً. وأمّا القلب فله شأن عظيم وأمر خطير ، وهو برزخ بين النفس والروح وسطه بين الجوهرين معشوق الطرفين منقلب إلى الجانبين ، فمن غلب منهما سلبه وجعله تحت ملكه ودار إمارته وفعله القبول والطاعة للوالي واختلافه بحسب اختلافه ، وهو الاعتقادات ، إن كان الوالي هو النفس وإلاّ فالباطلة ، وبحسب كونه إلى أحد الجانبين أشدّ وأشعف ، ويجتمع فيه جميع اختلافات الطرفين. وأمّا الروح فالمراد بها الروح الحيوانية(1) ، وهو رئيس الجسد ، ومظهرها التخويف الأيسر من تخاويف القلب ويختلف في ذاتها بالكمال والنقصان وبحسب فعلها بالإدراك والتحريك ، ويختلف كلّ واحد منهما بحسب الآلات وآلات الإدراك عشرة ؛ خمس ظاهرة وخمس باطنة ، وآلات التحريك الشوقية هي القوّة الغضبية الدافعة للمضارّ والشهوية الجالبة للمنافع ، والفاعلية هي الأعصاب والفضلات ، وأمّا الطبيعة فالمراد بها النفس النباتية ، واختلافها ).

ص: 254


1- م : (والحيوانية) بدل (الحيوانية).

في ذاتها بالكمال والنقصان ، وفي أفعالها بحسب آلاتها ، وهي ثلاثة : العادية والنامية والمولّدة ؛ وللعادية خوادم أربع ؛ الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة. وأمّا الآلات فتختلف في ذاتها باللطافة والكثافة ، فلِطافها هي الأرواح التي هي مطايا القوى الجسمانية وكِثافها هي الجوارح ، والأرواح تختلف بحسب أمزجتها وأوضاعها ، والجوارح تختلف بحسب الأمزجة والأشكال والصلابة واللين والألوان والأوضاع. وإذا تقرّر اختلاف أجزاء الشخص وحده يلزم منه اختلاف أشخاص الإنسان ، ويلزم منه اختلاف نوع الإنسان في جميع تلك الاختلافات ، فما ظنّك ببعضها أو بالأمّة ومبدأها جميعاً شيء واحد(1) ، وهو اختلاف الاستعدادات ومبدأ اختلافها كون الإنسان واقفاً تحت قهر الذباب ، واعلم أنّ الاختلافات المذكورة وإن كانت رحمة ، بعضها شخصية وبعضها نوعية ، إلاّ أنّها ليست على الإطلاق ، بل لكلّ واحد من أنواعها وجهان ؛ وجه إلى الرحمة ووجه إلى السخط ، والضابط في الحركة التي بها تقع الاختلافات المذكورة أنّ كلّ حركة تتوجّه بها نحو الطبيعة ، سواء كان هو النفس أو القلب أو الروح أو الطبيعة ، وهو سخط ذلك يتوجّه بها نحو مقتضى العقل العملي ، فهو رحمة ثمّ حركة الرحمة قد تكون طبيعته كحركة النفس إلى مقتضى ذاته ، وقد تكون قسرية ، كحركة الطبيعة ، إذا كانت بمقتضى العقل العمليّ وقد تكون إرادته كحركة الروح والقلب إذا كان ).

ص: 255


1- م : (شيئا واحدا).

بمقتضى العقل ، وحركة السخط قد تكون طبيعية كحركة الطبيعة إلى مقتضى ذاتها ، وقد تكون قسرية كحركة الروح إلى مقتضى الطبيعة ، وقد تكون إرادية كحركة القلب والروح إذا كانت بمقتضى الطبيعة ، إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ اختلاف أشخاص البشر بعضها مع بعض إن كان في النفس بأن يكون شخص في غاية الكمال وآخر في غاية النقصان وآخرون وسائط بينهما ، فوجه كون هذا الاختلاف رحمةً أنّه لولاه لزم مساواة الأشخاص جميعها في مرتبة واحدة وتلك المرتبة لا يجوز أن تكون أعلى مراتب الكمال لمّا قلنا : إنّ الإنسان واقع تحت قهر الذباب فيستحيل إفاضة الكمال عليه دفعة واحدة ، ولا أسفلها لأنّه مناف للرحمة ومناقض لغرض الخلقة ويستلزم سكون الذباب أو حركتها لا إلى غاية ، والكلّ محال ، ولا يجوز أن يكون أوسط المراتب لما قلناه ، ولأنّه حينئذ لا يكون لهم داعي التوجّه إلى الكمال مع وجود صارف الطبيعة فيحرمون الكمال والسعادة والرحمة ، ولما إذا ترتّبت الأشخاص في مدارج الكمال ومعارج الارتقاء ، حصل للكامل ابتهاج بالتقابه إلى الناقص فيجدّ في الحركة ، وللناقص داع إلى الكمال ليفطنه بأنّ الإنسان يمكنه نيل الكمال فيتحرّك نحوه بقدر استعداده فيحتاج بعضهم إلى بعض للتعليم والتعلّم ، وينال المتعلّم الكمال بالتعلّم ، ويفوز المعلّم بالمدح والثناء عاجلاً والثواب آجلاً(1) ، ثمّ لو كان الناس كلّهم في مرتبة طلب الفضائل متساوين لزم فوات ة.

ص: 256


1- عاجلا وآجلا كناية عن الدنيا والآخرة.

مصالح معاشهم الضرورية ويلزم منه فوات مصالح معادهم أيضاً ، وأمّا إذا كان بعضهم في طلب رتبة الفضائل وبعضهم في طلب مصالح المعاش ، ويتساعد بعضهم ببعض فيما هو فيه ، كما هو المشاهد من أشخاص الناس لم يلزم منه محذور ولا يفوته قسط من الرحمة وكلّ ميسّر لما خلق له ، هذا وجه الرحمة ، وأمّا وجه السخط فأن يكون داعي التعليم والتعلم هو الوهم للمراباة وطلب الرئاسة الدنيوية ، وتصحيح المعتقدات الباطلة لا طلب الحقّ بين الآراء المخالفة والمذاهب المتنافية كحال أكثر العلماء في زماننا هذا - نعوذ بالله من الانتكاس ونستجير به من الانعكاس - وهذا القدرُ كاف في التنبيه على كونِ الاختلافات الأُخر أيضاً رحمةً ، لكن نُتَمِّمُ الكلامَ إيضاحاً فنقول : أمّا اختلافُ العقل العمليّ فوجه كونه رحمةً أنّ النّاس لو تساووا فيه لم يطمع بعضهم بعضاً واستنكف كلّ واحد منهم عن طاعة الآخر لتساويهم في رتبة التدبير والرأي ، وأمّا إذا تفاوتوا فيه احتاج بعضهم إلى بعض فيكون بعضهم وزراءً وبعضهم ملوكاً ، وبعضهم سُوَقةً ، بحسب مراتبهم في عقولهم ، فيترتّبون في الولاية الأكمل فالأكمل ، وفي الطاعة الأنقص فالأنقص ، كأمراء الألوف والمئات وأمراء العشرات ومدبّر الممالك ، ومدبّر الأقاليم ، ومدبّر البلد ومدبّر القرية ، وعلى هذا التقدير ينتظم نظام العالم وتنتفي مفاسد أهل الشرّ والعناد ، ويشتغل كلٌّ بمصالح معاشه ومعاده ، هذا وجه الرحمة. وأمّا وجه السخط فبأن لا يكون التدبير بمقتضى العقل العمليّ بل بمقتضى الروح الشيطانية والسبعية والبهيمية ، فيتولّى الأنقص ويحكم على الأكمل ويطلب بولايته القهر

ص: 257

والغلبة والأموال ، فيستلزم الهرج والمرج والاختلال كزماننا هذا ، وهو سنة سبع وستّين وسبعمائة ، وأمّا اختلاف أفعال القلب من المعتقدات فلأنّه من لوازم اختلاف الروح في قوّتَيه لا اعتقاد كلّ شخص على قدر عقله ومرتبة نفسه ووجه كونه رحمةً لأنّ الاعتقادات لو اتّحدت لزم اتّحاد الأنفس والعقول ويلزم منه ارتفاع الرحمة اللازمة لاختلافاتها تمسّكاً بعدم اللازم على عدم الملزوم ، فيكون اختلاف الاعتقادات رحمة ، هذا في المعقولات وأمّا المنقولات الشرعية فلأنّ كلام الشارع ذو وجوه ، والقرائح مختلفة ويلزم منهما اختلاف الاعتقادات ووجه كونه رحمة أنّه لولاه لزم اتّحاد القرائح واتّحاد المراد من كلامه ، فتفوت الرحمة الحاصلة من اختلافهما ، ووجه كون الاعتقادات سخطاً أنّه إذا كان لازماً للاختلافات السخطية النفسية يلزم أن يكون أيضاً سخطاً لأنّ لازم السخط سخط ، وأمّا وجه كونه رحمة للاختلافات الروحية فهو أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع فلو لم يكونوا مختلفين في أفعال الروح من الصنائع المختلفة والأعمال المتباينة والحركات المنقسمة ممّا فيه صلاح معاشهم ومعادهم يساعد بعضهم بعضاً بما هو يختصّ به بأن يعطي زيد عمراً ما يفضل من عمله ويأخذ منه ما يزيد على قدر ضرورته ، على وجه العدالة وقانون السياسة لزم اشتغال كلّ واحد من الأشخاص بقيام جميع ما يحتاج إليه في معاشه ومعاده ، ولم يقدر عليه فيختلّ نظام أمره بل انتظام أمر العالم ، هذا وجه الرحمة ، وأمّا وجه السخط فهو أن لا يكون المعاوضات المالية على قانون العدالة ، وأمّا وجه رحمة الاختلافات الطبيعية

ص: 258

فإنّها لو اتّحدت لزم اتّحاد أسبابها فتفوت الرحمة اللازمة اختلافاتها ، فتكون سخطاً ، فوجب أن تكون الاختلافات الطبيعية رحمة ، واعلم أنّ هذه الاختلافات لا تقع إلاّ رحمة ، لأنّها لا تقع تحت قدرة الإنسان حتّى يكون له فيها اختيار في إيقاعها على أحد وجهين. إذا تقرر هذا فاعلم أنّ قوله عليه السلام : (اختلاف أمتي رحمة). إن أراد به جميع الاختلافات المذكورة فقد صحّ كونها رحمةً في الجملة ، ولا يلزم منه نفي الرحمة عن اختلاف عن أمّته ، لأنّ تخصيص الحكم بالاسم لا يقتضي نفيه عما عداه ، وإنْ أراد اختلافاً مخصوصاً أي فيما أثبت له من القواعد الدينية واستخراج الوقائع الجزئية منها فقد بيّنّا أيضاً وجه كونها رحمةً ولا يلزم منه نفي الرحمة عن باقي الاختلافات وإنّما طوّلنا الكلام هنا لما فيه من الفوائد الجليلة والنكت الجميلة التي خلت عنها كتب المتقدّمين والمتأخّرين من الفقهاء والحكماء والمتكلّمين ، فقد بحث أنّ تفسير هذه الآية الجليلة لا كما فسّرها المتقدّمون ، فإنّه غير صواب ، والحمد لله خالق الألباب ولما توهّمه السيّد المرتضى - رحمه الله - وغيره من علماء الشيعة والسنّة ولمّا حفظوا منها سيّما المفسّرين.

10 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ في هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيْلاً)(1).2.

ص: 259


1- الإسراء : 72.

فقال : كيف يجوز أن يكونوا(1) في الآخرة عمياً وقد تظاهر الخبر عن الرسول(ص) والمعرفة تشهد بأنّ الخلق يحشرون كما بدأوا سالمين من الآفات والعاهات ، قال تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديد)(2)؟!

الجواب : يقال في وجه الآية أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون العمى الأوّل إنّما هو عن تأمّل الآيات والنظر في الدلالات والعبر التي أراها الله المكلّفين في أنفسهم ، وفيما يشاهدون ويكون العمى الثاني هو عن الإيمان بالآخرة والإقرار بما يجازى به المكلّفون فيها من ثواب أو عقاب ، وقيل : الآية متعلّقة بما قبلها من قوله : (رَبُّكُمُ الَّذي يُزْجي لَكُمُ الْفُلْك)(3) إلى قوله : (وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أَعْمى) يعني عن هذه النعم وعن هذه العبر ، (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) ، أي هو أعمى عمّا غيب عنه من أمر الآخرة(4) ، ويكون قوله : (فِي هَذِهِ) كناية عن النعم لا عن الدنيا.

أقول : لو كان المراد ذلك لقال : (عن هذه) لا (في هذه) ، وأيضاً قرينة قوله : (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) يدلّ على أنّ المراد الدنيا لا النعم.

وثانيها : من كان في هذه يعني الدنيا أعمى عن الإيمان بالله والمعرفة بما أوجب عليه فهو في الآخرة عن الحسنة والثواب بمعنى أنّه لا يهتدي إلى ى.

ص: 260


1- م : يكون.
2- ق : 22.
3- الإسراء : 66.
4- م : أعمى.

طريقهما أو عن الحجّة إذا سئل.

وثالثها : أن يكون العمى الأوّل عن المعرفة والإيمان والثاني بمعنى المبالغة في الإخبار عن عظم ما ينال الكفّار من الخوف والغمّ والحزن الذي أزاله الله عن المؤمنين ، ومن عادة العرب أن تسمّي من اشتدّ همّه وقوي حزنه أنّه أعمى سخين العين ، ويصفون المسرور بأنّه قرير العين.

ورابعها : أن يكون العمى الأوّل عن الإيمان والثاني هو الآفة في العين على سبيل العقوبة ، كما قال : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)(1) وقد اختلف القرّاء في فتح الميم وكسرها في أعمى ، فهو في الآخرة أعمى ، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بفتح الميمين معاً ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بكسرهما معاً ، وفي رواية حفص بفتحهما ، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة ، ولكلٍّ وجه.

أقول : التحقيق أنّ المعنى من كان في هذه أعمى أي عن كمالاته وعمّا خلق له وعن تحصيل حقائق الموجودات فهو بعد موته أعمى عن ذلك وأضلّ سبيلا لانقطاع الآلة التي بها يحصل العلم وأيضاً لارتفاع التكليف وجفاف العلم.

11 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَجاؤُا عَلى قَمِيْصِهِ بِدَم 4.

ص: 261


1- طه : 124.

كَذِب) الآية(1).

فقال : كيف وصف الدم بأنه كذب ، والكذب من صفات الأقوال ، لا من صفات الأجسام؟!

الجواب : يقال له : أمّا كذب فمعناه مكذوب فيه ، وعليه ، كقولهم : ماءٌ سَكبٌ وشرابٌ صَبٌّ ، يريدون مسكوباً ، ومصبوباً ، ومثله : ما له معقول ، يريدون : عقلٌ ، وما له مجلود ، أىْ جلد ، وقال الفرّاء وغيره : يجوز في النحو : بدم كذباً ، بالنصب على المصدر ، لأنّ معنى (جاؤوا) فيه معنى (كذبوا كذباً) ، لأنّ إخوة يوسف ذبحوا سخلةً ولطّخوا قميص يوسف بدمها ، وجاؤوا أباهم بالقميص وادّعوا أكل الذئب له ، فقال لهم يعقوب : لقد كان هذا الذئب رقيقاً ، حتّى أكل ابني ولم يخرق قميصه ، فقالوا : بل قتله اللصوص. فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قبضه أحوج منهم إلى قتله؟! وكان في قميص يوسف ثلاث آيات ؛ حين قُدَّ قميصه من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه (فَارْتَدَّ بَصيراً)(2) وحين جاؤوا عليه(3) بدم كذب ، فتنبّه أبوه أنّ الذئب لو أكله لخرق قميصه.

أقول : وقرئ : (كدب) بالدال المهملة أي طريّ. ى.

ص: 262


1- يوسف : 18.
2- يوسف : 96.
3- م : (على) بدل (عليه) وهو خطأ ، والصحيح عليه أو على قميصه ، والأوّل أولى.

12 - تأويل آية

إن سأل سائل ، فقال : ما وجه التكرار في سورة الكافرين؟!

وما الذي حسّن إعادة النفي وما وجه التكرار أيضاً في سورة الرحمن في قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبَانِ)؟.

أقول هنا : قد ذكرت في كتاب الوجيز في تفسير القرآن العزيز ، وجوهاً كلّها حسنة فمن رآها فليطالعه من هناك ، فإنّه غاية في المعنى ، ليس فيه مزيد.

الجواب : ذكر ابن قتيبة في سورة الكافرين وجهاً ، وهو أن قال : القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، وإنّما كان نزوله(1) شيئاً بعد شيء ، وكان المشركون أتوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالوا له : استسلم بعض أصنامنا حتّى نؤمن بك ، فأمره الله أن يقول لهم : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(2) ثمّ بقوا مدّةً وجاؤوه وقالوا : اُعبُدْ بعض آلهتنا واستَسلِمْ بعض أصنامناً يوماً أو شهراً أو حولاً ، لنفعلَ مثل ذلك بإلهك ، فأمره الله بأن يقول لهم : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّم * وَلاَ أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُد)(3) أي : إن كنتم لا تعبدون إلهي إلاّ بهذا الشرط ، فإنّكم لا تعبدوه أبداً ، وفي هذه الآيات ثلاثة أوجه ، أوضح ممّا ذكره : 5.

ص: 263


1- م : نزول مكان نزوله.
2- الكافرون : 2و3.
3- الكافرون : 4و5.

أوّلها : ما حُكِيَ عن أبي العبّاس ثعلب ، أنّه قال : إنّما حَسُنَ التكرارُ لأنّ تحت كلّ لفظة معنىً ليست هو تحت الأخرى ، وتلخيصُ الكلام : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُوْنَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) الساعةَ وفي هذه الحال ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في هذه الحال أيضاً ، اختصَّ الفعلانِ منه ومنهم بالحال ، وقال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّم) في المستقبل ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فيما تستقبلون ، فاختلف المعاني وحسن التكرار لاختلافها ، ويجبُ أن تكون هذه السورة مختصَّةً بمن المعلوم أنّه لا يؤمن وقد ذكر أنّها نزلت في أبي جهل ، والمستهزئين ، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحدٌ ، والمستهزؤون(1) هم العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، وأميّة بن خلف ، وعديّ بن قيس.

وثانيها : أنّ التكرار للتأكيد ، ومثله : (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون)(2) وأنشد الفرّاء :

كم نعمة كانت لكم

كم كم وكم [كانت وكم](3)

وثالثها : أنّني لا أعبد الأصنام التي تعبدونها (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُد) أي أنتم عابدون غير الله الذي أنا عابده ، إذا أشركتم به واتّخذتم ر.

ص: 264


1- م : (والمستهزئين).
2- التكاثر : 3و4.
3- بين المعقوفتين ليس في (م) ، وكذلك ليس في أمالي المرتضى ؛ ذكر البيت في : كتاب الصناعتين ، أبو هلال العسكري : 194 بدون عزو إلى شاعر.

الأصنام وغيرها معبودة من دونه أو معه ، وقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّم) أي لست أعبد عبادتكم و (ما) مصدرية ، ومعنى قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُد) أي لستم عابدين عبادتي على نحو ما ذكرناه ، ولم يتكرّر الكلام إلاّ لاختلاف المعاني.

فإنْ قيل : فما معنى قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(1) ، وظاهر هذا الكلام يقتضي إباحتهم المقام على أديانهم ، فلنا في هذا ثلاثة أجوبة :

أوّلها : أنّ ظاهر الكلام وإن كان ظاهره(2) إباحة ، فهو وعيد ومبالغة في النهي والزجر ، ما قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(3).

والثاني : أنّه أراد : لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني ، فحذف الجزاء لدلالة الكلام عليه.

والثالث : أنّه أراد : لكم جزاؤكم ولي جزائي ، لأنّ نفس الدين هو الجزاء.

أقول : إنّما أتى ب(ما) دون (مَن) ، قيل : لأنّ معناها معنى (مَن). وقيل : (ما) الأولَين (مَن) ، والأخيرين بمعنى (ما) المصدرية. وقيل : لما كان المقصود العبادة التي بلفظ (ما) دون (مَن). ).

ص: 265


1- الكافرون : 6.
2- م : ظاهر.
3- فصّلت : 40. ومثله قوله تعالى : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرينَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْليهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبينُ) (الزمر : 15).

وأمّا التكرار في سورة الرحمن فإنّما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدودة ، فكلّما ذكر نعمةً أنعم بها قرّر عليها ووبّخ على التكذيب بها ، وهذا كثير في كلام العرب ، قال مهلهل بن ربيعة(1) يرثي أخاه كليباً :

عَلى أَن لَيسَ عَدلاً مِن كُلَيب

إِذا طُرِدَ اليَتيمُ عَنِ الجَزورِ

عَلى أَن لَيسَ عَدلاً مِن كُلَيب

إِذا ما ضيمَ جارُ المُستَجيرِ(2)

كرّر ذلك ثماني مرّات ، وهذا المعنى أكثر من أن يحصى كثرة.

فإن قيل : إذا كان الذي حسّن التكرار في سورة الرحمن ما عدّده من الآية ونعمه ، فقد عدّد فيه ما ليس بنعمة ، وهو قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نار) الآية(3) وقوله : (جهنّم) الآية(4) ، فكيف يحسن أن يقول بعقب ذلك : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وليس هذا من الآلاء والنعم ، قلت : الوجه في ذلك أنّ فعل العقاب وإن لم يكن نعمة فذكره ووصفه والإنذار له من أكبر النعم لأنّ فيه زجراً عمّا يستحقّ به العقاب وبعثاً على ما يستحقّ به الثواب(5). ار

ص: 266


1- هو عدي بن ربيعة بن مرّة بن هبيرة من بني جشم ، من تغلب ، أبو ليلى ، المهلهل (ت 94 ه).
2- ديوان مهلهل بن ربيعة : 40.
3- الرحمن : 35 ؛ (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نار وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ).
4- الرحمن : 43 ؛ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ).
5- ح (م) : ربّما توهّم بعض الناس من قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نار

قال عبد الرحمن بن محمّد العتائقي - عفا الله عنهم - : الحكمة في تكرير هذه الآية أحدى وثلاثين مرةً أنّ فائدة التكرير التقرير ، وأمّا هذا العدد الخاصّ فالأعداد توفيقية ، ويمكن أن يقال فيها وجوهاً :

الأوّل : أنّ الله ذكر في السورة المتقدّمة فكيف كان عذابي ونذر أربع مرّات ، مرّة لبيان ما في ذلك الكلام من المعنى وثلاث مرّات للتقرير ، فلمّا ذكر العذاب ثلاث مرّات ، ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرّة ، لبيان ما فيه من المعنى ، وثلاثين مرّة للتقرير ، ليكون الآلاء مذكورة عشرة أضعاف مرّات ، ذكر العذاب إشارةً إلى معنى قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها)(1).

الثاني : أنّ أبواب النار سبعة والله تعالى ذكر سبعة أبواب تتعلّق بالتخويف من النار من قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ)(2) إلى قوله : 1.

ص: 267


1- الأنعام : 160.
2- الرحمن : 31.

(يَطُوفُونَِ بَيْنَها وَبَيْنَ حَميم آن)(1) ثمّ إنّ الله تعالى ذكر جنّة حيث قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)(2) ولكلّ جنّة ثمانية أبواب ، تفتح كلّها للمتّقين ، ذكر من أوّل السورة إلى ذكر آيات التخويف ثماني مرّات ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فصار المجموع ثلاثين مرّةً.

الثالث : أنّه كرّر ثلاثين مرّةً بعد المرّة الأولى ، لأنّ الخطاب مع الإنس والجان ، والنعمة منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود ، لكن أعظم المكروهات عذاب جهنّم ، ولها سبعة أبواب ، وأتمّ المقاصد نعيم الجنّة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة ، وإذا اعتبر تلك بالنسبة إلى جنس الإنس والجنّ يكون ثلاثين مرّةً ، وهي مرّات التكرير للتقرير ، والمرّة الأولى لبيان فائدة الكلام ، فهذا غاية ما يقال هنا.

13 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الآية(3).

ص: 268


1- الرحمن : 44.
2- الرحمن : 46.
3- البقرة : 177 ؛ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبىَ وَالْيَتامى وَالْمَساكينَ وَابْنَ السَّبيلِ وَالسَّائِلينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

فقال : كيف ينفى كون تولية الوجوه إلى الجهات من البرّ وإنّما يفعل ذلك في الصلاة ، ونفي برّ لا محالة ، وكيف خبّر عن البرّ ب- : (من) ، والبرّ مصدر و (من) اسم مخصّ وعن أيّ شيء كنّى بالهاء ، (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ)؟! وما المخصوص بأنّها كناية عنه ، وقد تقدّمت أشياء كثيرة وعلى أيّ شيء ارتفع الموفون؟! وكيف نصب الصابرين وهم معطوفون على الموفين؟! وكيف وحّد الحكاية في مواضع وجمعها في آخر ، فيقال له فيما ذكره أوّلاً جوابان :

أحدهما : أنّه أراد : ليس الصلوة هي البرّ كلّه لكنّه ما عدّده في الآية من أنواع الطاعات وأصناف الواجبات ، فلا تظنّوا أنّكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم أنّكم أحرزتم البرّ بأسره ، وحرزتموه كلّه ، بل يبقى معظمه وأكثره.

الثاني : أنّ النّصارى لمّا توجّهوا إلى المشرق واليهود إلى بيت المقدس ، وأخذوا هاتين الجهتين قبلتين واعتقدوا في الصلوة إليهما أنّها البرّ والطاعة خلافاً على الرسول عليه السلام ، أكذبهم تعالى في ذلك وبيّن أنّ ذلك ليس من البرّ لأنّه منسوخ بشريعة النبيّ عليه السلام التي تلزم جميع المكلّفين ، وأنّ البرّ هو ما تضمّنته الآية فأمّا إخباره عن البرّ ب- : (من) ، ففيه وجوه :

أوّلها : أن يكون معنى البرّ هنا البارَّ وذا البرّ ، ويجعله أحدهما مكان الآخر ، والتقدير : ومن البارّ من آمن بالله ، ويجري مجرى قوله : (إنْ أصبَحَ

ص: 269

ماؤُكُمْ غَورًا)(1) يريد غائرًا ، ومثله قول الشاعر :

............................

فإنّما هي إقبال وإدبار(2)

أراد : مقبلة مدبرة.

الثاني : أنّ العرب قد خبّر عن الاسم بالمصدر والفعل ، وعن المصدر بالاسم كقولهم : إنّما البرّ الذي يصل الرحم ، وكقول الشاعر :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

....................(3).

فجعل (أن تنبت) وهو مصدر خبراً(4) عن الفتيان.

الثالث : أن يكون المعنى ولكنّ البرّ من آمن ، كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل)(5) أيْ حبّ العجل.

فأمّا ما كنّى عنه بالهاء ففيه وجوه أربعة :

الأوّل : أن تكون في (عَلى حُبِّهِ) راجعة إلى المال. 3.

ص: 270


1- الملك : 30.
2- البيت للخنساء هو : ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت فإنّما هي إقبال وإدبار (ديوان الخنساء بشرح ثعلب : 383).
3- تمام الشعر عن أمالي المرتضى : لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى ولكنّما الفتيان كلّ فتى ند (أمالي المرتضى : 1 : 201).
4- م : (خبر) والصحيح (خبراً).
5- البقرة : 93.

الثاني : أن تكون الهاء راجعة على من آمن ، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل ، ولم يذكر المفعول لوضوحه.

الثالث : أن ترجع الهاء على الإيتاء الّذي دلّ (آتَى) عليه ، والمعنى : وأعطى المال على حبّ الإعطاء ، ومثله قول الشاعر :

إذا نهى السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف(1)

أراد : جرى إلى السّفه الّذي دلّ ذكر السفيه عليه.

الرابع : أن تكون الهاء راجعة إلى الله تعالى ، أي : وآتى المال على حبّ الله.

وقد ذكر وجه آخر وهو أن تكون الهاء راجعة إلى (من آمن) أيضاً ، وينصب ذوي القربى بالحبّ ولا يجعل ل- : (آتى) منصوباً لوضوح المعنى ، ويكون تقدير الكلام : وأعطى المال على حبّه ، فأمّا قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) ، ففي رفعه وجهان :

أحدهما : أن يكون مرفوعاً على المدح ، لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه ، ونصب على المدح ، ويكون المعنى وهم الموفون بعهدهم ، قال الزجّاج : وهو أجود الوجهين.

والثاني : أن يكونَ معطوفاً على (من آمن) ويكون المعنى : ولكنّ البرّ وذوي البرّ المؤمنون والموفون بعهدهم ، وأمّا نصب الصابرين ففيه وجهان : 7)

ص: 271


1- الشعر نقله ابن قتيبة عن الفرّاء. (العمدة في صناعة الشعر ونقده ، قيروانى : 2 : 1067)

أحدهما : المدح ، كقول الخِرنِق بنت بدر(1) :

لا يَبعَدَن قَومي الَّذينَ هُمُ

سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجُزرِ

النازِلونَ بِكُلَّ مُعتَرَك

وَالطَيِّبونَ مَعاقِدَ الأُزرِ(2)

فنصب ذلك على المدح ، وربّما رفعوهما جميعاً ، ومنهم من ينصب النازلين ، ويرفع الطيّبين ، ومنهم من عكس ذلك.

والوجه الآخر : أن يكون معطوفاً على ذوي القربى ، ويكون المعنى : (وآتى المال على حبّه ذوي القربى والصابرين) ، قال الزجّاج : والوجه هو الأوّل ، فأمّا توحيد الذكر في موضع وجمعه في آخر ، فلأنّ (من آمن) ، لفظه الواحدة ومعناه الجمع ، فما جاء بعده موحّدًا أجري على اللفظ ، وما جاء مجموعاً أجري على المعنى ، واعلم أنّ حمزة وعاصم في رواية حفص قرءا : ليس البرَّ ، بالنصب ، وقرأ الباقون بالرفع ، لأنّهما معرفتان ، فإنّهما سبب جعله(3) اسم ليس والآخر خبراً.

14 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذي).

ص: 272


1- هي الخرنق بنت بدر بن هفان بن مالك من بني ضبيعة ، البكرية العدنانية. (ت 50 ه) ، وهي أخت طرفة ابن العبد لأمّه.
2- ديوان الخرنق بنت بدر : 83.
3- م : (جعلته).

يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(1).

فقال : أيّ وجه لتشبيه الذين كفروا بالصائح بالغنم ، والكلام يدلّ على ذمّهم ووصفهم بالغفلة وقلّة التأمل والتمييز ، والناعق بالغنم قد يكون مميّزًا متأمّلا ، يقال له : في هذه الآية خمسة أوجه :

أوّلها : أن يكون المعنى مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان والطاعة ، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم ، وهي لا تعقل معنى دعاية ، وربّما تسمع صوته ولا تفهم غرضه.

الثاني : أن يكون المعنى : الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم نداء الناعق ، وأضاف تعالى المثل الثاني إلى الناعق ، وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به ، على مذهب العرب في قولها : (انتصب العود على الحرباء) ، والمعنى انتصب الحرباء على العود ، وجاز التقديم والتأخير لوضوح المعنى ، وأنشد الفراء(2) :

كانَت فَرِيضَةَ ما تَقولُ كَما

كانَ الزِناءُ فَرِيضَةَ الرَجمِ(3)

والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزنا ، وأنشد(4) : ).

ص: 273


1- البقرة : 171.
2- الشعر للنّابِغَةِ الجَعدِيّ وهو قيس بن عبد الله ، بن عُدَس بن ربيعة ، الجعدي العامري ، أبو ليلى. (ت 50 ه).
3- ديوان النابغة الجعدي : 169.
4- البيت لرؤبة العجّاج ، وهو رؤبة بن عبد الله العجّاج بن رؤبة التميمي السعدي أبو الجحّاف أو أبو محمّد. (ت 145ه).

..............................

كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ(1)

أقول : في هذا الشطر(2) يصلح أن يقال : ذلك بلا تقديم وتأخير لأنّ الأرض إذا كان أخضر مثل لون السماء.

وأنشد(3) :

فَدَيتُ بِنَفسِهِ نَفسي وَمالي

..................................(4)

أراد : فديت بنفسي نفسَه.

الثالث : أن يكون المعنى : ومثل الذين كفروا مثلنا أو مثلهم ، ومثلك يا محمّد كمثل الذي ينعق بالغنم ، أىْ : مثلهم في الإعراض ، ومثلك في الدعاء والإرشاد مثل الناعق بالغنم ، فحذف المثل الثاني اكتفاءً بالأول ، ومثله قوله : (سَرابيلَ تَقيكُمُ الْحَرَّ وسَرابيلَ تَقيكُمْ بَأْسَكُم)(5) أراد : الحرّ والبرد ، فاكتفى بذكر الحرّ عن البرد. قال أبو ذؤيب(6) :

...........................

فَما أَدري أَرُشدٌ طِلابُها(7) :

ص: 274


1- الشطر الأوّل : وَبَلَد عامِيَة أَعْمَاؤُهُ. (ديوان رؤبة بن العجّاج : 3).
2- (م) : (هذه الآية) والصحيح (هذا الشطر) ، كما أثبتناه.
3- البيت للعبّاس بن مرداس بن أبي عامر السُلَمي ، من مُضَر ، أبو الهيثم. (ت 18ه).
4- الشطر الثاني : وَلا آلوهُ إلاّ ما يُطيقُ. (ديوان العباس بن مرداس : 119)
5- النحل : 81.
6- هو خويلد بن خالد بن محرِّث أبو ذُؤيب من بني هذيل بن مدركة المضري.(ت 27ه).
7- تمامه :

أراد : أرشدٌ أم غيّ(1) ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغيّ لوضوح الأمر.

الرابع : أن يكون المراد : ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام التي يعبدونها وهي لا تعقل ولا تفهم ولا تضرّ ولا تنفع كمثل الذي ينعق دعاءً ونداءً بما لا يسمع صوته جملة ، والدعاء والنداء ينصبان على هذا القول ب- (ينعق) ، وإلاّ توكيد للكلام ، ومعناها الإلغاء ، قال الفرزدق(2) :

هُمُ القَومُ إلاّ حَيثُ سَلّوا سُيوفَهُم

..................................(3)

ف- (إلاّ) ملغاة.

أقول : وكذا قيل في قوله(4) :

...............................

لَعَمرُ أَبيكَ إلاّ الفَرقَدانِ(5)).

ص: 275


1- م : (عمي) بدل (غيّ) ، والصحيح ما أثبتناه.
2- الفَرَزدَق هو همّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس. (ت 110 ه).
3- الشطر الثاني : وَضَحّوا بِلَحم مِن مُحِلّ وَمُحرِمِ. (ديوان الفرزدق : 530).
4- البيت لعمرو بن معدي كرب الزَبيدي وهو عمرو بن معدي كرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي. (ت 21 ه).
5- الشطر الأوّل منه : وكُلُّ أَخ مُفَارِقُهُ أخوهُ. (شعر عمرو بن معدي كرب : 178). وهو عمرو بن معدي كرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي. (ت 21 ه).

والفرقدان أيضاً لأنّها لابدّ يعدمان ، وكذا قيل : إلاّ ما شاء ربّك ، أيْ وما شاء.

الخامس : أن يكون المعنى : ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنامَ وعبادتهم لها ، واسترزاقهم إيّاها ، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم ويناديها ، فهي تسمع دعاءه ونداءه ولا تفهم كلامه ، فشبّه الأصنام بالغنم ، بل الغنم خير منها لا تسمع ولا تفهم والأصنام لا تسمع ولا تفهم من حيث لا تعقل الخطاب ، ولا تفهم ولا نفع عندها ، ولا مضرّة.

وقد اختُلفَ في (ينعق) فقيل : لا يقال : (نَعَقَ ، يَنعِقُ) إلاّ في الصياح من غير أن يمدّ عنقه ويحرّكها ، فإذا مدّها وحرّكها ثمّ صاح ، قيل : نعب ، ويقال أيضاً : نَعَبَ الفرس(1) يَنعِبُ ، ويَنعَبُ نَعباً ونَعيباً ونَعباناً ، وهو صوته ، ويقال : فرس مِنعَبٌ أي جوادٌ وناقة نَعّابة ، أىْ : سريعة(2).

15 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله عزّ وجلّ : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)(3) 0.

ص: 276


1- يقال : نعب الغراب ، لا نعب الفرس باعتبار صوتها ، وصوت الفرس صهيل ، وإنّما يقال فرس مِنعب ، أو إبل نعوب ونعابة لسرعة سيرها ، وكذلك مدّ عنقها عند السير ، واستخدم هذا الفعل لصوت الدّيك أيضاً على الاستعارة.
2- من النَّعب : السير السريع.
3- آل عمران : 21 ؛ وقد تكرّر هذا المعنى في عدّة من الآيات ، منها : البقرة : 61/ آل عمران : 112/ المائدة : 70.

وقوله(1) : (وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ)(2) وظاهر القول يقتضي أنّ قتلهم قد يكون بحقّ وقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ)(3) وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً)(4) وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِ لْحافاً)(5).

والجواب : أنّ للعرب فيما جرى هذا المجرى من الكلام عادةً معروفة ومذهباً مشهوراً ، مرادهم بذلك ، المبالغةَ في النفي وتأكيده ، فمن ذلك في قولهم : (فلانٌ لا يرجى خيره) ، ليس يريدون أنّ فيه خيراً لا يرجى ، وإنّما يريدون أنّ مثله لا يرى قليلاً ولا كثيراً ، قال الشاعر(6) :

عَلى لاحِب لا يَهتَدي بِمَنارِهِ

...........................(7)

أي : لا منارَ له ، فيُهتدَى بها ، ومثله قول ابن أحمر(8) :

.................................

وَلا تَرى الضَبَّ بِها يَنجَحِر(9)7)

ص: 277


1- م : (قولهم) بدل (قوله).
2- النساء: 155.
3- المؤمنون : 117.
4- البقرة : 41 / المائدة : 44.
5- البقرة : 273.
6- الشاعر هو امرؤ القَيس بن حجر بن الحارث الكندي. (ت 80 ه).
7- الشطر الثاني : إذا سافَهُ العَودُ النُباطِيُّ جَرجَرا. الشطر الأوّل على رواية الأصمعي كما صرّح به السكري. (ديوان امرئ القيس ، 2 : 426) اللاحب : الملحوب ، الطريق البيّن الذي لحبته الحوافر أي أثّرت فيه ، فأطلق على كلّ طريق بين خفي.
8- هو عمرو بن أحمر الباهلي. (ت 75 ه).
9- الشطر الأوّل : لا تُفزِعُ الأَرنَبَ أَهوالُها. (شعر عمرو بن احمر الباهلي : 67)

أي : ليس بها ضبّ ينجحر ، وقولهم :

لا تُفزِعُ الأَرنَبَ أَهوالُها

....................................(1)

أراد : ليس بها أهوال فتفزع الأرنب ، ومثله(2) :

..............................

لَم تُكحَل مِنَ الرَمَدِ(3)

أراد : ليس بها رمد فتكحلَ له. وعلى هذا التأويل الآيات التي وقع السؤال عنها ، لأنّه تعالى لمّا قال : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) دلّ على أنّ قتلهم لا يكون إلاّ بغير حقٍّ ، وكذلك (وَمَنْ يَدْعُ) - الآية ، إنّما هو وصف لهذا الدعاء وإنّه لا يكون إلاّ عن غير برهان ، وكذلك قوله : (لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِ لْحافاً) معناه : لا مسألة تقع منهم ، ومثله : (وَلاَ تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً) والفائدة أنّ كلّ ثمن بها لا يكون إلاّ قليلاً ، فصار نفي الثمن القليل نفياً لكلّ ثمن.

أقول : يحتمل أنّ قوله : (بِغَيْرِ حَقٍّ) أي في اعتقادهم وفي نفوسهم أيضاً أنّ قتلهم لهم بغير حقٍّ ، كما قتلوا يحيى بن زكريّا ، وهذا قول أمير ).

ص: 278


1- هذا ما سبق ذكره.
2- البيت للنابغة الذبياني ، وهو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري ، أبو أمامة. (ت 18 ق. ه).
3- تمام البيت : يَحُفُّهُ جانِبا نيق وَتُتبِعُهُ مِثلَ الزُجاجَةِ لَم تُكحَل مِنَ الرَمَدِ. (ديوان النابغة الذبياني : 14).

المؤمنين عليّ عليه السلام : (اللهمّ أبدلهم بي شرّاً لهم منّي(1). فإنّهم كانوا يرون أنّ فيه شرّاً ، يخاطبهم على ما في نفوسهم وفي اعتقادهم ، ولأنّه كان معصوماً لا شرّ فيه لوجه قبل كونه إماماً وبعد كونه إماماً(2). وهذا الوجه لاعتبار علمه.

16 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) - الآية(3)

قال : ما تأويلها على ما يطابق العدل؟ فإنّ ظاهرها كان يخالف له.

الجواب : قيل له : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون تعالى عنى بذلك صرفهم(4) عن ثواب النظر في الآيات وعن العزّ والكرامة الذين يستوصيهما(5) من أدّى الواجب عليه في آياته وأدلّته ).

ص: 279


1- نهج البلاغة ، خ25.
2- م : (لوجه كونه إماماً وبعد كونه إماماً قبل) / ر : (بوجه قيل كونه إماماً وتقرأ كونه إماماً).
3- الأعراف : 146 : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَة لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلين).
4- م : (سأصرف).
5- ر : (يستوحيهما) ، ونص الأمالي : (يستحقّهما).

وتمسّك بها ، والآيات على هذا التأويل تحتمل أن يكون سائر الأدلّة. ويحتمل أن يكون معجزات الأنبياء خاصّة وهذا التأويل مطابق للظاهر.

وثانيها : أن يصرفهم تعالى عن زيادة المعجزات التي يظهرها على يد الأنبياء عليهم السلام ، بعد قيام الحجّة بما تقدّم من آياتهم ومعجزاتهم ؛ لأنّه تعالى إنّما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم أنّه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدّم من الآيات ، فإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها ، وصرف الذين علم من حالهم أنّهم لا يؤمنون بها عنها ، ويكون الصّرف على أحد الوجهين : إمّا بألاّ يظهرها جملة ، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيره.

وثالثها : أن يكون معنى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) ، أيْ : لا أوتيها مَن هذه صفته ، وإذا صرفهم عنها فقد صرف عنهم ، وكلا اللّفظينْ يفيد معنىً واحداً.

ورابعها : أن يكون المراد بالآيات العلامات التي يجعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين ؛ ليدلّ بها الملائكة على الفرق بين المؤمن والكافر ، فيفعلوا بكلّ واحد منهما ما استحقّوا من التعظيم والاستخفاف ، كما تأوّل أهل الحقّ الطبع والختم(1) اللذين ورد بهما القرآن على أنّ المراد بهما(2) العلامة المميّزة ).

ص: 280


1- م : (أهل المواضع والختم).
2- م : (بالعلامة).

بين الكافر والمؤمن ؛ فيكون معنى(1) سأصرفهم عنها ، أي : أعدل بهم عنها ، وأخصّ بها المؤمنين المصدّقين بآياتي وأنبيائي.

وخامسها : أن يريد تعالى : أنّي أصرف مَن رام المنعَ مِن أداء آياتي وتبليغها ؛ لأنّ مِن الواجب على الله تعالى أن يحُول بين مَن رامَ هذا بينه وَبينه ؛ ولا يمكّن منه ؛ لأنّه ينقض الغرض من البعثة. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(2) ؛ فتكون الآيات هنا القرآنَ.

وسادسها : أن يكون الصرف هنا الحكم والتسمية والشهادة ، ومعلومٌ أنّ مَن شهد على غيره بالانصراف عن شيء ، جازَ أن يقال : صرفه عنه ، كما يقال : أكفره وكذّبه وفسّقه ؛ وكما قال جلّ مِن قائل : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(3) ؛ أي شهد عليها بالانصراف عن الحقِّ والهدى.

وسابعها : أنّه تعالى لمّا علم أنّ الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ سينصرفون عن النظر في آياته والإيمان بها إذا أظهرها على أيدي رسله عليهم السلام جاز أن يقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِي) فيريد سأظهر ما ).

ص: 281


1- م : (المعنى).
2- المائدة : 67 ، والآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرينَ).
3- التوبة : 127. (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَد ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُون).

ينصرفون بسوء اختيارهم(1) عنه.

أقول : فيه نظر.

وثامنها : أن يكون الصّرف هنا معناه المنع من إبطال الآيات والحجج ، والقدح فيها بما يُخرجها عن أن تكون أدلّةً وحججاً ، فيكون تقدير الكلام : إنّي بما أؤيّده من حججي ، وأحكمه من آياتي وبيّناتي ؛ صارفٌ للمبطلين والمكذّبين عن القدح في الآيات والدّلالات ، ومانعٌ لهم ممّا كانوا - لولا هذا الإحكام والتأييد - يفترضونه ويغتنمونه من تمويه الحقّ ولبسه بالباطل.

وتاسعها : أنّ الله تعالى لمّا وعد موسى عليه السلام وأمّتَه إهلاك فرعون ، قال : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، وأراد جلّ وعزّ أنّه يُهلكهم ويجتاحهم(2) على طريق العقوبة بتكذيبهم ، -.

أقول : إنّه تعالى لا يلطف بهم لأنّهم غير قابلين ، وكذلك صرفوا عن آياته وعمّا يجب عليهم ، وكأنّه الوجه ، لأنّه لو لطف بهم وهم قابلون(3) للّطف لكان ذلك عبثاً. - وبشّر مَن وعده بهذه الحال مِن المؤمنين بالوفاء بها.

17 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي ).

ص: 282


1- م : (اخبارهم).
2- أي : يستأصلهم.
3- م / ر : (قابلين).

نَفْسِكَ)(1).

ما أراد بالنفس هنا؟ وهل المعنى في هذه الآية كالمعنى في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)(2) أو يخالفه؟ والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبي : عليه السلام أنّه قال : يقول الله عزّ وجلّ : «إذا أحبّ العبد لقائي أحببت لقاءه ،إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإذا تقرّب إليَّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً ، وإذا تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبتُ إليه باعاً»(3) ، أو لا يطابقه؟

الجواب : قلنا : إنّ النفس في اللغة لها معان مختلفة ، ووجوه في التصرّف متباينة ؛ فالنفس نفسُ الإنسان وغيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حيّاً ، ومنه قوله تعالى : (كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(4). والنّفس ذات الشيء الّذي يخبر عنه كقولك : فعل فلان ذلك نفسه(5). والنفس : الأنفة ، كقولك : ليس لفلان نفسٌ ، أي : لا أنفة له. والنفس الإرادة ، كقولهم : نفس فلان في كذا ، أي : إرادته. والنفس العين التي تصيب الإنسان ، يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي : عين. قال ابن الرّقيّات(6) : ).

ص: 283


1- المائدة : 116.
2- آل عمران : 28.
3- هذا الحديث القدسي أورده الشريف المرتضى في الأمالي ب- : (إذا) بدل (إن).
4- آل عمران : 185.
5- م : (في نفسه) وفي الأمالي : (فعل ذلك فلان نفسه).
6- هو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك ، من بني عامر بن لؤي ، ابن قيس الرقيّات. (ت 85 ه).

يتّقي أهلها النّفوس عليها

فعلى نحرها الرّقي والتّميم(1)

والنفس من الدّباغ مقدار الدّبغة ؛ والنفس الغيب ، يقال : إنّى أعلم نفس فلان ، أي : غيبه ؛ وعلى هذا تأويل الآية أي : تعلم غيبي وما عندي ، ولا أعلم غيبك. وقيل : إنّ النفس العقوبة ، من قولهم : أحذّرك نفسي ؛ أي : عقوبتي ؛ ومنه : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي : عقوبته. وروي ذلك عن ابن عبّاس والحسن.

وقيل : معناه : ويحذّركم الله إياه. وقد روي عن الحسن ومجاهد في الآية ما قلناه.

أقول : النفس في الأصل ذات الشي ، ثمّ قيل للقلب نفس أيضاً ، لأنّ النفس به تقوم ، وقيل للروح نفس وللدّم نفس ، لأنّ قوامهما بالدم ، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه ، ونفس الرجل أي عين وحقيقة أصيبت نفسَه ، وأمّا الخبرُ فمعناه أنَّ من ذكرني في نفسه جازيته على ذكره لي ، وإذا تقرّب إليّ شبراً جازيته على تقرّبه ، وكذا إلى آخر الخبر ، فسمّي المجازاة على الشيء باسمه اتّساعاً ، نحو : (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(2).

18 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (إذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ)(3) الآية ؛ فقال : ).

ص: 284


1- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيّات : 195.
2- الشورى : 40.
3- الأحزاب : 10. تمام الآية : (إذْ جاؤُوْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا).

كيف تبلغ القلوب الحناجر مع كونهم أحياءً؟ ومعلوم أنّ القلب إذا زال عن موضعه المخلوق فيه مات صاحبه في الحال وعن أيّ شيء زاغت الأبصار وبأيّ شيء تعلّقت ظنونهم بالله؟

الجواب : قيل له : في هذه الآية وجوه :

منها : أن يكون المراد بذلك أنّهم جبنوا وفزع أكثرهم لمّا أشرف المشركون عليهم ، وخافوا منهم ، ومن عادة الجبان عند العرب إذا اشتدّ خوفه أن تنتفخ رئته ، وليس يمتنع أن تكون الرئة إذا انتفخت رفعت(1) القلب ، ونهضت به إلى نحو الحنجرة. وهذا التأويل ذكره الفرّاء وغيره ، وابن عبّاس.

أقول : وهو بعيد بل محال ، لأنّ القلب لا يبلغ إلى هناك على كلّ حال ، وأيضاً فهناك لا يسعه ، وأيضاً كانت تحترق الحنجرة والرقبة وما حولهما بحرارتها المفرطة ، وكان يشتعل الدماغ وتبرد الأعضاء السفلانية ، ويفسد البدن ويهلك. وأيضاً إنّ الرئة مرتبطة والقلب مرتبط برباطات محكمة تربطهما وتوثقهما في مكانهما الطبيعي(2) ، ولو تغيّرا عن أمكنتهما الطبيعية فسدا وفسد بفسادهما البدن كلاًّ(3). ).

ص: 285


1- م / ر : (رفع) ؛ غير أنّه في الأمالي : (رفعت) ، وهذا أفضل.
2- م / ر : (الطبع) ، والصحيح (الطبيعي).
3- هذه الجمل فيها بعض التشويش في الضمائر في النسختين ، وهي : (وأيضاً إن الرئة مرتبطة والقلب مرتبط برباطات محكمة تربطهما وتوثقهما في مكانها الطبيعي ، ولو تغيّر عن أمكنتها الطبيعية فسدا وفسد بفسادها البدن كلاًّ).

ومنها : أنّ القلوب توصف بالوجيب والاضطراب في أحوال الفزع والهلع ، فيكون معنى الآية على هذا التأويل أنّ القلوب لما اتّصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر لشدّة القلق.

أقول : هذا أيضاً جواب ضعيف.

ومنها : أن يكون المعنى : كادت القلوبُ من شدّة الرّعب والخوف تبلغ الحناجرَ ، وإن لم تبلغ في الحقيقة ، فألغي ذكر (كاد) لوضوح الأمر فيه ، ولفظ (كادت) هنا للمقاربة.

أقول : والأولى أن يكون قوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)كناية عند العرب(1) عن شدّة الخوف والفزع ، وإن لم تبلغ على الحقيقة ولا يحتاج إلى تقدير (كادت).

وأمّا قوله : (زاغَتِ الأَبْصارُ) فمعناه : زاغت عن النظر إلى كلّ شيء فلم يلتفت إلاّ إلى عدوِّها. ويجوز أن يكون المراد ب- : (زاغت عن النظر)(2) أي جارت(3) ومالت عن القصد والنظر دهشاً وتحيراً.

فأمّا قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ، معناه : أنّكم تظنّون مرّةً أنّكم تنصرون وتظهرون على عدوّكم ، ومرّةً أنّكم تبتلون بالتخلية بينكم ).

ص: 286


1- ر : (عبد العزيز) بدل (عند العرب).
2- ر : (عن النظر).
3- ر : (حارت).

وبينهم.

ويجوز أيضاً أن يريد تعالى أنّ ظنونكم اختلفت ، وظنّ المنافقون منكم خلافَ ما وعدكم الله من النصر ، وظنّ المؤمنون ما يطابق وعد الله لهم.

أقول : وهو المراد ، والله أعلم أنّ به ظنّ بعضكم وهم المنافقون وضعفاء اليقين الظنون الفاسدة. والظنّ هنا بمعنى التهمة والمؤمن لا يتّهم الله وقد فرّج الله عنهم بعليّ عليه السلام ، وقتله لعمرو بن ودّ ، وعرفنا أنّه ما خاف من ذلك بمبارزته وقتله ، وهذه فضيلة لم ينلها المتقدّمون عليه ، وإلى الخلافة يسابقوه ، وما سابقوه في بدر ولا الأحزاب ويوم أحد ، وولّوا ولم يثبت غيره من الأصحاب ، فعلى عقولهم ورؤوسهم التراب ، فإنّهم لم يعرفوا صحباً من الأنساب.

19 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)(1)

فقال : إذا كان السّبات هو النومَ ؛ فكأنّه قال : وجعلنا نومَكم نوماً ، وهذا لا فائدة فيه.

الجواب : قيل له : في هذه الآية وجوه :

منها : أن يكون المراد بالسّبات الراحة والدّعة ، قيل : وأصل السّبات 9.

ص: 287


1- النبأ : 9.

التمدّد ؛ يقال :

سبتت المرأة شعرها إذا حلّته من العقص وأرسلته ، قال الشاعر(1) :

وإن سبّتته مال جثلا(2)

كأنّه

.................................(3)

ومنها : أن يكون المراد بذلك القطع ؛ لأنّ السبت القطع ، والحلق ، فيكون المعنى : جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم وتصرّفكم.

ومنها : أن يكون المراد بذلك أنّا جعلنا نومكم سباتاً ليس بموت ؛ لأنّ النائم قد يفقد من علومه وقصده وأحواله أشياء يفقدها الميّت ؛ فأراد تعالى أن يمتنّ علينا بأن جعل نومنا الّذي يضاهي بعض أحوال الميّت ليس بموت على الحقيقة.

أقول : يتعطّل فيه جميع القوى الظاهرة الخمس والباطنة الخمس(4) عدا المخيلة ، فإنّه لا تبطل(5) عملها يقظة ونوماً ، وعداً القوّة الطبيعية ، فإنّها تقوى بالنوم.أ.

ص: 288


1- الشعر ليزيد بن أبي عبيد السُّلمي المعروف بأبي وجزة السعدي. (ت 130 ه) نشأ في بني سعد ، فغلب عليه نسبهم.
2- م : (حبلا).
3- المصرع الثاني : (سدى واهلات من نواسج خثعما). الجثل من الشعر : ما كشف وأسود ؛ شبّه شعرها في وقت الإرسال بسدى ثياب مسترخيات مرسلات. والنواسج : جمع ناسجة ، وخثعم : قبيلة.
4- م : (الباطنة الخمس).
5- م : (فإنّها تبطل) ، وهو خطأ.

وقد يمكن في الآية وجه آخر ، وهو أنّ السّبات ليس كلّ نوم ، وإنّما هو من صفات النوم الممتدّ الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم : إنّه مسبوت ، وبه سبات ؛ ولا يقال ذلك في كلّ نائم ، فلا يكون معناه : وجعلنا نومكم نوماً. والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدّاً طويلاً ظاهراً ، لما في ذلك من المنفعة والراحة ؛ لأنّ التهويم والغرار لا يكسبان الراحة والمنفعة.

أقول : هذا الوجه الأخير هو الوجه ، لأنّ النوم الطويل المستغرق من أنفع الأشياء للبدن ، به ينهضم الطعام ، ويزال النصب والتعب ، وكثير من الأمراض والأوجاع بالنوم الخفيف والتململ ، ولهذا قال الأطبّاء : والتململ من أردى الأشياء وأضرّها للنفس البدن بخلاف المستغرق. ويكون الوجه هو الأوّل لأنّه تعالى منّ علينا بالنوم السّبات ، وهو الراحة من النصب والسّبات مرض.

20 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِ ما غَشِيَهُمْ)(1).

فقال : ما الفائدة في قوله : (ما غَشِيَهُمْ) ، و (غَشِيَهُمْ) يدلّ؟

الجواب : فيه أوجه : ).

ص: 289


1- طه : 78 ؛ وتمام الآية : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُم).

أحدها : أن يكون المعنى : فغشيهم من ماء اليمّ البعضُ الّذي غشيهم ، لأنّه لم يغشَهم جميعُ مائه ، بل غشيهم بعضُه ، فقال : (ما غَشِيَهُمْ) ؛ ليدلّ على أنّ الّذي غرّقهم بعضُ الماء ، وأنّهم لم يغرقوا بجميعه ؛ واعتمد هذا الوجه الفرّاء ، وابن الأنبارىّ.

وثانيها : أن يكون المعنى : فغشيهم من اليمّ ما غشِي موسى وأصحابه ؛ لأنّ موسى وأصحابه ، وفرعون وأصحابه سلكوا جميعاً البحرَ ، وغشيهم كلّهم ؛ إلاّ أنّ فرعون وأصحابه لمّا غشيهم غرّقهم ، بخلاف موسى وأصحابه ، ويكون الهاء في قوله : (ما غَشِيَهُمْ) كناية عن موسى وقومه.

وثالثها : أنّه غشيهم من عذاب اليمّ وإهلاكه ما غشِي الأمم السالفة من العذاب والهلاك عند تكذيب أنبيائهم.

ورابعها : أن يكون المعنى : فغَشِيَهم من قبل اليمّ ما غشيهم من العطب والهلاك ؛ فيكون لفظة (غَشِيَهُمْ) : الأولى للبحر والثانية للهلاك والعطب اللذين لحقاهم من قبل البحر.

ويمكن في الآية وجهٌ آخرُ لم يذكر فيها ، وهو واضح لائق بمذاهب العرب في استعمالهم مثلَ هذا اللفظ ، وهو أن يكون الفائدة في قوله تعالى : (ما غَشِيَهُمْ) تعظيم الأمر وتفخيمه ؛ كما يقول القائل :

فعل فلان ما فعل ، وأقدم على ما أقدم ، إذا أرادوا التفخيم وكما قال

ص: 290

تعالى : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ)(1) ، وكقولهم للرجل : هذا هذا(2) ، وأنت أنت ، وهم هم.

أقول : هذا الوجه هو اللائق بفصاحة القرآن وبلاغته ، وقد ذكرته في كتابي المسمّى ب(المنتجب(3) في المعاني والبيان والبديع) ، وقرّرناه وبسطنا القول فيه.

21 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)(4).

فقال : ما الفائدة في قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) ؛ وهو ما يفيد إلاّ ما يفيد (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) ؛ لأنّ مع الاقتصار على القول الأوّل لا يذهب فيهم أحد إلى أن السقف يخرّ من تحتهم؟

الجواب : قيل له : في ذلك أوجه :

أوّلها : أن يكون معنى (على) بمعنى (عن) ، فيكون المعنى : فخرّ عنهم السقف من فوقهم ؛ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته ، كما يقول القائل : اشتكى فلان عن دواء شربه ، فيكون «على» و «عن» بمعنى من ).

ص: 291


1- الشعراء : 19.
2- م/ ر : (هذا) الثاني ، ونصّ الأمالي أيضاً كما أثبتناه.
3- ر : (المنتخب).
4- النحل : 26 ؛ وتمام الآية : (قَدْ مَكَرَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُون).

أجل الدّواء ؛ كذلك يكون معنى الآية فخرّ من أجل كفرهم السّقف من فوقهم ؛ قال الشاعر :

أرمي عليها وهي فرع أجمع

...................................(1)

أراد : أرمي عنها. ولو أنّه تعالى قال على هذا المعنى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) ، ولم يقل : (مِنْ فَوْقِهِمْ) جاز أن يتوهّم متوهّم أنّ السقف خرّ وليس هم تحته.

أقول : هذا وجه ضعيف وفيه تعسّف شديد والأوّل : أنّه توكيد وله نظائر كثيرة في الكلام.

وثانيها : أن يكون (على) بمعنى اللام ؛ والمراد : فخرّ لهم السقف ؛ فإنّ (على) يقام مقام اللام ؛ وحكي عن العرب : ما أعطيك عليّ! وما أعمل عليّ!(2) ما يريدون : ما أعطيك ، وما أعمل لي!

ويقولون : تداعت على فلان دارُه ، واستهدم(3) عليه حائطه ، ولا يريدون أنّه كان تحته ؛ فأخبر تعالى بقوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) عن فائدة ؛ لولاه ما فهمت. والعرب لا يستعملون لفظة (على) في مثل هذا الموضع إلاّ في الشرّ ، ).

ص: 292


1- الشاعر مجهول ، وتمام البيت أورده ابن السكّيت متمثّلاً به في هذا التقارض المعنوي بين عن وعلى ، وتمام البيت : أرمي عليها وهي فرع أجمع وهي ثلاث أذرع وإصبع (إصلاح المنطق : 310).
2- الأمالي : (ما أغيظك عليّ وما أغمّك عليّ).
3- م : (استهدمت).

ويستعملون اللام وغيرها(1) في خلافه ؛ ألا ترى أنّهم لا يقولون : عمرت على فلان ضيعته ، ولا : ولدت عليه جاريته ؛ بل يقولون : عمرت له ضيعته ، وولدت له جاريته ؛ وهكذا من شأنهم إذا قالوا : (قال عليّ) ؛ و (روى عليّ) ؛ فإنّه يقال في الشرّ والكذب. وفي الخير والحقّ يقولون : (قال عنّي) و (روى عنّي) ؛ ومثله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ)(2) ، ولو كان خيراً لقيل : عنه ، وقال : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3) ، وقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(4).

[أقول :] لا يخفى ما فيه من التعسّف البارد والإضمار لغير الكلام والكلّ خلاف الأصل.

وثالثها : أن يكون (مِنْ فَوْقِهِمْ) تأكيدا للكلام وزيادة في البيان ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(5) ، والقلب لا يكون إلاّ في الصدر ؛ وقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(6) وقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(7). لا

ص: 293


1- م : (في غيرها).
2- البقرة : 102.
3- آل عمران : 75.
4- يونس : 68.
5- الحج : 46.
6- الأنعام : 38 ؛ وتمام الآية : (وَما مِنْ دَابَّة فِي الأَرْضِ وَلا طائِر يَطيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).
7- البقرة : 196 ؛ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا

22 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)(1).

فقال : أيّ معنى لقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) ومعلوم أنّه لا يكون إلاّ بالأفواه(2)؟

الجواب : قلنا : القول يحتمل معنيين في كلام العرب :

أحدهما : القول باللّسان ، والآخر القول بالقلب ، فالقول الّذي يضاف إلى القلب هو الظّنّ والاعتقاد ، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهبَ الظّن ، وقالوا : أتقول عبد الله خارجاً؟ أي تظنّ. قال الشاعر(3) : ).

ص: 294


1- التوبة : 30. وتمام الآية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
2- م : (بأفواه).
3- البيت لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي القرشي ، أبي الخطّاب ، المعروف بعمر بن أبى ربيعة (ت 93 ه).

.......................

فمتى تقول الدّار تجمعنا(1)!

أراد : متى تظنّ؟ فلمّا كان القول يستعمل في الأمرين معاً أفاد قوله تعالى : (بِأَفْواهِهِمْ) قصر المعنى على ما كان باللسان دون القلب ، فلو أطلق جاز أن يتوهّم المعنى الآخر :

وممّا يشهد لذلك قوله : (إذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(2) ، فلم يكذّب الله تعالى قول ألسنتهم : لأنّهم لم يخبروا بأفواههم إلاّ بالحقّ ، بل كذّب ما يرجع إلى قلوبهم من الاعتقادات.

ووجه آخر : وهو أن يكون الفائدة في قوله تعالى : (بِأَفْواهِهِمْ) أنّ القول لا برهان عليه ، وأنّه باطل كذب لا يرجع فيه إلاّ إلى مجرّد القول باللسان ؛ والمعنى أنّه قول لا يعضده حجّة ولا برهان ، ولا يرجع فيه إلاّ إلى اللسان.

ووجه آخر : أن يكون الفائدة فيه التأكيد ، فقد جرت به عادة العرب في كلامهم ، وما تقدّم من الوجهين أولى ؛ لأنّ حمل كلامه تعالى على الفائدة أولى.

أقول : إنّه يفيد أنّه كذب ليس له أصل ، وأنّه قول عظيم ومهما أتى 1.

ص: 295


1- الشطر الأوّل : أمّا الرّحيل فدون بعد غد. (ديوان عمر بن ربيعة : 394)
2- المنافقون : 1.

ماضياً(1) فإنّ مثل هذا إنّما يقال لعظيم الأمر فأقامه(2) مقام الحال.

23 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوح وَعاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ)(3).

فقال : أيّ معنى لردّ الأيدي في الأفواه؟ وأيّ مدخل لذلك في التكذيب بالرسل؟

الجواب : قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أن يكون إخباراً عن القوم(4) بأنّهم ردّوا أيديهم إلى أفواههم ، عاضّين عليها غيظاً وحنقاً على الأنبياء ، كما يفعله المتوعّد لغيره ، المبالغ في معاندته ؛ وهذه عادة معروفة في المغيظ المحنق أنّه يعضّ على أصابعه ، ويفرك أنامله ، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى.

وثانيها : أن يكون الهاء في الأيدي للكفّار ، والهاء في الأفواه للرسل ؛ فكأنّهم لمّا سمعوا وعظ الرسل وإنذارهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل ، ما ي.

ص: 296


1- في م / ر : غير واضح.
2- ر : (وفخامة) بدل (فأقامه).
3- إبراهيم : 9.
4- م/ ر : (القول) ، وأثبتنا (القوم) عن الأمالي.

تعيّن لهم من الكلام كما يفعل المسكّت منّا لصاحبه ، والرّادّ لقوله.

وثالثها : أن تكون الهاء في الأيدي والتي في الأفواه معاً للرسل ؛ والمعنى أنّهم كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم ، ويقطعوا(1) كلامهم.

ورابعها : أن يكون الهاءان جميعاً يرجعان إلى الكفّار فيكون المعنى أنّهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدي أنفسهم على أفواههم ، مشيرين لهم بذلك إلى الكفّ عن الكلام والإمساك عنه ؛ كما يفعل من يريد منّا أن يسكّت غيره ، ويمنعه من الكلام ، من وضع إصبعه على فم نفسه.

وخامسها : أن يكون المعنى : فردّوا القول بأيديهم إلى أفواه الرّسل ، أنّهم كذّبوهم ، ولم يصغوا إلى أقوالهم ، فالهاء الأولى للقوم ، والثانية للرسل ؛ والأيدي إنّما ذكرت مثلاً وتأكيداً ؛ كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده ، أي وقع الهلاك به من جهته ، لا من جهة غيره.

وسادسها : أنّ المراد بالأيدي النعم وفِي محموله على الباء ، والهاء الثانية للقوم المكذّبين والتي قبلها للرّسل ، والتقدير : فردّوا بأفواههم نعم الرّسل ؛ أي ردّوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الّتي لو قبلوها كانت نعماً عليهم.

ويجوز أن يكون الهاء التي في الأيدي الكفّار ، لأنّها نعم من الله تعالى ا.

ص: 297


1- م / ر : «ليسكتونهم ويقطعون» ، وما أثبتناه صحيح والأمالي هكذا.

عليهم ، فيجوز إضافتها إليهم وحمل لفظة (فِي) على معنى (الباء) جائز لقيام بعض الصّفات مقام بعض ؛ يقولون : رضيت عنك ، ورضيت عليك.

وسابعها : وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر ، قال : المضمرون في قوله : (أَيْدِيهِمْ) الرسل ، وكذلك المضمرون في ، (أَفْواهِهِمْ) ، والمراد باليد هاهنا ما نطق به الرسل من الحجج والبيّنات ؛ واليد تقع على النعمة وعلى السلطان ، وعلى الملك ، وعلى العهد والعقد ؛ والّذي أتى به الأنبياء قومهم هو الحجّة والسلطان ، وهو النعمة ، وهو العهد ، فكلّ ذلك يقع عليه اسم اليد. ولمّا كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنّما يخرج من أفواههم ، فردّوه وكذّبوه.

وقيل : إنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم ، أي إنّهم ردّوا القول من حيث جاء.

24 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)(1).

فقال : كيف يصحّ القول بأنّها رجعت عليه وهي لم تخرج من يده؟

الجواب : قلنا : في ذلك وجوه : ).

ص: 298


1- البقرة : 210 ؛ وتمام الآية : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فيَ ظُلَل مِنَ الْغَمامِ والْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور).

أحدها : أنّ الناس في دار المحنة والتكليف ، وقد يغترّ(1) بعضهم ببعض ، فيعتقدون فيهم أنّهم يملكون جرّ(2) المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم ، وقد يعبد قوم الأصنام وغيرها ، ويجعلونهم شركاء لله في استحقاق العبادة ؛ فإذا جاء الآخرة ، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الظنّ ، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع غير الله سبحانه فردّوا إليه أمورَهم ، وانقطعت آمالهم من غيره ، وعلموا أنّ الّذي كانوا عليه من عبادة غيره ، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور ، فقال تعالى : (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) لهذا المعنى.

وثانيها : أن يكون معنى الآية أنّ الأمور كلّها لله ، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقيّ ؛ وقد تقول العرب : رجع إليّ من فلان مكروه ، بمعنى صار إليّ منه ؛ ولم يكن سبق إليّ قبل هذا الوقت ، وكذلك يقولون : قد عاد عليّ من فلان كذا ، وإن وقع منه على سبيل الابتداء ، فحمل الآية على هذا المعنى سائغ جائز.

وثالثها : أنّا علمنا أنّه تعالى ملّك العباد في دار التكليف أموراً تنقطع بانقطاع التكليف ، فيريد تعالى برجوع الحكم إليه انتهاء ما ذكره من الأمور التي ملكها غيره إليه وحده في الآخرة. ).

ص: 299


1- م : (تغير).
2- م / ر : (خبر) أو (خير).

ويمكن في الآية وجه آخر(1) ؛ وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمور تنتهي إلى ألاّ يكون موجود قادر غيره ، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء ، لأنّ قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة ، وبعد إفنائهم هكذا تصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى ، وهو رجوع حقيقيّ ، لأنّه عاد إلى ما كان عليه متقدّماً.

ويحتمل أيضاً أنّ المراد بذلك أنّ إلى(2) قدرته يعود المقدور ، لأنّ ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض الباقية ترجع إلى قدرته ، ويصحّ منه إيجاده بعوده إلى ما كان عليه ، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر ، وإن كانت باقية.

25 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)(3).

فقال : أيّ معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة على الحقيقة ، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟

الجواب : قيل له : في الآية وجوه : 9.

ص: 300


1- م / ر : (وجوه أخر).
2- م : (إلى).
3- البقرة : 189.

أوّلها(1) : ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تُقضَ له ، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت ، ولم يدخل من بابه تطيّراً ، فدلّهم تعالى أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه ، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه ، وقد نهى النبيّ عليه السلام عن التطيّر.

وثانيها : أنّ العرب إلاّ قريشا كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر ، وإن كانوا من أهل المدر بقوا في بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه ، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت ؛ فنهاهم عن ذلك ، وأعلمهم أنّه لا معنى ، وأنّه ليس من البرّ وأنّ البرّ غيره.

وثالثها : أنّ المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله ، وتلتمسوه من غير بابه ، (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ، معناه : واطلبوا الخير من وجهه ، ومن عند أهله. ذكره أبو عبيدة.

ورابعها : جواب أبي عليّ الجبّائيّ ، أن يكون الفائدة فيه ضرب المثل ، وأراد : ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته ؛ لأنّ إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حدّ الصواب والبرّ إلى الإثمّ والخطأ ، وبيّن الله أن البرّ التقوى ، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها ، وجعل ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلاً ؛ لأنّ العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه. ).

ص: 301


1- م : (أنّ).

وخامسها : أن يكون البيوت كناية عن النساء ، ويكون المعنى : وأتوا النساء من حيث أمركم الله ، والعرب تسمّي المرأة بيتاً ؛ قال الشاعر :

..............................

أكبر غيّرني أم بيت(1).

أراد بالبيت : المرأة.

وممّا يمكن أن يكون شاهداً لجواب أبي عليّ وأبي عبيدة قول الشاعر :

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

يحتمل أن يريد : إنّي لا آتي الأمور من غير وجهها ، ويحتمل أيضاً أنّي لا أطلب الخير إلاّ من أهله ، ويحتمل وجهاً آخر ؛ وهو أن يريد أنّني لا أقصد البيت للرّيبة والفساد ، لأنّ من شأن أولئك أن يعدل عن أبوابها طلباً لإخفاء(2) أمره.

أقول : ويحتمل أنّه أراد : ليس من البرّ أن تقدّموا المفضول على الفاضل كما جرى مع أبي بكر وعليّ عليه السلام ، ولكنّ البرّ من اتّقى وأمّا البيت من بابه عليّ أتى الأمر من وجهه ، وهو تقديم الفاضل على المفضول ، ومنه : (أنا مدينة العلم وعليّ بابها). ويجب أن يدخل في الدين من بابه وهو عليّ لا من غيره ، فإنّ من دخل البيت من غير بابه سمّي سارقاً. ).

ص: 302


1- قد أورده أبو علي القالي بدون عزو إلى أحد ، وإنّما قال : قال الراجز : ما لي إذا أنزعها صأيت أكبر غيّرنى أم بيت (الأمالي : 32) وصأيت : صحت.
2- ر : (للإخفاء).

26 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(1).

فقال : أيّ تمدّح في سرعة الحساب ، وليس بظاهر وجه المدحة؟

الجواب : قلنا : في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون المعنى أنّه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم ، فإنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخّر.

وثانيها : أن يكون المراد أنّه تعالى يحاسب الخلق جميعاً في أوقات يسيرة ، ويقال : إنّ مقدار ذلك مقدار حلب شاة ؛ لأنّه تعالى لا يشغله محاسبة غيره ؛ بل يكلّمهم جميعاً ويحاسبهم جميعاً على أعمالهم في وقت واحد ؛ وهذا أحد ما يدلّ على أنّه ليس بجسم ، وأنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة.

أقول : إنّه لا يحتاج في جميع الأفعال كالنظر والسمع إلى آلة ، فلو عمّم السند كان أجود من التخصيص.

وثالثها : أنّ المراد بالآية أنّه سريع العلم بكلّ محشور.

ورابعها : أنّه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ وذلك لأنّه يسأل 2.

ص: 303


1- البقرة : 202.

في وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة ، فيجزي كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته ، فيوصل إليه عند مسألته ما يستوجبه بحدٍّ ومقدار ؛ فأعلمنا أنّه سريع الحساب ، أي سريع القبول للدعاء بغير احتباس(1) وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه الداعي.

ويمكن في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبةَ الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها ، ويكون الفائدة في الإخبار بسرعة الحساب الإخبار عن وقت الساعة ؛ كما قال : سَرِيعُ الْعِقابِ.

وهذا غير(2) الجواب الأوّل ؛ لأنّ الأوّل مبنيّ على أنّ الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال ، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة ، والمقابلة بالأعمال.

والجواب الثاني اعتمده أبو عليّ الجبّائي ، والثالث والرابع ضعيفان.

27 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِساب)(3). ).

ص: 304


1- م : (اختصاص).
2- م / ر : (عن).
3- البقرة : 212. وتمام الآية : (زُيِّنَ لِلَّذينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابُ).

فقال : أيّ تمدّح في الإعطاء بغير حساب؟

الجواب : قلنا : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن تكون الفائدة أنّه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه ، فالحساب هنا يرجع إلى المرزوق لا إليه تعالى ؛ لقولهم : ما كان كذا وكذا في حسابي ، أي لم أؤمّله ، وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف ؛ لأنّ الرزق(1) إذا لم يكن محتسباً كان أهنأ له وأحلى ؛ وقد رُوِي أنّه عَنَى بها أموال بني قريظة والنّضير ، وأنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال ، على أسهل الأمور.

وثانيها : أن يرزق من يشاء بغير حساب ، رزقاً غير مضيّق ولا مقتّر ؛ ويكون نفي الحساب فيه نفي التّضييق ، والعرب تسمّي العطاء القليل محسوباً.

وثالثها : أنّ المعنى : يرزق من يشاء من غير طلب للمكافأة ولا فائدة أو منفعة تعود إليه تعالى.

أقول : هذا الوجه ليس في اللفظ ما يدلّ عليه كما ترى.

ورابعها : ما أجاب به قطرب ، أنّه يعطي العدد الكثير ممّا لا يضبطه الحساب ، أو يأتي عليه العدد ، لأنّ مقدّره لا يتناهى ، وما في خزائنه لا ينحصر ، ولا ينفد. ).

ص: 305


1- م : (لا إليه تعالى ؛ لقولهم : ... بأحسن الأوصاف ؛ لأنّ الرزقِ).

أقول : وهذا الوجه جيّد حسن ، لأنّ(1) المقصود من(2) التمدّح التعظيم.

وخامسها : أنّه يعطي عباده في الجنّة من النعيم واللّذات أكثر ممّا استحقّوا.

وسادسها(3) : أنّ الله تعالى إذا رزق العبد كان الحساب ساقطاً من جهة الناس ، فليس لأحد أن يقول له : لم رزقت؟ ولا يقول لربّه : لم رزقته؟

ولا يسأله ربّه عن الرزق ، إنّما يسأله عن إنفاقه.

وسابعها : أن يكون المراد ب- (مَنْ يَشاءُ) أهلَ الجنّة ، لأنّه يرزقهم رزقاً لا يحصره الحساب من حيث إنّه لا نهاية له ولا انقطاع ، ويطابق هذه الآية قوله : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِساب)(4).0.

ص: 306


1- م : (كأنّ).
2- م / ر : (و).
3- ما جاء به الوجه السادس هو الوجه السابع واهمل الوجه السادس فنورده برمته عن الأمالي : (يكون المعطى منّا غيره شيئا والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك ، فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه ، ولا يؤاخذ به ، ولا يحاسب عليه ؛ وربما لم يكن له ذلك ، فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به ، ويحاسب عليه ، فنفى الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح ، وما ليس له أن يفعله بنفي الحساب عنه ، وأنبأ أنّه لا يرزق ولا يعطي إلاّ على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذمّ ؛ وتجرى الآية مجرى قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)[الأنبياء : 23] ، وإنّما أراد أنّه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلّها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها وإن سئل العباد عن أفعالهم ، لأنّهم يفعلون الحسن والقبيح معا). (أمالي المرتضى : 1/394)
4- غافر : 40.

28 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكياً عن شعيب : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا)(1).

فقال : أليس هذا تصريحاً منه بأنّ الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح ؛ لأنّ ملّة قومه كانت كفراً ، وقد أخبر(2) أنّه لا يعود فيها إلاّ أن يشاء الله؟

الجواب : قيل له : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن تكون الملّة التي عناها إنّما هي العبادات الشرعيّات التي كان قومه متمسّكين بها ؛ وهي منسوخة عنهم ، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته ؛ وممّا لا يجوز أن تختلف العبادة(3) فيه ، والشرعيّات يجوز فيها اختلاف العبادة(4) ؛ من حيث تبعث المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين ؛ فكأنّه قال : إنّ ملتكم لا نعود فيها ؛ مع علمنا ).

ص: 307


1- الأعراف : 89 ؛ وتمام الآية : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فيها إلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيء عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحينَّ).
2- م : (أخبر).
3- م / ر : (العادة).
4- م / ر : (العادة).

بأنّه قد نسخها وأزال حكمها إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها.

أقول : هذا ضعيف ، لأنّ الملّة لا تطلق على العبادات ، إنّما تطلق على الدين ، والحق أنّ (نعود) بمعنى (نصير) ، وأن الله لا يشاء الكفر فلا يكون ذلك أبداً.

وثانيها : أنّه أراد ذلك لا يكون أبداً من حيث علّقه بمشيئة الله تعالى لأنّه لا يشاؤه ؛ لقوله تعالى : (لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) الآية(1).

وثالثها : ما ذكره قطرب من أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وأنّ الاستثناء من الكفّار وقع ؛ فكأنّه تعالى قال حاكياً عن الكفّار : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا)(2) ، إلاّ أن يشاء الله أن تعود في ملّتنا ؛ ثمّ قال حاكياً عن شعيب : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) على كلّ حال.

ورابعها : أن تعود الهاء في قوله : (منها)(3) إلى القرية لا إلى الملّة ؛ ويكون تلخيص الكلام : إنّا سنخرج من قريتكم ، ولا نعود فيها إلاّ أن يشاء الله.

وخامسها : أن يكون المعنى : إلاّ أن يشاء الله أن يردّكم إلى الحقّ ، فنكون جميعاً في ملّة واحدة.

وسادسها : أن يكون المعنى : إلاّ أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا ، ".

ص: 308


1- الأعراف : 40.
2- الأعراف : 88.
3- الأمالي : "فيها".

ويحكم بينكم وبيننا ، فنعود إلى إظهارها مكرهين ؛ ويقوّي هذا الوجهَ قوله تعالى : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ)(1).

وسابعها : أن يكون المعنى إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بإظهار ملّتكم مع الإكراه ؛ لأنّ إظهار كلمة الكفر قد تحسن في بعض الأحوال إذا تعبّد الله تعالى بإظهارها ؛ وقوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) يقوّى هذا الوجه أيضاً.

فإن قيل : كيف يجوز ذلك للنبيّ؟

قلنا : يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه ؛ فكأنّه قال : وما يكون لي ولا لأمّتي أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّد أمّتي(2) بإظهار ملّتكم على سبيل الإكراه ؛ وهذا جائز غير ممتنع.

29 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ)(3) الآية. ).

ص: 309


1- الأعراف : 88.
2- م : (منّي).
3- البقرة : 102 ؛ والآية : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاق وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَُ).

فقال : كيف ينزل الله السّحر على الملائكة؟ وكيف يعلم الناس السّحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنّه بإذنه ، وهو تعالى نهى عنه ، وحذّر من فعله؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم ، بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) ، ثمّ قال : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟

الجواب : قلنا : في الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون ما في قوله : (وَما أُنْزِلَ) بمعنى الّذي ، فكأنّه تعالى خبر عن طائفة من أهل الكتاب ، بأنّهم اتّبعوا ما تكذب فيه الشياطين على ملك سليمان ، وتضيفه إليه من السّحر ؛ فبرّأه الله من قرفهم ، وأكذبهم في قولهم ، فقال : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعمال السّحر والتمويه على الناس ، ثمّ قال : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، وصف السحر وماهيّته وكيفيّته والاحتيال(1) فيه ؛ ليعرفا ذلك ويعرّفاه الناس فيجتنبوه ويحذروا منه ، كما أنّه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ، ووصف لنا أحوال القبائح لنجتنبها لا لنواقعها ؛ لأنّ الشياطين كانوا إذا علموا ذلك استعملوه ، وأقدموا على فعله ؛ والمؤمنين لمّا عرفوا اجتنبوه وامتنعوا باطّلاعه على كيفيته ، ثمّ قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد) يعني الملكين ، ومعنى (يُعَلِّمانِ) يعلمان ، والعرب يستعمل لفظة (علّمه) بمعنى أعلمه ، قال القطاميّ(2) : ).

ص: 310


1- الأمالي : (كيفية الاحتيال).
2- القطامي التغلبي ، عُمير بن شُييم بن عمرو بن عبّاد ، من بني جُشَم بن بكر ، أبو سعيد ، التغلبي الملقب بالقطامي (ت 130ه).

تعلّم أنّ بَعدَ الغىِّ رُشدا

...........................(1)

وقال كعب بن زهير(2) :

تَعَلَّمْ رَسُولَ اللّهِ أنّكَ مُدرِكي

وأنَّ وَعيدًا منكَ كالأخذِ باليَدِ(3)

أي : (اعلم) ؛ والّذي يدلّ على أنّه هاهنا الإعلام لا التعليم قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ، أي أنّهما لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته إلاّ بعد أن يقولا : إنّما نحن محنة ، وإنّما كانا محنة ، من حيث ألقيا إلى المكلّفين أمراً لينزجروا عنه ، وليمتنعوا من مواقعته ، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه ، فقالا لمن يطلعانه على ذلك : لا تكفر باستعماله ، بل اجتنبه ، ثمّ قال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، أي فيعرفون من جهتهما ما يستعلمونه في هذا الباب ؛ وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك ؛ ولهذا قال : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) ؛ لأنّهم لمّا قصدوا بتعليمه أن يفعلوه ويرتكبوه ، لا أن يجتنبوه صار ذلك بسوء اختيارهم ضرراً عليهم.

وثانيها : أن يكون (ما أُنْزِلَ) موضعه موضع جرٍّ ، ويكون معطوفاً 8.

ص: 311


1- الشطر الثاني : وأنّ لتانك الغبر انقشاعاً. (ديوان القطامي : 35).
2- هو كعب بن زهير بن أبي سلمى ، المازني ، أبو المضرَّب. (ت 26 ه) وهو من أعرق الناس في الشعر : أبوه زهير بن أبي سلمى ، وأخوه بجير وابنه عقبة وحفيده العوّام كلهم شعراء. وقد كَثُر مخمّسو لاميته في مدح الرسول (ص) وترجمت إلى غير العربية.
3- ديوان كعب بن زهير : 18.

بالواو على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) والمعنى : واتّبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان ، وعلى ما أنزل على الملكين ، أي معهما ، وعلى ألسنتهما ؛ كما قال تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)(1) أي على ألسنتهم ومعهم.

وليس بمنكر أن يكون (ما أُنْزِلَ) معطوفاً على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) ، وإن اعترض بينهما من الكلام ما اعترض ؛ لأنّ ردّ الشيء إلى نظيره ، وعطفه على ما هو أولى هو الواجب ، وإن اعترض بينهما ما ليس منهما ؛ لقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً)(2) وكقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية(3) ، ف(المسجد الحرام) معطوف على (الشهر).

ثمّ قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) ، والمعنى أنهما لا يعلّمان أحداً ، بل ينهيان عنه ، ويبلغ من نهيهما عنه وصدّهما عن استعماله أن يقولا : (إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) باستعمال السحر والإقدام على فعله ، ثمّ قال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، وليس يجوز أن يرجع الضمير إلى الملكين ؛ وكيف يرجع ).

ص: 312


1- آل عمران : 194.
2- الكهف : 1 ، 2.
3- البقرة : 217 ؛ وهي (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتال فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

إليهما وقد نفى عنهما التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر ، وقد تقدّم السحر ، وتقدّم ما يدلّ على الكفر في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) كقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشىَ وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى)(1) ، أي يتجنّب الذكرى.

ويجوز أيضاً أن يكون معنى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) بدلاً ممّا علّمهم الملكان ، ويكون المعنى أنّهم يعدلون عمّا علّمهم ووقّفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلّمه واستعماله ؛ كقولك : ليت لنا من كذا أي بدلاً منه ، وقوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ؛ فيه وجهان :

أحدهما : أن يكونوا يغرون أحد الزوجين ، ويحملونه على الكفر فيفارق بذلك زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه ، فيفرّق بينهما اختلاف النّحلة والملّة.

والوجه الآخر : أن يسعوا بين الزّوجين بالنميمة والوشاية والإغراء والتمويه بالباطل ؛ حتّى يؤول أمرهما إلى الفرقة.

وثالثها : أن يحمل ما في قوله : (وَما أُنْزِلَ) على البغي ، فكأنّه قال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ، ولا أنزل الله السّحر على الملكين ، (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) ويكون على هذا التأويل هاروت وماروت رجلين ، ويكون الملكان المذكوران جبرائيل وميكائيل ؛ لأنّ اليهود تدّعي أن 1.

ص: 313


1- الأعلى : 10 - 11.

الله أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل وإلى سليمان ، فأكذبهم بذلك.

ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين ، كأنه قال : ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ؛ وشاع ذلك كما شاع قوله : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ)(1) ، يعني حكم داود وسليمان.

ويكون قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد حَتَّى يَقُولا) راجعاً إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين ، أو من الإنس المتعلّمين السحر من الشياطين والعاملين به. ومعنى قولهما : (إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) على طريق الاستهزاء والتماجن والتخادع ، ويجوز أيضاً على هذا التأويل الّذي يتضمّن النفي أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ، ونفى عنهما إنزال السحر لقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ويكون قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد) يرجع إلى فئتين من الجنّ أو إلى الشياطين الجنّ والإنس.

وقد روي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عبّاس وغيره من المفسّرين. وروي عنه أيضاً أنّه كان يقرأ : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام ، ويقول : متى كان العلجان ملكين! إنّما كانا ملكين ؛ وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَد إ ليهما).

أقول : وهذه القراءة قراءة الحسن البصري وجماعة من التابعين.

فأمّا قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)8.

ص: 314


1- الأنبياء : 78.

فيحتمل وجوهاً :

الأوّل : أن يريد بالإذن العلم ، من قولهم : آذنت فلاناً بكذا إذا أعلمته ، وأذنت لكذا إذا استمعته وعلمته ، قال الشاعر :

في سماع يأذن الشّيخ له

وحديث مثل ماذيّ مشار(1)

والثاني : أن يكونّ إلاّ زائدة ، فيكون المعنى : وما هم بضارّين به من أحد بإذن الله.

والثالث : أن يكون أراد بالإذن التخلية وترك المنع ، وكأنّه أفاد(2) بذلك أنّ العباد لن يعجزوه ، وما هم بضارّين أحداً إلاّ بأن يخلّي الله بينهم وبينه ، ولو شاء لمنعهم بالقسر والقهر ، زائداً على منعهم بالزجر والنهي.

والرابع : أن يكون الضرر المذكور إنّما هو ما يحصل من التفريق بين الأزواج ؛ لأنّه أقرب إليه ؛ والمعنى أنّهم إذا أغروا أحد الزوجين ، فكفر فارقته زوجته وبانت منه ، فاستضرّ بذلك كانوا ضارّين له بما حسّنوه له من الكفر ، إلاّ أنّ الفرقة لم تكن إلاّ بإذن الله وحكمه ؛ ويقوّي هذا الوجه أنّه كان من دين سليمان ؛ أنّه من سحر بانت منه زوجته.

وأمّا قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاق) ، ).

ص: 315


1- البيت لعدي بن زيد ، أورده ابن عبد ربه. (العقد الفريد ، 6 : 263). وهو عدي بن زيد بن حمّاد بن زيد العبادي التميمي. (ت 36 ق. ه). الماذي : العسل الجيّد ؛ المشار : المجتني.
2- ر : (أراد).

ثمّ قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ففيه وجوه :

أوّلها : أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، ويكون الذين علموا الشياطين والذين لم يعلموا هم الذين تعلّموا السحر ، وشروا به أنفسهم.

وثانيها : أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا ؛ إلاّ أنّهم علموا شيئاً ولم يعلموا غيره ، فكأنّه وصفهم بأنّهم عالمون بأنّه لا نصيب(1) لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة ، ولم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من عقاب الله الّذي لا انقطاع له.

وثالثها : أن يكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنّهم لم يعملوا بما علموا ، فكأنهم لم يعلموا.

ورابعها : أن يكون المعنى أنّ هؤلاء الّذين قد علموا أن الآخرة لا حظّ لهم فيها مع عملهم القبيح ، إلاّ أنّهم ارتكبوا طمعاً في حطام الدنيا وزخرفها.

30 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)(2).ءَ

ص: 316


1- الأمالي : (يصيب).
2- آل عمران : 7 ؛ والآية : : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ

الجواب : قلنا : فيه وجهان :

الأوّل : أن يكون الراسخون معطوفين(1) على الله تعالى ؛ فكأنّه قال : وما يعلم تأويله إلاّ الله وإلاّ(2) الراسخون في العلم ، وإنّهم مع علمهم به (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، والمعنى أنّهم يعلمونه قائلين : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وهذا غاية المدحة لهم ؛ لأنّهم إذا علموا ذلك بقلوبهم ، وأظهروا التصديق به على ألسنتهم فقد تكاملت مدحتهم ، ويشهد بذلك قول يزيد(3) :

الرّيح تبكي شجوه

والبرق يلمع في الغمامة(4)

فعطف البرق على الريح ، ثمّ أتبعه بقوله : (يلمع في الغمامة) ؛ فكأنّه قال : والبرق أيضاً يبكيه لامعاً في غمامه.

الثاني : أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفاً غير معطوف ، ثمّ أخبر عنهم أنّهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، ويكون المراد بالتأويل على هذا الجواب المتأوّل ، لأنّه قد يسمّى تأويلاً ، قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ).

ص: 317


1- م / ر : (معطوفون) وهو خطأ.
2- م / ر : (إلاّ).
3- هو يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري. المعروف بيزيد بن مفرغ (ت 69 ه) من أصل يمني من قبيلة يحصب.
4- البيت ذكره ابن فارس وفيه (غمامة) بدون ال. (الصاحبي في فقه اللغة : 181).

إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)(1) ، والمراد المتأوّل ، والمتأوّل الّذي لا يعلمه العلماء ؛ وإن كان تعالى عالماً به ، كنحو وقت الساعة ، ومقادير الثواب والعقاب ، وصفة الحساب ، وتعيين الصغائر ؛ إلى غير ذلك ؛ فكأنّه قال : وما يعلم تأويل جميعه. على المعنى الّذي ذكرناه إلاّ الله ؛ والعلماء يقولون آمنّا به.

وقد قوّى أبو عليّ الجبائي هذا الوجه ، وضعّف الأوّل.

قال السيّد : لو قيل : إنّ الجواب الأوّل أقوى من الثاني لكان أولى.

أقول : لأنّ القرآن إنّما أنزل ليعلم معانيه ويعمل بما فيه فإذا لم تعلم معانيه لم يعمل بما فيه ، فيكون مهملاً تعالى عن ذلك ، وأمّا إذا فهم أهل العلم الراسخون معانيه وعلّموها الناس كان قد عمل بما أنزل له فتعظم فوائده ويحصل الثواب العظيم بذلك.

ويمكن في الآية وجه ثالث لم يذكروه ، وهو أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفاً غير معطوف ، ويكون المعنى : وما يعلم تأويل المتشابه بعينه وعلى سبيل التفصيل إلاّ الله ؛ وهذا صحيح.

لأنّ أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحقّ ، الموافقة لأدلّة العقول ؛ فيذكر المتأوّل جميعها ، ولا يقطع على مراد الله منها بعينه ، لأنّ الّذي يلزم في ذلك أن يعلم في الجملة أنّه لم يرد من المعنى ما يخالف 3.

ص: 318


1- الأعراف : 53.

الأدلّة ؛ وأنّه قد أراد بعض الوجوه المذكورة المتساوية في الجواز ، الموافقة للحقّ. وليس من تكليفنا أن نعلم المراد بعينه ؛ وهذا مثل الضلال والهدى اللّذين يتبيّن احتمالهما لوجوه كثيرة ؛ منها ما يخالف الحقّ فيقطع أنّه لم يرده ، ومنها وجوه تطابق الحقّ ، فيعلم في الجملة أنّه قد أراد أحدها ، ولا يعلم المراد منها بعينه ، ويكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) الآية ، أي صدّقنا بما نعلمه مفصّلاً ومجملاً من المحكم والمتشابه ؛ وأنّ الكلّ من عند ربّنا.

31 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)(1).

فقال : لم خصّ (اليوم) بالقول ، وإنّما أراد العفو عنهم في جميع مستقبل أوقاتهم؟

الجواب : قلنا : فيه وجوه :

أوّلها : أنّه لمّا كان هذا الوقت الّذي أشار إليه هو أوّل أوقاته التي كشف فيها نفسه لهم ، أشار إلى الوقت الّذي لو أراد الانتقام لابتدأ به فيه ؛ والّذي متى عفا فيه لم يراجع الانتقام.

وثانيها(2) : أنّ ذكر (اليوم) المراد به الزمان والحين ، فوضع (اليوم) في

ص: 319


1- يوسف : 92 ؛ والآية : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
2- هذا هو الوجه الثالث في ترتيب الأمالي للوجوه ، وفيما يلي الوجه الثاني كما في

موضع الزّمان كلّه ، المشتمل على الليالي والأيّام والشهور والسنين ؛ ولا يريد يوماً بعينه ؛ مثله :

اليومَ يَرحَمُنا مَن كانَ يَغبِطُنا(1)

وَاليَومَ نَتبَعُ مَن كانوا لنا تَبَعا(2)

لم يرد يوماً بعينه.

وثالثها : أن يكون المراد : لا تثريب عليكم البتّة ، ثمّ قال : (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) ؛ فتعلّق (اليوم) بالغفران ، وكان المعنى ، (غفر الله لكم اليوم).

وقد ضعّف قوم هذا الجواب من جهة أنّ الدعاء لا ينصب ما قبله.

وأمّا معنى التثريب فقال أبو عبيدة : معناه لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد.

وقال ثعلب : يقال : ثرّب فلان على فلان ، إذا عدّد عليه ذنوبه. وقال ).

ص: 320


1- م : (يعطينا).
2- قالته عجوز هي جارية الحجّاج على قبره. أورده الجاحظ والزبير بن بكّار. (البيان والتبيين ، جاحظ 3 : 122 ؛ الأخبار الموفّقيّات : 475).

أبو مسلم : التثريب مأخوذ من الثّرب(1) ، فكأنّه موضوع للمبالغة في اللوم والتعنيف.

32 - تأويل آية

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى : (خُلِقَ الإِنْسانُ مِنْ عَجَل سَأُوْرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(2).

الجواب : فيه وجوه :

أوّلها : أن يكون المعنى المبالغةَ في وصف الإنسان بكثرة العجلة ، وأنّه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور ، ولهم عادة في استعمال مثل هذا اللفظ عند المبالغة ؛ كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم : ما خلقت إلاّ من نوم ، وما خلق فلان إلاّ من شرّ ؛ وما فلان إلاّ أكل وشرب. قال الشاعر :

.............................

فإنّما هي إقبال وإدبار(3)

يصف بقرة وإنّما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الإقبال والإدبار منها.

ويشهد له : (وَكانَ الإنْسانُ عَجُولا)(4) ، ويطابقه : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ). 1.

ص: 321


1- وهو شحم الجوف.
2- الأنبياء : 27.
3- الشعر للخنساء تصف بقرة ، وقد تقدم ذكره.
4- الإسراء : 11.

وثانيها : ما أجاب به أبو عبيدة وقطرب وغيرهما من أنّ في الكلام قلباً ، المعنى : خلق العجل من الإنسان ، واستشهد عليه بقوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)(1) ، أي قد بلغت الكبر ، وبقوله : (ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(2) ، والمعنى : إنّ العصبة تنوء بها ، وبقولهم : عرضت الناقة على الحوض.

ويقال لصاحب هذا الجواب : ما المعنى والفائدة في قوله : «خلق العجل من الإنسان»؟ يريد أنّه تعالى خلق في الإنسان العجلة؟ فهذا لا يجوز ؛ لأنّ العجلة فعل من أفعال(3) الإنسان ، فكيف يكون مخلوقة فيه لغيره! ولو كان كذلك لما نهاهم عن الاستعجال ، لأنّه لا ينهاهم عمّا خلقه فيهم.

فإن قالوا : لم نرد أنّه خلقها ؛ لكنّه أراد كثرة فعل الإنسان لها ، قيل لهم : هذا هو الجواب المتقدّم من غير حاجة إلى القلب والتقديم والتأخير ، لأنّ القلب مجازاً أوّلاً ، ثمّ هو من أبعد المجاز ، وذكر العجل والمراد به غيره مجاز آخر ، وأقامة من مقام(4) في مجاز(5).

وثالثها : جواب الحسن ، قال : عنى بقوله : (مِنْ عَجَل) ، أي من ضعف ، وهي النّطفة المهينة ، وهذا قريب إن كان العجل الضعف لغةً.

أقول : ولم ينقل عن أئمّة اللغة ذلك ، وأيضاً الضعف عرض والإنسان ).

ص: 322


1- آل عمران : 40.
2- القصص : 76.
3- م / ر : (فعل) بدل (أفعال).
4- م : (أقامه مقام).
5- الأمالي : (لأنّ القلب) إلى نهاية الجملة (في مجاز).

جوهر من الخلق منه.

ورابعها : جواب أبي الحسن الأخفش ، وهو : أنّ المراد أنّ الإنسان خلق من تعجيل من الأمر ؛ لأنّه تعالى قال : (إنَّما قَوْلُنا لِشَيء) الآية(1).

أقول : هذا لا يختصّ بالإنسان والمقام للاختصاص.

وخامسها : قيل : العجل الطين ، فكأنّه قال : خلق الإنسان من طين ، واستشهد بقول الشاعر :

والنَّبعُ في الصَّخرَةِ الصَّمَّاءِ مَنبِتُه

وَالنَّخلُ يَنبُتُ بَينَ الماءِ وَالعَجَلِ

وقد حكى صاحب كتاب العين عن بعضهم أنّ العجل الحمأة(2).

والبيت رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ ، ولا يوافق هذا الجواب قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ، وكان الوجه الأوّل أشبه بسياق الكلام وبحال الإنسان.

وسادسها : أن يكون المراد بالإنسان آدم عليه السلام ، ومعنى (مِنْ عَجَل) أي في سرعة من خلقه ، لأنّه لم يخلقه من نطفة فما بعدها كما خلق غيره ، وإنّما ابتدأه ابتداءً ، فكأنّه تعالى نبّه بذلك على الآية العجيبة في خلقه له.

وسابعها : ما روي أنّ الله خلق آدم بعد خلق كلّ شيء آخر ، نهار الجمعة على سرعة ، معاجلاً به غروب الشمس.

وروي أنّه لمّا نفخت فيه الروح ، بلغت أعالىَ جسده ، ولم تبلغ ).

ص: 323


1- النحل : 40 ، والآية : (إنَّما قَوْلُنا لِشَيْء إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
2- الحمأة : الطين الأسود المتغيّر المجتمع أسفل البئر (مجمع البحرين ج1 ص107).

أسافله ، قال : يا ربّ استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.

وثامنها : ما روي عن ابن عبّاس أنّ آدم لمّا جعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان مبادراً إلى ثمار الجنّة - وقيل : بل همّ بالوثوب - فهذا معنى (خُلِقَ الإِنْسانُ مِنْ عَجَل).

33 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) الآية(1).

فقال : هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية من أنّ يوسف عزم على المعصية وأرادها ، وأنّه جلس مجلس الرجل من المرأة ، ثمّ انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب عاضّاً على إصبعه ، متوعّداً له على مواقعته المعصية ، أو بأن نودي بالنهي والزّجر في الحال على ما ورد به الحديث؟

الجواب : قلنا : قد ثبت بأدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء فلذلك صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنّة إلى ما يطابق أدلّة العقل ويوافقها ، كما يفعل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما يدلّ عليه العقول من صفاته تعالى ، وما يجوز عليه أو لا يجوز.

ولهذه الآية وجوه من التأويل ؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ الله من ).

ص: 324


1- يوسف : 24 ؛ والآية : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

العزم على الفاحشة وإرادة المعصية :

أوّلها : أنّ الهمّ في ظاهر الآية متعلّق بما لا يصحّ أن يعلّق به العزم أو الإرادة على الحقيقة ؛ لأنّه قال : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ، فعلّق الهمّ بهما ، وذاتاهما لا يجوز أن يراد أو يعزم عليهما ؛ لأنّ الموجود الباقي لا يصحّ ذلك فيه ، فلا بدّ من تقدير محذوف يتعلّق(1) العزم به ؛ وقد يمكن أن يكون ما تعلّق به همّه إنّما هو ضربها أو دفعها عن نفسه ، كما يقول القائل : كنت هممت بفلان ، وقد همّ فلان بفلان ؛ أي بأن يوقع به ضرباً أو مكروهاً.

فإن قيل : فأيّ معنى لقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟

قلنا : يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنّه لمّا همّ بدفعها وضربها أراه الله برهاناً على أنّه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو ضربوه(2) ، أو أنّها تدّعي عليه المراودة على القبيح أو تعرّفه بأنّه دعاها إليه ، وأنّ ضربه لها كان لامتناعها ، فيظنّ به ذلك ، فأخبر الله أنّه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء ، يعني بذلك القتل والمكروه اللّذين كانا يوقعان به ، أو يعني بالسوء والفحشاء ظنّهم به ذلك.

فإن قيل : هذا الجواب يقتضي جواز تقدّم جواب لَوْلا ، وتقديره : لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بضربها ودفعها ، وتقدّمه قبيح. ).

ص: 325


1- م / ر : (ويتعلق).
2- م : (اومن يوه) بدل (أو ضربوه).

قلنا : تقديمه جائز ، كما يذكره ، غير أنّا لا نحتاج إليه في هذا الجواب ، لأنّ العزم على الضرب والهمّ به قد وقع ، إلاّ أنّه انصرف عنه بالبرهان ؛ والتقدير : ولقد همّت به وهمّ بدفعها لو لا أن رأى برهان ربّه لفعل ذلك ، فالجواب محذوف.

وثانيها : أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويكون تلخيصه :

ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ؛ ويجري ذلك مجرى قولهم : قد كنت هلكت لو لا(1) أنّي تداركتك ، وقتلت لو لا أنّي خلّصتك ، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل ؛ وقد استشهد عليه أيضاً بقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)(2) والهمّ لم يقع لمكان فضل الله ورحمته.

وممّا يشهد لهذا التأويل أنّ في الكلام شرطاً ؛ فكيف يحمل على الإطلاق معه؟ وليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفاً مقدّراً لأنّ جعل جوابها موجوداً أولى.

وثالثها : ما اختاره الجبّائيّ - وهو أن يكون هَمَّ بِها ، اشتهاها ، ومال طبعه إلى ما دعته إليه. ويجوز أن تسمّى الشهوة في مجاز اللغة همّاً ؛ كما ).

ص: 326


1- ر : (أو لا).
2- النساء : 113 ؛ الآية : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيء وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظيماً).

يقول القائل فيما لا(1) يشتهيه : ليس هذا من همّي ، وهذا أهمّ الأشياء إليّ ؛ ولا قبح في الشهوة لأنّها من فعل الله تعالى فيه ؛ وإنّما يتعلّق القبح بتناول المشتهى.

قال الحسن : أمّا همّها فكان أخبث الهمّ ، وأمّا همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء ، ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، متعلّقاً بمحذوف ؛ كأنّه قال : لو لا أنّ رأى برهان ربّه لعزم أو فعل.

ورابعها : أنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم ما يقع عنده في الأكثر ، وعلى هذا لا ينكر أن يكون المراد ب- (هَمَّ بِها) خطر بباله أمرها ، ووسوس إليه الشيطان بالدعاء إليها ، من غير أن يكون هناك همّ أو عزم ، فسمّي الخطور بالبال همّا من حيث كان الهمّ في الأكثر يقع عنده ، والعزم في الأغلب يتبعه.

وإنّما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسّرين ، ورموا(2) به نبيّ الله ، لما في العقول من الأدلّة على أنّ مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء ؛ من حيث كان منفّراً عنهم ، وقادحاً في الغرض من إرسالهم ؛ والقصّة تشهد بذلك ؛ لأنّه قال : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا ، ثمّ الأخذ فيه ، والشروع في مقدّماته ؛ وقوله : (إنَّهُ مِنْ عِبادِنَا ).

ص: 327


1- م/ ر : (لا).
2- ر : (فرقوا) ، والأمالي : (قرفوا).

الْمُخْلَصِينَ) يقتضي تنزيهه ؛ عن الهمّ بالزّنا ، والعزم عليه. قوله : (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوء)(1) ، يدلّ على براءته من القبيح.

وأمّا البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفاً لطف الله له به في تلك الحال أو قبلها ، اختار عنده الانصراف عن المعصية ، والتنزّه عنها. ويحتمل أن يكون ما ذكره الجبائيّ ، وهو أن يكون البرهان دلالة الله له على تحريم ذلك عليه ، وعلى أنّ من فعله يستحقّ العقاب. والحمد لله على حسن التوفيق.

34 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)(2).

فقال : إذا كانت المحبّة عندكم هي الإرادة ، فهذا تصريح من يوسف بإرادة المعصية ؛ لأنّ حبّه في السجن ، وقطعه عن التصرّف معصية من فاعله ؛ وقبيح من المقدّم عليه. وقوله من بعد : (وَإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) يدلّ على أنّ امتناعه من القبيح مشروطٌ بمنعهنّ وصرفهنّ عن كيده ؛ وهذا بخلاف مذهبكم ، لأنّكم تذهبون إلى أنّ ذلك لا يقع منه ؛ صرف النّسوة ).

ص: 328


1- يوسف : 51.
2- يوسف : 33 ؛ والآية : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

عن كيده ، أو لم يصرفهنّ.

والجواب : أمّا قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ففيه وجهان :

الأوّل : أنّ المحبّة متعلّقة في ظاهر الكلام بما لا يصحّ في الحقيقة أن يكون محبوباً مراداً ؛ لأنّ السجن إنّما هو الجسم ، والأجسام لا يجوز أن يريدها ؛ وإنّما يريد الفعل فيها ، أو المتعلّق بها ؛ فالسجن نفسه ليس بطاعة ولا معصية ، وإنّما الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصي بحسب الوجوه التي يقع عليها ؛ وإدخال القوم يوسف السجن ، وإكراههم له على دخوله معصية منهم ؛ وكونه فيه وصبره على ملازمته ، طاعة منه.

فإن قيل : كيف يجوز أن يقول : (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) ، وهو لا يحبّ ما دعوه إليه جملة ؛ ومن شأن مثل هذه اللفظة أن تدخل بين ما وقع فيه اشتراك في معناها ؛ وإن فضّل البعض على البعض؟

قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع ؛ وإن لم يكن في معناها اشتراك على الحقيقة ، ألا ترى أنّ من خيّر بين ما يحبّه وبين ما يكرهه جائز أن يقول : هذا أحبّ إليّ من هذا ، وإن لم يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخيّر : هذا أحبّ إلى من هذا.

وممّا يقارب ذلك قوله : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ)(1) ، 5.

ص: 329


1- الفرقان : 15.

ونحن نعلم أنّه لا خير في العقاب ؛ وإنّما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار المعاصي على الطاعات ، وأنّهم ما ارتكبوا المعاصي وآثروها على الطاعات إلاّ لاعتقادهم أنّ فيها خيراً ونفعاً ، فقيل : أذلك خير ، أم كذا؟

وقد قال قوم في قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) : إنّما حسن ذلك لاشتراك الحالين في باب المنزلة ، وإن لم يشتركا في الخير والنفع ، كما قال : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا)(1) ، ومثل هذا فيأتي في قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) ؛ لأنّ الأمرين - أعني المعصية ودخول السجن - مشتركان في أنّ لكلٍّ منهما داعياً ، وعليه باعثاً ، وإن لم يشتركا في تناول المحبّة ، فجعل اشتراكهما في داعي المحبّة اشتراكاً في المحبّة نفسها وأجري اللّفظ على ذلك.

ومن قرأ السجن بفتح السين فالتأويل أيضاً ما ذكرناه.

والثاني : أن يكون معنى (أَحَبُّ إِليّ) أي أهون عندي وأسهل عليّ.

وأمّا قوله : (وَإلاّ تَصْرِفْ) الآية ، فليس المعنى ما ظنّه السائل ؛ بل المراد : متى لم تلطف لي صبوت ؛ وهذا منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والتسليم لأمره ، وأنّه لو لا معونته ولطفه ما نجا من كيدهنّ ؛ والنبيّ إنّما يكون معصوماً بعصمته تعالى له وبلطفه وتوفيقه. 4.

ص: 330


1- الفرقان : 24.

ومعنى الكلام : وإلاّ تصرف عنّي ضرر كيدهنّ والغرض به.

35 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) إلى قوله : (الْجاهِلِينَ)(1).

فقال : ظاهر قوله : (إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) يقتضي تكذيب (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) والنبيّ لا يجوز عليه الكذب ، وكيف أخبر عن ابنه بأنّه (عَمَلٌ غَيْرُ صالِح)؟ الجواب : قلنا : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول نفي النّسب ، وإنّما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله بنجاتهم ؛ لقوله : (وَأَهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)(2) ، فاستثنى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق! ويدلّ عليه قول نوح : (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) ، وقد روي هذا التأويل عن ابن عبّاس وجماعة.

وثانيها : أن يكون المراد ب- (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي أنّه ليس على دينك ؛ وأراد أنّه كان كافراً ؛ ويشهد له قوله على طريق التعليل(3) : (إنَّهُ عَمَلٌح.

ص: 331


1- هود : 45 ، 46 ؛ وهما : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْني مِنْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ * الْحاكِمين قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِح فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلين).
2- هود : 40.
3- ر : (التقليل) ؛ م : (التقليد) ، وما أثبتناه عن الأمالي صحيح.

غَيْرُ صالِح).

وثالثها : أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة ؛ وإنّما ولد على فراشه ، فقال : إنّه ابني على ظاهر الأمر ؛ فأعلمه الله أنّ الأمر بخلاف الظاهر ، ونبّهه على خيانة امرأته ؛ فليس في ذلك تكذيب لخبره ، لأنّه إنّما أخبره عن ظنّه(1) ، وعمّا(2) يقتضيه الحكم الشرعيّ ، وأخبره الله بالغيب الّذي لا يعلمه غيره ؛ وروي هذا عن الحسن وغيره.

وهذا الوجه بعيد إذ فيه منافاة للقرآن ؛ لقوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، ولأنّ الأنبياء يجب أن ينزّهوا عن مثل هذا الحال ؛ لأنّها تعرّ وتشين وتغضّ(3) من القدر ؛ وقد جنّب الله تعالى أنبياءه ما هو دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ، ونفياً لكلِّ ما ينفّر عن القبول منهم.

أقول : وكذلك لمّا قذفت مارية أم إبراهيم بابن عمّها نزّهها الله بما أنزل في حقّها من أوّل سورة النور ، وبأن أطلع الله على ابن عمّها أنّه ليس له ذكر ، وقيل : المقذوف عائشة بابن المعطّل ، لما قلنا : والأوّل أصحّ طريقاً ، لأنّ طريقة أصحابنا ولأنّها مارية ما صدر منها ما صدر من عائشة من بغضها بني هاشم وبغض عليّ والزهراء وولداها عليهم السلام ولما وقع منها ما وقع في ).

ص: 332


1- ر : (على).
2- ر : (على وما).
3- ر : (تغصّ) ؛ م : (تنقض). وغَضَّ منه ، يَغُضُّ بالضم : إذا وضع ونقص من قدره. يقال : ليس عليك في هذا الأمر غَضاضَةٌ ، أي ذِلَّةٌ ومنقصةً. (الصحاح : غضض).

حرب الجمل ، وقتل ستّة عشر ألفاً بسببها ، بسبب ركبانها ووقوفها عمارية العسكر ، وماتت وما تابت ، ولو تابت ما فادها وقد قتل بسببها ستّة عشر ألفاً.

وقد حمل ابن عبّاس قوله تعالى (امْرَأَةَ نُوْح وَامْرَأَةَ لُوْط ... فَخانَتاهُما) على أن الخيانة لم تكن منهما بالزّنا ، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنّه مجنون ؛ والأخرى تدلّ على الأضياف.

فأمّا قوله : (إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِح) فالقراءة المشهورة بالرفع ، وقرئ : (عَمِلا غَيْرَ صالِح)(1) ؛ فأمّا وجه الرفع فيكون على تقدير أنّ ابنك ذو عمل غير صالح ؛ لقول الخنساء :

.............................

فإنّما هي إقبال وإدبار(2)

أي : ذات إقبال وإدبار.

وقيل : الهاء في (إنَّهُ) راجعةٌ إلى السؤال ؛ والمعنى : إنّ سؤالك إيّاي ما ليس لك به علم عمل غير صالح ، ومن منع أن يقع من الأنبياء شيء من القبائح ، يدفع هذا الجواب ، ويقول : الهاء راجعة إلى الابن.

ولا يمتنع أن يكون نهي عن سؤال ما ليس له به علم ؛ وإن لم يقع منه وأن يكون تعوّد من ذلك وإن لم يواقعه ؛ ألا ترى أنّه تعالى نهى نبيّه عن الشّرك ؛ وإن لم يكن ذلك قد وقع منه ؛ ويكون نوح إنّما سأله نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع. ه.

ص: 333


1- بنصب اللام وكسر الميم ونصب (غير).
2- تقدّم ذكره.

[أقول :] الأحسن في الجواب أن يقال : إنّه لمّا قال : إنّ ابني من أهلي ، أي الذين وعدتني بإنجائهم ، فقال تعالى : إنّه ليس منهم ، إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين الذين لا يتدبّرون الأقوال ، فإنّي وعدتك أن أنجي المؤمنين لا أهلك مطلقاً المؤمنين والكافرين ، وكان ابنه كافراً وكان من طبع الوالدين محبّة الولد ، ومحبّة الولد داعية إلى ذلك.

فأمّا القراءة بفتح اللام فقد ضعّفها قوم وقالوا : كان يجب أن يقول : إنّه عمل عملاً غير صالح ؛ لأنّ العرب لا تكاد تقول : (هو يعمل غير حسن) ، حتّى يقولوا : عملاً غير حسن ، وليس وجهها بضعيف في العربية ؛ لأنّ من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ؛ قال عمر المخزوميّ :

أيّها القائلُ غيرَ الصوابِ

أخِّرِ النُّصحَ وأقلِلْ عِتابِي(1)

وأنشد أبو عبيدة :

كم مِن ضَعيفِ العقلِ مُنتكِثِ القُوَى

ما إنْ له نَقضٌ ولا إبرامُ

مالَت له الدُّنيا عَلَيه بأسرِها

فَعَليهِ مِن رزقِ الإلهِ رُكامُ(2)

أراد : كم إنسان ضعيف.

36 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ).

ص: 334


1- شرح ديوان عمر بن ابي ربيعة : 424.
2- أنشده أبو عبيدة لرجل من بجيلة. (الأمالي ، 1 : 506).

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَِ)(1).

فقال : كيف يعذّبهم بالأموال والأولاد ، ومعلوم أنّ لهم فيها سروراً ولذّة؟ وما تأويل قوله تعالى : (وَهُمْ كافِرُونَ) وظاهره يقتضي أنّه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم؟

الجواب : قلنا : أمّا التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه :

الأوّل : ما روي عن ابن عباس وقتادة ، وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون التقدير : فلا يعجبك يا محمّد ولا يعجب المؤمنين أموال هؤلاء الكفّار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا ؛ إنّما يريد الله ليعذّبهم بها في الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها ؛ واستشهد بقوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ)(2) ، والمعنى : فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثمّ تولّ عنهم.

وقد اعتمد الوجه قطرب ، والزجّاج وأبو القاسم البلخيّ.

[أقول :] أمّا الاستشهاد في الآية(3) فلابدّ من هذا التقدير ، لأنّ المعنى عليه لا يصحّ لأنّه بخلاف الآية المذكورة.

والثاني : أن يكون المعنى التعذيبَ بالأموال والأولاد في الدّنيا هو ما ).

ص: 335


1- التوبة : 55.
2- النمل : 28.
3- ر : (في الآية الاستشهاد).

جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبي أولادهم واسترقاقهم ؛ ففي ذلك إيلام لهم ، واستخفاف بهم ، وإنّما أراد بذلك إعلام نبيّه والمؤمنين أنّه لم يرزق الكفّار الأموال والأولاد ؛ ولم يبقها في أيديهم كرامة لهم ، ورضىً عنهم ؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك ، وأنّهم مع هذه الحالة معذّبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه ، فلا يُغبَطون ، ويُحسَدون(1) عليها ؛ إذا كانت هذه عاجلهم ، والعقاب الأليم في النار آجلهم ؛ وهذا جواب أبي عليّ الجبائيّ.

فإن قيل : كيف يصحّ هذا التأويل ، مع أنّا نجد كثيراً من الكفّار لا ينالهم أيدي المسلمين ، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم ، ونجد أهل الكتاب أيضاً خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ قلنا : لا يمتنع أن تختص الآية بالكفّار الذين لا ذمّة لهم ولا عهد.

أقول : الأصل التخصيص وإجراء الكلام على عمومه فلا يصحّ هذا التأويل.

وأمّا الذين لا ينالهم أيدي المسلمين ، وهم من القوّة على حدّ لا يتمّ معه غنيمة أموالهم ؛ فلا يقدح الاعتراض بهم في هذا الجواب ، لأنّهم ممّن أراد الله تعالى أن يسبى ويغنم ، ويجاهد ويغلب ؛ وإن لم يقع ذلك ؛ وليس في ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنّه غير مراد. ن.

ص: 336


1- م / ر : فلا يغبطوا ويحسدوا ، والأصل في الأمالي : (فيجب ألاّ يغبطوا ويحسدوا) ، فإذا حذف الناصب فلا داعي لحذف النون.

والثالث : أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله في الدنيا من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي هي لهؤلاء الكفّار والمنافقين عقاب.

أقول : ويحصل أيضاً بإصلاحها وإحراسها وحفظها من السلاطين الظالمين الأوّل والأخر الهمّ والغمّ والعقاب ، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) : اللهمّ ارزق محمّدا الصلاة(1).

وللمؤمنين محبّة جالبة للعوض وللنفع.

ويجوز أيضاً أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته ، وعند احتضاره(2) ، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له ، وإعلامه أنّه صائر إليه.

الرابع : يحكى عن الحسن ، واختاره محمّد بن جرير الطبريّ ، وهو أن يكون المراد به ما ألزمه هؤلاء الكفّار من الفرائض والحقوق في أموالهم ؛ لأنّ ذلك يؤخذ منهم على كره ، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة ؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذاباً من حيث لا يستحقّون بها أجراً.

وهذا وجه غير صحيح ؛ لأنّ الوجه في تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن ذلك ؛ ومحال أن يكون إنّما كلّف إخراج ه.

ص: 337


1- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) : (اللَّهُمَ ارْزُقْْ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد وَمَنْ أَحَبَّ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد الْعَفَافَ وَالْكَفَافَ وَارْزُقْ مَنْ أَبْغَضَ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد الْمَالَ وَالْوَلَدَ. (الكافي ، 2 : 140).
2- م / ر : (احضاره) وفي الأمالي ما أثبتناه.

هذه الحقوق على سبيل العذاب والجزاء ؛ لأنّ ذلك لا يقتضي وجوبه عليه ؛ والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو (1) المصلحة واللطف في التكليف.

وأمّا قوله تعالى : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) فمعناه تبطل وتخرج ؛ أي يموتون على الكفر ؛ وليس يجب إذا كان مريداً لأنّ تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريداً للحال نفسها على ما ظنّوه ؛ لأنّ الواحد منّا قد يقول للطبيب : صر إليّ ولازمني وأنا مريض ، ولا يريد المرض.

وقد ذكر وجه آخر على ألاّ يكون قوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) حالاً لزهوق أنفسهم ؛ بل يكون كلاماً مستأنفاً ، أي : وهم مع ذلك كلّه كافرون صائرون إلى النار ؛ ويكون الفائدة أنّهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة.

37 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون)(2).

فقال : ما معنى يحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما قاله قوم أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله : (لِما يُحْيِيكُمْ)؟ وكيف 4.

ص: 338


1- م / ر : (هي) ، والصحيح (هو) كما في الأمالي.
2- الأنفال : 24.

تكون الحياة في إجابته؟

الجواب : أمّا قوله : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ففيه وجوه :

أوّلها : أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت ، وهذا حثّ منه على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف ، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة ويقوّى ذلك قوله : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وثانيها : أنّه يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه ، وإن كان حيّاً ، وهذا الوجه يقرب من الأوّل ؛ لأنّه حثٌّ على الطاعات قبل فوتها ، لأنّه لا فرق بين تعذّر التوبة بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.

وثالثها : أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون ؛ وأنّ الضمائر المكنونة ظاهرة له ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى :

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(1) ، ونحن نعلم أنّه لم يرد قرب المسافة ، بل المعنى الّذي ذكرناه.

وإذا كان تعالى أعلم بما في قلوبنا منّا ، وكان ما نعلمه يجوز أن ننساه ، ونسهو عنه ، وكلّ ذلك لا يجوز عليه ، جاز أن يقول : إنّه يحول بيننا وبين قلوبنا ؛ لأنّه معلوم في الشاهد أن كلّ شيء يحول بين شيئين فهو أقرب 6.

ص: 339


1- ق : 16.

إليهما.

ورابعها : ما أجاب به بعضهم ، من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم ، وقلّة عددهم ، فيدخل في قلوبهم الخوف ، فأعلمهم الله تعالى أنّه يحول بين المرء وقلبه ، بأن يبدّله بالخوف الأمن ؛ ويبدّل عدوّهم بالجبن والخوف.

قال السيّد علم الهدى رضي الله عنه : ويمكن في الآية وجه خامس ؛ وهو أن يكون المراد أنّه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح ، بالأمر والنهي والوعد والوعيد ؛ لأنّا نعلم أنّه لو لم يكلّف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع ؛ وليس يجب في الحائل أن يكون في كلّ موضع ممّا يمتنع معه الفعل ؛ لأنّا نعلم أنّ المشير منّا على غيره في أمر كان قد همّ به أن يجتنبه. يصحّ أن يقال : منعه ، وحال بينه وبين فعله.

فأمّا قوله تعالى : (إذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ففيه وجوه :

أوّلها : أن يريد به الحياة في النعيم والثواب ، لأنّها هي الحياة الطيّبة الدائمة.

وثانيها : أنّه يختصّ ذلك بالدعاء إلى الجهاد والقتال ، وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر المشركين ، وتقليل عددهم ، ويجري ذلك

ص: 340

مجرى قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(1).

وثالثها : أنّ كلّ طاعة حياة ، ويوصف فاعلها بأنّه حيٌّ ، كما أنّ المعاصي يوصف فاعلها بأنّه ميّت.

ويمكن في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون المراد الحياة في الحكم لا في الفعل ؛ لأنّا نعلم أنّه عليه السلام كان مكلّفاً مأمورا بجهاد جميع المشركين ، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيما عدا أهل الذمّة على شروطها ؛ فكأنّه قال : استجيبوا للرّسول ولا تخالفوه ، فكأنّكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء ، من حيث تُعُبِّد عليه السلام بقتالكم وقتلكم ، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء.

[أقول :] ويمكن وجه آخر وهو أن يكون المراد الحياة بالإيمان الخالص والكمالات والقيم العملية والعلمية فإنّها تكون الحياة الحقيقية الدائمة.

38 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَما تَشاؤُنَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(2).9.

ص: 341


1- البقرة : 179.
2- التكوير : 26 - 29.

فقال : أوليس ظاهرها يقتضي أنّا لا نشاء شيئاً إلاّ والله شاء له ، ولم يخصّ إيماناً من كفر ، ولا طاعة من معصية؟

الجواب : قلنا : الكلام متعلّق بما تقدّمه من ذكر الاستقامة ؛ لأنّه قال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) ثمّ قال : (وَما تَشاؤُنَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ؛ أي لا تشاءون الاستقامة إلاّ والله تعالى مريد لها ؛ ونحن لا ننكر أن يريد الله الطاعات ؛ وإنّما أنكرنا إرادته المعاصي.

وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى : (إنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلا)(1) ، (وَما تَشاؤُنَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)(2) ، وقوله تعالى : (وَما يَذْكُرُونَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)(3) ، في تعلّق الكلام بما قبله.

فإن قالوا : فالآية تدلّ على مذهبنا وبطلان مذهبكم من وجه آخر ؛ وهو أنّه تعالى قال : (وَما تَشاؤُنَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ؛ وذلك يقتضي أنّه يشاء الاستقامة في حال مشيئتنا لها ؛ لأنّ (أن) الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال ؛ وهذا يوجب أنّه يشاء أفعال العباد في كلّ حال ، ويبطل ما يذهبون إليه من أنّه إنّما يريد الطاعات في حال الأمر.

قلنا : ليس في ظاهر الآية أنّا لا نشاء إلاّ ما شاء الله في حال مشيئتنا ؛ وإنّما يقتضي حصول مشيئته لما نشاؤه من الاستقامة من غير ذكر لتقدّم ولا 6.

ص: 342


1- المزمّل : 19.
2- الإنسان : 30.
3- المدثّر : 56.

تأخّر ؛ و (أن) الخفيفة وإن كانت للاستقبال ، فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها ؛ لأنّ تقدير الكلام : وما تشاءون الطاعات إلاّ بعد أن يشاء الله تعالى ، ومشيئته لها قد كان لها حال استقبال.

ويمكن في الآية وجه آخر مع حملنا إيّاها على العموم ؛ من غير أن نخصّها بما تقدّم ذكره من الاستقامة ؛ ويكون المعنى : ما تشاءون شيئاً من أفعالكم إلاّ أن يشاء الله تمكينكم من مشيئته ، وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها.

[أقول :] وأيضاً أن يكون المعنى إلاّ أن يشاء الله بأن يلطف بكم ويحبّبكم إليه ويقدّم في نفوسكم ذلك.

ويكون الفائدة في ذلك الإخبار عن الافتقار إلى الله ؛ وأنّه لا قدرة للعبد على ما لم يقدّره الله عليه.

39 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)(1). ه؟

ص: 343


1- هود : 20 ؛ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعََ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) ، وسؤالهم : كيف نفي استطاعتهم للسمع والإبصار ، وأكثرهم قد كان يسمع بأذنه ويرى بعينه؟

الجواب : فيه وجوه :

الأوّل : أن يكون المعنى : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ؛ وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون ؛ عناداً للحقّ ، وذهاباً عن سبيله.

والثاني : أنّهم لاستثقالهم استماع آيات الله ، وكراهتهم تدبّرها وتفهّمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع ، كما يقال : ما يستطيع فلان أن ينظر إلى فلان ، وما يقدر أن يكلّمه ؛ ومعنى : (وَما كانُوا يُبْصِرُون) أي إنّ(1) أبصارهم لم يكن نافعة(2) لهم لإعراضهم عن تأمّل آيات الله وتدبّرها.

والثالث : أن يكون نفي السمع والبصر راجعاً إلى آلهتهم لا إليهم(3) ؛ وتقدير الكلام : أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض ، يضاعف لهم العذاب ؛ ثمّ قال مخبراً عن آلهتهم : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون) ، وهذا الوجه يروى عن ابن عبّاس ، وفيه أدنى بعد.

ويمكن أن يكون في الآية وجه رابع ، وهو أن يكون ما في قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ليست للنفي ؛ بل تجري مجرى قولهم : لأواصلنّك ما لاح نجم ؛ ولأقيمنّ على مودّتك ما طلعت شمس ؛ ويكون المعنى أنّ العذاب يضاعف لهم في الآخرة ؛ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ؛ أي أنّهم معذّبون ما كانوا أحياء. ).

ص: 344


1- م : (إنّ).
2- الأمالي : (إبصارهم لم يكن نافعا).
3- م : (لهم) بدل (إليهم).

40 - تأويل آية(1)

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(2)

فقال : كيف أضاف إلى نفسه اليد ؛ وهو يتعالى عن الجوارح؟

الجواب : قلنا : إن في الآية وجوهاً :

منها : أن يكون قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) جارياً مجرى قوله : «لما خلقت أنا» ، وذلك مشهور في اللغة.

ومنها : أن يكون معنى اليد النعمة ، ولا إشكال فيه.

وأمّا الوجه في تثنيتها فقد قيل فيه : إنّه أراد نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، فكأنّه قال : لنعمتي ؛ وأراد بالباء اللام.

ومنها : أن يكون اليد هنا القدرة ؛ يقول القائل : ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان ، أي : لا أقدر عليه ولا أطيقه ؛ وليس المراد بذلك إثبات قدرة على الحقيقة ؛ بل إثبات كونه قادراً ، ونفي كونه قادراً ، فكأنّه قال : ما يمنعك أن تسجد لما خلقت وأنا قادر على خلقه.

أقول : ويجوز أن يكون إنّما أضافه إلى اليدين تشريفاً له وتعظيماً بخلاف من يخلق ثمّ إنّه يحتمل الأب والأمّ مثل أولاده كما قال : (طَهِّرا ).

ص: 345


1- هذه الآية وتاويلها ليست في (م).
2- ص : 75 ؛ (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ).

بَيْتِي)(1) ، فإنّه للتشرفة ، فإنّه يجلّ عن البيت والسكنى ، لأنّه مجرّد عن الجهات كلّها.

41 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (كُلُّ شَيْء هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ)(2)

وقوله : (إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)(3).

وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ)(4).

الجواب : قلنا : الوجه في اللغة العربية ينقسم إلى أقسام :

الوجه : المعروف المركّب فيه العينان.

والوجه : أوّل الشيء وصدره ؛ ومنه قوله تعالى : (وَجْهَ النَّهارِ)(5) ، وقول الشاعر(6) : ).

ص: 346


1- البقرة : 125 ؛ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إلى إبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالْعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود).
2- القصص : 78.
3- الإنسان : 9 ؛ (إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورا).
4- الرحمن : 27 ؛ (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرامِ).
5- آل عمران : 72 ؛ (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).
6- هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان ، من قيس بن عيلان. أمّه فاطمة بنت الخرشب وهي إحدى المنجبات. (ت 33 ق. ه).

من كان مسروراً بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار(1)

والوجه : القصد في الفعل ؛ ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)(2) ؛ معناه : من قصد بأمره وفعله إلى الله ، وأراده بهما. وكذلك قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)(3).

وأنشد الفرّاء :

أستَغفِرُ اللّهَ ذَنباً لَستُ مُحصِيَهِ

رَبَّ العِبادِ إليه الوَجهُ وَالعَمَلُ(4)

أي القصد ؛ ومنه قولهم في الصلاة : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ)(5) ؛ أي قصدت قصدي بصلاتي وعملي ؛ وكذلك قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(6).

والوجه : الاحتيال للأمر ؛ من قولهم : كيف الوجه لهذا الأمر؟ وما الوجه فيه؟ أي ما الحيلة؟ 3.

ص: 347


1- الأغاني ، 17 : 128 ؛ الحماسة ، بشرح المرزوقي 995 ؛ أي غداة كلّ يوم. وقيل : وجه نهار : موضع.
2- لقمان : 22 ؛ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌّ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُور).
3- النساء : 125 ؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ ديناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهيمَ خَليلا).
4- أدب الكاتب : 524.
5- الأنعام : 79 ؛ (إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين).
6- الروم : 43.

والوجه : المذهب والجهة والناحية.

والوجه : القدر والمنزلة ؛ ومنه قولهم : لفلان وجه عريض ، وفلان أوجه من فلان ، أي أعظم قدراً وجاهاً ، ويقال : أوجهه السلطان ، أي جعل له جاهاً.

والوجه : الرئيس المنظور إليه ؛ يقال : فلان وجه القوم.

ووجه الشيء : نفسه وذاته ؛ وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ باسِرَةٌ)(1) ، وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ ناعِمَةٌ)(2) ، لأنّ جميع ما أضيف إلى الوجوه في ظاهر الآية ؛ من النظر ، والظنّ ، والرّضا لا يصحّ إضافته في الحقيقة إليها وإنّما تضاف إلى الجملة ، ومعنى قوله : (كُلُّ شَيْ ء هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ) ؛ أي إلاّ إياه ؛ وكذلك : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فان وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرامِ) ؛ وممّا يدلّ على أن المراد بوجهه نفسه قوله تعالى : (وَيَبْقىِ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرامِ) لم يقل (ذي الجلال) كما قال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرامِ)(3) ؛ لما كان اسمه غيره.

ويمكن في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْء هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ) وجه آخر ؛ وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجّه نحو القربة إليه أي كلّ فعل يقصد به غيره فهو هالك باطل.8.

ص: 348


1- القيامة : 22 - 24.
2- الغاشية : 8.
3- الرحمن : 78.

فأمّا قوله : (إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)(1) ، وقوله : (إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلى)(2) ؛ وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)(3) ؛فمحمول أن هذه الأفعال المقصود بها ثوابه ، والقربة إليه ، والزلفة(4) عنده.

فأمّا قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)(5) ، فمعناه : فثمّ الله ، لا على معنى الحلول ، ولكن على معنى التدبير والعلم ، ويحتمل أن يراد به : فثمّ رضا الله وثوابه والقربة إليه.

ويحتمل أن يراد بالوجه الجهة ، ويكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث ؛ لأنّه قال : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ؛ أي الجهات كلّها لله وتحت ملكه.

42 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(6)6.

ص: 349


1- الإنسان : 9.
2- الليل : 20.
3- الروم : 39.
4- م / ر : (الرفعة) بدل (الزلفة).
5- البقرة : 115.
6- البقرة : 186.

فقال : كيف ضمّن الإجابة وتكفّل بها ، وقد نرى من يدعو فلا يجاب؟

الجواب : قلنا : في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون المراد بقوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) أي أسمع دعوته ؛ ولهذا يقال : إنّك دعوت من لا يجيب أي دعوت من لا يسمع. وقد يكون أيضاً يسمع بمعنى يجيب ؛ كما كان يجيب بمعنى يسمع ؛ يقال : سمع الله لمن حمده ؛ يُراد به : أجاب الله من حمده وأنشد ابن الأعرابيّ :

دَعَوتُ اللّهَ حَتَّى خِفتُ ألاّ

يَكونَ اللّهُ يَسمَعُ ما أقُولُ(1)

أراد يجيب ما أقول.

وهنا وجه آخر يكون إجابته للداعي بشرط أن يكون له فيه مصلحة أو لا يكون في دعائه مصلحة أو يؤخّر الإجابة إلى وقت مصلحته أيّ وقت كان وغير ذلك.

وثانيها : أنّه تعالى لم يرد بقوله : (قَرِيبٌ) من قرب المسافة ؛ بل أراد أنّي قريب بإجابتي ومعونتي ونعمتي ، بما يأتي العبد ويذر ، وما يسرّ ويجهر ، تشبيهاً بقرب المسافة ؛ لأنّ من قرب من غيره عرف أحواله ولم يخف عليه ؛ ويكون (أُجِيبُ) على هذا تأكيداً للقرب ؛ فكأنّه أراد : إنّني قريب قرباً ).

ص: 350


1- قال ابن الانباري : أنشدنا أبوالعبّاس عن ابن الأعرابي ، (الزاهر في معاني كلمات الناس : 49) نسبه الزمخشري في ربيع الأبرار ، إلى شمير بن الحارث بن ضرار الضبّي ،(ربيع الأبرار ونصوص الأخيار ، ا2 : 386) وكذلك قال البغدادي ، وهو من رواية ابن الأعرابي وليس هو القارض. (خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب ، ن5 : 178).

شديداً ، وإنّني بحيث لا يخفى عليّ أحوال العباد ؛ وقد روي أنّ قوماً سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا(1) له : أربّنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وثالثها : أن يكون معنى الآية أنّني أجيب دعوة الداعي إذا دعاني على الوجه الصحيح ، وبالشرط الّذي يجب أن يقارن الدعاء ؛ وهو أن يدعو باشتراط المصلحة ؛ ولا يطلب وقوع ما يدعو به على كلّ حال ؛ ومن دعا بهذا الشرط فهو مجاب على كلّ حال ؛ لأنّه إن كان صلاحاً حصل ما دعا به ؛ وإن لم يكن صلاحاً لفقد شرط دعائه ، فهو أيضاً مجاب إلى دعائه.

ورابعها : أن يكون معنى دَعانِي أي عبدني ، ويكون الإجابة هي الثواب والجزاء على ذلك ؛ فكأنّه قال : إنّني أثيب العباد على دعائهم لي ؛ وهذا ممّا لا اختصاص فيه.

وخامسها : ما قاله قوم من أنّ معنى الآية أنّ العبد إذا سأل الله شيئاً في إعطائه إيّاه صلاح فعله به وأجابه إليه ، وإن لم يكن في إعطائه إيّاه في الدنيا صلاح وخيرة لم يعطه ذلك في الدنيا ، وأعطاه إيّاه في الآخرة ، فهو مجيب لدعائه على كلّ حال.

وسادسها : أنّه إذا دعاه العبد لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يجاب دعاؤه ، وإمّا أن يجاز له بصرفه عمّا سأل ودعا ، فحسن اختيار الله تعالى له ).

ص: 351


1- ر : (قال).

يقوم مقام الإجابة ، فكأنّه مجاب على كلّ حال.

ومعنى (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ، أي فليجيبوني ، قال الشاعر(1) :

وَداع دَعا يا مَن يُجيبُ إلى النَّدَى

فلم يَستَجِبْهُ عِندَ ذاك مُجيبُ(2)

أي لم يجبه.

أقول : إن الله تعالى قال : (أَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُم)(3) ومن وفى بعهد الله وفى الله بعهده ، ومن لم يوف بعهد الله لا يجب على الله أن يوفي بعهده إليه ، ففي الكلام شرط إذا حضر المشروط.

43 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)(4).

فقال : إذا كان الشجر ليس ببعض للماء كما كان الشراب بعضاً له ؛ فكيف جاز أن يقول : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) بعد قوله : (مِنْهُ شَرابٌ)؟ وما معنى (تُسِيمُونَ)؟ وهل الفائدة في هذه اللفظة هي الفائدة في قوله تعالى : 10

ص: 352


1- هو كعب بن سعد بن عمرو الغَنوي ، من بني غني من قيس بن عيلان (ت 5 ق. ه).
2- جمهرة أشعار العرب : 323.
3- البقرة : 40. (يا بَني إسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
4- النحل : 10

(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ)(1) ، وقوله : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)(2)؟.

الجواب : قلنا : في قوله : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد منه سقي شجر ، وشرب شجر ؛ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه.

والوجه الآخر : أن يكون المراد : من جهة الماء شجر ، ومن سقيه وإنباته شجر ؛ فخذف الأوّل وخلفه الثاني ، قال زهير(3) :

أمِن أمِّ أوفَى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ

بِحَومانَةِ الدُّرَّاجِ فالمُتَثَلَّمِ(4)

أراد : من ناحية أمّ أوفى.

فأمّا قوله تعالى : (فِيهِ تُسِيمُونَ) فمعناه ترعون ؛ يقال : أسام الإبل يسيمها إسامة ؛ إذا رعاها وأطلقها فرعت متفرقة حيث شاءت ؛ وسوّمها أيضاً يسوّمها من ذلك ؛ وسامت هي إذا رعت ؛ فهي تسوم ، وهي إبل سائمة ؛ ويقال : سمتها الخسف ؛ إذا تركتها على غير مرعى ؛ ومنه قيل لمن أذلّ واهتضم : ن.

ص: 353


1- آل عمران : 14.
2- هود : 83.
3- زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني ، من مُضَر. صاحب المعلّقة ، حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمّة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافّة. (ت 13 ق. ه).
4- شرح القصائد العشر : 102 ؛ هو أوّل المعلّقة ؛ الدمنة : آثار الناس وما سودوا من الرماد وغيره. ولم تبيّن : لم تكلّم. وحومانة الدرّاج والمتثلّم : موضعان.

سيم الخسف ؛ وسيم خطّة الضّيم ؛ قال الكميت في الإسامة(1) :

رَاعِيَاً كانَ مُسجِحَاً فَفَقَدنَا

هُ وَفَقدُ المُسِيمِ هُلكُ السَّوَامِ(2)

وذهب قوم إلى أنّ السّوام في البيع من هذا ؛ لأنّ كلّ واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه ، كما يذهب سوائم المواشي حيث شاءت.

وقد جاء في الحديث : «لا سومَ قبل طلوع الشّمس» فحمله قوم على أنّ الإبل وغيرها لا تُسام قبل طلوع الشّمس ؛ كيلا ينتشر ويفوت الراعي.

وحمله آخرون على أنّ السوم قبل طلوع الشّمس في البيوع مكروه ، لأنّ السّلعة المبيعة يستتر عيوبها أو بعضها ، فيدخل ذلك في بيوع الغرر المنهيّ عنها.

فأمّا الخيل المسوّمة ، فقد قيل : إنّها المعلّمة بعلامات ؛ مأخوذة من السّمة هي العلاّمة.

وقيل : المسوّمة : الحسان.

وقال آخرون : بل هي الراعية ؛ والكلّ يرجع إلى أصل واحد ، وهو معنى العلامة ، لأنّ تحسين الخيل يجري مجرى العلامة فيها.

وقد قيل : إن السّوم من الرّعي يرجع إلى هذا المعنى أيضاً ، لأنّ الراعىَ يجعل في الموضع الذي يرعاها فيه علامات. ً.

ص: 354


1- هي الإطلاق في الرّعي.
2- شعر الكميت بن زيد الأسدي ،2 : 177 ؛ مسجحاً : رفيقاً سهلاً.

وأمّا قوله في الملائكة : (مُسَوِّمِينَ) ؛ فأراد به معلّمين ، وكذا قوله : (مُسَوَّمَةً)(1) أي معلمة ؛ قيل : كان علمها كأمثال الخواتيم.

44 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(2)

فقال : كيف جاءت أَوْ بعد ما لا يجوز أن يعطف عليه؟ وما الناصب(3) ل- (يَتُوبَ)؟

الجواب : قلنا : قد ذكر في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون قوله : (أَوْ يَتُوبَ) معطوفاً على قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) والمعنى أنّه تعالى عجّل لكم هذا النصر ، وحكم به ليقطع طرفاً من الذين كفروا ، أي قطعة منهم ، وطائفة من جميعهم أو يكبتهم ؛ أي يغلبهم ويهزمهم فيخيّب سعيهم ، أو يرجعوا فيتوبوا ويؤمنوا ، فيقبل الله ذلك منهم ، ويتوب عليهم ، أو يكفروا بعد قيام الحجج ، والدلائل ، فيموتوا أو يقتلوا كافرين ؛ فيعذّبهم الله بالنار ؛ ويكون على هذا الجواب قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ) معطوفاً على قوله : (وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ؛ ).

ص: 355


1- في قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ سِجِّيل مَنْضُود).
2- آل عمران : 128.
3- م / ر : (النصب).

أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء ؛ إنّما هو من عند الله.

وثانيها : أن يكون (أَوْ) بمعنى (حتّى) ، و (إلاّ أنّ) ؛ والتقدير : ليس لك من الأمر شيء حتّى يتوب عليهم ؛ أو إلاّ أن يتوب عليهم ، يقول امرؤ القيس :

فَقُلتُ له لا تَبكِ عَينَكَ إنّما

نُحاوِلُ مُلكاً ، أو نَموتَ فَنُعذَرا(1) (2)

وهذا الجواب ضعيف من طريق المعنى ؛ لأنّ لقائل أن يقول : إنّ أمر الخلق ليس إلى أحد سوى الله تعالى قبل توبة العباد وعقابهم وبعد ذلك ؛ فكيف يصحّ أن يقول : ليس لك من الأمر شيء إلاّ أن يتوب عليهم أو يعذّبهم ؛ حتّى كأنّه إذا كان أحد الأمرين كان إليه من الأمر شيء!

ويمكن أن ينصر بأن يقال : قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ) معناه : ليس يقع ما تريده وتؤثره من إيمانهم وتوبتهم ، أو ما تريده من استئصالهم وعذابهم ، على اختلاف تأويل الآية وسبب نزولها ؛ إلاّ بأن يلطف الله لهم في التوبة فيتوب عليهم أو يعذّبهم ؛ وتقدير الكلام : ليس يكون ما تريده من توبتهم أو عذابهم بك ، وإنّما يكون ذلك بالله.

وثالثها : أن يكون المعنى : ليس لك من الأمر شيء أو من أن يتوب عليهم ؛ فأضمر (من) اكتفاء بالأولى ، وأضمر (أن) لدلالة الكلام عليها 5.

ص: 356


1- م / ر : (تُحاوِلُ مُلكاً ، أو تَموتَ فَتُعذَرا) بالخطاب والديوان وكذلك الأمالي كما أثبتناه.
2- ديوان امرئ القيس ، 2 : 425.

واقتضائه لها ، وتقدير الكلام : ليس لك من الأمر شيء من توبتهم وعذابهم. وأقوى الوجوه الأوّل.

45 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(1)

فقال : ما هذه اليد المغلولة؟ وما نرى أنّ عاقلاً من اليهود ولا غيرهم يزعم أنّ لربّه يدا مغلولة ، واليهود تتبرّأ من أن يكون فيها قائل كذلك(2) ؛ وما معنى الدعاء عليهم ب- (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، وهو تعالى لا يصحّ أن يدعو على غيره؟ لأنّه قادر على أن يفعل ما يشاء ، وإنّما يدعو الداعي بما لا يتمكّن من فعله طلباً له.

الجواب : قلنا : يحتمل أن يكون قوم(3) من اليهود وصفوا الله تعالى بما يقتضي تناهي مقدوره ، فجرى ذلك مجرى أن يقولوا : إنّ يده مغلولة ، لأنّ عادة الناس جارية بأن يعبّروا بهذه العبارة عن هذا المعنى ، فيقولون : (يد فلان منقبضة عن كذا) ، و (يده لا تنبسط إلى كذا) ، إذا أرادوا وصفه بالفقر والقصور ، ويشهد بذلك قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ ).

ص: 357


1- المائدة : 64.
2- الأمالي : (بذلك).
3- م / ر : (قوما).

اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(1) ، ثمّ قال تعالى مكذّبا لهم : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ؛ أي أنّه ممّا (لا يعجزه شيء) ، وثنّى اليدين تأكيداً للأمر ، وتفخيماً له ؛ ولأنّه أبلغ في المعنى المقصود من أن يقول : بل يده مبسوطة.

وقد قيل : إن اليهود وصفوا الله بالبخل.

وقيل : إنّهم قالوا على سبيل الاستهزاء : إنّ إله محمّد الّذي أرسله ؛ يداه إلى عنقه ؛ إذ لا يوسّع عليه وعلى أصحابه ، فأكذبهم الله ، واليد هنا النعمة والفضل ، ويشهد بذلك قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(2) ، ولا معنى لذلك إلاّ الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة في الحقوق ؛ وترك الإسراف ، إلى القصد والتوسّط.

ويمكن أن يكون الوجه في تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا والآخرة ؛ أو من حيث أريد بها النعم الظاهرة والباطنة.

فأمّا قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، ففيه وجوه :

منها : أن لا يكون ذلك على سبيل الدّعاء ؛ بل على جهة الإخبار منه عن نزول ذلك بهم ؛ وفي الكلام ضمير (قد) قبل (غُلَّتْ). وموضع (غُلَّتْ) نصب على الحال ؛ ويسوغ إضمار (قد) هنا كما ساغ(3) في قوله : (إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ * وَإِنْ كانَ ).

ص: 358


1- آل عمران : 181.
2- الإسراء : 29.
3- م/ ر : (شاع).

قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُر فَكَذَبَتْ)(1) تقديره : فقد صدقت ، فقد كذبت.

ومنها : أن يكون معنى الكلام : وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم ، أو وغلّت أيديهم ، وأضمر الفاء أو الواو ؛ لأنّ كلامهم تمّ ، واستؤنف بعده كلام آخر ؛ ومثله : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) (2) وأراد : فقالوا ؛ فأضمر الفاء ؛ لتمام الكلام.

ومنها : أن يكون القول خرج مخرج الدعاء ؛ إلاّ أن معناه التعليم من الله تعالى لنا والتأديب ؛ فكأنّه علّمنا ما ينبغي أن نقوله فيهم ، كما علّمنا الاستثناء في قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)(3)

أقول : قرئت هذه الآية على رجل يهوديّ ، فرفع يده وقال : إن أيدينا لم تغلّ فصفع القارئ ذلك اليهوديّ في قَذاله(4) فلم يجرأ أن يصفع كما صفعه فقال القارئ : هذا هو غلّ يدك.

46 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ س.

ص: 359


1- يوسف : 26، 27.
2- البقرة : 67 ؛ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).
3- الفتح : 27.
4- مؤخر الرأس.

الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (1).

فقال : أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ لأنّ النور هنا كناية عن الطاعات والإيمان ، والظلمة كناية عن الكفر والمعاصي ، إذا كان مضيفاً للإخراج إليه فهو الفاعل لما كانوا به خارجين ، وهذا خلاف مذهبكم.

الجواب : قلنا : النور والظلمة المذكوران جائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر ، وجائز أيضاً أن يراد بهما الجنّة والنار ، والثواب والعقاب ، وقد تصحّ الكناية عن الثواب والنعيم في الجنّة بأنّه(2) نور ، وعن العقاب في النار بأنّه ظلمة ، وإذا كان المراد بهما الجنّة والنار ساغ إضافة إخراجهم من الظلمات إلى النور إليه. والظاهر بما ذكرناه أشبه ممّا ذكروه ؛ لأنّه يقتضي أنّ المؤمن الّذي ثبت كونه مؤمناً يخرج من الظلمة إلى النور ؛ فلو حمل على الإيمان والكفر لتناقض المعنى ، ولصار(3) : أنّه يخرج المؤمن الّذي قد تقدّم إيمانه من الكفر إلى الإيمان ؛ وذلك لا يصحّ.

على أنا لو حملنا الكلام على الإيمان والكفر لصحّ ، ولم يكن مقتضياً لما توهّمه ، ويكون وجه إضافة الإخراج إليه ، وإن لم يكن الإيمان من فعله ).

ص: 360


1- البقرة : 257 ؛ (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونُّ).
2- م/ ر : (فإنّه).
3- م : (فصار).

من حيث دلّ وبيّن وأرشد ولطّف وسهّل ؛ وقد علمنا أنّه لولا هذه الأمور لم يخرج المكلّف من الكفر إلى الإيمان ، فتصحّ(1) إضافة الإخراج إليه لكون ما ذكرناه من جهته.

ألا ترى أنّه قد أضاف إخراجهم من النور إلى الظلمات ، إلى الطواغيت ، وإن لم يدلّ ذلك على أنّ الطاغوت هو الفاعل للكفر في الكافر ؛ بل وجه الإضافة ما تقدّم ؛ لأنّ الشياطين يغوون ويدعون إلى الكفر ، ويزيّنون فعله ، والطاغوت هو الشيطان وحزبه ، وكلّ عدوٍّ لله يصدّ عن طاعته ، ويغري بمعصيته يصحّ إجراء هذه التّسمية عليه ؛ فكيف اقتضت الإضافة الأولى أنّ الإيمان من فعل الله في المؤمن ، ولم يقتضِ الإضافة الثانية أنّ الكفر من فعل الشياطين في الكفّار ؛ لولا عناد المخالفين وغفلتهم!

47 - تأويل آية

إن سأل سائل فقال : ما تأويل قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) (2).

أوليس تأويل هذه الآية يقتضي أنّه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان؟ ).

ص: 361


1- م : (يصح).
2- آل عمران : 8 ؛ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

قلنا : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون المراد بالآية : ربّنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف ، ولا تشقّ علينا فيه ، فيفضي بنا ذلك إلى زيغ قلوبنا بعد الهداية ؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما وقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى المحنة عليهم إليه ؛ كما قال تعالى في السورة : إنّها زادتهم رجساً إلى رجسهم ، وكما قال مخبراً عن نوح : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إلاّ فِراراً) (1).

فإن قيل : كيف يشدّد عليهم في المحنة؟

قلنا : بأن يقوّي شهواتهم ، لمّا قبحت عقولهم ، ونفورهم عن الواجب عليهم ، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقّاً ، والثواب المستحقّ عليه عظيماً متضاعفاً وإنّما يحسن أن يجعله شاقّاً تعريضاً لهذه المنزلة.

وثانيها : أن يكون ذلك دعاءً بالتثبيت على الهداية ، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرّون على الإيمان. ويجري مجرى قولهم : اللّهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا ؛ معناه لا تخلّ بيننا وبينه فيتسلّط علينا ؛ فكأنهم قالوا : لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك ، فنزيغ ونضلّ.

وثالثها : ما أجاب به الجبائي ، قال : المراد : ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابكورحمتك. ومعنى هذا السؤال أنّهم سألوا الله أن يلطف لهم في فعل الإيمان ؛ حتّى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم ، فيستحقّوا بترك الإيمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب ، وأن يفعل بهم بدلاً منه العقاب. 6.

ص: 362


1- نوح : 6.

فإن قيل : ما هذا الثواب الّذي في قلوب المؤمنين؟

قلنا : هو ما ذكره الله من الشرح والسّعة بقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(1) ، و (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلام)(2) ؛ ومن ذلك كتابته للإيمان في قلوب المؤمنين.

ورابعها : أن يكون الآية محمولة على الدعاء بألاّ تزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه سئل ما لولا المسألة لجاز فعله ؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه ، والافتقار إلى ما عنده بأن يفعل ما علم أنّه لا بدّ من أن يفعله ، وبألاّ يفعل ما علم أنّه واجب ألاّ يفعله ؛ إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة ؛ كما قال حاكياً عن إبراهيم : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)(3) ؛ وكما قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(4).

48 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إلى قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(5). لا

ص: 363


1- الشرح : 1.
2- الأنعام : 125.
3- الشعراء : 87.
4- البقرة : 286.
5- البقرة : 67 - 70 ؛ (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ * قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ * قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

فقال : ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التي نعتت بجميع النعوت هي البقرة المرادة باللفظ الأوّل والتكليف واحد ، أو المراد مختلف والتكليف متغاير؟

الجواب : قلنا : أهل العلم في تأويل هذه الآية مختلفون من حيث اختلاف أصولهم ؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أنّ التكليف واحد ، وأنّ الأوصاف المتأخّرة هي للبقرة المتقدّمة ؛ وإنّما تأخّر البيان ، فلمّا سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئاً بعد شيء.

ومن لم يجوّز تأخّر البيان يقول : إنّ التكليف متغاير ؛ وإنّهم لمّا قيل لهم : اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلاّ ذبح أيّ بقرة شاءوا ، من غير تعيين بصفة ، ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرة اتّفقت لهم كانوا قد امتثلوا المأمور ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر ، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أيّ لون كان لأجزأ عنهم ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختصّ بالصفات الأخيرة.

ثمّ اختلف هؤلاء من وجه آخر ، فمنهم من قال في التكليف الأخير : إنّه يجب أن يكون مستوفياً لكلّ صفة تقدّمت ، حتّى يكون البقرة مع أنّها غير

ص: 364

ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلّمة لا شية فيها ، صفراء فاقع لونها ، ولا فارض ولا بكر. ومنهم من قال : إنّما يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط ، دون ما تقدّم.

قال السيّد : وظاهر الكتاب بالقول الأوّل المبنيّ على جواز تأخير البيان أشبه ، وبيّن ذلك.

فأمّا (الفارض) فهي المسنّة ، وقيل : هي العظيمة الضخمة ؛ يقال : غرب فارض ، أي ضخم ، والغرب الدلو ؛ ويقال : لحية فارضة ؛ إذا كانت عظيمة ؛ والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة.

وأمّا (البكر) فهي الصغيرة التي لم تلد ، فكأنّه قال : غير مسنّة ، ولا صغيرة.

و (العوان) : دون المسنّة وفوق الصغيرة ؛ وهي النّصف التي ولدت بطناً أو بطنين ؛ ويقال : حرب عوان إذا لم يكن أوّل حرب وكانت ثانية ؛ وإنّما جاز أن يقول : (بَيْنَ ذلِكَ) و (بين) لا يكون إلاّ مع اثنين أو أكثر ؛ لأنّ لفظة (ذلك) تنوب عن الجمل.

ومعنى (فاقِعٌ لَوْنُها) ، أي خالص الصفرة ، وقيل : إن كلّ ناصع اللون ؛ فهو فاقع. وقيل : إنّه أراد ب- : (صفراء) هنا سوداء.

ومعنى قوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ) أي لا تكون صعبة لم يذلّلها العمل في إثارة الأرض وسقي الزرع.

ومعنى (مُسَلَّمَةٌ) ، مفعلة ، من السلامة من العيوب ، وقيل : مسلّمة من

ص: 365

الشّية ، أي لا شية فيها يخالف لونها.

وقيل : (لا شِيَةَ فِيها) ، أي لا عيب فيها ؛ وقيل : لا وضح فيها ، وقيل : لا لون يخالف لون جلدها ، والله أعلم بما أراد ، وإياه نسأل حسن التوفيق.

49 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله حاكياً عن هابيل : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِط يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(1).

فقال : كيف يجوز أن يخبر عن هابيل - وقد وصفه بالتقوى والطاعة - بأنّه يريد أن يبوء أخوه بالإثم ؛ وذلك إرادة القبيح ، وإرادة القبيح قبيحة؟

وكيف يصحّ أن يبوء القاتل بإثمه وإثم غيره؟ وهل هذا إلاّ ما تأبونه من أخذ البريء بالسقيم؟

الجواب : قلنا : إنّ هابيل لم يرد من أخيه ، ولا أراد أن يقتله ، وإنّما أراد ما أخبر الله تعالى عنه من قوله : (إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) ؛ أي إني أريد أن تبوء بجزاء ما أقدمت عليه من القبيح وعقابه ، وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحقّ بمستحقّه. ونظير قوله : (إثمي) ؛ مع أنّ المراد به 9.

ص: 366


1- المائدة : 28 ، 29.

عقوبة إثمي ؛ الّذي هو قتلي قول القائل لمن يعاقب على ذنب جناه : هذا ما كسبت يداك ، أي : جزاء ما كسبت يداك ، وكقولهم : لقّاك الله عملك ، أي : جزاءه.

فأمّا قوله : (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) فأراد بإثمي عقاب قتلك لي وبإثمك أي عقاب المعصية التي أقدمت عليها من قبل ؛ فلم يتقبّل قربانك بسببها.

وقد ذكر في الآية وجه آخر ؛ وهو أن يكون المراد : أنّي أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك ؛ لأنّه لم يرد له إلاّ الرّشد والخير ؛ فحذف (الزوال) ، وأقام (أن) وما اتصل بها مقامه ، وهذا قول بعيد ، لأنّه لا دلالة في الكلام على محذوف ، وإنّما يحسن الحذف في بعض المواضع لاقتضاء الكلام المحذوف ودلالته عليه.

وذكر وجه آخر وهو أن يكون المعنى : إنّي أريد ألاّ تبوء بإثمي وإثمك ، أي أريد ألاّ تقتلني ولا أقتلك ، فحذف (لا) واكتفى بما في الكلام ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(1) ، معناه ألاّ تضلّوا ، وكقوله : (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(2) ، معناه لأنّ لا تميد بكم ، وكقول الخنساء :

فأقسمتُ آسي على هالك

وأسألُ نائحةً ما لها(3)).

ص: 367


1- النساء : 176.
2- النحل : 15.
3- ديوان الخنساء بشرح ثعلب : 80. وفيه : (يدَ الدهر آسي) ؛ (فأقسمت أبكي) في رواية أبي سعيد ، وفي رواية ابن الأعرابي : (فآليت).

وكقول امرؤ(1) القيس :

فَقُلتُ يَمينَ اللَهِ أَبرَحُ قاعِداً

وَلَو قَطَّعوا رَأسي لَدَيكِ وَأَوصالي(2)

وهذا الجواب يضعّفه كثير من أهل العربية.

فأمّا قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِط يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ).

فقيل : إنّ القتل على سبيل الانتصار والمدافعة لم يكن مباحاً في ذلك الوقت ؛ وإن الله أمره بالصبر عليه ، ليكون هو المتولّي للإنصاف.

وقيل : بل المعنى أنّك إن بسطت إليّ يدك مبتدئاً ظالماً لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم.

والظاهر من الكلام بغير ما ذكر من الوجهين أشبه ، لأنّه تعالى خبّر عنه أنّه إن بسط أخوه إليه يده ليقتله لا يبسط يده ليقتله ؛ وهو مريد لقتله ؛ لأنّ هذه اللام بمعنى (كي) ، وهي منبئة عن الإرادة والغرض ؛ ولا شبهة في حظر ذلك وقبحه ؛ ولأنّ المدافع إنّما يحسن منه المدافعة للظالم طلباً للتخلّص من غير أن يقصد إلى قتله أو الإضرار به ؛ ومتى قصد ذلك كان في حكم المبتدئ بالقتل ؛ لأنّه فاعل لقبيح ، والعقل شاهد بوجوب التخلّص من المضرة بأيّ وجه يمكن ؛ بعد أن يكون غير قبيح. ).

ص: 368


1- الصحيح : امرئ.
2- ديوان امرئ القيس ، 1 : 328. (ابرح قاعداً) في رواية الأصمعي ، وأمّا رواية السكّري : (ما أنا بارح).

50 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(1).

فقال : ما معنى (أَوْ) هنا؟ وظاهرها يفيد الشكّ الّذي لا يجوز عليه تعالى.

الجواب : قلنا : في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون (أَوْ) هاهنا للإباحة كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين.

فيكون معنى الآية : أنّ قلوب هؤلاء قاسية متجافية عن الخير والرّشد ، فإن شبّهتم قسوتها بالحجارة أصبتم ، وإن شبّهتموها بما هو أشدّ أصبتم ، وإن شبّهتموها بالجميع فكذلك.

وعلى هذا قوله : (أَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ)(2).

وثانيها : أن يكون (أَوْ) دخلت للتفصيل والتمييز ، ويكون معنى الآية : إنّ قلوبهم قست ، فبعضها ما هو كالحجارة في القسوة ، وبعضها ما هو أشدّ قسوة منها. ويجري ذلك مجرى قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى)(3) ؛ 5.

ص: 369


1- البقرة : 74.
2- البقرة : 19.
3- البقرة : 135.

أي : وقال(1) بعضهم : كونوا هوداً - وهم اليهود - وبعضهم : كونوا نصارى - وهم النصارى -.

وكذلك قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(2) ؛ أي : فجاء بعضَ أهلها بأسُنا بياتاً ، وجاء بعض أهلها بأسنا في وقت القيلولة.

ويحتمل قوله : (أَوْ كَصَيِّب) هذا الوجه أيضاً ، ويكون المعنى أنّ بعضهم يشبه المستوقد ، وبعضهم يشبه أصحاب الصيّب.

وثالثها : أن يكون (أَوْ) دخلت على سبيل الإبهام(3) فيما يرجع إلى المخاطب ، قولهم : ما أطعمتك إلاّ حلواً أو حامضاً ، ونحوه : أكلت بسرة أو ثمرة ؛ وكقول لبيد(4) :

...................................

وَهل أنا إلاّ مِن رَبيعةَ أو مُضَر(5)

أراد : هل أنا إلاّ من أحد هذين الجنسين ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.

ورابعها : أن يكون (أَوْ) بمعنى (بل) كقوله تعالى : (أَوْ يَزِيدُونَ)(6)7.

ص: 370


1- ر : (قالوا).
2- الأعراف : 4.
3- م / ر : (الاتهام).
4- هو لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامِري. (ت 41 ه) من أصحاب المعلقات.
5- الشطر الأوّل : تَمَنَّى ابنتاىَ أن يَعيشَ أبوهما. (شرح ديوان لبيد بن ربيعة : 213)
6- الصافات : 147.

أي : بل يزيدون.

وكانوا مائة ألف وبضعاً وأربعين ألفاً. وأنشد الفرّاء :

بَدَت مِثلَ قَرنِ الشَمسِ في رَونَقِ الضُحى

وَصورَتُها أَو أَنتِ في العَينِ أَملَحُ(1)

وخامسها : أن يكون (أَوْ) بمعنى الواو كقوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ)(2) ؛ معناه : وبيوت آبائكم ، قال جرير :

نالَ الخِلافَةَ أو كانَت لَهُ قَدَراً

كَما أَتى رَبَّهُ موسى عَلى قَدَرِ(3)

51 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(4).

فقال : كيف يأمرهم أن يخبروا بما لم يعلموا ، أليس هذا أقبح من تكليف ما لا يطاق؟

الجواب : قلنا : قد ذكر في الآية وجهان :

الأوّل : أنّ ظاهر الآية وإن كان يقتضي التّعلّق بشرط ، وهو كونهم صادقين عالمين ، فإنّهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا - فكأنّه قال لهم : خبّروا 1.

ص: 371


1- البيت لذي الرمة. (ديوان ذي الرمّة بشرح التبريزي : 624).
2- النور : 61.
3- ديوان جرير : 416 ؛ وفيه : (إذ) بدل (أو).
4- البقرة : 31.

بذلك إن كلّمتموه ؛ ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا ، فلا تكليف عليهم.

الثاني : لا نسلّم أنّ القول أمر على الحقيقة ، بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجّة ؛ وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر.

وعلى هذا الجواب يكون قوله : (إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محمولاً على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة ، وأنّهم يقومون بما يقوم به.

فإن قيل : كيف علمت الملائكة أنّ في ذريّة آدم من يفسد فيها ، ويسفك الدماء؟ ما(1) طريق علمها بذلك؟ وإن كانت غير عالمة فكيف يحسن أن يخبر عنهم بغير علم؟!

قلنا : قد قيل : إنّها لم تخبر وإنّما استفهمت ؛ فكأنّها قالت متعرّفة : أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا.

وقيل : إنّ الله أخبرها بذلك ، فقالت على وجه التعرّف لما في هذا التدبير من المصلحة والاستفادة لوجه الحكمة : أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟

وهذا الجواب الأخير يقتضي أن يكون في الكلام حذف ويكون التقدير : وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة ، وإني عالم بأنّه سيكون من ذريّته من يفسد ، ويسفك الدماء ، فاكتفى عن إيراد هذا ).

ص: 372


1- م / ر : (ما).

المحذوف بقوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).

وفي جملة جميع الكلام اختصار شديد ، لأنّه لما حكى قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) الآية ، كان في ضمنها ، فنحن على ما نظنّه ويظهر لنا من الأمر أولى بذلك لأنّا نطيع وغيرنا يعصي. كقول تأبّط شرّاً(1) :

فلا تدفِنُوني إنّ دَفْني محرّمٌ

عليكم ولكن خامِري أمَّ عامر(2)

وهي الضّبع.

فأمّا قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) بعد ذكر الأسماء التي لا تليق بها هذه الكناية ، فالمراد أنّه عرض المسمّيات.

وفي قراءة أبيّ : (ثمّ عرضها) وفي قراءة ابن مسعود : (ثمّ عرضهنّ) وعلى هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء.

وقد يبقى هنا سؤال مهمّ لم يتعرّض أحد له ، وهو أن يقال : من أين علمت الملائكة لما خبّرها آدم بتلك الأسماء صحّة قوله ، ومطابقة الأسماء للمسمّيات ؛ وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل ؛ وإلاّ أخبرت(3) بالأسماء ؛ ولم تعترف بفقد العلم ؛ والكلام يقتضي أنّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها ومطابقتها للمسمّيات. ).

ص: 373


1- ليس الشعر لتأبّط شرّاً وليس في ديوانه ، وإنّما هو للشنفري على أرجح الأقوال ، كما أن الشريف المرتضى أيضاً قال : (قال : تأبّط شرّاً - ويروى للشنفري) (الأمالي ، 2 72) والشنفري عمرو بن مالك الأزدي ، من قحطان (ت 70 ه).
2- ديوان الشنفرى : 48 ؛ وفيه : (لا تقبروني إن قبري).
3- م / ر : (لأخبرت).

والجواب : أنّه غير ممتنع أن يكون الملائكة في الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء ؛ فلمّا أنبأهم آدم بها عُلِّموها بما فعل الله فيهم حينئذ من العلم الضروري بصحّتها ومطابقتها للمسمّيات.

ووجه آخر وهو : أنّه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة ، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره ، وأن يكون إحاطة عالم واحد لأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة ، فلمّا أراد الله تعالى التنبيه على نبوّة آدم علّمه جميع تلك الأسماء ، فلمّا أخبرهم بها علّم كلّ فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته ، وهذا لا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى غيره.

وهذان الجوابان جميعاً مبنيّان على أنّ آدم لم يتقدّم للملائكة العلم بنبوّته ، وأنّ إخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته.

أقول أنا : ويحتمل أنّه لما أنبأهم بالأسماء صدّقه الله تعالى فعلم(1) الملائكة أنّ إخباره بالأسماء حقٌّ وصدق ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّ آدم معصوم ، فلمّا نبّأهم بها علموا صدقه لعصمته عندهم.

52 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(2).5.

ص: 374


1- م / ر : (فعلموا).
2- الزخرف : 45.

الجواب : قد ذكر فيها وجوه :

أوّلها : أن يكون المعنى : واسأل أتباع من أرسلنا قبلك من رسلنا ؛ كقولهم : السخاء حاتم ، والشعر زهير ؛ أي : سخاء حاتم ، وشعر زهير.

والمراد بالسؤال في ظاهر الكلام النبيّ صلّى الله عليه وآله ؛ والمعنى أنّه لأمّته.

وقيل : المراد بأتباع الأنبياء الذين أمر بمسألتهم ، عبد الله ابن سلام ونظرائه ، وأيضاً ليس يمتنع أن يكون هو عليه السلام المأمور بالمسألة على الحقيقة كما يقتضيه ظاهر الآية ، وإن لم يكن شاكّاً في ذلك. ويكون الوجه فيه تقرير أهل الكتاب به ، وإقامة الحجّة عليهم باعترافهم ، أو لأنّ بعض مشركي العرب أنكر أن يكون كتب الله المتقدّمة وأنبياؤه الآتون بها دعت إلى التوحيد ، فأمره عليه السلام بتقرير أهل الكتاب بذلك لنزول الشبهة.

الثاني : أن يكون السؤال متوجّهاً إليه دون أمّته ، والمعنى : إذا لقيت النبيّين في السماء فاسألهم عن ذلك ؛ لأنّه لقي النبيّين في السماء ؛ ولا يكون أمره بالسؤال ، أنّه كان شاكّاً ، بل لبعض المصالح الراجعة إلى الدين ؛ إمّا لشيء يخصّه ، أو يتعلّق ببعض الملائكة الذين يستمعون ما جرى بينه وبين النبيّين من سؤال وجواب.

والجواب الثالث : ما أجاب به ابن قتيبة ، وهو أنّ المعنى : واسأل من أرسلنا إليه قبلك من رسلنا ، يعني أهل الكتاب. وهذا الجواب ، وإن كان هو في المعنى الجواب الأوّل ، فبينهما فرق في تقدير الكلام وكيفية تأويله.

ص: 375

وقد ردّ على ابن قتيبة هذا الجواب ؛ لأنّ لفظة (إليه) لا يصحّ إضمارها في هذا الموضع ؛ لأنّهم لا يجيزون : (الّذي جلست عند الله) ، على معنى (الّذي جلست إليه) ، لأنّ (إليه) حرف منفصل عن الفعل ، والمنفصل لا يضمر.

أقول : قال الثعلبي في تفسيره لمّا أنزلت هذه الآية نزل ملك فقال : يا محمّد ، اسأل من أرسلنا قبل من رسلنا علام بعثوا؟ فقال : بعثوا على ولايتك وولاية عليِّ بن أبي طالب بعدك ، وهذا يدلّ على الأفضلية والتقديم والولاية والخلافة له عليه السلام ، وروى هذا الخبر غيره ، وهو عندهم من كبار الجمهور.

53 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذ)(1).

فقال : ما معنى الاستثناء هنا والمراد التأييد والدوام؟ ثمّ ما معنى التمثيل بهذه السموات والأرض التي تفنى وتنقطع؟ 8.

ص: 376


1- هود : 106 - 108.

الجواب : قلنا : قد ذكر في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون (إلاّ) ، وإن كان ظاهرها الاستثناء ، فالمراد بها الزيادة ؛ فكأنّه قال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة لهم على هذا القدر ؛ وهذا جواب الفرّاء وغيره.

وثانيها : أن يكون المعنى : إلاّ ما شاء ربّك من كونهم قبل دخول الجنّة والنار في الدنيا ؛ وفي البرزخ الّذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك ؛ لأنّه تعالى لو قال : خالدين أبداً ، ولم يستثن لتوهّم متوهّم أنّهم يكونون في الجنّة والنار من لدن نزول الآية ، أو من بعد انقطاع التكليف ، فصار للاستثناء وجه فائدة.

وثالثها : أن يكون (إلاّ) بمعنى الواو ؛ والتقدير : وما شاء ربّك من الزيادة. كقوله :

وكُلُّ أَخ مُفَارِقُهُ أخوهُ

لَعَمرُ أَبيكَ إلاّ الفَرقَدانِ(1)

معناه : والفرقدان ، وكقول الآخر(2) :

وَأَرى لَها داراً بِأَغدَرَةِ ال-

-سيدانِ لَم يَدرَس لَها رَسمُ

إلاّ رَماداً هامِداً دَفَعَت

عَنهُ الرِياحَ خَوالِدٌ سُحمُ(3)).

ص: 377


1- الشعر لعمرو بن معدي كرب وقد تقدّم ذكره.
2- هو المَخَبَّل السَعدي ربيع بن مالك بن ربيعة بن عوف السعدي ، أبو يزيد ، من بني أنف الناقة من تميم (ت 12 ه).
3- المفضليّات : 113 و114 ؛ وأورده ابن فارس في ما تعني إلاّ واواً. (الصاحبي في فقه اللغة : 94).

والمراد ب- : (إلاّ) الواو ؛ وإلاّ كان الكلام متناقضاً.

ورابعها : أن يكون الاستثناء الأوّل متّصلاً بقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ؛ وتقريره : لهم في النار زفير وشهيق إلاّ ما شاء ربُّك وأجناس العذاب الخارجة عن هذين النوعين ، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود.

فإن قيل : فهبوا(1) أنّ هذا أمكن في الاستثناء الأوّل ، فكيف يمكن في الاستثناء الثاني؟

قلنا : يحمل الثاني على استثناء المكث في المحاسبة والموقف ، وغير ذلك ممّا تقدّم.

وخامسها : أن يكون الاستثناء غير مؤثّر في النقصان من الخلود ؛ وإنّما الغرض فيه : أنّه لو شاء أن يخرجهم وألاّ يخلّدهم لفعل ، وأن التخليد إنّما يكون بمشيئته وإرادته ، كما يقول القائل لغيره : والله لأضربنّك إلاّ أن أرى غير ذلك ، وهو لا ينوي إلاّ ضربه ، ومعنى استثنائه : أنّي لو شئت ألاّ أضربك لفعلت وتمكّنت ؛ غير أنّي مجمع على ضربك.

وسادسها : أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود ، والتبعيد للخروج ؛ لأنّه لا يشاء إلاّ تخليدهم ؛ ويجري ذلك مجرى قول العرب : والله لأهجرنّك إلاّ أن يشيب الغراب ، ويبيضّ القار ؛ ومعناه أنّي أهجرك أبداً ؛ وكذلك معنى الآيتين ؛ والمراد بهما أنّهم خالدون أبداً ؛ لأنّ الله ة.

ص: 378


1- م : (فشهيق) ؛ ر : (فهنوا) ، والصحيح (فهبوا) أي فتصوّروا ، وهو من أفعال القلوب الجامدة.

لا يشاء أن يقطع خلودهم.

وسابعها : أن يكون المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الإيمان ، العصاة ؛ فقال تعالى : إنّهم معاقبون في النار إلاّ ما شاء ربُّك ؛ من إخراجهم إلى الجنّة.

ويجوز أيضاً أن يريد بأهل الشقاء هاهنا جميع الداخلين إلى جهنّم ؛ ثمّ استثنى أهل الطاعة منهم ، ومن يستحقّ ثواب الأبد ، فقال : إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ من إخراج بعضهم ؛ وهم أهل الثواب.

وأمّا الذين سُعدوا فإنّما استثني من خلودهم أيضاً لما ذكرناه ؛ لأنّ من نُقِل من النار إلى الجنّة وخُلِّد فيها لا بدّ من الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم ؛ فكأنّه تعالى قال : إنّهم خالدون في الجنّة إلاّ ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار ، قبل أن ينقلهم إلى الجنّة.

وإنّ الذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا ، وإنّما أجري عليهم كلّ لفظ في الحال التي تليق بهم ؛ فهم إذا دخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء ، وإذا نُقلوا إلى الجنّة من أهل السعادة.

وهذا تفسير ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وغيرهم.

أقول : ويحتمل أن يريد تعالى بقوله : (إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ) نقلهم من عذاب الحريق إلى عذاب الزمهرير وغيره ، ومن نعيم الجنّة إلى ما هو أكثر منه ، وهو رضوان الله وشبهه. فهذه الوجوه أجود.

وأمّا تعليق الخلود بدوام السموات والأرض ؛ فقد قيل فيه : إنّ ذلك لم

ص: 379

يجعل شرطاً في الدوام ؛ وإنّما علّق به على طريق التبعيد وتأكيد الدوام ؛ لأنّ للعرب في هذا عادةً معروفة خاطبهم الله عليها ؛ لأنّهم يقولون : لا أفعل هذا ما لاح كوكب ، وما اختلف الليل والنهار ، وما تغنّت حمامة ، ونحو ذلك ، ومرادهم التأييد والدوام.

وقيل أيضاً : إنّه تعالى أراد الشرط ، وعني بالآية دوام السموات والأرض المبدّلين ؛ لأنّه قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّماواتُ)(1) ؛ وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيّر أبداً.

ويمكن أن يكون المراد أنّهم خالدون بمقدار مدّة السموات والأرض التي يعلم الله انقطاعهما ثمّ يزيدهم الله ذلك ويخلّدهم ، ويؤيّد مقامهم وهذا الوجه يليق بالأجوبة التي تتضمّن أنّ الاستثناء أريد به الزيادة على المقدار المتقدّم لا النقصان.

54 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلال مُبِين)(2).

فقال : ما تأويل هذا؟ وقد أخبر في مواضع أنّهم لا يبصرون ولا يسمعون وأنّ على أسماعهم وأبصارهم غشاوة؟ وما معنى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ 8.

ص: 380


1- إبراهيم : 48.
2- مريم : 38.

الْيَوْمَ)؟ وأيّ يوم هو؟ وما المراد بالضلال؟

قلنا : أمّا قوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ؛ فمعناه : ما أسمعهم! وما أبصرهم! والمراد بذلك الإخبار عن قوّة علومهم بالله تعالى في تلك الحال ؛ وأنّهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه ؛ وهذا يدلّ على أنّ أهل(1) الآخرة عارفون بالله ضرورة ؛ وهذه الآية يتناول يوم القيامة ؛ وهو المعنيّ بقوله : (يَوْمَ يَأْتُونَنا)

قوله : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلال مُبِين) يحتمل(2) أن يريد بقوله : (الْيَوْمَ) الدّنيا وأحوال التكليف ؛ ويكون الضلال المذكور الذّهاب عن الدين والعدول عن الحقّ ، وأراد تعالى أنّهم في الدنيا جاهلون ، وفي الآخرة عارفون ؛ بحيث لا ينفعهم المعرفة. ويحتمل أن يريد باليوم يوم القيامة ؛ ويعني بالضلال العدولَ عن طريق الجنّة إلى النار.

وقال أبو مسلم بن بحر : معنى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ما أسمعهم! وما أبصرهم! وهذا على طريق المبالغة في الوصف ؛ يقول : فهم يوم يأتوننا أي يوم القيامة سمعاء بصراء ؛ أي عالمون وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين ، أي جهل واضح. وهذه الآية تدلّ على أنّ قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(3) ، ليس معناه الآفة في الأذن ، والعين والجوارح ؛ بل 1.

ص: 381


1- ر : (أهل أن) وهو خطأ.
2- م / ر : (فيحتمل).
3- البقرة : 171.

هو أنّهم لا يسمعون عن قدرة ، ولا يتدبّرون ما يسمعون ، ولا يعتبرون بما يرون ؛ بل هم عن ذلك غافلون.

قال الجبائيّ : (عنى بقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي أسمعهم وبصّرهم وبيّن لهم أنّهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء سيكونون في ضلال عن الجنّة وعن الثواب الّذي يناله المؤمنون ، والظالمون هم الذين يوعدهم الله بالعذاب).

ويجوز أيضاً أن يكون عنى بقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ) ، أسمع الناس بهؤلاء الأنبياء وأبصر بهم ؛ ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم ، فيؤمنوا بهم ، ويقتدوا بأعمالهم.

وأراد بقوله : (لكِنِ الظَّالِمُونَ) لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم ؛ وهو يوم القيامة في ضلال عن الجنّة ، وعن نيل الثواب ، مبين.

وهذا الموضع من جملة المواضع التي استدركت على أبي عليّ ، ونسب فيها إلى الزلل.

ولو قال على ما اختاره أنّه أراد أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أي ذكّرهم بأهواله ، وأعلمهم بما فيه ؛ ثمّ قال مستأنفاً : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلال مُبِين) كان أشبه بالصواب.

فأمّا الوجه الثاني الّذي ذكره فباطل.

55 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

ص: 382

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(1).

فقال : في هذه الآية دلالة على إضافة الأفعال التي تظهر من العباد إليه ، لقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ،ِ فأضافه إلى نفسه، وأضاف نجاتهم إليه.

الجواب : قلنا : أمّا قوله : (وفِي ذلِكُمْ) فهو إشارة إلى ما تقدّم من إنجائه(2) لهم من المكروه والعذاب : وقد قيل : إنّه معطوف على قوله :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)(3) ؛ والبلاء هنا الإحسان والنعمة.

ولا شكّ في أنّ تخليصهم من ضروب العذاب التي عدّدها الله نعمة عليهم والبلاء يكون حسناً ، ويكون سيّئاً ، والبلوى يستعمل في الخير والشرّ ؛ إلاّ أنّ أكثر ما يستعمل البلاء (الممدود) في الخير ، والبلوى (المقصور) في الشرّ.

وكيف يجوز أن يضيف ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الأبناء وغيره إلى نفسه ، وقد ذمّهم عليه ، ووبّخهم! وكيف يكون ذلك من فعله ؛ وهو قد ).

ص: 383


1- البقرة : 49.
2- ر : (إيجابه).
3- البقرة : 47 ؛ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

عدّ تخليصهم منه نعمة عليهم! على أنّه يمكن أن يردّ قوله : (ذلِكُمْ) إلى ما حكاه عن آل فرعون من الأفعال القبيحة ؛ ويكون المعنى : في تخليته بين(1) هؤلاء وبينكم ، وتركه منعهم من إيقاع هذه الأفعال بلاء من ربّكم ؛ أي محنة واختبار لكم.

والوجه الأوّل أقوى.

وأمّا إضافة النّجاة إليه وإن كانت واقعة بسيرهم وفعلهم ؛ فلو دلّت على ما ظنّوه لوجب إذا قلنا : إنّ الرسول أنقذنا من الشّكّ ، وأخرجنا من الضلال والكفر أن يكون فاعلاً لأفعالنا.

والمعنى في ذلك ظاهر ؛ لأنّ ما وقع بتوفيق الله ودلالته وهدايته ومعونته وألطافه قد تصح إضافته إليه ، فعلى هذا صحّت إضافة النجاة إليه تعالى.

ويمكن أن يكون مضيفاً لها من حيث ثبّط عنهم الأعداء ، وشغلهم عن طلبهم.

فإن قيل : وكيف يصحّ أن يقول : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) فيخاطب بذلك من لم يدرك فرعون ولا نجا من شرّه؟

قلنا : ذلك معروف مشهور في كلام العرب ؛ يقول العربيّ : قتلناكم يوم عكاظ وهزمناكم ؛ ويريد أنّ قومه فعلوا ذلك بقومك.8 ).

ص: 384


1- م : (من) بدل (بين).

والمعنى : وإذ نجّينا آباءكم وأسلافكم ؛ والنعمة على السلف نعمة على الخلف.

56 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إلاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)(1).

فقال : ما تنكرون أن يكون ظاهرها يقتضي أن يكون جميع ما يفعله يشاؤه ويريده ؛ لأنّه لم يخصّ شيئاً من شيء؟.

قلنا : تأويلها مبنيّ على وجهين :

أحدهما : أن يجعل حرف الشرط الّذي هو (إن) متعلّقاً بما يليه وبما هو متعلّق به في الظاهر من غير تقدير محذوف ؛ ويكون التقدير : ولا يكون أنّك تفعل إلاّ ما يريد الله.

وهذا الجواب ذكره الفرّاء ، مع أنّه لم يكن متظاهراً بالقول بالعدل. وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية ، ولا سؤال للقوم علينا.

والجواب الآخر : أن يجعل (أن) متعلّقة بمحذوف ؛ ويكون التقدير : لا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غدا إلاّ أن تقول : (إن شاء الله) ؛ لأنّ من عادتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع. 3.

ص: 385


1- الكهف : 23.

وهذا الجواب يحتاج إلى الجواب عمّا سُئلنا عنه ، فيقول : هذا تأديب من الله لعباده ، وتعليم لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة ؛ حتّى يخرج من حدّ القطع.

ولا شبهة في أن ذلك مختصّ بالطاعات ، وأنّ الأفعال القبيحة خارجة منه ؛ لأنّ أحداً لا يستخير أن يقول : إنّي أزني غداً إن شاء الله.

قال أبو علي محمّد بن عبد الوهاب : (إنّما عنى بذلك أنّ من كان لا يعلم أنّه يبقى إلى غد حيّا فلا يجوز أن يقول : إني سأفعل غدا كذا ، فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدري ، لعلّه سيموت أو يمرض أو يعجز أو يبدو له ، فلا يفعل ما أخبر به ؛ فيكون كذباً ، فلا يستثنى هذا من الكذب إلاّ بالاستثناء الّذي ذكره الله.

وقال غيره : إنّ المشيئة المستثناة هاهنا هي مشيئة المنع والحيلولة ؛ فكأنّه قال : إن شاء الله يخلّيني ولا يمنعني.

وفي الناس من قال : القصد بذلك أن يقف الكلام عن جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء ، ولا ينوي في ذلك إلجاءً ولا غيره ؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصريّ.

57 - تأويل آية

إنّ سأل سائل عن قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أَوْ

ص: 386

أَخْطَأْنا)(1).

فقال : كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة لنا بالدّعاء بذلك(2) ، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناسي في حال نسيانه ؛ وهذا يقتضي أحد أمرين : إمّا أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس ، أو نكون(3) متعبّدين بمسألته تعالى ما نعلم أنّه واقع حاصل ؛ لأنّ مؤاخذة الناسي(4) مأمونة منه تعالى ، والقول في الخطأ إذا أريد به ما وقع سهواً أو عن غير عمد يجري هذا المجرى.

الجواب : قلنا : قيل : المراد ب- : (نسينا) تركنا. كقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)(5) ، أي ترك ؛ ولولا ذلك لم يكن فعله معصية ، وكقوله تعالى : (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)(6) ، أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته.

ويمكن في الآية وجه آخر وهو : أن يحمل النسيان على السّهو وفقد 7.

ص: 387


1- البقرة : 286 ؛ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرينَ).
2- ر : (بذلك).
3- ر : (يكون).
4- ر : (الناس).
5- طه : 115 ؛ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
6- التوبة : 67.

العلم ؛ ويكون وجه الدعاء الانقطاع إلى الله ، وإظهار الفقر إليه والاستعانة به ؛ وإن كان مأموناً منه المؤاخذة بمثله ؛ لقوله : (لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِه)(1) ، ولقوله : (قالَ (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ)(2) ، وقوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)(3) وهذا الوجه يمكن في قوله : (أَوْ أَخْطَأْنا) إذا كان الخطأ ما وقع سهواً أو عن غير عمد.

فأمّا على ما يطابق الوجه الأوّل فقد يجوز أن يريد بالخطإ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيّئ وعن جهل بأنّها معاص ، فكأنّه أمرهم أن يستغفروا ممّا تركوه متعمّدين من غير سهو ولا تأويل ، وما أقدموا عليه مخطئين متأوّلين.

ويمكن أن يريد ب- : (أَخْطَأْنا) هنا أذنبنا ؛ وإن كانوا متعمّدين وبه عالمين ، لأنّ جميع المعاصي قد توصف بأنّها خطأ من حيث فارقت الصواب ؛ وإن كان فاعلها متعمّداً ؛ فكأنّه أمرهم بأن يستغفروه ممّا تركوه من الواجبات ؛ وممّا فعلوه من المقبّحات.

58 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي 7.

ص: 388


1- البقرة : 286.
2- الأنبياء : 112.
3- الشعراء : 87.

طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(1).

وقال : كيف أضاف الاستهزاء إليه ؛ وهو ممّا لا يجوز عليه؟ وكيف أخبر بأنّه يمدّهم في الطّغيان والعمه وذلك بخلاف مذهبكم؟

قلنا : في قوله : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وجوه :

أوّلها : أن يكون معنى الاستهزاء تجهيله لهم وتخطئته إيّاهم في إقامتهم على الكفر ؛ وسمّى ذلك استهزاءً مجازاً وتشبيهاً ؛ كما يقول القائل : إنّ فلاناً استهزأ به منذ اليوم ، إذا فعل فعلاً عابه الناس به ، وخطّئوه فيه ، فأقيم العتب مقام الاستهزاء لتقارب ما بينهما ؛ لأنّ الاستهزاء يقصد به إلى عيب المستهزأ به.

وثانيها : أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يشعرون.

وثالثها : أنّ استهزائهم هو أن يجعل لهم بما أظهروه من الإسلام ظاهر أحكامه ؛ من مناكحة وموارثة ، وغير ذلك ؛ وإن كان تعالى معدّا لهم في الآخرة العقاب الأليم. وهذا الجواب يقرب من الجواب الثاني.

ورابعها : أن يكون معنى ذلك أن الله هو الّذي يردّ استهزاءكم ومكركم عليكم ؛ وأنّ ضرر ما فعلتموه لم يتعدّكم ؛ ونظيره قول القائل : إنّ فلاناً أراد أن يخدعني فخدعته.

وخامسها : أن يكون المعنى أنّا نجازيهم على استهزائهم ؛ فسمّى 5.

ص: 389


1- البقرة : 15.

الجزاء على الذنب باسم الذنب ؛ والعرب تسمّي الجزاء على الفعل باسمه ؛ قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(1) ؛ وقال : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(2) ، وقال الشاعر(3) :

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا

فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا(4)

أقول : وهذا الوجه(5) أقوى الوجوه وأحسنها ، وكأنّه المراد والله أعلم.

59 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلىْ حِينُ)(6) فقال : كيف خاطب آدم وحوّاء بخطاب الجمع؟ وكيف نسب إليهما العداوة؟ وأيّ عداوة كانت بينهما؟

الجواب : قلنا : قد ذكر فيها وجوه :

أوّلها : أن يكون الخطاب متوجّها إلى آدم وحوّاء وذرّيتهما ، لأنّ 6.

ص: 390


1- الشورى : 40.
2- البقرة : 194.
3- هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب ، أبو الأسود ، من بني تغلب (ت 39 ق. ه) من أصحاب المعلّقات.
4- شرح القصائد العشر : 249.
5- م / ر : (وجه) بدون (ال) والأحسن معهما.
6- البقرة : 36.

الوالدين يدلاّن على الذرّية.

وثانيها : أن يكون الخطاب لهما ولإبليس ؛ وإن لم يتقدّم له ذكر في قوله : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(1) ؛ لأنّه قد جرى ذكره في قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها)(2)

وثالثها : أن يكون الخطاب لآدم وحوّاء والحيّة على ما روي ، وفيه بُعد ؛ لأنّ خطاب من لا يفهم لا يحسن ، إلاّ أن يقال : إنّه لم يكن هناك قول في الحقيقة ولا خطاب ؛ وأيضاً لم يتقدّم للحيّة ذكر.

ورابعها : أن يكون الخطاب يختصّ آدم وحوّاء ، وخاطب الاثنين بخطاب الجمع على عادة العرب ؛ لأنّ التثنية أقلّ الجمع ؛ قال تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ)(3) ، أراد لحكم سليمان وداود.

فإن قيل : فما معنى الهبوط؟

قلنا : أكثر المفسّرين على أنّ الهبوط هو النزول من السماء ، وليس في ظاهر القرآن ما يوجب ذلك ؛ فإنّه الهبوط كما يكون النزول من علوٍّ إلى سفل فقد يكون الحلول في المكان والنزول به ؛ قال تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً)(4) ، ويقول العرب : هبطنا بلد كذا ، ويحتمل أن يراد بالهبوط الانحطاط من منزلة إلى دونها ، كما يقال : هبط فلان عن منزلته. 1.

ص: 391


1- البقرة : 35.
2- البقرة : 36.
3- الأنبياء : 78.
4- البقرة : 61.

فإن قيل : ما معنى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ)؟

قلنا : أمّا عداوة إبليس لآدم وذرّيّته فظاهرة ، وأمّا عداوة آدم والمؤمنين من ذرّيّته لإبليس فواجبة ، وعداوة الحيّة معروفة ؛ وأمّا عداوة الذرية بعضهم لبعض فظاهرة أيضاً.

60 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ)(1)

قلنا : قد ذكر في التّنّور وجوه :

الأوّل : أنّه أراد به وجه الأرض ؛ وأنّ الماء نبع وظهر على وجه الأرض وفار.

والثاني : أنّه أعالي الأرض.

والثالث : أن يكون المراد ب- (فارَ التَّنُّورُ) أي برز النّور ، وأظهر الضوء. وهذا القول يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام.

والرابع : أن يكون المراد بالتّنّور المختبز فيه على الحقيقة ؛ وأنّه تنّور كان لآدم. وقيل : كان في دار نوح بعين وردة من أرض الشام. وقيل : بل كان التّنّور في ناحية الكوفة.

والخامس : أن يكون المعنى : واشتدّ غضب الله عليهم ، وحلّ وقوع نقمته بهم ؛ فذكر التّنّور مثلاً لحصول العذاب ، كما يقول العرب : حمي ).

ص: 392


1- هود : 40 ؛ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ).

الوطيس(1) ؛ إذا اشتدّ الحرب ، وعظم الخطب. والوطيس هو التّنّور.

والسادس : أن يكون التّنّور الباب الّذي يجتمع فيه ماء السفينة ؛ فجعل فوران الماء منه والسفينة على الأرض علماً لما أنذر به من إهلاك قومه ؛ وهذا القول يروى عن الحسن.

وأولى الأقوال قول من حمله على التّنّور الحقيقيّ ؛ لأنّه الحقيقة وما سواه مجاز ؛ وأبعدها قول من حمله على شدّة الغضب.

61 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً)(2).

فقال : من هارون الّذي نسبت مريم إلى أنّها أخته؟ ومعلوم أنّها لم تكن أختا لهارون أخي موسى. وما معنى (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) ، ولفظة (كان) يدلّ على ما مضى وعيسى في حال قولهم ذلك كان في المهد؟

الجواب : قلنا : هارون هذا الّذي نسبت إليه مريم قيل فيه أقوال : 9.

ص: 393


1- قال الميداني : (الوطيس : حجارة مدوّرة ، فاذا حميت لم يمكن أحد أن يطأ عليها. يضرب للأمر إذا اشتدّ ، ويروى أن النبيّ (ص) رفعت له أرض موتة فرأى معترك القوم ، فقال : الآن حمي الوطيسّ أي اشتدّ الأمر). (مجمع الأمثال ، 2 : 51).
2- مريم : 28 ، 29.

منها : أنّه كان رجلاً فاسقاً معروفاً بالفحش ، فلمّا أنكروا ما جاءت به من الولد ، وظنّوا بها ما هي مبرّأة من قرفه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيهاً وتمثيلاً ؛ وكان تقدير الكلام : يا شبيهة هارون في فسقه وقبيح فعله.

أقول على هذا الوجه : لو شبّهوها بامرأة زانية فاسقة لكان أحسن في التشبيه والسبب ، وأمّا تشبيهها برجل فليس كذلك.

ومنها : أنّ هارون هذا هو أخوها(1) لأبيها ؛ وقيل : لأبيها وأمّها ، وكان رجلاً معروفاً بالصلاح وحسن الطريقة ، وقيل : إنّه لم يكن أخاها على الحقيقة ؛ بل كان رجلاً صالحاً من قومها ، وإنّه لمّا مات شيّع جنازته أربعون ألفاً ، كلّهم يسمّى هارون ، من بني إسرائيل.

أقول : ضبط هذا العدد الكثير في حال موته بعيد(2) بل محال ، وكون كلّ منهم يسمّى هارون كذلك أيضاً.

فلمّا أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا : (يا أُخْتَ هارُونَ) ؛ أي : يا شبيهته في الصلاح ، ما كان هذا معروفاً منك ، ولا من والديك.

وعلى قول من قال : إنّه كان أخاها على الحقيقة ، فمعناه : إنّك من أهل بيت الصلاح والسداد ؛ لأنّ(3) أباك لم يكن امرأ سوء ، ولا كانت أمّك بغيّاً ، ).

ص: 394


1- م / ر : (أخاها) والصحيح ما أثبتناه ، والخطأ واضح وسببه أنّه عندما اختصر الأمالي وحذف من العبارة (كان) ، لم يطابق الجملة حسب الحذف.
2- م/ ر : (بعقد) بدل (بعيد).
3- م / ر : (لأنّ).

وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والعفّة ، فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك ، ولا يعرف من مثلك!

أقول : أجمع النصارى أنّ مريم لم يكن لها أخ يسمّى هارون فليتأمّل.

ويقوّي هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة قال : أرسلني النبيّ إلى أهل نجران فقالوا : أليس نبيّكم يزعم أن هارون أخا(1) موسى أخو مريم ، وقد علم ما بين عيسى وموسى من النبيّين! فلم أدرِ ما أردّ عليهم ورجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فذكرت له ذلك فقال : هلاّ قلت : إنّهم يدعون بآبائهم الصالحين قبلهم!

أقول : كان بين موسى وعيسى عليهما السلام قريباً من ألفي سنة ، ورواية المغيرة لا يعمل عليها لكونه ناصباً خارجيّاً.

ومنها : أن يكون معناه : يا أُخْتَ هارُونَ يا من هي من قبيل هارون أخي موسى ؛ كما يقول العرب : يا أخا بني تميم ، ويا أخا فلان.

وكما قال الله تعالى : (وَإِلى عاد أَخاهُمْ هُوداً)(2) ، (وَإِلى ؛ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً)(3).

أقول : فعلى هذا الوجه لو قال : يا أخت موسى جاز بل كان أبلغ ، لأنّه أفضل. 3.

ص: 395


1- م / ر : (أخو).
2- الأعراف : 65.
3- الأعراف : 73.

فأمّا قوله : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) فهو كلام مبنيّ على الشرط والجزاء ، مقصود به إليهما ؛ والمعنى : من يكن في المهد صبيّاً ، فكيف نكلّمه؟!

وقال قطرب : معنى (كانَ) هنا معنى (صار) ، وقال غيره : (كانَ) بمعنى (خلق) و (وجد). وقال قوم : لفظة (كانَ) قد يراد بها الحال والاستقبال ؛ لقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة)(1) ، أي أنتم ، وكذلك قوله : (هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشَراً رَسُولا)(2).

أقول : إنّ (كان) هنا زائدة للتأكيد ، وتقديره : كيف نكلّم من في المهد صبيّاً ، ولولا زيادتها وإلاّ لما كان تكليمه لهم معجزةً لأنّ كلّ واحد منّا كان في المهد صبيّاً ، وكان يراد في الكلام كيداً.

62 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(3).1.

ص: 396


1- آل عمران : 110.
2- الإسراء : 93.
3- الشورى : 51.

أوليس ظاهرها يقتضي جواز الحجاب عليه!؟

الجواب : قلنا : ليس في الآية أكثر من ذكر الحجاب ، فليس فيها أنّه حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه. وإذا لم يكن في الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره ؛ وقد يجوز أن يريد بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب) أنّه يفعل كلاماً في جسم محتجب على المتكلّم ، غير معلوم له على سبيل التفصيل ، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محلّه على سبيل التفصيل ، فيقال على هذا : هو مكلّم من وراء حجاب.

وروى عن مجاهد في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْياً) قال : هو داود أوحِيَ في صدره فزبر الزّبور ، (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب) قال : هو موسى ، (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا) قال : هو محمّد.

فأما الجبّائيّ فذكر أنّ المراد : (وَما كانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) إلاّ بمثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته ، والنهي عن معصيته ، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر والمنام ، وما أشبه ذلك على سبيل الوحي. وإنّما سمّاه وحياً لأنّه خاطر وتنبيه ، وليس هو كلاماً(1) على سبيل الإفصاح ، والوحي لغة تجري مجرى الإيماء والتنبيه على ÷شيء من غير أن يفصح به ؛ فهذا هو معنى ما ذكره في الآية. وعنى بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب) أن يحجب ذلك عن جميع خلقه ، إلاّ من يريد أن يكلّمه ؛ نحو كلامه لموسى ، لأنّه حُجِب ذلك).

ص: 397


1- م / ر : (كلام) بدل (كلاما).

عن جميع الخلق إلاّ موسى وحده في كلامه له الأوّل. وأمّا كلامه له في المرّة الثانية فإنّه إنّما أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه ، وحجبه عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب) ، لأنّ الكلام هو الّذي كان محجوباً عن الناس.

وقد يقال : إنّه حجب عنهم موضع الكلام الّذي أقام الكلام فيه ؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه ؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلاّ في جسم.

ولا يجوز أن يراد أنّ الله كان مِنْ وَراءِ حِجاب يكلّم عباده ؛ لأنّ الحجاب لا يجوز إلاّ على الأجسام. وهذا الكلام سديد.

ويمكن في الآية وجه آخر ، وهو : أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ، ونفي الظهور. يقول لمن يستبعد فهمه : بيني وبينك حجاب.

أقول : وهو الأظهر الأشبه بالآية.

63 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً)(1).

فقال : كيف ذكر هذا بعد ذكره البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغي أن يتقدّمه؟ ).

ص: 398


1- البقرة : 72 ، 73 ؛ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

ولم قال : (قَتَلْتُمْ) ، والقاتل واحد؟ وأيّ شيء وقعت الإشارة عليه بقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)؟

الجواب : قلنا :

هذه الآية وإن تأخّرت فهي مقدّمة في المعنى ؛ ويكون التأويل : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فسألتم موسى فقال لكم : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فأخّر المقدّم وقدّم المؤخّر ؛ ومثله في القرآن وكلام العرب كثير(1).

والوجه الثاني : أن يكون وجه التأخير فيها أنّه علّق بما هو متأخّر في الحقيقة ، وواقع بعد ذبح البقرة ، وهو قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) ؛ لأنّ الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنّما هو بعد الذبح ؛ فكأنّه قال : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ولأنّكم (قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فأمرناكم أن تضربوه ببعضها ، ليكشف أمره.

أقول(2) : إنّما قدّمت(3) قصّة الأمر بالذبح على ذكر القتل(4) مع تقدّمه لأنّ الغرض ذكر قصّتين كلّ واحدة منهما(5) تختصّ بنوع من التقريع ، فلو ).

ص: 399


1- مثله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) (الكهف : 1 ، 2).
2- ر : (أنا).
3- م : (قدم).
4- م : (القتيل).
5- م / ر : (منها).

عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة وذهب الغرض.

وأمّا إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع والقاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء ، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها ؛ فيقول أحدهم : فعلت بنو تميم كذا ؛ وإن كان الفاعل واحداً.

وقيل : إن القائل كان اثنين ، وقيل : جماعة.

ومعنى (فَادَّارَأْتُمْ فيها) : فتدافعتم ، وألقى بعضكم القتل على بعض ؛ يقال : دارأت فلاناً إذا دافعته وداريته ، إذا لاينته ، ودريته إذا ختلته.

والهاء في قوله : (فِيها) يعود إلى النفس ، وقيل : إلى القتلة.

وأمّا قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) فالإشارة وقعت فيه إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة ؛ لأنّه روي أنّه قام حيّاً وأوداجه تشخب دماً ، فقال : قتلني فلان!

ونبّه الله بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكر(1) مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات.

أقول : وجدت بعض العلماء قد قال : المراد بالبقرة النفس الناطقة وإن من قتلها بالرياضات عاش حياة طيبة حياة الأبد ، قالت الحكماء : من مات بالإرادة عاش بالطبيعة. ).

ص: 400


1- م / ر : (أنكروا).

64 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(1) الآية.

فقال : أليس ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الشرك على الأنبياء ؛ لأنّه لم يتقدّم إلاّ ذكر آدم وحوّاء ؛ فيجب أن يكون قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) يرجع إليهما.

الجواب : قلنا : كما أنّ ذكر آدم وحوّاء قد تقدّم ذكر ولد آدم في قوله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) ؛ والمعنى : ولداً صالحاً ، والمراد به الجنس دون الواحد ؛ والمعنى : فلما آتاهما جنساً من الأولاد صالحين ؛ فيجوز أن يرجع قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) إلى ولدهما.

فإن قيل : إنّما وجب ردّه إلى آدم وحوّاء لأجل التثنية ، قلنا : إن جعل هذا ترجيحاً في رجوعه إليهما جاز أن يجعل قوله : (فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وجهاً لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد(2). ويجوز أن يكون قد أشير بالتثنية إلى الذكر والإنثى من ولد آدم أو إلى جنسين منهم.

قال الجبائيّ : إنّما عنى بها أنّه خلق بني آدم من نفس واحدة ؛ وهي ).

ص: 401


1- الأعراف : 189 ، 190 ؛ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ * فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
2- م : (جملة إلى الإرادة) /ر : (جملة إلى الأولاد).

آدم ؛ لأنّه خلق حوّاء من آدم من ضلع من أضلاعه.

أقول : هذا القول باطل لأنّ حواء إنّما خلقت من جنس آدم ولم تخلق من ضلع منه لقوله : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)(1) أي من جنسكم ليكون ذلك أشدّ أبناء وأبلغ مودّة ، فإنّ العقل ينكر ما قاله الجبائي وغيره والذي قال مثل مقالته.

وقوله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) أي نسلاً صالحاً معافاً ، فهم الأولاد لأنّ حوّاء كانت تلد في بطن ذكراً وأنثى ، فيقال : إنّها ولدت خمسمئة بطن ألف ولد ، وعنى بقوله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) من نعمة ؛ وأضافا تلك النعمة إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله ، ولم يعن بقوله : (جَعَلا) آدم وحوّاء ؛ لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الشرك ، وإلاّ لما وُثِقَ بكلامهم ؛ لأنّ من جاز عليه الكفر جاز أن يكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره ؛ فصحّ بهذا في قوله : (جَعَلا) إنّما عنى به النسلَ. وإنّما ذكر ذلك على سبيل التنبية ؛ لأنّهم كانوا ذكراً وأنثى ، ودلّ قوله : (فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) على صحّة تأويلنا.

ووجدت أبا مسلم بن بحر يحمل هذه الآية على أنّ الخطاب في (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما وآتاهُما صالِحاً) راجعين إلى من أشرك ؛ ولم يتعلّق بآدم وحوّاء من الخطاب إلاّ قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة) ؛ وقوله : (وَجَعَلَ 1.

ص: 402


1- الروم : 21.

مِنْها زَوْجَها) قال : ويجوز أن يكون عنى بقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة) المشركين خصوصاً.

ويجوز أن يكون المعنى في : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة) خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة ؛ كقوله(1) : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)(2) ؛ أي فاجلدوا كلّ واحد ثمانين جلدة.

وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها)(3) ؛ فلكلّ نفس زوج هو منها أي من جنسها.

(فَلَمَّا تَغَشَّاها) ، أي فلمّا تغشّى كلّ نفس زوجها.

وقال قوم : معنى (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أي طلبا من الله أمثالاً للولد الصالح فأشركا بين الطّلبين ويكون الهاء في : (لَهُ) راجعة إلى الصالح.

أقول(4) : الأجود الأقرب أن يكون في الكلام حذف ويكون التقدير : جعل بعض أولادهما له شركاء ولهذا قال : (فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

65 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (قالَ أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ ).

ص: 403


1- ر : (كقولهم).
2- النور : 4.
3- الروم : 21.
4- ر : (أنا).

خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ)(1).

فقال : أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنّه خلق الأعمال ؛ فكأنّه قال : خلقكم وخلق أعمالكم.

الجواب : المراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) أي ما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما ؛ ممّا كانوا يتّخذونه أصناماً ويعبدونها.

كما أنّ المراد بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) لأنّه لم يرد أنّكم تعبدون نحتكم الّذي هو فعل لكم ؛ بل أراد ما تفعلون فيه النّحت.

66 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(2) الآية.

فقال : أخبر تعالى بأنّه أنزل فيه القرآن ، وقد أنزله في غيره من الشهور؟ وما معنى قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟ وهل أراد الإقامة والحضور اللذين(3) هما ضدّ الغيبة ، أو أراد المشاهدة والإدراك؟

الجواب : قلنا : قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قد قيل : إنّه أنزل القرآن ).

ص: 404


1- الصافات : 95 ، 96.
2- البقرة: 185؛ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدىوَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
3- م/ ر : (اللذان).

جملةً واحدةً إلى سماء الدنيا في شهر رمضان ، ثمّ فرق إنزاله بعد ذلك على نبيّه بحسب ما تدعو الحاجة إليه.

أقول : في هذا الوجه نظر.

وقيل : المراد به أنّه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآنَ ؛ فيكون فِيهِ بمعنى في فرضه ، كما يقول القائل : أنزل الله في الزكاة كذا ، يريد في فرضها ، وأنزل الله في الخمر كذا ، يريد في تحريمها.

وهذا الجواب ضعيف ؛ لأنّه يجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن ؛ فإن قيل : المراد أنّه أنزل في فرضه شيئا من القرآن.

قيل : فهلاّ(1) اقتصر على هذا ، وحمل الكلام على أنّه تعالى أنزل شيئا من القرآن في شهر رمضان.

والجواب الصحيح : أنّ قوله تعالى : (الْقُرْآنُ) في هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق ، وإنّما يفيد الجنس ، فكأنّه قال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ) هذا الجنسُ من الكلام ؛ فأيّ شيء نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر.

أقول : المعنى شهر رمضان الذي ابتدئ فيه نزول القرآن أي أوّل ما نزل القرآن ، إنّما كان فيه. ).

ص: 405


1- ر : (فألا).

قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فالأكثر حمله على أنّ المراد بمن شهد ، من كان مقيماً في بلده غير مسافر. وأبو عليّ حمله على من أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه.

الأوّل أقوى من حيث يحتاج في الثاني إلى الإضمار(1) أكثر ممّا يحتاج إليه في الأوّل.

67 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(2).

فقال : كيف يكون الفرقان ، والفرقان القرآن؟

الجواب : قلنا : قد ذكر في ذلك وجوه :

الأوّل : أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدّم ذكره ؛ وهو التوراة ،وكتب الله كلّها فرقان ، تفرّق بين الحقّ والباطل ، والحلال والحرام.

واستشهد على ذلك بقول طرفة :

فَما لي أَراني وَاِبنَ عَمِّيَ مالِكاً

مَتى أَدنُ مِنهُ يَنأَ عَنّي وَيَبعُدِ(3)8.

ص: 406


1- م / ر : (من الإضمار إلى) بدل (إلى الإضمار).
2- البقرة : 53.
3- شرح القصائد العشر : 88.

فنسق (يبعد) على (ينأ) وهو هو بعينه ، وبقول عديّ(1) :

.............................

وألفى قولها كذباً ومينا(2)

والمين الكذب.

وثانيها : أن يكون الكتاب التوراة ، والفرقان انفراق البحر الّذي أوتيه موسى عليه السلام.

وثالثها : أن يراد بالفرقان الحلال والحرام ، والفرق بين موسى وأصحابه وبين فرعون وأصحابه ؛ لأنّ الله قد فرّق بينهم في أمور كثيرة ؛ منها أنّه نجّى هؤلاء وأغرق أولئك.

ورابعها : أن يكون المراد بالفرقان القرآن ، ويكون المعنى في ذلك : وآتينا موسى التوراة والتصديق والإيمان بالفرقان الّذي هو القرآن ؛ لأنّه كان مؤمناً بمحمّد وبما جاء به ، ومبشّراً ببعثته.

وخامسها : أن يكون المراد بالفرقان القرآن ، ويكون تقدير الكلام : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الّذي هو التوراة ، وَآتينا محمّدا الْفُرْقانَ ، فحذف ما حذف ممّا يقتضيه الكلام ؛ كما حذف الشاعر في قوله :

تَراهُ كَأَنَّ اللَهَ يَجدَعُ أَنفَهُ

وَعَينَيهِ إِن مَولاهُ كانَ لَهُ وَفرُ(3)ه)

ص: 407


1- هو عدي بن زيد العبادي.
2- الشعر والشعراء ، 1 : 220 ؛ والشطر الأوّل : وقدّمت الأديم لراهشيه ؛ والراهشان : عرقان في الذراعين ، والأديم : النطع.
3- نسبه الجاحظ إلى من يدعوه بخالد بن الطفيان (الحيوان ، 6 : 337) ، وفيه : (أذنيه)

أراد : ويفقأ عينيه.

وقال الآخر :

.............................

علّفتُها تِبناً وماءً باردا(1).

أراد : وسقيتها ماءً.

وقال الآخر :

يَا لَيتَ بعلَكِ قَد غَدا

مُتَقَلِّداً سَيفاً وَرُمحا(2)

أراد : وحاملاً رمحاً.

وهو كثير في كلامهم.

أقول : هذا الوجه إن صحّ كان في غاية التعسّف(3).

68 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذي يَقُولُونَ ).

ص: 408


1- قد تقدّم في التأويل الثامن.
2- قد تقدّم في نفس التأويل ، إلاّ أنّ هناك (زوجك) مكان (بعلك).
3- م : (التعنيف).

فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُون)(1).

فقال : كيف يخبر عنهم أنّهم لا يكذّبون نبيّه ، ومعلوم منهم إظهار الكذب ، وكيف نفى عنهم التكذيب ، ثمّ يقول : إنّهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآياته إلاّ تكذيب نبيه؟!

الجواب : قلنا : قد ذكر في الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون إنّما نفى تكذيبهم بقلوبهم تديّناً واعتقاداً ، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب.

وثانيها : أن يكون معنى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) لا يفعلون بحجّة ، ولا يتمكّنون من إبطال ما جئت به ببرهان ؛ وإنّما يقصرون على الدعوى الباطلة.

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقرأ هذه الآية بالتخفيف : (فَإِنَّهُمْ لا يكذِبُونَكَ) ، ويقول : إنّ المراد بها : لا يأتون بحقٍّ هو أحقّ من حقّك.

وقيل : معناه : لا يبطلون ما في يديك ؛ وكلّ هذا يقوّي هذا الوجه.

وثالثها : أن يكون المعنى : لا يصادفونك(2) كاذباً ؛ كما تقول : ما أجبنته ، أي ما وجدته جباناً.

وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصّاً بالقراءة بالتخفيف ؛ لأنّ في الوجهين معاً يمكن هذا الجواب ، لأنّ (أفعلت) و (فعلت) يجوزان في هذا ح.

ص: 409


1- الأنعام : 33.
2- م : (لا يصادقونك) ، وليس بصحيح.

الموضع ، و (أفعلت) بالتخفيف هو الأصل ثمّ شدّد تأكيداً وإفادة لمعنى التكرار ؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت ، وأوصيت ووصّيت.

ورابعها : ما حكاه الكسائيّ وهو أنّ المراد أنّهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به ؛ لأنّه كان عندهم إنساناً صادقاً ؛ وإنّما كانوا يدفعون ما أتى به ، ويدّعون أنّه في نفسه كذب ؛ كقوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)(1) ؛ ولم يقل : وكذّبك قومك. وكان الكسائىّ يقرأ : لا يكَذِبُونَكَ ؛ بالتخفيف وكذا نافع أيضاً.

وخامسها : أن يكون المعنى أنّ تكذيبك راجع إليّ ، وعائد عليّ ؛ ولستَ المختصّ به ؛ لأنّه رسول الله فمن كذّبه فهو في الحقيقة مكذّب لله ورادّ عليه. وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيّه ، والتغليظ لتكذيبه.

وسادسها : المراد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الأمر الّذي يوافق فيه كتبهم ، وإن كذّبك في غيره.

ويمكن في الآية وجه سابع ، وهو أن يريد أنّ جميعهم لا يكذّبونك وإن كذّبك بعضهم ؛ أخبره الله(2) تسلية له أنّ البعض وإن كذّبك فإنّ فيهم من يصدّقك ويتبعك.

69 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أَنْ قالُوا ).

ص: 410


1- الأنعام : 66.
2- م : (الله).

وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(1) وعن قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(2).

فقال : كيف يقع من أهل الآخرة نفي الشرك عن أنفسهم ، والقسم بالله عليه وهم كاذبون ؛ ومع ذلك أنّهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبائح لمعرفتهم بالله ضرورة ؛ ولأنّهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح ، وكيف قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فشهد عليهم بالكذب ، ثمّ علّقه بما لا يصحّ فيه معنى الكذب وهو التمنّي ؛ لأنّهم تمنّوا ولم يخبروا؟!

الجواب : قلنا : أوّل ما نقوله : إنّه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي أنّ قولهم : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إنّما وقع في الآخرة دون الدنيا ؛ وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الإخبار تناول دار الدنيا ، وسقطت المسألة ؛ وليس لأحد أن يتعلّق في وقوع ذلك في حال الآخرة بقوله قبل الآية : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) الآية(3) ؛ لأنّه لا ).

ص: 411


1- الأنعام : 23، 24.
2- الأنعام : 27 ، 28.
3- الأنعام : 22 ؛ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونََّ).

يمتنع أن يكون الآية تناولت ما يجري في الآخرة ، ثمّ يتلوها آية يتناول ما جرى في الدنيا ؛ لأنّ مطابقة كلّ آية لما قبلها في هذا غير واجب ؛ فكأنّه قال : إنّا نحشرهم في الآخرة ونقول : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالتهم في الدنيا إلاّ قولهم : (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقد قيل في الآية - على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم في الآخرة - : إنّ المراد : ما كنّا عند نفوسنا مشركين ؛ بل كنّا نعتقد أنّا على الحقّ ، وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) لم يرد في هذا الخبر الّذي وقع منهم في الآخرة ؛ بل إنّهم كذبوا على أنفسهم في دار الآخرة بإخبارهم أنّهم مصيبون غير مشركين.

وأمّا قوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) وقوله : (فإنّهم لَكاذِبُونَ) فمن الناس من حمل الكلام كلّه على وجه التمنّي ، وصرف قولهم : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إلى غير الأمر الّذي تمنّوه ؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مصروفاً إلى حال الدنيا ، فكأنّه قال : وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإصابة واعتقاد الحقّ ؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا عن أنفسهم بأنّهم متى ردّوا آمنوا ؛ وإن كان ما حكي عنهم من التمنّي ليس بخبر.

ويكون المعنى أنّهم كذبوا في آمالهم وتمنّيهم.

ص: 412

70 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ)(1)

فقال : كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل له؟ وأيّ فائدة في سؤالها عن ذلك؟ وما الموءودة؟ ومن أيّ شيء اشتقاق هذه اللفظة؟

الجواب : قلنا : أمّا معنى (سُئِلَتْ) ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد أن قاتلها(2) طولب بالحجّة في قتلها ، وسئل عن قتله لها ، وبأيّ ذنب كان ؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجّة. فالقتلة هم هم المسؤولون على الحقيقة لا المقتولة ؛ وإنّما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى : سألت حقّي ، أي طالبت به.

والوجه الآخر : أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقاتلها ، والتقريع له ، والتنبيه على أنّه لا حجّة له في قتلها(3) ؛ ويجري هذا مجرى قوله لعيسى عليه السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ)(4) ، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجّة عليهم.

فإن قيل : كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم!؟

قلنا : الأطفال وإن كان من جهة العقل لا يجب في وصولهم إلى 6.

ص: 413


1- التكوير : 8 ، 9.
2- ر : (قائلها).
3- م / ر : (مثلها).
4- المائدة : 116.

الأغراض المستحقّة أن يكونوا مثل كاملي العقول ؛ فإنّ الخبر متظاهر ، والأمّة متّفقة على أنّهم في الآخرة ، وعند دخولهم الجنّة يكونون على أكمل الهيئات ؛ وأفضل الأحوال ؛ وإنّ عقولهم تكون كاملةً.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ؛ وابن عبّاس ، ومجاهد ، ويحيى بن يعمر ، ومسلم بن صبيح ، أنّهم قرؤوا سألت بفتح السين وسكون التاء(1) وبضم الياء من قتلت ، بأيّ ذنب قتلت.

وقرأ عاصم : قُتِلَتُ بضمّ التاء.

وقرأ أبو جعفر : قُتِّلَتْ بالتشديد وإسكان التاء.

وقرئ الْمَوَدَةُ بفتح الميم والواو. ويعني الرحم والقرابة ، وأنّه يسأل قاطعها.

والموءودة وإن كان لفظها لفظ الواحد فالمراد بها الجنس ، وهي المقتولة الصغيرة ، وكانت العرب تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء ، لأنّهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فنحن نلحق البنات بالله ، فهو أحقّ بالبنات.

وكانوا يقتلونهنّ(2) خشية الإملاق ، وخشية العار.

وإنّما قيل لها موءودة ؛ لأنها ثقّلت بالتراب الّذي طرح عليها حتّى ماتت. ).

ص: 414


1- م / ر : (الباء).
2- م/ ر : (يقتلونهم).

71 - تأويل آية

إن سأل سائل عن قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَة * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة * يَتِيماً ذا مَقْرَبَة * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَة)(1).

الجواب : أمّا ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى ، وما أزاح به عللهم في تكاليفهم ، وما تفضّل عليهم من الآلات التي يتوصّلون بها إلى منافعهم ، ويستدفعون بها المضارّ عنهم.

وأمّا النّجد لغةً فهو الموضع المرتفع.

واختلف في المراد بالنجدين ، فقيل : هما طريقا الخير والشرّ ؛ وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وابن مسعود ، والحسن.

وقيل : هما ثديا الأم.

أقول : هذا الوجه بعيد ، لأنّ النجد الطريق وأيضاً كلّ الحيوانات هديت إلى الامتصاص من الثدي(2).

وقيل : المراد بالنجدين أنّا بصّرناه وعرّفناه ما له وعليه ، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب وطريق استحقاق العقاب.

أقول : ويحتمل أنّه يراد بهما طريق تحصيل الدنيا وطريق تحصيل الأخرى ، أو طريق الجنّة والنار.

فأمّا قوله : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ؛ ففيه وجهان : ا.

ص: 415


1- البلد 10 - 16.
2- م : (الامتصاص من الثدي) ، وفيه بعض السقط هنا.

أحدهما : أن يكون (لا) بمعنى الجحد ، وبمنزلة (لم) ، أي فلم تقتحم العقبة ؛ وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة (لا) ؛ كما قال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى)(1) أي لم يصدّق ولم يصلّ ؛ إلاّ أن في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه ، وهو قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ فكأنّه قال : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، ولا آمن ؛ فمعنى التكرار حاصل.

والوجه الآخر : أن يكون (لا) جارية مجرى الدعاء ؛ كقولك : لا نجا ولا سلم ، ونحو ذلك.

وقال قوم : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلاّ اقتحم العقبة! قالوا : ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ، ولو كان أراد النفي لم يتّصل الكلام.

وهذا الوجه ضعيف جدّاً ، لأنّ قوله : (فَلا) خال من لفظ الاستفهام ، وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع ، وقد عيب على عمر بن أبى ربيعة قوله :

ثُمَّ قالوا تُحِبُّها قُلتُ بَهراً

عَدَدَ القَطرِ وَالحَصى وَالتُرابِ(2)

أقول : تقديره : أتحبّها؟ وسياق الكلام يدلّ على ذلك ، فلا عيب. ).

ص: 416


1- القيامة : 31.
2- قال الأصمعيّ : عمر حجّة في العربية ، ولم يؤخذ عليه إلاّ قوله [هذا] ؛وله في ذلك مخرج ، إذ قد أتى به على سبيل الإخبار. (الأغاني ، 1 : 89) وفيه (الرمل) مكان (القطر) ، وفي الأمالي رواية أخرى أيضاً في غير موضع هذه الآية ، وهي (النجم) إلى جانب ما تقدم. (الأمالي ، 1 : 344).

فأمّا الترجيح بأنّ الكلام لو أريد به النفي لم يتّصل فقد بيّنا أنّه متّصل ، مع أنّ المراد به النفي.

فأمّا المراد بالعقبة فاختلف فيه ، فقال قوم : هي عقبة ملساء في جهنّم ، واقتحامها فكّ رقبة.

وروي عن ابن عبّاس أنّها عقبة كَؤود(1) في جهنّم ، وروي أيضاً أنّه قال : العقبة هي النّار نفسها.

وقيل : العقبة ما ورد مفسّراً لها من فكّ الرقبة والإطعام في يوم المسغبة ؛ وإنّما سمّاه عقبةً لصعوبته ومشقّته عليها(2).

وقد اختلف في قراءة : (فَكُّ رَقَبَة) ، فقرأ أمير المؤمنين ، ومجاهد ، وأهل مكّة ، والحسن ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : فَكَّ رَقَبَةً بفتح الكاف ونصب الرقبة ، وقرؤوا أو أطعَمَ على الفعل. وقرأ أهل المدينة ، والشام ، وعاصم ، وحمزة : فَكُّ بضمّ الكاف وبخفض رَقَبَة وقرؤوا أطعمَ على الفعل(3) ، أَوْ إِطْعامٌ على المصدر المرفوع. ورجّح الفرّاء القراءة بلفظ الفعل.

والسغب : الجوع ؛ وإنّما أراد أنّه يطعم في يوم مجاعة ؛ لأنّ الإطعام فيه أفضل وأكرم. وأمّا (مقربة) فمعناه : يتيماً ذا قربى ؛ من قرابة النسب والرّحم ؛ والمسكين : الفقير الشديد الفقر ؛ والمتربة : مفعلة ، من التراب ، أي هو لاصق بالأرض من ضُرّه وحاجته ؛ ويجري هذا الاشتقاق مجرى قولهم في الفقير : ي.

ص: 417


1- شاقّة المصعد.
2- أي : على النفس.
3- (وقرؤوا أطعم على الفعل) ليس في الأمالي.

مدقع ؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء ؛ وهي الأرض التي لا شيء فيها.

وقيل : (ذا مَتْرَبَة) ذا عيال. والمرحمة : مفعلة من الرحمة ؛ وقيل : إنّه من الرّحم.

ويمكن في مَقْرَبَة أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ؛ بل هو من القرب ، الّذي هو الخاصرة ، فالمعنى : يطعم من انطوَت خاصرته ولصقت من شدّة الجوع ؛ وهذا أعمّ وأشبه بقوله : (ذا مَتْرَبَة).

وهذا آخر تأويل الآيات المذكورة في الدرر والغرر

ملخّصاً ومزيداً عليه ما خطر للعبد في حال كتابة الكتاب

والله الملهم للصواب

علّقه الذي انتزعه وجرّده ولخّصه واختاره

عبد الرحمن بن محمّد بن إبراهيم بن العتائقي

في مجالس آخرها : ثالث عشر شهر رجب من سنة ستّ وسبعمئة

والحمد لله ربّ العالمين وحده

وصلّى الله(1) على من لا نبيّ بعده محمّد المصطفى(2)

وآله الطيّبين الطاهرين ، وسلّم تسليماً(3)

آمين يا ربّ العالمين(4) ).

ص: 418


1- م : (وصلواته) بدل (وصلّى الله).
2- م : (المصطفى).
3- ر : (وسلّم تسليما).
4- ر : (آمين يا رب العالمين).

الباب الثاني

تأويل الأخبار

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله خالق الألباب وملهم الصواب ، وصلواته على محمّد وآله والأصحاب.

وبعد ؛

فهذا تأويل أخبار منتزعة مجرّدة من كتاب (الدرر والغرر) للسيّد المرتضى - رضي الله عنه - اختارها الفقير إلى الله عبد الرحمن بن محمّد بن العتائقي - تجاوز الله عنه ورضي - وربّما خطر للعبد شيء من زيادة وإعراض ، وغير ذلك عليها.

وبالله العصمة والتوفيق ، وهو الهادي إلى سواء(1) الطريق قال - رحمه الله - : ).

ص: 419


1- ر : (سؤال).

1 - تأويل خبر

روي عن النبيّ - صلّى الله عليه وآله - أنّه قال : «من تعلّم القرآنَ ثمّ نَسِيَه لَقِيَ اللّهَ وَهو أجذَمُ».

قال أبو عبيد القاسم بن سلاّم مفسّراً لهذا الحديث : الأجذم : المقطوع اليد ، واستشهد بقول المتلمّس(1) :

وَما كُنتُ إِلا مِثلَ قاطِعِ كَفِّهِ

بِكَفّ لَهُ أُخرى فَأَصبَحَ أَجذَما(2)

وقد خطّأ عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبا عبيد في تأويله ، وقال : الأجذم وإن كان المقطوع اليد ؛ فإنّ هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع. قال : لأنّ العقوبات من الله تعالى لا تكون إلاّ وفقاً للذّنوب وبحسبها ، واليد لا مدخل لها في نسيان القرآن ، فكيف يعاقب فيه؟! واستشهد بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية(3) ، أنّ الرّبا إذا أكلوه ثقل في بطونهم ، وربا ؛ فجعل قيامهم مثل قيام من يتخبّطه الشيطان تعثّراً وتخبّلاً(4). واستشهد بما روي من قوله : «رأيت ليلة أُسرِيَ بي قوماً تُقرَض شفاههم ، فقال لي جبريل : هؤلاء ).

ص: 420


1- المتلمّس الضبعي جرير بن عبد العزّى ، أو عبد المسيح ، من بني ضُبيعة ، من ربيعة. من أهل البحرين ، وهو خال طرفة بن العبد (ت 43 ق. ه).
2- ديوان المتلمّس الضبعي : 32.
3- البقرة : 275 ؛ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ).
4- ر : (تغيّراً وتخيلاً).

خطباء أمّتك ، تقرض شفاههم ؛ لأنّهم يقولون ما لا يفعلون»(1). قال : فالأجذم في الخبر إنّما هو المجذوم ؛ وإنّما جاز أن يسمّى المجذومُ أجذمَ ؛ لأنّ الجذام يقطّع أعضاءه ويشذّبها(2) ؛ والجذم : القطع.

قال المرتضى رحمه الله : وقد أخطأ الرجلان جميعاً ، وذهبا عن الصواب ذهاباً بعيداً ، وغلط ابن قتيبة أقبح وأفحش ؛ لأنّه علّل غلطه ، فأخرجه إلى أغاليط كثيرة ؛ ونحن نبيّن معنى الخبر ونتكلّم على ما أورداه.

أمّا معنى الخبر فإنّما أراد بقوله : يُحشَرُ أجذمَ ؛ المبالغةَ في وصفه بالنقصان عن الكمال ، وفقد ما كان عليه بالقرآن من الزينة والجمال. والتشبيه له بالأجذم من أحسن التشبيه وأعجبه ؛ لأنّ اليد من الأعضاء الشريفة النافعة ؛ ففاقدها يفقد ما كان عليه من الكمال ، وتفوته المنافع والمرافق ؛ وهذه حال من نسي القرآن وضيّعه بعد حفظه ، لأنّه يفقد ما كان لابساً من الجمال ، ومستحقّاً له من الثواب ، وهذه عادةٌ للعرب في كلامهم معروفةٌ ؛ يقولون فيمن فقد ناصره ومعينه : فلان بعد فلان أجدع ، وقد بقي بعده أجذم ؛ قال الفرزدق يرثي : ه.

ص: 421


1- وَفِي الْمَجْمَعِ عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صْ) : مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى أُنَاس تُقْرَضَُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَار فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمَ. (بحار الأنوار ، 69 : 223)
2- أي : يقطعها ، وأصله قطع أغصان الشجر وقشره.

تَضَعضَعَ طَودا وائِل بَعدَ مالِك

وَأَصبَحَ مِنها مِعطَسُ العِزِّ أَجدَعا(1)

وللعرب ملاحن في كلامها ، وإشارات إلى الأغراض ، وتلويحات بالمعاني ، متى لم يفهمها من يعاطي تفسير كلامهم ، وتأويل خطابهم كان ظالماً لنفسه ، متعدّياً طوره.

أمّا أبو عبيد فإنّ خطأه من حيث لم يفطن للغرض في الخبر ، وضلّ عن وجهه ، وإلاّ فالأجذم ما قاله ، لكن لا يليق بهذا الموضع.

وأمّا ابن قتيبة فإنّه غلط من حيث لم يفطن للوجه في الخبر ، ومن حيث ظنّ أنّ العقوبة لا تكون إلاّ في محلّ الذّنب ، وهذا القول يوجَب عليه ألاّ يُجلَد ظهر الزاني ، ويخصّ العقوبة بفرجه ، والقاذف يعاقب في لسانه ؛ والخبر الّذي استشهد به حجّة عليه ، لأنّا نعلم أنّ اللسان أقوى خطأً في باب الكلام من الشّفة ، فلِمَ لم يختصّ بالعقوبة؟ وغلطه في تأويل الآية أقبح ؛ لأنّه توهّم أنّ ما تضمّنته الآية يكون في الدنيا ، ونحن نجد كثيراً من آكلي الربا أخفّ نهوضاً ، وأسرع قياماً وتصرّفاً من غيرهم ؛ ممّن لم يأكلّ الربا ؛ وإنّما المراد بذلك عند قيامهم من قبورهم ، فيلحقهم ذلك عقوبة.

وليس بمعروف أنّ الأجذم هو المجذوم.

أقول : والنسيان قد يكون نشوء مزاج غالب على مزاج الإنسان كبرد ف.

ص: 422


1- ديوان الفرزدق : 343 ؛ الطود : الجبل العظيم ؛ وائل اسم قبيلته ؛ هو مالك بن مسمع من بكر بن وائل ، كان سيّد ربيعة في زمانه ، وتوفّي سنة 73 ؛ المعطس : الأنف.

يفرط أو خلط غالب كالبلغم المفرط وترك التلاوة مدّة مديدة ، وإنّما شبّه بالأجذم لما في اليد ، وقد يكون لإهمال الدرس هو المذموم لا الأوّل من الجمال والحسن ، وفي فقدها من التشويه والوحاشة ، وإن كان المراد بالأجذم المجذوم كما في شكل المجذوم من الوحاشة فإنّه يغيّر الوجه ويضيق العين وينثر الأنامل ويزول رونق الحياة عنه.

2 - تأويل خبر

روى أبو عبيد القاسم بن سلاّم ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «من أحبّنا أهل البيت فليعدّ(1) للفقر جلباباً ، أو تجفافاً»(2).

وقال : وقد تأوّل بعضهم هذا الخبر على أنّه أراد به الفقر في الدّنيا ، قال : وليس ذلك كذلك ؛ إنّا نرى فيمن يحبّهم مثل ما في سائر الناس ، من الغنى والفقر. قال : والصّحيح أنّه أراد به الفقر يوم القيامة ، وأخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحثّ على الطاعات ، فكأنّه قال : من أحبّنا فليعدّ لفقره يوم القيامة ما يجبره من الثّواب ، والقرب إلى الله تعالى ، والزّلفة عنده.

أقول : الناس كلّهم مشتركون فيما ذكر ، لكن إنّما خصّهم بالذكر لكونهم هم أهل الحقّ والفئة الناجية.ة.

ص: 423


1- في الأمالي : (فليستعدّ).
2- درسنا هذا الحديث وما حوله من الآراء في مقالة نشرتها مجلّة (علوم حديث) العلمية المحكمة العدد 69 باللغة الفارسية.

قال ابن قتيبة : وجه الحديث خلاف ما قال ، ولم يرد إلاّ الفقر في الدّنيا ؛ ومعناه أنّ من أحبّنا فليصبر على التقلّل من الدنيا والتقنّع فيها ، وليأخذ نفسه بالكفّ عن أحوال الدنيا وأعراضها ؛ وشبّه الصبر على الفقر بالجلباب أو التّجفاف ؛ لأنّه يستر الفقر كما يستران البدن. ويشهد بصحّة هذا التأويل ما روي عنه عليه السلام أنّه رأى قوماً على بابه ، فقال : يا قنبر ، من هؤلاء؟ فقال له قنبر : شيعتك ، فقال : ما لي لا أرى فيهم سيماء الشيعة؟ قال : وما سيما الشّيعة؟ قال : خمص البطون من الطّوى ، يبس الشفاه من الظّما ، عمش العيون من البكاء(1).

قال السيّد : والوجهان جميعاً في الخبر حسنان ؛ وإن كان الوجه الّذي ذكره ابن قتيبة أحسن وأنصع.

ويمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث تشهد بصحّته اللّغة ؛ وهو أنّ أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يُحَزّ أنف البعير حتّى يصل إلى العظم ، ثمّ يلوى عليه حبل ، يذلّل بذلك الصّعب ، يقال : فقَره يفقُره فقراً إذا فعل ذلك به ، وبعير مفقور وبه فقرة ، وكلّ شيء حززته فقد فقّرته ؛ فيحتمل القول أن يكون أراد : من أحبّنا فليزمّ نفسه وليخطمها وليقدها إلى الطاعات ، ويصرفها ).

ص: 424


1- قَوْمٌ تَبِعَ [تَبِعُوا] أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) : فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ قَالَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَالُوا شِيعَتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا لِي لا أَرَى عَلَيْكُمْ سِيمَاءَ الشِّيعَةِ قَالُوا وَمَا سِيمَاءُ الشِّيعَةِ قَالَ صُفْرُ الْوُجُوهِ مِنَ السَّهَرِ خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ. (صفات الشيعة : 11).

عمّا تميل طباعها إليه من الشّهوات ، وليذلّلها بالصّبر عما يكره ؛ كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب ؛ وليس يجب أن يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله ؛ لأنّ الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام أن يذكر كلّ ما يحتمله الكلام من المعاني ؛ ويجوز أن يكون أراد المخاطب كلّ واحد منها منفرداً ، وليس عليه العلم بمراده بعينه ؛ فإنّ مراده مغيّب عنه.

3 - تأويل خبر

قال أبو عبيد في الحديث : «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».

قال : أراد : يستغني به ، واحتجّ بقولهم : تغنّيت تغنّياً ، وتغانيت تغانياً ، وأنشد بيت الأعشى(1) :

وَكُنتُ اِمرَأً زَمَناً بِالعِراقِ

عَفيفَ المُناخِ طَويلَ التَغَنّ(2)

وقول الآخر :

كِلانا غَنِيٌّ عَن أَخيهُ حَياتَهُ

وَنَحنُ إِذا مِتنا أَشَدُّ تَغانِيا(3)بن

ص: 425


1- هو ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي ، أبو بصير ، المعروف بأعشى قيس ، ويقال له أعشى بكر بن وائل والأعشى الكبير ، وهو أحد أصحاب المعلّقات. (ت 7 ه).
2- الزاهر في معاني كلمات الناس : 397.
3- أورده أبو الفرج ضمن أشعار الأبيرد الرياحي ، (الأغاني ، 13 : 88) وجاء به المبرّد ضمن أبيات لعبد الله بن معاوية (الكامل في اللغة والأدب ، 1 : 178) ، وقد ذكره ابن

واحتجّ أيضاً بقول ابن مسعود : «من قرأ سورة آل عمران فهو غنيّ» ، أي مستغن ، ويقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم : «لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدًا أُعطِيَ أفضلَ ممّا أُعطِيَ ، لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه».

قال أبو عبيد : ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك ؛ إذ كان من لم يرجّع بالقرآن فليس منه عليه السلام.

وذكر عن غير أبي عبيد جواب آخر ، وهو أنّه أراد : من لم يحسّن صوته بالقرآن ، ولم يرجّع فيه. واستشهد بقوله عليه السلام : «لا يأذن الله لشيء من أهل الأرض إلاّ لأصوات المؤذّنين ، والصوت الحسن بالقرآن». فقوله : (يأذن) أي : يستمع ؛ يقال : أذنت للشيء آذن أذَناً ؛ قال الشاعر(1) :

صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرتَ به

وَإن ذُكِرتَ بِسوء عِندَهم أذِنُوا

أي استمعوا.

وقد ذكر أبو بكر(2) محمّد بن القاسم الأنباريّ وجهاً ثالثاً ، قال : أراد : من لم يتلذّذ بالقرآن ، ويستحلِه ، ويستعذب تلاوتَه كاستحلاء أصحاب الطّرب للغناء والتذاذهم به. وسمّى ذلك تغنّياً من حيث يفعل عنده ما يفعل ).

ص: 426


1- هو لقعنب بن أمّ صاحب من بني عبد الله بن غطفان ، كما ذكره ابن قتيبة (عيون الأخبار ، 3 : 96).
2- ر : (بكر).

عند التغنّي بالغناء.

وجواب أبي عبيد أحسنها ، وجواب ابن الأنباري أبعدها.

ويمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا ، وهو أن يكون (يتغنّ) من غني الرجل بالمكان إذا طال مقامه به ، ومنه قيل : المغنى والمغاني ، قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)(1) ، أي لم يقيموا بها ، وقال : الأسود(2) :

ولَقَد غَنُوا فيها بأنعَمِ عِيشة

...............................(3)

وبيت الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد ، بطول المقام أشبه منه بالاستغناء ، لأنّ المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك. ويكون معنى الخبر : من لم يقم على القرآن ؛ ولا يتجاوزه لا إلى غيره ، ولا يتعدّاه إلى سواه ، ويتّخذه مغنى ومنزل مقام فليس على أخلاقنا ، وقيل : ليس على ديننا. وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا ، وبعده بجواب أبي عبيد ، لأنّه محال أن يخرج عن دين النبيّ وملّته من لم يحسّن صوته بالقرآن ، ويرجّع فيه ، أو من لم يتلذّذ بتلاوته ويستحليها.

4 - تأويل خبر

روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : «لا تسبّوا الدّهر ، فإنّ ).

ص: 427


1- الأعراف : 92.
2- هو الأسود بن يَعفُر النهشلي الدارمي التميمي ، أبو نهشل. من سادات تميم ، من أهل العراق. (ت 23 ق. ه).
3- الشطر الثاني : في ظلِّ مُلك ثابتِ الأوتادِ. (ديوان المفضليات : 449).

الدّهر هو الله».

وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر أنّ المراد : لا تسبّوا الدهر ، فإنّه لا فعل له ، وإنّ الله يصرّفه ويدبّره.

وفي هذا الخبر وجه هو أحسن من هذا ، وهو أنّ الملحدين ، ومن نفى الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله كالمرض والعافية ، والجدب والخصب ، والبقاء والفناء إلى الدّهر ، جهلاً منهم بالصّانع جلّت عظمته ، ويذمّون الدهر ويسبّونه ، فنهاهم النبيّ صلّى الله عليه وآله عن ذلك وقال : لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ممّن تعتقدون أنّه الدّهر ، فإنّ الله هو الفاعل لها. وإنّما قال : إنّ الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدّهر أفعال الله تعالى ؛ وقد حكى الله عنهم قولهم : (ما هِيَ إلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدَّهْرُ)(1) ويقولون : هو أكثر ذنوباً من الدهر ، وقال عمرو بن قمئة(2) :

رَمَتني بَناتُ الدَهرِ مِن حَيثُ لا أَرى

فَكَيفَ بِمَن يُرمى وَلَيسَ بِرامِ

فَلَو أَنَّها نَبلٌ إِذاً لاتَّقَيتُها

وَلَكِنَّني أُرمى بِغَيرِ سِهامِ

وَأَهلَكَني تَأميلُ يَوم وَلَيلَة

وَتَأميلُ عام بَعدَ ذاكَ وَعامِ(3).8.

ص: 428


1- الجائية : 24.
2- عمرو بنِ قُمَيئَة بن ذريح بن سعد بن مالك الثعلبي البكري الوائلي النزاري. (ت 85 ه) ، ونسب الشعر أبو زيد القرشي إلى لبيد. (جمهرة أشعار العرب : 93).
3- منتهى الطلب من أشعار العرب ، 1 : 149و 148.

5 - تأويل خبر

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «إنّ أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ ؛ فعليكم من الأعمال بما تطيقون ؛ فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا».

وفي وصفه - عليه السلام - اللّهَ تعالى بالملل وجوه أربعة :

الأوّل : أنّه أراد نفي الملل عنه ، وأنّه لا يملّ أبداً ، فعلّقه بما لا يقع على سبيل التبعيد كما قال : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(1)

فإن قيل : ومن أين قلتم : إنّ ما علّقه به لا يقع أبداً حتّى حكمتم بأنّه أراد نفي الملل أبدًا؟

قلنا : معلوم أنّ الملل لا يشمل البشر في جميع آرائهم وأوطارهم.

والثاني : أن يكون المعنى أنّه لا يغضب عليكم ويطرحكم حتّى تتركوا العمل له ، وتعرضوا عن سؤاله ، والرغبة إلى جوده ؛ فسمّى الفعلين مللاً ؛ وإن لم يكونا في الحقيقة كذلك ؛ على مذهب العرب في تسميتها الشيء باسم غيره ، إذا وافق معناه في وجه ، قال عديّ(2) : ّ.

ص: 429


1- الأعراف 40.
2- هو عدي بن زيد العباديّ.

ثمّ أضحوْا لَعب الدهرُ بهم

وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال(1)

فنسب اللّعب والفناء إلى الدهر تشبيهاً.

والثالث : أن يكون المعنى أنّ الله(2) لا يقطع عنكم فضله وإحسانه حتّى تملّوا من سؤاله ، ففعلهم ملل على الحقيقة ، وسمّى فعله تعالى مللاً ، وليس بملل على الحقيقة للازدواج ومشاكلة اللفظين ، المختلفين في المعنى ، ومثله قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(3) ، و (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(4) ومثله قول عمرو بن كلثوم التغلبيّ :

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا

فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا(5)

وإنّما أراد المجازاة على الجهل ، لأنّ العاقل لا يفخر بالجهل.

والرابع : أن يكون الراوي وهم وغلط من الضمّ إلى الفتح : وأن يكون قوله (يملّ) بالضمّ لا بالفتح ، فيكون له معنيان : أحدهما أنّه لا يعاقبكم بالنار حتّى تملّوا عبادته وتعرضوا عن طاعته ، لأنّ الملّة هي مشتوى الخبز ؛ يقال : ملّ الرجل الخبزة وغيرها يملّها ملاًّ إذا اشتواها في الملّة. وقيل : إنّ الجمر لا 9.

ص: 430


1- عيون الأخبار ، 2 : 327.
2- ما بين المعقوفتين[] المبدوء من هنا والمختوم في أوائل تأويل الخبر اللاحق ليس في النسخة ، فنقلناه عن نصّ أمالي الشريف المرتضى.
3- البقرة : 194.
4- الشورى : 40.
5- شرح القصائد العشر : 249.

يقال له ملّة حتّى يخالطه رماد ؛ والمعنى الثاني أن يكون أراد أنّه لا يسرع إلى عقابكم ، بل يحلم عنكم ويتأنّى بكم حتّى تملّوا حلمه ، وتستعجلوا عذابه ، بركوبكم المحارم وتتابعكم في المآثمّ.

6 - تأويل خبر

روى محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : كان قد كثر على مارية القبطيّة أمّ إبراهيم في ابن عمّ لها قبطيّ كان يزورها ، ويختلف إليها ، فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وآله : «خذ هذا السيف وانطلق ، فإن وجدته عندها فاقتله». قلت : يا رسول الله ، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسّكّة المحمّاة ، أمضي لما أمرتني ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وآله : «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب». فأقبلت متوشّحاً بالسيف ، فوجدته عندها ، فاخترطت السيف ، فلمّا أقبلت نحوه عرف أنّي أريده ، فأتى نخلةً فرقي إليها ، ثمّ رمى بنفسه على قفاه ، وشغر برجليه ، فإذا إنّه أجبّ أمسح ، ما له ممّا للرجال قليل ولا كثير ، قال : فغمدت السيف ورجعت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فأخبرته ، فقال : «الحمد لله الّذي يصرف عنّا أهل البيت».

قال الشريف المرتضى رحمه الله : في هذا الخبر أحكام وغرائب ، ونحن نبدأ بأحكامه ، ثمّ نتلوها بغريبه.

فأوّل ما فيه أن لقائل أن يقول : كيف يجوز أن يأمر الرسول عليه السلام

ص: 431

بقتل رجل على التّهمة بغير بيّنة ولا ما يجري مجراها؟

والجواب : أن القبطيّ جائز أن يكون من أهل العهد الذين أخذ عليهم أن تجري فيهم أحكام المسلمين ، وأن يكون الرسول عليه السلام تقدّم إليه بالانتهاء عن الدخول إلى مارية ، فخالف وأقام على ذلك ، وهذا نقض للعهد ، وناقض العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة ؛ والمؤذن بها مستحقّ للقتل.

فأمّا قوله : «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» فإنّما عنى به رؤية العلم لا رؤية البصر ؛ لأنّه لا معنى في هذا الموضع لرؤية البصر ، فكأنّه عليه وآله السلام قال : بل الشاهد يعلم ؛ ويصحّ له من وجه الرأي والتدبير ما لا يصحّ للغائب ؛ ولو لم يقل ذلك لوجب قتل الرجل على كلّ حال ، وإنّما جاز منه عليه الصلاة والسلام أن يخيّر بين قتله والكفّ عنه ، ويفوّض الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام من حيث لم يكن قتله من الحدود والحقوق ، التي لا يجوز العفو عنها ، ولا يسع إلاّ إقامتها ، لأنّ ناقض العهد للإمام القائم بأمر المسلمين إذا قدر عليه قبل التوبة أن يقتله ، أو أن يمنّ عليه.

وممّا فيه من الأحكام اقتضاؤه أن مجرّد أمر الرسول صلّى الله عليه وآله لا يقتضي الوجوب ، لأنّه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه ؛ وفي حسنها ووقوعها موقعها دلالة على أنّها لا تقتضي ذلك.

وممّا فيه أيضاً من الأحكام دلالته على أنّه لا بأس بالنظر إلى عورة الرجل عند الأمر ينزل فلا يوجد من النظر إليها بدّ إمّا لحدّ يقام ، أو لعقوبة

ص: 432

تسقط ، لأنّ العلم بأنه أمسح أجبّ لم يكن إلاّ عن تأمّل ونظر(1) ، وإنّما جاز النظر والتأمّل لتبيين : هل هو ممّن يكون منه ما قرف به أو لا ، والواجب على الإمام فيمن شهد عليه بالزنا ، وادّعى أنّه مجبوب أن يأمر بالنظر إليه ، وتبيين أمره ، وبمثله أمر النبيّ عليه السلام في قتل مقاتلة بني قريظة ، لأنّه أمر أن ينظروا إلى كلّ من أشكل عليهم أمره ، فمن وجدوه قد أنبت قتلوه ، ولولا جواز النظر إلى العورة عند الضرورة لما قامت شهادة الزنا واللواط.

فإن قيل : كيف جاز لأمير المؤمنين الكفّ عن القتل ، وأيّ تأثير لكونه أجبَّ فيما استحقّ به القتل وهو نقض العهد؟ قلنا : إنّه عليه السلام لما فوّض إليه الأمر كان له أن يقتله ، وإن وجده أجبّ ؛ وإنّما آثر الكفّ الّذي كان إليه ، ومفوّضاً إلى رأيه ، لإزالة التهمة والشكّ الواقعين في أمر مارية ، ولأنّه أشفق من قتله ، فيلحق به العار.

وأمّا غريب الحديث فقوله : «شغر برجليه» يريد رفعهما ، وأصله في وصف الكلب إذا رفع رجله للبول ، وأمّا نكاح الشِّغار- بالكسر والفتح ، والكسر أجود - فهو أن يزوّج الرجل من هو وليّها غيره على أن بنته أو أخته بغير مهر. وأظنّه مأخوذاً من الشّغر الّذي هو رفع الرِّجل ، لأنّ النكاح فيه معنى الشّغر ، فسُمِّيَ هذا العقد شغاراً لذلك ؛ والأجبّ المقطوع الذكر والجبّ القطع ، وقد ظنّ بعض من تأوّل هذا الخبر أنّ الأمسح هنا هو القليل لحم ة.

ص: 433


1- هذا نهاية ما ليس في النسخة.

الألية ، وهو غلط ، لأنّ الوصف بذلك لا معنى له في هذا الخبر ، وإنّما أراد تأكيد الوصف له بأنّه أجبّ ، والمبالغة فيه.

7 - تأويل خبر

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان من الذّهب والفضّة ، فيجيء القاتل فيقول في مثل هذا : قتلت ، ويجيء القاطع الرّحم ، فيقول في مثل هذا : قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول في مثل هذا : قطعت يدي ، ثمّ يتركونه ولا يأخذون منه شيئاً».

معنى (تقيء) أي : تخرج ما فيها من الذهب والفضّة ، وذلك من علامات قرب الساعة ، فقوله : (تقيء) تشبيه واستعارة من حيث كان إخراجاً وإظهاراً ؛ وكذلك تسمية ما في الأرض من الكنوز (كبداً) تشبيهاً بالكبد الذي في بطن البعير وغيره ؛ وللعرب في هذا مذهب معروف.

واختلف أهل اللغة في الأفلاذ ، فقال يعقوب بن السّكّيت : الفلذ لا يكون إلاّ للبعير ، وهو قطعة من كبده ، يقال : أعطني فلذاً من الكبد ، وفلذة من الكبد ، ولا يقال : أعطني حزّة من سنام ولا من لحم ، وإنّما الحزّة في الكبد خاصّة ؛ ويقال : أعطني حذية(1) من لحم ، وحزّة من لحم ؛ إذا كانت ل.

ص: 434


1- هي القطعة من اللحم على الطول.

مقطوعة طولاً ، فإذا كانت مجتمعة قلت : أعطني هبرة من لحم ، ووذرة ، ومثل هذا الحديث قوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقالَها)(1) معناه : أخرجت ما فيها من الكنوز ، وقيل : الموتى.

وإنّما خصّ الكبد من بين ما يشتمل عليه البطن ، لأنّه من أطائب الجزور.

أقول : لمّا كانت الكبد معدن الأخلاط الذي في البدن خصّها بالذكر وكأنّ الكنوز كانت في كبد الأرض كما أنّ الأخلاط لا يكون إلاّ فيها.

8 - تأويل خبر

روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله خرج مع أصحابه إلى طعام دُعوا إليه ؛ فإذا بالحسين عليه السلام ، وهو صبيّ يلعب مع صبية في السّكّة ، فاستنتل(2) النبيّ أمام القوم ، فطفق الصبيّ يفرّ مرّة هاهنا ، ومرّة هاهنا(3) ، ورسول الله يضاحكه ، ثمّ أخذه ، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه ، والأخرى تحت فأس رأسه ، وأقنعه فقبّله ، وقال : «أنا من حسين وحسين منّي ، أحبّ الله من أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط».

قال المرتضى رضي الله عنه : معنى استنتل تقدّم ، يقال : استنتل ة.

ص: 435


1- الزلزال : 2.
2- ر : (استنثل).
3- ر : (ومرّة هاهنا) الثانية.

الرجل استنتالاً ، وابرنتى ابرنتاءً(1) ، وابرنذع ؛ إذا تقدّم ، هكذا ذكره ابن الأنباريّ.

وقيل : استنتل : استعدّ ، واستنتل الرجل تفرّد عن القوم ، واستنتل : أشرف. والمعانى متقاربة ، والخبر يليق بكلّ واحد منها.

فأما السّكّة ، فهي المنازل المصطفّة ، والنخل المصطفّ. ومعنى طفق ما زال.

أقول : وطفق بمعنى جعل أيضاً.

وفأس الرأس : طرف القمحدوة(2) المشرف على القفا. ومعنى (أقنعه) رفعه ، وقيل : يقال : أقنع ظهره إقناعاً إذا طأطأه ثمّ رفعه برفق. فأمّا الأسباط فأصلها في ولد إسحاق كالقبائل في بني إسماعيل ؛ وقال ابن الأنباريّ : هم الصّبية والصّبوة أيضاً.

9 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن الخبر المرويّ عن عبد الله بن عمر أنّه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، يصرّفها كيف شاء ، اللّهم مصرّف القلوب ، صرّف قلوبنا إلى ه.

ص: 436


1- ر : (ابرنثى ابرنثاء).
2- القَمَحْدُوَةُ : الهَنَةُ الناشزة فوق القفا ، وهي بين الذؤابة والقفا منحدرة عن الهامة إذا استلقى الرجل أَصابت الأَرض من رأْسه.

طاعتك». وعمّا يرويه أنس قال : قال النبيّ عليه السلام : «ما من قلب آدميّ إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، فإذا شاء أن يثبّته ثبّته ، وإن شاء أن يقلّبه قلّبه». وعمّا يرويه ابن حوشب(1) قال : قلت لأمّ سلمة زوج النبيّ عليه السلام : ما كان أكثر دعاء النبيّ؟ قالت : كان أكثر دعائه : «يا مقلّب القلوب والأبصار(2) ، ثبّت قلبي على دينك» ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ما أكثر دعاءك بهذا! فقال : «ما من آدميّ إلاّ وقلبه بين إصبعين من أصابع الله ، ما شاء أقام ، وما شاء أزاغ».

فقال : ما تأويل هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟

الجواب : أنّ الّذي يعوّل عليه من تكلّم في تأويل هذه الأخبار هو أن يقول : إن الإصبع في كلام العرب وإن كانت الجارحة المخصوصة فهي أيضاً الأثر الحسن ؛ يقال : لفلان على ماله وإبله إصبع حسنة ؛ أي قيام وأثر حسن ؛ قال الراعي يصف راعياً يحسن القيام على إبله :

ضَعيفُ العَصا بادي العُروقِ تَرى لَهُ

عَلَيها إذا ما أَجدَبَ الناسُ إِصبَعا(3)

وقال آخر :

أكرِمْ نِزارًا وَاسقِهِ المُشَعشَعا

فإنّ فيه خصلات أربَعا

حَدّاً وجُوداً وَندىً وإصبَعا 5.

ص: 437


1- ر : (خوشب).
2- الأمالي : (والأبصار).
3- ديوان الراعي النميري : 165 ؛ البيان والتبيين ، 3 : 35.

والمراد بالإصبع الأثر الحسن والنّعمة ، فيكون المعنى : ما من آدميّ إلاّ وقلبه بين نعمتين لله جليلتين حسنتين.

فإن قيل : فما وجه التثنية(1) هاهنا ونعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى؟

قلنا : يحتمل أن يكون الوجه في ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة ، وثناهما لأنّهما كالجنسين أو النوعين.

ويمكن أن يكون الوجه في تسمية الأثر الجميل الحسن بالإصبع ، من حيث يشار إليه بالإصبع إعجاباً به ، وتنبيهاً عليه ؛ وقيل : أراد الراعي أن يقول (يدا) في مكان (الإصبع) ؛ لأنّها النعمة.

وفي الإصبع التي هي الجارحة ثمان لغات : الأصبَع وإصبِع ، وأُصبُع ، وأَصبِع ، وأُصبَع ، وإصبُع ، وأصبوع ، وإصبَع ، وهي المشهورة.

وفي هذه الأخبار وجه آخر ؛ هو أوضح وأشبه ممّا ذكر ؛ وهو أن يكون المعنى في ذكر الأصابع الإخبار عن تيسّر تصريف القلوب وتقليبها ، والفعل فيها عليه تعالى ، ودخول ذلك تحت قدرته. ألا ترى أنّهم يقولون : هذا الشيء في خنصري وإصبعي ، وفي يدي وقبضتي ؛ كلّ ذلك إذا أرادوا تسهّله وتيسّره وارتفاع المشقّة فيه.

وعليه يتأوّل(2) المحقّقون قوله : (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ).

ص: 438


1- ر : (التنبيه).
2- ر : (تناول).

وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(1) ؛ وكأنّه عليه السلام لمّا أراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقّة ولا كلفة - وإن كان غيره يعجز عن ذلك. قال : إنّها بين أصابعه ؛ كناية عن هذا المعنى ، واختصاراً للّفظ الطويل ، وجرياً على مذاهب العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعنى بمثل هذا اللفظ.

ويمكن في الخبر وجه آخر ، وهو أنّه يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين ، يحرّكه الله بهما ، ويقلّبه بالفعل فيهما ؛ والوجه في إضافتهما إلى الله - وإن كان جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة - لأنّه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عمّا جاورهما غيره تعالى ؛ فقيل : إنّهما إصبعان له ؛ من حيث اختصّ بالفعل فيهما ؛ فمن أين للمشبّهة أنّ الأصابع إذا كانت لحما ودماً فهي جوارح لله تعالى!

أقول أنا : قد ذكر علماء التشريح أنّ القلب يشتمل على زوائد من لحم مستطيلة ، وكذلك الكبد وكأنّه عنى ذلك ومثل هذا الخبر أوقع المشبه في الكفر ونفي الإله ، لأنّ الإله لا يصحّ أن يكون جسماً ، لأنّ كلّ جسم ممكن وكلّ جسم محتاج ، والله يجلّ عن ذلك ، فيجب التأويل لئلاّ يلزم الكفر.

10 - تأويل خبر

إن قال قائل : ما تأويل الخبر الّذي روي عن النبيّ عليه السلام : «إنّ 8.

ص: 439


1- الزمر : 68.

الميّت ليعذّب ببكاء الحيّ عليه» ، وفي رواية أخرى : «إنّ الميّت يعذّب في قبره بالنّياحة عليه».

الجواب : إنّا إذا كنّا قد علمنا بأدلّة العقل التي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتّساع والمجاز قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره ، وعلمنا أيضاً ذلك بأدلّة السمع مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(1) ، فلا بدّ أن يصرف ما ظاهره بخلاف الأدلّة إلى ما يطابقها.

والمعنى في الأخبار التي سُئلنا عنها - إن صحّت روايتها - أنّه إن أوصى موص بأن يناح عليه ففعل ذلك بأمره فإنّه يعذّب بالنياحة ؛ وليس معنى يعذّب بها أنّه يؤخذ بفعل النّوائح ، وإنّما معناه أنّه يؤاخذ بأمره بها ووصيّته بفعلها ، وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح ويأمرون به ، ويؤكّدون الوصية بفعلها ؛ قال طرفة :

إذا مُتُّ فَانعيني بِما أَنا أَهلُهُ

وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ(2) (3)

وقد روي عن ابن عبّاس في هذا الخبر أنّه قال : وهل ابن عمر ، إنّما مرّ رسول الله على يهوديّ ، فقال : «إنّكم لتبكون عليه ، وإنّه يعذّب في قبره».

فقالت عائشة : وهل أبو عبد الرحمن كما وهل يوم قليب بدر ، إنّما قال : «إنّ أهل الميّت ليبكون عليه ، وإنّه يعذب بجرمه». ).

ص: 440


1- الأنعام : 164.
2- ح (ر) : معبد أخو طرفة ولم يكن لطرفة ولد.
3- شرح القصائد العشر : 98. وفيه : (فإن) بدل (إذا).

قال المرتضى : معنى (وهل) أي ذهب وهمه إلى غير الصواب ، يقال : وهلت إلى الشيء فأنا أهِلُ وهلاً إذا ذهب وهمّك إليه ، ووهلت عنه إذا نسيته وغلطت فيه ، ووهل الرجل يوهل وهلا إذا فزع ، والوهل : الفزع.

فأمّا (القليب) فالبئر ، وموضع وهله في ذكر القليب أنّه روي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وقف على قليب بدر فقال : «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا»؟ ثمّ قال : «إنّهم ليسمعون ما أقول» ، فأنكر ذلك عليه ؛ وقيل : إنّما قال عليه السلام : «إنّهم ليعلمون أنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحقّ» ، واستشهد بقوله : (إنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)(1).

ويمكن أن يكون في قوله : «يعذّب ببكاء أهله» وجه آخر ؛ وهو أن يكون المعنى أنّ الله إذا أعلمه ببكاء أهله وأعزّته عليه وما لحقهم بعده من الحزن والضرر تألّم بذلك ؛ فكان عذاباً له.

11 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «ما من أحد يُدخِله عملُه الجنةَ ، ويُنجيه من النار» ، قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ؛ إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» ، يقولها ثلاثاً. 0.

ص: 441


1- النمل : 80.

فقال : أليس في هذا دلالة على أنّ الله تعالى إنّما يتفضّل بالثواب ، وأنّه غير مستحقّ؟ ومذهبكم بخلاف ذلك.

الجواب : قلنا : فائدة الخبر ومعناه بيان فقر المكلّفين إلى الله تعالى ، وحاجتهم إلى ألطافه وتوفيقاته ومعوناته ، وأنّ العبد لو أخرج إلى نفسه ، وقطع الله تعالى موادّ المعونة واللطف عنه لم يدخل بعمله الجنّة ، ولا نجا من النار ؛ فكأنّه عليه السلام أراد أنّ أحداً لا يدخل بعمله الجنّة ، ولا ينجو من النار ، وعنى الذي لم يعنه الله تعالى عليه ، ولا لطف له فيه ، ولا أرشده إليه ؛ وهذا هو الحقّ الّذي لا شبهة فيه ؛ فأمّا الثواب فما يأتي القول بأنّه تفضّل ؛ بمعنى أنّ الله تعالى يتفضّل بسببه الّذي هو التكليف ، ولهذا يقول : إنّه لا يجب على الله شيء ابتداءً ، وإنّما يجب عليه ما أوجبه تعالى على نفسه بالثواب ممّا كان أوجبه على نفسه بالتكليف ؛ ولولا إيجابه على نفسه بالتكليف لما وجب.

فإن قيل : فقد سمّى النبيّ ما يفعل به فضلاً فقال : «إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» ، قلنا : هذا يطابق ما ذكرناه ، وإن حملنا قوله عليه السلام : (برحمة منه وفضل) على ما يفعل به من الألطاف ، فالألطاف أيضاً فضل وتفضّل لأنّ سببها غير واجب.

فأمّا قوله : (يتغمّدني) فمعناه يسترني ، يقال : غمدت السيف في غمده إذا سترته.

ص: 442

12 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «إنّ هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم ؛ وإنّ أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله تعالى».

فقال : ما تأويله؟ وكيف بيان غريبه؟

الجواب : المأدبة الطعام ، يصنعه الرجل ويدعو الناس إليه ؛ فشبّه عليه السلام ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن ونفعه وعائدته عليه إذا قرأه وحفظه ؛ بما يناله المدعوّ من طعام الداعي وانتفاعه به ؛ يقال : قد أدَبَ الرجل يأدِبُ فهو آدِب ؛ إذا دعا الناس إلى طعامه. ويقال للمأدُبة المدعاة ؛ قيل : ويقال : مأدَبة ، بفتح الدال ؛ قال طرفة :

نَحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلى

لا تَرى الآدِبَ فينا يَنتَقِر(1)

ومعنى (الجفلى) أنّه عمّ بدعوته ولم يخصّ بها قوماً دون قوم ، والنّقرى إذا خصّ بها بعضاً دون بعض.

وقد روي هذا الحديث بفتح الدال في (المأدَبة) ، وقال الأحمر : المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضمّ.

وقال غيره : المأدبة ، بفتح الدال (مفعَلة) من الأدب ؛ معناه أنّ الله أنزل 1.

ص: 443


1- أدب الكاتب : 163 ؛ أشعار الشعراء الستّة الجاهليّين ، 2 : 31.

القرآن أدباً للخلق ، وتقويماً لهم ، وإنّما دخلت الهاء في مأدُبة ومأدَبة ، والقرآن مذكّر ، بمعنى المبالغة ؛ كما قالوا : هذا شراب مطيبة للنفس ؛ وكما قال عنترة :

...........................

وَالكُفرُ مَخبَثَةٌ لَنَفسِ المُنعِمِ(1).

وجرى ذلك مجرى قولهم : رجل علاّمة ونسّابة في باب المدح على جهة التشبيه بالداهية ، وهلباجة(2) في باب الذمّ على التشبيه بالبهيمة.

ويقال لطعام الإملاك : وليمة ، ولطعام الزّفاف : العُرس ، ولطعام بناء الدار : الوكيرة ، ولطعام حلق شعر المولود : العقيقة ، ولطعام القادم من السفر : النّقيعة ، ولطعام النّفاس : الخُرس.

وقال أبو زيد : يقال لطعام الإملاك : النّقيعة ، وقال الفرّاء : الوليمة : طعام العُرس.

ويقال للطعام الّذي يتعلّل به قدّام الطعام ؛ السُّلفة واللُّهنة ؛ ويقال : فلان يأكل الوزمة إذا كان يأكل أكلة في اليوم ، وفلان يأكل الوجة إذا كان يأكل في اليوم والليلة أكلة.

وقوله : (إنّ أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله تعالى) ، معناه : أخلى البيوت ؛ والصّفر : الخالي. ويمكن في قوله : (مأدبة) وجه آخر ؛ وهو ب.

ص: 444


1- أشعار الشعراء الستّة الجاهليّين ،2 : 94 ؛ وصدره : نِبِّئتُ عَمرواً غَيرَ شاكِرِ نِعمَتي.
2- الأحمق الذي لا أحمق منه ، وقيل : هو الوخم الأحمق المائق القليل النفع الأكول الشروب.

أن يكون وجه التشبيه للقرآن بالمأدبة وتسميته من حيث دعا الخلق إليه ، وأمرهم بالاجتماع عليه ، فسمّاه (مأدبةً) لهذا الوجه ؛ وهذا الوجه يخالف الأوّل ، لأنّ الأوّل تضمّن أنّ وجه التشبيه من حيث النفع العائد على الحافظ للقرآن كما ينتفع المدعوّ إلى المأدبة بما يصيبه من الطّعام. وهذا الوجه الآخر يتضمّن وجه التشبيه وقع لاجتماع الناس في الدعاء إليه ، والإرشاد إلى إصابته.

13 - تأويل خبر

روي أنّ مسلماً الخزاعيّ قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله - وقد أنشده منشد قول سُوَيد بن عامر المصطلقي :

لا تأمَنَنَّ وإن أمسَيتَ في حَرَم

إنّ المنايا بِكَفَّيْ كلِّ إنسانِ

واسلك طريقك تمشي غير مختشع

حتّى تبيّن ما يمني لك الماني

فكلّ ذي صاحب يوماً يفارقه

وكلّ زاد وإن أبقيته فانِ

والخير والشّرّ مقرونان في قرن

بكلّ ذلك يأتيك الجديدانِ

فقال عليه السلام : «لو أدركته لأسلم».

قوله : (ما يمني لك الماني) معناه ما يقدّر لك القادر ؛ قال الفرّاء : يقال : منى الله عليه الموت ؛ أي قدّر الله عليه الموت. وقال يعقوب : مناك الله بما يسرّك ، أي قدّر الله لك ما يسرّك.

ص: 445

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَة إِذا تُمْنى)(1) ، معناه إذا تخلق وتقدّر.

وقيل : إنّما إبراهيم لما انتهى إليه قال له الملك : تمنّ ، قال : أتمنّى الجنّة ، فسمّى منى لذلك. والقرن الحبل ؛ وأراد أن الخير والشرّ مجموعان لا يفترقان ؛ من حيث لا يكاد يصيب الإنسان في الدنيا خير صرف لا شرّ فيه ؛ والجديدان ، اللّيل والنهار ، وهما أيضاً الملوان ، والفتيان ، والعصران.

14 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن الخبر الذي يروى عن زيد بن ثابت عن النبيّ عليه السلام أنّه قال : «توضّؤوا ممّا غيّرت النار» ، فقال : ما المراد بالوضوء هنا؟

الجواب : إنّ معنى (توضّؤوا) أي نظّفوا أيديكم من الزُّهومَة(2) ، لأنّ الأعراب لا يغسلون أيديهم من الزّهومة ، فأمر النبيّ بتنظيف الأيدي لذلك.

وروى محمّد بن المنكدر عن جابر أنّه قال : كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء ممّا مسّت النار.

واشتقاق الوضوء من الوضاءة التي هى الحسن ، فلمّا كان من غسل يده ونظفها قد حسّنها ، قيل : وضّأها ؛ ويقال : فلان وضيء الوجه. ن.

ص: 446


1- النجم : 46.
2- ريح لحم سمين منتن.

والوضوء ، بضمّ الواو : المصدر ، وكذلك(1) أيضاً التّوضؤ والوضوء ، بفتح الواو : اسم لما يتوضأ به ، وكذلك الوَقود اسم لما توقد به النار : والوُقود ، بالضمّ : المصدر ، ومثله التوقّد ، وقد يجوز أن يكون الوقود ، بفتح الواو : المصدر ، وكذلك الوضوء بالفتح.

ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضمّ إلاّ معنى المصدر وحده.

15 - تأويل خبر

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «خير الصّدقة ما أبقت غنى ، واليد العليا خير من اليد السُّفلى ، وابدأ بمن تعول».

وقد قيل في قوله : (خير الصّدقة ما أبقت غنى) : قولان :

أحدهما : أنّ خير ما تصدّقت به ما فضل من قوت عيالك وكفايتهم ، فإذا خرجت صدقتك عنك إلى من أعطيت خرجت عن استغناء منك وعن عيالك عنها ؛ ومثله الحديث الآخر : «إنّما الصّدقة عن ظهر غنىً». وقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(2) ؛ قال : ما فضل عن أهلك.

والجواب الآخر : أن يكون أراد : خير الصّدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة ، أي تجزل له في العطيّة ، فيستغني بها ويكفّ عن المسألة.

وقوله : (اليد العليا خير من اليد السّفلى) ، قيل : يريد أنّ اليد المعطية 9.

ص: 447


1- ر : (لذلك).
2- البقرة : 219.

خير من الآخذة ، وقال قوم : إنّ العليا هي الآخذة ، والسفلى هي المعطية.

قال المرتضى رضي الله عنه : إنّ معنى الخبر غير ما ذكر من الوجهين ؛ وهو أن يكون اليد هاهنا هي العطية والنعمة ؛ لأنّ النعمة قد تسمّى يداً ؛ فكأنّه عليه السلام أراد أنّ العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. وهذا حثّ منه على المكارم ، وتحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام وأحسنه مخرجاً.

وهذا أولى من أن يحمل على الجارحة ؛ لأنّ من ذهب إلى ذلك وجعل المعطية خيراً من الآخذة لا يستمرّ قوله ؛ لأنّ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممّن يعطي ؛ ولفظة (خير) لا تحمل إلاّ على الفضل في الدين واستحقاق الثواب ؛ وأمّا من جعل الآخذة خيراً من المعطية فيدخل عليه هذا الطعن أيضاً ؛ مع أنّه قد قال قولاً شنيعاً ، وعكس الأمر.

16 - تأويل خبر

روى عقبة بن عامر عن النبيّ عليه السلام أنّه قال(1) : «لو كان القرآن في إهاب ما مسّته النار».

وقد ذكر متأوّلو (2) الحديث في هذا الحديث وجوهاً كثيرة ، كلّها غير صحيحة. ).

ص: 448


1- ر : (لو قال) بدل (قال).
2- ر : (متأولي).

منها : قال ابن قتيبة : ذهب الأصمعيّ إلى أنّ من تعلّم القرآن من المسلمين لو ألقي في النار لم تحرقه ، فكنّى بالإهاب - وهو الجلد - عن الجسم.

قال ابن قتيبة : وفي الحديث تأويل آخر ، وهو أنّ القرآن لو كُتِبَ في جلد ، ثمّ ألقي في النار على عهد النبيّ عليه السلام لم تحرقه النار ؛ على وجه الدّلالة على صحّة أمر النبيّ عليه السلام ، ثمّ انقطع ذلك بعده.

قال : وفيه وجه ثالث ؛ وهو أنّ الإحراق إنّما نفي عن القرآن لا عن الإهاب ؛ لأنّ النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن.

قال ابن الأنباريّ : وكيف يصحّ من ابن قتيبة أنّ النار لا تحرق من قرأ القرآن ولا خلاف بين المسلمين أنّ الخوارج والملحدة والنواصب يقرأون القرآن وتحرقهم النار.

أقول : له أن يقول : لا أسلم أنّها تحرقهم.

وأمّا قوله : إنّه من دلائل النبوّة التي انقطعت بعده ، فما روى هذا الحديث أحد أنّه كان في دلائله.

وقوله : (إنّ النار تحرق الجلد والمداد ، ولم تحرق القرآن) غير صحيح ؛ لأنّه يوجب أنّ القرآن غير مكتوب ؛ وهو محال ؛ لأنّ المكتوب في المصحف هو القرآن.

أقول : للأشاعرة أن يقول : إنّ القرآن صفة الله نفسانية لا تحرقها النار كباقي الصفات.

ص: 449

قال ابن الأنباريّ : والقول عندنا أنّه أراد : لو كان القرآن في جلد ثمّ ألقي في النار ما أبطلته ؛ لأنّها وإن أحرقته فإنّها لا تدرسه ؛ إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده.

قال المرتضى رحمه الله : والوجه الصحيح في تأويله هو أنّ هذا من كلام النبيّ عليه السلام على طريق المثل والمبالغة في تعظيم الأمر ، والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره ، والمعنى أنّه لو كتب في إهاب ، وألقي في النار وكانت النار ممّا لا تحرق شيئاً لعلوّ شأنه وجلالته لم تحرقه النار.

ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب كثيرة ؛ فمن ذلك قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَل)(1) وكان الجبل ممّا يتصدّع إشفاقاً من شيء ؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته ؛ فكيف بكم يا معاشر المكلّفين ، مع ضعفكم(2)! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق ؛ ومثله :

وَلَو أَنَّ ما بي بِالحَصى فُلِقَ الحَصى

وَبِالريحِ لَم يُسمَع لَهُنَّ هُبوبُ(3)

وهذه طريقة للعرب مشهورة ؛ يقولون : هذا كلام يفلّق الصّخر ، ويهدّ الجبال ويصرع الطير ، ويستنزل الوعول ؛ وليس ذلك بكذب منهم ؛ بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الأمور لو تأتّت ؛ ولو كانت ).

ص: 450


1- الحشر : 21 ؛ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
2- ر : (ضعفهم).
3- الشعر لأبي هلال الأحدب. (طبقات الشعراء : 450).

ممّا يسهل لشيء لتسهّلت به ومن أجله.

17 - تأويل خبر

روى أبو هريرة أنّ النبيّ عليه السلام نهى عن كسبَ الزّمّارة.

قال أبو عبيد : قال حجّاج : الزّمّارة الزانية.

وقال غيره : هي الرمّازة ، بتقدّم الراء المهملة ، قال ابن قتيبة : ما أنكر على من زعم أن الرّمازة هي الفاجرة ، سميّت بذلك لأنّها ترمز ، أي تومئ بعينها وحاجبها.

فالرّمازة صفة من صفات الفاجرة ، ثمّ صار اسماً لها ؛ ولذلك قيل لها : الهلوك ؛ لأنّها تتهالك على الفراش ، وقيل لها : خريع ، للينها وتثنّيها ، قال الشاعر :

رَمَزَت إلىَّ مَخافَةً مِن بَعلِها

مِن غَيرِ أن يَبدُو هناكَ كلامُها(1)

قال بعضهم : إنّما قيل للفاجرة قحبة ، من القُحاب وهو السّعال ؛ لأنها تتنحنح وتسعل ترمز بذلك.

18 - تأويل خبر

روى عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : «من يتّبع ن.

ص: 451


1- لم نجد له مصدراً ولا قائلاً ، إلاّ أنّه ذكره القزويني في (الأيضاح في علوم البلاغة : 248) دون نسبة إلى أحد ، وهو متأخر عن الشريف المرتضى بحوالي ثلاثة قرون.

المشمعة يشمّع به الله».

الجواب : المشمّعة هي(1) الضّحك والمزاح واللعب ، شمع الرّجل يشمع شموعاً ، وامرأة شموع إذا كانت كثيرة المزاح : والضّحك.

ومعنى الخبر أنّ من كان شأنه العبث بالناس والاستهزاء بهم ، والضحك منهم أصاره الله إلى حالة يعبث به ، ويستهزأ منه.

ويقارن هذا الحديث من وجه حديث آخر ؛ وهو : (من يسمّع الناس بعمله يسمّع الله به)(2) ؛ والمعنى : من يرائي بأعماله ويظهرها تقرّباً إلى الناس واتّخاذاً للمنازل عندهم ؛ يشهّره الله تعالى بالرياء ويفضحه ويهتكه.

ويمكن في الخبر وجه آخر لم يذكر ؛ وهو أنّ من عادة العرب أن يسمّوا الجزاء على الشيء باسمه ؛ فلا ينكر أن يكون المعنى : من يتّبع اللهو بالناس ، والاستهزاء بهم يعاقبه الله على ذلك ويجازيه ؛ فسمّى الجزاء على الفعل باسمه ؛ وهذا الوجه أيضاً يمكن في الخبر الثاني.

19 - تأويل خبر

إنّ سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «لا تناجشوا ولا تدابروا ، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه». ).

ص: 452


1- ر : (هو).
2- ر : (من يسمّع الناس بعمله يسمّع الله به).

الجواب : قلنا : أمّا النّجش فهو المدح والإطراء ، ومنه النّجش في البيع ؛ وهو مدح السلعة والزيادة في ثمنها من غير إرادة شرائها ؛ بل ليقتدي بالزائد في الزيادة غيره ؛ وأصل النجش استخراج الشي ؛ء والتنقير عنه ، قال بعض الشاعر(1) :

أجرِسْ لها يا ابنَ أبي كِباش

فما لها الليلةَ مِن إنفاشِ

غيرَ السُّرَى وَسائق نَجَّاشِ

أسمَرَ مِثلِ الحَيَّةِ الخَشخاشِ(2)

والنجش في البيوع يرجع معناه إلى هذا ؛ لنا من الزيادة في ثمنها ؛ فيكون معنى الخبر على هذا : لا تناجشوا : لا يمدح أحدكم السلعة فيزيد في ثمنها ، وهو لا يريد شرائها ليسمعه غيره فيزيد.

وقد يجوز أن يريد بذلك : لا يمدح أحدكم صاحبه من غير استحقاق ليستدعي منفعته ، ويستثير فائدته ؛ وهذا المعنى أشبه بأن يكون مراده ، لأنّ قوله : (ولا تدابروا) أشدّ مطابقة له.

ومعنى (لا تدابروا) أي لا تهاجروا ويولّي كلّ واحد صاحبه دبر وجهه ، فكأنّه قال : لا تتمادحوا بالمدح الّذي ليس بمستحقّ ، ولا تتهاجروا ).

ص: 453


1- أبو محمّد الفقعسي ، عبد الله بن ربعي بن خالد الحذلمي الفقعسي الأسدي.
2- ما تبقى من أراجيز ابي محمّد الفقعسي : 50 ؛ النّجاش : هو المستثير لسيرها ، والمستخرج لما عندها منه ، ومعنى : أجرس لها ، أي أحداً لها لتسمع الحداء فتسير ، وهو مأخوذ من الجرس وهو الصوت ؛ ومعنى الإنفاش ، أراد أنّها لا تترك ترعى ليلاً ، والنفش أن ترعى الإبل ليلاً ، وقد أنفشتها إذا أرسلتها بالليل ترعى. والخشخاش : الخفيف الحركة السريع التقلّب. (أمالي المرتضى ، 1 : 631).

وتتقاطعوا.

وأمّا قوله : (كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه) ، فقد ذهب قوم إلى أنّ عرض الرجل هو سلفه من آبائه وأمّهاته ؛ ومن جرى مجراهم.

وقال ابن قتيبة : عرض الرجل نفسه ، واحتجّ بحديث النبيّ عليه السلام حين ذكر أهل الجنّة فقال : (لا يبولون ولا يتغوّطون ؛ وإنّما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك) ؛ أي أبدانهم.

أقول : دعواه ليست مطابقة لدليله ، فإنّ العرض قال : إنّه نفسه والبدن ليس نفسه.

قال : ومنه قول أبي الدرداء : (أقرض من عرضك ليوم فقرك) أراد من شتمك فلا تشتمه ، ودَعْ ذلك قرضاً لك عليه ليوم الجزاء والقصاص.

ويقول النبيّ عليه السلام : «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم! كان إذا خرج من منزله يقول : اللّهمّ إني قد تصدّقت بعرضي على عبادك» ؛ قال : معناه : قد تصدّقت بنفسي وأحللت من يغتابني ، فلو كان العرض الأسلاف ما جاز أن يحلّ من سبّ الموتى ؛ لأنّ ذلك إليهم لا إليه.

قال : ويدلّ على أن عرض الرجل نفسه قول حسّان :

هَجَوتَ مُحَمَّداً فَأَجَبتُ عَنهُ

وَعِندَ اللَهِ في ذاكَ الجَزاءُ

فَإِنَّ أَبي وَوالِدَهُ وَعِرضي

لِعِرضِ مُحَمَّد مِنكُم وِقاءُ

ص: 454

أَتَهجوهُ وَلَستَ لَهُ بِكُف

فَشَرُّكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ(1)

وقال آخرون ، وهو الصحيح : العرض موضع المدح والذّم من الإنسان ، فإذا قيل : في ذلك ذكر عرض فلان ، فمعناه ذكر ما يرتفع أو يسقط بذكره ، ويمدح أو يذمّ ، وقد يدخل في ذلك ذكر الرجل ، وذكر آبائه وأسلافه ؛ لأنّ كلّ ذلك ممّا يمدح به ويذمّ ؛ ويدلّ على هذا أنّ أهل اللغة لا يفرّقون في قولهم : «شتم فلان عرض فلان» أن يكون ذكره في نفسه بسوء وقبيح ، أو شتم سلفه وآباءه ؛ ويدلّ عليه قول مسكين :

رُبَّ مَهزول سَمين بيتُه

وسَمينِ الجسمِ مَهزولِ الحَسَب(2)

فلو كان العرض نفس الإنسان لكان الكلام متناقضاً ؛ لأنّ السّمن والهزال يرجعان إلى شيء واحد ؛ وإنّما أراد(3) : ربّ مهزول كريمة أفعاله ، أو كريم آباؤه وأسلافه.

قال ابن الأنباريّ ردًّا على ابن قتيبة : في الحديث الّذي استشهد به في وصف أهل الجنّة : المراد بالأعراض مَغابن(4) والجسد.

أقول : هذا أنسب ، لأنّ النفس لا يسند منها شيء من الأشياء هي مثل ن.

ص: 455


1- ديوان حسان بن ثابت : 8 ؛ يخاطب أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ويهجوه.
2- ديوان شعر مسكين الدرامي : 20 ؛ وفيه : (الجسم) و (النسب) بدل (البيت) ، و (الحسب).
3- ر : (أرادت) وليس فيه (ربّ) ، كأنّه خطأ في الاستنساخ.
4- المغابن : معاطف الجلد ؛ جمع مغبن.

الحاجبين وتحت الإبطين وخلف الأذنين ، فإنّه مزايد للأعضاء تدفع فضلاً.

وقال في حديث أبى الدرداء : معناه : من عابك ، وذكر أسلافك ، فلا تجازه ؛ ليكون الله هو المثيب له.

وقال في قول أبي ضمضم : معناه : أحلّ من أوصل إليه أذىً بذكره وذكر آبائه فلم يحلّ إلاّ من أمره إليه.

قال السيّد : لو سلّم لابن قتيبة أنّ المراد بالعرض في كلّ ما ذكر النفس دون السّلف ، لم يقدح فيما ذكرناه ؛ لأنّا لم نقل : إنّ العرض مقصور على سلف الإنسان ، بل ذكرنا أنّه موضع المدح والذمّ من الإنسان ، ولا فرق بين نفسه وسلفه.

20 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن الخبر الّذي روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : «لعن الله السّارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده».

الجواب : قلنا : قد تعلّق بهذا الخبر صنفان من الناس ؛ فالخوارج تتعلّق به ، وتدّعي أنّ القطع يكون في القليل والكثير ؛ وتستشهد عليه بقوله : (وَالسَّارِقُ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(1). 8.

ص: 456


1- المائدة : 38.

أقول : وتعلّق به أيضاً داود وأهل الظاهر كلّهم ، واعلم أنّ الحسن قال : القطع في درهم وقيل : في درهمين ، وقيل : في ثلاثة ، وقيل : في أربعة ، وقيل : في خمسة. وقال أبو حنيفة : في عشرة دراهم ، والكلّ باطل ما عدا ربع دينار.

ويتعلّق بهذا الخبر أيضاً الملحدة والشكّاك ، ويدّعون أنّه مناقض للرواية المتضمّنة أنّه لا قطع إلاّ في ربع دينار. ونحن نذكر ما فيه :

فأوّل ما نقوله : إنّ الخبر مطعون على سنده عند أصحاب الحديث ، وقد حكى ابن قتيبة في تأويله وجهاً عن يحيى بن أكثم ، وطعن عليه وضعّفه ، وذكر عن نفسه وجهاً آخر ؛ ونحن نذكرهما.

قال : حضرت يوماً مجلس يحيى بن أكثم بمكّة ، فرأيته يذهب في هذا الحديث إلى أنّ البيضة بيضة الحديد ، وأن الحبل من حبال السفن ، قال : وكلّ واحد منهما يبلغ دنانير.

قال ابن قتيبة : وهذا لا يجوز إلاّ على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام ، ولا جرت العادة بأن يقال : قبّح الله فلاناً عرّض نفسه للضرب في عقد جوهر وجراب مسك ، وإنّما يقولون : لعنه الله ، تعرّض للقطع في حبل رثّ ، وكبّة شعر.

قال : والوجه في الحديث أن الله لما أنزل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ؛ قال رسول الله : «لعن الله السارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده» ، على ظاهر ما نزل عليه في ذلك الوقت ، ثمّ أعلمه الله بعد أنّ القطع لا

ص: 457

يكون إلاّ في ربع دينار فما فوقه.

قال : ابن الأنباريّ : ليس الّذي طعن به ابن قتيبة بشيء ؛ لأنّ البيضة من السلاح ليست عَلَماً في كثرة الثمن ؛ فتجري مجرى العقد من الجوهر ، والجراب من المسك ؛ وربّما اشتريت البيضة من الحديد بأقلّ ما يجب فيه القطع ، وكذلك الحبل.

قال المرتضى رحمه الله : إنّ هذا الطعن على ابن قتيبة متوجّه ؛ غير أنّه يبقى في ذلك أن يقال : أيّ وجه لتخصيص البيضة والحبل بالذكر ، وليسا النهاية في التقليل.

وأمّا تأويل ابن قتيبة فباطل لأنّ النبيّ عليه السلام لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ؛ لأنّ الآية مجملة مفتقرة إلى بيان ؛ ولا يجوز أن يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة ؛ وعلى تأويله يقتضي أن يكون الخبر كلّه منسوخاً.

والأشبه أن يكون معنى الخبر أنّ السارق يسرق الجليل الكثير ، فتقطع يده ، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده ؛ فكأنّه تعجيز له ، وتضعيف لاختياره ، من حيث إنّه باع يده بقليل الثمن ؛ كما باعها بكثيره.

وحكى أهل اللغة أن بيضة القوم وسطهم ، وبيضة الدار وسطها ، وبيضة السنام شحمته ، وبيضة الصّيف معظمه ، وبيضة البلد الّذي لا نظير له ؛ وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذمّ على سبيل الأضداد ، وإذا استعمل في الذمّ فمعناه أنّ الموصوف بذلك حقير مهين ، كالبيضة التي تفسدها النعامة

ص: 458

فتتركها ملقاة لا تلتفت إليها.

قال الشاعر في الذمّ :

تَأبى قُضاعَةُ أَن تَعرِف لَكُم نَسَباً

وَاِبنا نِزار فَأَنتُم بَيضَةُ البَلَدِ(1)

أراد : (أن يعرف) فأسكن.

أقول : وفي المدح قولها(2) :

لَو كانَ قاتلَ عَمرو غيرُ قاتلهِ

لَكنتُ أَبكي عليهِ آخِرَ الأبدِ

لَكنّ قاتِلَهُ مَن لا نظير(3)

له

مَن كانَ(4) يُدعَى

قَديماً بَيضةَ البَلَدِ(5)

وأمّا الحبل فذكر على سبيل المثال ؛ والمراد المبالغة في التقليل والتحقير ؛ كما يقال : ما أعطاني فلان عقالاً ، وليس المراد بذكر الحبل الواحد من الحبال على الحقيقة ؛ وإذا كان هذا معنى الخبر زالت المناقضة وبطلت شبهة الخوارج في القليل والكثير.

أقول : وكذا شبهة داود ، وأهل الظاهر. ).

ص: 459


1- ديوان الراعي النميري : 111.
2- أم كلثوم بنت عبد ودّ ، أم كلثوم بنت عبد ودّ العامرية. أخت عمرو بن عبد ود العامري ، قتله الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
3- ر : (نضير).
4- ر : (ولكن).
5- الزاهر في معاني كلمات الناس : 404 ؛ وفيه بعض الاختلاف ، فالشطر الثاني من البيت الأوّل : بكيته ما أقام الروح في الجسد ؛ وفيه (من لا يعاب به) بدل (من لا نظير له).

21 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : «لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه النارُ إلاّ تَحِلَّة القسم».

الجواب : قيل له : أمّا أبو عبيد فقال : يعني بتحلّة القسم قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إلاّ وارِدُها)(1) ، فكأنّه قال : لا يرد النار إلا بقدر ما يبرّر الله قسمه.

قال ابن قتيبة : هذا مذهب حسن من الاستخراج ؛ إن كان هذا قَسَماً.

قال : وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم ؛ وهو أنّهم إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبّهوه بتحلّة القسم ؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه : إن شاء الله ، فيقولون : ما يقيم فلان عندنا إلاّ تحلّة القسم ، وما ينام إلاّ كتحليل الأليّة.

قال مزاحم بن أحمر(2) وذكر الريح : ).

ص: 460


1- مريم : 71 ؛ (وَإِنْ مِنْكُمْ إلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً).
2- ليس من اسمه مزاحم بن أحمر ، وإنّما هناك شاعران أحدهما عمرو بن أحمر الباهلي. شاعر جاهلي مخضرم ، (ت 75 ه) وهو الذي وجدنا الشعر في ديوانه ، والآخر مزاحم العقيلي ، مزاحم بن الحارث ، أو مزاحم بن عمرو بن مرّة بن الحارث ، من بني عقيل بن كعب ، من عامر بن صعصعة. شاعر غزل بدوي ، من الشجعان. (ت 120 ه).

إذا عصفت رسماً فليس بدائم

به وَتِدٌ إلاَّ تَحِلَّةَ مُقسِمِ(1)

يقول : لا يثبت الوتد إلاّ قليلاً كتحلّة القسم ، لأنّ هبوب الريح يقلعه.

قال : ومعنى الحديث أنّ النار لا تمسّه إلاّ قليلاً كتحليل اليمين ثمّ ينجّيه الله منها.

قال ابن الأنباريّ : الصواب قول أبي عبيد ، لحجج ثلاث :

منها : أنّ أكابر أهل العلم فسّروه على تفسير أبي عبيد.

ومنها : أنّه ادّعى أنّ النار تمسّه مسّاً قليلاً ، وليس صفة الأبرار صفة من تمسّه النار لا قليلاً ولا كثيراً.

ومنها : أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار ، وإنّما حكم عليه بالورود ، والورود لا يوجب ألاّ يكون الوارد من الأبرار ؛ لأنّ (إلاّ) معناه الاستثناء المنقطع ، كأنّه قال : فتمسّه النار لكن تحلّة القسم ، أي لكن ورود النار لا بدّ منه.

فمعنى الحديث : لا يموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسّه النار البتة ، لكن تحلّة القسم لا بدّ منها ، وتحلّة القسم الورود ، والورود لا يقع فيه مسّ.

قال أبو بكر بن الأنباريّ : وقد سنح لي فيه وجه آخر : وهو أن يكون (إلاّ) زائدة دخلت للتوكيد ، و (تحلّة) القسم منصوبة على الوقت والزمان ، ومعنى الخبر : فتمسّه النار ، وقت تحلّة القسم ، و (إلاّ) زائدة. 8.

ص: 461


1- شعر عمرو بن أحمر الباهلي : 148.

قال الفرزدق شاهداً لهذا :

هُمُ القَومُ إلاّ حَيثُ سَلّوا سُيوفَهُم

وَضَحّوا بِلَحم مِن مُحِلّ وَمُحرِمِ(1)

أي : حيث سلّوا سيوفهم ، و (إلاّ) مؤكّدة.

وقال الأخطل :

يقطّعن إلاّ مِن فُروع يُرِدنَها

بِمَدحَةِ مَحمود نَثاهُ وَنائِلُه(2)

معناه : يقطعن الإبل من فروع ، والفروع : الواسعة من الأرض.

قال المرتضى رضي الله عنه : والوجوه كالمتقاربة ، إلاّ أنّ الوجه الّذي اختصّ به ابن الأنباريّ فيه أدنى تعسّف وبعد ؛ من حيث جعل (إلاّ) زائدة ، وقد تبقّى في الخبر مسألة ، التشاغل بالجواب عنها أولى ممّا تكلّفه القوم ، وهي متوجّهة إلى الوجوه المذكورة.

وهو أن يقال : كيف يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الأولاد لا تمسّه النار إما جملة ، أو بمقدار تحلّة القسم ؛ وهو النهاية في القلّة! أوليس هذا يوجب أن يكون إغراءً بالذنوب لمن هذه حاله! وإذا كان من يموت له هذا القدر من الأولاد غير خارج عن التكليف ، فكيف يصحّ أن يؤمّن العقاب!

والجواب عن ذلك : أنّا قد علمنا أوّلا خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته ، ولا مدحة في مجرّد موت الأولاد ؛ لأنّ ذلك لا يرجع إلى فعله ، فلا بدّ من أن يكون تقدير الكلام : أنّ النار لا تمسّ المسلم م.

ص: 462


1- ديوان الفرزدق : 530.
2- ديوان الأخطل : 243 ؛ في حين صدر البيت في الديوان : إلَيكُم مِنَ الأَغوارِ حَتّى يَزُرنَكُم.

الّذي يموت له ثلاثة أولاد ؛ إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه ، ورضاؤه بما جرى به القضاء عليه ؛ لأنّه بذلك لا يستحقّ الثواب والمدح ؛ وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لابدّ منه لم يكن في القول إغراء ؛ لأنّ كيفية وقوع الصبر ، والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضّل الله سبحانه بغفران ما لعلّه يستحقّه من العقاب في المستقبل لا إغراء فيه.

وأكثر ما فيه أن يكون القول مرغّباً في حسن الصبر ، وحاثّاً عليه رغبة في الثواب ، ورجاءً لغفران ما لعلّه يستحقّ في المستقبل من العقاب.

22 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن معنى ما رواه(1) أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله من قوله : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه».

قلنا : قال أبو عبيد : سألت محمّد بن الحسن عن تفسيره فقال : هذا كان في أوّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، ويؤمر المسلمون بالجهاد.

قال أبو عبيد : كأنّه يذهب إلى أنّه لو كان يولد على الفطرة ، ثمّ مات قبل أن يهوّده أبواه أو ينصّراه ما ورّثاه ، وكذلك لو ماتا قبله ما ورّثهما ، لأنّه مسلم وهما كافران. ).

ص: 463


1- ر : (أورده).

أقول : أمّا الأوّل فهو صحيح وأمّا الثاني فهو غير صحيح لأنّ المسلم يرث الكافر.

وما كان أيضاً يجوز أن يسبى ، فلمّا نزلت الفرائض بخلاف ذلك علم أنّه يولد على دين أبويه.

قال أبو عبيد : وأمّا عبد الله بن المبارك فإنّه قال : هو بمنزلة الحديث الآخر الّذي يتضمّن أنّه سئل عليه السلام عن أطفال المشركين فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» يذهب إلى أنّهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر ؛ فمن كان علمه أنّه يموت كافراً ولد على ذلك.

قال أبو عبيد : لست أرى ما حكاه عنهما مقنعاً وتفسير محمّد يدلّ على أنّ الحديث عنده منسوخ ، والنسخ لا يكون في الإخبار ؛ قال : ولا أرى معنى الحديث إلاّ ما ذهب إليه حمّاد بن سلمة ؛ فإنّه قال فيه : هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم ؛ يريد حين مسح الله تعالى(1) ظهر آدم ؛ فأخرج منه ذرّيته أمثال الذرّ ، وأشهدهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(2) ؛ فأراد عليه السلام أنّ كلّ مولود يولد على العهد وعلى ذلك الإقرار الأوّل وهو الفطرة.

قال المرتضى رضي الله عنه : وهذا كلّه تخليط ، والصحيح في تأويله أنّ قوله : (على الفطرة) يحتمل أمرين : 2.

ص: 464


1- ر : (على).
2- الأعراف : 172.

أحدهما : أن يكون الفطرة هنا الدين ، ويكون (على) بمعنى اللام ؛ فكأنّه قال : كلّ مولود يولد للدّين ومن أجله ؛ يشهد بذلك قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ)(1) ؛ تقول العرب : صِفْ عليّ كذا وكذا حتّى أعرفه ؛ بمعنى صِفْ لي ؛ و : سقط الرجل لوجهه ؛ أي : على وجهه.

وعلى هذا تأويل قوله : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(2) ؛ أراد دين الله الّذي خلق الخلق له.

وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)(3) ؛ المراد به أنّ ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس ممّا يتغيّر ويختلف ، حتّى يكون يخلق قوماً للطاعة ، وآخرين للمعصية.

والوجه الآخر في تأويل الفطرة : أن يراد بها الخلقة ، ويكون لفظة (على) على ظاهرها ، ويكون المعنى : كلّ مولود يولد على الخلقة الدالّة على وحدانية الله وعبادته والإيمان به ، لأنّه تعالى قد صوّر الخلق على وجه يقتضي النظر في معرفته والإيمان به ؛ وإن لم ينظروا ولم يعرفوا ، فكأنّه عليه السلام قال : كلّ مخلوق ومولود فهو يدلّ بخلقه وصورته على عبادة الله ؛ وإن عدل بعضهم فصار يهوديّاً ونصرانيّاً. ة.

ص: 465


1- الذاريات : 56.
2- الروم : 30 ؛ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون).
3- نفس السورة والآية.

وهذا الوجه أيضاً يحتمله قوله : (فِطْرَتَ اللَّهِ) الآية.

فإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله عليه السلام : (حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ من كان يهوديّاً أو نصرانيّاً ممّن خلقته لديني وعبادتي ؛ فإنّ أبواه جعلاه كذلك ، أو من جرى مجراهما ممن أوقع له الشبهة وقلّده في الضلال.

وإنّما خصّ الأبوين لأنّ الأولاد في الأكثر ينشئون على مذاهب آبائهم ، ويألفون أديانهم ؛ ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله عن ضلال العباد وكفرهم ، فإنّه إنّما خلقهم للإيمان فصدّهم عنه آباؤهم ، ومن جرى مجراهم.

والوجه الآخر : أن يكون معنى : (يهوّدانه وينصّرانه) أي يلحقانه بأحكامهما ، لأنّ أطفال أهل الذمّة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم ؛ فكأنّه قال عليه السلام : لا تتوهّموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم ، أنّهم خلقوا لدينهم ، بل لم يخلقوا إلاّ للإيمان والدين الصحيح ؛ لكنّ آباءهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم.

أقول : كان الوجه في تأويل ذلك أن يكون المراد كلّ مولود مستعدّ ، ومن شأنه أن يوجد موحّداً على فطرة الإيمان إلاّ أن أبويه من اليهود والنصارى ، بل من كلّ أهل دين باطل وأهل ضلالة هم الذين يزيلون هذا الاستعداد الذي له ويضلاّنه ، أي كلّ مولود فإنّ من شأنه أنّه مستعدّ لتحصيل الإيمان وتوحيد الرحمن ، ومعرفة العدل والنبوّة والإمامة إلاّ أن يغيّره عن ذلك

ص: 466

تقليد أهل الضلال ، وإنّما خصّ الأبوين لما ذكره السيّد رحمه الله.

23 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن تأويل ما رواه يسار عن معاوية بن الحكم ، قال : قلت : يا رسول الله ، كانت لي جارية ترعى غنماً لي ، فذهب الذئب بشاة ، وأنا رجل من بني آدم ، آسف كما يأسفون ، لكنّي غضبت فصككتها صكّة ، قال : فعظم ذلك على النبيّ ، ثمّ قلت : يا رسول الله ؛ أأعتقها؟ قال : (ائتني بها) ، فأتيته بها فقال لها : (أين الله؟) فقالت : في السماء ، قال : (من أنا)؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال : «اعتقها فإنّها مؤمنة».

الجواب : أمّا قوله : (آسف كما يأسفون) فمعناه أغضب كما يغضبون. والأسف أيضاً الحزن ؛ وقوله : (ولكنّي غضبت فصككتها) أراد لطمتها ؛ قال تعالى : (فَصَكَّتْ وَجْهَها)(1).

وقولها : (في السماء) ؛ فالسماء هي الارتفاع والعلوّ ، فمعنى ذلك أنّه تعالى عال في قدرته ، عزيز في سلطانه ، لا يبلغ ولا يدرك. يقال : سما فلان يسمو سموّاً ، إذا ارتفع شأنه وعلا أمره ، قال تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)(2) فأخبر بقدرته وسلطانه وعلوّ شأنه ونفاذ أمره. ).

ص: 467


1- الذاريات : 29 ؛ (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّة فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقيمٌ).
2- الملك : 16 ، 17 ؛ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً).

وقد قيل : المراد : أأمنتم من في السماء أمره وآياته ورزقه ؛ والسماء أيضاً سقف البيت ، والمطر ، ويقال لظهر الفرس : سماء ؛ كما يقال لحوافره أنّها أرض.

وكلّ معاني السماء ترجع إلى معنى الارتفاع والعلوّ والسموّ.

أقول : ويحتمل أنّه أراد ب- : (من في السماء) الملائكة يخسف إذا أمرها الله بذلٍّ وغير ذلك.

24 - تأويل خبر

روى أبو (1) صالح الحنفيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله في المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من أمّته من الأود واللّدد».

الجواب : الأود هو الميل ، قال ثعلب : الأود إذا كان من إنسان في رأيه وكلامه فهو عَوَج بفتح العين ؛ وإذا كان في الشيء المنتصب كالعصا ، فهو عِوَج بالكسر ؛ وهذا قول الناس كلّهم إلاّ أبا عمرو الشيبانىّ ؛ فإنّه قال : العوج ، بالفتح : المصدر. وبالكسر : الاسم.

وأمّا اللّدد ؛ فهو الخصومات ، قال ثعلب : يقال : رجل ألدّ ، وقوم لُدّ ، إذا كانوا شديدي الخصومة ؛ ومنه قوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصام)(2).).

ص: 468


1- ر : (أبو).
2- البقرة : 204 ؛ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

وقال الأمويّ : اللدد : الاعوجاج ، والألدّ في الخصومة : الّذي ليس بمستقيم ، أي هو أعوج الخصومة ؛ بميل ، فلا يقوى عليه ولا يتمكّن منه.

قال أبو عمرو : الألدّ : هو الّذي لا يقبل الحقّ ، ويطلب الظلم.

25 - تأويل خبر

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يروى عن النبيّ عليه السلام أنّهنهى أن يصلّيَ الرجل وهو زنّاء.

الجواب : قلنا : الزنّاء هو الحاقن الّذي قد ضاق ذرعاً ببوله ؛ يقال : أزنأ الرجل بوله ، فهو يزنيه إزناء ، وزنأ بوله يزنأ زنأ ، ويقال : موضع زنّاء إذا كان ضيّقا صعباً ، ومن ذلك قولهم : زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه ؛ وهو يزنأ في الجبل.

وروى أبو زيد : (أنّ قيس بن عاصم المنقريّ أخذ صبيّاً له يرقّصه - وأمّ الصبيّ منفوسة ، وهي بنت زيد الفوارس ، فقال :

أشبِهْ أبا أمِّكَ أو أشبِهْ عَمَلْ

وَلا تَكونَنَّ كَهِلَّوف وَكَلْ(1)

والوكل : العاجز الجبان. والهلّوف : الهرم ، وهو أيضاً الكبير اللحية ؛ والجبان ، وإنّما أراد [عملي(2)] ، وقال : ة.

ص: 469


1- بلاغات النساء : 107 ؛ اصلاح المنطق : 153.
2- هناك سقط كلمة.

وارْقَ إلى الخَيراتِ زَنأً في الجَبَلْ(1)

فأخذته أمّه وجعلت ترقّصه ، وتقول :

أشبِهْ أخي أو أشبِهَنْ أباكا

أمّا أبي فَلَن تَنالَ ذاكا(2)

..........................

تَقصُرُ عَن مَنالِهِ يَداكا(3)

وهذا آخر الأخبار التي تأوّلها السيّد المرتضى رضي الله عنه

في كتاب (الدرر والغرر) انتزعتها أنا منه

مع اختصار وتنقيح وزيادات لطيفة يليق بالموضع وتلخيص

والحمد لله وحده

وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين الطيّبين الطاهرين

آمين يا ربّ العالمين 7.

ص: 470


1- صدره : يصبح في مضجعه قد انجدل. بلاغات النساء : 107 ؛ إصلاح المنطق : 153.
2- ر : (ذا كان).
3- بلاغات النساء : 107.

مصادر التحقيق

1 - القرآن الكريم.

2 - نهج البلاغة : محمّد بن حسين الشريف الرضي ، تحقيق : الصبحي صالح ، قم ، هجرت ، ط1 ، 1414 ه.

3 - الأخبار الموفّقيّات : زبير بن بكّار ، تحقيق : سامي مكّي العاني ، قم ، انتشارات الشريف الرضي ، ط : 1 ، 1416 ه.

4 - أدب الكاتب : أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، تحقيق : محمّد دالي ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، ط2 ، 1420ه- / 1999م.

5 - اشعار الشعراء الستّة الجاهليّين : أبو الحجّاج يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري ، تحقيق : إبراهيم شمس الدين ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1422 ه.

6 - إصلاح المنطق : يعقوب بن السكّيت ، تحقيق : أحمد محمّد شاكر وعبد السلام هارون ، القاهرة ، دار المعارف.

7 - الأغاني : علي بن الحسين أبو الفرج الإصفهاني ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، ط1 ، 1994 م / 1415ه.

8 - أمالي ابن الشجري : هبة الله بن علي بن محمّد بن حمزة الحسني العلوي ابن الشجري ، تحقيق : محمود محمّد الطنّاحي ، القاهرة ، مكتبة الخانجي ، 1412ه- / 1992م.

ص: 471

9 - أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) : عليّ بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1998 م.

10 - الأمالي : أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وأبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمّد البكري الأندلسي ، تحقيق : صلاح بن فتحي هلل وسيّد بن عبّاس الجليمي ، بيروت ، مؤسّسة الكتب الثقافية ، ط1 ، 2001م / 1422ه.

11 - الإيضاح في علوم البلاغة : جلال الدين محمّد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني ، وضع حواشيه : إبراهيم شمس الدين ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1424ه- / 2003م.

12 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار : محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، ط2 ، 1403 ه.

13 - بلاغات النساء : ابوالفضل أحمد بن طاهر ابن طيفور ، القاهرة ، مطبعة مدرسة والدة عبّاس الأوّل ، ط1 ، 1326 ه/ 1908م.

14 - البيان والتبيين : أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، تحقيق : علي أبو ملحم ، بيروت ، دار ومكتبة الهلال ، ط1 ، 2002م.

15 - التذكرة الحمدونية : محمّد بن حسن بن محمّد بن علي ابن حمدون ، تحقيق : إحسان عبّاس وبكر عبّاس ، بيروت ، دار صادر ، ط1 ، 1996م.

16 - جمهرة أشعار العرب : أبو زيد محمّد بن أبي الخطّاب القرشي ، تحقيق : علي فاعور ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط3 ، 2000م / 1424ه.

17 - الحيوان : أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، تحقيق : محمّد باسل عيون السود ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط2 ، 2003م / 1424ه.

ص: 472

18 - خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب : عبد القادر بن عمر البغدادي ، تحقيق : محمّد نبيل طريفي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1418ه- /1998 م.

19 - الخصائص : أبو الفتح عثمان ابن جنّي ، تحقيق : عبد الحميد هنداوي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط3 ، 2008م / 1429ه.

20 - ديوان أبي النجم العجلي : تحقيق : محمّد أديب عبد الواحد جمران ، دمشق ، مطبوعات مجمع اللغة العربية ، ط1 ، 1427ه/ 2006م.

21 - ديوان أبي ذُؤيب الهذلي : تحقيق أحمد خليل الشال ، القاهرة ، مركز الدراسات والبحوث الإسلامية ، ط1 ، 1435ه/ 2014م.

22 - ديوان الأخطل : غياث بن غوث الأخطل ، شرح : مهدي محمّد ناصر الدين ، بيروت ، دارالكتب العلمية ، ط2 ، 1414ه- / 1994م.

23 - ديوان الخرنق بنت بدر بن هفان(رواية أبي عمرو بن العلاء) : تحقيق : يسرى عبد الغني عبد الله ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1410ه/ 1990م.

24 - ديوان الخنساء (بشرح ثعلب) : تحقيق : أحمد أبو سويلم ، عمان ، دار عمار ، ط1 ، 1409 ه/ 1988م.

25 - ديوان الراعي النميري : تحقيق : واضح صمد ، بيروت ، دار الجيل ، ط1 ، 1416ه/ 1995م.

26 - ديوان الشنفري : تحقيق : أميل بديع يعقوب ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، ط2 ، 1417 ه/ 1996م.

27 - ديوان العبّاس بن مرداس : تحقيق : يحيى الجبّوري ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، ط1 ، 1412 ه/ 1991م.

ص: 473

28 - ديوان الفرزدق : همّام بن غالب ، شرح : علي فاعور ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1407 ه/ 1987م.

29 - ديوان القطامي : تحقيق : إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب ، بيروت ، دار الثقافة ، ط1 ، 1960م.

30 - ديوان شعر المتلمّس الضبعي : تحقيق : حسن كامل الصيرفي ، القاهرة ، معهد المخطوطات العربية ، ط1 ، 1390 ه/1970م.

31 - ديوان المفضليّات : أبو العبّاس المفضّل بن محمّد الضبّي ، تحقيق : كارلوس يعقوب لايل ، بيروت ، مطبعة الآباء اليسوعيّين ، ط1 ، 1920م.

32 - ديوان النابغة الجعدي : تحقيق : واضح الصمد ، بيروت ، دار صادر ، ط1 ، 1998م.

33 - ديوان النابغة الذبياني : تحقيق : عبّاس عبد الساتر ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط3 : 1416 ه/ 1996م.

34 - ديوان امرئ القيس وملحقاته(بشرح ابي سعيد السكري) : تحقيق : أنور عليان أبو سويلم ومحمّد علي الشوابكة ، الإمارات المتّحدة العربية - العين ، دار زائد للتراث والتاريخ ، ط1 ، 1421 ه/ 2000م.

35 - ديوان جرير(بشرح محمّد حبيب) : تحقيق : نعمان محمّد أمين طه ، القاهرة ، دار المعارف ، ط2.

36 - شرح ديوان حسّان بن ثابت : عبد الرحمن البرقوقي ، القاهرة ، المطبعة الرحمانية ، ط1 ، 1347 ه/ 1929م.

37 - ديوان ذي الرّمة (شرح الخطيب التبريزي) : تحقيق : مجيد طرّاد ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، ط2 ، 1416 ه/ 1996م.

ص: 474

38 - ديوان رؤبة بن العجّاج (مجموع أشعار العرب) : تحقيق : وليم بن الورد البروسي ، الكويت ، دار ابن قتيبة.

39 - شعر زياد الأعجم : تحقيق : يوسف حسين بكّار ، دار المسيرة ، ط1 ، 1403ه/ 1983م.

40 - ديوان عبيد الله بن قيس الرقيّات : تحقيق وشرح : محمّد يوسف نجم ، بيروت ، دار صادر.

41 - ديوان كعب بن زهير : تحقيق علي فاعور ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1417ه/ 1997م.

42 - ديوان شعر مسكين الدارمي : تحقيق : گارين صادر ، بيروت ، دار صادر ، ط1 ، 2000م.

43 - ديوان مهلهل بن ربيعة : شرح وتقديم : طلال حرب ، الدار العالمية.

44 - ربيع الأبرار ونصوص الأخيار : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري ، تحقيق : عبد الأمير مهنّا ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، ط1 ، 1999م / 1412ه.

45 - الزاهر في معاني كلمات الناس : أبو بكر محمّد بن القاسم بن محمّد بن بشّار ابن الأنباري ، تحقيق : يحيى مراد ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1424 ه- / 2004م.

46 - شرح القصائد العشر : أبو زكريّا يحيى بن علي الخطيب التبريزي ، تحقيق : إدارة الطباعة المنيرية ، ط2 ، 1325ه.

47 - شرح ديوان الحماسة : أبو علي أحمد بن محمّد بن حسن المرزوقي ، تحقيق : أحمد أمين وعبد السلام هارون ، بيروت ، دار الجيل ، ط1 ، 1411ه/ 1991م.

ص: 475

48 - شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة : شرح : محمّد محي الدين عبد الحميد ، القاهرة ، مطبعة السعادة ، ط1 ، 1371ه/ 1952م.

49 - شرح ديوان لبيد بن ربيعة : شرح : إحسان عبّاس ، الكويت ، 1962م.

50 - شرح نهج البلاغة : عبد الحميد بن هبة الله ابن أبي الحديد ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، قم ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، ط1 ، 1404ه.

51 - شعر الكميت بن زيد الأسدي : تحقيق : محمّد نبيل طريفي ، بيروت ، دار صادر ، ط1 ، 2000م.

52 - شعر عمرو بن أحمر الباهلي : تحقيق : حسين عطوان ، دمشق ، مطبوعات مجمع اللغة العربية.

53 - شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي : تحقيق : مطاع الطرابيشي ، دمشق ، مطبوعات مجمع اللغة العربية ، ط2 ، 1405ه/ 1985م.

54 - الشعر والشعراء : أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، تحقيق : أحمد محمّد شاكر ، القاهرة ، دار الحديث ، ط1 ، 2003م / 1423ه.

55 - الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها : أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا ، تحقيق : أحمد حسن بسج ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1418ه/ 1997م.

56 - صفات الشيعة : محمّد بن علي ابن بابويه ، طهران ، أعلمي ، ط1 ، 1362ه. ش.

57 - طبقات الشعراء المحدثين : عبد الله بن معتزّ ، تحقيق : عمر فاروق الطباع ، بيروت ، دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ط1 ، 1998م / 1419ه.

58 - العقد الفريد : أحمد بن محمّد ابن عبد ربّه الأندلسي ، تحقيق : مفيد محمّد

ص: 476

قميحة ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1404ه.

59 - العمدة في صناعة الشعر ونقده : أبو علي حسن بن الرشيق القيرواني ، تحقيق : نبوي عبد الواحد شعلان ، قاهرة ، مكتبة الخانجي ، ط1 ، 200م / 1421ه.

60 - عيون الأخبار : أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، تحقيق : يوسف علي طويل ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1998م / 1418ه.

61 - الكامل في اللغة والأدب : أبو عبّاس محمّد بن يزيد المبرّد ، تحقيق : تغاريد بيضون ونعيم زرزور ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط2 ، 1987م / 1407ه.

62 - كتاب الصناعتين : محمّد بن عبد الله أبو هلال العسكري ، تحقيق : علي محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم ، بيروت ، المكتبة العصرية ، ط1 ، 1998م /1419ه.

63 - كتاب العين : خليل بن أحمد الفراهيدي ، تحقيق : مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي ، قم ، ط2 ، 1409 ه.

64 - لسان العرب : محمّد بن مكرم ابن منظور الإفريقي ، بيروت ، دار الفكر ، ط3 ، 1414 ه.

65 - مجمع الأمثال : أحمد بن محمّد الميداني النيسابوري مشهد ، العتبة الرضوية المقدّسة ، 1366ه. ش.

66 - مجمع البحرين : فخر الدين بن محمّد الطريحي ، تحقيق : أحمد الحسيني الاشكوري ، طهران ، المكتبة المرتضوية ، ط3 ، 1375ه. ش.

67 - المحكم والمحيط الأعظم : علي بن إسماعيل ابن سيده ، تحقيق : عبد الحميد هنداوي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1421ه.

68 - المسترشد في إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام : محمّد بن جرير بن

ص: 477

رستم الطبري ، تحقيق : أحمد المحمودي ، إيران ، قم ، كوشانبور ، ط1 ، 1415ه.

69 - معاني الأخبار : محمّد بن على ابن بابويه ، تحقيق : علي أكبر الغفاري ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، ط1 ، 1403ه.

70 - منتهى الطلب من أشعار العرب : محمّد بن المبارك بن محمّد بن ميمون ، تحقيق : محمّد نبيل طريفي ، بيروت ، دار صادر ، ط1 ، 1999م.

ص: 478

من أنباء التراث

هيئة التحرير

كتب

صدرت محقّقة

*

المدنيّات (ج1 - 2) (العدد الرابع والخامس من سلسلة ذخائر الحرمين الشريفين).

تحقيق وتأليف : الشيخ حسين الواثقي.

يعتبر الكتاب دائرة معارف موجزة عن المدينة

المنوّرة وتاريخها ونشاط الشيعة الإمامية الثقافي والعلمي فيها ، فقد اشتمل

الكتاب على تراجم العلماء وسيرهم ، وجملة من الرسائل الفقهية والأصولية

والكلامية والتفسيرية ، كما اشتمل أيضاً على وثائق تاريخية وأسفار مهمّة عن

تاريخ الشيعة الإمامية

في المدينة المنوّرة ، وإليك ما في هذين المجلّدين

تفصيلاً :

1 - تصوير من حجر (بسم الله الرحمن الرحيم) الذي

صنعه المرزا سنگلاخ الخراساني للروضة النبوية ، والتعريف به ، في أوّل الكتاب.

2 - ترجمة السيّد محمّد بن حسن ابن شدقم المدني (ت

1008 ه) : الصفحات 19 - 24.

3 - الأسئلة الفقهيّة للسيّد محمّد ابن حسن بن شدقم

المدني ، وأجوبتها للفقيه المعظّم السيّد محمّد العاملي صاحب المدارك (ت 1009

ه) : الصفحات 25 - 46.

4 - ترجمة السيّد علي بن حسن بن شدقم المدني (ت

حدود 1034 ه) :

ص: 479

الصفحات 48 - 67.

5 - طوائف من الأسئلة للسيّد عليّ ابن حسن بن شدقم

المدنيّ ، وأجوبتها للفقيه الجليل السيّد محمّد العاملي صاحب المدارك (ت 1009

ه) ، وهذه الطوائف من الأسئلة والأجوبة وقعت في السنوات (1000 - 1009 ه) وقد

جمعها السائل في سنة 1011 ه- : الصفحات 68 - 242.

6 - ترجمة السيّد محمّد بن جويبر المدني التمّاري

الحسيني : الصفحات 246 - 251.

7 - المسائل المدنيّات الأُولى للسيّد محمّد بن

جويبر التمّاري المدني ، وأجوبتها للشيخ حسن صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني (ت

1011 ه) : الصفحات 253 - 264.

8 - المسائل المدنيّات الثانية ، للسيّد محمّد بن

حسن بن شدقم المدنيّ (ت 1008 ه) ، وأجوبتها للشيخ حسن صاحب المعالم ابن

الشهيد الثاني (ت 1011 ه) : الصفحات 266 - 292.

9 - المسائل المدنيّات الثالثة إلى الثامنة ،

للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم المدنيّ ، وأجوبتها للشيخ حسن صاحب المعالم ابن

الشهيد الثاني (ت 1011 ه) : الصفحات 293 - 403.

10 - ردود للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم المدني على

بعض أجوبة الشيخ حسن صاحب المعالم : الصفحات 404 - 425.

11 - رسالة للسيّد عليّ بن حسن ابن شدقم المدني ،

إلى السيّد نور الدِّين عليّ ابن عليّ بن أبي الحسن العاملي ، أخي صاحبي المدارك

والمعالم (ت 1068 ه) : الصفحات 426 - 429.

12 - رسالة للسيّد عليّ بن حسن ابن شدقم المدني ،

إلى الشيخ محمّد ابن الشيخ حسن صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني (ت 1030 ه) :

ص: 480

الصفحات 429 - 432.

13 - ترجمة الشيخ محمّد بن أحمد بن خاتون العاملي

المكّي : الصفحات 434 - 435.

14 - الأسئلة للسيّد عليّ بن حسن ابن شدقم المدني ،

والأجوبة للشيخ محمّد ابن أحمد بن خاتون العاملي المكّي ، ثمّ التعليقات على هذه

الأجوبة للسيّد عليّ ابن حسن بن شدقم المدني. الصفحات 436 - 461.

15 - مقال حول آية الإفك ، للسيّد عليّ بن حسن بن

شدقم المدني ، الصفحات 464 - 468.

16 - رسالة الاعتقادات ، للسيّد عليّ بن حسن بن

شدقم المدني : الصفحات 469 - 482.

17 - مقالٌ حول عدم وجوب طواف النساء في عمرة

التمتّع ، للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم المدني : الصفحات 483 - 488.

18 - مقالٌ حول الإشهاد على الطلاق ، للسيّد عليّ

بن حسن بن شدقم المدني : الصفحات 489 - 498.

19 - مقالٌ حول علم الشاهدين في الطلاق بالمطلِّق

والمطلَّقة ، للشيخ عبد النبيّ بن سعد الدين الجزائري الحائري : الصفحات 499 -

516.

20 - الأسئلة للسيّد عليّ بن الحسن ابن شدقم المدني

، وأجوبتها لعلماء السنّة والزيديّة المدنيّين : الصفحات 517 - 624.

21 - رسالة الشهاب الثاقب في تخطئة اليزيدي النّاصب

في ردّ منع لعن يزيد بن معاوية ، للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم المدني : الصفحات

626 - 640.

22 - الأسئلة للسيّد عليّ بن حسن ابن شدقم المدني ،

أجوبتها للشيخ محمّد ابن الشيخ حسن صاحب المعالم (ت 1030 ه- بمكّة المعظّمة) :

الصفحات 641 - 659.

ص: 481

23 - إرسال ستائر مقصورة النبيّ (صلى الله عليه

وآله) من المدينة إلى مراقد الأئمّة عليهم السلام

في العراق : الصفحات 669 - 672.

24 - الأسئلة الستّة ، للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم

المدني ، وأجوبتها للشيخ محمّد بهاء الدِّين العاملي (ت 1030 ه) وهي الأسئلة

والأجوبة الشهيرة : الصفحات 673 - 699.

25 - مسائل بلا جواب ، للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم

المدني ، وقد سأل عنها الشيخ محمّداً بهاء الدِّين العاملي ، وهو لم يجب عنها أو

لم يصل الجواب إلى السيّد السائل : الصفحات 701 - 718.

26 - رسالة في تطبيق الأوزان الشرعيّة على الأوزان

العرفيّة في المدينة المنوّرة آنذاك ، للسيّد عليّ بن حسن بن شدقم الحسيني

المدني : الصفحات 719 - 745.

27 - الأسئلة للسيّد محمّد بن عليّ

ابن طرّاد المدني ، وأجوبتها للشيخ زين الدين

العاملي الشهيد الثاني : الصفحات 747 - 760.

28 - مسائل فقهيّة ، للشيخ حسين ابن ربيعة المدني ،

وأجوبتها للشيخ زين الدِّين العاملي الشهيد الثاني : الصفحات 761 - 768.

29 - ترجمة السيّد حسن بن شدقم المدني (ت 998 ه) :

الصفحات 770 - 804.

30 - مسائل فقهيّة ، للسيّد حسن ابن شدقم الحسيني

المدني ، وأجوبتها للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (ت 984 ه) : الصفحات 805 -

810.

31 - التراث المدني : الإجازات ، والمؤلَّفات ،

والمستنسخات ، والتصحيحات ، والتملّكات ، وجميعها وقعت في المدينة المنوّرة :

الصفحات 811 - 855.

32 - بعض مدائح النبيّ (صلى الله عليه وآله)

ص: 482

والأئمّة المدفونين في البقيع : الصفحات 857 - 902.

33 - ترجمة السيّد مهنّا بن سنان المدني (ت 754 ه)

: الصفحات 912 - 936.

34 - الأبيات التي أنشأها الشيخ إبراهيم بن أبي

الغيث العاملي الشهير بابن الحسام ، في نقد بعض السادة الأشراف : الصفحات 937 -

944.

35 - ردّ الأبيات المذكورة في أبيات أنشأها السيّد

مهنّا بن سنان المدني : الصفحات 945 - 946.

36 - رسالة كشف اليقين في مودّة المتّقين وشنآن

الفاسقين لابن الحسام المذكور ، في ردّ أبيات السيّد مهنّا بن سنان المدني :

الصفحات 947 - 959.

37 - رسالة الإيضاح والتبيين بفضل ربّ العالمين على

عباده المطيعين والمذنبين ، للسيّد مهنّا بن سنان المدني ، في ردّ رسالة كشف

اليقين في مودّة المتّقين وشنآن الفاسقين

للشيخ ابن الحسام المذكور : الصفحات 960 - 986.

38 - ترجمة الشيخ أحمد بن عبد الكريم بن سالم

الشهير بابن الجلال الحمصي ، المدفون بالمدينة الشريفة سنة 687 ه- : الصفحات 982

- 983.

39 - بعض القرى حول المدينة المنوّرة : العُريض ،

صريا ، ساية ، العنابة : الصفحات 987 - 1022.

40 - وثيقة استلام الهديّة التي أرسلها السلطان

حسين بايقرا التيموري سنة 877 ه- إلى الحرم النبوي ، بواسطة المولى عبد الرحمن

الجامي الشهير : الصفحات 1025 - 1029.

41 - الوثائق الوقفيّة للحرمين الشريفين ، ولمرقد

الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وللسادة

الأشراف الحسينيّين المدنيّين : الصفحات 1030 - 1037.

42 - رسالة الشيخ حسين الواثقي إلى مركز بحوث

المدينة المنوّرة في

ص: 483

التعريف بمخطوطة الثُّلث الأخير من كتاب التحفة

اللّطيفة للحافظ السخاوي : الصفحات 1038 - 1040.

43 - رسالة هداية التصديق إلى حكاية الحريق الذي

وقع بمسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) سنة 886 ه- ، لفضل الله بن روزبهان

الخُنجي الإصفهاني (ت 925 ه) : الصفحات 1041 - 1076.

44 - فهرس (المصاحف الشريفة المخطوطة في الروضة

النبويّة) ، أعدّها الأميرال أيّوب صبري باشا (ت 1308 ه) : الصفحات 1077 -

1104.

45 - الشمّامة المُهداة من السلطان حسين الصفوي العلوي

إلى روضة النبيّ (صلى الله عليه وآله) : الصفحات 1105 - 1150.

46 - مصوَّرة ملوَّنة من مخطوطة قديمة لرسالة

أُمّهات النبيّ (صلى الله عليه وآله) للشيخ محمّد بن حبيب البغدادي (ت 245 ه) :

الصفحات 1151 - 1160.

47 - المستدرك على كتاب التراث

المكّي : الصفحات 1161 - 1234.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 1336 + 16 صفحة تصاوير.

نشر : دانش حوزة ، قم المقدّسة - إيران.

*

تحفة الأبرار ، شرح دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة بعرفات.

الشارح : الشيخ شمس الدين حسين بن محمّد الشيرازي

المكّي (القرن الحادي عشر).

دوّنه : الشيخ مصطفى بن إبراهيم القاري التبريزي

(القرن الحادي عشر).

الكتاب هو العدد السادس من سلسلة ذخائر الحرمين

الشريفين ، وفيه أثران مكّيّان :

الأوّل : دعاء عرفة الذي أنشأه سيد الشهداء على جبل

عرفة بمكّة المكرّمة.

والثاني : شرح دعاء عرفة الذي

ص: 484

كتبه الشارح في مكّة المكرّمة ، وكان المؤلّف من

مجاوري مكّة ، وله اهتمام بالغ بالعلوم الدينية ، كالتفسير والحديث والفقه

والرجال والأدب العربي ، وقد استنسخ جملة من المصنّفات في مكّة ، وكانت له مكتبة

غنيّة بالكتب حافلة بأمّهات المصادر ، انتقل قسمٌ منها إلى مكتبة الفاضل الهندي

صاحب كشف اللثام.

وقد كتب هذا الشرح على هامش الدعاء ، فدوّنه عالمٌ

آخر ، من علماء الشيعة في مكّة المكرّمة وهو الشيخ مصطفى بن إبراهيم القاري

التبريزي ، ثمّ قرأه على الشارح.

وقد اشتمل الكتاب على فهارس فنّية ومقدّمة علمية

رصينة حول الدعاء وشارحه ومدوّن الشرح ، ونسخ الكتاب.

تحقيق : الشيخ حسين الواثقي.

حجم الكتاب : وزيري.

عدد الصفحات : 232.

نشر : المؤلّف ، قم - إيران.

*

مجلي مرآة المنجي في الكلام والحكمتين والتصوّف ج(1 - 5).

تأليف : الشيخ محمّد بن أبي جمهور الأحسائي.

موسوعة عقائدية فلسفية عرفانية ، حاول المصنّف من

خلالها أن يقدّم للمعرفة الإنسانية منهجاً مبتكراً في طرح الآراء العقائدية

المتنوّعة ، حيث ذهب في منهجه إلى التطبيق والتأليف بين ثلاثة مناهج ، بدلاً من

الانحياز إلى إحديها ، وتلك المناهج هي الشريعة والحقيقة والطريقة ، وبعبارة

أخرى لتلك المناهج الثلاثة : الوحي (القرآن الكريم) ، والعقل (البرهان) ، والكشف

والشهود الباطني (العرفان) ، فقد توصّل من خلال بحثه إلى نتيجة مؤدّاها أنّ هذه

المناهج الثلاثة ما هي إلاّ (أسماء مترادفة صادقة على حقيقة واحدة هي حقيقة

الشرع المحمّدي) ، وعبارة المصنّف في كتابه المجلي تشير إلى هذا المعنى بشكل

جليٍّ ، حيث

ص: 485

يقول المؤلّف رحمه الله عن كتابه (قد

أودعنا لك فيه إلهامات محكمات ... ، فتنتقل بها من الحكمة الرسمية إلى الحكمة

الذوقية ، ومن القضايا البرهانية الضرورية إلى الواردات الإلهية الإرثية ، وتعرف

أسرار الشريعة ومعاني الطريقة ، وترتقي إلى حظائر سرائر الحقيقة ، فإنّها الطرق

التي أرساها المتقدّمون وسلكها الآخرون).

تحقيق : رضا يحيى پورفارمد.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 440 تقريباً لكلِّ جزء.

نشر : جمعية ابن أبي جمهور الأحسائي لإحياء التراث

- قم - إيران.

*

النور المنجي من الظلام ج(1 - 2).

تأليف : الشيخ محمّد بن أبي جمهور الأحسائي.

سعى المؤلّف في هذا الكتاب في

الاستعانة بالمصادر الإشراقية القليلة المتوفّرة

عنده في محاولة منه إلى إضفاء مسحة جديدة على استدلالاته ، غير أنّ هذه

الاستفادة من المصادر الإشراقية لم تبلغ حدّاً من الكثرة بحيث تخرجه عن دائرة

الكتب الكلامية ، وقد كتب سنة 893 هجرية في بلدة التيمية بالأحساء كحاشية على

كتابه مسلك الأفهام في علم الكلام ، وكان كتابه يدرّس في حوزة النجف الأشرف في

عصر المؤلّف ، والكتاب يشتمل بصورة مختصرة على المقدّمة ، والقسم الأوّل في

التوحيد والقسم الثاني في الأفعال والخاتمة ، مع فهارس تفصيلية.

تحقيق : رضا يحيى پورفارمد.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 400.

نشر : جمعية ابن أبي جمهور الأحسائي لإحياء التراث

- قم المقدّسة - إيران.

ص: 486

*

بحوث أُصوليّة ج (1 - 2).

تأليف : الشيخ محمّد باقر بن الشيخ موسى بو خمسين

الأحسائي (ت 1413 ه).

كتاب أصولي شرح لكفاية الأُصول ، وهو عبارة عن

تقريرات لدروس السيّد محمّد باقر الشّخص الأحسائي (ت 1381 ه) جمعها تلميذه

المقرِّر لتلك الأبحاث وقد نقّحها ورتّبها ، وهو عبارة عن نسخة وحيدة لا ثاني

لها على حدّ تعبير المحقّق للكتاب ، ولم تك شاملة لجميع أبواب وفصول الكفاية بل

انتهى بها المطاف إلى مبحث (المطلق والمقيّد).

وقد اشتمل الكتاب على مقدّمة بحوث على طريقة العمل

به وترجمتين إحداهما للسيّد الشّخص والأُخرى للشيخ المقرّر.

تحقيق : أحمد بن حسين العبيدان الأحسائي.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 488 و342.

نشر : انتشارات زين العابدين - قم - إيران.

*

كفاية الأُصول ج(1 - 3).

تأليف : الشيخ محمّد كاظم الآخوند الخراساني (ت

1329 ه).

هو الكتاب الأُصولي المعروف والمعهود بالدراسة في

الحوزات العلمية لما يناهز القرن ، وقد جاء تحقيق هذه النسخة بإدراج حواشي لثلّة

من العلماء المتقدّمين هم : الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ، والشيخ أبي المجد

محمّد رضا الأصفهاني والسيّد محمّد حسين الطباطبائي ، كما أُلحقت به لباب من

حواشي المتأخرين مثل : القوچاني والمشكيني والإيرواني والشيخ آل راضي ومختارات

من جمهرة من الأعلام.

وقد سبق أن حقّقت هذا الكتاب

ص: 487

مؤسّسة آل البيت عليهم السلام

لإحياء التراث وقد مرّ تعريفه في العدد (107 - 108) من مجلّة تراثنا.

تحقيق : السيّد محمّد حسن الموسوي العباداني.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 691 ، 559 ، 584.

نشر : ذوي القربى - قم - إيران.

*

المقاصد العلية في المطالب السنية.

تأليف : الشيخ عبد الحسين الأميني (ت 1390 ه).

تناول المؤلّف رحمه الله شرح وتفسير

تسعة عشر آية من آيات الذكر الحكيم هي محلّ اهتمام الباحثين والمفسّرين ، يبيّن

فيها جانباً من عقائد الإمامية وعلوم أهل بيت الرسالة في تفسير كتاب الله ، حيث

تناول تفسير الآية (172) من سورة الأعراف والمعروفة

بآية (ألَسْتُ) وهي من أهمّ الأبحاث في هذا الكتاب

حيث يتكلّم فيها عن عالم الذر وإثبات الميثاق الأوّل فصار يعرف الكتاب أيضاً ب-

: «كتاب عالم الذرّ» أو «تفسير آية الذرّ»كما زوّد أبحاثه بالأحاديث الشريفة ،

وزيّنه بأشعار الأدباء وأقوال العلماء.

اشتمل الكتاب على مقدمة المحقّق ذكر فيها تعريف

الكتاب ومنهج التحقيق ، كما اشتمل على أربعة مطالب بعناويين آياتها المفسّرة

فيها.

تحقيق : محمّد الطباطبائي اليزدي.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 520.

نشر : دار التفسير - قم - إيران.

*

فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

تأليف : أحمد بن حنبل (ت 241 ه).

ص: 488

يعدُّ الكتاب من الآثار الخالدة لإمام الحنابلة

أحمد بن حنبل ، فهو كتاب ذو أهمّية بالغة نظراً إلى محتواه وقدمه وشأن مؤلّفه ،

وهو من المصادر الأوّلية للحديث الإسلامي ، تناول فيه المؤلّف فضائل أمير

المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وسيّدة نساء

العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام والإمام

الحسن

عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام

وأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام. اشتمل

الكتاب على مقدّمة التحقيق ومقدّمة للعلاّمة الطباطبائي رحمه الله

يبين فيها من روى هذا الكتاب عن الإمام أحمد بن حنبل في مصنّفاته من كبار

المحدّثين والمؤرّخين.

تحقيق : السيّد عبد العزيز الطباطبائي.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 480.

نشر : مؤسّسة المحقّق الطباطبائي - قم - إيران.

كتب

صدرت حديثاً

*

دائرة المعارف النجفية.

تأليف : الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء.

يعتبر الكتاب دائرة معارف صغيرة.

اشتمل الكتاب على مسائل مختلفة من شتّى العلوم

والمعارف.

قد جمع فيه مؤلّفه جميع الأسئلة والاستفتاءات التي

وردته من مختلف أقطار العالم ، مع ما كتبه في جواب تلك الأسئلة العلمية.

إعداد : مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق

والنشر.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 610.

نشر : مجمع الذخائر الإسلامية في قم المقدّسة -

إيران ، بالتعاون مع مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق - العراق.

ص: 489

*

خطباء المنبر الحسيني في المدينة المنوّرة ، وقضاة المدينة المنوّرة من آل البيت

وأتباعهم ، والمدينة المستهدفة (العدد الأوّل من سلسلة ذخائر الحرمين الشريفين).

تأليف : عبد الرحيم حسن محمّد الحربي.

يعتبر الكتاب العدد الأوّل من سلسلة ذخائر الحرمين

الشريفين ، التي وضعت للتعريف بشيعة أهل البيت عليهم السلام

في مكّة والمدينة ، والتعريف بتراث علمائهم ومؤلّفاتهم ، وسيرتهم وعطائهم الثرّ.

اشتمل العدد الأوّل من السلسلة على ثلاثة كتب

لمؤلّف واحد :

1 - خطباء المنبر الحسيني في المدينة المنوّرة ،

والكتاب عبارة عن تراجم للخطباء الذين مارسوا الخطابة وذكر مصائب أهل البيت عليهم السلام

في المدينة المنوّرة ، وقد جعل المؤلّف كتابه على ثلاثة أبواب ، بعد تمهيد

قصير :

الباب الأوّل : الخطابة والخطيب ومواصفات كلٍّ

منهما.

الباب الثاني : الأنشطة التي يمارسها الخطباء.

الباب الثالث : تراجم الخطباء ، وقد اشتمل على

ترجمة 71 خطيباً من خطباء المدينة المنوّرة.

2 - قضاة المدينة المنوّرة من آل البيت وأتباعهم.

وهو الكتاب الثاني من العدد الأوّل ، وقد اختصّ

بتراجم القضاة من آل البيت وأتباعهم في المدينة المنوّرة ، لِمَا للقضاء من

أهمّية خاصّة عند المسلمين ، ولِمَا للقاضي من دور ريادي في إصلاح المجتمع ، وقد

جعل المؤلّف مقدّمة بادئ الأمر تكلّم فيها عن القضاء بشكل عام. ومن ثمّ رتّب

كتابه على الطبقات ، فجعل الطبقة الأُولى : أئمّة أهل البيت عليهم السلام ،

بدءاً من النبيّ الأكرم ، وحتّى خاتم الأوصياء

ص: 490

الحجّة المنتظر عليهم السلام.

وجعل الطبقة الثانية : من قضاة المدينة المنوّرة وكلاء النبيّ وعترته كحذيفة بن

اليمان وأبي أيّوب الأنصاري ، والطبقة الثالثة : هم سلالة ابن أبي البركات ،

صاحب صدقات النبيّ (صلى الله عليه وآله). والطبقة الرابعة : سكّان الجوانية ،

كأحمد القاضي. والطبقة الخامسة : أسرة آل مهنّا المدينة ، كالقاضي عبد الوهّاب

بن سنان ، ومهنّا بن سنان. والطبقة السادسة : القضاة من أشراف بني حسين ، وهم

ستّة عشر قاضياً. والطبقة السابعة : قضاة من أقطار إسلامية في المدينة المنوّرة.

والطبقة الثامنة : القضاة العرفية.

3 - المدينة المستهدفة :

والكتاب استعراضٌ موجز لِمَا تعرّضت له المدينة

المنوّرة وسكّانها من قهر وإذلال ، والكتاب عبارة عن دراسة تاريخية إحصائية

واسعة ، جعله المؤلّف في بابين : الباب الأوّل :

المدينة المنوّرة قديماً وحديثاً ، وتعرّض فيه إلى

تاريخ المدينة المنوّرة ، والباب الثاني : المدينة المستهدفة ، واستقصى فيه

الحوادث التاريخية التي استهدفت فيها المدينة المنوّرة ، بدءاً من عصر الخلفاء

وانتهاءاً بانتفاضة الشيعة في سنة 1346 ه- ، وفتنة عيد الفطر.

إعداد : الشيخ حسين الواثقي.

حجم الكتاب : وزيري.

عدد الصفحات : 432.

نشر : نشر دانش حوزة ، قم المقدّسة - إيران.

*

التراث المكّي (الإجازات ، المستنسخات ، المؤلّفات ، التصحيحات ، التملّكات).

تأليف : الشيخ حسين الواثقي.

يعتبر الكتاب العدد الثالث من سلسلة ذخائر الحرمين

الشريفين ، كما يعتبر مفتاحاً لفتح آفاق واسعة حول

ص: 491

الأدب المكّي ، وتاريخ مكّة المعظّمة ، وتاريخ

الحوزات العلمية في مكّة وتاريخ الشيعة الإمامية في مكّة المكرّمة.

وقد اشتمل على :

1 - الإجازات المكّية ، وهي 101 إجازة وقد كتبت

كلّها في مكّة المكرّمة ، سواء كان المجيز أو المجاز من المقيمين في مكّة أو من

الحجّاج والمعتمرين.

2 - المستنسخات بمكّة المكرّمة ، فقد أحصى المؤلّف

300 نسخة من الكتب التي استنسخت في مكّة المكرّمة ، واثنتي عشرة نسخة كتبت في

الطائف.

3 - المؤلّفات المكّية ، أي المؤلّفات التي كتبت

ودوّنت في مكّة وهي مئة وعشرين عنواناً ، وعنوان واحد كتب في الطائف.

4 - المؤلّفات التي أُلّفت في طريق الحجّ وهي 37

كتاباً ، ممّا يدلّ على

جهد العلماء ومثابرتهم في التصنيف والتأليف.

5 - المستنسخات التي استنسخت في الطريق إلى مكّة

المعظّمة ، وهي 23 كتاباً.

6 - كتبٌ اُقترح تأليفها في مكّة المعظّمة وهي تسعة

كتب اُقترحت الفكرة الأولى لتأليفها في مكّة المكرّمة.

7 - القراءات والمقابلات والتصحيحات في مكّة

المكرّمة ، وقد أحصى المؤلّف 41 مخطوطة قوبلت في مكّة.

8 - المخطوطات التي تُملّكت في مكّة المكرّمة أو

الطائف ، وهي 26 عنواناً.

9 - المؤلّفات التي فقدت في طريق الحجّ ، وهي خير

شاهد على اهتمام علمائنا بالعلم ، والمكتبة السيّارة في حملات الحجّ ، وقد عدّ

المؤلّف سبعة عناوين من ذلك.

ص: 492

10 - جمع المؤلّف نماذج متفرّقة ، نحو ما إذا كان

إهداء الكتاب أجر الخدمة في الحجّ ، أو أجر النيابة في الحجّ وما إلى ذلك.

وبما أنّ مصدر هذه المعلومات المتشتّتة والوثائق

المتبعثرة ليس إلاّ النسخ الخطّية ، وفهارسها ، فيتبيّن من ذلك ما تجشّم عناءه

المؤلّف في سبيل جمعه واستقصائه وترتيبه. وقد اشتمل الكتاب على فهارس فنّية

موسّعة ، ونماذج ومصوّرات النسخ الخطّية في 80 صفحة.

حجم الكتاب : وزيري.

عدد الصفحات : 664.

نشر : دانش حوزة ، قم المقدّسة - إيران.

*

فهرس مصنّفات الشيخ محمّد ابن عليّ بن أبي جمهور الأحسائي.

تأليف : عبد الله غفراني.

يشير المؤلّف إلى أنّ الشيخ ابن أبي

جمهور الأحسائي من علماء الطائفة وفقهائها ، ومن

حكماء الشيعة ومحدّثيها ، يتلألأ اسمه بين سطور النصوص الشيعية ، لكن الأعمّ

الأغلب من يجهل أطوار حياته ومدى مساحة تأثيره على الفكر الشيعي ، وما ذاك إلاّ

لفقر المصادر الحاكية وقلّة المعلومات المتوفّرة ، ولم يبق لنا إلاّ أن نبحث عنه

في مطاوي متون مؤلّفاته ، وعلى الرغم من طبع قسم من مؤلّفاته إلاّ أنّه ثمّة عدد

منها لازال يتلوّى تحت عنوان (مخطوطة) ولسلوك سير إحياء آثاره لابدّ من توفّر

معرفة صحيحة عن تلك المخطوطات لفرز الصحيح منها من السقيم والمنسوب منها من

المنحول ، وقد بذل المؤلّف قصارة جهده بالاعتماد على جميع المصادر والفهارس

وصولاً لكتب ورسائل ابن أبي جمهور ، واحدة تلو أخرى يرصد ويحصي مخطوطات ابن أبي

جمهور في مخازن المخطوطات العالمية ،

ص: 493

ليكون بين يدي القارئ الكريم هذا الأثر الكريم.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 472.

نشر : جمعية ابن أبي جمهور الأحسائي لإحياء التراث

- قم - إيران.

طبعات

جديدة

لمطبوعات

سابقة

*

المجالس السنية عن حياة السيّدة رقيّة عليها السلام.

تأليف : الشيخ مهدي تاج الدين.

تناول الكتاب جانباً من تاريخ مظلومية سيّد الشهداء

الحسين بن عليّ عليه السلام من خلال معرفة حياة وسيرة ابنته

المظلومة السيّدة رقيّة عليها السلام ، وقد رتّبه

على عشرة مجالس وفق المنهجية السائدة للمنبر الحسيني ، كما تناول بعض المواضيع

التي لها صلة بتاريخها ومعرفتها عليها السلام ، وهذه هي

الطبعة الثانية للكتاب.

الحجم : وزيري.

عدد الصفحات : 364.

نشر : المكتبة الحيدرية - قم - إيران.

ص: 494

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.