المؤلف: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم
المطبعة: نمونه
الطبعة: 0
الموضوع : مجلّة تراثنا
تاریخ النشر : 1436 ه.ق
الصفحات: 510
ص: 1
تراثنا
صاحب
الامتیاز
مؤسّسة
آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
المدير
المسؤول :
السيّد
جواد الشهرستاني
العددان
الأوّل والثاني [121 - 122]
السنة
الواحد والثلاثون
* كلمة العدد :
* أَسلَمَةُ التَطَرُّفِ.
.................................................................... هيئة التحرير 7
* حلب بين مدرستي المرتضى والطوسي (دراسة حول غنية النزوع)
.......................................................... محمّد عمادي الحائري 10
* دراسة في تراث الشهيدين العامليّين (1)
....................................................... السيّد عليّ محمود البعّاج 56
* تاريخ الحوزات العلميّة (الحوزة العلمية في الحلّة)
.......................................................... الشيخ عدنان فرحان 76
* تعليقاتٌ مستطردةٌ على كتاب الحماسة
.................................................... السيّد عبد الستّار الحسني 254
* تخريج حديث (عليٌّ سيّد العرب)
............................................................. د. علي الفحّام 370
* معقل بن قيس بن حنظلة الرياحي
.................................................. د. صلاح مهدي الفرطوسي 412
* آل يقطين ودورهم السياسي والإداري والفكري
.............................................. محمّد جواد نور الدين فخر الدين 432
* من ذخائر التراث :
* مناظرةٌ في الإمامة للسيّد ماجد البحراني رحمه الله
............................................... تحقيق : عبد الحليم عوض الحلّي 465
* من أنباء التراث.
................................................................ هيئة التحرير 493
ص: 2
* كلمة العدد :
* أَسلَمَةُ التَطَرُّفِ.
.................................................................... هيئة التحرير 7
* حلب بين مدرستي المرتضى والطوسي (دراسة حول غنية النزوع)
.......................................................... محمّد عمادي الحائري 10
* دراسة في تراث الشهيدين العامليّين (1)
....................................................... السيّد عليّ محمود البعّاج 56
* تاريخ الحوزات العلميّة (الحوزة العلمية في الحلّة)
.......................................................... الشيخ عدنان فرحان 76
* تعليقاتٌ مستطردةٌ على كتاب الحماسة
.................................................... السيّد عبد الستّار الحسني 254
* تخريج حديث (عليٌّ سيّد العرب)
............................................................. د. علي الفحّام 370
* معقل بن قيس بن حنظلة الرياحي
.................................................. د. صلاح مهدي الفرطوسي 412
* آل يقطين ودورهم السياسي والإداري والفكري
.............................................. محمّد جواد نور الدين فخر الدين 432
* من ذخائر التراث :
* مناظرةٌ في الإمامة للسيّد ماجد البحراني رحمه الله
............................................... تحقيق : عبد الحليم عوض الحلّي 465
* من أنباء التراث.
................................................................ هيئة التحرير 493
* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (مناظرةٌ في الإمامة) للسيّد ماجد البحراني رحمه الله والمنشورة في هذا العدد.
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
هيئة التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)
كلمات كتاب الله العزيز الذي لا زالت آياته تطرق مسامعنا آناء الليل وأطراف النهار (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) ، هو محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) نبيّ الرحمة التي قالت عنه كلمات الله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ، فبلّغ وأنذر ، وهدى وبشّر ، وهلّل وكبّر ، وهو يدعو قومه وسائر الأمم بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويرشدهم إلى دار السّلام بخلق انفرد به حتّى قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) ، ولكن سرعان ما تقهقرت القيم والأخلاق بعد فقدان نبيّها وعادت إلى ظلمات سنيّها في جاهليّتها التعساء ، حيث سارت بطخية عمياء في سبل ضعيفة وساسة سخيفة ، حيث تركت إمامها وارتكبت آثامها من أجل السقيفة ، فصدّقت الأمّة ما لا يُعقل من قتل الجن سعد بن عبادة ، ومن تضييع خالد بن الوليد رشاده ، حيث قتل مالك بن النويرة الصحابي الجليل
ص: 7
وقطع رأسه وحرقه وأباد قومه ونزا بامرأته ، وما حدث من حرق الفجاءة السلمي وقتل أمّ فرقد الفزارية وقتل عبد الله بن خباب وبقر بطن امرأته الحامل ، وسيول دماء سفكت في وقعة الحرّة ونساء سبين وحوامل بقرت بطونهنّ واستباحة حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقتل أهل مكّة ورمي الكعبة بالمنجنيق ، وقتل الصحابة وحزّ الرؤوس كسعيد بن جبير وعمرو بن الحمق الخزاعي ، والمصيبة الكبرى وأدهى من ذلك خطباً قتل سبط الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام وأهل بيته وأنصاره ، وحمل الرؤوس على القنا يطاف بها ، وسبي حرائر الرسالة ، حتّى يتساءل السائل أحقّاً هذه هي أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) وإسلامه الممجّد وقرآنه الممهّد لكلّ رحمانية وإنسانية وعدل وسداد وحكمة ورشاد وعبادة الله ربّ العباد.
فلمّا ضَعُفَت سطوة الأمّة وكُسِرَت شوكتها وتشتّت كلمتها وتهافتت وتساقطت كقزع الخريف وصارت تتلاعب بها كلّ زوبعة ويعصف بها كلّ ريح ، أعاد الشيطان كرّته ليسلّط عليها ظلماً وعدواناً طغاة تولّوا وسعوا في الأرض ليهلكوا الحرث والنسل (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) ، فلمّا انهارت عروشهم وكسرت شوكتهم (لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) وجعلهم الله آية للعالمين ، فإذا بأقوام سفهاء الأحلام لا يمتّون إلى الإسلام والإنسانية بصلة لا بلحاهم الكثّة ولا بملابسهم الرثّة ، حيث ملئت القلوب منهم كراهيّة وغثّة ، وهم يزفّون إلى الأمم جزّ الرؤوس وإزهاق النفوس فمجّتهم الأمم وصار يندى من فعالهم جبين القلم ، حيث غارت على شعوب آمنة واعتدت على كرامة الإنسان ولم ترع للإسلام ولا للمسلمين إلاًّ ولا ذمّة ، فكانت تلك اليد الأثيمة المتلبّسة بالجماعات التكفيرية وبما تبقّى من أوباش وأرجاس الحكومات البائدة وكأنها جاءت للانتقام من الشعوب بأبشع أساليب الإرهاب ،
ص: 8
حيث باغتته بمؤامرة تسعى لسفك دماء أبريائه ، وجاءت المرجعية الدينية العليا المتمثّلة اليوم بآية الله العظمى السيّد علي السيستاني حفظه الله لرأب الصدع وتوحيد الصفوف لتعلن فتواها الجهادية التي مزّقت للشيطان نسيجه وقطّعت لشراك البغي وشيجه ، وأعادت للنفاق نحيبه ونشيجه ، وهي تعلن بكلّ جرأة وجدارة كلمتها في حثّ المسلمين من شيعة وسنّة لحمل السّلاح والوقوف ببسالة وإباء أمام جيش المنكر الذي تحزّم للنيل من شرف الأباة والتطاول على معتقداتهم ومقدّساتهم ، فقاومته وقارعته فتية أبطالٌ بكلّ حزم وعزم وثبات وخلوص نيّة ، وهبّ الشعب بجميع أطيافه وعشائره الأبية لإطاعة كلمة وفتوى المرجعية الدينية العليا إعلاءً لكلمة الدين وصوناً لمقدّساته ، حيث يشهد اليوم العالم بأسره هذا الموقف في توحيد الكلمة.
ويشهد التاريخ وهو يقف موقف إجلال وإكبار لما سجّلته الشعوب أمام من تغطرس في بلاد المسلمين وعاث في الأرض فساداً ، حيث اتّخد أموالهم دولاً وعباد الله خولاً ، مصرّاً على إذلالهم والنيل من مقدّساتهم ، فقد سجّل التأريخ للشعوب وللمرجعيات تلك المواقف الجهادية كما في الفتوى العصماء للميرزا تقي الشيرازي والتي قامت على إثرها ثورة العشرين بوحدة الكلمة في توحيد الصفوف بنسيج شعبيٍّ إطاعة وإعلاءً لكلمة الدين وقمعاً للمفسدين ، فانهارت قوى الغيّ والبغي حتّى لمّ شتاته وفلوله وجرّ أذنابه وذيوله ليتراجع القهقرى أمام وحدة الشعب وإرادته والتفافه حول مرجعيّته.
ولا ننسى هنا فتوى الميرزا الشيرازي بتحريم التنباكو والتي كسرت للمستعمر سطوته وجبروته حتّى تردّد صداها في داخل بيت العائلة المالكة آنذاك.
(إن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)
ص: 9
لابن زهرة الحلبي أُنموذجاً (1)
السيّد محمّد العمادي الحائري
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - شيخ الطائفة الطوسي والتجديد في تدوين العلوم الإسلامية للطائفة الإمامية :
هو أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي المتولّد في شهر رمضان سنة (385 ه) في طوس والمتوفّى في الغريّ في شهر محرّم سنة
ص: 10
(460 ه) ، هو الفقيه ، الأصولي ، المتكلّم والمحدّث الشهير في الطائفة الإمامية التي كانت مصنّفاتُه ولازالت تحظى بأهمّية كبيرة من قبل علماء الطائفة ، وإنّ إطلاق عنوان شيخ الطائفة (1) عليه خاصّة إنّما يحكي عن علوِّ مقامِه المتميّز والمنفرد به.
لقد انتقل الشيخ الطوسي في إبّان شبابه من طوس إلى بغداد(2) ، حيث اء
ص: 11
احتلّ مكانة في حلقة تلامذة أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي المعروف بالشيخ المفيد(1) (336 - 413 ه) ، وقد تلمّذ عليه واستمع منه جميع كتبه طيلة أربع أو خمس سنوات حتّى وفاة الشيخ المفيد(2) ، ثمّ حضر حلقة درس الشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي (355 - 436 ه) وكان معه إلى آخر حياته ، وقد قرأ عليه أكثر مصنّفاته أو سمعها منه كراراً(3) ، وبالرغم من أنّ الشيخ الطوسي لم يقتصر اة
ص: 12
على هاتين الشخصيّتين - المفيد والشريف المرتضى - بل قرأ على الكثير من المشايخ - بالأخصّ في رواية الحديث(1) - إلاّ أنّ هاتين الشخصيّتين كان لهما السهم الأوفر والدور الأساسي الذي أثّر عليه ، حيث أخذ منهم علم الفقه والكلام والحديث.
وعلى ما يبدو فإنّ زعامة الطائفة الشيعية في بغداد قد انتقلت إليه من بعد رحيل الشريف المرتضى ، ورغم كلّ ما واجهه وعاناه في بغداد(2) من ».
ص: 13
مخالفة المناوؤين له والظروف القاسية المحدقة به إلاّ أنّه سلك طريقه العلمي في التأليف والتدريس والاهتمام بطلبة العلوم ؛ لكنّه في نهاية المطاف انتقل في سنة (448 ه) من بغداد إلى الغريّ (النجف الأشرف)(1) - وذلك بعد واقعة البساسيري - حيث قضى فيها بقية عمره ، وقد وضع الشيخ الطوسي بهجرته إلى النجف الحجر الأساس في بناء الحوزة العلمية الشيعية التي لازالت مستمرّة حتّى الآن حيث نشأ فيها آلاف المجتهدين.
لقد اعتنى الشيخ الطوسي بتربية العديد من أعلام روّاد العلم(2) ، كما دي
ص: 14
خلّف العديد من مصنّفاته التي دوّنها في شتّى مجالات علوم الدين والتي حملت أدبيّاتها الخاصّة بها في المدرسة الإمامية ، وشغلت حيّزاً منها حتّى أصبحت أبجدية من أبجديّاتها التي خلّدت أثراً عظيماً على مناهج وآراء من جاء بعده ، حيث نرى ذلك واضحاً في التفسير كما في تفسيره التبيان في تفسير القرآن ، وفي الحديث تهذيب الأحكام والإستبصار ، وفي الكلام المفصح في الإمامة وتلخيص الشافي ، وكتبه الفقهية التي ألّفها في مقام الإفتاء كالنهاية والفتاوى وغيرها ، وفي الفقه الإستدلالي المبسوط ومصنّفات أُخرى ، وفي الفقه المقارن الخلاف ، وفي الأصول العدّة ومصنّفات أُخرى ، وفي الرجال كتاب الرجال واختيار معرفة الرجال للكشّي ، وفي مجال فهرسة مصنّفات الشيعة الفهرست(1) ، ويمكننا القول بأنّه فاق في بعض مصنّفاته ثر
ص: 15
علماء الإمامية ، كما إنّه هو أوّل عالم إماميٍّ صنّف تفسيراً كاملاً(1) في القرآن وصنّف كتاباً مبسوطاً في أصول الفقه(2).
ولكن أهمّ ما يمكن ذكره من معطيات الشيخ الطوسي هو تأسيسه المدرسة العلمية المتميّزة في الطائفة الإمامية ، وقد سعى بأن يعطي قراءة ذات منهجية في الآراء الاعتقادية وغيرها من الآراء العلمية في المدرسة الإمامية(3) ، فإنّه استطاع أن يتوصّل في مختلف موسوعة مصنّفاته إلى تدوين جديد للعلوم والآراء العلمية ، وقام بالتلفيق بين المناهج الكلامية والروائية والفقهية للمدرسة الإمامية في قم المتمثّلة بابن بابويه (ت 381 ه) ، والمدرسة الإمامية في بغداد المتمثّلة بالشيخ المفيد والشريف المرتضى ، وبعض المباني والمناهج العلمية - الروائية والاصولية - عند أهل السنّة وفي طليعتها حجّية ).
ص: 16
خبر الواحد ، فقد استطاع أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين التقييد بالنصّ والإجتهاد في الأوساط العلمية في المدرسة الإمامية(1).
- لقد تلقّت آراء الشيخ الطوسي في كلِّ من علم الكلام والأصول والفقه قبولاً عامّاً في الأوساط العلمية الإمامية(2) ، بحيث عدّت آراؤُه ومبانيه وفتاواه معياراً لآراء وفتاوى علماء الإمامية لأكثر من قرن حتّى واجهت في أواخر القرن السادس انتقاداً شديداً من قبل محمّد بن منصور ابن إدريس الحلّي (ت 598 ه) ، ثمّ انتهت بذلك تلك الحقبة التي أُطلق عليها عنوان (عصر التقليد)(3) ، وبعد بضع عقود من الزمن مرّت على انتقادات ابن إدريس جاء دور جعفر بن الحسن الحلّي المعروف بالمحقِّق الحلّي (ت 676 ه) وتلميذه ه.
ص: 17
العلم الفذّ الحسن بن يوسف بن مطهّر الحلّي المعروف ب- العلاّمة الحلّي (ت 726 ه) ليقوما بردّ تلك الانتقادات وتنقيح وتثبيت مباني وآراء الشيخ الطوسي(1) بحيث إنّ جهود كبار علماء مدرسة الحلّة - التي يمكننا أن نسمّيها بمدرسة الشيخ الطوسي الجديدة - صارت سبباً في إحياء مدرسة الشيخ الطوسي وبسط نفوذها وإلقاء ظلالها على الحوزة العلمية الإمامية وهو الأمر الذي نرى آثاره واضحةً إلى يومنا هذا.
ولم يك ابن إدريس أوّل من قام - من بين علماء الإمامية - بنقد آراء ومباني الشيخ الطوسي ، بل هناك من قام قبله من العلماء بنقد بعض آرائه - خاصّة في مبناه في باب التعبّد بحجّية خبر الواحد - حيث فتحوا باب النقد والإجتهاد على مصراعيه والابتعاد عن حالة الجمود والتقليد كسديد الدين محمود بن علي الحمصي الرازي (ت 573 ه) وعزّ الدين حمزة بن علي ابن زهرة الحسيني الحلبي (ت 585 ه) ، فإنّ كتاب غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع يعدُّ أهمَّ كتاب ظهر في تلك الحقبة الزمنية المتخلّلة بين عصر التقليد لآراء الشيخ الطوسي وبين عصر تنقيح وتثبيت تلك الآراء من قبل علماء مدرسة الحلّة ، وهو الكتاب الذي احتوى على ثلاثة علوم أساسية من العلوم الدينية الإمامية. ي.
ص: 18
2 - ابن زهرة الحلبي ترجمته ومصنّفاته :
هو عزّ الدين أبو المكارم حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي (511 ه- - 585 ه) ، فقيه ، أُصوليٌّ ومتكلّمٌ إماميٌّ في القرن السادس الهجري ، كان يعدّ بيته من البيوتات الشيعية العلمية العريقة(1) لمدينة حلب(2)نّ
ص: 19
- في شمال سوريا - لقد ولد ابن زهرة في حلب ونشأ فيها إلى حين حلول أجله حيث توفّي فيها ودفن في المقبرة المعروفة لشيعة حلب - الواقعة في سفح جبل الجوشن - وله رحلات وأسفار في المناطق القريبة والنائية ، وما نعلمه من بين تلك الأسفار هو سفر حجّه ، حيث مرّ ابن زهرة في عودته من الحجّ - سنة 574 ه- - بالكوفة(1) والتقى في مسجد السهلة(2) بمحمّد بن المشهدي وروى له الحديث.
وتبيّن لنا بعض المصادر التاريخية أنّ ابن زهرة على ما يبدو كان قد تصدّى في عصره زعامة الشيعة في حلب بشكل أو بآخر(3).
أمّا أساتذته ومشائخه فمنهم والده عليّ بن زهرة(4) ، الحسن بن ه.
ص: 20
الحسين ابن خاضب الحلبي - الذي قرأ عليه ابن زهرة نهاية الطوسي - ، محمّد بن حسن النّقاش والحسين بن طاهر الصوري(1).
وأمّا تلامذته والرواة عنه فقد ذكروا أخاه عبد الله وابن أخيه محمّد اللذين قرءا عند ابن زهرة نهاية الطوسي ومقنعة المفيد(2) ، وقد عثرنا على آخرين أيضاً مثل سالم بن بدران المازني المصري(3) ، محمّد بن المشهدي(4) ، شادان بن جبرئيل القمّي(5) ومحمّد بن إدريس الحلّي(6). -
ص: 21
أمّا مصنّفاته فإنّ ابن شهرآشوب الساروي (489 - 588 ه) - الذي كان معاصراً لابن زهرة وتوفّي بعده ببرهة قصيرة من الزمن ودفن إلى جواره في حلب - قد ذكر في معالم العلماء ابن زهرة وكتابيه قبس الأنوار في نصرة العترة الأخيار وغنية النزوع ، حيث حظا كتابه الثاني هذا بثناء خاصٍّ منه(1) ، هذا وقد أشار الحرّ العاملي (ت 1104 ق) إلى كثرة تصانيفه كما ذكر الكتب والرسائل التالية ضمن موسوعة مصنّفاته :
1 - كتاب غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع.
2 - كتاب النكت في النحو.
3 - مسألة في أنّ النظر الكامل على انفراده كاف في تحصيل المعارف العقلية.
4 - المسألة الشافية في الردّ على من زعم أنّ النظر على انفراده غير كاف في تحصيل المعرفة به تعالى.
5 - مسألة في نفي الرؤية واعتقاد الإمامية ومخالفيهم ممّن ينسب إلى السنّة والجماعة.
6 - مسألة في كونه تعالى جبّاراً. 6.
ص: 22
7 - نقض شبهة الفلاسفة.
8 - مسألة [في] الردّ على المنجّمين.
9 - مسألة في الردّ على من زعم أنّ الحسن(1) والقبح لا يعلمان إلاّ سمعاً.
10 - مسألة في الردّ على من قال في الدين بالقياس.
11 - مسألة في نيّة الوضوء عند المضمضة والإستنشاق.
12 - مسألة في تحريم الفقّاع.
13 - مسألة في إباحة نكاح المتعة.
14 - الجواب عمّا ذكره مطران نصيبين.
15 - الجواب عن(2) الكلام الوارد من ناحية جبل.
16 - جواب المسائل الواردة من بغداد.
17 - جواب الكتاب الوارد من حمص(3). ).
ص: 23
ويبدو أنّ كتابَي غنية النزوع وقبس الأنوار في نصرة العترة الأخيار(1) - اللذين ذكرهما ابن شهرآشوب في كتابه - (2) يعدّانِ أكثر شهرةً من بين سائر هذه الكتب والرسائل التي تحكي عناوينها عن سعة المواضيع التي تناولها ابن زهرة في التصنيف في مختلف مجالات العلوم من كلام وفقه وأصول وغيرها ، ولكن الكتاب الوحيد الذي بقي إلى يومنا هذا وصار في متناول الأيدي هو غنية النزوع ، وهو الكتاب الوحيد الذي خلّد إسم ابن زهرة في المحافل العلمية.
3 - غنية النزوع : الموسوعة الجامعة للعلوم الدينية الإمامية :
إنّ كتاب غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع هو أهمّ وأشهر مصنّف خلّفه ابن زهرة الحلبي ، كما يبدو واضحاً من عنوان هذا الكتاب (... إلى علمي الأصول والفروع) أنّ ابن زهرة تطرّق فيه إلى ثلاثة علوم أساسية من علوم الدين وهي عبارة عن : أصول الدين وهي الاعتقادات وما يعبّر عنه عند المتأخّرين بعلم الكلام وأصول الفقه وفروع الفقه. 6.
ص: 24
وقد قال ابن زهرة في مقدّمة الكتاب : «فإنّي لمّا رأيت كتب أصحابنا - رضي الله عنهم - في التكليف عقلاً وسمعاً بين مطوّل يَشُقُّ ضبطه من قصد إليه ومقصَّر تمُسُّ الحاجة إلى الزيادة عليه ألّفت هذا الكتاب مجنّباً به عن الأمرين ، سالكاً فيه منزلة بين المنزلتين ، جامعاً بين أصول الدين وفروعه ، مشيراً في الفروع إلى الأدلّة ، لاسيّما في الأماكن المشتبهة المهمّة ...»(1).
لقد رتّب ابن زهرة كتابه الغنية ترتيباً خاصّاً ، حيث ابتدأ بإثبات التكاليف العقلية وختم بشرح التكاليف السمعية ، وبعبارة أخرى أنّه افتتح كتابه بالعلوم العقلية وذلك لأنّه كان يعتقد بان أساس العلوم الدينية النقلية (السمعية) مبتن على المدركات العقلية ، ولتبيين ذلك - أي التفكيك بين العلوم الدينية العقلية والعلوم الدينية النقلية وتقدّم التكاليف العقلية رتبة على التكاليف النقلية - ولإثبات وجوب التأمّل والتدبّر في الآثار الإلهية التي هي مقدمة لمعرفة الله وهو أوّل أمر يجب معرفته على المكلّف ، نرى ابن زهرة في بداية كتابه - بعد المقدمة وقبل بداية القسم الأوّل من الكتاب (أصول الدين) - ذكر فصلين - وإن كانا مختصرين - بيّن فيهما المباني النظرية التي اعتمدها المؤلّف في تأليفه للكتاب وترتيبه للمباحث العلمية فيه.
لقد جاء في الفصل الأوّل بيان المراد من (التكليف) وذلك تحت عنوان : (في بيان حقيقة التكليف وضروبه ومراتبه) وقد ساق الكلام فيه هناك إلى تقسيمه إلى التكليفين العقليّ والسَّمعيّ ، وفي نهاية هذا الفصل أشار ابن 2.
ص: 25
زهرة إلى أنّ التكليف السمعيّ ملازم للتكليف العقليّ في أبحاث التوحيد والعدل من التكليف العقلي فإنّه حقيقة يريد بذلك أن يلفت النظر إلى أنّ أساس التكليف السمعيّ قائمٌ على التكليف العقليّ ولذلك قدّمه مرتبةً في ترتيب مواضيع الكتاب.
فمع مراعاة الصياغة الكلّية وأهمّ ما ورد في هذا الفصل يمكننا تلخيص هذا الفصل على النحو التالي : «التكليف ... عبارة عن إرادة من تجب طاعته ما فيه كلفة ومشقّة ... و ... كراهة من تجب طاعته ما في تركه مشقّة ... وما أراده القديم - تعالى - وكره على ضربين : عقليٌّ وسمعيٌّ ؛ فالعقليُّ على ضربين : أحدهما العلم به ضروريٌّ من فعل المكلِّف - سبحانه - ، والثاني العلم به مكتسب من فعل المكلَّف ، فالأوّل كالعلم بوجوب الصدق والإنصاف ... وقبح الظلم والكذب ... والثاني على ضربين : توحيد وعدل. فالتوحيد ينقسم إلى إثبات ونفي ، ... والعدل تنزيهه - سبحانه - عن أن يفعل قبيحاً أو يخلّ بواجب ، وهذا التكليف فرع على التكليف الأوّل ومبنيٌّ عليه ... وأمّا التكليف السمعيّ فالعلم به في الأصل مكتسب ومتفرّع على التكليف الثاني من العقليّ ومرتّب عليه ... وإذا ثبت كون التكليف العقليّ أصلاً في السمعي ، وجب الإبتداء به ثمّ إتباعه بالسمعيّ»(1).
وقد جاء الفصل الثاني تحت العنوان التالي : (في الدلالة على وجوب النظر وأنّه أوّل الأفعال الواجبة) حيث جاء فيه بيان أهمّية النظر في الآيات 4.
ص: 26
الإلهية وذلك بأنّها الطريق الوحيد لمعرفة الباري عزّ وجلّ - وإنّ معرفته تبارك وتعالى فوق المبادئ العقلية والإدراكات البشرية - كما يتطرّق إلى وجوب النظر وذلك بعنوان أنّه مقدّمة نفتقر إليها في جميع الأفعال الواجبة في التكاليف العقليّة والسمعيّة(1).
إنّ ترتيب المباحث في باب أصول الدين من الغنية قد جاءت مبتنيةً أيضاً على نفس المباني الواردة في الفصلين الآنفين - إثباتاً أو نفياً - فقد افتتح ابن زهرة هذا الباب بالتوحيد ثمّ شرع في مبحث العدل ، وبناءً على الأصلين المذكورين شرع بمبحث النبوّة أردفه بمحبث الإمامة ، بناءً على الأصلين المذكورين ختم كلامه بمبحث المعاد.
وبعد ذكر الفصلين والكلام فيهما يأتي دور النصّ الأصلي للكتاب الذي اشتمل على : أصول الدين ، أصول الفقه ، فروع الفقه ، وبناءً على ما ذكرناه فقد توضّح دليل تقدّم القسم الأوّل (أُصول الدين) على القسم الثالث (فروع الفقه) إلاّ أنّ (أُصول الفقه) قد توسط بين هذين القسمين وقد جاء قبل (فروع الفقه) بعنوان القسم الثاني من هذا الكتاب ، حيث أخذ ابن زهرة يتكلّم في أوّل القسم الثاني (أصول الفقه) عن ضرورة تقدّم أصول الفقه على فروعه قائلاً : «لمّا كان الكلام في فروع الفقه مبتنياً على أصول له ، وجب الابتداء بأُصوله ثمّ إتباعها بالفروع ، لأنّ الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا 4.
ص: 27
يستقيم» (1) ، حيث تصدّى بذلك للردّ على آراء المخالفين من الشيعة ممّن يتمسّك بخصوص قول المعصوم لضنّهم أنّه دليلٌ يغني الشيعة عن الأخذ بعلم الأُصول في مجال الأحكام الشرعية (2) ، علماً بأنَّ ابن زهرة في هذا القسم - (أصول الفقه) - من الغنية قد سلك فيه طريق الإيجاز والاختصار ، حيث ذكر طرفاً من أصول الفقه ممّا يرتئيه كافياً لمقاصد كتابه وما عقده من أبحاث فقهية فيه قائلاً : «ونحن نورد من هذه الأُصول جملة موجزةً مختصرة تليق بغرض هذا الكتاب» (3) ، فمن خلال هذه العبارة يتّضح أنّ ابن زهرة يعدّ أصول الفقه طريقاً مهمّاً في استنباط الفروع الفقهية ، وقد اهتمّ بهذا الجانب غاية الأهمّية بحيث اعتبر علم الأُصول طريقة حلٍّ متوخّاة للمباحث الفقهية ، وبناءً على هذا فقد اجتنب الخوض في مباحث غير ضرورية في هذا الفصل.
وبتصنيف كتاب غنية النزوع سعى ابن زهرة أن يجعل منه كتاباً جامعاً واستدلاليّاً وفي الوقت نفسه مختصراً وعارياً عن الزوائد وحاوياً على أُمّهات مباحث العلوم الدينية ، بحيث يمكننا أن نقول : إنّه قد أفلح في الوصول إلى غايته من تصنيف كتاب منسّق ومنظّم يعدُّ من المناهج العلمية للتدريس ، ولم نقل ذلك جزافاً وذلك لأنّ الكتاب يمتاز بجامعيته ونظمه المنطقي والطريقة ).
ص: 28
الاستدلالية فيه وتطرّقه إلى سائر الآراء من الفرق الإسلامية وغيرها من الامتيازات.
استناداً إلى طائفة من الشواهد العقلية والنقلية التي جاءت في الكتاب فإنّ طريقة ابن زهرة في سائر فصول كتابه الثلاثة هي نفس طريقة علماء الشيعة المتقدّمين عليه - خاصّة الشريف المرتضى - حيث نراه يستشهد ويستند إلى آيات القرآن ، والأحاديث ، والروايات التاريخية ، والأشعار ، كما يتطرّق إلى ذكر آراء وفتاوى علماء سائر الفرق الإسلامية من المتكلّمين والفقهاء مع ذكر وجوه الاختلاف بينها.
إن تأثّر ابن زهرة الحلبي بالآراء الكلامية والأصولية والفقهية للشريف المرتضى والشيخ الطوسي نراها جليّة في كتابه غنية النزوع ، أمّا تأثير غنية النزوع فنراه واضحاً في مصنّفات المدرسة الإمامية لمدرسة حلب ؛ وهي المدرسة التي اتخذت في القرنين الخامس والسادس منهجيةً متمايزة عن جمهور علماء الإمامية التي كانت متأثّرة بمنهجية التقليد والجمود على آراء الشيخ الطوسي.
إنّ الخصوصية التي امتازت بها مدرسة حلب هو موافقتها الكلّية مع آراء الشريف المرتضى ومخالفتها لبعض آراء الشيخ الطوسي ، حيث ورث ابن زهرة هذه الخصوصية من مدرسة حلب ، وخير دليل على ذلك هو المبنى الأصولي لحجّية خبر الواحد والتعبّد به الذي كان ابن زهرة مخالفاً له وذلك
ص: 29
لتبعيّته لآراء الشريف المرتضى(1) وخلافاً للشيخ الطوسي الذي كان متأثراً بآراء الأُصوليّين من أهل السنّة القائلين بحجّية التعبّد بخبر الواحد ، حيث عدّه الشيخ الطوسي أصلاً مهمّاً من أُصول مدرسته ، كما جعله أصلاً من أصول المدرسة الإمامية(2).
4 - غنية النزوع والمدرسة الإمامية في حلب :
إنّ غنية النزوع وما يحتويه من آراء كلامية وأصولية وفقهية لابدّ من مناقشتها في إطار المدرسة الإمامية في حلب ، حيث كانت زعامتها متمثلةً بأبي الصلاح تقي بن نجم الحلبي (374 - 447 ه) ، فإنّ أبا الصلاح كان من تلامذة الشريف المرتضى كما أنّه كان من تلامذة الشيخ الطوسي أيضاً(3) ، وله ده
ص: 30
مصنّفات في مضماري الفقه والكلام منها الكافي وتقريب المعارف(1) ، فإنّ ن.
ص: 31
مقايسة هذين الكتابين مع غنية النزوع ولو بشكل إجمالي يبيّن لنا مدى تأثّر ابن زهرة في تصنيفه للغنية بتصانيف أبي الصلاح حيث أخذ بالمضامين والألفاظ وحتّى الهيكلية الكلّية للكتاب.
إنّ أوّل ما تناوله أبو الصلاح في كتابه الكافي هو حقيقة التكليف ووجوب إعمال النظر(1) ، وبتقسيمه التكاليف إلى قسمين : التكاليف العقلية والتكاليف السمعية فرّع أبحاث التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة على قسم التكليف العقلي(2) ، وفرّع أبحاث الصلاة والحقوق المالية والزكوة وغيرها من الفروع على قسم التكليف السمعي(3) ، وبذلك يتبيّن أنّ الفرق في صياغة هيكلية الكافي مع الغنية في أمرين : الأوّل أنّ الكافي لم يحتو على أصول الفقه(4) ، والأمر الآخر هو أنّ أبا الصلاح الحلبي لم يورد أبحاث المعاد وما يترتّب عليه من ثواب وعقاب في آخر قسم التكاليف العقلية بل قد عقد له فصلاً مستقلاًّ في آخر الكتاب تحت عنوان (المستحقّ بالتكليف وأحكامه)(5).5.
ص: 32
هذا وقد افتتح أبو الصلاح في كتابه تقريب المعارف بمسائل وجوب إعمال النظر أيضاً وجعل مسائل التوحيد أوّل موضوع من مواضيع التكاليف العقلية(1) ، وقد استمرّ في بحثه بالكلام عن التوحيد ، العدل ، النبوّة والإمامة بالترتيب(2) ، وقد عقّبه بمباحث التكليف الشرعيّ (السمعيّ)(3).
كذلك الحال في كتاب إشارة السبق لأبي الحسن علي بن حسن بن أبي المجد الحلبي - وهو أحد أعلام مدرسة حلب في القرن السادس احتمالاً - حيث نلاحظ فيه نفس التشابهات في هيكلية الكتاب ومضامينه وطريقة الإستدلال مع الغنية ، وقد ذكر أبو الحسن الحلبي في مقدّمة كتابه إشارة السبق التكليف بكلا قسميه العقلي والشرعي(4) ، كما خصّص الفصل الأوّل من الكتاب بالتكاليف العقلية ثمّ عرّج إلى ذكر الأركان الأربعة : التوحيد ، العدل ، النبوّة والإمامة بالترتيب المعهود(5) ، وقد عقد الفصل الثاني من كتابه للتكاليف الشرعية وساق الكلام فيه عن أبحاث الأركان الخمسة الصلاة ، ه.
ص: 33
الزكاة ، الصوم(1) ، والحجّ والجهاد.
إنّ الفرق الأساسيّ بين غنية النزوع وسائر تصانيف أبي الصلاح الحلبيّ وإشارة السبق هو أنّ الغنية احتوى على فصل مهمٍّ في أصول الفقه حيث جعله علماً ضروريّاً في استنباط الحكم الشرعيّ ، في حين نرى أنّ سائر تصانيف مدرسة حلب التي مرّ ذكرها آنفاً بالرغم من أنّها تحتوي على مباحث أصول الفقه إلاّ أنّها لم تذكره بعنوان علم مستقلٍّ تقوم عليه عملية استنباط الحكم الشرعي.
إنّ من بين علماء الإمامية نرى أنّ الشهيد الأوّل (ت 786 ه) قد أعار أهمّية خاصّة للاختلاف في الآراء الذي كان بين مدرسة حلب ومدرسة الشيخ الطوسي والحلّة - التي تزعّمها المحقّق الحلّي وتلميذه العلاّمة الحلّي - حيث أشار في مواطن عديدة إلى ما تميّزت به مدرسة حلب من اختصاصها ببعض المباحث الأُصولية(2) والفقهية(3) وما توافق عليه فقهاؤها من الآراء ، فإذا قال بو
ص: 34
ص: 35
الشهيد الأوّل : (الحلبيّان) آراد به الآراء المشتركة لأبي الصّلاح وابن زهرة(1) ، وإذا قال : (الشاميّان) فقد أراد به آراء من هو مثل أبي الصلاح وابن البرّاج(2) ، وإذا قال : (الشاميّون الثلاثة) فالمراد منه ابن زهرة مع صاحبيه المذكورين آنفاً(3). ».
ص: 36
5 - غنية النزوع ومنزلته في المدارس العلمية الإمامية :
لقد حظي كتاب الغنية باهتمام كبير في مختلف المدارس العلمية الإمامية وذلك منذ تصنيفه في أيّام حياة مصنّفه ابن زهرة بحيث عمّت شهرته في الأوساط العلمية ، وما يؤيّد مقولتنا هذه وجود قرائن على ذلك منها : تأليف كتاب تدوين التجريد لفقه الغنية عن الحجج والأدلّة الذي صنّفه عبد الله بن عليّ ابن زهرة وهو أخو ابن زهرة وتلميذه(1) ، وما نقله ابن إدريس الحلّي - ت 580 ه- - من معاصري ابن زهرة أو من تلامذته على قول(2) - الذي أخذ بعضاً من الغنية وتصدّى لها بالبحث والنقد ، وما ذكره ابن شهرآشوب (ت 588 ه) في كتابه فيما يخصّ الغنية(3) ، وكثرة الوافدين على حلقة درسه من تلامذته وسائر روّاد العلم والفضيلة. 6.
ص: 37
إنّ ما نستظهره من القرائن والشواهد المتاحة لدينا هو أنّ غنية النزوع قد حَظِي بمنزلة خاصّة في المدارس العلمية الإمامية وذلك في الحقبة الزمنية التي امتدّت إلى ما قبل شيوع الآراء والمباني العلمية لمدرسة الحلّة في القرن السابع ، كما حظي باهتمام خاصٍّ في الأوساط العلمية في إيران من قبل أتباع المدرسة الإمامية وذلك في القرن السابع وطليعة القرن الثامن ، وسوف نتناول ذلك من خلال إشارتنا إلى الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 672 ه) الذي اتّخذ من كتاب الغنية كتاباً درسيّاً حيث قرأه في شبابه على أُستاذه سالم بن بدران المازني الذي يعدّ من تلامذة ابن زهرة ، وعلى ما يبدو فإنّ الخواجة نصير الدين الطوسي كان قد تأثّر بمنهج هذا الكتاب حيث تصدّى لردّ حجّية خبر الواحد حيث قال : «خبر الواحد لا يوجب علماً ولا عملاً» عند الإمامية(1) ، والشاهد الآخر الذي يمكنه أن يكشف عن المكانة الخاصّة لهذا الكتاب في الأوساط العلمية الإمامية في إيران هو ترجمة هذا الكتاب(2) التي قام بها عماد الدين الحسن بن عليّ الآمليّ من أعلام القرن الثامن (حيّ في سنة 701 ه) بحيث شملت ترجمته الفصول الثلاثة للكتاب وهي : (أُصول الدين ، أُصول الفقه ، فروع الفقه)(3) ، ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ سائر آراء :
ص: 38
ابن زهرة التي واجه بها الجوّ السائد في الأوساط العلمية من تأثّرها بآراء الشيخ الطوسي - كما في حجّية التعبّد بخبر الواحد - نراها واضحة المعالم في هذه الترجمة الفارسية(1) لكتابه بالرغم من مخالفتها لمدرسة الشيخ الطوسي التي عمّت الأوساط العلمية في إيران آنذاك ، وإضافة على كلّ ما ذكرناه فإنّ عليّ بن محمّد القمّي السبزواري مصنّف كتاب جامع الخلاف والوفاق بين الإمامية وبين أئمّة الحجاز والعراق والذي فرغ من تصنيفه سنة (698 ه) في المشهد الرضوي(2) ذكر في مقدّمة كتابه أنّه أعدّه شرحاً وتكميلاً للقسم الثالث (فروع الفقه) من غنية النزوع(3).
وبعد تلك الحقبة وحتّى في زمن سيطرة المناهج والمباني الفقهية - الأُصولية لمدرسة الحلّة نرى أنّ غنية النزوع احتفظ بمكانته العلمية في سائر الأبحاث الاجتهادية ، هذا وإنّ بعض آراء ابن زهرة الفقهية والأصولية فيه 0.
ص: 39
لازالت إلى يومنا هذا محطّ نظر واهتمام الفقهاء والأصوليِّين في دراساتهم وأبحاثهم العلمية(1).
6 - غنية النزوع والخواجة نصير الدين الطوسي :
لقد قام إبراهيم البهادري في سنة (1417 - 1418 ه) بطباعة كتاب غنية النزوع في مجلّدين ، حيث تمّت طباعته بمقدّمة الشيخ جعفر السبحاني في قم المقدّسة(2)(3) اعتماداً على أقدم نسخة خطّية من غنية النزوع المرقّمة برقم 1.
ص: 40
(10564) في مكتبة مجلس الشورى في طهران(1) ، وقد كتبها لنفسه منصور ابن مسلم بن محمّد بن مسلم بن محمّد بن أبي جماح حيث فرغ من استنساخها في يوم الخميس من منتصف ذي الحجّة سنة (614 ه) في مدرسة جمال الدين(2)(3).
إنّ هذه النسخة التي طبعت بالأوفسيت مع مقدّمة المؤلّف في طهران سنة (1432 ه/2011 م) (4) مضافاً إلى ما امتازت به من قدمتها ، وصحّة نصِّها ، وجودة استنساخها ، فإنّها تُعدُّ نموذجاً قيّماً من جهة الاستنساخ ، والقراءة ، والإجازة ، ومقابلة متون العلوم الدينية الإمامية في طليعة القرن السابع ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى شمول هذه النسخة على بعض الفوائد المهمة والتي نستفيد منها في التحليل التاريخي لسيرة وأحوال الخواجه نصير الدين ا.
ص: 41
الطوسي وآرائه الاعتقادية والمذهبية والفكرية حيث أنّها تعدُّ سنداً تاريخيّاً لذوي الإختصاص والباحثين(1).
إنّ نسخة غنية النزوع الموجودة في مكتبة مجلس الشورى كانت في متناول يد الخواجة نصير الدين الطوسي (597 - 672 ه) - المتكلّم الشيعي الكبير والعالم الإيراني المعروف - حيث قرأ إبّان شبابه بعض فصوله على سالم بن بدران المازني المصري - من تلامذة ابن زهرة - وقد قابل القسم الثالث من الكتاب على نسخة مصحّحة أخرى ، ويظهر على آخرها خطّ الخواجة نصير الدين الطوسي مصرّحاً فيه بمقابلة الفصل الثالث من هذه النسخة في جمادى الأُولى سنة (629 ه) حيث ختم بالعبارة التالية : «ووقع الفراغ من مقابلة القسم الثالث بنسخة صحيحة والحمد لله تبارك وتعالى في جمادى الأُولى تسع(2) [و] عشرين [و] ستمائة هجرية. كتبه محمّد بن محمّد الحسن الطوسي بخطِّه»(3). 0.
ص: 42
صورة
وإنّ ما يلفت النظر هو وجود بعض الحواشي المقتضبة للخواجة نصير الدين الطوسي في هامش صفحات النسخة الخطّية لمجلس الشورى وخاصّة في الجزءين الثاني والثالث حيث جاءت تلك الحواشي بأسرها في سياق
ص: 43
تصحيح ومقابلة المتن(1) ، علماً بأنّ هذه الحواشي التصحيحية وما جاء بخطّالخواجة في نهاية النسخة الخطّية تطابق الحواشي التي كتبها بخطّه في هامش نسخة الشفاء لابن سينا الموجودة في مكتبة مدرسة نمازي خوي برقم (248)(2) ، وقد جاءت كلمة (قُرىء) فوق عناوين بعض الفصول من الجزء الثالث للكتاب(3) أو في هامشه(4) بخطّ الخواجة يبيّن من خلالها مسير قراءته الكتاب على استاذه ابن بدران المازني المصري.
هذا وإنّ الذي جعل نسخة المجلس بهذه الأهمية والاعتبار هو وجود تحمّل شهادة القراءة وإجازة الرواية من معين الدين سالم بن بدران المازني المصري - من تلامذة ابن زهرة - والتي صدرت بخطّه للخواجة نصير الدين 5.
ص: 44
الطوسي في تاريخ 18 جمادى الآخرة سنة (629 ه)(1)(2) ، فإنّ هذه الإجازة جاءت مخطوطة في أوّل الجزء الثالث (فروع الفقه)(3) وقد شهد سالم بن بدران في إجازته هذه للخواجة نصير الدين الطوسي على قراءته عليه الجزء الثالث من فروع الفقه من أوّله إلى آخره قراءة تفهّم ، كما شهد له بقراءة أكثر الجزء الثاني (أصول الفقه) عليه ، وقد منح الخواجة الطوسي القاباً مثل «الإمام الأجلّ ، العالم الأفضل الأكمل ، البارع المتقن ، المحقّق ، نصير الملّة والدين ، وجيه الإسلام والمسلمين ، سند الأئمّة والأفاضل ، مفخر العلماء والأكابر ، نسيب وأفضل خراسان» فإنّ هذه الألقاب تدلّ على فضيلته العلمية في سنيِّ شبابه ومنزلته الخاصّة عند أساتذته وقد بلغ آنذاك الثانية والثلاثين من عمره ، وقد جاء في آخر هذه الإجازة أيضاً ما أجازه سالم بن بدران من رواية غنية النزوع وسائر تصانيف أُستاذه ابن زهرة ، وما منحه أيضاً من إجازة رواية سائر ة.
ص: 45
تصانيفه ومرويّاته ، وقد جاء نصّ شهادته وإجازته كالتالي :
«قرأ عَلَيَّ جميع الجزء الثالث من كتاب غنية النزوع إلى علم (كذا ؛ صحيح : علمي) الأصول والفروع من أوّله إلى آخره قرائة تفهّم وتبيّن وتأصّل مستبحث عن غوامضه عالم بفنون جوامعه ، وأكثر الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو الكلام في أصول الفقه ، الإمام الأجلّ ، العالم الأفضل الأكمل ، البارع المتقن ، المحقّق ، نصير الملّة والدين ، وجيه الإسلام والمسلمين ، سند الأئمّة والأفاضل ، مفخر العلماء والأكابر ، نسيب وأفضل خراسان محمّد بن الحسن الطوسي - زاد الله في علائه وأحسن الرفاع عن حوبائه -. وأذنت له في رواية جميعه عنّي عن السيّد الأجلّ العالم الأوحد الطاهر الزاهد البارع عزّ الدين أبي المكارم حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني - قدّس الله روحه ونوّر ضريحه - وجميع تصانيفه وجميع تصانيفي ومسموعاتي وقراآتي وإجازاتي عن مشايخي - ما أذكر أسانيده وما لم أذكر إذا ثبت ذلك عنده - وما لعلّي أن أُصنّفه. وهذا خطّ أضعف خلق الله وأفقرهم إلى عفوه سالم بن بدران بن عليّ المازني المصري ، كتبه ثامن عشر جمادى الآخرة سنة تسع [و] عشرين وستمائة حامداً لله ومصلّياً على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين»(1). ى.
ص: 46
صورة
ص: 47
وبما أنّ سالم بن بدران من تلامذة ابن زهرة الحلبي ، فلابدّ أن نقول وبشهادة نفس الإجازة الواردة في نسخة المجلس إنّ المشايخ الذين قرأ عليهم وأخذ منهم الخواجة نصير الدين الطوسي الجزء الثالث (فروع الفقه) وأكثر الجزء الثاني (أصول الفقه) من غنية النزوع إنّما تتّصل سلسلتُهم إلى مؤلّفه بواسطة واحدة.
هذا والجدير بالذكر أنّ إجازة سالم بن بدران للشيخ نصير الدين الطوسي الموجودة في مخطوطة المجلس تعدّ من الوثائق والشواهد التاريخية القطعية التي من خلالها يتبيّن لنا بوضوح أن الخواجة نصير الدين الطوسي كان إمامي المذهب ويتبين لنا البيئة المذهبية التي عاشها في عهد شبابه(1).
ومن بعد الخواجة نصير الدين الطوسي فإنّ مخطوطة المجلس دخلت ن.
ص: 48
في ملك يد أفراد متعدّدين منهم السيّد ركن الدين الحسن بن محمّد العلوي الأسترآبادي - من تلامذة الخواجة المشهورين -(1) فقد وردت ملاحظتان بخطّه في الصفحة التي ذكر فيها عنوان الكتاب من مخطوطة المجلس تدلاّن على انتقال النسخة إليه(2) ولكن تاريخه في النسخة غير واضح(3) ، ويحتمل أنّ مخطوطة المجلس انتقلت إلى السيّد ركن الدين بعد وفاة الخواجة بواسطة أبنائه كما أنّ نسخة الشفاء لابن سينا التي كانت في ملكية الخواجة مع الحواشي التي تمّت مقابلتها بواسطته كذلك انتقلت إلى ملكية الأسترآبادي(4). ).
ص: 49
المصادر
1 - القرآن الكريم.
2 - أحوال وآثار الخواجة نصير الدين الطوسي : المدرّس الرضوي ، محمّد تقي ، طهران ، الطبعة الثانية ، 1370 ه. ش.
3 - إشارة السبق إلى معرفة الحقّ : أبو الحسن الحلبي ، علي بن حسن بن أبي المجد ، تحقيق وتصحيح : إبراهيم البهادري ، قم ، 1414 ه. ق.
4 - أخبار وأحاديث وحكايات در فضائل أهل بيت رسول ومناقب أولاد بتول : عماد الدين حسن بن عليّ الطبري ، ترجمة : عبد الملك بن إسحاق بن فتحان الواعظ القمّي ، تحقيق وتقديم : رسول جعفريان ، طهران ، 1386 ه. ش.
5 - أعيان الشيعة : الأمين ، السيّد محسن ، تحقيق وتصحيح : حسن الأمين ، بيروت ، الطبعة الخامسة ، 1403 ه. ق.
6 - الأنوار السّاطعة في المائة السّابعة (طبقات أعلام الشيعة - القرن السابع) : الطهراني ، آقا بزرگ ، قم ، الطبعة الثانية ، بلا تاريخ.
7 - أمل الآمل : الحرّ العاملي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : السيّد أحمد الحسيني ، قم ، 1362 ه. ش.
8 - بازسازي متون كهن حديث شيعه : روش ، تحليل ، نمونه ، (الصفواني ، أبو عبد الله محمّد بن أحمد) : العمادي الحائري ، السيّد محمّد ، طهران ، 1388 ه. ش.
ص: 50
9 - بازسازي متون كهن حديث شيعه : روش ، تحليل ، نمونه ، (گفتگو) : المددي الموسوي ، السيّد أحمد ، تأليف وتدوين : السيّد محمّد العمادي الحائري ، طهران ، 1388 ش.
10 - بحار الأنوار : المجلسي ، محمّد باقر ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1403 ه. ق.
11 - البداية والنهاية : ابن كثير ، إسماعيل بن كثير ، تحقيق وتصحيح : علي شيري ، بيروت ، 1408 ه. ق.
12 - تاريخ الإسلام ووَفَيَات المشاهير والأعلام : الذهبي ، شمس الدين محمّد بن أحمد ، تحقيق وتصحيح : عمر عبد السّلام التدمُري ، بيروت ، 21 - 1407 ه. ق.
13 - التبيان في تفسير القرآن : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي ، بيروت ، بلا تاريخ.
14 - تقريب المعارف : أبو الصلاح الحلبي ، تقي بن نجم ، تحقيق وتصحيح : فارس تبريزيّان (الحسّون) ، قم ، 1417 ه. ق.
15 - تلخيص الشافي : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : السيّد حسين بحر العلوم ، قم ، 1394 ه. ق.
16 - تلخيص المحصّل : نصير الدين الطوسي ، محمّد بن محمّد ، تحقيق وتصحيح : عبد الله النوراني ، طهران ، 1359 ه. ش.
17 - تهذيب الأحكام : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : السيّد حسن الموسوي الخرسان ، طهران ، 1390ه. ق.
18 - الثقات العيون في سادس القرون (طبقات أعلام الشيعة - القرن السادس) : الطهراني ، آقا بزرگ ، قم ، الطبعة الثانية ، بلا تاريخ.
19 - جامع الخلاف والوفاق بين الإمامية وبين أئمّة الحجاز والعراق : القمّي السبزواري ، عليّ بن محمّد ، تحقيق : حسين الحسني البيرجندي ، قم ، 1379ه. ش.
ص: 51
20 - حلّ مشكلات كتاب الإشارات والتنبيهات (شرح الإشارات) : الطوسي ، الخواجه نصير الدين ، نسخة طبق الأصل عن نسخة بخطّ المؤلّف (النسخة الخطّية برقم 1153 في المكتبة الوطنية الإيرانية) تقديم : العمادي الحائري ، السيّد محمّد ، طهران ، 1389 ه. ش.
21 - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : الحلّي ، حسن بن يوسف ، تحقيق وتصحيح : جواد القيّومي ، قم ، 1417ه. ق.
22 - دانشنامه جهان اسلام (خبر واحد) : طارمي راد ، حسن ، إشراف : غلامعلي حدّاد عادل ، المجلّد الخامس عشر ، طهران ، 1390ه. ش.
23 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية : مكّي العاملي ، محمّد بن جمال الدين (الشهيد الأوّل) ، تحقيق وتصحيح : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، 14 - 1412ه. ق.
24 - الذريعة إلى أصول الشريعة : الشّريف المرتضى ، عليّ بن حسين الموسوي ، : تحقيق وتصحيح : أبو القاسم گرجي ، الطبعة الثانية ، 1376ه. ش.
25 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة : الطهراني ، آقا بزرگ ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1391ه. ق.
26 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة : مكّي العاملي ، محمّد بن جمال الدين (الشهيد الأوّل) ، تحقيق : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، 1419ه. ق.
27 - الرجال : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : جواد القيّومي الأصفهاني ، قم ، 1415ه. ق.
28 - رسائل الشريف المرتضى : الشّريف المرتضى ، عليّ بن حسين الموسوي ، : تحقيق وتصحيح : السيّد مهدي رجائي - السيّد أحمد الحسيني ، قم ، 1405 ه. ق.
29 - الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية : الجبعي العاملي ، زين الدين (الشهيد الثاني) ، تحقيق وتصحيح : السيّد محمّد كلانتر ، قم ، 1410 ه. ق.
ص: 52
30 - رياض العلماء وحياض الفضلاء : الأفندي الأصبهاني ، ميرزا عبد الله ، تحقيق وتصحيح : السيّد أحمد الحسيني ، قم ، 1401 ه. ق.
31 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي : ابن إدريس ، محمّد بن منصور بن أحمد الحلّي ، قم ، الطبعة الثانية ، 11 - 1410 ه. ق.
32 - العدّة : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : محمّد رضا الأنصاري القمّي ، قم ، 1417ه. ق.
33 - غُنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع : ابن زهرة ، السيّد حمزة بن عليّ الحلبي ، تحقيق وتصحيح : إبراهيم البهادري ، قم ، 18 - 1417 ه. ق.
34 - غُنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع : الطبعة المصوّرة ، نسخة مصوّرة طبق الأصل (فاكس ميلة) عن النسخة الخطّية برقم 10564 والمحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي ، مع مقدّمة السيّد محمّد العمادي الحائري ، طهران ، مكتبة متحف ومركز أسناد مجلس الشورى الإسلامي ، 1390 ه. ش.
35 - الغيبة : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : عباد الله الطهراني - عليّ أحمد ناصح ، قم ، 1411ه. ق.
36 - فرائد الأصول : الأنصاري ، مرتضى ، تحقيق وتصحيح : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، 1419 ه. ق.
37 - فرحة الغريّ : ابن طاووس ، عبد الكريم ، النجف ، 1368ه. ق.
38 - الفوائد الرجالية : بحر العلوم ، السيّد محمّد مهدي الطباطبائي ، تحقيق وتصحيح : محمّد صادق بحر العلوم - حسين بحر العلوم ، طهران ، 1363 ه. ش.
39 - فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (المشتهر ب- : رجال النجاشي) : النجاشي ، أحمد بن عليّ ، تحقيق وتصحيح : السيّد موسى الشبيري الزنجاني ، قم ، الطبعة السابعة ، 1424ه. ق.
ص: 53
40 - الفهرست (فهرست كتب الشيعة وأصولهم وأسماء المصنّفين وأصحاب الأصول) : الطوسي ، محمّد بن حسن ، تحقيق وتصحيح : السيّد عبد العزيز الطباطبائي ، قم ، 1420ه. ق.
41 - الفهرست ، منتجب الدين الرازي : عليّ بن بابويه ، تحقيق وتصحيح : السيّد جلال الدين المحدّث الأرموي ، قم ، 1366 ه. ش.
42 - فهرست نسخه هاي خطّي كتابخانه مجلس شوراي اسلامي : جلد 33 / 1 ، طيّار المراغي ، محمود ، طهران ، 1388ه. ش.
43 - فهرستواره دستنوشتهاي إيران : درايتي ، مصطفى ، طهران ، 1389ه. ش.
44 - فهرستواره فقه هزار وچهارصد ساله اسلامي : در زبان فارسي ، طهران ، 1367 ه. ش.
45 - الكافي في الفقه : أبو الصلاح الحلبي ، تقي بن نجم ، تحقيق وتصحيح : رضا أستادي ، أصفهان ، 1403 ه. ق.
46 - الكامل في التاريخ : ابن الأثير ، عليّ بن محمّد الشيباني ، بيروت ، 1399ه. ق.
47 - لسان الميزان : ابن حجر العسقلاني ، أحمد بن عليّ ، بيروت ، 1971م.
48 - المزار الكبير : محمّد بن المشهدي ، تحقيق وتصحيح : جواد القيّومي الأصفهاني ، قم ، 1419ه. ق.
49 - المسائل الناصريّات : الشريف المرتضى ، عليّ بن حسين الموسوي ، تحقيق وتصحيح : مركز پژوهش مجمع جهاني تقريب مذاهب اسلامي ، طهران ، 1417ه. ق.
50 - مشيخة الحديث : الحسيني الجلالي ، محمّد حسين ، شيكاگو ، بلا تاريخ.
51 - معالم الأصول (معالم الدين وملاذ المجتهدين) : العاملي ، حسن بن زين الدين (الشهيد الثاني) ، تحقيق وتصحيح : جمع من المحقّقين (جماعة المدرّسين) ، قم ، بلا تاريخ.
ص: 54
52 - معالم العلماء : ابن شهرآشوب الساروي ، محمّد بن عليّ ، تحقيق وتصحيح : السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم ، النجف ، الطبعة الثانية ، 1380ه. ق.
53 - المعتبر في شرح المختصر : الحلّي ، جعفر بن حسن (المحقّق الحلّي) ، تحقيق وتصحيح : جمع من المحقّقين ، قم ، 1364ه. ش.
54 - معتقد الإمامية (العمدة في أصول الدين وفروعه) : الطبري ، عماد الدين حسن بن عليّ ، تحقيق وتصحيح : محمّد تقي دانش پژوه ، طهران ، 1339ه. ش.
55 - مقدّمه اي بر فقه شيعه : كلّيات وكتابشناسي : المدرّسي الطباطبائي ، السيّد حسين ، ترجمة : محمّد آصف فكرت ، مشهد ، 1368ه. ش.
56 - المكاسب : الأنصاري ، مرتضى ، تحقيق وتصحيح : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، 1420 ه. ق.
57 - المنتظم : ابن الجوزي ، عبد الرحمن بن عليّ ، تحقيق وتصحيح : محمّد عبد القادر عطا - مصطفى عبد القادر عطا ، القاهرة ، 1411ه. ق.
58 - منتهى المطلب في تحقيق المذهب : الحلّي ، حسن بن يوسف ، تحقيق وتصحيح : بنياد پژوهشهاى إسلامي ، مشهد ، 1412ه. ق.
59 - المهذّب : الطرابلسي ، عبد العزيز ابن البرّاج ، تقديم : السبحاني ، جعفر ، قم ، 1406ه. ق.
60 - ميراث اسلامي ايران : دفتر دوم (شخصيّت علمي ومشايخ شيخ طوسي) ، الطباطبائي ، السيّد عبد العزيز ، إعداد : رسول جعفريان ، قم ، 1374ه. ش.
61 - نقض (بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض) : القزويني الرازي ، تحقيق وتصحيح : السيّد جلال الدين المحدّث الأرموي ، طهران ، الطبعة الثانية ، 1358 ه. ش.
ص: 55
السيّد عليّ محمود البعّاج
بسم الله الرحمن الرحيم
ديباجة البحث :
(الحمد لله الذي شرح صدورنا بلمعة من شرائع الإسلام كافية في بيان الخطاب) وصلاةً وتسليماً على الحبيب المصطفى محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلى آله الأبرار ومن تبعهم بآثار.
من البديهيّات الحتمية تبلور الصراع في المحتوى القيمي والمضمون الفكري بين تجاذبات التراث والحداثة ، الأصالة والمعاصرة ، التقليد والتجديد ، الأثر والتأثير ، وما إلى ذلك من الإشكاليّات التنظيرية - وذلك بحسب فهمي القاصر - مصدر اقتدار ومثار تحفّز ونقاط قوّة.
إنّ متبنّيات التغيير ومرتكزات التجديد تجارب إنسانية - إضافة لكونها إسلامية - وأين نحن من تلكم الشواهد التاريخية؟ فالرموز العالقة في ذهنية
ص: 56
العالم المتمدّن برغم أُطر الحداثة ومنهجية العصرنة هذه الرموز كانت دوماً إصلاحية ، تجديدية ، تغييرية ، ثورية ، وأولئك كانوا هم روّاد النهضة وشواخص الحضارة وتراني أجيء بالمثل وأضرب البرهان في الشهيدين السعيدين العامليّين - طاب ثراهما - فهما أنموذجان للخطّ التجديدي في فقه المدرسة الإمامية وداعيتان من دعاة (التقريب) بين المذاهب الإسلامية.
وإذا كان لعنصرَيّ المكان والزمان من مداليل في منظومة الاجتهاد كما يقرّر السيّد الخميني قدس سره فإنّ المصداق : الشهيدان العامليّان ، إذ انحدرا من جبال عاملة (ولودة الفقهاء) إلى القواعد الشعبية في سهولها ووديانها وكان عصرهما آنذاك عصر احتلال فقاوما (الاستكبار) حتّى نالا درجة الفخار.
وإذا كانت (الذاتية) ينبغي ألاّ تؤثّر في صياغة (الفتوى) كما يعبّر الشهيد محمّد باقر الصدر ، فلعمري أنّ الشهيدين كانا الأسوة الحسنة لمحاربة تلك النزعة ، وارتحلا في الأقطار ليقيما (الفقه المقارن) ويشيّدا منهجية (المقارنة) ، وقد صنّفا بعد ذلك (اللّمعة والروضة) أشهر مدوّنتين في الفقه الإسلامي الإمامي ، وجمعا إلى فضيلة العلم منقبة الشهادة.
ص: 57
بحوث تمهيدية
أوّلا : جبل عاملة (الجغرافيا والموقع) :
حدود الجبل قد ظلّت لفترة طويلة ملتهبة وفضفاضة ، تارةً كانت تمتدّ وتتّسع وطوراً كانت تتراجع وتتقلّص.
يذكر الحمداني (ق 10 م) : «إنّ جبل عاملة يطلّ على بحيرة طبريّة باتّجاه البحر» ، ثمّ يضيف في موقع آخر : «أنّه يشرف على عكّا وله نافذة على الأردن» وبحسب ياقوت الحموي (ق 13 م) فإنّ الجليل يمتدّ من سواحل الشام إلى محيط حمص وحتّى إلى دمشق ، ويستشهد هذا الجغرافي بابن فقيه (ق 9 م) زاعماً ، أنّ قبر نوح يقع في الجليل قرب حمص ، والحقيقة إنّ نصباً للنبيّ نوح عليه السلام يقوم في قرية (كرك نوح) وأسمها اليوم كرك قرب زحلة على الطريق إلى بعلبك ، وقد كانت هذه المنطقة وهي البقاع اليوم تابعة للجليل ، وكانت جزءاً ممّا كان عليه جبل عامل.
إنّ حدود جبل عامل ليست مثبّتة في المصادر المكتوبة بل متناقلة بالمشافهة على ألسن مسنّيه ، الأمر الذي يفسّر اختلاف الآراء بين المؤلّفين الذين انكبّوا على تاريخ البلاد العامليّة منذ بداية (ق 2 ه) فبدأوا بوصف نطاقها الجغرافي إلاّ أنّ هذا الاختلاف يبقى في حدوده الدنيا ، فلنأخذ بحدوده
ص: 58
كما وصفها السيّد الأمين :
- يحدّه من جهة الغرب شاطئ البحر المتوسّط أو بحر الشام.
- ومن الجنوب فلسطين
- ومن الشرق الأردن (ألحولة) ووادي التّيم وبلاد البقاع وقسم من جبل لبنان الذي هو وراء جبل الريحان ووراء إقليم جزّين.
- ومن الشمال نهر الأوّلي أو ما يقارب منه وهو المسمّى قديماً (نهر الفراديس).
وهذا التحديد ممّا لا شبهة ولا شكّ فيه ، ولكن يقع التأمّل في الحدّ الفاصل بينه وبين فلسطين ، فقد قيل أنّه هو النهر المسمّى : نهر القرن ، ولابدّ من التنويه بأنّ كتابات المؤلّفين العامليّين تمّت بعد إنشاء دولة لبنان الكبير وتحويل جبل عامل إلى محافظة لبنان الجنوبي ، على أنّ هذه المحافظة وهي دائرة إدارية لا تطابق الحدود المنشودة ، هذا بالإضافة إلى أنّ السلطات الفرنسية قد تخلّت في بداية الانتداب عن بعض القرى العامليّة للبريطانيين فأصبحت من ذلك الحين جزءاً من فلسطين(1) ، ومساحة جبل عامل لا تزيد عن 30 × 40 كم ، فإنّه يحدّه من الشمال جبل لبنان ومن الشرق الحولة ومن الجنوب فلسطين ومن الغرب البحر الأبيض ، وهذا التحديد يوضّح مكان جبل عامل ومنه نعرف أنّه لم يسالمه أحد من جيرانه إلا البحر الأبيض(2). ب.
ص: 59
وجبل عامل جزء من بلاد سوريا الكبرى ، يقع في جنوب لبنان ويسمّى بالعاملة كذلك نسبةً إلى (عاملة بن سبأ) الذي رحل من اليمن وسكن جبالا من لبنان فأطلق عليها إسم العاملة فيما بعد(1).
ثانياً - العامليّون :
(جبل العلماء) - على ما يقول مارون عبّود في كتابه نقدات عابر - أصبح بعد العام (1920م) جنوب لبنان أو الجنوب مختصراً حسب التعبير الشائع على ألسنة العامّة والخاصّة باستثناء قلّة قليلة من المثقّفين ورجال الدّين الذين مازالوا إلى الآن ينتسبون إليه ويحتفظون باسمه فيقولون : عامليّ أو من جبل عامل أو عاملة.
هذه النسبة من أين جاءت؟ وكيف حصلت؟ والعامليّون من هم ومن أين أتوا ومتى أتوا إلى هذه الأرض التي عرفوا بها وعرفت بهم ، فأصبحت ذاكرة لتاريخيهم ورمزاً لهويّتهم؟
يقول اليعقوبي في وصفه ولاية دمشق ، جبل الجليل : «إنّ سكّانه من عاملة ، وبنو عاملة قبيلة قديمة من شمال غرب الجزيرة العربية»(2).
ويذكر السيّد محسن الأمين (1876 - 1952م) عدّة روايات مختلفة حول أصلهم : «فعاملة قد تكون من اليمن ، أو أنّها قد تضمّ عشائر منحدرة 1.
ص: 60
من سبأ وقد هاجر ستّة من أبنائه العشرة نحو اليمين وأربعة نحو الشمال ونتج عن هؤلاء الأخيرين عشر قبائل منهم عاملة ، أو أنّ اسم عاملة امرأة لعلّها تكون عاملة بنت مالك بن وديعة بن قضاعة ، وهذه المرأة مذكورة في معجم قبائل العرب»(1).
ويروي محمّد جابر آل صفا رواية : «إنّ سكّان جبل عامل من ذرية عاملة بن سبأ بن يشغوب بن قحطان وهي قبيلة يمنيّة هاجرت إلى هذه البلاد سنة (300ق م) بعد الطوفان وخراب سدّ مأرب ونهاية مملكة سبأ»(2).
وبما أنّ جميع هذه الروايات تتّفق على تسمية جبل عامل نسبة إلى قبيلة عاملة فإنّ تفاصيلها المختلفة تقلّ عنها في الأهمّية لاسيّما أنّها روايات تمتزج بالأسطورة والخرافة ، والحقّ أنّ بني عاملة كانوا يقيمون في جنوب شرق البحر الميّت أثناء الفتح الإسلامي وبعد ذلك بقليل أقاموا في الجليل الأعلى ثمّ انتقلوا إلى جنوب لبنان في مقاطعة بلاد (الشقيف) ، وبلاد (الشقيف) هي الجزء الشمالي من جبل عامل ويسمّى جزءه الجنوبي بلاد (بشارة).
ويعود اسم (بشارة) بحسب أحمد رضا إلى أحد أمراء بني معن بشارة ابن مقيل القحطاني ، وكان يحكم المنطقة في القرون الوسطى إلاّ أنّ الدليل 5.
ص: 61
ينقصنا (1).
ويذهب آل صفا إلى أبعد من ذلك في تحرّياته ويقول : بأنّ أراء الباحثين متباينة في هذا المجال ، ولا يوافق رأيه رأي أحمد رضا ولو أنّ بعض المؤلّفين العامليّين قبله يدعمونه وذلك لأنّه لم يجد هذا الاسم في المراجع التاريخية ، وبرأيه أنّ علماء آخرين قد رأوا أنّ الأمر يتعلّق ببشارة بن معن وهو من أسرة عربية هي فرع من ربيعة كانت تحكم لبنان بين (1516 - 1697م) إلاّ أنّه يسارع في تكذيب هذا الرأي محتجّاً بأنّ اسم بشارة لم يرد بين حكّام الأسرة المعنية في جبل عامل ، وبحسب آل صفا فإنّ الرأي الأقرب للتصديق أن يكون الأمر مختصّاً بحسام الدين بشارة بن أسد الدين بن مهلهل ابن سليمان بن أحمد بن سلامة العاملي ، ويتبنّى الأمين هذا الرأي مدقّقاً بأنّ حسام الدين هذا من قبيلة عاملة التي شاركت في فتح (عكّا) في جيش أبي بكر أخي صلاح الدين الأيّوبي (1187م) فحكمت المدينة بعد ذلك وكانت في الوقت نفسه مشاركة في الاستيلاء على قلعة (هوتين) ، ويتابع الأمين فيورد استشهادات أخرى حول هويّة بشارة فيستنتج بأنّ أحد أجداد آل علي الصغير ابن بشارة على أنّه أعاد بناء مدينة صور في أوائل (ق 9 ه) قد حكم المنطقة لفترة طويلة إلاّ أنّ السيّد محسن الأمين يقرّ بأنّ سرّ التسمية يبقى قائماً(2). 3.
ص: 62
ثالثاً - تأريخ التشيّع في لبنان :
قبل التحدّث عن تاريخ التشيّع في لبنان على الأعمّ وفي جبل عامل منه على الأخصّ لابدّ من الإشارة إلى أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه.
أبو ذرّ الغفاري : جندب بن جنادة ، صحابيّ من أقدس وأقدم المؤمنين ، اشتهر بتقواه وتقشّفه (ت 32 ه- / 652 م) ، ويقول أصحاب التراجم والسير : أنّه كان شديداً في الحقّ لا تأخذه في الله لومة لائم ، وليس أدلّ على ذلك من حديث أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام إليه ووصيّته له حين نفاه عثمان بن عفّان إلى الربذة(1).
ففي ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام تمّ إبعاده إلى جبل عامل فبذر فيها ولاء آل محمّد عليهم السلام ، وهو أوّل من نشر التشيّع هناك ، وكان معاوية قد طرده من دمشق لمواقفه الجريئة وصرخاته المدوّية ، فأسّس بذلك طائفة شيعيّة هي الثانية بعد طائفة الحجاز بالسبق التاريخي ، كما أنّه أنتج تقليداً علميّاً بدأه بتدريس أتباعه. يقول الشيخ الحرّ العاملي (ت 1693م) : «إنّ التشيّع في جبل عامل أقدم منه في غيره من البلاد ما خلا المدينة المنوّرة ، وأنّه يعود فيه إلى عهد الخليفة عثمان ، حيث إنّ أبا ذرّ لمّا أخرجه عثمان إلى الشام تشيّع جماعة كثيرة من أهلها ، فأخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيّعوا من ذلك اليوم»(2) ، ويشير بعض الباحثين إلى خبر مرابطة أبي 3.
ص: 63
ذرّ عند ساحل (الصرفند) - أي بيروت - وتواتره(1).
كما يذكر السيّد محسن الأمين أنّ خبر نفي أبي ذرّ إلى قرى الشام وجبل عامل وإن لم يرد به خبر مسند إلاّ أنّه قريب غير مستبعد ، ويؤيّده وجود مسجدين في جبل عامل باسمه في كلّ من (ميس) و (الصرفند) ، وهذه الأمور يستأنس بها لتشيّع أهل جبل عامل على يد أبي ذرّ وتورث الظنّ بذلك وإن كان لا يستطيع الجزم به(2).
بينما يخلص بعض الباحثين إلى أنّ الروايات الواردة حول الموضوع لا تعني أنّ إخراج أبي ذرّ الأوّل إلى الشام كان نفياً ، كما لا يصادق على كون معاوية قد استقدمه إلى الشام ثمّ خرج إلى قراها(3) ، وقد أيّده في هذا باحث آخر إذا اعتبر أنّه قدم إلى الشام في المرّة الأولى بملء إرادته ، وأكّد على أنّ من المقبول القول : أنّه كان في جبل عامل بعد أن تمّ رصده في طرابلس وبيت المقدس وفقاً لمصادر تاريخية ، ولكنه في الوقت نفسه يميل إلى اعتبار ارتباط التشيّع في جبل عامل بأبي ذرّ أقرب إلى الأُسطورة منه إلى الحقيقة التاريخية ، كما لم يصادق على ارتباط تشيّع أهل جبل عامل بأبي ذرّ بعض الباحثين الآخرين(4).
ويتابع الشيخ الحرّ العاملي حديثه : «قامت بعد ذلك جماعات قليلة من 6.
ص: 64
الشيعة في مكّة والطائف واليمن والعراق وبلاد فارس إلاّ أنّ عددهم في جبل عامل كان الأكثر ، وعلى ما يبدو فإنّ الشيعة الإمامية في الواقع لم تدخله إلاّ ابتداءً من (ق 9 ه) كما في باقي المناطق من بلاد الشام ، وقد ازدهرت فيه في القرن (11 ه) ، وقد اضطرّ الشيعة إثر انسحابهم بعد حملات المماليك التعسّفية على (كسروان) (1291 - 1305م) للتراجع إلى (جزّين) و (البقاع) فزاد بذلك عدد السكان في جبل عامل».
رابعاً - عاملة في أدب الرحلات :
عاملة موقعاً وتاريخاً وسكّاناً أجبرت الرحّالة العرب والمسلمين والأجانب على ريادتها وتدوين مشاهداتهم في فترات متعاقبة ومفاصل استثنائية ضمن مسارها الحضاري وتطوّرها التاريخي؛ فقد تنقّل الرحّالة الإيراني المعروف (ناصر خسرو القباذياني) ودوّن عام (437 ه- :) (إنّ أكثر أهل (صور) من الشيعة».
وقد أكّد كلّ أولئك الرحّالة العرب والمسلمون والأجانب من (ق 12 ه- - ق 14 ه) على أنّ سكّان جبل عامل كانوا من - الإمامية ، حيث يؤكّد (ناصر خسروا) أيضاً عن (صور) مثلاً : «هي معروفة بالمال والقوّة بين البلاد الساحلية وأكثر أهاليها شيعة وقاضيها رجل سنّي»(1). 0.
ص: 65
ومرّ بها الرحّالة التاريخي الشهير (ابن بطوطة) في رحلته عام (725 ه) وقال : «إنّها خرابٌ وبخارجها قرية معمورة ، وأكثر أهلها أرفاض»(1).
ويروي لنا الرحّالة المعروف (ابن جبير) عن مشاهداته إبّان الحروب الصليبية : «ورحلنا عن (تبنين) وطريقنا كلّه ضِياع متّصلة وعمائر منتظمة ، سكّانها كلّهم مسلمون ويؤدّون للإفرنج نصف الغلّة وجزية عن كلّ رأس : دينار وخمسة قراريط ، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة»(2).
وقد زار هذه المنطقة الرحّالة الفرنسي VOLNEY بعد واقعة الوالي الاستبدادي أحمد باشا الجزّار فيها بثلاث سنوات ، وقد أحرقت مكتبتها ، وشاهد آثار تلك الواقعة المأساوية(3).4.
ص: 66
الفصل الأوّل
الشهيد الأوّل
(محمّد بن مكّي العاملي)
(734 - 786 ه)
عصره وسيرته
المبحث الأوّل
التركيبة السياسية في عصر الشهيد الأوّل
عاش الشهيد الأوّل عصراً مضطرباً قلقاً على الصعيد السياسي والاجتماعي على السواء ، وكانت الفتن تعصف به من كلّ جانب ، فقد كانت الدولة الإسلامية - على سعتها - ممزّقه شرّ ممزّق ، ومن مفارقات الدهر أن ظهر المماليك.
والمماليك : عبيد من جنسيّات مختلفة كانوا امتداداً للدولة الأيّوبية (564 ه) ، وهم بشكل عام جهلة أُمّيّون ومن سفّاكي الدماء ، وينقسم المماليك ، إلى قسمين :
ص: 67
الأوّل - المماليك البحرية (1250 - 1390 م) : وقد سمّوا بذلك نسبة إلى نهر النيل ، إذ كانت مواقعهم العسكرية وثكناتهم البحرية تقوم على جزيرة صغيرة في النهر ، وهم في الغالب من الأتراك والمغول.
الثاني - المماليك البرجية (1382 - 1517 م) : وهم غالباً من الشراكسة ، والشراكسة من مناطق شمال غربي القفقاس والشاطئ الشرقي للبحر الأسود(1).
لقد استولى الشراكسة على الحكم بعد انتهاء المماليك البحرية وذلك عام (784 ه) واستمرّ حكمهم زهاء (138) عاماً ، وقد اتّخذوا من القاهرة عاصمة لهم ، وأوّل ملوكهم الظاهر سيف الدين المعروف ب- : (برقوق) لجحوظ عينيه(2) ، وكان في أوّل عهده عبداً خاصّاً أتابكاً للملك الصالح الحاجي ابن الأشرف بن شعبان وهو الرابع عشر من ملوك الأتراك ، ولقد تولّى الحاجي الحكم وعمره (10) سنوات فانتهز برقوق ضعفه واستولى على الحكم ، ولكن الأمور لم تسر في صالحه إذ سرعان ما انشقّ عليه الأمراء فأعلن كلّ من تمريغ الأفضلي وبليغ العمري الثورة عليه وأطيح به وأعيد الحاجي مرّة أخرى إلى سدّة الحكم ، فيما سيق برقوق إلى السجن ب- : (كرك) ، على أنّ برقوق استولى على السلطة مرّة أخرى فور خروجه من السجن بعد إن جمع قوّاته فقضى على أعدائه واستمرّ في الحكم حتّى وفاته عام (801 ه)(3).2.
ص: 68
المبحث الثاني
الحياة الاجتماعية في عهد الشهيد الأوّل
تردّت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية عموماً في مصر وسوريا بعد تسلّط الشراكسة على الحكم وتفشّى الفساد في أجهزة الدولة لضعف جهاز الدولة نفسه ولتسرّب الصليبيّين إلى البلدان الإسلامية ، فقد جاءت الحملات الصليبية عقيب حملة التتر وكان لهما أسوء الأثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فلم يكد الناس يتنفّسوا الصعداء اثر توقّف الاجتياح المغولي حتّى بدأت الحروب الصليبية وتدهورت الأوضاع من سيء إلى أسوء بسبب الحروب والفتن الداخلية والاختلافات القائمة على قدم وساق بين الأمراء والحكّام ، وقد ذاقت الشعوب الإسلامية الأمرّين من حكم الشراكسة ، فبينا هم عبيد في أيدي النخّاسين بالأمس إذا هم اليوم ملوك وسلاطين يمسكون بمقدّرات أمّة عظيمة ، وقد بلغ الاستهتار ذروته حتّى أصبح خيال الحكم يراود كلّ عبد منذ قدومه إلى السوق.
يذكر صاحب مؤلف سمط النجوم العوالي نصّاً جديراً بالتأمّل والدراسة لتلك الفترة وحتّى لأيّامنا هذه : «جُلِبَ عبد وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرج ، قال للدلاّل الذي يبيعه : هل اتّفق تولّي الأقرع الأعرج سلطاناً»(1) ، وقد بلغ تململ الشعوب الإسلامية جرّاء تعسّفهم حتّى باتت تشعر بالمرارة والألم وشهدت هذه الفترة أربع عشر فتنه خطيرة كما أحصاها المؤرّخون والباحثون ، 7.
ص: 69
ثمّ زاد الطين بلّة إتيان الكوارث الطبيعية والأوبئة الفتّاكة التي أهلكت الحرث والنسل لتجتاح البلاد وتزيد أوضاعها تعقيداً وتعاسةً ، فقد عمّت حقبةٌ كثرت فيها الزلازل والمجاعات والجفاف ، وقد خصّص المؤرّخ المقريزي لوصف هذه الظواهر كتاباً يخصّ تلك الفترة ، فيما انشغل برقوق طيلة فترة حكمه بإخماد الفتن والثورات وإحباط المؤامرات في الداخل ، إذ كانت العوامل السالفة الذكر تبعث الناس على عدم الخضوع والاستسلام لهذه الدولة الجديدة ، وفي الوقت نفسه كان مهدّداً من قبل الإفرنج الصليبيّين ، وكذا من قبل (تيمور لنك) حيث بعث له برسالة تهديدية شديدة اللّهجة ، كما كان مهدّداً من قبل المماليك البحرية ، وكان انشغال الحكومة بإخماد الحركات السياسية ومقاومة الفتن العسكرية والاضطرابات الداخلية المعارضة سبباً لضعف النشاط الفكري والثقافي وأعمال الإعمار والبناء والفنّ والهندسة ، كما خلّفت هذه الحروب والاضطرابات أثراً سيّئاً في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية ، وفي مقابل هذا الوضع كان على الشعوب أن تتحمّل تبعات المجهود الحربي ، فارتفعت الضرائب بشكل كبير وتفشّى الفساد المالي والإداري ، وراح بعض أصحاب النفوذ يحتكرون السلع الضرورية من قبيل السكّر والملح ، وحكّام هذه الدولة وأمراءها كانوا من الناحية الأخلاقية والدينية سافلين ساقطين.
وإليك هذا التوثيق التاريخي شاهداً على ذلك :
«كان عدد من السلاطين - من هذه الأُسرة - عاجزين وخونة ، وكان بعضهم فاسدين بل ساقطين ، وكان أكثرهم غير مثقّفين ، وقد عاد نظام تسرّي
ص: 70
الغلمان إلى مثل ما كان عليه من الشيوع في أيّام العباسيّين ، واتّهم عدد من المماليك أوّلهم (بيبرس) ، ولم يكن السلاطين وحدهم فاسدين بل إنّ الأمراء أيضاً وسائر من في الحكم كانوا على جانب من الفساد» (1).
وقد ظهرت البدع والضلالات العمياء ومنها فتنة (اليالوش) (2) فيما تتنامى النعرات المذهبية والروح الطائفية بين السنّة والشيعة ، وقد لعب أولئك الحكّام الفاسدون والصليبيّون الحاقدون دوراً قذراً في إلهاب حدّة الصراع وإلهاء الشعوب بذلك في التفريق بين المسلمين لتمرير مخطّطاتهم نحو السيطرة والاستعمار والاستعباد.
المبحث الثالث
القيادة المرجعية - السياسية للشهيد الأوّل
المطلب الأوّل - البعد السياسي عند الشهيد الأوّل :
تمتّع الشهيد الأوّل بعلاقات جيّدة مع الحكّام والأمراء والشخصيّات السياسية البارزة في وقته ، وكان يستثمر هذه العلاقات في خدمة الصالح العامّ ، إضافةً إلى بيته الذي كان محضراً لعلماء السنّة فضلاً عن علماء الشيعة ، 0.
ص: 71
وذلك بطبيعة الحال يعطي التصوّر الصادق في متبنيات الشهيد الأوّل للتقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية والجامعة الدينية ، إضافةً إلى الشخصيّات السياسية ، وبقي نشاطه في هذا السبيل حتّى استشهد (1).
واحتلّ الشهيد في المدّة التي عاشها في دمشق مكانة اجتماعية راقية ، فكان موضع حفاوة الطبقات المختلفة ، واكتسب شعبية كبيرة ، كما التفّ حوله كثيرٌ من أقطاب السياسة والحكم في دمشق وخارجها.
واستطاع أن يتجاوز في نفوذه الروحي والإسلامي حدود سوريا والعراق ، ويشدّ الملوك والحكّام من الإطراف إليه ، وكان منهم (علي بن مؤيّد) ملك السربداران في إيران - وسنتناول المعالجة التاريخية لتلك الدولة الفارسية في المبحث الآتي - وكان البعد السياسي هو منشأ الضغينة من قبل البعض ومثار حقدهم وكراهيّتهم.
المطلب الثاني - بناء الكيان المرجعيّ :
يعتقد السيّد الشهيد الصدر الأوّل أنّ المرجعية وكيانها مرّت بمراحل ثلاث :
أوّلاً : مرحلة الاتّصالات الفردية : وقد حصلت بين العلماء المجتهدين والقواعد الشعبية في بلاد أولئك العلماء ، يُستفتى العالم فيفتي ، وهذه المرحلة هي المرحلة التي عاشها أصحاب الأئمّة عليهم الصلاة والسلام واستمرّت هذه الحالة إلى أيّام العلاّمة الحلّي.
ثانياً - مرحلة المرجعية (الجهاز) : حيث يستطرد الشهيد الصدر محمّد 8.
ص: 72
باقر في تفصيله لهذا التصنيف «وأظنّ - بحسب فهمي من سير الأحداث - أنّه [كانت] على يد الشهيد الأوّل رضي الله عنه ، ... الذي قدّم دمه في سبيل نقل هذا الكيان من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية.
على عهد الشهيد الأوّل رضي الله عنه تطوّر هذا الكيان .... أصبح هذا الكيان عبارة عن أجهزة من الوكلاء وعلماء الإطراف يرتبطون بالمرجع ويتّصلون بالقواعد الشعبية .... يعني هذا الوضع الموجود للمرجعية فعلاً ، أنا لا أعرف تطبيقاً أسبق من الناحية التاريخية له من تطبيق الشهيد الأوّل رضي الله عنه ، قام بهذا التطبيق في لبنان وسوريا ، وعيّن الوكلاء وفرض جباية الزكاة والخمس على القواعد الشعبية من الشيعة ، وبذلك أنشأ كياناً دينيّاً قويّاً للشيعة مترابطاً لأوّل مرّة في تاريخ العلماء».
ثالثاً - (مرحلة التمركز والاستقطاب) (1) : استمرّت هذه المرحلة إلى أن دخلت المرجعية (المرحلة الثالثة) على يد الشيخ كاشف الغطاء ويقصد به رضي الله عنهالشيخ جعفر الجناجي - ومعاصريه من - العلماء وهي مرحلة التمركز والاستقطاب.
المطلب الثالث - دولة السربداران :
كانت للشهيد الأوّل علاقات مؤكّدة وصلات متينة مع (عليّ بن مؤيّد) آخر ملوك السربداران ولهذا آثرنا المعالجة التاريخية لهذه الحكومة ومدى 9.
ص: 73
تأثيرها في الأحداث من خلال معاصرة شهيدنا الأوّل لها حيث كتب لهم كتابه الخالد اللّمعة الدمشقية لتكون دستوراً إسلاميّاً لهذه الدولة.
والسربداران : حكومات شيعية استولت على الحكم في خراسان بعد معارك دامية عام (738 ه) واستمرّت حتّى عام (783 ه) - بعد وفاة محمّد خدا بنده الملك المغولي - وجاءت ثورة السربداران كردّ فعل عنيف لظلم المغول ، وقد قاد الثورة أوّل ملوكهم (الأمير عبد الرزّاق) المؤسّس لهذه السلسلة مطلقاً شعاراً حماسيّاً مفاده : (الموت شنقاً أفضل من الحياة ذلاًّ) (1) وإذا كان لكلّ ثورة شرارتها فإنّ نهضة السربدارارن بدأت لدى هجوم خمسة من جنود المغول في قرية (باشتين) - وهي من قرى مدينة (بيهق) (2) - على إحدى البيوت واستفزازهم أهلها ، عندها انبرى أهل البيت للدفاع عن أنفسهم وقتلوا الجنود الخمسة وهو أمر يعني زوال بيهق كلّها من على الخارطة ، وينبري عبد الرزاق إلى حماية الثائرين وإعلانه دمه لهم لتتطوّر الحادثة وتأخذ شكل الثورة العارمة ضدّ الوجود المغولي بأسره مطلقين صيحتهم المدوّية : (سر به دار مي دهيم أمّا زير بار ننگ نمي رويم) (3) ، وينتسب حكّام السربداران من جهة الأب إلى الإمام الحسين عليه السلام أمّا من جهة الأم فيعود نسبهم إلى البرامكة ، ويعدّ (الشيخ خليفة المازندراني) منظّر الثورة ومؤسّس قاعدتها ً.
ص: 74
الفكرية ، وبعد استشهاد الشيخ خليفة أعقبه تلميذه (الشيخ حسن جوري) في دعوته حيث استشهد هو الآخر في صراعه المرير ضدّ أعدائه وقد تركت شهادته أثراً بالغ الخطورة على الساحة الفكرية دفعت بآخر ملوك السربداران (عليّ بن مؤيّد) إلى عرض الزعامة الفكرية على الشهيد الأوّل وملي الفراغ الذي نشأ عن غياب الشيخ حسن جوري ، ومن هنا أُلّفت اللّمعة الدمشقية ودفعها الشهيد الأوّل إلى (شمس الدين الآوي) (1) صاحب (عليّ بن مؤيّد) وأمره بالإسراع والكتمان.
وتعود أهميّة السربداران إلى أنّ نهضتهم قامت على قاعدة إسلامية هدفها إرساء العدل في البلاد ولعلّها قاعدة إنسانية أيضاً متّخذة من مذهب أهل البيت عليهم السلام طريقاً لتحقيق ذلك.
ولقد شهدت خراسان تقدّماً كبيراً في مختلف الأصعدة خلال حكمهم الذي استمرّ قرابة النصف قرن من الزمن ، فقد كانت مندمجة في حكومة التتر وانقرضت بعد ذلك بسنوات قليلة (2) ، وقد توفّي آخر ملوكها (عليّ بن مؤيّد) عام (795 ه) أي بعد تسع سنوات من شهادة الشهيد الأوّل.
وللبحث صلة ... 2.
ص: 75
عند الشيعة الإمامية
(الحوزةالعلمية في الحلّة)
الشيخ عدنان فرحان
بسم الله الرحمن الرحيم
المدخل : نشأة مدينة الحلّة :
يتّفق البلدانيّون والمؤرّخون على أنّ تأسيس مدينة الحلّة تمّ على يد أميرها الشهير سيف الدولة ، صدقة بن منصور بن دبيس بن عليّ بن مزيد الأسدي سنة (495 ه).
يقول ابن الأثير في الكامل ضمن حوادث سنة (495 ه) : «وفيها بنى سيف الدولة صدقة ابن مَزيد الحلّة بالجامعين ، وسكنها ، وإنّما كان يسكن هو وآباؤه في البيوت العربية»(1).
ص: 76
ويتوسّع الحموي في وصف الحلّة ، ومنطقة الجامعين التي حوتها ، فيقول : «والحلّة ، علم لعدّة مواضع وأشهرها : حلّةُ بني مَزيد ، مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد كانت تسمّى الجامعين .. وكان أوّل من عمّرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن عليّ بن مزيد الأسدي ، وكانت منازل آبائه الدور من النيل ، فلمّا قوي أمره ، واشتدّ أزره ، وكثرت أمواله لاشتغال الملوك السلجوقية ، بما تواتر بينهم من الحروب ، انتقل إلى الجامعين ، موضع غربي الفرات ليبعد عن الطالب وذلك في محرّم سنة (495 ه)». ثمّ يصف لنا منطقة الجامعين قبل أن يمصّرها (سيف الدولة) فيقول : «وكانت أجمة تأوي إليها السباع فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة ، وتأنّق أصحابه في مثل ذلك ، فصارت ملجأً ، وقد قصدها التجّار فصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها ..».
وفي مكان آخر من معجمه يقول الحموي : «الجامِعَين : كذا يقولونه بلفظ المجرور المثنّى ، هو حلّة بني مَزيد التي بأرض بابل على الفرات بين بغداد والكوفة وهي الآن مدينة كبيرة آهلة .. وقد أَخرجت خلقاً كثيراً من أهل العلم والأدب ينسبون الحلّي ..»(1).
وقد زار الحلّة بعد تأسيسها الرحّالة المعروف (ابن جبير) ووصفها وصفاً دقيقاً ، مركِّزاً على الجانب العمراني فيها التي تدلّ - بحسب قوله - : 6.
ص: 77
«على عظم الإستطاعة والقدرة»(1).
كما أن الرَّحَّالة المشهور (ابن بطّوطة) زار الحلّة سنة (727 ه) ، فأعاد ما ذكره ابن جبير عنها ، ممّا يدلّ على بقاء الحلّة عمارتها وأهمّيتها خلال الفترة بين زيارتي الرحّالتين(2).
ولا نريد أن نتوسّع كثيراً في نشأة المدينة وأعمالها وقراها التابعة لها ، فالحلّة غنية عن التعريف في حضارتها وتركيبتها الاجتماعية فهي وريثة (أرض بابل) «التي نشأ فيها حضارات قديمة بابلية وكلدانية وسومرية ، وعلى مرور السنين تكوَّن شعب ينتمي إلى أُصول بابلية وكلدانية وسومرية أطلق عليهم العرب اسمَ (النبط) .. وكان هذا الشعب النبطي وريث الحضارات القديمة التي نشأت في هذه البقعة وكانت فيها بقية صالحة - عند الفتح الإسلامي - تحتفظ بمعارف الأقدمين وتتدارسها ، وبواسطتهم رسخت الحضارة في أرض بابل»(3).
كذلك امتزج في هذه المدينة عناصر اجتماعية متعدّدة شكّلت نسيجاً اجتماعيّاً مثاليّاً في تعايشه وتعاونه ، يقول مؤرّخ الحلّة يوسف كركوش : «إنَّ المجتمع الحلّي كان يتكوّن من عناصر مختلفة : عرب وأكراد ونبط سكّان البلاد الأصليّين ، أمّا العرب فكان أكثرهم من بني أسد ، ولهم السيادة .. وأمّا 3.
ص: 78
الأكراد فهم قبيلة الجاوان» ، قال الفيروزآبادي : «وجاوان قبيلة من الأكراد سكنوا الحلّة المزيدية بالعراق ..»(1).
وجاء في مجلّة المجمع العلمي العراقي : «كان الجاوانيّون - قبل نزوحهم إلى الحلّة - يسكنون الجانب الشرقي لدجلة حيال طريق خراسان ، والظاهر أنّهم امتدّوا في السكنى على النهروان في شرق بغداد ... قرب الكوت .. وهذه القبيلة حالفت بني مزيد ، وشاركتهم في السرّاء والضرّاء قبل نزوحهم إلى النيل .. وكانت السيادة لبني مزيد عليهم وعلى بني أسد ، ومن انضمَّ إليهم .. ولا تزال محلّتهم في الحلّة تعرف ب- (الكرّاد الجواني) وفي عهد الأمير ورّام (الثاني) ابن أبي فراس انتقل الجاوانيّون إلى أرض الجامعين ليؤسّسوا الحلّة مع أمير بني أسد صدقة»(2).
الفصل الأوّل
منطلق الحركة العلمية في الحلّة
المبحث الأوّل : دور الأُمراء المزيديّين في ترسيخ الحركة العلمية في الحلّة :
ممّا لا شكّ فيه أنّ أُمراء بني مزيد الأسدي كانوا من الشيعة ، ويشاركهم في عقيدة التشيّع حلفاؤهم من القبائل العربية الأُخرى ، كقبائل خفاجة ، 8.
ص: 79
وعبادة ، وعقيل ، بالإضافة إلى حليفهم الرئيسي الكرد الجاوانيّون ، فنجد أنّ الرحّالة ابن بطّوطة في رحلته ؛ والتي كان فيها يولي اهتمامه بعقيدة ومذهب سكّان المدن التي يزورها ، يقول عن الحلّة : «وأهل هذه المدينة كلّها إمامية إثنا عشرية ، وهم طائفتان إحداهما تُعرَف بالأكراد ، والأُخرى تُعرَف بأهل الجامعين»(1).
وجاء في مقال المجمع العلمي : «كانت قبيلة الجاوان - الكردية - شافعية المذهب ، والمزيدون شيعة إثنى عشرية ، ولكن على مرّ الأيّام اندمجوا ببني أسد ، فصاروا شيعة إثني عشرية ، كما استعربوا ..»(2).
ويتحدّث ابن الأثير في الكامل ضمن حوادث سنة (443 ه) عن الفتنة بين العامّة ببغداد فيقول : «وأُحرق المشهد - ويعني مشهد الإمام موسى الكاظم والإمام محمّد الجواد عليهما السلام .. وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجرِ في الدنيا مثله .. - ثمّ يقول : ولمّا انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس ابن مزيد عظم عليه واشتدّ وبلغ منه كلّ مبلغ ؛ لأنّه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل ، وتلك الولاية كلّهم شيعة ، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله ، فروسل في ذلك وعوتب ، فاعتذر بأنّ أهل ولايته شيعة ، واتّفقوا على ذلك ، فلم يمكنه أن يشقّ عليهم ..»(3). 9.
ص: 80
ونصّ ابن الأثير «يفيد بأنّ منطقة الحلّة وحتّى قبل تأسيس المدينة كانوا من الشيعة الإمامية»(1).
ومن طريف ما ينقل في عقيدة أهل الحلّة الشيعية ما ذكره الكتبي ابن شاكر في فوات الوفيات من قول الشاعر عبد الرحمن ابن أبي القاسم الكناني المتوفّى سنة (635 ه) مخاطباً راجح الأسدي الحلّي :
يقولون لي ما بالُ حظّك ناقصاً
لدى راجح ربُّ السماحة والفضلِ
فقلتُ لهم إنّي سميّ ابن مُلجم
وذلك اسمٌ لا يقولُ به حلِّي(2)
وأمارة بني مزيد قد سبقت قيام دولتهم في الحلّة عام (495 ه) على يد مؤسّسها صدقة بن مزيد الأسدي ، فكان لهم حضور فاعل ومؤثّر في الأحداث التي سبقت قيام دولتهم ولفترة زمنية تمتدّ إلى ما يقارب القرن من الزمن.
يقول أحد الباحثين : «والمزيدون قبيلة شيعيّة حكمت المنطقة خلال سنة (387 ه) حتّى سنة (558 ه) .. وأوّل من اعترف بوجود الأُمراء المزيديّين في هذه المنطقة هم البويهيّون سنة (403 ه) لاعتقادهم الراسخ أنّ المزيديّين هم وحدهم يستطيعون ؛ بما أُوتوا من قوّة ، أن ينشروا الأمن في المنطقة الواقعة تحت سيطرتهم من هجمات القبائل المخلّة بالأمن ، لكن ».
ص: 81
الأمارة المزيدية بلغت استقلالها شبه الكامل كامبراطورية لأُمراء الشيعة في أوج قوّة العهد السلجوقي ، عندما كان السلاجقة مسيطرين على معظم المناطق الإيرانية ، وكانت بغداد العاصمة نفسها واقعة تحت نفوذهم ، متّخذين من مدينة الحلّة عاصمةً لأمارتهم»(1).
ففي الوقت الذي كان الشيعة يتعرّضون للاضطهاد المذهبي في بغداد وإيران ، على يد السلاجقة بعد سقوط الدولة البويهية ، نجد الشيعة والتشيّع ينتشر في الحلّة وضواحيها والمناطق الجنوبية التي خضعت للإمارة المزيدية.
وفي الوقت الذي كان فيه السلاجقة يضطهدون العلماء الشيعة ويتعرّضون لدور العلم والمكتبات الشيعية ، بل وكلّ ما يمتّ للشيعة بصلة ضمن عملية استئصال وردع مذهبي ممنهج ، وفّرت الدولة المزيدية للفقهاء والعلماء الشيعة الأجواء الآمنة والمستقرّة ، فانطلقت فيها حركة العلم والعلماء.
يقول أحد المحقّقين : «الحلّة هي وريثة بابل .. وكان بابل وسوراء وحواليها معقل العلم قبيل الإسلام وبعده ، ومركز الاصطكاك العقلي بين مفكّري الأُمم الهند وإيران من الشرق ، والسريان والآراميّين من الغرب ، وبها امتزج الغنوص الشرقي مع النبوّات السامية ، ثمّ صار معقل الشيعة ، ومنها كان يلهم الشيعة بكرخ بغداد ، وبعد الاضطهاد السلجوقي لهم وإحراق مكتباتهم 3.
ص: 82
ومنها مكتبة شاپور ببغداد ، والتجاء الشيخ الطوسي منها إلى النجف في (448 ه) ، تعاون المزيديّون والأكراد الجاوانيّون ، مع البساسيري ببغداد ، فألغوا الخلافة العبّاسية في (450 ه) ، وخطبوا للمستنصر الفاطمي ، ثمّ بعد قتل البساسيري ورجوع الأتراك السجلوقيّين والخلافة العبّاسية إلى بغداد ، قام سيف الدولة صدقة بن دبيس المزيدي مع الجوانيّين ببناء الحلّة ، فصارت مركز الشيعة وذلك في المحرّم (495 ه) ، وبقيت كذلك حتّى سقوط بغداد في (656 ه)»(1).
وكان لأُمراء الدولة المزيدية دور كبير في انطلاق النهضة الفكرية والعلمية في مدينة الحلّة وعلى مدى قرون من الزمن ، وكان على رأس أُولئك الأُمراء مؤسّس دولتهم الأمير صدقة بن مزيد الأسدي ، الذي يصفه المؤرّخون بأنّه : «رئيس كامل ، سيرته من أجمل السير وأحسنها»(2).
«لقد كان من أهمّ أسباب النهضة الفكرية في الحلّة ، اهتمام الأُمراء المزيديّين بهذه الناحية ، وتشجيعهم المستمرّ لرجال العلم والأدب ، وإجزالهم العطايا والهبات لهم ، فقصدهم الكثير من الشعراء ، كما حظي عندهم العلماء والفضلاء ، حتّى أنّ سيف الدولة صدقة بن مزيد كانت له مكتبة ضخمة تضمّ 6.
ص: 83
أُلوف المجلّدات»(1).
ويصف ابن الأثير مقتل صدقة بن مَزيد ضمن أحداث سنة إحدى وخمسمائة بإسهاب فيقول :
«في هذه السنة .. قتل الأمير سيف الدولة صدقة .. أمير العرب ، وهو الذي بنى الحلّة السيفية بالعراق ، وكان قد عظم شأنه ، وعلا قدره ، واتّسع جاهه ، واستجار به صغار الناس وكبارهم ، فأجارهم .. وكان له من الكتب المنسوبة الخطّ شيء كثير ، أُلوف مجلّدات ، وكان يحسن يقرأ ، ولا يكتب ، وكان جواداً حليماً ، صدوقاً ، كثير البرّ والإحسان ، ما برح ملجأ لكلّ ملهوف ، يلقى من يقصده بالبرّ والتفضّل .. وكان عادلاً .. يحفظ الأشعار ، ويبادر إلى النادرة ، رحمه الله ، لقد كان من محاسن الدنيا»(2).
وهكذا كان خلفه من الأُمراء حيث وصفوا بالجود والكرم والأدب والشعر ، وحمى الجار ، «ومهما يكن فلقد كان الأُمراء المزيديّون من محبّي العلم والأدب ومشجّعيهما ..»(3).
ولو أردنا ذكر ما قاله المؤرّخون وما استشهد به الأُدباء والشعراء من مناقب ومآثر وكرم وجود وفضل .. لهذه الأُسرة الكريمة لطال بنا المقام ، إذ يكفي أن نشير إلى أنّ لسيف الدولة سيرة عطرة طويلة مدوّنة يقول عنها سيّد 9.
ص: 84
الأعيان : «رأيتُ مدائحه في أربع مجلّدات ، ورأيت سيرته من أجمل السير وأحسنها»(1).
وعن الدولة المزيدية ألّف الشاعر والأديب أبو البقاء هبة الله كتاب المناقب المزيدية في أخبار الدولة الأسدية(2).
وممّا ينبغي أن نشير إليه أنّ التشيّع في مدينة الحلّة وسكّانها ، أقدم من تأسيس المدينة في نهاية القرن الخامس ، إذ أنّ المدن والقرى والقصبات التي شكّلت جغرافية مدينة الحلّة كانت من المناطق الزراعية المأهولة بالسكّان وكان أهلها من الشيعة ، وهنالك مشاهد ومزارات ومراقد لكثير من أبناء الأئمّة من أهل البيت : في هذه المنطقة(3) ، ممّا يعني ارتباط أهالي هذه المناطق بأهل البيت وتشيّعهم وولائهم(4).
يقول صاحب الروضات : «إنّ الحلّة كانت قديمة التشيّع وخرج من علمائها الكثير من الفحول ، وإنّ مزاراتهم فيها مشهورة»(5).
وكان دور الدولة المزيدية وأُمرائها مهمّاً جدّاً في تجذير هذا التشيّع وتوسعته وانتشاره وقوّته.0.
ص: 85
المبحث الثاني : دور تلامذة الشيخ الطوسي ومدرسة النجف وبغداد في إرساء الحركة العلمية في الحلّة :
تعتبر الحوزة العلمية في الحلّة الوريث الشرعي لحوزتي بغداد وحوزة النجف الأشرف في دورها الأوّل ، حيث كانت المصبَّ لكلا الحوزتين ، وميراثهما العلمي انتقل إليها عن طريق علماء وفضلاء كلتا الحوزتين.
فبعد الأحداث والفتن التي حلّت ببغداد واستيلاء السلاجقة على الحكم في أواسط القرن الخامس تفرّق طلاّب العلم والعلماء في البلاد المجاورة بحثاً عن الأمن وحرّية التعليم ، وكانت الحلّة وجهة بعضهم ؛ لأنّها كانت خارجة عن قبضة السلاجقة ، وكان لأُمراء بني مَزيد السيطرة التامّة على هذه المنطقة حتّى قبل إعلان إمارتهم في سنة (495 ه). فمن المؤكّد أنَّ عدداً لا يستهان به من أُولئك العلماء قد هاجر إلى هذه المدينة والحاضرة العلمية الجديدة ، إلاّ أنّ المصادر التاريخية لا تسعفنا بشيء تفصيلي يذكر من المعلومات عن هذه الهجرة ، وإنّما هنالك شذرات من هنا وهناك لا تكوّن صورة واضحة المعالم.
وأمّا حوزة النجف الأشرف وطلاّبها فإنّها كانت الرافد الأكبر الذي صبَّ في حوزة الحلّة الفتية ، لأنّها كانت الأقرب جغرافيّاً ، والأقرب زمنيّاً إليها من حوزة بغداد التي تبتعد زمنيّاً عن حوزة الحلَّة لأكثر من قرن من الزمن ، «فكانت النجف أكثر علاقة بها - أي الحلّة - من غيرها ، وكان فيها يومئذ تلامذة الشيخ الطوسي الذي غادر بغداد سنة (448 ه) .. واستوطن النجف
ص: 86
وبقي فيها يدرس إلى أن توفّي سنة (460 ه) ، فقام تلامذته مقامه ، فلمّا مصّر الأمير سيف الدولة الحلّة واتّخذها مركزاً لأعماله قويت الرابطة بين البلدتين ، وامتدّت أعناق النجفيّين إليه ، وعلّقوا عليه الآمال ليحيوا ما اندثر من نفوذهم وما كان لهم في عهد آل بويه من الحرّية التامّة في التعبير عن آرائهم»(1).
وحقيقة الأمر ، أنّ العلاقة بين المدينتين (النجف والحلّة) علاقة عقائدية وثيقة ، وتبادلتا الأدوار الفكرية والعلمية والثقافية بعد أُفول حوزة بغداد العلمية في أواسط القرن الخامس ، «إذ أخذت النجف تظهر إلى الوجود كحاضرة إسلامية ، وأصبحت مدرسة علمية كبيرة .. ومدينة ذات خصائص المدينة الكاملة في القرن الخامس الهجري ، وهي بذلك قد تزامنت مع بناء مدينة الحلّة في عهد الدولة المزيدية. وبحكم العلاقة العقائدية بين المدينتين ، أخذت الحلّة تمدّ بأنظارها نحو النجف الأشرف ....
وبعد وفاة الشيخ الطوسي (460 ه) والشخصيّات العلمية البارزة التي خلفته في حوزته الفتية في النجف الأشرف ، برز على الساحة العلمية والفكرية ابن إدريس الحلّي (ت 598 ه) فمدّت النجف ببصرها نحو الحلّة ومدرستها العلمية «فكان بروزه - ابن إدريس - إيذاناً بانتعاش مدرسة الحلّة في منتصف القرن السادس الهجري ، وعند ذلك أخذت مدرسة الحلّة تنافس مدرسة النجف ...»(2). 4.
ص: 87
ورغم اتّفاق كلمة العلماء المؤرّخين للمسيرة العلمية على انتساب تأسيس حوزة الحلّة العلمية إلى ابن إدريس الحلّي ، إذ يوصف في كلماتهم ب- «مؤسّس الحوزة العلمية في الحلّة»(1).
إلاّ أنّ المرحلة التي سبقت ابن إدريس لم تكن تخلو من الفقهاء وطلاّب العلم. يقول الشيخ الفضلي : «قبل أن تشتهر الحلّة كمركز علمي كبير من مراكز الحركات العلمية الإمامية على يد الشيخ محمّد بن إدريس العجلي الحلّي ، كانت كالنجف قبل الطوسي ... ، فيها نواة حركة علمية ، تمثّلت في بعض الفقهاء والطلاّب ، فابن إدريس مؤسّس ورئيس المركز العلمي الكبير في الحلّة ..»(2).
ومهما يكن من أمر ، فالعوامل الأساسية والثانوية المساعدة في تأسيس الحوزة العلمية في الحلّة يمكن أن نلخّصها بما يلي :
أوّلاً : وجود الأُمراء من بني مزيد ودولتهم الشيعية.
ثانياً : وجود نواة لحركة علمية في مدينة الحلّة.
ثالثاً : ضعف الحركة العلمية في النجف بعد الشيخ الطوسي.
رابعاً : ما يمتلكه الشيخ ابن إدريس من شخصية علمية شجاعة.
هذه كلّها مجتمعة عوامل تكاملت فساعدت ابن إدريس على أن يجلب الأضواء نحو الحلّة ، ويستقطب العلماء والطلاّب من الأقطار الأُخرى إلى 1.
ص: 88
الحلّة ، ويجعل منها المركز العلمي الرئيسي للحركة العلمية ، ابتداءً من القرن السادس الهجري وحتّى النصف الأوّل من القرن التاسع الهجري»(1).
وقبل أن ندخل في رحاب شخصية محمّد بن إدريس الحلّي وحركته العلمية ، ومنهجه العلمي ، لابدّ لنا من الإشارة إلى بعض الفقهاء السابقين عليه في الحلّة ، وبعضهم من أساتذته ومشايخه في الفقاهة والرواية ، وهم يشكّلون النواة التي ابتني عليها الصرح العلمي لمدينة الحلّة الفيحاء.
وفيما يلي نبذة مختصرة من تراجم أُولئك العلماء :
1 - يحيى بن بطريق الأسدي الحلّي (ت 600 ه) :
وآل بطريق «بيت رفيع ذو علم وفضل وأدب في الحلّة ، وكلّهم شيعة إمامية. وكان يحيى بن بطريق عالماً فاضلاً محدّثاً محقّقاً .. له مؤلّفات منها العمدة والمناقب ...»(2).
قال عنه ابن حجر في لسان الميزان : «يحيى بن الحسن بن الحسين بن عليّ الأسدي الحلّي .. المعروف بابن بطريق ، قرأ على الحمصي الرازي الفقه والكلام على مذهب الإمامية ، وسكن بغداد مدّة ثمّ واسط .. وكانت وفاته بالحلّة في شعبان سنة (600 ه) وله سبع وسبعون سنة ..»(3).
وابن بطريق يروي في الأغلب عن عماد الدين محمّد بن قاسم الطبري 7.
ص: 89
الراوي عن الشيخ أبي عليّ بن الشيخ الطوسي ، وكذلك يروي عن محمّد بن عليّ بن شهرآشوب المازندراني صاحب كتاب المناقب والمتوفّى سنة (588 ه)(1).
وابن بطريق وإن لم يكن من أساتذة ابن إدريس إلاّ أنّه كان من علماء الحلّة السابقين على ابن إدريس والمعاصرين له ، ومن المعمّرين من بعده.
2 - عربي بن مسافر :
من فقهاء الحلّة وعلمائها في القرن السادس الهجري ، والشيخ الأكثر شهرةً من بين مشايخ بن إدريس .. وكان شيخاً جليلاً ، وكبيراً معروفاً في أصحاب الإمامية(2). وكان من تلامذة الشيخ الطوسي .. وينقل المحدّث النوري : «إنَّ محمّد ابن المشهدي حضر درس ابن مسافر في منزل الأخير في الحلّة عام (573 ه)(3).
3 - عبد الله بن جعفر الدوريستي :
وهو من فقهاء الإمامية في القرن السادس الهجري ، وأحد مشايخ ابن إدريس الحلّي وأساتذته .. ويذكر أنّ الدوريستي انتقل إلى بغداد عام (560 ه) ، وأخذ أحاديث أهل البيت : عن جدّه محمّد بن موسى .. توفّي بعد عام 5.
ص: 90
(600 ه) بقليل(1).
4 - الحسين بن رطبة السوراوي :
وهو من فقهاء الإمامية في القرن السادس ، وأحد مشايخ ابن إدريس ، بل وشيخ مشايخ ابن إدريس .. وابن إدريس كان قد قرأ كتاب النهاية للشيخ الطوسي عنده. وعدّه الأفندي في الرياض من كبار مشايخ الأصحاب ومن أجلاّء الفقهاء وكان تلميذاً عند الشيخ أبي عليّ بن الطوسي(2).
5 - الحسن بن رطبة السوراوي :
من فقهاء العراق في القرن السادس الهجري ، وكان فقيهاً فاضلاً وعابداً ، ومن العلماء الكبار ومن أجلّة الفضلاء .. وكانت له بعض المصنّفات وكتب عدّة ، وكان لابن إدريس إجازة روايتها(3).
6 - هبة الله بن رطبة السوراوي :
وهو أحد مشايخ ابن إدريس الذين يروون عن أبي عليّ الطوسي ووالده الشيخ أبي جعفر الطوسي ، وهو والد الحسن والحسين المارّ ذكرهما آنفاً(4).
7 - عماد الدين الطبري : 2.
ص: 91
أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم الآملي صاحب كتاب بشارة المصطفى ، ويروي عن الشيخ أبي عليّ الطوسي ، وكان شيخاً لابن إدريس ، كما كان شيخاً لقطب الدين الراوندي ، وشاذان بن جبريل(1).
8 - عليّ بن إبراهيم العريضي :
من أجلاّء عصره ، وأحد مشايخ ابن إدريس ويذكره ابن إدرس في خاتمة رسالته الفقهية المضايقة .. ومن تلامذته يمكن عدّ ورّام بن أبي فراس ، كما يمكن عدّ عليّ بن عليّ بن نما من مشايخه أيضاً(2).
9 - السيّد شرف شاه الأفطسي :
عالم وفقيه إماميّ من فقهاء القرن السادس الهجري ، وهو واحد من سلسلة مشايخ ابن إدريس الذي تفيد بعض الإجازات أنّ ابن إدريس حاز منه على إجازة أيضاً. ويستفاد من بعض الأسانيد الروائية أنّ الأفطسي كان حيّاً عام (573 ه)(3).
10 - ابن شهر آشوب المازندراني :
رشيد الدين محمّد بن عليّ .. أحد مفاخر العلماء الشيعة في القرن السادس الهجري ، ذكره المحدّث النوري فأثنى عليه ثناءً لا مثيل له ، كما وصفه الحرّ العاملي : «بالعالم الفاضل الثقة ، المحدّث ، المحقّق ، العارف 5.
ص: 92
بالرجال والأخبار .. الجامع للفضائل والصفات»(1) ، وهو من مشايخ ابن إدريس الحلّي(2) توفّي رحمة الله عليه في شعبان سنة (588 ه)(3).
11 - هبة الله بن نما :
وهو الشيخ الرئيس العفيف أبو البقاء الحلّي ، من مشايخ الشيخ محمّد ابن المشهدي صاحب المزار ويروي عنه في سنة (569 ه) وسنة (573 ه) فيظهر حياة أبي البقاء إلى هذا التاريخ. ويروي عنه أيضاً ولده الشيخ جعفر ابن أبي البقاء هبة الله بن نما والد الشيخ نجيب الدين أبي إبراهيم محمّد بن جعفر الذي هو من مشايخ المحقّق الحلّي .. وجاء في صدر بعض نسخ كتاب سليم بن قيس هكذا : «أخبرني الرئيس أبو البقاء هبة الله بن نما بن عليّ بن حمدون ، بداره بحلّة الجامعين في جمادى الأُولى (565 ه) ، عن الحسين بن أحمد بن طحال المقدادي مجاور النجف في (520 ه) عن الشيخ أبي عليّ ابن الطوسي في رجب (490 ه)»(4).
فابن نما من المعاصرين لابن إدريس ومن أساطين وأساتذة حوزة الحلّة العلمية.
كما أنّ هنالك علماء كباراً من أُسرة (آل نما) في طبقات المحقّق 5.
ص: 93
والعلاّمة الحلِّيَّين سوف تأتي الإشارة إليهم.
فأُولئك هم نخبة من الفقهاء الذين سبقوا عصر الشيخ ابن إدريس أو من معاصريه ، وبعضهم من مشايخه وأساتذته.
كما أنّ ابن إدريس عاصر علمين كبيرين من أعلام فقهاء أهل البيت : وكانت له بعض المساجلات والردود العلمية معهما ، وهما :
أوّلاً : أبو المكارم بن زهرة الحلبي (ت 585 ه) :
وهو من طبقة ابن إدريس ومن المعاصرين له ، وكانت لابن إدريس معه مكاتبات وذكره ابن إدريس في كتابه السرائر(1) ، وتنصّ بعض الكتب الرجالية على أنّه من مشايخ ابن إدريس ، وأنّ ابن إدريس قد روى عنه(2).
ولابن زهرة منهج نقديٌّ في علم الأُصول كما هو واضح في كتابه الأُصولي غنية النزوع الذي تناول فيه بالنقاش للأدلّة الأُصولية للشيخ الطوسي في كتابه الأُصولي العدّة. فهو يشارك ابن إدرس في نقده لمنهج الشيخ الطوسي(3) كما سوف يأتينا في محلّه.
رغم هذا القاسم المشترك ولمشاركته في المنهج النقدي ، إلاّ أنّ ابن إدريس تناول فقه ابن زهرة بالنقد الحادّ ، فنجده يقول عنه - بعد أن ينقل أحد آرائه الفقهية - : «والقائل بهذا هو السيّد العلوي أبو المكارم بن زهرة 4.
ص: 94
الحلبي رحمه الله ، شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني ، وعرّفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر بأعذار غير واضحة ...»(1).
وابن زهرة ، لم يكن مجاوراً لابن إدريس في الحلّة ، وإنّما كان من أعيان السادات والنقباء بحلب وتوفّي فيها عام (585 ه)(2).
ثانياً : الحمصي الرازي (حدود 585 ه) :
وهو محمود بن عليّ بن الحسن ، الشيخ الإمام سديد الدين الحمصي الرازي الحلّي.
قال عنه الطهراني : «علاّمة زمانه في الأُصولين ، ورع ثقة ، له تصانيف ، منها : التعليق الكبير والتعليق الصغير والمنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد والمصادر في أُصول الفقه ، وصفه تلميذ منتجب الدين بن بابويه بقوله : حضرت مجلس درسه سنين وسمعت أكثر هذه الكتب بقراءة من قرأ عليه ..»(3).
وسواء كان الحمصي من أهل الريّ مولداً أم من مدينة حمص السورية من بلاد الشام ، على خلاف بين مترجميه(4) ، فإنّه نزل مدينة الحلّة لمدّة من الزمن وتتلمذ عليه مجموعة من علمائها منها ورّام بن أبي فراس ، وألّف هناك ا.
ص: 95
بعض مؤلّفاته منها كتابه التعليق العراقي الذي ألّفه في العراق في بلدة الحلّة بالتماس علمائها(1).
ويعبّر عنه ابن إدريس في كتابه السرائر بقوله : «سألني شيخنا محمود ابن عليّ ابن الحسين الحمصي المتكلّم الرازي ..» ثمّ يثني عليه بقوله : «.. وكان منصفاً ؛ غير مدّع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ، ولا من صنعته ، وحقّاً ما أقول : لقد شاهدته على خلق قلّ ما يوجد في أمثاله ، من عودة إلى الحقّ ، وانقياده إلى ربقته ، وترك المرء ونصرته ، كائناً من كان صاحب مقالته ، وفّقه الله وإيّانا لمرضاته وطاعته»(2).
رغم هذا المديح الذي كاله ابن إدريس للحمصي ، إلاّ أنّ الحمصي لم تكن نظرته إيجابية اتّجاه ابن إدريس كما سوف يأتينا.
وهنالك علماء آخرون من المعاصرين لابن إدريس من مدينة الحلّة ومن خارجها ذكرهم بعض الكتّاب(3). ولم يرد لهم ذكر في كتاب ابن إدريس السرائر.
المبحث الثالث : ابن إدريس الحلّي ودورهُ في ترسيخ حوزة الحلّة :
بعد فترة من الركود والسُّبات العلمي الذي حلّ بحركة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت : حيث هيمنت شخصية الشيخ الطوسي رضي الله عنه على الحياة 6.
ص: 96
العلمية زمناً ليس بالقصير ، وركدت خلالها الحركة العلمية الإبداعية ، وغدت كتب الشيخ وآراؤه مدار البحث بين الفقهاء ، وتهيَّب الكثير منهم مخالفته أو نقد آرائه لشدّة اعتقادهم به ، وحسن ظنّهم بعلمه ....
بعد هذه الفترة العصيبة عادت حركة الاجتهاد إلى حيويّتها ونشاطها ، وظهر في علماء الشيعة من تجاوز بفكره واجتهاده كثيراً عن آراء واستنباطات الشيخ الطوسي ، فلاحَت في أُفق الفقه الشيعيّ الإماميّ تباشير نهضة علمية تتقدّم أشواطاً بعيدة إلى الأمام ، وكانت بداية هذه النهضة قائمة على نقد بعض آراء الشيخ الطوسي ومخالفتها.
وكان حامل لواء هذه النهضة المباركة الشيخ (محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي العجلي) (ت 598 ه). الذي وضع أقوال الشيخ الطوسي واجتهاداته موضع الدراسة والنقد العلمي ، وفتح باب النقاش فيها وألّف كتابه القيّم السرائر.
كذلك نجد من العلماء المعاصرين لهذه الفترة ، من انبرى لمناقشة الآراء الأُصولية للشيخ الطوسي في كتابه العدّة وهو ابن زهرة الحلبي المعاصر لابن إدريس ، في كتابه القيم غنية النزوع ، يقول الشهيد الصدر في المعالم : «وكتاب السرائر من الناحية التاريخية يعاصر إلى حدٍّ ما كتاب الغنية الذي قام فيه حمزة ابن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي بدراسة مستقلّة لعلم الأُصول .. فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية».
ثمّ يضيف السيّد الشهيد الصدر : «ونحن إذا لاحظنا أُصول ابن زهرة
ص: 97
وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ابن إدريس تميّزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ ، والأخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الأُصولي والفقهي ، .. فابن إدريس يحاول في السرائر تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّة ، كذلك نجد ابن زهرة يناقش في الغنية الأدلّة التي جاءت في كتاب العدّة ، ويستدلّ على وجهات نظر معارضة ، بل يثير أحياناً مشاكل أُصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب العدّة بذلك النحو»(1).
وقد تكون مناقشات ابن زهرة لآراء الشيخ الطوسي أكثر عمقاً من مناقشات ابن إدريس ، لأنّها تناقش مباني الشيخ ، إلاّ أنّ ابن إدريس هو الذي اشتهر في مواجهة آراء الشيخ وردّها. كذلك ابن البرّاج الطرابلسي (ت 481ه) خالف في كتابه المهذّب البارع آراء أُستاذه الطوسي ، ولكن لا نجد صدى لهذه المخالفة.
وقد ترجمنا باختصار لابن زهرة الحلبي ، فيما مضى ، فلابدّ لنا من ترجمة أيضاً لابن إدريس مع بعض التوسّع في منهجه النقدي لآراء الشيخ الطوسي الفقهية.
ابن إدريس الحلّي في سطور :
وابن إدريس هو «ابو عبد الله محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن ا.
ص: 98
الحسين بن القاسم بن عيسى العجليّ الربعيّ»(1). ولد سنة (543 ه) وتوفّي سنة (598 ه) ، عن خمس وخمسين سنة.
ترجم له ابن داود في رجاله فقال في شأنه : «كان شيخ الفقهاء بالحلّة ، متقناً في العلوم ، كثير التصانيف ...»(2).
وفي إجازة المحقّق الثاني : «ومنها جميع مصنّفات ومرويّات الشيخ الإمام السعيد المحقّق ، خير العلماء والفقهاء ، فخر الملّة والحقّ والدين ، أبي عبد الله محمّد بن إدريس الحلّي الربعيّ ، برّد الله مضجعه وشكر له سعيه»(3).
ومن أهمّ آثار ابن إدريس الفقهية كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي(4) وهو بحقٍّ كتاب جامع في كلّ أبواب الفقه شحنه بالتحقيق والتفريع على الأصول واستنباط المسائل الفقهية من أدلّتها الشرعية الشيء الكثير ، وكان ولا زال هذا الأثر الخالد محطّاً لأنظار الفقهاء وأهل النظر والاجتهاد. «وقد أثنى عليه علماؤناً المتأخّرون واعتمدوا على كتابه وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدّمين وأصولهم ... وقد ذكر أقواله العلاّمة وغيره في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها»(5). 1.
ص: 99
وله آثار فقهية وأُصولية أُخرى ، وحاشية مهمّة على تفسير التبيان للشيخ الطوسي(1).
ويتّصل نسب الشيخ ابن إدريس بالشيخ الطوسي يقول الحرّ العاملي : «يروي عن خاله أبي عليّ الطوسي بواسطة وغير واسطة ، وعن جدّه لأُمّه أبي جعفر الطوسي ...»(2).
وبظهور ابن إدريس الحلّي ، نهض البحث العلمي من جديد وانطلقت حركة الاجتهاد بحيوية فائقة تميّزت بالعمق والشمول والسعة ، على أيدي فقهاء عظام.
والذي يميّز دور ابن إدريس الحلّي عن غيره من معاصريه أنّه كان من أشدّهم جرأة ، وأكثرهم نقداً لطريقة الشيخ الطوسي ، حتّى لامَه الكثيرون على هذه الطريقة ، بل رأى البعض أنَّ ابن إدريس قد تجاوز الحدَّ في معارضته ونقد آراء الشيخ الطوسي ، ونُسب إليه أنّه أساء إلى شخصية الشيخ ، وهي نسبة غير صحيحة(3).
وبابن إدريس فُسِح الطريق لمناقشة آراء الشيخ وأفكاره العلمية ، ولولاه لم يكن يجرأُ أحد على ذلك.
«ولم يلقَ ابن إدريس - في زمانه - أىَّ ترحيب أو استقبال ، بل جُوبِه 4.
ص: 100
بمعارضة شديدة ، ولكنّه كان الفاتح لنقد الشيخ الطوسي والمحطّم للفكر التقليدي الجاف الجامد ، وقد أسدى بذلك خدمة كبرى للطائفة في انفتاح باب الاجتهاد والاعتماد على الفكر الحرّ المشوب بالصدق والصفاء»(1).
المنهج الاستدلالي لابن إدريس ، وأهمّ النتائج لحركته العلمية :
كانت لحركة ابن إدريس العلمية آثار كبيرة على حركة الاجتهاد في القرن السادس الهجري ، والقرون اللاّحقة ، وكان لهذه الحركة منهجها ونتائجها والتي يمكن تلخيصها بما يلي :
أولاً : كسر الجمود الذي كان عليه الفقهاء من تلامذة الشيخ وتلامذتهم ، والقضاء على الركود الذي مني به الفقه الإمامي خلال هذه الفترة ، الذي ربّما لو استمرّ لأدّى إلى انتهاء الاجتهاد وغلق بابه عند الإمامية ، وذلك بما أقدم عليه من إبداء آرائه الفقهية المخالفة لآراء من تقدّمه من الفقهاء ، ومناقشة ومحاكمة آراء الفقهاء السابقين عليه ، فأعاد بهذا إلى الاجتهاد حيويّته ونشاطه ، وفتح المجال رحباً إلى استخدامه(2).
ثانياً : استخدام القواعد الأُصولية :
كما أنّه ليحافظ على نفس الاتّجاه المعتدل الذي رسمه الشيخ المفيد ، والتزمه من بعده تلامذته كالمرتضى والطوسي وتلامذتهما ، ركّز كثيراً في 4.
ص: 101
درسه وتأليفه على استخدام القواعد الأُصولية(1).
ثالثاً : تربيع مصادر الفقه بذكر الدليل العقلي :
والدليل العقلي هو الدليل الرابع الذي كشف عنه السيّد المرتضى في بعض جواباته(2) ، إلاّ أنّه لم يدرجه في قائمة المصادر تهيّباً من الإثارة ، وحفاظاً على الوضع الفكري القائم آنذاك من أن ينجرّ إلى الصراع العميق.
يقول الشيخ المظفّر : «وأوّل من وجدته من الأُصوليّين يصرّح بالدليل العقلي الشيخ ابن إدريس المتوفّى (598 ه)»(3). ثمّ نقل عبارة ابن إدريس في مقدّمة كتابه السرائر إذ يقول : «... فإنَّ الحقَّ لا يعدو أربع طرق :
1 - إمّا كتاب الله سبحانه.
2 - أو سنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) المتواترة المتّفق عليها.
3 - أو الإجماع.
4 - أو دليل العقل.
فإذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة التمسّك بدليل العقل فيها ...»(4).
والملاحظ أنّ الأدوار الاجتهادية السابقة لعصر ابن إدريس لم يكن فيها 6.
ص: 102
للعقل والاستدلال العقلي أثر واضح في كلمات واستدلالات العلماء ، إلاّ اللّهمّ عند ابن أبي عقيل العماني ، وابن جنيد الإسكافي ، لكن الذين جاءوا من بعدهما لم يحذوا حذوهما بالأخذ بدليل العقل في الاستنباط الفقهي.
والذي يلاحظ كتاب السرائر - وهو أثر فقهيٌّ مهمٌّ خلّفه ابن إدريس - يجد منهج ابن إدريس العقلي متجلّياً في استدلالاته الفقهية ، بل كان رحمه الله من دعاة الفقهاء إلى الأخذ بالاستدلال العقلي(1).
رابعاً : عدم تجويزه العمل بخبر الواحد المظنون صدوره عن المعصوم :
وقد سبقه إلى هذا كلّ من : ابن قبة ، والشريف المرتضى ، وابن البرّاج ، وأبي المكارم ابن زهرة ، وأبي عليّ الطبرسي.
وربّما نسب هذا إلى غير هؤلاء ، قال الشيخ الأنصاري(2) : «فالمحكي عن السيّد ، والقاضي ، وابن زهرة ، والطبرسي ، وابن إدريس - قدّس الله أسرارهم - المنع».
وربّما نسب إلى المفيد قدس سره - حيث حُكي عنه في المعارج - أنّه قال : «إنَّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن به دليل يفضي بالنظر إلى العلم ، وربّما يكون إجماعاً ، أو شاهداً من عقل»(3).
هذه أهمُّ الآثار التي يمكن الإشارة إليها كنتائج للحركة العلمية ا.
ص: 103
الاجتهادية التي قام بها ابن إدريس الحلّي ، حيث قطع الاجتهاد والفقه الاجتهادي بفضل جهوده مراحل جديدة وتوسّعت مجالات الاجتهاد والاستدلال والأبحاث الفقهية ، بعد أن كان باب الاجتهاد مهدّداً بالغلق والاقتصار على آراء المتقدّمين ، وخاصّة آراء الشيخ الطوسي.
تلامذة ابن إدريس والراوون عنه :
نصّ بعض المترجمين لسيرة ابن إدريس على تتلمذ بعض الفضلاء عليه ، وهم على قلّة عددهم قد واصلوا طريق أُستاذهم في التحقيق والتأليف وصاروا من الفقهاء والأساتذة الذين يشار إليهم بالبنان.
قال صاحب الرياض وهو يترجم لابن إدريس : يروي عنه جماعة من الأفاضل منهم :
1 - الشيخ نجيب الدين بن نما الحلّي.
2 - والسيّد شمس الدين فخار بن معد الموسوي.
3 - والسيّد محمّد بن عبد الله بن زهرة الحسيني الحلبي ، كما يظهر من بعض أسانيد الصحيفة(1).
4 - ويروي السرائر عنه : عليّ بن يحيى الخيّاط.
5 - وأجاز روايته السرائر عنه ليوسف بن علوان ..(2). 0.
ص: 104
6 - الشيخ طومان بن أحمد العاملي(1).
ويعتبر الشيخ نجيب الدين محمّد بن جعفر بن نما الحلّي (ت 645 ه) من أبرز تلامذة ابن إدريس ، وهو شيخ المحقّق الحلّي ، والشيخ سديد الدين والد العلاّمة الحلّي ، والسيّد الرضيّ ، والسيّد أحمد بن طاووس. وهو والد الشيخ جعفر بن محمّد صاحب مثير الأحزان .. قال المحقّق الكركي في ذكر المحقّق الحلّي ما هذا لفظه : «وأعلم مشايخه بفقه أهل البيت الشيخ الفقيه السعيد الأوحد محمّد بن نما الحلّي ، وأجلّ أشياخه الإمام المحقّق قدوة المتأخّرين فخر الدين محمّد بن إدريس الحلّي العجلي برّد الله مضجعه ..»(2) ، فالشيخ نجيب الدين حلقة الوصل بين ابن إدريس وبين المحقّق الحلّي ، والذي بدوره يعتبر المؤسّس الحقيقي للحوزة العلمية في الحلّة كما سوف يأتينا لاحقاً.
كذلك يعتبر شمس الدين فخار بن معد الموسوي (ت 630 ه) ، من تلامذة ابن إدريس المبرّزين ، وقد نعت في كلمات العلماء بالصفات الحسنة التي قلّ نظيرها في غيره ، فهو الفقيه ، والمحدّث ، والنسّابة ، والمؤرّخ ، والعارف بالأُصول والفروع ، وممّن «قلّ نظيره في مشايخ إجازاتنا الورعين ، ورجال رواياتنا المطّلعين المتتبّعين ، بحيث لم يشذَّ عنه إجازة من إجازات الأصحاب ، ولم يخل منه سندٌ من أسانيد علمائناً الأطياب ، وكان رحمه الله تعالى من عظماء وقته ، وكبراء زمانه ، في الدنيا والدين ، فخراً وفخارة ،9.
ص: 105
وفخير الطويِّين المنتجبين والفقهاء والمجتهدين»(1).
وهو أيضاً يمثّل حلقة الاتّصال بين ابن إدريس وطبقة المحقّقين الكبار من أمثال المحقّق الحلّي ، وأبناء طاووس ، والشيخ سديد الدين يوسف بن عليّ والد العلاّمة الحلّي ، وغيرهم(2) ، فأُولئك يروون عنه ، وهو يروي عن أُستاذه. وهكذا تتّصل الحلقة ببعضها وتتكامل ، حتّى تصل إلى تلامذة تلامذتهم ؛ يقول الشهيد الثاني رحمه الله في إجازته : «ومصنّفات ومرويّات السيّد السعيد العلاّمة المرتضى إمام الأُدباء والنسّاب والفقهاء شمس الدين أبي عليّ فخار بن معد الموسوي» ..(3).
وتلامذة ابن إدريس الآخرين والراوون عنه لهم شأنهم ومكانتهم أيضاً ، ووردت بحقِّهم كثير من كلمات المدح والثناء ، ممّا لا يسع المجال لذكرهم ؛ وذكر ما يتّصل بشأنهم.
وإجمالاً ، كان أُولئك التلامذة والرواة عن ابن إدريس من العلماء الأفذاذ ومن شيوخ الرواية ، ومن المصنّفين ، وتركوا لنا آثاراً علمية نافعة.
* الملاحظات النقدية على منهج ابن إدريس :
كما كان ابن إدريس رحمه الله عالماً نقّاداً لأفكار العلماء وخاصّة في قراءته 2.
ص: 106
النقدية لفقه الشيخ الطوسي ، ولبعض معاصريه من أمثال ابن زهرة الحلبي ..
كذلك وجِّهت له ولمنهجه بالذات مجموعة من النقود والملاحظات من المعاصرين له ، ومن غيرهم ، ومن أهمّ هذه الملاحظات النقدية :
أوّلاً : قيل فيه : «إنّه مخلّط لا يعتمد على تصنيفه» :
وهو ما ينقله الشيخ منتجب الدين في الفهرست عن الحمصي ، حيث قال : «وقال شيخنا سديد الدين محمود الحمصي .. : هو - أي ابن إدريس - مخلّط لا يعتمد على تصنيفه»(1) ، ووافقه على ذلك التستري في قاموس الرجال(2) ، كذلك نعته العلاّمة بقلّة معرفته بالروايات والرجال(3).
إلاّ أنّ الإنصاف يقتضي أن لا نصادر جهود ابن إدريس العلمية ، نتيجة خطأ علمي هنا أو هناك. وننعته بالتخليط وعدم الاعتماد بشكل مطلق.
يقول السيّد الخوئي : «ما ذكره الشيخ محمود الحمصي من أنّ ابن إدريس مخلّط لا أعتمد على تصنيفه ، فهو صحيح من جهة وباطل من جهة ، أمّا إنّه مخلّط في الجملة فممّا لا شكّ فيه ، ويظهر ذلك بوضوح من الروايات التي ذكرها فيما استطرفه .. وأمّا قوله : لا يعتمد على تصنيفه ، فهو غير صحيح ، وذلك فإنّ الرجل من أكابر العلماء ومحقّقيهم ، فلا مانع من الاعتماد7.
ص: 107
على تصنيفه في غير ما ثبت فيه الخلاف»(1).
ثانياً : وقيل عنه : «إنّه كان معرضاً عن الأخبار» :
قال ابن داود في الرجال : «محمّد بن إدريس ، كان شيخ الفقهاء بالحلّة متقناً في العلوم كثير التصانيف ، لكنّه أعرض عن أخبار أهل البيت (بالكلّية)»(2).
وتقييم ابن داود مضطرب في نظر كثير من علماء الرجال ، فهو يمدحه بقوله : «شيخ الفقهاء .. متقناً للعلوم كثير التصانيف» فهذا المدح يقتضي من ابن داود أن يذكر ابن إدريس في القسم الأوّل من كتابه ؛ ولهذا ردّ مقولة ابن داود كثير من علماء الرجال كالبحراني ، والمامقاني ، وأبو عليّ الحائري .. وغيرهم(3). كما أنّ كتب ومصنّفات ابن إدريس المشحونة بروايات أهل البيت وأخبارهم : تكذّب هذه النسبة التي يدّعيها ابن داود وينفرد بها.
نعم ، كلّ ما في الأمر أنَّ ابن إدريس لا يعمل بالخبر الواحد المجرّد عن القرينة ، وهو مبنى اجتهادي التزم به جملة من العلماء السابقين والمعاصرين له كالشيخ المفيد والسيّد المرتضى ، وابن زهرة الحلبي(4).
ثالثاً : وقيل عنه أيضاً : «إنّه وجَّه الإهانة وإساءة الأدب للشيخ الطوسي» 4.
ص: 108
وهو ما ادّعاه العلاّمة المامقاني في كتابه الرجالي الكبير تنقيح المقال ، «مستحضراً جملة من العبارات والمقاطع من كتاب السرائر لابن إدريس شاهداً على صحّة ذلك ، وينقل الشيخ المامقاني كلاماً للعلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ، يقوم على أنّ ابن إدريس قد أساء الأدب في حقّ شيخ الطائفة .. ثمّ يقول : «في مواضع من السرائر أعظم ممّا نقله صاحب البحار حتّى أنّه في كتاب الطهارة عند إرادة نقل قول بالنجاسة عن الشيخ يقول : «وخالي شيخ الأعاجم أبو جعفر الطوسي يفوح من فيه رائحة النجاسة» ، وهذا منه قد بلغ في إساءة الأدب النهاية ، وقد تداول على ألسنة المشايخ أنّ هذه الإساءة للأدب هي التي قصّرت عمره ...»(1).
إلاّ أنّ هذه الدعوى لا أساس لها من الصحّة ، فابن إدريس يذكر الشيخ الطوسي في كثير من الموارد من كتابه السرائر مشفوعة بأسمى آيات الاحترام والتقدير ، والعبارة التي ينسبها المامقاني لابن إدريس وكتابه السرائر لا وجود لها في كتابه ، حتّى أنّ أحد الباحثين في تراث ابن إدريس يقول : «لم أعثر على الجملة التي نقلها المامقاني في أىّ من النسخ المتوفّرة لكتاب السرائر الأعمّ من المطبوع أو المخطوط .. وبناءً عليه ، فمن الممكن أن يكون العلاّمة المامقاني .. قد سمع هذا النصّ من غيره ..»(2).
ومهما يكن من أمر ، فابن إدريس لم يسِىء الأدب مع الشيخ الطوسي ، 1.
ص: 109
ولا مع غيره من الفقهاء الذين ناقش آراءهم الفقهية ، وإنّما كانت هناك نوع من الحدّة في المناقشات ، وهو غير الإساءة.
رابعاً : التعاطي الحادّ مع الفقهاء والمحدّثين :
وهو إشكال وارد على ابن إدريس ، فقد سدّد كلمات عنيفة للفقهاء عند مناقشة آرائهم الفقهية ، ولم يسلم أحد منهم من هذا العنف اللفظي من قبيل تعبير «ما يضحك الثكلى» ، وتعبيره «وما قاله .. أضعف من بيت العنكبوت» ، أو قوله بحقِّ ابن زهرة : «.. وهذا قلّة تحصيل منه لما يقوله ويودعه تصانيفه» وغيرها من العبارات الحادّة(1).
لقد كان ابن إدريس عالماً نقّاداً لآراء الآخرين ، وكان قاسياً عنيفاً في نقده ، وفيه حدّة طبع ، لا ندري هل كانت هذه الشدّة من بعض صفاته الأخلاقية الموروثة أو المكتسبة؟ أو أنَّ أُسلوب المواجهة كانت تقتضي منه هذا الأُسلوب من الخطاب؟
خامساً : اتّهام الفقهاء بالاتّباع والتقليد :
ولم يقتصر هذا الاتّهام على العصر الذي تلى عصر الشيخ الطوسي ، إذ توقّفت عجلة الاجتهاد عن الحركة ، وأُصيبت بالركود فأصبح ذلك العصر عصر التقليد ، وهذا ما صرّح به غير ابن إدريس أيضاً ، كما ينقل عن سديد الدين الحمصي وهو أحد معاصري تلك المرحلة قوله : «لم يبقَ للإمامية مُفت 3.
ص: 110
على التحقيق ، بل كلّهم حاك»(1).
وإنّما نجد ابن إدريس يتّهم الشيخ الطوسي نفسه بالتقليد «وإنّه رضي ببعض أقوال أهل السنّة لا سيّما منهم الإمام الشافعي .. وإنّ القسم الأعظم من كتابي المبسوط والخلاف ليس سوى تلك الفروع الفقهية التي طرحها المخالفون في كتبهم ..»(2).
وكلام ابن إدريس بحقِّ الشيخ الطوسي ، وابن البرّاج ، .. ليس بصحيح على إطلاقه ، لأنّه يستلزم نفي ريادة وأصالة الفقه الشيعيّ وحركته التكاملية التي انتجت لنا كتاب المبسوط ، والخلاف ، وجواهر الفقه ، وغيرها. كما أنّ الاقتباس والأخذ ببعض وجوه الآراء التي تلتقي مع الفقه السنّي لا تسمّى تقليداً أو اتّباعاً.
ومهما يكن من أمر ، فإنّ ابن إدريس «له فضله ومنزلته العالية بين علماء الطائفة ، وغلطه في مسألة من مسائل الفنّ لا يستلزم الطعن عليه»(3) ، فهو فقيه مجدّد ، استطاع أن يضيف شيئاً جديداً إلى الموروث الفقهي ، كما استطاع أن يؤسّس لمدرسة فقهية منهجية فيها حيوية النقد والتجديد.
«والانتقادات - التي وجِّهت إليه - لم تقلّل من أهمّية جهوده العلمية التي أحلّته مكانته في تأريخ الفكر الشيعيّ رئيساً للمذهب ، وشيخاً لعلماء عصره ، 9.
ص: 111
فسرعان ما عاد فقهاء الطائفة إلى الاعتماد على مرويّاته ، والتعبير عنه بما يليق ومكانته وزعامته العلمية والروحية التي تبوّأها في عصره»(1).
الفصل الثاني
الحوزة العلمية في الحلّة بعد وفاة ابن إدريس الحلّي
المبحث الأوّل : الأُسر والبيوتات العلمية في الحلّة ودورهم في ازدهار حوزتها العلمية :
توفّي الشيخ الفقيه أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي رحمه الله كما عن ولده (صالح) في يوم الجمعة وقت الظهر 18 شوّال (598 ه)(2).
وبوفاته فقدت حوزة الحلّة العلمية علماً من علمائها ، وفقيهاً مجدّداً من فقهائها ، تاركاً وراءه ثروة علمية تمثّلت في موسوعة فقهية ، ومختصرات وتعليقات علمية.
وبوفاة ابن إدريس لم تنطفئ جذوة العلم في حوزة الحلّة العلمية ، ولم تصب حركة العلم والاجتهاد بالركود أو التوقّف ، وإنّما سارت سيراً حثيثاً متواصلاً متكاملاً. 5.
ص: 112
لقد برز بعد ابن إدريس الحلّي رحمه الله علماء كبار ، ومجتهدون ومحقّقون جهابذة ، استطاعوا أن يرتقوا بالاجتهاد والاستدلال الفقهيّ إلى مراتب عالية تجاوز فيها الفقه الاجتهادي خطر الركود والغلق لباب الإجتهاد.
ونستطيع بحقّ أن نطلق على الدور الذي جاء بعد ابن إدريس في حوزة الحلّة العلمية ب- (دور الاستقلال للفقه الإمامي) أو مرحلة (النموّ والرشد) للفكر الاجتهادي.
ففي مدرسة الحلّة بعد الشيخ ابن إدريس الحلّي ، جاء دور الأُسر العلمية الحلّية التي أسهم علماؤها في مجال العلوم الإسلامية بقسط وافر ؛ وأعطوا لمركز الحلّة الأهمّية من خلال ما قاموا به من التدريس والتأليف والإضافات الجيّدة الجادّة في هذا المجال.
ومن أشهر هذه الأُسر في هذه الحقبة من الزمن ، الممتدّة من القرن السادس الهجريّ حتّى القرن التاسع الهجريّ - أي لأكثر من ثلاثة قرون - : أُسرة آل طاووس وأُسرة آل نما ، والهذليّون ، والأسديّون(1).
ولاتسع هذه الدراسة لاستيعاب جميع أعلام هذه الأُسر العلمية ونشاطهم الفقهي والاُصولي وإنّما سوف نشير إلى بعض آثارهم العلمية في ثنايا هذا البحث(2).
ومن أهمّ أعلام مدرسة الحلّة العلمية بعد ابن إدريس هو المحقّق ا.
ص: 113
الحلّي رضي الله عنه (ت 676 ه) والذي بظهوره في حوزة الحلّة العلمية يبدأ الدور الثاني من أدوار مدرسة الحلّة ، وتستمر باستمرار النشاط الفقهي لأعلام هذه المدرسة وحتّى نهاية القرن الثامن الهجري.
وكانت الحركة العلمية في عصره بلغت شأواً عظيماً ، حتّى صارت الحلّة من المراكز العلمية في البلاد الإسلامية(1).
فأكثر من ثلاثة قرون من النشاط العلمي الدائب هي تعبير صادق عن هذه الحوزة العلمية المهمّة(2).
أوّلاً : المحقّق الحلّي :
فمن هو المحقّق الحلّي؟ وما هو دوره العلمي في حوزة الحلّة؟
تنتسب هذه المرحلة من مراحل الحوزة العلمية في الحلّة ، وهي من مراحل تطوّر الاجتهاد والاستدلال الفقهي المهمّة ، إلى المحقّق الحلّي رضي الله عنه حيث شهد الاجتهاد الفقهي على يد هذا العَلَم تطوّراً كبيراً في مستواه ، كما سيأتي من خلال بيان خصائص هذه المرحلة.
يقول السيّد الشهيد الصدر في المعالم : «واستمرّت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتّسع وتزداد ثراءاً عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الأُصول والفقه وأبدعوا ، فمن هؤلاء ا.
ص: 114
المحقّق الحلّي .. وهو تلميذ تلامذة ابن إدريس ومؤلّف الكتاب الفقهي الكبير شرائع الإسلام الذي أصبح بعد تأليفه محوراً للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة ، بدلاً عن كتاب النهاية ...»(1).
والمحقّق الحلّي هو : نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى ابن الحسن بن سعيد الهذلي الحلّي المشتهر ب- (المحقّق) و (المحقّق الحلّي) (602 - 676 ه).
وصفه تلميذه ابن داود في رجاله بقوله : «المحقّق المدقّق الإمام العلاّمة ، واحد عصره ، كان أَلْسَن أهلِ زَمَانه ، وأقومهم بالحجّة ، وأسرعهم استحضاراً»(2).
وقال فيه السيّد حسن الصدر في إجازته الكبيرة للشيخ الطهراني : «هو أوّل من نبع منه التحقيق في الفقه ، وعنه أخذ وعليه تخرّج ابن أُخته العلاّمة الحلّي رضي الله عنه وأمثاله من أرباب التحقيق والتنقيح ، وليس في الطائفة أجلُّ منه بعد الشيخ الطوسي ...»(3).
وقال السيّد الصدر عنه أيضاً : «وبرز من عالي مجلس تدريسه أكثر من أربعمائة مجتهد جهابذة ، وهذا لم يتّفق لأحد قبله»(4). 7.
ص: 115
خلّف (المحقّق الحلّي) مؤلّفات كثيرة من أهمّها كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام والمعتبر في شرح المختصر ، وفي علم الأُصول كتاب معارج الأُصول.
وسوف نشير إلى منهجيته في مؤلّفاته من خلال الحديث عن خصائص هذه المرحلة.
يقول أحد الباحثين :
«وقد هذّب «المحقّق» آراء الشيخ الطوسي وبلورها ودوَّن أصولها ، واستفاد كثيراً من اعتراضات وانتقادات ابن إدريس ، وقابل تلك الانتقادات بالدفاع عن مدرسة الشيخ(1).
* أساتذة المحقّق الحلّي :
تتلمذ المحقّق الحلّي وروى عن مجموعة من المشايخ ، كان لهم الأثر الكبير في نشأته العلمية ، بالإضافة إلى أُسرته وبيته العريق في العلم والأدب ، يضاف إلى ذلك الأجواء العلمية الزاخرة بالعطاء العلمي ، والمليئة بجهابذة الفقهاء والعلماء والتي كانت تسود في الحلّة في القرن السابع الهجري ، ومن أشهر أساتذة المحقّق :
1 - الحسن بن يحيى الأكبر بن الحسن بن سعيد الحلّي ، وهو والد 0.
ص: 116
المحقّق الحلّي ، قرأ عليه ولده ، ويروي عنه(1). وصفه صاحب الرياض بالفقيه الفاضل(2).
2 - أحمد بن يوسف بن أحمد الحسيني العريضي :
قال عنه في أمل الآمل : «كان فاضلاً فقيهاً صالحاً عابداً»(3) ، أخذ عنه الفقهاء : سديد الدين يوسف .. والد العلاّمة الحلّي ، والمحقّق أبو القاسم جعفر بن الحسن ، وأحمد بن طاووس(4).
3 - الحسن بن عليّ الدَربي ، الملقّب بتاج الدين ، قال عنه في أمل الآمل : عالم جليل القدر ، يروي عنه المحقّق(5).
4 - سالم بن محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراوي الحلّي ؛ الملقّب بسديد الدين ، وهو عالم فقيه فاضل ، له مصنّفات يرويها العلاّمة عن أبيه عنه(6) ، أخذ عنه المحقّق جعفر بن الحسن الحلّي ، علم الكلام وشيئاً من الفلسفة ، وقرأ عليه المنهاج(7).
5 - عليّ بن الحسن بن إبراهيم الحسيني العريضي الحلّي ، الملقّب 3.
ص: 117
بمجد الدين ؛ في رياض العلماء : «كان من سادة العلماء وقادة الفقهاء ، يروي عنه المحقّق»(1) ونصّ صاحب الطبقات على أنّ العريضي : «من مشايخ المحقّق الحلّي»(2).
6 - فخار بن معد بن أحمد بن محمّد الموسوي الحائري (ت 630 ه).
وصفه الحرّ العاملي بقوله : «كان عالماً فاضلاً أديباً محدّثاً» وله كتب كثيرة ، يروي عنه المحقّق(3) ، ويروي هو عن ابن إدريس الحلّي(4).
7 - محمّد بن جعفر بن محمّد بن أبي البقاء هبة الله ابن نما الربعي (ت 645 ه).
«عالم محقّق فقيه جليل ، من مشايخ المحقّق»(5).
ويعتبر ابن نما شيخ الإمامية في عصره ، وصف بأنّه : شيخ الطائفة ورئيسها غير مدافع ، أخذ عنه جماعة من الفقهاء والعلماء ، وقام في سنة ستّ وثلاثين وستمائة بتعمير بيوت الدرس في الحلّة ، وأسكنها جماعة من الفقهاء(6). 4.
ص: 118
8 - محمّد بن عبد الله بن عليّ بن زهرة الحسيني الإسحاقي.
قال عنه الحرّ العاملي : «فاضل عالم جليل ، يروي عنه المحقّق»(1).
9 - يوسف بن أحمد العريضي.
فقيه إماميّ زاهد ، يروي عنه المحقّق الحلّي(2).
فمن أُولئك الأفذاذ من الفقهاء والعلماء اكتسب المحقّق الحلّي علومه ومعارفه الفقهية والأُصولية والأدبية.
* تلامذة المحقّق الحلّي والراوون عنه :
يعتبر المحقّق الحلّي رائد مرحلة مهمّة من مراحل تطوّر المدرسة الفقهية الشيعية الإثني عشرية ، وصاحب مدرسة ومنهج متميّز في مجال البحث الفقهي والأُصولي ، ولهذا انجذب طلاّب العلم والمعرفة لحلقة درسه ، حتّى قيل إنّه : «برز من مجلس تدريسه أكثر من أربعمائة مجتهد جهابذة ، وهذا لم يتّفق لأحد قبله»(3).
بل إنَّ تأسيس الحوزة الحلّية ، وانتقال المركز العلمي من النجف إليها ، يعزوه بعضهم إلى عصر المحقّق الحلّي ، وليس إلى عصر ابن إدريس الحلّي. يقول السيّد محمّد صادق بحر العلوم : «إنّه في عهد المحقّق الحلّي انتقل 6.
ص: 119
المركز العلمي من النجف الأشرف إلى الحلّة السيفية»(1).
ومهما يكن من أمر ، فإنّ حوزة الشيخ المحقّق الحلّي قد ضمّت عدداً من الفقهاء والأُصوليّين .. يقول ابن داود في ترجمته : «وله تلاميذ فقهاء فضلاء ..»(2).
ومن أبرز تلامذة المحقّق الحلّي :
1 - العلاّمة الحلّي ، سديد الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الشهير بالعلاّمة الحلّي ، وهو ابن أُخت المحقّق الحلّي ، وتتلمذ على خاله .. وسوف يأتينا لاحقاً ترجمة له ، ولآثاره العلمية.
2 - الفاضل الآبي ، الحسن بن ربيب أبي طالب اليوسفي الآبي الحلّي ، وهو صاحب كشف الرموز ، وهو شرح لكتاب أُستاذه المحقّق المختصر النافع(3).
3 - الحسن بن عليّ بن داود الحلّي ، تقيّ الدين (ت 711 ه) وهو صاحب كتاب الرجال المعروف باسمه ، وقد ترجم لنفسه في كتابه ترجمة وافية ، وترجم لأُستاذه المحقّق ترجمة وافية أثنى فيها عليه ، وقال : «.. قرأتُ عليه وربّاني صغيراً ، وكان له عليَّ إحسان عظيم والتفات ، وأجازني جميع ما 2.
ص: 120
صنّفه وقرأه ورواه وكلّ ما تصحّ روايته عنه ..»(1).
4 - طومان أو (ظمان) بن أحمد العاملي المناري (ت 728 ه).
ذكره الحرّ العاملي في كتابه ووصفه بقوله : كان فاضلاً عالماً محقّقاً .. وتتلمذ على المحقّق الحلّي(2). ويعتبر المترجم له من أبرز أساتذة علماء جبل عامل ، وتتلمذ عليه جمع من علمائها منهم : جمال الدين مكّي العاملي والد الشهيد الأوّل(3).
5 - عبد الكريم بن أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس (ت 693 ه) الملقّب بغياث الدين ، وهو صاحب كتاب فرحة الغريّ في تعيين قبر الإمام عليّ عليه السلام وهو مؤلّف مشهور ، لمُؤلِّف مشهور ، إذ أنّ أُسرة آل طاووس من الأُسر العلمية ، ولهم مكانتهم الاجتماعية ، وهم من أشراف السادات الذين تقلّدوا نقابة العلويّين وتوارثوها ، «وإذا تتبّعنا أعلام أُسرة آل طاووس في النجف والحلّة نجد فيها الفقيه والنقيب وأمير الحاج ، ولهم مساهمات علمية وفكرية في مدرستي النجف والحلّة ، وامتداداتها إلى كربلاء وبغداد»(4).
6 - عليّ بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي (رضي الدين) وكان عالماً فاضلاً ، وهو أخ للعلاّمة الحلّي ، يروي عن والده وعن المحقّق 3.
ص: 121
الحلّي(1).
7 - محفوظ بن وشاح الأسدي الحلّي .. روى عن السيّد فخار بن معد الموسوي ، وتتلمذ على المحقّق الحلّي ..(2).
8 - عليّ بن محمّد بن أحمد بن عليّ ، الملقّب بشرف الدين ، المعروف هو وأبوه ب- (ابن العلقمي) وصف في أمل الآمل بالعالم الجليل القدر ، والشاعر الأديب ، ومن تلامذة المحقّق(3). تقلّد ابن العلقمي (الأب) الوزارة في أواخر الدولة العباسية كذلك تقلّده الابن بعده(4).
9 - محمّد بن يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي الحلّي ، (صفيّ الدين أبوه يحيى بن سعيد (ت 690 ه)) صاحب كتاب الجامع للشرائع ، ابن عمّ المحقّق الحلّي ، وولده محمّد : فاضل جليل من تلامذة المحقّق(5).
10 - محمّد بن أحمد (جلال الدين) كان عالماً فاضلاً وهو من تلامذة المحقّق الحلّي ، وهو شيخ الشهيد الأوّل(6).
تلك عشرة كاملة من أبرز تلامذة المحقّق الحلّي ، وهنالك الكثير ممّن ا.
ص: 122
تتلمذ عليه أو ممّن استجازه فأجازه ممّا لا يسعنا استيعابهم في هذا المختصر(1).
* وفاة المحقّق الحلّي ومدفنه :
توفّي المحقّق الحلّي في مدينة الحلّة ودفن فيها سنة (676 ه) ، كما هو الصحيح المحقّق عند علماء التراجم والرجال(2) ، ومرقده معروف مشهور في مدينة الحلّة : «وهو مزار معروف وعليه قبّة وله خدّام يتوارثون أباً عن جدّ»(3).
* آثاره العلمية :
لقد خلّف المحقّق الحلّي تراثاً فقهيّاً وأُصوليّاً وكلاميّاً ، اتّسم بالدقّة والتحقيق ، وإنّها (محرّرة عذبة) كما يصفها تلميذه ابن داود الذي أورد له تسعة كتب ثمّ قال : «وله كتب غير ذلك ليس هنا موضع استيفائها ، فأمرها ظاهر»(4).
ومن أهمّ كتبه الفقهية كتابه الذي اشتهر به شرائع الإسلام وكتابه2.
ص: 123
الأُصولي معارج الأُصول بالإضافة إلى كتابه الفقهي الموسوم ب- المختصر النافع وشرحه المعروف ب- المعتبر في شرح المختصر.
وقد اتّسمت مؤلّفاته بمنهجية جديدة في تقسيم أبواب الفقه ، كما أنّه نقل الفقه إلى دائرة أوسع ممّا كان عليه ، وتوسّع وتعمّق في مناهج الاستنباط والاستدلال .. وهذا ما سوف يأتينا الحديث عنه لاحقاً في الفصل الثالث إن شاء الله.
ثانياً : العلاّمة الحلّي ودوره في حوزة الحلّة العلمية :
يعتبر العلاّمة الحلّي من أبرز تلامذة المحقّق الحلّي وابن أُخته ، ولو لم يتخرّج من محضر درس المحقّق الحلّي إلاّ العلاّمة لكفى به فخراً ، فهو أُمّة في رجل ، ويحار الباحث كيف يدخل إلى رحاب شخصيّته ، المتعدّدة في جوانبها ، الغزيرة في مواهبها «إنّه بحر العلوم الذي لا يوجد له ساحل ، وكعبة الفضائل التي تطوى إليها المراحل»(1). ولهذا سوف نكتفي بذكر بعض الملامح من شخصيته ، تاركين التفاصيل إلى كتب التراجم ، وهي مليئة بالمعلومات الوافية عنه.
فمن هو العلاّمة الحلّي؟ وما هو دوره في حوزة الحلّة العلمية؟
العلاّمة الحلّي هو : «جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن محمّد بن المطهّر الأسدي الحلّي المعرف ب- (العلاّمة الحلّي) (ت 6.
ص: 124
726 ه)».
ترجم له ابن داود في الرجال قائلاً : «شيخ الطائفة ، وعلاّمة وقته ، وصاحب التحقيق والتدقيق ، كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول»(1).
وترجم له من العامّة الحافظ ابن حجر في لسان الميزان قائلاً : «عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم ، وكان آية في الذكاء ، شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً جيّداً .. واشتهرت تصانيفه في حياته ...»(2).
ومن أهمّ آثاره الفقهية والأُصولية :
لا يمكن في هذا المختصر استيعاب مؤلّفات العلاّمة جميعها لأنّها بدرجة لا تصدّق من الكثرة. يقول السيّد الصدر ، في معرض حديثه عن المصنّفين من علماء الشيعة ، قائلاً : «ومنهم آية الله العلاّمة الحلّي ... صنّف في كلّ فنون العلوم ، المعقول والمنقول ما يزيد على خمسمائة جلد»(3).
وذكر له صاحب ريحانة الأدب مائة وعشرين كتاباً(4).
«ولقد قيل : إنّه وُزّع تصنيفه على أيّام عمره من يوم ولادته إلى موته ، فكان قسط كُلّ يوم كرّاساً ، مع ما كان عليه من الاشتغال بالإفادة ، والاستفادة 3.
ص: 125
والتدريس والأسفار .. وهذا من العجب العجاب ..»(1).
سبق العلاّمة الحلّي رضي الله عنه أقرانه في فقه الشريعة ، وألّف فيه المؤلّفات المتنوّعة من المطوّلات والمتوسّطات والمختصرات ، كما فاق في علم الأُصول ، وألّف فيه كذلك على المستويات الثلاثة ، فكانت كتبه الفقهية والأُصولية محطّ أنظار العلماء في عصره إلى اليوم ، تدريساً وشرحاً وتعليقاً. وقد ترجم لنفسه في كتابه الخلاصة وذكر قائمة مطوّلة من كتبه الفقهية والأُصولية والكلامية والنحوية والمنطقية والحديثية ... وأضاف عليها الحرّ العاملي ما لم يذكره بعد تأليفه لخلاصة الأقوال(2).
فمن مؤلّفاته الفقهية المطوّلة :
1 - مختلف الشيعة.
2 - تذكرة الفقهاء.
3 - منتهى المطلب.
ومن المتوسّطات :
1 - قواعد الأحكام.
2 - التجريد.
ومن المختصرات :
1 - إرشاد الأذهان. 3.
ص: 126
2 - إيضاح الأحكام.
3 - تبصرة المتعلّمين.
ومن مؤلّفاته في علم الأُصول :
من المطوّلات :
1 - نهاية الوصول إلى علم الأُصول.
ومن المتوسّطات :
1 - تهذيب طريق الوصول إلى علم الأُصول.
ومن المختصرات :
1 - مبادي الوصول إلى علم الأُصول(1).
هذا وقد ألّف العلاّمة رحمه الله في جميع أنواع فنون العلوم من الحكمة العقلية ، إلى الفلسفة وعلم الكلام ، والمنطق والجدل ، وألّف في الردِّ على الخصوم والاحتجاج عليهم.
مشايخ وأساتذة العلاّمة الحلّي :
لقد كان العلاّمة الحلّي دؤوباً في طلب العلم من مظانّه ، وكان منفتحاً على علماء الإسلام جميعاً ، ولم يقتصر على علماء الإمامية فقط ، وإنّما نجد في سلسلة مشايخه وفي بعض إجازاته عدداً من علماء المذاهب الإسلامية من 1.
ص: 127
غير الشيعة.
وقائمة أسماء شيوخ العلاّمة وأساتذته طويلة لا يمكن استيعابها في هذا المختصر ، ويأتي على رأس هذه القائمة والده المعظّم «سديد الدين يوسف بن عليّ بن محمّد ، الذي كان عالماً فاضلاً فقيهاً متبحّراً ، وهو أُستاذ العلاّمة الأقدم .. والشخص الثاني الذي قرأ عليه هو المحقّق الحلّي ، وذكر الحرّ العاملي : أنّه قرأ على المحقّق الحلّي أكثر من غيره من الأساتذة الكبار الأماجد(1). كذلك من أساتذته نصير الدين الطوسي ، الذي قرأ عليه العلوم العقلية وإلهيّات الشفا لابن سينا .. وغير أُولئك الكثير من علماء ومشايخ عصره».
* وأمّا تلامذته والراوون عنه فهم أيضاً من الكثرة بمكان ، وتجد فيهم من أتباع المذاهب الأُخرى أيضاً. وعلى رأس تلامذته ولده فخر المحقّقين الذي ورث والده في العلم والعمل ، وترأّس المدرسة الحلّية بعد وفاة والده(2).
وبالجملة : فالعلاّمة الحلّي رحمه الله آية من آيات الله العلمية ، وشخصية فذّة ، يعجز الكاتب عن إحصاء فضائله(3). توفّي رحمة الله عليه في الحادي عشر من المحرّم سنة (726 ه) ونقل إلى النجف وقبره معروف في حرم أمير ).
ص: 128
المؤمنين عليه السلام.
ثالثاً : فخر المحقّقين ودوره في حوزة الحلّة :
من هو فخر المحقّقين؟ وما هو دوره في مدرسة الحلّة العلمية؟ إنّه : ابن الحسن بن يوسف الأسدي الحلّي المعروف بفخر المحقّقين (ت 771 ه) وَلَدِ العلاّمة الحلّي ، تصدَّر بعد والده للتدريس ، وتصدّى للتأليف ، وترأّس مدرسة الحلّة بعد وفاة والده.
ويكفيه ثناءً أن لُقِّب - وبجدارة واستحقاق ب- (فخر المحقّقين).
ولد سنة (682 ه) وكان من أبرز تلامذة والده وبلغ درجة الإجتهاد وهو في العاشرة من عمره(1) ، أثنى عليه والده في مقدّمة الكثير من كتبه العلمية وطلب منه إكمالها واصلاحها وتحقيقها(2) ونظرة واحدة تلقى على كتابه إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد الذي ألّفه بأمر والده العلاّمة ، تبيّن لنا عمق درجته العلمية ، ويعتبر كتاب إيضاح القواعد والرسالة الفخرية من أهمّ المراجع في الفقه الاستدلالي.
وقد عبّر الشيخ البهائي عن كتاب الإيضاح بأنّه «لا يوجد له نظير في الكتب الفقهية الاستدلالية»(3). 5.
ص: 129
«حضر الشهيد الأوّل درسه العالي ، وسجّل انطباعه عنه في بعض إجازاته بقوله : الشيخ الإمام ، سلطان العلماء ، ومنتهى الفضلاء والنبلاء ، خاتمة المجتهدين ، فخر الملّة والدين»(1).
ومن أهمّ آثاره الفقهية :
1 - إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد (قواعد الأحكام لوالده).
2 - حاشية الإرشاد إرشاد الأذهان لوالده.
3 - الرسالة الفخرية في معرفة النية.
ومن أهمّ آثاره الأُصولية :
1 - شرح مبادئ الأُصول مبادئ الأُصول لوالده.
2 - غاية السَؤُول في شرح تهذيب الأُصول تهذيب الأُصول لوالده.
وفاته ومدفنه :
توفّي فخر المحقّقين في ليلة 25 جمادى الثانية عام (771 ه) ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ولعلّه دفن قريباً من والده في أيوان الصحن الشريف الذهبي بجنب المنارة الشمالية(2).
رابعاً : المقداد السيوري ودوره في حوزة الحلّة :
هو : جمال الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله بن محمّد بن الحسين 9.
ص: 130
ابن محمّد الأسدي السيوري الحلّي المعروف ب- (الفاضل المقداد) (ت 826 ه).
«كان رحمه الله علماً من الأعلام ووجهاً من وجوه أصحابنا ، يرد إليه طلاّب العلم ، وروّاد الفضل ، فهو شيخ من المشايخ العظام ، واسطوانة في الفقه والكلام ، وقد تخرّج عليه جمع من الفقهاء وسمع منه كثير من مشايخ الإجازة»(1).
ومن أهمّ آثاره الفقهية :
1 - التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع.
ومختصر الشرائع هو المختصر النافع للمحقّق الحلّي ، نعته الخوانساري في روضات الجنّات بأنّه : «أمتن كتاب في الفقه الاستدلالي ، وأوزن خطاب ينتفع به الداني والعالي»(2).
2 - جامع الفوائد في تلخيص القواعد.
وهو اختصار لكتاب القواعد والفوائد لأستاذه الشهيد الأوّل.
3 - نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية.
4 - كنز العرفان في فقه القرآن.
ولم نعثر له - بما بين أيدينا من فهارس كتبه - على مؤلّفات في علم الأُصول. ه.
ص: 131
ومن أهمّ آثاره العلمية كتاباه التنقيح والكنز وهما من أُمّهات مراجع الفقه الإمامي ، ولكنّه اشتهر ب- الكنز.
وفاق الكنز في شهرته نظائره من كتب آيات الأحكام ، ويرجع هذا إلى ما امتاز به من سلامة في المنهج ، وحسن تبويب ، فقد رتّبه ترتيب أبواب الفقه ، درس في كلّ باب الآيات التي تخصّه ، دراسة فقهية استدلالية ، يعرض آراء المذاهب السنّية ، ويقارن ويوازن بينها وبين رأي المذهب الإمامي ، ثمّ يردّها ردّاً علميّاً بما يثبت صحّة ما يرتأيه في المسألة على هدي أصول المذهب»(1).
خامساً : ابن فهد الحلّي ، ودوره في حوزة الحلّة :
من هو ابن فهد الحلّي؟ إنّه : جمال السالكين أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الأسدي الحلّي المعروف ب- (ابن فهد الحلّي) (ت 841 ه).
وصف بأنّه : «جمع بين المعقول والمنقول ، والفروع والأُصول ... والعلم والعمل ، بأحسن ما كان يجمع ويكمل»(2).
وهو من أبرز تلامذة الفاضل المقداد.
ومن آثاره الفقهية :
1 - المهذّب البارع إلى شرح النافع.
وهو شرح لكتاب المختصر النافع للمحقّق الحلّي ، ويعدّ من مراجع 5.
ص: 132
الفقه الإمامي الاستدلالي ، نقل عنه الكثيرون ممّن جاؤوا بعد مؤلّفه.
2 - شرح الإرشاد (إرشاد الأذهان للعلاّمة الحلّي).
وأيضاً هو من المراجع في الفقه الإمامي الاستدلالي(1).
3 - الموجز الحاوي.
وهو من المتون الفقهية المراجع.
بالإضافة إلى الكتب الفقهية الأُخرى ، وهي ما بين شرح لمتن فقهيٍّ أو تأليف مستقلّ ، وابن فهد رضي الله عنه هو صاحب الكتاب القيّم عدّة الداعي ونجاح الساعي وهو من أشهر كتب الدعاء عند الشيعة.
سادساً : يحيى بن سعيد :
أبو زكريّا يحيى بن أحمد بن سعيد الهذلي (ابن عمّ المحقّق الحلّي) (ت 689 أو 690 ه).
ترجمه ابن داود في الرجال فقال : «شيخنا الإمام العلاّمة الورع القدوة ، كان جامعاً لفنون العلوم الأدبية والفقهية والأُصولية ..»(2).
أ - من أهمّ آثاره الفقهية :
1 - الجامع للشرائع.
2 - نزهة الناظر في الأشباه والنظائر.
ب - ومن آثاره العلمية في علم الأُصول :
1 - المدخل في أُصول الفقه. 2.
ص: 133
الفصل الثالث
التراث الفقهي والأُصولي لعلماء حوزة الحلّة العلمية
يعتبر دور علماء مدرسة الحلّة من الأدوار المهمّة في دنيا الاجتهاد وحركته التكاملية ، حيث نستطيع أن نلمس التطوّر الكبير في عدّة جوانب من هذه المدرسة سواء في شكل الإنتاج الفقهي ومضمونه ، أو في مستواه الكمّي والكيفي.
بل نلمس هذا التطوّر في الأسس والمباني الفقهية ، فضلاً عن المجالات والميادين المتنوّعة التي أخذ الفقه الشيعي باختراقها والدخول إليها من قبيل فقه الدولة الإسلامية ، والخراج والأرض ، وغيرها.
كما أنَّ الملاحظ في هذه المرحلة استقلال الفقه الشيعي عن محاكاة الفقه غير الشيعي الذي لاحظناه عند بعض علماء مدرسة بغداد.
المبحث الأوّل : خصائص التراث الفقهي والأُصولي لمدرسة الحلّة :
وفيما يلي تفصيل أهمِّ الخصائص التي ميّزت التراث الفقهي والأُصولي لمدرسة الحلّة :
ص: 134
أوّلاً : في مجال أُصول الفقه :
ممّا قام به الشيخ المحقّق الحلّي من دور في سبيل تطوير مسيرة الفقه الإمامي تأليفه لكتابين في أُصول الفقه وهما المعارج والنهج ؛ وذلك ليواصل تنمية الفكر الأُصولي ، وتجلية وتنقيح القواعد الأُصولية(1).
وهذا الاهتمام الجادُّ بعلم الأُصول أدّى إلى تنقيح مباحثه وإعادة النظر في تنظيمها ، والاستقلال في طرح المسائل الأُصولية ، بنحو مبتكر متميّز ؛ ليبتعد بذلك عن طريقة المحاكاة للمباحث الأُصولية عند العامّة.
وانعكس هذا الاهتمام على ميدان البحث والدرس الأُصولي ، إذ نجد العلاّمة الحلّي وهو من تلامذة المحقّق ألّف أكثر من مؤلَّف أُصولي وفي مستويات علمية مختلفة(2).
«وأثمر هذا الاهتمام بعلم اُصول الفقه نموّاً كمّياً ونوعيّاً في بحوث ومسائل هذا العلم ، حتّى تجلّي في توظيف علم الأُصول في مباحث الفقه الاستدلالي بشكل واضح ، كما أثمر تطوير بحوث الفقه المعاملي بشكل عام على أساس القواعد العلمية التي شيّدت في علم الأُصول»(3).
كذلك استطاع المحقّق ومن بعده العلاّمة من تطوير وبلورة المفاهيم والمصطلحات الأُصولية ، وإضافة أو توضيح بعض القواعد الأُصولية. 0.
ص: 135
«فمقارنة ما دوّنه المحقّق في معارج الأُصول وتلميذه العلاّمة الحلّي في نهاية الوصول إلى علم الأُصول مع ما دوّنه المرتضى والطوسي في الذريعة والعدّة تكفي لإبراز هذا المَعْلَم من معالم هذه المرحلة»(1).
وقد كانت كتب العلاّمة الأُصولية كلّها محور البحث والدرس والتعليق والشرح ، وقامت بدور كبير في نشر الفكر الأُصولي وتركيز قواعده والتربية على الاعتماد عليها في مجال الاستنباط والاستدلال(2).
ثانياً : علم الحديث/ دراية الحديث.
كان المذهب السائد في الدور الأوّل والثاني من أدوار تطوّر الاجتهاد هو القول : بعدم جواز العمل بخبر الواحد المظنون صدوره عن المعصوم ، وقد التزم بهذا المبنى الشيخ ابن إدريس «وقد سبقه إلى هذا كلّ من : ابن قبة ، والشريف المرتضى ، وابن البرّاج ، وأبي المكارم بن زهرة ، وأبي عليّ الطبرسي(3) وربّما نسب إلى المفيد ذلك ... بل وربّما نسب إلى الشيخ ... وكذا المحقّق ، بل إلى ابن بابويه»(4) إلاّ أنّه برز من العلماء من يقول بحجّية خبر الواحد الجامع لشرائط الحجّية ، وقد تنامى هذا الاتّجاه من حيث اتّساع 9.
ص: 136
دائرة القائلين به ، ومن حيث تنقيح وتنظيم البحوث المرتبطة بهذا الأصل المهمِّ جدّاً في عملية الاستنباط(1).
كذلك في هذه المرحلة التاريخية - أواسط القرن السابع الهجري - التي انتهى إليها الفكر الفقهي الإمامي حيث اختفت القرائن التي كان الفقهاء يقيّمون الحديث من خلالها ، من حيث القطع بصدوره ، وعدمه ، على هدى من معرفتهم لها.
هذه الأُمور وغيرها دعت إلى وضع منهج خاصّ لتقييم الأحاديث من حيث الإسناد ، فظهر عندنا ظاهرة (تربيع الحديث) أي التصنيف الرباعي للحديث ، حيث قسّم الحديث إلى أربعة أقسام :
1 - الصحيح. 2 - الحسن. 3 - الموثّق. 4 - الضعيف.
وقد اختلف مؤرّخو ذلك بين إسناد هذا التقسيم الرباعي للأخبار للسيّد : جمال الدين أبي الفضائل أحمد بن طاووس (ت 673 ه) أو إلى تلميذه العلاّمة الحلّي (ت 726 ه). غير أنّ الرأي المشهور إسناده للسيّد أحمد بن طاووس(2).
يقول السيّد الخوانساري في روضات الجنّات وهو يترجم للسيّد جمال الدين بن طاووس :
«... واخترع تنويع الأخبار إلى أقسامها الأربعة المشهورة ، بعدما كان 3.
ص: 137
المدار عندهم في الصحّة والضعف على القرائن الخارجية والداخلية لا غير ، ثمّ اقتفى أثره في ذلك تلميذه العلاّمة ، وسائر من تأخّر عنه من المجتهدين إلى أن زيد عليها في زمن المَجلسيَّين أقسام أُخر»(1).
ومهما يكن من أمر هذا التقسيم ، فإنّه من ابتكارات مدرسة الحلّة وحوزتها العلمية في هذه المرحلة من مراحل تطوّر الاجتهاد ، «وتعتبر هذه الظاهرة تطويراً ملموساً في ميدان أدوات وأُصول الاستنباط ، إذ تعبّر عن تنقيح الحديث وتنعكس على النتاج الفقهي بشكل مباشر ، كما انعكست على كتب الحديث من حيث تصنيف أحاديثها على أساس القيمة الفقهية لكلّ حديث من حيث درجة اعتباره ومدى إمكان الاعتماد عليه في مجال الاستنباط»(2).
ثالثاً : تدوين الحديث وعلم الرجال :
يعتبر علم الرجال - إلى جانب علم الدراية - من أهمِّ الأدوات العلمية للفقيه خلال ممارسة عملية الاستنباط والاستدلال الفقهي.
ومن أجلّ تمييز الأحاديث التي يستند إليها في الاستدلال الفقهي متناً وسنداً برزت الحاجة لهذين العِلْمين «الدراية والرجال». 3.
ص: 138
وقد مرّ بنا اهتمام الشيخ الطوسي بعلم الرجال وتأليفه لكتابه الرجالي المعروف رجال الطوسي ولكن كانت محاولة الشيخ رحمه الله محاولة تأسيسية في هذا الميدان الذي لم يسبقه أحد فيه. وجاء دور العلاّمة الحلّي رحمه الله لينهض بهذا الأمر وضمن عقلية منهجية منظّمة ، ومن أجل أن يحقّق هدف سلفه ، وهو وضع الهيكل العلمي المتكامل لتطوير الفكر الفقهي الإمامي ، وإعداد الوسائل الوافية للنهوض بعملية الاستنباط ، من خلال إعداد العدّة المتكاملة للمادّة الفقهية أقوالاً وأدلّة ، وطريقة استدلال.
وممّا ألّفه العلاّمة في علمي (الحديث والرجال) يدخل في هذا المجال التطويري لعملية الاجتهاد.
فبعد أن أَلَّفَ في علم الحديث مجموعة من المؤلّفات القيّمة والتي منها :
1 - كتاب استقصاء الاعتبار في تحقيق معاني الأخبار(1).
2 - كتاب مصابيح الأنوار في جمع جميع الأخبار.
3 - كتاب الدرّ والمرجان في الأحاديث الصحاح والحسان.
4 - كتاب النهج الوضاح في الأحاديث الصحاح.
بعدها عكف على تأليف الكتب الرجالية حيث لاحظ «وجود حاجة ماسّة لاستقراء رجال الحديث وفرز الثقات من غيرهم ، تسهيلاً لعملية ث.
ص: 139
الاستنباط ، كما لاحظ وجود أسماء مشتركة ، يبقى اشتراكها عقبة في طريق الاستنباط ، ومن هنا بدأت المحاولة الجادّة لتمييز الأسماء المشتركة التي تقع في طريق الأخبار ...»(1).
وقد تجلّى هذا الاهتمام في آثاره الرجالية من خلال :
1 - خلاصة الأقوال في معرفة أحوال الرجال.
«رتّبه على قسمين : الأوّل فيمن يعتمد عليه ، والثاني فيمن يتوقّف فيه»(2).
2 - كشف المقال في معرفة أحوال الرجال.
«وهو الرجال الكبير ، الذي يحيل إليه كثيراً في خلاصته ...».
3 - إيضاح الاشتباه في أسماء الرواة.
«في ضبط تراجم الرجال على ترتيب حروف أوائل الأسماء ببيان الحروف المركّبة منها أسماؤهم وأسماء آبائهم ، وبلادهم. وذكر حركات تلك الحروف»(3).
هذه أهمُّ الخصائص التي ميّزت تراث مدرسة الحلّة في مجال أُسُس الفقه الاجتهادي وأدواته. وكان لبعض فقهاء هذه المرحلة اهتمامات أُخرى بالعلوم والمعارف التي لها بعض المدخلية في بعض الأبواب الفقهية مثل : ر.
ص: 140
الرياضيّات ، وعلم الهيئة والفلك ، وعلم المنطق ، والفلسفة ، والكلام ، والنحو ، وغيرها من العلوم التي تخدم المادّة الفقهية. وهذا ما نجده واضحاً في الآثار العلمية للخواجة نصير الدين الطوسي ، والعلاّمة الحلّي ، وآل طاووس.
المبحث الثاني : الفقه والنشاط الفقهي الاجتهادي لحوزة الحلّة العلمية :
لقد شهد الفقه والنشاط الفقهي في هذا الدور تطوّراً ملحوظاً ، فاق التطوّر الذي حصل في المراحل السابقة من حيث الكمّ أو من حيث الكيف ، وهذا ما سوف نلاحظه في التراث الفقهي لمدرسة الحلّة العلمية إذ نلاحظ :
أوّلاً : الاستقلال وعدم المحاكاة :
لقد لاحظنا في المرحلة السابقة حالة المحاكاة التي ابتلي بها الفقه الشيعيّ من خلال مسايرته للفقه السنّي ، وهذه مسألة طبيعية في سياق البدايات ؛ حيث إنَّ بداية انطلاق الفقهاء نحو التوسّع في الفقه الاستدلالي والتفريعي ، ومحاولة إثبات سعة الفقه الشيعي ، بل تفوّقه على الفقه الآخر ، كانت بطبيعة الحال تعتمد على شيء من المحاكاة ، وخاصّة في عناوين المباحث وأدلّتها بما يتناسب مع الاتّجاه الأُصولي الشيعي.
والذي نلاحظه في هذه المرحلة وخاصّة في الفقه المدوّن للمحقّق والعلاّمة رحمهما الله هو رفع اليد عن حالة المحاكاة التي لاحظناها في
ص: 141
المرحلة السابقة.
وذلك «حينما أخذ الفقه الشيعيّ مساره الطبيعي وبدأ الفقهاء بتنقيح أُصول فقههم وأدوات استنباطهم ، فكان من الطبيعي أن تنعكس النظرة المستقلّة إلى الفقه الشيعيّ على النشاط الفقهي الشيعيّ أوّلاً ، وتنتهي هذه النظرة إلى اجتناب المحاكاة مهما أمكن ثانياً.
وهكذا بدأ النشاط الفقهي ينحو باتّجاه الاستقلال التامّ عن التأثّر بالفقه غير الشيعي ، وانتج هذا الاتّجاه فقهاً متميّزاً بأدواته ومناهجه ومصادره وعمليّات استنباطه ومدوّناته الفقهية مضموناً وشكلاً معاً»(1).
ثانياً : تطوّر في المنهج والعرض للبحوث الفقهية :
نلاحظ في هذه المرحلة تطوّراً ملموساً في حقل تنظيم ومنهجة عرض البحوث الفقهية «فتأليف المحقّق الحلّي لكتاب الشرائع حقّق به مرحلة مهمّة من مراحل التطوير في المتون الفقهية ، وبخاصّة عند مقارنته بكتاب النهاية للشيخ الطوسي ، حيث لم يلتزم في تأليفه ذكر متون الأحاديث وألفاظها ، ولأنّه أيضاً أكثر فيه من التفريع وذكر الأقوال والإشارة إلى نتائج الأدلّة ، ممّا جعله يستقطب اهتمام الدارسين والباحثين والمؤلّفين ؛ ... كذلك اختصاره للشرائع في كتابه الذي أسماه المختصر النافع.
«وبهذين الكتابين استطاع الشيخ المحقّق أن ينقل التأليف الفقهي من 4.
ص: 142
وضعه ومنهجه الذي كان عليه عند جماعة الفقهاء والمحدّثين ، حيث الالتزام بمتون الأحاديث وألفاظها ، إلى التأليف بالتعبير الحرّ»(1).
كذلك نلاحظ هذه المنهجية وجزالة الألفاظ في منهج العلاّمة الحلّي في كتاب التبصرة حيث اقتصر فيه على مجرّد الفتوى مع العرض الميسّر ، والأُسلوب السهل ، مراعاة لمستوى المتعلّمين حيث يبدأون به.
ثالثاً : ظهور الموسوعات الفقهية الاستدلالية :
وأثمرت هذه النظرة الاستقلالية للفقه ومستلزماته ظهور موسوعات فقهية استدلالية ضخمة أثْرَت الفقه الإمامي ، ونهضت بالفقه الاستدلالي إلى مرتبة عالية من حيث المستوى العلمي ، ومن حيث حجم البحوث الفقهية وتنوّعها واستيعابها ، إلى جانب التنقيح والتهذيب للمباحث الفقهية الموروثة.
ويلمس الباحث هذه الخصوصية في الموسوعات الفقهية التي دوّنها العلاّمة الحلّي رضي الله عنه من قبيل : المختلف ، والتذكرة ، والمنتهى وغيرها.
كما نلاحظ ذلك في الآثار العلمية لعلماء هذه المرحلة.
رابعاً : تطوّر الفقه المقارن :
وقد تطوّر في هذا الدور الفقه المقارن - الذي كانت بداياته مع إبداعات الشيخ الطوسي العلمية وكتابه القيّم الخلاف - تطوّراً ملحوظاً سواء من حيث كيفية العرض ، أو من حيث المحتوى العلمي والاستدلال. 7.
ص: 143
والمتتبّع للآثار العلمية لهذه المرحلة يجد في مجال الفقه المقارن عدّة مستويات من البحث المقارن ، كما هو واضح في آثار العلاّمة الحلّي أعلى الله مقامه.
فقد وضع قدس سره بين يدي العلماء والمحقّقين والمتطلّعين إلى سموِّ مرتبة الاجتهاد المطلق مجموعة فقهية متكاملة في الفقه المقارن ، منها :
1 - كتاب مختلف الشيعة إلى أحكام الشريعة :
وعرَّفه في كتابه الخلاصة بقوله «ذكرنا فيه خلاف علمائنا خاصّة وحجّة كلّ شخص والترجيح لما نصير إليه» وقد أوضح قدس سره الغرض من كتابه ، وما دعاه إلى تأليفه(1).
2 - كتاب تذكرة الفقهاء :
قال قدس سره في خطبة الكتاب مبيّنا موضوعه والغاية من تأليفه : «قد عزمنا في هذا الكتاب الموسوم ب- (تذكرة الفقهاء على تلخيص فتاوى العلماء) ، وذكر قواعد الفقهاء ، ... وأشرنا بكلّ مسألة إلى الخلاف ، واعتمدنا في المحاكمة بينهم طريق الإنصاف»(2).
وتسميته ب- تذكرة الفقهاء يشير إلى هذا ، ذلك أنّ التذكرة عند القدامى تعني الكتاب الذي يحتوي ما يحتاجه العالم في مجال تخصّصه.
فهو قدس سره أراد أن يضع بين يدي الفقهاء من الإمامية ما يحتاجون إلى ب.
ص: 144
معرفته من أقوال غير الشيعة في المسائل الخلافية ، وأدلّة تلك الأقوال ، وطريقة المناقشة للأقوال ومحاكمة الأدلّة»(1). ولهذا يعدّ من كتب الفقه الخلافي.
3 - كتاب - منتهى المطلب في تحقيق المذهب :
عرّفه في كتاب خلاصة الأقوال بقوله : «ذكرنا فيه جميع مذاهب المسلمين في الفقه ، ورجّحنا ما نعتقده بعد إبطال حجج من خالفنا فيه»(2).
«وهذا يعني أنّ الكتاب من كتب الفقه المقارن : هدف المؤلّف من تأليفه أن يكون رائد الباحث الإمامي معرفة الحقّ في المسألة الفقهية ، وهذا لا يتأتّى إلاّ بوضع كتاب في الفقه المقارن»(3).
والذي يبدو أنَّ السبب في بروز كتب الفقه المقارن في هذه المرحلة هو البعد النسبي عن عصر النصّ وامتداد عصر الغيبة الكبرى ، حيث ظهرت الاختلافات بين علماء الشيعة في حدود الأدلّة وخاصّة الروائية منها ، والتي يستند إليها في الاستنباط الفقهي من حيث دلالتها وسندها ، كذلك بروز مسائل وحالات مستحدثة تستوجب الإجابة عنها على ضوء القواعد العامّة ، فمن الطبيعي أن يبادر العلماء من أمثال العلاّمة رضي الله عنه إلى إغناء مجال البحث والاستنباط الفقهي بمثل هذه المؤلّفات القيّمة. 2.
ص: 145
وظاهرة بروز أبحاث الفقه المقارن في الفقه الإمامي من الظواهر الإيجابية جدّاً الدالّة على تقدّم وسموّ الفقه الإمامي نفسه ، حيث نلاحظ ذلك جليّاً في المراحل اللاحقة.
ولم تتوقّف عملية التأليف في الفقه المقارن عند حدود تأليفات العلاّمة الحلّي رضي الله عنه وإنّما سار على نفس الطريق من بعده ، جملة من الأعلام ، حيث جاء بعد العلاّمة المحقّق الآبي ، وفخر المحقّقين - ولد العلاّمة - فنقلوا الفقه المقارن نقلة متميّزة فقارنوا بين آراء علماء الشيعة وأعملوا فيها النقد والإبرام مكان آراء علماء السنّة(1).
خامساً : تدوين القواعد الفقهية :
لم تشهد المراحل السابقة أي مؤلّف مستقلّ في موضوع (القواعد الفقهية) وإنّما كانت هذه القواعد مبثوثة في ضمن المباحث الفقهية.
ولهذه القواعد الفقهية أهمّيتها في عالم الاستنباط وممارسة الاستدلال الفقهي الاجتهادي ، حيث يستند إليها في كثير من أبواب ومباحث الفقه ، مثل ، قاعدة الطهارة ، والحلّية ، والتجاوز ، والفراغ ، كذلك قاعدة اليد ، والملكية .. وغيرها الكثير من هذه القواعد(2).
وأوّل مؤلّف في موضوع «القواعد الفقهية» عند الإمامية هو كتاب ي.
ص: 146
القواعد والفوائد للشهيد الأوّل(1) حيث احتوى الكتاب على ما يقرب من ثلاثمائة وثلاثين قاعدة إضافة إلى فوائد تقرب من مائة فائدة عدا التنبيهات والفروع ، وهي جميعاً قد استوعبت أكثر المسائل الشرعية.
«ومنهج المصنّف في هذا الكتاب هو : أنّه يورد القاعدة أو الفائدة ثمّ يبيّن ما يندرج تحتها من فروع فقهية وما قد يرد عليها من استثناءات إن كان هناك استثناء لها ...»(2).
ومن بعد الشهيد الأوّل واصل تلميذه «الفاضل المقداد السيوري» (ت 826 ه) طريق استاذه في التأليف والترتيب والتنسيق للقواعد الفقهية ، ومن آثاره في هذا المجال :
1 - جامع الفوائد في تلخيص القواعد.
وهو اختصار لكتاب القواعد والفوائد لأُستاذه الشهيد الأوّل(3).
2 - نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية.
عرّفه الخوانساري في الروضات بقوله : «وهو كتاب بديع رتّب فيه قواعد شيخه الشهيد على ترتيب أبواب الفقه والأُصول من غير زيادة شيء على أصل ذلك الكتاب ، غير ما رسمه في مسألة القسمة منه»(4). 4.
ص: 147
وظاهرة تدوين القواعد الفقهية وإفرادها بالتصنيف بعد استخراجها من بطون المباحث الفقهية من الظواهر المتقدّمة في حقل النشاط الفقهي.
سادساً : تطوّر بحوث الفقه المعاملي :
من خلال التطوّر الكبير الذي حظي به علم الأُصول في هذه المرحلة ، إلى جانب تدوين القواعد الفقهية ، فقد توسّعت الأبحاث الفقهية في مجال المعاملات وتطوّرت تطوّراً ملموساً في هذه المرحلة ، وشهد الفقه المعاملي توسّعاً في أبحاثه ، وعمقاً علميّاً مبتنياً على القواعد والأُصول الاستدلالية في عملية الاجتهاد والاستدلال الفقهي.
أمّا في العبادات فحيث إنَّ العبادات توقيفية من جميع الجهات ، مواقيتها وعددها ، وأجزائها وشروطها ، وكيفية امتثالها ، فقد لوحظ في تشريعها وفقهها ما يطرأ من تغيّرات وتقلّبات على المكلّف من حيث المكان والظروف والإمكانات ووضعت الصيغ الفقهية المناسبة لكلِّ حالة من حالات الضرورة والطوارئ ، حسب ما تقتضيه الأدلّة الشرعية الواردة في باب العبادات. ولهذا لم يحصل ذلك التطوّر أو التغيّر في قسم العبادات من أبواب الفقه.
فالعبادات ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل ، ولا مجال فيها للاجتهاد من حيث شروطها ومواقيتها وكيفيّتها وإعدادها ، وما فيها من خلافات بين الفقهاء لا يتعدّى تفصيلات بعض الشروط والهيئات والأجزاء.
«وأمّا المعاملات - بالمعنى الأوسع - فإنّها تشريعات متقلّبة متغيّرة لا
ص: 148
تستقرُّ على هيئة واحدة ، وخاصّة ما يتعلّق من ذلك بالنواحي التنظيمية للمجتمع ، وكافّة انشطته السياسية والاقتصادية والزراعية والصناعية ... وما يتّصل بالثروات العامّة ... وغيرها»(1).
ومن جهة أُخرى فإنَّ مبدأ - التعبّد الشرعي - المقتضي للجمود على النصّ ، معلوم الثبوت في باب العبادات فقط ، وأمّا في أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ ، فإنّ «التعبّد الشرعي» غير معلوم الثبوت.
ولهذا شهد تطوّراً وتوسّعاً في أبحاثه في هذا المجال ، ونظرة تأمّلية لقسم المعاملات من كتاب الشرائع للمحقّق ، أو الكتب الفقهية الموسوعية للعلاّمة ، تعطينا فكرة جيّدة عن سعة هذا التوسّع وعمقه الفقهي والاستدلالي.
سابعاً : تطوّر وعمق الفقه الاستدلالي :
لقد بلغ الفقه الاستدلالي قمّة ذروته العلمية في هذه المرحلة ، وذلك من خلال ما حقّقه المحقّق الحلّي ، والعلاّمة ، وفخر المحقّقين ، حيث جسّدت آثارهم الفقهية الاستدلالية العمق والدقّة والابتعاد الكامل عن منهج الفقه غير الإمامي(2).
ومن الآثار العلمية المهمّة في مجال الفقه الاستدلالي في هذه المرحلة :
1 - تأليف المحقّق الحلّي لكتاب المعتبر الذي يعدّ ثاني كتاب استدلالي بعد كتاب المبسوط للشيخ الطوسي ، ذلك أنّ كتاب السرائر للشيخ ابن إدريس ).
ص: 149
يقع بين الكتاب الاستدلالي والكتاب الفتوائي(1).
وأبان المحقّق الحلّي في مستهلّ كتابه ، غايته من تأليفه ، وعن منهجه في تأليفه ، فقال : «أحببت أن أكتب دستوراً يجمع أصول المسائل وأوائل الدلائل ، أذكر فيه خلاف الأعيان من فقهائنا ومعقد الفضلاء من علمائنا ، وألحق بكلّ مسألة من الفروع ما يمكن إثباته بالحجّة ، وسياقته إلى المحجّة ...»(2).
ثمّ قدّم المحقّق ضمن مقدّمته لكتاب المعتبر مقدّمة في فصول ، ضمّن الفصل الأوّل منها وصيّته وتعليماته لمن يريد أن يتعامل مع كتابه هذا ، وكأنّه رحمه الله كان مدركاً لما قد يتعرّض له كتابه هذا من مواقف سلبيه من قبل جماعة الفقهاء المُحدِثين والمتردّدين بين الإقدام والإحجام نحو هذا التطوير في منهج البحث الفقهي ، وكذلك ما سوف يواجهه من قبل المقلّدة ، الذين جمّدوا ذهنيّاتهم الفقهية عن التفكير بقيمة التطوير في المنهج الفقهي(3).
2 - وواصل العلاّمة الحلّي رحمه الله نفس المنهج الاستدلالي في الفقه من خلال آثاره العلمية والتي من أهمّها في هذا المجال كتاب التذكرة ، والمختلف والمنتهى ... ، حيث تطوّر في عصره الفقه الاستدلالي ، ثمّ سما إلى ذروته العلمية من خلال جهود المحقّق الكركي والمقدّس الأردبيلي وتلامذتهم في 8.
ص: 150
حوزة النجف الأشرف في دورها الثاني.
ويعتبر الكتاب الفقهي جامع المقاصد الذي شرح فيه المحقّق الكركي قواعد العلاّمة الحلّي من أمّهات الكتب المراجع في الفقه الاستدلالي.
ثامناً : التقسيم الرباعي لأبواب الفقه :
ممّا امتاز به المحقّق الحلّي رضي الله عنه هو منهجته العلمية الفذّة ، وظهرت آثار هذه المنهجية في كتبه وآثاره العلمية ، وخاصّة كتابه المعروف باسم شرائع الإسلام حيث امتاز هذا الكتاب ، بالأُسلوب السَلِس ، والعبارة المشرقة ، والمنهجية الفذّة في البحث ، والموضوعية في العرض ، فهو كما يقول صاحب الذريعة عنه «من أحسن المتون الفقهية ترتيباً ، وأجمعها للفروع ...»(1).
ومن أهمِّ ما يمكن أن نلاحظه في كتاب الشرائع هو المنهجية الجديدة التي اتّبعها المحقّق الحلّي في تقسيم أبواب الفقه حيث قسّمها إلى أقسام أربعة : عبادات ، وعقود ، وإيقاعات ، وأحكام ، ثمّ تقسيم كلّ واحد منها ، إلى مجموعة من الكتب ، بحيث تشترك المجموعة الواحدة بقاسم مشترك أعظم ، يقسّم أجزاء ذلك القسم.
ومن جهة ثالثة : فإنّ الكتاب الواحد ، هو الآخر أيضاً ، غالباً ما يوزّع على شكل أركان ، أو فصول أو مقدّمات ، أو أطراف أو نظرات. 8.
ص: 151
ثمّ إنّه بعد هذا كلّه ، التزم بقاعدة معيّنة في ترتيب الأحكام ، حيث ابتدأ بالواجب في كلّ قسم ، وأتبعه بالندب ، وبعده بالمكروه ، وأخيراً بالمحرّم إن وجد(1).
وهذه المنهجية في الواقع تطوير جديد في التدوين الفقهي الذي سار عليه الفقهاء ممّن سبق المحقّق في تأليف المتون الفقهية.
فعندما نلاحظ تقسيمات الفقهاء لفروع علم الفقه وأبوابه نجد مثلاً :
القاضي ابن البرّاج (ت 481 ه) قد قسّم الأحكام الشرعية في المهذّب(2) إلى قسمين :
1 - ما هو مورد ابتلاء. 2 - ما ليس مورد ابتلاء.
وقسّم أبو الصلاح الحلبي (ت 447 ه) الأحكام الشرعية إلى ثلاثة أقسام(3) :
1 - العبادات. 2 - المحرّمات. 3 - الأحكام.
وفي تقريب المعارف قَسَّمَ التكاليف الشرعية إلى قسمين :
1 - الأفعال. 2 - التروك.
إمّا سلاّر بن عبد العزيز الديلمي (ت 448 ه) فقد قسّم الفقه إلى قسمين : 9.
ص: 152
1 - عبادات. 2 - ومعاملات.
ثمّ قسّم المعاملات إلى قسمين :
1 - عقود. 2 - وأحكام.
وقسّم الأحكام إلى : الأحكام الجزائية وسائر الأحكام(1).
وهكذا سار كلّ فقيه على الطريقة والمنهج الذي يراه مناسباً لعرض الموضوعات الفقهية. فموضوع العبادات وعددها في الكتب الفقهية نجدها تختلف من فقيه إلى آخر سعة أو ضيقاً. فقد عدّ الشيخ الطوسي ، وابن زهرة أقسام العبادات خمسة(2) ، وأمّا سلاّر فقد عدّها في مراسمه ستّة(3) ، وأبو صلاح الحلبي وابن حمزة عشرة(4) ويحيى بن سعيد عدّها خمسة وأربعين(5).
وعلى إثْر ذلك ألّف المحقّق الحلّي كتابه القيّم شرائع الإسلام فقسَّم أبواب الفقه إلى أربعة أقسام :
1 - العبادات. 2 - العقود. 3 - الإيقاعات. 4 - الأحكام.
وتلقّى الفقهاء هذا التقسيم الرباعي لأبواب الفقه بالقبول ، وساروا على نفس المنهج والتقسيم ، كما نلاحظ ذلك في منهج العلاّمة ، والشهيدين ، وغيرهم ممّن جاء بعد المحقّق الحلّي. ر.
ص: 153
أمّا التوجيه العلمي لهذا التقسيم الذي تبنّاه المحقّق ، ووجّه حصر الفقه بهذه الأبواب الأربعة ، فقد وجّه ذلك الشهيد الأوّل في قواعده بما يلي :
«ووجه الحصر : أنّ الحكم الشرعي إمّا أن تكون غايته الآخرة ، أو الغرض الأهمّ منه الدنيا ، والأوّل : العبادات. والثاني : إمّا أن يحتاج إلى عبارة ، أو لا. والثاني : الأحكام. والثاني : إمّا أن تكون العبارة من اثنين - تحقيقاً أو تقديراً - أو لا. والأوّل : العقود ، والثاني : الإيقاعات»(1).
وقد تطوّرت هذه التقسيمات بعد المحقّق الحلّي وخاصّة في المدوّنات الفقهية الحديثة(2) ولكن تبقى الريادة والإبداع للمحقّق الحلّي رحمه الله.
الفصل الرابع
الملامح العامّة لمدرسة الحلّة العلمية
المبحث الأوّل : الدور السياسي لحوزة الحلّة العلمية :
لقد عاصرت حوزة الحلّة العلمية ، أحداثاً سياسية هامّة ، شهدها العالم الإسلامي ، وكانت لها تأثيراتها الكبرى في رسم الخارطة السياسية ، وعلى شبكة العلاقات والولاء والانتماء السياسي للدول التي كانت الدولة العبّاسية 2.
ص: 154
تحكمها مباشرة ؛ أو تبسط بعض نفوذها عليها.
وكان لحوزة الحلّة العلمية وفقهائها وعلمائها دورهم الفاعل والمؤثّر في سير هذه الأحداث وتوجيهها ، من خلال جملة من المواقف التي يمكن تلخيص بعض مفرداتها بما يلي :
أوّلاً : إنشاء الإمارة المزيدية :
لقد تحدّثنا سابقاً عن ظهور الدولة المزيدية في أطراف الحلّة ، ثمّ تأسيسهم لمدينة الحلّة عام (495 ه) على يد سيف الدولة صدقة بن بهاء الدولة المزيدي والذي «يعدّ أكبر حكّام هذه الإمارة ، وقد أخضع المناطق الجنوبية العراقية لسيطرته ، وبلغ تأثير نفوذه على عاصمة الخلافة بغداد نفسها»(1).
لقد فرضت إمارة بني مزيد الشيعية نفسها على الواقع السياسي الحاكم آنذاك ، وأوّل من اعترف بوجودها في المنطقة هم البويهيّون الذين كانت بيدهم مقاليد الأُمور في الدولة العبّاسية ، ثمّ بلغت الإمارة المزيدية أوج استقلالها الكامل في عهد قوّة الدولة السلجوقية .. متّخذين من مدينة الحلّة عاصمة لإمارتهم.
وكانت هذه الإمارة الشيعية تحضى برعاية الفقهاء والعلماء والأسر العلمية الذين تتلمذ بعضهم على يد فقهاء حوزة النجف في دورها الأوّل ، 3.
ص: 155
والتي بدورها قد رفدت حوزة الحلّة حيث انتقل قسم من فقهائها إليها ، ونقلوا أفكارهم معهم .. ثمّ النموّ المتزايد لنفوذ الأُسر التي سكنت الحلّة ؛ أنتج فقهاء كانوا حلقة الوصل بين المدرستين(1) (النجفية والحلّية).
ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى أُسرة (آل نما) العلمية ، والتي عاصر بعض فقهائها ظهور الإمارة المزيدية وما تلاها من أزمنة ، حيث يستظهر صاحب الروضات أن يكون جدُّ هذه الأُسرة الكريمة (نما بن عليّ الربعي) قد عاصر عهد أبي عليّ الحسن بن الشيخ الطوسي ، ويروي عنه مباشرة(2).
ومن علماء هذه الأُسرة الشيخ أبو البقاء هبة الله بن نما بن عليّ بن حمدون الربعي الحلّي ، وهو يروي بالإجازة عن الحسين بن أحمد بن طحال المقدادي (أحد علماء النجف) بتاريخ (520 ه) فيقول في سند روايته : «.. حدّثني الشيخ العالم أبو عبد الله الحسين بن طحال المقدادي المجاور بالحائر ، قراءة عليه بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام سنة عشرين وخمسمائة ، قال : حدّثنا الشيخ المفيد أبو عليّ الحسن بن محمّد الطوسي ..»(3)
وهناك أسماء لامعة أُخرى من هذه الأُسرة كان لها دورها في هذه الحقبة ، بالإضافة إلى أُسر علمية أُخرى كأُسرة آل بطريق ، وأُسرة النقيب 0.
ص: 156
العلوي أُسامة الذي ولّي النقابة العلوية في الحلّة سنة (452 ه)(1). وأُسرة آل طاووس ، وهم سادة نقباء فقهاء .. وأوّل من تولّى النقابة منهم جدّهم أبو عبد الله محمّد الملقّب بالطاووس في منطقة (سُورا) ، وهي من المناطق التابعة لمدينة الحلّة(2).
ثانياً : حفظ الحلّة والمشهدين من الغزو المغولي :
لقد عاصرت الحوزة العلمية في الحلّة في بدايات ظهورها العلمي الدولة البويهية حتّى سقوطها بيد السلاجقة (447 ه) ، ثمّ عاصرت الدولة السلجوقية إلى حين انحلالها وسقوطها عام (575 ه) ، وسايرت الدولة العبّاسية التي استعادت بعض نفوذها الذي فقدته في فترة حكم البويهيّين والسلاجقة والتي تمتدّ خلال النصف الأوّل من القرن السابع الهجري والتي حكم فيها آخر أربعة من خلفاء بني العبّاس ، وهم على التوالي :
1 - الناصر لدين الله الذي توفّي عام (622 ه) ، وكانت خلافته ستّاً وأربعين سنة وعشرة أشهر(3).
2 - الظاهر بأمر الله ، الذي توفّي عام (623 ه) ، فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوماً(4). 6.
ص: 157
3 - المستنصر بأمر الله ، الذي توفّي عام (640 ه)(1).
4 - المستعصم بالله ، الذي قتل على يد هولاكو عام (656 ه).
وبالغزو المغولي للعراق عام (656 ه) سقطت الدولة العبّاسية ، ووجد فقهاء الشيعة أنفسهم أمام تجربة جديدة لم تتح لهم من قبل ، وذلك بفضل الظروف الجديدة التي عصفت بعد سقوط الدولة العبّاسية ..(2) ، ووجدوا أنَّ الخطر محدق بهم وبمدينتهم الحلّة وما جاورها من المدن التي لها قدسيتها ومكانتها الدينية ككربلاء والنجف والكوفة ، فما كان منهم إلاّ المبادرة بالقيام بخطوة سياسية لدرء الخطر عنهم كما في رواية العلاّمة الحلّي التي يقول فيها : «ولمّا وصل هولاكو إلى بغداد ، قبل أن يفتحها ، هرب أكثر أهل الحلّة إلى البطائح ، ولم يبق منها إلاّ قليل ، فكان من أُولئك القليل والدي يوسف بن المطهّر ، والسيّد مجد الدين بن طاووس ، والفقيه ابن أبي العزّ ، فأجمع رأيهم على مكاتبة هولاكو بأنّهم مطيعون ، وأنفذوا به شخصاً أعجميّاً ، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً مع شخصين .. وقال هولاكو لهما قولا لهم : «إن كانت قلوبكم كما وردت كتبكم تحضرون إلينا «، فجاء الأميران ، فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي إليه الحال ، فقال والدي : إن جئت وحدي كفى؟ فقالا : نعم ، فأُصعد معهما ، فلمّا حضر بين يدي السلطان - وكان ذلك قبل فتح بغداد - فقال هولاكو : كيف قدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما يؤول 5.
ص: 158
إليه أمري وأمر صاحبكم؟ وكيف تأمنون إذا صالحني ورجعت عنه؟ فقال والدي : إنّما أقدمنا على ذلك لما رويناه عن عليّ عليه السلام في خطبته الزوراء ، قال : وما أدراك ما الزوراء؟ أرض ذات أثل ، يشتدّ فيها البنيان ، ويكثر فيها السكّان ، ويكون فيها مهازم .. فعند ذلك الغمّ العميم والبكاء الطويل لأهل الزوراء من سطوات الترك ، وهم قوم صغار الحدق ، وجوههم كالمجان المطرقة ، لباسهم الحديد ، جرد مرد ، يقدمهم ملك جهوريُّ الصوت ، قويُّ القلب ، عالي الهمّة ، لا يمرّ بمدينة إلاّ فتحها ، ولا ترفع عليه راية إلاّ نكسها ، الويل لمن ناواه ، فلا يزال كذلك حتّى يظفر». فلمّا وصف لنا ذلك وجدنا الصفات فيكم ، رجوناك فقصدناك.
فطيّب هولاكو قلوبهم ، وكتب لأهل الحلّة فرماناً بإسم والدي يطيّب فيه قلوب أهل الحلّة وأعمالها. وكان ذلك سبب سلامة أهل الحلّة والكوفة والمشهدين من القتل»(1) وفي بعض المرويّات التاريخية تذكر وفود بعض العلويّين والفقهاء يصحبهم مجد الدين ابن طاووس العلوي. ويمكن أن يكون هذا الوفد قد وفد على هولاكو بعد مقابلة يوسف بن المطهّر - والد العلاّمة الحلّي - له.
ومهما يكن من أمر ؛ فقد استطاع فقهاء الحلّة وعلماؤها أن يدفعوا الخطر المحدق بالمنطقة من خلال هذا التدبير السياسي الذي ينسجم مع 9.
ص: 159
الظروف الموضوعية الحاكمة وروح السياسة في وقتهم ، كما يقول مؤرّخ الحلّة المتتبّع الشيخ يوسف كركوش.
ثالثاً : صدور فتوى تفضيل الكافر العادل ، على المسلم الظالم :
وهذه أيضاً من القضايا السياسية التي كان لعلماء الحلّة دور بارز فيها ، وخلاصة هذه الفتوى الشهيرة كما يذكرها المؤرّخون كما يلي : «عندما فتح السلطان هولاكو خان بغداد عام (656 ه) أمر أن يستفتى العلماء أيّهما أفضل : السلطان الكافر العادل ، أم السلطان المسلم الجائر؟! ثمّ جمع العلماء في المدرسة المستنصرية ، فلمّا وقفوا على الفُتيا أحجموا عن الجواب. وكان رضيّ الدين عليّ ابن طاووس حاضراً ، وكان مقدّماً محترماً ، فلمّا رأى إحجامهم تناول الفتيا ، ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر ، فوضع الناس خطوطهم بعده»(1).
واستطاعت هذه الفتوى من العالم العلوي الحلّي من آل طاووس أن تحفظ البقية الباقية من علماء بغداد ومن مدرّسي وأساتذة المدرسة المستنصرية ، وهي فتوى شرعية لها مستندها العقلي عند العلماء.
رابعاً : المساهمة في الأُمور العامّة للدولة :
لم يكن موقف علماء الحلّة من العهد الجديد الذي تشكّل بعد الفتح المغولي لبغداد وسقوط الدولة العبّاسية ، بالموقف السلبي والرافض لكلّ 7.
ص: 160
أشكال المشاركة في أُمورها العامّة ، وإنّما اتّسمت مواقفهم بالحكمة وبعد النظر ، ولهذا تجدهم قد شاركوا في بعض الأُمور الاجتماعية والإدارية والتي تصبّ في الصالح العامّ والمنافع المشتركة للأُمّة ؛ ومن هذه الأُمور :
1 - تولّي النقابة العامّة :
وهو منصب شريف تولاّه والد الشريفين الرضيّين ، ثمّ ولداه الرضي والمرتضى ثمّ أولادهما وأحفادهما .. ، إلاّ أنّ هذا المنصب قد تجنّبه فقهاء الشيعة بعد سقوط الدولة البويهية ومجيء السلاجقة ، إذ أنّهم «لم ينفتحوا على مراكز الدولة ، ولم يورّطوا أنفسهم بالدخول في مسالكها ، وقد رفض بعضهم تقلّد المناصب التي تقلّدها فقهاؤهم في زمن الدولة البويهية ، كمنصب نقابة الطالبيّين .. وقد تغيّر موقف الفقهاء في النصف الثاني من القرن السابع الهجري بعد الغزو المغولي للعراق عام (656 ه) ، وسقوط الخلافة العبّاسية ، ووجد الفقهاء أنفسهم أمام تجربة جديدة لم تتح لهم من قبل .. حتّى قَبِل رضيّ الدين عليّ بن موسى بن طاووس تولّي منصب نقابة الطالبيّين سنة (661 ه) ، وكان قد رفضه مرّات عديدة نهاية العصر العبّاسي»(1).
كذلك تولّى ابن أخيه مجد الدين بن عزّ الدين نقابة البلاد الفراتية .. وهو الذي خرج إلى هولاكو ، وصنّف له كتاب البشارة وسلّم الحلّة والكوفة والمشهدين الشريفين من القتل والنهب ، وردّ إليه النقابة بالبلاد الفراتية وحكم5.
ص: 161
في ذلك قليلاً ثمّ مات(1).
2 - تولّي القضاء :
كذلك نجد هنالك من تولّى القضاء وفضَّ الخصومات في تلك الظروف التي كثرت فيها الدعوى القضائية ، حيث تولّى القضاء تاج الدين محمّد بن محفوظ الحلّي(2).
3 - تولّي الوزارة :
فقد تولّى ابن العلقمي محمّد بن أحمد مؤيّد الدين الأسدي ، الوزارة في الدولة التي تشكّلت بعد سقوط بغداد ، إلاّ أنّه سرعان ما توفّي في سنة (656 ه) فأمر هولاكو أن يكون ولده عزّ الدين مكانه .. وابن العلقمي من علماء وفقهاء الحلّة ، يصفه ابن الفوطي في كتابه تلخيص مجمع الآداب بقوله : «ابن العلقمي الأسدي الفقيه الوزير من بيت السؤدد والفضل .. كان كاتباً كاملاً فصيح الإنشاء كثير المحفوظ .. قرأ على الصنعاني ، دواوين العرب ، واشتغل بالفقه على الشيخ نجيب الدين بن نما الحلّي ..»(3).
4 - أسلمة الدولة المغولية ودور علماء الحلّة في ذلك :
من أهمِّ الأحداث السياسية المذهبية التي ارتبطت بمدرسة الحلّة وحوزتها العلمية قصّة تشيّع سلطان المغول اولجاتيو المعروف بمحمّد 2.
ص: 162
خدابنده (ت 716 ه) ثمَّ إعلانه التشيّع كمذهب رسمي للدولة المغولية ، وكان السبب الرئيسي في هذا الإعلان هو العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر ، وهو من كبار علماء مدرسة الحلّة ، وكان له دور فاعل وبارز فيها ، بالإضافة إلى صلته بالسياسيّين المغول ، وبالشخصيّات الحاكمة آنذاك(1) ، والتي نتج عنها تشيّع سلطان المغول ، وإعلان التشيّع مذهباً رسميّاً في الدولة الإيلخانية.
ولقد سبق السلطان خدابنده أخوه السلطان محمود غازان (ت 703 ه) الذي أصدر عند تولّيه الحكم عام (694 ه) مرسوماً ينصُّ على أنّ الإسلام هو الدين الرسمي لدولة المغول في إيران حيث ارتبطت أسلمة الدولة باسمه .. وتميّزت سنىِّ حكمه بتقرّبه إلى التشيّع سواءً في إيران أم العراق .. فقام بجولات في زيارة مراقد الأئمّة في النجف وكربلاء .. وأنشأ دوراً للسادة في مدينة تبريز .. كما أنّه زار مدينة الحلّة وأمر للعلويّين بمال كثير ، وأشار إلى حفر نهر بأعلى المدينة سُمّي بالنهر (الغازاني) يصل إلى مشهد الحسين في مدينة كربلاء ..»(2).
وقد اختلفت كلمات المؤرّخين في تفسير ظاهرة ميوله الشيعية التي لم يعلن عنها رسميّاً في البلاد المغولية(3) حتّى وفاته. 4.
ص: 163
إلاّ أنّ السلطان خدابنده الذي تسلّم الحكم في (702 ه) تمكّن من إعلان التشيّع رسميّاً في أرجاء الدولة المغولية.
وقد اختلفت كلمات المؤرّخين في سبب هذا الإعلان ، وأخذ بعضهم يفسّر هذه الظاهرة بطريقته في تفسير أحداث التاريخ.
إلاّ أنّ كلمات جميع المؤرّخين كادت أن تتّفق على تشيّع السلطان خدابنده كان بتأثير ابن المطهّر المعروف بالعلاّمة.
يقول الرحّالة ابن بطّوطة (ت 779 ه) في رحلته المشهورة باسمه : «كان ملك العراق محمّد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمّى جمال الدين ابن المطهّر ، فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه ، فزيّن له مذهب الروافض وفضّله على غيره وشرح له حال الصحابة والخلافة ، وقرّر لديه أنّ أبا بكر وعمر كانا وزيرين لرسول الله ، وأنّ عليّاً ابن عمه وصهره فهو وارث الخلافة ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض ، وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربيجان وإصفهان وكرمان وخراسان ، وبعث الرسل إلى البلاد ...»(1). ثمّ يتحدّث عن ردود الأفعال التي أحدثها هذا القرار في البلدان الإسلامية التي وصلتها رسل السلطان خدابنده.
إلاّ أنّ قضية أسلمة الدولة المغولية لم تكن بهذه البساطة التي ذكرها ابن 0.
ص: 164
بطّوطة وسار عليها بعض المؤرّخين المتعصّبين ، وإنّما هنالك جهود علمية كبيرة ومضنية بذلها العلاّمة الحلّي ؛ سبقت هذا الإعلان المدوّي في العالم الإسلامي «والأحداث التاريخية والمؤشّرات تؤكّدان على تأثير العلاّمة المباشر على سير المجريات الثقافية في عهدي السلطانين محمود غازان ، ومحمّد خدابنده ، وظهور تأثيره الفاعل في إعلان تشيّع الدولة المغولية رسميّاً على يد خدابنده»(1).
إنَّ النصوص التاريخية قد لا تمدّنا بمعلومات وافية عن جوهر العلاقة بين العلاّمة الحلّي والسلطان المغولي ، وإنّما تناقل أصحابها بعض القصص التي يمكن فهم طبيعة هذه العلاقة من خلالها(2).
«إلاّ أنّ طبيعة الأحداث تؤكّد على وجود صلة بين العلاّمة وخدابنده أوائل تسلّمه السلطة ، ربّما امتدّت إلى فترة ما قبل تسلّمه مقاليد الحكم أيضاً.
وكذلك يظهر - ومن خلال النصوص - ما للعلاّمة من تأثير ثقافي كبير على السلطان خدابنده في مرحلة ما بعد تسلّمه الحكم ، فقد أشرف على إعداده علميّاً ، وألّف له الكتب والرسائل في العقائد ، والأُصول ، والفقه ، وعلم الكلام ، كما دأب على تدريسه بنفسه.
وكان للحماس المذهبي الذي يتميّز به هذا السلطان ، والخطوات التي اتّخذها مباشرة بعد تسلّمه زمام الحكم في عقد الحوارات بين علماء 9.
ص: 165
المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، دليل على أنّ هذا السلطان كان قد نشأ ، وهو متشبّع بعقائد التشيّع ، ومبادر بالدعوة إليها»(1).
ومهما يكن من أمر في أسباب تشيّع سلطان المغول خدابنده ، وما رافقها من أحداث سواء كانت نتيجة لخلاف مذهبي بين أتباع بعض المذاهب أو كانت نتيجة مناظرات مذهبية بين بعض العلماء الشافعية والعلاّمة الحلّي ، أو أنّها حصلت بشكل عفويٍّ في قصّة طلاق السلطان المذكور لزوجته ، ثمّ ندمه على ذلك ...(2) فإنَّ إعلان إسلام وتشيّع الدولة المغولية يعدّ من الأحداث التاريخية والسياسية والمذهبية المهمّة ، وكان لها صدى واسع في العالم الإسلامي آنذاك ، وأحدثت ردود أفعال متفاوتة في حينها(3).
المبحث الثاني : العلاّمة نصير الدين الطوسي ودوره المتميز في الحوزة العلمية في الحلّة :
اقترن اسم الفيلسوف الإسلامي نصير الدين الطوسي بمرحلة ازدهار الحوزة العلمية في الحلّة ، وكان له تأثيره الواضح في مناهجها العقلية والكلامية من خلال بعض تلامذته النابغين ، وكذلك كان له عناية خاصّة 7.
ص: 166
بمناحي العلم وأحوال العلماء عامّة ، وحوزة الحلّة وعلمائها خاصّة ، حيث حظيت برعايته ودعمه.
كذلك اقترن اسم هذا العالم بحادث الغزو المغولي لبغداد وسقوط الدولة العبّاسية بأيديهم ، حيث اصطحبه قائد المغول هولاكو خان معه في هذه الحملة وعند فتحه لبغداد ، ممّا عرّضه لسيل من الاتّهامات والملاحظات السلبية من قبل خصومه ومن بعض المؤرّخين لهذه الحقبة الحسّاسة من تاريخ الإسلام.
فمن هو نصير الدين الطوسي؟ وما هو دوره وتأثيره في الحادثين؟
لنصير الدين الطوسي ترجمة واسعة ومطوّلة في كتب التراجم ، وكتبت عنه دراسات وبحوث مفصّلة ، وتناولته بالبحث مؤلّفات وأُطروحات جامعية أكاديمية ، واهتمّ بترجمته المستشرقون وكتّاب دوائر المعارف ، وعلماء الفلك ، والمتكلّمون والفلاسفة .. ؛ ولا يمكن لنا أن نستوعب ما كتب عنه في هذا المختصر ؛ وإنّما سنحاول أن نعطي بعض الملامح المهمّة عن شخصيته ، وبما يرتبط بموضوع بحثنا عن الحوزة العلمية في الحلّة ، ونترك التفاصيل الأُخرى إلى كتب التراجم والسِّير.
ترجم لنصير الدين الطوسي صاحب الأعلام فقال : النصير الطوسي (597 - 672 ه- = 1201 - 1274 م) محمّد بن محمّد بن الحسن ، أبو جعفر ، نصير الدين الطوسي ؛ فيلسوف ، كان رأساً في العلوم العقلية ، علاّمة بالأرصاد والمجسطي والرياضيّات ، علت منزلته عند «هولاكو» فكان يطيعه فيما يشير
ص: 167
به عليه. ولد بطوس (قرب نيسابور) وابتنى بمراغة قبةً ورصداً عظيماً ، واتّخذ خزانة ملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة ، اجتمع فيها نحو أربعمائة ألف مجلّد ، وقرّر منجّمين لرصد الكواكب ، وجعل لهم أوقافاً تقوم بمعاشهم ، وكان «هولاكو» يمدّه بالأموال ، وصنّف كتباً جليلة ، منها ...»(1) وذكر قائمة مطوّلة لأسماء كتبه ، سوف تأتي الإشارة إليها لاحقاً.
وذكر له الصفدي في الوافي ترجمة مطوّلة جاء فيها : «الخواجا نصير الدين الطوسي .. الفيلسوف ، صاحب العلوم الرياضية والرصد ، كان رأساً في علم الأوائل لا سيّما في الأرصاد والمجسطي ، فإنّه فاق الكبار ، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو .. وكان حسن الصورة ، سمحاً كريماً جواداً حليماً ، حسن العشرة غزير الفضائل جليل القدر ، داهية ... ودفع عن الناس أذاهم ، وعن بعضهم إزهاق أرواحهم ، ومن حلمه ما وقفت له على ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما فيها يقول : «يا كلب يا ابن الكلب» فكان الجواب : وأمّا قولك كذا فليس بصحيح لأنّ الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار ، وأنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك ، فهذه الفصول والخواصّ غير تلك الفصول والخواصّ ، وأطال في نقض ما قاله برطوبة وتأنٍّ ، غير منزعج ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.
.. وولاّه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده وكان له في كلّ بلد 0.
ص: 168
نائب يستغلّ الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمله إليه ليصرفه في جامكيّات المقيمين بالرصد ، ولما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد ، وكان للمسلمين به نفع خصوصاً الشيعة والعلويّين والحكماء وغيرهم ، وكان يبرّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم ، وكان مع هذا كلّه فيه تواضع وحسن ملتقى ، ... وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدّة أشهر ومات .. وقد نيف على الثمانين أو قاربها ، وشيّعه صاحب الديوان والكبار وكانت جنازته حافلة ، ودفن في مشهد الكاظم»(1).
وتعتبر المرحلة الزمنية التي عاش فيها نصير الدين الطوسي ، والأدوار المتباينة التي قام بأدائها ، من أدقّ وأعقد الحقب الزمنية التي عاشتها الأُمّة الإسلامية آنذاك ، إذ شهد العالم الإسلامي سقوط الدولتين الإسماعيلية والعبّاسية على يد المغول بقيادة هولاكو ، واقترن اسم نصير الدين الطوسي بكلا الحادثين ، إذ «كان من المتنفّذين في الدولة الأُولى ، ووزيراً لعب دوراً فاعلاً على أنقاض الدولة الثانية في ظلّ الحكم الجديد»(2).
* محطّات في حياة نصير الدين الطوسي :
أوّلاً : من طوس إلى نيسابور :
ولد الطوسي نصير الدين في طوس سنة (597 ه) على قول أغلب 3.
ص: 169
المؤلّفين ، وتلقّى دراسته الأُولى في مسقط رأسه ، كما درس الحديث والأخبار على والده الذي كان من الفقهاء والمحدّثين ، كما أنّه درس الفقه والمنطق والحكمة على خاله ، بالإضافة إلى دراسته للحساب والهندسة والجبر .. وكان لا يزال في مطلع شبابه.
ثمّ رحل إلى نيسابور التي كانت في ذلك العهد مجمع العلماء ومنتجع الطلاّب فحضر حلقات دروس أكابر علمائها .. فقضى فيها فترة ظهر فيها نبوغه وتفوّقه وصار فيها من المبرّزين المشار إليهم بالبنان.
ثانياً : من نيسابور إلى قلاع الإسماعيلية :
وفي خلال وجوده في نيسابور زحف المغول زحفهم الأوّل بقيادة جنكيز خان حاملين معهم الدمار والموت ، فاجتاحوا فيما اجتاحوا بلاد خراسان وانهزم إمامهم السلطان محمّد خوارزم شاه وانهارت بعده كلّ مقاومة وتساقطت المدن واحدة بعد الأُخرى .. والقوّة الوحيدة التي حيل بينها وبين المغول ، هي قلاع الإسماعيليّين ، حيث صمدت هذه القلاع سنوات ولم تستسلم ، بينما كانت باقي مدن خراسان ومنها نيسابور قد عادت يباباً في أيدي المغول.
وخلال هذه الفترة العصيبة التي كان فيها الشيخ الطوسي (نصير الدين) حائراً لا يدري أين يلجأ ولا بمن يحتمي ، .. جاءته دعوة من المحتشم ناصر الدين عبد الرحيم متولّي قهستان والسلطة على قلاع الإسماعيلية في خراسان ... وكانت له عناية بالعلماء والفضلاء .. فقبل الطوسي دعوته وسافر
ص: 170
إلى قهستان .. فاستقبل هناك بإجلال.
وخلال فترة مكوثه في قهستان ترجم للفارسية كتاب ابن مسكويه (تطهير الأعراق) وزاد عليه مطالب جديدة وسمّاه (أخلاق ناصري)(1) ناسباً إيّاهُ إلى مضيفه ناصر الدين ، كما ألّف (الرسالة المعينية) في علم الهيئة ، وغيرها من الكتب الأُخرى.
ولم يطل المقام كثيراً بنصير الدين الطوسي في قهستان ، إذ سرعان ما طلب علاء الدين محمّد زعيم الإسماعيليّين من واليه ناصر الدين نزول الطوسي عنده ، فمضى ناصر الدين مصطحباً معه الطوسي إلى زعيمه علاء الدين في قلعة (ميمون دز) فاستقبله الزعيم الإسماعيلي استقبالاً يتّفق ومنزلته واستبقاه لديه معزّزاً مكرّماً.
وظلّ الطوسي في قلعة آلموت مع علاء الدين محمّد ، ثمّ مع ولده ركن الدين حتّى استسلام ركن الدين للمغول في حملتهم الثانية(2).
وقد اختلفت آراء الباحثين حول اتّصال نصير الدين بالإسماعيليّين.
فذهب أغلب الكتّاب الإسماعيليّين إلى (إسماعيلية النصير) فإنّ ذهابه إلى قلاع الإسماعيلية باختياره ، وبقاءه تلك المدّة الطويلة التي نافت على ربع قرن من الزمن ، والمناصب التي تقلّدها في الدولة الإسماعيلية النزارية حيث عهد إليه وظيفة استشارية لا تقلّ عن رتبة (الوزراء) ثمّ اتّخذ وزيراً ، ثمّ أُنيط ).
ص: 171
به مهمّة داعي الدعاة. بالإضافة إلى مكوّناته الفكرية التي تأثّر فيها بفكر الإسماعيلي ابن سينا (المتأثّر بفكر إخوان الصفا) .. كلّ هذه الأُمور ، بالإضافة إلى مكوثه الطويل مع الإسماعيلية وعدم ذهابه إلى المركز الشيعي المزدهر بمدينة الحلّة على يد الفقهاء الإماميّين الكبار في هذه الرحلة ...(1) ، تؤشّر إلى إسماعيلية النصير بحسب زعمهم.
أمّا المصادر الإثنا عشرية فقد أكّدت أنّه تتلمذ على أبيه محمّد بن الحسن الطوسي تلميذ فضل الله الراوندي ، والراوندي هو تلميذ السيّد المرتضى ، وشيخ الطائفة الطوسي ، وهذا يعني أنّه درس على سلسلة علماء تشبّعوا بالفكر الإمامي الإثنى عشري(2).
وبهذا أبعدت عنه كونه تأثّر بالفكر الإسماعيلي ، بل وسلخت عنه كلُّ ما يمتّ نسبته إلى الإسماعيلية ، وفسّرت دعوة حاكم قهستان له .. للاستفادة منه»(3).
وفي بعض المرويّات أنّ نصير الدين الطوسي اختطف من قبل فدائي الإسماعيليّين وحمل إلى قلعة (آلموت) قسراً ، وأنّه كان يعيش سنواته شبه أسير أو سجين. وفي رواية أُخرى أنّ الطوسي نصير الدين ذهب إلى 5.
ص: 172
الإسماعيليّين مختاراً ، وخلال مكوثه هناك حدث ما عكّر صفو آرائهم فنقم عليه ناصر الدين واعتبره سجيناً ، ثمّ أرغمه على مصاحبته إلى (ميون دز) حيث عاش سجيناً لا يبرح مكانه ...(1).
إلاّ أنّ هذه المرويّات وغيرها ، والتي تحاول أن توجد تفسيراً معقولاً لعلاقة نصير الدين بالإسماعيلية ، لا يمكن تقبّلها والإعتماد عليها إذ ليس لها ما يؤيّدها سوى بعض الكلمات التي تُتَصيَّد من بعض المؤلّفات التي كتبها نصير الدين خلال هذه الفترة والتي يصف فيها حالاته النفسية والمرارة وكدورة الأحوال التي يعيش فيها ، كما جاء في آخر كتاب شرح الإشارات(2).
وهي عبارات اعتاد الكتّاب على إدراجها في كتبهم ، ولا تصلح أن تكون مؤيّداً.
«فالتفسير الإثني عشري الذي جعل نصير الدين أسيراً للاسماعيليّين طيلة ثمان وعشرين عاماً ، وهي المدّة التي قضاها في قلاعهم ، لا يصمد أمام الوضع الفكري الذي عاشه نصير الدين هناك من خلال المؤلّفات التي كتبها والمناصب التي تقلّدها في ظلِّ هذه الدولة»(3).
ثالثاً : من قلاع الإسماعيلية إلى بغداد :
بدأ الغزو المغولي الثاني بقيادة هولاكو خان حفيد جنكيز خان ، ولم 3.
ص: 173
تستطع قلاع الإسماعيلية أن تصمد هذه المرّة كما صمدت في السابق .. فأيقن ركن الدين خورشاه آخر أُمراء الإسماعيلية بعدم جدوى الدفاع فجرت مفاوضات بينه وبين هولاكو انتهت باستسلام خورشاه سنة (654 ه) ونزوله من قلعة آلموت التي كانت ملاذاً لهم على امتداد قرنين من الزمن ، وانتهى عهد الإسماعيلية في إيران بعد مائة وسبع وسبعين سنة امتدّت (من سنة 477 ه- إلى سنة 654 ه).
وقد رافق خورشاه في نزوله الخواجه نصير الدين الطوسي ، والوزير مؤيّد الدين ، وأبناؤه ، والطبيبان رئيس الدولة ومؤيّد الدولة ، فصدر الأمر من هولاكو بقتل الجميع باستثناء الخواجه نصير الدين ، والطبيبان موفق الدولة ، ورئيس الدولة ، إذ طرق سمعه فضل الخواجه وكماله .. واستبان له صدق رئيس الدولة وموفّق الدولة وحسن نيّتهما .. فقد جعل هؤلاء جميعهم في كابه وضمّهم إلى بطانته»(1).
وهكذا وجد نصير الدين نفسه في ركاب هولاكو خان مرغماً على ذلك ، ليسير معه باتّجاه بغداد سنة (656 ه) حيث أحاطت جنود المغول ببغداد من كلّ جانب فلم تصمد كثيراً أمام الضربات المغولية العاتية ، فسقطت بغداد وسقطت معها الخلافة العبّاسية ، وقتل آخر خليفة من بني العبّاس (المستعصم بالله) بعد أن استسلم لهولاكو مع أولاده وحاشيته وبطانته ، وبعد 0.
ص: 174
أن أذلّه هولاكو وجرّده من أمواله ، ومن كلّ «ما كان الخلفاء جمعوه خلال خمسة قرون ، وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل»(1) وحصل في بغداد من المجازر الشنيعة ما عجز المؤرّخون عن وصفها بدقّة(2).
كلّ هذه الأحداث الدامية المذهلة جرت في بغداد ولا أحد يجرؤ على وقف حمّام الدم في عاصمة الخلافة ، إلاّ رجل واحد استطاع بحنكته ودهائه وحسن تدبيره أن ينقذ الموقف وهو الأسير في قبضة هولاكو ولا يملك لنفسه الخيار ، وذلك هو نصير الدين محمّد بن محمّد الطوسي ، «فعزم منذ الساعة الأُولى أن يستغلّ هذا الموقف لانقاذ ما يمكن انقاذه من التراث الإسلامي المهدّد بالزوال ، وأن يحول دون اكتمال الكارثة النازلة والبلاء المنصبّ ، وقد استطاع بحنكته أن ينفّذ خطّته بحزم وتضحية وإصرار. وقد بلغ من إحكام أمره وترسيخ منهجه أنّ الدولة التي أقبلت بجيوشها الجرّارة لتهدّم الإسلام وتقضي على حضارته ، انتهى أمرها بعد حين إلى أن تعتنق هي نفسها الإسلام ويصبح خلفاء جنكيز وهولاكو الملوك المسلمين»(3).
* من نشاطات ومنجزات نصير الدين الثقافية والعامّة :
لقد كانت مهمّة نصير الدين الطوسي في بغداد بعد احتلالها مهمّة صعبة 5.
ص: 175
ومعقّدة للغاية ، فهو من جانب كان عليه أن يؤدّي دوراً علميّاً وإداريّاً في الدولة المغولية ، ومن جانب آخر أن يسعى لحفظ البقية من العلماء والأُدباء والمفكّرين ، ومن جهة ثالثة أن يسخّر العقول العلمية لنهضة علمية وثقافية جديدة ، ومن جهة رابعة - وهي الأهمّ - أن يخطّط لمستقبل الدولة المغولية ليحوّلها من دولة غزو وقتل و .. إلى دولة حضارية وغزو حضاريّ وثقافيّ.
والذي يبدو ومن خلال استعراض منجزات ونشاطات نصير الدين الطوسي في ظلّ الدولة المغولية أنّ الرجل كان يتمتّع بعقل إداريٍّ منظّم وخلاّق فاستطاع ومن خلال منصبه كوزير لولد هولاكو (اباقا خان) والذي امتدّ لتسع سنوات (663 - 672 ه) أن يحقّق بعض الإنجازات المهمّة والتي يمكن تلخيصها بما يلي :
1 - تنظيم موارد الدولة المالية والإشراف على الأوقاف الإسلامية ، والتصرّف بمواردها.
2 - تأسيس أكاديمية علمية ، وإنشاء جامعة شاملة متخصّصة بالعلوم الفلكية والرصد.
3 - إقامة أعظم مرصد عُرف في الشرق بمدينة مراغة.
4 - تشييد مكتبة حفلت بالكتب الثمينة ، والمخطوطات التي جلبت إليها من الأقطار الأُخرى.
5 - إرجاع العقول التي هاجرت بعد الغزو المغولي ، والإستفادة العلمية منها في أُمور مرصد مراغة ، وتشكيل لجان عُليا تُشرف على سير الثقافة في
ص: 176
البلاد(1).
هذه شذرات إجمالية من المنجزات العامّة لنصير الدين الطوسي ، لا يمكننا الدخول في تفاصيلها في هذا المختصر.
* دور نصير الدين الطوسي في المؤسّسة الدينية الشيعية :
وأمّا الجانب الآخر الذي اقترن اسم نصير الدين الطوسي به فهو دوره في حوزة التشيّع التي كانت مزدهرة آنذاك في مدينة الحلّة ، فهو دور كبير تجلّى في كونه يعدّ من أساتذة كبار علمائها من جهة ، وله بصماته الواضحة في مناهجها العقلية والفلسفة والكلامية من جهة ثانية ، وله الدور الأساسي في مشاركة علماء الحلّة وحوزتها في الحياة السياسية وأحداثها آنذاك من جهة ثالثة.
وفيما يلي إجمال لهذه المنجزات وضمن نقاط محدّدة :
1 - تربية وتعليم وإعداد العلماء والفضلاء :
وقد أخذ العلم والمعرفة عن نصير الدين جماعة من العلماء ، منهم : السيّد عبد الكريم بن أحمد بن طاووس الحلّي ، وقطب الدين محمّد بن مسعود الشيرازي ، وشهاب الدين أبو بكر الكازروني ، وأبو الحسن عليّ بن عمر القزويني الكاتبي ، والحسن بن يوسف المعروف بالعلاّمة الحلّي ، والحسن بن عليّ بن داود صاحب الرجال ، وعبد الرزّاق ابن الفوطي ، 0.
ص: 177
وغيرهم(1).
ويعتبر العلاّمة الحلّي من أبرز تلامذة نصير الدين ، حيث زار الطوسي الحلّة كما سوف يأتينا وأعجب بنبوغ العلاّمة الذي كان آنذاك في الرابعة عشرة من عمره ، فاهتمّ به ، وصحبه معه ، «وقد نقل أنّ نصير الدين قد سأل العلاّمة - وهو معه في طريقه من الحلّة إلى بغداد - عن اثنتي عشرة مسألة من مشكلات العلوم إحداها انتقاض حدود الدلالات بعضها ببعض ..»(2). فأجاب عنها وقد وصف العلاّمة الحلّي أُستاذه نصير الدين بقوله : «أُستاذ البشر ، والعقل الحادي عشر» ، وكذلك يصفه بقوله : «كان هذا الشيخ أفضل أهل زمانه في العلوم العقلية والنقلية ، وله مصنّفات كثيرة في العلوم الحكمية ، والأحكام الشرعية على مذهب الإمامية»(3) ، ورغم أنَّ المصادر التاريخية لا تمدّنا بكثير من المعلومات عن الفترة التي قضاها العلاّمة الحلّي مع أُستاذه نصير الدين ، إلاّ أنّ بعض الباحثين يستظهر أنّ صحبة العلاّمة مع نصير الدين امتدّت عقداً كاملاً ، أو سنوات متقطّعة حتّى وفاته سنة (672 ه).
فيقول هذا الباحث : «وعندما زار نصير الدين مدينة الحلّة عام (662 ه) ، اصطحب العلاّمة الحلّي معه إلى مراغة ، واختصّه بالتدريس هناك. 2.
ص: 178
وبالرّغم أنّ المصادر التاريخية ... لم تشر إلى وجود العلاّمة في مراغة ، إلاّ أنّ العلاّمة نفسه أشار إلى تتلمذه على يد نصير الدين الطوسي ، ونجم الدين عليّ بن عمر الشافعي (الكاتبي) دون أن يذكر المكان الذي تتلمذ فيه عليهما»(1) ، ومن المعروف أنّ (الكاتبي) من علماء مرصد مراغة وبقي فيها حتّى عام (670 ه)(2) ، فقد يستفاد من هذه أنّ تتلمذ العلاّمة عليه كان في مراغة وعند مرصدها ومكتبتها ، ويستفاد من عبارة الصفدي في تاريخه حيث يقول : «.. وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه وأقام بها مدّة أشهر ومات»(3). وإنّ العلاّمة الحلّي قد عاد مع أُستاذه من مراغة إلى بغداد ، وبقي فيها حيث كان يعقد أُستاذه حلقات التدريس في بغداد طوال المدّة التي بقي فيها حتّى وفاته(4).
2 - إضافة العلوم العقلية والفلسفية والكلامية إلى منهج الدراسة في حوزة الحلّة :
لقد كان نصير الدين الطوسي من كبار فلاسفة عصره ، ومن أكبر المتأثّرين بالفيلسوف الإسلامي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا (370 - 428 ه) ويعتبر الشارح المتمكّن لفلسفته ، وأكبر الفلاسفة المشتغلين بالعلوم e.
ص: 179
العقلية بعده(1).
وكان العلاّمة الحلّي - كما أسلفنا - من أبرز تلامذة نصير كذلك درس عند جملة من علماء مراغة وفلاسفتها دروس الفلسفة وشروح المنطق والميتافيزيقا ، والعلوم الطبيعية بالإضافة إلى العلوم الرياضية والفلكية ..(2).
ومن أهمّ المؤلّفات التي ألّفها نصير الدين كتاب اشتهر بعنوان تجريد الاعتقاد وهو عبارة عن مقرّر لدراسة علم الكلام على أساس فلسفي في الجامعة التي أسّسها في مراغة ؛ وقد مزج الطوسي - في كتابه هذا - الفلسفة لأوّل مرّة في الإسلام بعلم الكلام مزجاً تامّاً بحيث صارا شيئاً واحداً»(3).
ولتجريد الاعتقاد شروح متعدّدة من أهمّها شرح تلميذه العلاّمة الحلّي الذي سمّاه كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد وهو من أهمّ شروح الكتاب ، بل قد تفوق أهمّيته ، أهمّية الكتاب نفسه(4).
وقد استطاع العلاّمة أن يسرّب تركة أُستاذه نصير الدين الفلسفية إلى فكر مدرسة الحلّة من خلال شرحه لكتابه تجريد الاعتقاد وما زال الكتاب إلى اليوم كتاباً دراسيّاً في المراكز الدينية كالنجف ، وقم ، لطلاّب الفلسفة وعلم 7.
ص: 180
الكلام(1).
3 - تعيين رواتب دائمة لطلاّب المدارس والمعاهد العلمية :
لقد كان لنصير الدين الطوسي مواقف مشرّفة اتّجاه علماء عصره ، فهو الذي استطاع أن ينقذ الكثير منهم من سيوف المغول ، وأوجد لهم فرصاً علمية في مجالات اختصاصهم بالإضافة إلى توفير مستلزمات الحياة الكريمة لهم ، «بعد أن تكلّف بأحوال الفقهاء ، والمدرّسين ، والصوفية في بغداد ، إلى حين وفاته ، كما يخبرنا معاصره ابن الفوطي ، ويؤيّده ابن العبري»(2).
إلاّ أنّ نصير الدين - ولنزعته الفلسفية والكلامية - نجده يقدّم الفلاسفة والأطبّاء والحكماء على أهل الفقه والحديث ، وذلك عندما وضع نظام المكافآت المالية. يقول ابن كثير في البداية والنهاية : «عمل الخواجه نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ، ونقل إليه شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد ، وعمل دار حكمة ورتّب فيها فلاسفة ، ورتّب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم ، ودار طبّ فيها للطبيب في اليوم درهمان ، ومدرسة لكلّ فقيه في اليوم درهم ، ودار حديث لكلّ محدّث نصف درهم في اليوم ، لذلك أقبل الناس على معاهد الفلسفة والطبّ أكثر من إقبالهم على معاهد الفقه والحديث ، بينما كانت تلك العلوم من قبل تدرس سرّاً»(3).7.
ص: 181
وكان لنصير الدين قدرة مالية كبيرة من خلال تولّيه لجميع الأوقاف في سائر البلاد ، «وكان له في كلّ بلد نائب يستغلّ الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمله إليه ليصرفه في (جامكيّات) المقيمين بالرصد .. وكان للمسلمين به نفع خصوصاً الشيعة والعلويّين والحكماء وغيرهم»(1).
والذي يظهر من بعض النصوص التاريخية أنّ أباقاخان الذي تصدّى للحكم بعد وفاة أبيه هولاكو - وبنصيحة أسداها إليه الخواجه الطوسي(2) - قدّم العون المالي بشكل سخيٍّ ومتكرّر لحوالي مائة تلميذ كانوا طلبة لنصير الدين ، واستناداً إلى أبي الفرج ، فإنّ نصير الدين قد أجرى الرواتب للأساتذة والتلاميذ الذين كانوا معه ، والراجح أنّ ذلك كان من أموال الوقف»(3).
4 - رعاية الحوزة العلمية وتفقّد أحوالها :
لم يُصَنَّف نصير الدين الطوسي في سلك الفقهاء ، ولم يشتهر في طبقات فقهاء الشيعة كفقيه من فقهائها ، أو كزعيم من زعماء حوزتها العلمية ؛ إذ كانت الحوزة العلمية الشيعية في زمانه تتمثّل في حوزة الحلّة التي كان يرأسها آنذاك المحقِّق الحلّي أبو القاسم جعفر بن الحسن.
إلاّ أنّ شخصية نصير الدين الفلسفية والعلمية ووجوده في قلب السلطة المغولية ، جعلتا منه معلّماً بارزاً من معالم تحوّل مؤسّسة الفقهاء ذات المباني 2.
ص: 182
العلمية إلى مؤسّسة تركّزت في قلب السياسة والأحداث»(1). وأنّ هذه المسؤوليّات الجسام لم تمنعه من متابعة أوضاع الحوزة العلمية في حاضرتها العلمية الحلّة ، والجلوس إلى علمائها والاستماع منهم ، واكتشاف الطاقات والمواهب العلمية النابغة بين الدارسين منهم ؛ وهذا ما قام به في زيارته «لمدينة الحلّة سنة (662 ه) عندما كان مشرفاً على متابعة تنظيم الموارد المالية للدولة المغولية ، وشؤون الأوقاف في البلاد ، ففوجىء بوجود نهضة دينية متقدّمة فيها ، ويبدو أنّ هذه هي الزيارة الأُولى التي يلتقي فيها نصير الدين بالفقهاء الشيعة»(2).
وقد عبّر نصير الدين عن إعجابه بالنهضة العلمية القائمة بالحلّة ، وأشاد بما شاهده فيها ، «ولمّا سئل بعد زيارته عمّا شاهده فيها قال : رأيت خرّيتاً ماهراً وعالماً إذا جاهد فاق» ، عني بالخرّيت المحقّق الحلّي ، وبالعالم العلاّمة الحلّي الذي كان في الرابعة عشرة من عمره آنذاك(3).
وقد حضر الخواجه نصير الدين درس المحقّق الحلّي ، فكان البحث في القبلة ، في استحباب التياسر قليلاً لأهل الشرق من أهل العراق عن السمت الذي يتوجّهون إليه ، فاعترض الطوسي أنّ التياسر إمّا إلى القبلة فيكون واجباً لا مستحبّاً ، وإمّا عنها فيكون حراماً ، فأجاب المحقّق في 5.
ص: 183
الدرس ، بأنّ الإنحراف منها إليها .. ثمّ إنّ المحقّق الحلّي عمل في ذلك رسالة ، وأرسلها إلى الطوسي فاستحسنها ، وقد أورد الرسالة ابن فهد في المهذّب البارع بتمامها»(1).
وممّا يذكر في سفرة العلاّمة نصير الدين إلى الحلّة ما ذكره العلاّمة الحلّي في «الإجازة لبني زهرة» قال : «أنفذ هولاكو الخواجه نصير الدين الطوسي إلى الحلّة ، فاجتمع عنده فقهاؤها ، فأشار إلى المحقّق جعفر بن الحسن بن سعيد ، وسأل : من أعلم هذه الجامعة بالأُصولين؟ فأشار إلى والدي سديد الدين ، وإلى الفقيه مفيد الدين محمّد بن جهيم ؛ فقال : هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام وأُصول الفقه ، فتكدّر ابن عمّه يحيى بن سعيد وكتب إليه : كيف ذكرت ابن المطهّر وابن جهيم ، ولم تذكرني؟ فكتب له في الجواب : ربّما سألك الخواجه مسألة فوقفت وحصل لنا حياء»(2).
* التراث العلمي لنصير الدين الطوسي :
خلّف الخواجه نصير الدين الطوسي تراثاً فكريّاً ضخماً كتبه في المراحل المختلفة من رحلته العلمية ، منها ما كتبها في ظلّ الإسماعيليّين عندما كان في قلاعهم «وتتلخّص برسائل صغيرة أشبه ما تكون بالكتب التعليمية الدراسية ..»(3).3.
ص: 184
وقد سلك في كتبه الأخلاقية مسلكاً فلسفيّاً لا يخرج عن المسلك الفلسفي للفارابي ، وابن سينا ، وابن مسكويه ، ولا يدلاّن دلالة قاطعة على إسماعيلية النصير - كما يدّعي ذلك بعض كتّاب الإسماعيلية - وإن وضعا وصمّما من أجل التعليم الإسماعيلي ، وبناءً لأمر إسماعيلي ، في بيئة إسماعيلية(1).
وأمّا مؤلّفاته الأُخرى والتي كتبها بعد مغادرته لقلاع الإسماعيلية ، فهي قائمة طويلة شملت أكثر علوم عصره ، إذ كان متبحّراً في أكثر تلك العلوم ، كما أنّها كتبت باللغتين العربية والفارسية ، ويبدو أنّه كان ملمّاً باللغة التركية أيضاً.
وهنالك فهارس متعدّدة لآثار الخواجه نصير الدين ، وكلّ من ترجم له اكتفى بذكر بعض مؤلّفاته ، أو ما هو مشهور من مؤلّفاته وآثاره.
يقول أحد الباحثين : «إنّ أفضل وأتمّ فهرس لآثار الخواجه هو الفهرس الذي نقله المؤرّخان القريبان من عصره : محمّد بن شاكر بن أحمد الكتبي المتوفّى سنة (764 ه) في كتابه فوات الوفيات ، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفّى أيضاً سنة (764 ه) في كتابه الوافي بالوفيات. ومن الثابت أنّ مصدر الاثنين في هذا الفهرس واحد ، فلا يلحظ اختلاف كبير فيه ، ويحتمل أنّهما أخذاه من شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي المتوفّى سنة 9.
ص: 185
(748 ه). مع هذا فإنّ الفهارس المذكورة ناقصة ، إذ سقط منها كثير من آثار الطوسي المهمّة التي لا شكّ في إسنادها إليه ولم يرد لها ذكر»(1).
وفي العصر الحديث وضع كلٌّ من بروكلمان ، وجورج سارتن فهارس متعدّدة لكتب الخواجه ؛ الأوّل منها فيه أسماء ستّة وخمسون كتاباً ، والثاني أربعة وستّون كتاباً ؛ وتوسّع الدكتور عبد الأمير الأعسم أكثر ، فقدّم قائمة بمؤلّفات نصير الدين تجاوزت (160) عنواناً(2).
ولعلّ أحدث وأوسع فهرس مفصّل لآثار الخواجه نصير هو فهرس الباحث محمّد تقي مدرّس رضوي في كتابه : العلاّمة الخواجه نصير الدين الطوسي حياته وآثاره ، إذ أوصل عدد مؤلّفات الخواجه نصير الدين في هذا الفهرس إلى مائة وتسعين مؤلّفاً. ولم يكتفِ بذكر عناوين هذه المؤلّفات فقط ، وإنّما ذكر تفاصيل دقيقة عنها وعن محلّ تواجدها في مكتبات العالم ، وعن نسخها وطباعتها وغيرها من المعلومات التي تهمُّ الباحثين كثيراً(3).
* وفاة نصير الدين الطوسي :
بعد عمر حافل بالعطاء العلمي والفكري والاجتماعي والسياسي ، لبّى الخواجه نصير الدين الطوسي نداء ربّه فتوفّي في يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجّة سنة (672 ه) وشيّع جثمانه صاحب الديوان شمس الدين 9.
ص: 186
الجويني وعلماء بغداد وأعيانها ، وحشد غفير من الناس ، وأخذوه إلى الكاظمية وحفروا له قبراً في جهة أقدام الإمامين العظيمين الكاظم والجواد فظهر سرداب ، فدفنوه فيه»(1).
المبحث الثالث : الصلات العلمية بين حوزة الحلّة وجبل عامل :
استمرّت حوزة الحلّة العلمية في عطائها الفكري والثقافي ومنذ تأسيسها وإلى نهاية القرن الثامن الهجري ولمدّة ثلاثة قرون من الزمن تقريباً ؛ استطاعت خلالها أن تثري المكتبة الإسلامية بمبتكرات البحوث الفقهية والأُصولية والكلامية .. وأن تكون مركز الاستقطاب الأوّل لطلاّب العلوم الإسلامية والعلماء والفضلاء من الأقطار الأُخرى ، ولا سيّما من الحواضر والبلدان الشيعية.
وقد بيّنا سابقاً كيف أنّ النجف الأشرف قد صبّت علومها في رافد مدينة الحلّة لتشكّل بذلك حوزتها العلمية ، ثمّ تأخذ بعد ذلك طابعها العلمي الخاصّ بها.
حيث استطاع علماء الحلّة الكبار من أمثال المحقّق الحلّي ، والعلاّمة الحلّي ، وولده فخر المحقّقين ، وغيرهم أن يرتقوا بهذه الحوزة إلى أوج كمالها العلمي ، لتكون مركز استقطاب لعشّاق العلم والمعرفة. 2.
ص: 187
«وتوسّعت (حوزة الحلّة العلمية) .. واتّجهت الأنظار إليها أكثر من ذي قبل ، بعدما أُصيبت (بغداد) بنكبة المغول ، وتشرّد أهلها .. فهاجر بعض العلماء من بغداد إلى الحلّة واستقرّوا بها ، فكثرت فيها المدارس والمكاتب وحفلت بالعلماء ، وأصبحت مركزاً مرموقاً من مراكز الحركة العقلية في الأوساط الإسلامية.
ولولا وجود (حوزة الحلّة) وانتقال بقايا الحركة العلمية من بغداد إلى الحلّة ، وعناية (المحقّق الحلّي) وتلميذه (العلاّمة الحلّي) وولده (فخر المحقّقين) بشؤون الفكر الإسلامي ، والمحافظة على ما تبقّى من الثقافة الإسلامية ورجال الفكر الإسلامي .. لما بقي لنا شيء من هذا التراث الفكري الضخم الذي نتداوله اليوم فيما بين أيدينا من كتب الفقه والحديث والتفسير والعلوم العقلية والأدبية»(1).
ومن جملة من تطلّع إلى هذه الحاضرة العلمية نخبة من أبناء جبل عامل في لبنان ، فشدّوا إليها الرحال وإن بَعُدت عليهم الشقّة.
«ويبدو أنّ الوشائج بين الحلّة وجبل عامل تسبق عصر النهضة العلمية في جبل عامل ، وأسبق هجرة إلى الحلّة كانت في زمن رائد المدرسة وزعيمها آنذاك المحقّق الحلّي ، ثمّ أخذت الهجرة تتزايد شيئاً فشيئاً خصوصاً على زمن فخر المحقّقين»(2).8.
ص: 188
وتعتبر مدرسة جبل عامل ، وحوزتها العلمية العريقة ، الامتداد العلمي والوارثه لحوزة الحلّة العلمية ؛ وذلك من خلال بعض المهاجرين إليها من الفضلاء ، وبالخصوص الشهيد الأوّل محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي (786 ه) رائد الحركة الفقهية في الجبل ، «فكان الشهيد الأوّل امتداداً لمدرسة الحلّة وحركتها»(1).
وفيما يلي استعراض موجز لبعض فضلاء جبل عامل ممّن هاجروا إلى الحلّة وتتلمذوا في مدرستها وحوزتها العلمية :
1 - الشيخ يوسف بن حاتم المشغري العاملي :
يعتبر الشيخ المشغري من قدماء المهاجرين العامليّين ، والفاتح لباب الهجرة العاملية المباركة إلى البلدان الإسلامية.
ترجم له الطهراني في الطبقات فقال : «يوسف بن حاتم بن فوز بن مهنّد ، الشيخ جمال الدين الشامي المشغري العاملي ، المجاز من عليّ بن طاووس بإجازات متعدّدة ، وله المسائل البغدادية سألها عن المحقّق فأجاب عنها المحقّق وقال : «إنّها تدلّ على فضيلة موردها» وقد قرأ الجامع على مصنّفه يحيى بن سعيد .. وعبّر عن صاحب الترجمة بالفقيه يوسف بن حاتم الشامي. وله الأربعين عن الأربعين ...
وقال الطهراني في الذريعة : جوابات المسائل البغدادية للشيخ نجم 7.
ص: 189
الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد المحقّق الحلّي المتوفّى (676 ه) هي اثنتان وسبعون مسألة فقهية يسألها من تلميذه الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي ...»(1).
فالشيخ يوسف من فضلاء جبل عامل المهاجرين إلى حوزة الحلّة ومن تلامذة المحقّق الحلّي ، وابن طاووس رضيّ الدين عليّ (ت 664 ه) والشيخ يحيى بن سعيد (ت 690 ه) صاحب كتاب الجامع للشرائع ، وهو من أعاظم العلماء وأجلّة الفقهاء حيث أثنى عليه أساتذته ثناءً عطراً.
وذكره الحرّ العاملي وقال عنه : كان فاضلاً فقيهاً عابداً .. يروي عن المحقّق جعفر بن الحسن بن سعيد ، وعن السيّد ابن طاووس(2).
وذكر له السيّد حسن الصدر في التكملة كتاب الدُرُّ النَظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم وقال عنه إنّه كتاب جليل في بابه .. ثمّ يقول : وكان هذا الشيخ من أجلّة العلماء في عصر المحقّق نجم الدين صاحب الشرائع ، وهو صاحب المسائل البغدادية التي أجاب عنها المحقّق(3).
2 - الشيخ محفوظ بن وشاح :
قال في التكملة : «الشيخ شمس الدين أبو محمّد محفوظ بن وشاح بن 5.
ص: 190
محمّد الهرملي العاملي ، ذكره الشيخ المحقّق صاحب المعالم في إجازته الكبيرة(1) قال : «كان هذا الشيخ من أعيان علماء عصره ، ورأيت بخطّ شيخنا الشهيد الأوّل في بعض مجاميعه حكاية أُمور تتعلّق بهذا الشيخ منها أنّه كتب إلى الشيخ المحقّق نجم الدين السعيد أبياتاً من جملتها :
أغيب عنك وأشواقي تجاذبني
إلى لقائك جذب المغرم العاني
إلى لقاء حبيب شبه بدر دجى
وقد رماه بأعراض وهجران
فأجابه المحقّق رحمه الله بأبيات .. وكتب من بعدها نثراً».
ثمّ يضيف صاحب التكملة : «واعلم أنَّ هذا الشيخ أبو طائفة كبيرة بالهرمل يعرفون بآل محفوظ وبني وشاح ، خرج منهم علماء أجلاّء رؤساء نبلاء ، وهو غير محفوظ بن عزيزة بن وضّاح السوراني ، والد الشيخ سديد الدين سالم بن محفوظ ابن عزيزة الحلّي أُستاذ المحقّق نجم الدين في علم الكلام الذي قرأ عليه كتابه المنهاج في علم الكلام فلا تتوهّم الاتّحاد»(2).
فالشيخ محفوظ بن وشاح عالم فاضل ، هرمليّ عامليّ ، مهاجر إلى الحلّة قديماً على عهد المحقّق الحلّي ، وله مع المحقّق مودّة تظهر من خلال متابعة المراسلات الشعرية والنثرية التي كانت بينهما(3).
إلاّ أنّ السيّد الأمين محسن له كلام في أعيانه يشكّك في نسبته إلى 0.
ص: 191
الحلّة(1).
3 - طُمان بن أحمد العاملي المناري (ت 728 ه) :
الملقّب بنجم الدين ، قال عنه الحرّ العاملي : «كان فاضلاً عالماً محقّقاً ، روى عن الشيخ شمس الدين محمّد بن صالح عن السيّد فخار بن معد الموسوي وغيره من مشائخه.
وذكر الشيخ حسن بن الشهيد الثاني في إجازته : إنّ عنده بخطّ الشيخ شمس الدين محمّد بن صالح إجازة للشيخ الفاضل نجم الدين طمان بن أحمد العاملي ، وذكر فيها أنّه يروي عن السيّد فخار والشيخ نجيب الدين بن نما وجماعة آخرين».
وقال عند ذكره للرواية عن السيّد فخار : إنّه قرأ عليه سنة (630 ه) بالحلّة ، وإنّه روى عن الفقيه محمّد بن إدريس وغيره من مشائخه ....
قال : وذكر الشهيد في بعض إجازاته أنّ والده جمال الدين أبا محمّد مكّي رحمه الله من تلامذة الشيخ العلاّمة الفاضل نجم الدين طومان ، والمتردّدين إليه حين سفره إلى الحجاز الشريف ، ووفاته بطيبة في نحو سنة (728 ه) أو ما قاربها(2).
تفقّه الشيخ طمان على الشيخ شمس الدين محمّد بن أحمد بن صالح القسيني الذي تتلمذ بدوره على المحقّق الحلّي وقرأ عليه كتاب نهج الوصول3.
ص: 192
إلى علم الأُصول كما قرأ كتاب الجامع للشرائع على مصنّفه يحيى بن أحمد ابن عمّ المحقّق الحلّي(1) فهو من تلامذة تلامذة المحقّق بواسطة واحدة.
هذا ، وقد أثنى على الشيخ طمان أُستاذه الشيخ محمّد بن صالح ثناءً عطراً ، قال الشيخ حسن : وفي كلام الشيخ محمّد بن صالح دلالة على جلالة قدر الشيخ طمان ، وصورة لفظه في إجازة له هكذا : «قرأ على الشيخ الأجلّ العالم الفاضل الفقيه المجتهد نجم الدين طمان بن أحمد الشامي العاملي كتاب النهاية في الفقه تأليف شيخنا أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي قراءة حسنة تدلّ على فضله ومعرفته ، ثمّ قال : وقرأ بعد ذلك عليَّ كتاب الاستبصار .. وشرحته له وعرّفته ما وصل جهدي إليه من صحيح الأخبار وغيرها ، ثمّ قرأ عليَّ بعد ذلك الجزء الأوّل من المبسوط والثاني منه .. وفصولاً من الثالث قراءة محقّق لما يورده» ثمّ يقول الشيخ حسن : ووجدت في عدّة مواضيع غيره هذه الإجازة ثناءً بليغاً على هذا الرجل ومدحاً له رحمه الله(2).
4 - الشيخ صالح بن مشرف العاملي الجبعي :
قال عنه الحرّ العاملي : «جدّ شيخنا الشهيد الثاني ، كان فاضلاً عالماً فقيهاً ، من تلامذة العلاّمة الحلّي»(3) وقد مرّ بنا في الترجمة السابقة الإشارة إلى بعض جوانب شخصية المترجم له. 6.
ص: 193
5 - الشيخ عليّ بن الحسين الشفيهني أو الشهفيني :
ترجم له الحرّ العاملي في القسم الثاني من كتابه أمل الآمل والذي خصّصه للعلماء من غير جبل عامل ، فقال في ترجمته : الشيخ عليّ الشفيهني (الحلّي) فاضل شاعر أديب ، له مدائح كثيرة في أمير المؤمنين والأئمّة :(1).
وقد اختلف أرباب التراجم في الشيخ الشفيهني فعدَّه الحرّ (حلّياً) وعدّه البعض عامليّاً.
والظاهر أنَّ أوّل من نسبه إلى جبل عامل هو صاحب الرياض ، فقال : «والظاهر أنّ الشفيهني نسبة إلى بعض قرى جبل عامل»(2) وقد تعجّب الخوانساري في روضاته من الحرّ العاملي فقال : «والعجب أنّ صاحب أمل الآمل مع حرصه على جمع فضلاء جبل عامل كيف غفل عن ذكر مثل هذا الرجل الجليل الفاضل الكامل»(3) ، وقوّى هذا الاتّجاه السيّد حسن الصدر فقال : «والظنّ أنّ الشفهيني نسبة إلى بعض قرى جبل عامل»(4) ، وعلى فرض صحّة كونه من جبل عامل يكون الشيخ عليّ بن الحسين ممّن هاجر إلى الحلّة وتتلمذ في مدرستها وصار من مشاهير علمائها(5).
ومهما يكن من أمر فإنّ الشيخ الشفهيني من العلماء الشعراء الكبار ، 1.
ص: 194
وكان الشهيد الأوّل قد شرح قصيدته في مدح أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو أوّل ما صنّفه الشهيد الأوّل ، فأُعجب الشيخ عليّ الشفهيني بشرحها فأرسل إليه يمدحه :
فكأنّه وجواده وحسامه
وسنان مسعده دليل أسود
قمر على فلك وراه مذنّب
وأمامه والليل داج فرقد(1)
5 - محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي ، الشهيد الأوّل (استشهد 786 ه) :
وهو من أبرز المهاجرين العامليّين إلى الحلّة ، حيث تتلمذ على يد وارث علم سلفه الصالح (فخر المحقّقين) وأخذ من نمير علمه الصافي ، ثمّ ساهم في بناء صرح مدرستها العلمية مساهمة فاعلة ومؤثّرة فأصبح من أبرز المدرّسين في مدرستها «والتفّ حوله طلاّب الفقه والأُصول يدرسون عليه مناهج الاستنباط والفقه ، وعرف الشهيد في الحلّة بتدريسه لقواعد العلاّمة والتهذيب وعلل الشرائع وكتب أُخرى في الفقه والأُصول»(2).
وسوف نتوقّف عند حياة الشهيد الأوّل وإنجازاته العلمية في محلّه المناسب من بحث الحوزة العلمية في جبل عامل إن شاء الله.
6 - الشيخ حسن العاملي :
قال في التكملة : «عزّ الدين أبو محمّد الحسن بن سليمان بن محمّد 1.
ص: 195
العاملي ، من تلامذة الشهيد الأوّل ، قرأ عليه ، ورأيت إجازة له ولجماعة محكية عن خطّ الشهيد ، وصفه الشهيد بما هذه صورته : «والشيخ الصالح الورع الديِّن العدل»(1).
والملاحظ أنّ صاحب التكملة يؤكّد عامليته ، وكذلك سيّد الأعيان يقول : «ولعلّ أصله كان عامليّاً ثمّ توطّن الحلّة»(2). فإذاً صحّت نسبته إلى جبل عامل - كما هو صحيح - فإنّه يعدّ ممّن هاجر إلى الحلّة في منتصف القرن السابع ، وكان من جملة من تتلمذ على الشهيد الأوّل إبّان وجوده في الحلّة ، بل ومن أبرز من تتلمذ عليه(3) ، وهو ثاني الستّة المجازين بإجازة واحدة من الشهيد محمّد بن مكّي تاريخها (12 شعبان 757 ه)(4).
7 - الشيخ الحسين بن عليّ العاملي :
قال السيّد الصدر في التكملة : «عزّ الدين أبو عبد الله الحسين بن عليّ العاملي ، عالم فاضل محدّث كامل ، قرأ على الشهيد محمّد بن مكّي وله منه إجازة وصفه فيها : «الشيخ الفقيه العالم الكامل أبو عبد الحسين بن عليّ العاملي» وتاريخ الإجازة في شعبان سنة سبع وخمسين وسبعمائة ، وهي إجازة له ولجماعة ممّن شاركه في قراءة علل الشرائع على الشهيد ، وقد 1.
ص: 196
وجدها بخطّ الشهيد صاحب رياض العلماء»(1) وتاريخ إعطاء الشهيد الأوّل الإجازة للشيخ المترجم له (757 ه) كان فيها الشهيد في الحلّة ، ممّا يؤكّد أنّ الشيخ عزّ الدين ممّن هاجر إلى الحلّة وشدّ الرحال إليها من الجبل(2).
8 - الشيخ عليّ بن بشارة العاملي :
الشيخ زين الدين أبو الحسن عليّ بن بشارة العاملي ، هو الآخر ممّن هاجر إلى الحلّة وأقام فيها ، وقد تتلمذ على الشهيد الأوّل وأجازه في شهر شعبان عام (757 ه) ومن تاريخ إجازته هذه استفدنا هجرته إلى الحلّة كما تقدّم ذكره.
وقد مدحه الشهيد الأوّل في إجازته فقال : «الشيخ الأجلّ العالم العامل الفقيه الكامل الزاهد العابد زين الدين أبي الحسن عليّ بن بشارة العاملي ..»(3).
9 - الشيخ جمال الدين أحمد الكوثراني :
وهو من تلامذة الشهيد الأوّل ، وصفه الشهيد في إجازته له : «الشيخ الفقيه الزاهد العابد»(4) وهو أحد الستّة الوارد ذكرهم في إجازة الشهيد الأوّل التي أجازها لجمع من تلامذته ممّن قرأ عليه كتاب علل الشرائع للصدوق في 4.
ص: 197
مدينة الحلّة.
10 - الشيخ عزّ الدين الحسن بن شمس الدين محمّد بن إبراهيم بن الحسام العاملي :
قال الحرّ العاملي : «كان فاضلاً فقيهاً جليلاً ، قرأ على الشيخ فخر الدين محمّد ابن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ، ورأيت له إجازة عامّة بخطّ الشيخ فخر الدين بن العلاّمة على ظهر كتاب القواعد لأبيه تاريخها سنة (753 ه) ، وقد أثنى عليه فيها فقال : قرأ عليَّ مولانا الشيخ الأعظم الإمام المعظّم شيخ الطائفة مولانا الحاج عزّ الحقّ والدين ابن الشيخ الإمام السعيد شمس الدين محمّد بن إبراهيم بن الحسام ..»(1).
11 - الحسن بن أيّوب :
قال الطهراني في الطبقات : «بدر الدين أو عزّ الدين أو فخر الدين) الشهير بابن نجم الدين الأطراوي العاملي ، الراوي عن عميد الدين بن عبد المطّلب الأعرجي الحسيني (ت 754 ه) وعن أخيه ضياء الدين عبد الله ، وعن فخر المحقّقين ابن الحلّي (ت 771 ه) وعن الشيخ الشهيد (ت 786 ه). ويروي عنه شمس الدين محمّد العريضي العاملي ، وجعفر بن الحسام العينائي .. وما جاء في «إجازة الشهيد الثاني» من توصيفه بالأعرجي الحسيني بدل الأطراوي العاملي فهو من إسقاط الناسخ الواسطة .. ثمّ تبع الشيخ الحرّ5.
ص: 198
في الأمل الشهيد فوصفه بالأعرجي الحسيني ، فظنّه حلّياً وذكره في القسم الثاني الخاصّ بغير العامليّين ، مع أنّ الرجل من قرية أُطري من قرى جبل عامل ، وتنبّه للإسقاط صاحب الرياض ..»(1).
12 - الشيخ زين الدين عليّ بن محمّد الطائي :
قال في الرياض : «الشيخ أبو القاسم عليّ بن عليّ بن جمال الدين محمّد بن طيّ العاملي ، الفاضل العالم الفقيه المجتهد الشاعر ، المعروف ب: (ابن طي) .. وهو صاحب كتاب مسائل ابن طي والمعاصر لابن فهد الحلّي ، وصاحب الأقوال المعروفة في الفقه ...»
وقال السيّد الأمين في ذكر تلامذة ابن فهد الحلّي ، ومنهم : «الشيخ زين الدين عليّ بن محمّد بن طيّ العاملي».
13 - الشيخ عزّ الدين الحسن بن عليّ المعروف ب- «ابن العشرة» :
قال الحرّ العاملي : «فاضل عالم فقيه ، يروي عن ابن فهد ، وعن أبي طالب محمّد ولد الشهيد ، لا يخفى أنّه كان الأحرى ذكر ابن العشرة في القسم الأوّل لأنّه من علماء جبل عامل. وقال عنه الخوانساري : الشيخ الإمام الفقيه .. الشهير بابن العشرة الكرواني العاملي»(2).
* الصلة العلمية بين حوزة الحلّة والأقطار الأُخرى :
لم تكن الهجرة إلى حاضرة العلم الحلّة مقتصرة على أبناء جبل عامل ، 8.
ص: 199
وإنّما شملت علماء وفضلاء من أقطار أُخرى ، يمكن أن نشير إلى نماذج منهم والأقطار التي هاجروا منها إلى مدينة الحلّة :
1 - الآملي ، حيدر بن عليّ العبيدي الحسيني :
قال صاحب الروضات : هو من أجلّة علماء الظاهر والباطن ، وأعظم فضلاء البارز والكامن ، ذكره ابن جمهور الأحسائي فقال : الفقيه العارف المشهور بعنوان السيّد العلاّمة المتأخّر صاحب الكشف الحقيقي. أصله من آمل طبرستان ، وهي كما في وفيات الأعيان .. مدينة عظيمة من قصبة طبرستان»(1).
هاجر المترجم له إلى الحلّة لتلقّي العلوم على علمائها لأنّها كانت يومئذ أعظم جامعة إسلامية ، فصحب فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحلّي ، ونصير الدين القاشاني المعروف بالحلّي(2).
والمترجم له من الفلاسفة ومن أصحاب النظريّات في فلسفة الإشراق وله آراء خاصّة سطّرها في كتبه ومؤلّفاته ، وخاصّة كتابيه جامع الأسرار ومنبع الأنوار ، وشرح النصوص .. بالإضافة إلى كتابه في تفسير القرآن.
2 - الشيخ محمود الحمصي :
هو سديد الدين محمود بن عليّ بن الحسين الحمصي الرازي ، وهو الشيخ الورع الثقة ، والذي كان أعلم أهل زمانه في الأُصولين. وهو صاحب 3.
ص: 200
التصانيف الكثيرة التي قال عنها منتجب الدين في فهرسته : «حضرت مجلس درسه سنين وسمعت أكثر هذه الكتب»(1). وهو من العلماء المهاجرين إلى الحلّة وكان حيّاً إلى حدود سنة (600 ه)(2) ، واختلف في نسبته إلى حمص البلدة الشهيرة في بلاد الشام ، أم أنّه من إحدى قرى بلاد الريّ؟ وليس لهذا الأمر أهمّية كثيرة.
3 - الفاضل الآبي(3) :
وهو الحسن بن زبيب الدين ، أبي طالب بن أبي المجد اليوسفي زين الدين أبو محمّد الآبي الآوي الفقيه الجليل .. صاحب كشف الرموز الذي فرغ منه في شعبان (672 ه) وهو شرح رموز المختصر النافع [كتبه] في حياة أُستاذه المحقّق الحلّي مؤلّف النافع في بعض أسفاره ...»(4).
وذكر السيّد بحر العلوم أنّه أوّل من شرح النافع ، وينقل الشهيد والسيوري أقواله ، ويعبّران عنه بالآبي وابن الزبيب وشارح النافع وتلميذ المحقّق»(5).ا.
ص: 201
4 - صفيّ الدين بن الطقطقي (660 ه- - 709 ه) :
هو صفيّ الدين أبو جعفر محمّد بن تاج الدين أبي الحسن عليّ بن رمضان ، ينتهي نسبه إلى إبراهيم بن إسماعيل (طبطبا) بن إبراهيم بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط عليه السلام ويعرف بالطقطقي.
يذكر أنّ أُسرته استوطنت الحلّة منذ أيّام جدِّه رمضان .. وكان أبوه نقيب العلويّين ، ثمّ ولي صدارة الحلّة ، وبعد أبيه تولّى نقابة العلويّين ، وقد حضر مجلسه في الحلّة المؤرّخ الشهير ابن الفوطي كما ذكر ذلك في معجم الأُدباء.
سافر المترجم له إلى بلاد فارس ، وتزوّج امرأة فارسية من خراسان ودخل مراغة سنة (696 ه).
ليس للمترجم من الآثار غير مؤلّفه في التاريخ المسمّى بالفخري في الآداب السلطانية والدولة الإسلامية .. عني بنشر كتابه وترجمته جماعة من المستشرقين في أُوروبا ، وطبع في ألمانيا وفي غوطا وباريس ، وترجم إلى الفرنسية وطبع بمطبعة الموسوعات بمصر ..(1).
5 - الشيخ رضيّ الدين القطيفي الشهير بابن راشد :
وهو من تلامذة ابن فهد الحلّي (ت 841 ه)(2) ، قال صاحب الطبقات ، نقلاً عن عوالي اللئالي : «إنّ الشيخ كريم الدين يوسف الشهير بابن أبي 5.
ص: 202
القطيفي ، يروي عن الشيخ العلاّم والبحر القمقام رضيّ الدين الحسين الشهير بابن راشد القطيفي عن عدّة مشايخ له ، أشهرهم العالم الزاهد ، جمال الدين أبي العبّاس أحمد بن فهد الحلّي ..»(1).
6 - الشيخ حيدر بن عليّ بن أبي عليّ محمّد بن إبراهيم البيهقي :
قال الحرّ العاملي : «فاضل جليل ، صنّف الشيخ فخر الدين ولد العلاّمة رسالة في النية بالتماسه ، وأثنى عليه فيها ، فقال ما هذا لفظه : يقول محمّد بن الحسن بن المطهّر ، هذه الرسالة الفخرية في معرفة النية ، حرّرتها بالتماس أعزّ الناس عليَّ وأكرمهم لديّ ، وهو الصاحب المعظّم الزاهد العابد الورع العالم الفاضل الكامل المحقّق ، كهف الحاج والحرمين الحاجي فخر الملّة والحقّ والدين حيدر بن السعيد المرحوم شرف الدين بن عليّ بن أبي عليّ محمّد بن إبراهيم البيهقي»(2).
والذي يبدو من كلام فخر المحقّقين ، أنّ المترجم له كان من المقرّبين منه والمصاحبين له ، وله معرفة بخصائصه العلمية والكمالية ، وكذلك معرفة بوالده الذي يعبِّر عنه بالسعيد المرحوم ....
7 - السيّد محمّد نوربخش (الهمداني) :
وهو من تلامذة ابن فهد الحلّي(3) ، وفي كتاب مجالس المؤمنين ما 7.
ص: 203
ترجمته : سمعت من بعض الثقات أنّ السيّد (مير) قد حضر في دار المؤمنين (الحلّة) عند الشيخ الأجلّ أحمد بن فهد الحلّي - الذي كان من أعاظم مجتهدي الشيعة الإمامية في زمانه - ودرس في حوزة درسه الفقه والحديث ولفترة من الزمن(1).
وقال السيّد الأمين في الأعيان : ومن تلامذته - أي ابن فهد - بنقل صاحب مجالس المؤمنين ، السيّد محمّد نوربخش الذي هو من أكابر الأولياء الصوفيّة ، وانتهت إليه في زمانه رئاسة السلسلة العلوية الهمدانية(2).
8 - السيّد محمّد بن فلاح الموسوي الحويزي :
قال صاحب الأعيان في عدّ تلاميذ العلاّمة ابن فهد : السيّد محمّد بن فلاح الموسوي الحويزي الواسطي ، دول سلاطين بني المشعشع ببلاد خوزستان (3).
وقال في رياض العلماء في ترجمة السيّد عليّ بن السيّد خلف : «واعلم أنّ جدّه الأعلى وهو السيّد محمّد بن فلاح ، قد كان من تلامذة الشيخ أحمد ابن فهد الحلّي ، وقد ألّف ابن فهد له رسالة وذكر فيها وصايا له ..»(4).
9 - الفيروزآبادي محمّد بن يعقوب الشيرازي (ت 816 ه) : 0.
ص: 204
لم يكن الفيروزآبادي مؤلّف كتاب اللغة المعروف القاموس المحيط من الشيعة الاثني عشرية ، وإنّما كان من أبناء العامّة ، إلاّ أنّه تتلمذ عند فخر المحقّقين محمّد بن الحسن ابن العلاّمة الحلّي ، وكان : «يفتخر بتتلمّذه عليه ، فيقول في إجازة كتبها بخطّه على ظهر كتاب التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة لبعض أصحابه فأجازه أن يروي عنه هذا الكتاب بحقّ روايته إيّاه عن شيخه الذي وصفه بما لفظه : «عن شيخي ومولاي علاّمة الدنيا ، بحر العلوم وطود العلى فخر الدين أبي طالب محمّد بن الشيخ الإمام الأعظم ، برهان علماء الأُمم جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف المطهّر الحلّي ، بحقّ روايته عن والده ، بحقّ روايته عن مؤلّفه الحجّة .. الحسن بن محمّد الصنعاني وتاريخ خطّ الفيروزآبادي (757 ه)»(1).
10 - البحراني ، جمال الدين أحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ بن الحسن بن المتوّج البحراني :
قال الطهراني في الطبقات : «ترجمه الشيخ سليمان الماحوزي في رسالته تراجم علماء البحرين وقال : إنّه كان من أعظم تلاميذ فخر المحقّقين ، قرأ عليه في الحلّة وكان كثير المعارضة والبحث مع الشهيد ، وكان هو الغالب في الغالب ، ثمّ رجع إلى البحرين واشتهر فتاواه في المشارق والمغارب ، ثمّ اتّفق اجتماعه مع الشهيد في مكّة ، فلمّا تناظرا غلب عليه الشهيد ، فتعجّب 6.
ص: 205
منه فقال الشهيد : «لا تعجب قد سهرنا وأضعتم حكى ذلك الشيخ سليمان سماعاً عن مشايخه ..».
ثمّ يقول الطهراني معقّباً على الترجمة : «أقول : الظاهر من هذه الترجمة أنّه كان معاصراً الشهيد ومن أعاظم تلاميذ فخر المحقّقين ..»(1).
أُولئك نماذج لنخبة من العلماء المهاجرين من بلدانهم ، إلى حاضرة العلم والعلماء آنذاك (الحلّة) كما أنّ الحلّة كانت بمثابة قطب الرحى ، والمركز والواحة العلمية التي يحطّ عندها طلاّب العلم والمعرفة رحالهم.
«فكان الطلبة يفدون الحلّة من بلاد شتّى (الجزيرة والهند وفارس والشام وولايات الدولة العثمانية وأفريقيا) واستمرّت حلقات الدرس في التوسّع والتبصّر ، فنشأت في الحلّة مدارس فقهية خاصّة وأنجبت المدينة في تلك الحقبة علماء أفذاذاً طبّق صيتهم البلاد الإسلامية وخلّدتهم أعمالهم ..»(2).
المبحث الخامس : الاضطرابات السياسية ودورها في ركود وأُفول حوزة الحلّة :
واصلت الحوزة العلمية في الحلّة رسالتها العلمية التكاملية على أيدي أقطابها من أساطين العلماء والفقهاء الذين كان خاتمة مسكهم فخر المحقّقين 6.
ص: 206
ابن العلاّمة الحلّي ثمّ النابهين من تلامذته.
لقد استمرّت مدرسة الحلّة العلمية لفترة طويلة قاربت الأربعة قرون من الزمن وامتدّت إلى نهاية القرن التاسع الهجري تقريباً «ولم يكد ينتهي القرن التاسع الهجري حتّى انتهى أمد النهضة العلمية والأدبية التي كانت في الحلّة ، والتي بدأت فيها منذ نهاية القرن الخامس الهجري»(1).
وقد تشابه العامل الذي أدّى إلى ركود ، ومن ثمّ أُفول مدرسة الحلّة مع العامل الذي أدّى إلى ظهورها وارتقائها في سلّم التكامل ووصولها إلى أوج عطائها العلمي.
ويمثّل هذا العامل في الحالة السياسية السيّئة التي حلّت بالعراق عامّة ، وبمدينة الحلّة خاصّة.
يقول مؤرّخ الحلّة الشهير العلاّمة المتتبّع الشيخ يوسف كركوش الحلّي في كتابه القيّم تاريخ الحلّة وهو يبيّن أسباب أُفول مدرسة الحلّة وانتهاء نهضتها العلمية : «انتهت هذه النهضة بسبب الأرزاء التي حلّت بالقطر العراقي من أدناه إلى أقصاه ، لجهل الحاكمين وظلمهم وعتوّهم ، فقد كان العراق إذ ذاك تحت حكم قوم من التركمان ، وهم على جانب عظيم من جفاء الطبع ، هذا بالإضافة إلى ظهور قوّة جديدة على مسرح السياسة العراقية تُنَازع التركمان حكم العراق ، وهذه القوّة الجديدة هي دولة المشعشعين التي أسّسها 1.
ص: 207
السيّد محمّد بن فلاح تلميذ ابن فهد الحلّي».
ويقول أيضاً : «أخذت هاتان القوّتان تتنافسان للاستيلاء على الحلّة وتوابعها فتارة يحكمها أُولئك ، وتارة هؤلاء ، ودام ذلك ردحاً من الزمن. ولا يخفى ما يتبع مثل هذا التبدّل السياسي من الاضطراب والارتباك في جميع مناحي الحياة من اجتماعية واقتصادية وثقافية. من أجل ذعر سكّان الحلّة ، وتناقص عمرانها وشملها الخراب ، ولم يكد ينتهي القرن التاسع الهجري حتّى لم يبق للنهضة العلمية والأدبية في الحلّة أثر يذكر»(1).
والحقبة الزمنية التي يتحدّث عنها صاحب تاريخ الحلّة حقبة طويلة مليئة بالأحداث وتمتدّ من أواخر عهد الدولة الإليخانية في بدايات القرن الثامن الهجري ، إلى ظهور الدولة الجلايرية والتي «دامت نحواً من تسعين سنة وكانت عاصمتها أوّلاً بغداد ؛ ثمّ انتقلت في أواخر أيّامها إلى الحلّة»(2) ثمّ جاء العهد التركماني في عهد دولة (قراقوينلو) الخروف الأسود ، الذين استعان بهم الجلايريّون لمقارعة تيمور لنك ، إلاّ أنّهم قضوا على الدولة الجلايرية واتّسعت مملكتهم وصارت تضمّ أجزاء كثيرة من غير العراق ، وسمّيت هذه الدولة بدولة الخروف الأسود (قراقوينلو) لأنّ أعلامها كان يرسم عليها خروف أسود.
«كان رجال هذه الدولة معروفين بالزندقة والاستهتار بشريعة الإسلام ، 2.
ص: 208
هذا إلى عتوّهم وإرهاقهم الرعايا بالضرائب الفادحة ؛ كان الأمن في عهدهم مفقوداً ، والطواعين تجتاح الناس من وقت لآخر ، والمجاعات قضت على الكثير من الناس .. وكانت الحالة العامّة في الحلّة سيّئة مضطربة ، لأنّ الحكومة المحلّية في الحلّة لم تكن قوية لتحفظ الأمن فيها وفي أطرافها»(1) ، فتحوّلت الحلّة في ذلك العهد إلى ساحة صراع بين القبائل المتنازعة ، أدّت إلى زحزحة الأمن وإزهاق النفوس.
وخلال هذه الفترة العصيبة ظهرت دولة المشعشعين على يد السيّد بن فلاح وهو من تلامذة الشيخ أحمد بن فهد الحلّي.
والكلام حول دولة المشعشعين ، ومؤسّس هذه الدولة ، الذي اختلف في نسبه ومسقط رأسه ، وعقائده التي أظهرها .. كلام طويل لا يسعه هذا المختصر ، وخلاصة ما يمكن أن نستفيده من المصادر التاريخية التي تحدّثت عن هذه الدولة وعن مؤسّسها محمّد بن فلاح هو : «أنّ المشعشعين كانوا طائفة من الشيعة الغلاة يعتقدون بالحلول : ومعنى ذلك أنَّ الأئمّة الاثني عشر تحلُّ أرواحهم في بعض الناس أو أنّ الله حلَّ في أرواح الأئمّة .. لذا كان المشعشعون لا يحفلون بمراقد الأئمّة ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أرواحهم من روح الله وأنّ مكانها في الملأ الأعلى ..»(2).
وفي عهد هذه الدولة شهد العراق عامّة والحلّة خاصّة الويلات 3.
ص: 209
والمصائب العظام ، وكان حكّام هذه الدولة عبارة عن قُطّاع طرق لا يتورّعون عن السلب والنهب وقتل النفوس «ففي سنة (857 ه) خرج على الحاج المولى عليّ بن السيّد محمّد المشعشع ، ونهب أموالهم ودوابّهم وجمالهم ، والآنية المذهّبة وقماش المحمل ، ونجا أُناس قلائل كانوا قد دخلوا المشهد ، فأرسلوا يتضرّعون إليه ، فطلب منهم القناديل والسيوف ، فأرسلوا إليه مائة وخمسين سيفاً ، واثني عشر قنديلاً ستّة منها ذهباً وستّة فضّة ، ثمّ دخل عليٌّ المشعشع الحلّة ونقل أموالها وأموال المشهدين إلى البصرة ، وأحرق الحلّة وخرّبها وقتل من بقي فيها من الناس ، ومكث فيها (18) يوماً ورحل يوم الأحد (23 ذي القعدة) إلى المشهد الغروي والحائر ، وأخذ ما تبقّى من القناديل والسيوف والستور والزوالي ، ودخل بالفرس إلى داخل الضريح وأمر بكسر الصندوق الذي على القبر واحراقه»(1).
وفي أثناء هذه الحقبة التاريخية جاءت دولة (آق قوينلو) وهم من قبائل التركمان .. فقارعوا دولة (قراقوينلو) وتمكّنوا من تحطيمها ، وفتحوا بغداد سنة (874 ه) وعيّنوا حاكماً من قبلهم على الحلّة ، «وفي هذا العهد كانت الحالة في ولاية الحلّة مضطربة بسبب وقوعها بين دولة (آق قوينلو) ودولة المشعشعين ، فكانت العشائر القاطنة في أراضي الحلّة عرضة لهجمات المشعشعين من وقت لآخر وما يتبع ذلك من قتل ونهب وأسر وحرق .. وأمّا ف.
ص: 210
أهل الحلّة فكانوا من أجل ذلك في وجل مستمرٍّ يترقّبون الأخطار تأتيهم في كلّ لحظة .. لذا أخذت الروح العلمية والأدبية تتدهور حتّى تلاشت بالنهاية ، وذهب ما كان لها من نفوذ فكري على العالم الإسلامي ..»(1).
فالاضطراب السياسي وما تمخّض عنه من فقدان الأمن أدّى إلى أفول مدرسة الحلّة العلمية وهجرة العلماء منها ، في الوقت الذي كان للإستقرار السياسي والأمني الذي توفّر مع ظهور دولة بني مزيد عاملاً مهمّاً في ظهور هذه المدرسة.
ويعلّق أحد الباحثين على هذه الظاهرة بقوله : «ليس من الغريب أن يكون الدافع السياسي عاملاً لتنشيط الحركة العلمية ؛ فللسياسة أثر في هذه الأدوار ، والقول الذي يرى أنّ عودة الحركة العلمية إلى النجف الأشرف (من الحلّة) نتيجة عامل السياسة ، سنده الصراع العنيف في حينه على مراكز القوّة والدائر بين العثمانيّين والصفويّين ، والذي تأثّر به العراق فترة من الزمن ، فقد اندفع الصفويّون لإحياء الحركة العلمية النجفية ، وجعلها قوّة دفاعية عن الشيعة ومركزاً مهمّاً يقابل بغداد»(2).
* هجرة العلماء من الحلّة إلى النجف وكربلاء :
لقد أدّى عامل الاضطراب السياسي وانعدام الأمن .. إلى هجرة العلماء 9.
ص: 211
لحوزة الحلّة الدينية والانتقال إلى النجف الأشرف أو كربلاء المقدّسة ، أو مدن أُخرى ، لائذين بالحرم الشريف للإمام عليٍّ عليه السلام وبالحائر الحسيني للإمام الحسين عليه السلام ، باحثين عن الأمن والإطمئنان.
ولعلّ أوّل المهاجرين منها من العلماء والفقهاء الكبار هو فخر المحقّقين محمّد أبو طالب ابن العلاّمة الحلّي ، الذي تصدّى للمرجعية الدينية بعد رحيل والده العلاّمة سنة (726 ه) ، وبقي بعده ردحاً من الزمن ساهراً ومحافظاً على الحوزة العلمية في الحلّة ، وحريصاً على تربية العلماء والفضلاء فيها ؛ إلاّ أنّه فارق الحلّة بعد وفاة والده. وليس بين أيدينا من نصوص التاريخ ما يفصح عن الأسباب التي دعته إلى مفارقة حوزته العلمية ؛ إلاّ أنّه يظهر من كلامه في بعض ما كتبه أنّه كان يشكو أعداءه ، وتلك الأوضاع السيّئة التي ظهرت في عصره ؛ وهذا ما يستفاد من كلامه في حاشيته على كتاب الألفين لوالده العلاّمة والذي نصّه ما يلي : «يقول محمّد بن الحسن بن المطهّر حيث وصل في ترتيب هذا الكتاب وتبيينه إلى هذا الدليل (الدليل الحادي والخمسين بعد المائة) في الحادي عشر جمادى الآخر سنة ستّ وعشرين وسبعمائة بحدود آذربيجان ؛ خطر لي أنّ هذا [الدليل] خطابي لا يصلح في المسائل البرهانية ، فتوقّفت في كتابته ؛ فرأيت والدي عليه الرحمة تلك الليلة في المنام ، وقد سلاّني السلوان وصالحني الأحزان ، فبكيت بكاءً شديداً وشكيت إليه من قلّة المساعد وكثرة المعاند ، وهجر الأخوان وكثرة العدوان ، وتواتر الكذب والبهتان ، حتّى أوجب ذلك لي جلاء عن الأوطان ، والهرب
ص: 212
إلى أراضي آذربيجان. فقال لي : اقطع خطابك فقد قطّعت نياط قلبي ، وقد سلّمتك إلى الله فهو سند من لا سند له ، وجازِ في المسيء بالإحسان ، فلك ملك عالم عادل قادر لا يهمل مثقال ذرّة ، وعوض الآخرة أحبّ إليك من عوض الدنيا .. ودع المبالغة في الحزن عليَّ فإنّي قد بلغت من المنى أقصاها ، ومن الدرجات أعلاها ، ومن الغرف ذراها ، وأقلل من البكاء ، فأنا مبالغ لك في الدعاء. فقلت يا سيّدي : الدليل الحادي والخمسون بعد المائة من كتاب الألفين على عصمة الأئمّة ، يعتريني فيه شكّ! فقال : لِمَ؟ قلت : لأنّه خطابيٌّ! فقال : بل برهانيٌّ ..»(1) ، ثمّ نقل جميع ما ذكره والده في توجيه برهانية الدليل.
ولا تسعفنا النصوص التاريخية عن تفاصيل هذه الرحلة ، ولا عن المدّة التي قضاها في آذربيجان ، ولا عن صلة ذلك بالأوضاع السياسية التي كانت حاكمة في إيران! كما أنّ عودته إلى الحلّة لم يكن زمنها معلوماً ؛ إذ ربّما كانت بعد موت السلطان أبي سعيد عام (736 ه) أو ربّما قبل هذا التاريخ»(2).
ومهما يكن من أمر ، فقد عاد فخر المحقّقين إلى مدينة الحلّة وحوزتها العلمية ومارس فيها نشاطه العلمي ، وتفرّغ لتخريج الفقهاء وإصلاح مؤلّفات والده ، وشرح بعضها التزاماً بالوصية التي كتبها له أبوه : مستفيداً من الاستقرار النسبي في الحلّة بعد سيطرة حسن الجلايري عليها ، حتّى توفّي فخر 7.
ص: 213
المحقّقين سنة (771 ه) عن عمر ناهز التاسعة والثمانين عاماً.
وقد اختلفت الأقوال في محلّ دفنه!! قال المامقاني في تنقيح المقال : «... ولم أقف على من عيّن مدفنه ، والمنقول على لسان المشايخ أنّه صار أكيل السباع - لقضية تُنقَلُ لا أستحسن نقلها للإزراء بمعاصريه - فلذا لم يوجد له جسد حتّى يُدفن ، والله سبحانه العالم».
إلاّ أنّ السيّد جعفر آل بحر العلوم في كتابه تحفة العالم يقول : «ونقل المولى محمّد تقي المجلسي في شرح الفقيه أنّه - أي فخر المحقّقين - دفن في الحلّة ثمّ نقل إلى النجف» وفي هامش لؤلؤة البحرين : «.. ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ، ولعلّه دفن قريباً من والده بالمقبرة المعروفة في أيوان الصحن الشريف الذهبي بجنب المنارة الشمالية»(1).
* هجرة الشيخ العتائقي إلى النجف :
هاجر الشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن محمّد بن إبراهيم العتائقي الحلّي من الحلّة إلى النجف الأشرف عام (746 ه) أي في عصر مرجعية فخر المحقّقين وزعامته للحوزة العلمية في الحلّة. وهو من تلامذة العلاّمة الحلّي (ت 726 ه) الذي يعبّر عنه بشيخنا المصنّف. ومن مشايخه أيضاً نصير الدين عليّ بن الكاشاني (ت 755 ه)(2). ولم يعد العتائقي إلى الحلّة بعد أن 9.
ص: 214
هجرها إلى النجف ، وإنّما استوطن النجف وشارك مشاركة فاعلة في الحياة العلمية فيها ، وأغنى المكتبة الإسلامية بمختلف المؤلّفات الرائعة ، وكان مدرّساً فاضلاً ، ماهراً في الحكمة والكلام ، والرياضيّات والطبّ ...
توفّي بالنجف سنة (793 ه) ودفن بالصحن الشريف بالرواق المطهّر(1).
* هجرة الشيخ المقداد السيوري إلى النجف :
ويعتبر الشيخ المقداد من أبرز العلماء الكبار المهاجرين إلى النجف الأشرف ، بعد أن استكمل سلسلة معارفه وتعليمه على أيدي أساطين علماء الحلّة من أمثال فخر المحقّقين ، والشهيد الأوّل العاملي ، والسيّد ضياء الدين الأعرج .. ويروي عنه مجموعة من تلامذته منهم : شرف الدين المكّي ، والحسين بن علاء الدين القمّي ، وتاج الدين الحسن بن راشد الحلّي ، ومحمّد بن شجاع القطّان الحلّي ، وأحمد بن فهد الحلّي ، وله تصانيف كثيرة منها : كنز العرفان والتنقيح الرائع والنافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر والقواعد .. وغيرها من المؤلّفات.
وقد أرّخ الحسن بن راشد الحلّي تلميذ صاحب الترجمة وفاة أُستاذه بقوله : «توفّي شيخنا الإمام العلاّمة الأعظم أبو عبد الله المقداد السيوري نضّر الله وجهه بالمشهد المقدّس الغروي على مشرّفه أفضل الصلوات وأكمل 0.
ص: 215
التحيّات ، ضحى نهار الأحد 26 من شهر جمادى الآخرة (826 ه) ودفن بمقابر المشهد المذكور ..»(1).
والشيخ المقداد السيوري أو الفاضل المقداد هو صاحب المدرسة العلمية في النجف الأشرف ، والتي عرفت باسمه (مدرسة المقداد) ثمّ جدّدها سليم خان فعرفت باسمه (المدرسة السليمية) وقد تحدّثنا عنها ضمن مدارس النجف الأشرف.
* هجرة الشيخ أحمد بن فهد الحلّي إلى كربلاء :
وهو جمال الدين أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي (ت841ه) وله رواية عن جماعة من تلاميذ فخر المحقّقين وتلاميذ الشهيد .. جميعاً عن فخر المحقّقين(2) ويروي عنه الشيخ زين الدين عليّ بن هلال الجزائري ، وهو من أبرز مشايخ المحقّق عليّ بن العالي الكركي(3).
كان ابن فهد من أكابر المدرّسين في المدرسة العلمية في الحلّة ، إلاّ أنّه هاجر في طلب العلم ولقاء المشيخة ، فدخل البحرين ولقي فيها بعض رجال الفضل فأفاد واستفاد(4). ثمّ هاجر إلى كربلاء وسكنها ، حتّى توفّي فيها عام (841 ه) عن عمر ناهز خمساً وثمانين سنة ، وفي هامش رجال السيّد بحر 8.
ص: 216
العلوم قال : «وقبر ابن فهد ، بكربلاء ، معروف مشهور يزار ، وكان وسط بستان بجنب المكان المعروف بالمخيّم ، وعليه قبّة مبنية بالقاشاني ، وقد جدّد بناؤه في عصرنا وفتح بجنبه شارع باسمه .. ويقال : إنّ صاحب الرياض الطباطبائي الحائري قدس سره كان في عصره كثيراً ما يتردّد إلى قبره ويتبرّك به»(1).
إلاّ أنّ مؤرّخ الحلّة الشيخ يوسف كركوش يقول عن مكان قبر ابن فهد الحلّي : «وقبره بالحلّة في محلّة جبران شمال شرقي حديقة الجبل وهو معروف مشهور لدى الحلّيّين» ويرد على صاحب روضات الجنّات الذي ذكر أنّ قبره معروف بكربلاء المشرّفة .. بقوله : «إنّ هذا القبر الذي ذكره صاحب روضات الجنّات هو قبر أحمد بن فهد الأحسائي ، لا قبر أحمد بن فهد الحلّي»(2).
إلاّ أنّ المؤرّخ الكبير الشيخ محمّد حرز الدين يقول في بيان مرقد ابن فهد الحلّي : «مرقده في كربلاء المقدّسة بداره التي تقع قبلة لمرقد الإمام الحسين عليه السلام قريبة منه ..» ويقول عن مرقد ابن فهد الأحسائي : «مرقده في الحلّة معروف مشهود عليه قبّة صغيرة الحجم ..» ثمّ يقول : «وقيل العكس ؛ هو أنّ مرقد ابن فهد الأسدي في الحلّة ، ومرقد شهاب الدين الأحسائي في كربلاء ، وذلك خلاف التحقيق وما عليه سيرة علمائنا الأقدمين والمتأخّرين المعتضدة بالشهرة والتلقّي من أنّ ابن فهد الأسدي الحلّي مرقده بأرض الطفّ 9.
ص: 217
والحائر الحسيني - كربلاء المقدّسة - والظاهر أنّ الاشتباه نشأ من معاصرة كلّ منهما للآخر ، إلاّ أنّ الأحسائي بقي حيّاً مدّة بعد وفاة الأسدي الحلّي»(1).
المبحث السادس : طرق التعليم وأماكنها في مدرسة الحلّة :
تكمن الأهمّية الحضارية لمدينة الحلّة في كونها مدينة علمية أدبية ؛ «ظهرت فيها النهضة الفكرية منذ نهوضها على يد مؤسّسيها .. وقويت هذه النهضة في القرن السابع الهجري ، فكانت مركز كبار علماء الإمامية وفضلائهم وأُدبائهم الذين انصرفوا إلى الدرس والتدريس وانكبّوا على الإنتاج والتأليف»(2).
وأمّا طريقة التعليم في مدرسة الحلّة العلمية وأماكنها ؛ فلم تختلف عن طريقة وأماكن الحوزات العلمية السابقة لها كمدرسة الكوفة وبغداد والنجف الأشرف ، فكانت مجالس التعليم تنعقد حول الأُستاذ على صورة حلقات تتّخذ لها مكاناً خاصّاً بها ، يسمّى باسم الأُستاذ»(3) ومن هذه الحلقات الدرسية :
أوّلاً : حلقة درس المحقّق الحلّي نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن (ت 676 ه) ، وكانت من الحلقات الدرسية المهمّة والتي تضمّ نخبة 1.
ص: 218
من فضلاء الحلّة وعلمائها ، وقد حضرها العالم الكبير نصير الدين الطوسي (ت 672 ه) في إحدى سفراته وجرت فيها مناقشة بينه وبين المحقّق الحلّي ، كما بيّنا سابقاً.
ثانياً : حلقة درس العلاّمة الحلّي ، جمال الدين الحسن بن يوسف (ت 726 ه) وقد قيل عن هذا المجلس إنَّه خرج منه خمسمائة مجتهد(1) ، وقد ذكر فخر المحقّقين محمّد بن العلاّمة الحلّي مجلس والده الذي كان يدرس فيه في حياته(2).
هذان نموذجان لأهمّ حلقات الدرس لأهمّ علمين من أعلام الحلّة وحوزتها العلمية ، والتي يمكن تعميمها على مجالس درس العلماء الآخرين ممّن كانوا يعقدون مجالس درسهم في بيوتهم أو المساجد.
وأمّا أماكن التعليم في حوزة الحلّة ، فقد وردت بعض الإشارات إليها ضمن تراجم بعض أعلام هذه الحوزة ، وهي كما يلي :
1 - بيوت الدرس :
وهي بمثابة «دور العلم» التي كانت معروفة في بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية وقد ورد الإشارة إلى بيوت الدرس هذه ضمن ترجمة علم من أعلام الحلّة وهو الشيخ نجيب الدين محمّد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله بن نما الحلّي (ت 645 ه) وهو شيخ فقهاء الإمامية في عصره ، ومن 7.
ص: 219
مشايخ المحقّق الحلّي ، وبحسب تعبير البحراني : «وكان هذا الشيخ رئيس الطائفة في زمانه ، محقّقاً مدقّقاً»(1). وفي أمل الآمل عن بعض تلامذة ابن فهد ما صورته : «حوادث سنة (636 ه) فيها عمّر الشيخ الفقيه العالم نجيب الدين محمّد بن جعفر بن هبة الله بن نما الحلّي بيوت الدرس إلى جانب المشهد المنسوب إلى صاحب الزمان عليه السلام بالحلّة السيفية ، وأسكنها جماعة من الفقهاء»(2).
ويبدو ، أنَّ هذه البيوت لم تكن بيوتاً سكنية لغرض سكن العلماء فقط ، وإنّما كان الغرض منها أن تكون محلاًّ للتدريس أو ما يصطلح عليه ب- (المَدْرَسْ) ، أو إنّها تؤدّي وظيفة مزدوجة بين كونها محلاًّ للسكن والدرس معاً. إلاّ «أنَّ هذه البيوت لم تستمر طويلاً ، ولعلّها زالت بوفاة مؤسّسها ، إذ لم نجد لها أيَّةَ إشارة بعده»(3).
2 - بيوت العلماء :
وقد اتّخذ بعض علماء الحلّة من بيوتهم مكاناً للتدريس ؛ بأن يخصّص بعض غرف المنزل أو سطح الدار أو صحنه لهذا الغرض.
وهي سنّة حسنة ورثها علماء مدرسة الحلّة من سلفهم الصالح من علماء مدرسة بغداد والنجف الأشرف ؛ إذ كان الشيخ المفيد محمّد بن محمّد 1.
ص: 220
ابن النعمان (ت 413 ه) يدرِّس في بيته ، وكذلك الشيخ الطوسي محمّد بن الحسن (ت 460 ه) قد اتّخذ من بيته مدرساً ، وترد الإشارة إلى بيوت العلماء في مدرسة الحلّة ضمن تراجم بعض العلماء ، فقد ورد أنَّ أبا البقاء هبة الله بن نما الحلّي (ت حدود 573 ه) كان يدرِّس بالحلّة في داره سنة (565 ه)(1).
ورد أيضاً أنَّ جمال الدين أبا الفضل أحمد بن محمّد بن المهنّا الحسيني النسّابة (ت 682 ه) يدرِّس «بمنزله بالحلّة السيفية في رجب سنة إحدى وستّين وستمائة»(2).
وكان بالحلّة معلّمون ومؤدّبون يقرأ عليهم المبتدأون في الدراسة (في بيوتهم) فقد ذكر الخاقاني في شعراء الحلّة «أنّ بدء دراسة العلاّمة الحلّي كانت على معلّم خاصّ يدعى (محرّم)»(3).
3 - الجوامع والمساجد :
وهي دور العبادة التي كانت منتشرة وبكثرة في مدينة الحلّة ، وكانت تؤدّي دورها في التربية والتعليم كمعاهد للدرس والتدريس ، وممّا لا شكّ فيه أنَّ بعض العلماء كان يتّخذ منها مدرساً لتدريس طلاّبه ، ونجد إشارة إلى ذلك ، في ترجمة السيّد مجد الدين أبي الفوارس محمّد بن عليّ الأعرج ، 9.
ص: 221
الذي قال عنه ابن شدقم واسمه مرقوم في حائر الحسين عليه السلام ومساجد الحلّة ..»(1).
4 - المدارس الدينية في حوزة الحلّة العلمية :
رغم أهمّية حوزة الحلّة العلمية وامتدادها الزمني ، ورفاهها المالي والاقتصادي ، وتمركز أساطين العلماء والمرجعية الدينية فيها ، ووفود آلاف الطلبة إليها .. رغم كلّ هذه العوامل المساعدة ، إلاّ أنّنا لا نجد فيها ظاهرة إنشاء المدارس الدينية التي انتشرت آنذاك في بغداد زمن حكم السلاجقة وما بعدها من الأزمنة!
وهذه الظاهرة أثارت استغراب بعض الباحثين في الحركة الفكرية والمؤرّخين لها ، فكتب : يقول : «وممّا يجلب الانتباه ويثير الاستغراب ، عدم ورود ذكر لإنشاء مدرسة بالحلّة ، أو لإقامة مؤسّسة تعليمية نظامية فيها خلال هذه القرون ، وخاصّة القرن السابع الذي أُسِّست فيه المدرسة المستنصرية ببغداد (631 ه) وشاع فيها تأسيس المدارس فانتشرت في العاصمة وغيرها من مدن العراق».
ويجيب هذا الباحث بنفسه عن هذه الظاهرة التي أثارت استغرابه بقوله : «ولعلّ ابتعاد الحلّة عن التعليم المدرسي يعود إلى طبيعة مذهب الإمامية ، وطبيعة دراستهم الفقهية ذاتها ، فقد كان المذهب الإمامي في انفصال ).
ص: 222
عن الحكم والسلطة ، وكانت دوافع البحث والدراسة عند فقهائه بعيدة عن حاجات ورغبات الحاكمين ، أو الظروف السياسية ، وكان يقوم على مبدأ الإجتهاد والذي استفاد الفكر الإمامي منه نماءً وثراءً»(1).
ومن خلال تتبّع بعض تراجم علماء الحلّة يمكن للباحث أن يرصد أسماء بعض المدارس التي اقترن اسمها ببعض العلماء دون الإشارة إلى تفاصيل أُخرى حول هذه المدارس من ناحية نظامها التعليمي ، ومناهجها الدراسية ، وأساتذتها وطلاّبها .. وغير ذلك ، ومن هذه المدارس :
1 - مدرسة الشيخ محمّد بن إدريس الحلّي (ت 598 ه) :
فقد ورد ضمن ترجمته أنّه «كانت له مدرسة خاصّة تجاور مسكنه ، وبقي في الحلّة لغاية سنة (598 ه) وهي سنة وفاته ، ودفن في ضمن حدود مدرسته ..»(2) وليس بين أيدينا تفاصيل أُخرى عن هذه المدرسة!
2 - المدرسة الزينبية أو الزعيّة أو الشرعية :
وهي المدرسة التي يذكرها علماء الرجال والتراجم - وبأسماء متعدّدة - في ترجمة الشيخ أحمد بن فهد الحلّي ، حيث جاء في بعضها : «.. واستمرّ على بساط التلمذة مستفيداً من فيوضات هؤلاء العلماء حتّى ترقّى إلى درجة الاجتهاد في الفقه ، ثمّ أصبح مرجعاً وملاذاً للعلماء في الحلّة ، وفرش بساط 6.
ص: 223
التدريس في المدرسة (الزينبية) في الحلّة السيفية واجتمع حوله جمع غفير من الطلاّب ينهلون من ينابيع علمه ومعرفته ..»(1).
وقال إسماعيل باشا البغدادي : «ابن فهد الحلّي أحمد بن شمس الدين محمّد ابن فهد ، جمال الدين الحلّي الأسدي الشيعي ، كان يدرّس في المدرسة (الزعية) بالحلّة السيفية من علماء الإمامية»(2).
وجاء ذكر هذه المدرسة في ترجمة محمّد بن فلاح المشعشع : «توفّي والده وهو صغير وتزوّج الشيخ أحمد بن فهد الحلّي بأُمّه ، فربّاه وأحسن تربيته ، ولمّا شبّ أدخله مدرسته (الزعية) وأخذ يدرّسه العلوم والمعارف ...»(3).
وهذه المدرسة تسمّى تارة بالمدرسة (الزينبية) وأُخرى بالمدرسة (الزعية) وسمّاها مؤرّخ الحلّة الشيخ يوسف كركوش بالمدرسة (الشرعية) وقال في تعريفها : «كانت المدرسة الشرعية في الحلّة تضمّ فئة من رجال العلم والأدب والفلسفة ، ولم تكن بغداد في ذلك الوقت تضاهيها من هذه الناحية ، فقد هاجر عنها العلماء ورجال الفكر إلى أنحاء أُخرى ، وكان أكبر مدرّسي المدرسة (الشرعية) الشيخ أحمد بن فهد الحلّي ، وقد تخرّج عليه جماعة من العلماء الأفاضل منهم : عزّ الدين المهلّبي ، والشيخ عبد الشفيع بن 3.
ص: 224
فيّاض الأسدي الحلّي ، والسيّد محمّد بن فلاح المشعشع .. إلى غير هؤلاء»(1).
3 - مدرسة صاحب الزمان :
وقد ذكر هذه المدرسة المؤرّخ يوسف كركوش في هامش تاريخه عن مدينة الحلّة معلّقاً على كلام الرحّالة ابن بطوطة الذي زار الحلّة ووصفها وذكر أثناء ذكر مشهد صاحب الزمان ، فقال الشيخ كركوش معلّقاً وموضّحاً ما نصّه : «ولعلّه هو مدرسة صاحب الزمان أو كانت بالقرب منه ، فإنّ من مدارس الحلّة المندثرة مدرسة صاحب الزمان ، وقد كتب بها الأخوان جعفر والحسين ابنا محمّد كتاب قواعد الأحكام للعلاّمة الحلّي ، كتب كلّ منهما مجلّداً بتاريخ سنة (776 ه) وصحّحاه عن نسخة في الحلّة في مدرسة صاحب الزمان ، والنسخة في مكتبة (غرب) بهمدان في إيران برقم (927). وقد فات مؤلّف هذا الكتاب أن يذكر هذه المدرسة فلاحظ. كما كتب بها أيضاً المختصر النافع للمحقّق الحلّي وتاريخه يوم الخميس (16 ربيع الأوّل) سنة (957 ه) في مدرسة صاحب الزمان في الحلّة ، والنسخة في مكتبة عبد المجيد الموسوي الشخصية في خراسان ..»(2).
وليس بين أيدينا تفاصيل أُخرى عن هذه المدرسة ، أو مدارس أُخرى ربّما كانت واندثرت كهذه المدرسة ولم يكتب أحد تاريخها ، أو كتب عنها 9.
ص: 225
ولكنّها أيضاً تلفت مع ما تلف من تراثنا وتاريخنا.
4 - المدرسة السيّارة :
وهي المدرسة التي صنعها السلطان محمّد خدابنده الذي تولّى حكم الدولة الإليخانية خلال الفترة (703 - 716 ه) والذي أظهر المذهب الشيعي وجعله المذهب الرسمي في جميع أنحاء مملكته .. فكان هذا أوّل ظهور رسمي للتشيّع في إيران ، وكان ذلك بجهود العلاّمة الحلّي والذي بقي في إيران بصحبة السلطان ثلاث سنوات .. وبلغ من شغف السلطان بالعلاّمة الحلّي أن صنع له مدرسة سيّارة معمولة من الأدم (الجلود) تنقل معه في أسفاره فإذا حلّ في مكان أُقيمت له تلك المدرسة ، وفيها جميع ما يلزم من غرب وأواوين ولوازم أُخرى ..»(1).
وليس لدينا تفاصيل دقيقة أُخرى عن هذه المدرسة.
المبحث السابع : المناهج التدريسية في حوزة الحلّة :
ممّا لا شكّ فيه أنّ التراث العلمي الذي خلّفته مدرسة بغداد ؛ وورثته مدرسة النجف الأشرف وحوزتها العلمية في دورها الأوّل ؛ كان تراثاً علميّاً كبيراً ومتنوّعاً وشاملاً لأغلب المعارف والعلوم السائدة آنذاك ؛ وخاصّة تركة الشيخ الطوسي العلمية ، والتي خلّفها في مجال علم الفقه ، وأُصوله ، 8.
ص: 226
والرجال ، والتفسير ، والحديث ، وعلم الكلام وغيرها من العلوم التي «رفعته .. عن مستوى النقد ، وجعلت آراءه ونظريّاته شيئاً مقدّساً لا يمكن أن ينال باعتراض أو يخضع لتمحيص»(1).
وأصبح منحى «التقليد» هو المنحى السائد في الحوزة العلمية التي أعقبت وفاة الشيخ الطوسي (460 ه) إلى فترة استمرّت لأكثر من قرن من الزمن ، ومن برز من علماء هذه الفترة لم يستطع تجاوز آراء الشيخ الطوسي ومبتكراته الفقهية والأُصولية.
وعلى ضوء هذا الواقع السكوني للحوزة العلمية بعد رحيل الطوسي ، بقيت المناهج والمتون الدراسية التي ألّفها الشيخ هي السائدة في الحوزة ولم يؤلّف بديلاً عنها طيلة أكثر من قرن من الزمن ، وما كُتب من مؤلّفات فقهية أو أُصولية لم تستطع أن تحلّ محلّ كتب الشيخ في مجال التدريس.
فنجد كتاب النهاية في علم الفقه للشيخ الطوسي هو الكتاب والمتن التدريسي لهذا العلم طيلة هذه الفترة ، بل إنّ بعضهم قد أسبغ على هذا الكتاب هالة قدسية عجيبة فادّعى أنّه رأى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في المنام يخبره بصحّة كافّة فتاوى الشيخ في كتاب النهاية(2).
كذلك الأمر في كتاب العدّة في علم الأُصول للشيخ أيضاً ، إذ لم يحلّ محلّه كتاب آخر في هذا العلم إلى زمن ظهور كتاب المعارج المحقّق الحلّي 5.
ص: 227
(ت 676 ه) ، رغم أنّه خلال هذه المرحلة قد كتبت مؤلّفات أُصولية متعدّدة كان من أهمّها كتاب التقريب الذي ألّفه حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف سلاّر (ت 463 ه) وكتاب المصادر في أُصول الفقه للشيخ سديد الدين الحمصي «كان حيّاً حدود سنة 600 ه» كذلك كتاب غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع للشيخ حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي (ت 585 ه)(1).
إلاّ أنّ هذه المؤلّفات وغيرها لم تستطع أن تزيح كتاب الشيخ الطوسي وتحلّ محلّه ، حتّى ظهور مدرسة الحلّة.
وتعتبر مدرسة الحلّة وحوزتها العلمية ، مدرسة تجديدية مبدعة ، استطاعت ومن خلال جهود علمائها أن تجدّد في الموروث الفقهي والأُصولي والرجالي ، وكان لها إبداعها في المجال العقلي والفلسفي والكلامي.
ومن يسبر غور تراث هذه المدرسة العلمي - وهو تراث ضخم تحدّثنا عنه سابقاً - يجد معالم هذا التجديد جليّاً ؛ ويلمس حضور مدرسة جديدة في الاجتهاد ، لها إبداعها في جميع المجالات العلمية ، ومنها الكتب الدراسية المنهجية الحوزوية.
ويعتبر المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن (ت 676 ه) من أهمّ الشخصيّات العلمية في مدرسة الحلّة وله إبداعه في كافّة المجالات 7.
ص: 228
العلمية والمعرفية وخاصّة في مجال وضع المناهج الدراسية البديلة عن المنهج القديم المتّبع منذ زمن الشيخ الطوسي ، «فإنّه استطاع أن يغيّر المناهج الدراسية باستبدال كتابه الفقهي المسمّى ب- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام كبديل لكتاب النهاية للشيخ الطوسي ، لما رآه من ضرورة نقل الفقه إلى دائرة أوسع ممّا كان عليه ، لأنّ كتاب الطوسي لم يتعدّ إيراد أُمّهات مسائل الفقه ، وأُصوله ، في حين أنّ كتاب الشرائع اشتمل على التفريع ، وتخريج الأحكام ، فإنَّ اقرار كتاب الشرائع رسميّاً في الدراسة الفقهية والعناية به بحثاً وتعليقاً قاد إلى توسيع مناهج الاستنباط والتصنيف «وقد اهتمَّ الفقهاء منذ عهد تأليف الشرائع اهتماماً كبيراً به ، ولا يزال من الكتب التي عليها مدار الدراسة في مراكز العلم ..»(1).
كذلك نجد له متناً فقهيّاً مختصراً خالياً من الاستدلال يعرف ب- المختصر النافع وهو اختصار لكتابه الموسّع الشرائع ، وأمّا في مجال علم أُصول الفقه ، فنجد له أيضاً كتاب معارج الأُصول وكتاب نهج الوصول إلى معرفة علم الأُصول والذي استطاع من خلالهما أن يقدّم تنقيحات في علم الأُصول أعطت للاجتهاد مدلولاً جديداً نقلت بعض مباحثه من طورها التقليدي إلى طور آخر أكثر شمولاً واستيعاباً»(2) ، وقد حلَّ هذان الكتابان محلَّ كتاب العدّة في علم الأُصول للشيخ الطوسي وكتاب الذريعة في علم الأُصول للمرتضى. 0.
ص: 229
ثمّ جاءت من بعد كتب المحقّق الحلّي المنهجية التدريسية ، كتب العلاّمة الحلّي في الفقه والأُصول ، والتي كتبها على مستويات متعدّدة - كما مرّ بنا سابقاً - وفي علم الأُصول الذي له فيه أكثر من مؤلّف وعنوان ، كالمبادئ ، والتهذيب ، والنهاية ...
كذلك نلمس معالم التجديد في المناهج الدراسية في حوزة الحلّة العلمية من خلال تسرّب الأفكار الفلسفية والكلامية لنصير الدين الطوسي (ت 672 ه) إلى المعاهد التعليمية في مدرسة الحلّة من خلال كتابه تجريد الاعتقاد الذي شرحه تلميذ الطوسي العلاّمة الحلّي ، والذي لا زالت المراكز العلمية إلى اليوم قائمة بتدريسه ، والجديد في هذا الكتاب أنّ نصير الدين «مزج فيه الفلسفة لأوّل مرّة بعلم الكلام مزجاً تامّاً بحيث صارا شيئاً واحداً»(1).
كذلك استطاعت مدرسة الحلّة أن تنفتح على المناهج السائدة في المدارس الفقهية الأُخرى آنذاك.
فنجد من بين التراث الأُصولي للعلاّمة الحلّي شروحاً لبعض المتون الدراسية التي كانت سائدة عن اتّباع المذاهب الأُخرى والتي ألّفها كبار علمائهم ، فنجد له شرحاً في أُصول الفقه للغزالي (ت 505 ه) وهو من أئمّة المذهب الشافعي ، وكتاباً آخر لأبي بكر الجصّاص (ت 370 ه) وهو أيضاً 6.
ص: 230
من كبار علماء المذاهب السنّية سمّاه الشرح المختصر في أُصول الفقه(1).
كذلك نجد من بين المؤلّفات الأُصولية للعلاّمة الحلّي شرحاً لكتاب مختصر الأُصول لابن الحاجب ، المتوفّى سنة (646 ه) وهو من علماء السنّة ، وهو شرح مزجيّ ، أسماه غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل.
وعلّل بعض الباحثين عمل العلاّمة الحلّي على الكتب الأُصولية هذه أنّه ناشئ من التقارب في وجهات النظر بين بعض المذاهب السنّية والمذهب الإمامي(2) ؛ إلاّ أنّ الهدف الذي أراده ابن المطهّر هو محاولة إدخال نفس جديد في مباحث الكتب السنّية وتحويلها بما يلائم الطريقة التي يؤمن بها في التفكير. ففي كتاب المختصر للجصّاص حاول أن يضع له شرحاً مزجيّاً معتمداً على طريقته الخاصّة في الاجتهاد(3).
ولم تتنكّر مدرسة الحلّة للتراث الفقهي والأُصولي للشيخ الطوسي ، وإنّما تعاملت معه بروح علمية نقدية ، كما هو منهج ابن إدريس في تعامله مع آراء الشيخ الطوسي ، كذلك نجد المحقّق الحلّي ومن بعده تلميذه العلاّمة الحلّي يتعاملان مع آراء الشيخ بروح علمية وبمنهجية فريدة في تقبّل تلك الآراء أو ردِّها ؛ بالإضافة إلى شرح وبيان لتلك الآراء الفقهية ، كما هو واضح 0.
ص: 231
من خلال مؤلّف المحقّق الحلّي المعروف ب- : نكت النهاية والذي شرح فيه المتن الفقهي التدريسي للشيخ الطوسي النهاية.
وبما أنّ بعض المتون والمناهج الدراسية بحاجة إلى شروح وتوضيحات للدارسين لها ، فقد انبرى بعض أُولئك الأعلام إلى شرحها وتوضيحها ، إمّا مباشرة من قبلهم كما فعل ذلك المحقّق الحلّي في شرحه لكتاب المختصر النافع والذي أسماه ب- : المعتبر في شرح المختصر ؛ وإمّا بواسطة تلامذتهم الدارسين عندهم كما نجد ذلك عند أبرز تلامذة المحقّق الحلّي الشيخ حسن بن أبي طالب المعروف ب- (الفاضل الآبي) الذي كان حيّاً في (حدود 672 ه) والذي كتب شرحاً لكتاب أُستاذه المختصر النافع سمّاه كشف الرموز. كذلك نجد للشيخ المقداد السيوري (ت 826 ه) - وهو من كبار علماء الحلّة - شرحاً مزجيّاً لكتاب المختصر النافع عرف ب- : التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع.
كذلك نجد لابن فهد الحلّي (ت 841 ه) شرحه الموسوم ب- : المهذّب البارع إلى شرح المنافع ، وهكذا توالت الشروح والتوضيحات على هذا المتن الدراسي الفقهي ، حتّى أحصى له الشيخ الطهراني أكثر من ثلاثين شرحاً بالإضافة إلى الحواشي المتعدّدة(1).
كذلك نجد الشروح والحواشي المتعدّدة على كتاب شرائع الإسلام 9.
ص: 232
للمحقّق الحلّي ، ومنذ عصر المحقّق (ت 676 ه) وإلى يومنا هذا ، وقد أحصى الشيخ الطهراني الكثير من هذه الشروح والحواشي ، ولكبار العلماء والفضلاء ، وقال واصفاً كتاب الشرائع : «من أحسن المتون الفقهية ترتيباً وأجمعها للفروع ، وقد ولع به الأصحاب من لدن عصر مؤلّفه إلى الآن ، ولا يزال من الكتب الدراسية في عواصم العلم الشيعية ، وقد اعتمد عليه الفقهاء خلال هذه القرون العديدة فجعلوا أبحاثهم وتدريساتهم فيه ، وشروحهم وحواشيهم عليه ، وللعلماء عليه حواشي كثيرة .. وله شروح متعدّدة .. بل إنَّ معظم الموسوعات الفقهية الضخمة التي أُلّفت بعد عصر المحقّق شروح له كما توضّحه أسماؤها .. هذا ما حضرني من الشروح التي لها عناوين خاصّة تذكر في محلّها ، وسيأتي قرب مائة شرح بعنوان شرح الشرائع ليس له عنوان خاصّ ..»(1).
كذلك نجد كتب العلاّمة الحلّي (ت 726 ه) ، قد حظيت بدورها أيضاً بالشرح والتوضيح من قبل تلامذته وتلامذة تلامذته ومن تلاهم من العلماء والفضلاء ، وكان على رأس أُولئك الشرّاح ولده محمّد بن الحسن المعروف بفخر المحقّقين (ت 771 ه) الذي تصدّر بعد والده للتدريس ، وتربية الطلاّب والفضلاء في حوزة الحلّة العلمية وقد شمّر عن ساعد الجدّ في شرح كتب والده الفقهية والأُصولية ، وله من الشروح كتاب شرح قواعد الأحكام 1.
ص: 233
الموسوم ب- : إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد كذلك له حاشية على الإرشاد إرشاد الأذهان لوالده وله أيضاً شروح على الكتب الأُصولية لوالده ، فله شرح مبادئ الأُصول وغاية السؤول في شرح تهذيب الأُصول وكلا الكتابين لوالده أيضاً.
وجاء من بعد ذلك تلامذة العلاّمة وتلامذة ولده ، وتلامذتهما وامتداد مدرسته وفروعها الباسقة المثمرة ، لتصل تراث العلاّمة شرحاً وتعليقاً وتوضيحاً واختصاراً ، فبرزت لدينا عناوين كثيرة لهذه المؤلّفات أحصى عناوينها الشيخ الطهراني في ذريعته(1).
كذلك حظيت كتب العلاّمة العقائدية والكلامية بنفس الدرجة من الاهتمام من قبل تلامذته وامتدادهم في حوزة الحلّة العلمية ، فنجد الشروح والحواشي على كتاب نهج الحقّ وكشف الصدق ، وكذلك حظي الكتاب المختصر نهج المسترشدين بنفس الدرجة من الاهتمام ، بالإضافة إلى كتاب شرح التجريد الموسوم ب- : شرح المراد في شرح تجريد الاعتقاد والذي تحدّثنا عنه سابقاً.
وخلاصة الأمر ؛ فإنّ مدرسة الحلّة العلمية جدّدت مناهج الحوزة العلمية وأبرزت متوناً دراسية بديلة عن المتون الدراسية السابقة عليها ، كما ظهر فيها منهجية جديدة في التأليف والتدوين وبيان المصطلحات والمفاهيم (2). 9.
ص: 234
كما أنّ هذه المناهج والمتون الدراسية قد تداولها العلماء والفقهاء من عصر مؤلّفيها وإلى الوقت الحاضر بالدرس والتدريس ، وكتبت عليها الشروح والحواشي والتعليقات الكثيرة ، ولا زال الكثير من هذه المتون الدراسية هي السائدة الآن في الحوزات العلمية والمدارس الدينية كمتون دراسية رغم مرور قرون من الزمن على تأليفها وتدوينها.
المبحث الثامن : مصادر التمويل المالي في حوزة الحلّة :
لقد كانت الحوزة العلمية في الحلّة وعلى طول تاريخها المديد من الحوزات العلمية المتمكّنة ماليّاً ، إذ كان يفيض عليها الخير والعطاء من كلّ صوب وحدب ، وكانت بدورها تفيض علماً ومعرفةً وفكراً وعطاءً للإسلام والمذهب ، فكانت مقصداً ودار هجرة لطلاّب العلوم والمعارف والآداب ، فقصدها عشّاق الفضيلة ليدرسوا العلوم على علمائها الأعلام ، فنبغ فيها العلماء والحكماء والأُدباء ، وذاع صيتهم مدى الآفاق»(1).
وتعود مصادر التمويل إلى عوامل متعدّدة منها :
أوّلاً : موقعها التجاري المتميّز :
يصف البلدانيّون مدينة الحلّة بأنّها : «مدينة زاهرة في موضع عامر بالخصب .. وتقع بالجانب الأيمن للفرات .. وسمّوا أرضه «بالسواد» لخضرته 3.
ص: 235
بالنخل والزرع ..».
لقد كان لهذه المدينة بموقعها الجغرافي المتميّز وأنهارها الجارية ، وأرضها الخصبة ، وقراها المتّصلة بها .. اقتصاد قويٌّ ، وموارد ماليّة كبيرة أدّت إلى ازدهارها ورفاه أهلها ماليّاً ، ممّا انعكس إيجابيّاً على أبنائها ممّن تفرّغ لطلب العلم في حوزتها الدينية ، إذ كان أغلبهم ممّن ينتسب إلى الحلّة أو إلى قراها المجاورة لها كالنيل ، وبرس ، وسورى ، والسيب ، والعتائق .. وغيرها ، من القرى الكثيرة والتي تتفرّع منها قرى أُخرى كما هو في قرية النيل التابعة للحلّة ، والواقعة على نهر النيل ، حيث يقول المؤرّخون بأنّه «كان على نهر النيل أربعمائة قرية آهلة بالسكّان»(1).
ثانياً : كرم الأُمراء المزيدين :
لقد بدأت النهضة العلمية والأدبية في الحلّة منذ مصّرها الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد مؤسّس الدولة المزيدية وباني مجدها التليد.
وقد عرف الأمير صدقة ومن تلاهُ من أُمراء هذه الأمارة الكريمة بسجايا ومكارم كثيرة من أهمّها ، محبّتهم للعلوم والمعارف ، وكرمهم «ولغرام أُولئك الأُمراء الكرام بالعلوم والآداب ، كانوا يدنون منهم مجالس أرباب العلوم والأدب ، وينتشلونهم من مهاوي البؤس والفاقة .. لذلك تقاطر إليها العلماء والأُدباء والشعراء ليتمتّعوا بحرّية تامّة وعيشة راضية ، فرسخت فيها الروح ا.
ص: 236
العلمية والأدبية حتّى أينعت وأثمرت وجادت بما يستطاب». يقول العماد الإصفهاني : «ملوك العرب وأُمراؤها بنو مزيد الأسديّون النازلون بالحلّة السيفية على الفرات ، كانوا ملجأً للاّجئين ، وثمال الراجين ، وسؤل المعتفّين ، وكنيف المستضعفين ، تشدّ إليهم رحال الآمال ، وتنفق عندهم فضائل الرجال .. وأثرهم في الخيرات أثير ، والحديث عن كرمهم كثير ..»(1).
ثالثاً : رعاية نصير الدين الطوسي للعلم والعلماء :
لقد كانت لشخصية محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بالمحقّق الطوسي وبالخواجه نصير الدين الطوسي ، دور فاعل ومؤثّر في الحياة العلمية في القرن السابع الهجري ، وفي فترة عصيبة من تاريخ الأُمّة الإسلامية ، حيث استطاع وبجهوده ووجاهته ومكانته العلمية أن يحفظ ما تبقّى من تراث المسلمين ، وأن يحفظ حياة الكثير من علماء المسلمين بغضّ النظر عن انتمائهم المذهبي ، وكانت له اليد البيضاء الكريمة على علماء المسلمين عامّة وعلى علماء الشيعة وحوزتها العلمية في الحلّة خاصّة.
لقد وفّر نصير الدين الطوسي للعلماء والفقهاء والمحدّثين والحكماء والفلاسفة حياة حرّة كريمة «وقرّر رواتب دائمة لطلاّب المدارس والمعاهد بحسب أهمّيتها»(2) وقد تحدّثنا عن ذلك فيما سبق من البحث ، وليس هنالك من إضافة إلاّ مقطع من رسالة أنشأها عالم دمشق مؤيّد الدين العرضي ، وهو 6.
ص: 237
أحد العلماء العرب الذين لبّوا دعوة الطوسي فترك دمشق ومضى إلى مراغة عاملاً تحت لواء الطوسي في الميدان العلمي الواسع ، وإليك ما كتبه في رعاية الطوسي للعلماء في مقدّمة رسالته : «.. وذلك بإشارة مولانا المعظّم والإمام الأعظم العالم الفاضل المحقّق الكامل قدوة العلماء وسيّد الحكماء ، أفضل علماء الإسلاميّين بل المتقدّمين ، وهو من جمع الله سبحانه فيه ما تفرّق في كافّة أهل زماننا من الفضائل والمناقب الحميدة وحسن السيرة ، وغزارة العلم وجزالة الرأي وجودة البديهة والإحاطة بسائر العلوم ، فجمع العلماء إليه ، وضمَّ شملهم بوافر عطائه ، وكان بهم أرأف من الوالد على ولده ، فكنّا في ظلّه آمنين ، وبرؤيته فرحين كما قيل :
نميل على جوانبه كأنّا
نميل إذا نميل على أبينا
ونغضبه لنخبر حالتيه
فنلقى منهما كرماً ولينا
وهو المولى نصير الملّة والدين محمّد بن محمّد الطوسي أدام الله أيّامه ، ولقد كنت :
واستكبر الأخبار قبل لقائه
فلمّا التقينا صغر الخُبر الخَبرْ
فلّله أيّام جمعتنا بخدمته ، وأبهجتنا بفوائده ، وإن كانت قد أبعدتنا عن الأوطان والعشيرة والولدان ، فإنّ في وجوده عوضاً عن غيره ، ومن وجده فما فاته شيء ، ومن فاته فقد عدم كلّ شيء ، فلا أخلانا الله منه وأمتعنا بطول
ص: 238
بقائه»(1). وهنالك الكثير من الروايات حول بعض العلماء الذين كانوا على درجة من الفقر ثمّ أثروا ثروة ضخمة ، بفضل نصير الدين الطوسي(2).
رابعاً : إسلام الدولة الإليخانية :
لقد كان لإسلام الدولة الإليخانية ثمّ اعتناقهم مذهب الإمامية الاثني عشرية بواسطة العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف ، دور كبير في دعم الحوزة العلمية في الحلّة ، إذ وفّر سلطان هذه الدولة المعروف ب- (محمّد خدابنده) للعلاّمة الحلّي مدرسة سيّارة تحتوي على كلّ المقوّمات الضرورية للدعوة والإرشاد والتدريس ، وكانت لها نفقات سخية تحدّثنا عنها سابقاً.
ونجد في ترجمة العلاّمة الحلّي بعض الإشارات التي أطلقها المترجمون له تشير إلى تمكّنه المالي ، ففي كتاب الدرر الكامنة يقول ابن حجر العسقلاني في ترجمة العلاّمة الحلّي : «وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة ، وكان رأس الشيعة بالحلّة ..» ثمّ يقول : «.. ويقال إنّه تقدّم في دولة خربندا [هكذا] وكثرت أمواله ، وكان مع ذلك في غاية الشحّ ...» وقد ردّ السيّد الأمين كلام ابن الحجر حيث نسبه إلى الشحّ فقال : إمّا نسبته إلى غاية الشحّ فلا تكاد تصلح ولا تصدّق في عالم فقيه عظيم عرف مذامّ الشحّ 2.
ص: 239
وقبحه ، فهو إن لم يكن سخيّاً بطبعه فلابدّ أن يتسخّى بسبب علمه ، مع أنّنا لم نجد ناقلاً نقلها غيره ..»(1).
الخاتمة :
خلاصة عامّة لأدوار مدرسة الحلّة :
بعد هذا السبر التاريخي لحوزة الحلّة العلمية منذ انطلاقها العلمي في القرن السادس الهجري ، على يد الشيخ ابن إدريس العلمي ، وإلى حين أُفولها في أواخر القرن التاسع الهجري ، لابدّ لنا من خاتمة نلخّص فيها أهمّ الأدوار الرئيسية التي مرّت بها هذه المدرسة والحوزة المباركة في عمرها المتمادي ، منذ تأسيسها ولأربعة قرون.
لقد اتّضح لنا ومن خلال استعراض مفردات تاريخ هذه الحوزة والعلماء الكبار الذين عاصروها ، إنّ هذه الحوزة المباركة مرّت بثلاث مراحل :
المرحلة الأُولى : مرحلة التأسيس :
وتبدأ من تأسيس مدينة الحلّة على يد بني مزيد الأسديّين ، والكرد الجاوانيّين سنة (495 ه) وبواسطة أعظم أُمرائها الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأسدي (ت 501 ه) ، إذ كان هذا الأمير ومن جاء بعده من الأُمراء المزيديّين من محبّي العلوم والآداب والمعارف ، ومن المشجّعين 8.
ص: 240
عليها والمؤازرين لها.
فظهر خلال هذه الفترة والتي تزامنت مع بداية القرن السادس للهجرة ، علماء وفقهاء وفضلاء اشتهروا بفروع معيّنة من المعرفة كالفقه والحديث والتفسير والأدب ، وعلى رأسهم الفقيه المجدّد محمّد بن إدريس بن أحمد العجلي الحلّي أبو عبد الله (ت 598 ه) الذي استطاع أن ينهض بحركة تجديدية في مباني الاجتهاد ، وأن يكسر طوق التقليد الذي كاد أن يغلق أبواب الاجتهاد عند الشيعة الإمامية.
المرحلة الثانية : مرحلة الازدهار والتوسّع :
وتبدأ هذه المرحلة من أوائل القرن السابع الهجري ، وتتوّج برائدها وقطب حركتها المحقّق المدقّق الإمام نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن ابن يحيى المعروف بالمحقّق الحلّي (ت 676 ه).
وقد سبق هذا العلم الفذّ ، ولحقه نخبة من أعلام الفقهاء وأسماء لامعة في دنيا العلوم والمعارف ، كانوا من أساتذة هذا المحقّق ، أو من تلامذته الأفذاذ ، وعلى رأسهم وقطب رحاهم العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (ت 726 ه) الذي تلمّذ للمحقّق الحلّي ثمّ كان شيخ الطائفة الإمامية ورئيسهم إلى حين وفاته.
وقد شهدت حوزة الحلّة العلمية في هذا الدور ازدهاراً وتوسعة بلغت القمّة في العطاء ، أنّ على مستوى الحضور الواسع لطلاّب العلم والمعرفة حتّى قيل إنَّ درس العلاّمة الحلّي قد تخرّج منه خمسمائة مجتهد في الفقه
ص: 241
والأُصول(1) ، أو على مستوى التراث العلمي الضخم الذي وصلنا من المحقّق والعلاّمة والعلماء الذين سبقوهم أو عاصروهم أو كانوا من تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم. وكان على رأس أُولئك ولد العلاّمة فخر المحقّقين محمّد بن الحسن (ت 771 ه) الذي واصل خُطى والده العلمي. «ويمكن اعتبار العلاّمة الحلّي حلقة وصل بين القرنين السابع والثامن الهجريّين ، إذ قضى في السابع ثلثي عمره ثمّ ثُلثه الأخير في الثامن»(2).
المرحلة الثالثة : مرحلة الركود والأُفول :
وهي المرحلة التي أعقبت رحيل العلاّمة الحلّي (ت 726 ه) والتي بدأت تدريجيّاً مع عصر فخر المحقّقين الذي واصل مدرسة والده وزعامته للحوزة الحلّية إلى حين وفاته عام (771 ه) ثمّ أعقبه بعض اللاّمعين من تلامذة والده وتلامذته حتّى هجرة بعض أعلام الحلّة إلى النجف وكربلاء من أمثال الشيخ المقداد السيوري أبي عبد الله (ت 826 ه) الذي هاجر إلى النجف الأشرف وأسّس فيها مدرسته العلمية ، وتوفّي فيها ، والشيخ أحمد بن فهد الحلّي (ت 841 ه) الذي هاجر إلى كربلاء وواصل حركته العلمية فيها حتّى توفّي ودفن هناك.
ومن أبرز المعالم الإيجابية لهذه المرحلة هجرة بعض طلاّب العلم إلى حوزة الحلّة في عصر الشيخ فخر المحقّقين ، «وكان من أهمّ هؤلاء الطلبة فتى (جزين) ، محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي الذي وصل إليها - الحلّة - سنة 1.
ص: 242
(750 ه) ودرس على يد علمائها وأصبح فيما بعد الرائد الأوّل لعلماء جبل عامل الشيعة ، ورئيساً للطائفة الشيعية في بلاد الشام»(1).
هذه هي أهمّ المراحل الرئيسية لحوزة الحلّة العلمية في تاريخها العلمي عبر القرون الأربعة ، والتي رافقها أحداث سياسية هامّة في الحلّة ، وفي بغداد ، وغيرها من مدن العراق ، والعالم الإسلامي ، وقد توقّفنا عند بعضها لملامستها لموضوع بحثنا.
وينبغي أن نشير إلى أنّ نهاية المرحلة الثالثة لا تعني بالضرورة النهاية التامّة لحركة العلم والعلماء في هذه المنطقة ، إذ ظهر فيها بعض العلماء والأُدباء والشعراء ، بل وبعض الأسماء اللامعة في عالم المرجعية الشيعية ، كالشيخ حسين الحلّي (ت 1394 ه) أُستاذ الحوزة العلمية في النجف ، وأُستاذ الفقهاء الكبار المعاصرين كالسيّد عليّ السيستاني ، والسيّد محمّد سعيد الحكيم (حفظهما الله).
وينبغي أن نشير أيضاً ، إلى أنّنا رغم إطالتنا في مباحث (حوزة الحلّة العلمية) إلاّ أنّنا لم نتمكّن من استيعاب جميع أبحاثها ، وذلك لامتدادها الزمني وكثرة علمائها ، ووفرة نتاجها العلمي ، والأحداث المفصلية الهامّة التي رافقتها ، فاكتفينا بالإشارة والتلميح في بعض جوانب البحث ، كما أهملنا ذكر بعض الأحداث الجانبية. 7.
ص: 243
المصادر
1 - ابن إدريس الحلّي : بناري - عليّ همّت ، ترجمة : حيدر حبّ الله ، طبعة مؤسّسة الغدير - بيروت ، الطبعة الأُولى (1425 ه- - 2005 م).
2 - أدوار الاجتهاد از ديدگاه مذاهب إسلامى (بالفارسية) : الجنّاتي - محمّد إبراهيم ، طبعة مؤسّسة كيهان - طهران ، الطبعة الأُولى (1372 ش).
3 - الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي : شمس الدين - محمّد مهدي ، طبعة المؤسّسة الدولية - بيروت ، الطبعة الأُولى (1419 ه- - 1999 م).
4 - أعيان الشيعة : الأمين - محسن بن عبد الكريم بن عليّ بن محمّد الأمين الحسيني العاملي الدمشقي (ت 1371 ه) ، حقّقه : السيّد حسن الأمين ، طبعة دار التعارف للمطبوعات - بيروت ، الطبعة الخامسة (1418 ه- - 1998 م).
5 - الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد : الطوسي - أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ (ت 460 ه) ، طبعة مكتبة جامع چهلستون - طهران (1400 ه).
6 - الألفين في إمامة أمير المؤمنين : الحلّي - أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الشهير بالعلاّمة الحلّي (ت 726 ه) ، طبعة بيروت.
7 - الإمارة المزيدية الأسدية في الحلّة : ناجي - عبد الجبّار ، طبعة قم (1431 ه).
8 - أمل الآمل في تراجم علماء جبل عامل : العاملي - محمّد بن الحسن بن عليّ الشهير ب- (الحرّ العاملي) (ت 1104 ه) ، تحقيق : أحمد الحسيني ، طبعة مكتبة الأندلس - بغداد ، (بلا - ت).
ص: 244
9 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار : المجلسي - محمّد باقر (ت 1111 ه) ، تحقيق ومراجعة وتقديم : الشيخ محمود درياب ومجموعة من العلماء ، طبعة دار التعارف للمطبوعات ، الطبعة الأُولى (1421 ه- - 2001 م).
10 - البداية والنهاية : ابن كثير - أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774 ه) ، طبعة مؤسّسة التاريخ العربي - بيروت (1413 ه- - 1993 م).
11 - تاريخ الإسماعيلية : عارف - تامر ، طبعة رياض الريس - لندن ، الطبعة الأُولى (1991 م).
12 - تاريخ التشريع الإسلامي : الفضلي - عبد الهادي ، طبعة مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي - قم ، الطبعة الأُولى (1414 ه- - 1993 م).
13 - تاريخ الحلّة : كركوش - يوسف ، طبعة المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف (1965 م).
14 - تاريخ فقه وفقهاء (بالفارسية) : گرجي - أبو القاسم ، طبعة سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم انسانى - طهران (1377 ه).
15 - تاريخ المؤسّسة الدينية الشيعية من العصر البويهي إلى نهاية العصر الصفوي : القزويني - جودت ، طبعة دار الرافدين - بيروت ، الطبعة الأُولى (1426 ه).
16 - تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : الصدر - حسن (ت 1354 ه) ، طبعة انتشارات أعلمي - طهران ، (بلا - ت).
17 - التحرير الطاووسي : العاملي - جمال الدين بن الحسن بن زين الدين (ت 1011 ه) ، طبعة مؤسّسة الأعلمي - بيروت ، الطبعة الأُولى (1408 ه- - 1988 م).
ص: 245
18 - تحفة العالم في شرح خطبة المعالم : بحر العلوم - جعفر (ت 1377 ه) ، طبعة الصادق - طهران ، (بلا - ت) ، والطبعة الجديدة المحقّقة بتحقيق : أحمد عليّ مجيد الحلّي ، طبعة مركز تراث السيّد بحر العلوم - النجف الأشرف ، الطبعة الأُولى (1433 ه).
19 - تطوّر حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية : آل قاسم - عدنان فرحان ، طبعة دار السلام - بيروت ، الطبعة الثالثة (1433 ه- - 2012 م).
20 - تكملة أمل الآمل : الصدر - حسن (ت 1354 ه) ، تحقيق : حسين عليّ محفوظ وآخرون ، طبعة دار المؤرّخ العربي - بيروت (1429 ه- - 2008 م).
21 - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة : ابن الفوطي - كمال الدين عبد الرزّاق بن أحمد الشيباني المعروف بابن الفوطي (642 ه) ، تحقيق : بشّار عوّاد وعماد عبد السلام رؤوف ، طبعة أُفست المكتبة الحيدرية - قم.
22 - الحوزة العلمية في الحلّة : عوض - عبد الرضا ، مجلّة آفاق نجفية ، العدد 12 لسنة (1429 ه- - 2008 م).
23 - الحياة الفكرية في العراق في القرن السابع الهجري : آل ياسين - محمّد مفيد.
24 - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : الحلّي - أبو منصور جمال الدين الحسني ابن يوسف بن عليّ بن المطهّر الشهير بالعلاّمة الحلّي (ت 726 ه) ، تحقيق وطباعة : نشر الفقاهة - قم ، الطبعة الأُولى (1417 ه).
25 - الخواجة نصير الدين الطوسي : رضوي - محمّد تقي مدرّس ، تعريب عليّ هاشم الأسدي ، طبعة الآستانه الرضوية - مشهد ، الطبعة الأُولى ، 1419 ه.
26 - دليل القضاء الشرعي : بحر العلوم - محمّد صادق ، طبعة النجف الأشرف ، (بلا - ت).
ص: 246
27 - الرجال : بحر العلوم - محمّد مهدي بن مرتضى بن السيّد محمّد (ت 1212 ه) ، الشهير ب- : (الفوائد الرجالية) أو (رجال السيّد بحر العلوم) ، بتحقيق وتقديم : السيّد محمّد صادق بحر العلوم ، والسيّد حسين بحر العلوم ، طبعة أُفست مكتبة العلمين في النجف الأشرف.
28 - رحلة ابن بطّوطة : ابن بطّوطة - أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الطنجي (ت 779 ه) شرح وتعليق : طلال حرب ، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت ، الطبعة الثانية (1423 ه- - 2002 م).
29 - رحلة ابن جبير : ابن جبير - محمّد بن أحمد الأندلسي (ت 614 ه) ، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت ، (بلا - ت).
30 - روضات الجنّات في تراجم العلماء والسادات : الخوانساري - محمّد باقر (1313 ه) ، طبعة مكتبة اسماعيليان - قم (1390 ه).
31 - رياض العلماء وحياض الفضلاء : أفندي - الميرزا عبد الله أفندي الإصفهاني (من أعلام القرن الثاني عشر) ، تحقيق : أحمد الحسيني ، طبعة مكتبة المرعشي - قم (1403 ه).
32 - ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية واللّقب (بالفارسية) : مدرّسي - محمّد عليّ ، طبعة شفق - تبريز إيران ، الطبعة الثالثة ، (بلا - ت).
33 - الصلة بين التصوّف والتشيّع : الشيبي - كامل مصطفى ، طبعة دار الأندلس - بيروت ، الطبعة الثالثة (1982 م).
34 - طبقات أعلام الشيعة : الطهراني آقا بزرك - محسن ، (ت 1389 ه) ، طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت ، الطبعة الأُولى (1430 ه- - 2009 م).
ص: 247
35 - غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع : ابن زهرة - حمزة بن عليّ الحلبي (ت 585 ه) ، تحقيق : إبراهيم البهادري ، طبعة مؤسّسة الإمام الصادق - قم ، الطبعة الأُولى (1417 ه).
36 - الفتاوى الواضحة وفقاً لمذهب أهل البيت : الصدر - محمّد باقر (ت 1401 ه) ، طبعة دار التعارف - بيروت ، الطبعة السابعة (1401 ه- - 1982 م).
37 - فرائد الأُصول : الأنصاري - مرتضى محمّد أمين ، طبعة مطبعة النعمان - النجف ، (بلا - ت).
38 - فرحة الغري : ابن طاووس - عبد الكريم بن أحمد (ت 693 ه) ، طبعة منشورات الرضي - قم (بلا - ت) ، وطبعة العتبة العلوية بتحقيق الشيخ محمّد مهدي نجف ، الطبعة الأُولى (1431 ه- - 2010 م).
39 - الفقه في جنوب لبنان : الحسيني - محمّد طاهر ، طبعة دار المحجّة البيضاء - بيروت ، الطبعة الأُولى (1430 ه- - 2009 م).
40 - فوات الوفيات : الكتبي - محمّد بن شاكر (ت 764 ه) ، تحقيق : إحسان عبّاس ، طبعة دار صادر - بيروت (بلا - ت).
41 - الفهرست : منتجب الدين - عليّ بن بابويه الرازي (من أعلام القرن السادس الهجري) ، تحقيق وتقديم : جلال الدين محدّث أرموي ، طبعة مكتبة المرعشي - قم (1366 ش).
42 - الفيلسوف نصير الدين الطوسي : الأعسم - عبد الأمير ، طبعة دار الأندلس - بيروت ، الطبعة الثانية (1980 م).
43 - قاموس الرِّجال في تحقيق رواة الشيعة ومحدّثيهم : التستري - محمّد تقي بن كاظم التستري (ت 1320 ه) ، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي - قم ، الطبعة الثانية (1410 ه).
ص: 248
44 - قواعد الحديث : الغريفي - محيي الدين ، مطبعة الآداب - النجف الأشرف ، الطبعة الأُولى (1388 ه).
45 - القواعد والفوائد في الفقه والأُصول والعربية : العاملي - أبو عبد الله محمّد بن مكّي المعروف بالشهيد الأول (ت 786 ه) ، تحقيق : عبد الهادي الحكيم ، طبعة أُفست مكتبة المفيد - قم إيران ، (بلا - ت).
46 - الكافي في الفقه : الحلبي - أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الدين بن عبيد الله ابن محمّد الحلبي (ت 447 ه) ، تحقيق : رضا الأُستادي ، طبعة منشورات مكتبة أمير المؤمنين - إصفهان (1403 ه).
47 - الكامل في التاريخ : ابن الأثير - عزّ الدين أبي الحسن عليّ بن محمّد أبي الكرم الجزري (ت 630 ه) ، تحقيق : عليّ شيري ، طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت ، الطبعة الأُولى (1408 ه- - 1989 م).
48 - كتاب الرجال : الحلّي - تقي الدين الحسن بن عليّ ابن داود (ت بعد سنة 707 ه) ، حقّقه وقدّم له : السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم.
49 - كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين : طبعة مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم ، (بلا - ت).
50 - كنز العرفان في فقه القرآن : السيّوري - جمال الدين المقداد بن عبد الله (ت 826 ه) ، طبعة المكتبة الرضوية - طهران (1384 ه).
51 - لسان الميزان : ابن حجر العسقلاني ، أبي الفضل أحمد بن عليّ (ت 852 ه) ، طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت ، الطبعة الثانية (1422 ه- - 2001 م).
52 - متابعات تاريخية فكرية لحركة الفكر في الحلّة : آل ياسين - محمّد مفيد ، طبعة المكتبة العصرية - بغداد ، الطبعة الأُولى ، (1425 ه- - 2004 م).
ص: 249
53 - مجالس المؤمنين (بالفارسية) : الشوشتري - القاضي نور الله (الشهيد سنة 1019 ه) ، انتشارات إسلامية - طهران (1377 ش).
54 - مجلّة فقه أهل البيت : : مجلّة فصلية تخصّصية تصدرها دائرة معارف فقه أهل البيت : في قم ولبنان.
55 - مجلّة لغة العرب ، (مجلّة شهرية أدبية علمية تاريخية) : الكرملي - الأب انستاس ماري ، طبعة دار الحرّية (1391 ه- - 1971 م).
56 - مجموعة رسائل الشريف المرتضى : المرتضى - علم الهدى الشريف عليّ بن الحسين بن موسى (ت 436 ه) ، تقديم : أحمد الحسيني ، إعداد : مهدي الرجائي ، طبعة دار القرآن - قم (1405 ه).
57 - مختلف الشيعة : طبعة مركز الأبحاث والدراسات - قم ، الطبعة الثانية (1423 ه).
58 - المدخل إلى أُصول الفقه الجعفري : عمرو - القاضي يوسف محمّد ، قدّم له السيّد محمّد الصدر ، طبعة دار الزهراء - بيروت ، الطبعة الأُولى ، (1401 ه- - 1981 م).
59 - مدرسة الحلّة العلمية ودورها في حركة التأصيل المعرفي : الحكيم - حسن عيسى ، طبعة مركز الهدى للدراسات الحوزوية (2009 ه).
60 - مراحل تطوّر الاجتهاد (مقال) ، مجلّة فقه أهل البيت : : الحكيم - منذر ، العدد 17.
61 - المراسم في الفقه الإمامي : سلاّر - حمزة بن عبد العزيز الديلمي (ت 463 ه) ، تحقيق : د. محمود البستاني ، طبعة أُفست الحرمين - قم ، الطبعة الأُولى (1400 ه- - 1980 م).
ص: 250
62 - المراصد الفلكية في العالم الإسلامي : هاييلي - آيدين ، طبعة مؤسّسة الكويت للتقدّم العلمي ، الطبعة الأُولى (1995 م).
63 - مراقد المعارف : حرز الدين - محمّد (ت 1365 ه) ، تحقيق : محمّد حسين حرز الدين ، أُفست الطبعة الأُولى ، انتشارات سعيد بن الجبير - قم (1992 م).
64 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل (الخاتمة) : النوري - ميرزا حسين ابن محمّد تقي النوري الطبرسي ، الشهير بالمحدّث النوري (ت 1320 ه- - 1902 م) ، الخاتمة ، طبعة وتحقيق : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم ، الطبعة الأُولى (1407 ه).
65 - مشاهير المدفونين في النجف : الفتلاوي - كاظم ، طبعة النجف ، العتبة العلوية ، الطبعة الأُولى (1431 ه- - 2010 م).
66 - مصفى المقال : الطهراني آقا بزرك - محسن (ت 1389 ه) ، طبعة دار العلوم - بيروت ، الطبعة الثانية (1408 ه- - 1988 م).
67 - معارف الرجال في تراجم العلماء والأُدباء : حرز الدين - محمّد (ت 1365ه) ، علّق عليه : محمّد حسين حرز الدين ، طبعة مكتبة المرعشي - قم (1405 ه).
68 - المعالم الجديدة للأُصول : الصدر - محمّد باقر (ت 1410ه) ، طبعة المجمع العالمي للإمام الشهيد الصدر ، الطبعة الثالثة (1429 ه).
69 - المعتبر في شرح المختصر : الحلّي - نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن الهُذلي المحقّق الحلّي (ت 676 ه) ، تحقيق : عدّة من الأفاضل ، طبعة مؤسّسة سيّد الشهداء - قم ، (بلا - ت).
ص: 251
70 - معجم البلدان : الحموي - شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت (ت 626 ه) ، طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت (بلا - ت).
71 - معجم رجال الحديث وتفصيل الرواة : الخوئي - السيّد أبو القاسم بن عليّ أكبر الخوئي (1413 ه) ، نشر الفقاهة - قم ، الطبعة الخامسة ، (1413 ه- - 1992 م).
72 - معجم مقاييس اللّغة : ابن فارس - أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريّا (ت 395 ه) ، حقّقه : شهاب الدين أبو عمرو ، طبعة دار الفكر - بيروت (1414 ه).
73 - مقدّمة تحقيق كتاب شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي : البقّال - عبد الحسين ، الطبعة المحقّقة الأولى ، مطبعة الآداب - النجف الأشرف (1389 ه- - 1969 م).
74 - مقدّمة كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيدين العامليّين : الآصفي - محمّد مهدي ، طبعة بيروت ، (بلا - ت).
75 - منتهى المقال في معرفة الرجال : الحائري - أبو عليّ محمّد بن إسماعيل المازندراني (ت 1216 ه) ، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم ، الطبعة الأُولى (1416 ه).
76 - موسوعة طبقات الفقهاء : السبحاني - جعفر ، طبعة دار الأضواء - بيروت ، الطبعة الأُولى (1420 ه- - 1999 م).
77 - موسوعة العتبات المقدّسة : الخليلي - جعفر ، طبعة مؤسّسة الأعلمي - بيروت ، الطبعة الثانية (1407 ه- - 1987 م).
78 - المهذّب البارع : ابن البرّاج - أبو القاسم عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي (ت 481 ه) ، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرّسين - قم (1406 ه).
ص: 252
79 - النجف الأشرف والحلّة الفيحاء صلات علمية وثقافية عبر عصور التاريخ : الحكيم - حسن عيسى طبعة مطبعة الغريّ الحديثة (2006 م).
80 - نزهة الناظر : الحلّي - نجيب الدين يحيى بن سعيد (ت 690 ه) ، إعداد السيّد أحمد الحسيني ، طبعة الآداب - النجف (1386 ه).
81 - نظام الحكم في الإسلام النبوّة والإمامة : مقلّد - عليّ ، طبعة مركز الحضارة - بيروت.
82 - نقد الرجال : التفرشي - مصطفى بن الحسين الحسيني (من أعلام القرن الحادي عشر الهجري) ، تحقيق وطباعة : مؤسّسة آل البيت : لإحياء التراث - قم ، الطبعة الأُولى (1418 ه).
83 - الوافي بالوفيات : الصفدي - صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 ه) ، طبعة دار النشر فرانز شتانيز - فيسبادن (1381 ه- - 1962 م).
84 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ابن حمزة - محمّد بن عليّ الطوسي (من أعلام القرن السادس الهجري) ، تحقيق : محمّد الحسّون ، طبعة مكتبة المرعشي - قم (1408 ه).
85 - هديّة الأحباب في ذكر المعروفين بالكنى والألقاب : القمّي - عبّاس بن محمّد رضا بن أبي القاسم (1359 ه) ، ترجمة : هاشم الصالحي ، طبعة مؤسّسة نشر الفقاهة - قم ، الطبعة الأُولى (1420 ه).
86 - هديّة العارفين في أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين : البغدادي - إسماعيل بن محمّد باشا الباباني البغدادي (ت 1339 ه) ، طبعة استانبول (1960 م).
ص: 253
ذات الحواشي
السيّد عبد الستّار الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمّد وآله الطاهرين ، والرضا عن أصحابه المنتجبين.
وبعد : فقد كنت اقتنيت (دورةً) - على اصطلاح العصريّين - من كتاب الحماسة ذات الحواشي من مصنّفات العلاّمة الأديب السيّد فضل الله الراوندي (ت 571 ه) وهو كتاب نفيس مفعم بالفوائد ، وقد زاده حسناً ورصانة اضطلاع جماعة من المحقّقين الكُفاة والأعلام الوعاة بتحقيقه ، تحقيقاً مستوفياً لشرائط (التحقيق العلمي) ، وإخراجه للملأ العلمي بأبهى الحلل القشيبة ، وإنّ نشره بهذا الطراز الفاخر والتحقيق المُوْعِب النادر لهو حسنة مستطرفة ،
ص: 254
وفضيلة مؤتنفة ، تضاف إلى (قائمة) محاسن مؤسّسة آل البيت عليهم السلام وفضائلها ، هذه المؤسّسة التي لها الدور المتميّز في إحياء التراث العلمي والأدبي ونشر أعلاقه النفيسة.
وقد قرأت الجزء الأوّل من الكتاب المذكور ، وقيّدت جملةً من التعليقات على حواشيه كما هو دأبي في غالب قراءاتي ، ولم يكن ما قيّدته (نقداً) بالمعنى المعروف لهذا التعبير ؛ وإنّما هو على سبيل الحاشية (الإضافيّة) ، مع سلوك سبيل (الاستطراد) بذكر جملة ممّا أزعم أنّه داخل في معنى الإفادة ، ولو على نحو التجوّز والاتّساع ، وسيأتي التعليق على سائر أجزاء الكتاب ، إن شاء الله تعالى.
وَكَتبَ الأقل عبد الستّار الحسني 2/شهر ربيع الآخر/1435 ه-
* وفي صفحة 5 من المقدّمة : «ربما يؤثّر على وضع الخطاب ..».
والصواب : بما يؤثّر في وضع الخطاب ؛ لأنّ الفعل (أثّر) وما اشتقّ منه يتعدّى بحرف الجرّ (في) وليس ب- : (على) كما شاع خطأ.
* وفي ص 5 : «وإن لم تصرّح بذلك أدواته ومبادؤه».
والصواب : ومبادئه ؛ على مقتضى قواعد كتابة (الهمزة) مع مراعاة حركتها وحركة ما قبلها ممّا هو مبسوط في بابه.
* وفي ص 5 : «الحاكمة لطبيعة الخطاب وتمظهراته».
أقول : عبارة (وتمظهراته) من كلام المتأخّرين المولعين بما يعرف عندهم ب- : (الاسلوب الحداثويّ).
ص: 255
وما كانت العرب تنطق بمثل ما تكلّفه (العصريّون) من هذه البابة ، وإن استعملت ما هو قريب في (الرسم) من (التمظهرات) ، فإنّما تستعمله ل- : (نكتة بلاغية) ، وهو باب واسع ليس هذا موضع بسطه ، وإنّ كتاباً مثل هذا الكتاب يُعنى بأدب التراث العربي الأصيل ، ويتحرّى فيه المصنّف أفصح لغات العرب ، ليس من المناسب أن تحشر في مقدّمته ولا في هوامشه (الكلمات الحديثة) ، حتّى مع الاعتراف بجمالية رسمها و (رونقة جرسها). وبحسبي ما نبّهت عليه - هنا - ليدلّ على الباقي ممّا لم أشر إليه مُراعاةً للإيجاز.
* وفي صفحة 9 : «ولعلّه كان الرائد في تبويب معاني الأختيار».
وهذا التعبير خطأ مُبين وقع فيه غير واحد من المتقدّمين بَل المتأخّرين ، وقد نبّه على ذلك أبو محمّد القاسم بن علي الحريري الربعيّ (ت 516ه) في كتابه دُرّة الغوّاص في أوهام الخواص بقوله : «ويقولون : لعلّه نَدِمَ ، أو لعلّه قَدِمَ ، فيلفظونَ بما يشتمل على المناقضة ، وينبىء عن المعارضة. ووجه الكلام أن يقال : لعلّه يفعل ، أو لعلّه لا يفعل ؛ لأنّ معنى لعلّ التوقّع لمرجو أو مخوف ، والتّوقّع إنّما يكون لما يتجدّد ويتولّد لا لما تقضّى وتصرّم ، فإذا قلت : خرج ، فقد أخبرت عمّا قضي الأمر فيه ، واستحال معنى التوقّع له ؛ فلهذا لم يجز دخول (لعلّ) عليه».
ومع أنّ الحريري خطّأ هذا التعبير - هنا - فقد وقع هو فيه ، في موضع آخر ؛ قال في خاتمة الدرّة معتذراً عمّن عرض إلى تخطئتهم : «... ولعلّ خواطرهم هفت بها نسيانا ، وأقلامهم خطرت بها طغيانا ؛ إذ استعمل (لعلّ)
ص: 256
مع (هفت) وهو فعل ماض لا يدلّ على (التوقّع) لمرجو أو مخوف ؛ كما ترى».
وقد وقفت على ما هو أذهب في باب الغرابة من هذا فيما روي عن عمر بن الخطّاب ، إذ جاء في ترجمة أبي بكر محمّد بن علي بن الحسن السجستاني (الترجمة 1299) من تاريخ مدينة السلام المعروف ب- : تاريخ بغداد في حديث طلاق فاطمة بنت قيس قول عمر بن الخطّاب : «لا ندع كتاب الله لقول آمرأة لعلّها نسيت».
أقول : لا يبعد أن يكون هذا (السجستاني) نقل قول (عمر) بالمعنى - إن صحّ النقل عنه - وقد كان كثير من الرواة - ومنهم رواة الحديث - ينقلون الحديث بالمعنى ، ولهذا لم يحتجّ جماعة من النحاة بالحديث الشريف.
ومن نافلة القول أن أشير هنا إلى أنّه لم ترد في القرآن الكريم كلمة (لعلّ) إلاّ للتوقّع. والمقام يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.
* وجاء في هامش صفحة 9 قول المحقّقين سلّمهم الله تعالى : «ولعلّ أقدم ما وصل إلينا من كتب الاختيار هو المفضّليّات التي صنعها المفضّل الضبّي (المتوفّى سنة 178 ه) ، وهي قصائد طويلة من عيون الشعر ، لم يرتّبها المفضّل على أبواب خاصّة ... وإنّما هو اختيار الذّوق الأدبي ، والجزالة اللغويّة ، فيما تراءى لهُ في ذلك العصر ...».
أقول : يخطر بالبال أنّ الزّجاجيّ ذكر في أماليه أنّ الذي اختار القصائد المسمّاة ب- : (المفضّليات) هو إبراهيم بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السّبط عليه السلام (المقتول في سنة 145 ه) عندما كان مختفياً عند
ص: 257
المفضّل المذكور وقد نقل الزجاجيّ - فيما أحفظ - حكاية جمع هاتيك القصائد مسندةً ولا يحضرني الآن كتاب الأمالي.
وفي أحوال إبراهيم بن عبد الله المحض المذكور من كتاب عمدة الطالب للعلاّمة النّسّابة السيّد أحمد بن علي الدّاودي المعروف ب- : (ابن عِنَبة) (ت 828 ه) : «وكان إبراهيم [بن عبد الله بن الحسن ابن الإمام الحسن السبط] من كبار العلماء في فنون كثيرة ، يقال إنّه كان أيام اختفائه بالبصرة قد اختفى عند المفضّل بن محمّد الضبّيّ فطلب منه دواوين العرب ليطالعها ، فجاءه بما قدر عليه فأَعلَم إبراهيم على ثمانين قصيدة ، فلمّا قتل إبراهيم استخرجها المفضّل وسمّاها : (المفضّليّات) وقرئت بعده على الأصمعيّ فزاد فيها» (1).
وهذه فائدة جليلة لا ينبغي لدارسِ (المفضّليّات) أن يغفل عنها.
* وفي صفحة 11 : «... مهيمنة الحماسة ...».
والوجه : «... هيمنة ...» ولا تقاس في مثل هذه الصيغة على قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلى الْكِتابِ كُلِّهِ) ، كما لا يقال : مسيطرة الشعب في البلاد - مثلاً - بل يقال : سيطرة الشعب ... فهو مسيطرٌ على هذا القياس. ر.
ص: 258
* وفي الصفحة نفسها : «... ممّا يقرّب الكتاب من نمذجة للأصل الاختياري».
وهذا التعبير ليس من لغة العرب العالية في شيء ، ولست أنكر استعمال (الأنموذج) مع إجماع علماء اللغة أنّه معرّب وليس بعربي النِجار ؛ إذ إنّ غير واحد من أئمّة اللغة استعمله في كلامه ودخل في حمى العربيّة و (تجانس) مع مفرداتها الأصيلة ، حتّى سمّى العلاّمة الزمخشري (ت 538 ه) وناهيك به أحد كُتبه في النحو : (الأُنموذج) ، ولكن الكلام في اشتقاق (النمذجة) منه ؛ إذ لم يبلغ (الأنموذج)(1) من القوّة في أصالة الجذر ما يسوّغ الاشتقاق منه من قبيل (النمذجة). ولو استعملت هذه (المفردة) في كتاب موضوعه الجغرافيا أو الاجتماع أو الاقتصاد أو ما في معناها من الفنون (العصرية) لهان الخطب ، أمّا أن تستعمل في كتاب أدب تراثي محض فلا وجه له.
وأرى أنّ الصواب أن يقال هنا : من تمثيل للأصل ، بدلاً : من (نَمذَجة للأصل).
* وفي صفحة 11 - 12 : «وكأنّ أبا تمّام قد سخّر النصوص الأخرى ليتسيّدها ..».
أقول : هذا التعبير (ليتسيّدها) مخالف لصناعة الصرف ؛ لأنّ الأصل فيه ).
ص: 259
(سوّد) قال أبو العبّاس المبرّد في الكامل (1/186) : «وتقول في تصغير أحوى : أُحَيّ في قول من قال في أسود أُسيِّد وهو الوجه الجيّد ؛ لأنّ الياء السّاكنة إذا كانت بعدها واو متحرّكة قُلبت الواو ياء كقولك : أيّام والأصل : أيوام ، وكذلك سيّد ، والأصل : سيود».
وعلى هذا فالسيّد من الفعل (الواوي) ساد يسود ، وليس (يائياً) ، ومنه المثل المعروف : «نفس عصام سودّت عصاما» أي جعلته (سيّداً).
وقول عامر بن الطفيل - فيما أحفظ وهو من الشواهد :
وما سوّدتني عامرٌ عن وراثة
أبى اللهُ أنْ أسمُو بِأُمٍّ ولا أَبِ
فالصواب أن يقال - هنا - : ليسُوْدَها.
* وفي صفحة 12 ، الهامش : «مقدّمة الشرح المنسوب للمعرّي».
والصواب : ... المنسوب إلى المعرّي ؛ لأنّ الفعل (نسب) وما اشتقّ منه إنّما يتعدّى ب- : (إلى) لا ب- : (اللام) وقد تكرّر ذلك في مواضع كثيرة من الكتاب وحسبنا التنبيهُ عليه هُنا إلاّ أنْ يجيىء بصورة الفعل ، فقد نتعقّبه.
* وفي صفحة 14 الرقم (23) : «عبد الله بن إبراهيم بن حكيم الخُبَريّ».
كذا جاء مضبوطاً بالقلم - على اصطلاح القدماء - بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحّدة -.
والصواب : الخَبْرِيّ ، بفتح الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة.
جاء في (الخَبْريّ) من الأنساب لأبي سعد السمعاني ، ونقله عنه ابن الأثير في مهذّبه اللباب : «الخَبْريّ بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء الموحدة
ص: 260
وفي آخرها راءٌ - هذه النسبة إلى خَبْر ، وهي قرية من قرى شيراز من بلاد فارس ... ينسب إليها الفضل بن حمّاد الخبريّ الحافظ .... ورابعة وفاطمة ابنتا أبي حكيم عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله المعلّم الخَبْريّ ، كان أبو حكيم من قرية خَبْر انتقل إلى بغداد وصار بها معلّماً».
وممّن ضبط اسم (خَبْر) بما تقدّم ياقوت الحمويّ في ترجمة أبي حكيم المذكور من كتابه إرشاد الأريب المعروف ب- : معجم الأدباء «12/46» قال : «عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن حكيم أبو حكيم الخَبْريّ بفتح المعجمة وسكون الموحّدة ....».
* وفي صفحة 23 : «ولد السيّد فضل الله في راوند ، وقد أرّخ السيّد شهاب الدّين المرعشي ولادته بسنة (481 ه)».
أقول : السيّد شهاب الدّين رحمه الله تعالى مُتأخّرٌ (ت 1411 ه) ، فَلِمَ الرّجوع إليه مع وجود المصادر القديمة لاسيّما مع توفّر (الوسائل الحديثة) ل- : (الغوص على المعلومات) ، فإن لم يُعثر على التاريخ المذكور في أحد المصادر القديمة قيل : ولم نقف على تاريخ ولادته - فيما تحت أيدينا من مصادر - وقد انفرد السيّد شهاب الدّين بذكره ، أو ما يؤدّي هذا المعنى.
* وفي قائمة شيوخ السيّد الرّاوندي صفحة 29 الرقم (36) : (الحسين ابن محمّد بن عبد الوهّاب البغدادي).
قلت : تقدّم ذكره في صفحة 27 برقم (18).
* وفي صفحة 29 برقم (37) : «أبو البركات المشهديّ ، ناصح الدّين
ص: 261
محمّد بن إسماعيل الحسينيّ ...».
وقد تقدّم ذكره في صفحة 28 برقم (23).
* وفي صفحة 31 من الرّواة عنه : (أبو سعد السّمعاني صاحب كتاب الأنساب المتوفّى سنة (563 ه).
والصواب : أنّ وفاته كانت في سنة (562 ه) ، وحدّدَها ابن خلّكان بالشهر واليوم ، فقال : «في ليلة غرّة شهر ربيع الأوّل».
* وفي صفحة 33 نقلاً عن أبي سعد السّمعاني المذكور آنفاً : «وأدركتُ بها - إِصبهان - ...».
هكذا جاءت الهمزة مرسومة تحت الألف في - إِصبَهان - ، مع أنّ ياقوتاً نصّ في معجم البلدان على أنّها بفتح الهمزة وكسرها ، فالوجه أن تُرسم الهمزة على الوجهين : أَِصبَهان ، كما يقتضيه التحقيق العلميّ المستوفى في كتاب أدبيّ تُراثيّ كهذا الكتاب.
* وفي صفحة 33 ، نقلاً عن العماد الأصبهاني في خريدته : «السيّد ضياء الدين فضل الله بن عليّ بن عبد الله ..».
والصواب في اسم جدّه : (عُبَيد الله) بالتصغير ، والظاهر أنّ هذا التصحيف في أصل الخريدة ، ولم ينبّه عليه المحقّقون.
* وفي صفحة 34 - 35 نقلاً عن الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ في (طبقاته) : «فضل الله بن عليّ .... هو الإمام السيّد ضياء الدين أبو الرّضا الحسيني».
والصواب : الحَسَنيّ.
ص: 262
* وفي صفحة 35 : «... في تحدّياتها الاستمولوجيّة».
أقول : ما معنى إقحام (الاستمولوجيّة) الكلمة الأجنبيّة في تقديم كتاب عربي موضوعه التراث الأدبي الأصيل للغة الضّاد في أزهى عصورها؟!
وقد كنت أخذت على نفسي في صدر هذه التعليقات أن أكتفي بما ألمعت إليه هناك من نقد ما هذا سبيله ، لكن غرابة هذه الكلمة وعدم مُواءمتها لموضوع الكتاب أثار في نفسي (الحماسة) للانتصار إلى لغة (الحماسة) و (حواشيها).
* وفي صفحة 36 : «... رفدت الحضارة الإسلامية - ولمّا تَزَلْ - بشجر يؤتي أكله كُلّ حين».
والوجه : أن يقْفُوَ منشىء هذه العبارة أسلوب الكتاب المعجز العظيم - القرآن الكريم - فيما اقتبسه - هنا - على نحو (الاستيفاء) ، فإنّ المذكور في الكتاب العزيز : (مَثَلُ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا). فلم يكتف بذكر كلمة (شجرة) بل وصفها بأنّها (طيبة). فما أروع أن تكون العبارة : (رفدت الحضارة الإسلامية - ولما تزل - بشجر طيب يؤتي أكله كلّ حين).
* وفي صفحة 37 من مصنّفات السيّد فضل الله الرّاونديّ : «المدائح المجديّة ، وهي مجموعة شعرية في عدّة مجلّدات ، قيلت في مدح مجد الدّين الكاشانيّ المتوفّى سنة (535 ه) ..».
أقول : قد يستكثر غالب القرّاء أن يكون ما مُدح به مجد الدّين الكاشانيّ من شعر في عدّة مجلّدات من قِبل ناظم واحد هو السيّد فضل الله الكاشانيّ.
ص: 263
وهذا (الاستكثار) المفضي إلى الاستنكار قد يزول إذا عرفت أنّ المجلّد أو الجلد أو المجلدة ، كما كان يسمّيه أكثر القدماء كان يقدّر ب- : (عشر) أوراق في العصور المتقدّمة.
جاء في ترجمة أبي محمّد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدويّ المعروف ب- : (اليزيديّ) (ت 202 ه) من تاريخ مدينة السّلام المعروف باسم تاريخ بغداد - الترجمة (7465) : «وحُكي عن أبي حمدون ... أنّه قال : شَهدتُ ابن أبي العتاهية وكَتبَ عن أبي محمّد اليزيديّ قريباً من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصّة ، يكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة ؛ لأنّ تقدير الجِلْدِ عشر ورقات».
* وفي صفحة 38 : (وَسَكنَ فترةً في أَصفهان).
والوجه أن يقال : وسكن مدةً في أَصفهان ؛ لأنّ (الفترة) في لغة العرب العالية لا تطلق إلاّ على المدّة التي اعتورها (فتورٌ).
ومن هنا يُعلم أنّ كُلَّ (فترةً) مُدّة وليس كُلُّ مدّة (فترةً). وبلحاظ هذا المعنى سُمّي الوقت الكائن بين بعثة سيّدنا المسيح عيسى عليه السلام وبين سيّدنا ونبيّنا محمّد صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم (الفترة) أو (زمن الفترة) ، بل قالوا : إنّ (الفترة) هي الوقت بين بعثة كلّ رسول وبعثة من يليه. وقد تمادى (العصريّون) في استعمال (الفترة) مطلقاً ، فتسمع أحدهم يقول - مثلاً - : وكانَ فلانٌ في تلك الفترة قد بلغ أوج نشاطه العلميّ. ولا يعلم أنّ بين (الفترة) - الفتور - والنّشاط (مانعةَ جمع) ، كما يقول المناطقة.
* وفي صفحة 39 : (ولأجل تحقّق أكبر قدر من التّواصل ...).
ص: 264
والفصيحُ : وَمِنْ أجل ، وهي لغة القرآن الكريم. قال تعالى : (... مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ..).
وممّا يعضد ما قلناه قول كثير الخزاعيّ (وهو ممّن يُحتجّ بلُغتهم) :
وكُلُّ خليل راءنِي فهو قائِلٌ
مِنَ اجلك هذا هامَةُ اليومِ أو غَدِ
وقد استعمل (من اجلك) ، وارتكب ضرورة وصل همزة القطع في عبارة (مِن اجلك) مراعاةً للوزنِ ، ولو كانت عبارة (لأجلكَ) فصيحةً أيضاً لاستعملها وتحاشى الوقوعَ في ضرورة وصل المنقطع.
وقد وقع للحريريّ في دُرّة الغَوّاص ما وقع هنا من استعمال كلمة (لأجل) مع أنّه صنّف الدّرّة للتصحيح اللغويّ ، كما وقع لجماعة ممّن كتبوا في (النحو) من تسمية (المفعول من أجله) : مفعولاً لأجله ، وهو خلاف الفصيح ، والله العاصم.
* وفي صفحة 41 من شعر السيّد فضل الله الرّاونديّ ممّا اختاره العماد (ت 597 ه) في خريدته :
خبط الليل واستشبَّ وقوراً
لم يُنازعه مَرخُهُ والعفارا
وأرى أنّ (وقوراً) - بالرّاء - تحريف. وأنّ الصّواب : «واستشبّ وَقُوداً - بالدال المهملة -».
وقد أشار المحقّقون سلمهم الله تعالى في الهامش إلى ما يُفيدُ تخطئتهم (النَّصب) في عبارة (والعفارا) وقد أصابوا في هذا التنبيه ؛ إذ لا يتّجه للنّصب وجه وجيه. إلاّ على طريق التعسّف والتكلّف.
وقد ذكّرني هذا البيت بما أحفظه من أوائل أيّام الطّلب من قول العرب
ص: 265
في بعض أمثالهم : «في كُلّ شجر نار ، واستّمجد المرخُ والعفار».
* وفي صفحة 41 نفسها ممّا اختاره العماد من شعر السيّد الرّاونديّ :
زارَني طيفها على النّأي منها
حسبي طيفاً من الأحبّة زارا
وأرى أنّ كلمة (حسبي) في العجز (قلقة). وقد يكون الأصل : (حُبَّ طَيفاً) ، أو : (حَيّ طَيْفاً).
* وفي صفحة 42 من كلام السيّد علي خان المدنيّ في الدرجات الرفيعة : «وشعره كُلَّهُ .... يملك السامع ، ويسترق القلوب».
والظاهر أنّ الأصل : «.... يَملكُ المسامع ...» ، أو : «..... يمتلكُ المسامع» ، وإنّما (استظهرت) ولم أقطع ؛ لأنّ كتاب الدّرجات الرّفيعة ليس تحت يدي عند كتابة هذه السطور.
* وفي صفحة 43 من كلام السيّد الراوندي : «.... والتقاط غررها ، وضمّ نشرها ، وإبداعها مجلّدةً».
والمذكور في الأصل : «.... والتقاط غررها ودررها ، وضمّ نشرها ، وإيداعها» (بالياء آخر الحروف) ، وهو الصواب ، كما جاء في صفحة 58.
* وفي صفحة 45 : «.... وليس بحاجة إلى ذلك».
والصّواب : وليس فيه حاجة إلى ذلك ؛ لأنّ الحاجة تكون في الإنسان ، ولا يكون هو فيها أو (بها). قال تعالى : (... إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ ...).
* وفي صفحة 59 ، الهامش (4) : «أبو الفتح عثمان بن جنّيّ». كَذا بتشديد الياء والصّواب : ... جنّي بسكون الياء ، لا بالتشديد على نحو النّسبة ، كما قد يُتوهّم.
ص: 266
وقد رأيت اسم (جنّي) مضبوطاً بالعبارة من لدن أعلام الفنّ بأنّه بسكون الياء ؛ خلافاً للمنسوب إلى (الجنّ) ؛ فإنّه بتشديد الياء. وقد وهِم (المعلّق) على كتاب إرشاد الأريب المطبوع باسم معجم الأُدباء في طبعته القديمة ؛ إذ ضبطه بالعبارة وقال : «بتشديد النّون والياء المشدّدة». والظاهر أنّه قاسه على المنسوب إلى الجنّ. وقد تكرّر (تشديد الياء) من كلمة (جنّي) فنكتفي بالتنبيه عليه هنا.
* وفي صفحة 66 رفع المؤلّف سنده إلى أبي غالب محمّد بن أحمد ابن بشران ، «قال : أخبرنا علي بن محمّد بن دينار. ثنا الحسن بن بشر الآمديّ (ح) قال ابن بشران : وحدّثنا به الحسين بن علي بن الوليد ، قال : حدّثنا أبو رياش أحمد بن أبي هاشم ، قالا جميعاً : حدّثنا به أبو المطرف ...». وعلّق المحقّقون على الحاء الموضوعة بين قوسين (ح) بالقول : «هكذا وردت في المخطوط ، وهي مختصرٌ ل- : (حدّثني)».
أقول : ليست (الحاء) - هنا - مختصراً ل- : (حدّثني) بل هي (حاء التحويل) ، أي تحويل السند ، وإنّك لترى (المثال) عليها - فيما أسنده المؤلّف - في هذا الموضع ؛ فإنّ أبا غالب محمّد بن أحمد بن بشران - الذي روى عنه المؤلّف بواسطتين - روى كتاب حماسة أبي تمام عن علي بن محمّد بن دينار ، عن الحسن بن بشر الآمدي ، ثمّ (حوّل) أبو غالب السند ، وقال : «حدّثنا به الحسين بن عليّ بن الوليد ، قال : حدّثنا أبو رياش أحمد بن أبي هاشم قالا جميعاً : حدّثنا به أبو المطرف».
والضمير في (قالا) عائد إلى الحسن بن بشر الآمديّ المذكور في آخر
ص: 267
الإسناد الأوّل ، و (إلى) أبي رياش ، وكلاهما كان يروي كتاب الحماسة المذكور عن أبي المطرف. و (حاءُ التحويل) من مصطلحات المحدّثين المشهورة في (باب الإسناد).
* وفي صفحة 67 الهامش (2) : (الحسين بن محمّد بن عبد الوهّاب ابن أحمد الحارثيّ الدبّاس المنعوت بالبارع النحويّ الوزير».
أقول : لم يكن (البارع) هذا وزيراً ، بل كان غير واحد من أجداده من الوزراء ؛ قال ابن خلّكان في ترجمته من وفيات الأعيان - الترجمة 196 - : «أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبد الوهّاب بن أحمد بن محمّد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب ... وهو من بيت الوزارة ؛ فإنّ جدّه القاسم كان وزير المعتضد والمكتفي بعده ، .... وعبيد الله كان وزيراً أيضاً ، وسليمان بن وهب الوزير تغني شهرته عن ذكره ...».
قلت : وفي بني وَهْب كان جماعة من كبار الكتّاب والأدباء منهم الحسن ابن وَهْب الكاتب المشهور ، وهو أخو سليمان بن وهب ، وكانت ديارهم على الجانب الشّرقيّ من دجلة في محلّةِ (المُخَرِّم) من محالّ بغداد القديمة ، وموقعها اليوم محلّة العيواضيّة (العلوازيّة - الإيلوازيّة) التي كان يسكن في آخرها أُستاذنا الإمام المصلح السيّد هبة الدّين الشّهرستاني قُدّس سرّه.
وقد كتب بعض (العصريّين) رسالة حافلةً عن (آل وَهْب) الكتّاب الوزراء المذكورين وهي مطبوعة - فيما أعلم -.
* وفي صفحة 68 : «فأمّا فيما تدغم لامه - فيما بعد - نحو : بني
ص: 268
النّجّار ، وبني التّيم ، وبني النّمير فلا يجوز الحذف فيه ...».
أقول : (نميرٌ) الذي يُنسب إليه بنو نمير من بني عامر بن صعصعة القيسيّة المضريّة لا تدخل (الألف واللاّم) في أوّله. والظاهر أنّ المقصودين في كلام الشّارح هم بنو النَّمِر بن قاسط من ربيعة العدنانيّة فصحّفوا إلى بني (النّمير).
* وفي هامش صفحة 68 : «وهم من بني العنبر ، ينسبون إلى بني العنبر بن تميم بن مُرّ بن أُدْ بن طابخة بن إلياس [كذا بقطع الهمزة] بن مُضر بن نزار».
أقول : وهذا هو المعروف المشهور الذي عليه تكاد تجمع عليه آراء أرباب الفنّ ، لكن ذكر بعضهم ما يخالف هذا ، ونحن ننقله هنا على سبيل الاستطراد لبيان بعض طرق الاستدلال عند المتقدّمين ، و (صُوَرِ) الحجاج لديهم ممّا لا يعدم فيه الباحث الفائدة.
قال ابن حزم (ت 456 ه) في جمهرة أنساب العرب عند كلامه على نسب بني بهراء بن عمرو بن الحافي بن قضاعة : «.... وقال قوم : إنّ العنبر ابن عمرو بن تميم هو العنبر بن عمرو بن لحيون بن يام مناة بن شبيب بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء.
وهذا خطأ ؛ لأنّ رسول الله - صلّى اللهُ عليه [وآله] وسلّم - أخبر أنّ بني العنبر من ولد إسماعيل بن إبراهيم - صلّى اللهُ عليهما وسلّم - وقد أتى إلى بني العنبر المذكورين رجلٌ شاعر من بهراء اسمه الحكم بن عمرو يمتّ إليهم بهذا النّسب ، فطردوه من جميع بلادهم حتّى خرج منها ورَحَل عنهم».
ص: 269
وجاء في كتاب الكامل لأبي العبّاس المبرّد (ت 285 ه) الباب (34) : «قال جرير [التميمي اليربوعيّ] : ونزل بقوم من بني العنبر بن عمرو بن تميم ، فلم يقروه حتّى اشترى منهم القِرى ، فانصرف وهو يقول :
يا مالك بن طريف إنّ بيعكم
رفد القرى ، مُفسدٌ للدّين والحسبِ
هل أنتم غير أوشاب زعانفة
ريش الذنابى ، وليس الرّأس كالذَّنَبِ
وإنّما قال جرير لبني العنبر : هل أنتم غير أوشاب زعانفة ؛ لأنّ النّسابين يزعمون أنّ العنبر بن عمرو بن تميم ، إنّما هو ابن (عمرو بن أ) هْوَدَ بن بهراء ، وأُمّهم (أمُّ) خارجة البَجَلِيّة التي يقال لها في المثل : أسرع من نكاح أُمّ خارجة ، فكانت قد ولدت في العرب في نيّف وعشرين حيّاً من آباء متفرّقين ، وكان يقول لها الرّجل : خِطْبٌ ، فتقول : نِكْحٌ ، كذلك قال يونس بن حبيب ، فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم ، فأحسّوا بأنّه أراد أُمّهم فبادروا إليه ليمنعوه تزوّجها ، وسبقهم ؛ لأنّه كان راكباً فقال لها : إنّ فيك لبقيّةً ، فقالت : إن شئت ، فجاؤوا وقد بنى عليها ، ثمّ نقلها بعد إلى بلدهِ ، فتزعم الرّواة أنّها جاءت بالعنبر معها صغيراً ، وأولدها عمرو بن تميم ، أُسيّداً والهجيم والقليب ، فخرجوا ذات يوم يستقون ، فقلّ عليهم الماء ، فأنزلوا ماتحاً من تميم ، فجعل الماتح يملأ الدّلو إذا كانت للهجيم وأُسيّد والقليب ، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب. فقال : العنبر :
قد رابني من دلوي اضطرا بُها
والنّايُ عن بهراء واغترابها
إلاّ تجيىء مَلأى يجيىء قُرابها
فهذا قول النّسّابين.
ص: 270
ويروى أنّ رسول الله صلّى اللهُ عليه [وآله] وسلّم قال يوماً لعائشة رحمها الله ، وقد كانت نذرت أن تعتق قوماً من ولد إسماعيل ، فسبي قوم من بني العنبر ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : إن سرّك أن تعتقي الصّميم من ولد إسماعيل فأعتقي من هؤلاء.
فقال النّسّابون : فبهراء من قضاعة ، وقد قيل قضاعة من بني مَعَدّ فقد رجعوا إلى إسماعيل. ومن زعم أنّ قضاعة من بني مالك بن حِمْيَر وهو الحقّ قال : فالنّسب الصحيح في قحطان الرجوع إلى إسماعيل وهو الحقّ. وقول المبرّزين من العلماء : إنّما العرب المتقدّمة من أولاد عابر ورهطه عاد وطسم وجدنيس وجرهم والعماليق ، فأمّا قحطان عند أهل العلم ، فهو ابن الهميسع ابن تيمن بن نبت بن قيذار بن إسماعيل صلوات الله عليه ، فقد رجعوا إلى إسماعيل ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لقوم من خزاعة ، وقيل من الأنصار : (ارموا يا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان رامياً ...) (1)».
أقول : ذهب جماعة من أهل النّسب إلى أنّ خزاعة مُضريّة عدنانيّة خلافاً للمشهور من أنّها أَزديّة قحطانيّة ، ومن الذاهبين إلى أنّها من (المضريّة) ابن حزم في جمهرة أنساب العرب اعتماداً على أحاديث صحيحة في نظره ، وممّا رواه بسنده إلى سلمة بن الأكوع ، قال : «خرج رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم على قوم من أسلم يتناضلون بالسّيف ، قال : ارموا ، يا بني إسماعيل ، فإنّ أباكم كان رامياً».
ثمّ قال ابن حزم : «فخزاعة من ولد قمعة بن الياس بن مُضر بلا شك ، ).
ص: 271
وليس لأحد مع مثل هذا الكلام ، وأسلم إخوة خزاعة بلا شك ...». وعلى هذا لا يكون فيما نقله المبرّد من كون (قحطان) من وُلد (إسماعيل) شاهدٌ. وليس هذا موضع البسط.
* وفي صفحة 69 الهامش (3) : «وانظر أيضاً : العقد الفريد».
أقول : سمّى ابن عبد ربّه الأندلسيّ (ت 326 ه) كتابه المذكور باسم العقد كما ذكر ذلك في (خطبة الكتاب). وكُلّ من ذكره من المتقدّمين أو نقل عنه سمّاه (العقد) ، ولم يذكر كلمة (الفريد) وإنّما ولع النّاشرون المتأخّرون بإلحاق (الفريد) لحاجة في نفوسهم.
وقد اغترّ بعض المحقّقين العصريّين بما شاع من تسمية الكتاب المذكور بهذا المركّب الوصفيّ ؛ إذ حقّق كتاباً قديماً نقل مؤلّفه فيه عن كتاب العِقْد وسمّاه بما سمّاه به مؤلّفه ابن عبد ربّه (العقد) ، فانبرى المحقّق إلى إلحاق كلمة (الفريد) به مع وضعها بين قوسين هكذا : العقد (الفريد) ، وما هكذا يكون التحقيق.
* وفي الصفحة 71 : «وموازن العرب أربعة : مازِن قيس ، ومازن اليمن ، ومازن ربيعة ، ومازن تميم».
أقول : موازن العرب أكثر من ذلك بكثير ، وقد أحصيت أكثر من عشرة بطون يعرف كُلّ منها ببني مازن ، وكان في النّيّة ذكرهم هنا ، إلاّ أنّي أعرضت عن ذلك لعدم استئناس كثير من القرّاء بذلك ، إلاّ أنّه لا يفوتني هنا أن أذكر أنّ أبا محمّد ابن حزم وقع له خلط في نسبة أبي عثمان المازنيّ النحويّ البصريّ الشهير ؛ فقد قال في نسب بني مازن بن همّام بن مرّة بن ذُهل بن
ص: 272
شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل (من ربيعة بن نزار) : «ومن موالي بني مازن بن همّام بن مرّة ، كان أبو عثمان بكر بن محمّد المازنيّ النّحويّ البصريّ المشهور ، وقيل : بل من موالي بني مازن بن ذُهل بن شيبان».
مع أنّه قال في نسب بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم (من مُضر ابن نزار) : «ومنهم المازنيّ النّحوي ، وقيل : بل هو مولىً». وتبعه في قوله الأخير الحافظ ابن حجر العسقلانيّ (ت 852 ه) في كتابه تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (4/1337) إذ قال : «... وبنو مازن بن مالك بن عمرو بن تميم منهم النضر بن شميل .... ومنهم أيضاً أبو عثمان المازنيّ صاحب التّصانيف».
والصحيح أنّ أبا عثمان منسوب إلى بني مازن الوائليّين (بطن بن ربيعة) صليبةً أو ولاءً.
ويدلّ على ذلك حكايته مع الواثق من ملوك بني العبّاس عندما أمر بإشخاصه إلى بغداد ، قال أبو عثمان المازنيّ : «فلمّا مَثلتُ بين يديه قال : ممّن الرّجل؟ قلت : من بني مازن. قال : أيّ الموازن؟ ، أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قلت : من مازن ربيعة ، فكلّمني بكلام قومي وقال لي : با اسمك؟ ، لأنّهم يقلبون الميم باءً والباء ميماً ، قال : فكرهت أن أُجيبهُ على لغة قومي ؛ لئلا أواجههُ بالمكرِ ، فقلت : بكرٌ يا أمير المؤمنين [؟!] ففطن لما قصدته وأُعجب به ...» وبقيّة الحكاية في دُرّة الغوّاص ص 73.
ومن المستغرب جدّاً أنّ محقّق كتاب الجمهرة لابن حزم وهو المحقّق
ص: 273
الكبير العلاّمة الأُستاذ عبد السلام محمّد هارون (ت 1988م) لم ينتبه إلى ما وقع لأبن حزم من (الخلط) في هذا الموضوع ، إذ لم يعلّق بشيء عليه(1).
* وفي صفحة 71 - الهامش (5) : «ربيعة بن نزار بن مُضر».
وهذا خلطٌ ؛ فإنّ ربيعة هو أخو مُضر ، وكلاهما ابن نزار بن معدّ بن عدنان. ومُضر وربيعة هما الصّريحان من ولد عدنان.
* وجاء في الهامش نفسه : (وتعرف بربيعة الحمراء).
وليس الأمر كذلك بل كانت تعرف(2) ب- : (ربيعة الْفَرَس) وكانت(3) مُضر تُعرف ب- : (الحمراء) لحكاية ذكرها غير واحد من المؤرّخين والنّسّابين ليس هذا موضع ذكرها. وممّا أحفظه من وصف (مُضر) ب- : (الحمراء) قول الشاعر :
من - الطّويل -
إذا مُضرُ الحمراءُ كانت أَرُومتي
وقامَ بنصري حازمٌ وابن حازمِ
عَطَستُ بأنف شامخ وتناولت
يَدايَ الثّريّا قاعداً غَيرَ قائمِ
* وفي صفحة 72 : «.... هو أنّه أخرج البيت الثاني مَخْرَج جواب قائل ...». ة.
ص: 274
والصواب : ... أخرج ... مُخرج. بضمّ الميم لا بفتحها ؛ لأنّه من الفعل الرّباعيّ (أخرج).
* وفي صفحة 74 : «ووِحدان جمع واحد ...».
كذا جاء بكسر الواو والصواب : (وُحدان) بضمّ الواو ، كما مَثّل له الشّارح بقوله : (... كصاحب ، وصحبان ، وراع ، ورعيان). وهو كذلك في كتب اللّغة.
* وفي صفحة 77 : «وقال الفند الزّمّانيّ - واسمه : شهل بن شيبان .... وليس في العرب ، شهلٌ غيره».
أقول ذكر ابن حزم في الجمهرة : (شَهلَ بن أنمار) من (بجيلة) ، فإن لم يكن مصحّفاً عن (سَهل) - بالسّين المهملة أو مُحرّفاً عن (شهلاء) فلا يَصِحُّ قول من قال في (شَهل بن شيبان) : وليس في العرب ، شَهل غيره.
* وفي صفحة 77 : «وزمان بن مالك ...».
والصواب : وزمّان ابن مالك بإثبات الألف قبل كلمة (بن) في هذا الموضع ؛ لأنّها (خبريّة) وليست (وصفية) كما ترى.
* وفي صفحة 79 من شعر الْفنّد الزّمّانيّ :
عَسى الأَيّآم أن يرجع-
نَ قوماً كالذي كانوا
أقول : قوله : (يرجعن) بفتح الياء ، هو اللّغة العالية ، وهي لغة قريش ، وبها نزل الذكر الحكيم ، في مثل قوله تعالى : (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض الْقَوْلَ).
وأمّا (أرجع) الرّباعيّ ، فهو لغة بني هُذيل بن مدركة خاصّة. وإنّما
ص: 275
نبّهت على اللّغة العالية - هنا - لأنّ أهل عصرنا قَفَوا بني هُذيل في هذه المسألة وتنكّبوا عن مَهْيَع اللّغة العالية - لغة القرآن العزيز -.
* وفي صفحة 81 في تفسير قول الشاعر - الفند الزّمّانيّ - :
......................
دِنّاهُمْ كما دانُوا
(والأوّل ليس بجزاء ، إلاّ أنّه - للمطابقة - سمّاهُ جزاءً ، كقوله تعالى : (يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ) ، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله).
أقول : وهذا ما يصطلح عليه ب- : (المشاكلة) ، ومنه أيضاً قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
* وفي صفحة 81 من شعر الفند الزّمّانيّ أيضاً :
مَشَينا مِشية اللّيثِ
......................
أقول : كَسَرَ الميم من كلمة (مِشية) ؛ لأنّها مَصدرُ هيأة(1) ، وهكذا كُلّ ما جاء على زنتهِ من مصادر الهيأة ، نحو : نَهضتُ نِهْضةَ الأسد ، وَجَلستُ جِلْسةَ الوقور ، وَوَثَبتُ وِثْبةَ الشجاع.
بخلاف مصدر المرّة ، فهو على وزن (فعلة) نحو : نَهَضتُ نَهضَةً ، وَجَلستُ جَلسةً ، وَوَثَبتُ وثبةً .. وأكثر النّاس اليوم لا يميّزون بين الموضَعين.
* وفي صفحة 84 : «وقال أبو الغول الطهويّ».
وجاء في تعريفه في الهامش (1) من الصفحة المذكورة : «(أبو الغول) ط.
ص: 276
هو من بني نهشل ، واسمه علباء بن جوشن ، وهو من بني قطن بن نهشل».
أقول : وصفُهُ ب- : (الطّهويّ) لا يجامع كونه من بني قَطَنِ بن نهشل ؛ لأنّ الطّهويّ منسوب إلى بني طُهيّة وهي بنت عبثمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، تزوّجها مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، فولدت له أبا سود وعوناً (عوفاً خ ل) وإليها ينسب أبناؤهما.
فبنُو طهيّة هؤلاء هم غير بني قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وإنّما يجتمع البطنان بجدّهم (مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم).
وقد نقل المحقّقون - سلّمهم الله تعالى ونفعنا بعلمهم - في الهامش عن خزانة الأدب للبغداديّ قال : «أبو الغولِ النّهشليُّ غير أبي الغولِ الطّهويّ».
أقول : وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
* وفي صفحة 84 من كلام الشارح : «وطُهيّة حَيٌّ من تميم ، نُسبوا إلى أُمّهم ، وهم أبو سود ، وعوفٌ ، وحَبيشٌ بنو مالك بن حنظلة».
والذي في جمهرة ابن حزم أنّ طهيّة ولدت لمالك بن حنظلة ولدين هما أبو سُودٌ ، وعَونٌ (وليس عوفاً) ، وأمّا من سُمّي هُنا ب- : (حُبيش) فهو في جمهرة ابن حزم جُشَيشٌ ، وأُمّه (حُطّى) ، وإليها يُنسبون ، وهو أخو أبي سُود وَعَون (عَوف) لأبيهما.
* وفي صفحة 84 من كلام الشارح : «وَطهيّةُ أُمّ زَيد بن مناة بن تميم»
أقول : كان الشارح قد قال قبل هنا : «وطهيّة : حَيٌّ من تميم نُسبوا إلى أُمّهم ، وهو : أبو سُود ، وَعَوفٌ وَحُبيش [كذا] بنو مالك بن حنظلة» ، ومفهوم
ص: 277
كلامه هُنا أنّ طُهيّة هي أُمّ هؤلاء الثلاثة.
وهذا هو الصحيح مع وَهمهِ بإضافة (حُبيش) (جُشَيش خ ل). وعلى هذا لا يَصِحّ قوله الأخير من أنّ طُهيّة هي أُمّ زَيد مناة على الإضافة.
وقد جاء في كلامه (زيد بن مناة) والصواب : زيد مناة ، على الإضافة.
* وفي صفحة 92 : «(وَسَحبلُ) : واد التقى به بنو عُقيل ، وبنو الحارث ابن كعب» ، وقال المحقّقون في الهامش : «بنو عُقيل - بضمّ العَين - : بَطنٌ من بني أسد بن خزيمة من العدنانيّة ، وكانت لهم إمارة بأرض العراق والجزيرة». وأحالوا على كتاب نهاية الأرَب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي.
أقول : ليس ما جاء في نهاية الأرب بصحيح ، بل فيه خلطٌ عجيب وخَبطٌ غريب ؛ إذ لم يكن في بني أسد بن خزيمة بن مُدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن مَعدّ بن عدنان بطنٌ يقال لهم بنو عُقيل ، بل ما وقفت في سياق أنساب بُطونهم على من اسمه (عُقيل).
وكتاب نهاية الأرب للقلقشندي فيه من الأغلاط والسقط والتحريف والتّصحيف ما دفعني في أوائل الطلب إلى كتابة بحث واسع في جملة أعداد من مجلّة البلاغ الكاظميّة التي كان يصدرها المتغمَّد بالرّحمة العلاّمة الحجّة الشيخ محمّد الحسن آل ياسين (ت 1427 ه) بعنوان نظرات في نهاية الأرب وقد (فَرَزَ) (بحوث النقد) من المجلّة المذكورة صديقنا العلاّمة المُتتبّع الشيخ محمّد بن عبد الله الرشيد سلّمه الله تعالى من أعلام مدينة (الريّاض) في الحجاز الشريف اليوم ، وطبعها في كتاب مُستقلّ بعد طلب الإذن من صديقه كاتب هذه السّطور.
ومن جملة أوهامه ما نقلناه هنا ؛ فإنّ بني عُقيل من هَوازِن القيسيّة ، ولا
ص: 278
يلتقون مع بني أسد بن خزيمة إلاّ في مُضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ، وهم بنو عُقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مُضر بن نزار بن مَعدّ بن عدنان.
ومن أشهر بُطون بني عُقيل : بنو خفاجة ، وبنو المنتفق وبنو عُبادة. ولبني عُقيل هؤلاء كانت إمارة بأرض العراق والجزيرة ، ومن أُمرائهم المشهورين بنو مالك بن المسيّب والأمير قُريش العُقيلي ، وكانوا على مذهب الشّيعة الإماميّة ويخطر بالبال أنّ أحد الدارسين العراقيّين (العصريّين) كتب رسالة في ما يُصطلحُ عليه في عصرنا ب- : (الماجستير) حول الإمارة العُقيليّة وعنوانها - فيما أذكر - : إمارة بني عُقيل وهي مطبوعة.
* وفي صفحة 93 ، الهامش (2) : «يُنسب لأبي زبيد الطائيّ».
والصواب : يُنسب إلى أبي زُبيد الطّائي ، واسمه (حرملة بن المُنذر) ومن باب (الاستطراد المفيد) أذكر هنا أنّ أبا زُبيد الطّائيّ المذكور كان نصرانيّاً ومات على (النّصرانيّة) ، كما ذكر ذلك كُلّ من عرض إلى ترجمته ، ومنهم أبو الفرج الأصفهانيّ (356 ه).
لكن العلاّمة الخطيب الكبير الشيخ أحمد الوائليّ رحمه الله تعالى ذكر في كتابه هُويّة التشيّع أنّ أبا زُبيد المذكور كان من (شُعراء الشيعة). وذلك وهمٌ بلا ريب ، ولأبي زُبيد شعرٌ في الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط الذي كان منقطعاً إليه وفي غيره من مُلوك بني أُميّة الذين عاصرهم.
وقد وقفت له على أبيات يرثي بها سيّدنا الإمام أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام ،
ص: 279
ذَكَرها المُبرّد في الكامل والظاهر أنّ مثل هذه الأبيات كانت هي السّبب في اعتقاد الشيخ الوائليّ ومن شاطره الرأي إلى أنّه كان من (شُعراء الشيعة). وهذا ما ذكره المبرّد من شعره في رثاء الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : «وقال أبو زبيد الطّائي يرثي عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه (من البسيط) :
إنّ الكرامَ عَلى ما كانَ مِنْ خُلُق
رَهْطُ امرىء خارَهُ للدّينِ مُختارُ(1)
طَبٌّ بَصيرٌ بأَضعانِ الرّجالِ وَلَمْ
يُعدَل بِخيرِ رسولِ اللهِ أخبارُ
وَقَطرَةٌ قَطَرَت إذ حانَ مَوعِدُها
وَكُلّ شييء لَهُ وَقتٌ ومِقدارُ
حَتّى تنَصَّلَها في مَسجد طُهُر
عَلى إمامِ هُدىً إنْ مَعشرٌ جاروا
حُمَّتْ لَيدخُلَ جَنّات أبو حَسَن
وَأُوجِبت بَعدَهُ للقاتِلِ النهارُ»(2)
* وفي صفحة 99 من شعر أبي كبير الهُذَليّ :
وَإذا نَظَرتَ إلى أسرّة وَجْهِهِ
بَرَقَتْ كَبرقِ العارِضِ المتَهَلّلِ
قلت : من محفوظي القديم ممّا يُشبه هذا البيت في بعض لفظه ومعناه :
وَلَقد رأيتُ على أسرّة وَجْهِهِ
أَثَرَ النَّجابَةِ ساطِعَ البُرهانِ
* وفي صفحة 102 (الطويل) :
«إنّي لِمُهد من ثَنائِي فَقاصِدٌ
بِهِ لابنِ عَمّ الصّدقِ همس بن مالكِ»
أقول : هذا البيت دَخَلهُ (الخَرْمُ) على اصطلاح العَرُوضيّين.
وهو حذفُ أوّل الوَتِد المجموع من أوّل البيت في مطلعِ القصيدة فتصيرُ (فَعُولُن) : (عُوْلُن) وَهُوَ غير قليل في شعرِ المتقدّمين. ).
ص: 280
* وفي صفحة 106 من كلام السيّد الراونديّ على قول تأبّطَ شَرّاً :
.....................
كَثيرُ الهوى شَتّى النَّوى والمسالِكِ
«إنّ الأمر في لفظ (شَتّى) مُشكلٌ ، وهو أنّ (شَتّى) جَمعٌ ، وهي (فعلى) من (شَتَّ) ، أي : تفرّق».
أقول : وبمناسبة الكلامِ على (شَتّى) لا أرى بأساً بنقل حكاية طريفة مذكورة في ترجمة محمّد بن زياد المعروف بابن الأعرابيّ الكُوفيّ الإمام اللُّغَويّ المشهور (ت 231 ه) وفي أحد الأبيات المذكورة في أثنائِها (شاهِدٌ) على مَجِئى (شَتّى) للمثنَى - على اصطلاح النُّحاة لا المَناطِقَة - ودُخُول (الألف واللاّم) عليها.
جاء في ترجمة ابن الأعرابيّ من وفيات الأعيان ، الترجمة (633) : «.... قال أبو العبّاس ثَعلبٌ : شاهدتُ مَجلس ابن الأعرابي ، وكان يحضرهُ زُهاءُ مِئةِ إنسان ، وكان يُسأَلُ ويُقرأُ عليه فَيجيبُ مِنْ غَيرِ كِتاب ، ولَزِمتُهُ بَضْعَ عَشرةَ سَنَةً ، ما رَايتُ بيدهِ كِتاباً قَطّ .... رَأى في مَجلِسهِ يَوماً رَجُلينِ يَتَحدّثانِ ، فقالَ لأحدِهِما : مِنْ أينَ أنتَ؟
فقال : مِنْ إِسْبيجاب ، وقال للآخَرِ : مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟
فقال : مِنَ الأندَلُس ، فعجب مِنْ ذلكَ وأنْشَدَ :
رَفيِقانِ شَتّى ألَّفَ الدَّهْرُ بَينَنِا
وَقَدْ يَلتَقِي الشَّتّى فَيَأتَلِفانِ
ثُمَّ أمْلى على مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ بَقِيَّةَ الأبْياتِ وَهِيَ :
نَزَلْنا عَلى قَيْسِيَّة يَمِنيَّة
لَها نَسَبٌ في الصّالِحينَ ، هِجانِ
فقالتْ وأرخَت جانبَ السّترِ بيننا
لأَيَّةِ أَرْض أَمْ مَنِ الرَّجُلانِ
ص: 281
فَقُلتُ لَها أمّا رَفيقي فَقَوْمُهُ
تَميمٌ ، وَأمّا أُسْرَتي فَيَماني
رَفِيقانِ شَتّى ألّفَ الدَّهْرُ بَينَنا
وَقَدْ يَلتَقي الشَّتّى فَيَأتلِفانِ»
وإسبيجاب قال عنها ابن خلّكان : «وهي مدينةٌ مِنْ أقصى بلادِ الشّرق ، وَأظُنّها من إقليم الصّين أو قَريبةً مِنْه».
والأندلُسُ من أقصى بلاد الغرب. وفيما جاءَ في هذه الحكاية عِبْرَةٌ لِطالِبِ العلمِ.
* وفي صفحة 114 مِنْ حَماسيّة النَّهشلي (البيت الرابع) :
«إِنْ تُبتَدرْ غايَةٌ يَوماً لِمَكرُمَة
تَلْق السَّوابِقَ مِنّا وَالمُصَلِّينا
وقال الشارحُ : (إنّما قالَ : (المصلّين) ولم يَقُل : (المصلّيات) مع السوابق ؛ لأنّ قصده إلى الآدميّين ، وإن كان استعارهما من صفات الخيل».
وهذا واردٌ في فصيح الكلام من (ملاحظة المعنى) وإجراء اللفظ على مقتضاه ، ومن أمثلته من كتاب الله تبارك اسمه قوله تعالى حكاية عن نبيّه يوسف على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(1). وإنّما جمع ما ذكره في صدر كلامه من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر جمع مُذكّر عاقل ؛ لأنّ المقصود بهم أبوه وأمّه (أو زوج أبيه) وإخوته ، وتصديق ذلك ما حكاه القرآن الحكيم في آخر قصّة يوسف عليه السلام : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا 4.
ص: 282
رَبِّي حَقّاً)(1).
ومن محفوظي القديم ممّا قد ينتظم في سلك هذا المعنى ولكن من وجه آخر ، قول الشاعر - من الطويل :
فكان مِجَنِّي دون مَن كُنْتُ أتّقي
ثلاثَ شُخوص : كاعِبان ومُعْصِرُ
وإنّما ساغ له تذكير (العدد) مع كلمة (شخوص) التي هي جمع (شخص) وهو (مذكّر) ، لأنّ المراد بها (كاعبان ومعصرٌ) وهي من صفات النّساء خاصّة(2) ، وأمثلة هذا الباب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
* وفي ص114 : «(أبداً) - في المستقبل - بمنزلة (قطّ) في المُضِيّ».
أقولُ : ولكنّ كثيراً من الكتّاب والمؤلّفين في قديم الدّهر وحديثه لا يميّزون بين ما يُستعمل فيه (قَطّ) وما يُستعمل فيه (أبداً) وقد نبّه على ذلك الحريري في كتابه درّة الغوّاص قال : «ومن أوهامهم أيضاً في هذا الفنّ قولهم : لا أُكلّمه قطّ ، وهو من أفحش الخطأ ؛ لتعارض معانيه ، وتناقض الكلام فيه ، وذاك أنّ العرب تستعمل لفظة قطّ فيما مضى من الزمان ، كما تستعمل لفظة أبداً فيما يُستقبل ، فيقولون : ما كلّمته قطّ ، ولا أكلّمه أبداً والمعنى في قولهم : ما كلّمته قطّ أي فيما انقطع من عمري ؛ لأنّه من قطَطْتُ الشيء ، إذا قطعته ، ومنه قطّ القلم أي قطع طرفه ، وفيما يُؤثر من شجاعة ر.
ص: 283
عليّ رضي الله عنه أنّه كان إذا اعتلى قدّ ، وإذا اعترض قطَّ ، فالقدّ قطع الشيء طولا ، والقطّ قطعه عَرضاً ...».
وممّا وقفت عليه من عدم التمييز بين (الاستعمالين) ما جاء في كتاب إحياء علوم الدّين لأبي حامد الغزالي (ت 505 ه) في آخر كتاب الحلال والحرام كما في إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين للسيّد مرتضى الزَّبِيدِي (ت 205ه) (6 / 157) : «سُئل عن الفرق ين الرّشوة والهديّة ..... فقلتُ : باذل المال لا يبذله قطّ إلاّ لغرض» ، ولم ينبّه السيّد الزَّبيدي على هذا الخطأ الفاحش ، مع أنّه من علماء اللغة ، وناهيك بكتابه المشهور تاج العروس في شرح القاموس ، وفي كتاب الأنوار القدسية في قواعد الصوفية للشيخ عبد الوهّاب الشعراني - المِصْري - (ت973ه) : «ومن شأنهم أن يجزموا بفضل كلّ من طلبوا زيارته من الشيوخ ... ولا يخرجوا قطّ لزيارته على وجه الاختبار له». وقد تكرّر فيه هذا الخطأ.
وفي تفسير روح المعاني للعلاّمة المفسّر الشهير السيّد أبي الثناء الآلوسي البغدادي (ت 1270ه) (2 / 22) : «... حُرموا من النّعيم ، ولم يروه أبداً» ، وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ في هذا الباب أعرضت عن نقلها - هنا - اكتفاءً بما مرّ عليك.
* وفي ص115 من حماسيّة النهشلي - البيت السادس - :
إنّا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسامُ بها في الأمن أُغلِينا
وقال الشارح : «في البيت مطابقة».
قلت : المطابقة وقد تسمّى في فنّ البلاغة : الطِّباق ، وهو قسمان : طباق
ص: 284
الإيجاب وطباق السّلب ، والمطابقة هنا بين قول الشاعر : (لنرخص) وقوله : (أُغلِينا). والمذكور هنا من القسم الأوّل طباق الإيجاب.
* وفي ص 117 من حماسيّة النهشلي أيضاً - البيت الحادي عشر -
ولا تراهم وإن جلّت مصيبتهم
مع البُكاة على من مات يبكونا
أقول : وهذا البيت قريب في معناه من بعض قول الآخر - على ما حفظته من أوائل الطلب - : (من البسيط) :
يُبكى علينا ولا نبكي على أحد
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
* وفي ص121 : «ولكنّا نُحِبُّ من يطول عُمْرهُ».
أقول : ضُبط (عمره) - هنا - بضمّ العين وسكون الميم ، وهذا الضبط صحيح ، لكنّ أهل اللغة لم يقتصروا عليه بل ضبطوه أيضاً بضمّ العين والميم جميعاً وعليه قراءة (المصحف) في كلّ موضع جاء فيه ومن ذلك قوله تعالى : (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمِّر وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتَاب) ، وقوله تعالى : (... وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أرْذَلِ العُمُرِ ..) ، وقوله تعالى : (... وَلَبِثْتَ فِيْنَا مِن عُمُرِكَ سِنِيْنَ).
فكان من المناسب أن يُضبط الميم على الوجهين بالسّكون والضمّ هكذا : (عُمْرُهُ)(1).
* وفي ص121 : من الحماسة المتنازعة بين السموأ (الغسّاني) وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي المعروب ب- : (اللجلاج) - البيت الرابع - :
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعُلا وكهول).
ص: 285
وقال الشارح : «(شباب) جمع : شابّ ، وهو مصدر وصف به الجمع ؛ لأنّ (فاعِلا) لا يُجمَع على (فَعال)».
أقول : وبناء ً على كون (فاعل) لا يُجمع على (فَعال) مع الإغماض عن كون (فعال) - هنا - مصدراً وُصِف به الجمع ، خَطّأَ أحد أعاظم العلماء - ممّن لم نُدركهم - أحد المصنّفين في تاريخ الآداب العربية في جمع شابّ على شباب ، مع أنّه كان يحفظ قول رسول الله أفصح من نطق بالضاد : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».
* وفي ص123 : في تعليق الشارح على قول الحماسيّ - البيت التاسع -
وإنّا لقومٌ ما نرى القتل سُبَّةً
.......................
«أيّ : ما نعتقد كما يُقال : فلان يرى رأي أبي حنيفة و (سبّة) : نصبٌ على الحال ، وليس بمفعول ثان».
أقول : إذا كانت - هنا - كلمة (نرى) من - رأى - (القلبيّة) كما دلّ على ذلك قول الشارح المذكور آنفاً بمفهومه ، فيكون قوله (سُبّة) منصوباً على أنّه مفعولٌ ثان ، كقول الشاعر الذي نحفظه من أوائل الطلب (شاهداً) على عمل رأى القلبيّة من الوافر :
رأيت الله أكبر كلّ شيء
..................
نعم : إنّما يكون المنصوب الثاني ، منصوباً على الحال بعد (رأى) إذا كانت (بصريّة) كما هو مذكورٌ في موضعه من كتب النحو.
* وفي الصفحة نفسها ص123 - الهامش(3) - :
ص: 286
«عبد القيس من أسد من ربيعة ، من العدنانية ...».
أقول : أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وإن تفرّعت منه بطون كثيرة ، إلاّ أنّه لا يُعدّ رأس بطن يُقال لهم : (بنو أسد) ، بل كان يذكره علماء الفنّ المتقدّمون في سياق رفع الأنساب ، كما يذكرون سائر الأسماء المنتظمة في سياق (أعمدة البطون).
وإنّما ينسب بنوه إلى البطون الراجعة إليه ومنهم : بنو عنزة وعبد القيس وبنو بكر بن وائل وبنو تغلب بن وائل والبطون المتفرّعة من بكر بن وائل ومنهم بنو عجل وبنو حنيفة وبنو عنز وبنو شيبان ...
وما تراه في جمهرة ابن حزم من قوله : «وهؤلاء بنو أسد بن ربيعة» هو تعبير اقتضاه (التفريع) ، وليت شعري ما عسى أن يقول إن أراد أن يذكر عَقِبَهُ؟
ومن لم يكن ذا أنسة بهذا الفنّ وإن كتب فيه قد يَعدّ (أسد بن ربيعة) قبيلة أو بطناً كبيراً من (ربيعة) يُنسب إليه ، كما وقع للقلقشندي (ت 821ه) في نهاية الأرب والإمام السيّد مهدي القزويني (ت 1300ه) في كتابه المطبوع باسم أنساب القبائل العراقية وغيرهِما على ما يخطر بالبال.
و (بنو أسد) المعروفون بهذه النسبة عدّة قبائل وبطون أشهرها بنو أسد ابن خُزيمة بن مدركَة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان وهم رهط حبيب بن مظهّر (مظاهر خ ل) الأسدي الشهيد في كربلا(1) مع الإمام الحسين عليه السلام.ا.
ص: 287
وهم المعبّر عنهم ب- : (أسد خُزيمة) وهم المنصرِف إليهم القصد عند الإطلاق. وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضّر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان.
وهم المعروفون ب- : (أسد قريش) وهم رهط أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.
وبنو أسد بن شُريك بن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عُدْثان - بضمّ العين المهملة وبالثاء المثلّثة - ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصْر بن الأزد بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يجب بن يعرب بن قحطان. ومن بني أسد بن شُرَيك هؤلاء مسدّد بن مسرهد المحدّث البصري المشهور من رجال (الصحيحين) عند الجمهور وقد ساق نسبه المجد الفيروزآبادي في مادّة (سرهد) من القاموس المحيط وهو منتظم بالأسماء الغريبة وقد رأيت أنّ أُطرفَ القارىء الكريم بذكرها على سبيل التفكّه.
قال صاحب القاموس : «ومسدّد - كمعظّم - ابن مسرهد بن مجرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن مطربل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماسك بن المستورد الأسدي المحدّث».
وقال شارح القاموس معلّقاً على هذه الأسماء الغريبة في اطّرادها : «قال شيخنا : صرّح جماعة من شرّاح الصحيحين وغيرهما من أرباب الطّبقات بأنّ هذه الأسماء إذا كتبت وعُلّقت على محموم كانت من أنفع الرُقى ، وجرّبت
ص: 288
فكانت كذلك ، وقال عاصم : إنّها رُقيةٌ للعقرب أي مع البسملة ، قاله أبو نعيم»؟!! فاقرأوا أعجب.
وقد ذكر السمعاني (الأسدي) من الأنساب وقال : «هذه النسبة إلى أسد وهو اسم عدّة من القبائل» وعدّ منهم أسد بن ربيعة بن نزار ، وقد نسب إلى كلّ قبيلة تعرف بهذا الاسم بعض من يَنْسِبْ إليها من الأعلام - على عادته - ولكنّه لم ينسب إلى أسد بن ربيعة أحداً وتعقّبه ابن الأثير في اللباب بقوله : «قُلت : ولم يذكر أبو سعد السمعاني أحداً ممّن يُنسب إلى أسد بن ربيعة بن نِزار ؛ فإنّهم بين أن ينسبوا إلى بعض بطون أسد كشيبان وغيرها أو يقال : رَبَعِيّ(1) ، وهو أكثر ما يُقال».
* وفي ص124 - الهامش (1) - : «فزارة بن ذبيان بن بغيض من غطفان ... نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب : 352 ، وفيه : أنّهم من قحطان».
وظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ في نسبهم خلافاً ، وأنّ هناك مَن يقول هم من العدنانية ، وهناك من يقول هم من القحطانية وليس الأمر كذلك ، ؛ إذ إنّ بني فزارة هم من أشهر القبائل المضرية القيسية بلا خلاف وهم بنو فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
وأمّا ما جاء في نهاية الأرب فهو خطأ بلا ريب ، إمّا من المصنّف ، وإمّا ش.
ص: 289
من الناسخ. وقد لاحظت مثل هذه الأخطاء في الكتاب المذكور فبادرت إلى التنبيه عليها وذكر وجه الصواب فيها بما نشرته في مجلّة البلاغ الكاظمية بعنوان نظرات في نهاية الأرب كما تقدّمت الإشارة إليه.
* وفي ص124 - الهامش (4) - : «أوردها الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد».
أقول : في نسبة كتاب المحاسن والأضداد إلى الجاحظ كلامٌ ، ويعضد الشكّ في نسبته إليه ما ذُكر فيه من بعض ما لا يتّفق مع أسلوب الجاحظ وعصره ، مضافاً إلى أنّ أحداً من المتقدّمين لم ينسبه إليه ، وللتفصيل موضع غير هذا. فالوجه أن يقال - هنا - : وردت في كتاب المحاسن والأضداد المنسوب إلى الجاحظ.
* وفي ص130 : «... وأرحاء العرب معروفة».
وجاء التعريف ب- : (الأرحاء) في الهامش (3) نقلا عن الصحاح بما هذا نصّه : «الأرحاء : القبائل التي تستقلّ بنفسها ، وتستغني عن غيرها».
أقول : والأرحاء من قبائل العرب هم بنو تميم وبنو أسد (أسد خزيمة) وبنو بكر وبنو عبد القيس وبنو كلب - من قُضاعة - وبنو طيّئ ، على ما نقله ابن حزم عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبي نسّابة العرب المشهور (ت 204 ه).
وفي الطالبيين ثلاثٌ من الأرحاء كما جاء في كتاب عمدة الطالب للسيّد ابن عنبة الداودي (ت 828 ه) قال رحمه الله : «... عليّ الزينبي ابن عبد الله
ص: 290
الجواد ابن جعفر الطّيار ابن أبي طالب أحد أرحاء آل أبي طالب الثلاثة (1) :
[واحدتها :] بنو موسى الجون ابن عبد الله المحض ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
[والثانية :] بنو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
[والثالثة :] بنو جعفر السيّد ابن إبراهيم بن محمّد بن علي الزينبي هذا» (2).
وهذه فائدة تُضاف إلى جملة الفوائد المذكورة في الكتاب.
* وفي ص131 ، الهامش (4) : «نسب الجاحظ هذه الأبيات له في البيان والتبيين».
والصواب : «نسب الجاحظ .... إليه ...». وقد مرّ نظيره.
ومن باب الاستطراد المستطرف أذكر أنّي وقفت على بحث للأستاذ العلاّمة عبد السلام محمّد هارون (ت 1988م) استطرد فيه إلى ذكر فائدة حول تسمية كتاب الجاحظ المطبوع باسم البيان والتبيين إذ ذكر أنّه اطّلع على نسخة خطّية قديمة من الكتاب المذكور وقد جاء عنوانه فيها : البيان والتبيُّن بالتاء المثنّاة والباء الموحّدة المفتوحتين والياء المشدّدة المضمومة وفي آخره النون على زِنّة التَّديُّن ويخطر بالبال أنّه رجّح هذا العنوان على ما هو شائع من 3.
ص: 291
تسميته البيان والتبيين. وليس تحت يدي البحث المشار إليه الآن ، وقد تابعت قراءة نصوص البيان والتبيُّن فظهر لي من بعض هاتيك النصوص رجحان تسميته ب- : البيان والتبيُّن بل كونه هو الصحيح بلا ريب ومن جملة دواعي الترجيح بل القطع بهذه التسمية أنّ (البيان) و (التبيين) هما بمعنىً واحد ، ومثل الجاحظ - أديب العربيّة الجِهْبِذ - لا يفوته (اتّحادهما) في المعنى بخلاف (التبيُّن) الذي هو بمعنى (التثبُّت) وهو معنىً يُضيف إلى العنوان دلالة جديدة لا تخفى على من تأمّلها.
وقد حدّثني أستاذنا العلاّمة الكبير المحقّق الثّبت آية الله السيّد محمّد المهدي الموسوي الخرسان النجفي دام ظلّه أنّ العلاّمة المتتبّع الشيخ شير محمّد الهمذانيّ - رحمه الله تعالى - وكان من عشّاق المخطوطات القديمة ، وصرْعى الكتب النادرة حدّثه أنّه وقف على نسخة خطّية قديمة من الكتاب المذكور جاء عنوانه فيها : (البيان والتبيُّن) ، وكان رحمه الله تعالى يُصرّ على أنّ هذا العنوان هو الصحيح ، لا ما شاع ودأب الناشرون على الالتزام به ، حتّى من قِبل المحقّقين الكبار ممّن نهد إلى تحقيقه كالأستاذ حسن السندوبيّ والأستاذ عبد السلام محمّد هارون رحمهما الله تعالى.
وأرجو ألاّ يَفهم بعض القرّاء أنّ هذا (التنبيه) من باب (التعقُّب) و (النقد) لِما ذكر هنا ؛ لأنّ البحث عن حقيقة (التسمية) لِعنوان الكتاب المذكور ليس هذا مجاله ، ثمّ إنّ ذلك ليس من شأن المحقّق الذي غاية وُكْدِهِ أن يذكر المصدر باسمه المعروف به بعد طبعه ونشره.
وإنّما (أُقيّد) هذه (الفوائد) على نحو (التعليقات) مع (الاستطراد) إلى
ص: 292
بعض ما له شِبْهُ اتّصال بما قصدت التعليق عليه بما أزعم أنّه ممّا يصلح أن يُسمّى (حاشية على حواشي الحماسة) ، وإن لم تبلغ مداها ، ولم تُصَبَّ في قالب شرواها ، لكنّها جاءت لتسترشد بصُواها ، وتستاف من نفحات ريّاها.
«فإن عُدّت فقد سعدت وإلاّ
فقد فازت بتكثير السّواد»(1)
* وفي ص140 : «وقال سوّار بن المضرَّب السَّعدي. قال البرقي : من سعد كلاب».
أقول : ليس في بني كلاب بطن يُعرفون ببني سعد ، ولا ذكر السّمعاني في الأنساب ولا ابن الأثير في مهذّبه اللباب في باب السّعْدِي من يُنسب إلى من اسمه سعد من كلاب.
والغريب أنّ الشارح لم يتعقّب البرقيَّ في هذا الوهم. والصّواب أنّ سوّاراً المذكور سعدي تميمي من بني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وهو من رهط جارية بن قدامة السعدي الذي كان من خيار شيعة عليّ عليه السلامورضي الله عن جارية.
وقد جاءت نسبته في الهامش على الصواب لكن سقط اسم (سعد) بين (كعب) و (زيد مناة) كما جاء اسم (زيد مناة) محرّفاً إلى (زيد بن مناة) ، وإنّما هو زيد مناة ، على الإضافة ؛ لأنّ (مناة) اسم صنم.
* وفي ص146 - الهامش(2) - : «قطريّ بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن بن يزيد الكناني المازني التّميمي».
أقول : جعونة المعروف ب- : (الفجاءة) هو ابن يزيد وليس ابن مازن ، م.
ص: 293
وإنّما جدّه الأعلى اسمه مازنٌ ، أبو بطن من تميم ، وهو أحد (موازن العرب).
وتلقيبه بالكنانيّ غير صحيح ؛ إذ ليس في سياق نسبه من اسمه (كنانة) ، فهو الفجاءة بن يزيد بن زياد بن خنثر بن كابية بن حُرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مرّة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
ولا يبعد أن يكون (الكناني) - هنا مصحّفاً من (الكابيّ) نسبة إلى (كابية ابن حرقوص) المذكور في سياق نسبه ، مع أنّه ليس أبا بطن يُنسب إليه ؛ إذ لم يذكر السّمعاني في الأنساب ولا ابن الأثير في اللباب - الكابيّ - مع كثرة تتبّعهما.
* وفي ص154 : «أنشده أبو الندى الأعرابي الأسدي».
وعلّق المحقّقون سلّمهم الله تعالى على ذلك بالقول : «ويبدو أنّ هناك خلطاً بين أبي النّدى وتلميذه أبي محمّد الأعرابي ، وقع فيه المصنّف ...».
هكذا جاء التعليق الذي يُفهم منه أنّ أبا الندى هو أستاذ أبي محمّد الأعرابي ، مع أنّهم ذكروا في ص103 - الهامش(4) - : أنّ الأعرابي (أبا محمّد) هو شيخ أبي النّدى ، وهو خلاف ما ذكروه هنا. والأمر كما ذكروا في الهامش المذكور من قولهم : «وفي كتب التراجم خلطٌ واضحٌ بين الرّجلين ....» ، وما قالوه ، صحيح لا غُبار عليه.
وربّما كان الأصل : (أنشده أبو النّدى .. لأسديّ) لأنّ الشارح قال قبل هذا : (قال عنترة العبسيّ) ثمّ قال (أنشده أبو النّدى ...) فكأنّ الأصل أنّ أبا النّدى أنشده لرجل أسديّ ، لا لعنترة.
ص: 294
* وفي ص170 : «و (وحدي) انتصب على المصدر ، وهو في موضع التوحّد ، ومن النحويين من جعله - وإن كان معرفةً - في موضع الحال».
أقول : انتصابه على المصدر هو قول البصريّين وأمّا عند الكوفيّين فانتصابه على الظّرف ، قال الجوهري في الصحاح ، والرازي في مختار الصحاح : «.. تقول : رأيته (وحده). وهو منصوب عند أهل الكوفة على الظّرف ، وعند أهل البصرة على المصدر في كلّ حال ، كأنّك قلت (أوحدته) برؤيتي (إيحاداً) أي : لم أر غيره ، ثمّ وضعت (وحده) هذا الموضع. قال أبو العباس (1) : يَحْتَمِلْ أيضاً وجهاً آخر ، وهو أن يكون الرجل في نفسه منفرداً ، كأنّك قلت : رأيت رجلا منفرداً انفراداً ، ثمّ وضعت (وحده) موضعه.
وقد يُخطىء بعض العصريّين ؛ إذ يُدخلون (اللام) عليه ، فيقولون - مثلا : بقي فلان لوحده ، مع أنّه لا يدخل عليه حرف جر (ولا يُضاف إلاّ في قولهم : فلانٌ نسيج وحده في المدح ، وجُحَيش وحده وعُيَير وحده في الذمّ - وربّما قالوا : رُجيل وحده» (2).
* وفي ص171 - الهامش(5) - : «الضحّاك بن قيس بن خالد الفهري القُرشي ..».
أقول : هو غير الضحّاك بن قيس الرّبعي الشيباني - من بكر بن وائل - وكان من أئمّة الخوارج الصفرية وقد ادّعى الخلافة وبايعه مئة وعشرون من الخوارج وبايعه بالخلافة وسلّم عليه بها جماعة من بني أمية منهم عبد الله بن َ.
ص: 295
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، وسليمان بن هِشام بن عبد الملك بن مروان وغيرهما وفي ذلك يقول شبيل بن عزرة الضبعي الخارجي :
ألم تر أنّ الله أظهر دينه
وصلّت قريش خلف بكر بن وائلِ
كما في تاريخ الطبري وغيره.
* وفي ص173 جاء هذا البيت من القصائد المنصفات - البيت الثالث - :
ولمّا لقينا عصبة تغْلِبيّة
يقودون جرداً للمنية ضمّرا
كذا جاء ضبط كلمة (تغلبية) بكسر اللام بلحاظ حركة المنسوب إليه (تَغْلِب) ، مع أنّ الضبط قد يختلف عند النسبة والوجه هنا أن يُفتح (اللام) : التغلَبي وربّما نسبوا إليه بالكسر لكنّ الفتح أعلى.
قال الرازي في مختار الصحاح ناقلا كلام الجوهري : «و (تغلِب) بكسر اللام أبو قبيلة. والنسبة إليه (تغلَبي) بفتح اللام استيحاشاً لتوالي الكسرتين مع ياءِ النسب. وربّما قالوه بالكسر ، لأنّ فيه حرفين غَيْرَ مكسورين ، ففارق النسبة إلى نَمِر قلت (والقائل الرّازي) : يعني أنّ في نَمِر حرفاً واحداً غيرَ مكسور ، فلم ينسبوا إليه بالكسر بل بالفتح فقط».
أقول : ولم يُراع السمعاني في الأنساب ولا ابن الأثير في اللباب ما قاله اللغويون في هذا الباب إذ ضبطا (التغلبي) - بالعبارة - وقالا : «التغلبي بفتح التاء المثنّاة من فوق وسكون الغين المعجمة وكسر اللام والباء الموحّدة ، هذه النسبة إلى تغلب ....».
* وفي ص175 : «وقال عامر بن الطفيل الكلابي» ... ثمّ قال شارح : «إذا نسبت إلى الكلاب - جمع كلب - تقول : كلبيّ ، كما تقول في النسب إلى
ص: 296
الفرائض : فرضيٌّ ، فإن جعلت الجمع اسماً لشيء واحد نسبت إليه بلفظ الجميع ومنه : الكِلابي والعبادي».
أقول : كلاب إذا سُمّى به فهو اسم عَلَم بعينه غير ملحوظ فيه كونه جمع كلب في الأصل ، أو قل : تنوسي فيه معنى الجمع ، وعلى هذا لا يُلَزُّ قولهم : الأنصاري وقولهم : العبادي نسبة إلى عِباد الحيرة النّصارى مع قولهم الكلابى في قَرَن واحد - على حدّ تعبير القدماء -.
وهذا الموضوع لا تفي باستيفاء البحث فيه مثل هذه الأسطر المبتسرة ؛ إذ هو يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.
أمنّا قول الشارح رحمه الله : «كما تقول في النّسب إلى الفرائض : فرضي». فهو قولٌ معدول عن جهته ، ومخالف لقواعد اللغة - الأصيلة - وقد كفانا مؤونة بيان وجه الصواب فيما نحن بصدد نقده ، العلاّمة اللغوي الشهير الدكتور مصطفى جواد (ت 1389م) رحمه الله في كتابه قل ولا تقل ونحن الآن ننقل كلامه بطوله لما يحتجنه من فوائد ، قال تغمّده الله بشآبيب رحمته : «قل : الحقوق القبيلية والرّسوم الكنيسية ، ولا تقل : الحقوق القبلية والرّسوم الكنسية ، وذلك لأنّ القبيلة والكنيسة اسمان من أسماء الجنس ، أعني أنّ القبائل كثيرة والكنائس كثيرة ، فلا يجوز حذف الياء منها ، عند النسبة إليهما ، أمّا حذف الياء فيكون مقصوراً على الأعلام كقبيلة بجيلة وجزيرة ابن عمره ، وقبيلة ثقيف والعتيك ، وجُهينة وعُرينة وسُلَيم وهُذَيل ، فيقال : بَجَليّ وجَزَرِي ، وثَقَفيّ وعَتَكِي وجُهَنِي وعُرَنِي وسُلَمي ، وهُذَلِي ، ومع وجود هذه القاعدة
ص: 297
الخاصّة بالأعلام ، شذّ منها (تميمي) فلم يقولوا (1) : تممي ، وشذّ منها من النسب إلى البلدان والمواضع نوادر ، كالحديثي نسبة إلى الحديثة ، والحظيريّ نسبة إلى الحظيرة ، والقطيعي نسبة إلى محلّة القطيعة ببغداد ، فإن كانت هذه القاعدة لا يبنى عليها إلاّ في الأعلام ، وكثر الشذوذ منها في الأعلام بأعيانها (2) فكيف يُبني عليها في أسماء الجنس كالبديهة والقبيلة والكنيسة والعقيدة؟ فإن جاز حذف الياء في العَلَم فذلك لأنّ العلم له من الشهرة والاستفاضة ، ما يحفه عند الحذف ، وله من قوّة المنسوب ما يُميّزه عن غيره ، ويُبعده عن اللبس.
ومن الخطأ القديم الذي ارتكب في هذه النسبة ، قولهم : فلان الفرَضي ، نسبة إلى علم الفرائض بدلا من الفرائضي. قال أبو سعد السمعاني في الأنساب وعزّ الدين بن الأثير اللباب : «الفرائضي ... ويقال لمن يعلم ذلك فرضي ، وفرائضي ، وفارض ، وذكر من الفرائضيّين أبا الحسن أ.
ص: 298
الجُرجانيّ ، وقد تُوفّي سنة (354ه) وأبا الَّليث الفرائضي».
وقد توفّي سنة (314ه) فنسبة الفرائضي سابقة للفرضي بنحو مئة سنة (1) ، وهذا يدلّ على أنّ الخطأ حدث في القرن الرابع للهجرة وبناء بعض الصرفيين القاعدة على الغلط حمل غيره على أن يعدّ الصواب غلطا في قول الشاعر :
ولست بنحويّ يلوك لسانه
ولكن سليقيّ (2) ، يقول فيعرب
فالنسبة إلى السليقة ، سليقي لأنّها من أسماء الجنس ، ولا يجوز حذف الياء ، ومن يقل : سَلَقِيّ ، فقد سلق اللغة العربية وصلقها ، فقل : بديهيّ ، وقبيليّ ، وكنيسي ، وسليقي ، ولا تقل : بَدَهِيّ ، وقَبَلِيّ وكَنَسِيّ ، وطَبَعِيّ.
* وفي ص175 من حماسيّة عامر بن الطفيل البيت الأوّل :
طُلِّقْتِ إن تسألي أيّ فارس
خليلك إذ لاقى صُداءً وخثعما».
ص: 299
هذا البيت دخله الخرْم (1) وهو من مصطلحات العروضيين وقد مرّ نظيره. وقد جاءت كلمة صداء منوّنة : صداءً (2) وليس بصواب ؛ لأنّها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث على معنى القبيلة وليس في الوزن ضرورة لتنوينها. فالصحيح :
....................
إذ لاقى صُداءَ وخثعما
* وفي ص 177 : وقوله : «تحمحما يقال للفرس إذا نظر إلى صاحبه - لعرفانه إيّاه لِيَرُقَّ له : تحمحم ، وحمحم».
أقول : ما ذكره الشارح في تفسير تحمحم ، وحمحم ، ناقص ، لم يستوف شروط التعريف التامّة ؛ إذ ليس الفعل المذكور بصيغتيه تحمحم ، وحمحم هو مجرّد نظر الفرس إلى صاحبه ليرقّ له ، بل هو مع نظره مصحوب بصوت (مخنوق) دون الصهيل ، وهو المعبّر عنه في القاموس المحيط : «عرّ الفرس (صوته) حين يقصّر في الصهيل ...» (3). ن:
ص: 300
وقوله : ليرُقّ بضمّ الراء المهملة خطأ صرفي مبين ، والصواب : لِيَرِقَّ ، بكسرها.
* وفي ص178 : «قطريّ بن الفجاءة ... الخارجي ، أبو نعامة».
أقول : محفوظي أنّ كنيته بأبي نعامة كانت في الحرب خاصّة ، وأمّا في السلم فكان يكنّى بأبي محمّد.
* وفي ص180 : «قال التّوّزي : كنت إذا أردت أن أُنشط أبا عُبيدة ، سألته عن أشعار الخوارج ، فكنت أبعج به ثبج بحر ...».
قلت : قوله : أبعج من البعج وهو الشقّ ، ومن وقع عليه مبعوج وبعيج ، وقد لُقِّب به بعض العلويين وهو محمّد بن أحمد بن يوسف بن أبي داود محمّد بن يحيى السّويقي ابن عبد الله الصالح ابن موسى الجون ابن عبد الله المحض ابن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن السبط عليه السلام ، قال السيّد الداودي في العمدة : «محمّد المبعوج ابن أحمد بن يوسف ، يقال لولده آل المبعوج». وثَبَجُ البحر : وسطه.
وممّا يماثل هذا التعبير : (أبعج به ثبج بحر) ما جاء في كامل المبرّد عند تفسيره قول أراكة الثقفي في رثاء ولده عمرو بن أراكة رضي الله تعالى عنهما مخاطباً ولده الآخر عبد الله :
ص: 301
لَتَسْتَنْفِدَنْ ماء الشؤون بأسرها
ولو كنت تَمْرِيْهِنَّ من ثَبَجِ البحر
قال المبرّد : «وقوله : من ثبج البحر ، فثبج كلّ شيء وسطه. ويروى في الحديث : كنت إذا فاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر».
* وفي ص182 - الهامش (1) - : «عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي».
أقول : ليس (ربيعة) جَدُّهُ الأوّل ، بل هو جدّه السادس فهو عمرو بن معديكرب بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن عمرو بن زبيد الأصغر ابن ربيعة ابن سلمة .... كما هو مذكور في مظانّ ترجمته.
* وفي ص189 من حماسيّة سيّار بن قُصير الطائي ، البيت الأوّل :
........................
(وخَيلَ) - نصبٌ - مفعول (طِعانَنا)
أقول : الطّعان من قولهم : تطاعنوا في الحرب تطاعُناً وطعناناً وطعاناً ، ويُقال في مصدر (طعنَ) يطعن طعناً ، وذكر الليث في مصدر (طعن) طعناناً أيضاً ، ولم يُتابعه سواه من النحاة المتقدّمين في قوله هذا.
وكيف كان الأمر ؛ فإنّ المصدر الذي هو هنا - طعان - أُضيف إلى فاعله ، فعمل عمل ، فعله وهو من بابة قول الآخر :
أظلومٌ إنّ مصابكم رجلا
أهدى السلام تحيّة ظلم
ولهذا البيت حكاية طريفة ذكرها غير واحد من المصنّفين في الأخبار والآثار المستطرفة ومنهم الحريري في دُرّة الغوّاص إذ نقل ما رواه أبو العباس المبرّد وهو من تلامذة أبي عُثمان المازنيّ : قال : «قصد بعض أهل الذمّة أبا عثمان المازني ليقرأ كتاب سيبويه عليه ، وبذل له مئة دينار عن تدريسه إيّاه ،
ص: 302
فامتنع أبو عثمان من قبول بذله ، وأصرّ على ردّه ، قال المبرّد : فقلت له : جُعلت فداك ، أتردّ هذه النفقة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال : إنّ هذا الكتاب يشتمل على ثلاث مئة وكذا وكذا آية من كتاب الله ، ولست أرى أنْ أمكّن منها ذِمّياً غَيرةً على كتاب الله تعالى ، وحَمِيّةً له ، فاتّفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي من الكامل :
أظلُومُ إنّ مصابكم رجلا
أهدى السلام إليكم (1)
ظُلْمُ
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجل ، فمنهم من نصبه وجعله اسم إنّ ، ومنهم من رفعه على أنّه خبرها ، والجارية مُصِرّةٌ على أنّ شيخَها أبا عثمان المازنيّ لقنّها إيّاه بالنّصب. فأمر الواثق بإشخاصه ، قال أبو عثمان : فلمّا مثلت بين يديه قال ممّن الرجل؟ قلت : من بني مازن ... ثمّ قال : ما تقول في قول الشاعر :
أظلوم إنّ مصابكم رجلا
أترفع رجلا أم تَنصبُه؟ فقلت : بل الوجه النّصب ...
قال : ولم ذاك؟ قلت : إنّ مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم ، فأخذ اليزيدي في معارضتي ، فقلت : هو بمنزلة قولك : إنّ ضَرْبَكَ زيداً ظلمٌ ، فالرجل مفعول مصابكم ومنصوب به ؛ والدليل عليه أنّ الكلام معلّق إلى أن تقول : (ظُلمُ) ، فاستحسنه الواثق ...... ثمّ أمر لي بألف دينار ، وردّني مكرّماً ، قال أبو العبّاس (المبرّد) : لمّا عاد أبو عثمان إلى البصرة قال لي : كيف م.
ص: 303
رأيت يا أبا العبّاس؟ رددنا لله مئة فعوّضنا ألفاً» (1).
* وفي ص190 : «ويجوز أن تكون خيل الأعداء ، ويجوز أن يكون خيل نفسه».
والوجه : ... ويجوز أن تكون خيل نفسه ؛ ليتساوق التقسيم.
* وفي صفحة 190 : «والآطال جمع : أطِل ، وهو الخاصرة ، ويقال فيه : أطلٌ وأيطلُ».
أقول : وممّا جاء فيه واحد الآطال على أيطل قول الشاعر - فيما أحفظ - من الطويل - :
لها أيطلا ظبيّ وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تَتْفُلِ
* وفي ص 193 - 194 قال الشاعر من الوافر :
فلا الدّنيا بباقاة لِحيّ
ولا حيٌّ على الدّنيا بباقِي
وعلّق عليه المحقّقون بقولهم : «البيت من الشواهد وهو في التفسير الكبير 7/131 ، وفي الزاهر في معاني كلمات الناس 1/72».
وأُضيف إلى ما قالوه نفع الله بعلمهم : أنّ هذا البيت ذُكر في الديوان المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام لكن جاء صدره : «فما الدنيا بباقية لحيّ» ، وعلى هذه الرواية لا يكون من الشواهد مع أنّ في نسبته إلى مولانا الإمام عليه السلام ، بل في نسبة أكثر ما في الديوان المشار إليه نظراً ، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير. ه.
ص: 304
* وفي ص194 ، الهامش (4) : «بنو ثُعَل ..... بطن من طيء ، من القحطانية».
أقول : وهم المشهورون - من بين قبائل العرب - بالرّماية ، حتّى ضُرب بهم المثل ، وفي ذلك يقول الطغرائي الدّؤلي الإصبهاني في قصيدته السائرة المعروفة ب- : لامية العجم :
................
وقد حمته رماة من بني ثُعَلِ
* وفي ص195 : «وقال رُويشد بن كثير الطائي : وتُروى لابنة الصباح».
وعلّق المحقّقون على ذلك بالقول : «لم نقف لها على ترجمة أو ذكر وانفرد الشارح ... بنسبة الأبيات إليها».
أقول : لا يبعد أن يكون الأصل : (وتُروى لابنه الصباح) فيكون القائل - على هذه الرواية - الصباح بن رويشد بن كثير المذكور والله العالم بحقائق الأُمور.
* وفي ص197 : «وزبّان : فعلان. من الزّبب. أو : فعّال. من الزبن وحينئذ يكون مصروفاً».
أقول : وإن كان فَعْلان - من الزبب - فهو غير مصروف وهو مثل حسّان ، فإنّه إن كان من الحسّ فهو فعلان لا يَنصرِف ، وإن كان من الحُسن فهو فعّال وحينئذ ينصرف.
* وفي ص199 : من حماسيّة أنيف بن زبان الطائي البيت الرابع :
دعوا لنزار وانتمينا لطيء
كأُسد الثّرى إقدامها ونزالها
ص: 305
وقد علّق عليه المحقّقون - سلّمهم الله تعالى - بالقول : «بنو نزار الظاهر أنّهم بنو نزار ، بطنٌ من تنوخ ، من القحطانية ، وهم من بطون قُضاعة خاصّة ، دون غيرها».
أقول : ذكر ابن حزم في الجمهرة ما هذا نصّه : «فتنوخ على ثلاثة أبطُن : بطن اسمه فهمٌ ... ، وبطنٌ اسمه نِزار ، وهم لوثٌ أي مختلطون ليس نِزارٌ لهم بوالد ، ولا أمّ ، ولكنّهم من بطون قُضاعة كلّها ، من بني العَجلان بن الثعلب ... ومن بني تيم الله بن أسد بن وبرة ، ومن غيهم ...».
وما استظهره المحقّقونَ من كون المراد في قول الشاعر : «دعوا لنزار ...» هم آل نزار من قُضاعة ، ليس بظاهر ، بل الظاهر أنّ المقصود بهم هم بنو نِزار بن معد بن عدنان المعبّر عنهم ب- : النِّزارية ، وهم جماعُ العرب العدنانيّة والذي يعْضُد ما استظهرته هو كثرة ما نطق به الشعراء من عبارة آل نِزار أو نِزار في مقابل قبائل اليمن القحطانية ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.
* وفي ص203 : «وَ (نَهْد) : هو نَهْد بن سعد بن ليث بن سود بن أسلم بن إسحاق بن قضاعة».
أقول : ليس في أبناء قضاعة من اسمه إسحاق ، بل هو هنا محرّف من الْحاف أو الْحافي ، بإثبات الياء ، وحذفها ونظيره : العاص والعاصي.
وأسلُم بن الحاف ضبطه أهل اللغة بضمّ اللام على غير الجادّة - على اصطلاحهم - كما جاء مضبوطاً بهذا الضبط بالقلم والعبارة في جمهرة ابن حزم.
ص: 306
وقد ساق ابن حزم نسب نهد هكذا : «نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلُمَ بن الحافي بن قضاعة» ، وذكر غيره أنه نهد بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة ، والله العالم.
* وفي ص203 : «وهذا يدلّ على أنّ هذا الشعر ، كان بينه وبين بلحارث في ختان جرم».
وعلّق المحقّقون على كلمة ختان جَرْم بالقول : «هكذا في المخطوط ، ولم نقف له على معنى مناسب إلاّ أن يكون الختان هنا بمعنى : القطع كما في اللسان : ختن ، أي بمعنى : قطع جَرْم وانهزامها ، ويُمكن أن يكون قد سقط من الناسخ الفها ، فهي : أختان جرم أي أصهارهم ، لما كان من النسب بينهم ، ويمكن أن تقرأ : ختال باللام من المخاتلة ، والمدافعة في الحرب».
أقول : كلّ ما ذُكر من وجوه التعليل وإن كانت على جهة التقريب بعيد عن المراد ، وهو من بابَةِ المثل المعروف : «أكثر فلانٌ الحَزّ ، وأخطأ المفصل».
والوجه أن يقال هنا : إنّ الأصل في العبارة : (وهذا يدلّ على أنّ هذا الشعر ، كان بينه وبين بلحارث في اختيان جَرْم ، أي : في خيانتها لبني زُبيد رهط الشاعر).
والاختيان مصدر الفعل : اختان ومنه قوله تعالى ، وله المثل الأعلى : (علم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم) ومثله الامتياز من الفعل امتاز والاختيار من الفعل اختار والامتيار من الفعل امتار وهلّم جرّا.
والذي يدلّ على إرادة هذا المعنى هنا (الاختيان) هو ما ذكره المحقّقون
ص: 307
في حاشية أخرى ، إذ جاء فيها : ذلك أنّ جرماً ، ونهداً كانتا فى بني الحارث متجاورتين فَقَتَلَتْ جرم رجلا من أشراف بني الحارث فارتحلوا وتحوّلوا مع بني زبيد رهط عمرو فخرجت بنو الحارث يطلبون بدمهم ، ومعهم جيرانهم بنو نهد ، فعبّأ عمرو جرماً لبني نهد ، وتعبّأ هو وقومه لبني الحارث ، فزعموا أنّ جرماً كرهت دماء بني نهد ، فانهزمت ، وفُلّت يومئذ زبيد ، ويدعى هذا اليوم بيوم الأرنب.
ومن تأمّل هذه الحكاية ظهر له وجه الصواب فيما قلناه ، والله الهادي.
* وفي ص205 من حماسيّة عَمْرو بن معديكرب الزبيدي : البيت العاشر :
وبدت لميس كأنّها
بدر السماء إذا تبدّا
أقول : في قوله تبدّا بمعنى ظهر شاهد على صحّة هذا الاستعمال ، وأنّه ليس مُقْتَصِراً على ما ذهب إليه بعضهم بسبب الاستقراء الناقص على من أقام بالبادية.
فقول الناس : بدا أو تبدّى القمر صحيحٌ بلا ريب ، وقولهم : تبدّى بمعنى أقام بالبادية صحيح أيضاً ، والسياق هو الفيصل.
* وفي ص 205 من حماسيّة الزبيدي البيت الخامس عشر :
ما إن جزعت ولا هلعت
ولا يردّ بكاي زندا
ونقل الشارح عن المرزوقيّ قوله : ورُوي : بكاي زيداً.
أقول : استعمل الشاعر البكاء هنا مقصوراً وهو واردٌ في كلامهم ، ومن ذلك ما جاء في قول كعب بن مالك في رثاء الحمزة بن عبد المطّلب. بالمدّ
ص: 308
والقصر :
بكت عيني وحقّ لها بكاها
وما يُغني البكاء ولا العويلُ
وقد ذكر أئمّة اللغة أنّ البكاء يُمدّ ويقصر ، فمن مدّ فإنّما جعله كسائر الأصوات ، ولا يكون المصدر في معنى الصّوْتِ مضموم الأوّل إلاّ ممدوداً. ومن قصره جعله كالحزن ، وقلّما يكون المصدر على فُعَل.
وأمّا رواية عجز البيت على وجهين الأوّل : (ولا يردّ بكاي زندا) ، والآخر : (ولا يدرّ بكاي زيدا) فلا شكّ أنّ أحدهما مصحّف والتصحيف بين (زيد) و (زند) واردٌ في غير ما موضع ومنه ما جاء في اسم أبي العتاهية الشاعر المشهور ، فإنّ اسمه على التحقيق زند بن الجون بالزاي والنون ويتصحّف كثيراً إلى زيد بالزاي والياء.
* وفي ص225 : «ويجوز أن يريد بالنجوم : نبات الأرض ...».
أقول : ليس المراد بالنجوم مطلق نبات الأرض ، بل ما نجم منها على الأرض ولم تكن من ذوات السوق - السيقان - وما كان ذا ساق منها فيقال له : الشجر وبهذا فسّر جماعة قوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) ، والموضوع يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.
* وفي ص 227 الهامش(3) : «هو كنانة بن خزيمة ... جدّ قريش ، أولاده النضر ، وملك ، وملكان ، وعبد مناة وهم بطون قرشية ، مضريّة ، عدنانية».
أقول : هذا القول على إطلاقه غير صحيح ؛ لأنّ بني ملك وبني ملكان
ص: 309
وبني عبد مناة لا يُعدّون من بطون قريش (1) ، وإنّما يُطلق اسم قريش على بني النّضر بن كنانة فقط ثمّ على بني فهر بن مالك بن النضر المذكور.
* وفي ص228 الهامش (1) : «خزاعة قبيلة من الأزد ، من القحطانية».
أقول : اختلف النسّابون في خزاعة فذهب جماعة منهم إلى أنّهم من الأزد القحطانية ، تخرّعوا من قومهم وسكنوا الحجاز ، وهو القول المشهور ، وعليه الأكثر ، وذهب آخرون ومنهم ابن حزم الأندلسي (ت 456 ه) في جمهرة أنساب العرب إلى أنّهم من بني قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
ومن الغريب أنّ المحقّقين - سلّمهم الله تعالى - ذكروا من جملة مصادر نسب خُزاعة وكونها قبيلة من الأزد القحطانية كتاب جمهرة أنساب العرب ص480 ، مع أنّ الوارد في الصفحة المذكورة : وخزاعة ، وهم بنو لُحَيِّ بن عامر بن قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ، فأين هذا من ذاك؟!
* وفي ص 228 ، الهامش (4) : «... وقريش : هو فهر بن مالك بن النضر ...». ش.
ص: 310
أقول : هذا على قول ، والقول الآخر أنّ النضر جدّ فهر المذكور هو قريش وليس في هذا الخلاف ثمرة نزاع كما يقولون ، لأنّ بطون قريش المعروفة كلّها من بني فهر بن مالك بن النضر.
* وفي ص228 : «.... وأنّ كلّ دم أصابه قُصيّ من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه ، وأنّ ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقُضاعة ، ففيه الدِيّة ..».
وعلّق المحقّقون على ذلك بالقول : «قيل : إنّ قُضاعة من حمير من القحطانية ، وقيل إنّها من العدنانية. وهذا يفسّر ورود اسمها في هذه الحادثة مع بطون قريش».
أقول : هذا التفسير غير صحيح ، فلم تكن قضاعة حتّى مع القول بأنّها عدنانية معدودة من بطون قريش ، ثمّ إنّه ليس في البطون المذكورة في هذه الحادثة من قريش غير بني النضر ، وهم المعبّر عنهم هنا ب- : قريش.
أمّا بنو بكر وسائر بطون كنانة فلا يعدون من قريش كما مرّ عليك آنفاً.
وقد جاءت كلمة الديّة مشدّدة الياء وهو خطأ.
والصواب : تخفيفها في المفرد والجمع : دِيَة ، دِيَات.
* وفي ص230 : من حماسية الشدّاخ الليثي البيت الأوّل :
قاتلي القوم يا خُزاعَ ولا
حلَّكم من قتالهم فشل
أقول : قوله يا خزاع ، خِطاب لخزاعة القبيلة على الترخيم ، وفتحت العين - هنا - على لغة من ينتظر ، وأمّا على لغة من لا ينتظر فهي بالضمّ يا خُزاعُ ، والتفصيل في باب الترخيم من كتب النحو.
ص: 311
* وفي ص244 ، الهامش (1) : «الحارث بن وعلة بن عبد الله بن الحارث الجرمي ، شاعر جاهلي ، من فُرسان قضاعة .... ومن ولده الحُضَين بن المنذر بن الحارث ، صاحب راية ربيع مع أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين».
أقول : الحارث بن وعلة : من بني شيبان الذين هم بطن من بكر بن وائل الرَّبَعِيِّين ، وهو الحارث بن وعلة بن المجالد بن اليثربي بن الريّان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن أفصى بن دُعْمِي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وقد يقال له : الرقاشي ؛ لأنّ أمّ جدّه الأعلى مالك بن شيبان بن ذهل هي رقاش بنت ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة ، فنسبوا إليها فهم الرقّاشيون. فكيف صار من فرسان قضاعة ولُقّب ب- : الجرمي؟!! لا أدري كيف وقع ذلك للمحقّقين وفي أيّ مصدر وجدوه!! وحفيده أبو ساسان الحُضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة المذكور ، صاحب راية ربيعة كلّها لعليّ أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفّين وفيه يقول علي عليه السلام وقيل لغيره :
لمن راية سوداءُ يخفق ظلُّها
إذا قيل : قَدِّمْها حُضَيْنُ تقدّما
قالوا : وقد طال عمر الحضين حتّى أدرك إمارة سليمان بن عبد الملك وكان شريفاً شجاعاً ذا بيان وعارضة وله حكاية طريفة مع عبد الله بن مسلم الباهلي أخي قتيبة القائد المشهور تدلّ على حضور بديهته وسرعة جوابه ذكرها المبرّد في الكامل على ما يخطر بالبال (1). ّي
ص: 312
* وفي صفحة 244 - 245 مِنْ حَماسيّة الحارثِ بن وَعلة الرَّقاشيّ - البيت الثاني - :
فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأعْفُوَنْ جَللاً
وَلَئِنْ سَطَوْتُ لأُوْهِنَنْ عَظمِي
وقال الشّارح : «(اللام) مُوطِّئةٌ للقَسَم».
أقول : اجتمع في البيت المذكور (القَسَمُ) وَ (الشَّرْطُ) ، ومعَ اجتماعهما يكون الجوابُ للسّابقِ منهما ، وهو هُنا (القَسَمُ) لذلِكَ لم يَقترِنْ جَوابهُ بالفاء ، وقد شاعَ في كلام المتأخّرين إقحامُ (الفاءِ) فيما هذا سبيلهُ كأن يقول أحدهم : لئن دَرستَ فستنجحُ ، مع أنّ الوجه : لَئِنْ دَرَستَ لَتَنْجَحَنَّ.
* وفي صفحة 249 ، - الهامش «1» - : «قيس بن خالد بن عبد الله ، ذو الجدّين ...».
والصواب : .... بن عبد الله ذي الجدّين ، بالجر على البدل من (عبد الله).
وإنّما قيل له ذُو الجدّين ؛ لأنّه كان أسَرَ رَجلاً له فِداء كثير ، فقال رجلٌ :إنّه لذو جَدٍّ في الأسر ، أي حظّ ، فقال آخر : إنّه لذو جَدَّين ، على ما جاء في كتاب جَنى الجنّتين للسيّد المُحِبّيّ.
ص: 313
* وفي صفحة 251 من حَماسيّة لأعرابي - البيت الأوّل - :
أَقُولُ للنّفسِ تَأساءً وتَعزِيَةً
إحدى يَدَيَّ أصابتني ولم تُردِ.
قُلتُ : ومن مُستطرفات النقول ممّا جاء فيه هذا البيت والبيت الذي يليه من (الحماسيّة) على جهةِ التّضمين ما نقله جماعةٌ منهم ابن شاكر الكُتبيّ في ترجمة سعد بن محمّد بن صيفيّ الشاعر الشهير الفقيه الشافعي (1) المعروف ب- : (حَيْص بَيْص) مِنْ كِتابِهِ الوافي بالوفيات قال : «خرج حَيَص بَيص ليلةً من دارِ الوزيرِ شرفِ الدّينِ أبي الحسن الزّينبيّ ، فَنَبَحَ عليهِ جُروُ كَلبِ ، وكان حيص بَيص مُتقلّداً سيفاً ، فوَكزَ الجروَ بعقبِ السّيفِ فمات ، فبلغَ ذلك هِبةَ اللهِ بن الفضل المعروف بابن القطآن الشّاعر فنظم أبياتاً وضمّنها بيتينِ لبعضِ الأعرابِ قَتلَ أخوهُ ابناً له فقدّم إليه ليقتاد منه فألقى السّيف من يدهِ وأنشد (بيتي الحماسة) ثُمّ إنّ ابن القطّان المذكور كتب الأبيات وعلقها في عُنقِ كلبة لها جراءٌ ، ورتّب لها من أوصلها إلى باب دار الوزير (الزّينبيّ) كأن ذلك (كانَ) احتجاجاً وشكوى من الكلبةِ وجرائها ، كالمستغيثة به وقرأ القومُ الورقةَ (المعلقة في عنقِ الكلبةِ) فإذا فيها :
يا أهل بغدادَ إنّ الحيصَ بيصَ أتى
بِفعلة أكسبتهُ الخزيَ في البلدِ
هو الجبانُ الذي أبدى شجاعته
على جُرَيٍّ ضعيفِ البطشِ والجَلَدِ».
ص: 314
وليس في يده مالٌ يَدِيْهِ بهِ
ولم يكن ببواء عنه في القَوَدِ
فأنشدت أمّه من بعدما احتسبت
دَمَ الأُبَيْلَقِ عند الواحِد الصّمدِ
أقول للنفس تأسّاءً وتعزية
إحدي يدي أصابتني ولم تُرِدِ
كلاهما خَلَفٌ من فقد صاحبهِ
هذا أخي حين أدْعوه وذا ولدي
ومن محفوظي القديم أنّ الأحنف بن قيس التميمي ؛ سُئل : ممّن تعلّمت الحِلم؟ فقال : من قيس بن عاصم التميمي المنقري ومن شواهد حلمه أنه جيىء بابن عمّ له قتل أحد أولاده ليقتاد منه فأنشد بيتي الحماسة المذكورين ولم يَقْتَدْ منه.
* وفي ص252 : «أُمامة بنت مسعود بن عبّاد بن يشكر بن عدوان بن عامر ، أخت هانىء بن مسعود».
وعلّق المحقّقون على هانىء بن مسعود في الهامش(3) بما نصّه : «هانىء بن مسعود بن عامر بن عَمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن وائل ، أودعه النعمان بن المنذر ودائعه ، ورفض تسليمها إلى كسرى ، فوقعت معركة ذي قار».
أقول : النسب الذي ساقه الشارح يختلف في سياقه عن سياق النسب المذكور في الهامش ، وكلا السياقين معدول عن جهته.
والصّواب : أنّه هانىء بن مسعود بن عامر بن عَمْرو المعروف بالمزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ... من ربيعة بن نزار ، كما في أنساب ابن الكلبي ، وجمهرة ابن حزم ، وتاريخ الطبري ، وغيرها من المصادر الأُمّات.
ص: 315
والظّاهر أنّ المحقّقين الأفاضل سلّمهم الله تعالى لم يلتفتوا إلى الاختلاف بين السياقين.
ووجه الخطأ في كلام الشارح أنّه نسب هانىء بن مسعود إلى بني عبّاد (كذا والصواب : عياذ) بن يشكر بن عدوان بن عَمرو (لا عامر) بن قيس عيلان بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان وهؤلاء من مضر كما ترى وهانىء ابن مسعود من ربيعة بلا خلاف.
وأمّا وجه الخطأ فيما ذكره المحقّقون الأفاضل فهو إيصالهم نسب عياذ (1) بن يشكر من بني عدوان المضرية القيسيّة ببني (يشكر بن بكر بن وائل) الّذين هم من قبائل ربيعة. وشتّان ماهما.
وبمناسبة ذكر بني يشكر لا أرى بأساً من الاستطراد إلى ما وقع لابن حزم من الخلط في كتابه الجمهرة ، ولم ينتبه له محقّق الكتاب العلاّمة الأستاذ عبد السّلام محمّد هارون رحمه الله تعالى.
فقد جاء في كلامه على نسب بني عدوان بن عَمرو بن قيس عيلان بن مُضَر بن نِزار بن معدّ بن عدان ص 243 فولد سعد بن الظرب بن عَمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان عوف بن سعد ، من وُلْدِهِ القاضي العوفي واسمه الحسن بن الحسين بن عطيّة بن جُنادة.
وجاء في كلامه على نسب بني يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دُعْمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن معد بن عدنان ص309 : ومنهم عطية العوفيّ ، المحدّث ، وهو من بني عوف بن ب.
ص: 316
سعد ، فخذ من بني عَمرو بن عبّاد (كذا والصواب : عياذ) بن يشكر بن بكر ابن وائل.
فترى ابن حزم نسب الحسن بن الحسين بن عطية العوفي في ص 243 إلى بني يشكر بن عَدوان المضرية القيسية ، وهنا نسب جدّه عطية العوفي إلى بني يشكر بن بكر بن وائل الربعية.
والصّواب : أنّ عطية العوفي منسوب إلى بني عوف بن سَعْد من بني عياذ ابن يشكر بن عدوان القيسية المضرية ، وليس في بني يشكر بن بكر بن وائل من اسمه (عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن وائل) وإنّما وقع لابن حزم هذا الخلط بسبب التشابه في الأسماء وهو مَظِنّة الاشتباه.
وقد ذكر ابن قتيبة في المعارف ص 226 أنّ عطية بن سعد بن جنادة العوفي المحدّث المذكور هو مولى لبني سعد بن عوف (كَذا) والصواب : عوف ابن سعد وليس من أنفسهم والله العالم.
* وفي ص253 من الحماسية المذكورة :
.................
فهل تَعَجِزَنّي بقعة من بقاعها
كذا جاءت كلمة تعجزني مضبوطة بالقلم ، بفتح التاء والعين جميعاً وكسر الجيم وفتح الزاي ، ولا يستقيم الوزن مع هذا الضبط مع كونه غير صحيح.
والصواب : تُعْجِزنِّي بضمّ التاء وسكون العين المهملة وكسر الجيم وفتح الزاي وتشديد النّون مع كسرها.
* وفي ص257 الهامش(3) : «السّمهري بن بشر بن أقيش بن مالك
ص: 317
بن الحارث بن أقيش العكليّ الطائي».
أقول : السّمهريّ الشاعر أحد لصوص العرب هو من بني أقيش بن عبد ابن كعب بن عوف بن الحارث بن عوف بن وائل بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان.
وإنّما قيل لرهطه عُكْل ، لأنّ جدّه الأعلى عوف بن وائل أعقب أربعة أولاد ، هم الحارث وجشم وسعد وعدّي ، وكانت لهم حاضنة اسمها عُكل ، فغلبت على اسمهم كما جاء في كتب الأنساب القديمة ، فالسمهري عدناني مضريّ عُكْلي ، وليس طائيّاً قحطانياً.
وإنّما الطّائي بَهْدل بن قُرفة النبهاني الذي قَتَلَ هو والسمهري العُكليّ عون بن جعدة المخزومي القُرشي. وكان العكلي والطائي من لصوص العرب المشهورين وممّن نصطلح عليهم في عصرنا ب- : (قطّاع الطرق).
* وفي ص259 : «..... حتّى إذا ضبعت ، نُحِّي عنها ...».
وعلّق المحقّقون على كلمة (ضَبِعَتْ) بالقول - الهامش(2) - : «ضبع البعير البعير ، إذا أخذ بِضَبْعَيْهِ ، فصرعه ، والضبع هو العَضْل».
أقول : فسّر المحقّقون عبارة (ضَبع) بغير معناها المقصود هنا.
والصواب : أنّ (ضَبِعَتْ) هنا : أي طلبت الفحل قال الفيروز آبادي في مادة (ضبع) من القاموس : «وضبعت الناقة ، كفرح ضبعاً وضبعة محرّكتين : أرادت الفحل ، كأضبعت واستضبعت ، فهي ضَبِعَةٌ كفرحة وجمعها : ضباع ، وكحبالى».
وقال شارح القاموس في التعليق على تمثيل صاحب القاموس أحد
ص: 318
جموع هذه الكلمة بقوله : «هكذا في النسخ ، والذي في اللسان ضباعى وضباعي أي بالكسر والفتح».
* وفي ص263 : من حماسية خالد بن نضلة الفقعسي البيت الثالث :
وهلاّ أعَدُّوني لمغلي تفاقدوا
وفي الأرض مبثوث شُجاع وعقرب
قال الشارح : «يُروى : مبثوثاً - نصباً - على الحال».
أقول : وهو على رواية النصب كقول ذي الرُّمّة : «لِميَّة موحِشاً طَلَلُ» (1).
* وفي ص266 : «والمال يريد به الإبل لا غير».
أقول : ذكر صاحب القاموس أنّ المال ما ملكته من كلّ شيء. وجاء في تعليق شارح القاموس على هذه الجملة : «قال أبو عَمْرو : هذا هو المعروف من كلام العرب ، وقال القُرطبيّ : وذهب بعض العرب وهم دَوْس إلى أنّ المال : الثّياب والمتاع والعرض ، ولا تُسمّى العين مالا ... وذهب قوم إلى أنّه الذّهب والورق (الفضّة) ، وقيل : الإبل خاصّة أو الماشية ، وعن ثعلب : أنّ ما لم يبلغ نصاب الزكاة لا يُسمّى مالا وأنشد (من البسيط) :
والله ما بلغت لي قطّ ماشية
حدّ الزكاة ولا إبل ولا مالُ
قال القراقي : وهذا يصلح أن يكون شاهداً لمن خصّ المال بالنّقد لا للقول الأخير».
وفي تعليق أبي الحسن الأخفش على كامل المبرّد : «... وإنّما السَّرْبُ بفتح السين : المالُ الرّاعي ..... يُقال : فلان واسع السّرب وخليّ السرب ، يُريد المسالك والمذاهب .... ويُقال ذلك للإبل ، لأنّها تتسرّب في ُ.
ص: 319
الطّرقات».
وتحديد المعنى المطابقي لكلمة المال وما قيل في تشخيص مدلولها المختار من بين الأقوال المتباينة مع مراعاة مرورها بمراقيّ سُلَّمِ التطوّر اللغوي يحتاج إلى تحرير رسالة خاصّة ليس هذا موضعها.
* وفي ص267 من حماسية التميمي الدّارِمِيّ :
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم
رضى العار واختاروا على اللبن الدّما
كذا رُسمت كلمة (رضى). والوجه : رضا ؛ لأنّ أصل ألِفها واوٌ ، ولا يُجيز البصريون في مثل هذه الكلمة أنّ تكتب الألف على صورة الياء ، ومثلها الضحا والدُّجا - خلافاً للكوفيين. وأمّا خطّ المصحف الشريف فلا يُقاس عليه ، وقد قالوا : خطّان لا يُقاس عليهما : المصحف والعَروض.
* وفي ص268 : «وقالت كبشة أخت عمرو بن معديكرب».
وعلّق المحقّقون على اسمها في الهامش بالقول : «كبشة بنت معديكرب الزبيدي ، شاعرة صحابية أدركت الإسلام ، ووفدت على النبيّ صلّى الله عليه وآله [وسلّم] مع ابنها معاوية بن حديج ، الصّحابي المعروف ، وهي عمّة الأشعث بن قيس ..».
أقول : اختلط الأمر على المحقّقين - سلّمهم الله تعالى - في أمر كبشة الزبيدية صاحبة الأبيات المذكورة في الحماسة التَّمّامِيّة ، وظنّوْها كبشة الكِنْدِية ، وليس الأمر كذلك ، فإنّ أخت عمرو الصحابيّ الشاعر البطل المعروف صاحبة الأبيات المذكورة في الحماسة من بني زُبَيْد وهي بنت معدي كرب بن عبد الله بن عمرو بن عُصْمِ بن عَمرو بن زبيد الأصغر ابن
ص: 320
ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد الأكبر ابن صعب بن سعد العَشِيْرَةِ بن مالك بن أُدد بن زيد بن يَشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وكبشة عمّة الأشعث بن قيس من كندة ، وهي كبشة بنت معدي كرب ابن معاوية بن جَبَلة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية بن ثَور بن مرْبع (مرَتّع خ ل) وهو عمرو بن معاوية بن ثَور وهو كندة بن عُفير بن عَديّ بن الحارث بن مرّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ إلى قحطان.
وإنّما يلتقي نسب زبيد ونسب كندة ب- : أَدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ. وكلّ ما جاء في الهامش من تعريف لا علاقة له بكبشة بنت معدي كرب الزبيدية ، وإنّما هو تعريف بكبشة بنت معدي كرب الكندية الصحابية عمّة الأشعث بن قيس الكندي. أمّا الوصف ب- : (الشاعرية) فإنّه خاصٌّ بكبشة الزبيدية أخت عمرو ولا صلة له بكبشة الكندية عمّة الأشعث بن قيس إذ لم تكن الأخيرة شاعرة ، ومن الغريب أنّ اسم والد معاوية بن حُديج الكندي وأُمّه كبشة الكندية لا الزبيدية نصّ الحافظ ابن حجر في ترجمته من الإصابة بأنه حُديج وضبطه بالعبارة بقوله : «معاوية بن حُديج بالمهملة» ، ولكنّه صُحّف مع ذلك إلى خُديج بالمعجمة.
وممّا يلفت النظر أنّ أبا محمّد ابن حزم ساق نسب عمرو بن معدي كرب الزبيدي في الجمهرة ثمّ قال : «وأخته ريحانة بنت معدي كرب ، أمّ دريد وعبد الله ابني الصّمّة الجشميّين». ولم يذكر كبشة الشاعرة أقول : وفي ريحانة
ص: 321
بنت معدي كرب الزبيدي يقول أخوها عمرو قصيدته المشهورة التي مطلعها من الوافر :
أمن ريحانة الداعي السميعُ
يُؤرّقني وأصحابي هجوعُ
ومنها البيت السائر :
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وقول من يظنّ أنّ صاحبة الأبيات المذكورة في الحماسة هي ريحانة بنت معدي كرب الزبيدي ، وإنّما وقع الاشتباه بتسميتها : كبشة ؛ لوجود من اسمها : كبشة بنت معدي كرب فاختلط الأمر على بعض الرواة بسبب موافقتها باسم الأب معدي كرب داخل (1) في حيّز الإمكان (2) ، والموضوع يحتاج إلى بحث مستقل. م.
ص: 322
* وفي ص268 من حماسيّة كبشة الزبيدية - البيت الأوّل :
أرسل عبد الله إذ حان يومه
إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
أقول : هذا البيت دخله الخرم - على اصطلاح العروضيين - وقد تقدّمت نظائره.
* وفي ص277 : «(مهلا) مصدر ، أيّ : أمهلونا إمهالا ، فحذف الزوائد».
أقول : وهذا جار على أسلوب لغة القرآن الحكيم في مثل قوله تعالى : (والله أنبتكم من الأرض نباتا).
* وفي ص278 : «وقوله : تَقْلُوْنا : حذف المفعول ؛ لدلالة الكلام عليه. أو أراد : تقلونَنا ، فحذف النون الثانية عن الإعراب ، وهي لغة حجازية ، ومثله : قد رُفع الفَخُّ فلا تحذّري».
أقول : عبارة «قد رُفع الفخّ فلا تحذَّري» لا شاهد فيها على حذف النون لمكان (لا) الناهية المُوْجِبة لحذف النون في الأفعال الخمسة ، والظاهر أنّ في الشطر المذكور في الشرح تحريفاً من الناسخ ، أو هو سبق قلم من الشارح والصحيح في رواية الشطر :
......................
قد رُفع الفَخُّ فماذا تحذري
كما جاء على هذا الوجه في ديوان طرفة بن العبد المطبوع ، وهو المحفوظ.
* وفي ص280 : «وقال الطّرماح بن حكيم».
وعلّق المحقّقون على اسمه بالقول : «الطرماح بتشديد الميم ، كما في المصادر ، خلافاً لما ذكره الشارح بتخفيفها».
ص: 323
أقول : جاء اسم الطرماح في كلام الشارح مضبوطاً بالقلم بتشديد الميم ، لا بتخفيفها ، فلا يرد عليه ما ذكره المحقّقون ، وإنّما جاء الشاهد : «فهو طرماح طويل قَصَبُه» غير مستوف للضبط ، ولا يُفهم منه أنّ الشارح يراه بتخفيف الميم.
وممّا ينبغي التنبيه عليه - هنا - أنّ الشاهد المذكور جاء مضبوطاً بضمّ الباء الموحّدة والهاء معاً.
والصّواب : .... قَصَبُهْ ، بضمّ الباء وسكون الهاء كما يقتضيه الوزن مع ضبطه المرسوم بالقلم ، وإنّما يَصِحُّ ضمّ الباء والهاء جميعاً إذا كان الحرف المذكور قبلهما - وهو هنا الصاد ساكناً.
* وفي ص282 : «(ويُجاءُ) : يُضطرّ ، من قولِك : أجَأْتُهُ إلى كذا ، أي : اضطررته».
قلت : ومنه قوله تعالى : (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة).
والفعل (جاء) الثلاثي ، يأتي لازماً ومتعدّياً ؛ فمن الأوّل : (وقل جاء الحقّ ...) و (إذا جاء نصر الله ...). ومن الثاني : (ولمّا جاء آلَ لوط المرسلون). و (لمّا جاء سليمانَ) أي جاء الرسولُ سليمانَ عليه السلام.
* وفي ص287 : «وقوله : بطرتم أي أشرتم».
أقول : هذا تعريف بالبعيد. والأشر : شدّة المرح ، وهو الفرح المتجاوز حدّه ، وهو من الصفات الذميمة.
* وفي ص291 الهامش (1) : «ولد الغوث بن طيّئ عمرو بن الغوث ... وولد عمرو بن الغوث أيضاً غيث وبدين».
ص: 324
أقول : من يقرأ هذا الكلام من غير مراعاة الحذف يذهب به الظنّ إلى عدم الحاجة إلى كلمة أيضاً ، وحُقّ له ذلك.
وكان الأَولى أن تُحذف كلمة أيضاً ، وتوضع مكان الحذف نقاط ، كما وضعت في مكان قبلها إشارة إلى الحذف. ويكون الكلام هكذا : ولد الغوث ابن طيء عمرو بن الغوث ... وولد عمرو بن الغوث .. غيّث وبُدين.
أو يُذكر بعض أولاد عمرو بن الغوث وتوضع بعد ذكره نُقاط وتُذكر أيضاً مطمئنة غير ناشزة هكذا : ولد الغوث بن طيّئ عمرو بن الغوث فولد عمرو بن الغوث ثُعل بن عمرو .... وولد عمرو بن الغوث أيضاً غيّث وبدين ....
ومن باب الاستطراد المفيد أن أذكر أنّ ابن حزم الغى حركات الإعراب فيما سبيلُهُ أن يُعرب نحو : «وولد عمرو بن الغوث .. غيث وبُدَين ..» مع أنّ مقتضى الإعراب أن يكون الاسمان الأخيران منصوبَين بقوله ولد ، هكذا : وولد عمرو بن الغوث .. غيّثاً وبُدَيْناً.
وهذا ما دعا محقّق كتاب جمهرة أنساب العرب إلى أن يلتمس مَخْلَصاً من هذه المخالفة لقواعد النحو ، فعدّ كلمة (ولد) اسماً على أنّه مبتدأ ، ولذلك ضبطه بضمّ الدال هكذا : ولدُ عمرو بن الغوث أو معطوف على مبتدأ. الخ ، كأنّ ما بعده مضاف إليه (وُلْدُ عمرو) ، وما يأتي بعده خبر ، ولم يعتدّ ما بعد كلمة (ولد) فاعلا وما بَعْدَهُ مفعولا به.
والظّاهر أنّ العلاّمة الأستاذ عبد السّلام هارون لم يطّلع على ما ذكره أحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ في كتابه أنساب الأشراف في هذا
ص: 325
الموضع ، ويحسن بي هنا أن أنقل كلام العلاّمة الأديب الشيخ عبد الستّار أحمد فرّاج المصحّح في مقدّمة كتاب جمهرة النسب لابن الكلبي ، قال رحمه الله تعالى : «والمؤلّفون لكتب الأنساب كانت لهم طريقتان : فبعضهم يُعرب الأسماء حسب موقعها في الجملة ، وبخاصّة المنصوبة ، وبعضهم كان يُلزم آخرها حالة واحدة ، لتبقى على صورتها الأصليّة قبل خضوعها لتلك العوامل وعلى هذه الطريقة الأخيرة سار البلاذري في كتابه أنساب الأشراف وهو يقول : قال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري :
قد كتبت الأسماء في كتابي هذا على صورها ، ولم أعربها في النسب ؛ لئلا يظنّ ظانّ أنّ بعض الألفات التي في الاسم المنصوب الجاري ثابتة فيه ، وأنّها ليست بإعراب ، وكذلِكَ رأيت عدّة من المشايخ فعلوه في النسب».
قال سمِيُّنا الفرّاجي رحمه الله تعالى : «وكذا فعل بعض الناسخين لهذا الكتاب ، ومنهم ابن كوجك ؛ إذ يقول : وتركت إعراب الأسماء كما تركها ، فلا يطعن عليّ في إسقاط الألف الثابت في الأسما إذا أُعرب - طاعن.
ويقصد بالجاري : المعرب المصروف المنوّن ، كأن يقول : ولد محمّد عليّاً وحسناً وخالداً وزيداً وجابراً : فهو يقول : ولد محمّد : عليّ وحسن وخالد وزيد وجابر أمّا النصوص التاريخية الأدبية فيجري عليها الاعراب.
وقد سار على هاهنا كثير من المؤلّفين في الأنساب فجاء المحقّقون وساقوها كما يأتي ، تخلّصاً من إلزام الاعراب الذي تركه بعض المؤلّفين : وولد محمّد : علي وحسن وخالد وزيد وجابر.
ص: 326
والظاهر أنّهم لم يطّلعوا على نصّ البلاذري وناسخه» (1).
* وفي ص292 من حماسيّة جابر بن رألأنّ السنبسي البيت الخامس :
وأيّ ثنايا المجد لم نطّلع لها
وأنتم غضاب تَحْرُقُوْنَ علينا
(لها) اللاّم زائدة ؛ كما في قولك : ضربي لزيد ...
أقول : هذا من بابة ما قاله النحويّون في قوله تعالى : (قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) (2) : إنّما هو رَدِفَكُمْ كما ذكر ذلك أبو العباس المبرّد في موضِعَيْن من الكامل : وقد جاء الفعل (تحرقون) في البيت والشرّح مضبوطاً بضمّ الراء ، مع أنّه بضمّ الراء وكسرها فالوجه أن يضبط بالحركتين : تَحْرُِقُوْنَ ، ولا يقتصر على الضمّ.
* وفي ص296 : «وقال رجل من بني فقعس» وعلّق المحقّقون على اسمه بالقول : «هو عمرو بن مسعود بن عبد مرارة [كذا] الفَقْعَسِيّ الأسديّ جاهلي ، كان معاصراً للنعمان بن المنذر ، ويقال : إنّه هو الذي بنى عليه النعمان الغَرِيّ الذي بظهر الكوفة».
أقول : عمرو بن مسعود الأسدي ليس من بني فقعس ، وإنّما هو من 2.
ص: 327
بني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خُزيمة ، قال ابن حزم في الجمهرة : «ومن بني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد : الأشعر الرّقبان .. ومنهم عمرو بن مسعود الذي يقال إنّ النعمان بنى عليه الغريّ الذي بظهر الكوفة ، وفيه يقول الشاعر :
ألا بكر الناعي بخيري بني أَسَدْ
بعمرو بن مسعود وبالسيّد الصَّمَدْ
وأمّا الفقعسي فهو منسوب إلى بني فقعس بن طريف بن عمرو بن قُعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد.
وجملة القول إنّ عمرو بن مسعود المذكور من بني مالك بن ثعلبة ، وأمّا فقعس فهو من بني الحارث بن ثعلبة.
وفقعس المذكور هو ابن أخي الصّيداء (1) بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد الذي ينتسب إليه بنو الصّيداء ، ومنهم قيس بن مسهر بن خليد بن جندب بن منقذ بن جعفر بن نكرة بن نوفل بن الصيداء ، الصيداوي رضي الله عنه».
قال ابن حزم بعد أن ساق نسبه : «أرسله الحسين - رحمة الله - إلى الكوفة ، فأخذه عبيد الله بن زياد ، فأمره بلعن الحسين ، فلعن ابن زياد ، فأمر به ، فرُمي من فوق القصر ، فمات رحمه الله ولعن ابن زياد ..».
أقول : ومن أطرف ما سمعته في صفر من هذه السنّة - (1435ه) ما - جاء ا.
ص: 328
في محاضرة خطيب حسيني مشهور من أهل العراق ألقاها من إحدى القنوات الفضائية - على اصطلاح عصرنا - من أنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام لم يكونوا من بلد واحد ، فهذا من البلد الفُلاني ، وهذا من مدينة صيدا في لبنان وهو أبو ثُمامة الصَّيْداويُّ - يعني قيس بن مسهر المذكور رضي الله تعالى عنه فاقرأ وأعجَبْ : عَمْرَك اللهَ (1) كيف يلتقيان.
* وفي ص296 - 297 من حماسية الأسدي البيت الأوّل :
أيبغي آلُ شدّاد علينا
وما يُرغى لشدّاد فصيلُ
وقال الشارح بعد أن ذكر الوجه في ضمّ الياء من كلمة يُرغى : «ويُروى : وما يَرْعى يعني بفتح الياء وأي ليس لهم فصيل فيرعى ، كقوله :
....................
ولا ترى الضَّبَّ بها ينجحر».
ص: 329
أي : لا ضبّ بها ، فينجحر».
أقول : ومن محفوظي ممّا يتّصل بهذا المعنى قول أمرىء القيس :
على لاحب لا يُهتدى بمنارهِ
إذا سافه العَوْدُ النّباطيُّ جرجرا
فقد قالوا في معناه - على ما أحفظ - : إنّه ليس له منار فيُهتدى به.
* وفي ص302 : «... أي إذا زوّجتك فأنّي وأدتها ، والوأد حرام ، فلا أُريد بتزويجها منك».
والظّاهر أنّ الأصل : فلا أريد تزويجها منك بحذف الباء من كلمة بتزويجها مع أنّ الاختصار مع إصابة المعنى هو المُطَّرِدُ في كلام العرب وعلى ذلك فالوجه أن يقول : فلا أُزَوِّجُكَها.
وقد يكون الأصل : فلا أُرِيْدُهُ (أي الوأد) بتزويجها منك ، وتكون الباء في معنى العوض.
* وفي ص304 ، من حماسيّة زيادة الحارثي (حارث سعد هذيم) البيت الأوّل :
لم أر قوماً مثلنا خير قومهم
أقلّ به منّا على قومنا فخرا
وقال الشارح : «خير : بدل من قومنا ، أو صفة له».
والصّواب : أنّ كلمة (خير) هنا بدل من كلمة قوماً في قوله : لم أر قوماً والغريب أنّ المحقّقين الأجلاّء سلّمهم الله تعالى لم يلتفتوا إلى أنّ البدل إنّما يأتي بعد المبدل منه ، هذا مع اختلاف الإعراب ، في هذا الموضع فإنّ كلمة (خير) منصوبة وكلمة قومنا مجرورة ، ولا يبعد أن يكون ما وقع هنا من الأخطاء المطبعية ، بل هو الظاهر ، وقد جاء البيت المذكور مخروماً كما ترى.
ص: 330
* وفي ص306 : «وقيل : أي : نحن صفوة ، كماءِ السّماء الذي هو المطر ، لا إشابة فيها».
أقول : كذا جاءت كلمة إشابَة بكسر الهمزة.
والصّوابُ : أُشابة بضمّها ، جاء في مادّة (أشب) من القاموس : «والأُشابة بالضمّ : الأخلاط».
وجاء في شرح قول جرير في هجاء بني العَنْبَر من الكامل للمبرّد :
هل أنتم غير أوشاب زعانفة
رِيْش الذّنابي وليس الرّأس كالذّنب
«فالأُشابة جماعة تدخل في قوم وليست منهم ، وإنّما هو مأخوذ من الأمر الأشب ، أي المختلط ، ويزعم بعض الرّواة أنّ أصله فارسيّ أُعرب ، يُقال بالفارسية : وقع القوم في آشوب أي في اختلاط ، ثمّ تصرّف فقيل : تأشّب النّبتُ ، فصُنع منه فعل».
وعلّق بعض الفضلاء على هذا القول بما نصّه : «هذا وهمٌ من أبي العبّاس المبرّد ، ليس الأُشابة ولا الأشب من الأوشاب ؛ لأنّ فاء الفعل من الأُشابة همزةٌ ، ومن أوشاب واوٌ ، ولكنّه مثل في المعنى ويُحتمل أن يكون أصله : وشابه ، وأُبدلت الواو المضمومة همزة».
أقول : وعلى إمكان هذا الاحتمال لا يتّجه القول بنسبة الوهم إلى أبي العبّاس المبرّد ومن رام المزيد حول أصل الأُشابة فليرجع إلى معجمات اللغة والكتب المصنّفة في (المُعَرّب) من الكلام ، ومنها كتاب (المُعرّب) للجواليقي المطبوع بتحقيق العلاّمة المحدّث الشيح أحمد محمّد شاكر رحمه الله تعالى.
* وفي ص307 من حماسيّة مِسْوَر الحارثي : البيت الأوّل.
ص: 331
أبعد الذي بالنّعف نعف كُويْكب
رهينة رمس من تراب وجندل
أقول : جاء عجز البيت في البيان والتبيين - (البيان والتبيُّن) باختلاف يسير في اللفظ مع اتّحاد المعنى ففيه :
.................
رهينة رمس بين ترب وجندلِ
* وفي ص309 ، من حماسية مسور أيضاً البيت الرابع :
فلا يدْعُني قومي ليوم كريهة
لئن لم أُعَجِّلْ ضربة أو أَعَجَّلِ
أقول : اجتمع في هذا البيت القسم الموطّأ له باللام ، والشّرط ، وإن اجتمعا في جملة واحدة فالجواب للسابق منهما ، وهو هنا القسم ، ولا تدخل الفاء في جوابه لكن أُقحمت هنا للضرورة ، وقد تقدّم الجواب على القسم والشّرط هنا ، كما ترى.
* وفي ص310 ، من حماسيّة مِسْور الحارثي أيضاً البيت الثامن :
كريمٌ أصابته دياتٌ كثيرة
فلم يدر حتّى جئن من غير مدخل
وجاء في الشرح «من كلّ مدخل : أي لم تعلم أنّه يُدعى لذلك».
وما جاء في الشّرح يختلف عمّا جاء في البيت ؛ إذ المذكور في البيت : من «غير مدخل» ، والمذكور في الشرح : «من كلّ مدخل» ولم ينبّه المحقّقون الكرام على هذا الاختلاف.
* وفي ص314 الهامش (2) : «عمرو بن جرموز من بني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة من مجاشع من بني تميم».
أقول : أمّا إنّه من بني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فهو صحيح.
ص: 332
وأمّا نسبته إلى مجاشع فهو اشتباه ، فإنّ بني ربيعة بن كعب رهط عمرو ابن جرموز قد مرّ عليك سياق نسبهم وأنّهم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم وأمّا بنو مجاشع فهم من بني مالك بن زيد مناة بن تميم ، وتمام سياق نسبهم : مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهم رهط الفرزدق الشاعر الشّهير.
* وفي ص319 : «ساد قريشاً وكان بخيلا».
أقول : هذا من نوادر الموافقات ؛ لأنّ الحُكماء قرّروا أنّ (مَنْ جاد ساد) ، وبناء على مفهوم المخالفة لا يتمّ ما ذُكر آنفاً ، اللهمّ إلاّ أن يُقال إنّه من باب الندرة والشذوذ.
* وفي ص321 : من حماسية بعض بني أسد ، البيت الثاني :
كلا أخوينا ذو رجال كأنّهم
أُسود الشَّرى من كلّ أغلب ضيغم
أقول : جاء خبر (كِلا) مفرداً ؛ إذْ قال : كلا أخوينا ذو .. ، ولم يقل : كلا أخوينا ذوا. وإفراد الخبر بعد كلا هو الفصيح الذي لا مَعْدى منه وبه نطق الذِّكْرُ الحكيم في قوله تعالى : (كلتا الجنّتين آتت أكلها) ، ومثله ما قاله الشاعر في البيت الأوّل من الحماسية المذكورة :
كلا أخوينا إن يُرَعْ يدع قومه
..................
* وفي ص322 : «حُرَيْثُ ، تصغير حرث ، أو حارث مرخّماً».
أقول : ليس في أسماء العرب حرث ؛ وإنّما سمّوا الحارث وكان المتقدّمون يكتبون هذا الاسم بحذف الألف ، وقد يضعون على الحاء ألفاً صغيرة للدلالة على الألف المحذوفة ، ومثله عندهم إسماعيل وإسحاق
ص: 333
وهارون والقاسم .... ، حتّى إنّهم كتبوا (عانة) وهو اسْم المدينة المعروفة من نواحي الأنبار بلا ألف (عنَة) ، وقل مثل ذلك في (الرحمن) وتصغير حارث : حويرث ، وفي الترخيم : حُرَيْث ، مثل زاهر أُزيهر زُهير.
وقد يكون حريث تصغير حَرْث إن فُرضت التسمية به وتصغيره على هذه الصفة ليس تصغير ترخيم ، بل هو تصغيرٌ جار على الأصل الذي هو فَعْلٌ وتصغيره فُعيل.
وقول الشارح : «حُريث تصغير حرث ، أو حارث مرخّماً» عائد على الحارث ولا يسري إلى حرث ، لِما سبق ذكره من أنّ الأصل في تصغير حرث مع فرض التسمية به هو حريث وليس فيه تصغير ترخيم لخُلُوِّه من الأحرف الزائدة. وبهذه المناسبة أذكر أنّ الحارث من الأسماء المستحبّة وقد جاء في بعض الآثار : (كلّكم حارث وكلّكم همّام) وهو ممّا حفظته منذ أوائل الطلب وليس في البال ذكر مَظِنَّتِهِ.
* وفي ص 323 - 324 : «وذلك أنّ أسداً ، أخو النضر بن كنانة أبي قريش لأمّه : أمّهما ، برّة بنت مرّ بن طابخة [كذا والصواب : مرّ بن أدّ بن طابخة] أخت تميم ، ثمّ هو عَمُّهُ أخو أبيه ، كنانة بن خزيمة».
وقد جاء تفصيل ما أُجمل هنا في كتاب نسب قريش للمصعب بن عبد الله الزبيري (ت 236 ه) إذ ورد فيه : «فولد خزيمة بن مدركه : كنانة ، وأمّهم بَرّة بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار ، وهي أخت تميم بن مرّ ، وقال جرير بن الخطفى (من الوافر) :
فما آلأمّ التي ولدت قرَيشاً
بمقرفة النجار ولا عقيمِ
ص: 334
فما ولد بأكرم من أبيكم
ولا خالٌ بأكرم من تميمِ
فولد كنانة بن خزيمة : النضر ، وبه يكنّى وملكاً ، وملكان ، ومليكا وغزوان وعمراً وعامراً وأمّهم : برّة بنت مرّ أخت تميم بن مرّ. وإخوتهم لأمّهم : أسد ، وأسدة وآلهون بنو خزيمة خلف عليها كنانة بعد أبيه ، وذلك نكاح كانت الجاهلية تنكحه إذا مات الرجل نكح أكبر بنيه زوجته ، إذا لم تكن أمّه (وَأَخَذَ) خيار ماله ، فأنزل الله جلّ ثناؤه : (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلاّ ما قد سلف إنّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا)».
وهذا هو النكاح المعروف ب- : نكاح المقت.
وقد أحسن المحقّقون - جزاهم الله تعالى خيراً - إذ علّقوا على ما ورد في الأصل بالقول : «في نسب قريش وفي المنمّق : تفصيل في ولادة أسد والنضر من أمّ واحدة ، وعلى هذه الرواية اعتمد الشارح في قوله : ثمّ هو عمّه أخو أبيه. وفي كلّ هذا توقّف ونظر».
أقول : ليس أسد وأسدَةُ والهَون إخوة النّضر وملك وملكان ومُليك وغزوان وعَمْرو وعامر لأمّهم ، كما زعم المصعب الزبيري ، وتبعه الشارح ، بل إنّ أمّ أسد وأسدة والهَون هي برّة بنت أدّبْن طابخة بن الياس بن مُضَر ، وهي عمّة برَّةُ بنت مُرّ بن أُدّبْن طابخة أمّ النضر وإخوته ، وتشابه اسمي العمّة وبنت أخيها هو الذي أوقع المصعب ، ومن تابعه في هذا الغلط الفاحش ، والخطأ الشائن. وقد نبّه على ذلك من المتقدّمين أبو عثمان الجاحظ في كتابه الأصنام ، إذا قال : «معاذ الله أن يكون أصاب النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم نكاح مَقْت ، وقد قال : ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام حتّى خرجت
ص: 335
من أبي وأمّي».
وتلخيص ما تقدّم أنّ خُزيمة بن مُدركة تزوّج برّة بنت أُدِّ بن طابخة فولدت له أسداً وإخوته ، وأنّ كنانة بن خزيمة تزوّج بنت أخيها المسمّاة باسمها : برّة بنت مرّة بن أدّ بن طابخة فولدت له النضر وإخوته.
وهذا هو القول الحقّ وما بعده إلاّ الضلال المبين ، والحمد لله على هدايته.
* وفي هامش 324 - الهامش (1) : «.... طابخة بن إلياس ، كذا بقطع الهمزة».
أقول : إنّ الياس هذا بهمزة الوصل على الأصحّ ، وقيل بهمزة القطع ، ولا يُعاج عليه. راجع : الرّوض الأنف للسهيلي.
* وفي ص325 ، الهامش (3) : «قيس بن عَيلان».
والذي قاله جماعة من علماء النسب والمصنّفين فيه ومنهم ابن حزم : إنّ الأصحّ أنّه قيس بن مضر ، وإنّ عَيلان عبدٌ حضنه فنسب قيس إليه.
وربّما جاء في شعر المتقدّمين باسم قيس بن عيلان لمراعاة الوزن.
* وفي ص333 من حماسيّة عويف القوافي البيت الثاني :
لمّا أتاني عن عُيينَة أنّه
أمست عليه تَظاهَرُ الأقياد
أقول : أصل تظاهر : تتظاهر وقد جاء مخفّفاً ومثله في البيت الرابع : تقاصر الأقياد ، أصله : تتقاصر وفي الذّكر الحكيم : (تَنَزَّلُ الملائكةُ) أي تتنزَّلُ.
* وفي ص338 من حماسيّة بعض الشعراء ، البيت الأوّل :
يا أيّها الراكبانِ السائرانِ معاً
قُولا لِسُِنبِسَ فلتقطُفْ قوافيها
ص: 336
كذا جاءت كلمة فلتقطُفْ بضمّ الطاء المهملة.
وهو من قولهم : قطفت الدابّة أي أبطأت وقد ضبطه أهل اللغة في مجيئه بهذا المعنى بضمّ الطاء المهملة وكسرها فالوجه أن توضع الحركات : الضمّة والكسرة على الطاء المهملة : فَلْتَقْطُِفْ.
أمّا (قطف) في مثل قولهم : قطف العنب فهو بكسر الطاء المهملة لا غير : يَقْطِفُ.
* وفي ص338 الهامش (1) : «وفي شرح الفارسي 2 / 173 : قال بعض بني سنبس ، ويقال : عبد شمس».
أقول : لا يَصِحُّ أن تكون هذه الحماسية لرجل من بني سنبس ؛ لأنّها صريحة في هجائهم وهل يهجو المرء نفسه؟!
* وفي ص 341 الهامش (1) : «نقل عنه الجاحظ في الحيوان وذكر أنّه زيد بن كثوة المزني العنبري».
أقول : الذي ذكره علماء النسب المتقدّمون أنّ مُزينة هم بنو عثمان وأوس ابْنَي عمرو بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان وأمّ عثمان وأوس المذكُوْرَيْنِ هي مزينة بنت كلب بن وبرة ، من قُضاعة فنُسب ولدهما إليها.
وبنو العنبر بطنان من تميم ، الأوّل : بنو العنبر بن عمرو بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة.
والآخر : بنو العنبر بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرّ بن أدّ بن طابخة وهم من (العُقَداء).
ص: 337
وممّا نقلناه يظهر لك أنّ البطنين المعروفينَ ببني العنبر من تميم لا يلتَقِيانِ مع بني مُزينة إلاّ ب- : أدّ بن طابخة ، وعلى هذا يُشكل وصفه ب- : المزني العنبري ، اللّهم إلاّ أن يكون منسوباً إلى أحد البطنين بالأصل وللآخر بالحِلف. أو أنّه من أغلاط النسّاخ.
* وفي ص342 - 343 : من الحماسية نفسها :
حميت على العُهار أطهار أمّه
وبعض الرّجال المدَّعين جفاء.
أقول : في هذا البيت شاهد على مجيء (بعض) للدلالة على أكثر من واحد مع عدم تكريرها ، خلافاً للعلاّمة الدكتور مصطفى جواد رحمه الله تعالى الذي كان يذهب إلى قَصْرِ دلالتها على الواحد إذا لم تكرّر.
وحسبنا في نقض رأيه قول الحقّ تبارك وتعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبكَ) وبمراجعة تفسير هذه الآية الشريفة يظهر لك جليّاً وجه الصواب ، وأنّ كلمة (بعض) كما تدلّ على الجمع تدلّ على المفرد من غير شرط سوى ما يقتضيه السياق.
ومن الاستطراد المفيد أن أذكر أنّ للعلاّمة محمّد بن فرامرز بن عليّ الشهير ب- : ملاّ خسرو الرّومِيّ الحنفيّ المتوفّى سنة (885ه) رسالة خاصّة في تفسير هذه الآية على ما جاء في ترجمته من كتاب سُلّم الوصول.
* وفي ص351 : «نكر ، وأنكر واستنكر بمعنى واحد».
أقول : ومن الشواهد على مجيء نكر وأنكر في كلام الفصحاء قول الشاعر القديم وقد جمع بينهما في بيت واحد (من البسيط) :
ص: 338
وأنكرتني وما كان الذي نَكِرَتْ
من الحوادث إلاّ الشيبَ والصَّلَعا (1)
* وفي ص 357 : بيتان من المتقارب متنازعا النسبة من المتقارب :
وإنّا لتُصْبِحُ أسيافنا
إذا ما اصطبحن بيوم سفوكْ
منا بِرُهنّ بطون الأكفّ
وأغمادهنّ رؤوس الملوك
وقال الشارح : «ويُروى أنّ هذه القطعة لعليّ بن محمّد صاحب البصرة» وقال المحقّقون سلّمهم الله تعالى في الهامش : «نُسب البيتان إلى عليّ بن محمّد الحمّاني في الشرح المنسوب للمعرّي» [(كذا) ، والصّواب : إلى المعرّي].
أقول : عليّ بن محمّد الذي ذكره الشارح هو صاحب الزنج المعروف وأسلوب البيتين أقرب إلى أسلوبه وأشبه ببزِّه وأعلق بطريقته من سميّه السيّد الشريف علي بن محمّد الحماني ، وإن كان للحماني شعر في الفخر والحماسة ، لكنّه ليس بهذا العرض (الصارخ) المعرب عن نفسيّة قائله القلقة المتمادية في دعوى المفاخر المختلقة ، والشاعر الحمّاني هو المعروف ب- : (الأَفْوَه) ، وكان يقول : أنا شاعر وأبي شاعر وجدّي شاعر إلى أبي طالب ، وهو عليّ بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن زيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وإنّما قيل له : الحمّاني لأنّه كان نازلا في محلّة بني حمّان من بني ه.
ص: 339
تميم ، وهي إحدى محالّ الكوفة ، فنُسب إليها وقد وهم ياقوت الحموي في معجم البلدان إذ عدّ محلّة بني حِمّان على ما يخطر بالبال من محالّ البصرة.
وفي البال أيضاً أنّ ديوانه قد طُبع في العراق في تسعينيّات القرن الهجري الماضي ، والظاهر أنّ سبب تنازع نسبة البيتين المذكورين بين علي بن محمّد الحمّاني العلويّ وعليّ بن محمّد صاحب الزنج هو كون كلّ منهما يُدعى علي بن محمّد وكون كلّ منهما شاعراً له في الحماسة صولات وجولات على تفاوت في أسلوبها ومصداقيّتها ؛ يُضاف إلى ذلك أنّ صاحب الزنج قد يعبّر عنه ب- : (العلوي) مع ما فيه من الكلام.
* وفي ص359 من حماسيّة بعض العرب :
إلاّ أكن ممّن علمت فإنّني
إلى نسب ممّن جهلت كريم
أقول : هذا البيت دخله الخرم وقد تقدّم التنبيه على شرواه.
* وفي ص 359 الهامش (1) : «في الشرح المنسوب للمعرّي (كذا) 1 / 210 : «قال بعض بني أسد : يقال إنّه عبد العزيز بن زرارة ...». وفي ديوان الحماسة برواية الجواليقي : 87 : «وقال بعض بني أسد قيل : هي لعبد العزيز ابن زرارة ...».
أقول : عبد العزيز بن زرارة ، وليس أسديّاً. وقد ساق نسبه ابن حزم في الجمهرة إذ قال في نسب بني كلاب : «وعبد العزيز بن زرارة بن جزء بن عمرو بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب بين ربيعة بن عامر بن صعصة وذكر أنّه غزا مع يزيد بن معاوية بلاد الروم ومات هناك». ونقل عنه حكاية ، ولكن أقحمت كلمة ابنه في النقل ؛ إذ جاء فيه : وغزا ابنه مع مخالفته للسيّاق ، ولم ينتبه له المحقّق الهاروني رحمه الله تعالى.
ص: 340
* وفي ص362 ، من حماسيّة عمرو بن شاس الأسدي البيت الأوّل :
أرادت عراراً بالهوان ومن يُرد
عِراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
أي : أرادت بعرار الهَوانَ ، فقلب.
أقول : ومن هذا الباب - ولله المثل الأعلى - قوله تعالى : (وآتَيْنَاه مِنَ الكُنُوزِ مَا إنّ مَفَاتِحَهُ لَتُنُوءُ بالعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّة).
والأصل : أنّ العصبة تنوء بالمفاتح. قال أبو العبّاس المبرّد في تفسير قول الفرزدق من الطويل في كتابه الكامل :
وأطلس عسال وما كان صاحباً
رفعت لناري موهناً فأتاني
«وقوله : رفعت لناري ، من المقلوب إنّما أراد : رفعت له ناري ، والكلام إذا لم يدخل لبس جاز القلب للاختصار ، قال الله عزّ وجل : (وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة)». والعصبة تنوء بالمفاتيح ، أي تستقلّ بها.
* وفي ص369 : «قال السيّد الإمام .... يجوز أن يريد ب- : (الظلم) : الليالي الثلاثة في الشهر».
وعلّق المحقّقون - سلّمهم الله تعالى - على كلمة (الثلاثة) بالقول : «في المخطوط : الثلاث ، من دون تاء التأنيث ، والصواب : ما أثبتناه».
أقول : قطعهم - هنا - بأنّ ما أثبتوه هو الصواب ، ليس بصواب ؛ إذ يجوز في هذه الجملة تذكير العدد وتأنيثه : الليالي الثلاث ، الليالي الثلاثة.
وربّما يشتبه الأمر على بعض الدّارسين فيحسب أنّ وصف (الليالي) ب- : (الثلاثة) مخالف للقاعدة التي توجب مخالفة العدد للمعدود من الثلاثة إلى
ص: 341
التسعة ، أو قل إلى العشرة مع عدم تركيبها ، وقد يستظهر بقوله تعالى : (وَلَيَال عَشْر ...). وقد فات من وقع لهم هذا الظنّ أنّه : إنّما يجب أن يخالف العدد المعدود من الثلاثة إلى التسعة إذا تأخّر المعدود ؛ أمّا إذا تقدّم المعدود على العدد فإنّه يجوز فيه المطابقة والمخالفة.
قال العلاّمة الصبّان في حاشيته على الاشموني في (باب العدد) : «فلو قُدّم المعدود ، وجعل اسم العدد صفةً جاز إجراء القاعدة وتركها ... تقول : مسائل تسع ورجال تسعة ، وبالعكس. نقله الإمام النووي عن النحاة ، فاحفظها فإنّها عزيزة».
* وفي ص374 : من الأبيات المتمثّل بها قول بعض المحدّثين في أولاده :
مالي إذا صُدِّعَتْ رؤوسُهُمُ
صُدِّع منّي الفؤادُ والكَبِدُ
أقول : هذا البيت من (المُنْسَرِحِ) وقوله : «صُدِّعَتْ رؤوسهم» غير جار على سَنَن العربية ؛ لأنّ الصدّاع هو وجع الرأس خاصّة ، وعلى هذا يكون ذكر كلمة (رؤوسهم) حشواً لا داعي له ، والوجه أن يقال : صدعوا مع ذكر ما لا يضطرب الوزن معه في (ضرب) البيت على اصطلاح العروضيّين ، وإنّما قال الشاعر وهو ممّن لا يحتجّ بلغته : صدع منّي الفؤاد والكَبِد على سبيل المشاكلة.
* وفي ص91 : وقال الأعرج المعنّي من طيِّئ .... البرقي. هذا الرجل من ضبّة.
أقول : الصحيح أنّه لرجل من ضبّة المضريّة وليس للأعرج الطائي
ص: 342
بدلالة ما قوله : نحن بني ضبّة (1) أصحاب الجمل.
* وفي الهامش نفسه بعد أن نقلَ المحقّقون أنّ صاحب الوافي بالوفيات نسب الحماسية المذكورة في المتن إلى أحمد بن ربيعة العبادي العقيلي الأعرابيّ نقلوا عن (نهاية الأرب) ما نصّه : «العقيليّون بطنٌ من زريق من ثعلبة طيء من القحطانية»!!
مع أنّ أحمد بن ربيعة العُقَيلي العُبادي منسوب إلى بني عبادة بن عقيل ابن كعب بن ربيعَةَ بن عامر بن صعصعة من هوازن العدنانية المضرية القيسية وهم المقصودون عند الإطلاق ، ومن ذكرهم صاحب (نهاية الأرب) بطنٌ خامل.
ولا أدري كيف وقع للمحقّقين سلّمهم الله تعالى أنّ العُبادِيَّ العُقَيْلِيَّ منسوب إلى العُقَيليّين من بني زريق القحطانية مع أنّ بني عُقَيل المضريّين أنبه منهم ذكراً وأكثر منهم عدداً وأوسع شُهرةً ووو
* وفي ص392 : «ثلّ عرْشُه».
والوجه : ثُلّ عرشه ، بالبناء للمجهول ؛ لأنّ العرش هو الذي وقع عليه الثلّ ، ولم يقع منه ، والفاعل غيره ومن ذلك قولهم : ثلّ الله عرشه ، أي أماته ، أو أذهب ملكه أو عزّه ، والاسم منه الثلل بفتح الثاء واللام جميعاً ، ومصدره الثلّ.
ومن محفوظي القديم :
إنّ يقتلوك فقد ثللتَ عروشهم
بعتيبة بن الحارث بن شهابِ..
ص: 343
* وفي ص394 : «... ولكنّه لمّا كان المخبر عنه ، هو المعبّرُ عنه ب- : (الذي)».
كذا جاء ضبط كلمة المعبَّر بضمّ الراء المهملة ، وهذا على أحد وجهين في الإعراب ، ولكنّه وجه ضعيف ، والوجه الرّاجح هو نصب المعبَّر فيُقال : لمّا كان هو المُعَبَّرَ ، وعلى هذا لغة الذكر الحكيم ، وقد مرّ بيان وجه الترجيح مع الاستشهاد ، فلا نُعيد.
* وفي ص399 : «وسيّار بن موألة جاور عَدِيَّ بن أفلَت القعنبي».
أقول : ساق المحقّقون نسب عدي بن أفلت في هامش ص 397 إلى غنم بن ثوب الطائي. وليس في سياق نسبه من اسمه قعنب (1) ولم يذكر صاحب جمهرة أنساب العرب عديّاً في بني أفلت مع أنّ المحقّقين أحالوا عليه. وقد يكون من البطون النازلة أو أنّه من قبيلة أخرى يقال للمنتسبين إليه بنو قعنب ...
* وفي ص405 : «الثعلب : أشياءُ عِدَّة». كذا بإضافة أشياء إلى عِدّة والصّواب : أشياءُ عِدَّةٌ ، برفع عدّة على أنّها صفة ل- : (أشياء).
وفي منع أشياءَ من الصرف أقوال أظهرها مجيئها على القلب ، وأذكر أنّ لأستاذنا آية الله السيّد هبة الدين الشهرستاني بحثاً مبسوطاً في علّة منع الصرف من أشياء. ومن طرائف ما أحفظ أنّ رجلا سأل أحد النحاة عن علّة منع أشياء من الصرف ، فأجابه ذلك النحوي متمثّلا بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ).ة.
ص: 344
* وفي ص413 ، الهامش (1) : «وبحتر بن عنود بن عنبر بن سلامان ابن عمروبن الغوب بن جلهمة بن طيء».
والصواب : «وبُحتر ابن» بإثبات الألف قبل كلمة (بن) لأنّها هنا خبرية لا وصفية. و (عنبر) هنا تصحيف والصواب : عُنيْن ، وسلامان هو ابن ثعل بن عمرو بن الغوث.
وطيِّىءُ اسمه جُلهمة وليس جلهمة اسم أبيه ، فما ورد في الهامش ، هو اشتباه ، والله المسدّد.
* وفي ص421 : «ويجدر أن يحمل الكلام على المعنى .... ويُعدّى تعديته».
أقول : ومثله قوله تعالى - (ولله المثل الأعلى) - : (وإن يقولوا تسمع لقولهم).
لأنّه تضمّن معنى (تُصغي) فعُدّي تعديته.
* وفي ص421 : وقيل لأبي عبيدة : «أدعيّ إلى الأصمعي؟ قال : لا ما ادّعى أحد قط إلى باهله».
وأظنّ الأصل : أَدَعِيٌّ الأصمعي ، بحذف (إلى) أو أنّ الأصل : ادّعى الأصمعي إلى باهلة ، وسيأتي قريباً وجه آخر في قول أبي عبيدة.
وباهلة من قبائل العرب التي أخملها الهجاء ولزمها الذمّ ، حتّى قال فيهم الشاعر :
قوم قتيبة أمّهم وأبوهُمُ
لولا قتيبةُ أصبحوا في مَجْهَلِ
وجاء في ترجمة قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المعروف من وفيات
ص: 345
الأعيان لابن خلّكان ما نصّه : «وكانت العرب تستنكف من الانتساب إلى هذه القبيلة يعني باهلة حتّى قال الشاعر :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهلةْ
وقال آخر :
ولو قيل للكلب يا باهليّ
عوى الكلب من لؤم هذا النَّسبْ
وقيل لأبي عبيدة : يُقال إنّ الأصمعي ادّعى في نسبه إلى باهلة ، فقال : هذا ما يمكن ، فقيل : ولِمَ؟ فقال : لأنّ الناس إذا كانوا من باهلة تبرّؤوا منها فكيف يجيء من ليس منها فينسب نفسه إليها؟ قال ابن خلّكان : ورأيت في بعض المجاميع أنّ الأشعث بن قيس الكندي قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أتتكافاً دماؤنا؟ فقال : نعم ، ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك به.
وقال قتيبة بن مسلم الباهلي لهبيرة بن مسروح : أيّ رجل أنت لو كان أخوالك من غير سلول (1) ، فلو بادلت بهم. فقال : أصلح الله الأمير ، بدل بهم من شئت من العرب وجنّبني باهلة ويحكى أنّ أعرابياً لقي شخصاً في الطريق ، فسأله : ممّن أنت؟ فقال : من باهلة. فرثى له الأعرابي ، فقال ذلك الشخص : وأزيدك ، أنّي لست من صميمهم ، ولكن من موإليهم فأقبل الأعرابي عليه يقبّل يديه ورجليه ، فقال له : ولم هذا؟ فقال : لأنّ الله تبارك ة.
ص: 346
وتعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلاّ ويعوّضك الجنّة في الآخرة.
وقيل لبعضهم أيسُّرُك أن تدخل الجنّة وأنت باهلي؟ فقال : نعم بشرط أن لا يعلم أهل الجنّة أنّي باهلي».
ومن هذا الباب ما رواه أبو العباس المبرّد في كتابه الكامل بسنده إلى أبي قِلابه الجرمي أنّه قال : «حججت مرّة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي قال : وكنّا في ذراه وهو إذ ذاك بهيّ وضيّ ، فجلسنا في المسجد الحرام إلى قوم من بني الحارث بن كعب ، لم نر أفصح مِنْهُم ، فرأوا هيأة أبي جزء وإعظامنا إيّاه مع جماله ، فقال قائل منهم له : أمن أهل بيت الخليفة أنت؟ قال : لا ولكن رجل من العرب قال : ممّن الرجل قال : رجل من مضر ، قال : أَعْرَض ثَوبَ الملبس (1) ، من أيّها عافاك الله؟ قال : رجل من قيس. قال : أين يراد بك : صِر إلى فصيلتك التي تؤويك ، قال : رجل من بني سعد بن قيس قال : اللهمّ غفراً ، من أيّها عافاك الله؟ قال : رجل من بني يعصر. قال : من أيّها؟ قال : رجل من باهلة. قال : قُمْ عنّا ، قال أبو قِلابة؟ فأقبلت على الحارثي فقلت : أتعرف هذا؟ قال : هذا ذكر أنّه باهلي ، قال : قلت : هذا أمير ابن أمير ابن أمير ، قال : حتّى عددت خمسة : هذا أبو جزء أمير ، ابن عَمْرو وكان أميراً ابن سعيد وكان أميراً ابن سلم وكان أميراً ابن قتيبة وكان أميراً.
قال الحارثي : الأمير أعظم أم الخليفة؟ فقلت : بل الخليفة ، قال : ى.
ص: 347
الخليفة أعظم أم النبيّ؟ قلت : بل النبيّ ، قال : والله لو عددت له في النبوّة أضعاف ما عددت له في الإمارة ، ثمّ كان باهلّياً ، ما عبأ الله به شيئاً.
قال : فكادت نفس أبي جزء تخرج (تفيض خ ل) ، فقلت له : انهض بنا فإنّ هؤلاء أسوأ الناس أدباً».
وكانت قبيلة غنيّ أُخوة باهِلَةَ خاملة أيضاً وقد هُجيت لكنّ ما هجيت به لم يبلغ ما هجيت به باهلةُ وممّا هجيا به معاً قول الشاعر :
وخيبة (1) من يخيب على
غني
وباهلة بن يعصر والركابِ
ومع ما كانت عليهِ قبيلة غَنيّ أخت باهلة من الضَّعة والخمول ، فقد كان من رجالها من يغالي بشأنها ويفضلّها - وهي المفضولَةُ - على جميع قبائل العرب بل على الخلق أجمعين ، وفي الباب حكاية أنقلها استطراداً للتفكّهة نقلها أبو العباس المبرّد في الكامل قال : «وحدّثني عمرو بن بحر الجاحظ ، قال : أتيت أبا الربيع الغنوي ، وكان من أفصح الناس وأبلغهم ، ومعي رجل من بني هاشم ، فقلت : أبو الربيع هاهنا؟ فخرج إليّ وهو يقول : خرج اليك رجل كريم ، فلمّا رأى الهاشمي استحيا من فخره بحضرته ، فقال : أكرم الناس رديفاً ، وأشرفهم حليفاً ، فتحدّثنا مليّاً ، فنهض الهاشمي ، فقلت لأبي الربيع : يا أبا الربيع مَن خير الخلق؟ فقال : الناس والله فقلت : من خير النّاس؟ قال : العرب والله ، فقلت : من خير العرب؟ قال مضر والله ، قلت : فمن خير مضر؟ قال : قيس والله ، قلت فمن خير قيس؟ قال : يعصر والله ، قلت : فمن خير يعصر قال : غنيّ والله ، قلت : فمن خير غني؟ قال المخاطب لك والله ، قلت : ل.
ص: 348
أفأنت خير الناس؟ قال : نعم إيْ والله». وتكملة الحكاية وتفسير بعض ما جاء فيها في الكامل.
* وفي ص435 : الهامش (3) : «مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أميّة عدّو رسول الله صلّى الله عليه وآله (وسلّم) وطريده ، نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلّم) عن المدينة ، وأعاده عثمان إليها ، واستوزر ، فكان سبباً من أسباب الفتنة وأحد أشدّ المحرّضين في حرب الجمل ، تولّى أمر المدينة لمعاوية ، وخلف يزيد في الحكم سنة (64 ه) ، قتلته زوجهُ أمّ خالد بوسادة خنقته بها وهو نائم سنة (65 ه)».
أقول : فى هذه الترجمة خلط واضح بَيْنَ الحكم بن أبي العاص بن أميّة وابنِه مروان ، فالّذي طرده النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ونفاه عن المدينة وأعاده عثمان إليها هو الحكم بن أبي العاص الملقّب ب- : (الوزغ).
والذي استوزره عثمان وكان أحد المحرّضين في حرب الجمل .. وخلف يزيد في الحكم ... إلى آخر الترجمة هو ابنه مروان. وبمناسبة ذكر الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا أرى بأساً في الاستطراد إلى ذكر حكاية طريفة فيها بعض ما يتعلّق بأحوإله رواها أبو العباس المبرّد في الكامل بما هذا نصّه : «ويُروى أنّ عبد الله بن يزيد بن معاية أتى أخاه خالداً ، فقال : يا أخي ، لقد هممت اليوم أن أفتك (1) بالوليد بن عبد الملك فقال له خالد : بئس والله ما هَمَمْتَ به فقال : إنّ خيلي مرّت به ..
ص: 349
فعبث (1) بها وأصغرني ، فقال له خالد : أنا أكفيك فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده ، فقال : يا أمير .... الوليد ابن أمير ووليّ عهد المسلمين؟! ، مرّتْ به خيل ابن عمّه عبد الله بن يزيد ، فعبث بها ، وأصغره ، وعبد الملك مطرق ، فرفع رأسه فقال : (إنّ المُلُوْكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوْهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُوْن) (2) فقال خالد : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيْها فَفَسَقُوا فِيْها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيْرا) (3).
فقال عبد الملك : أفي عبد الله تكلّمني؟ والله لقد دخل عليّ فما أقام لسانه لحناً! فقال له خالد؟ أَفَعَلى الوليد تُعوِّل؟ فقال عبد الملك : إن كان الوليد يلحن فإنّ أخاه سليمان ، فقال له خالد : وإن كان عبد الله يلحن فإنّ أخاه خالد ، فقال له الوليد : اسكت يا خالد ، فوالله ما تعدّ في العِير ولا في النفير ، فقال خالد مخاطباً عبد الملك : اسمع يا أمير .... ، ثمّ أقبل عليه [أي على الوليد] وقال : ويحك فمن العِير والنفير غيري؟ جدّي أبو سفيان صاحب العِير ، وجدّي عتبة بن ربيعة صاحب النفير ، ولكن لو قلت : غُنيمات ، وحُبَيلات والطائف ورحم الله عثمان لقلنا صدقت».
وقد شرح المبرّد كلام خالد الأخير بقوله : «أمّا قوله في العِير فهي عِير قريش التى أقبل بها أبو سفيان من الشام ، فنهد إليها رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وندب إليها المسلمين ، وقال : لعلّ الله ينفّلُكُموها ، فكانت وقعة ة.
ص: 350
بدر ، وساحل أبو سفيان بالعير أي : [قصد طريق الساحِل] ، فكانت الغنيمة ببدر ، ما قال الله عزّ وجل : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (1) أي غير الحرب ، فلمّا ظفر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم بأهل بدر ، قال المسلمون : انهَد بنا يا رسول الله إلى العِير ، فقال العبّاس رحمه الله : إنّما وعدكم الله إحدي الطائفتين.
وأمّا النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العِيْر ، فجاؤوا ، فكانت وقعة بدر ، وكان شيخ القوم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وهو جدّ خالد من قِبَلِ جدّتِهِ هند أمّ معاوية ، بنت عتبة ، ومن أمثال العرب :
لست في العير يوم يحدون بالعِيْ-
-رِ ، ولا في النفير يوم النفيرِ
ثمّ اتّسع هذا المثل حتّى صار يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشرّ ، ولا يُحفل به : لا في العير ، ولا في النفير.
وقوله : غُنيّمات وحُبيلات ، يعني أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا طَرَدَ الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وهو جدّ عبد الملك بن مروان ، لجأ إلى الطائف ، فكان يرعى غنيمات ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة (2).
وقوله : ورحم الله عثمان أي لردّه إيّاه وقولنا : أطرده : أي جعله طريداً ، ب.
ص: 351
وطرده : نحّاه ، كما تقول : حمدته : أي شكرته (1) ، وأحمدته أي صادفته محموداً ...».
* وفي ص139 : الهامش (4) : «.. ومنهم - أيضاً - بنو ذهل بن تميم بن أدّ بن طابخة من العدنانية».
والصّواب : ذهل بن تيم ، بميم واحدة ، لا تميم ، فهؤلاء بنو عمّهم بنو تميم بن مُرِّ بنِ أُدّ بن طابخة المشهورون إلى اليوم.
وبنو ذهل بن تيم المذكورون هم من بطون تيم الرِّباب ، ومنهم قطام بنت شجنة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تيم الخارجية التي تزوّجها عبد الرحمن بن ملجم الخارجي لعنه الله تعالى ، وَمَهَرَها قتل عليّ عليه السلام وعبداً وقينةً وثلاثة آلاف دينار وفي ذلك يقول الشاعر :
ولَم أر مهراً ساقه ذو سَفاهة
كمهر قطام من فصيح وأعْجمِ