إيضاح کفاية الأصول المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

فصل: هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها[1] هي حجية الظن بالواقع[2] أو بالطريق[3] أو بهما؟ أقوال.

والتحقيق أن يقال[4]:

--------------------------------------

المقصد السادس في الأمارات

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول

اشارة

[1] من الإشكالات التي أوردناها على بعض المقدمات.

[2] أي: الظن بالحكم الفرعي، كالظن بنجاسة العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه.

[3] أي: الظن بالمسألة الأصولية، كالظن بحجية الخبر الواحد، حيث إنه طريق إلى الأحكام الشرعية الفقهية.

القول الأول مختار المصنف

[4] مختار المصنف والشيخ الأعظم، هو أنه لو تمت مقدمات الانسداد يكون الظن حجة، بلا فرق بين الظن بالواقع أو الظن بالطريق. والدليل على ذلك مركب من ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إنه لمّا علمنا بالعقاب على مخالفة أمر المولى فإن العقل يبحث عمّا يدفع هذا العقاب، بحيث يكون المكلف في أمنٍ منه.

الأمر الثاني: دليل مركب من كبرى وصغرى: أما الصغرى: فهي أن المُؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع، فكلّما قطع الإنسان بالتكليف فبالالتزام به يقطع بأنه لا يعاقب.

ص: 5

إنه لا شبهة[1] في أن همّ العقل في كل حال[2] إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة[3] من العقوبة[4] على مخالفتها، كما لا شبهة[5] في استقلاله في تعيين ما هو المُؤمِّن منها[6]؛ وفي أن[7] كلما كان القطع به[8] مؤمِّناً في حال الانفتاح كان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً[9]؛

--------------------------------------

وأما الكبرى: فهي أن الظن في حال الانسداد يقوم مقام القطع في حال الانفتاح في كل شيء، فكل شيء كان القطع به يوجب الأمن من العقاب - لو التزم به - فإن الظن به في حال الانسداد يوجب الأمن أيضاً؛ إذ المفروض أن المقدمات أثبتت حجية الظن وقيامه مقام القطع.

الأمر الثالث: وحيث إنه لا فرق في حجية القطع بين القطع بالطريق وبين القطع بالواقع، كذلك لا فرق في حجية الظن - حال الانسداد - بين الظن بالطريق والظن بالواقع.

[1] إشارة إلى الأمر الأول، و«همّ» من الاهتمام، أي: الأمر المهم للعقل.

[2] سواء في حال الانفتاح أم الانسداد.

[3] معلومة تفصيلاً - في حال الانفتاح - أم معلومة إجمالاً - في حال الانسداد - .

[4] بيان ل- (تبعة التكاليف).

[5] إشارة إلى الأمر الثاني، وقوله: (في استقلاله في تعيين...) إشارة إلى الكبرى.

[6] استقلاله بذلك؛ لأن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلية، وليس للشارع طريق خاص.

[7] بيان لمعنى استقلال العقل في تعيين المؤمِّن.

[8] بلا فرق بين القطع بالحكم الجزئي أو القطع بالطريق - أي: المسألة الأصولية الكليّة - .

[9] لأن مقتضى مقدمات الانسداد - على فرض صحتها - هو قيام الظن مقام القطع في كل شيء.

ص: 6

وإن المؤمّن[1] في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك[2] - لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق[3] ومتعلق العلم وهو طريق شرعاً وعقلاً[4] - أو بإتيانه الجعلي[5]؛ وذلك[6] لأن العقل قد استقل بأن الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو - لا بما هو مؤدى الطريق - مبرئ للذمة قطعاً، كيف[7]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الصغرى، وأنه لا فرق في القطع بين القطع بالواقع، أو القطع بالطريق.

[2] أي: بما هو مكلف به واقعاً، وليس العلم بهذا التكليف مأخوذاً في الموضوع، مثلاً: الواجب هي الصلاة بما هي صلاة، لا الصلاة بما هي معلومة الوجوب؛ لأن هذا يستلزم الدور؛ إذ العلم بالوجوب متأخر عن الوجوب، فلو أخذ العلم بالوجوب في موضوع الوجوب كان العلم متقدماً، حيث إن الموضوع - بكل أجزائه - متقدم على الحكم، وقد مرّ تفصيل ذلك في أوائل بحث القطع، فراجع.

[3] قوله: «ومؤدى الطريق» و«متعلق العلم...» عطف تفسيري لقوله: (لا بما هو معلوم).

[4] أي: لا بما هو متعلق العلم، والحال «هو» أي: العلم طريق شرعاً وعقلاً، فالواو في (وهو) حالية.

[5] عطف على قوله: (هو القطع بإتيان...)، والمعنى أن المُؤمِّن في حال الانفتاح أحد أمرين: إما القطع بإتيان... الخ، وإما القطع بإتيانه الجعلي، و«إتيانه الجعلي» بمعنى جعل طريق يوصل إلى المكلَّف به الواقعي.

[6] هذا المقطع تكرار لما سبق بعبارة أخرى.

[7] دليل عدم الفرق بين القطع بالواقع وبين القطع بالطريق، وحاصله: إن حجية القطع ذاتية، وهي حجية مطلقة بلا تقييد بصورة دون أخرى، فلذا كان

ص: 7

وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أن قضية ذلك[1] هو التنزل[2] إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق.

ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع، إلاّ توهم أنه[3] قضية اختصاص المقدمات بالفروع - لعدم انسداد باب العلم في الأصول وعدم إلجاءٍ[4] في التنزل إلى الظن فيها - والغفلة[5] عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في

--------------------------------------

القطع بالطريق حجة، كما أن القطع بالواقع حجة أيضاً بالذات بلا جعل جاعل.

[1] إشارة إلى الأمر الثالث، «ذلك» أي: كون القطع مُؤمِّناً، سواء كان بالطريق أم بالواقع.

[2] أي: حين الانسداد وعدم إمكان القطع لابد من التنزل إلى الظن، وأنه يقوم مقام القطع في كل شيء - كما مرّ توضيحه - .

القول الثاني حجية الظن بالواقع دون الطريق

[3] أي: إن اختصاص الحجية بالظن بالواقع هو مقتضى الانسداد حاصل في الفروع الفقهية، أما أصول الفقه فلا انسداد فيها؛ لإمكان تحصيل العلم بغالب تلك المسائل. نعم، مسألة حجية الخبر الواحد قد انسد باب العلم والعلمي بها، ولكنها مسألة واحدة لا تضر بانفتاح باب العلم في الأصول، حيث يمكن تحصيل العلم بغالبها.

[4] أي: عدم ضرورة إلى العمل بالظن في الأصول.

[5] ردّ هذا التوهم، وحاصله: إن الظن بالطريق أيضاً يوجب الأمن من العقوبة، فإن الغرض من جريان مقدمات الانسداد في الفروع هو إبراء الذمة، وهذا الفرض يوجد في الأصول أيضاً، «جريانها» أي: جريان المقدمات.

ص: 8

مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف وإن كان باب العلم في غالب الأصول[1] مفتوحاً، وذلك[2] لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك[3] بين الظنين.

كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول[4]. وتبعه في الفصول(1)،

قال فيها[5]: «إنا كما

--------------------------------------

[1] إنّما قال غالب الأصول، لأن انفتاح باب العلم في كل الأصول يوجب انفتاح باب العلمي في الفروع قهراً، فإن المهم هو انسداد باب العلم في حجية الخبر الواحد - الذي هو عمدة أدلة الفروع - بل وُضع دليل الانسداد لإيجاد دليل على حجية الخبر الواحد بعد أن عجز الانسداديون عن إقامة دليل آخر على حجيته.

[2] هذا تعليل لجريان مقدمات الانسداد في الأصول، «ذلك» أي: جريانها في الفروع موجب لجريانها في الأصول أيضاً.

[3] أي: في الأمن من العقوبة.

القول الثالث حجية الظن بالطريق دون الواقع

الدليل الأول
اشارة

[4] وهو المحقق الشيخ أسدالله التستري(2)،

وكذا قال به المحقق صاحب الحاشية على المعالم.

[5] حاصله: إن لنا قطعين:

1- القطع بأن هناك أحكاماً كثيرة نحن مكلفون بها، ولا طريق لنا إليها - من علم أو علمي - .

2- القطع بأن الشارع جعل طرقاً مخصوصة للوصول إلى أحكامه، وأيضاً لا طريق لنا إلى تلك الطرق.

ص: 9


1- الفصول الغروية: 277.
2- كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع: 460.

نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا[1] تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا - بحكم العيان وشهادة الوجدان[2] - إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين[3] يقطع من السمع[4] بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه[5] مقام القطع ولو

--------------------------------------

ومنشأ هذين القطعين هو الإجماع. وحاصل القطعين: هو أن التكاليف الواقعية مقيدة بأن تصل إلينا من طرق مخصوصة، فلا يريد الشارع تلك الأحكام إلاّ عبر تلك الطرق، وهذا ما يعبر عنه بالصرف والتقييد، أي: صرف الأحكام الواقعية عن إطلاقها وتقييدها بأن تكون عبر الطرق المخصوصة.

فتحصّل أن الظن بالحكم الواقعي مباشرة لا أثر له؛ لأن الشارع لا يريد ذلك الحكم إلاّ عبر طرقه الخاصة، وحيث لا علم لنا بتلك الطرق الشرعية الخاصة - لفرض الانسداد - فإن الظن بها يقوم مقام العلم بها.

[1] وهو زمان الانسداد - حسب الفرض - «فعلياً» لا شأنياً أو مقيداً بالعلم، بل التكليف فعلي يتنجز علينا متى ما وصل إلينا.

[2] «العيان» المشاهدة الخارجية بعدم إمكان تحصيل القطع فيها، و«شهادة الوجدان» عطف تفسيري، أو بمعنى إنا نجد في أنفسنا ذلك، فالعيان للإحساس الخارجي، والوجدان للشعور الباطني، وقوله: «إلى تحصيل» متعلق بقوله: (لا سبيل لنا).

[3] أي: يكون طريق الحكم قطعياً، كما لو قلنا: إنّ أدلة حجية الخبر الواحد قطعية، وكان الخبر دليلاً في مسألة فرعية.

[4] ففي المثال: دليل حجية الخبر الواحد هو الآيات والروايات مثلاً.

[5] أي: طريق الطريق، فالمسألة الفرعية غير قطعية، وطريقها غير قطعي، ولكن طريق الطريق قطعي، كما لو توصلنا لحكم جزئي بالقرعة، ودليل القرعة هو خبر واحد، ودليل حجية الخبر الواحد قطعي، فالطريق - وهو القرعة - ظني، لكن

ص: 10

عند تعذره[1]، كذلك[2] نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً[3]، وكلفنا[4] تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة[5]؛ وحيث إنه[6] لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو

--------------------------------------

طريق الطريق - أي: دليل حجية القرعة - قطعي.

والحاصل: إنا في هذه الأزمنة لا قطع لنا بغالب المسائل، كما لا قطع بطرقها، ولا بطرق طرقها - لأن الفرض هو الانسداد - .

[1] أي: حجية الطريق أو طريق الطريق حتى لو كانت في صورة تعذر القطع. وكان الأولى التعبير ب- (ولو عند عدم تعذر القطع)، لأن (لو) الوصلية تستعمل لبيان الفرد الأخفى لا الفرد الأجلى، والحجية في صورة تعذر القطع أجلى من الحجية في صورة عدم تعذره.

[2] هذا هو القطع الثاني.

[3] فلا يريد تلك الأحكام إلاّ عبر هذا الطريق.

[4] عطف تفسيري على (جعل لنا إلى...). أو المراد إنه جعل تلك الطرق، ولم يكل الأمر إلينا في سلوكها وعدم سلوكها، بل أوجب علينا سلوك تلك الطرق، «فعلياً» لا شأنيّاً، بل أراد منا سلوك تلك الطرق.

[5] في الفصول زيادة هذه العبارة، وكان ذكرها ضروري، وإن كان المصنف لم يذكرها اختصاراً أو سهواً وهي: (ومرجع هذين القطعين - عند التحقيق - إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلّفون تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة)(1)،

انتهى. ومعنى هذه العبارة هو أن الشارع أراد منا التكاليف الواقعية بشرط كونها من طرقه الخاصة، فلو وصلت إلينا عن غير تلك الطرق لم نكن مكلفين بها؛ لعدم تحقق شرطها.

[6] «أنه» أن الشأن، «تعيينها» تلك الطرق.

ص: 11


1- الفصول الغروية: 277.

قيام طريقه كذلك[1] مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب[2] أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل[3] إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق[4] إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته[5]، لأنه أقرب إلى العلم[6] وإلى إصابة الواقع مما عداه»(1).

وفيه: أولاً[7]

--------------------------------------

[1] «طريقه» طريق الطريق، «كذلك» بالخصوص.

[2] جواب (حيث)، أي: حيث لا قطع فلابد من الرجوع إلى الظن، «مثل ذلك» أي: في ما إذا انسد باب العلم بالأحكام الواقعية وبطرقها وبطرق طرقها.

[3] لأنه بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل بالرجوع إلى الظن، كما قال المصنف في أول بحث الانسداد: (وهو مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية... الخ).

[4] بعد عدم فائدة الظن بالحكم الواقعي؛ لأنه ليس عن طرق الشارع المخصوصة، فلابد من الظن بتلك الطرق المخصوصة حتى تكون حجة.

[5] أي: لا دليل قطعي على حجيته، فتصل النوبة إلى الظن، للانسداد.

وفي الفصول: (لا دليل على عدم حجيته)(2)، فيكون إشارة إلى أن الظن في حال الانسداد يكون حجة بشرط عدم النهي عنه كالقياس، فلا يكون حجة في حال الانسداد للنهي عنه، أما إذا لم يكن نهي عنه فيكون كل ظن حجة.

[6] كما بيناه في المقدمة الخامسة، وأما أقربية الظن إلى العلم فلأن الظن فيه كشف إجمالي عن الواقع، خلافاً للوهم والشك حيث لا كشف فيهما أصلاً.

رد الدليل الأول

[7] جمع المصنف في «أولاً»، أربعة أجوبة ذكرها الشيخ في الرسائل(3)، ثم ذكر

ص: 12


1- الفصول الغروية: 277، مع اختلاف يسير.
2- الفصول الغروية: 277.
3- فرائد الأصول 1: 439 - 445.

- بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة[1] باقية[2] في ما بأيدينا من الطرق الغير العلمية(1)،

وعدم[3]

--------------------------------------

المصنف الجواب الخامس بقوله: (وثانياً).

[1] هذا الجواب الأول، وحاصلة: إنه ليس للشارع طرق خاصة أمرنا بسلوكها للوصول إلى أحكامه، بل أمضى الطرق العقلائية، فإن الظواهر وحجية الخبر الواحد ونحوهما - وهي من أهم البحوث الأصولية - إنما هي طرق عقلائية أمضاها الشارع، فلا يصح القول بأن الشارع قيّد أحكامه بطرق خاصة نصبها.

[2] هذا الجواب الثاني، فإنه لو فرض أن للشارع طرقاً خاصة، فإنه من غير المعلوم بقاء تلك الطرق في زماننا، حتى نكون مأمورين بسلوكها للوصول إلى الحكم الواقعي؛ إذ لعل الطريق الشرعي هو خبر الإمامي العدل المحفوف بالقرينة القطعية، ومن المعلوم أنه نادر إن لم يكن معدوماً.

ومقصود المصنف: أنه ليس لنا علم إجمالي بأننا مأمورون بسلوك هذه الطرق الموجودة، كي نقول إن الاحتياط فيها واجب بمقتضى العلم الإجمالي، وحيث إنه عسر أو مخل بالنظام فنتنزل إلى الظن!!

[3] أي: بعد تسليم عدم وجود... وهذا الجواب الثالث، وحاصله: إن الطرق الموجودة في أيدينا متعددة، ولكن بعضها متيقن الطريقية بالنسبة إلى الأخرى، فلو كنا مأمورين بالعمل بطرق فإن مثل خبر العدل متيقن بالنسبة إلى الشهرة الفتوائية - مثلاً - وحينئذٍ فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن إلى أن ينحل العلم الإجمالي، دون الرجوع إلى الظن.

ولا يخفى أن المراد بالمتيقّن: المتيقّن النسبي، أي: لو ثبت لزوم تقييد الأحكام الواقعية بما في الطرق فإنه لابد من الأخذ بأقوى تلك الطرق، وهو ما يكون بالنسبة إلى باقي الطرق متيقّن الحجية.

ص: 13


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

وجود المتيقن بينها أصلاً - أن قضية[1] ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظن.

لا يقال[2]: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه[3].

لأن[4]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الرابع، فمختصر كلام المصنف: وفيه أولاً - بعد التنازل عن الإشكالات الثلاثة الأولى - : أن مقتضى تقييد الأحكام الواقعية بما في الطرق هو الاحتياط في مؤديات الطرق كلّها؛ لأنا نعلم أن بعضها حجة إجمالاً من غير تعيين للحجة، فلابد من الاحتياط؛ لأنها أطراف العلم الإجمالي، «ذلك» أي: تقييد الأحكام الواقعية بمؤديات الطرق.

[2] حاصل الإشكال - على الجواب الرابع - : هو أن مفروض هذا الفصل هو تسليم تمامية مقدمات الانسداد، ومن تلك المقدمات عدم وجوب الاحتياط، فلا يصح هذا الجواب الرابع.

[3] عدم الجواز في صورة اختلال النظام، وعدم الوجوب في صورة العسر - كما مرّ تفصيله - .

[4] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن الاحتياط المنفي في المقدمة الرابعة هو الاحتياط التام في كل المحتملات. وأما ما نقوله هنا فهو الاحتياط في الطرق - كالعمل بكل ما في الأخبار والشهرات والإجماعات المنقولة ونحوها - ومن المعلوم أن مؤديات الطرق قليلة، فلا عسر في الاحتياط فيها، هذا مضافاً إلى قيام الدليل على عدم لزوم الاحتياط في بعض الطرق، فتضيق بذلك دائرة الاحتياط.

والحاصل: إنه لا عسر في الاحتياط في الطرق، ومع ذلك فقد ضاقت دائرة الاحتياط بخروج موارد متعددة، حيث دلت الأدلة على عدم لزوم الاحتياط فيها، وسيذكرها المصنف تباعاً.

ص: 14

الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام[1] في أطراف الأحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام[2]، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق[3]، فإن قضية هذا الاحتياط[4] هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف[5].

وكذا[6] في ما إذا نهض الكل على نفيه.

وكذا[7]

--------------------------------------

[1] هو الاحتياط في كل المحتملات من المظنونات والموهومات والمشكوكات، سواء قامت الطرق عليها أم لم تقم.

[2] ولو قال: (عدم وجوب الاحتياط التام مما يوجب العسر، وعدم جواز الاحتياط المخل بالنظام) كان أحسن.

[3] التي نعلم - حسب الفرض - بأن الشارع قيّد أحكامه ببعضها.

[4] أي: الاحتياط بما بأيدينا من الطرق، «عنه» عن الاحتياط، «مواردها» موارد الطرق.

[5] وذلك لانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير بما في الطرق، وشك بدوي بالنسبة إلى المحتملات في غير الطرق، ومن المعلوم أنه بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير فإنه يلزم الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الصغير، ويجري الأصل العملي في سائر الموارد، وقد يكون هذا الأصل نافياً للتكليف، فلا يلزم الاحتياط فيه أصلاً.

[6] من هنا يبدأ المصنف في تضييق دائرة الاحتياط في موارد الطرق، فيذكر عدة صور: منها: إذا قامت الطرق كلها بنفي تكليف فإنه لا يجب الاحتياط في ذلك الشيء؛ لأن المفروض أن الحكم الواقعي مقيّد بالطرق، وكل الطرق تنفي ذلك الحكم، فلا وجه للاحتياط.

[7] هذه صورة ثانية لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، وحاصلها: إذا

ص: 15

في ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف[1] فيه نفياً وإثباتاً[2] مع ثبوت المرجح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص[3] الخبر منها، ومطلقاً[4] في غيره بناءً على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار[5] في غير الأخبار.

--------------------------------------

تعارض فردان من طريق واحد، فإن كان الطريق هو خبر الواحد فقد قيل بوجوب الرجوع إلى المرجحات، وترجيح الخبر الذي فيه المرجح على الخبر الآخر:

1- فإن كان الترجيح للنافي للتكليف فلابد من الأخذ به، فلا يجب الاحتياط حينئذٍ؛ لقيام الدليل على عدم لزومه.

2- وإن لم يكن لأحدهما مرجح فإن الخبرين يتساقطان، وحينئذٍ نرجح إلى الأصل العملي، الذي يكون نافياً للتكليف غالباً.

3- نعم، لو كان الترجيح للخبر المثبت للتكليف فإنه يجب الأخذ به، ويكون مطابقاً للاحتياط.

[1] أي: مصداقان لطريق واحد، كخبرين تعارضا.

[2] أي: أحدهما نافٍ للتكليف والآخر مثبت للتكليف.

[3] أي: الترجيح في خصوص تعارض الأخبار - لو قيل بالترجيح - أما في تعارض سائر الأدلة فلا ترجيح بالمرجحات؛ لعدم قيام دليل على الترجيح بالمرجحات في سائر الأدلة. نعم، في تعارض الأخبار لابد من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته، وبموافقة العامة ومخالفتهم، وبالترجيح بمرجحات أخرى؛ لورود النص عليها، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء - وسيأتي تفصيل البحث في باب التعارض والتراجيح - .

[4] هذه صورة ثالثة لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، «ومطلقاً» سواء كان مرجح أم لم يكن مرجح، «في غيره» أي: في غير الخبر - إذا تعارض فردان - .

[5] يعني: حتى لو قلنا: إنّ المرجحات معتبرة في الأخبار، فإنه لا اعتبار

ص: 16

وكذا[1] لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإن المرجع في جميع ما ذكر[2] من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافياً[3]، لعدم نهوض[4] طريق معتبر، ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه[5]، فافهم[6].

وكذا[7]

--------------------------------------

للمرجحات في سائر الطرق.

[1] هذه صورة رابعة، وحاصلها: إنه لو تعارض طريقان كلاهما يثبتان التكليف، أحدهما يثبت الوجوب والآخر يثبت الحرمة، فإن الوظيفة هنا هي التخيير، ولا معنى للاحتياط - لعدم إمكانه - .

والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أن تلك في دوران الأمر بين ثبوت التكليف ونفيه، وهذه في دوران الأمر بين تكليفين متضادين بالوجوب والحرمة.

[2] من الصور الأربعة.

[3] فتمّ تضييق دائرة الاحتياط عبر العمل بالأصل النافي، «فيها» في موارد التعارض.

[4] أي: عدم وجوب الاحتياط في هذه الصور الأربعة، بسبب جريان الأصل - حتى لو كان نافياً للتكليف - لعموم دليله، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الأصل؛ إذ لا دليل وارد على هذا الأصل، ولا علم إجمالي يوجب رفع اليد عنه.

[5] «به» بطريق معتبر، «على خلافه» خلاف الأصل.

[6] لعله إشارة إلى الإشكال على الصورة الرابعة، فإنه مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة فإنه لا يمكن الاحتياط، سواء قلنا بالانحلال أم لم نقل، وسواء وجب الاحتياط أم لم يجب، فهذه الصورة لا توجب تضييق دائرة الاحتياط في موارد الطرق.

[7] هذه صورة خامسة لعدم وجوب الاحتياط بما في الطرق، وحاصلها: هو

ص: 17

كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت[1]، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه[2] إجمالاً بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك.

وثانياً[3]:

--------------------------------------

عدم لزوم الاحتياط إذا كنا نعلم بتكاليف، ثم علمنا إجمالاً برفع بعضها بنسخ أو تخصيص أو نحو ذلك، فإنه لا يجري استصحاب التكليف؛ وذلك لأن العلم الإجمالي اللاحق ينقض العلم التفصيلي السابق - كما مرّ شرحه وسيأتي مفصلاً في باب الاستصحاب - وحيث لم يجر استصحاب التكليف فإنه تجري أصالة البراءة التي تنفي التكليف.

[1] المراد الأصل المثبت للتكليف وقوله: (للعلم) علة عدم جريان الأصل - الذي هو الاستصحاب - .

[2] «فيه» في كل مورد «العلم به» بالانتقاض، «عليه» على الانتقاض، «بعض أطرافه» أطراف المورد، «عدم جريانه» الأصل وهو الاستصحاب، «بذلك» أي: بالانتقاض إجمالاً.

رد آخر للدليل الأول

[3] هذا هو الإشكال الخامس - حسب ترتيب الشيخ الأعظم(1)

- وحاصله: إن نتيجة مقدمات الانسداد هو حجية الظن، وحيث نظرنا إلى أقسام الظن لم نجد قسماً أولى بالحجية من قسم آخر، فلا يكون الظن بالطريق أقوى وأولى من الظن بالواقع - سواء ظننا بوجود طريق غير معلوم لنا، أم لم نظن بذلك - .

إن قلت: إن الصرف والتقييد يدل على أن الواقع غير مراد إلاّ إذا كان عن الطرق الخاصة، فالظن بالواقع لا يجدي ولا يوجب علينا حكماً فعلياً؛ لعدم تحقق شرط فعلية التكليف - وهو الظن بالحكم عبر الطريق الخاص - .

ص: 18


1- فرائد الأصول 1: 446.

لو سلم أن قضيته[1] لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم «أن الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظن بالطريق» فاسد قطعاً. وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع[2] من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر - من دون الظن بحجية طريق أصلاً - ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى.

لا يقال[3]: إنما لا يكون[4] أقرب من الظن بالواقع إذا لم يُصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد[5].

--------------------------------------

قلت: إن الصرف والتقييد لا يصح لا ثبوتاً ولا إثباتاً؛ لوجوه سيذكرها المصنف تباعاً.

[1] أي: مقتضى الدليل الذي أقامه صاحب الفصول وصاحب الحاشية، أي: لو رفعنا اليد عن الإشكال الأول - وهو وجوب الاحتياط - وسلمنا التنزّل إلى الظن.

[2] كما يتضح ذلك بالرجوع إلى المقدمة الأولى والثانية، حيث إن الفرض من حجية الظن هو الوصول إلى التكاليف الشرعية، التي انسد علينا باب العلم والعلمي فيها.

فإن الظن على ثلاثة أقسام، كلها في مرتبة واحدة بالنسبة إلى الواقع.

1- الظن بالطريق.

2- الظن بالواقع، مع الظن بوجود طريق غير معلوم لنا تفصيلاً.

3- الظن بالواقع، مع عدم الظن بطريق لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

[3] بيان أن الظن بالطريق هو أقرب، حيث إن فعلية الأحكام مقيدة بالطريق الشرعي الخاص، فلا فعليّة للحكم الشرعي مع عدم الظن بالطريق.

[4] «لا يكون» الظن بالطريق، «عنه» عن الواقع.

[5] فإن الصرف قسمان:

1- الصرف المطلق: بمعنى زوال الحكم الواقعي، وتحول مؤدّى الطريق إلى الواقع، فحتى لو كان الطريق خطأ فإن هذا الخطأ يتحول إلى الواقع، ويكون هو المراد.

ص: 19

فإن[1] الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً[2]، فلا أقل من

--------------------------------------

2- الصرف والتقييد، بمعنى لزوم الأمرين - أي: وجود الواقع وقيام الطريق - فلو أخطأ الطريق فإنه لا يكون مراداً واقعاً، وكذا لو لم يقم طريق فإن الحكم يبقى على مرتبة الإنشاء بلا فعلية، أما لو قام الطريق وكان صحيحاً بمعنى مطابقته للواقع فإن هذا الحكم يكون منجزاً.

[1] هذا الجواب عن (لا يقال)، «به» أي: بالصرف ولو بنحو التقييد.

[2] هذا الوجه الأول لإبطال الصرف، فإن الصرف المطلق يستلزم التصويب المحال، وأما الصرف والتقييد فإنه مجمع على بطلانه.

والتصويب هو بمعنى أنه لا حكم واقعي، أو لا حكم فعلي إلاّ لو قام الدليل عليه. والتصويب على قسمين:

1- أن لا يبقى حكم واقعي أصلاً، وينحصر الحكم بمؤدى الطريق، فإن عثرنا على الطريق كان هناك حكم، والاّ فلا حكم أصلاً، كما قال به بعض العامة بالنسبة إلى فتوى المجتهد، وأن ما يفتى به هو الحكم الواقعي - من غير بقاء للتكليف الواقعي أصلاً - وهذا تصويب محال؛ لأن الطريق إلى حكم يتوقف على وجود ذلك الحكم، وعلى تقدمه مرتبةً على الطريق، والصرف معناه عدم وجود الحكم إلاّ بعد قيام الطريق، فلزم تقدم الحكم على الطريق وتأخره عنه.

مضافاً إلى استلزامه وجود حكمين واقعيين متضادين لو قام طريقان عند مجتهدين، بل حتى مجتهد واحد.

2- أن يبقى الحكم الواقعي في مرحلة الإنشاء، وتكون فعليته متوقفة على الطريق، وهذا التصويب ليس بمحال؛ لعدم استلزامه أياً من المحذورين، لكنه باطل إجماعاً، فتأمل.

ص: 20

كونه مجمعاً على بطلانه، ضرورة[1] أن القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت[2].

ومن هنا[3] انقدح: أن التقييد أيضاً غير سديد. مع[4] أن الالتزام بذلك غير مفيد، فإن الظن بالواقع في ما ابتلي به من التكاليف[5] لا يكاد ينفك عن الظن

--------------------------------------

[1] هذا وجه ثانٍ لإبطال الصرف، وحاصله: إن من قطع بالحكم الشرعي تنجز ذلك الحكم عليه بالبداهة، مع أنه لو قلنا بالصرف فلا تكليف عليه؛ إذ لم يتحقق شرط التكليف، وهو قيام الطريق الشرعي عليه، حيث إن القطع ليس طريقاً مجعولاً شرعاً، فيكون نظير ما لو قطعنا بالحكم الإنشائي، أو قطعنا بتكليف مشروط مع عدم تحقق شرطه.

[2] في أوائل هذا الفصل حيث قال المصنف: (وأن المُؤمِّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك لا بما هو معلوم... الخ)، وكذا ما ذكرناه في أوائل بحث القطع.

[3] أي: من بياننا لهذا الوجه بقولنا: (ضرورة...)، والمقصود أن هذا الإشكال كما يرد على الصرف المطلق كذلك يرد على الصرف والتقييد.

[4] هذا وجه ثالث لإبطال الصرف، وحاصله: إن القول بانحصار حجية الظن في الظن بالطريق لا يفيد أصلاً، ويكون مرجعه إلى القول بحجية الظن مطلقاً؛ وذلك لأن الظن بالواقع لا ينفك عن الظن الإجمالي بالطريق؛ لأنه لا يعقل أن يكون هناك حكم واقعي يريده الشارع ثم لا ينصب عليه طريقاً، والنتيجة: إنه كلّما ظننا بحكم واقعي فإنه لا محالة نظن أن الشارع نصب عليه طريقاً، ولو لم نعلم ذلك الطريق تفصيلاً لكن نعلم بوجوده إجمالاً.

[5] أي: التكاليف التي يبتلى بها الناس لا محالة نصب الشارع طريقاً عليها؛ لئلا يكون نقضاً للغرض. نعم، يمكن ادعاء عدم لزوم نصب طريق على التكاليف غير المبتلى بها، وهذا الادعاء وإن كان محل نظر، لكن - على فرض تحققه - غير مضر؛

ص: 21

بأنه[1] مؤدى طريق معتبر. والظن بالطريق[2] ما لم يظن بإصابته[3] الواقع غير مجدٍ بناءً على التقييد[4]، لعدم استلزامه[5] الظن بالواقع المقيد به بدونه.

هذا، مع[6] عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد،

--------------------------------------

لأن موارد غير المبتلى به قليلة جداً.

[1] أي: بأن ذلك الواقع المظنون.

[2] عطف على قوله: (فإن الظن بالواقع...) وهذا وجه رابع يختص بإبطال التقييد، حاصله: إن سبب التكليف - بناءً على التقييد - هو الظن بالواقع الذي قام عليه طريق، فلابد من تحقق الظن بالواقع والظن بالطريق معاً، فلو ظن بالطريق من غير ظن بالواقع فلا تكليف عليه، كما لو ظن بحجية الخبر ثم قام الخبر على شيء لكنه لم يظن بذلك الشيء، بل بقي على شكه أو ظن بخطئه، فبناءً على القول بالتقييد لا تكليف عليه!!

[3] أي: إصابة ذلك الطريق للواقع، بأن يظن بالواقع أيضاً.

[4] أي: هذا الإشكال خاص بالتقييد، ولا يجري في الصرف المطلق؛ إذ لا واقع بناءً عليه.

[5] أي: الظن بالطريق لا يستلزم الظن بالواقع الذي قُيّد ذلك الواقع، «به» بالطريق، «بدونه» أي: بدون الظن بالواقع.

[6] هذا وجه خامس لإبطال الصرف والتقييد، وهو إشكال إثباتي - فإن الوجوه السابقة كانت إشكالات ثبوتيّة - وحاصله: هو أن الصرف والتقييد لا دليل عليه، وادعاء صاحب الفصول(1) الإجماع عليه مجرد ادعاء، فإن المسألة لم تكن مطروحة عند القدماء، وهي محل خلاف بين المتأخرين، بل أكثرهم على عدم الصرف والتقييد.

ومعنى العبارة: أن نصب طرق شرعية يوجب توسعة الواقع بحيث يشمل

ص: 22


1- الفصول الغروية: 278.

غايته[1] أن العلم الإجمالي بنصب طرق وافية[2] يوجب انحلال العلم بالتكاليف

--------------------------------------

الواقعي التنزيلي - أي: ما قام عليه الطريق - لا أنه يوجب تضييق دائرة الواقع وتقييده بما أدّاه الطريق.

[1] أي: غاية نصب الطريق، والمعنى أن أقصى ما يمكن إقامته من دليل على الصرف والتقييد هو العلم الإجمالي، وحيث إن العلم الإجمالي الكبير منحلّ، والصغير غير منجّز، فإنه يسقط هذا الدليل أيضاً.

وحاصل الدليل: هو أنا نعلم بوجود تكاليف كثيرة في المحتملات، إلاّ أن هذا العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود تلك التكاليف ضمن مؤديات الطرق، وإلى شك بدوي في سائر المحتملات يجري فيها أصل البراءة.

ثم إن العلم الإجمالي الصغير بوجود التكاليف ضمن مؤديات الطرق: حسب مبنى المصنف يوجب الاحتياط في كل مؤديات الطرق، فلا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، كما بينه في قوله: (أن قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف... الخ).

وأما حسب مبنى صاحب الحاشية والفصول فإن الاحتياط في المؤديات موجب للعسر أو اختلال النظام. فلا يلزم أو لا يجوز الاحتياط، فتصل النوبة إلى الظن.

لكن يرد عليه: إن عدم لزوم الاحتياط - وذلك بارتكاب بعض الأطراف - يوجب سقوط العلم الإجمالي الصغير أيضاً، لما مرّ بأن جواز ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط هذا العلم عن التنجز.

فتحصّل: أنه على مبنى صاحب الحاشية والفصول لا علم إجمالي كبير ولا صغير، فيبقى الصرف والتقييد من غير دليل إطلاقاً، وحينئذٍ تصل النوبة إلى الظن، بلا فرق بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع.

[2] بحيث نعلم أن الأحكام الواقعية كلها توجد في ضمن مؤديات الطرق.

ص: 23

الواقعية إلى العلم[1] بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية. والانحلال[2] وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية[3]، إلاّ أنه[4] إذا كان رعاية العلم[5] بالنصب لازماً، والفرض[6] عدم

--------------------------------------

[1] أي: إلى العلم الإجمالي الصغير بأن تلك التكاليف توجد ضمن مضامين الطرق، وإلى شك بدوي في سائر المحتملات.

[2] شروع في بيان عدم دلالة العلم الإجمالي على الصرف والتقييد.

[3] أي: لو كانت هناك تكاليف واقعية ولكن لم يدل عليها دليل، فإن إجراء أصالة البراءة يوجب عدم تنجز تلك التكاليف؛ لأن العلم الإجمالي الكبير انحل إلى علم إجمالي صغير وإلى شبهات بدوية، وأصالة البراءة تجري في تلك الشبهات حتى مع احتمال وجود تكاليف واقعية فيها، فلو فرض إجراء أصل البراءة مع وجود تكليف واقعي فإن ذلك التكليف لا يكون منجزاً؛ لعدم وصوله بدليل معتبر، وقيام الدليل على إجراء أصالة البراءة.

[4] أي: عدم التنجز بسبب الانحلال إنما يوجب إجراء أصل البراءة في الشبهات، إذا لزم العمل بمقتضى العلم الإجمالي الصغير وذلك بالاحتياط.

أما إذا سقط العلم الإجمالي الصغير فلا وجه لإجراء أصالة البراءة؛ لأن سبب إجرائها كان العلم الإجمالي، وبسقوط ذلك العلم الإجمالي لا منشأ لإجراء أصالة البراءة، فلابد من العمل بالظن، سواء في مؤديات الطرق أم في غيرها.

[5] أي: رعاية العلم الإجمالي الصغير، «بالنصب» نصب الطريق.

[6] أي: مبنى صاحب الفصول والحاشية هو عدم لزوم الاحتياط في مؤديات الطرق، بل قالا بلزوم العمل بالظن، مما يعني سقوط العلم الإجمالي الصغير أيضاً، وعدم لزوم الاحتياط إنما هو في صورة العسر، وعدم الجواز لو أوجب اختلال النظام.

ص: 24

اللزوم بل عدم الجواز. وعليه[1] يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في[2] كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى.

ولابد حينئذٍ[3] من عناية أخرى[4] في لزوم رعاية الواقعيات بنحوٍ من

--------------------------------------

[1] أي: على هذا الفرض - وهو لزوم العسر أو الاختلال بالعمل بمؤديات الطرق - يسقط العلم الإجمالي الصغير، ويكون وجوده كالعدم.

[2] متعلق بقوله: (يكون التكاليف...) أي: حين سقوط العلم الإجمالي تصل النوبة إلى الظن، والظن بالتكاليف الواقعية - في حال الانسداد - يكون حجة أيضاً؛ وذلك لعدم دليل أصلاً على الظن بالطريق بعد سقوط العلم الإجمالي الصغير.

[3] أي: حين سقوط العلم الإجمالي - الكبير والصغير - فإن مقتضى القاعدة هو إجراء أصالة البراءة في كل المحتملات، ولكن حيث إن البراءة توجب الخروج عن الدين، فبهذه العناية لابد من العمل بالظن من غير فرق بين الظن بالطريق أو الواقع.

[4] كتب المصنف في الهامش: (وهي إيجاب الاحتياط في الجملة - المستكشف بنحو اللّم، من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجمالاً بل ضرورة - . وهو يقتضي التنزل إلى الظن بالواقع حقيقة أو تعبداً، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالاً، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بكل ما يجب تحصيل القطع به - في حال الانفتاح - إلى الظن به في هذا الحال، وإلى الظن بخصوص الواقعيات التي تكون مؤديات الطرق المعتبرة، أو بمطلق المؤديات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها.

فلا يكاد تصل النوبة إلى الظن بالطريق - بما هو كذلك - ، وإن كان يكفي، لكونه مستلزماً للظن بكون مؤداه مؤدى طريق معتبر، كما يكفي الظن بكونه كذلك، ولو لم يكن ظن باعتبار طريق أصلاً، كما لا يخفى.

ص: 25

الإطاعة[1] وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها[2]. ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى[3] حينئذٍ - لكونه[4] أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام[5] من فعل الواجب وترك الحرام - من[6] الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساوياً في ما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال[7]. هذا، مع ما عرفت[8] من

--------------------------------------

وأنت خبير: بأنه لا وجه لاحتمال ذلك، وإنما المتيقن هو لزوم رعاية الواقعيات في كل حال، بعد عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة، فافهم)(1)،

انتهى.

[1] وحين تردد الأمر بين الظن وغيره، فلابد من ترجيح الظن، لأن ترجيح الشك أو الوهم ترجيح للمرجوح على الراجح.

[2] في المقدمة الثالثة.

[3] أولويته، باعتبار أن الغرض من جعل الطريق هو الوصول إلى هذا الواقع، فيكون الظن بالواقع أولى من الظن بالطريق، «حينئذٍ» أي: حين عدم لزوم الاحتياط.

[4] بيان لوجه أولوية الظن بالواقع، «التوسل به» بالظن بالواقع، «إلى ما به الاهتمام» أي: إلى الشيء الذي بذلك الشيء اهتمام الشارع، و«من» بيان: (ما به الاهتمام).

[5] أي: الشارع يهتم بإطاعة تكاليفه، ومع عدم العلم فإن الذي يوصل إلى تلك الطاعة - بطريق أقرب - هو الظن بالواقع.

[6] «من» متعلق بقوله: (أولى) أي: الظن بالواقع أولى من الظن بالطريق، «كونه» كون الظن بالطريق، «مساوياً» أي: مع الظن بالطريق.

[7] حال الانفتاح، وحال الانسداد.

[8] تكرار لما ذكره قبل قليل، من أن الظن بالواقع أيضاً يكون حجة - حتى لو

ص: 26


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 433.

أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، وهو بلا شبهة يكفي[1] ولو لم يكن هناك ظن بالطريق[2]، فافهم فإنه دقيق.

ثانيهما[3]: ما اختص به بعض المحققين. قال[4]:

--------------------------------------

حصرنا الحجية في الظن بالطريق - وذلك لتلازم الظن بالواقع من الظن بوجود طريق إلى ذلك الواقع؛ لأنه لو لم يظن بوجود طريق فإنه لا يظن بكون التكليف فعلياً، فإن التكليف مع عدم جعل طريق إليه يبقى في مرتبة الإنشاء.

«أنه» أن الشأن، وفاعل «يلازم» هو الظن بالواقع، أي: يلازم الظنُ بالواقع الظنَ بالطريق.

[1] أي: الظن بالطريق يكفي؛ وذلك لعدم لزوم الظن التفصيلي بالطريق؛ لأن دليلهم يشمل هذه الصورة أيضاً.

[2] أي: ظن تفصيلي بهذا الطريق، فإن الظن الإجمالي بوجود طريق كاف قطعاً، وإنّما قال بلا شبهة، لعدم الفرق بين الظن التفصيلي والظن الإجمالي، كما لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في الحجية.

الدليل الثاني للقول الثالث

[3] أي: ثاني الوجهين اللذين كانا منشأ توهم اختصاص الحجية بالظن بالطريق، دون الظن بالواقع.

[4] هو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم، فإن الوجه السابق اشترك فيه كل منه ومن صاحب الفصول، وأستاذهما الشيخ أسدالله التستري.

وحاصل هذا الوجه مركب من ثلاث مقدمات:

1- العلم بتكاليف كثيرة باقية في حال الانسداد.

2- إن أهم الأمور في نظر العقل هو القطع بحكم الشارع بفراغ الذمة عن تلك التكاليف؛ لأن الاشتغال اليقيني بالتكاليف يستلزم البراءة اليقينية منه.

ص: 27

«لا ريب[1] في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، ولم يسقط عنا[2] التكليف بالأحكام الشرعية، وأن الواجب[3] علينا أولاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلِّف[4]، بأن يقطع معه[5] بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به[6] وسقوط

--------------------------------------

3- إنه مع عدم إمكان القطع بحكم الشارع بفراغ الذمة لابد من التنزل إلى الظن الذي هو أقرب إلى القطع، وهو الظن بالطريق؛ لأن نصب الطريق لا معنى له إلاّ فراغ الذمة لو سلك ذلك الطريق، ولا يوجد حكم من الشارع ببراءة الذمة لو عمل بالظن بالواقع!!

ثم إن الفرق بين هذا الدليل وسابقة أن ذاك كان يقيّد الواقع بما أدّاه الطريق، وهذا لا يقيّده، بل يبحث عن الفراغ.

[1] إشارة إلى المقدمة الأولى للدليل، ولا يخفى أنها من مقدمات الانسداد، وكلامنا إنما هو بعد الفراغ من تماميتها، فذكرها يكون تكراراً!!

ولعل ذكر صاحب الحاشية لها بسبب أن فرز المقدمات وبيان كل واحدة على حدة كان متأخراً عنه، فلذا كانوا قبل الشيخ الأعظم يذكرون تلك المقدمات في مطاوي كلامهم.

[2] في حال الانسداد.

[3] بيان للمقدمة الثانية للدليل، «أولاً» مقصوده هو أن أهم الأمور هو تحصيل العلم بفراغ الذمة؛ وذلك بحكم العقل.

[4] بكسر اللام، أي: الشارع، بأن نقطع بأن الشارع حكم بتفريغ الذمة من تلك التكاليف التي أثبتها في الذمة.

[5] مع الإتيان بالتكليف، ومرجع الضمير يستفاد من سياق الكلام، «بحكمه» أي: بحكم المكلِّف الذي هو الشارع.

[6] أي: عن حكم كلّفنا الشارع به، وقوله: «وسقوط» عطف على (بحكمه) أي: يقطع معه بحكمه... وبسقوط تكليفنا عنا.

ص: 28

تكليفنا عنّا، سواء[1] حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه. فحينئذٍ نقول[2]: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع[3] فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به[4]، فيتعين[5] الأخذ به[6] عند التنزل من العلم في حكم العقل[7] - بعد انسداد سبيل العلم

--------------------------------------

[1] أي: حين حكم الشارع بفراغ ذمتنا لا يهم قطعنا بأداء الواقع أم لا، مثلاً: لو أمرنا بالعمل بالخبر الواحد، فإنه مع العمل به نعلم بأن ذمتنا فرغت من التكليف، سواء أصاب الخبر الواقع أم أخطأ، «معه» أي: مع حكمه بتفريغ الذمة، «القول فيه» في بحث الصرف والتقييد، حيث فصّل صاحب الحاشية فيه.

[2] بيان للمقدمة الثالثة، «حينئذٍ» أي: حين القول بلزوم العلم بحكم الشارع بفراغ الذمة.

[3] أي: بحكم الشارع، والمعنى العلم بسبب حكم الشارع بالفراغ وذلك إذا كان هناك طريق نقطع بأن الشارع نصبه، «وجوبه» وجوب تحصيل العلم، «وحصول» عطف على (وجوبه) أي: لا إشكال في حصول البراءة، «به» أي: بالعلم بحكم الشارع بفراغ ذمتنا.

[4] الأقربية: من جهة أن الظن بالطريق المنصوب يلازم الظن بحكم الشارع بالفراغ، بخلاف الظن بالواقع، حيث لم يقم دليل على تفريغه للذمة، فلا ظن بحكم الشارع بالفراغ.

[5] هذا نتيجة المقدمات الثلاث للدليل.

[6] أي: الظن بالطريق.

[7] إشارة إلى المقدمة الخامسة من مقدمات الانسداد؛ لأن ترجيح غير الظن على الظن هو ترجيح للمرجوح على الراجح، فيحكم العقل بلزوم الأخذ بالظن دون غيره.

ص: 29

والقطع[1] ببقاء التكليف - دون[2] ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن[3]»(1)

انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علو مقامه - .

وفيه: أولاً[4]: إن الحاكم على الاستقلال[5] في باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال[6] إنما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه[7] حكم

--------------------------------------

[1] «القطع» عطف على (انسداد) أي: بعد انسداد سبيل العلم، وبعد القطع ببقاء التكليف.

[2] أي: فيتعين الأخذ بالظن بالطريق دون الأخذ بالظن بالواقع؛ وذلك لأن الظن بالواقع لا يوجب الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة - كما بيناه آنفاً - .

[3] أي: حجية الظن في حال الانسداد مطلقاً، سواء كان ظناً بالطريق أم ظناً بالواقع.

[4] هذا إشكال على المقدمة الثانية من الدليل، وحاصله: إنه لا حكم للشارع بفراغ الذمة أصلاً، بل هو بحكم العقل، لما مرّ من أن طرق الطاعات عقلية. والعقل لا يرى تفاوتاً بين الظن بالواقع أو الظن بالطريق؛ لأنه يبحث عمّا يؤمِّن من العقاب، وكلاهما مؤمِّن.

[5] أي: لا يكون تابعاً لحكم الشرع، بل هو من المستقلات العقلية، وهي التي ليس في مقدماتها حكم من الشارع، كحسن العدل وقبح الظلم.

[6] أي: التفريغ بسبب الإطاعة، والعطف في «الامتثال» تفسيري.

[7] «يتبعه» وصف للحكم المولوي، وهو الحكم الذي لا يدركه العقل، بل يحكم به الشارع، وبعد حكمه يحكم العقل بلزوم إطاعته، مثل: حرمة شرب الخمر، فإنه حكم مولوي لم يكن ليدركه العقل، لكن بعد حكم الشرع يحكم العقل بلزوم اجتنابه امتثالاً لأمر الشارع.

ص: 30


1- هداية المسترشدين 3: 351، مع اختلاف يسير.

العقل، ولو حكم في هذا الباب[1] كان بتبع حكمه[2] إرشاداً إليه، وقد عرفت[3] استقلاله[4] بكون الواقع بما هو هو مفرغاً، وأن القطع به حقيقةً أو تعبداً[5] مؤمّن[6] جزماً، وأن المؤمّن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمِّناً حال الانفتاح[7]، فيكون الظن بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

وثانياً[8]:

--------------------------------------

[1] أي: باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال، كما في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1).

[2] أي: كان حكم الشارع بتبع حكم العقل، ولأجل الإرشاد إلى حكم العقل.

[3] أي: بعد أن ثبت لك أنه لا حكم للشارع هنا تصل النوبة إلى معرفة حكم العقل، وقد ذكرنا لك في استدلالنا - على عدم الفرق بين الظن بالواقع أو الطريق - بأن العقل يبحث عن المؤمِّن، ولا يرى فرقاً في الأمن من العقوبة بين الظن بالطريق أو الظن بالواقع.

[4] استقلال العقل، «بما هو هو» حتى لو لم يكن مدلول دليل منصوب.

[5] أي: المؤمِّن هو القطع بالواقع بما هو هو، وكذا القطع به تعبداً - أي: تنزيلاً - بأن يكون مؤدّى طريق منصوب، مثلاً: تارة نعلم بأن هذا زيد، وتارة أخرى تكون البينة حجة، وهي تشهد بأنه زيد، فكونه زيداً واقع تعبدي.

[6] خبر (أن) في قوله: (وأن القطع به).

[7] بلا فرق بين القطع بالواقع أو القطع بالطريق، وكذا الظن في حال الانسداد.

[8] حاصله: إنه بعد تسليم أن يكون للشارع حكم بتفريغ الذمة، فإنه نقول: لم يصرح الشارع بذلك في أي مكان، لكن بما أنه نصب الطريق فلازم ذلك حكمه بفراغ الذمة بسلوك ذلك الطريق، وهذا اللزوم موجود في الظن بالواقع أيضاً، فإن تكليف الشارع بالواقع لازمه حكم الشارع بفراغ الذمة بالعمل بذلك الواقع، بل

ص: 31


1- سورة النساء: الآية 59.

سلمنا ذلك[1]، لكن حكمه بتفريغ الذمة - في ما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب - ليس[2] إلاّ بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى[3]

«أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ في ما إذا أتى به» أولى[4]، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظناً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت[5]:

--------------------------------------

هو أولى؛ لأن الواقع التنزيلي - وهو مؤدى الطريق - إن كان كافياً فالواقع الحقيقي يكون كافياً بطريق أولى.

[1] أي: الحكم المولوي للشارع بتفريغ الذمة، «حكمه» حكم الشارع.

[2] أي: ليس لدليل خاص، بل بدعوى الملازمة، أي: إن نصب الطريق يستلزم الحكم ببراءة الذمة لو عمل به.

[3] أي: نفس هذا الاستلزام موجود في التكليف بالواقع، «حكمه» حكم الشارع، «أتى به» بالواقع.

[4] قد عرفت وجه الأولوية آنفاً، وحاصلها: إن الواقع التنزيلي إن استلزم شيئاً فإن الواقع بما هو هو يستلزم ذلك الشيء بطريق أولى؛ إذ لا يكون الفرع أقوى من الأصل، «الظن به» أي: بالواقع، «بالحكم» أي: بحكم الشارع.

[5] حاصل الإشكال: هو عدم اللزوم بين الظن بالواقع والظن ببراءة الذمة؛ وذلك لثبوت الانفكاك في بعض الصور، مما يكشف عن عدم اللزوم، فإن اللازم لا ينفك عن الملزوم أبداً، فإذا انفك عرفنا - باللِمّ - عدم اللزوم؛ وذلك في ما إذا ظن بالواقع عبر القياس، فإن هذا الواقع المظنون لا يستلزم الظن بفراغ الذمة، بل نقطع بعدم الحجية. وليس كذلك الظن بالطريق عبر القياس، فإن هذا الظن حجة؛ لأن القياس منهي عنه في خصوص الأحكام الشرعية، أما في غيرها - ومنها الطرق - فلا يوجد نهي فيه.

ص: 32

كيف يستلزمه الظن بالواقع[1]، مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه[2]، كما إذا كان من القياس؟ وهذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه[3] ولو كان من القياس.

قلت[4]:

--------------------------------------

[1] مفعول (يستلزم) محذوف وهو (الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة).

[2] أي: نقطع بعدم حكم الشارع بفراغ الذمة مع الظن بالواقع، ومنشأ القطع هو نهي الشارع عن الأخذ بالقياس نهياً ثابتاً بالتواتر.

[3] أي: فإن الظن بالطريق يستلزم الظن بحكم الشارع بفراغ الذمة.

[4] حاصل الجواب أمران:

الأول: هذا القائل خلط بين الظن بفراغ الذمة وبين الحجية، وكلامنا ليس في الحجية، بل في فراغ الذمة.

بيانه: إن إصابة الواقع توجب براءة الذمة، فإن قطع بإصابة الواقع فإنه يقطع ببراءة الذمة، وإن ظن بإصابة الواقع فإنه يظن ببراءة الذمة - وهذا اللزوم دائمي في القطع الطريقي - نعم، الظن ببراءة الذمة ليس بحجة إذا لم يقم عليه دليل، أو نهى الشارع عن التمسك بسبب ذلك الظن.

ومعنى عدم الحجية أنه إن أخطأ فلا عذر له، بل يعاقب، وإن أصاب فإنه قد تجرأ على المولى لسلوكه طريقاً غير مأمون.

والحاصل: إنه لو ظن بالواقع عبر القياس فلا محالة يظن بفراغ الذمة؛ لأنه يظن بأنه أتى بالتكليف الواقعي، ولكن لا حجة له، فلو أخطأ ظنه فإنه يعاقب لتركه الواقع بلا معذّر شرعي.

الثاني: القياس ليس بحجة سواء في الحكم الشرعي أم في طريق الحكم الشرعي؛ لعموم الأدلة، فلا يصح التفريق بين القياس في نفس الحكم والقياس في الطريق، وهذا ما يلمح إليه المصنف بقوله: (إذا عمل به فيهما).

ص: 33

الظن بالواقع أيضاً[1] يستلزم الظن[2] بحكمه[3] بالتفريغ، ولا ينافي[4] القطعَ بعدم حجيته لدى الشارع، وعدم[5] كون المكلف معذوراً - إذا عمل به فيهما[6] - في ما أخطأ، بل كان مستحقاً للعقاب - ولو في ما أصاب[7] -

--------------------------------------

[1] أي: كالظن بالطريق.

[2] كتب المصنف في الهامش: (وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلّف به واقعاً، وحكمه بالفراغ، ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه لو سئل: عن أن الإتيان بالمأمور به على وجهه هل هو مفرغ؟ ولزوم حكمه بأنه مفرّغ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعي، وهو واضح البطلان)(1)،

انتهى.

حاصله: إن الشارع يريد أحكامه الواقعية - والمفروض أن القطع بها ليس بموضوعي - وحينئذٍ فإن الإتيان بالحكم الواقعي يستلزم الإجزاء، كما هو واضح. فلو ظن بأن هذا واقع - ولو من القياس - ثم أتى به، وكان ظنه مطابقاً للواقع، فإنه لا محالة يسقط التكليف. فالظن بالواقع يستلزم الظن بالفراغ. نعم، لا حجة له - كما وضحناه - .

[3] أي: حكم الشارع ببراءة الذمة.

[4] فاعله: الظنُ بحكم الشارع ببراءة الذمة، والمعنى أن الظن بحكمه ببراءة الذمة لا ينافي القطع بعدم الحجية؛ لأن عدم الحجية يجتمع مع الظن، فما أكثر الظنون التي ليست بحجة، بل الأصل في الظن عدم الحجية.

[5] عطف تفسير لقوله: (بعدم الحجية لدى الشارع).

[6] «به» بالظن الناشئ عن القياس، «فيهما» في الواقع والطريق.

وفي هذا الكلام تلميح إلى عدم حجية الظن الناشئ عن القياس مطلقاً، وأنه لا يترتب عليه أثر، سواء كان ظناً بالواقع أم ظناً بالطريق.

[7] أي: لو عمل بالقياس، وأصاب الواقع - اتفاقاً - فإنه لا يعاقب على امتثاله

ص: 34


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 437.

لو بنى على حجيته والاقتصار[1] عليه لتجريه، فافهم[2].

وثالثاً[3]: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به[4]، لكن قضيته ليس إلاّ التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر[5]، لا خصوص[6]

--------------------------------------

للواقع، بل يعاقب على أحد أمرين:

1- التشريع، إذا اعتقد حجية القياس شرعاً وبنى عليه، وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله: (لو بنى على حجيته).

2- التجري، إذا لم يبنِ على حجية القياس، ولكن اكتفى به، فإن العمل على طبق شيء بدون حجة شرعية هو تجرٍّ.

[1] عطف على (حجيته) أي: لو بنى على الاقتصار، «عليه» على القياس، «لتجريه» علة للعقاب على الاقتصار، أما علة العقاب على الوجه الأول فهو التشريع الثابتة حرمته.

[2] لعله إشارة إلى أن الاقتصار على القياس - إن أصاب - ليس تجرياً، بل هو حرام فعلي - حتى لو لم نقل بحرمة التجري - وذلك لأن العمل بالقياس هو حرام بالذات حتى وإن أصاب الواقع به.

[3] إشكال ثالث على الوجه الثاني - الذي ذكره صاحب الحاشية واختص به - وحاصله: ما مرّ من المصنف أن الظن بالواقع يستلزم الظن الإجمالي بوجود طريق؛ وذلك لأن الشارع إذا لم ينصب طريقاً إلى حكمه فلا يصير ذلك الحكم فعلياً أصلاً.

[4] «به» بفراغ الذمة، «قضيته» أي: مقتضى لزوم الظن بالطريق، «بأنه» بأن التكليف.

[5] سواء علمنا بذلك الطريق بالتفصيل، أم علمنا به إجمالاً.

[6] عطف على قوله: (طريق معتبر)، أي: اللازم الظن بوجود طريق معتبر - تفصيلي أم إجمالي - لا خصوص الظن بالطريق التفصيلي.

ص: 35

الظن بالطريق[1]، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالباً.

فصل[2]: لا يخفى[3] عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقاً منصوباً شرعاً[4]، ضرورة أنه معها[5] لا يجب عقلاً على الشارع أن ينصب

--------------------------------------

[1] أي: تفصيلاً.

فصل في الكشف والحكومة والإهمال والتعيين

اشارة

[2] الغرض من هذا الفصل هو بيان أن نتيجة المقدمات هل هي الإهمال، بحيث نحتاج إلى دليل آخر لإثبات حجية جميع الظنون أو بعضها، أو أن النتيجة هي التعيين - سواء بنحو كلي أو جزئي -؟

وحيث إن النتيجة تتوقف على الكشف أو الحكومة لذا قدّم البحث عنها.

[3] اختيار المصنف - تبعاً للشيخ الأعظم - : هو أن نتيجة مقدمات الانسداد هو حكم العقل بحجية الظن، لا نستكشف من هذا الحكم العقلي حكماً شرعياً بحجية الظن.

وفي البداية قال المصنف: بعدم قيام الدليل على الحجية الشرعية، ولكنه بعد ذلك قال: بعدم إمكان الحجية الشرعية - كما سيتضح - .

[4] أي: بعد حكم العقل بحجية الظن لا نستكشف حكماً للشرع بالحجية أيضاً.

[5] هذا دليل عدم الاستكشاف، وحاصله: إنه لا ملزم للشارع لجعل الحجية للظن بعد حكم العقل، فلعلّ الشارع اكتفى بحكم العقل بالحجية. كما أن الموالي العرفية قد يكتفون بحكم العقل، ولا يصدرون أمراً مولوياً، «أنه» أن الشأن «معها» أي: مع مقدمات الانسداد.

ص: 36

طريقاً، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال[1].

ولا مجال[2] لاستكشاف نصب الشارع[3] من حكم العقل لقاعدة الملازمة، ضرورة[4] أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي[5]، والمورد هاهنا غير قابل له[6]، فإن الإطاعة الظنية[7] التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي

--------------------------------------

[1] «لجواز» إمكان، «اجتزائه» اكتفاء الشارع، «هذا الحال» حال الانسداد.

[2] إشارة إلى دليل الكشف وجوابه.

أما الدليل، فهو إن قاعدة الملازمة - وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع - تدل على الكشف؛ لأنه مع تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل بحجية الظن، وحيث حكم العقل فإن الشرع يحكم بحجيته أيضاً.

[3] أي: نصب الشارع الظن طريقاً، و«من حكم...» متعلق ب- (استكشاف).

[4] هذا الجواب عن الاستدلال بالملازمة، وحاصله: إن قاعدة الملازمة إنما هي في ما لو أمكن الحكم الشرعي، وأما مع استحالة حكم الشرع فلا تجري القاعدة، «أنها» قاعدة الملازمة.

[5] كأحكام العقل في غير طرق الطاعة والمعصية، مثلاً: يحكم العقل بحسن العدل، ومن حكمه نستكشف حكم الشارع بلزوم العدل، وكذا يحكم العقل بقبح الظلم، فنستكشف حكم الشرع بحرمة الظلم - مع قطع النظر عن الأدلة في الكتاب والسنة - .

[6] «المورد» حجية الظن، «هاهنا» في باب الانسداد، «له» لحكم الشرع.

[7] بيان لوجه استحالة حكم الشرع هنا، وحاصله: إن إطاعة المولى بالعمل بالظن تنحل إلى أمرين:

الأول: قبح المؤاخذة والعقاب على ترك العمل بالقطع، فإنها مؤاخذة على غير المقدور، حيث إن الفرض هو انسداد باب العلم، فكيف يُعاقب المولى على أمر غير مقدور؟!

ص: 37

--------------------------------------

الثاني: عدم جواز اكتفاء المكلّف بالشك والوهم، بحيث إنه لو ترك المكلف الظن وعمل بها ثم كان الظن مطابقاً للواقع استحق العقاب، وإن كان الظن مخالفاً للواقع كان متجرياً.

أما الأول: - وهي المؤاخذة - فهي من فعل المولى، ولا ارتباط لها بالعبد، فلا تكون مورداً للتكليف؛ لأن الشارع يكلّف غيره، ولا معنى لأن يكلّف نفسه.

وأما الثاني: فإن غرض المولى من الأمر هو أحد شيئين، وهما مفقودان في المقام، فلو أمر المولى بالإطاعة الظنية كان أمراً بلا غرض وهو محال، وهما:

1- البعث، بأن يكون الغرض هو انبعاث العبد نحو التكليف، وهذا البعث حاصل بحكم العقل، فيكون أمر المولى بغرض البعث تحصيلاً للحاصل.

2- العقاب على المخالفة، والثواب على الموافقة، وهذا أيضاً حاصل من نفس التكليف بالأشياء، فلا يحصل بالأمر بالإطاعة الظنية.

مثلاً: لازم الأمر بإقامة الصلاة هو العقاب على تركها، ففي باب الانسداد لو ظننا بوجوب الصلاة، فإن مخالفة أمر الصلاة يوجب استحقاق العقاب بحكم العقل، وعدم العمل بالظن لا يوجب نفس العقاب؛ لأنه تحصيل الحاصل، كما لا يوجب عقاباً آخر لبداهة عدم وجود عقابين في مخالفة أحكام الشارع. فالإطاعة الظنية - وهي من طرق الطاعة - تكون نظير نفس أوامر الطاعة، كقوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) الآية، فإنه مع دلالة قوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(2) على وجوب الصلاة وعلى استحقاق العقاب على ترك الصلاة، فإن مخالفة (أطيعوا) لا يوجب عقاباً آخر لو ترك الصلاة.

ص: 38


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سورة البقرة: الآية 43.

بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها[1]، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها[2]. ومؤاخذة[3] الشارع غير قابلة لحكمه، وهو واضح.

واقتصار[4] المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً[5]، أو في ما أصاب الظن[6] - كما أنها بنفسها[7] موجبة للثواب، أخطأ أو أصاب، من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها[8] -

--------------------------------------

فتلخص: أن (الإطاعة الظنية) في باب الانسداد يستحيل أن يتعلق بها تكليف شرعي؛ إذ يستلزم تكليف الشارع بها أمراً بلا غرض، وهو محال.

[1] هذا هو الأمر الأول، «أزيد منها» أي: من الإطاعة الظنية - وهو العمل بالقطع - .

[2] هذا هو الأمر الثاني، «بدونها» بأقل من الإطاعة الظنية وذلك بالعمل بالشك والوهم.

[3] إشارة إلى عدم إمكان حكم للشارع في المؤاخذة، «غير قابلة لحكمه» لأن التكليف إنّما هو للناس، فلا معنى لأن يكون التكليف على الشارع. نعم، الشارع لا يعمل القبيح، لكن هذا ليس تكليفاً.

[4] إشارة إلى عدم إمكان التكليف بترك الوهم والشك.

[5] أي: موجباً لحكم العقل باستحقاق العقاب، «مطلقاً» أصاب الظن أو أخطأ، أما في صورة الإصابة فإن المكلف يستحق العقاب؛ لأنه خالف الواقع بلا عذر، وأما في صورة الخطأ فلأنه تجرّى.

[6] على القول بعدم حرمة التجري.

[7] أن الإطاعة الظنية توجب الثواب، ففي صورة الإصابة ثواب على امتثال التكليف، وفي صورة الخطأ على الانقياد.

[8] لأنه حينما يخالف التكاليف المظنونة - كالأمر بالصلاة - فإنه يستحق العقاب

ص: 39

كان[1] حكم الشارع فيه مولوياً بلا ملاك[2] يوجبه، كما لا يخفى، ولا بأس به[3] إرشادياً، كما هو شأنه[4] في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

وصحة نصبه الطريق[5] وجعله في كل حال[6] بملاك يوجب نصبه، وحكمة داعية إليه، لا تنافي[7] استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحوٍ[8] حال الانسداد، كما

--------------------------------------

على مخالفته لأمر الصلاة، فالتكليف بوجوب الإطاعة الظنية لا يوجب استحقاق العقاب الأول؛ لأنه تحصيل للحاصل، ولا عقاب آخر لبداهة عدم عقابين - كما بيناه - . «أمر بها» «مخالفتها» الضميران يرجعان للإطاعة الظنية.

[1] جزاء قوله: (لما كان...)، «فيه» في عدم جواز الاكتفاء بالشك والوهم.

[2] لأن الملاك إما انبعاث المكلف، أو استحقاقه للعقاب، وكلاهما حاصل بحكم العقل.

[3] بحكم الشارع.

[4] لأن الإطاعة الظنية هي من طرق الطاعات، وهي مثل نفس الأمر بالطاعة، «هو» الإرشاد، «شأنه» شأن الشارع، «حكمه» حكم الشارع.

إشكال وجواب

[5] بيان لإشكال، حاصله: إن أوامر الطاعة وطرقها إن كانت عقلية، فكيف جعل الشارع طرقاً لأحكامه لا يدركها العقل؟ مثل: الشهرة الفتوائية - إن قيل بها -؟ «نصبه» نصب الشارع.

[6] حاصل الانفتاح والانسداد، «نصبه» نصب الطريق، «إليه» إلى النصب.

[7] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن كلامنا هو أن العقل لو حكم بطريق فإنه يستحيل حكم الشارع مولوياً بذلك الطريق، وهذا لا ينافي جعل الشارع لطريق في ما لا يدركه العقل.

[8] وهو الإطاعة الظنية.

ص: 40

يحكم بلزومها بنحوٍ آخر[1] حال الانفتاح، من دون[2] استكشاف حكم الشارع بلزومها مولوياً، لما عرفت.

فانقدح بذلك[3] عدم صحة تقرير المقدمات إلاّ على نحو الحكومة، دون الكشف؛ وعليها[4] فلا إهمال في النتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبة[5]، لعدم

--------------------------------------

[1] وهو الإطاعة القطعية بأن يكون الدليل هو ما ينتهي إلى القطع.

[2] أي: حين حكم العقل واستقلاله بالطاعة، لا حكم مولوي للشارع، «بلزومها» بلزوم الطاعة.

هذا المعنى في الجواب والإشكال هو الأقرب إلى العبارة، قد شرحها بعض الشراح بطريقة أخرى.

[3] أي: عدم إمكان حكم الشارع.

الإهمال أو التعيين

[4] أي: بناءً على الحكومة لا يوجد إهمال في نتيجة مقدمات الانسداد؛ وذلك لأن العقل لا يحكم إلاّ إذا قطع، فإذا شك في شيء أو لم يكن يعرف مقدماته وشروطه ونحو ذلك فلا يحكم أصلاً. أما الشارع فإنه يمكن أن يهمل أمراً في دليل ثم يُبيّنه بدليل آخر، أو يجمل كذلك.

ثم إن معنى الإهمال: هو عدم بيان أنه كلي أو جزئي، فتكون نتيجة المقدمات هي حجية الظن مجملاً، فنحتاج إلى دليل آخر لبيانه.

وأما التعيين فمعناه: بيان حجية الظن بنحو كلي - أي: كل ظن - أو تعيين حجية بعض الظنون بشكل معلوم.

ثم لا يخفى أن أكثر ما ذكره المصنف هنا لم يذكر له دليلاً، ولعلّه أوكَلَهُ إلى الوجدان.

الظن على الحكومة

اشارة

[5] «السبب» هو ما أوجب الظن كخبر الواحد مثلاً، و«المورد» هو موضوع

ص: 41

تطرق الإهمال والإجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.

أما بحسب الأسباب: فلا تفاوت بنظره فيها[1].

وأما بحسب الموارد: فيمكن أن يقال[2] بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية إلاّ في ما[3] ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتياط في ما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم[4] من الاحتياط فيها العسر.

--------------------------------------

الظن، كالأموال والعبادات والدماء ونحوها، و«المرتبة» هي درجة الظن، كالظن الضعيف والاطمئنان ونحوهما.

1- سبب الظن

[1] لا تفاوت في الأسباب؛ وذلك لأن الملاك هو الأقربية إلى الواقع، والظن أقرب إلى الواقع من الشك والوهم؛ ولذا كان حجة، ولا فرق في الأقربية بين أسباب الظن.

2- موارد الظن

[2] حاصله: إن رفع اليد عن الاحتياط، والعمل بالظن كان بسبب العسر، فلذا حكم العقل بحجية الظن، وفي الأمور المهمة - كالدماء والفروج وحقوق الناس - يحكم العقل بحسن الاحتياط، وعدم التنزل فيها إلى الظن، «بعدم استقلاله» أي: العقل.

[3] «في ما» في مورد، «فيه» في ذلك المورد، «بفعل» الباء تتعلق بالاهتمام.

[4] هذا قيد لقوله: (سائر حقوق الناس)، أما في الدماء والفروج فإن الاحتياط فيها لا يلزم منه عسر أصلاً. وإنّما قال: (سائر) لأن الدماء والفروج ترتبط بحقوق الناس أيضاً.

ص: 42

وأما بحسب المرتبة[1]: فكذلك لا يستقل إلاّ بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف إلاّ على تقدير عدم كفايتها[2] في دفع محذور العسر.

وأما على تقرير الكشف[3]: فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه[4]،

--------------------------------------

3- مرتبة الظن

[1] حاصله: إن الظن إن كان بثبوت التكليف فيلزم العمل به بأية مرتبة كان؛ لأنه مطابق للاحتياط، فلا فرق إذن بين العمل بالظن أو العمل بالاحتياط.

أما لو تعلق الظن بعدم التكليف فلا يحكم العقل بعدم الاحتياط إلاّ إذا كان الظن قوياً واصلاً إلى مرتبة الاطمئنان، وأما الظن الضعيف فلا يحكم العقل بحجيته، بل يلزم الاحتياط إن لم يستلزم الاحتياط العسر، وإلاّ نتنزّل في درجة الظن إلى حين زوال العسر.

[2] كفاية مرتبة الاطمئنان؛ وذلك بسبب قلة الظنون الاطمئنانية.

الظن على الكشف

اشارة

[3] صور الكشف ثلاثة:

الأولى: الظن بالطريق، كالخبر الواحد.

الثانية: الظن بطريق الطريق، من دون ظن بنفس الطريق، كالظن بحجية الخبر الواحد الدال على حجية القرعة، فإنه لا ظن بالقرعة، ولكن الظن بطريقها - أي: الخبر - .

الثالثة: العلم الإجمالي بحجية طريق، لكنه غير معلوم تفصيلاً، مما يلزم منه لزوم الاحتياط في كل الطرق.

1- الظن بالطريق الواصل بنفسه

[4] أي: الظن بطريق خاص معين، وهذا الظن تعلق مباشرة بنفس الطريق:

ص: 43

فلا إهمال فيها[1] أيضاً بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذٍ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن[2]، وإلاّ[3] فلا مجال لاستكشاف حجية غيره؛ ولا بحسب الموارد[4]، بل يحكم بحجيته في جميعها[5]، وإلا[6] لزم عدم وصول الحجة[7]، ولو

--------------------------------------

1- ففي الأسباب: لا إهمال، بل الظن في جميعها حجة، حيث ذكرنا أن الملاك هو الأقربية للواقع، وهذا الملاك موجود في الظنون من أي سبب كانت.

2- وفي الموارد أيضاً الظن حجة في جميعها.

3- وفي المرتبة، فإن الحجّيّة مهملة غير معينة، ونحتاج إلى دليل آخر لإثباتها.

[1] «فيها» في النتيجة، «حينئذٍ» حين الكشف، «الكل» كل الأسباب.

[2] المتيقن بالنسبة إلى الباقي، فالمقصود هو التيقن على فرض حجية الظن، لا التيقن مطلقاً؛ إذ الكلام إنما هو في حال الانسداد الذي لا يوجد علم أو علمي، كما سيبين المصنف هذا في قوله: (دفع وهم).

[3] أي: لو كان هناك متيقن الحجية فلابد من الأخذ به وترك غيره، كما لو فرض وجود خبر الثقة العادل وكفايته.

[4] أي: لا إهمال بحسب الموارد، بل النتيجة هو التعيين بنحو الكليّة؛ وذلك لأن الفرض حجية الطريق الواصل بنفسه - أي: الطريق المعيّن - ولا يكون التعيين إلاّ عبر القول بحجيتها جميعاً؛ لأنه لو قيل بحجية بعضها - غير المعين - كان خلاف الفرض!!

[5] بحجية الظن في جميع الموارد.

[6] أي: لو لم نقل بحجية الظن في جميع الموارد.

[7] وهذا خلاف الفرض؛ لأن الفرض هو حجية الطريق الواصل بنفسه، «ولو» أي: سبب عدم الوصول هو التردد فيدخل في القسم الثالث وهو (حجية الطريق ولو لم يصل أصلاً) أي: وصل إجمالاً بدون تعيين، «مواردها» موارد الطرق.

ص: 44

لأجل التردد في مواردها، كما لا يخفى[1].

ودعوى الإجماع على التعميم بحسبها[2] في مثل هذه المسألة المستحدثة، مجازفة جداً.

وأما بحسب المرتبة: ففيها[3] إهمال، لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافياً[4]، فلابد من الاقتصار عليه[5].

--------------------------------------

[1] وفي كلام المصنف تأمل؛ لأنه لو عينت الموارد بغير الدماء والفروج وحقوق الناس فلا يكون خلافاً للفرض؛ إذ في غيرها يكون الطريق معيناً - واصلاً بنفسه - بلا تردد.

[2] ادّعى الشيخ الأعظم الإجماع(1)

على حجية الظن في كل الموارد، فهو يتفق مع المصنف في التعميم بحسب المورد، لكن المصنف استدل بالخُلف، والشيخ استدل بالإجماع، ويستشكل المصنف، بأن مسألة الانسداد والقول بالكشف فيه مسألة مستحدثة، فلا معنى لادعاء الإجماع فيها، «بحسبها» بحسب الموارد.

[3] أي: في النتيجة إهمال؛ وذلك لاحتمال حجّية خصوص الظن الاطمئناني، فلا نستكشف حكم الشارع بحجية غيره.

إن قلت: ما الفرق بين السبب - حيث كانت النتيجة عامة - وبين المرتبة؟

قلت: الملاك في الحجية هو الأقربية للواقع، وهذا الملاك يوجد في جميع الأسباب، فإنه لا فرق في الأقربية بين سبب وآخر، وأما في المرتبة فالأمر بالعكس، حيث إن الاطمئناني أقرب إلى الواقع من غيره، «منه» من الظن.

[4] أما إذا لم يكن وافياً فلابد من إضافة غير الاطمئناني، ولكن تُراعى الأقوائية في الظنون، أي: نتنزل من الاطمئنان إلى سائر الظنون لكن درجة فدرجة.

[5] لأنه القدر المتيقن، «عليه» على الاطمئناني.

ص: 45


1- فرائد الأصول 1: 467.

ولو قيل ب: «أن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه[1]»، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب لو لم يكن فيها[2] تفاوت أصلاً، أو لم يكن بينها إلاّ واحد[3]، وإلاّ[4] فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه[5]، بإجراء

--------------------------------------

2- الظن بالطريق الواصل بطريقه

[1] أي: كما يكون الطريق الواصل بنفسه حجة، كذلك الطريق الواصل بطريقه، وهو أن نظن بطريقيته بواسطة قيام طريق عليه.

مثلاً: نظن بطريقية الخبر الواحد، وبإجراء دليل الانسداد نقول بحجية الخبر، ثم قام الخبر الواحد على حجية القرعة، فهنا الحجة طريق وهو القرعة، ولكن بواسطة طريق آخر وهو الخبر، وهنا نبحث أيضاً في الظن في الأسباب والموارد والمرتبة.

أما بحسب الأسباب فالفروض ثلاثة:

1- تعدد السبب مع التساوي بين الأسباب، فتكون النتيجة تعيين تلك الأسباب؛ لأن تعيين بعضها ترجيح بلا مرجح.

2- وحدة السبب، بأن نظن بطريقية شي واحد، فتكون النتيجة تعيينه، والاّ لم يكن طريق واصل - وهذا خلف - .

3- تعدد السبب مع أقوائية بعضها - بأن تكون القدر المتيقن - فلابد من الأخذ بالمتيقن فقط.

وأما بحسب المورد والمرتبة فالحكم كالصورة السابقة - وهي الطريق الواصل بنفسه - .

[2] هذا الفرض الأول من فروض الأسباب، «فيها» في الأسباب.

[3] هذا الفرض الثاني، «بينها» بين الأسباب.

[4] أي: إن لم يكن الفرضان، بل كانت الأسباب متعددة وكان بينها تفاوت.

[5] المظنون مقابل ما لو كانت طرق أخرى مشكوكة أو موهومة.

ص: 46

مقدمات دليل الانسداد حينئذٍ[1] مرة أو مرات[2]

--------------------------------------

[1] أي: حين تعدد الأسباب وتفاوتها.

[2] المرة الأولى: حينما تكون طرق، بعضها مظنون وبعضها مشكوك وبعضها موهوم، هنا نجري دليل الانسداد لإثبات حجية الظن.

المرة الثانية: حينما نجد تفاوت الأسباب الموجبة للظن، هنا نجري دليل الانسداد لإثبات حجية المتيقن منها.

المرة الثالثة: لو لم يكف المتيقّن بالأحكام فلابد من إجراء مقدمات الانسداد مرة أخرى، لإثبات حجية غيره وهكذا، هذا ما ظهر لنا في معنى العبارة.

وفي حقائق الأصول: (وإن كانت(1)

متفاوتة بالظن بالاعتبار، بأن كان بعضها مظنون الاعتبار، دون ما سواه، جرى دليل الانسداد في تعيين الحجة على الاعتبار، فيقال: الظن بالواقع: منه مظنون الاعتبار، ومنه مشكوك الاعتبار، ومنه موهوم الاعتبار. ثم يقال: الظن باعتبار بعض الظنون المتعلقة بالواقع إما أن يكون واحداً فهو الحجة على الاعتبار، أو متعدداً - وكلها متساوية في تيقن الاعتبار أو بالظن به كما تقدم - فكلها حجة، أو بعضها متيقن الاعتبار دون غيره فهو الحجة دون غيره. وإن كان متعدداً متفاوتاً في الظن بالاعتبار فلابد من إجراء الدليل ثالثاً لتعيين الحجة على اعتبار الظن بالاعتبار، فيقال كما ذكر... الخ)(2)،

انتهى.

والحاصل: إنه لو أجرينا مقدمات الانسداد مرّة واحدة، ووصلنا إلى المقدار الوافي بالأحكام، سواء كان سبباً واحداً أم أسباب متعددة متساوية، فهو المطلوب، وإلاّ فلابد من إجراء مقدمات الانسداد مرات أخرى للوصول إلى القدر الوافي، فتأمل.

ص: 47


1- يعني: الأسباب.
2- حقائق الأصول 2: 193.

في تعيين الطريق المنصوب حتى ينتهي إلى ظن واحد، أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار فيقتصر عليه. وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه[1]، فتدبر جيداً.

ولو قيل ب: «أن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلاً[2]»، فالإهمال فيها يكون من الجهات[3]. ولا محيص حينئذٍ إلاّ من الاحتياط في الطريق[4] بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، لو لم يلزم منه محذور[5]، وإلاّ[6]

--------------------------------------

[1] ففي الموارد يكون الظن حجة في جميعها لكي لا يلزم الخلف، وفي المرتبة الاطمئناني - إن وفى - يكون الحجة لا غير.

3- الظن بطريقٍ ما - إجمالاً -

[2] بمعنى أنا نعلم بنصب الشارع لطريق، لكن هذا الطريق غير معلوم لنا تفصيلاً، بل هو ضمن محتملات الطريقيّة.

[3] الجهات الثلاث - السبب، المورد، المرتبة - وذلك لعدم علمنا التفصيلي بالطريق، وحيث إن الطرق المحتملة تختلف في الجهات الثلاث فلا نعلم بكيفيتها، للجهل بالطريق المنصوب.

[4] شأن كل علم إجمالي، لابد من الاحتياط في كل المحتملات للوصول إلى التكليف.

[5] أي: من الاحتياط محذور، كالعسر والحرج مثلاً.

[6] أي: ولو لزم من الاحتياط محذور.

ولا يخفى أن المحذور لو كان العسر والحرج فمبنى المصنف هو لزوم الاحتياط؛ لأن العسر لم ينشأ من حكم الشارع وإنّما من حكم العقل بالاحتياط، كما مرّ في

ص: 48

لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال[1]، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم ودفع: لعلك تقول[2]: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه[3] من مقدماته انسداد باب العلمي أيضاً.

لكنك غفلت[4]

--------------------------------------

مقدمات الانسداد، حيث قال في رد المقدمة الرابعة: «وأما في ما لا يوجب فمحل نظر، بل منع؛ لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج... الخ».

[1] أي: رفع اليد عن الكشف في هذه الصورة الثالثة، والرجوع إلى مبنى الحكومة؛ وذلك لأن الكشف أوجب المحذور، فلا يعقل حكم الشارع مع وجود المحذور العقلي.

وهم ودفع

[2] حاصل الوهم أن المصنف قال في الطريق الواصل بطريقه: (وإلاّ فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها)، وقال: (أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار)، وقال في الطريق ولو لم يصل: (لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار).

والإشكال هو مع وجود المتيقن لا تصل النوبة إلى الانسداد في ذلك المورد.

[3] أن الشأن، من مقدمات دليل الانسداد... الخ.

[4] دفع الوهم، وحاصله: إن هذا اليقين تقديري، أي: على تقدير الانسداد فإنا نتيقن بحجية طريق ما.

بيانه: إن لنا في حال الانسداد يقينين:

الأول: اليقين بنصب الطريق، بمعنى أن الشارع لم يترك المكلفين حيارى، بل نصب لهم طريقاً، ومنشأ هذا اليقين هو دليل الانسداد.

الثاني: اليقين بالملازمة بين نصب الطريق وبين كونه القدر المتيقن، ومنشأ هذا اليقين هو حكم العقل بالملازمة، كي لا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

ص: 49

عن أن المراد[1] ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله[2]، لأجل[3] اليقين بأنه لو كان شيء[4] حجة شرعاً كان هذا الشيء حجة قطعاً، بداهة[5] أن الدليل على أحد

--------------------------------------

ثم إن اليقين بالملازمة لا يثبت طريقاً؛ لأن القضية الشرطية قد تكون صادقة مع عدم تحقق طرفيها، كقوله تعالى: {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ}(1) فهذه الجملة الشرطية - الدالة على الملازمة بين تعدد الآلهة والفساد - جملة صادقة، مع عدم تحقق خارجي لطرفيها.

والحاصل: إن اليقين الثاني - وإن كان بدليل العقل - لكنه لا يثبت شيئاً، إلاّ إذا ضُمّ إليه اليقين الأول - وهو ناشئ من الانسداد - .

وبعبارة أخرى - كما قيل - : الانسداد هو علة اليقين، فلا يعقل تنافي المعلول مع علته.

[1] من قولنا: (متيقن الاعتبار).

[2] من قِبَل الانسداد، أي: من طرفه، بأن كان منشأ اليقين هو الانسداد، وهذا هو اليقين الأول.

[3] هذا اليقين الثاني - بالملازمة - لأنه لو لا اليقين بالملازمة لم يحصل يقين باعتبار طريق معين، «بأنه» بأن الشأن.

[4] أي: شيء معيّن، «حجة شرعاً»، لوجود مرجح أوجب اليقين بحجيته.

[5] حاصله: إن الملازمة لوحدها لا تثبت الوقوع الخارجي للمتلازمين، لما بينا من أن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على تحقق طرفيها، فلابد من إثبات تحقق أحد المتلازمين خارجاً لكي يثبت المتلازم الثاني.

مثلاً: صدق قولنا: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) لا يثبت تحقق النهار خارجاً، إلاّ إذا علمنا بطلوع الشمس خارجاً أيضاً.

ص: 50


1- سورة الأنبياء: الآية 22.

المتلازمين[1] إنما هو الدليل على الآخر، لا[2] الدليل على الملازمة[3].

ثم لا يخفى[4]:

--------------------------------------

[1] أي: الدليل على الوجود الخارجي لأحدهما، وكذا اللازم والملزوم، ومثال المتلازمين: نور الشمس وحرارته، فإنهما متلازمان لأن علتهما واحدة، ومثال اللازم والملزوم: الشمس وحرارتها، فإن الشمس علة لذا كانت ملزوماً، والحرارة معلول فكانت لازماً.

[2] عطف على قوله: (الدليل على أحد المتلازمين)، والمعنى أن الدليل على أصل الملازمة بمجرده لا يكون دليلاً على وجود المتلازم الآخر.

[3] بمجردها، فإن الملازمة هي قضية شرطية قد تكون صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها.

تعميم النتيجة على الكشف

اشارة

[4] لو قلنا بالكشف، ففي موارد الإهمال، بحيث كانت نتيجة الانسداد هي حجية الظن في الجملة، فإنه يلزم تعيين النتيجة - عموماً أو خصوصاً - بدليل آخر؛ لأنه مع عدم التعيين لا يُعلم الظن الذي هو الحجة من الظن غير الحجة، فيلغو دليل الانسداد من أصله، حيث إن الغرض من دليل الانسداد هو العمل بالظن للوصول إلى الأحكام الشرعية، وحينئذٍ فلابد من البحث عن الأدلة الأخرى للتعيين.

وقد ذكروا ثلاثة طرق لتعميم النتيجة، بحيث تكون كل الظنون حجة:

الطريق الأول: عدم الترجيح بين الظنون، وهذا ينتج حجيتها كلها؛ لأن حجية بعضها دون بعض ترجح بلا مرجح، والفرض تساويها وعدم المرجح بينها.

والمرجحات المذكورة ثلاثة:

1- القدر المتيقن، وقد مرّ أن المصنف قد ارتضى هذا المرجح.

2- كون بعض الظنون مظنون الحجّية.

ص: 51

أن الظن[1] باعتبار ظن بالخصوص[2]، يوجب اليقين باعتباره[3] من باب دليل

--------------------------------------

3- أقوائية بعض الظنون.

الطريق الثاني: عدم كفاية الظنون المظنونة الاعتبار.

الطريق الثالث: الاحتياط بالعمل بالعلم الإجمالي.

الطريق الأول

[1] بيان للمرجح الثاني من الطريق الأول، وحاصله: إنه لا تلازم بين الظن بشيء وبين الظن بحجيته. فقد يكون ظن بشيء مع القطع بعدم حجيته، كما لو ظن بالحكم الشرعي عن طريق القياس، فإنه ظان بالحكم، وعالم بعدم حجية هذا الظن. وقد يكون ظن بشيء مع العلم بحجيته، كما لو قامت البينة الشرعية وأورثت الظن بصدقها، فإن البينة حجة قطعاً، وهكذا.

وهنا في باب الانسداد: قد يظن بالحكم عن طريق الخبر الواحد، مع الظن بأن الخبر الواحد حجة، وقد يظن بالحكم عن طريق الشهرة الفتوائية - مثلاً - مع عدم الظن بحجيتها، بل الشك في الحجية أو الظن بعدم الحجية.

[2] أي: ظن معيّن كخبر الثقة العادل.

ثم إن الظن باعتبار ظن هل هو مرجح أم لا؟ فيه أقوال ثلاثة:

الأول: إنه مرجح مطلقاً، اختاره المحقق القمي والمحقق النراقي(1).

الثاني: إنه ليس بمرجح مطلقاً، اختاره الشيخ الأعظم(2).

الثالث: التفصيل بين كون النتيجة الظن الواصل بنفسه فهو مرجح، وبين الظن الواصل بطريقه أو الظن غير الواصل فليس بمرجح، اختاره المصنف.

[3] أي: بحجيته، فيكون هذا الظن منجزاً ومعذراً، فلا يعاقب من عمل به

ص: 52


1- عوائد الأيام: 397.
2- فرائد الأصول 1: 479.

الانسداد على تقرير الكشف، بناءً على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه حينئذٍ[1] يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أو لا.

واحتمال[2] عدم حجيته بالخصوص[3] لا ينافي[4] القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة[5] أنه على الفرض[6] لا يحتمل أن يكون غيره حجة[7] بلا نصب قرينة[8]؛

--------------------------------------

- حتى وإن أخطأ الواقع - وذلك لأن مظنون الاعتبار حجة على كل حال، فسواء قلنا بحجية كل الظنون فإن هذا أحدها فيكون حجة، أم قلنا بحجية من له مرجح فهذا له مرجح وهو الظن باعتباره.

[1] «فإنه» فإن الظن المظنون الاعتبار، «حينئذٍ» حين كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه، «بكونه» بكون الظن المظنون الاعتبار.

[2] إشكال، حاصله: إن الظن المظنون الاعتبار لم يكن حجة في نفسه، لكنه صار حجة بدليل الانسداد، ودليل الانسداد جارٍ في كل الظنون - سواء ظن بحجيتها أم لا - فلابد من حجيتها جميعاً!!

[3] عدم حجية الظن المظنون الاعتبار، «بالخصوص» أي: على التعيين؛ لأنه لو لا الانسداد لم يكن حجة؛ لعدم قيام دليل على الحجية.

[4] جواب الإشكال، وحاصله: إن الظن المظنون الاعتبار له مرجح - أوجب القطع بحجيته - وهذا المرجح لا يوجد في سائر الظنون.

[5] تعليل لعدم المنافاة، وحاصله: هو أن هذا المرجح يوجب حجية هذا الظن مطلقاً - سواء كانت النتيجة حجية كل الظنون أم بعضها - أما غير هذا الظن فلا يُعلم جعل الحجية له، فلابد من دليل آخر - مفقود غالباً - .

[6] «أنه» أن الشأن، «الفرض» أي: كون النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه.

[7] لأن حجية غيره وعدم حجيته ترجيح للمرجوح على الراجح.

[8] أي: دليل آخر يجعل الحجية في ذلك الغير.

ص: 53

ولكنه[1] من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار.

وبالجملة: الأمر يدور بين حجية الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا[2] ظهر حال القوة[3].

ولعل نظر من رجح بهما[4] إلى هذا الفرض[5]، وكان منع شيخنا العلامة(1) «أعلى الله مقامه» عن الترجيح بهما بناءً على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه[6] أو الطريق ولو لم يصل أصلاً[7].

--------------------------------------

[1] لكن الشأن، إمكان جعل الحجية لهذا الظن المظنون الاعتبار لوجود مرجح فيه دون غيره؛ لعدم وجود ذلك المرجح فيه.

[2] إشارة إلى المرجح الثالث في الطريق الأول.

[3] أي: قوة الظن، فإن الظن الأقوى - كالاطمئناني - له مرجح دون غيره من الظنون.

[4] أي: بالظن بالاعتبار وبالأقوائية. وفي بعض النسخ (بها) أي: بالمرجحات الثلاثة - بإضافة القدر المتيقن - .

وهنا يريد المصنف جعل النزاع في الأخذ بهذه المرجحات نزاعاً لفظياً، فالمحقق القمي والمحقق النراقي حيث أخذا بالمرجحات كان أخذهم باعتبار الطريق الواصل بنفسه، والشيخ الأعظم حيث منع الأخذ بالمرجحات كان منعه باعتبار الواصل بطريقه أو غير الواصل.

[5] كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه.

[6] والمنع فيه لأجل عدم الظن بنفس الطريق فلا يكون حجة!! فتأمل.

[7] والمنع فيه لأجل الخلف؛ إذ لو أخذنا بالمرجحات كان الطريق واصلاً، وهو خلاف الفرض، حيث إنه في الطريق غير الواصل.

ص: 54


1- فرائد الأصول 1: 479 - 486.

وبذلك[1] ربما يوفق بين كلمات الأعلام في المقام[2]، وعليك بالتأمل التام.

ثم لا يذهب عليك[3]: أن الترجيح بهما[4] إنما هو على تقدير كفاية الراجح، وإلاّ فلابد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلاف الأنظار، بل الأحوال[5].

وأما تعميم النتيجة[6]

--------------------------------------

[1] بإرجاع كلام الآخذين بالمرجحات إلى فرض الطريق الواصل بنفسه، وإرجاع كلام المانعين إلى فرض الواصل بطريقه أو غير الواصل.

[2] وهذا الجمع وإن كان لا بأس به - على تأمل في الطريق الواصل بطريقه - لكنه خلاف ظاهر عباراتهم - كما قيل - .

الطريق الثاني

[3] شروع في بيان الطريق الثاني لتعميم النتيجة. وهو أنه لو لم يكف الراجح - وهو المتيقن أو المظنون الحجية أو الأقوى - فلابد من التنزل إلى سائر الظنون، فإن كانت متساوية فتكون كلها حجة.

[4] بمظنون الاعتبار وبالأقوائية، وفي بعض النسخ (بها) فيرجع الضمير إليهما وإلى القدر المتيقن، «الراجح» أي: الظن الذي له مرجِّح.

[5] «الأنظار» فقد يرى أحد الفقهاء كفاية الظنون الراجحة بالأحكام الشرعية، وقد يرى أحدهم عدم كفايتها - مثلاً - . «الأحوال» فقد يحصل لأحدهم الاطمئنان من طريق يفي بالأحكام، وقد لا يحصل للآخر، وهكذا.

الطريق الثالث

[6] بطريق ثالث، وحاصله: إن مقتضى العلم الإجمالي بوجود طرق منصوبة من الشارع هو الاحتياط في كل الطرق المظنونة، شأن كل علم إجمالي، حيث يتم الاحتياط في كل الأطراف.

ص: 55

- بأن قضية العلم الإجمالي بالطريق[1] هو الاحتياط في أطرافه -: فهو[2] لا يكاد يتم إلاّ على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلاً؛ مع[3] أن التعميم بذلك[4] لا يوجب العمل إلاّ على وفق المثبتات من الأطراف[5]، دون النافيات، إلا[6]

--------------------------------------

[1] أي: بأن الشارع نصب طريقاً، لكنه غير معلوم لنا بالتفصيل، بل نعلم إجمالاً بوجوده بين الطرق المظنونة.

[2] إشكال على هذا الطريق:

أولاً: بأن الاحتياط إنّما يكون لو كان علم إجمالي، وهذا العلم إنّما هو في الصورة الثالثة فقط، وهي الطريق غير الواصل، أما في الصورة الأولى وهي الطريق الواصل بنفسه، وكذا الصورة الثانية وهي الطريق الواصل ولو بطريقه فلا مورد للعلم الإجمالي، كما مر.

[3] وثانياً هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: إن الطريق لو أثبت التكليف - كما لو دل على الوجوب أو الحرمة - فلا كلام.

ولكن لو دل الطريق على نفي التكليف، فإنه ليس من الاحتياط العمل بهذا الطريق، بل لابد من العمل بالاحتياط في المسألة الفقهية الفرعية - بإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة - فإن الاحتياط هو في ترك العمل بالطريق، لا بالعمل به.

مثلاً: لو دل الطريق على استحباب السورة، فإن الاحتياط هو الإتيان بها - لأن أمرها دائر بين الوجوب والاستحباب - وليس الاحتياط هو العمل بالطريق وترك السورة!!

[4] أي: بالاحتياط الناشئ من العلم الإجمالي.

[5] أي: الطرق التي هي أطراف العلم الإجمالي.

[6] هذا استثناء من الاحتياط في المسألة الفرعية، فلا يلزم الاحتياط فيها إذا كانت كل الطرق تنفيه، فإنا نعلم حينئذٍ بأن الطريق المنصوب ينفيه - لأنه أحد تلك الطرق النافية كلها - .

ص: 56

في ما إذا كان هناك نافٍ من جميع الأصناف، ضرورة[1] أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم[2]، حيث لا ينافيه[3]، كيف[4]؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية كما لا يخفى، فما ظنك بما[5] لا يجب الأخذ بموجبه إلاّ من باب الاحتياط، فافهم[6].

فصل: قد اشتهر الإشكال[7]

--------------------------------------

[1] دليل عدم جواز الاحتياط في الطريق، «فيها» في الأطراف النافية.

[2] أي: إذا لزم ذلك الاحتياط، بأن احتمل وجود التكليف الإلزامي في المسألة الفرعية.

[3] أي: لأن الدليل النافي للتكليف لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية، حتى في صورة عدم الانسداد وثبوت طريقية دليل - بعلم أو علمي - فإنه يجوز الاحتياط في المسألة الفرعية، فما بالك بحال الانسداد؟

[4] أي: كيف ينافي الاحتياطُ في المسألة الفرعية الدليلَ النافي للتكليف؟ «فيها» في المسألة الفرعية، «الحجة» أي: الطريق الثابت طريقيته بعلم أو علمي.

[5] أي: بطريق ثبت بالانسداد وكان الأخذ به احتياطاً.

[6] لعله إشارة إلى أن القائلين بالتعميم بهذا الطريق الثالث صرحوا بأنه طريق في المثبتات دون النافيات، فلا وقع للإشكال الثاني.

فصل خروج القياس عن حجية الظن

اشارة

[7] حاصله: إنه لو كانت نتيجة الانسداد هي الكشف - أي: كشف حكم الشارع بحجية الظن - فلا مانع من أن يُخرج الشارع بعض الظنون - كالقياس - عن عموم الحجية. ولكن إن كانت النتيجة هي حكومة العقل فيشكل إخراج القياس:

ص: 57

بالقطع[1] بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

وتقريره[2] - على ما في الرسائل(1)

- : «أنه كيف يجامع[3] حكم العقل[4] بكون الظن كالعلم مناطاً للإطاعة والمعصية[5]، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي

--------------------------------------

أولاً: لأن العقل حكم بحجية الظن، وحكم العقل غير قابل للتخصيص.

وثانياً: مع احتمال التخصيص فإن العقل لا يحكم أصلاً؛ لأن حكمه ينحصر في ما لو قطع، فحينئذٍ مع تخصيص الحكم بإخراج القياس يحتمل العقل تخصيصاً آخر، فلا يحكم أصلاً.

فتحصل: أن القائل بالحكومة، إما أن يرفع اليد عنها ويرجع إلى الكشف، وإما أن يقول بحجية القياس في حال الانسداد، وكلا الأمرين لا يمكن الالتزام بهما!!

[1] أي: سبب الإشكال هو القطع بعدم حجية القياس مطلقاً، للأدلة المتواترة.

[2] تقرير الإشكال، وهو ينحل إلى إشكالين.

[3] هذا الإشكال الأول، أي: كيف نجمع بين حكم العقل... الخ، وبين منع الشارع عن العمل بالقياس.

[4] أي: نحن نعلم بأمور:

1- مناط الإطاعة والمعصية في حال الانسداد هو الظن.

2- ويقبح على الآمر التعدّي عن الظن؛ لأن طلب العلم طلب بما لا يطاق - للانسداد - وطلب العمل بغير الظن ترجيح للمرجوح على الراجح.

3- القياس يوجب الظن أو الاطمئنان كثيراً.

فالنتيجة هي قبح النهي عن القياس عقلاً!!

[5] أي: بكون الظن في حال الانسداد مناطاً، وهذا ثبت بدليل الانسداد، وهذا هو الأمر الأول.

ص: 58


1- فرائد الأصول 1: 516 - 517.

عنه[1]، ومع ذلك[2] يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ولا يجوِّز[3] الشارع العمل به[4]؟ فإن المنع[5] عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن[6] أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً جرى[7] في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلاً، إذ لعله

--------------------------------------

[1] وهذا هو الأمر الثاني: أما الآمر: فبأن يطلب العلم، فقبحه لأجل طلب ما لا يطاق، أو يتنزل إلى الوهم والشك، وهذا ترجيح المرجوح على الراجح. وأما المأمور: فبأن يعمل بالشك والوهم دون الظن.

[2] هذا الأمر الثالث: أي: إنّ القياس يوجب الظن، بل الاطمئنان غالباً، «ذلك» أي: مع كون الظن مناطاً للإطاعة والمعصية.

[3] أي: كيف يجامع حكم العقل مع عدم تجويز الشارع؟

[4] فتحصل: أن الإشكال الأول هو كيف يمنع الشارع من الظن القياسي مع أن حجية الظن ثابتة بدليل العقل؟ فإن أحكام العقل غير قابلة للتخصيص، وإلاّ يلزم التضاد بين الحكم العام وبين الخاص.

إن قلت: فكيف جاز التخصيص في الأدلة اللفظية؟

قلت: التضاد هناك صوري؛ لأن عموم العام إنما هو بالإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية. أما في حكم العقل فإن التضاد حقيقي؛ لأنه يحكم حكماً قاطعاً في كل المصاديق.

[5] هذا إشكال ثانٍ، وحاصله: إنه لو أمكن التخصيص في مورد فإن العقل لا يحكم في العام أصلاً؛ لأن إمكان التخصيص يعني عدم تمامية مقدمات حكم العقل، ومع عدم تماميتها لا حكم له.

[6] أي: منع الشرع عن الحكم الذي يقتضيه العقل، «من الظن» بيان ل- (ما يقتضيه العقل)، والمراد: حجية الظن.

[7] «جرى» خبر لقوله: (فإن المنع).

ص: 59

نهى عن أمارة، مثل ما نهى عن القياس. بل وأزيد، واختفى علينا[1]. ولا دافع لهذا الاحتمال[2] إلاّ قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلاّ بقبحه[3]؛ وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص[4]» انتهى موضع الحاجة من كلامه - زيد في علو مقامه - .

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال[5]

--------------------------------------

والفرق بين الإشكال الأول والثاني - وإن كانا في الجوهر واحداً - : هو أن الأول: في استحالة تخصيص حكم العقل، والثاني: في أنه لو خرج فرد فإن العقل لا يحكم أصلاً.

[1] فمع الجهل بالمخصِّصات لا يحكم العقل؛ لأنه لا يحكم على المجهول أصلاً.

[2] غرضه بيان أن العقل لا يحكم إلاّ مع القطع بعدم التخصيص ذاتاً - بأن يكون التخصيص محالاً ذاتياً - أو عدم التخصيص وقوعاً - بأن يكون قبيحاً - ومع قبح شيء لا يعقل ارتكابه من الشارع أصلاً، فلا معنى للتخصيص. «هذا الاحتمال» أي: احتمال النهي عن شيء مع اختفائه علينا.

[3] فما هو محال ذاتاً لا يصدر من الشارع؛ لعدم قابلية ذلك الشيء، وما هو ممكن ذاتاً - مع إمكان تحققه في الخارج - نعلم بعدم صدوره من الشارع لأنه قبيح، وما كان قبيحاً لا يعقل الاستثناء فيه.

[4] ولا بأس بتكميل كلام الشيخ الأعظم حيث قال: (إن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص، ومنشؤه لزوم التناقض، ولا يندفع إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع - وهو التخصّص - وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظية إنما هو لكون العموم صورياً، فلا يلزم إلاّ التناقض الصوري)(1)،

انتهى.

الجواب عن الإشكال الأول

[5] حاصل الجواب - بمعونة ما عن المصنف في حاشية الرسائل - هو: أن حكم

ص: 60


1- فرائد الأصول 1: 517.

بعد وضوح كون حكم العقل بذلك[1] معلقاً على[2] عدم نصب الشارع طريقاً واصلاً، وعدم حكمه به[3] في ما كان هناك منصوب[4] ولو كان أصلاً[5]، بداهة[6] أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي[7]،

--------------------------------------

العقل بوجوب الإطاعة الظنية إنما هو بغرض تحصيل الأمن من العقوبة، فيكون حكمه معلقاً على عدم حكم الشارع في نصب طريق أو نهي عن طريق. فلو نصب الشارع طريقاً - ولو لم يوجب الظن في حال الانسداد - فلابد من متابعة ذلك الطريق؛ لأن فيه الأمن، ولا يحكم العقل باتباع الظن حينئذٍ لعدم وجود الأمن.

وكذا لو نهى الشارع عن طريق - ولو أوجب الظن في حال الانسداد - فإن العقل حيث لا يرى مؤمِّناً في سلوك ذلك الطريق فإنه لا يحكم بحجية الظن فيه.

والحاصل: إن حكم العقل بحجية الظن معلّق على عدم نصب أو ردع الشارع، ومعهما ينتفي موضوع حكم العقل.

إذن، فخروج القياس لم يكن من باب التخصيص أصلاً، بل كان من باب انتفاء الموضوع، أي: لا موضوع لحكم العقل أصلاً.

[1] بلزوم الإطاعة الظنية.

[2] أي: موضوع حكم العقل هو أمرين: أن لا ينصب الشارع طريقاً، وأن لا يردع عن طريق.

[3] «حكمه» حكم العقل ،«به» بالظن، أي: بحجية الظن.

[4] بشرط كونه وافياً بالأحكام؛ إذ لو لم يكن وافياً كان في سائر الأحكام انسداد.

[5] كقاعدة الطهارة مثلاً، فإن أدلتها قطعية - حتى على القول بالانسداد - .

[6] دليل عدم حكم العقل مع وجود الطريق المنصوب.

[7] وهي المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد، «لحكمه» لحكم العقل، «أحدهما» العلم والعلمي.

ص: 61

فلا موضوع لحكمه مع أحدهما؛ والنهي[1] عن ظن حاصل من سبب، ليس إلاّ كنصب شيء، بل هو يستلزمه في ما كان في مورده أصل شرعي. فلا يكون نهيه عنه رفعاً لحكمه عن موضوعه[2]، بل به يرتفع موضوعه[3]، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلاّ كالأمر بما لا يفيده[4].

--------------------------------------

[1] بيان الأمر الثاني مما علق به حكم العقل، وهو: (عدم نهي الشارع عن طريق).

وحاصل كلام المصنف: إنه مع نهي الشارع عن طريق - كالقياس - فإنه تنتفي المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد؛ وذلك لأن النهي عن طريق يستلزم نصب طريق آخر، فلو كان القياس يدل على الحرمة فإن النهي عنه معناه جواز العمل بأصل البراءة مثلاً.

لا يقال: العمل بالبراءة يستلزم الخروج من الدين - كما ذكر في المقدمة الرابعة - .

فإنه يقال: إن العمل بها في موارد النهي عن ظن خاص لا يوجب الخروج عن الدين، لقلة تلك الموارد.

إن قلت: إن تشبيه النهي عن طريق - بنصب طريق - إنما هو قياس مع الفارق؛ لأنه بالنصب يتحقق العلمي - ولا حكم للعقل مع العلمي، بخلاف النهي عن القياس فلا يتحقق به العلمي.

قلت: الملاك هو وجود أو عدم وجود المؤمِّن، فمع النهي لا يوجد مؤمِّن، فلا يكون حجة، كما فصلناه قبل قليل.

[2] «نهيه» الشارع، «عنه» الظن، «لحكمه» حكم العقل، «موضوعه» موضوع الحكم العقلي كي يكون تخصيصاً.

[3] أي: بالنهي يرتفع موضوع حكم العقل، فيكون تخصّصاً.

[4] أي: لا يفيد الظن؛ وذلك لأن حكم العقل بحجية الظن معلق على عدم نصب طريق، وعدم الردع عن طريق.

ص: 62

وكما لا حكومة معه[1] للعقل لا حكومة له معه[2]، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الإشكال فيه[3] لا يصح الإشكال فيه بلحاظه[4].

نعم، لا بأس[5] بالإشكال فيه في نفسه[6]، كما أشكل فيه[7] برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير تقدم الكلام في تقريرها[8]

--------------------------------------

[1] لا حكم للعقل مع الأمر بالطريق الذي لا يوجب الظن.

[2] أي: كذلك لا حكومة للعقل مع النهي عن طريق، كالقياس.

[3] بلحاظ حكم العقل، الإشكال في الأمر بطريق، وعدم الإشكال لأجل عدم وجود حكم للعقل حينئذٍ لانتفاء موضوعه.

[4] أي: كذلك لا يصح الإشكال في النهي عن طريق أوجب الظن، «بلحاظه» أي: باعتبار حكم العقل؛ وذلك لعدم وجود حكم للعقل أصلاً حتى يشكل في النهي.

[5] أي: مع قطع النظر عن الانسداد يمكن عرض الإشكال بأنه كيف يمكن النهي عن طريق موجب للظن، مع أن الطريق المنهي عنه قد يصيب الواقع، وذلك يستلزم اجتماع المصلحة والمفسدة، كما يستلزم طلب الضدين؟

وقد مرّ نظير هذا الإشكال في الأمر بطريق - كالخبر الواحد - فإنه لو أخطأ فقد استلزم اجتماع المصلحة والمفسدة وطلب الضدين.

[6] «فيه» في النهي عن طريق، «في نفسه» مع قطع النظر عن حال الانسداد.

[7] في نصب الطريق، «برأسه» حيث لم يكن الإشكال هناك خاصاً بصورة الانسداد.

[8] منها: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة - لو أخطأ الطريق - .

و منها: اجتماع الأمر والنهي، حيث يأمر المولى بالواقع، وفي الوقت نفسه ينهى عنه، ويأمر باتباع الطريق - إن أخطأ الطريق - .

ص: 63

وما هو التحقيق في جوابها[1] في جعل الطرق[2]. غاية الأمر[3] تلك المحاذير - التي تكون في ما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك[4] في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس[5]، ضرورة[6] أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة[7]، قد أشكل في

--------------------------------------

ومنها: اجتماع المثلين - لو أصاب الطريق الواقع - .

[1] من الأجوبة أنه لا حكم إلاّ الحكم الواقعي، أما الطريق فهو منجز إن أصاب، ومعذّر إن أخطأ.

[2] في أول بحث الظن في الأمر الثاني.

[3] أي: هناك فرق بين نصب طريق وبين النهي عن طريق، ولكنه غير فارق.

فالطريق المنهي عنه لو أصاب لزم اجتماع الضدين، وتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، ولكن لا يلزم من خطئه - كخطأ القياس - محذور؛ لأن النهي عنه لا يستلزم الأمر بضده حتى يقال باجتماع المثلين.

أما الطريق المأمور به فإنه يلزم من خطئه تفويت للمصلحة، وإلقاء في المفسدة، وطلب الضدين. كما يلزم من اصابته محذور اجتماع المثلين ونحو ذلك.

[4] «أنه» الشأن، «لذلك» لهذا الإشكال. فإنه إشكال عام يجري حتى في صورة الانفتاح، فإنه نبحث أولاً عن إمكان النهي عن طريق يفيد الظن، وبعد إثبات إمكانه نبحث ثانياً عن شمول النهي لحال الانسداد أم عدم شموله.

[5] وقد نُقل عن الأمين الأسترآبادي أنه اتخذ هذا إشكالاً على حجية الظن؛ إذ كيف يمكن حجية الظن عقلاً مع النهي عن القياس؟

[6] وجه عدم ارتباط هذا الإشكال ببحث الانسداد، «أنه» أن هذا الإشكال.

[7] «عنه» عن طريق كالقياس، «في الجملة» بدون تعيين أنه إشكال كلّي أم جزئي.

ص: 64

عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل[1]. وقد عرفت أنه بمكان من الفساد.

واستلزام[2] إمكان المنع عنه[3] - لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا -

--------------------------------------

والحاصل: إنه ندفع أولاً أصل الإشكال ونقول: إنه لا يرد محذور التفويت والإلقاء، ولا محذور طلب الضدين، ثم نتساءل: هل هناك محذور آخر في النهي عن طريق كالقياس في حال الانسداد؟ فهل هذا تخصيص لحكم العقل؟

[1] أي: كيف يمكن تخصيص حكم العقل الدال على حجية الظن؟

الجواب عن الإشكال الثاني

[2] جواب عن الإشكال الثاني في المنع عن القياس في حال الانسداد بناءً على الحكومة.

وكان حاصل الإشكال: هو أنه لو ثبت التخصيص في طريق لاحتمل التخصيص في سائر الطرق، فلا يحكم العقل أصلاً مع هذا الاحتمال.

وحاصل الجواب: هو أن كل ما احتمل منعه لا يحكم العقل بحجية الظن فيه، شرط كفاية الطرق التي لا احتمال في منعها.

مثلاً: لا نحتمل المنع عن خبر الثقة الإمامي، ولكن نحتمل المنع عن الشهرة الفتوائية والأولوية الظنية ونحوهما، فإن كان خبر الثقة الإمامي يكفي للأحكام الشرعية فإن العقل يحكم بحجيته، ولا يحكم بحجية غيره، ولكن إن لم يكف ما لا يحتمل منعه، أو كان كل واحد من الطرق محتمل المنع، فحينئذٍ يقطع العقل بعدم المنع عن سائر الطرق؛ لأن المنع عنها يستلزم عدم وجود طريق للأحكام مما يستلزم الخروج عن الدين، وحيث نعلم أن الشارع يريد أحكامه ولا يرضى بالخروج عن الدين، ولا طريق إلاّ الطرق الموجبة للظن، فلابد من حكمه بحجية كل الطرق الأخرى.

[3] «عنه» عن القياس، «لعدم استقلال العقل» بحجية الظن، «إلاّ أنه» أن عدم استقلال العقل.

ص: 65

وإن كان موجباً لعدم استقلال العقل، إلاّ أنه إنما يكون بالإضافة[1] إلى تلك الأمارة - لو كان غيرها[2] مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلاّ[3] فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل[4]، ضرورة[5] عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه[6] على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع.

وقياس[7] حكم العقل بكون الظن مناطاً للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطاً لها في حال الانفتاح لا يكاد[8] يخفى على أحد فساده، لوضوح

--------------------------------------

[1] «بالإضافة» أي: عدم استقلاله بالنسبة إلى خصوص ذلك الطريق - المحتمل النهي عنه - .

[2] أي: بشرط كون غير تلك الأمارة - المحتملة النهي - وافياً بالأحكام، بأن تكون سائر الطرق أو بعضها وافية مع عدم احتمال النهي فيها.

[3] أي: إن لم يكن (ما لا يحتمل النهي فيه) وافياً، أو جرى احتمال المنع في الكل.

[4] «فيها» في سائر الأمارات، «استقلال العقل» بحجية الظن الناشئ من علمنا بإرادة المولى لأحكامه، وأن في ترك الظن خروجاً عن الدين.

[5] وجه عدم احتمال المنع، وحاصله: إ نه مع احتمال المنع لا يحكم العقل، وحيث إن عدم حكمه يستلزم الخروج عن الدين فمن ذلك نكتشف حكمه بحجية سائر الظنون، ومن حكمه هذا نكتشف وجود مانع.

[6] «عدم استقلاله» العقل، «مانعه» مانع ذلك الحكم.

[7] هذا ما قاله الشيخ(1)

في الدليل الأول: (حكم العقل بكون الظن مناطاً للإطاعة والمعصية، كالعلم)، «في هذا الحال» حال الانسداد، «حكمه» حكم العقل، «مناطاً لها» للإطاعة.

[8] ردّ لكلام الشيخ الأعظم، وحاصل الردّ: إنه لا يمكن تشبيه الظن في حال

ص: 66


1- فرائد الأصول 1: 527.

أنه[1] مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي[2] لِمَ خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه[3] في الأمر بطريق غير مفيد للظن، بداهة[4] انتفاء حكمه في مورد الطريق[5] قطعاً، مع أنه[6] لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلاّ لأجل أن

--------------------------------------

الانسداد بالعلم في حال الانفتاح، فإن حكم العقل بحجية العلم تنجيزي ليس معلقاً على شيء، أما حكمه بحجية الظن فهو معلق على عدم نهي الشارع - كما بيّناه مفصلاً - .

[1] «أنه» أن قياس الظن بالعلم، «حكمه» حكم العقل، «وفيه» في الظن.

[2] هذا ردّ على ما ذكر في الدليل (ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه).

وحاصل الإشكال: إنه إن كان التعدي عن الظن قبيحاً - في حال الانسداد - فلا فرق في القبح بين النهي عن ظن أو الأمر بما لا يفيد الظن، فكلاهما تعدٍّ عن الظن، وحيث كان ملاك الإشكال واحداً كان المفروض تعميمه ليشمل نصب الطريق الذي لا يفيد الظن!! فلماذا خصصوا الإشكال بالنهي عن ظن؟

[3] جريان الإشكال.

[4] استدلال لجريان الإشكال في صورة نصب الطريق غير المفيد للظن، وحاصله: إذا قبح التعدي عن الظن فإن نصب ما لا يوجب الظن قبيح أيضاً؛ لأنه مخالفة لحكم العقل بحجية الظن فقط دون غيره، لما ذكرناه في المقدمة الخامسة من قبح ترجيح المرجوح كالشك والوهم على الراجح وهو الظن، «حكمه» حكم العقل.

[5] أي: الطريق غير الموجب للظن، فلا يحكم العقل بحجيته.

[6] أي: لم يستشكل أحد في نصب الطريق الذي لا يوجب الظن؛ وذلك لأن

ص: 67

حكمه به معلق على عدم النصب، ومعه لا حكم له[1]، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيداً.

وقد انقدح بذلك[2]: أنه لا وقع للجواب عن الإشكال تارةً[3] بأن المنع عن

--------------------------------------

حكم العقل معلّق، فكذلك في النهي عن طريق موجب للظن، «وليس» أي: ليس عدم الإشكال، «حكمه» العقل، «به» بالظن.

[1] أي: مع النصب لا حكم للعقل، «هو» العقل، «كذلك» لا حكم له.

أجوبة أخرى

اشارة

[2] بأن حكم العقل غير قابل للتخصيص، بل لابد من زوال الموضوع لكي ينتفي حكم العقل.

الجواب الأول

[3] هذا الجواب ارتضاه الشيخ الأعظم في الرسائل(1)

- وجعله سابع الأجوبة - وحاصله: إن القياس لا يُصيب غالباً، بل يُخطئ، كما يدل عليه قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن السنة إذا قيست محق الدين)(2)

و(إن دين الله لا يصاب بالعقول)(3) ونحوهما. وحيث رأى الشارع غلبة مخالفته لذا نهى عنه.

وهذا الجواب - بهذا المقدار - لا ربط له بالإشكال، بل هو بيان علة نهي الشارع عن القياس، ودفع الإشكال الوارد على النهي عنه؛ إنّما الإشكال هنا في كيفية تخصيص حكم العقل.

ولا يخفى أن لكلام الشيخ الأعظم تكملة، بها يصح الجواب، قال: (لكن يصح للشارع المنع عنه تعبداً، بحيث يظهر منه: إني ما أريد الواقعيات التي تضمنها)(4)،

ص: 68


1- فرائد الأصول 1: 529.
2- الكافي 1: 57.
3- مستدرك الوسائل 17: 262.
4- فرائد الأصول 1: 530.

القياس لأجل كونه غالب المخالفة، وأخرى[1] بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة. وذلك[2] لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه[3] - بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه[4] -

--------------------------------------

انتهى.

ووضّح هذا المقطع في العناية بقوله: (بمعنى أن الشارع إذا منع عن القياس، فإن أصاب وقد فات بمخالفته تكليف من التكاليف الواقعية فهو في عهدة المولى الذي منع عنه، وإن أخطأ وقد فات بموافقته تكليف من التكاليف الواقعية فهو في عهدة المكلّف، الذي عمل به مع منع الشارع عنه، ومن المعلوم أن مع هذا الحال لا يكاد يستقل العقل - ولو بملاحظة الانسداد - بحجية الظن الحاصل منه، بمعنى منجزيته للتكليف عند الإصابة، وعذريته للفوت عند الخطأ)(1)،

انتهى.

الجواب الثاني

[1] جعله الشيخ سادس الوجوه(2)

- وارتضاه ثم رجع عنه - وحاصله: إن سلوك طريق القياس فيه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع، وحينئذٍ لدى تعارض مصلحة الواقع مع مفسدة الطريق فإنه يرجح الغالب - وهو المفسدة - فلذا نهى الشارع عنه.

وأيضاً هذا الجواب لا يدفع إشكال تخصيص حكم العقل، وإنما هو دليل المنع عن العمل بالقياس برأسه.

[2] إشكال على الجوابين، «وذلك» أي: عدم وقع للجواب.

[3] أي: الإشكال في كيفية تخصيص حكم العقل، وليس الإشكال في أصل المنع عن القياس، «أنه» للشأن، «بخروجه» القياس.

[4] المنع عن القياس برأسه مع قطع النظر عن حال الانسداد.

ص: 69


1- عناية الأصول 3: 362.
2- فرائد الأصول 1: 528.

بملاحظة[1] حكم العقل بحجية الظن؛ ولا يكاد يجدي صحته كذلك[2] في الذب عن الإشكال في صحته بهذا اللحاظ[3]، فافهم[4]، فإنه لا يخلو عن دقة.

وأما ما قيل في جوابه - من منع[5] عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع[6] حصول الظن منه بعد انكشاف حاله[7]، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه - ففي غاية الفساد[8]،

--------------------------------------

[1] أي: الإشكال بخروجه بملاحظة حكم العقل بحجية الظن، وحكمه غير قابل للتخصيص.

[2] صحة المنع عن القياس، «كذلك» في نفسه.

[3] في صحة المنع عن القياس بلحاظ حكم العقل.

[4] لعله إشارة إلى صحة الإشكال الأول - كما بيناه - .

الجواب الثالث والرابع

[5] جعله الشيخ(1)

أول الوجوه السبعة، وحاصله: إن القياس حجة في حال الانسداد، والمنع عنه خاص في حال الانفتاح!!

[6] جعله الشيخ(2)

ثاني الوجوه، وحاصله: إن القياس لا يوجب الظن أصلاً.

[7] بواسطة الشارع حيث بيّن علة النهي عن القياس، «وأن ما يفسده» عطف تفسيري، وهذا بيان لإحدى علل المنع عن القياس.

[8] رد المصنف الجوابين: أولاً: بردّ يختص بكل واحد منهما بانفراد، وثانياً: بردّ يشتركان فيه.

أما ردّ الجواب الثالث: فإن المنع عن القياس عام لكل الحالات إجماعاً، وأيضاً الأدلة اللفظية المانعة مطلقة تشمل كل الحالات، وكذلك عِلّة المنع عن القياس عامة تشمل حالة الانسداد.

ص: 70


1- فرائد الأصول 1: 517.
2- فرائد الأصول 1: 521.

فإنه - مضافاً إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد؛ لدعوى[1] الإجماع على عموم المنع، مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة[2] الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان - لا يكاد[3] يكون في دفع الإشكال بالقطع[4] بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الأمر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الإشكال[5]، فتدبر جيداً.

--------------------------------------

وأما ردّ الجواب الرابع: فإنه مكابرة؛ لأنه قد يحصل منه الظن، بل قد يحصل منه القطع.

وأما الردّ المشترك: فإن هذين الجوابين تسليم بالإشكال بأنه لا يمكن النهي عن شيء يوجب الظن، حيث إنه تخصيص لحكم العقل، والفرار إلى حجية القياس أو المنع عن حصول الظن به، مضافاً إلى أن الجوابين خلاف الفرض؛ لأن الفرض هو في صورة ثبوت المنع عن القياس الموجب للظن.

[1] هذا الرد المختص بالجواب الثالث، من ثلاثة أوجه: الإجماع، وإطلاق الأدلة، وعموم العلة، «أدلته» أدلة المنع عن القياس.

[2] هذا الرد المختص بالجواب الرابع، «منه» من القياس.

[3] خبر قوله: (فإنه مضافاً) وهذا هو الرد المشترك بينهما، وحاصله: إن هذين المنعين تسليم بالإشكال.

واسم «يكون» الضمير الراجع إلى الجواب بمنع النهي أو بمنع حصول الظن، «بالقطع» متعلق ب- (الإشكال)، «منه» من القياس، وقوله: «بمفيد» خبر يكون في قوله: (لا يكاد يكون).

[4] أي: كان الإشكال هو أن العقل يحكم بحجية الظن، ومع ذلك نقطع بخروج القياس الموجب للظن عن هذا الحكم.

[5] لأن فرض الإشكال هو في صورة حصول الظن من القياس مع المنع عنه، «أنه» للشأن، «لكنه» لكن فرض أحد المنعين.

ص: 71

فصل: إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص[1]، فالتحقيق أن يقال[2] - بعد تصور المنع[3] عن بعض الظنون في حال الانسداد[4] - : إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه، فضلاً عما إذا ظن - كما أشرنا إليه في الفصل السابق -؛ فلابد[5] من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى،

--------------------------------------

فصل الظن المانع والممنوع

[1] مثلاً: قام الظن على حجية الشهرة، وقام الظن أيضاً على حجية الأولوية الظنية، ولكن كان المشهور عدم حجية هذه الأولويّة، فهنا لا يمكن العمل بكلا الظنين، لتعارضهما، فما الحلّ؟ هل هو ترجيح الظن المانع - الشهرة - في المثال أو الظن الممنوع - وهو الأولوية الظنية - أو التوقف؟، «ظن بالخصوص» أي: فرد خاص من أقسام أو مصاديق الظن.

[2] حاصله: لزوم العمل بالظن المانع، وعدم حجية الظن الممنوع؛ وذلك لما ذكرناه في الفصل السابق بأن نتيجة مقدمات الانسداد هي الحكومة، ومع احتمال المنع لا يحكم العقل بحجية الظن، فما بالك مع الظن بالمنع؟ وأما الظن المانع فلا ظن للمنع عنه، فيستقل العقل بحجيته.

[3] أي: بعد إثبات إمكان المنع عن بعض الظنون، وأنّه لا يلزم منه المحال - أي: تخصيص حكم العقل - .

[4] بناءً على الحكومة.

[5] أي: في حال الانسداد على مبنى الحكومة يلزم العمل بالظن الذي نقطع بعدم المنع عنه، دون ما احتملنا أو ظننا المنع عنه. فإن كفى الظن المقطوع بعدم المنع عنه بالأحكام الشرعية فإنه يلزم الاقتصار عليه؛ لعدم حكم العقل بحجية غيره.

وأما لو لم يكف فلابد من العمل بالظن المحتمل المنع عنه، وهذا الاحتمال

ص: 72

وإلاّ[1] فبضميمة ما لم يظن المنع عنه[2] وإن احتمل، مع[3] قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد[4] باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض[5].

ومنه انقدح[6]

--------------------------------------

إنّما هو بملاحظة نفس ذلك الظن، وأما بملاحظة باب الانسداد فاحتمال المنع يرتفع؛ وذلك لأن العقل يرى أن عدم العمل بهذا الظن يستلزم الخروج عن الدين، أو ترك الكثير من أحكام الشارع، وحينئذٍ يحكم قاطعاً بعدم المانع عن هذا الظن - وإن كان بملاحظة نفسه ومع قطع النظر عن الانسداد يحتمل المنع - .

[1] أي: إن لم يكف الظن المقطوع عدم المنع عنه فلابد أن نَضُمَّ إليه الظن المحتمل المنع - بملاحظة نفسه - .

[2] لأنه مع وجود الظن الأقوى لا تصل النوبة إلى الأضعف، فمع وجود محتمل المنع فهو أرجح من مظنون المنع، «وإن احتمل» أي: احتمل المنع.

[3] أي: احتمال المنع إنما هو في نفسه، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وأما بملاحظتها فلا احتمال للمنع، بل يحكم العقل بحجيته.

[4] أي: لا يوجد احتمال المنع في حال الانسداد - في هذا الفرض - «معها» مع مقدمات الانسداد.

[5] «لا احتمال» للمنع، «مع الاستقلال» أي: استقلال العقل بالحجية؛ وذلك لما ذكرنا من أن العقل لا يحكم إلاّ لو حصل القطع ولا حكم له مع الاحتمال، «حسب الفرض» وهو عدم كفاية الظن المقطوع بعدم المنع عنه.

[6] رد على ما نقله الشيخ الأعظم عن بعض مشايخه، وما أضاف هو عليه، قال في الرسائل: (ذهب بعض مشايخنا إلى الأول(1)بناءً

منه على ما عرفت سابقاً من بناء غير واحد منهم إلى أن دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظن في المسائل الأصولية،

ص: 73


1- أي: العمل بالظن الممنوع.

أنه لا تتفاوت الحال[1] لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم[2].

فصل: لا فرق[3]

--------------------------------------

التي منها مسألة حجية الممنوع، ولازم بعض المعاصرين الثاني(1) بناءً على ما عرفت منه من أن اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن بالطريق، فلا عبرة بالظن بالواقع ما لم يقم على اعتباره ظن)(2)، انتهى.

وحاصله: إن حجية الظن المانع أو الممنوع تتوقف على ما ذكرناه في فصل سابق من الاختلاف في حجية الظن بالطريق، أو الظن بالواقع، أو بكليهما. فإن قلنا: بحجية الظن بالطريق فالظن المانع هو الحجية - لأنه في الطريق - دون الظن الممنوع. وإن قلنا: بحجية الظن بالواقع فبالعكس. وإن قلنا: بحجيتهما فإنهما يتساقطان!!

[1] أي: لا تبتني هذه المسألة على تلك المسألة؛ لأن الظن المحتمل المنع عنه ليس بحجة مطلقاً؛ لعدم استقلال العقل بحجيته، بلا فرق بين اختيار أيٍ من الأقوال في الظن بالطريق أو بالواقع.

[2] لعله إشارة إلى أن القائل بحجية الظن بالواقع فقط لا يعتبر الظن المانع حجة، فيقطع بعدم المانع. كما أن كلا الظنين - المانع والممنوع - إن كانا في المسألة الأصولية لا يكونان حجة، على القول بحجية الظن بالواقع فقط.

أو هو إشارة إلى أن كلا الظنين مانع وممنوع، فتأمل.

فصل الظن بألفاظ القرآن والروايات

اشارة

[3] فلو تمت مقدمات الانسداد فإن الظن حجة، سواء تعلق بالحكم الشرعي،

ص: 74


1- أي: العمل بالظن المانع.
2- فرائد الأصول 1: 532.

في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه[1]، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي في ما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح[2].

ولا يخفى[3]: أن اعتبار ما يورثه[4] لا محيص عنه في ما إذا كان[5] مما ينسد فيه

--------------------------------------

أم تعلق بتشخيص مراد المتكلم عبر الظن بمعنى الكلمة الواردة في النص، الناشئ - هذا الظن - من قول اللغوي.

مثل: الظن الناشئ من قول اللغوي بأن (الصعيد) هو مطلق وجه الأرض، لا التراب الخالص، وبذلك نظن بالمراد في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1).

[1] على الحكم الشرعي، «الظن به» بالحكم الشرعي، «من لفظه» لفظ الشارع.

[2] لاستقلال العقل بحجية كل ظن يرتبط بالحكم الشرعي بلا فرق.

[3] حاصله: إن المهم هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية، وإن كان باب العلم في سائر العلوم مفتوحاً، فلو كان هناك انفتاح في اللغة، ولكن لم نعلم معنى لفظٍ ما - كالصعيد في المثال - بل نظن به، فإن هذا الظن حجة؛ لارتباطه بالحكم الشرعي الذي انسد العلم فيه.

وبعبارة أخرى: إذا كان هناك انسداد كبير - هو الانسداد في الأحكام الشرعية - فكل ظن يرتبط بالحكم الشرعي يكون حجة، حتى إذا لم يكن انسداد في سائر العلوم.

كما أنه مع انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية لا ينفع الانسداد في العلوم الأخرى، حتى وإن ارتبطت ببعض الأحكام الشرعية، وقد مرّ أن الانسداد الصغير ليس بحجة.

[4] يورث الظن بمراد الشارع، «لا محيص عنه» عن الاعتبار.

[5] أي: في ما إذا كان ذلك المورد الذي أوجب الظن لا طريق لعلم أو علمي

ص: 75


1- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

باب العلم. فقول أهل اللغة حجة في ما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم[1]، لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما[2] من الموضوعات الخارجية، إلا[3] في ما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص[4] أو ذاك المخصوص[5].

ومثله[6] الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي،

--------------------------------------

فيه، - كلفظ الصعيد في المثال - حتى وإن كانت سائر مسائل ذلك العلم فيها علم أو علمي.

[1] حاصله: هو أن حجية الظن الناشئ من قول اللغوي إنما تكون ثابتة في ما انسد فيه باب العلمي، وأما ما لم ينسد فيه باب العلمي فلا حجية لهذا الظن.

ففي باب الأحكام الشرعية حيث انسد باب العلمي كان قوله حجة، وأما في باب الإقرار والوصية ونحوهما فلا انسداد للعلمي، فقول اللغوي ليس حجة فيها.

مثلاً: تفسيره للصعيد بمطلق وجه الأرض حجة في باب التيمم إن أورث الظن، وليس حجة في باب الوصية، كما لو قال: إن ما أملكه من صعيد فقد أوصيت به لزيد.

[2] كالشهادة والبيع والمهر... الخ.

[3] أي: إلاّ إذا كان انسداد في ذلك الموضوع الخارجي، أو كان دليل على حجية الظن في ذلك المورد بالخصوص.

[4] أي: في خصوص مورد كان فيه انسداد فيكون مطلق الظن حجة فيه.

[5] أي: قام الدليل على حجية الظن في ذلك المورد، فيكون من الظنون الخاصة - ويعبر عنه بالعلمي - .

[6] في الحجية، «مثله» أي: مثل الظن بالألفاظ من قول اللغوي، فإن الظن بموضوع خارجي يكون حجة لو أدّى إلى الظن بالحكم الشرعي - في حال الانسداد - .

ص: 76

كالظن[1] بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين - مثلاً - لا آخر.

فانقدح: أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد[2] ولو لم يقم[3] دليل على اعتبار قول الرجالي، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية[4].

تنبيه[5]:

--------------------------------------

[1] وهو ما يعبر عنه في علم الرجال ب- (المشتركات)، وحيث تشابهت أسماء بعض الرواة، وبعضهم ثقة وبعضهم غير ثقة، فإن تشخيص الراوي من أهم مباحث علم الرجال. وقد يكون التمييز بالقطع أو الاطمئنان فلا كلام، وقد يكون بالظن، وهو ليس بحجة إلاّ لو كان انسداد في الأحكام.

[2] أي: الانسداد الكبير، أما لو لم نقل بالانسداد في الأحكام الشرعية فلا ينفع الانسداد الصغير في علم الرجال.

[3] إذ كل ظن حجة في حال الانسداد، بلا حاجة إلى دليل خاص فيه.

[4] إشارة إلى بعض المباني في حجية قول الرجالي: فاعتبره بعض من باب الشهادة، ولكن لا يمكن الالتزام بهذا القول، حيث إنه يشترط في الشهادة العدد بأن يكونا اثنين، وقلّما يوجد توثيق من رجاليين اثنين في حق شخص واحد.

واعتبره بعض من باب الرواية، أي: نقل الخبر، وحينئذٍ يكفي المخبر الواحد.

أما في باب الانسداد فلا نحتاج إلى إثبات أن قول الرجالي شهادة أم رواية، بل يكفي حصول الظن منه، وذلك لحجية مطلق الظن حين الانسداد.

تنبيه

[5] حاصله: أنا قد ذكرنا حجية خصوص الظن الاطمئناني، فإن كفى فهو المطلوب، وإلاّ فنتنزل إلى ما دونه، ومع إمكان الظن الأقوى لا تصل النوبة إلى الظن الأضعف، فإذا أمكن تقوية الظن - في حال الانسداد - لزم ذلك.

مثلاً: في الروايات نحتاج إلى البحث في ثلاثة أمور:

1- السند، بأن يكون معتبراً كما لو ثبتت وثاقة الرواة.

ص: 77

لا يبعد استقلال العقل[1] بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية وعدم الاقتصار[2] على الظن الحاصل منها بلا سدّ بابه فيه بالحجة من علم أو علمي. وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه[3] عقلاً، فتأمل جيداً.

فصل: إنما الثابت[4] بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام هو حجية الظن

--------------------------------------

2- الدلالة، بأن يكون الخبر دالاً على المطلوب ظاهراً فيه.

3- جهة الصدور، بأن لا يكون في تقية.

فإذا لم يكن هناك سبيل إلى العلم أو العلمي في كل هذه الأمور الثلاثة، ولكن أمكن العلم أو العلمي ببعضها، فإنه لابد من ذلك، حيث إن النتيجة وإن كانت ظنية على كل حال، لكن لابد من تقوية هذا الظن بالعلم أو العلمي في بعض هذه الأمور الثلاثة.

[1] لما ذكرناه في فصل الكشف والحكومة، من أن الحجة بحسب المرتبة هو خصوص المرتبة القوية من الظن، فراجع.

[2] بذريعة أن النتيجة هي الظن، سواء قلّلنا الاحتمالات أم لا، «منها» من الرواية، «بابه» باب الاحتمال، «فيه» في كل واحد من السند والدلالة والجهة، وقوله: «بالحجة» متعلق بالسد، أي: السد عبر الحجة.

[3] القوي هو العلم، وما بحكمه هو الظن الأقوى، وقوله: «عقلاً» تمييز لقوله: (لعدم جواز...).

فصل عدم حجية الظن في الامتثال

اشارة

[4] حاصله: إن دليل الانسداد دل على حجية ما انسد فيه العلم - من الحكم

ص: 78

فيها[1]، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها[2]، فيتبع - مثلاً - في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها[3]، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى.

نعم[4]، ربما يجري نظير مقدمات الانسداد[5] في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من انسداد باب العلم[6] به غالباً، واهتمام[7] الشارع به بحيث علم بعدم

--------------------------------------

الشرعي - وأما ما لم ينسد فيه العلم فلا يدخل في دليل الانسداد، ومن ذلك الامتثال، أي: تطابق المأتي به مع المأمور به، فإن باب العلم غير منسد فيه، فمن علم بتكليف في ذمته لابد له من تحصيل العلم بفراغ ذمته من ذلك التكليف، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وباب العلم بذلك مفتوح، فلو شك في مورد أنه أتى بالتكليف أم لم يأتِ لابد له من الاحتياط بالإتيان.

[1] «فيها» في الأحكام، «لا حجيته» أي: الظن.

[2] أي: لا في الامتثال الذي هو تطابق المأتي به من الأفعال مع المأمور به.

[3] أي: فيتبع الظن في التكليف وهو وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة - في عصر الغيبة - ولا يتبع الظن في امتثال صلاة الجمعة بإتيانها.

[4] أي: لو انسد باب العلم في موضوع خارجي، وكان ذلك الموضوع مهماً في نظر الشارع بحيث ربط به الأحكام، فهنا تجري مقدمات شبيهة بمقدمات الانسداد، مما ينتج منها حجية الظن.

[5] فإن بعض المقدمات تختلف اختلافاً جزئياً - لا يوجب تغيّراً في النتيجة - كالمقدمة الأولى، حيث نعلم بوجود أضرار كثيرة قد نبتلى بها. وكالمقدمة الثالثة حيث نعلم بأن الشارع لا يريد الوقوع في بعض تلك الأضرار.

[6] إشارة إلى المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد.

[7] إشارة إلى المقدمة الرابعة من تلك المقدمات، «به» بذلك الموضوع الخارجي.

ص: 79

الرضا بمخالفة الواقع[1] بإجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط شرعاً، أو عدم إمكانه عقلاً[2]، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذٍ أيضاً، فافهم[3].

خاتمة: يذكر فيها أمران استطراداً[4]:

الأول[5]:

--------------------------------------

[1] أي: عدم رضا الشارع بمخالفة الواقع، كالوقوع في الضرر إذا أجرينا أصالة البراءة منه، أو استصحاب التكليف - مثلاً - .

[2] عدم وجوبه شرعاً كما لو أوجب العسر، وعدم إمكانه عقلاً كما لو دار بين الوجوب والحرمة، كما لو شك في أن صوم شهر رمضان يوجب موته - مثلاً - فإن تحقق الضرر فالصوم حرام، وإلاّ فالصوم واجب، ولا يمكن الاحتياط هنا.

[3] لعله إشارة إلى أن الملاك هو خوف الضرر، والخوف قد يكون مع الاحتمال الضعيف أيضاً، فلا حاجة إلى العلم بالضرر حتى نتنزل منه إلى الظن، وحينئذٍ فإن هذا البحث لا موضوع له خارجاً.

[4] إنما كانا استطراداً لأن المسألة الأصولية هي ما تقع في كبرى الدليل الدال على الحكم الفرعي، وهذان الأمران لا يرتبطان بالحكم الفرعي، بل الأول يرتبط بأصول الدين، والآخر يرتبط بمبادئ حجية الخبر - أي: اعتبار السند أو الدلالة بالظن، أو الترجيح به - .

[5] يبحث فيه عن أنه لو انسد باب العلم في أصول الدين فهل يجب اتباع الظن فيه أم لا يجوز؟ ثم إن المسائل الاعتقادية على قسمين:

1- ما يجب فيها المعرفة بنفسها عقلاً، كمعرفة الله تعالى ومعرفة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ومعرفة الأئمةعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وهذا ما سيأتي بيانه في قوله: (نعم، يجب تحصيل العلم... الخ).

ص: 80

هل الظن - كما يتبع عند الانسداد عقلاً[1] في الفروع العملية المطلوب فيها أولاً العمل بالجوارح[2] - يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها علم الجوانح[3] من الاعتقاد به[4]

--------------------------------------

2- ما ثبتت بواسطة الشرع، كتفاصيل مسائل البرزخ والقيامة ونحوها، ومجمل القول في هذا أن تلك التفاصيل لا يجب الاعتقاد التفصيلي بها، وإنّما يجب الاعتقاد الإجمالي بأن يعتقد بصحة كل ما بيّنه الله تعالى وجاء به الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. نعم، لو علم ببعض تلك التفاصيل فإنه يجب الاعتقاد بها - تصديقاً لله وللرسول - .

[1] لأن المصنف يرى الحكومة، ولذا قال: «عقلاً».

[2] جمع جارحة، بمعنى الأعضاء الظاهرة، كاليد والعين ونحوهما، وأصل التسمية بالجارحة لليد باعتبار أن الصيد يكون بها، ثم عُمِّم لكل الأعضاء الظاهرة.

[3] وفي بعض النسخ (عمل الجوانح) وهو أنسب، و«الجوانح» جمع جانحة وهي الأضلاع سُمِّيت بذلك لميلانها، وحيث إن الأضلاع تضم القلب لذلك قيل لأفعال القلوب: عمل الجوانح.

[4] «من» بيان لعمل الجوانح «به» بالأصل العقائدي، وكذا الضمائر الآتية.

ثم إن الاعتقاد والعقد والتحمل مترادفات، أراد المصنف بالعطف مزيد البيان والتفسير، وأما الانقياد فهو التصميم على المتابعة.

ولا يخفى أن بين العلم والاعتقاد عموماً من وجه، فقد يعلم ولا يعقد قلبه، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ}(1). وقد لا يعلم ومع ذلك يعقد القلب إجمالاً، كمن يقول: إني أصدق كل ما جاء به رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مع عدم علمه ببعض التفاصيل، قال تعالى: {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ}(2) مع عدم علم المؤمنين بأكثر الرسل والكتب، لكنهم يؤمنون

ص: 81


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة البقرة، الآية: 285.

وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له أو لا؟[1].

الظاهر لا[2]، فإن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به[3]، إلاّ أن باب الاعتقاد إجمالاً - بما هو واقعه - والانقياد له وتحمله[4] غير منسد[5]. بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه[6] إلاّ بالاحتياط[7]، والمفروض[8] عدم وجوبه شرعاً أو عدم جوازه عقلاً، ولا أقرب[9] من العمل على وفق الظن.

وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب[10] الأعمال

--------------------------------------

بهم إجمالاً. وقد يجتمعان (كاعتقاد المسلمين برسالة الرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

[1] أي: أو لا يتبع الظن.

[2] هذا في القسم الثاني من المسائل الاعتقادية، التي ثبتت بالشرع.

[3] «إن» وصيلة، أي: حتى وإن انسد.

[4] «واقعه» واقع الأمر الاعتقادي، «له» للواقع، «تحمله» تحمل الواقع.

[5] ومرجع هذا إلى الاحتياط، لكن بما أن هذا الاحتياط لا يوجب عسراً فضلاً عن الاختلال، فلا إشكال فيه، بل هو واجب.

[6] أي: مطابقة العمل مع التكليف الواقعي المتعلق بالعمل.

[7] أي: الاحتياط في العمل الذي يوجب العسر أو الاختلال.

[8] أي: فرضنا الآن هو تمامية مقدمات الانسداد، ومنها المقدمة الرابعة الدالة على عدم جواز الاحتياط شرعاً إذا أوجب العسر والحرج، أو عدم جوازه عقلاً إذا أوجب اختلال النظام.

[9] أقرب إلى الواقع؛ لأن الظن فيه جهة كشف عن الواقع بخلاف الشك والوهم.

[10] «لترتيب» متعلق بقوله: (لا موجب)، و«على الظن» متعلقه بقوله: «لترتيب».

ص: 82

الجوانحية[1] على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل[2] إلاّ لما هو الواقع، ولا ينقاد إلاّ له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العمليات[3]، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد[4].

نعم[5]، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن[6]، من باب[7] وجوب

--------------------------------------

[1] كعقد القلب والانقياد، «فيها» في الاعتقاديات، «ترتيبها» ترتيب الأعمال الجوانحية، «الواقع فيها» أي: في الاعتقاديات.

وحاصل كلام المصنف: هو مع إمكان الاعتقاد الإجمالي بالواقع لا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، وهذا الاعتقاد الإجمالي هو احتياط لكن لا عسر فيه أصلاً فيجب.

[2] أي: لا يعقد المكلف قلبه ولا ينقاد، «له» أي: للواقع الإجمالي، «مظنونه» أي: المظنون كونه الواقع.

[3] أي: ما يرتبط بالعمل، فإنه حيث كان الاحتياط موجباً للعسر أو الاختلال فلابد من التنزل عنه إلى الظن.

[4] أي: مع صحة تلك المقدمات.

[5] بيان للقسم الأول من الأمور الاعتقادية، وهي ما تجب المعرفة لنفسها بحكم العقل، كمعرفة الله تعالى ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فإن العقل مستقل بوجوب هذه المعرفة، دفعاً للضرر المحتمل، وفي بعض الصور شكراً للمنعم.

[6] أي: لو أمكن تحصيل العلم فيها. نعم، لو عجز عن العلم - كالجاهل القاصر - فإنه يكتفي بالاعتقاد الإجمالي، مثلاً: بعد موت إمام وقبل معرفة الإمام اللاحق لابد من الاعتقاد الإجمالي إلى حين معرفة اللاحق.

[7] أي: الدليل هو العقل الدال بأن هذه المعرفة ليس وجوبها مقدمي، بل هي واجب نفسي في حد ذاتها.

ص: 83

المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته، أداءً لشكر بعض نعمائه[1]، ومعرفة أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه[2]، بل وكذا معرفة الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على وجه صحيح[3]؛ فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه، لذلك[4]، ولاحتمال الضرر في تركه. ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر[5]

--------------------------------------

[1] الأولى الاستدلال لذلكٍ ب- (دفع الضرر المحتمل)، فإن العقل بعد احتماله وجود خالق، واحتمال أن له ثواباً وعقاباً يستقل بلزوم البحث دفعاً للضرر المحتمل، وبعد ثبوت وجود الخالق - كما هو الحق - يأتي الاستدلال بشكر المنعم، فإن من لا يعلم بوجود مُنعم كيف يحكم عقله بوجوب شكره. وإنما كان أداءً لشكر بعض نعمائه؛ لأن كل أعمال الجوارح والجوانح لا تؤدي حتى شكر نعمة واحدة من نعمه.

[2] الأولى - أيضاً - الاستدلال بدفع الضرر المحتمل، فإن من لا يعلم بالرسل كيف يعرف بأنهم وسائط. نعم، بعد ثبوت أصل الرسالة عقلاً، فإنه يدل العقل على لزوم معرفتهم شكراً له ولهم.

[3] وهو ما ذهبت إليه الإمامية (أعلى الله كلمتهم) من أن الإمامة منصب إلهي ودليلها العقل والنقل. قال المصنف في الهامش: (وهو كون الإمامة كالنبوة منصباً إلهياً يحتاج إلى تعيينه تعالى ونصبه، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين، وهو الوجه الآخر)(1)، انتهى.

[4] أي: أداءً لشكر بعض نعمائه تعالى؛ لأنهم وسائط النعم والآلاء.

[5] بل يجب عقلاً معرفة المعاد أيضاً، فإن العقل يدل عليه أيضاً، وكأنّ المصنف مال إلى ما نقل عن ابن سينا من أن دليل المعاد منحصر في إخبار الصادق - أي: رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - ولا يخفى عدم الانحصار، فإن العقل بعد مشاهدة الظلم وعدم الانتقام من الظالمين، وعدم وصول المظلومين إلى حقهم كثيراً يستقل بوجوب الجزاء

ص: 84


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 505.

إلا[1] ما وجب شرعاً معرفته، كمعرفة الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على وجه آخر غير صحيح[2]، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته[3]. وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص[4] - لا من العقل ولا من النقل - كان أصالة البراءة[5] من وجوب معرفته محكّمة.

ولا دلالة[6]

--------------------------------------

بعد الموت، فيقبح على الحكيم عدم إنصاف المظلوم وعدم مؤاخذة الظالم.

[1] الاستثناء منقطع، أي: لا يجب عقلاً معرفة شيء آخر، ويجب شرعاً بعض أنواع المعرفة. أو الاستثناء متصل، فيكون المعنى ما دل الشرع على وجوب معرفته فإن العقل يدل على وجوبه أيضاً لعلمه بحكمة الشارع، فتأمل.

[2] وهو أن الإمامة هي الإمارة، فلابدّ للناس من أمير لينظِّم أمورهم المعاشية!!

[3] كأسماء الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واحداً واحداً، كلهم أجمعين، بخلاف الأنبياء فلا يلزم الاعتقاد الإجمالي بجميعهم، ولا يلزم الاعتقاد التفصيلي إلاّ في رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[4] أي: بالمعرفة التفصيلية، كتفاصيل البرزخ والمعاد.

[5] فالأصل في المسائل الاعتقادية - إلاّ ما ثبت لزوم الاعتقاد به من العقل أو الشرع - هو عدم وجوب الاعتقاد. ولا يخفى أن المراد عدم لزوم تحصيل العلم بها، وإلاّ فلو علم بها وجب عليه الاعتقاد بها، «معرفته» معرفة ما لا دلالة على وجوب معرفته.

[6] قال الشيخ الأعظم: (وقد ذكر العلامة+ في الباب الحادي عشر - في ما يجب معرفته على كل مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد - أموراً لا دليل على وجوبها كذلك، مدعياً أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعقاب الدائم)(1).

ثم قال الشيخ الأعظم: (وهو في غاية الإشكال)(2).

ص: 85


1- فرائد الأصول 1: 559.
2- فرائد الأصول 1: 559.

لمثل قوله تعالى:{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ}(1) الآية[1]، ولا لقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس»(2)[2]، ولا لما دل على وجوب التفقه[3]

--------------------------------------

ثم انتصر للعلامة بقوله: (نعم، يمكن أن يقال: إن مقتضى عموم وجوب المعرفة، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(3) أي: ليعرفون، وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) بناءً على أن الأفضلية من الواجب خصوصاً مثل: الصلاة تستلزم الوجوب. وكذا عمومات (وجوب التفقه في الدين) الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق، وعمومات (طلب العلم) هو وجوب معرفة الله جل ذكره، ومعرفة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ومعرفة ما جاء به النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم... الخ)(4).

لكن المصنف لم يرتض هذا الانتصار؛ وذلك لعدم دلالة هذه الأدلة على مدعى العلامة.

[1] وجه الاستدلال هو أن (يعبدون) بمعنى (يعرفون)، وقد حذف متعلقه، وحذف المتعلق يفيد العموم.

[2] حيث إن «المعرفة» مطلق، فيدل على كل أنواع المعرفة.

[3] كآية النفر، قال تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}(5) والدين مطلق فيدلّ على لزوم معرفته كله.

ص: 86


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 3: 264، وفيه: «من هذه الصلاة».
3- سورة الذاريات، الآية: 56.
4- فرائد الأصول 1: 559.
5- سورة التوبة، الآية: 122.

وطلب العلم[1] من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم[2]. ضرورة[3] أن المراد من {لِيَعۡبُدُونِ}(1) هو خصوص عبادة الله ومعرفته[4]؛ والنبوي[5] إنما هو

--------------------------------------

[1] كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)(2)،

فإن العلم مطلق.

[2] «على» متعلق بقوله: (ولا دلالة لمثل...)، «معرفته» أي: معرفة الأمر الاعتقادي الذي لا دليل على وجوب معرفته، «بالعموم» أي: وجه الدلالة عموم أو إطلاق هذه الأدلة، لكن سيتضح أنه لا عموم لها ولا إطلاق.

[3] بيان وجه عدم دلالة هذه الآيات والروايات على وجوب تلك المعرفة الزائدة.

[4] فإن كان المعنى (العبادة) فلا ربط لوجوب المعرفة بهذه الآية الكريمة، وإن كان المعنى (المعرفة) فإن الآية لا تدل على أزيد من معرفة الله تعالى؛ لأن أصل (يعبدون) هو (يعبدوني) حذفت ياء المتكلم تخفيفاً وجوازاً، فلا ربط لسائر المعارف بهذه الآية الكريمة.

ثم لا يخفى أن (يعبدون) ليس بمعنى (يعرفون) لا لغةً ولا عرفاً، ولم يدل دليل شرعي عليه، بلى من مقدمات العبادة المعرفة، لكن ليست المقدمات هي من معنى ذي المقدمة.

[5] أي: حديث الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (ما أعلم شيئاً بعد... الخ)(3)،

فهذا الحديث في بيان فضيلة الصلاة وليس لبيان حكم المعرفة، فلا إطلاق له - من جهة المعرفة - ومن شرائط الإطلاق أن يكون المولى بصدد البيان؛ ولذا أشكلوا على الشيخ الطوسي لما استدل على طهارة موضع عض كلب الصيد(4)، بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ

ص: 87


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- الكافي 1: 30.
3- الكافي 3: 264.
4- الخلاف 6: 12.

بصدد بيان فضيلة الصلوات، لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلاً؛ ومثل: آية النفر[1] إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به[2] إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى. وكذا ما دل على وجوب طلب العلم[3] إنما هو بصدد الحثّ على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.

ثم[4] إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن في ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً، حيث إنه[5]

--------------------------------------

عَلَيۡكُمۡ}(1)، وجه الإشكال أن الآية بصدد بيان حلية اللحم، لا بصدد بيان الطهارة، كما هو واضح.

[1] في آية النفر وأمثالها، الغرض هو بيان طريقة التفقه، فليست لبيان الموضوع الذي يتفقه فيه.

[2] وهو النفر مع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أو البقاء معه - حسب التفسيرين - لتعلّم أحكام الشرع منه، وتعليم من لم يكن معه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فالآية في صدد بيان الطريق، لا بيان ما يجب معرفته.

[3] فإن جهة البيان فيه طلب العلم، وليس البيان لما يلزم تعلّمه.

الظن في أصول الدين

في غير الانسداد وحكم القاصر

[4] الغرض من هذا الكلام أمران:

الأول: إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن في حال إمكان العلم.

الثاني: وجود الجاهل القاصر الذي لا يمكنه المعرفة.

[5] أي: لأن الظن ليس بمعرفة؛ لأن المعرفة هي من أقسام العلم، حيث إن معناها: العلم بالشيء عن طريق العلم بأوصافه، فلو سمعنا بأوصاف شيء فقد عرفناه؛ ولذا يقال للعلم بالله المعرفة؛ لأنها علم عبر أوصافه تعالى.

ص: 88


1- سورة المائدة، الآية: 4.

ليس بمعرفة قطعاً، فلابد من تحصيل العلم لو أمكن. ومع العجز عنه[1] كان معذوراً إن كان عن قصور، لغفلة[2] أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد[3]، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال. بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو لأجل[4] حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخَلَف[5] وقلما عنه تخلف.

والمراد[6] من المجاهدة في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}(1)

--------------------------------------

[1] أي: عن العلم، كالمحبوس الذي لا طريق له لمعرفة الإمام اللاحق بعد موت الإمام السابق، فإنه قاصر وليس بمقصّر.

والغرض هو بيان عدم وصول النوبة إلى العمل بالظن بسبب الانسداد.

[2] في المفردات: (الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلّة التحفظ والتيقظ)(2)، انتهى. فهو جهل مشوب بعدم الالتفات.

[3] كالأبله الذي يعجز عن إدراك بعض الحقائق؛ لقلة عقله وصعوبة المطلب.

[4] أي: عدم تحقيقه كان لأجل أنه يريد اتباع سلفه، ويخشى أن يتبيّن له بطلان طريقتهم لو فحص وحقق، فيترك التحقيق، فهذا مقصّر قطعاً.

[5] الجبلي، منسوب إلى الجِبِلّ بمعنى الطبع(3)،

وقلمّا تخلّف الخَلَف عن طريقة الآباء.

[6] إشارة إلى أن البعض توهم عدم وجود قاصر في المعرفة؛ لأن الله وعد الناس بأنهم إن حاولوا فإنه تعالى يلقي الهداية في قلوبهم، حيث قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}، فمهما كان المطلب غامضاً ومهما كان الاستعداد قليلاً، فإن الله يلقي هدايته لمن حاول. إذن، لا يوجد قاصر!!

ص: 89


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- المفردات في غريب القرآن: 609.
3- العين 6: 136 - 137، مادة «جبل».

هو[1] المجاهدة مع النفس بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل - وهي التي كانت أكبر من الجهاد -، لا النظر والاجتهاد، وإلاّ[2] لأدّى إلى الهداية[3]، مع أنه[4] يؤدي إلى الجهالة والضلالة إلاّ إذا كانت هناك منه تعالى عناية[5]، فإنه[6] غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصراً مع اجتهاده. ومؤاخَذاً إذا أخطأ على قطعه واعتقاده[7].

--------------------------------------

[1] إشكال على الاستدلال، وحاصله: إن (المجاهدة) لا يراد بها التحقيق والتفحص في الأدلة، بل معناها جهاد النفس. بل لا يمكن أن يكون معنى (المجاهدة) التفحص، وإلاّ للزم الكذب - تعالى الله عنه - لأن الكثيرين فحصوا وحققوا ولم يهتدوا، بل ضلّوا، وما أكثرهم.

أقول: الظاهر أن {جَٰهَدُواْ فِينَا} بمعنى الجهاد الأصغر، أي: الحرب في سبيل الله، ولو كان معناها التحقيق فإنه لا يرد إشكال المصنف؛ لأن الذين ضلوا ولم يهتدوا لم يكن جهادهم في سبيل الله، والوعد إنما هو للذين {جَٰهَدُواْ فِينَا}.

[2] أي: لو كان معنى المجاهدة هو النظر والاجتهاد.

[3] حيث إن الله تعالى وعد أو أخبر بأنه سيهديهم في قوله: {لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ}.

[4] أي: النظر والاجتهاد.

[5] فإن الهداية من الله تعالى، قال: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ}(1)، وبالطبع فليس الأمر اعتباطاً، وإنّما يهدي الله من يستحق الهداية، وللتفصيل راجع شرحنا على أصول الكافي(2).

[6] أي: الذي يجتهد وينظر.

[7] «على» متعلق بقوله: (مؤاخذاً)، وذلك لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فإنه حين القطع لا يمكن تكليفه بخلاف قطعه، لكن حيث إنه قصّر في المقدمات

ص: 90


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- شرح أصول الكافي 2: 562.

ثم[1] لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم في ما يجب تحصيله عقلاً[2] لو أمكن، لو لم نقل[3] باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها[4] أمكن الاعتقاد بما هو واقعها[5]

--------------------------------------

كان مؤاخذاً على قطعه بالباطل.

[1] شروع في رد استدلال القائلين بلزوم تحصيل الظن في أصول الدين مع العجز عن العلم، فإنهم استدلوا بالعقل وبالنقل على لزوم التنزل إلى الظن في القسم الأول من الاعتقاديات - وهي ما تجب المعرفة فيها بنفسها - أما العقل فقد قالوا: إنه مع العجز عن العلم فإن العقل يستقل بلزوم الظن؛ لأنه أقرب إلى العلم، وتحصيل الظن خير من البقاء على الجهل المحض!!

وأما الإشكال عليه فهو بإنكار استقلال العقل بلزوم الظن عند العجز، بل مع إمكان الاحتياط بالالتزام الإجمالي لا تصل النوبة إلى الظن أصلاً. كما أن البقاء على الشك خير من الاعتقاد بخلاف الواقع - حيث إن في الظن احتمال الخطأ - وأما النقل فإنه سيأتي الإشكال عليه في قوله: (وكذا لا دلالة في النقل... الخ).

[2] أي: في القسم الأول من المسائل الاعتقادية - وهي ما تلزم المعرفة فيها بنفسها - . أما القسم الثاني فلا كلام في عدم لزوم تحصيل العلم فيه، فلا تصل النوبة إلى الظن أصلاً، «تحصيله» تحصيل العلم، «عقلاً» وهو القسم الأول، «لو أمكن» بمعنى أن وجوب التحصيل إنما هي في صورة الإمكان.

[3] أي: لا استقلال للتنزل إلى الظن، بل بالعكس يستقل العقل بعدم وجوب التنزل إلى الظن، بل عدم جوازه؛ وذلك لإمكان الاحتياط بالاعتقاد الإجمالي.

[4] أي: مع عدم إمكان القطع بها.

[5] أي: يمكن الاعتقاد الإجمالي.

ص: 91

والانقياد لها، فلا إلجاء فيها[1] أصلاً إلى التنزل إلى الظن في ما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية[2] كما لا يخفى.

وكذلك[3] لا دلالة من النقل على وجوبه، في ما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن[4] دليل على عدم جوازه أيضاً.

وقد انقدح[5] من مطاوي ما ذكرنا[6]

--------------------------------------

[1] أي: فلا ضرورة في الأمور الاعتقادية.

[2] حيث لابد فيها من العمل، والاحتياط يوجب العسر أو الاختلال.

[3] أي: لو دل الشرع على لزوم معرفة أصل من أصول الدين - كأسماء الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالخصوص واحداً واحداً - فمع العجز عن العلم لا يجوز التنزل إلى الظن، فإنه لا يوجد دليل شرعي على حجية الظن حينئذٍ، بل هناك أدلة على عدم جواز اتباع الظن.

[4] كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1)، فإن هذه الآية إما خاصة بأصول الدين، وإما عامة تشمل أصول الدين وفروعه «عدم جوازه» عدم جواز التنزل إلى الظن.

[5] حيث إن الشيخ الأعظم بحث في ثلاثة مواضيع(2):

1- إمكان الجاهل القاصر في أصول الدين.

2- حكمه التكليفي من جواز التنزل إلى الظن وعدم الجواز.

3- حكمه الوضعي من حيث الإيمان والكفر والنجاسة والطهارة ونحوها.

والمصنف بعد أن بحث في الموضوع الثاني يبحث الآن في الموضوع الأول.

[6] حيث ذكرنا (أنه مع العجز عنه كان معذوراً، إن كان عن قصور لغفلة أو غموضة المطلب...) وغير هذه العبارة.

ص: 92


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- فرائد الأصول 1: 575.

أن القاصر يكون[1] - في الاعتقاديات - للغفلة أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم[2] وضوح الأمر فيها بمثابة[3] لا يكون الجهل بها إلاّ عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون[4] معذوراً عقلاً.

--------------------------------------

[1] أي: يوجد، و«يكون» هنا تامة.

[2] دليل على وجود القاصر، وحاصله: إن الأمور الاعتقادية أحياناً ليست واضحة، فيمكن أن لا يدركها بعض الناس.

أقول: بل أصول المسائل الاعتقادية واضحة جداً، وإنّما القصور في قلة عقل الجاهل القاصر، فهي كالشمس في رابعة النهار، فإن الأعمى لا يراها، وضعيف البصر قد لا يدركها، لا لأجل عدم وضوحها، بل لأجل عدم إحساسه أو ضعفه.

[3] صفة للمنفي - أي: الوضوح - فالمعنى (لا يوجد وضوح بحيث لا يوجد القاصر).

[4] تفريع على قوله: (أن القاصر يكون في الاعتقاديات). وللمصنف حاشية حاصلها:

لا يقال: كيف هذا القاصر لا يستحق الدرجات العليا في الجنة؟ وكيف يستحق الدخول في النار مع أنه قاصر؟

لأنه يقال: أما عدم استحقاق الدرجات فلنقصانه الذاتي. وأما استحقاقه للنار فلبُعد الكافر القاصر عن ساحة جلاله تعالى، وهو يقتضي دخوله في النار، وهذا لازم ذاتي له، والذاتي لا يعلل!! ويؤيده النصوص الدالة على خلود الكافر مطلقاً في النار - مما يشمل القاصر - !! نعم، هو لا يؤاخذ ولا يعاتب على كفره - لقصوره - .

أقول: قد مرّ أن السعادة والشقاوة ليستا ذاتيين، وبيّنا عدم صحة ما ذهب إليه المصنف، بل هما نتيجة إرادة الإنسان وسوء أو حسن اختياره، هذا أولاً.

وثانياً: إن العقل يستقل بأن القاصر لا يدخل النار ولا يستحق الدركات، فإنه ظلم قطعاً.

ص: 93

ولا يصغى إلى ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها، لكنه[1] إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.

هذا بعض الكلام مما يناسب المقام، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة[2].

الثاني[3]: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة

--------------------------------------

وثالثاً: دل متواتر أو مستفيض الروايات على أن القاصر يمتحن في الآخرة مرّة أخرى.

[1] هذا من كلام المصنف، أي: ذكرنا أن القاصر يكون معذوراً، ولكن ليس كل قاصر، بل القاصر الذي في قرارة نفسه يريد الحق، وأما القاصر المعاند - أي: لو علم الحق لعانده - فهو غير معذور، وكذا القاصر الذي لا يكون منقاداً للحق ولا معانداً.

ويمكن تأييد كلام المصنف بقوله تعالى: {إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا * فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ}(1) ففي تبيين القرآن: (وفي هذا دلالة على أن قصورهم مشوب بالتقصير أيضاً)(2)، انتهى.

[2] أما عدم مناسبته: فلأنه بحث كلامي وفقهي وليس بحثاً أصولياً، أما الكلامي فمن حيث الإيمان والكفر، وأما الفقهي فمن حيث الطهارة والنجاسة.

وأما خروجه عن وضع الرسالة: فلأنّ الكتاب مبني على الاختصار.

جبر ووهن السند والدلالة والترجيح بالظن غير المعتبر

[3] الأمر الثاني من الخاتمة: هو أن الظن غير المعتبر - كالشهرة، والأولوية الظنية،

ص: 94


1- سورة النساء، الآية: 98 - 99.
2- تبيين القرآن 1: 172.

بحيث[1] صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يُوهَن به[2] ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به[3] أحد المتعارضين بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما[4]، أو كان للآخر منهما[5]، أم لا؟

ومجمل القول[6]

--------------------------------------

ونحوهما - هل يجبر ضعف السند أو الدلالة أم لا؟ كما لو كان الخبر ضعيفاً سنداً وقد عمل به المشهور، أو لم يكن له ظهور في الوجوب لكن فهم المشهور منه الوجوب. وكذا لو تعارض خبران، فهل الظن غير المعتبر يرجح أحدهما على الآخر أم لا؟

ثم إن الكلام في الظن غير المعتبر، أما الظن في حال الانسداد فسيأتي الكلام فيه، وكذا سيأتي الكلام في الظن الممنوع عنه كالقياس.

[1] متعلق بالجبر، والمعنى أن السند أو الدلالة لم تكن حجة بنفسها ولكن بسبب هذا الظن تصير حجة، «ما لولاه» أي: لو لا الظن غير المعتبر، «لما كان» السند أو الدلالة.

[2] أي: يُضعّف بالظن غير المعتبر، «ما» أي: سند أو دلالة، «لولاه» لو لا الظن غير المعتبر، «خلافه» خلاف السند أو الدلالة.

[3] «به» بالظن غير المعتبر، «لولاه» لو لا ذلك الظن، «وفقه» أحد المتعارضين.

[4] بأن كانا متساويين من جهة المرجحات، لكن الظن غير المعتبر كان مع أحدهما.

[5] بأن كان الآخر أرجح، كما لو كان راويه أفقه، ولكن الظن غير المعتبر مع غيره. وقوله: (أو لا) أي: هل يجبر أو يوهن أو يرجح بالظن غير المعتبر، أم لا؟

ضرب القاعدة

اشارة

[6] الغرض هو بيان القاعدة الكلية في المورد ثم لنرى أن القاعدة تنطبق على أية صورة.

ص: 95

في ذلك[1]: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة[2] إلى دليل الحجية. كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة[3] عن تحت دليل الحجية. فلا يبعد[4] جبر ضعف السند[5]

--------------------------------------

يقول المصنف: إن هذا الظن إذا أدخل الخبر الضعيف تحت عمومات الحجية، فإن أدلة الحجيّة حينئذٍ تشمل هذا الخبر فيكون حجة. وكذا إذا أخرج الخبر من تحت تلك العمومات، فإن أدلة الحجية لا تشمله فلا يكون حجة.

[1] في الجبر والوهن والترجيح، «بموافقته» بموافقة الظن، وقوله: «هو الدخول» خبر «أن العبرة»، «بذلك» أي: بموافقة الظن.

[2] صفة المرجحية؛ لأن معنى الترجيح هو أن الخبر الذي له مرجح حجة فتشمله أدلة الحجية، دون الخبر الذي لا مرجح له.

[3] أي: مخالفة الخبر للظن غير المعتبر.

تطبيق القاعدة على الصور الخمس
اشارة

[4] شروع في بيان انطباق أو عدم انطباق القاعدة على الصور الخمس المتصورة في الخبر والوهن والترجيح، وتلك الصور هي:

الصورة الأولى: جبر السند الضعيف.

الصورة الثانية: عدم جبر الدلالة الضعيفة.

الصورة الثالثة: عدم وهن السند القوي.

الصورة الرابعة: عدم وهن الدلالة الظاهرة.

الصورة الخامسة: عدم الترجيح بالظن غير المعتبر.

الصورة الأولى

[5] وذلك لأن أدلة حجية الخبر الواحد نوعان: 1- ما دلت على حجية خبر الثقة

ص: 96

في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه[1] ودخوله بذلك[2] تحت ما دل على حجية ما يوثق به[3]، فراجع أدلة اعتبارها[4].

وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد[5]،

--------------------------------------

- أي: الوثاقة المخبرية - . 2- ما دلت على حجية كل خبر وثقنا بصدوره ولو كان راويه ضعيفاً - أي: الوثاقة الخبرية - ويكفي في حجية الخبر دخوله في أدلة أحد النوعين.

وحينئذٍ فالخبر الضعيف الذي قام الظن غير المعتبر بصدوره - كالشهرة - توجد فيه وثاقة خبرية، فيدخل في أدلة النوع الثاني، فيكون حجة.

[1] الظن بالصدور بمعنى ظننا بأن الرواية صدرت عن الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ويكون ذلك في ما لو عمل المشهور بذلك الخبر.

والظن بصحة المضمون بمعنى ظننا بأن معنى الرواية مطابق للواقع، ويكون ذلك في ما لو كانت فتوى المشهور مطابقة مع الخبر من غير استنادهم إليه - مثلاً - .

[2] أي: بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه.

[3] أي: الوثاقة الخبرية، وعمدة دليلها بناء العقلاء، فإنهم يعتمدون على الأخبار التي يثقون بمضمونها أو بصدورها - سواء كان الراوي ثقة أم لا - .

[4] أي: اعتبار الخبر، وأن عمدة الأدلة هي بناء العقلاء، وهو دال على حجية الخبر الذي يوثق بصدوره أو مضمونه.

الصورة الثانية

[5] أي: لو كانت الدلالة ضعيفة - بأن لم يكن لها ظهور في المعنى - فإن الظن بالمراد لا يجبر ضعف الدلالة؛ وذلك لأن بناء العقلاء على حجية الظهور - سواء ظن بأنه المراد أم لم يظن - فلو قال المولى لعبده: (افعل كذا) وتركه العبد معتذراً بأنه ظنّ بأن المولى لم يرد ظاهر اللفظ - وهو الوجوب من افعل - فإن هذا العبد لا يعذره

ص: 97

لاختصاص دليل الحجية[1] بحجية الظهور في تعيين المراد. والظن من أمارة خارجية به[2] لا يوجب ظهور اللفظ فيه، كما هو ظاهر، إلاّ[3] في ما أوجب القطع ولو إجمالاً[4] باحتفافه بما كان موجباً لظهوره فيه لو لا عروض انتفائه.

وعدم وهن السند[5]

--------------------------------------

العقلاء، وكذا لو قال المولى لعبده: (يستحب لك كذا) فإنه لا يتمكن من معاقبة العبد لو تركه - حتى وإن ظن العبد بأن مراد المولى الوجوب - .

[1] حجية الدلالات مختصة بالظواهر؛ لأن الدليل هو بناء العقلاء، والشارع تكلّم بلسان القوم، كما قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1).

[2] «به» بالمراد، «فيه» في المراد.

[3] استدراك، وحاصله: إن الأمارة الخارجية إذا أوجبت القطع بأن الظاهر كان شيئاً آخر فلا يكون هذا الظاهر الحالي حجة، «في ما» أي: في أمارة خارجية أوجبت... الخ.

[4] من دون معرفة تفصيلية بتلك الأمارة، ولكن نعلم إجمالاً بوجودها، «باحتفافه» احتفاف اللفظ، «بما» بأمارة، «لظهوره» اللفظ، «فيه» في المراد الذي ليس بظاهر الآن لاختفاء القرينة، ولكن مع وجود تلك القرينة كان ظاهراً، «انتفائه» أي: انتفاء القرينة، والضمير راجع إلى الموصول - أي: (ما) - الذي كان معناه القرينة.

الصورة الثالثة والرابعة

[5] وذلك لأن النوع الأول من أدلة حجية الخبر يدل على حجية خبر الثقة، فالظن غير المعتبر لا يجعل الثقة غير ثقة، بل يبقى على وثاقته، فأدلة حجية خبر الثقة تشمل هذا الخبر أيضاً.

ص: 98


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

بالظن بعدم صدوره، وكذا عدم وهن[1] دلالته مع ظهوره، إلاّ في ما كشف بنحوٍ معتبر[2] عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة[3] مانعة عن انعقاد ظهوره في ما فيه ظاهر[4] لو لا تلك القرينة، لعدم اختصاص[5] دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره.

وأما الترجيح بالظن[6]:

--------------------------------------

[1] وذلك لما ذكرناه في الصورة الثانية، بأن الملاك هو الظهور - سواء ظننا بالمراد أم لا - .

[2] كما لو أوجب الاطمئنان. والخلل في السند مثل إعراض المشهور عن خبر صحيح مع علمهم به، فإنه قد يكشف عن وجود خلل في السند، بأن يكون بعض رجال السند ضعاف، وقد ظننا وثاقتهم، أو إرسال في السند أو نحو ذلك.

[3] مثلاً: لفظ (ملعون) ظاهر في الحرمة، لكن حمله الفقهاء في عدة روايات على الكراهة، وهذا قد يكشف عن اكتناف الكلام بقرينة صارفة عن الظهور.

[4] أي: قرينة - مفقودة الآن - مانعة عن انعقاد ظهور اللفظ في المعنى الذي الآن اللفظ في ذلك المعنى ظاهر، «لو لا تلك القرينه» أي: لو لم تكن تلك القرينة فإن اللفظ ظاهر في معنى، أما مع وجود تلك القرينة فليس اللفظ ظاهراً في ذلك المعنى.

[5] دليل عدم الوهن، وحاصله: إن دليل حجية خبر الثقة مطلق، سواء ظننا به أم لم نظن، بل حتى لو ظننا بخلافه. وكذا دليل حجية الظهور مطلق، سواء ظننا بأنه مراد أم لم نظن، بل حتى لو ظننا بأن غيره مراد.

الصورة الخامسة

[6] فقد استدل لكون الظن مرجحاً لأحد الخبرين على الآخر بوجوه:

الأول: استكشاف الملاك - وهو الأقربية إلى الواقع - من المرجحات المنصوصة، وحيث إن الظن له جهة كشف عن الواقع فيكون الخبر المظنون أقرب إلى الواقع من

ص: 99

فهو فرع دليل على الترجيح به[1] بعد سقوط الأمارتين بالتعارض[2] من البين وعدم حجية واحد منهما[3] بخصوصه وعنوانه، وإن بقي أحدهما بلا عنوان[4] على حجيته، ولم يقم[5] دليل بالخصوص على الترجيح به. وإن ادعى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه(1) -

--------------------------------------

غيره، فيتعين الأخذ به.

وهذا الوجه لم يرتضه المصنف فهو لا يقبل أصل الترجيح أساساً، وعلى فرض قبوله فإنه لم يعلم أن الملاك هو الأقربية إلى الواقع.

الثاني: الانسداد الكبير - في الأحكام الشرعية - .

الثالث: الانسداد الصغير - في خصوص المرجحات - وسيأتي توضيح هذين الوجهين مع الإشكال عليهما.

[1] أي: بالظن، والمراد أنه لابد من قيام دليل على الترجيح بالظن كي نجعله من المرجحات.

[2] لأن الفرض أن لكليهما شروط الحجية، وحيث لا يمكن الجمع بينهما فإن القاعدة تقتضي تساقطهما، «من البين» متعلق بقوله: (سقوط).

[3] أي: عدم حجية أي واحد منهما معيناً، مع علمنا الإجمالي بأن أحدهما - غير المعيّن - هو الحجة.

[4] أي: أحدهما واقعاً هو الحجة، ولكنا نجهله بسبب تردد الحجة بين الأمارتين المتعارضتين، «بلا عنوان» في مرحلة الإثبات، وأما في مرحلة الثبوت والواقع فهو معيّن.

[5] أي: الترجيح بالظن فرع وجود دليل، ولكن لم يقم هذا الدليل سوى ما ادعاه الشيخ الأعظم، ولا يخفى أن الشيخ أقام ثلاثة أدلة، لم يذكر المصنف سوى هذا الوجه، فراجع الرسائل، «على الترجيح به» بالظن.

ص: 100


1- فرائد الأصول 1: 610.

استفادته[1] من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة على ما يأتي تفصيله في التعادل والترجيح.

ومقدمات الانسداد[2] في الأحكام إنما[3] توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة[4]، لا الترجيح به[5] ما لم يوجب ظن بأحدهما. ومقدماته[6] في خصوص

--------------------------------------

[1] أي: استفادة الدليل، هو الأقربية إلى الواقع - المستفاد من ملاك المرجحات المنصوصة - .

[2] إشارة إلى الدليل الثاني للترجيح بالظن، وحاصله: إن انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية يوجب حجية كل الظنون، ومنها الظن بأحد الخبرين المتعارضين.

وفيه: إن الانسداد يوجب حجية الظن بالأحكام الشرعية والظن بطرق الأحكام فقط، كما مرّ تفصيله، ولم تدل مقدمات الانسداد على الترجيح بالظن. نعم، لو ظنّ بأن مضمون هذا الخبر هو الواقع، أو مضمونه أمارة على الحكم الشرعي فإنه يكون هذا الظن حجة، لا من باب الترجيح به، بل من باب الظن بالواقع أو بالطريق.

[3] إشارة إلى الإشكال على الترجيح بالانسداد الكبير.

[4] أي: بالواقع أو بالطريق كما مرّ مفصلاً.

[5] «به» أي: بالظن، «ما لم يوجب» الظن بالترجيح، «ظن بأحدهما» الواقع أو الطريق.

[6] إشارة إلى الدليل الثالث على الترجيح بالظن، وحاصله: هو الانسداد الصغير، أي: الانسداد في خصوص المرجحات، لا في مطلق الأحكام، بمعنى أنا نعلم بأن الشارع قد جعل مرجحات حين التعارض، وانسد علينا باب العلم أو العلمي لتلك المرجحات، ولا يمكن الاحتياط ولا البراءة، فلابد من الظن؛ لأن

ص: 101

الترجيح لو جرت[1] إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح[2]، لا أنه مرجح[3]

--------------------------------------

ترجيح الشك أو الوهم عليه ترجيح للمرجوح.

وفيه: أولاً: عدم جريان مقدمات الانسداد في الانسداد الصغير أصلاً، بل هي خاصة في الانسداد الكبير، مضافاً إلى إمكان الاحتياط ولا عسر فيه، مضافاً إلى أن البراءة لا محذور فيها؛ لعدم استلزامها الخروج عن الدين.

وثانياً: على فرض جريان مقدمات الانسداد فإنما تجري في المرجحات، أي: في ما يحتمل أن يكون مرجحاً، فنجعل محتملات المرجحيّة في دائرة واحدة، وبأيّة واحدة منها ظننا بأنها المرجّح فإنا نعمل بها، وبأية واحدة لم نظن فلا نأخذ بها. ثم نجعل الظن في دائرة المرجحات، فإن ظننا بأن الشارع جعل الظن مرجحاً أخذنا به، وإن لم نظن بذلك فلا يجوز الأخذ به.

ولتوضيح ذلك نقول: إنا قد نقطع بعدم حجية الظن كما في بعض صورة الانفتاح، وقد نظن بعدم حجيته، كما لو دلّ ظاهر آية على عدم الحجية، وقد نشك في حجيته، وقد يكون العكس: بأن نقطع أو نظن بالحجية، فلا تلازم بين وجود الظن - كموضوع خارجي يقوم بنفس المكلف - وبين حجيته.

وهنا: هل جعل الشارع الظن مرجحاً؟ قد نقطع أو نظن بأنه لم يجعله مرجحاً، وقد نشك، ففي هذه الصور لا يمكن الترجيح به. نعم، لو قطعنا أو ظننا بأن الشارع جعل الظن مرجحاً فلابد من الترجيح به.

[1] «لو جرت» إشارة إلى الإشكال الأول، و«إنما توجب» إشارة إلى الإشكال الثاني.

[2] حيث نعلم بوجود مرجحات، ولكنّها اشتبهت بين عدة محتملات، فأية واحدة ظننا بأنها المرجح أخذنا بها.

[3] أي: مقدمات الانسداد لا تقتضي كون نفس الظن مرجحاً، بل هو يُعيِّن

ص: 102

إلاّ إذا ظن أنه أيضاً مرجح[1]، فتأمل جيداً.

هذا[2] في ما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه[3] دليل.

وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك[4] - كالقياس - فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح في ما[5] لا يكون لغيره أيضاً. وكذا في ما يكون به أحدهما، لوضوح[6] أن الظن القياسي إذا كان[7] على خلاف ما لولاه لكان حجةً بعد المنع

--------------------------------------

المرجح - وقد شرحناه مفصلاً - .

[1] أي: كان الظن في دائرة المرجحات المحتملة، ثم ظن بأن الظن من المرجحات.

[2] أي: الجبر والوهن والترجيح.

[3] أي: عن العمل بالظن بخصوص ذلك الظن، كالقياس، فإنه بخصوصه ورد نهي عن العمل به.

[4] أي: بخصوصه، لا المنع العام عن الظن؛ إذ المنع العام مخصَّص كثيراً بالظنون الخاصة.

[5] المقصود هو عدم الجبر والوهن والترجيح بالظن، سواء لم تكن هذه الثلاثة لغير الظن أيضاً أم كانت، فقوله: «في ما لا يكون لغيره» أي: في ما لم يكن غير الظن جابراً موهناً مرجحاً، وقوله: «وكذا في ما...» أي: وكذا لو كان جبر أو وهن أو ترجيح لغير الظن، «في ما» في شيء كالشهرة، «يكون به» بذلك الشيء، «أحدهما» الجبر، الوهن، الترجيح.

[6] حاصله: إنه بعد منع الشارع لا يمكن للقياس أن يُدخل شيئاً في دليل الحجية أو يُخرجه عن ذلك الدليل؛ وذلك لمنع الشارع عن استعمال القياس في الشرعيات مطلقاً.

[7] أي: لو كان شيء دليلاً فإن قيام القياس على خلافه لا يوجب خروج

ص: 103

عنه لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته، وإذا كان[1] على وفق ما لولاه لماكان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين. وذلك[2] لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع[3] رأساً وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعاً، ودخله[4] في واحد منها نحو استعمال له فيها[5]، كما لا يخفى، فتأمل جيداً[6].

--------------------------------------

ذلك الشيء عن دليل الحجيّة، «على خلاف ما» أي: دليل، «لولاه» لو لا القياس، «لكان» ذلك الدليل، و«بعد» متعلق بقوله: (الظن القياس)، «لا يوجب» جزاء (إذا كان)، «خروجه» خروج ذلك الدليل.

[1] أي: كان الظن القياسي، ومعنى الموصول ومرجع الضمائر كالفقرة السابقة.

[2] أي: سبب عدم تمكن القياس من إخراج الدليل عن دليل الحجية، ولا إدخال غير الدليل في دليل الحجية ولا الترجيح.

[3] أي: إلغاء القياسَ الشارعُ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول وإعماله في الفاعل، وهذا غلط أو ركيك في الاستعمال، «رأساً» بشكل نهائي.

[4] أي دخل القياس في الجبر أو الوهن أو الترجيح هو استعمال له في الشرعيات، وقد قامت الأدلة على عدم جواز استعماله في الشرعيات مطلقاً، ف- (لدلالة دليل...) الكبرى، و(ودخله...) الصغرى.

[5] «منها» الجبر، الوهن، الترجيح، «نحو» كيفية، «استعمال له» للقياس، «فيها» في الشرعيات.

[6] حتى لا تشكل بأنه أي فرق بين المنع عن القياس بالخصوص وبين المنع عن مطلق الظن في قوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(1). وذلك لأن المنع عن

ص: 104


1- سورة يونس، الآية: 36.

--------------------------------------

شيء بالخصوص - كالقياس - آبٍ عن التخصيص، وأما المنع العام فقد خصّصه نفس الشارع مراراً وتكراراً، فلا مانع من تخصيص آخر.

ص: 105

ص: 106

المقصد السابع

اشارة

ص: 107

ص: 108

المقصد السابع: في الأصول العملية[1]. وهي التي ينتهي إليها المجتهد[2]

--------------------------------------

المقصد السابع في الأصول العملية

[1] أي: المرتبطة بالعمل، ويقابلها الأصول الاعتقادية المرتبطة بالقلب.

ثم إن أصول الفقة قسمان:

1- الأصول الاجتهادية: وهي الأمارات التي لها كاشفية عن الواقع، ولم يؤخذ الشك في موضوعها - بل الشك ظرف لها - .

2- الأصول الفقاهية: وهي الأصول العملية التي ليس لها كشف عن الواقع أصلاً، بل تُعيّن وظيفة الشاك، وقد أخذ الشك في موضوعها.

مثلاً: لو أخبر الثقة عن قول الإمام بالحِلية، فإن كلام الثقة له كشف عن الواقع، أما لو ذهبنا إلى الحلية؛ لعدم وجود نص على التحريم، فإن هذه الحِلية لا تكشف عن الحكم الواقعي، بل هي وظيفة عند العمل، أي: يتعامل مع الشيء تعامل الحلال فقط.

[2] أي: يتوصل إلى تلك الأصول، وإنّما قال المجتهد لأن بعض الأصول يمكن للمقلد إجراؤها فلا تكون من أصول الفقه، كالأصول الجارية في الشبهات الموضوعية.

مثلاً: إذا شككنا في طهارة أو نجاسة عرق الجنب عن الحرام فلابد من الرجوع إلى المجتهد، وعليه الفحص عن الدليل، فإن لم يجده فإنه يجري أصالة الطهارة، فيفتي بها.

ص: 109

بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل[1]، مما دل[2] عليه حكم العقل أو عموم النقل.

والمهم منها أربعة[3]، فإن مثل[4] قاعدة الطهارة في ما اشتبه طهارته بالشبهة

--------------------------------------

وأما إذا علمنا بنجاسة الدم وبطهارة الطماطم، ثم وجدنا بقعة حمراء لا نعلم بأنها من أيهما، فلا حاجة إلى الرجوع إلى المجتهد ليفتي بطهارتها، بل نفس المقلد يمكنه إجراء أصالة الطهارة.

والحاصل: الأصول الجارية في الشبهات الحكمية هي الأصول العملية التي يتوصل إليها المجتهد دون المقلد، أما الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية فيمكن للمقلد إجراؤها في بعض الصور.

[1] فلا يجوز إجراؤها قبل الفحص واليأس؛ لأن موضوعها الشك حين فقدان الدليل.

[2] من - البيانية - تتعلق بقوله: (ينتهي)، أي: يتوصل إليها المجتهد من حكم العقل أو عموم النقل.

[3] أي: من الأصول العمليه، والأربعة هي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب.

[4] دفع لإشكال، وحاصله: إن الأصول العملية المقررة حين الشك كثيرة، كقاعدة الطهارة، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وقاعدة اليد ونحوها، فلماذا خصص البحث بهذه الأربعة؟

والجواب من جهتين:

الأولى: إن تلك القواعد لا نقاش فيها كثيراً، بل هي ثابتة متفق عليها.

الثانية: إن المسألة الأصولية هي الجارية في كل أبواب الفقه - من الطهارة إلى الديات - وهذه الأربعة كذلك تجري في كل الفقه، أما سائر الأصول فهي منحصرة في بعض أبواب الفقه، فلذا يبحث عنها في الفقه، كقاعدة الطهارة، فإنها خاصة بباب

ص: 110

الحكمية[1]، وإن كان[2] مما ينتهي إليه في ما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته، إلاّ أن[3] البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام. بخلاف الأربعة - وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب -، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها[4] وتوضيح ما هو حكم العقل أو

--------------------------------------

الطهارة حصراً، ويعبر عن هذه الأصول الخاصة بالقواعد الفقهيّة.

[1] أي: في الموارد التي موضوعها معلوم لكن حكمها من حيث الطهارة والنجاسة مجهول، كعرق الجنب من الحرام. أما الطهارة في الشبهات الموضوعية فليست شأناً للمجتهد، بل يجريها المقلد بنفسه - كما أشرنا إليه قبل قليل - .

ثم للمصنف حاشية، قال فيها: (لا يقال: إن قاعدة الطهارة - مطلقاً - تكون في الشبهة الموضوعية، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع(1).

فإنه يقال: أولاً: نمنع ذلك، بل إنهما من الأحكام الوضعية الشرعية، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لتشريعهما كما لا يخفى.

وثانياً: إنهما لو كانتا كذلك فالشبهة فيهما - في ما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما - كانت حكمية، فإنه لا مرجع لرفعها إلاّ الشارع، وما كانت كذلك ليست إلا حكمية)(2)،

انتهى.

[2] أي: وإن كان ينطبق عليها تعريف الأصل العملي، حيث إن قاعدة الطهارة ينتهي الفقيه إليها في ما لا دليل على الطهارة أو النجاسة.

[3] إشارة إلى الجهة الأولى من الجواب.

[4] أي: محل جريانها، مثلاً: الاستصحاب في الأصل المثبت هل حجة أم لا؟ وهل هو خاص بالجعل أو المجعول؟ وهل يجري مع الشك في المقتضي أم يجري

ص: 111


1- أي: هي أمور تكوينية لا ترتبط بالشارع بما هو شارع، بل هو يكشف عنها، كالأوامر الإرشادية.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 16.

مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جريانها[1] في كل الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم[2].

فصل: لو شك في وجوب شيء أو حرمته[3]،

--------------------------------------

في الشك في المانع فقط؟ ونحو ذلك من البحوث، وكذا سائر الأصول الأربعة.

[1] إشارة إلى الجهة الثانية من الجواب، «جريانها» أي: الأصول الأربعة.

[2] لعله إشارة إلى أن الحصر في الأربعة عقلي، فلا تدخل سائر الأصول عقلاً، فحين الشك:

فإنه إما تكون حالة سابقة فهو مجرى الاستصحاب، أو لا تكون، وحينئذٍ إما الشك في التكليف فهو مجرى البراءة، وإما الشك في المكلف به ودار الأمر بين المحذورين فهو مجرى التخيير، أو مع عدم الدوران بينهما فهو مجرى الاشتغال، هذه صور أربعة ولا شق آخر.

أو إشارة إلى أن بعض القواعد الفقهية هي أيضاً محل كلام كثير، كقاعدة ما يضمن بصحيحه، وكقاعدة الفراغ ونحوها، فلا وجه للجواب الأول.

أو إشارة إلى أن بعض المسائل الأصولية - كالنهي عن العبادة موجب للفساد أم لا - لا يجري في كل أبواب الفقه، أو لغير ذلك.

فصل أصالة البراءة

اشارة

[3] لا يخفى أن الشيخ الأعظم(1)

قسم البحث إلى الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية، ثم قسم كل واحد منهما إلى أربعة مسائل: حيث إن منشأ الشبهة الحكمية: إما فقدان النص، وإما إجماله، وإما تعارض النصين، مضافاً إلى الشبهة الموضوعية، ثم بحث في كل واحد على انفراد.

ص: 112


1- فرائد الأصول 2: 17.

ولم تنهض عليه حجة[1]، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأموناً من عقوبة مخالفته[2]، كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص، أو إجماله

--------------------------------------

ولكن المصنف لم يرتض هذا التقسيم، فدمج الشبهة التحريمية والوجوبية - سواء كانت من فقدان النص أم إجماله - في مسألة واحدة.

كما لم يبحث الشبهة الموضوعية؛ لأنها بحث فقهي لا أصولي.

وكذا لم يبحث عن تعارض النصين لرجوعه إلى فقدان الحجة على مبنى التساقط، أو إلى الخبر الواحد بناءً على الترجيح أو التخيير؛ ولذا قال في الهامش: (لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل، وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة، إنما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك(1) بعد الاتحاد في ما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة.

وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك - على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير - كما أنه داخل في ما لا حجة فيه - بناءً على سقوط النصين عن الحجية - .

وأما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الأصولية، بل هي فقهية، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول إلاّ استطراداً، فلا تغفل)(2)،

انتهى.

[1] أي: على الوجوب المشكوك أو الحرمة المشكوكة، فلا علم ولا علميّ، «ترك الأول» ما شك في وجوبه، «فعل الثاني» ما شك في حرمته.

[2] أي: مخالفة الوجوب أو الحرمة، فلو كان تكليف واقعاً فلا يعاقب على تركه؛ وذلك لاستقلال العقل وحكم الشرع بالبراءة.

ص: 113


1- أي: عقد فصل لكل منها.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 23.

واحتماله[1] الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه[2] في ما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقف[3] في مسألة تعارض النصين في ما لم يكن ترجيح في البين؛ وأما بناء على التخيير[4] - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها[5]، لمكان وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها، كما لا يخفى.

وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة:

أما «الكتاب»: فبآيات[6]،

--------------------------------------

[1] بيان لإجمال النص، أي: كان النصّ موجوداً لكن لم يكن له ظهور في الوجوب أو الاستحباب، أو لم يكن له ظهور في الحرمة أو الكراهة.

[2] أي: تعارض النص، وهذا على مبنى تساقط المتعارضين، وحيث لا دليل آخر يلزم الرجوع إلى الأصل العملي - وهو البراءة هنا - .

[3] أي: تساقط النصين.

[4] أي: حين عدم وجود المرجِّح لأحد النصين على الآخر، فالمشهور على التخيير، بمعنى العمل بأحد النصين حسب ما يختاره، وهذا ليس من البراءة في شيء، بل هو عمل بالدليل الشرعي الحجة - وهو أحد النصين - .

[5] من سائر الأصول العملية.

أدلة البراءة

الأول: الكتاب

[6] منها: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ}(1)، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ}(2).

ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا

ص: 114


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- سورة البقرة، الآية: 286.

أظهرها[1]: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1)[2].

--------------------------------------

يَتَّقُونَۚ}(2).

ومنها: قوله تعالى: {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(3).

وهناك آيات أخرى ذكرها الشيخ الأعظم في الرسائل(4) مع بيان عدم دلالتها على المطلوب، فراجع.

[1] وجه الأظهرية - على ما قيل(5)

- : هو أن المهم في البراءة هو الأمن من العقوبة على مخالفة الواقع - إن كان - وهذه الآية صريحة في عدم التعذيب.

[2] والاستدلال بهذه الآية يتم عبر مقدمات، ومنها:

1- سلخ {كُنَّا} عن معنى الزمان الماضي، بأن يراد بالآية بيان قضية حقيقية تجري في هذه الأمة أيضاً.

2- كون {مُعَذِّبِينَ} يراد به العذاب الدنيوي والأخروي معاً؛ إذ مجرد عدم العذاب الدنيوي لا دلالة فيه على عدم العذاب الأخروي، فلا تثبت البراءة، مثلاً: تكرار المُحرِم للصيد فإنه لا عقوبة دنيوية فيه مع وجود العقوبة الأخروية، كما قال تعالى: {وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ}(6).

3- كون {نَبۡعَثَ رَسُولٗا} يراد به (البيان)، والتعبير ب{نَبۡعَثَ رَسُولٗا} لكون البيان غالباً عن طريق الرسول، كما يقال: (أتمّ الصوم حتى أذان المغرب)، فإن المقصود هو حتى المغرب، ولكن بما أنه جرت العادة على الأذان حين المغرب فلذلك تمّ

ص: 115


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- سورة التوبة، الآية: 115.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- فرائد الأصول 3: 24 - 26.
5- منتهى الدراية 5: 166.
6- سورة المائدة، الآية: 95.

وفيه[1]: إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله[2] كان مِنّة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك. ولو سلم[3] اعتراف الخصم بالملازمة بين

--------------------------------------

تحديد نهاية الصوم بالأذان.

4- أن يكون المقصود من {مُعَذِّبِينَ} هو عدم استحقاق العقاب، أما لو كان المراد عدم فعلية العقاب فلا يدل على البراءة؛ لأن عدم فعلية العقاب قد تجتمع مع الحرمة، كالمحرمات المعفوّ عنها - مثلاً - .

وهنا كلام طويل من أراده راجع الرسائل(1) وغيره.

[1] لقد أشكلوا على هذه المقدمات، ولكن العمدة هو الإشكال على المقدمة الرابعة، وبه ينهدم أساس الاستدلال، وحاصل الإشكال: إن المفيد للبراءة هو دلالة الآية على عدم استحقاق العقوبة، فحينئذٍ يقال: إن عدم استحقاق العقوبة يلازم البراءة قطعاً، ولكن {مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} كما يحتمل ذلك يحتمل أن يراد به عدم فعلية العقوبة، أي: لا يُعاقبون مع استحقاقهم للعقوبة مِنّة عليهم وإتماماً للحجة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بالآية على البراءة.

وربما يؤيد الاحتمال الثاني بقوله تعالى: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا}(2) وذلك لأن مخالفة الأحكام العقلية توجب استحقاق الهلكة، ولكن الله يرسل الرسل ليأمروهم، فلما تمت الحجة أهلكهم فعلاً.

[2] أي: هذا الاحتمال أيضاً وارد، فلا يمكن الاستدلال بالآية؛ لأن الاستدلال متوقف على الاحتمال الأول.

[3] قيل(3): إن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق، فلا يدل على البراءة.

ص: 116


1- فرائد الأصول 2: 22 - 24.
2- سورة الإسراء، الآية: 16.
3- قوانين الأصول 2: 16.

الاستحقاق والفعلية لما صح[1] الاستدلال بها إلاّ جدلاً؛ مع وضوح منعه[2]، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه[3]، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلاّ كالوعيد به فيه[4]، فافهم[5].

--------------------------------------

وأجاب عنه الشيخ الأعظم: (بأن عدم الفعلية يكفي في المقام؛ لأن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة: الوقوع في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم... ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية)(1).

لكن المصنف أشكل عليه بأمرين:

الأول: إن هذا الكلام لا يفيدنا لإثبات البراءة لأنفسنا، بل إنّما يفيد لإلزام الخصم عند الجدال، فنقول له: ما دمت تعترف بالملازمة بين الفعلية وبين الاستحقاق، وقد دلت الآية على عدم الفعلية، فلا استحقاق، وهو معنى البراءة.

وثانياً: إنه لا تلازم بين استحقاق العقوبة وبين فعليتها في المعصية الحقيقيّة؛ وذلك لاحتمال العفو، فكيف يدعي الخصم التلازم في مجهول الحرمة بين فعلية العقاب وبين استحقاقه.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «منعه» أي: منع اعتراف الخصم بالملازمة.

[3] «ما شك» الشبهة الوجوبية أو التحريميّة، «عنده» عند الخصم، «ما علم بحكمه» أي: الحرام أو الواجب المعلوم.

[4] «بالعذاب فيه» في المشكوك «إلاّ كالوعيد به» بالعذاب «فيه» في ما علم بحكمه، والحاصل: كما لا تلازم بين الاستحقاق وبين الفعلية للعقاب في مخالفة معلوم الحرمة أو الوجوب، كذا وبطريق أولى لا تلازم بينهما في المشكوك الحرمة أو الوجوب.

[5] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على كلام الشيخ الأعظم، قال في

ص: 117


1- فرائد الأصول 2: 23.

وأما «السنة»: فبروايات:

منها: حديث الرفع[1]،

--------------------------------------

العناية: (إن الشيخ أعلى الله مقامه لم يَدّع اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية، كي يجاب بهذا الجواب، بل ادّعى اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق... الخ)(1).

وهذا الكلام صحيح في حد نفسه؛ لأن عدم فعلية العقاب بشكل دائم دليل على عدم المقتضي لاستحقاقه؛ لعدم المعنى للحرمة مع العفو عنها دائماً، وقد أشكل في شرح اللمعة(2)

على من قال بأن الظهار حرام لكنه معفو عنه.

الثاني من أدلة البراءة: السنة
1- حديث الرفع

[1] وهو قول الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد)(3).

وروي الحديث بألفاظ متقاربة ففي بعضها (وضع) بدل (رفع)، مع تقديم وتأخير في بعض الألفاظ، روي بسند صحيح في الخصال(4)، وبأسناد أخرى في الكافي والتوحيد والفقيه والمحاسن(5)

وغيرها.

ثم إن في هذا الحديث بحوثاً:

منها: أن يراد بالموصول في (ما لا يعلمون) الحكم أو الأعم من الحكم وفعل

ص: 118


1- عناية الأصول 4: 12.
2- الروضة البهية 6: 117.
3- الكافي 2: 463، وفيه «وضع» مع اختلاف يسير.
4- الخصال: 417.
5- التوحيد: 353؛ من لا يحضره الفقيه 1: 59؛ المحاسن 2: 339.

--------------------------------------

المكلف.

أما لو كان المراد هو خصوص فعل المكلف فيكون خاصاً بالشبهات الموضوعية، فلا يدل على البراءة، كما لو شك في شرب مايع أنه خمر أو خل، فرفع المؤاخذة على ارتكابه - مثلاً - لا يكون من موارد البراءة؛ لأن الغرض منها رفع التكاليف، وسيأتي مزيد توضيح في قول المصنف: (نعم، لو كان المراد من الموصول... الخ).

ومنها: إن رفع الحكم في (ما لا يعلمون) لا يحتاج إلى تقدير شيء؛ لأن وضع الحكم بيد الشارع فيكون رفعه بيده، وأما في سائر فقرات الحديث كقوله: (ما اضطروا إليه) فحيث إن الموصول فيها هو خصوص فعل المكلّف؛ لعدم وقوع التكليف مورداً للاضطرار، وإنما مورده هو الفعل الخارجي للمكلف، فلابد من تقدير شيء، إما كل الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة، أي: رفعت المؤاخذة على المضطر إليه، أو رفعت كل آثاره، أو رفع الأثر الظاهر كالبينونة في الطلاق مثلاً، وسيأتي مزيد توضيح في قول المصنف: (ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة... الخ).

ومنها: إن الموضوع أعم من الحكم التكليفي والوضعي، بقرينة رواية المحاسن(1)، حيث استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة، وسيأتي توضيحه في قول المصنف: (ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح... الخ).

ومنها: إن الحديث سيق لبيان المنة على هذه الأمة، فالمرفوع ما كان فيه منة بلا أن يكون نقمة على بعض الأمة، فلا يرفع الضمان في الخطأ؛ لعدم المنة على من أتلف ماله مثلاً، ولا يرفع أثر الصلاة - بالقول ببطلانها - بنسيان غير الأركان مثلاً، وسيشير المصنف إليه بقوله: (التي تقتضي المنة رفعها).

ص: 119


1- المحاسن 2: 339.

حيث عُد «ما لا يعلمون» من التسعة المرفوعة فيه[1]؛ فالإلزام المجهول[2] مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلاً[3] وإن كان ثابتاً واقعاً[4]، فلا مؤاخذة عليه قطعاً[5].

لا يقال[6]: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً[7]،

--------------------------------------

ومنها: إن المرفوع الأثر المترتب على العنوان الأولي، لا الأثر المترتب على العنوان الثانوي، وسيبينه المصنف بقوله: (ثم لا يذهب عليك أن المرفوع في ما اضطر إليه... الخ).

[1] في حديث الرفع.

[2] سواء كان الإيجاب أم التحريم.

[3] أي: ظاهراً، وبعبارة أخرى: يرفع تنجزه.

[4] فإن الجهل لا يرفع أصل الحكم، بل يرفع تنجزه؛ وذلك لاشتراك العالم والجاهل في الحكم في مرحلة الإنشاء والفعلية؛ لاستحالة تخصيص الحكم بالعالم؛ لاستلزامه التصويب والدور، وقد مرّ البحث في ذلك.

[5] أي: على الإلزام المجهول، والمراد لا استحقاق للمؤاخذة، وهذا ما يكفي في الدلالة على البراءة.

[6] حاصل الإشكال: إن استحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى هو أثر عقلي، وليس بحكم الشارع - بما هو شارع - فلا يكون قابلاً للوضع، فلا يكون قابلاً للرفع.

مثلاً: قبح الظلم إنما هو بحكم العقل، فلا يمكن للشارع رفع قبحه؛ لأن وضعه لم يكن بيده، والحاصل: إن رفع التكليف لا يلازم رفع استحقاق المؤاخذة، فلا دلالة على البراءة. نعم، نفس المؤاخذة - أي: فعليتها - بيد الشارع، فيمكنه العفو وعدم العقاب، ولكن هذا لا يفيد للاستدلال على البراءة.

[7] «ظاهراً» متعلق ب- (بارتفاع) أي: الارتفاع ظاهري، فالجهل بالحكم لا يوجب رفع الحكم واقعاً، بل رفعه ظاهراً.

ص: 120

فلا دلالة له على ارتفاعها[1].

فإنه يقال[2]: إنها[3] وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً، إلاّ أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه[4] من إيجاب الاحتياط شرعاً، فالدليل على رفعه[5] دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته.

--------------------------------------

[1] «له» لارتفاع التكليف ظاهراً، «ارتفاعها» المؤاخذة.

[2] حاصل الجواب: إن منشأ الحكم العقلي هو أمر بيد الشارع، فالعقل إنما يستقل باستحقاق العقوبة لو كان هناك تكليف، فلو رفع المولى التكليف يرتفع الحكم العقلي قهراً، نظير أن الزوجية ترتفع بارتفاع منشأ انتزاعها - وهي الأربعة مثلاً - فلا يمكن لأحد رفع الزوجية من الأربعة، لكنه يمكنه رفعها برفع منشأ الانتزاع.

[3] «إنها» أي: المؤاخذة، «إلاّ أنها» المؤاخذة، «يترتب عليه» على الإلزام الشرعي، «أثره» أثر الإلزام الشرعي. وحاصل المعنى: إن الشارع كان يمكنه إيجاب الاحتياط حفظاً لتكاليفه الواقعية، وبعد إيجاب الاحتياط يستقل العقل باستحقاق المؤاخذة على مخالفة الواقع، ولكن الشارع مِنّة على العباد لم يُوجب الاحتياط، فارتفع منشأ حكم العقل باستحقاق المؤاخذة.

والحاصل: إ ن استحقاق المؤاخذة لا يمكن رفعه بنفسه، ولكن يمكن رفعه برفع منشئه - وهو إيجاب الاحتياط - .

[4] أي: باقتضاء الإلزام الشرعي، وهو عطف تفسيري على (أثره)، وقوله: «من إيجاب الاحتياط» بيان (أثره)، أي: أثر التكليف هو وجوب الاحتياط حين الشبهات لكي لا يخالف التكليف.

[5] أي: الدليل على رفع الإلزام، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «المستتبع» أي: عدم وجوب الاحتياط يستتبع عدم استحقاق العقوبة، «على مخالفته» مخالفة الإلزام المجهول.

ص: 121

لا يقال[1]: لا يكاد يكون إيجابه[2] مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول[3]، بل على مخالفة نفسه[4]، كما هو قضية إيجاب غيره[5].

فإنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] حاصل الإشكال: إن كل تكليف يستلزم استحقاق العقوبة على مخالفته لا على مخالفة تكليف آخر، مثلاً: الأمر بالصوم يستلزم الاستحقاق للعقوبة على مخالفته لا على مخالفة الأمر بالصلاة.

وهنا عدم إيجاب الاحتياط يرفع استحقاق العقوبة على مخالفة الاحتياط، ولا يرفع عدم استحقاقها على مخالفة التكليف المجهول، فتحصل: أنه لا رافع لاستحقاق العقاب على التكليف المجهول، فلا دلالة على البراءة!!

[2] إيجاب الاحتياط، «لاستحقاقها» العقوبة.

[3] لأن كل تكليف يستتبع استحقاق العقاب على مخالفة نفسه، لا على مخالفة غيره من التكاليف، وهنا وجوب الاحتياط لا يستتبع استحقاق العقاب على التكليف المجهول، كي يرتفع هذا الاستحقاق بارتفاع الاحتياط!!

[4] أي: وجوب الاحتياط يستتبع استحقاق العقوبة على مخالفة نفس الاحتياط.

[5] «هو» استحقاق العقوبة، «قضية» مقتضى، «إيجاب غيره» غير الاحتياط، أي: سائر التكاليف تقتضي استحقاق العقوبة على مخالفة نفسها، لا غيرها.

[6] حاصل الجواب: إن الواجبين قد يكونان نفسيين - كوجوب الصلاة ووجوب الصوم - فلا تكون مخالفة أحدهما سبباً لاستحقاق العقاب على الآخر، أما إذا كان أحدهما نفسياً والآخر طريقاً إليه - كوجوب المقدمة حيث إن وجوبها غيري - فالتكليف واحد حقيقة، فمخالفة الطريقي تستوجب العقاب على مخالفة النفسي.

وهنا الاحتياط طريقي، أي: إنّما وجب لا لمصلحة في نفسه - نفسياً - بل لأجل

ص: 122

هذا[1] إذا لم يكن إيجابه طريقياً، وإلاّ فهو[2] موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره[3] من الإيجاب والتحريم الطريقيين، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما[4] صح أن يحتج به ويقال: «لم أقدمت مع إيجابه؟»، ويخرج به[5] عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك[6]:

--------------------------------------

الحفاظ على التكاليف الواقعية، فمخالفة الاحتياط إذا أدّت إلى مخالفة التكليف الواقعي فإنها تستلزم استحقاق العقاب على مخالفة ذلك التكليف.

[1] أي: استحقاق العقوبة على مخالفة نفس التكليف، «إيجابه» أي: إيجاب الاحتياط.

[2] أي: إن كان إيجاب الاحتياط طريقياً، «فهو» أي: فوجوب الاحتياط، «على المجهول» أي: على مخالفة التكليف الواقعي المجهول عند المكلف، والذي يُراد من وجوب الاحتياط الحفاظ على ذلك التكليف.

[3] في غير إيجاب الاحتياط، من سائر التكاليف الطريقية - التي هي وجوبات غيريّة - .

[4] «بهما» بالإيجاب والتحريم الطريقيين، «به» بإيجاب الاحتياط، «إيجابه» إيجاب الاحتياط. والحاصل: إنه كما يصح الاحتجاج على العبد المخالف لسائر التكاليف الطريقية فيقال له: لماذا خالفت الواقع وقد جعلنا طريقاً إليه؟ كذلك في الأمر بالاحتياط يصح الاحتجاج عليه فيقال له: لماذا خالفت التكليف الواقعي مع إيجاب الاحتياط؟ فلا يكون عقاباً بلا بيان.

[5] بإيجاب الاحتياط، «بهما» الإيجاب والتحريم الطريقيين.

[6] أي: إمكان إيجاب الاحتياط، ولكن مع ذلك لم يوجبه الشارع وذلك مِنّة على العباد، والحاصل: إن للتكليف المجهول اقتضاء إيجاب الاحتياط ومعه تصح المؤاخذة، لكن الشارع رفعه مِنّة.

ص: 123

أن رفع التكليف المجهول[1] كان منّةً على الأمة حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه، فافهم[2].

ثم لا يخفى[3]

--------------------------------------

[1] أي: رفع تنجزه، وإلاّ ففي مرحلة الإنشاء والفعلية يشترك الجاهل والعالم، «وضعه» وضع التكليف المجهول، «قضيته» أي: مقتضى التكليف المجهول، فإن له اقتضاءً لإيجاب الاحتياط، «من إيجاب» بيان لقوله: «قضيته».

[2] لعله إشارة إلى أن الحديث ليس في مقام الامتنان؛ لأن سائر الفقرات - الاضطرار، الإكراه، ما لا يطيقون... الخ - مرفوعة بحكم العقل، لأنها غير اختيارية، فلا معنى لرفعها امتناناً، ومع التقصير في المقدمات ليست مرفوعة في هذه الأمة، مثلاً: من أوقع نفسه في الاضطرار غير معذور، وحينئذٍ فالسياق ليس في مقام الامتنان، فكذلك هذه الفقرة وهي (ما لا يعلمون).

[3] إن الشيخ الأعظم(1)

ذكر لزوم تقدير شيء في حديث الرفع بعد وضوح أنه لم ترفع هذه الأمور تكويناً في هذه الأمة، فالإكراه والاضطرار... الخ موجودة خارجاً، وحينئذٍ لتصحيح كلام الحكيم لابد من تقدير شيء، وهو المعبر عنه بدلالة الاقتضاء، حيث إن الشيء الذي يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه لابد من أن يكون مراداً.

والمقدر في حديث الرفع: إما المؤاخذة، وإما الأثر الظاهر وإما جميع الآثار.

أما المصنف فيقول: إنه لا يلزم تقدير شيء في (ما لا يعلمون)؛ لأن التكليف غير المعلوم هو بيد الشارع، فيمكنه وضعه ويمكنه رفعه. نعم، في سائر الفقرات لابد من أحد أمرين:

1- تقدير شيء؛ لأن التكليف لا يضطر إليه ولا يكره عليه... الخ، بل الفعل الخارجي هو الذي يضطر إليه أو يكره عليه، وحيث إن الفعل الخارجي غير مرفوع

ص: 124


1- فرائد الأصول 2: 28 - 29.

عدم الحاجة إلى تقدير «المؤاخذة» ولا غيرها[1] من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون»، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقاً - كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية[2] - بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً[3]، وإن كان في غيره[4] لابد من تقدير الآثار، أو المجاز في

--------------------------------------

تكويناً فلابد من تقدير شيء وهو الآثار، أي: رفع أثر ما اضطر إليه، وأثر ما أكره عليه... وهكذا.

2- القول بأن في الإسناد مجازاً، كما يقال: (جرى الميزاب) فإن الجاري حقيقة هو الماء، وليس المجاز في الكلمة، فلا يراد من الميزاب الماء، بل يراد به معناه الحقيقي، وإنّما المجاز في الإسناد، أي: عوضاً عن إسناد الجريان إلى الماء فإنه أسند إلى الميزاب مجازاً - بعلاقة الحال والمحل - .

وكذا في سائر فقرات حديث الرفع مجاز في إسناد الرفع إليها، مع أن المرفوع غيرها بعلاقة السبب والمسبب - مثلاً - فالاضطرار سبب لرفع الآثار فلذا أسند الرفع إليه ولكن باعتبار الآثار.

وعدم احتياج تقدير في (ما لا يعلمون) بناءً على كونه في التكليف، أما لو كان معنى (لا يعلمون) الموضوع الخارجي المشتبه - أي: لو كان المراد به الشبهة الموضوعية - فلابد من أحد الأمرين أيضاً.

[1] كالأثر الظاهر، أو كل الآثار الشرعية، «في ما لا يعلمون» أي: في خصوص هذه الفقرة من حديث الرفع.

[2] أي: التكليف أمره بيد الشارع، فلا فرق بين التكليف المجهول في الشبهة الحكمية، كحكم التدخين مثلاً، وبين التكليف المجهول في الشبهة الموضوعية، كحكم المائع المردّد بين كونه خلاً أو خمراً.

[3] لأن التكليف أمره بيد الشارع، فيمكنه وضعه، ويمكنه رفعه.

[4] أي: في غير (ما لا يعلمون) وهي سائر فقرات حديث الرفع. و«إن» وصلية.

ص: 125

إسناد الرفع إليه[1]، فإنه ليس «ما اضطروا وما استكرهوا...» - إلى آخر التسعة - بمرفوع حقيقةً[2]. نعم[3]، لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه[4] لكان أحد الأمرين مما لابد منه أيضاً.

ثم[5]

--------------------------------------

[1] إلى غير ما لا يعلمون، أي: سائر فقرات حديث الرفع، «فإنه» للشأن.

[2] لوجودها خارجاً وبكثرة، فما أكثر من يضطرون أو يكرهون أو لا يطيقون... الخ.

[3] أي: لو كان المراد من (ما لا يعلمون) خصوص الشبهات الموضوعية - كأفعال الناس - فإنها ليست أموراً شرعية حتى يرفعها الشارع أو يضعها، فلابد من تقدير شيء، أو المجاز في الإسناد.

[4] «ولم يعلم...» عطف تفسيري ل- (ما اشتبه)، مثلاً: المائع الذي لا ندري هل هو خل أم خمر فإن عنوان هذا المائع مجهول مشتبه، «أحد الأمرين» التقدير أو المجاز في الإسناد.

[5] أي: مع الحاجة إلى تقدير شيء، فلا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة؛ وذلك للصحيحة المروية في المحاسن، حيث استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع لرفع الآثار الوضعيّة، فيدل على أن المرفوع الأثر الوضعي أيضاً مضافاً إلى المؤاخذة.

والحديث هو ما رواه أحمد بن محمد، عن أبيه محمد بن خالد البرقي، عن صفوان بن يحيى والبزنطي، عن أبي الحسنعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (سألته عن الرجل يُستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقون وما أخطأوا)(1)،

فإن بطلان الحلف بهذه الأمور أثر وضعي، واستدل الإمام الرضاعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على بطلانه بحديث الرفع.

ص: 126


1- المحاسن 2: 339.

لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد[1] غيرها؛ فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها[2]. كما أن ما يكون[3] بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا، كما لا يخفى. فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه مِنّة على الأمة؛ كما استشهد الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من[4] الطلاق والصدقة والعتاق.

ثم لا يذهب عليك[5]: أن المرفوع في «ما اضطر إليه» وغيره مما أخذ بعنوانه

--------------------------------------

ولا يخفى أن الحلف بهذه الأمور باطل - حتى في صورة الاختيار - لعدم صحة التعليق في العقود والإيقاعات، ومع ذلك استدل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحديث الرفع لبطلانه، ولعل وجهه أن هذا الحلف باطل من جهتين - وإن كان بينهما ترتيب - فتأمل.

[1] من فقرات حديث الرفع، وهي: ما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطأوا، «غيرها» أي: غير المؤاخذة، «في كل منها» من الفقرات.

[2] أما الآثار التي رفعها خلاف المِنّة - ولو على بعض المكلفين - فإنها غير مرفوعة؛ وذلك لظهور الحديث في الرفع امتناناً، وعليه فلا ترتفع من الآثار ما كان امتناناً على بعض دون بعض، كرفع الضمان؛ حيث إنه امتنان على الجاني دون المجني عليه، وكذا ما كان خلاف الامتنان مطلقاً، كبطلان الصلاة بالخطأ في غير الأركان - مثلاً - .

[3] أي: بناءً على القول بأنه مجاز في الإسناد، فإن المرفوع هذه الفقرات، ولكن المراد هو رفع الأثر الظاهر أو كل الآثار، كما ذكرنا في مثال جرى الميزاب، فراجع، «إليها» إلى فقرات حديث الرفع، «هو هذا» أي: الأثر الظاهر أو تمام الآثار.

[4] أي: من الحلف بالطلاق والصدقة والعتاق.

[5] حاصله: إن فقرات حديث الرفع قسمان:

ص: 127

الثانوي[1] إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي[2]، ضرورة[3] أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبةً للرفع[4]،

--------------------------------------

1- ما كان مرفوعاً بعنوانه الأولي، كالطيرة، فإنها مرفوعة بمعنى عدم المؤاخذة عليها وعدم ترتب أثرها.

2- ما كان مرفوعاً بعنوانه الثانوي، فالشيء في حالة الاضطرار مرفوع دون حالة الاختيار، وكذا بعض الفقرات الأخرى.

وفي هذا القسم الثاني هل المرفوع آثار العنوان الأولي فقط، أم جميع الآثار حتى آثار العنوان الثانوي أيضاً مضافاً إلى آثار العنوان الأولي؟

يقول المصنف: إن المرفوع هو آثار العنوان الأولي فقط؛ لاستحالة أن يرفع الحديث آثار العنوان الثانوي؛ وذلك لأن العنوان الثانوي هو علة لهذه الآثار، فلا يمكن أن يكون علة لعدمها، وإلاّ اجتمع النقيضان. مثلاً: الخطأ في الصلاة هو علة لوجوب سجدة السهو، فلا يعقل أن يكون هذا الخطأ عِلة لعدم وجوبها.

[1] ما أخذ بعنوانه الثانوي هو: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه.

أما ما أخذ بعنوانه الأولي فهو: الطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان.

[2] «عليه» على ما اضطر إليه وأمثاله، «بعنوانه الأولي»، مثلاً: القصاص في القتل إنما هو للقتل من حيث هو هو - أي: عنوانه الأولي - ففي صورة الخطأ يرتفع هذا الأثر فلا قصاص، بل يترتب عليه الدية فقط.

[3] بيان سبب عدم رفع آثار الشيء بعنوانه الثانوي، وحاصله: إن العنوان الثانوي علة لتلك الآثار، فلا يعقل أن يكون علّة لعدمها.

[4] «هذه العناوين» الثانوية - كالخطأ والنسيان... الخ - ، «موجبة» أي: سبباً للرفع.

ص: 128

والموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه[1]، فكيف يكون موجباً لرفعه[2]؟!

لا يقال[3] كيف[4]! وإيجاب الاحتياط في ما لا يعلم وإيجاب التحفظ[5] في الخطأ والنسيان يكون أثراً لهذه العناوين[6] بعينها وباقتضاء نفسها.

فإنه يقال[7]:

--------------------------------------

[1] «الموضوع» أي: الشيء الذي يكون موضوعاً للأثر، والمقصود الموضوع الذي يكون سبباً للأثر، «مستدعٍ لوضعه» لأن الآثار معلول، والمعلول يترتب على علته قهراً.

[2] أي: كيف يعقل أن يكون سبباً لرفع الأثر، بأن يكون علةً لرفع الأثر؟ فإن هذا هو التناقض بعينه، حيث يكون الشيء علة للوجود وللعدم!!

[3] حاصله: النقض بالاحتياط، فإن الحديث يرفعه، مع أن الاحتياط ليس أثراً للشيء بعنوانه الأولي، بل هو أثر لعدم العلم، حيث يلزم الاحتياط في صورة الجهل بالواقع.

[4] أي: كيف لا يرتفع أثر العنوان الثانوي؟

[5] «التحفّظ» هو فعل شيء كي يحفظ نفسه من الخطأ والنسيان، مثلاً: يتّخذ شاهدين عادلين على صلاته دائماً، لكي ينبّهاه إذا أخطأ، أو يذكراه إذا نسي.

[6] المذكورة في حديث الرفع وهي القسم الثاني من العناوين، كما ذكرناها قبل قليل.

[7] جواب عن النقض، وحاصله: إنّ الاحتياط ليس أثراً ل- (ما لا يعلمون)، بل هو أثر للتكليف الواقعي، فهو أثر للشيء بعنوانه الأولي. نعم، هذا الأثر في ظرف الشك، أي: إن أثر الحكم الواقعي هو لزوم الاحتياط حين الشك، فليس الشك موضوعاً للاحتياط، بل ظرفه، وكذا لزوم التحفظ أثر التكليف الواقعي، لكن ظرفه الخطأ والنسيان.

ص: 129

بل إنما تكون[1] باقتضاء الواقع في موردها[2]، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى.

ومنها: حديث الحَجب[3]. وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع[4].

إلاّ أنه ربما يشكل[5]

--------------------------------------

[1] أي: تكون هذه الآثار - كالاحتياط ولزوم التحفظ - .

[2] أي: في ظرف عدم العلم وظرف النسيان والخطأ، فتأمل، «به» بالواقع، «إيجابهما» الاحتياط والتحفظ.

2- حديث الحجب

[3] أي: من الروايات الدالة على البراءة: قول الإمام الصادقعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) كما في توحيد الصدوق(1)، وفي الكافي(2)

بدون (علمه).

و(الوضع) إن تعدى ب- (عن) فمعناه الرفع، وإن تعدى ب- (على) فمعناه الجعل.

[4] أي: الإلزام المجهول يكون من مصاديق (ما حجب الله علمه)، فيكون هذا الإلزام موضوعاً عنهم ظاهراً، حتى لو كان ثابتاً واقعاً، فلا مؤاخذة عليه.

[5] حاصل الإشكال - وقد ذكره الشيخ الأعظم(3)

- : هو أن الحجب حيث نسب إلى الله تعالى فإن معناه ما لم يأمر الله رسوله بتبليغه، وهذا معنى قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسَۡٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ}(4) أي: لا يؤاخذكم على عدم علمها، وهو

ص: 130


1- التوحيد: 413.
2- الكافي 1: 164.
3- فرائد الأصول 2: 41.
4- سورة المائدة، الآية: 101.

بمنع ظهوره في وضع[1] ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه[2]، حيث إنه بدونه[3] لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيءٍ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه...»(1) الحديث.

--------------------------------------

معنى قول أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن الله تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها رحمة من الله لكم)(2).

وأما ما بلّغه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ثم خفي علينا بسبب أفعال الظالمين - من إحراق الكتب ونحوه - أو خفي بسبب آخر كضياع بعض الكتب، فإن هذا لم يحجبه الله، بل حجبه الظالم، أو حجبته أسباب أخرى.

[1] «ظهوره» ظهور حديث الحجب، «في وضع» أي: الوضع عنهم بمعنى الرفع.

[2] ومعنى العبارة: إن الله تعالى بيّنه للرسل لكن لم يأمرها بتبليغه، بل أمرهم بعدم التبليغ.

إن قلت: ما فائدة هذا التكليف؟

قلت: يظهر من بعض الأخبار أن بعض التكاليف لا تتنجّز إلاّ في عصر الظهور، فقد أنزلها الله تعالى على نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وبلّغها هو إلى الأوصياء، لكن لعدم تنجزها إلاّ بعد الظهور لم تُبيّن للناس أصلاً، وتنجّزها في ذلك العصر لا يكون تشريعاً جديداً، فإنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فتأمل.

[3] إن الشأن بدون منع الشارع - بل بسبب عوامل أخرى كفعل الظالمين - لا

ص: 131


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً[1]، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته[2].

وبعدم الفصل[3] قطعاً بين إباحته[4] وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب[5]؛ مع إمكان أن يقال[6]: «ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال»، تأمل[7].

--------------------------------------

يصح نسبة الحجب إليه تعالى، بل إلى تلك العوامل، فتأمل.

3- حديث الحِلّ

[1] سواء كان شبهة موضوعية أم حكمية، ولذا فسر «مطلقاً» بقوله: «ولو كان من جهة...».

[2] وهو الشبهة الحكمية.

[3] قوله: «بعدم» متعلق بقوله: (يتم المطلوب) بعد سطر، أي: لمّا كان هذا الدليل خاصاً بالشبهات التحريميّة، فلأجل تعميمه لكي يشمل الشبهات الوجوبية لابدّ من ضميمة عدم الفصل، فإنه لا قائل ب- (البراءة) في الشبهات التحريمية والاحتياط في الشبهات الوجوبية.

[4] إباحة ما لم يعلم حرمته، «وعدم...» عطف تفسيري، «فيه» في ما لم يعلم حرمته.

[5] وهو البراءة في الشبهات الحكمية مطلقاً - تحريمية كانت أم وجوبية - .

[6] وذلك بإرجاع الشبهات الوجوبية إلى الشبهات التحريمية، فتدخل في مدلول الحديث، فلا نحتاج إلى ضميمة عدم الفصل؛ وذلك لأن كل واجب يكون تركه حراماً، فهذا الترك حيث لم نعرف حرمته فهو حلال!!

[7] لعله إشارة إلى أن الحديث دال على الشبهات الموضوعية فقط دون الحكمية، وذلك لقوله: (أنه حرام بعينه) مما ظاهره الموضوع الخارجي.

ص: 132

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الناس في سعة ما لا يعلمون[1]»(1).

فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم[2] وجوبه أو حرمته؛ ومن الواضح[3] أنه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعةٍ أصلاً، فيعارض به[4] ما دل على وجوبه، كما لا يخفى.

--------------------------------------

أو إشارة إلى أن إرجاع الشبهة الوجوبية إلى الشبهة التحريمية خلاف الظاهر، وقد مرّ في بحث الضد أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده، فراجع.

4- حديث السعة

[1] نص الحديث هو: (في سعة ما لم يعلموا) أو (في سعة مما لم يعلموا).

وعلى كل حال (ما) في عبارة: (سعة ما لا يعلمون) تحتمل أن تكون موصولة ف- (سعة) مضاف إليها، أي: في سعةِ الذي لا يعلمونه، وتحتمل أن تكون مصدرية زمانية فتكون (سعة) بالتنوين، والمعنى: في سعةٍ ما داموا لا يعلمون.

[2] «سعة ما لم يعلم» بناءً على كون ما موصولة، و«ما دام لم يعلم» بناءً على كون ما مصدرية.

[3] بيان لوجه الاستدلال بهذا الحديث، وحاصله: إنه لو وجب الاحتياط في الشبهات الحكمية فإن ذلك ليس سعة، بل ضيق، وقوله: (في سعة ما لا يعلمون) دل على عدم الضيق، فلا يجب الاحتياط؛ لأنه تضييق.

[4] تعريض بما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: (وفيه ما تقدم في الآيات من أن الأخباريين لا ينكرون وجوب الاحتياط على من لم يعلم وجوب الاحتياط من العقل والنقل... الخ)(2). وحاصل كلامه: أن أدلة الاحتياط واردة على هذا الدليل، فإن هذه الرواية تدل على السعة حين الجهل، ومع ورود أدلة الاحتياط فقد علمنا به فلا جهل، فارتفع موضوع البراءة.

ص: 133


1- عوالي اللئالي 1: 424؛ مستدرك الوسائل 18: 20، مع اختلاف يسير.
2- فرائد الأصول 2: 41.

لا يقال[1]: قد عُلم به[2] وجوب الاحتياط.

فإنه يقال[3]: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد[4]، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم، لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه[5]

--------------------------------------

لكن المصنف: لم يرتض هذا البيان، فإنه يرى هذه الرواية وروايات الاحتياط في عرض واحد فيقع بينها التعارض؛ وذلك لأن الاحتياط أيضاً في حال عدم العلم بالواقع، فأدلة البراءة والاحتياط إنما يجريان في صورة الجهل، فيقع بينهما تعارض.

[1] حاصل الإشكال: هو قيام الدليل على وجوب الاحتياط، فينتفي موضوع حديث السعة، فإن موضوعه عدم العلم، ودليل الاحتياط يرفع الجهل، فقد علمنا بوجوب الاحتياط.

[2] «به» بما دلّ على وجوب الاحتياط، فالمعنى علمنا وجوب الاحتياط بأدلة الاحتياط.

[3] حاصل الجواب: إن وجوب الاحتياط طريقي، أي: إنما هو للحفاظ على التكليف الواقعي، فهذا الوجوب فرع العلم بالتكليف مع عدم العلم التفصيلي به، وحينئذٍ فلو لم نعلم بأصل التكليف فلا دلالة على الاحتياط.

نعم، لو قيل: إنّ وجوب الاحتياط نفسي - أي: مع قطع النظر عن التكليف الواقعي الذي يراد الحفاظ عليه بواسطة الاحتياط - فحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة، حيث إن السعة في صورة عدم العلم بالتكليف، ولكن مع وجوب الاحتياط نفسياً فقد علمنا بالتكليف.

[4] أي: لا زلنا لا ندري بوجود تكليفٍ واقعاً، فكيف يلزم الاحتياط من أجله؟ «الوجوب أو الحرمة» أي: التكليف الواقعي، «بعد» أي: بعد قيام أدلة الاحتياط، «من أجله» من أجل التكليف الذي لا نعلم به.

[5] كان تامة، أي: حصل وقوع الناس في ضيق الاحتياط، «بوجوبه» بوجوب

ص: 134

بعد العلم بوجوبه؛ لكنه[1] عرفت أن وجوبه كان طريقياً، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً، فافهم[2].

ومنها: قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيء مطلق[3] حتى يرد فيه نهي»(1).

ودلالته[4] تتوقف

--------------------------------------

الاحتياط.

[1] للشأن، أي: قد ذكرنا أن وجوب الاحتياط طريقي، فلا تكون أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة، بل يتعارضان؛ لأنه حين الشك في التكليف يدل حديث السعة على عدم الضيق، ويدل دليل الاحتياط على الضيق.

[2] لعله إشارة إلى أن دليل الاحتياط أخص مطلقاً من دليل البراءة، حيث إنه خاص بالشبهات التحريمية، وأدلتها عامة تشمل التحريمية والوجوبية، وحينئذٍ لابد - على القول بالتعارض - من التخصيص، وهذا هو قول الأخباريين.

فلابد من القول من عدم التعارض والجمع الدلالي؛ وذلك بحمل أدلة الاحتياط على الاستحباب، وسيأتي تفصيله عندما نجيب عن أدلة الأخباريين، فانتظر.

5- حديث: كل شيء مطلق

[3] أي: غير مقيد بتحريم، بل مباح.

[4] حيث إن الشيخ الأعظم(2)

حمل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (حتى يرد) على معنى الوصول؛ لذا استدل بهذا الحديث على البراءة، فيكون المعنى: كل شيء مباح حتى يصلك نهي، وعدم الوصول أعم من عدم صدور نهي أصلاً، أو صدوره مع عدم وصوله، فيتم المطلوب وهو الاستدلال به على البراءة.

لكن المصنف استظهر أن معنى (حتى يرد) هو حتى يصدر نهي، فما دام الشارع لم يصدر نهي فالأشياء على الإباحة، وهذا لا يرتبط بالبراءة، بل هو أصالة الإباحة، وبينهما فرق؛ لأن معنى أصالة الإباحة أو الحظر هو أنه مع العلم بعدم

ص: 135


1- من لا يحضره الفقية 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- فرائد الأصول 2: 43.

على عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم[1] أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن[2] صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه[3] ممنوع، لوضوح صدقه على صدوره عنه، سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال[4]:

--------------------------------------

وجود نهي فهل الأصل في الأشياء الحظر حتى يرد ترخيص من الشارع، أم أن الأصل هو الإباحة حتى يرد نهي؟ فمورد أصالة الإباحة هو عدم الشك، بل العلم بعدم النهي.

وأما أصالة البراءة فموردها مع الشك في التحريم أو الوجوب.

وقد اتفق الجميع بما فيهم الأخباريون على أصالة الإباحة، مع اختلافهم في أصالة البراءة في الشبهات التحريمية.

والحاصل: إن معنى الحديث: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» أن الأشياء على الإباحة حتى ينهى عنها الشارع، وهذا معنى أصالة الإباحة، فلا ربط للحديث بأصالة البراءة فإن معناها حين الشك في تحريم شيء فإن الأصل البراءة منه، وكذا حين الشك في وجوب شيء.

[1] أي: بعد الوصول إلى الملكلف بأن يعلم به، «أو ما بحكمه» بحكم العلم، أي: قيام الدليل المعتبر عليه كالخبر الواحد، «بالنهي عنه» عن الشيء.

[2] «إن» وصلية، أي: حتى لو أصدر الشارع التحريم ووصل إلى جمع من المكلّفين، لكنه لم يصل إلى هذا المكلّف، فإنه مطلق غير مقيد بالتكليف - وهذا معنى البراءة - .

[3] إشكال المصنف على استدلال الشيخ، وبيان أن ذاك المعنى غير مراد في الحديث، «أنه» أن عدم صدق الورود إلاّ بعد العلم، «صدقه» صدق الورود، «صدوره» النهي، «عنه» عن الشارع، «بلوغه» النهي، «بصدوره» النهي.

[4] حاصله: إ ن الحديث وإن دل على أصالة الإباحة، لكن بضميمة أصالة

ص: 136

نعم[1]، ولكن بضميمة أصالة العدم[2] صح الاستدلال به وتم[3].

فإنه يقال[4]: وإن تم الاستدلال به بضميمتها[5]، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه[6]، إلاّ أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعاً.

لا يقال[7]: نعم[8]، ولكنه لا يتفاوت في ما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

--------------------------------------

العدم يدل على البراءة أيضاً، حيث إنا نشك في صدور نهي عن الشارع فنستصحب عدم صدوره، فيثبت عدم التكليف.

[1] أي: نعم، لا يدل الحديث على أصالة البراءة بمفرده.

[2] أي: استصحاب عدم صدور التكليف من الشارع، حيث إنه قبل البعثة لم يكن نهي، فنشك في صدوره، فنستصحب عدم الصدور.

[3] الاستدلال بحديث (كل شيء مطلق)، ووجه تماميته أن الغرض من البراءة إثبات جواز الاقتحام، وبهذا الحديث ثبت هذا الجواز.

[4] حاصل جواب المصنف: إ ن النتيجة - وهي جواز الاقتحام - وإن حصلت، لكن لا عن طريق البراءة، بل عن طريق أصالة الإباحة.

[5] بحديث كل شيء مطلق، بضميمة أصالة العدم.

[6] «وإطلاقه» عطف تفسيري، بغرض بيان أن (مطلق) في الحديث بمعنى (الإباحة)، «إلاّ أنه» للشأن، «بعنوان أنه» أن الشيء.

[7] إشكال على جواب المصنف، وحاصله: إن الغرض هو إثبات جواز الاقتحام في مشكوك الحرمة، فلا يهمّنا أن يكون عن طريق أصالة البراءة، أو عن طريق أصالة الإباحة بضميمة أصالة العدم.

[8] أي: نسلم أنه ليس استدلالاً بعنوان مجهول الحرمة، بل بعنوان أنه لم يرد فيه نهي.

ص: 137

فإنه يقال[1]: حيث إنه بذاك العنوان[2] لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلاً، ولا يكاد يعم[3] ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحته في آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر.

لا يقال[4]: هذا[5] لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

--------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إن هنالك فرقاً، وتظهر الثمرة في الشيء الذي توارد عليه النهي والإباحة، ولكن لا نعلم تاريخهما، فهل الإباحة متأخرة حتى تكون ناسخة للحرمة، أم العكس؟ وحينئذٍ لا تجري أصالة الإباحة؛ وذلك للعلم بصدور النهي، كما لا يجري استصحاب النهي ولا استصحاب الإباحة لتعارضهما. ولكن تجري أصالة البراءة - لو تم دليلها - .

والحاصل: إن الاستدلال بهذا الحديث على البراءة يستلزم عدم إمكان القول بإباحة مجهول الحرمة إذا تعاقب عليه الإباحة والحرمة مع الجهل بتاريخهما.

[2] «إنه» إن الحكم بالإباحة، «بذاك العنوان» بعنوان أنه لم يصدر فيه نهي، «لاختص» أي: اختص الحكم بالإباحة.

[3] أي: لا يشمل الحكم بالإباحة المورد الذي تعاقب فيه النهي والإباحة، مع أنه على القول بالبراءة فإنها تجري حتى في هذه الصورة.

[4] الغرض هو إدخال صورة التعاقب في الحكم بالإباحة بضميمة عدم القول بالفصل، فإن جميع من قال بالإباحة لم يفرق بين عدم ورود نهي أو اشتباه تاريخ النهي والإباحة بعد ورودهما، وكذا من قال بالاحتياط لم يفرق بين الصورتين.

فالحاصل: إن هذا الحديث بضميمة أصالة العدم وضميمة عدم الفصل دل على الإباحة في جميع موارد البراءة.

[5] «هذا» أي: عدم شموله لصورة التعاقب المذكورة.

ص: 138

فإنه يقال[1]: وإن لم يكن بينها[2] الفصل، إلاّ أنه إنما يجدي في ما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل[3]، فافهم[4].

وأما «الإجماع»[5]:

--------------------------------------

[1] حاصل جواب المصنف: إن عدم الفصل لازم أصالة العدم، وهذا اللازم ليس أثراً شرعياً، بل هو أثر عادي، وسيأتي عدم حجيّة مثبتات الأصول العملية.

[2] بين أفراد ما اشبهت حرمته، «إلاّ أنه» أن عدم الفصل.

[3] «في بعضها» أي: في بعض الأفراد، «الدليل» أي: الدليل الاجتهادي، فإن مثبتات الأدلة الاجتهادية حجة - أي: لوازمها العقلية والعادية - «لا الأصل» أي: الأصول العملية، وأصالة العدم هنا هي أصل عملي - لأنها استصحاب عدم صدور النهي - .

[4] إشارة إلى أن عدم الفصل ليس من اللوازم العادية لأصالة العدم المذكورة، بل هي تنقح موضوع عدم الفصل، فإن العرف لا يرى فرقاً بين الإباحة في ما لم يرد فيه نهي، وبين الإباحة في ما تعاقب فيه النهي والإباحة، وإنّما بأصالة العدم يثبت أحد الشقين، فيتحقق موضوع عدم الفصل، فتثبت الإباحة في الشق الآخر.

فتحصل: إمكان الاستدلال بحديث (كل شيء مطلق) ولكن بضميمة أصالة العدم، وعدم الفصل، مع قطع النظر عن أن الحديث مرسل، فتأمل.

الثالث من أدلة البراءة: الإجماع

[5] من وجهين - ذكرهما الشيخ في الرسائل(1)

- :

الأول: الإجماع على أصالة الإباحة، وهذا الوجه لا ينفع إلاّ بعد إثبات عدم ورود دليل على الاحتياط. فإن معنى أصالة الإباحة هو إباحة الشيء من حيث هو لولم يرد فيه نهي.

ص: 139


1- فرائد الأصول 2: 50.

فقد نقل على البراءة. إلاّ أنه موهون[1] ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة - مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل - بعيدٌ جداً.

وأما العقل: فإنه قد استقل[2]

--------------------------------------

الثاني: الإجماع على الحكم بعدم وجوب الاحتياط ما لم يرد دليل على تحريمه، وتحصيل هذا الإجماع من وجوه:

1- ملاحظة فتاوى الفقهاء في الفقه.

2- الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة.

3- الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: حتى لو قلنا بحجية الإجماع المنقول، لكنا لا نقول بحجيته هنا؛ وذلك لأن من شرائط حجية الإجماع هو أن لا يكون محتمل الاستناد إلى دليل، فلو احتملنا استناد المجمعين إلى دليل عقلي أو نقلي لم يكن هذا الإجماع حجة.

هذا مضافاً إلى عدم تحقق الإجماع لمخالفة جمهرة الأخباريين، وإلى عدم حجية الإجماع في المسائل العقلية، فلا يدل على البراءة العقلية - حتى مع إحراز الإجماع - .

الرابع من أدلة البراءة: العقل

[2] القاعدة العقلية هي (قبح العقاب بلا بيان) ويشترط فيها أمران:

1- أن لا يوجد بيان، بلا فرق بين بيان الحكم الواقعي أو بيان الحكم الظاهري، فلو أوجب المولى الاحتياط - كما في موارد العلم الإجمالي - فلم يمتثل العبد، فصادف مخالفة الواقع لا يكون عقابه عقاباً بلا بيان.

2- الفحص واليأس، فإن عدم البيان لا يصدق لو لم يفحص، فإن كل ما يمكن الوصول إليه بالفحص يعتبر بياناً عند العقل.

ص: 140

بقبح العقوبة والمؤاخذة[1] على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجةً عليه[2]، فإنهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى[3]:

--------------------------------------

[1] عطف تفسيري، أو يفرّق بينهما بأن يقال: إن المؤاخذة تشمل العتاب، فتكون أعم من العقوبة.

[2] على المكلف، «فإنهما» العقوبة والمؤاخذة، «بدونها» بدون الحجة، «وهما» العقاب بلا بيان، والمؤاخذة بلا برهان.

[3] ردّ لتوهم، وحاصل التوهم: إن هناك قاعدة عقلية أخرى هي: (وجوب دفع الضرر المحتمل)، ونفس هذه القاعدة بيان، فيرتفع موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لأن احتمال الضرر بيان!!

وبعبارة أخرى: (قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل) تكون واردة على قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، فإنه يحتمل أن يكون هنالك تكليف لم يظفر عليه المكلف حتى بعد الفحص واليأس، ومع احتمال التكليف يحتمل الضرر، فيتحقق موضوع قاعدة (وجوب دفع الضرر محتمل)، وهي بنفسها بيان عقلي، فلا تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

والجواب: إن الضرر المحتمل إما أخروي وإما دنيوي:

أما الأخروي: فلا نحتمل العقوبة مع احتمال التكليف، بل العقوبة على مخالفة الحجة، والتكليف المحتمل ليس بحجة، فقولكم: (مع احتمال التكليف نحتمل الضرر الأخروي) محل إشكال، فتأمل.

وأما الدنيوي: فأولاً: إنه لا يلزم دفعه - حتى المتيقن منه - وثانياً: إن احتمال التكليف يلازم احتمال المفسدة لا احتمال الضرر، وسيأتي توضيحه.

ص: 141

أنه مع استقلاله بذلك[1] لا احتمال[2] لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا[3] لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها تكون بياناً. كما أنه مع احتماله[4] لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة[5] استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما ضرر غير العقوبة[6]:

--------------------------------------

[1] استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

[2] إشارة إلى الضرر الأخروي - وهو العقوبة - ، «مخالفته» مخالفة التكليف المجهول.

[3] في التكليف المجهول بعد الفحص واليأس، وإنّما لم يكن مجال لما ذكرنا من أن العقوبة إنما هي على مخالفة الحجة، ومجرد احتمال التكليف ليس بحجة.

[4] «أنه» للشأن، «احتماله» ضرر العقوبة، والمقصود هو أن احتمال العقاب منجز للتكليف من غير حاجة إلى قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)؛ إذ لو لم يكن مؤمِّن من العقاب فإن العقل يستقل بلزوم الاحتياط، فإن خالف ولم يصادف الواقع كان تجرياً، وإن صادف الواقع كان مخالفة يستحق عليها العقاب.

والحاصل أنه مع الجهل بالتكليف وبعد الفحص واليأس:

أ: لا نحتمل العقاب، فلا موضوع لقاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل).

ب: ولو فرض احتمال العقاب فإنه يجب الاحتياط حتى لو لم نقل بقاعدة (دفع الضرر المحتمل)؛ وذلك لأن احتمال العقاب بيان.

[5] أي: خالف الاحتياط فصادف مخالفة الواقع، فهنا يستحق العقاب على نفس مخالفة الواقع؛ لأنه اقتحم من غير مؤمِّن، وإن لم يصادف الواقع كان تجرياً يستحق العقوبة على تجريه - بناءً على حرمة التجري - .

[6] إشارة إلى الضرر الدنيوي.

ص: 142

فهو وإن كان محتملاً[1]، إلاّ أن[2] المتيقن منه - فضلاً عن محتمله - ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً[3]. مع أن احتمال الحرمة[4] أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة

--------------------------------------

[1] لأن الضرر الدنيوي أثر وضعي تكويني، والآثار الوضعية التكوينية تترتب على الشيء، ولا ترتبط بالعلم والجهل، فمن شرب السُمّ يموت - عالماً كان بأنه سُمّ أم لا - .

[2] إشارة إلى الجواب الأول، أي: إن قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) لا تشمل الضرر الدنيوي؛ وذلك لأن الضرر المتيقن يجوز ارتكابه، فجواز ارتكاب الضرر المحتمل بطريق أولى، فإن العقلاء يتحمّلون كثيراً من الأضرار المقطوعة لبعض الدواعي. نعم، يقبح تحمل الضرر البالغ - كإهلاك النفس، أو تلف عضو أو إسقاط قوة - ولكن عامة الأضرار ليست ضرراً بالغاً، وسيأتي مزيد توضيح في قاعدة لا ضرر.

[3] «جوازه» عطف على (عدم القبح)، أي: تحمل هذه الأضرار ليس قبيحاً عقلاً، وهو جائز شرعاً.

[4] إشارة إلى الجواب الثاني عن تحمل الأضرار الدنيوية، وحاصله: إن سبب الوجوب والحرمة إنما هو المفسدة والمصلحة، وهما لا يلازمان الضرر والنفع، فالجهاد فيه الضرر الشخصي على المجاهد - بالقتل والجرح ونحوهما - ولكنه واجب لوجود المصلحة، والسرقة فيها نفع شخصي للسارق ولكنها محرمة لوجود المفسدة، فالضرر الدنيوي لم يكن سبباً للتحريم، بل وجب تحمله للمصلحة العامة، والنفع الدنيوي لم يكن سبباً للوجوب، بل حرم تحصيله للمفسدة العامة.

والحاصل: إن ملاك التكليف هو المصلحة والمفسدة، لا الضرر والنفع، فلا يكون احتمالها احتمالاً للتكليف.

ص: 143

وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد[1] التي تكون مناطات الأحكام - وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد - ليست[2] براجعةٍ إلى المنافع والمضار، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم[3]، ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً.

إن قلت[4]: نعم[5]، ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به[6] شيخ الطائفة(1)

على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.

--------------------------------------

[1] المقصود المصالح والمفاسد الدنيوية، «مناطات الأحكام» لما هو الحق وعليه العدلية من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

[2] «ليست» خبر (أن) في قوله: (لوضوح أن المصالح.... الخ).

[3] أي: في بعض الأحيان يكون الضرر منشأ للمفسدة، فيكون حراماً لا لأنه ضرر، بل لأن فيه المفسدة. وكذا قد يكون النفع منشأ للمصلحة، فيكون واجباً؛ لأن فيه المصلحة لا بسبب النفع.

[4] حاصله: إنه يجب دفع محتمل المفسدة أيضاً، فمحتمل التكليف حتى لو لم نحتمل فيه الضرر الدنيوي لكنه محتمل المفسدة، حيث إن التكليف المحتمل يساوي احتمال المفسدة، فهذه القاعدة تكون بياناً، فلا تجري قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)!!

[5] أي: سلمنا أن محتمل التكليف كثيراً ما يكون مأمون الضرر.

[6] استدلال شيخ الطائفة في موضوع أن الأشياء على الإباحة أو على الحظر - أي: المنع - . وقد مرّ أن أصالة الإباحة أو الحظر تختلف عن أصالة البراءة، وعلى كل حال فإن الشيخ يرى أن الأصل الحظر، وسبب ذلك هو أن كل ما لم يعلم

ص: 144


1- العدة في أصول الفقه 2: 742.

قلت[1]: استقلاله بذلك[2] ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تُؤمَن مفسدته ولا يعاملون معه[3] معاملة ما علم مفسدته، كيف[4]! وقد أذن الشارع بالإقدام عليه[5]،

--------------------------------------

حكمه فإنه يحتمل أن يكون فيه المفسدة، فيجب الاجتناب عنه حتى يرد ترخيص من الشارع، «استدل به» أي: بقبح الإقدام على محتمل المفسدة وأنه كالإقدام على معلومها.

وفي ما نحن فيه - أصالة البراءة أو الاحتياط - نتمسك بنفس هذا الدليل لإثبات عدم البراءة!! لأن هذا بيان، فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان!!

[1] حاصل الجواب: إن العقل لا يساوي بين محتمل المفسدة وبين معلوم المفسدة، ويتضح ذلك من:

1- الوجدان، حيث نرى فرقاً.

2- سيرة العقلاء، فإنهم لا يقدمون على معلوم المفسدة، ولكنهم كثيراً يقدمون على محتمل المفسدة.

3- إن الشارع أذن في الاقتحام في محتمل المفسدة، بالبراءة في الشبهات الوجوبية مثلاً، ولو كان الاقتحام في محتمل المفسدة قبيحاً لم يكن الشارع يأذن به؛ لاستحالة إذن الشارع في القبيح.

[2] استقلال العقل، «بذلك» بأن محتمل المفسدة كمعلومها.

[3] مع محتمل المفسدة.

[4] أي: كيف يكون محتمل المفسدة كمعلوم المفسدة في القبح؟

[5] على معلوم المفسدة، كما في الشبهات الوجوبية، حيث اتفقوا على إجراء البراءة وعدم لزوم الاحتياط.

ص: 145

ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل[1].

واحتج للقول بوجوب الاحتياط في ما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة[2]:

أما «الكتاب»: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم[3] وعن الإلقاء في التهلكة[4]

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن الوجدان، وديدن العقلاء، وترخيص الشارع إنّما هي في ما يكون احتمال المفسدة ضعيفاً بحيث يطمئن بعدمها، ففي الحقيقة إنّما هو اعتماد على الاطمئنان في عدم المفسدة، أما مع عدم الاطمئنان فلا.

أو هو إشارة إلى اختلاف درجات محتمل المفسدة، فإن كانت المفسدة المحتملة قليلة جوّزوا الاقتحام، أما إذا كانت عظيمة فلا يجوزون.

أو هو إشكال على الاستدلال بترخيص الشارع، فإنه لو تمسكنا بترخيص الشارع فإنه تخرج البراءة العقلية عن كونها أصلاً مستقلاً، بل نحتاج في إثباتها إلى ترخيص الشارع.

أدلة وجوب الاحتياط

اشارة

[2] الكتاب، والسنة، والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

[3] كقوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ}(1)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(2)، حيث إنه مع عدم علمنا بالتكليف يلزم التوقف، فلو قلنا بالبراءة فهو قول بغير علم!!

[4] أي: والآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة، كقوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(3)، حيث إن الاقتحام في الشبهات إلقاء فيها!!

ص: 146


1- سورة البقرة، الآية: 169.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
3- سورة البقرة، الآية: 195.

والآمرة بالتقوى[1].

والجواب[2]: إن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً ليس قولاً بغير علم، لما دل على الإباحة من النقل[3] وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما[4] لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلاً، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.

وأما «الأخبار»[5]:

--------------------------------------

[1] كقوله تعالى: {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ}(1)، حيث إن (التقوى) مشتقة من الوقاية بمعنى حفظ النفس، ولازمه الاحتياط والحذر، والاقتحام ينافي ذلك.

[2] أي: مع قيام الدليل العقلي والشرعي على البراءة، فلا يكون القول والعمل بها قولاً بغير علم ، ولا إلقاء النفس في التهلكة، ولا خلاف التقوى، بل القول بالبراءة يكون قولاً بعلم فلا تهلكة ولا مخالفة التقوى.

[3] لعل التعبير بالإباحة لأجل التفنن في العبارة، فإن المراد البراءة.

[4] أي: مع ما دل من النقل والعقل على البراءة.

الدليل الثاني: على الاحتياط الأخبار

[5] الأخبار أربع طوائف - على ما في الرسائل(2)

- :

1- ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير علم، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها، وأومأ بيده إلى فيه)(3).

2- ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(4).

3- ما دلّ على وجوب الاحتياط، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أخوك دينك فاحتط لدينك بما

ص: 147


1- سورة آل عمران، الآية: 102.
2- فرائد الأصول 2: 63.
3- وسائل الشيعة 27: 38.
4- الكافي 1: 50.

فبما دل[1] على وجوب التوقف عند الشبهة - معللاً في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة - من[2] الأخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقةً أو التزاماً.

وبما دل[3]

--------------------------------------

شئت)(1).

4- أخبار التثليث، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(2).

وقد ظهر الجواب عن الطائفة الأولى بما ذكرنا في جواب الاستدلال بالآيات، من أنه بعد دلالة العقل والنقل لا يكون القول بالبراءة قولاً بغير علم؛ ولذا لم يذكر المصنف هذه الطائفة. وبما أن الطائفة الرابعة داخلة في الطائفة الثانية، من حيث دلالتها على التوقف عند الشبهات فلذا لم يذكرها المصنف مستقلاً، بل ذكر الطائفتين الثانية والثالثة.

[1] هي الطائفة الثانية والرابعة.

[2] «من» بيان لقوله: (فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة)، «عليه» على الاحتياط، «مطابقة» كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(3)، فإن الوقوف بمعنى الاحتياط مطابقة، «التزاماً» كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في حلالها - الدنيا - حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب)(4)، حيث إن لازم قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في الشبهات عتاب) هو حسن الاحتياط فيها.

[3] وهي الطائفة الثالثة.

ص: 148


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- الكافي 1: 68.
3- الكافي 1: 68.
4- بحار الأنوار 44: 139.

على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة[1].

والجواب: إنه[2] لا تهلكة في الشبهة البدوية[3] مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة، كما عرفت.

وما دل[4]

--------------------------------------

[1] فراجع الرسائل(1)

حيث ذكر مجموعة من تلك الروايات، وكذا الوسائل، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 12، وكذا في كتاب النكاح من الوسائل، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الباب 157.

[2] جواب عن الطائفة الثانية والرابعة، فإنها دلت على التهلكة في اقتحام الشبهات، والتهلكة يراد بها العقاب، ومع قيام الدليل العقلي - بقبح العقاب بلا بيان - والدليل النقلي على البراءة فلا تهلكة أصلاً.

[3] بعد الفحص واليأس، أما قبلهما وفي الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا دليل على البراءة، بل الدليل على لزوم الاحتياط؛ ولذا خصّ البحث بالشبهة البدوية.

[4] جواب عن الطائفة الثالثة الدالة على الاحتياط، وهنا ثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم، قال: (إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح - كما اعترف به - وإن كان حكماً ظاهرياً نفسياً فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع)(2)،

انتهى.

بيانه: إنه لا يمكن دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه؛ وذلك لدورانها بين أمرين:

1- إنها تدل على وجوب الاحتياط مقدمة للتحرز عن العقاب المترتب على مخالفة

ص: 149


1- فرائد الأصول 2: 76 - 78.
2- فرائد الأصول 2: 71.

على وجوب الاحتياط لو سلم[1] وإن كان وارداً[2] على حكم العقل، فإنه[3] كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول - ولا يصغى إلى ما قيل[4] من:

--------------------------------------

الواقع. وهذا باطل قطعاً؛ لأن الواقع المجهول لا عقاب على مخالفته، فكيف يجب التحرز عن ذلك العقاب بالاحتياط؟!

2- إنها تدل على وجوب الاحتياط نفسياً، وهذا أيضاً لا يصح؛ لأن وجوب الاحتياط إنما هو لإدراك الواقع، وليس وجوباً نفسياً، كما قال الشيخ: (وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية)(1).

الجواب الثاني: إن أخبار البراءة أخص وأظهر، فتقدم على أخبار وجوب الاحتياط.

الجواب الثالث: إن هناك شواهد تدل على أن الأمر بالاحتياط هو للإرشاد وليس أمراً مولوياً، وسيأتي توضيح الجوابين.

[1] إشارة إلى أن الصحيح هو عدم دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه، كما سيأتي في الجواب الثالث.

[2] فإن تلك الأخبار تكون بياناً لوجوب الاحتياط، وإذا خالف هذا الوجوب وصادف مخالفة الواقع فلا يكون عقابه عقاباً بلا بيان، وحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و(الورود) هو أن ينتفي موضوع الدليل الأول بواسطة الدليل الثاني.

[3] فإن ما دلّ على وجوب الاحتياط يكفي لكونه بياناً، فلو قال المولى: (إنك إن لم تعلم بالتكليف فعليك بالاحتياط)، فإن لم يحتط وصادف مخالفة الواقع كان مستحقاً للعقاب، فلا يكون عقاباً بلا بيان.

[4] هذا هو الجواب الأول، وقد شرحناه قبل قليل.

ص: 150


1- فرائد الأصول 2: 71.

«أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمةً للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح[1]، وإن كان نفسياً فالعقاب على مخالفته[2] لا على مخالفة الواقع[3]». وذلك لما عرفت[4] من أن إيجابه[5] يكون طريقياً، وهو عقلاً مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال[6] في أوامر الطرق والأمارات والأصول

--------------------------------------

[1] لأن معناه أن في مخالفة التكليف المجهول عقاباً، وللتحرز عن ذلك العقاب عليك بالاحتياط، ومن المعلوم أن جعل العقاب على التكليف المجهول قبيح، فكيف يجب الاحتياط للتحرز عنه؟

[2] أي: مخالفة الاحتياط، لما مرّ من أن مخالفة أمرٍ نفسيٍ لا يستوجب العقاب على أمرٍ نفسيٍ آخر.

[3] وهذا واضح البطلان، حيث إن الاحتياط لم يجب إلاّ لحفظ الواقع، ولا مصلحة فيه نفسياً.

[4] إشكال على هذا الجواب، وحاصله: إن هناك شقاً ثالثاً، فليس العقاب على التكليف المجهول، ولا الاحتياط نفسي، بل وجوب الاحتياط طريقي لحفظ الواقع، كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، والشبهات البدوية قبل الفحص.

والحاصل: أنا لا نقول: إنّ مخالفة التكليف المجهول فيها العقاب فوجب الاحتياط، بل نقول: إن المولى يريد حفظ الواقع فيأمر بالاحتياط، فلو خالف وصادف مخالفة الواقع فإن عقابه لا يكون عقاباً بلا بيان.

[5] «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «وهو» الإيجاب الطريقي، «عقلاً» لأن إيجاب الاحتياط بيان، فتكون العقوبة مع البيان، «يحتج به» بالإيجاب الطريقي.

[6] أي: إن الأمارات التي جعلها الشارع - كالخبر الواحد - إنّما هي طريق إلى الواقع، وليس وجوب التمسك بها طريقاً، فلو خالف المكلّف تلك الأمارات وصادف مخالفة الواقع لم يكن عقابه بلا بيان، وكذا الطرق والأصول العملية.

ص: 151

العملية[1] -، إلاّ أنها[2] تعارَض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص[3]، بل هو في الدلالة على الحلية نص[4]، وما دل على الاحتياط غايته[5] أنه ظاهر في وجوب الاحتياط.

--------------------------------------

والحاصل: إن إيجاب الاحتياط؛ مثل: إيجاب العمل بالطرق والأمارات والأصول العملية؛ كلها تكون بياناً، فتكون واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

[1] «الطرق» في الموضوعات كثبوت أول الشهر، «الأمارات» في الأحكام، «الأصول العملية» المقصود هو الاستصحاب فقط - كما قيل - .

[2] الجواب الثاني، الذي ارتضاه المصنف، أي: إن ما دلّ على وجوب الاحتياط - لو سلم - وإن كان وارداً على حكم العقل، إلاّ أنها تعارض بما هو... الخ، «أنها» الصحيح: (أنه)، لأن مرجع الضمير ما دل على وجوب الاحتياط.

وحاصل الجواب: إن أدلة الاحتياط عامة وظاهرة، وأدلة البراءة هي خاصة ونص، ومن المعلوم تخصيص العام بالخاص، وتقدم النص على الظاهر.

[3] لأن أدلة الاحتياط عامة لما قبل الفحص وما بعد الفحص، وأدلة البراءة خاصة بما بعد الفحص، حيث لا تجري أدلة البراءة قبل الفحص.

[4] لأن كلمة (حلال) في بعض الأحاديث كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام)(1)

نص في الحلية، لا احتمال آخر فيه، «بل هو» أي: ما دلّ على حلية المشتبه.

[5] أي: غاية دلالته هو الظهور في الوجوب؛ لأنه بصيغة الأمر، وهي ليست بنص في الوجوب، بل ظاهرة فيه. وفي الجمع الدلالي يقدم النص على الظاهر، فلابد من حمل الأمر بالاحتياط على الاستحباب - مثلاً - .

ص: 152


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.

مع أن هناك[1] قرائن[2] دالة على أنه[3] للإرشاد، فيختلف إيجاباً واستحباباً

--------------------------------------

[1] الجواب الثالث، وحاصله: إن الأمر بالاحتياط ليس أمراً مولوياً، بل هو أمر إرشادي يرشد إلى حكم العقل، وهناك ثلاثة وجوه تدل على الإرشادية.

الأول: القرائن الموجودة في روايات الاحتياط.

الثاني: لو دل على المولوية لزم تخصيصه - حيث لا يجب الاحتياط في الشبهات الموضوعية ولا في الشبهات الحكمية الوجوبية - مع أن أدلة الاحتياط آبية عن التخصيص.

الثالث: إن المولوية تستلزم الدور.

[2] هذا الوجه الأول، وحاصله: إن في روايات الاحتياط قرائن تدل على أن الأمر بالاحتياط إرشادي، أي: إرشاد لما في الفعل من المفسدة، فإن كانت المفسدة ملزمة كان الاحتياط واجباً، وذلك كالاقتحام في الشبهات قبل الفحص، أو في الشبهات المقترنة بالعلم الإجمالي، وإن لم تكن المفسدة ملزمة كان الاحتياط مستحباً، كالاقتحام في الشبهات البدوية بعد الفحص.

وليس هذا بمعنى أن أوامر الاحتياط تحمل على الوجوب تارة وعلى الاستحباب تارة أخرى، بل أوامر الاحتياط هي للإرشاد فقط، ولكن (المرشَد إليه) قد يكون واجباً أو مستحباً.

ومن القرائن، أن في بعض روايات الاحتياط بيان أن الاحتياط يكون سبباً لعدم الوقوع في المحذور، وأن عدم الاحتياط يكون سبباً للوقوع فيه، كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها)(1).

[3] ضمير «أنه» يرجع إلى (ما دل على الاحتياط) وكذا الضمير في «يختلف».

ص: 153


1- من لا يحضره الفقيه 4: 75.

حسب اختلاف ما يرشد إليه.

ويؤيده[1] أنه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً، مع أنه آبٍ[2] عن التخصيص قطعاً؛ كيف لا يكون[3] قوله: «قف عند

--------------------------------------

[1] هذا الوجه الثاني، وحاصله: إن أوامر الاحتياط لو كانت دالة على الوجوب المولوي لوجب تخصيصها بما لا يلزم الاحتياط فيه، كالشبهات الموضوعية وكالشبهة الحكمية التحريمية؛ إذ لا يجب الاحتياط فيها إجماعاً، مع أنه من المعلوم أن مثل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أخوك دينك فاحتط لدينك)(1)

غير قابل للتخصيص.

[2] «أنه» ما دل على الاحتياط، «آبٍ» من (الإباء) أي: غير قابل للتخصيص.

ولا يخفى أن الأحسن أن يكون التعليل بأن التخصيص يستلزم تخصيص الأكثر، حيث إن الأغلبية العظمى من الشبهات هي الشبهات الموضوعية، ويضاف إليها الشبهات التحريميّة، وقد أجمعوا على عدم لزوم الاحتياط فيها.

[3] هذا الوجه الثالث، وحاصله: إن حمل أوامر الاحتياط على المولوية يستلزم الدور في بعض أدلتها، ولا يستلزم ذلك لو حملت على الإرشاد.

مثلاً قوله: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة)(2)،

والهلكة يراد بها العقاب، كما هو ظاهر اللفظ هنا:

1- فالعقاب على المخالفة (الوقوع في التهلكة) سبب إيجاب الاحتياط، وهذا ما دل عليه التعليل في قوله: «فإن الوقوف عند... الخ».

2- وإيجاب الاحتياط سبب العقاب على المخالفة؛ إذ لو لا إيجابه كان العقاب على مخالفته عقاباً بلا بيان.

وهذا دور مصرح.

ص: 154


1- وسائل الشيعة 27: 167.
2- وسائل الشيعة 27: 171.

الشبهة، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة» للإرشاد[1]! مع أن التهلكة ظاهرة في العقوبة[2]، ولا عقوبة[3] في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف[4] يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟!

لا يقال[5]: نعم[6]، ولكنه يستكشف منه على نحو الإن[7] إيجاب الاحتياط

--------------------------------------

[1] «للإرشاد» خبر (يكون) في قوله: (كيف لا يكون...).

[2] لوضوح عدم إرادة الموت أو المضرة من (التهلكة).

[3] بيان للطرف الثاني من الدور، أي: إيجاب الاحتياط علّة للعقاب على المخالفة؛ لوضوح عدم العقاب على غير الواجب، فلابد أن يجب الاحتياط أولاً حتى تكون هناك عقوبة على مخالفته.

[4] بيان للطرف الأول من الدور، أي: في الرواية كان العقاب على المخالفة علة لوجوب الاحتياط، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «بأنه» بأن الاحتياط.

[5] ردّ على الدور، وحاصله: إنكار الطرف الأول من الدور، فليست العقوبة على المخالفة سبباً لإيجاب الاحتياط، بل هي كاشف عن وجوب الاحتياط من قبل، فيكون مدلول الرواية هكذا:

1- إيجاب الاحتياط سبب العقوبة على المخالفة.

2- العقوبة على المخالفة تكشف عن وجوب الاحتياط من قبل.

وهذا نظير قولنا: النار سبب للدخان، والدخان كاشف عن وجود النار، فلا دور أصلاً.

[6] أي: نعم، نقبل القسم الأول من كلامكم وهو (لا عقاب في الشبهة البدوية قبل إيجاب الاحتياط)، ولكن لا نقبل القسم الثاني وهو (فكيف يعلل...) لأنا لا نقول: إنّ ذلك تعليل، بل هو كشف.

[7] أي: الانتقال من المعلول إلى العلة - بنحو الكشف - فقوله: (قفوا عند الشبهة فإن الوقوف... الخ) نظير قولنا: (هنا توجد نار بدليل الدخان المتصاعد) فليس

ص: 155

من قبل[1]، ليصح به العقوبة على المخالفة.

فإنه يقال[2]: إن مجرد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص[3] عن اختصاص مثله[4] بما يتنجز فيه المشتبه - لو كان -، كالشبهة قبل الفحص مطلقاً[5] أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمل جيداً.

وأما العقل[6]:

--------------------------------------

الدخان علة، بل هو كاشف.

[1] أي: من قبل صدور هذه الروايات، «ليصح به» أي: بهذا الإيجاب من قبل.

[2] إن الإيجاب قبل صدور الروايات، ومن ثم العقوبة على هذا الإيجاب إنما هو عقاب بلا بيان وهو قبيح، فلا يمكن أن يكون قوله: (فإن الوقوف...) كاشفاً عن أمر قبيح، «إيجابه» إيجاب الاحتياط، «لا يخرجها» العقوبة.

[3] هذا نتيجة هذه الوجوه الثلاثة، أي: حيث قامت هذه الوجوه على أن الأمر في أدلة الاحتياط إنما هو للإرشاد، فلابد من حمل ما دلّ على التهلكة في مخالفته على أنه إرشاد إلى موارد لا مُؤمِّن من العقاب فيها، كالشبهة البدوية قبل الفحص، أو في موارد العلم الإجمالي.

[4] أي: مثل هذا الحديث في ذكر العقاب على المخالفة، وهذا الحديث هو (قف عند الشبهة فإن الوقوف... الخ).

[5] سواء كانت تحريميّة أم وجوبية.

الدليل الثالث: على الاحتياط العقل
اشارة

[6] وللدليل العقلي تقريران:

الأول: لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

الثاني: استصحاب أصالة الحظر - التي كانت قبل الشرع - بعد تعارض الأدلة.

ص: 156

فلاستقلاله[1] بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته - حيث[2] علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في ما اشتبه وجوبه أو حرمته مما لم يكن هناك حجة على حكمه[3] - تفريغاً[4] للذمة بعد اشتغالها؛ ولا خلاف[5] في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلاّ من بعض الأصحاب(1).

والجواب[6]:

--------------------------------------

التقرير الأول
اشارة

[1] حاصل الدليل مركب من صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي: فقد علمنا إجمالاً بوجود محرمات كثيرة في المشتبهات. وأما الكبرى فهي: إنه من المعلوم لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي؛ لأن الاشتغال اليقيني للذمة بتلك التكاليف يستدعي البراءة اليقينية عبر الاحتياط في كل المشتبهات.

[2] بيان للصغرى.

[3] لأنه ينحل العلم الإجمالي لو قام الدليل على الجواز - مثلاً - وفي الشبهات الوجوبية قام الدليل على الجواز - وهو الإجماع الذي ادعاه المصنف - فانحلّ العلم الإجمالي فيها، لكن ما احتمل حرمته ضمن دائرة العلم الإجمالي فيجب الاحتياط فيه.

[4] «تفريغاً» علّة قوله: (لزوم فعل ما احتمل... الخ)، أي: علة وجوب الاحتياط هو لأجل تفريغ الذمة.

[5] بيان للكبرى، «إلاّ من بعض الأصحاب» حيث ذهب بعضهم إلى جواز ارتكاب كل الأطراف، وبعضهم إلى جواز ارتكاب بعضها، ولا يعبأ بخلافهم؛ لقيام الدليل على لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

الجواب

[6] إشكال على الصغرى، وحاصله: إنه بعد قيام الأمارات والطرق على الأحكام الشرعية فإنه ينحل العلم الإجمالي. وهذا الانحلال على أحد نحوين:

ص: 157


1- قوانين الأصول 2: 35؛ مدارك الأحكام 1: 107؛ ذخيرة المعاد 1: 138.

إن العقل وإن استقل بذلك[1]، إلاّ أنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل هاهنا[2]، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد[3]،

--------------------------------------

الأول: الانحلال الكلي الحكمي، حيث إن التكاليف تنحصر بما قامت عليه الأمارات والطرق، بأن تكون كل الأمارات والطرق دالة على جميع الأحكام الشرعية.

الثاني: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، وهو القطع بوجود التكاليف الواقعية ضمن مؤديات الأمارات والطرق.

ولا يخفى أن المصنف تارة بيّن على النحو الأول، وتارة على النحو الثاني - كما يظهر من مراجعة عباراته اللاحقة - .

[1] أي: نتفق معكم في الكبرى، «بذلك» بلزوم الفعل أو الترك في أطراف العلم الإجمالي.

[2] أي: في ما احتمل وجوبه واحتمل حرمته، «فإنه» للشأن، أي: كما علمنا بوجود تكاليف في المشتبهات كذلك علمنا بتلك التكاليف عبر الطرق والأمارات.

[3] لاحتمال خطأ بعض هذه الطرق والأمارات، ولكن حيث يلزم العمل بجميعها فقد يحصل العلم بأن مؤدياتها أكثر من التكاليف الواقعية، كما لو علمنا بأن التكاليف مائة - مثلاً - والطرق والأمارات دلتنا على مائة وعشرة مثلاً، وهنا أيضاً ينحل العلم الإجمالي الكبير.

والفرق: إن التكاليف إذا كانت بمقدار التكاليف المعلومة فهذا انحلال كلي العلم الإجمالي، وإن كانت أزيد فهذا انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، حيث إن دائرة العلم الإجمالي كانت وسيعة تشمل كل المشتبهات، فانحصرت الدائرة في مائة وعشرة - في المثال - .

ص: 158

وحينئذٍ[1] لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية[2].

إن قلت[3]: نعم[4]، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف.

قلت[5]:

--------------------------------------

[1] حين انحلال العلم الإجمالي، «التكاليف الفعلية» أي: التي تنجزت بسبب قيام الأمارات والطرق عليها.

[2] المراد منها: الاستصحاب فقط - كما قيل - .

إشكالان: الأول

[3] حاصل الإشكال الأول: إنّه إنما ينحلّ العلم الإجمالي إذا كان العلم التفصيلي سابقاً، فإنه لو كان العلم التفصيلي سابقاً لا يكون للعلم الإجمالي أثر في تنجّز التكليف، كما لو علمنا بنجاسة الإناء الأول معيناً ثم سقطت قطرة دم في أحد الإناءين غير المعين، فإن هذا العلم الإجمالي لا أثر له؛ وذلك لسبقه بالعلم التفصيلي، فيجوز ارتكاب الإناء الثاني.

والحاصل: إنه لو كان العلم الإجمالي سابقاً، والعلم التفصيلي لاحقاً، فإنه لا ينحل العلم الإجمالي السابق. وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث علمنا إجمالاً بالتكاليف بين المشتبهات، ثم علمنا بما في الطرق والأمارات.

[4] أي: نعم، يتم الانحلال لكن بشرط سبق العلم التفصيلي، وما نحن فيه ليس كذلك، حيث إن العلم التفصيلي متأخر، «العلم بها» بالأمارات والطرق.

[5] حاصل الجواب: إنه لا فرق في الانحلال بين كون العلم الإجمالي سابقاً أو لاحقاً، بشرط اتحاد المعلوم في العلم الإجمالي والعلم التفصيلي.

1- فلو علمنا بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، ثم علمنا بأن تلك القطرة من الدم - بنفسها - كانت قد سقطت في الإناء الأول، فإن انحلال العلم الإجمالي قهري،

ص: 159

إنما يضر السبق[1] إذا كان المعلوم اللاحق حادثاً[2]،

--------------------------------------

مع أنه سابق على العلم التفصيلي؛ وذلك لاتحاد سبب التكليف بالاجتناب.

2- أما لو علمنا إجمالاً بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، وعلمنا بسقوط قطرة بول في الإناء الأول معيناً، فهنا يختلف الحكم في التقدم والتأخر:

الف: فإن كان سقوط قطرة البول معيناً مقدماً زماناً فلا أثر للعلم الإجمالي بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين. وحينئذٍ يجب الاجتناب عن الإناء الذي سقط فيه البول، ولا يجب الاجتناب عن الإناء الثاني؛ وذلك لأنه حدث تكليف بالاجتناب حين سقوط قطرة البول في الإناء الأول، وبعد سقوط قطرة الدم في أحد الإناءين لا علم لنا بحدوث تكليف جديد، فتجري أصالة البراءة في الإناء الثاني؛ إذ لا تكليف جديد لو كانت قطرة الدم سقطت في نفس الإناء الذي سقط فيه البول، أما لو كانت قطرة الدم سقطت في الإناء الثاني فيحدث تكليف جديد بالاجتناب عن الإناء الثاني أيضاً، وحيث لا نعلم بحدوث تكليف جديد فالأصل البراءة.

باء: وإن كان العلم الإجمالي بسقوط قطرة الدم في أحد الإناءين مقدماً زماناً، ثم سقطت قطرة البول في الإناء الأول معيناً، فإن هذا العلم التفصيلي لا يوجب الانحلال، ويجب اجتناب كلا الإناءين؛ وذلك لأنه حين سقطت قطرة الدم في أحد الإناءين حدث تكليف بوجوب الاجتناب عنهما، ولمّا سقطت قطرة البول في أحدهما المعين لم يكن سبب وجوب الاجتناب متحداً - إذ أحدهما الدم والآخر البول - فلا وجه لانحلال ذلك العلم الإجمالي، بل هو باق، فيجب الاجتناب عنهما.

[1] أي: سبق العلم الإجمالي إنّما يضر بالانحلال.

[2] أي: إذا كان المعلوم التفصيلي اللاحق زماناً، «حادثاً» أي: سبباً آخر غير السبب في العلم الإجمالي، كأن يكون سبب العلم الإجمالي السابق سقوط قطرة دم، وسبب العلم التفصيلي اللاحق هو سقوط قطرة بول.

ص: 160

وأما إذا لم يكن كذلك[1]، بل مما ينطبق عليه ما علم أولاً، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.

إن قلت[2]: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له[3] بمقدار المعلوم بالإجمال، ذلك إذا كان[4] قضية قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً[5]. وأما بناءً على أن قضية حجيته واعتباره[6] شرعاً ليس إلاّ[7]

--------------------------------------

[1] أي: لم يكن المعلوم التفصيلي حادثاً، بل كان نفس المعلوم الإجمالي، «قد انحل» لزوال سبب الاحتياط، حيث علمنا بعدم سقوط قطرة الدم في الإناء الثاني فلا وجه لاجتنابه.

الإشكال الثاني

[2] حاصله: إن قيام الأمارة والأصل لا توجب علماً تفصيلياً بالتكاليف؛ لانحصار أمر الأمارة والأصل في التنجيز والتعذير؛ وذلك ليس علماً بالتكليف!! فلا علم تفصيلي بالتكليف كي ينحل به العلم الإجمالي!! نعم، لو قلنا: إنّ الأمارات والأصول سبب لجعل حكم ظاهري فإن قيامها يوجب العلم التفصيلي بالتكاليف، وحينئذٍ ينحل العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي!!

[3] «له» للتكليف، «ذلك» أي: الانحلال، و(ذلك) مفعول (إنّما يوجب).

[4] أي: إذا كان مقتضى جعل الطريق هو السببية، أي: يكون قيام الطريق سبباً لجعل حكم ظاهري، فيكون لنا علم بالتكليف!!

[5] أي: ثبوت ذلك التكليف الظاهري بنحو الفعلية، وبعبارة أخرى: ثبوت حكم ظاهري منجّز على من قام لديه الطريق.

[6] ضميرا «حجيته» و«اعتباره» يرجعان إلى (الطريق).

[7] أي: ليس جعل حكم ظاهري، بل حجية الطريق بمعنى ترتيب الأثر من التنجيز والإعذار، و«ليس» خبر (أن قضية).

ص: 161

ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً[1] - وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه - فلا انحلال[2] لما علم بالإجمال أولاً، كما لا يخفى.

قلت[3]: قضية الاعتبار[4] شرعاً على اختلاف ألسنة أدلته وإن كان ذلك - على ما قوينا في البحث -، إلا[5] أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم

--------------------------------------

[1] وهو القطع، أي: جعل الحجية للطريق هو بمعنى قيامه مقام القطع، وحيث إن القطع لا يوجب حكماً ظاهرياً، بل يوجب التنجيز إن أصاب، والعذر إن أخطأ، كذلك الطريق الذي يقوم مقام القطع.

[2] لبقاء العلم الإجمالي بحاله، والطريق ليس علماً بالتكليف حتى يوجب انحلال ذلك العلم الإجمالي.

[3] جواب عن الإشكال، أما على مبنى التنجيز والتعذير فمن وجهين:

الأول: إن الانحلال الحكمي هو كالانحلال الحقيقي.

الثاني: حصول العلم بانحصار التكاليف الواقعية في مؤديات الطرق فقط لا غير.

وأما على مبنى السببية فلا انحلال أصلاً - خلافاً لما توهمه المستشكل - وذلك لاختلاف المعلوم التفصيلي اللاحق عن المعلوم الإجمالي السابق، حيث إن المعلوم إجمالاً هو التكليف الواقعي، والمعلوم التفصيلي هو الحكم الظاهري، وقد ذكرنا أنه لا انحلال مع اختلاف سبب العلم.

[4] أي: مقتضى اعتبار الطريق هو المنجزية والمعذرية، لا السببيّة، «أدلته» أدلة الاعتبار، «ذلك» أي: التنجيز والعذر.

[5] إشارة إلى الوجه الأول من الجواب، وحاصله: إنه كما ينحل العلم الإجمالي في صورة تحقق العلم التفصيلي الوجداني، كذلك ينحل في صورة قيام الدليل المعتبر.

مثلاً: لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم قامت البينة على أحدهما

ص: 162

بالإجمال[1] في بعض الأطراف، يكون[2] عقلاً بحكم الانحلال وصَرف[3] تنجزه إلى ما إذا كان[4] في ذاك الطرف، والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف؛ مثلاً: إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين، وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه[5] كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلاّ عن خصوصه

--------------------------------------

المعيّن، فإن قيام البينة يوجب انحلال العلم الإجمالي حتى مع احتمال خطئها، فهنا العلم الوجداني باقٍ، ولكن يحكم العقل بعدم بقاء أثره؛ وذلك لأن البينة هي كالعلم في الآثار.

[1] «نهوض الحجة» أي: الطريق الشرعي، «على ما ينطبق» فإن السبب متحد؛ لأن الطريق يبيّن أن الحكم الواقعي هو هذا الذي دل الطريق عليه، «في بعض الأطراف» (في) متعلق ب(نهوض الحجة).

[2] «يكون» خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن نهوض الحجة....).

أي: العقل لا يرى فرقاً بين حصول علم وجداني، وبين قيام طريق، فإنه يرى أن كليهما يوجبان انحلال العلم الإجمالي.

[3] «صَرف» - بفتح الصاد - عطف تفسيري على «حكم الانحلال»، أي: كان العلم الإجمالي سبباً للتنجز في كلا الطرفين، فكان يجب اجتنابهما في الشبهة التحريمية، وبعد قيام الطريق يتوجه التنجز إلى أحد الأطراف، وهو ما قام الدليل عليه، وكذلك يوجب جواز ارتكاب الأطراف الأخرى، فإن كان الحرام فيها واقعاً كان معذوراً.

[4] أي: كان التكليف، «ذاك الطرف» الذي قام عليه الدليل، «كان في سائر الأطراف» أي: في صورة خطأ الطريق بحيث كان التكليف في الأطراف الأخرى، فإنه يكون معذوراً في ارتكابها.

[5] في أن قيام الأمارة، «أنه إناؤه» أي: إن الإناء المعين، وقوله: «في عدم...» (في) متعلق ب- (الشك).

ص: 163

دون الآخر. ولو لا ذلك[1] لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية[2]، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية.

هذا[3] إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ[4] فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال، كما لا يخفى.

--------------------------------------

[1] إشارة إلى عدم الانحلال على القول بالسببية - خلافاً لما زعم المستشكل - أي: ولو لا القول بالانحلال الحكمي لما حصل انحلال حتى على مبنى السببية؛ وذلك لاختلاف سبب التكليف، وقد مرّ أنه لا ينحل العلم الإجمالي إذا اختلف المعلوم إجمالاً مع المعلوم تفصيلاً.

وهنا المعلوم التفصيلي هو الحكم الظاهري، والمعلوم الإجمالي هو الحكم الواقعي، وسبب كل واحد منهما مختلف عن سبب الآخر، فعليه لا انحلال.

اللهم إذا قلتم بالانحلال الحكمي - كما قلنا - فإنه بناءً على الانحلال الحكمي لا فرق بين القول بالتنجيز والعذر وبين القول بالسببيّة.

[2] أي: أحكام ظاهرية منجزة، «أنها» المؤديات، «كذلك» أحكاماً شرعية فعلية، «بسبب حادث» هو قيام الطريق، «وهو» السبب الحادث، «كونها» كون الأحكام الشرعية الفعلية.

[3] إشارة إلى الوجه الثاني في الجواب عن الإشكال، «هذا» أي: الانحلال الحكمي، «الطرق المثبتة» أي: للتكليف.

[4] أي: إن علمنا بأن كل التكاليف الواقعية موجودة في مؤديات الطرق، فهنا يكون انحلال حقيقي؛ لأن العلم اللاحق هو علم وجداني، وليس تعبدياً فقط، «الموارد» موارد الطرق، «أطرافه» أطراف العلم الإجمالي الكبير - بوجود تكاليف بين المشتبهات - .

ص: 164

وربما استدل[1] بما قيل(1)

من استقلال العقل بالحظر[2] في الأفعال الغير الضرورية(2)

قبل الشرع[3]، ولا أقل من الوقف[4] وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت[5] شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض

--------------------------------------

التقرير الثاني لدليل العقل على الاحتياط
اشارة

[1] التقرير العقلي الثاني مركب من ثلاثة أمور:

الأول: إن الأصل في الأشياء - قبل الشرع - هو الحظر.

الثاني: بعد الشرع وردت أدلة على البراءة وأدلة على الاحتياط فتتعارض، ثم تتساقط، فلا حجة من الشرع على أي منهما.

الثالث: بعد تساقطهما نستصحب أصالة الحظر التي كانت قبل الشرع!!

[2] إشارة إلى الأمر الأول، وقد مرّ أن أصالة البراءة أو الاحتياط تختلف عن أصالة الإباحة أو الحظر، ولكن النتيجة هي واحدة، وهي جواز الارتكاب بناءً على البراءة والإباحة، وعدم جواز الارتكاب بناءً على الاحتياط والحظر.

[3] حيث إن العقل يدل على أن الكون ملك الله، ويقبح التصرف في ملك الغير بلا إذن منه. أما في الأفعال الضرورية - كشرب الماء وتناول الطعام - فإن العقل لا يرى بأساً في ارتكابها.

[4] أي: إذا لم نقل بقبح التصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه، فإن هنا قاعدة أخرى عقلية توجب التوقف، وهي دفع الضرر المحتمل، فيجب علينا التوقف، «و عدم استقلاله» عطف تفسيري للتوقف، أي: العقل لا يستقل بالحظر لكنه يرى التوقف.

[5] إشارة إلى الأمر الثاني.

وأما الأمر الثالث: فلم يشر إليه المصنف - لوضوحه - وهو بقاء الحظر قبل الشرع، واستمراره إلى ما بعد الشرع - استصحاباً - .

ص: 165


1- القائل الشيخ الأعظم في فرائد الأصول 2: 90.
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الضرورية».

بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

وفيه: أولاً[1]: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال، وإلاّ لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال[2] على الإباحة.

وثانياً[3]: إنه ثبتت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها.

وثالثاً[4]:

--------------------------------------

إشكالات على التقرير الثاني

[1] حاصله: إن الأمر الأول مصادرة، حيث إن أصالة الحظر هي أول الكلام، فلا يصح الاستدلال بها لإثبات الاحتياط، وإلاّ صحّ لنا أن نبدل هذا الدليل العقلي إلى دليل على البراءة بأن نقول: الأصل في الأشياء الإباحة... إلى آخر الدليل.

[2] الأفعال غير الضرورية قبل الشرع.

[3] إشكال على الأمر الثاني، وحاصله: إنه لا تعارض بين أدلة البراءة وأدلة الاحتياط، لما مرّ من أن أدلة الاحتياط للإرشاد، ولو فرض كونها مولوية فإن أدلة البراءة تخصصها؛ لأنها أظهر وأخص من أدلة الاحتياط.

[4] إشكال على الأمر الثالث، وحاصله: إنه بعد قيام الشرع وبيان الشارع للتكاليف من الواجبات والمحرمات، فإن العقل يحكم بجواز ارتكاب المشتبهات؛ وذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلو فرضنا أن الأصل قبل الشرع الحظر، لكن بعد الشرع الأصل البراءة لجريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وبعبارة أخرى - كما نسب إلى المصنف في بحثه - : لا ملازمة بين المسألتين؛ لاختلافهما موضوعاً، ضرورة أن الموضوع في تلك المسألة فعل المكلف من حيث هو - أي: مع قطع النظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف - وأما في مسألة البراءة فالموضوع هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم بعد تشريع الأحكام.

ص: 166

إنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة[1] للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وما قيل[2]: من «أن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة»[3].

ممنوع[4]،

--------------------------------------

[1] مسألة الحظر أو الإباحة قبل الشرع، «هذه المسألة» مسألة الاحتياط أو البراءة بعد الشرع، «معه» أي: مع الوقف في تلك المسألة.

ثم لا يخفى عدم صحة الاستصحاب؛ لأنه يكون في المسائل الشرعية دون العقلية، فتأمل.

[2] استدلال للتوقف وعدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وحاصله: إن قاعدة (الإقدام على...) بيان، فينتفي موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وهذا القول نسبه الشيخ الأنصاري في الرسائل(1)

إلى الشيخ الطوسي(2).

[3] فكما لا يجوز ارتكاب معلوم المفسدة كذلك لا يجوز ارتكاب محتمل المفسدة.

[4] الجواب من وجهين:

أولاً: إشكال في الصغرى بأن يقال: إن كان المراد من المفسدة الضرر، فنقول: على فرض تسليم لزوم دفع الضرر المحتمل فإنه لا تلازم بين المفسدة وبين الضرر، بل قد يكون الشيء الذي فيه المفسدة نافعاً كانتفاع السارق، وقد يكون ما فيه المصلحة ضاراً كالجهاد، فتحصل أن احتمال المفسدة لا يلازم احتمال الضرر.

إن قلت: في الفعل المشكوك نحتمل المفسدة، ثم نحتمل أن يكون منشأ المفسدة هو الضرر - لأن الضرر قد يكون سبباً للمفسدة كأكل الأطعمة المضرة - وحينئذٍ كلّما احتملنا المفسدة فقد احتملنا الضرر.

ص: 167


1- فرائد الأصول 2: 90.
2- العدة في أصول الفقه 2: 742.

ولو قيل[1] بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً[2]، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة في ما فيه الضرر، والمفسدة في ما فيه المنفعة. واحتمال[3] أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف[4] غالباً لا يعتنى به قطعاً.

مع[5] أن الضرر ليس دائماً مما يجب التحرز عنه عقلاً، بل يجب ارتكابه أحياناً

--------------------------------------

قلت: هذا الاحتمال ضعيف لا يعتني به العقلاء، ومعنى (دفع الضرر المحتمل لازم) هو الاحتمال العقلائي.

وثانياً: ما مرّ من الإشكال في الكبرى، أي: (لزوم دفع الضرر المحتمل)، حيث ذكرنا أنه قد لا يجب التحرز عن الضرر المقطوع به، فما بالك بالضرر المحتمل، بل قد يجب تحمل الضرر المقطوع به لمصالح أهم كالجهاد.

[1] إشارة إلى الجواب الأول، وهذا إشكال في الصغرى، أي: لا نسلم كون المفسدة تلازم الضرر.

[2] لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وغالب المصالح والمفاسد ترتبط بالنوع وحفظ النظام، في حين أن الضرر والنفع يرتبطان بالأشخاص في أموالهم أو أنفسهم. نعم، نحن لا ننكر أنه أحياناً يكون الضرر سبباً للمفسدة فيكون حراماً، ويكون النفع سبباً للمصلحة فيكون واجباً، لكن هذه الموارد هي أقل من غيرها.

[3] إشكال على الجواب الأول، وقد وضحناه ب- (إن قلت)، وحاصله: إن المشتبه - الذي لا نعلم حكمه - نحتمل أن تكون فيه المفسدة، ثم نحتمل أن يكون سبب تلك المفسدة هو الضرر.

[4] جواب الإشكال وقد وضحناه ب- (قلت...).

[5] إشارة إلى الجواب الثاني، وهو إشكال في الكبرى، وهي (لزوم دفع الضرر المحتمل).

ص: 168

في ما كان المترتب عليه[1] أهم في نظره[2] مما في الاحتراز عن ضرره مع القطع به فضلاً عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها:

الأول[3]: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً في ما لم يكن هناك أصل موضوعي[4]

--------------------------------------

[1] أي: على الضرر، كالجهاد، فإن ما يترتب على الجهاد - كحفظ الدين - أهم من قتل أو جرح المجاهد.

[2] أي: في نظر العقل، وإنّما خص البحث في نظر العقل لأنا نبحث الآن في الدليل العقلي دون الشرعي، «مما» من المفسدة التي تكون في الاحتراز عن ضرر الفعل.

تنبيهات البراءة

التنبيه الأول في الشك في التذكية
اشارة

[3] إن موضوع البراءة العقلية والشرعية هو عدم البيان وعدم العلم، فإذا حصل البيان فقد انتفى موضوع البراءة، وكان ذلك البيان وارداً عليها.

فلو شككنا في موضوع أو شككنا في حكم بسبب شكنا في الموضوع فالأصل البراءة، فإذا قام أصل نقّح الموضوع يكون هذا الأصل بياناً، وينتفي موضوع البراءة.

مثلاً: لو شككنا في حلية حيوان أو حرمته فالأصل البراءة - أي: الإباحة وعدم التحريم - لكن بشرط أن لا يكون هناك أصل يرتبط بالموضوع يدل على عدم التذكية، فإنه إذا قام هذا الأصل فإنا نعلم تعبداً بحرمة هذا الحيوان - لأن غير المذكى حرام - وهذا بيان، فلا تجري البراءة.

[4] أي: الأصل الذي ينقّح الموضوع ويبيّنه، فإن الأحكام تابعة للمواضيع،

ص: 169

مطلقاً[1]، ولو كان موافقاً لها[2]، فإنه معه لا مجال لها أصلاً، لوروده عليها[3] - كما يأتي تحقيقه - .

--------------------------------------

فإذا نقّحنا الموضوع بأصل، وكان ذلك الموضوع حراماً نحكم هنا بالحرمة، وإذا كان ذلك الموضوع حلالاً نحكم بالحلية.

ولا يخفى أن الحكم بالحلية ليس من باب البراءة، بل من باب العلم التعبدي بالموضوع.

[1] شرح مطلقاً بقوله: «ولو كان موافقاً لها» أي: سواء كان مخالفاً للبراءة ودالاً على الحرمة، أم كان موافقاً للبراءة ودالاً على الإباحة.

[2] والحلية حينئذٍ مستندة إلى علمنا - التعبدي - بها، لا إلى البراءة، «لها» للبراءة، «فإنه» الشأن، «معه» مع الأصل الموضوعي، «لها» للبراءة.

[3] لورود الأصل الموضوعي على البراءة. و(الورود) - كما سيأتي في بحث الاستصحاب - بمعنى أن ينتفي موضوع حكم بسبب قيام دليل آخر.

وهنا مع علمنا - التعبدي - بالحكم الشرعي لا يبقى موضوع أصالة البراءة؛ لأن موضوعها هو عدم البيان، وذلك الدليل الآخر هو البيان.

أقسام الأصل الموضوعي
اشارة

ثم إن قيام الأصل الموضوعي: إما في الشبهة الحكمية أو في الشبهة الموضوعية، وفي كل واحد منهما إما يكون الأصل الموضوعي مطابقاً للبراءة أو مخالفاً لها، فالأقسام أربعة:

الأول: في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة.

الثاني: في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية.

الثالث: في الشبهة الموضوعية مع كونه دالاً على الحلية.

الرابع: في الشبهة الموضوعية مع كونه دالاً على الحرمة.

ص: 170

فلا تجري[1] مثلاً أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية[2]، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية[3]

--------------------------------------

القسم الأول
في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة

[1] الحيوانات نوعان:

1- غير قابل للتذكية، كالكلب والخنزير.

2- قابل للتذكية، فإن كان حلال اللحم - كالغنم - فبالتذكية يطهر ويحل أكله، وإن كان حرام اللحم - كالثعلب - ففائدة التذكية هي طهارته، وجواز الانتفاع بجلده - مثلاً - .

فلو شككنا في حيوان أنه قابل للتذكية أو غير قابل لها فنشك في حليته وحرمته، فلا تجري هنا أصالة البراءة كي يقال بحليته؛ وذلك لأن أصالة عدم التذكية - وهي الاستصحاب - تدل على كونه غير مذكى، وحكمه كحكم الميتة في حرمة أكل لحمه. فنقول: إن هذا الحيوان لم يكن مذكى حال حياته، وبعد ذبحه نشك في أنه ذُكي أم لا، فيجري استصحاب عدم التذكية، فلا يكون هذا الحيوان المذبوح مذكى.

وغير المذكى من أفراد الميتة على رأي الشيخ الأعظم، وأما عند المصنف فحكم غير المذكى هو حكم الميتة، مع كونهما أمرين مختلفين.

[2] كالحيوان المتولد من كلب وشاة - على فرض إمكانه - فإنه إن كان كلباً لم يكن قابلاً للتذكية، وإن كان شاة كان قابلاً لها. فنحن لا نعلم حلية هذا الحيوان ولا نعلم قابليته للتذكية.

[3] الذبح - وهو فري الأوداج - أحد الشروط، وأما سائر الشرائط فهي القبلة، والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وكون السكين حديداً، وتحريك الذنب أو الرجل

ص: 171

فأصالة عدم التذكية[1] تدرجه في ما لم يذك، وهو حرام إجماعاً[2] كما إذا مات حتف أنفه[3]. فلا حاجة[4] إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعاً[5]، ضرورة[6]

--------------------------------------

بعد الذبح - على خلاف في بعض الشروط - .

والصيد كالذبح بأنْ سَمّى ورمى الحيوان بآلة حادة كالسهم، ومات الحيوان قبل التمكن من فري أوداجه. ومن الصيد: الصيد بالكلب المعلَّم مع شروط مذكورة في الفقه.

[1] لأنه بعد مراعاة كل الشروط في الذبح - وكذا الصيد - نشك في جواز أكل لحمه وعدم جوازه، فيجري حينئذٍ استصحاب عدم التذكية، فلا يكون هذا الحيوان مذكى، فيحرم أكل لحمه، «تدرجه» أي: تُدخله.

[2] أي: غير المذكى حرام بالإجماع، ومراد المصنف أن غير المذكى يختلف عن الميتة موضوعاً، لكن حكمهما واحد - وهو حرمة اللحم - فالميتة دل القرآن على حرمتها في قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ}(1) والإجماع دلّ على أن غير المذكى كالميتة حكماً.

[3] أي: مات ميتة طبيعية، وهذا التعبير مجازي، فكأنّ الميّت - بموت طبيعي - تخرج الروح من أنفه، أما المذبوح فكأنّ روحه تخرج من منحره.

[4] أي: لا حاجة إلى ما صنعه الشيخ بقوله إن غير المذكى من مصاديق الميتة، فيشمله كل ما دلّ على حرمة الميتة.

[5] أما عرفاً فهما مختلفان؛ لوضوح أن العرف لا يُسمى المذبوح ميتةً، ولكن هنا حقيقة شرعية، وهي عمومية لفظ الميتة لكل ما لم يكن مُذكّى.

[6] تعليل لعدم الحاجة إلى ما صنعه الشيخ الأعظم؛ وذلك لأن إثبات الحقيقة الشرعية فيه بحاجة إلى تكلّف - كبروي بإثبات أصل الحقائق الشرعية، وصغروي بإثبات أن غير المذكى من مصاديق الميتة - أما اتحادهما حكماً فهو ثابت إجماعاً

ص: 172


1- سورة المائدة، الآية: 3.

كفاية كونه مثله حكماً.

وذلك[1] بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج[2] الأربعة مع سائر شرائطها عن خصوصية[3] في الحيوان التي بها يؤثر فيه[4] الطهارة وحدها أو مع الحلية؛ ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى.

--------------------------------------

بلا تكلّف.

[1] تعليل لقوله: (فلا تجري مثلاً أصالة الإباحة... الخ)، «بأن» الباء سببية، أي: عدم جريان البراءة بسبب أن التذكية هي مراعاة شرائط الذبح في الحيوان القابل للتذكية.

فالخنزير لا يذكى ولو روعيت كل الشرائط؛ لأنه غير قابل للتذكية.

والحيوان المشكوك لا يُعلم وجود هذه القابلية فيه، فبعد ذبحه نشك في حصول التذكية فيه، وحينئذٍ نستصحب عدم التذكية.

[2] أي: قطعها، و«الأوداج» هما العِرقان الرئيسيان لجريان الدم إلى الرأس، مضافاً إلى مجرى النفس ومجرى الطعام، «سائر شرائطها» شرائط التذكية.

[3] «عن» هنا بمعنى (بعد)، كما في قوله تعالى: {لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ}(1) أي: حالة بعد حالة، كما ذكره ابن هشام في المغني(2)، والمعنى: إن التذكية هي فري الأوداج بعد كون الحيوان قابلاً للتذكية.

[4] «بها» بالخصوصية، «فيه» في الحيوان، «الطهارة وحدها» في الحيوانات المحرّمة اللحم كالثعلب، فإنه بالتذكية يكون طاهراً، وفائدة هذه الطهارة في جواز لبس جلدها ونحو ذلك، «أو مع الحلية» أي: الطهارة والحلية في الحيوانات الحلال اللحم كالغنم.

ص: 173


1- سورة الإنشقاق، الآية: 19.
2- مغني اللبيب 1: 148.

نعم[1]، لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه حينئذٍ[2] إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلاّ أصالة الإباحة، كسائر[3] ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.

هذا[4] إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك - مثلاً - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها[5] أم لا؟ فأصالة قبوله

--------------------------------------

لو لم يجر الأصل الموضوعي

[1] استدراك عن عدم جريان أصالة البراءة، وحاصله: إنه لو لم يجر الأصل الموضوعي فإنه تجري أصالة البراءة، فيحكم بحلية اللحم، مثلاً: نعلم بإمكان تذكية الخيل والبغال والحمير، فلو شككنا في حلية لحمها فهنا لا تجري أصالة عدم التذكية - للعلم بقبولها التذكية - ولا يوجد أصل موضوعي آخر، فتجري أصالة البراءة، الدالة على إباحة لحومها، «فيه» في الحيوان.

[2] حين العلم بقبوله التذكية والشك في إباحته، «لا أصل فيه» في هذا الحيوان المذكى.

[3] من غير اللحوم.

القسم الثاني
في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية

[4] أي: جريان أصالة البراءة الدالة على الإباحة إنما هو في ما لو لم يكن أصل موضوعي دال على الإباحة. أما مع وجوده فلا تجري أصالة البراءة - لما مرّ من أن الأصل الموضوعي وارد على أصالة البراءة - مثلاً: لو شككنا بأن الجَلَل - أي: أكل العذرة - هل يتسبب في حرمة لحم الدجاج أم لا؟ فهنا استصحاب حلية اللحم جارٍ، فلا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.

[5] قابلية الحيوان للتذكية، «فأصالة» أي: الاستصحاب، «معه» أي: مع الجلل.

ص: 174

لها معه محكمة، ومعها[1] لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها فالأصل أنه[2] كذلك بعده.

ومما ذكرنا[3] ظهر الحال في ما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة في ما شك فيها لأجل[4] الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعاً.

كما[5] أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروّ ما يمنع عنه، فيحكم

--------------------------------------

[1] أي: مع أصالة قبوله للتذكية، وهي الاستصحاب، «عدم تحققها» تحقق التذكية.

[2] «أنه» أن الحيوان، «كذلك» يطهر بالفري وسائر الشرائط، «بعده» بعد الجلل.

القسم الثالث والرابع
الشبهة الموضوعية مع وجود الأصل الموضوعي

[3] في الشبهة الحكمية - مع وجود أصل موضوعي مخالف أو موافق للبراءة - .

فالقسم الثالث: وهو الحيوان القابل للتذكية، كالغنم، إذا شككنا في تحقق التذكية أو في شرائطها، من غير أن يكون هناك دليل شرعي يدل على التذكية، كسوق المسلمين أو يد المسلم، كما لو شاهدنا لحم غنم في الصحراء، ولا نعلم هل ذبح على الطريقة الشرعية أم لا؟ فهنا أصالة عدم التذكية جارية، ولا تصل النوبة إلى البراءة؛ لعلمنا التعبدي - بسبب الاستصحاب - بعدم التذكية، فيترتب لازمها وهو الحرمة.

[4] أي: شك في التذكية، لأجل الشك في تحقق شرائط التذكية - مع علمنا بأن الحيوان قابل للتذكية كالغنم - .

[5] هذا القسم الرابع: وهو جريان الأصل الموضوعي الدال على الإباحة.

ص: 175

بها[1] في ما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه[2]، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

الثاني[3]: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً[4] في الشبهة الوجوبية أو

--------------------------------------

ومثاله: الغنم المشكوك في كونها موطوءة، فإن الوطء يوجب عدم قابليتها للتذكية وحرمة لحمها، كما يعزّر الفاعل، ويغرّم قيمتها لصاحبها، وتذبح وتحرق. ومع الشك في الوطء يجري استصحاب عدم الوطء أو استصحاب بقاء قابليتها للتذكية، فيكون لحمها حلالاً.

[1] بقبولها التذكية، ومن ثم حلية لحمها.

[2] أي: أحرزت كل الشرائط بالعلم الوجداني سوى المانع المشكوك - كالوطء في المثال - وهو يحرز بالاستصحاب، وهو علم تعبدي.

والحاصل: إنا قد أحرزنا كل الشرائط، إلاّ أن عدم الوطء أحرز بالاستصحاب، وسائر الشرائط أحرزت بالعلم الوجداني - مثلاً - .

التنبيه الثاني الاحتياط في العبادة المشكوكة
اشارة

[3] قبل البدء بالحديث لابد من تقديم أمرين:

الأول: لا إشكال في حسن الاحتياط مطلقاً، سواء في الشبهة الوجوبية أم التحريمية، وسواء كان في العبادات أم غيرها، والمناقشة إنّما كانت في وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية لا في حسنه. نعم، إذا استلزم الاحتياط محذوراً - كالوسوسة أو اختلال النظام - فلا حسن فيه.

الثاني: إذا احتاط وكان سبب احتياطه إدراك الواقع، بأن يطمئن بعمله بالواجبات الواقعية، وتركه للمحرمات كذلك، فهذا لا إشكال في استحقاق الثواب عليه، لما دلّ من الأدلة النقلية على إثابة المحتاط.

[4] أما حسنه شرعاً: فللروايات الدالة على ذلك، مثل: ما روي عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: (إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردّوه إلينا، حتى نشرح

ص: 176

التحريمية، في العبادات وغيرها. كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب[1] في ما إذا احتاط وأتى[2] أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل[3] في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب

--------------------------------------

لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوه إلى غيره، فمات منكم ميّت من قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً)(1).

وأما حسنه عقلاً: فلأنه يوجب حفظ الواقع، بإدراك المصلحة الواقعية وتجنّب المفسدة الواقعية.

[1] وذلك لانقياده وحفظه لمصلحة الواقع، ولا يخفى أن استحقاق الثواب إنما هو لأجل الوعد بالثواب تفضلاً ومِنّة من الله على عباده، وإلاّ فأصل الانقياد لا يوجبه لو لا التفضّل.

[2] عطف تفسيري لقوله: (احتاط).

الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة

[3] حاصله أن الصور ثلاث:

1- التوصليات، ولا إشكال في إمكان الاحتياط فيها، كما لو شك في طهارة ثوبه فإنه يتمكن من غسله - احتياطاً - .

2- في العبادات المأمور بها مع عدم العلم بأن الأمر للوجوب أو للاستحباب، كصوم يوم الشك من شعبان أو شهر رمضان، فإن هذا الصوم مأمور به إما استحباباً إن كان آخر شعبان، وإما وجوباً إن كان أول شهر رمضان، فلا إشكال في إمكان الاحتياط بالإتيان بهذا الصوم. ولا حاجة إلى قصد الوجه - أي: تعيين الوجوب أو الاستحباب - لما مرّ من عدم اشتراطه في العبادات.

3- العبادات المشكوكة، بأن دار أمرها بين الوجوب وبين غير الاستحباب

ص: 177


1- وسائل الشيعة 27: 168.

وغير الاستحباب[1] من جهة[2] أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة[3] على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالاً[4].

وحسن الاحتياط عقلاً[5]

--------------------------------------

- كالإباحة والكراهة - كمن يريد الاحتياط بقضاء صلواته التي صلاّها في أوائل بلوغه، فإنه إن كانت تلك الصلوات باطلة فقد تعلق الأمر بقضائها، وإن كانت صحيحة فلا أمر أصلاً بالقضاء - ولو بنحو الاستحباب - وهنا قد يشكل الاحتياط؛ وذلك لعدم تمشي قصد القربة.

بيانه: إن مقوّم العبادات ومُميزها عن التوصليات هو قصد القربة، ولا يمكن قصد القربة إلاّ بعد الأمر من الشارع - لأن قصد القربة هي قصد امتثال الأمر للتقرب إليه تعالى - وبعد العلم بذلك الأمر، ومع الشك في الأمر كيف يتصور قصد القربة؟ أي: كيف نقصد امتثال الأمر مع شكنا في وجود الأمر؟

[1] المقصود من «غير الاستحباب» هو الإباحة أو الكراهة فقط، أما لو دار بين الوجوب والحرمة فلا معنى للاحتياط، بل هو من دوران الأمر بين المحذورين.

[2] بيان للإشكال.

[3] أي: قصد القربة متوقف على العلم بالأمر، وهذا العلم متوقف على وجود الأمر واقعاً، ومع الشك في وجود الأمر كيف نقصد أمراً لا يعلم وجوده؟

[4] «إجمالاً» كما لو اشتبهت القبلة بين الجهات الأربع، فإنا نعلم - علماً إجمالياً - بوجود الأمر بالصلاة إلى إحدى تلك الجهات، و«تفصيلاً» نفس المثال مع علمنا بطرف القبلة.

أجوبة خمسة
الجواب الأول والإشكال عليه

[5] حاصل الجواب الأول: إنه لا إشكال في حسن الاحتياط بحكم العقل،

ص: 178

لا يكاد يجدي[1] في رفع الإشكال ولو قيل[2] بكونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً، بداهة[3] توقفه على ثبوته توقفَ[4]

--------------------------------------

وحيث إن أحكام الشرع تابعة للحسن والقبح، فهنا نكتشف أمر الشارع بالاحتياط - لقاعدة الملازمة - فصار الأمر معلوماً، وأمكن قصد القربة، فنأتي بهذه العبادة المشكوكة بقصد امتثال هذا الأمر الاحتياطي.

[1] المصنف لم يرتض هذا الجواب، وناقشه بأمرين:

المناقشة الأولى: بناءً على جريان قاعدة الملازمة هنا فنقول: إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط من حكم العقل بحسنه، ومن ثم تصحيح قصد القربة في العبادة المشكوكة يستلزم الدور. ولهذا الدور بيانات عدة، أسهلها:

1- الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان العبادة؛ إذ الشارع لا يأمر بغير الممكن.

2- إمكان العبادة متوقف على إمكان قصد القربة؛ إذ لا عبادة من غير قصد القربة.

3- قصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط حسب زعم الجواب الأول؛ إذ لا يمكن قصد القربة - وهو قصد امتثال الأمر - إلاّ بعد وجود الأمر وبعد العلم به.

المناقشة الثانية: بناءً على عدم جريان قاعدة الملازمة هنا، وسيأتي بيانها بعد ذكر الجواب الثاني.

[2] أي: حتى لو قلنا بجريان قاعدة الملازمة هنا، «بكونه» أي: بكون الحسن العقلي، «موجباً» بحسب قاعدة الملازمة، «به» بالاحتياط.

[3] بيان للدور، «توقفه» أي: توقف الأمر بالاحتياط، «على ثبوته» أي: على إمكان الاحتياط - وهذا الطرف الأول من الدور - .

[4] أي: كتوقف العارض على المعروض، كالبياض المتوقف على الجسم، فالمعروض متقدم رتبة على العارض؛ وذلك لأن الحكم - وهو الأمر هنا - متأخر

ص: 179

العارض على معروضه، فكيف[1] يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

وانقدح بذلك[2] أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول[3] بتعلق الأمر به[4] من جهة ترتب الثواب عليه، ضرورة[5]

--------------------------------------

عن الموضوع - وهو الاحتياط - فلابد أن يكون الاحتياط ممكناً حتى يمكن تعلق الأمر به، ولو استحال الموضوع انتفى الحكم.

[1] بيان للطرف الثاني والثالث من الدور - حسب ما بيناه - أي: فكيف تقولون: إن إمكان العبادة وقصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط؟ «أن يكون» الأمر بالاحتياط، «ثبوته» أي: إمكان الاحتياط. والمعنى: كيف يكون الأمر بالاحتياط سبباً لإمكان قصد القربة ومن ثَمَّ إمكان الاحتياط؟

الجواب الثاني

[2] «بذلك» باستلزام الدور في الجواب الأول، «في رفعه» رفع الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة - أي: الدائر أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب - .

[3] بيان للجواب الثاني، وحاصله: إن الاحتياط فيه ثواب، ولا يكون الثواب إلا للمأمور به، فمن ترتب الثواب على الاحتياط نكتشف وجود الأمر في هذه العبادة المشكوكة.

وفرق هذا الجواب عن سابقه، أن الأول هو عن طريق الحسن العقلي وهو علّة للأمر، والثاني عن طريق الثواب وهو معلول للأمر.

[4] «به» بالاحتياط، «عليه» على الاحتياط.

[5] بيان عدم صحة هذا الجواب الثاني، وحاصله: لزوم الدور المذكور في مناقشة الجواب الأول، مع إضافة ركن آخر للدور، هكذا:

1- الثواب متوقف على الأمر بالاحتياط.

2- الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان الاحتياط.

ص: 180

أنه فرع إمكانه[1]، فكيف[2] يكون من مبادئ جريانه؟! هذا.

مع[3]

--------------------------------------

3- إمكان الاحتياط متوقف على قصد القربة.

4- قصد القربة متوقف على الأمر بالاحتياط.

[1] «أنه» الأمر بالاحتياط، «إمكانه» إمكان الاحتياط، وهذا الطرف الثاني من الدور.

[2] هذا الطرف الثالث والرابع من الدور، أي: «فكيف يكون» إمكان الاحتياط، «من مبادئ جريانه» أي: سبباً للأمر بالاحتياط.

المناقشة الثانية لكلا الجوابين

[3] هذه المناقشة هي بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان قاعدة الملازمة هنا؛ وذلك لأن قاعدة الملازمة تجري في سلسلة العلل فقط دون سلسلة المعاليل، وما نحن فيه من المعاليل.

بيانه: إن العقل قد يستقل في حكم - مع قطع النظر عن التشريع - كقبح الظلم وحسن العدل، ففي هذه الموارد تجري قاعدة الملازمة؛ لأن ما استقل به العقل هو المعرفة بالحسن والقبح، وهي علل لأحكام الشارع؛ لأن أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد.

ولكن إذا لم يكن للعقل حكم - لعدم إحاطته بالواقع - ثم حكم الشارع بوجوب صوم شهر رمضان - مثلاً - فإن العقل يحكم بلزوم طاعته، وهذا الحكم العقلي لم يكن سبباً لحكم الشارع بالصيام، بل هو معلول لحكمه، أي: بعد أن أوجب الشارع الصيام حكم العقل بلزوم إطاعته، ولا ملازمة بين حكم العقل بلزوم الإطاعة وبين حكم الشارع بلزومها، بل لو صدر أمر من الشارع كقوله: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) فإنه أمر إرشادي، والأمر الإرشادي هو دلالة إلى حكم العقل، وليس

ص: 181


1- سورة آل عمران، الآية: 132.

أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به[1] بنحو اللم، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإن، بل يكون حاله في ذلك[2] حال الإطاعة، فإنه[3] نحو من الانقياد والطاعة.

وما قيل[4]

--------------------------------------

إصدار حكم آخر على طبق حكم العقل، وقد مرّ تفصيله في بحث التعبدي والتوصلي، فراجع.

إذا اتضح ذلك، نقول: حينما يستقل العقل بحسن الاحتياط فإنّما هو لأجل حفظ مصلحة الواقع وتحقيق غرض المولى، فيكون الاحتياط طريقاً لإطاعة المولى، فهو في سلسلة المعاليل، فالأوامر الشرعية الدالة على الاحتياط لابد من حملها على الإرشادية، فلا يوجد هناك أمر مولوي حتى يقصد العبد إطاعة ذلك الأمر تقرباً إليه تعالى.

[1] «به» بالاحتياط، «بنحو اللم» أي: الانتقال من العلة - وهي حسن الاحتياط - إلى المعلول - وهو الأمر بالاحتياط - كما في الجواب الأول، «الثواب عليه» على الاحتياط، «عنه» عن الأمر، «بنحو الإنّ» أي: الانتقال من المعلول - وهو الثواب - إلى العلة - وهو الأمر بالاحتياط - .

[2] «حاله» حال الاحتياط، «في ذلك» في الحسن والثواب، «حال الإطاعة» التي يكون الأمر بها للإرشاد في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ...}(1) وليس أمراً مولوياً.

[3] أي: فإن الاحتياط نوع من أنواع الإطاعة، التي يعبّر عنها بالإطاعة الاحتياطية.

والحاصل: إن قصد القربة لا يكون إلاّ قصد امتثال أمر المولى، ولا أمر للمولى في الأوامر الإرشادية، بل هو إشارة وإرشاد إلى حكم العقل فقط.

الجواب الثالث

[4] وهو جواب الشيخ الأعظم حيث قال في الرسائل: (إن المراد من الاحتياط والإتقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية

ص: 182


1- سورة آل عمران، الآية: 132.

في دفعه[1]: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة[2].

فيه[3]:

--------------------------------------

القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل، وحينئذٍ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر)(1)،

انتهى.

يعني الأمر بالاحتياط، وحاصله: إن المكلف يأتي بكل الأجزاء والشرائط - كالركوع والسجود والقبلة... الخ - ولا يقصد امتثال أمر الصلاة؛ لعدم علمه بهذا الأمر، ولكن يقصد امتثال أمر الاحتياط، والأمر بالاحتياط معلوم يمكن قصد امتثاله.

[1] دفع إشكال الاحتياط في العبادات.

[2] وحيث إن الأمر بالاحتياط معلوم فيقصد امتثال أمر الاحتياط - قربة إلى الله تعالى - .

[3] أشكل المصنف على هذا الجواب بثلاثة إشكالات، تنحل إلى خمسة؛ لأن الإشكال الثاني يتضمن ثلاثة:

الأول: إن الاحتياط الذي يستقل به العقل هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط، وأما الإتيان ببعضها فهذا ما لا يستقل به العقل، ولا دليل عليه من الشرع.

الثاني: إن قصد القربة لأمر الاحتياط يحوّل هذا الاحتياط:

أ: إلى وجوب مولوي؛ لعدم استقلال العقل بهذا الاحتياط، فيكون أمر المولى به أمراً مولوياً - ككل الأوامر التي لا يستقل بها العقل - وهذا ما لا يرتضيه الشيخ الأعظم، حيث يرى بأن أوامر الاحتياط إرشادية.

ب: وإلى وجوب نفسي؛ لأن الغرض من هذا الاحتياط ليس حفظ مصلحة

ص: 183


1- فرائد الأصول 2: 153.

- مضافاً إلى عدم مساعدة[1] دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقةً[2]، بل هو[3] أمر لو دل عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً عبادياً[4]؛ والعقل لا يستقل إلاّ بحسن الاحتياط[5]، والنقل لا يكاد يرشد إلاّ إليه.

--------------------------------------

الواقع؛ لأن الواقع - لو كان - فهو مع قصد القربة، فالفعل بلا قصد القربة شيء آخر، فوجوبه لا يكون طريقاً إلى الواقع، وحينئذٍ يكون وجوباً نفسياً، وهذا أيضاً لا يرتضيه الشيخ الأعظم، حيث يرى أن وجوب الاحتياط طريقي.

ج: وإلى وجوب عبادي؛ لأن إتيان الاحتياط بقصد القربة معناه تحوّل هذا الاحتياط إلى عبادة، حيث إن كل واجب اشترط فيه قصد القربة يكون عبادياً، وهذا أيضاً لا يرتضيه الشيخ الأعظم.

الثالث: إن هذا الجواب هو تسليم بالإشكال وقبول أنه لا يمكن قصد القربة في العبادات المشكوكة.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «دليل» لا من العقل ولا من الشرع، «حينئذٍ» حين عدم قصد القربة في نفس العبادة، «بهذا المعنى» بمعنى الإتيان بكل الأجزاء والشرائط سوى قصد القربة، «فيها» في العبادات.

[2] لأن الاحتياط الحقيقي هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «هو» الاحتياط بهذا المعنى، «لو دل عليه دليل» أي: لو سلمنا بوجود دليل عليه فلا يكون احتياطاً، بل أمراً مستقلاً، وسيأتي بعد قليل عدم وجود دليل عليه لا من الشرع ولا من العقل في قوله: (والعقل لا يستقل... الخ).

[4] شرحنا هذه الفقرات في تقرير الإشكالات فراجع، وقلنا: إن هذه الفقرات تنحل إلى ثلاثة إشكالات.

[5] والاحتياط الحقيقي الذي هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

ص: 184

نعم[1]، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة[2] لما كان محيص عن دلالته اقتضاءً[3] على أن المراد به ذاك المعنى[4] بناءً[5] على عدم إمكانه[6] فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى - أنه[7]

--------------------------------------

[1] أي: هذا الجواب من الشيخ الأعظم إنّما يصح لو كان هناك دليل خاص على الاحتياط في العبادات المشكوكة، مثلاً يقول: (من شك في صلواته التي صلاها في أوائل بلوغه فيجوز له الاحتياط بقضائها). وحينئذٍ نضطر إلى تصحيح كلام الشارع بهذا الجواب. ولكن حيث لا يوجد هكذا دليل فيكون هذا التوجيه من غير مبرِّر. نعم، لو لم نتمكن من حلّ الإشكال في العبادات المشكوكة لكُنّا نضطر إلى هذا القول، ولكن سيأتي في الجواب الرابع إمكان حلّ الإشكال.

[2] أي: الاحتياط بالإتيان بالعبادة المشكوكة - الدائر أمرها بين الوجوب وعدم الاستحباب - .

[3] «دلالته» دلالة ذلك الدليل، «اقتضاء» بدلالة الاقتضاء، وهي لزوم تقدير ما يتوقف عليه صحة كلام الحكيم أو صدقه، كتقدير الأهل في قوله تعالى: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(1)، أي: أهلها.

[4] «المراد به» بأمر المولى بالاحتياط في العبادة، «ذاك المعنى» الذي ذكره الشيخ وهو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط سوى قصد القربة.

[5] أي: توجيه الأمر على طريقة الشيخ لو لم نتمكن من تصحيح الاحتياط في العبادة المشكوكة، أما لو تمكنا فلا تصل النوبة إلى توجيهه.

[6] عدم إمكان الاحتياط، «فيها» في العبادات، «بمعناه حقيقة» وهو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط.

[7] هذا الإشكال الثالث على الجواب الثالث، و«أنه» خبره قوله: (فيه) قبل عدة أسطر، أي: فيه - مضافاً إلى كذا وكذا - أنه التزام... الخ.

ص: 185


1- سورة يوسف، الآية: 82.

التزام بالإشكال وعدم جريانه[1] فيها، وهو كما ترى.

قلت[2]: لا يخفى أن منشأ الإشكال[3] هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة

--------------------------------------

[1] أي: عدم جريان الاحتياط، «فيها» في العبادات.

الجواب الرابع

[2] هذا هو الجواب الذي يرتضيه المصنف - وهو جواب مبنائي - وحاصله: إنه لا يشترط في قصد القربة قصد الأمر المعلوم، بل يكفي قصد الأمر المحتمل، فإن هذا يعتبر إطاعة أيضاً.

وكما مرّ مراراً فإن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلائية، حيث لم يجعل الشارع طريقاً خاصاً، والطاعة عند العقلاء على أنواع.

منها: الطاعة المعلومة بالتفصيل، كأداء الصلوات اليومية.

ومنها: الطاعة المعلومة إجمالاً، كالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة.

ومنها: الطاعة الاحتمالية، كالإتيان بما يحتمل أمر المولى فيه رجاء أمره، والاحتياط في العبادات المشكوكة من هذا القبيل.

ولا يرد على المصنف الإشكال الذي أورده على الشيخ الأعظم، من أن الإتيان بالعبادة بدون قصد الأمر المعلوم ليس باحتياط؛ إذ الاحتياط هو الإتيان بالفعل بكل الأجزاء والشرائط؛ وذلك لأن المصنف يرى: أن قصد القربة ليست شرطاً شرعياً، حتى في العبادات المعلومة، بل هي شرط عقلي - كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي - والعقل لا يفرق بين العبادة المعلومة وبين العبادة المشكوكة، في اشتراط قصد القربة، فتكون كيفية قصد القربة هي قصد الأمر المعلوم، أو الأمر المحتمل رجاءً.

[3] في العبادات المشكوكة بأنه كيف يمكن قصد القربة والحال أن القربة هي قصد الأمر المعلوم، ولا يوجد أمر معلوم في العبادات المشكوكة؟

ص: 186

مثل سائر الشروط المعتبرة فيها[1]، مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها، فيشكل جريانه[2] حينئذٍ، لعدم[3] التمكن من قصد القربة المعتبر فيها، وقد عرفت[4] أنه فاسد، وإنما اعتبر قصد القربة فيها[5] عقلاً لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه، وعليه[6] كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان، ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله[7]؛ غاية الأمر أنه[8] لابد أن يؤتى به على

--------------------------------------

[1] «فيها» في العبادات، «مما» بيان (مثل سائر الشروط)، «يتعلق بها» بسائر الشروط، «المتعلق بها» بالعبادة.

[2] «جريانه» جريان الاحتياط في العبادة، «حينئذٍ» حين كون شرط القربة مأموراً به كسائر الشروط والأجزاء.

[3] بيان الإشكال، «فيها» في العبادات.

[4] في بحث التعبدي والتوصلي، «أنه» أن تعلق الأمر العبادي بقصد القربة، «فاسد» للزومه الدور، وخلاصته:

1- (الصلاة) موضوع، وهو مقدم على (واجبة) وهو الحكم.

2- و(القربة) - وهي قصد الأمر - شرط، والشرط مقدم على المشروط (وهو الصلاة).

فالأمر تقدم على الصلاة لأنه شرط موضوعها، وتأخر عن الصلاة لأنه حكمها.

[5] «فيها» في العبادات، «منها» من العبادات، «بدونه» بدون قصد القربة.

[6] أي: بناءً على عدم اشتراط قصد القربة شرعاً، بل هو شرط عقلي، «فيه» أي: في مشكوك العبادة.

[7] لأن قصد القربة لم يكن شرطاً شرعاً، والمكلف يتمكن من الإتيان بكل أجزاء وشرائط العبادة بلا استثناء، وهذا هو المعنى الحقيقي للاحتياط.

[8] «أنه» للشأن، «يؤتى به» بمشكوك العبادة، «على نحو» أي: على نحو الإطاعة

ص: 187

نحو لو كان مأموراً به لكان مقرباً، بأن[1] يؤتى به بداعي[2] احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له تعالى، فيقع حينئذٍ[3] على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره تعالى، وعلى تقدير عدمه[4] انقياداً لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد[5].

--------------------------------------

الاحتمالية، وهو أن يقصد احتمال الأمر.

[1] «بأن» بيان قوله: (أن يؤتى به على نحو... الخ)، «به» بمشكوك العبادة.

[2] فتارة: يحتمل وجود أمر فيأتي به بداعي احتمال الأمر، وتارة أخرى: لا يحتمل وجود الأمر، ولكن يحتمل أن يكون محبوباً للمولى فيأتي به ليتحقق غرض المولى - المحتمل - وكلاهما طاعة احتمالية.

[3] أي: فيتحقق الفعل، «حينئذٍ» حين الإتيان به بداعي احتمال الأمر أو احتمال المحبوبية، «على تقدير الأمر» أي: لو كان هناك أمر واقعي، و«امتثالاً» مفعول «يقع»، أي: يكون فعله امتثالاً لذلك الأمر الواقعي - الذي كان يحتمله المكلف - .

[4] أي: لو لم يكن واقعاً أمر فهذا الفعل الذي أتى به لم يكن مأموراً به، لكنه انقياد.

مثلاً: لو قضى صلواته التي صلاها أوائل البلوغ احتياطاً، فإن كانت تلك الصلوات باطلة فهذا القضاء كان مأموراً به، فصادف احتياطه الأمر ويكون امتثالاً، وإن كانت تلك الصلوات صحيحة فلا أمر له بالقضاء لكن احتياطه هذا انقياد.

[5] ثم إن المصنف قد علّق على قوله: (وقد عرفت أنه فاسد)، تعليقه حاصلها إشكال على الشيخ الأعظم، وتأكيد لما قاله هنا، ودفع إشكال؛ وذلك لأن الشيخ في بحث التوصلي والتعبدي، صحح قصد القربة بتعدد الأمر، فيتعلق الأمر الأول بكل الأجزاء والشرائط - عدا قصد القربة - ويتعلق الأمر الثاني بقصد القربة.

ص: 188

--------------------------------------

يقول المصنف: لو تمّ تصحيح قصد القربة في العبادات المعلومة، بتعدد الأمر، فيمكن تصحيح قصد القربة في العبادات المشكوكة باحتمال تعدده، فلا حاجة للقول بأن يقصد القربة في الأمر الاحتياطي حتى يلزم عليه ما قدمناه من إشكالات.

قال المصنف(1):

(هذا مع أنه لو أغمض عن فساده) فساد تعلق الأمر بقصد القربة (لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها) أي: في نفس العبادات المعلومة (فكما يلتزم في دفعه بتعدد الأمر فيها) في العبادات المعلومة (ليتعلق أحدهما بنفس الفعل) أي: كل الأجزاء والشرائط عدا قصد القربة (والآخر بإتيانه) الفعل (بداعي أمره) - قصد القربة - (كذلك في ما احتمل وجوبه منها) من العبادات (كان على هذا الاحتمال) أي: احتمال الوجوب في العبادة المشكوكة (أمرين كذلك - أي: أحدهما كان متعلقاً بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذلك الأمر - فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة) أي: امتثالاً (لو كان واجباً، وانقياداً لو لم يكن كذلك).

ثم المصنف يبين الفرق بين الاحتياط في العبادات المشكوكة وفي التوصليات المشكوكة، لكن هذا الفرق ليس بفارق فقال: (نعم، كان بين الاحتياط هاهنا) في العبادات المشكوكة (وفي التوصليات فرق: وهو أن المأتي به فيها) في التوصليات (كان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً) أي: سواء كان أمر أم لم يكن، مثلاً: من يغسل الثوب لاحتمال وجوبه، فإن الموضوع وهو «غسل الثوب» يتحقق في الخارج قطعاً، سواء كان واجباً أم لم يكن (بخلافه) أي: المأتي به (هاهنا) في العبادات (فإنه لا يوافق إلاّ على تقدير وجوبه واقعاً) لأن شرط تحقق العبادة هو وقوعها صحيحاً، فلو لم يكن للصلاة المشكوكة أمر واقعاً كانت باطلة، فلم تتحقق صلاة في الخارج؛

ص: 189


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 120.

وقد انقدح[1]

--------------------------------------

لأن العبادات أسامٍ للصحيح (لما عرفت من عدم كونه) المأتي به (عبادة إلاّ على هذا التقدير) أي: تقدير وجوبه واقعاً. (ولكنه) هذا الفرق (ليس بفارق) فيصح الاحتياط سواء في التوصليات المشكوكة أم في التعبديات المشكوكة (لكونه) أي: المأتي به (عبادة على تقدير الحاجة إليها) وهي وجوبها واقعاً (وكونه واجباً).

ثم إن المصنف دفع إشكال لزوم الإطاعة المعلومة - وكان الأولى جعل الإشكال وجوابه في المتن - فقال: (ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته) المأتي به (عبادة، أصلاً - ولو على هذا التقدير) تقدير مصادفة الواقع - (مجازفة، ضرورة) أن طرق الطاعة عقلية، و(استقلال العقل بكونه) بكون الإتيان رجاءً - أي: الإطاعة الاحتمالية - (امتثالاً لأمره على نحو العبادة - لو كان - وهو) العقل (الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمل جيداً)، انتهى بشرحه.

الجواب الخامس

[1] هذا الجواب خاص بما إذا ورد خبر ضعيف على العبادة المشكوكة، وحاصله: إنه استفاضت الأخبار في أنه لو وصل إلى مسامعنا ثواب على عمل فعملنا به رجاء ذلك الثواب، فإن الله تعالى يتفضل علينا بمنحنا ذلك الثواب، حتى لو لم يصدر ذلك الخبر عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيكون العمل مستحباً مأموراً به، فيصح قصد القربة في هذا العمل، لإحراز الأمر.

وفي هذا الجواب نظر من جهتين:

الأولى: إنه لا حاجة إلى الأمر المعلوم، بل يمكن قصد القربة باحتمال الأمر - كما مرّ في الجواب الرابع - .

الثانية: إن إحراز الأمر - عبر أخبار من بلغ - خروج موضوعي عن البحث؛ لأن الكلام إنّما هو حول العبادات المشكوكة، لا العبادات المعلومة، وأخبار (من بلغ)

ص: 190

بذلك أنه لا حاجة[1] في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها، بل[2] لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها[3]، كما لا يخفى.

فظهر[4] أنه لو قيل ب- «دلالة أخبار (من بلغه ثواب)(1) على استحباب العمل[5] الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف»، لما كان يجدي[6] في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبرٌ ضعيف، بل كان[7] - عليه - مستحباً كسائر ما

--------------------------------------

تجعل الأمر معلوماً محرزاً، وليس هذا محل الكلام.

والمصنف قدّم الإشكالين على نفس الجواب، باعتبار أن الإشكال الأول يرتبط بالجواب الرابع.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «جريانه» الاحتياط، «بها» بالعبادات.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «لو فرض» إشارة إلى الخلاف الذي سيأتي بيانه من أن أخبار (من بلغ) هل تثبت الاستحباب أو الثواب فقط؟ «تعلقه» الأمر، «بها» بالعبادات المشكوكة.

[3] من العبادات، فكما يمكن قصد القربة في العبادات المعلومة الوجوب أو الاستحباب، كذلك يمكن قصد القربة في العبادة المشكوكة التي قام عليها خبر ضعيف؛ إذ بقيام الخبر الضعيف يتحقق أمر معلوم فيها - حسب الفرض - .

[4] شروع في بيان الجواب الخامس.

[5] أي: صيرورة العمل مأموراً به بالأمر الاستحبابي.

[6] توضيح للإشكال الثاني - تكراراً - ، «جريانه» الاحتياط، «في خصوص» أي: هذا الجواب خاص بالعبادة المشكوكة التي قام الخبر الضعيف عليها، «ما دلّ» الموصول معناه العبادة المشكوكة، «خبر ضعيف» فاعل (دلّ).

[7] أي: كان ما دل عليه الخبر الضعيف، «عليه» أي: بناءً على دلالة أخبار (من

ص: 191


1- الكافي 2: 87.

دل الدليل[1] على استحبابه.

لا يقال[2]:هذا[3] لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه[4] لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت[5] دالة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر

--------------------------------------

بلغ) على الاستحباب، «مستحباً» أي: معلوم الاستحباب فيكون مأموراً به.

[1] أي: كسائر المستحبات التي دل الدليل المعتبر على استحبابها، فهي مأمور بها، ويمكن قصد القربة - بقصد ذلك الأمر - .

[2] حاصله: إنه حتى لو قلنا بدلالة أخبار (من بلغ) على الاستحباب فإن العمل لا يصير مستحباً، فلا يصح إشكالكم الثاني.

بيانه: إن الاستحباب المستفاد من أخبار (من بلغ) على أحد نحوين:

1- استحباب ذات العمل، وعلى هذا النحو يرد إشكالكم حيث صار الأمر معلوماً.

2- استحباب الاحتياط بإتيان ذلك العمل، مع بقاء العمل على واقعه، وحينئذٍ فلا علم لنا بوجود أمر في ذات العمل، وإنما الأمر الاستحبابي متوجه إلى الاحتياط، فيكون كأوامر الاحتياط في محتمل الوجوب والحرمة، حيث لا ينقلب العمل إلى واجب أو مستحب، وإنّما الأمر - وجوباً أو استحباباً - توجه إلى نفس الاحتياط.

[3] أي: إشكالكم الثاني، «بدلالتها» أخبار من بلغ، «بعنوانه» أي: بذاته، مثلاً: غسل يوم النيروز قام عليه خبر ضعيف، فيرد الإشكال لو قلنا: إن نفس الغسل يصير مستحباً.

[4] أي: استحباب العمل، لا بذاته، كأن يقال: إن غسل النيروز لا يصير مستحباً، بل الاحتياط بإتيانه مستحب، «محتمل الثواب» وهو العنوان الاحتياطي.

[5] جزاء (لو دلّ على استحبابه)، أي: لكانت أخبار من بلغ، «الإتيان به» بالعمل.

ص: 192

الاحتياط[1] لو قيل بأنها للطلب المولوي[2] لا الإرشادي.

فإنه يقال[3]: إن الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولوياً[4] لكان توصلياً[5].

--------------------------------------

[1] في محتمل الوجوب والحرمة، حيث لا تحوّل العمل إلى واجب أو مستحب، بل يكون الاحتياط مطلوباً.

[2] لأن القربة هي قصد الأمر المولوي؛ إذ الأمر الإرشادي ليس بأمر حقيقة، بل هو إرشاد إلى حكم العقل - كما مرّ توضيحه - . فأخبار (من بلغ) تدل على الأمر بالاحتياط المولوي؛ لأن العقل لا يدرك حسن الاحتياط في محتمل الاستحباب، فلا حكم عقلي، فالأمر الشرعي بحسن الاحتياط حينئذٍ يكون مولوياً لا محالة.

[3] حاصله ثلاثة إشكالات:

1- إن الاحتياط في المستحبات أيضاً يحكم العقل بحسنه، وكذا في محتمل الاستحباب، فكما يكون الاحتياط في الواجبات إرشادياً كذلك في المستحبات.

2- إن الاحتياط في المستحبات - الثابت بأخبار (من بلغ) على هذا المبنى - لا يصحح قصد القربة؛ لأن هذا الاحتياط توصلي وليس تعبدياً، فكيف يقصد القربة في الأمر التوصلي؟

أما أنه توصلي فلأنّ الأصل في الواجبات هو كونها توصلية، وقد مر في بحث التعبدي والتوصلي أن الاحتياج إلى قصد القربة هو قيد إضافي، والأصل عدم تقيّد الواجب به.

3- إنه لو فرض أن اخبار (من بلغ) تدل على استحباب الاحتياط في المستحبات، فإنه لا يمكن اكتشاف الأمر منها، وقصد ذلك الأمر؛ وذلك للزوم الدور، الذي بيناه في الإشكال على الجواب الأول والثاني، فراجع.

[4] إشارة إلى الإشكال الأول.

[5] إشارة إلى الإشكال الثاني.

ص: 193

مع[1] أنه لو كان عبادياً لما كان مصححاً للاحتياط[2] ومجدياً في جريانه في العبادات، كما أشرنا إليه آنفاً[3].

ثم[4] إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار[5] على استحباب ما بلغ عليه الثواب[6]، فإن[7] صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد اللهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الإشكال الثالث، «أنه» عنوان محتمل الثواب، أي: الاحتياط في المستحبات، «لما كان» هذا العنوان.

[2] لما أشرنا من لزوم الدور.

[3] سابقاً في الإشكال على الجواب الأول والثاني.

قاعدة من بلغ

[4] وردت عدة روايات - منها صحاح - على أن من بلغه ثواب على عمل فعمله كان أجر ذلك العمل له حتى وإن كان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يقل ذلك الكلام. ولا خلاف في استحقاق العامل الثواب. وقد وقع الخلاف في أنه هل العمل يكون مستحباً، أو أنه ليس بمستحب ولكن الله يتفضل في الثواب فقط؟ والمصنف يرى أن العمل يصير مستحباً، والشيخ(1)

يرى أن العمل يبقى على ما هو عليه ولكن يثاب فاعله.

[5] أخبار (من بلغ).

[6] «ما» العمل الذي، «بلغ عليه» على ذلك العمل، «الثواب» فاعل بلغ، أي: ينقلب العمل مستحباً - وإن كان في ذاته مباحاً مثلاً - .

الاستدلال على القول بالاستحباب

[7] دليل المصنف على الاستحباب، وحاصله: إنه في هذه الصحيحة رُتّب الثواب على نفس العمل، ومن الواضح أن الثواب قسمان:

ص: 194


1- فرائد الأصول 2: 157.

قال: «من بلغه عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يقله»(1)

ظاهرة[1] في أن الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه ذو ثواب[2].

وكون[3]

--------------------------------------

1- ثواب على نفس العمل، وهذا يكشف عن استحبابه؛ لعدم الثواب في المباح أو المكروه.

2- ثواب على الاحتياط، وهنا لا يكون الثواب على العمل حتى يكشف استحبابه، بل على الاحتياط في العمل، فيكون نفس الاحتياط مستحباً مع بقاء ذات العمل على ما هو عليه.

وفي صحيحه هشام بن سالم رتب الثواب على ذات العمل، فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كان أجر ذلك»، (ذلك) إشارة إلى العمل، فالمعنى أجر العمل له، فإذا كان للعمل أجر فذلك يكشف عن استحباب نفس العمل.

[1] منشأ الظهور هو مرجع اسم الإشارة - كما ذكرناه - .

[2] «بلغه» بلغ العامل، وجملة «أنه ذو ثواب» فاعل (بلغه).

دليل القول بعدم الاستحباب

[3] استدل الشيخ الأعظم(2)،

على عدم استحباب العمل بأمرين:

الأول: إن الداعي للعمل هو طلب الثواب، فلو لا بلوغ الثواب لم يكن المؤمنون يعملون بذاك العمل، والداعي يقيد العمل، ففي الحقيقة إن المستحب هو رجاء صدوره عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ومرجع هذا إلى الاحتياط، أي: إنا نحتمل صدور هكذا أمر عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وبأمل امتثال أمره - لو كان الخبر صحيحاً - نقوم بالعمل، وهذا معنى الاحتياط، وهذا الاحتياط مستحب، ولكن لا يوجب استحباباً في ذات العمل.

ص: 195


1- المحاسن 1: 25.
2- فرائد الأصول 2: 155.

العمل متفرعاً على البلوغ، وكونه[1] الداعي إلى العمل، غير موجب[2] لأن يكون الثواب إنما يكون[3] مترتباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط[4]، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً[5] يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان[6] العمل بداعي طلب قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - كما قُيِّد به في بعض الأخبار -

--------------------------------------

وأشكل المصنف عليه: بأن الداعي لا يوجب تقييداً للعمل، بل الداعي هو علة العمل، ولكنه لا يغيّر العمل عن واقعه، مثلاً: من يتوهم أن له ضيوفاً فيشتري لهم طعاماً، ثم يتبين له عدم مجيئهم، فإن الداعي إلى شراء الطعام كان مجيء الضيوف، ولكن هذا الداعي لا يقيد الشراء بحيث يحق له فسخ البيع، وهكذا هنا، الداعي للعمل هو رجاء قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وهذا الداعي لا يقيد العمل.

وبعبارة أخرى: الداعي حيثٌ تعليلي - أي: علة العمل الغائية - وليس حيثاً تقييدياً.

الثاني: سيأتي في قوله: (وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي... الخ).

[1] كون البلوغ، والعطف تفسيري.

[2] الإشكال على هذا الوجه الأول.

[3] أي: لا يوجب انحصار الثواب في الاحتياط، بل يمكن أن يكون الثواب لجهتين: للاحتياط، ولذات العمل. «إنّما يكون...» بمعنى منحصراً، وهو خبر قوله: «لأن يكون الثواب»، «عليه» على العمل، «في ما» أي: مقيداً، «أنه» أن العمل.

[4] عطف تفسيري، أي: الإتيان بالعمل برجاء إصابة قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو الاحتياط بعينه.

[5] لأنه حيثٌ تعليلي، لا حيثٌ تقييدي - كما بيّنا - .

[6] هذا هو الوجه الثاني، الذي استدل به الشيخ الأعظم(1) على عدم استحباب

ص: 196


1- فرائد الأصول 2: 155.

وإن كان[1] انقياداً، إلاّ أن الثواب في الصحيحة إنّما رتب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به[2]،

--------------------------------------

نفس العمل، وحاصله: إن الثواب في بعض الأخبار قُيّد بداعي طلب قول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، كما عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه)(1).

حيث لم يجعل الثواب على ذات العمل، بل على العمل بهذا القصد، وهو عبارة أخرى عن الاحتياط.

وقد أشكل المصنف عليه بإشكالين:

الأول: إن هذه الطائفة من الأخبار وإن دلت على أن الثواب للاحتياط والانقياد، إلاّ أنه لا منافاة بينها وبين صحيحة هشام بن سالم الدالة على أن الثواب على نفس العمل، حيث يمكن أن يكون لعمل واحد ثواب من جهتين: نفس العمل، والانقياد.

الثاني: إنه لا إشكال في أن من يأتي بالعمل - لا للانقياد، بل لنفس العمل - يكون مستحقاً للثواب، وهذا يدل على أن الثواب ليس في الاحتياط.

ومثاله الواضح: غالب الناس الذين يعملون المستحبات - وهم لا يعلمون أنها لقاعدة (من بلغ) - فإنهم لا يقومون بالعمل احتياطاً، بل عملهم بها كعملهم بسائر المستحبات المقطوع بها، ولا إشكال في استحقاقهم للثواب، وحيث إن الثواب حينئذٍ ليس للاحتياط والانقياد فلا محالة يكون لنفس العمل، بل الناس يأتون بغالب المستحبات المعلومة طمعاً في الثواب، ومع ذلك الثواب إنّما هو لذات العمل ولا يقيّد بهذا القصد.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] أي: تقييد الصحيحة، «به» بعض الأخبار الدالة على أن الثواب للانقياد.

ص: 197


1- الكافي 2: 87.

لعدم[1] المنافاة بينهما، بل[2] لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود - كما قيد به في بعضها الآخر - لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد[3]، فيكشف[4] عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعةً، فيكون وزانه[5] وزان «من سرح لحيته»(1) أو «من صلى أو صام فله كذا». ولعله لذلك[6] أفتى المشهور

--------------------------------------

[1] وجه عدم التقييد؛ وذلك لأن التقييد إنما يكون في ما لو كان تنافٍ بين الدليلين، فيحمل المطلق على المقيد، ولكن حيث لا تنافي فلا وجه للتقييد، وهنا لا منافاة بين الدليلين؛ لإمكان كون الثواب من وجهين - للعمل وللانقياد - كما عرفت تفصيله.

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، وأن الثواب لذات العمل حتى لو أتى به بقصد إدراك الثواب، «أتى به» بالعمل، «كذلك» أي: لأنه مستحب - كما دلت صحيحة هشام - ، «أو التماساً» أي: أو أتى بالعمل طمعاً في الثواب.

والحاصل: إنه لا فرق في الصورتين - سواء كان العمل لأجل استحبابه أم للطمع في الثواب - في كون الثواب على نفس العمل.

[3] لأن الصحيحة تدل على أن الثواب على نفس العمل، وقصد الانقياد لا يوجب صرف الثواب من العمل إلى الانقياد، فمن صلى اليومية مثلاً - سواء بعنوان أنها واجبة أم صلّى بعنوان الانقياد - فإن الثواب يكون على نفس الصلاة، لا على الانقياد.

[4] فيكشف إعطاء الأجر على نفس العمل، «كونه» كون العمل، «بنفسه» لا بما هو انقياد واحتياط.

[5] أي: فيكون نظير سائر المستحبات المعلومة التي لها ثواب كصلاة الليل - مثلاً -، فإن إتيان الناس لها بداعي الثواب لا يقيد العمل بهذا الداعي، بل يكون الثواب لنفس العمل، لا للانقياد والاحتياط.

[6] لأن الثواب لذات العمل، حيث إنه يكشف عن حسن نفس العمل واستحبابه؛ إذ لا معنى للثواب على ذات العمل من غير أن يكون مستحباً.

ص: 198


1- الكافي 6: 489.

بالاستحباب، فافهم وتأمل[1].

الثالث[2]:

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى صحة كلا الوجهين اللذين استدل بهما الشيخ الأعظم، وعدم ورود الإشكالات عليهما.

أما الوجه الأول: فلا إشكال في أن الداعي يُعَنْوِن العمل ويقيّده، فضرب اليتيم بقصد التأديب حسن، وبقصد الإيذاء قبيح، فالداعي غيّر الفعل من حسن إلى قبيح أو العكس.

وأما الوجه الثاني: فإن صحيحة هشام بن سالم مجملة من حيث جهة الثواب، فهل الثواب لذات العمل أم للانقياد والاحتياط؟ وأما الأخبار الأخرى فهي مبيّنة حيث دلت على أن الثواب للانقياد، وفي المقام تفاصيل لا يسعها المقام، وإن شئت التفصيل فراجع تبيين الأصول في (التسامح في أدلة السنن) تقريرات درس السيد الأخ (رحمه الله)(1).

التنبيه الثالث في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية

[2] لا إشكال في جريان البراءة في الشبهات الحكمية - وجوبية أم تحريمية - فهل تجري في الشبهات الموضوعية؟ فيه أقوال:

والمصنف وإن ساق الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية، إلاّ أن البحث عام يشمل الشبهة الموضوعية الوجوبية أيضاً.

القول الأول: عدم جريان أصالة البراءة مطلقاً.

ودليله: هو أن الذمة اشتغلت بالتكليف، ولا يعلم الخروج عن عهدة هذا التكليف إلاّ بترك الأفراد المشكوكة. مثلاً قوله: (لا تشرب الخمر) تكليف اشتغلت ذمة المكلف به، والمصاديق المشكوك كونها خمراً يلزم تركها للخروج عن عهدة هذا التكليف؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 199


1- موسوعة الفقيه الشيرازي من المجلد 9 الصفحة 338 إلى المجلد 10 الصفحة 80.

--------------------------------------

القول الثاني: جريان البراءة مطلقاً، اختاره الشيخ الأعظم(1)؛ وذلك لأن الذمة لم تشتغل إلاّ بالفرد المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، ولا يتنجز التكليف في غير صورة العلم - التفصيلي أو الإجمالي - وتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الأفراد المشكوكة.

القول الثالث: التفصيل، واختاره المصنف؛ لأن الصور ثلاث:

1- إذا كان التكليف متعلقاً بالطبيعة الصرفة، ولم يكن مسبوقاً بالترك؛ وذلك إذا لم يكن النهي انحلالياً، بل كان فيه إطاعة واحدة ومعصية واحدة. مثل: الصوم، حيث إن النهي عن المفطرات يراد منه ترك طبيعتها، بحيث لو أكل مرّة واحدة بطل صومه.

وفي هذه الصورة يلزم ترك الأفراد المشتبهة، كالتزريق بالإبر المقوية حين الفجر؛ وذلك لأن الذمة اشتغلت بالتكليف - وهو الصوم - ولا يعلم الخروج عن عهدة هذا التكليف إلاّ بترك كل الأفراد المشتبهة، وقاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) بيان عقلي، فتكون واردة على أصالة البراءة.

2- إذا كان التكليف متعلقاً بالطبيعة الصرفة، وكان مسبوقاً بالترك، كالتزريق بالإبر المقوية ظهراً، حيث إن الصائم قبل الظهر كان تاركاً لكل المفطرات، وبعد التزريق يشك في ارتكابه للمفطر، فيستصحب ترك المفطرات.

وفي هذه الصورة لا يجب ترك الفرد المشتبه ببركة الاستصحاب.

3- إذا كان النهي انحلالياً، بأن تعلق بالطبيعة ولكن باعتبار أفرادها، كالنهي عن الصيد في الحرم، فإن النهي ينحل بعدد أفراد الصيد، وتتعدد الإطاعة والمعصية بترك كل صيد أو بفعله، فتجري البراءة في الأفراد المشكوكة.

ص: 200


1- فرائد الأصول 2: 119.

إنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان[1] بمعنى طلب تركه في زمان[2] أو مكان[3]، بحيث[4] لو وجد في ذاك الزمان أو المكان - ولو دفعة - لما امتثل أصلاً، كان[5] اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل[6]، فلا يجوز[7] الإتيان بشيء يشك معه في تركه، إلاّ[8] إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به.

--------------------------------------

[1] الصورة الأولى في تفصيل المصنف.

[2] كترك مفطرات الصوم في النهار.

[3] لم أجد له مثالاً في الشرع؛ لأن كل الأمثلة إما ترجع إلى الزمان، وإما النهي فيها انحلالي، كالنهي عن قلع شجر الحرم.

ومثّلوا له: بما لو نهوا عن الإجهار بالصوت قرب العدو لئلا يشعر بهم، فإن النهي تعلق بالطبيعة الصرفة، حيث إن الإجهار ولو لمرّة واحدة - في ذلك المكان - يوجب معرفة العدو بهم.

[4] هذا القيد لبيان معنى تعلق النهي بالطبيعة الصِرفة، «ولو دفعة» أي: مرة واحدة، «لما امتثل» جزاء «لو وجد...».

[5] جزاء قوله: (إذا كان بمعنى...)، واللزوم بحسب قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية)، «تركه» ترك الشيء المنهي عنه.

[6] لأن الإحزار كما يكون وجدانياً بالعلم كذلك يكون تعبدياً بالأصل.

[7] أي: لا تجري أصالة البراءة، وإنّما يجري الاشتغال، ومقتضاه عدم جواز الارتكاب، «بشيء» كالتزريق بالإبرة المقوية حين الفجر، «معه» أي: مع الإتيان بذلك الشيء، «في تركه» أي: ترك الشيء المنهي عنه.

[8] هذه الصورة الثانية في تفصيل المصنف، «كان» الشيء المنهي عنه - كالمفطرات - «مسبوقاً به» أي: بالترك كما لو أراد التزريق بالإبرة المقوية ظهراً، فإنه قبل الظهر كان تاركاً للمفطرات، فيستصحب الترك بعد التزريق، «مع الإتيان به» بالفرد المشكوك.

ص: 201

نعم[1]، لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة[2] لما وجب إلاّ ترك ما علم أنه فرد، وحيث[3] لم يعلم تعلق النهي إلاّ بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكّمة.

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب[4] لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة في ما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان الشيء مسبوقاً بالترك، وإلاّ[5] لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً[6].

فكما[7] يجب في ما علم وجوب شيء إحراز[8] إتيانه إطاعة لأمره، فكذلك يجب

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة في تفصيل المصنف، «لو كان» النهي عن الشيء.

[2] بأن كان النهي انحلالياً، له إطاعات ومعاصٍ بعدد الأفراد.

[3] أي: لا علم لنا بتكليف في الأفراد المشكوكة، وحيث إن الشك في أصل التكليف فأصالة البراءة جارية.

[4] ردّ للقول الأول بلزوم الاحتياط مطلقاً.

[5] أي: إن لم يكن النهي انحلالياً، أو لم يكن مسبوقاً بالترك؛ وذلك في ما لو كان النهي متعلقاً بالطبيعة الصرفة من غير ترك سابق، «عنها» عن الأفراد المشكوكة.

[6] أي: قاعدة (الاشتغال اليقيني... الخ).

[7] الغرض هو بيان أن قاعدة (الاشتغال اليقيني...) كما تجري في الإيجاب كذلك تجري في التحريم بلا فرق؛ لأن الملاك هو اشتغال الذمة بتكليف قطعاً، فلابد من القطع بالخروج عن عهدة هذا التكليف، وهذا الملاك يجري في الوجوب والحرمة بلا فرق.

[8] «إحراز» فاعل (يجب)، «إتيانه» إتيان ذلك الشيء، «إطاعة» تعليل لوجوب الإحراز، وهو معنى قاعدة الاشتغال اليقيني... الخ.

ص: 202

في ما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه؛ غاية الأمر[1] كما يحرز وجود الواجب بالأصل كذلك يحرز ترك الحرام به.

والفرد[2] المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه[3]، إلاّ[4] أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز[5] إلاّ بترك المشتبه أيضاً، فتفطن.

الرابع[6]:

--------------------------------------

[1] أي: لا فرق في الإحراز بين كونه بالعلم الوجداني، وبين كونه بالعلم التعبدي - كالأصل - والغرض هو بيان علة عدم لزوم الاحتياط في الصورة الثانية، حيث إن الاستصحاب كان محرزاً تعبدياً.

[2] هذا ردّ للقول الثاني - الذي اختاره الشيخ الأعظم - من جريان البراءة مطلقاً.

وحاصل كلام المصنف: إن قاعدة (الاشتغال اليقيني... الخ) هي بيان عقلي، فتكون واردة على قاعدة البراءة - أي: رافعة لموضوع أصالة البراءة - .

[3] لأن أدلة البراءة كما تشمل الشبهات الحكمية كذلك تشمل الشبهات الموضوعية.

[4] أي: لكن إذا كان هناك بيان فلا تجري أصالة البراءة، وفي ما نحن فيه يوجد بيان - في ما لو كان النهي عن الطبيعة الصِرفة، ولم يكن مسبوقاً بالترك - وقوله: «وجوب» خبر «أن قضية...»، «التحرز عنه» عن الفرد المشكوك.

[5] أي: لا يكاد يحرز الترك اللازم، «أيضاً» كترك ما علم فرديته.

التنبيه الرابع حسن الاحتياط إلاّ في صورة اختلال النظام

[6] يبحث في هذا التنبيه عدة أمور:

الأول: حسن الاحتياط مطلقاً، سواء قامت حجة على خلافه أم لم تقم، وسواء في الشبهة الحكمية أم الموضوعية، سواء في الأمور المهمة أم غيرها، وسواء

ص: 203

إنه قد عرفت[1] حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً[2]. ولا يخفى أنه مطلقاً كذلك[3] حتى[4] في ما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة[5]، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فرداً للواجب أو الحرام[6]،

--------------------------------------

كان الاحتمال قوياً أم ضعيفاً.

الثاني: لا حسن في الاحتياط إذا استلزم الإخلال بالنظام؛ لكون الإخلال مانعاً عن حسنه، حتى مع وجود المقتضي للحسن - وهو إدراك الواقع - .

الثالث: إنه لو اختل النظام مع الاحتياط التام فإن الراجح هو التبعيض، بأن يحتاط في الأمور المهمة دون غيرها، أو يحتاط في صورة قوة الاحتمال دون ضعفه؛ وذلك لأن بعض الواقع أهم من غيره، فإدراكه أرجح - عقلاً - .

[1] في التنبيه الثاني.

[2] أما عقلاً فلأجل إدراك الواقع، وهو راجح عقلاً، وأما نقلاً فلأمثال قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فاحتط لدينك بما شئت)(1).

[3] «أنه» الاحتياط، «مطلقاً» في كل الصور التي سيشير إليها المصنف، «كذلك» حسن.

[4] أي: حتى مع وجود دليل شرعي في الأحكام أو في الموضوعات، مثال الشبهة الحكمية: لو قام خبر على استحباب شيء دون وجوبه - مع احتمال الوجوب لاحتمال خطأ الراوي مثلاً - فيأتي بالشيء احتياطاً.

ومثال الشبهة الموضوعية: لو كان هناك قصاب غير متورّع، فإن سوق المسلمين أمارة على حلية لحومه، لكن يحسن الاحتياط بعدم أكل اللحم الذي يبيعه.

[5] أي: أو عدم الحرمة، وهذا في الشبهة الحكمية.

[6] هذا في الشبهة الموضوعية.

ص: 204


1- وسائل الشيعة 27: 167.

ما لم يخل بالنظام فعلاً[1]، فالاحتياط قبل ذلك[2] مطلقاً يقع حسناً، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج[3] أو غيرها، وكان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً[4]، كانت الحجة على خلافه[5] أو لا. كما أن الاحتياط الموجب لذلك[6] لا يكون حسناً كذلك وإن كان الراجح[7] لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً[8]،

--------------------------------------

[1] هذا الأمر الثاني المبحوث فيه في هذا التنبيه، «فعلاً» أي: في الحال الحاضر، فلو كان استمراره على الاحتياط موجباً للإخلال فإن الشروع في الاحتياط حسن، ولكن عليه أن يتوقف عنه حينما يصل إلى قرب الإخلال.

[2] قبل الإخلال، «مطلقاً» مختلف الصور التي سيشير إليها المصنف.

[3] ذكرهما من باب المثال لا الحصر، فإن حقوق الناس من الأمور المهمة أيضاً، «غيرها» أي: غير المهمة، والمراد أنها لا تبلغ بتلك الأهمية، وإلاّ فإن جميع متعلقات الأحكام الإلزامية مهمة.

[4] كالظن والشك والوهم.

[5] أي: خلاف الاحتياط، والمراد بالحجة الدليل الشرعي الظني؛ لأنه مع القطع لا يتصور الاحتياط؛ إذ الاحتياط إنّما هو لأجل إدراك الواقع، ومع القطع لا احتمال بالخلاف لكي يحتاط لإدراكه.

[6] «لذلك» الإخلال، «كذلك» أي: مطلقاً؛ لأن الإخلال مانع عن حسن الاحتياط.

[7] هذا هو الأمر الثالث في هذا التنبيه. والرجحان لأجل أن إدراك الواقع في الأمور المهمة أفضل من إدراكه في الأمور غير المهمة، وكذلك ترجيح الظن على الوهم، حيث إن الظن أقرب إلى الواقع، «إلى ذلك» إلى استلزام الاحتياط المطلق اختلال النظام.

[8] النصب للتمييز، «احتمالاً» أي: الترجيح من جهة الاحتمال بأن يكون ظناً

ص: 205

فافهم[1].

فصل: إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلاً بعد نهوضها عليه إجمالاً[2]، ففيه وجوه[3]:

--------------------------------------

فيرجحه على الوهم، أو «محتملاً» أي: الترجيح من جهة المورد وهو الأمر المهم على غيره.

[1] لعله إشارة إلى أنه لا يحسن الاحتياط مع الوسوسة أيضاً، وكذا مع العسر والحرج. أو هو إشارة إلى أنه مع قيام الحجة لا حسن للاحتياط، أو لغير ذلك.

فصل في التخيير

اشارة

لا يخفى أن الشيخ الأعظم(1)

عقد أربع مسائل للتخيير: للشبهة الموضوعية، وللشبهة الحكمية من جهة فقدان النص أو تعارض النصين أو إجمال النص.

ولما لم يكن فرق عملي في هذا التقسيم جمعها المصنف في مسألة واحدة.

[2] «نهوضها» الحجة، «عليه» على الحكم، وأمثلته:

1- فقدان النص: كما لو اختلفت الأمة على قولين، مع اتفاقها على نفي القول الثالث، وهذا هو الإجماع المركب.

2- وإجمال النص: كما لو دارت صيغة الأمر بين الوجوب وبين التهديد.

3- وللشبهة الموضوعية: كما لو وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفساق، واشتبه الأمر في زيد هل هو عادل أم فاسق؟

[3] ذكر المصنف خمسة أقوال:

الأول: جريان البراءة - عقلاً ونقلاً - عن الوجوب وعن الحرمة.

الثاني: وجوب الأخذ بالحرمة تعييناً؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

ص: 206


1- فرائد الأصول 2: 119.

الحكم بالبراءة[1] عقلاً ونقلاً، لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به[2]؛ ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً[3] أو تخييراً؛ والتخيير بين الترك والفعل عقلاً مع التوقف[4] عن الحكم به رأساً، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعاً.

أوجهها الأخير[5]،

--------------------------------------

الثالث: وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً بين الحرمة والوجوب.

الرابع: لأن المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك، فيحكم العقل بأنه مخير بينهما - لعدم تمكنه من الجمع بين الفعل والترك، أو عدم ارتكابهما - ولكن حيث لا حجة شرعية يجب التوقف وعدم نسبة شيء إلى الشارع - وهذا هو مختار الشيخ الأعظم - .

الخامس: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، مع الحكم بالإباحة شرعاً - وهو مختار المصنف - .

[1] هذا القول الأول، «لعموم النقل» دليل البراءة الشرعية، «حكم العقل» دليل البراءة العقلية.

[2] أي: للجهل بخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة، فيكون مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

[3] «تعييناً» هذا القول الثاني، والتعيين في جانب الحرمة، «أو تخييراً» هذا القول الثالث.

[4] هذا القول الرابع، «التوقف» أي: عدم نسبة شيء إلى الشارع، «به» أي: على ذلك الشيء، «أو مع الحكم» هذا القول الخامس.

[5] مختار المصنف مركب من ثلاثة أمور:

الأول: التخيير العقلي، لاضطراره إلى الفعل أو الترك - لعدم التمكن من الجمع بينهما أو الإعراض عنهما - ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

ص: 207

لعدم[1] الترجيح بين الفعل والترك، وشمول[2] مثل «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»(1)

له، ولا مانع[3] عنه عقلاً ولا نقلاً.

وقد عرفت[4]

--------------------------------------

الثاني: البراءة الشرعية، لشمول أدلة البراءة لهذا المورد، فإن مثل قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه» عام، وما نحن فيه - من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم - لا يُعرف الحرام بعينه.

الثالث: عدم جريان البراءة العقلية، كما سيأتي في قوله: (ولا مجال هاهنا لقاعدة... الخ).

[1] دليل التخيير العقلي - وهو الأمر الأول - .

[2] دليل البراءة الشرعية - وهو الأمر الثاني - ، «له» لهذا المورد وهو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[3] أي: المقتضي - وهو عموم الدليل - موجود، والمانع مفقود؛ لأن المانع إما عقلي أو شرعي.

أما العقلي: فقد عرفت حكم العقل بالتخيير، ولا منافاة بين الحكم الظاهري وهو الإباحة، وبين الحكم الواقعي وهو إما الوجوب وإما الحرمة، لما عرفت من التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

ولا بأس بالقطع بتخالف الحكم الظاهري والواقعي؛ إذ لو كان تخالفهما محالاً لكان الحكم الظاهري بالطهارة مع احتمال النجاسة الواقعية محالاً أيضاً؛ لاستحالة احتمال المحال كاستحالة القطع به - كما مرّ سابقاً - .

وأما المانع الشرعي: فهو المخالفة الالتزامية، وقد مرّ أن مختار المصنف عدم الإشكال فيها، كما لا تجري أدلة الاحتياط هنا؛ لعدم إمكانه.

[4] بيان لعدم وجود المانع الشرعي؛ لأن المانع هو المخالفة الالتزامية:

ص: 208


1- الكافي 5: 313، مع اختلاف يسير.

أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً، ولو وجب[1] لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً.

والالتزام[2] التفصيلي بأحدهما[3] لو لم يكن تشريعاً محرماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً.

وقياسه[4] بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب

--------------------------------------

أولاً: لعدم الإشكال فيها.

وثانياً: إمكانها إجمالاً، بأن يحكم بالإباحة الشرعية مع التزامه قلباً بما هو حكم الله الواقعي، نظير من يجري أصالة الطهارة في المشتبه مع التزامه قلباً بحكم الله الواقعي فيه.

[1] «وجب» الالتزام، «معه» مع الحكم بالإباحة.

[2] إشكال على القول الثاني والثالث، وحاصله: ورود إشكالين على تعيين الحرمة، أو التخيير بينها وبين الوجوب مما يستلزم اختيار المكلف أحدهما بعينه:

1- إنه تشريع محرّم.

2- لو فرض أنه ليس بتشريع فلا دليل على أحد القولين، وأدلّتهم محل إشكال.

[3] أما على القول الثاني فالالتزام التفصيلي بالحرمة.

وأما على القول الثالث - وهو التخيير - فإن المكلف سيختار أحدهما معيناً ويلتزم به، فصار التزاماً تفصيلياً.

رد دليل القول الثالث

[4] أي: قياس دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وهذا دليل للتخيير، وهو استفادة تنقيح المناط من الأدلة الواردة في الخبرين المتعارضين - ومنها ما لو تعارض خبر دال على الوجوب مع خبر دال على الحرمة - حيث دلت على التخيير، إما بعد فقد المرجحات كما ذهب إليه الشيخ الأعظم، وإما التخيير رأساً مع حمل تلك

ص: 209

باطل[1]،

--------------------------------------

المرجحات على الاستحباب كما ذهب إليه المصنف.

[1] والإشكال على هذا الدليل هو: أن المناط في الخبرين المتعارضين أحد أمور ثلاثة:

الأول: وجود المصلحة في كلا الخبرين - بناءً على السببيّة - فإن الخبر يوجب مصلحة في متعلقه أو في سلوكه، والتخيير هنا على طبق القاعدة لتزاحم الخبرين.

وهذا المناط غير موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، حيث إن المصلحة في أحدهما فقط دون الآخر، ولا يوجد شيء يوجب مصلحة سلوكية أو مصلحة في المتعلق، مضافاً إلى بطلان السببية من أصلها؛ لأنها تستلزم التصويب في إيجاد المصلحة في الواقع، وعدم الدليل على المصلحة السلوكية، بل الدليل على الطريقية.

الثاني: وجود ملاك الحجية في كلا الخبرين - بناءً على الطريقية - فإن تعارض الخبرين إنّما يكون إذا كان كلاهما واجداً لشرائط الحجيّة، وهنا وإن كانت القاعدة هي التساقط - لتعارض الخبرين - لكن لا بأس بحكم الشارع بالتخيير بسبب وجود ملاك الحجية في كليهما. وهذا المناط لا يوجد في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أيضاً.

الثالث: أن يكون مناط التخيير في الخبرين المتعارضين هو احتمال مطابقة كل واحد منهما للواقع.

وهذا المناط موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، لكن الإشكال في المبنى، أي: لا يعلم أن المناط هو مجرد احتمال مطابقة الواقع، ومع عدم العلم بالمناط لا يجوز إجراء حكم الخبرين المتعارضين في غيرهما؛ لأنه من القياس الممنوع.

فإن التخيير[1] بينهما على تقدير كون الأخبار حجةً من باب السببية يكون على القاعدة[2] ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى تقدير[3] أنها من باب الطريقية[4]؛ فإنه وإن كان على خلاف القاعدة[5]، إلاّ أن أحدهما تعييناً أو تخييراً[6] - حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقية[7] من احتمال الإصابة[8] مع

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ص: 210

----------------------------------------------------

[1] هذا هو المناط الأول، «بينهما» بين الخبرين.

[2] لأن السببية بمعنى أن الخبر يكون سبباً لإيجاد مصلحة في متعلقه أو في سلوكه، ومع وجود المصلحة في كلا الخبرين - مع عدم إمكان الجمع بينهما - يكون المورد من باب التزاحم، والقاعدة هي التخيير، كمن لا يتمكن من إنقاذ غريقين مع وجود المصلحة في إنقاذهما، فإنه يتخيّر؛ لتزاحم المصلحتين، «ومن جهة...» عطف تفسيري لبيان القاعدة.

[3] هذا هو المناط الثاني، «أنها» أن الحجيّة.

[4] أي: الخبر طريق إلى الواقع، ولا مصلحة فيه إلاّ مصلحة الواقع فقط، «فإنه» فإن التخيير.

[5] لأن المورد هو مورد التعارض، حيث لا توجد إلاّ مصلحة واحدة - هي مصلحة الواقع - مع عدم علمنا بأن تلك المصلحة في أي منهما.

[6] «تعييناً»: بناءً على لزوم الأخذ بالمرجحات، فلو وجدت تلك المرجحات في أحد الخبرين وجب العمل به دون الآخر.

«تخييراً»: مع عدم وجود المرجح، أو بناءً على عدم لزوم الأخذ بالمرجحات، وجواز الأخذ بأي منهما رأساً.

[7] وهو شرائط حجية الخبر.

[8] لأنه مع القطع بالإصابة يجب الأخذ به دون غيره؛ إذ لا تعارض، ومع القطع بالخطأ لا يجوز الأخذ به حتماً، فالطريق الظني إنّما يكون مجعولاً إذا احتمل إصابته، وهذا الاحتمال موجود في كلا الخبرين، مع وجدانهما لسائر شرائط الحجية.

ص: 211

اجتماع سائر الشرائط - جعل[1] حجةً في هذه الصورة بأدلة الترجيح[2] تعييناً[3] أو التخيير تخييراً[4]؛ وأين ذلك[5] مما إذا لم يكن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً[6]، وهو حاصل، والأخذ[7] بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.

--------------------------------------

[1] «جعل» - بالمجهول - خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن أحدهما... الخ) ونائب الفاعل هو الضمير العائد ل- (أحدهما).

[2] أي: الأدلة الشرعية، والمقصود أن حكم الشارع بعدم التساقط - وإن كان خلافاً للقاعدة - لكنه لا مانع منه؛ وذلك لوجود ملاك الحجية في كلا الخبرين.

[3] «تعييناً» بناءً على لزوم الأخذ بالمرجحات كالأوثقية والأعدلية... الخ، و«تعييناً» متعلق ب- (جُعل) أي: جعل تعييناً.

[4] أي: جُعل الحجة أحدهما تخييراً؛ وذلك بأدلة التخيير.

[5] «ذلك» هذا المناط، أي: لا يوجد هذا المناط في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] أي: الالتزام بالواقع إجمالاً حاصل، و«هو» الأخذ - بمعنى الالتزام - وذلك لأنه في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة لا يوجد ملاك الحجية في كليهما، بل علمنا إجمالاً بوجود الواقع في أحدهما؛ وحينئذٍ الموافقة الالتزامية الإجمالية حاصلة، والموافقة العملية القطعية غير ممكنة، والموافقة الاحتمالية حاصلة على كل حال.

[7] أي: العمل بأحدهما تعييناً أو تخييراً قد لا يكون أخذاً بالواقع لاحتمال الخطأ.

والحاصل: إن الخبرين طريقان واجدان لملاك الحجيّة، لكن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ليسا طريقين إلى الواقع، وليس فيهما ملاك الحجية، فالقياس باطل.

ص: 212

نعم[1]، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما[2] احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما[3] الترديد بينهما، لكان القياس في محله[4]، لدلالة الدليل على التخيير بينهما[5] على التخيير هاهنا، فتأمل[6] جيداً.

ولا مجال[7] هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه[8] هاهنا، وإنما يكون عدم تنجز التكليف[9]

--------------------------------------

[1] هذا هو المناط الثالث.

[2] أي: اشتمالهما على احتمال الوجوب والحرمة، فهذا لو كان مناطاً للتخيير، فإن هذا المناط موجود في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[3] بسبب التعارض، «إحداثهما» الخبرين، «بينهما» بين الوجوب والحرمة.

[4] لوحدة المناط، والمراد القياس المنطقي، لا القياس باصطلاح الروايات، فإنه التمثيل من غير علم بالملاك.

[5] «بينهما» بين الخبرين، «هاهنا» في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] إشارة إلى عدم صحة هذا المناط، فإن المناط ليس هو الاحتمال؛ ولذا لو احتمل الكراهة مثلاً - في مورد الخبرين المتعارضين بين الوجوب والحرمة - فإنه لا يجوز له ترك الخبرين كلاهما والذهاب إلى الكراهة.

[7] هذا الشق الثالث من مختار المصنف، وهو عدم جريان البراءة العقلية - والتي مستندها قبح العقاب بلا بيان - وحاصله: إن البيان يشمل البيان الإجمالي؛ ولذا يجب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي، وهنا - في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم - عدم وجوب الاحتياط ليس لأجل عدم البيان، بل بسبب عدم تمكن المكلف من الاحتياط.

[8] أي: لا قصور في البيان؛ لأن البيان الإجمالي بيان عقلاً، «هاهنا» في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

[9] أي: عدم وجوب الاحتياط لإحراز الواقع وإبراء الذمة.

ص: 213

لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها[1]، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة[2]، كما لا يخفى.

ثم إن مورد[3]

--------------------------------------

[1] أي: كعدم التمكن من المخالفة القطعيّة.

[2] فقد يتنجز التكليف لأجل تحصيل الموافقة الاحتمالية - بعد عدم التمكن من الموافقة القطعية - كما لو اشتبهت القبلة في ضيق الوقت، فإنه تجب الصلاة إلى إحدى الجهات تحصيلاً للموافقة الاحتمالية.

وفي ما نحن فيه لا معنى للتنجز لأجل الموافقة الاحتمالية؛ لأنها حاصلة قهراً، حيث إن الإنسان إما تارك وإما فاعل، فلا يعقل البعث عليهما تخييراً.

فتحصل: أن البيان موجود، ولكن لا يتمكن المكلف لا من المخالفة القطعية ولا من الموافقة القطعية، كما أن الموافقة الاحتمالية حاصلة.

عموم البحث للتعبديات والتوصليات

[3] حاصله: إن مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة كما تجري في التوصليات كذلك تجري في التعبديات، والصور متعددة:

1- كون الفعل والترك توصليين، فلا إشكال في التخيير العقلي وجريان البراءة.

2- كونهما تعبديين - بأن يكون الفعل بحاجة إلى قصد القربة، وكذا الترك - فهنا يكون المكلف مخيراً بين الفعل والترك عقلاً، ولكن لا تجري الإباحة شرعاً؛ لأنها تستلزم المخالفة القطعية - لخروج هذا الفرض عن الدوران بين النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما - وذلك لتصور الفعل بقصد القربة، وكذا الترك بقصدها، ولتصور الفعل لا بقصد القربة، وكذا الترك لا بقصدها.

3- كون أحدهما المعين تعبدياً، كما لو دار الأمر بين صلاة واجبة أو محرمّة - لكونها بدعة مثلاً - فالفعل معيناً بحاجة إلى قصد القربة، أما الترك فلا يحتاج إليها.

ص: 214

هذه الوجوه[1] وإن كان ما إذا لم يكن[2] واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبدياً، إذ لو كانا تعبديين[3] أو كان أحدهما المعين كذلك[4] لم يكن إشكال في عدم

--------------------------------------

وهنا أيضاً يجري التخيير عقلاً، ولا تجري البراءة الشرعية؛ وذلك لإمكان المخالفة القطعية، كأن يأتي بالصلاة لا بقصد القربة - في الفرض - فإنه خالف الوجوب المحتمل - لعدم إتيان العمل صحيحاً وبقصد القربة - كما خالف التحريم المحتمل؛ لأنه أتى بصورة الصلاة ولم يتركها.

4- كون أحدهما غير المعين تعبدياً، وهنا لا تمكن الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية؛ لأنه لو فعل مع قصد القربة فلعله هو الواجب، ولو ترك مع قصدها فلعل الترك هو اللازم، فتأمل، وهنا يجري التخيير وتجري البراءة الشرعية.

والحاصل: في كل هذه الصور يجري التخيير العقلي - الذي انعقد لأجله هذا الفصل - نعم، لا تجري البراءة الشرعية في الصورة الثانية والثالثة، لكن عدم جريانها لا يكون سبباً لخروج الصورتين عن البحث؛ وذلك لجريان التخيير - الذي هو المهم في هذا الفصل - مضافاً إلى أن عدم جريان بعض الأقوال لا يكون سبباً لإخراج الصورتين عن محل البحث؛ وذلك لكفاية صحة الجريان على بعض الأقوال.

فلا وجه لما ذهب إليه الشيخ الأعظم من خروج الصورتين عن البحث وتخصيص البحث بالتوصليات.

[1] أي: الأقوال الخمسة.

[2] وهذا يشمل الصورتين الثانية والثالثة؛ لأنه في الثانية كلاهما معين، وفي الثالثة أحدهما معين.

[3] وهي الصورة الثانية، وهذا مجرد فرض؛ لعدم وجود حرمة تعبدية أصلاً.

[4] أي: تعبدياً، كما لو دار الأمر بين وجوب صلاة أو حرمتها.

ص: 215

جواز طرحهما[1] والرجوع إلى الإباحة، لأنها[2] مخالفة عملية قطعية - على ما أفاد شيخنا الأستاذ(1)،

إلاّ أن الحكم[3] أيضاً فيهما إذا كانا كذلك[4] هو التخيير عقلاً بين إتيانه[5] على وجه قربي - بأن يؤتى[6] به بداعي احتمال طلبه - وتركه كذلك[7]، لعدم الترجيح[8]،

--------------------------------------

[1] لاستلزامه للمخالفة القطعية، لما ذكرنا من خروج الصورتين عن النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما.

[2] أي: الإباحة - وهي البراءة الشرعية - لأنه لا معنى لقصد القربة مع كون الفعل مباحاً؛ إذ إنها قصد الأمر، ولا أمر مع الإباحة.

[3] أي: عدم جريان الإباحة لا ينافي كون الصورتين - الثانية والثالثة - داخلة في عنوان البحث؛ وذلك لجريان التخيير العقلي في الصورتين أيضاً.

[4] «فيهما» في الوجوب والحرمة، «كذلك» أي: تعبديين أو أحدهما المعين تعبدي.

[5] هذا التخيير في صورة كون الفعل والترك تعبديين، ولم يذكر المصنف صورة كون أحدهما المعين تعبدياً، ففي هذه الصورة أيضاً يتخير بين الفعل بقصد القربة أو الترك بلا قصدها - كما في المثال الذي ذكرناه - .

[6] بيان كيفية قصد القربة مع عدم علمه بكون الفعل مأموراً به، فإنه يكفي في قصد القربة احتمال الأمر والإتيان بالفعل برجائه كما مرّ.

[7] أي: تركه على وجه قربي، بأن يترك بداعي احتمال نهيه العبادي - لو فرض تحققه - .

[8] دليل التخيير، أي: لا دليل يرجح الفعل على الترك، والأدلة التي ساقوها لترجيح الترك - كقولهم: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة - محل إشكال.

ص: 216


1- فرائد الأصول 2: 179.

وقبحه[1] بلا مرجح.

فانقدح[2] أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين[3] بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام[4]، وإن اختص بعض الوجوه بهما[5]، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك[6]

--------------------------------------

[1] أي: قبح الترجيح بلا مرجح، أما الترجح بلا مرجح فهو محال؛ لاستلزامه المعلول من غير علة.

[2] شروع في الإشكال على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

[3] «المورد» أي: هذا الفصل وهو الباحث عن التخيير، «بالتوصليين» أي: بالصورة الأولى حيث كان الفعل توصلياً والترك توصلياً أيضاً.

[4] «المقام» هو (فصل التخيير)، و«المهم» هو جريان التخيير العقلي في كل الصور الأربع.

[5] أي: بعض الأقوال - كالقول الأول والخامس - «بهما» بالتوصليين، والحاصل: إن هذا الفصل انعقد لأجل بحث التخيير، وهو يجري بناءً على بعض الأقوال، وهذا يكفي في دخول كل الصور في البحث.

[6] أي: إن التخيير العقلي هو في فرض تساوي الوجوب والحرمة، بأن لا يكون أحدهما راجحاً على الآخر.

أما لو كان أحدهما محتمل الرجحان فإن العقل يستقل بلزوم الأخذ به، كما لو تردد غريق بين قائد الجيش الواجب إنقاذه، وبين أحد جنود العدو الحرام إنقاذه، فإن العقل يستقل بلزوم إنقاذ هذا الغريق - أي: لزوم اختيار ما يحتمل الأهمية - .

وكما لو تردد الدم بين الحيض والاستحاضة فتحرم الصلاة على الحيض، وتجب على الاستحاضة، وحيث إن ملاك وجوب الصلاة لغير الحائض هو وجوبه الذاتي، وملاك حرمته على الحائض لأجل التشريع، فيكون ملاك الوجوب أقوى فيجب الأخذ به، فتأمل.

ص: 217

أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو في ما لا يحتمل الترجيح[1] في أحدهما على التعيين. ومع احتماله[2] لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال[3] في دوران الأمر بين التخيير والتعيين[4] في غير المقام[5]. ولكن الترجيح[6] إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما[7] وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز[8]

--------------------------------------

[1] الترجيح لأجل قوة الملاك، مما يوجب شدة الطلب - كما سيأتي - .

[2] احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن، «استقلاله» العقل، «بتعيينه» أي: لزوم الأخذ به.

[3] هذا لمجرد التنظير والتشبيه، وإلاّ فبين المسألتين فرق واضح؛ إذ هنا أحدهما المعين يحتمل التكليف فيه مع احتمال أهميته، وهناك أحدهما المعين مقطوع التكليف فيه والآخر محتمل التكليف. وكأنّ نظر المصنف إلى استقلال العقل في الموردين، فكما يستقل بلزوم اختيار المعيّن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، كذلك يستقل بلزوم اختيار محتمل الأهميّة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم.

[4] كما لو دار الأمر بين تقليد الأعلم وتقليد غير الأعلم، فإن تقليد الأعلم على كل حال مبرئ للذمة - سواء انحصر التقليد فيه أم قلنا بالتخيير بينه وبين غيره - أما غير الأعلم فلا يجزي تقليده لو كان الشرط تقليد الأعلم، ويجزي لو لم يكن تقليد الأعلم شرطاً.

[5] «المقام» هنا هو: في دوران الحكم بين الوجوب والحرمة، وفي غير هذا المقام دوران الأمر بانحصار التكليف بفرد معين، أو تخير المكلف بين ذلك الفرد وبين غيره.

[6] بعد أن فرغ المصنف من الكبرى - وهي لزوم ترجيح محتمل الأهمية - يبدأ في الصغرى، وهي: بيان مصداق محتمل الأهمية.

[7] لقوة ملاكه، «زيادته» أي: زيادة طلب أحدهما.

[8] فإن المرجحات صنفان: صنف لا يجب الترجيح به في صورة العلم به، فلا

ص: 218

الإخلال بها[1] في صورة المزاحمة[2]، ووجب الترجيح بها. وكذا[3] وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

ولا وجه[4]

--------------------------------------

يكون مرجحاً في صورة احتماله. وصنف آخر يجب الترجيح به في صورة العلم به، فهذا يكون مرجحاً في صورة احتماله.

[1] أي: بشدة الطلب وزيادته، وكذا الضمير في (وجب الترجيح بها).

[2] أي: في صورة العلم بالترجيح مع مزاحمته للآخر، ففي المثال السابق لو غرق اثنان أحدهما قائد الجيش والآخر جندي عادي، فحيث لا يمكن إنقاذهما فإنه يجب إنقاذ القائد لأقوائية ملاكه.

وكذا في ما نحن فيه لو غرق شخص واحد ودار أمره بين قائد الجيش الواجب الإنقاذ، وبين جندي من العدو المحرّم الإنقاذ، فلابد من الأخذ بالوجوب وإنقاذ هذا الغريق لاحتمال الأهمية.

[3] أي: كما يلزم الترجيح بذي المزية في صورة المزاحمة كذلك يجب الترجيح بذي المزية هنا، «صورة الدوران» أي: الدوران بين الوجوب والتحريم.

رد دليل القول الثاني

[4] استدل القائلون بتعيين الحرمة، بأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

وفيه: إن جلب المصلحة قد يكون أولى، كما لو دار الأمر بين المرور بالأرض المغصوبة وبين إنقاذ غريق، فإن مصلحة الإنقاذ أهم من مفسدة التصرف في الغصب.

فإذا لم تصح القاعدة في صورة العلم كذا لا تصح في صورة احتمال المصلحة والمفسدة - كما في ما نحن فيه - . والحاصل: إن الموارد تختلف فقد يكون جلب المصلحة أهم، وقد يكون دفع المفسدة أهم، ولا قاعدة عامة ليرجع إليها في صورة الشك.

ص: 219

لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً[1]، لأجل[2] أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رُبّ واجب يكون مقدماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتمالِهِ احتمالُهُ[3] في صورة الدوران بين مثليهما[4]؟! فافهم[5].

فصل: لو شك في المكلَّف به[6] مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم[7]

--------------------------------------

[1] أي: حتى في صورة عدم شدة طلب الترك.

[2] هذا دليل ترجيح الحرمة، كما أن قوله: «ضرورة...» هو ردّ هذا الدليل.

[3] أي: في صورة القطع قد لا يرجح الحرام على الواجب، فكيف في صورة الاحتمال؟ «يُقدّم» بالمجهول، «على احتماله» احتمال الوجوب، «احتماله» نائب فاعل (يقدم) أي: احتمال الحرمة.

[4] أي: بين مثل الواجب والحرام المتزاحمين، و«مثليهما» هما الواجب والحرام في مقام دوران الأمر بين المحذورين.

[5] لعله إشاره إلى أن القائل بأن (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة) يقول بها في صورة التساوي فقط، فلا وجه لنقض كلامه بما كانت المنفعة أهم.

فصل قاعدة الاشتغال

اشارة

[6] أي: متعلق التكليف، فعلم بتوجه التكليف إليه - بعثاً في الواجب، وزجراً في الحرام - ولكن شك في أن متعلق التكليف هذا المصداق أم ذاك.

[7] أي: لو كان التكليف إلزامياً، أما لو كان التكليف غير إلزامي - كالاستحباب والكراهة - فإنه لا يلزم الاحتياط؛ لعدم اشتغال الذمة، ولا فرق حين كون التكليف إلزامياً بين تعلقه بالفعل كصلاة الظهر أو الجمعة، أو بالترك كاجتناب هذا الإناء أو ذاك الإناء، أو تعلقه بفعل شيء وترك آخر، كما سيجيء مثاله، ففي كل هذه الصور الثلاث نعلم بالتكليف الإلزامي إيجاباً أو تحريماً.

ص: 220

فتارةً[1] لتردده بين المتباينين، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول[2]: في دوران الأمر بين المتباينين. لا يخفى: أن التكليف المعلوم بينهما

--------------------------------------

[1] العلم بالتكليف مع الشك في المكلف به على أقسام ثلاثة:

1- الدوران بين المتباينين، وهما ما كان التكليف متعلقاً بأحدهما دون الآخر.

2- الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي، وهما ما كان الأقل مكلَّفاً به قطعاً مع الشك في تعلقه بالأكثر، ولكن لو كان التكليف بالأكثر فلا يجزي الإتيان بالأقل.

وبعبارة أخرى: الأقل مكلَّف به إما لوحده وإما في ضمن الأكثر، كالصلاة مع الشك في كون القنوت جزءاً واجباً منها.

3- الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلالي، فنعلم بالأقل مع الشك في الأكثر، مع إجزاء الأقل بمقداره، حتى لو كان التكليف متعلقاً بالأكثر، كدوران الأمر بين أنه مديون بعشرة أم بعشرين، فلو أدى عشرة فقد فرغت ذمته عن العشرة - حتى وإن كان مديوناً بالأكثر - .

وهذا القسم الثالث يرجع إلى الشك في التكليف في الزائد، ومجراه البراءة، فيدخل في الفصل السابق؛ ولذا لم يذكره المصنف هنا؛ وذلك لانحلال التكليف إلى تكليف معلوم - وهو أداء العشرة - وإلى تكليف مجهول - وهو أداء الزائد - فتجري البراءة في الزائد.

المقام الأول

دوران الأمر بين المتباينين

اشارة

[2] يبحث المصنف في هذا المقام في خمس مسائل:

الأولى: إن التكليف المعلوم إذا كان فعلياً تنجز، وإن لم يكن فعلياً لا يتنجز.

الثانية: إنه لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في مسألة التنجز، وإن المعلوم إن كان فعلياً تنجز في كليهما، وإن لم يكن المعلوم فعلياً لا يتنجز في كليهما.

ص: 221

مطلقاً[1] - ولو كانا فعل أمر وترك آخر[2] - إن كان فعلياً من جميع الجهات[3] - بأن يكون[4] واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي[5] - مع ما هو عليه من الإجمال والتردد والاحتمال[6] -

--------------------------------------

الثالثة: لا فرق بين المحصورة وغيرها، بل الأمر يرتبط بفعلية المعلوم وعدمه.

الرابعة: هنالك تلازم بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، فإن كان التكليف فعلياً لزم كلاهما، وإلاّ لم يلزما.

الخامسة: لا فرق بين تدريجية الأطراف وعدم تدريجيتها، بل في صورة الفعلية يجب الاحتياط فيهما، وإلاّ فلا.

المسألة الأولى

[1] «بينهما» بين المتباينين، «مطلقاً» شرحه بقوله: «ولو كانا فعل... الخ» أي: سواء كانا فعلين، كالظهر والجمعة، أم تركين كما في الإناءين، أو أحدهما فعل والآخر ترك.

[2] مثاله: (واجدا المني في الثوب المشترك)، فيدور أمر كل واحد منهما بين وجوب الغسل عليه لو كان هو المجنب، وبين عدم جواز استئجار الآخر لكنس المسجد مثلاً: لو كان الآخر هو المجنب فلا يجوز له الجمع بين ترك الغسل واستئجار الآخر.

[3] بأن تحققت فيه كل شروط التكليف، كالشرائط العامة - مع البلوغ والعقل... الخ - والشرائط الخاصة بكل تكليف - كالاستطاعة في الحج مثلاً - .

[4] بيان للفعلي من جميع الجهات، و(البعث الفعلي) هو الإرادة من المولى في الواجبات، و(الزجر الفعلي) هو كراهة المولى في المحرّمات.

[5] أي: تكون إرادة وكراهة حتى في صورة تردد المعلوم بين طرفين أو أكثر.

[6] هذه الكلمات الثلاث مترادفة، أي: مع عدم العلم التفصيلي بالتكليف.

ص: 222

فلا محيص[1] عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته؛ وحينئذٍ[2] لا محالة يكون ما دل بعمومه[3] على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة[4] مما يعم أطراف العلم[5] مُخصَّصاً[6] عقلاً[7]، لأجل مناقضتها معه[8].

--------------------------------------

[1] جزاء قوله: (إن كان فعلياً...)، أي: لو كان التكليف المعلوم فعلياً - بأن أراده المولى أو كرهه - فلابد من تنجّز ذلك التكليف، وصحة العقوبة فرع التنجز، فلما تنجز على المكلف يحكم العقل بلزوم امتثاله، فلو خالف يرى العقل استحقاقه للعقوبة.

[2] أي: حين تنجز التكليف وصحة العقوبة فلا تجري أدلة البراءة؛ وذلك لتخصيصها، فإن هناك جهلاً تفصيلياً بمتعلق التكليف، فعموم أدلة البراءة تشمل هذه الصورة، ولكن لا محيص عن تخصيصها بالدليل العقلي الدال على أن التكليف منجّز ويصح العقوبة على مخالفته؛ لأن التكليف فعلي من كل الجهات.

[3] أي: أدلة البراءة الشرعية، وهي عامة لكل صور الشك والجهل - فتشمل بعمومها - أطراف العلم الإجمالي.

[4] كقوله: (رفع ما لا يعلمون)، وقوله: (وضع عن أمتي ما لا يعلمون)، وقوله: (الناس في سعة ما لم يعلموا)، وقوله: (كل شي مطلق حتى يرد فيه نهي)، فهذه الأدلة وأشباهها عامة، تشمل حتى أطراف العلم الإجمالي - حسب ما يراه المصنف - ولكنها تُخصَّص بالدليل العقلي.

[5] أي: العلم الإجمالي؛ وذلك لوجود الجهل والشك بالتفصيل.

[6] قوله: «مُخصَّصاً» خبر (يكون) في قوله: (يكون ما دَلّ...)، و«مُخصَّصاً» - مبني للمفعول - .

[7] لحكم العقل بالتنجز واستحقاق العقوبة، وهذا لا ينسجم مع البراءة.

[8] أي: مناقضة هذه الأدلة العامة، «معه» مع حكم العقل.

ص: 223

وإن لم يكن فعلياً كذلك[1] - ولو كان[2] بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته - لم يكن[3] هناك مانع عقلاً ولا شرعاً[4] عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف.

ومن هنا[5]

--------------------------------------

[1] أي: التكليف المعلوم بينهما إن لم يكن فعلياً من جميع الجهات.

[2] المقصود بيان أنه قد يكون العلم التفصيلي شرطاً للفعلية، وحينئذٍ لو علم بالتكليف إجمالاً لا يكون منجزاً عليه؛ لعدم تحقق شرط الفعلية - وهو العلم التفصيلي - أما لو علم تفصيلاً فيتنجز عليه؛ لتحقق شرط الفعلية، «ولو كان» الضمير عائد إلى التكليف.

[3] قوله: «لم يكن...» جزاء الشرط في قوله: (وإن لم يكن فعلياً... الخ).

[4] أما عدم المانع العقلي فلأن القبيح هو الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي، ومع عدم الفعلية فلا تكليف أصلاً.

وأما عدم المانع الشرعي فلأن المانع هو تناقض صدر الروايات وآخرها - كما سيأتي في باب الاستصحاب - ومع عدم الفعلية لا تناقض؛ وذلك لعدم وجود تكليف أصلاً، بل ينحصر الحكم في الترخيص.

المسألة الثانية

كان الكلام في المسألة الأولى: حول التكليف المعلوم، والبحث في هذه المسألة حول نفس العلم.

[5] «هنا» أي: من دوران التنجز وصحة العقوبة مدار الفعلية وعدمها يتضح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي من جهة التنجز، فالتكليف الفعلي منجز سواء كان العلم تفصيلياً أم إجمالياً، والتكليف غير الفعلي ليس بمنجز في التفصيلي وفي الإجمالي.

ص: 224

انقدح: أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، إلاّ أنه[1] لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعلياً من سائر الجهات لا محالة يصير فعلياً معه[2] من جميع الجهات، وله[3] مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعلياً معه، لإمكان[4] جعل الظاهري في أطرافه وإن كان فعلياً من غير هذه الجهة، فافهم[5].

ثم إن الظاهر[6] أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعلياً من جميع الجهات

--------------------------------------

[1] أي: يمكن للمولى جعل العلم التفصيلي شرطاً للفعلية، فحينئذٍ لو علم تفصيلاً تنجز عليه التكليف، ولا معنى لجعل حكم ظاهري يخالف ذلك التكليف المنجز، أما لو علم إجمالاً فإنه لم يتحقق شرط الفعلية - وهو العلم التفصيلي - فيجوز للمولى جعل حكم ظاهري، فهذا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، لكن ليس من جهة نفس العلم، بل من جهة المعلوم، حيث إنه مع التفصيلي فعلي، ومع الإجمالي غير فعلي.

[2] أي: مع العلم التفصيلي، «من جميع الجهات» فيتنجز وتصح العقوبة على مخالفته.

[3] أي: وللحكم الظاهري، «لا يصير» التكليف، «معه» مع العلم الإجمالي.

[4] أي: يمكن جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي - كجواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة مثلاً - ، «غير هذه الجهة» أي: غير جهة العلم، أي: يستجمع سائر الشروط من البلوغ والعقل... الخ، لكن لما كان من الشروط - حسب الفرض -

هو العلم التفصيلي، وحيث لم يتحقق هذا الشرط لم يكن التكليف فعلياً.

[5] لعله إشارة إلى أنه لا طريق إلى معرفة الفعلية من كل الجهات أو بعضها، فلا يعقل أن يعلّق الشارع حكمه بما لا طريق إلى معرفته.

المسألة الثالثة

[6] في عدم الفرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة، فإن كان التكليف فعلياً

ص: 225

لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو كانت أطرافه غير محصورة[1].

وإنما التفاوت[2] بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم[3] ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعلياً لولاه من سائر الجهات.

وبالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها في التنجز وعدمه في ما كان المعلوم إجمالاً فعلياً يبعث[4] المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه[5] كذلك مع ما هو

--------------------------------------

وجب الاحتياط فيهما، كدوران النجس بين إناءين، ودوران السُمّ بين مائة إناء.

وإن لم يكن التكليف فعلياً لا يجب الاحتياط فيهما، كما لو كان أحد الإناءين خارج محل ابتلائه، وكدوران اللحم الحرام بين مائة قصاب.

نعم، الغالب في غير المحصورة عدم فعلية التكليف لمانع العسر والحرج ونحوهما، لكن جواز الارتكاب ليس لأجل عدم الحصر، بل لأجل عدم فعلية التكليف.

[1] إذ الفرض أن التكليف فعلي؛ وذلك بتحقق إرادة المولى أو كراهته، كما لو اختلط انسان محقون الدم بمائة صيد فإنه لا يجوز رمي أحدها؛ لأن التكليف بحرمة قتل محقون الدم فعلي؛ وذلك لقوة ملاكه.

[2] أي: قد يكون تفاوت، ولكن ليس منشؤه الحصر أو عدم الحصر، بل منشؤه فعلية التكليف أو عدم فعليته، والغالب مع عدم الحصر عدم فعلية التكليف للعسر والحرج ونحوهما.

[3] (رُبَّ) للتكثير - هنا - ، «فعلية المعلوم» أي: فعلية التكليف المعلوم، كاجتناب المتنجس في ضمن ألف إناء، «كونه» كون التكليف المعلوم، «لولاه» أي: لو لا المانع، «من سائر...» متعلق ب- (فعلياً) أي: فعلياً من سائر الجهات لكنه ليس بفعلي من جهة وجود المانع.

[4] «يبعث» وصف توضيحي ل- (فعلياً)، هذا في الواجبات.

[5] أي: يزجر عن المعلوم، «كذلك» أي: فعلاً، هذا في المحرمات.

ص: 226

عليه[1] من كثرة أطرافه.

والحاصل: أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم[2]. ولو أوجب تفاوتاً فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها مع عدمه[3]؛ فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلةً وكثرةً في التنجيز وعدمه[4] ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك[5]؛ وقد عرفت آنفاً[6] أنه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً[7]، فتأمل تعرف.

وقد انقدح[8]: أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة

--------------------------------------

[1] «ما» موصولة، «هو» المعلوم، «عليه» يرجع الضمير إلى (ما)، «من...» بيان ل(ما)، أي: مع كثرة الأطراف الذي ذلك التكليف على هذه الكثرة.

[2] أي: الفرق في التكليف المعلوم، وليس في العلم الإجمالي.

[3] أي: عدم الفعلية مع عدم الحصر.

[4] «في» متعلق بقوله: (فلا يكاد يختلف).

[5] «عدمها» عدم الفعلية، «بذلك» أي: بسبب القلة والكثرة.

[6] أي: في المسألة الثانية، ومقصوده أن المناط هو فعلية التكليف وعدم فعليته، من غير أن يكون فرق من جهة العلم أو من جهة الحصر وعدم الحصر، «في ذلك» في التنجز وعدمه.

[7] بأن يكون التكليف فعلياً أو لا يكون فعلياً، فمناط التنجز كله في فعلية أو عدم فعلية التكليف المعلوم، وليس في اختلاف العلم أو في الحصر وعدمه.

المسألة الرابعة

[8] إنّ التكليف لو كان فعلياً فبحكم العقل تجب موافقته القطعية؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وتحرم مخالفته القطعية.

ص: 227

مخالفتها[1]، ضرورة[2] أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً[3]، وإلاّ[4] لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً.

ومنه ظهر[5]:

--------------------------------------

وإن لم يكن التكليف فعلياً فلا تجب الموافقة القطعية، كما تجوز المخالفة القطعية؛ لعدم فعلية التكليف فلا يكون منجزاً، وما لا يكون منجزاً جازت مخالفته.

[1] أي: حرمة المخالفة القطعية، فقد قالوا بجواز ارتكاب أحد الإناءين مع حرمة شربهما معاً، وكذا حرمة ترك الصلاتين - الظهر والجمعة - وجواز الاكتفاء بأحدهما.

[2] دليل عدم صحة هذا الاحتمال - أي: حرمة المخالفة القطعية مع وجوب الموافقة القطعية - .

[3] لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[4] أي: إن لم يكن التكليف المعلوم بالإجمال فعلياً، «لم يحرم مخالفته» مخالفة التكليف، «كذلك» قطعاً، أي: تجوز مخالفته القطعية؛ وذلك لأن معنى عدم الفعلية هو عدم إرادة المولى أو كراهته.

المسألة الخامسة

[5] أي: من ارتباط التنجز بفعلية التكليف ظهر حكم الصور التالية:

1- لو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن محل الابتلاء.

2- لو اضطر إلى بعض الأطراف.

3- لو كانت الأطراف تدريجية الوجود، مع تحقق موضوع التكليف بالتدريج.

ففي كل هذه الموارد لا يكون التكليف فعلياً، فلا يجب الاحتياط، ويجوز ارتكاب كل الأطراف، وسنذكر أمثلة الشبهة التحريمية - لسهولتها - في بيان هذه الصور، وإلاّ فالبحث يجري في الشبهة الوجوبية أيضاً.

ص: 228

أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالاً[1] - إما[2] من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه[3]، أو من جهة[4] الاضطرار إلى بعضها معيناً أو مردداً[5]، أو من جهة[6]

--------------------------------------

[1] أي: مع العلم بالتكليف - غير الفعلي - لكن تردد المعلوم بين أطراف متعددة.

ولا يخفى المسامحة في التعبير؛ وذلك لعدم العلم بأصل التكليف، بل نشك فيه، اللهم إلاّ إذا كان مراده من (إجمالاً) أي: احتمالاً، أو يكون المراد العلم التقديري، فتأمل.

[2] بيان للصورة الأولى، وهي عدم الابتلاء ببعض أطراف العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء ملك الهند - فرضاً - . فهنا تكليفه باجتناب إناء الملك لغو؛ لأن الغرض من التكليف هو بعث المكلف نحو الحكم، ومع خروج شيء عن محل الابتلاء يكون اجتنابه حاصلاً قهراً، فالنهي عنه طلب للحاصل، وهو لغو لا يصدر عن الحكيم.

وأما الإناء الآخر - الذي هو محل الابتلاء - فإنه لا يعلم بنجاسته، بل يحتمل ذلك، فيرجع إلى الشك في التكليف، فيكون مجرى البراءة.

[3] أطراف العلم الإجمالي.

[4] بيان للصورة الثانية، وهذا سيأتي تفصيله في التنبيه الأول، فإن المضطر إليه لا تكليف باجتنابه؛ لأن الاضطرار مانع عن التكليف، والطرف الثاني - غير المضطر إليه - الشبهة فيه بدوية، فيكون مورداً للبراءة.

[5] أي: لا فرق في عدم فعلية التكليف بين اضطراره إلى أحد الأطراف على التعيين، أو اضطراره إلى أحد الأطراف لا على التعيين، خلافاً للشيخ الأعظم - كما سيأتي في التنبيه الأول - .

[6] بيان للصورة الثالثة، وهو ما لو كان الموضوع مردداً بين أطراف تدريجية الوجود. كالمرأة أيام الاستظهار، مثلاً: لو كانت ترى الدم طوال الشهر وهي تعلم

ص: 229

تعلقه[1] بموضوع يقطع بتحققه إجمالاً في هذا الشهر، كأيام حيض المستحاضة مثلاً - لما[2] وجب موافقته بل جاز مخالفته.

--------------------------------------

إجمالاً بأن حيضها ثلاثة أيام، ولكن لا تعلم أن هذه الثلاثة في أيِّ وقت من الشهر؟ فهنا احتمالان:

1- إن كان (الحائض) هو الموضوع لاجتناب دخول المسجد - مثلاً - فهنا لا يجب عليها الاحتياط أصلاً؛ وذلك لعدم إحراز الموضوع، فلا يكون التكليف فعلياً، وهذا من قبيل الواجب المشروط كالحج قبل الاستطاعة فلا وجوب أصلاً.

2- وإن كان الموضوع (المرأة) في وقت حيضها، فإنه يجب عليها الاحتياط منذ اليوم الأول؛ وذلك لأن الموضوع - وهو المرأة - موجود، فيتحقق التكليف لتحقق موضوعه، منتهى الأمر زمان التكليف غير معلوم، فقد يكون في الزمان اللاحق، وهذا لا يضر بالتكليف، فتكون الحرمة فعليّة والحرام مستقبلي، وهذا من قبيل الواجب المعلّق، نظير وجوب الحج من حين الاستطاعة، فإن وجوب الحج فعليّ، ولكن الواجب يكون في المستقبل حين دخول تاسع ذي الحجة.

والحاصل في الأمور التدريجية: إن كان الموضوع متحققاً من أول يوم وجب الاحتياط؛ لأن التكليف تعلق بالذمة من الأول - حتى لو فرض أن الواجب أو الحرام مستقبلي - وإن لم يعلم بتحقق الموضوع من الأول فلا علم بالتكليف أصلاً، فيكون مجرى البراءة.

[1] أي: تعلق التكليف، «بتحققه» بتحقق الموضوع، «إجمالاً» من غير علم بالأيام التي يتحقق فيها - بعينها - .

[2] «لما» جزاء (لو) في قوله: (و منه ظهر أنه لو لم يعلم... الخ)، «موافقته» و«مخالفته» أي: موافقة أو مخالفة التكليف؛ وذلك لعدم فعلية هذا التكليف، وقد ذكرنا في المسألة الرابعة أنه مع عدم الفعلية لا تجب الموافقة وتجوز المخالفة القطعية.

ص: 230

وأنه[1] لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية لكان منجزاً ووجب موافقته، فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية[2]، ضرورة[3] أنه كما يصح التكليف بأمر حالي[4] كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع[5]، فافهم[6].

تنبيهات: الأول[7]:

--------------------------------------

[1] هذا عدل قوله: (أنه لو لم يعلم فعلية التكليف...)، «أنه» للشأن، «عُلم» - بالمجهول - ، «فعليته» فعلية التكليف، «لكان» التكليف.

[2] لأن المناط هو تحقق شرائط التكليف، فلو تحققت تلك الشرائط كان التكليف منجزاً حتى في الأمور التدريجية، فيكون التكليف فعلياً والواجب أو الحرام مستقبلياً.

[3] دليل أن التدرج لا يمنع الفعلية.

[4] أي: ما تحقق موضوعه خارجاً حين التكليف، كالأمر بالصلاة بعد الزوال.

[5] موسم الحج هو أشهر الحج، ووقت الواجب هو التاسع من ذي الحجة، لكن تعلق الأمر بوجوب الحج من أول شوال حيث تبدأ أشهر الحج، بل قالوا بتعلق وجوب الحج حتى قبل الموسم من بداية السنة.

[6] لعله إشارة إلى أن المرأة في أيام الاستظهار من مصاديق الاحتمال الثاني - أي: من قبيل المعلّق الذي يكون الوجوب أو الحرمة فيه فعلياً، والواجب أو الحرام استقبالياً - لا من مصاديق الاحتمال الأول، فلا يصح جعلها مثالاً لعدم فعلية التكليف، كي يقال بعدم وجوب الاحتياط.

تنبيهات الاشتغال

التنبيه الأول: الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي

[7] إن صور الاضطرار إلى بعض الأطراف أربعة، وقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

ص: 231


1- فرائد الأصول 2: 245.

--------------------------------------

إلى لزوم الاحتياط واجتناب الطرف الثاني في ثلاثة صور منها، وعدم لزوم الاحتياط في صورة واحدة، وأما المصنف فقد ذهب إلى عدم لزوم الاحتياط في كل الصور الأربع.

فلنذكر كلام الشيخ الأعظم وما استدل به على ما ذهب إليه أولاً، ثم ما ذهب إليه المصنف.

الصورة الأولى: الاضطرار إلى أحدهما بعينه ثم العلم بحرمة أحدهما إجمالاً، مثل أن يضطر إلى شرب الماء الحلو، مع كون الآخر مالحاً غير صالح للشرب، ثم يعلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، فلا يجب الاحتياط؛ لأنه لا إشكال في جواز شرب الإناء الحلو للاضطرار إليه، وبعد العلم بنجاسة أحدهما لا يعلم بحدوث تكليف بالاجتناب، بل يحتمل ذلك؛ لأنه إن كان النجس هو الماء الحلو المضطر إليه فلا تكليف باجتنابه، وإن كان النجس الماء المالح فيجب اجتنابه، فهنا يحتمل التكليف ولا يعلم به، فيكون من الشبهة البدوية.

الصورة الثانية: أن يعلم بحرمة أحدهما ثم يضطر إلى أحدهما المعين، فيجب الاجتناب عن الإناء الآخر المالح؛ لأنه حين علمه بنجاسة أحدهما إجمالاً اشتغلت ذمته بتكليف الاجتناب عنهما، وبعد الاضطرار إلى المعين يجوز ارتكابه للاضطرار، وأما الإناء الآخر المالح فيبقى التكليف باجتنابه، ولو باستصحاب لزوم الاجتناب، فإن العلم الإجمالي زال، ولكن أثره باق، كما في خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء.

الصورة الثالثة: أن يضطر إلى أحدهما لا بعينه، مثل ما لو كان كلا الإناءين ماءً حلواً قابلاً للشرب، ثم يعلم بحرمة أحدهما إجمالاً لنجاسته.

الصورة الرابعة: عكس الصورة الثالثة، بأن يعلم بحرمة أحدهما إجمالاً ثم يضطر إلى أحدهما لا بعينه.

ص: 232

إن الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعلية التكليف[1]

--------------------------------------

وفي هاتين الصورتين يجب الاحتياط، قال الشيخ الأعظم: (لأن العلم حاصل بحرمة واحد من الأمور، لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي)(1)،

انتهى.

أي: للعلم بالتكليف على كل حال؛ إذ يجب اجتناب الإناء الأول على تقدير وقوع النجاسة فيه، ويجب اجتناب الإناء الثاني على تقدير وقوعها فيه، وبعبارة أخرى: المكلف لم يضطر إلى الحرام - لإمكان دفع اضطراره بالإناء الطاهر - فلا مانع من تنجز التكليف باجتناب النجس، لكنه حيث اشتبه عليه الطاهر والنجس جاز له ارتكاب أحدهما، لكن هذا لا يرفع عنه التكليف في الآخر.

هذا حاصل ما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

وأما المصنف: فيذهب إلى عدم وجوب الاحتياط في كل هذه الصور الأربع؛ وذلك لعدم فعلية التكليف باجتناب الحرام؛ لأن التكليف بالاجتناب لم يكن مطلقاً في كل الحالات، بل كان من أول الأمر مقيداً بصورة عدم الاضطرار، ففي صورة الاضطرار لا علم بفعلية التكليف أصلاً في كل الصور الأربع.

وبعبارة أوضح كما قيل: (فلأن مع الاضطرار كذلك لا يكاد يحصل العلم بحرمة واحد من الأطراف كي يجب الاجتناب عن الباقي؛ إذ من المحتمل أن يكون المحرم الواقعي هو الذي يختاره المضطر لرفع اضطراره وهو معذور فلا يكون ما سواه حراماً)(2).

[1] الاضطرار مانع عن نفس التكليف، فلا تكليف مع الاضطرار، وحيث إن العلم طريق إلى معرفة التكليف وعدمه كان التعبير بقوله: (مانعاً عن العلم...).

ص: 233


1- فرائد الأصول 2: 245.
2- عناية الأصول 4: 170.

لو كان إلى واحد معين[1]، كذلك يكون[2] مانعاً لو كان إلى غير معين، ضرورة[3] أنه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه[4] تعييناً أو تخييراً[5]، وهو[6] ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً.

وكذلك لا فرق[7] بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم أو لاحقاً، وذلك[8]

--------------------------------------

[1] «كان» الاضطرار؛ وذلك لعدم العلم بأصل التكليف أصلاً.

[2] أي: يكون الاضطرار مانعاً عن العلم بفعلية التكليف.

[3] دليل كون الاضطرار مانعاً، «أنه» أن الاضطرار، «مطلقاً» أي: سواء إلى المعين أم إلى غير المعين.

[4] جواز الارتكاب في التحريميّة، وترك أحد الأطراف في الوجوبيّة، ومثال الوجوبية: لو اشتبهت القبلة واضطر إلى ترك الصلاة إلى بعض الجهات - لضيق الوقت مثلاً - .

[5] «تعييناً» لو اضطر إلى أحدهما المعين - كالماء الحلو مع كون الآخر مالحاً في المثال -، «تخييراً» لو اضطر إلى واحد لا على التعيين - كما لو كان كلا الماءين حلواً - .

[6] أي: جواز الارتكاب أو الترك يتعارض مع التكليف الإلزامي الفعلي، فلا يمكن الجمع بين جواز الارتكاب وبين الحرمة، ولا بين جواز الترك وبين الوجوب، لما مرّ من التضاد بين الأحكام، وحيث إن جواز الارتكاب معلوم فلا يبقى مجال للإلزام بالفعل أو الترك.

[7] أي: كما لا فرق في عدم وجوب الاحتياط بين الاضطرار إلى المعيّن أو غير المعيّن، كذلك لا فرق بين كون الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده، «الاضطرار كذلك» أي: إلى أحد الأطراف.

[8] دليل عدم الفرق بين سبق الاضطرار أو لحوقه، وحاصله: إن التكاليف الشرعية مقيدة بعدم طروّ العناوين الثانوية، ففي صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف

ص: 234

لأن التكليف المعلوم بينها من أول الأمر[1] كان محدوداً[2] بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة[3]، فلو عرض[4] على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً، لاحتمال[5] أن يكون هو المضطر إليه في ما كان الاضطرار إلى المعين أو يكون هو المختار[6]

--------------------------------------

لا علم بوجود تكليف من أول الأمر، فيكون من الشبهة البدوية، وليس من قبيل العلم بالتكليف مع الشك في المكلف به، «المعلوم بينها» بين أطراف العلم الإجمالي.

[1] أي: من حين صدوره - وحتى قبل طروّ الاضطرار - .

[2] أي: مقيداً بعدم طروّ العناوين الثانوية - التي منها الاضطرار - .

[3] «متعلقه» متعلق التكليف، أي: الموضوع، وهو فعل المكلف أو تركه - كالشرب مثلاً - .

[4] أي: عرض الاضطرار، «أطرافه» أطراف العلم الإجمالي، «التكليف به» أي: بالمتعلّق.

[5] وجه عدم العلم بالتكليف، بل احتماله فقط؛ لأنه يحتمل أن يكون النجس - مثلاً - الإناء المضطر إليه فلا تكليف، ويحتمل أن يكون الإناء الثاني فيوجد تكليف، فأمر هذا المكلف دائر بين احتمال التكليف واحتمال عدم التكليف، فيكون من مصاديق الشبهة البدوية، إذ لا علم بالتكليف، «أن يكون» أي: يكون متعلق التكليف.

[6] أي: أو يكون متعلق التكليف هو ما اختاره؛ لأنه كان معذوراً لو اختار النجس - في المثال - لفرض اضطراره إلى أحد الإناءين لا على التعيين، ولا طريق له لتعيين النجس، إذن يجوز له ارتكاب أيهما شاء، فلو اختار النجس فإنه معذور، ومعنى ذلك جواز الارتكاب، فلا معنى لتكليفه بالاجتناب - حينئذٍ - .

ص: 235

في ما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين[1].

لا يقال[2]: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلاّ كفقد بعضها[3]؛ فكما لا إشكال[4] في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال

--------------------------------------

[1] علّق المصنف على قوله: (وذلك لأن التكليف...) بقوله: (لا يخفى أن ذلك إنما يتم في ما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأما لو كان إلى أحدهما المعين فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز؛ لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالإجمال، المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمل)(1)، انتهى.

[2] حاصل الإشكال: إنه في صورة تأخّر الاضطرار عن العلم بالتكليف - كما في الصورة الأولى من الصور الأربع - فإنه بمجرد العلم إجمالاً بنجاسة أحدهما يتنجز عليه التكليف، وبعد الاضطرار يبقى أثر العلم الإجمالي، وهو لزوم الاجتناب عن الطرف الثاني، وهذا نظير العلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، وخروج أحدهما عن محل الابتلاء لاحقاً، فإن أثر العلم الإجمالي - وهو وجوب الاجتناب عن الآخر - يكون باقياً.

[3] بعض الأطراف، بعد حدوث العلم الإجمالي.

[4] لأنه قد تنجز عليه التكليف باجتنابهما، وبعد خروج أحدهما عن محل الابتلاء يبقى أثر العلم الإجمالي - وهو التنجز - وإن زال نفس العلم الإجمالي.

ص: 236


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 189.

في لزوم رعايته[1] مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه[2] خروجاً عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

فإنه يقال[3]: حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به[4] وقيوده[5]، كان[6] التكليف المتعلق به مطلقاً، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه[7]، فإنه من حدود التكليف به وقيوده، ولا يكون الاشتغال به[8] من الأول إلاّ مقيداً بعدم

--------------------------------------

[1] أي: رعاية الاحتياط، «مع الاضطرار» أي: الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي.

[2] الاجتناب في الشبهة التحريميّة - كمثال الإناء النجس - والارتكاب في الشبهة الوجوبيّة، كما لو اشتبه المسلم بين ميّتين أحدهما مسلم والآخر كافر، فلو فقد أحدهما فإنه يجب تجهيز الآخر حسب الشعائر الإسلامية من الغسل والكفن... الخ.

[3] حاصل الجواب: هو الفرق بين الموردين؛ إذ التكليف ليس مقيداً بفقد الموضوع، فالتكليف له قابلية الاستمرار إلى الأبد. نعم، فقد الموضوع يوجب زوال الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لا لعدم قابلية التكليف في الاستمرار.

ولكن التكليف مقيّد بعدم الاضطرار، فالتكليف منحصر من أول الأمر بحالة الاختيار، فمع عروض الاضطرار لا علم بالتكليف أصلاً.

[4] «به» بذلك المكلّف به، أي: متعلق التكليف.

[5] عطف تفسيري ل- (حدود التكليف)، فإن التكليف له قابلية الاستمرار، ولم يقيده الشارع ببقاء الموضوع.

[6] جزاء (حيث) - لتضمنها معنى الشرط - «المتعلق به» أي: بالمكلف به، «مطلقاً» أي: غير مقيد ببقاء الموضوع.

[7] أي: ترك التكليف، فإن الاضطرار من قيود التكليف.

[8] أي: اشتغال الذمة بالتكليف، «من الأول» أي: من حين صدور التكليف،

ص: 237

عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلاّ إلى هذا الحد[1]، فلا يجب رعايته في ما بعده، ولا يكون إلاّ من باب الاحتياط في الشبهة البدوية[2]، فافهم وتأمل، فإنه دقيق جداً[3].

الثاني[4]:

--------------------------------------

«بعدم عروضه» الاضطرار.

[1] أي: حدّ الاضطرار، «رعايته» التكليف، «بعده» بعد حدّ الاضطرار.

[2] لاحتمال وجود التكليف، ومع الاحتمال تجري البراءة ككل شبهة بدوية.

[3] لا يخفى مواضع النظر في كلامه، فإن بقاء الموضوع حدّ لحكمه قطعاً بحكم العقل، كما أنه قبل الاضطرار يعلم باشتغال ذمته، وبعد عروض الاضطرار يشك في بقاء التكليف فهو مجرى الاستصحاب، ولغير ذلك مما هو مذكور في المفصلات.

التنبيه الثاني: اشتراط الابتلاء بجميع الأطراف

[4] حاصله: إنه يشترط في تنجز العلم الإجمالي: الابتلاء بكل الأطراف، فلو كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء فلا يتنجز العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء السلطان، فلا يجب الاجتناب عن إنائه؛ لعدم ابتلائه بإناء الملك أصلاً.

والدليل على ذلك: أن المولى لا يكلّف عبثاً، بل تكليفه بغرض؛ وذلك الغرض هو إيجاد الداعي في نفس المكلف بالفعل في الواجب، أو الترك في الحرام، أو لتأكيد فلو لم يمكن انقداح الداعي في نفس المكلف فإن التكليف يكون لغواً؛ وذلك محال على الحكيم.

ففي المثال لا ينقدح في نفس المكلف استعمال إناء السلطان أصلاً - لخروجه عن محل ابتلائه - فالنهي عنه يكون بلا غرض، وهو لغو لا يصدر من الحكيم، فيبقى المكلف مع إنائه الذي هو محل ابتلائه، ولا علم له بنجاسته، بل هو مجرد احتمال،

ص: 238

إنه[1] لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داع آخر[2]، ولا يكاد يكون ذلك[3] إلاّ في ما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها[4]، فليس للنهي عنه موقع أصلاً[5]، ضرورة أنه[6] بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل[7]، كان[8] الابتلاء بجميع الأطراف

--------------------------------------

فيكون مجرى أصالة البراءة.

الداعي، كالنهي عن أكل القاذورات، فإن الداعي موجود ولكن النهي يؤكده.

[1] للشأن، «هو» النهي، «أن يصير» النهي، «تركه» ترك الشيء.

وقد علق المصنف على قوله: (النهي عن شيء)، بقوله: (كما أنه إذا فعل الشيء الذي كان متعلقاً لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد، وأن لا يكون له داع إليه لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً، كما لا يخفى)(1)،

انتهى.

[2] أما لو كان له داع آخر - كاستقذاره للقاذورات - فيكون النهي تأكيداً، «له» للمكلف.

[3] «ذلك» صيرورة النهي داعياً على الترك، «ابتلاؤه» المكلف، «به» الضمير يرجع إلى الموصول - ما - «عادة» فقد يمكن الابتلاء عقلاً - كما في المحال الوقوعي - لكن ذلك لا يُصحح النهي؛ لأن المحال الوقوعي لا يوجد داع لفعله أصلاً.

[4] ضمير «به» يرجع إلى الموصول، «بحسبها» أي: بحسب العادة.

[5] أي: لا مجال للنهي، فهو غير صحيح.

[6] علّة عدم صحة النهي في ما لا يبتلى به عادة، «أنه» أي: النهي.

[7] أي: من موارد طلب الحاصل، وهو قبيح، لا يصدر عن الحكيم.

[8] «كان» جزاء (لمّا) في قوله: (الثاني إنه لما كان النهي... الخ)، «لابد منه» من الابتلاء.

ص: 239


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 203.

مما لابد منه في تأثير العلم[1]، فإنه بدونه[2] لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

ومنه[3] قد انقدح: أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً[4]، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع إطلاعه[5] على ما هو عليه من الحال[6].

--------------------------------------

[1] أي: في تنجز التكليف الذي هو أثر العلم الإجمالي.

[2] «فإنه» للشأن، «بدونه» بدون الابتلاء بجميع الأطراف؛ إذ لو كان النجس هو إناء السلطان فلا تكليف أصلاً، وإن كان النجس هو إناء المكلّف فهو مكلف بالاجتناب، وحيث تردد النجس بينهما فالمكلف يحتمل التكليف ولا يعلم به، فيكون المورد مجرى أصالة البراءة.

[3] أي: من لزوم كونه محلاً للابتلاء، كي يمكن انقداح الداعي في نفس المكلف.

[4] أي: ليكون طلباً حقيقياً لا تقديرياً، كأن يقول المولى: (لو ابتليت به فاجتنب عنه)، فإن هذا الطلب التقديري صحيح، ولكنه ليس بطلب حقيقة، أي: لا توجد بالفعل كراهة في نفس المولى، بل تتحقق الكراهة لو ابتلى به، ففي صورة عدم الابتلاء لا تكليف قطعاً، مثل جميع القضايا المشروطة قبل تحقق الشرط، كقوله: (إن جاء علي فأكرمه)، «هو» أي: الملاك.

[5] أي: ليس كل داع في نفس العبد مصححاً للنهي، بل الداعي مع إمكان فعل المكلف، فلو توهم العبد تمكنه من الطيران فإن هذا التوهم ناشئ عن الجهل، وعدم الاطلاع على عدم تمكنه، فهذا لا يُصحح النهي.

[6] أي: مع اطلاع العبد على الحال الذي هو - أي: العبد - على ذلك الحال، وقوله: «من الحال» بيان للموصول - أي: ما - والمعنى مع اطلاع العبد على قدرته على ارتكاب الفعل.

ص: 240

ولو شك في ذلك[1] كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالاشتغال[2]، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به[3] إلاّ في ما إذا شك في التقييد بشيء

--------------------------------------

[1] أي: في كونه محلاً للابتلاء أم لا، كما لو ترددت النجاسة بين إنائه وإناء جاره، ويحتمل أن يدعوه جاره فيُبتلى بإنائه أيضاً.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى لزوم الاحتياط، تمسكاً بإطلاق خطابات الأحكام كقوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(2) أي: اجتنب عن النجس، فإن المكلف يعلم بنجاسة إما إنائه أو إناء جاره، ويشك في لزوم امتثال هذا التكليف - لاحتمال خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء - فيكون المرجع إطلاق الخطاب.

وأما المصنف فيذهب إلى جريان البراءة؛ وذلك للشك في أصل الإطلاق، فلا يصح التمسك به.

بيانه: إن اللفظ لو كان له إطلاق ثم شككنا في تقييده كما لو قال: (أكرم العالم)، وشككنا في أنه مقيد بالعدالة أم لا، فهنا نتمسك بالإطلاق، أما لو شك في أصل الإطلاق فلا يمكن التمسك به؛ لأنه تمسك باللفظ في الشبهة المصداقية، مثلاً: التكاليف كلها مقيدة بالقدرة - فالإنسان مكلّف إن كان قادراً، أما العاجز فليس بمكلف - فلو شككنا في القدرة فإنه لا يمكن التمسك بإطلاق الدليل؛ وذلك لعدم وجود هذا الإطلاق.

[2] أي: باشتغال الذمة، بل يحتمل ذلك، فإن كان محلاً للابتلاء وجب الاجتناب، وإلاّ فلا يجب، إذن أصل التكليف مشكوك.

[3] أي: بالإطلاق، «بدونه» أي: بدون ذلك الشيء، كما لو قال: (أعتق رقبة) فإنه يصح شمول التكليف للمؤمنة وللكافرة، فمع الشك في التقييد بالكافرة يكون المرجع إلى الإطلاق.

ص: 241


1- فرائد الأصول 2: 239.
2- سورة المدثر، الآية: 5.

بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا في ما شك في اعتباره في صحته[1]، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.

الثالث[2]:

--------------------------------------

[1] أي: في اعتبار شيء في صحة الإطلاق، كالقدرة - مثلاً - وكان الأولى التعبير ب- (لا في ما شك في تحقق ما اعتبر في صحة الإطلاق)، فإن اعتبار القدرة - مثلاً - معلوم لكن الشك في تحققه أو عدم تحققه.

وقد علق المصنف هنا بقوله: (نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء - لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف - كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالاً على فعليته، ووجود الابتلاء المصحح لهما، كما لا يخفى، فافهم)(1)،

انتهى.

التنبيه الثالث: الشبهة غير المحصورة
اشارة

[2] قد يقال: بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، وعدم وجوبه في غير المحصورة. لكن المصنف يذهب إلى عدم الفرق بينهما أصلاً، فإذا كان التكليف فعلياً وجب الاحتياط في المحصورة وغير المحصورة، وإن لم يكن التكليف فعلياً لم يجب الاحتياط - سواء في المحصورة أم غير المحصورة - . فلا يكون التكليف فعلياً لو استلزم العسر سواء في المحصورة وغيرها، ويكون فعلياً لو لم يستلزم العسر فيهما أيضاً.

نعم، الغالب استلزام الاحتياط للعسر في غير المحصورة، وعدم استلزامه للعسر في المحصورة، وهكذا الأمر في سائر العناوين الثانوية كالحرج والضرر ونحوهما.

فتحصل: أنه لا فرق بين المحصورة وغيرها في ملاك وجوب الاحتياط - وهو العلم بوجود التكليف مع اشتباه المكلف به - وأن العلم الإجمالي يوجب فعلية التكليف. نعم، العسر يكون مانعاً عن الفعلية، فليس عنوان (غير المحصورة) أمراً مستقلاً رافعاً للتكليف.

ص: 242


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 211.

إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم[1] لا تفاوت[2] بين أن تكون أطرافه محصورةً وأن تكون غير محصورة.

نعم، ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبةً لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها[3] أو ارتكابه[4] أو ضرر فيها[5] أو غيرهما مما[6] لا يكون معه التكليف فعلياً بعثاً أو زجراً فعلاً، وليس بموجبة لذلك في غيره[7]. كما أن نفسها[8] ربما تكون موجبة لذلك[9] ولو كانت قليلة في مورد آخر. فلابد من ملاحظة ذاك[10]

--------------------------------------

[1] مع تردده بين مصاديق متعددة.

[2] لجريان ملاك الاحتياط في كليهما، «أطرافه» أي: المصاديق التي يكون المكلف به بعضها.

[3] كل الأطراف وهذا في الشبهة التحريمية.

[4] ارتكاب كل الأطراف، وهذا في الشبهة الوجوبيّة.

[5] في الموافقة القطعيّة، «غيرهما» أي: غير الضرر والعسر، مثل: الحرج، وخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والاضطرار إلى بعضها، ونحو ذلك.

[6] «من» بيان لقوله: (أو ضرر فيها أو غيرهما)، «ما» أي: عناوين الأحكام الثانوية، «معه» الضمير يرجع إلى الموصول، «بعثاً» في الشبهة الوجوبية، «زجراً» في التحريمية، وجملة «بعثاً أو زجراً فعلاً» هي عطف بيان على (التكليف فعلياً).

[7] أي: ليس كثرة الأطراف موجبة لذلك العسر ونحوه في غير ذلك المورد، فقوله: «وليس بموجبة...» عطف على قوله: (ربما يكون كثرة الأطراف... الخ).

[8] أي: الموافقة القطعية باجتناب كل الأطراف في التحريميّة، وبفعل كل الأطراف في الوجوبيّة.

[9] أي: لذلك العسر ونحوه.

[10] أي: العسر ونحوه.

ص: 243

الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه يكون، أو لا يكون[1] في هذا المورد، أو يكون[2] مع كثرة أطرافه؟ وملاحظة[3] أنه مع أية مرتبة من كثرتها؟ كما لا يخفى.

ولو شك[4]

--------------------------------------

[1] كان تامة، أي: هل يوجد العسر ونحوه في هذا المورد أو لا يوجد؟ «في هذا المورد» أي: يلزم ملاحظة كل مورد على انفراد، فإنه لا توجد قاعدة عامة، بل إن استلزم العسر في موردٍ وعلى شخصٍ ارتفع التكليف عنه، وإن لم يستلزم العسر في ذلك المورد على شخص آخر لم يرتفع التكليف عنه.

[2] أي: أو هل يكون العسر في ذلك المورد مع كثرة الأطراف؟ «أطرافه» أطراف المعلوم بالإجمال.

[3] فإن للكثرة مراتب فقد لا يكون عسر في مرتبة - كالدوران بين ألف مثلاً - ويكون عسر في مرتبة أخرى - كالدوران بين عشرة آلاف مثلاً - ، «أنه» أن العسر ونحوه، «كثرتها» كثرة الأطراف.

الشك في حدوث العسر ونحوه

[4] أي: لو شككنا في عروض العسر ونحوه، فهل مراعاة الاحتياط موجب للعسر أم لا؟ سواء كان الشك في تحقق العسر، أم كان الشك في درجة العسر وأنه وصل إلى درجة الرافعة للتكليف أم لا، فهنا صورتان:

الأولى: كون دليل التكليف لفظياً، كقوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(1)، فهنا المرجع هو إطلاق الدليل؛ لأن العسر يقيد إطلاق أدلة العناوين الأولية، ومع الشك في التقييد تكون أصالة الإطلاق محكّمة.

الثانية: كون دليل التكليف لبيّاً - كالإجماع - ولا إطلاق لكي نتمسك بشموله لموارد الشك، فلابد من الرجوع إلى أصل عملي؛ وذلك الأصل هنا هو أصالة البراءة.

ص: 244


1- سورة المدثر، الآية: 5.

في عروض الموجب[1]، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان[2]، وإلاّ[3] فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي[4].

هذا هو حق القول في المقام. وما قيل في ضبط المحصور وغيره[5] لا يخلو من الجزاف[6].

الرابع[7]:

--------------------------------------

[1] أي: الموجب لرفع التكليف - كالعسر - .

[2] أي: لو وُجد إطلاق، بأن كان الدليل لفظياً.

[3] أي: إن لم يكن إطلاق للدليل - كما لو كان لبياً - .

[4] لأنه يتمسك في الأدلة اللُبية بالقدر المتيقن، وما سواه لا تشمله تلك الأدلة، ولا دليل آخر على التكليف، فالمرجع هو الأصل العملي - وهو البراءة هنا - .

[5] أي: وغير المحصور، مثل قولهم: ما يعسر عدّه، أو عسر العدّ في زمان قصير، أو ما يؤدي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالباً، إلى غيرها مما نقله الشيخ الأعظم في الرسائل(1).

[6] أي: قول بلا دليل، مضافاً إلى عدم الحاجة إليه، حيث كان المناط هو فعلية التكليف أو عدم فعليته.

التنبيه الرابع: حكم الملاقي والملاقى
اشارة

[7] في حكم الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، وأنه هل يحكم عليه بحكم المحصور أم لا؟ وقبل الدخول في المسألة لابدّ من الإشارة إلى أمرين:

الأول: إنه لابد من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بحيث يتيقن المكلف من أداء التكليف، وأما ما لم يكن طرفاً في العلم الإجمالي - حتى وإن كان محكوماً بحكم أحد الأطراف - فإنه لا يجب الاحتياط فيه؛ وذلك لأنه ليس طرفاً للعلم، ولا تتوقف عليه البراءة اليقينية من التكليف المعلوم.

ص: 245


1- فرائد الأصول 2: 268.

إنه إنما يجب عقلاً[1] رعاية الاحتياط في خصوص[2] الأطراف مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه[3] حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها[4]،

--------------------------------------

الثاني: إذا تنجز علم إجمالي، ثم حدث علم إجمالي ثانٍ وكان بعض أطراف العلم الإجمالي الأول طرفاً فيه، فإنه لا يتنجز تكليف بسبب هذا العلم الإجمالي الثاني؛ وذلك لعدم العلم بحدوث تكليف جديد.

مثلاً: لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين لسقوط قطرة دم في أحدهما، ثم سقطت قطرة بول إما في الإناء الثاني أو في إناء ثالث، فإن العلم الإجمالي الأول بنجاسة الإناء الأول أو الثاني بسبب قطرة دم يتنجز، فيجب الاحتياط باجتنابهما، ولكن بعد سقوط قطرة بول مرددة بين الإناء الثاني والثالث، فإن كانت قد سقطت في الثالث فقد تولّد تكليف جديد باجتنابه، وإن كانت قد سقطت في الإناء الثاني فلا تكليف جديد بالاجتناب، حيث كان التكليف بالاجتناب موجوداً، فيكون التكليف الجديد لغواً، وحينئذٍ نشك في حدوث تكليف جديد أو عدم حدوثه، فيكون مجرى أصالة البراءة.

[1] لأن امتثال أمر المولى يتوقف على الاحتياط في كل الأطراف فيجب عقلاً؛ لأن طرق الطاعة والمعصية إنما هي بحكم العقل.

[2] «في» متعلق ب- (يجب)، «مما» بيان للأطراف، أي: يجب الاحتياط في هذه الأطراف فقط.

[3] «اجتنابه» اجتناب الأطراف، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى الموصول في (مما)، هذا في الشبهة التحريمية، «أو ارتكابه» هذا في الشبهة الوجوبية ، وقوله: «حصول العلم» فاعل يتوقف.

[4] دون غير هذه الأطراف، فلا يجب الاحتياط في الأطراف التي لا يتوقف العلم بأداء التكليف عليها.

ص: 246

وإن كان حاله[1] حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً.

ومنه ينقدح[2] الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال:

وأنه تارةً[3] يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه[4] في ما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه[5] اجتنب عن النجس في

--------------------------------------

[1] أي: وإن كان حال غيرها حال بعض الأطراف، في كون هذا الغير محكوماً بحكم بعضها - حكماً واقعياً - . مثلاً: اليد التي لاقت أحد الإناءين فإن كانت الملاقاة للإناء الطاهر واقعاً فاليد طاهرة، وإن كانت الملاقاة للإناء المتنجس واقعاً فاليد نجسة.

[2] أي: من بيان هذه القاعدة الكلية يتبيّن حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة، كما لو لاقت اليد أحد الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالاً.

وهنا صور ثلاث:

الصورة الأولى

الصورة الأولى: وجوب اجتناب الإناءين دون اليد، فيتعامل معها معاملة الطاهر؛ وذلك لو علم بنجاسة أحدهما - إما الإناء الأحمر أو الإناء الأصفر - ثم لاقت اليد الإناء الأحمر - مثلاً - فإنه لو اجتنب عن الإناءين فقد علم بأداء التكليف، وهو لا يعلم بتوجه تكليف آخر باجتناب اليد، ولا يتنجز العلم الإجمالي الثاني بنجاسة إما اليد وإما الإناء الأصفر - وهو طرف الملاقى - وذلك لما ذكرنا من عدم تنجز العلم الإجمالي الثاني، فلا يعلم بتوجه تكليف أخر باجتناب اليد، فتجري البراءة.

[3] شروع في بيان الصورة الأولى.

[4] «الملاقى» - بالألف - وهو الإناء الأحمر في مثالنا، «ملاقيه» - بالياء - وهي اليد في المثال.

[5] «عنه» عن الملاقى - الإناء الأحمر في المثال - . و«عن طرفه» أي: عِدل الملاقى

ص: 247

البين قطعاً[1] ولو لم يجتنب عما يلاقيه[2] فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته[3] كان فرداً آخر من النجس[4]، قد شك في وجوده، كشيء آخر[5] شك في نجاسته بسبب آخر.

ومنه ظهر[6]:

--------------------------------------

- الإناء الأصفر في المثال - .

[1] فخرج من عهدة التكليف بوجوب اجتناب النجس في قوله: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(1).

[2] «لو» وصلية؛ وذلك لأن الملاقي - كاليد - لو تنجست فإن وجوب اجتنابها بتكليف جديد، وحيث لا يعلم بهذا التكليف الجديد فقد جرت أصالة البراءة.

والحاصل: إن التكليف باجتناب النجس في أحد الإناءين قد تمّ امتثاله بالاجتناب عن الإناءين، فخرج عن عهدته قطعاً.

[3] أي: فإن الشأن على تقدير نجاسة الملاقي - كاليد - وذلك لنجاسة الملاقى - كالإناء الأحمر - .

[4] حيث حكم الشارع بحكم جديد بوجوب اجتناب اليد لأنها لاقت النجس، «قد شك في وجوده» أي: في وجود الفرد الآخر من النجس.

والحاصل: إنه يوجد هنا تكليفان أحدهما معلوم - وهو نجاسة أحد الإناءين - فيجب الاحتياط فيهما، والآخر مجهول - وهو نجاسة اليد - فتجري البراءة فيه.

[5] غير الملاقي، «سبب آخر» مثل: لمس الخنزير برطوبة، فكما أنه تجري البراءة فيه كذا في الملاقي؛ لأنه على فرض ملاقاته للإناء النجس فإن نجاسته ووجوب اجتنابه حكم جديد.

إشكال وجواب

[6] «منه» من أن نجاسة الملاقي - كاليد - حكم جديد، ظهر الإشكال في ما نسب

ص: 248


1- سورة المدثر، الآية: 5.

أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم[1] هو الاجتناب عنه أيضاً، ضرورة[2] أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر[3] لم يعلم حدوثه، وإن احتمل.

وأخرى[4] يجب الاجتناب عما لاقاه دونه[5]

--------------------------------------

إلى ابن زهرة(1)،

حيث قال: إن معنى النجاسة هو اجتناب النجس واجتناب ما يلاقيه، فقوله تعالى: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}(2) كما يدل على اجتناب النجس كذلك يدل على اجتناب ملاقيه، وحيث اشتبه النجس بين إناءين كان معنى وجوب الاجتناب عنهما هو وجوب الاجتناب عنهما وعن كل ما يلاقيهما.

[1] أي: مقتضى أدلة النجاسات هو الاجتناب عن النجس وعمّا يلاقيه، «المعلوم» أي: المعلوم بالإجمال، «عنه» عن ملاقي النجس - كاليد - .

[2] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن مثل: {وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ} لا دلالة له لا باللفظ ولا بالمفهوم، ولا بدلالة أخرى على الاجتناب عما يلاقيه، «العلم به» أي: العلم الإجمالي بالنجس بين الإناءين، «عنه» عن النجس بينهما.

[3] أي: نجس آخر كاليد لو فرض ملاقاتها للنجس، «وإن احتمل» لأن اليد إن كانت قد لاقت الإناء النجس فقد تنجست وإلاّ بقيت على طهارتها، فتحتمل النجاسة، فتكون من مصاديق الشبهة البدوية.

الصورة الثانية
اشارة

[4] شروع في بيان الصورة الثانية، وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي - كاليد - دون الملاقى - كالإناء الأحمر في المثال - .

[5] أي: دون الملاقى - الإناء الأحمر - فلا يجب الاجتناب عنه.

ثم إن المصنف قد ذكر لهذه الصورة موردين:

ص: 249


1- غنية النزوع: 46.
2- سورة المدثر، الآية: 5.

في ما لو علم إجمالاً[1] بنجاسته أو نجاسة شيء آخر[2]، ثم حدث العلم[3] بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضاً[4]، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها[5]

--------------------------------------

المورد الأول

[1] لو علم بنجاسة أحد شيئين: إما يده وإما الإناء الأصفر، فإنه يتنجز عليه وجوب الاجتناب عنهما للعلم الإجمالي، ثم علم أن قطرة دم كانت قد سقطت في أحد الإناءين، وسبب احتماله نجاسة يده كانت هي ملاقاتها للإناء الأحمر، وهنا لا يجب الاجتناب عن الإناء الأحمر؛ لأنه طرف في العلم الإجمالي الثاني، وكما ذكرنا فإن العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزاً إذا تنجز العلم الإجمالي الأول.

[2] «بنجاسته» أي: نجاسة الملاقى - كاليد - «أو نجاسة شيء آخر» كالإناء الأصفر - في المثال - فهذا هو العلم الإجمالي الأول ويكون منجزاً، فيجب الاجتناب عن اليد وعن الإناء الأصفر.

[3] أي: العلم الإجمالي الثاني.

[4] «العلم بالملاقاة» أي: علم أن يده كانت قد لاقت الإناء الأحمر، و«العلم بنجاسة...» أي: واستجد له علم إجمالي ثانٍ بنجاسة أحد الإناءين؛ لسقوط قطرة دم في أحدهما، «الملاقى» الإناء الأحمر في المثال، «أو ذلك الشيء» الإناء الأصفر في المثال، «أيضاً» أي: حدث علم إجمالي ثانٍ - وهو نجاسة أحد الإناءين - كما كان له علم إجمالي سابق وهو نجاسة الأصفر أو اليد.

[5] تأكيد للصورة، أي: لهذه الصورة بنفسها، ولعل مقصود المصنف هو: فإن حال الملاقى - الإناء الاصفر - في هذه الصورة هو عين حال الملاقي - كاليد - في الصورة السابقة. فإن اليد في الصورة السابقة كانت طرفاً في العلم الإجمالي الثاني

ص: 250

حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي[1] وأنه[2] فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم[3] النجاسة أصلاً، لا إجمالاً[4] ولا تفصيلاً.

وكذا[5] لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقى خارجاً

--------------------------------------

فلم يجب الاجتناب عنها، كذلك الإناء الأحمر في هذه الصورة هو طرف في العلم الإجمالي الثاني، فلا يجب الاجتناب عنه.

[1] أي: للعلم الإجمالي الأول الذي تنجّز، بل هو طرف لعلم إجمالي ثان غير منجّز.

[2] أي: وأن الملاقى - الإناء الأحمر - «فرد آخر» للنجس، «على تقدير نجاسته» أي: لو كان الملاقى نجساً فهو مصداق آخر للنجس يجب اجتنابه بتكليف جديد.

[3] أي: لكن هذا الفرد الآخر من النجس غير معلوم، بل هو محتمل، فيكون مجرى لأصالة البراءة.

[4] لعدم كون الملاقى - الإناء الأحمر - طرفاً في علم إجمالي منجِّز للتكليف؛ وذلك لسبق علم إجمالي آخر تنجز به التكليف، «ولا تفصيلاً» لوضوح عدم علم تفصيلي بالنجاسة.

المورد الثاني

[5] مورد آخر من الصورة الثانية، حيث يجب اجتناب اليد - في المثال - ولا يجب اجتناب الإناء الأحمر - الملاقى - . وهو ما إذا لاقت يده الإناء الأحمر، ثم خرج هذا الإناء عن محل الابتلاء، ثم علم بنجاسة أحد الإناءين - إما الأصفر أو الأحمر - فلا معنى للأمر باجتناب الإناء الأحمر؛ لخروجه عن محل الابتلاء، فتكون النجاسة دائرة بين اليد وبين الإناء الأصفر، فيتنجز عليه التكليف باجتنابهما.

ثم لو فرض رجوع الإناء الأحمر - الملاقى - إلى محل ابتلائه فهنا العلم الإجمالي

ص: 251

عن محل الابتلاء في حال حدوثه[1] وصار مبتلى به بعده.

وثالثةً[2] يجب الاجتناب عنهما[3] في ما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة[4]، ضرورة أنه حينئذٍ[5] نعلم إجمالاً إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين وهو الواحد أو الاثنين[6].

--------------------------------------

بنجاسة أحد الإناءين لا يكون منجزاً، لأن هذا علم إجمالي ثان لا يتنجز مع تنجز العلم الإجمالي الأول.

[1] أي: حال حدوث العلم الإجمالي أحد الإناءين، «بعده» أي: بعد حدوث العلم الإجمالي.

الصورة الثالثة

[2] شروع في بيان الصورة الثالثة، وهي ما يجب فيها الاجتناب عن الملاقي والملاقى، وذلك في ما لو علم بالملاقاة ثم حصل له علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين - مع كونهما في محل الابتلاء - فإنه هنا يحدث علم إجمالي بنجاسة إما الإناء الأصفر، وإما الأحمر واليد، فكان كل الثلاثة طرفاً في علم إجمالي فيجب الاجتناب عنها جميعاً.

[3] على الملاقي كاليد، والملاقى كالإناء الأصفر.

[4] مع كون الإناءين محلاً للابتلاء، وكذا توفر سائر شروط تنجز العلم الإجمالي.

[5] أي: حين حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة، «أنه» للشأن، «نعلم إجمالاً» وهذا العلم الإجمالي منجز؛ لعدم سبق علم إجمالي آخر عليه.

[6] «الواحد» طرف الملاقى، وهو الإناء الأصفر في المثال، و«الاثنان» هما الملاقي والملاقى، وهما اليد والإناء الأحمر في المثال.

ص: 252

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين[1]. والحق[2] أن العلم الإجمالي[3] بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر،

--------------------------------------

المقام الثاني

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

اشارة

[1] وملاكه أن يكون هناك تكليف واحد فقط إما تعلّق بالأكثر أو الأقل، كما لو علمنا بأن أجزاء الصلاة الواجبة إما تسعة، وإما عشرة - بإضافة القنوت مثلاً - .

[2] اختلف في الأقل والأكثر الارتباطي على أقوال(1)، منها:

1- لزوم الاحتياط.

2- جريان البراءة عقلاً وشرعاً.

3- التفصيل: بلزوم الاحتياط عقلاً مع جريان البراءة الشرعية، وهذا ما اختاره المصنف.

إن قلت: كيف يخالف الشرع حكم العقل؟

قلت: حكم العقل إنّما يكون حفظاً لأمر المولى بامتثاله عبر الاحتياط، ولا مانع في مثله من ترخيص المولى عدم الاحتياط؛ لعدم إرادته الامتثال القطعي لأمره، بل يجعل حكماً ظاهرياً لمصلحة أهم، كمصلحة التسهيل مثلاً.

الاحتياط عقلاً
اشارة

ثم إن المصنّف قد استدل بدليلين على استقلال العقل بالاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الأول

[3] إن مقتضى العلم الإجمالي بوجود تكليف اشتغلت به الذمة هو لزوم البراءة

ص: 253


1- هداية المسترشدين 3: 561؛ الفصول الغروية: 357؛ فرائد الأصول 2: 317؛ قوانين الأصول 2: 30؛ جامع المقاصد 2: 219.

لتنجزه به[1] حيث تعلق بثبوته فعلاً[2].

وتوهم[3] «انحلاله[4] إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلاً والشك في وجوب الأكثر بدواً، ضرورة[5]

--------------------------------------

اليقينية من هذا التكليف، ولا يمكن تحصيل براءة الذمة يقيناً إلاّ بالإتيان بالأكثر، «بينهما» بين الأقل والأكثر، «أيضاً» كما كان يوجب الاحتياط عقلاً في المتباينين.

[1] أي: لتنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

[2] تعلق العلم الإجمالي بثبوت التكليف الفعلي، فلابد من الخروج عن عهدة هذا التكليف يقيناً، ولا يكون خروج إلاّ بالإتيان بالأكثر.

إشكال وجوابان

[3] أشار إلى هذا الشيخ الأعظم(1)

في مطاوي كلامه، وهو دليل على جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحاصله: إن العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر، وكلّما انحل العلم الإجمالي جرت أصالة البراءة في طرف الشك البدوي؛ وذلك لأن وجوب الأكثر محتمل وأما وجوب الأقل فهو معلوم على كل حال؛ لأن الأقل يجب إما بوجوب نفسي إن لم يكن الجزء المشكوك واجباً، وإما بوجوب غيري مقدمي إن كان الجزء المشكوك واجباً، حيث إن الأقل مقدمة للأكثر، وهذا الوجوب المقدمي إما بحكم العقل أو بحكم الشرع - حسب الخلاف السابق بأن مقدمة الواجب واجبة عقلاً أم شرعاً - فتحصل أن الأقل معلوم على كل حال، والأكثر محتمل، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر.

[4] أي: انحلال العلم الإجمالي.

[5] دليل العلم التفصيلي بوجوب الأقل.

ص: 254


1- فرائد الأصول 2: 322.

لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعاً[1] أو لغيره كذلك أو عقلاً[2]، ومعه[3] لا يوجب تنجزه لو كان متعلقاً بالأكثر» فاسدٌ قطعاً[4]، لاستلزام الانحلال المحال[5]،

--------------------------------------

[1] لو كان الواقع هو عدم وجوب الجزء المشكوك فالأقل - كأجزاء الصلاة التسعة في المثال - واجب نفسي.

[2] لو كان الواقع هو وجوب الجزء المشكوك فيكون الأقل مقدمة لتحقق الأكثر، «لغيره» أي: وجوب الأقل بالوجوب المقدمي الغيري، «كذلك» شرعاً بناءً على القول بوجوب المقدمة شرعاً، «أو عقلاً» بناءً على الصحيح من وجوب المقدمة عقلاً.

[3] أي: مع الانحلال، «لا يوجب» العلم الإجمالي، «تنجزه» تنجز التكليف، «متعلقاً بالأكثر» أي: لو كان التكليف الواقعي هو الأكثر، فإن هذا التكليف لا يتنجز - لفرض انحلال العلم الإجمالي - فيكون العقاب على ترك الأكثر عقاباً بلا بيان وهو قبيح، وهذا هو البراءة العقلية.

[4] وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بجوابين:

الجواب الأول: إن الانحلال يستلزم الخلف؛ وذلك لأن:

أ: الوجوب الفعلي للأقل - إما لنفسه أو لغيره - ؛ يتوقف على تنجز التكليف المعلوم إجمالاً، سواء كان ذلك التكليف متعلقاً بالأقل أم بالأكثر؛ إذ لو لم يكن الأكثر منجزاً على فرض وجوبه لم يترشح وجوب غيري للأقل.

ب: ووجوب الأقل يستلزم عدم تنجز التكليف المتعلق بالأكثر - على فرض وجوبه - فلا يكون وجوب غيري للأقل أصلاً، وهذا خلاف الفرض.

وبعبارة أخرى: وجوب الأقل يتوقف على وجوب دائر بين الأقل والأكثر، فلو أجريتم البراءة في الأكثر لا يكون هناك وجوب دائر بين الأقل والأكثر؛ وذلك لعدم وجوب الأكثر حينئذٍ، وهذا خلف.

[5] «الانحلال» فاعل «استلزام» و«المحال» مفعوله.

ص: 255

بداهة[1] توقف لزوم الأقل فعلاً - إما لنفسه أو لغيره[2] - على تنجز التكليف مطلقاً[3] ولو كان متعلقاً بالأكثر، فلو كان[4] لزومه كذلك[5] مستلزماً لعدم تنجزه إلاّ إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً.

مع أنه[6]

--------------------------------------

[1] بيان للمدعى في التوهم، وحاصله: إن الوجوب على كل حال يتوقف على تنجز التكليف، سواء كان متعلقاً بالأكثر أم بالأقل، وهذا ما أشرنا إليه في (أ).

[2] «لنفسه» لو لم يجب الأكثر، و«لغيره» لو وجب الأكثر فيكون الأقل مقدمة للأكثر.

[3] شرح «مطلقاً» بقوله: «ولو كان متعلقاً بالأكثر» أي: لابد من تنجز التكليف سواء كان في ضمن الأكثر أم في ضمن الأقل حتى نعلم بوجود تكليف فعلي بين الأقل والأكثر.

[4] أي: لو كانت النتيجة هي البراءة، فمعناها هو عدم تنجز وجوب الأكثر - حتى لو كان في الواقع هو الواجب - إذ مع جريان الحكم الظاهري لا يتنجز الحكم الواقعي، فيتنجز الأقل فقط، وهذا خلاف الفرض. والحاصل: إن وجوب الأقل على كل حال يستلزم عدم وجوب الأقل على كل حال!!

[5] «لزومه» الأقل، «كذلك» فعلاً، «لعدم تنجزه» الضمير يرجع إلى (التكليف).

[6] هذا الجواب الثاني عن التوهم، وحاصله: إنه من وجود الانحلال يلزم عدم الانحلال، وكل شيء لزم من وجوده عدمه يكون محالاً.

وبيانه: إن الانحلال يستلزم عدم تنجز التكليف بشكل مطلق، بل تنجز التكليف المتعلق بالأقل - لفرض جريان البراءة عن الأكثر - إذن لا يجب الأقل بالوجوب الغيري، بل يجب فقط بناءً على الوجوب النفسي، فالنتيجة هي عدم الانحلال؛ لأن الذي تسبّب في الانحلال هو وجوب الأقل على كل حال.

ص: 256

يلزم من وجوده عدمه[1]، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال[2] المستلزم[3] لعدم لزوم الأقل مطلقاً[4] المستلزم[5] لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محال[6].

نعم[7]،

--------------------------------------

[1] أي: من وجود الانحلال يلزم عدم الانحلال، «لاستلزامه» أي: الانحلال.

[2] أي: نتيجة الانحلال هي عدم تنجز التكليف المتعلق بالأكثر - على فرض أن الواجب الواقعي هو الأكثر - .

[3] أي: عدم التكليف على كل حال يستلزم وجوب الأقل فقط في صورة كون التكليف هو الأقل، أما لو كان التكليف الواقعي هو الأكثر فلا يجب هذا الأكثر، فلا يترشح منه وجوب غيري للأقل.

[4] أي: على كل حال - سواء وجب الأقل أم الأكثر واقعاً - .

[5] أي: عدم لزوم الأقل على كل حال سبب لعدم الانحلال.

[6] لأنه يستلزم جمع النقيضين؛ إذ الوجود سبب للعدم، والعلة والمعلول يجتمعان زماناً وإن اختلفا رتبة، فالعلة التي هي الوجود اجتمعت مع المعلول الذي هو العدم؛ وذلك جمع بين النقيضين وهو محال.

ولا يخفى رجوع كلا الجوابين إلى أمر واحد، فهما في الحقيقة تقريران لدليل الخلف.

[7] أي: لو كان للأقل مصلحة ملزمة - ولو كان منفرداً - فإن الوجوب النفسي معلوم على كل حال حتى في صورة وجوب الأكثر.

لكن هذا المورد خارج البحث؛ وذلك لرجوعه إلى الأقل والأكثر الاستقلالي؛ إذ في الارتباطي توجد مصلحة واحدة متعلقة بالمجموع من حيث المجموع، بحيث لو نقص جزء لم تتحقق أية مصلحة أصلاً.

ص: 257

إنما ينحل[1] إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة[2]، فإن وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له، وإنما كان الترديد[3] لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين[4] أو مصلحة أقوى[5] من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام[6] إلاّ أنه[7] خارج عما هو محل النقض والإبرام في المقام، هذا.

مع أن الغرض[8]

--------------------------------------

[1] أي: العلم الإجمالي.

[2] أي: سواء وجب الأكثر أم لا، «وجوبه» وجوب الأقل، «معلوماً له» للمكلف.

[3] أي: الشك بين الأقل والأكثر منشؤه احتمال وجود مصلحة ثانية لو أتى بالأكثر، أو مصلحة أقوى بمعنى أن الأقل له درجة من المصلحة الملزمة، والأكثر له درجة أقوى من نفس المصلحة.

[4] مصلحة في الأقل، ومصلحة في الجزء الزائد.

[5] فلو أتى بالأقل حصل على المصلحة الملزمة، ولو أتى بالجزء الزائد اشتدت المصلحة، والأقوائية إنّما تكون بقوة الملاك.

[6] لأن الأقل ذو مصلحة ملزمة على كل حال فهو معلوم، والأكثر لا يعلم مصلحة فيه فتجري البراءة عنه.

[7] إلاّ أن مثل هذا المورد هو من الأقل والأكثر الاستقلالي.

الدليل الثاني
للزوم الاحتياط عقلاً في الارتباطيين

[8] هذا دليل ثانٍ على الاحتياط العقلي في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحاصله: إن تحصيل غرض المولى واجب - حتى لو لم يكن تكليف - كما مرّ في اشتراط قصد القربة في العبادات، حيث ذهب المصنف إلى وجوبها عقلاً؛ لتوقف

ص: 258

الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر[1]، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية[2]، وقد مر[3] اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها[4]،

--------------------------------------

غرض المولى سبحانه عليها. وحين دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فإن غرض المولى يتحقق قطعاً لو أتى بالأكثر، لكن لا يعلم تحقق غرضه لو أتى بالأقل، وحيث إن تحصيل غرضه واجب، فيجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

[1] لأن الأكثر جائز الإتيان به، بل حتى القائلون بالبراءة قالوا بحسن الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

نعم، لو احتمل حرمة الأكثر فإنه يدور الأمر بين المحذورين - حرمة أو وجوب الأكثر - فيخرج عن فرض البحث ويدخل في الفصل السابق.

[2] هذا اصطلاح منهم، ومعناه: أن العقل يستقل بلزوم إحراز المصالح الملزمة والاجتناب عن المفاسد الملزمة، وبما أن العقل لا يعرف أكثر المصالح والمفاسد، فإن أوامر الشارع ونواهيه هي لطف منه بالعباد، حيث تكشف لهم عن مواطن المصلحة والمفسدة.

فمعنى العبارة: «الواجبات الشرعية» حيث تكشف عن المصلحة الواقعية في متعلقها «ألطافاً» من الشارع للعباد - واللطف هنا بمعنى البِرّ - «في» أي: بالنسبة إلى «الواجبات العقلية».

[3] قد مرّ عكس هذا وهو اعتبار إطاعة الأمر في موافقة الغرض، فراجع بحث التعبدي والتوصلي، حيث ذهب المصنف إلى وجوب قصد القربة في العبادات عقلاً؛ لتوقف الغرض من الأمر عليها.

[4] أي: لابدّ من إحراز حصول الغرض في إحراز الطاعة.

ص: 259

كما لا يخفى.

ولا وجه للتفصي عنه[1] تارةً بعدم ابتناء[2] مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية[3]، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين

--------------------------------------

إشكالان
اشارة

[1] أي: عن هذا الدليل الثاني، حيث أشكل عليه الشيخ الأعظم(1)

بإشكالين:

الإشكال الأول: إن مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين قد بحث فيها كافة الطوائف، بما فيهم الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليين، وللمصلحة والمفسدة في متعلق التكليف، وكذا بحث فيها بعض العدلية الذين ذهبوا إلى عدم لزوم وجود مصلحة في المتعلق، بل اكتفوا بوجود المصلحة في نفس التكليف، فلابد من الاستدلال بدليل مقبول للأطراف، وهذا الدليل الثاني غير مقبول عندهم مبنىً.

الإشكال الثاني: إنه كما لا يعلم بتحقق الغرض لو أتى بالأقل كذلك لا يعلم تحققه لو أتى بالأكثر!! بيانه: إنا وإن نفينا لزوم قصد الوجه لعدم الدليل عليه، لكنّا نحتمل اشتراطه واقعاً في العبادات، وقصد الوجه يتوقف على العلم بالواجب، ومع عدم العلم بوجوب الأكثر فإن المكلف لا يمكنه الإتيان بالجزء المشكوك بقصد الوجه، وحينئذٍ لا يعلم تحقق الغرض لو أتى بالأكثر.

[2] أي: المسألة مما بَحَث فيها الكل، وسواء قلنا بالتبعية أم لم نقل بها فإن البعض ذهب إلى البراءة والبعض إلى الاشتغال، من غير ارتباط مسألة الارتباطيين بمسألة التبعيّة.

[3] والحال أن هذا الدليل متوقف على مبناهم، من أن الأوامر والنواهي إنّما هي بغرض وصول المكلف إلى المصلحة في المتعلق، أو الاجتناب عن المفسدة فيه، «وجريانها» أي: جريان هذه المسألة.

ص: 260


1- فرائد الأصول 2: 319 - 320.

لذلك[1]، أو بعض العدلية(1)

المكتفين بكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به[2].

وأخرى[3] بأن حصول المصلحة واللطف[4] في العبادات لا يكاد يكون إلاّ بإتيانها على وجه الامتثال[5]، وحينئذٍ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلاً ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال[6]، ومعه[7]

--------------------------------------

[1] «لذلك» لكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية.

[2] أي: لا يلزم وجود مصلحة في المتعلق، بل يكفي وجود مصلحة في نفس إنشاء الحكم، نظير الأوامر الامتحانية التي لا مصلحة في المتعلق - كذبح إسماعيل - وإنما المصلحة في نفس إصدار الأمر، حيث الغرض هو الامتحان فقط.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[4] لأن لطف الشارع كان ببيان وجود المصلحة عبر الأمر، و«اللطف» عطف تفسيري.

[5] أي: قصد أمر المولى.

[6] «مجال» اسم كان في قوله: (وحينئذٍ كان لاحتمال...) ومقصوده: إن قصد الوجه محتمل، فلا يمكن القطع بتحصيل الغرض حتى ولو أتى بالأكثر.

إن قلت: الشيخ ينفي لزوم قصد الوجه.

قلت: نفي لزومه إنّما هو لعدم قيام الدليل عليه، ولكن يحتمل اشتراطه واقعاً، وحيث إن كلامنا الآن حول الدليل العقلي للاحتياط أو البراءة، فإن مجرد احتمال دخل قصد الوجه في الغرض يكون سبباً لعدم القطع بتحقق ذلك الغرض حتى لو أتى بالأكثر؛ لأنه لا يتمكن من الإتيان بالجزء المشكوك بقصد الوجه؛ لعدم علمه بكونه مأموراً به.

[7] أي: مع هذا الاحتمال - باشتراط قصد الوجه - .

ص: 261


1- الفصول الغروية: 337.

لا يكاد يقطع[1] بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الأمر، فلم يبق[2] إلاّ التخلص عن تبعة مخالفته[3] بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلاً[4] وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً[5]، لتنجزه بالعلم به إجمالاً[6]. وأما الزائد عليه[7] - لو كان - فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة[8] عليه بلا بيان.

--------------------------------------

[1] أي: لا يمكن القطع بحصول الغرض سواء أتى بالأقل أم أتى بالأكثر، أما الأقل فلاحتمال وجوب الأكثر، وأما الأكثر فلاحتمال اشتراط قصد الوجه في الجزء المشكوك.

[2] أي: حيث لم يمكن العلم بتحصيل الغرض فنرجع إلى الأصل العملي، وهو يقتضي الإتيان بما علم أنه جزء - وهو الأقل - وعدم لزوم الإتيان بالأكثر.

[3] أي: مخالفة الأمر حيث يتبعه العقاب والذم، «بإتيان ما» أي: الأجزاء التي، «علم تعلقه» أي: التكليف، «به» الضمير يرجع إلى الموصول - أي: ما - .

[4] أي: الإتيان بما علم وجوبه من الأجزاء واجب بحكم العقل.

[5] أي: حتى وإن كان الواقع هو وجوب الأكثر، فلا تكون للأقل مصلحة أصلاً.

[6] أي: إنّما وجب الإتيان بالأقل المعلوم لأجل تنجز هذا الأقل، «به» بسبب العلم الإجمالي.

[7] «عليه» على ما علم، «لو كان» أي: لو كان واجباً واقعاً، «مخالفته» أي: مخالفة الأمر، «من جهته» من جهة الزائد، أي: إن مخالفة التكليف الواقعي من جهة عدم الإتيان بالزائد لا عقوبة فيه. نعم، مخالفة الواقع من جهة أخرى - كترك الامتثال رأساً - فيه عقوبة.

[8] وهذا هو جوهر دليل البراءة العقلية في الارتباطيين، أي: الجزء الزائد لم يصل حوله بيان من الشارع إلى المكلف، فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان،

ص: 262

وذلك[1] ضرورة أن حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية، بل[2] من ذهب إلى ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته على هذا المذهب أيضاً هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافاً، فافهم[3].

--------------------------------------

«عليه» أي: على مخالفة الجزء الزائد.

الجواب عن الإشكال الأول

[1] أي: عدم جدوى التفصّي لأجل عدم ورود الإشكالين.

أما الإشكال الأول: فلأنا نتكلم ونستدل على مبنانا، ولا يهمنا كلام الأشعري ولا بعض العدلية، وفي الاستدلالات كما يصح الاستدلال البنائي كذلك يصح الاستدلال حسب المبنى، فمن قال بما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد لابدّ من ذهابه إلى الاحتياط العقلي - كما شرحناه - .

[2] أي: بل حكم العقل بالبراءة لا يجدي من ذهب إلى ما عليه غير المشهور من العدلية؛ وذلك لأن هذا البعض كما يحتمل وجود المصلحة في نفس إنشاء التكليف، كذلك يحتمل وجود المصلحة في المتعلق، فهو لا ينفي المصلحة في المتعلق، بل يحتملها، وحينئذٍ فإن أتى بالأكثر يقطع بحصول غرض المولى - سواء تعلق الغرض بالتكليف أم بالمتعلق - وإن أتى بالأقل لا يقطع بحصول غرضه، فيحكم العقل بالاحتياط.

[3] لعله إشارة إلى أن الغرض لو كان في نفس التكليف فهو غير مقدور للمكلّف؛ إذ هو من أفعال المولى، أما إذا كان الغرض في المتعلق فهو مقدور للمكلّف، ومع عدم العلم بوجود غرض في المتعلق - بحيث يطلب من العبد إيجاده - يكون المورد مجرى لأصالة البراءة. وبعبارة أخرى: لا يعلم المكلف بوجود غرض في فعله حتى يجب عليه تحصيله.

ص: 263

وحصول اللطف[1] والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقف على الإتيان بها على وجه الامتثال[2]، إلاّ أنه[3] لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها، كيف[4]! ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا[5] كما في المتباينين، ولا يكاد يمكن[6] مع اعتباره. هذا.

مع وضوح[7]

--------------------------------------

خمسة أجوبة عن الإشكال الثاني

[1] جواب عن التفصي الثاني للشيخ الأعظم، وقد أجاب المصنف عنه بخمسة أجوبة: الجواب الأول: إنه لا إشكال في إمكان الاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين، وحتى القائلون بالبراءة لا ينكرون حسن الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

ولكن احتمال اعتبار قصد الوجه في الأجزاء يمنع عن إمكان الاحتياط، حتى لو أتى بالأكثر؛ وذلك لعدم التمكن من قصد الوجه في الجزء المشكوك - لعدم العلم بوجود أمر فيه - وحيث اتفقوا على إمكان الاحتياط انكشف عدم لزوم قصد الوجه في الأجزاء المشكوكة.

[2] أي: بقصد القربة - التي تكون بقصد الأمر الصادر عن الشارع - فإن العبادة من غير قصد القربة باطلة، ولا مصلحة فيها، «الإتيان بها» بالعبادة.

[3] أي: لا يحتمل أصلاً لزوم قصد الوجه في أجزاء العبادة، «معرفة الأجزاء» أي: معرفة أنها جزء من الواجب، «إتيانها» الأجزاء، «على وجهها» أي: بقصد وجه الأجزاء، بمعنى قصد الأمر الوارد عليها.

[4] أي: كيف يحتمل اعتبار معرفة الأجزاء والإتيان بها بقصد الوجه.

[5] في الأقل والأكثر الارتباطيين.

[6] أي: لا يكاد يمكن الاحتياط، «مع اعتباره» مع اعتبار قصد الوجه؛ وذلك لعدم العلم بأنه واجب، فلا يتمكن قصد أمره أصلاً.

[7] هذا هو الجواب الثاني، وحاصله: إنّه لا يراد بقصد الوجه - في كلام من قال

ص: 264

بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك[1]، والمراد ب«الوجه» في كلام من صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به[2] هو وجه نفسه[3] من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه[4] من وجوبها الغيري[5] أو وجوبها العرضي[6]. وإتيان[7]

--------------------------------------

به - قصد الوجه في كل جزء، بل المراد الإتيان بالكل لوجوبه النفسي، فلا إشكال في عدم وجوب قصد الوجه في الأجزاء، وحينئذٍ يمكن الإتيان بالأكثر مع قصد الوجه حتى لو كانت بعض الأجزاء مشكوكة.

[1] «كذلك» أي: في كل واحد من الأجزاء.

[2] أي: اقتران الواجب بالوجه.

[3] أي: وجه نفس الواجب - ككل - «من وجوبه النفسي» بيان لوجه الواجب، فالمراد من وجه الواجب هو قصد الواجب النفسي في العبادة، لا وجوب قصد الواجب الغيري في الجزء، بناءً على أن الأجزاء مقدمة للكل، أو قصد الواجب الضمني في الجزء بناءً على أن وجوب الكل هو نفس وجوب الأجزاء.

[4] أي: لا قصد الوجوب في أجزاء الواجب، وقوله: «من وجوبها» بيان لكيفية قصد الوجه في الأجزاء.

[5] بناءً على ما ذهب إليه البعض من أن الأجزاء مقدمة للكل، فتكون الأجزاء واجبة؛ لأنها مقدمة الواجب، ومقدمة الواجب وجوبها غيري لا نفسي.

[6] بناءً على المبنى الصحيح من أن الوجوب النفسي في الكل ينبسط على الأجزاء، فالأجزاء واجبة بنفس وجوب الكل، لا بوجوب آخر غيره.

وإنّما سماه (العرضي) لأن المقصود أولاً بالذات هو الكل، فالأجزاء تكون مقصودة بالعَرَض، حيث إن الكل يتشكل منها.

[7] أي: بعد أن أثبتنا عدم لزوم قصد الوجه في الأجزاء، نقول: إنه يمكن الإتيان بالعبادة بقصد الوجه حتى لو شك في بعض الأجزاء، وبذلك يتحقق

ص: 265

الواجب مقترناً بوجهه غايةً ووصفاً[1] بإتيان الأكثر[2] بمكان من الإمكان، لانطباق الواجب عليه[3] ولو كان هو الأقل، فيتأتّى من المكلف معه[4] قصد الوجه.

واحتمال[5] اشتماله[6] على ما ليس من أجزائه ليس بضائر[7] إذا قصد وجوب

--------------------------------------

الغرض، فمع الإتيان بالأكثر بقصد الوجوب يقطع المكلف بتحصيل غرض المولى، حتى وإن كان الواجب هو الأقل. فلا يصح ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من عدم إمكان القطع بتحقق الغرض على كل حال.

[1] «غاية» كأن يقصد العبادة لوجوبها، و«وصفاً» كأن يقصد العبادة الواجبة، فلا فرق في إمكان قصد الوجه بين قصد الوجوب بنحو الغاية أو الوصف.

[2] أي: يأتي بالواجب عبر الإتيان بالأكثر، فيقطع بأنه أدّى الواجب، وفرّغ ذمته منه.

[3] على الأكثر «ولو كان هو» الواجب، أي: حتى لو كان الواجب هو الأقل فإن الأكثر ينطبق عليه الواجب؛ وذلك لاشتمال الأكثر على الأقل.

[4] أي: مع الإتيان بالأكثر.

[5] بيان إشكال، وحاصله: إنه كيف يمكن قصد الوجه في الأكثر مع أنه يحتمل أن يكون الأقل هو الواجب، فيكون قصد الوجه في فعل يتضمن ما ليس بواجب؟ فهل هذا ممكن؟

[6] «اشتماله» اشتمال الأكثر، «أجزائه» أجزاء الواجب.

[7] جواب عن الإشكال، وحاصله: إنه لا منافاة بين وجوب الكل إجمالاً مع عدم وجوب بعض الأجزاء؛ وذلك لأن الجزء قد يكون جزءاً للماهية، وقد يكون جزءاً للفرد الخارجي، مثلاً: (الإنسان هو حيوان ناطق)، فالحيوانية والناطقية هما أجزاء الماهية بحيث لا يوجد إنسان مع عدم تحقق أحدهما، أما الأعضاء كاليد والرجل فهي أجزاء الفرد - أي: الوجود الخارجي - فهي أجزاء للإنسان لكنها ليست أجزاء ماهيته، فلا ينتفي الإنسان بقطع اليدين والرجلين أو زيادة ثلاثة أرجل أو

ص: 266

المأتي على إجماله[1]، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه[2]، لا سيما[3] إذا دار الزائد بين كونه جزءاً لماهيته[4] وجزءاً لفرده حيث ينطبق الواجب على المأتي حينئذٍ بتمامه وكماله[5]، لأن الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته[6].

--------------------------------------

أيدي - مثلاً - وفي ما نحن فيه الصلاة لها أجزاء ماهية تنتفي الصلاة بانتفائها كالأركان، ولها أجزاء الأفراد، أي: الفرد الخارجي الذي تتحقق به الماهية، فلو صلى صلاة تحتوي على قنوت مثلاً - مع أن القنوت جزء مستحب - فإن هذه الصلاة حقّقت الماهية، مع أنها تضمنت أجزاء غير واجبة - هي مشخصات فردية للصلاة الخارجية - .

[1] أي: بلا تعيين أن الواجب هو الأقل أو الأكثر، وقوله: «بلا تمييز...» شرح لقوله: «على إجماله».

[2] أي: أجزاء المأتي به.

[3] إنّما قال «لا سيما» لأن الزائد المشكوك قد يدور أمره بين ثلاثة احتمالات: أن يكون جزء واجب، أو جزء مستحب، أو ليس بجزء وإنما وُجد اتفاقاً، مثلاً: (الركوع) جزء واجب، و(القنوت) جزء مستحب، و(جلسة الاستراحة) واجب مستقل - فرضاً - . فالصلاة مع القنوت ينطبق عليها الصلاة الواجبة؛ لأن القنوت جزء من فرد الصلاة الخارجي، وإن لم يكن جزءاً من ماهية الصلاة، وأما الصلاة مع جلسة الاستراحة، فإنّ الفرد مشتمل على الواجب قطعاً، وإن لم تكن الجلسة من أجزائه.

[4] «لماهيته» لماهية الواجب، «لفرده» لفرد الواجب.

[5] أي: هذا الفرد الخارجي المتضمن للقنوت هو الواجب؛ لأن القنوت جزء للفرد الخارجي.

[6] أي: مع ما له من المشخصات، فالإنسان يصدق على زيد بما هو فرد خارجي متشكل من أعضاء وجوارح، فلا يصح أن يقال: إن الإنسان لا ينطبق على أعضاء زيد مثلاً.

ص: 267

نعم[1]، لو دار[2] بين كونه جزءاً أو مقارناً، لما كان[3] منطبقاً عليه بتمامه لو لم يكن جزءاً. لكنه[4] غير ضائر، لانطباقه عليه أيضاً في ما لم يكن ذاك الزائد جزءاً، غايته[5] لا بتمامه بل بسائر أجزائه. هذا.

مضافاً[6]

--------------------------------------

[1] أي: إذا دار الزائد المشكوك بين كونه جزء الواجب أو ليس بجزء أصلاً - لا جزء الماهية ولا جزء الفرد - فحينئذٍ لا يعلم انطباق الواجب على كل الفرد الخارجي، ولكن يُعلم بأن الواجب في ضمن هذا الفرد، كما لو شككنا في شيء أنه من أعضاء زيد أو هو ملاصق له من غير أن يكون عضوه - كما لو لم نعلم بأن يده حقيقيّة أم اصطناعيّة - فإن هذا الوجود الخارجي يتضمن الإنسان حتى وإن لم نعلم بأن اليد جزء للفرد أم شيء أجنبي.

[2] أي: لو دار الزائد بين كون ذلك الزائد، «جزءاً» للماهية أو للفرد، «أو مقارناً» أي: كان الواجب ظرفاً له من غير ارتباطه بالواجب.

[3] ما نافيه، أي: لما كان الواجب منطبقاً على كل هذا الفرد الخارجي في صورة عدم وجوب الزائد، «لو لم يكن» الزائد.

[4] «لكنه» أي: عدم الانطباق بتمامه وكماله، «غير ضائر» بقصد الوجه، «لانطباقه» الواجب، «عليه» أي: على هذا الفرد الخارجي، «أيضاً» أي: كما في حال كون الزائد جزءاً.

[5] أي: غاية الأمر عدم الانطباق على الكل، لكن ينطبق على سائر الأجزاء التي هي جزء الماهية أو الفرد.

[6] هذا هو الجواب الثالث عن التفصي الثاني للشيخ الأعظم، وحاصله: إن قصد الوجه - سواء قصد وجه الواجب كله أم قصد وجه الأجزاء - مما نقطع بعدم اعتباره، فلا نحتمل دخله في الغرض أصلاً؛ وذلك لأنه لو كان واجباً لتمَّ بيانه في

ص: 268

إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس[1] مما يقطع بخلافه.

مع[2] أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما[3] لابد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات.

مع[4]

--------------------------------------

الروايات وبشكل كبير - لغفلة غالب الناس عنه - فعدم وجود أي عين وأثر له في الروايات دليل قاطع على عدم اعتباره أصلاً.

[1] لا في الواجب ولا في أجزائه.

[2] هذا الجواب الرابع، وحاصله: إن كلامنا في الأقل والأكثر الارتباطيين عام في التعبديات والتوصليات، والتفصي الثاني للشيخ خاص بالعبادات؛ لأن قصد الوجه - على القول به - خاص بالعبادات.

[3] أي: بواجب لابد أن يؤتى به، «من العبادات» بيان ل- «ما لابد أن...».

[4] هذا الجواب الخامس، وحاصله: إن المكلف إذا قطع بعدم تحقق غرض المولى - حتى وإن امتثل - فإنه يسقط عنه التكليف قطعاً، كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بماء وكان غرضه شربه للارتواء، ثم علم العبد بأن غيره قد ناول المولى ماءً وشربه فارتوى، فإنه لا يجب على العبد امتثال التكليف؛ وذلك لسقوطه بتحقق غرض المولى.

وهنا لا يمكن تحقق غرض المولى أصلاً؛ لأنه مع وجوب الأكثر واقعاً لا يكون الأقل محققاً للغرض - لفرض وجوب الأكثر - كما لا يكون الأكثر محققاً للغرض - لفرض عدم إمكان قصد الوجه - لأن قصد الوجه يتوقف على العلم بالأمر، مع أنه لا علم بالأمر بالزائد - وحينئذٍ يسقط التكليف من رأس، فلا يصح قول الشيخ الأعظم(1):

فلم يبق إلاّ التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به - يعنى الأقل - .

ص: 269


1- فرائد الأصول 2: 321.

أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها[1] على وجه ينافيه التردد والاحتمال[2] فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً ولو بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض[3]، وللزم[4] الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله[5] ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الأقل[6] بسبب بقاء غرضه، فافهم[7].

--------------------------------------

ولكن هذا الجواب محل تأمل كما سيأتي توضيحه في قول المصنف: (فافهم).

[1] أي: في أجزاء العبادات.

[2] أي: لا يمكن قصد الوجه مع عدم العلم بالوجوب، «والاحتمال» عطف تفسيري على قوله: (التردد)، «فلا وجه معه» أي: مع التردد والاحتمال.

[3] أي: لو لم يتمكن من تحقيق الغرض.

[4] أي: ولو أمكن تحصيل الغرض بأن قيل بكفاية قصد الوجه في الواجب من غير لزوم قصد الوجه في كل جزء، أو قيل: إنه يتمكن من القصد الإجمالي بأن يأتي بالجزء المشكوك بقصد الرجاء - نظير ما مرّ من الاحتياط في العبادات المشكوكة من أصلها وأنه يمكن قصد القربة فيها إجمالاً رجاءً - فحينئذٍ مع إمكان تحصيل الغرض فلابد من الإتيان بالأكثر؛ لأنه مع الأكثر يقطع بتحقيق الغرض، ومع إتيان الأقل لا يقطع به.

[5] أي: مع حصول الغرض.

[6] أي: احتمال بقاء التكليف في ذمته مع الإتيان بالأقل؛ وذلك لاحتمال كون التكليف بالأكثر واقعاً لا بالأقل، فمع الإتيان بالأقل لم يتحقق غرض المولى، فيبقى التكليف بحاله.

[7] لعله إشارة إلى إمكان تحقق الغرض؛ وذلك لأن الشقوق ثلاثة لا اثنان:

1- كون الأكثر واجباً واقعاً، فلا يتحقق الغرض بالأقل.

ص: 270

هذا بحسب حكم العقل.

وأما النقل[1]:

--------------------------------------

2- كون الأكثر واجباً واقعاً، مع وجوب قصد الوجه، فلا يتحقق الغرض بالأكثر.

3- كون الأقل واجباً واقعاً، فإن الأقل يحقق الغرض.

ومع وجود هذا الاحتمال الثالث لا يصح القول بأنه يقطع بعدم إمكان تحصيل الغرض بناءً على القول بلزوم قصد الوجه.

البراءة شرعاً في الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

[1] لا يخفى أنه مع استقلال العقل بشيء لا يعقل مخالفة النقل له؛ لأن العقل حجة باطنة، فلا يمكن أن يتعارض مع الحجة الظاهرة، ومن هنا التزم المصنف في الهامش بعدم فعلية حكم العقل، وبعبارة أخرى: إن حكم العقل تقديري، فلا يتنافى مع حكم الشرع الفعلي بالبراءة.

قال في الهامش(1): (لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط - وهو ما علم إجمالاً بالتكليف الفعلي - ضرورة أنه) للشأن (ينافيه) أي: ينافي حكم العقل (رفع الجزئية المجهولة) بحكم الشرع (وإنّما يكون مورده) مورد حكم الشرع (ما إذا لم يُعلم به) بحكم العقل (كذلك) فعلياً، أي: إذا لم يكن حكم العقل فعلياً فيمكن حكم الشرع بالبراءة. (وبالجملة الشك في الجزئية والشرطية وإن كان جامعاً بين الموردين) أي: الفعلية وعدمها (إلاّ أن مورد حكم العقل القطع بالفعليّة، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالإيجاب) وهو ما لم يكن التكليف فعلياً، بل في مرحلة الإنشاء، (فافهم) ولعله إشارة إلى أن الأوامر ظاهرة في الفعلية دائماً، ولازم ذلك عدم جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطيين أصلاً.

ص: 271


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 250.

فالظاهر أن عموم[1] مثل حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شك في جزئيته[2]؛ فبمثله[3] يرتفع الإجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في الأول[4].

لا يقال[5]: إن جزئية السورة المجهولة(1)

- مثلاً - ليست بمجعولة[6]، وليس لها

--------------------------------------

[1] فهو كما يشمل رفع أصل التكليف كذلك يشمل رفع الجزئية ونحوها، وبعبارة أخرى: كما يشمل الأحكام التكليفية كذلك يشمل الأمور الوضعيّة.

[2] لا يخفى أنه يمكن رفع وجوب الجزء بحديث الرفع، حيث نشك في وجوب هذا الجزء فنجري فيه أصالة البراءة، لكن لمّا طال النقض والإبرام في جريان البراءة لنفي وجوب الجزء لذلك رجح المصنف إجراء البراءة في نفي الجزئية.

[3] أي: بمثل حديث الرفع، والمراد فبحديث الرفع وأمثاله، «والتردد» عطف تفسيري لقوله: (الإجمال)، «عما» أي: عن واجب، «أمره» الضمير للموصول.

[4] الضمير يرجع إلى (ما تردد أمره...) أي: يعيّن حديث الرفع وأمثاله التكليف في الأقل، وهذا التعيين حكم ظاهري.

إشكال وجوابه

[5] حاصل الإشكال: إ ن الرفع إنّما يُعقل في مورد أمكن الوضع فيه، ولا معنى للرفع في ما لا يمكن وضعه، وقد مرّ تفصيل ذلك في أول بحث البراءة في قول المصنف: (لا يقال المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية... الخ)، فلابد من كون الشيء مجعولاً شرعاً كالتكليف، أو كونه ذا أثر شرعي حتى يكون رفعه باعتبار رفع أثره.

والجزئية أمر انتزاعي من واقع خارجي - كزوجية الأربعة - فليست بوضع الشارع بما هو شارع، كما أنه ليس للجزئية أثر شرعي حتى يمكن رفعها ووضعها باعتبار ذلك الأثر.

[6] شرعاً حتى يمكن رفعها بحديث الرفع وأمثاله.

ص: 272


1- في نسخة: «المنسية».

أثر مجعول[1]، والمرفوع بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره[2]، ووجوب الإعادة[3] إنما هو[4] أثر بقاء الأمر الأول[5] بعد العلم[6]، مع أنه[7] عقلي، وليس إلاّ من باب وجوب الإطاعة عقلاً.

--------------------------------------

[1] مثلاً: حياة زيد ليست مجعولة شرعاً، بل هي أمر تكويني، ولكن بما أن للحياة آثاراً، كوجوب نفقة زوجته وحفظ أمواله وعدم تقسيمها بين الورثة، فلذا تجري في حياة زيد الأصول الشرعية، مثل: جعل حياته - اعتباراً - بالاستصحاب مثلاً.

[2] أي: المجعول بأثره.

[3] الغرض هو دفع توهم، أن الجزئية لها أثر شرعي، وهو وجوب الإعادة، فمن أتى بالصلاة بدون السورة يجب عليه إعادتها لو كانت جزءاً، ولا تجب الإعادة إن لم تكن جزءاً. وحاصل الدفع: إن وجوب الإعادة:

أولاً: ليس أثراً للجزئية، بل هو أثر بقاء التكليف، فحينما علم بأن السورة كانت جزءاً وأنه لم يأت بها وجب عليه الإعادة؛ لأن الأمر الظاهري لا يجزي عن الواقع بعد انكشافه.

وثانياً: وجوب الاعادة ليس أثراً مجعولاً شرعياً؛ لأنه مع عدم أداء التكليف يحكم العقل بلزوم الإعادة لكي تتحقق إطاعة المولى.

[4] إشارة إلى الدفع الأول، «هو» وجوب الإعادة.

[5] مقصوده الأمر بالتكليف، وإنّما عبّر «بالأول» لأنه مع خروج الوقت يجب القضاء بأمر ثانٍ.

[6] أي: بعد العلم بالتكليف الواقعي. نعم، ما دام لم يعلم فوظيفته العمل بالحكم الظاهري - وهو الأقل - .

[7] إشارة إلى الدفع الثاني، «أنه» أن وجوب الإعادة؛ إذ هذا الحكم لأجل إطاعة أمر المولى وامتثاله، وطرق الطاعة عقلية - كما مرّ مراراً - .

ص: 273

لأنه يقال[1]: إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلاّ أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها[2]، وهذا كافٍ في صحة رفعها.

لا يقال[3]: إنما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه[4]، وهو الأمر الأول، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه[5].

لأنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] حاصله: إن الجعل الشرعي قسمان:

1- جعل مباشرة، كإيجاب الصلاة - مثلاً - .

2- جعل بالواسطة، أي: جعل منشأ الانتزاع.

وما نحن فيه (الجزئية) وإن لم تكن مجعولة بنفسها - لأنها أمر انتزاعي - إلاّ أن منشأ الانتزاع وهو وجوب هذا الجزء كان أمراً شرعياً، فحينما يقول الشارع: السورة واجبة في الصلاة ننتزع (الجزئية) من أمره.

[2] وهو إيجاب الشارع لها.

إشكال آخر وجوابه

[3] إشكال آخر على إجراء البراءة عن جزئية المشكوك الدائر أمره بين الأقل والأكثر، وحاصله: إن منشأ انتزاع جزئية السورة - مثلاً - هو الأمر بالصلاة، وارتفاع أمر الصلاة يعنى عدم وجوبها لا في ضمن الأكثر ولا في ضمن الأقل، وهذا لا يلتزم به أحد إطلاقاً.

[4] مثلاً: لو أردنا رفع الزوجية فلابد من رفع الأربعة - مثلاً - فبانتفاء الأربعة تنتفي الزوجية، «وهو» أي: منشأ انتزاع جزئية السورة في المثال، «الأمر الأول» أي: الأمر بأصل الصلاة.

[5] أي: بالخالي عن الأمر الانتزاعي، وفي المثال: لا دليل على الأمر بالصلاة من غير سورة!!

[6] حاصل الجواب: إن في قولنا: (الصلاة الواجبة) شيئين:

ص: 274

نعم[1]، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلاّ أن نسبة حديث الرفع[2] - الناظر[3] إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء[4]،

--------------------------------------

1- الصلاة - وهي متعلق الوجوب وموضوعه - .

2- الوجوب - وهو الحكم - .

لا شك أن الوجوب أمر بسيط وحداني؛ لأن الأحكام بسيطة غير مركبة، وكذلك لا شك في كون المتعلق مركباً، وهذا التركيب إنما هو بجعل من الشارع، ومنشأ انتزاع الجزئية هو جعل الشارع السورة - مثلاً - من مكونات الصلاة المركبة، فبحديث الرفع وأمثاله يرفع كون السورة من المكونات، وبذلك ترتفع الجزئية.

فتحصل: أن كل مكوّن من مكونات الصلاة يكون جزءاً إلاّ في صورة الجهل، فلا يكون جزءاً ظاهراً.

[1] أي: صحيح أن الأمر الانتزاعي يرتفع بارتفاع منشأ انتزاعه، «ارتفاعه» ارتفاع الأمر الانتزاعي - كجزئية السورة مثلاً - .

[2] المقصود أن حديث الرفع لا يرفع وجوب الصلاة، فإنها معلومة بلا إشكال، فلا تصل النوبة إلى البراءة، وإنما حديث الرفع ناظر إلى الأدلة المُبيّنة لأجزاء الصلاة - أي: متعلق الوجوب لا نفس الوجوب - .

[3] أي: لحديث الرفع حكومة على تلك الأدلة؛ لأن الحكومة هي كون الدليل الثاني ناظراً إلى الدليل الأول فيوسعه أو يضيقه، كقوله: (لا شك لكثير الشك) الناظر إلى أدلة الشكيّات.

وإنّما ذكر المصنف «الناظر» لأن بعضهم عبّر (بالورود) - وهو ما إذا كان الدليل الثاني رافعاً لموضوع الدليل الأول - وحيث إن ما نحن فيه من الحكومة لا الورود نبّه المصنف على ذلك.

[4] أي: الجمع بين دليل الأجزاء ودليل الرفع يقتضي الحكم بالجزئية إلاّ في مورد الجهل، فلا يحكم بحسب الظاهر فيها بالجزئية.

ص: 275

وهو معها[1] يكون دالة على جزئيتها إلاّ مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيداً.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول[2]: إنه ظهر مما مر[3] حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه[4]، وبين الخاص - كالإنسان - وعامه - كالحيوان[5] -،

--------------------------------------

[1] عطف تفسيري لبيان نسبة الاستثناء، أي: «هو» حديث الرفع، «معها» مع الأدلة الدالة على بيان الأجزاء، «جزئيتها» أي: جزئية الأجزاء، «بها» بالجزئية.

تنبيهات

التنبيه الأول: الشك في القيد

[2] يبحث في هذا التنبيه حول الشك في القيد، وذلك في موردين:

1- الشك في الشرط، كما لو شككنا في اشتراط صلاة الميت بالطهارة، وهذا مرجعه إلى الشك في التكليف الزائد - كما سيأتي توضيحه - .

2- الشك في التخصيص، كما لو شككنا بأن الواجب الإتيان بالحيوان مطلقاً أم الفرس، ومرجع هذا إلى المتباينين - كما سيتبيّن - .

وحاصل ما يذهب إليه المصنف هو: جريان الاشتغال العقلي في كلا الموردين، وأما البراءة الشرعية فإنها في الشرط ولا تجري في الخاص.

[3] في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وأن العقل يحكم بالاحتياط؛ للعلم الإجمالي؛ ولحفظ غرض المولى.

[4] وهو ما كان القيد خارجاً، والتقيّد داخلاً، مثلاً: الوضوء شرط للصلاة وهو خارج عن ماهية الصلاة، ولكن التقيّد به جزء من الصلاة، فاللازم كون الصلاة متصفة بكونها عن وضوء، «مطلقه» أي: مطلق ذلك المشروط.

[5] وهو ما كان القيد داخلاً في ماهية الشيء، فالناطقية فصل للجنس الذي هو العام، «عامه» أي: جنس ذلك الخاص.

ص: 276

وأنه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً[1]، بل كان الأمر فيهما[2] أظهر، فإن[3] الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر[4] لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة أن الأجزاء التحليلية[5] لا يكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً[6] - في ضمن الصلاة

--------------------------------------

[1] لاشتغال الذمة بالتكليف، مما يستدعي البراءة اليقينية - للعلم الإجمالي ولتحقيق غرض المولى - .

[2] أي: في هذين الموردين وهما: (المشروط ومطلقه) و(الخاص وعامه).

[3] في الأقل والأكثر الارتباطيين ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالأقل - إما بوجوبه النفسي أو الغيري - وشك بدوي في الأكثر.

لكن هذا الكلام لا يجري هنا؛ وذلك لأن في الأقل والأكثر الارتباطيين توجد أجزاء خارجية متعددة وجوداً كالركوع والسجود، فيمكن أن يقال: إن هذه الأجزاء مقدمة للصلاة، أو يقال: إنّ لهذه الأجزاء وجوباً ضمنياً.

لكن الصلاة المشروطة ليست مغايرة في الوجود للصلاة المطلقة، بل الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فالصلاة المشروطة بالطهارة هي عين الصلاة، ولا يكون الشيء مقدمة لنفسه، وأما الصلاة غير المشروطة بالطهارة فهي تغاير الصلاة المشروطة - لأنهما فردان من الكلي - ولا يكون الشيء مقدمة لضده.

وكذا في العام والخاص، فصلاة الآيات لا تغاير في الوجود الصلاة المطلقة، بل هي نفسها، وهي تغاير صلاة العيدين فلا تكون مقدمة لها.

[4] أي: انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم.

[5] أي: حسب التحليل العقلي إلى جنس وفصل، لا حسب الوجود الخارجي.

[6] حاصله: إن الصلاة مع طهارة ليست مقدمة للصلاة، بل هي نفسها،

ص: 277


1- فرائد الأصول 2: 356 - 357.

المشروطة أو الخاصة[1] موجودة بعين وجودها[2] وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها[3]، كما لا يخفى.

نعم[4]، لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره، دون الدوران(1)

بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك[5] خصوصية الخاص، فإنها[6] إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص، فيكون الدوران[7] بينه وغيره من قبيل الدوران بين

--------------------------------------

والصلاة بلا طهارة لا تكون مقدمة للصلاة؛ مع طهارة لأنهما ضدان.

[1] «المشروطة» بالطهارة مثلاً، وهذا مثال المشروط بشيء ومطلقه، و«الخاصة» كصلاة الآيات مثلاً، وهذا مثال الخاص والعام.

[2] فلا يكون لها وجوب غيري مقدمة للكل؛ لأن الشيء لا يكون مقدمة لنفسه.

[3] فلا تكون مقدمة لها؛ لأن الشيء لا يكون مقدمة لضده.

[4] ما سبق كان في الأصل العقلي، وأما البراءة الشرعية فهي تجري في الشرط، فحين الشك في أن المأمور به هو المطلق أو المشروط تجري أدلة البراءة فيرتفع الشرط؛ وذلك لأن الاشتراط ليس أمراً تكوينياً، بل هو اعتبار شرعي، فللشارع وضعه ورفعه، وحين الشك يجري حديث الرفع، فتجري البراءة من الشرط. ولا تجري البراءة الشرعية في الخاص؛ لأن خصوصية الخاص أمر تكويني، وحيث إن وضع الخصوصية ليس من الشارع فلا يكون رفعها منه أيضاً، لما مرّ من أن الرفع إنما يكون حين إمكان الوضع.

[5] أي: لا يدل حديث الرفع على رفع خصوصية الخاص.

[6] أي: فإن خصوصية الخاص أمر تكويني ينتزع من الخاص.

[7] أي: لو شك بأن المأمور به هو الفرس أو الحيوان المطلق، فأتى بالعام في

ص: 278


1- في نسخة: «دون دوران الأمر بين».

المتباينين، فتأمل جيداً[1].

الثاني[2]: إنه لا يخفى أن الأصل في ما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه[3] عقلاً ونقلاً ما ذكر[4] في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية؛ فلو لا[5]

--------------------------------------

ضمن فرد آخر كالبعير، فإن البعير يباين الفرس، فيكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين حيث يلزم الاحتياط.

[1] حتى تعرف الإشكال في كلام المصنف؛ لأن هذا المورد ليس من قبيل الدوران بين المتباينين، بل هو من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير؛ لأن الخاص متيقن، وأما العام في ضمن فرد آخر فهو مشكوك، فدقق حتى يتضح لك الأمر.

التنبيه الثاني: الشك في الجزئية والشرطية حال النسيان
اشارة

[2] ما مرّ كان حول الشك في الجزئية أو الشرطية بشكل مطلق - في كل الحالات - وقد اختار المصنف الاشتغال عقلاً والبراءة شرعاً.

وما يذكر في هذا التنبيه: هو الشك في الجزئية أو الشرطية في خصوص حال النسيان، بمعنى أنه نعلم بأن الحمد - مثلاً - جزء من الصلاة، والطهارة من الخبث شرط فيها في حال الذكر، فلو أخل بهما عمداً بطلت صلاته، ولكن هل هما شرط أو جزء في حال النسيان؟ فإن قلنا بالجزئية والشرطية في حال النسيان أيضاً فمقتضى القاعدة هو البطلان؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، وكذا المشروط عدم عند عدم شرطه.

[3] «في» متعلق ب- (جزئية شيء أو شرطيته)، «نسيانه» أي: نسيان الشيء، «عقلاً ونقلاً» متعلق بقوله: (الأصل...).

[4] من الاشتغال العقلي والبراءة الشرعية، «في أصل...» أي: في الجزئية بشكل مطلق حتى في حال الذكر، وكذا الشرطية.

[5] أي: لو لم تكن أدلة البراءة الشرعية لجرت قاعدة الاشتغال؛ وذلك لليقين بالتكليف واشتغال الذمة؛ وذلك يقتضي الاحتياط.

ص: 279

مثل حديث الرفع مطلقاً[1] و«لا تعاد» في الصلاة[2] لحكم عقلاً بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسياناً، كما هو الحال[3] في ما ثبت شرعاً جزئيته أو شرطيته مطلقاً، نصاً أو إجماعاً[4].

ثم لا يذهب عليك[5]:

--------------------------------------

[1] في الصلاة وغيرها.

[2] أي: دليل (لا تعاد) الذي يجري في خصوص الصلاة، حيث قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة، الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود)(1)، فإنه لو نسي شيئاً من الأجزاء غير الأركان، أو الشرائط غير الثلاثة المذكورة، فلا إعادة عليه بنص هذا الحديث؛ وذلك يدل على أن الجزئية والشرطية في غير هذه خاصة بحالة الذكر دون النسيان.

[3] «الحال» من وجوب الإعادة، «مطلقاً» في حال الذكر والنسيان.

[4] فالنص في الشرائط: القبلة والطهارة والوقت، وفي الأجزاء: الركوع والسجود. والإجماع: في خصوص الأجزاء وهي: النية وتكبيرة الإحرام والقيام المتصل بالركوع.

والحاصل: الأركان - سواء ثبتت بالنص أم بالإجماع - فهي جزء في حال الذكر والنسيان، فتبطل الصلاة بنسيانها، وكذا الشروط الثلاثة.

دفع إشكال

[5] ذهب الشيخ الأعظم(2)

إلى أن الأجزاء كلّها أركان، يبطل العمل بنسيانها، إلاّ ما دلّ الدليل النقلي على جزئيتها في خصوص حالة الذكر؛ وذلك لأن الأدلة الدالة على الجزئية أو الشرطية مطلقة - تشمل حالة الذكر وحالة النسيان - .

ص: 280


1- وسائل الشيعة 4: 312.
2- فرائد الأصول 2: 363.

أنه كما يمكن[1] رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع، كذلك

--------------------------------------

ولا يمكن رفع الجزئية في حالة النسيان، فلا يجري حديث الرفع لاستلزامه المحال، فلو أراد الشارع رفع الجزئية فلابد أن يخاطبه ويقول له: أيها الناسي رفعت عنك الجزئية، وبهذا الخطاب ينقلب الناسي متذكراً، فلا يبقى مورد أصلاً لخطاب الناسي!! فلا يمكن رفع الجزئية عنه، فتبقى الأدلة الدالة على الجزئية على إطلاقها تشمل الناسي والمتذكر، وكل ما ذكر في الجزء يجري في الشرط أيضاً.

وأما المصنف فلم يرتضِ هذا الكلام، وذهب إلى إمكان رفع الجزئية عن الناسي وذلك بأحد طرق ثلاثة:

الأول: إنه كما يمكن وضع الجزئية والشرطية عن الناسي - كما في الأركان - فكذلك يمكن رفعهما، ولو استحال الرفع لاستحال الوضع؛ لأنه لا يمكن الوضع إلاّ في ما أمكن الرفع.

الثاني: أن لا يشتمل الخطاب العام للناسي والمتذكر على الجزء المنسي، ثم يوجّه خطاب لخصوص المتذكر بزيادة الجزء المنسي عليه. مثلاً: يوجه خطاب عام بوجوب الصلاة المكوّنة من تسعة أجزاء، ثم يوجه خطاب خاص للمتذكر بالجزء العاشر.

الثالث: أن يخاطب الناسي، لكن لا بعنوان الناسي للجزء أو للشرط، بل يخاطبه خطاباً عاماً، مثل: يا ضعيف الذاكرة، أو خطاب خاص مثل: يازيد، وحينئذٍ لا يلزم انقلاب.

إن قلت: الجواب الثاني والثالث مجرد فرض لم يتحقق في الخارج.

قلت: الغرض هو إمكان توجيه الخطاب للناسي، وإذا أمكن الوضع فيمكن الرفع بحديث الرفع.

ولا يخفى أن المصنف قدّم الأجوبة الثلاثة وأخّر الإشكال.

[1] إشارة إلى الجواب الأول، «في هذا الحال» أي: حال النسيان.

ص: 281

يمكن[1] تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية[2]؛ كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقاً[3]، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر؛ أو وجه[4] إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوان آخر[5] عام أو خاص، لا بعنوان الناسي[6] كي يلزم[7] استحالة إيجاب ذلك عليه[8] بهذا العنوان، لخروجه عنه[9] بتوجيه الخطاب إليه لا محالة؛ كما توهم

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الثاني، «تخصيصهما» الجزئية والشرطية.

[2] أي: الأدلة الدالة على أصل التكليف، وهي أدلة اجتهادية؛ لأن الأصول العملية إما لرفع التكليف أو للحفاظ على التكليف الثابت بالأدلة الاجتهادية، أو لإبقاء ذلك التكليف.

[3] «مطلقاً» متعلق ب«دخله»، أي: شك في دخله في كلا الحالين - التذكر والنسيان - «دخله» الضمير يرجع إلى الموصول.

[4] إشارة إلى الجواب الثالث، «يخصّه» أي: يخصّ الناسي، «الخالي» أي: بوجوب التكليف الخالي عن ذلك الجزء أو الشرط المنسي.

[5] «بعنوان» متعلّق ب- (أو وجّه)، «عام» أي: يشمل أفراد متعددين، كقوله: (من ضعفت ذاكرته)، «خاص» بحيث يشمل خصوص هذا الناسي كقوله: (يازيد).

[6] أي: لا يوجه الخطاب إليه بنفس عنوان الناسي، كأن يقول: (يا أيها الناسي للسورة).

[7] شروع في بيان أصل الإشكال، أي: لو وجّه الخطاب إليه بعنوان الناسي يلزم استحالة... الخ.

[8] أي: جعل وجوب، «ذلك» الجزء المنسي، «عليه» أي: على الناسي، «بهذا العنوان» أي: بعنوان الناسي.

[9] أي: لخروج الناسي عن عنوان الناسي، «إليه» إلى الناسي.

ص: 282

لذلك[1] استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب[2] العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل.

الثالث[3]: إنه ظهر مما مر[4] حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها[5] شرطاً

--------------------------------------

[1] أي: لأجل الاستحالة.

[2] «إيجاب» عطف على (تخصيص) أي: واستحالة إيجاب العمل... الخ، «عن المنسي» أي: الجزء المنسي.

التنبيه الثالث: زيادة الجزء عمداً وسهواً
اشارة

[3] لو زاد المكلف شيئاً في الواجب، فإن علمنا بأن هذا الزيادة ليست مخلّة فلا كلام، وكذا لو علمنا بأنها مخلّة.

وأما لو شككنا في إخلالها وعدم إخلالها، ولم يكن دليل اجتهادي كالإطلاق لنرجع إليه، فيجري البحث السابق في الشك في الجزئية أو الشرطية، وهو أن الأصل العقلي هو الاشتغال، ولكن تجري البراءة الشرعيّة.

هذا إذا لم نشك في إبطال الزيادة لجزء من أجزاء الواجب أو شرط من شروطه، كما لو احتملنا إبطال السورة للحمد في الركعة الثالثة من الصلاة، فإنه حينئذٍ نحتمل نقصان الجزء؛ لأن الحمد لوحده جزء من الركعة الثالثة - تخييراً بينه وبين التسبيحات الأربع - فلو ضمّ إليه السورة احتملنا بطلان الحمد، فتكون الصلاة ناقصة، وهذه الصورة تدخل في بحث نقصان الجزء.

[4] لأن ما مرّ كان في الشك في جزئية شيء أو شرطيته، وهنا الشك في جزئية أو شرطية عدم الشيء - بمعنى تركه - .

[5] أي: عدم الزيادة، «أو شطراً» لا يخفى أنه لا يكون العدم جزءاً؛ ولذا كان تصويره مجرد فرض. نعم، يصح ذلك لو كان بمعنى الترك، أو بمعنى أن يكون الوجود مانعاً أو قاطعاً.

ص: 283

أو شطراً في الواجب مع[1] عدم اعتباره في جزئيته، وإلاّ لم يكن من زيادته بل من نقصانه، وذلك[2] لاندراجه[3] في الشك في دخل شيء فيه[4] جزءاً أو شرطاً، فيصح[5] لو أتى به[6] مع الزيادة عمداً تشريعاً، أو جهلاً - قصوراً أو تقصيراً[7] - أو

--------------------------------------

[1] أي: مع عدم اعتبار العدم في جزئية الجزء، «وإلاّ» أي: لو كان عدم الزيادة معتبراً في جزئية الجزء - كما لو كان عدم السورة شرطاً في صحة الحمد - «لم يكن» زيادة الجزء، «من زيادته» أي: الجزء، «بل من نقصانه» نقصان الجزء، وكذا في حال الشك يكون من الشك في النقيصة.

[2] أي: الظهور مما مرّ - من الاشتغال العقلي، والبراءة الشرعية -..

[3] أي: اندراج زيادة الجزء، والمعنى: أنا نشك في جزئية العدم، ولا فرق في الشك في الجزئية بين جزئية الوجود أو جزئية العدم.

[4] «شيء» سواء كان وجوداً أم عدماً - بالمعنى الذي ذكرناه - ، «فيه» في الواجب.

[5] أي: فيصح الواجب شرعاً، وهذا شروع في بيان صور زيادة الجزء، وهي:

1- الزيادة العمدية تشريعاً: بأن يأتي بالجزء المشكوك بعنوان أنه جزء، وهذا تشريع محرّم؛ لأنه نسب إلى الشارع ما لا يعلم.

2- الزيادة العمدية جهلاً: بأن يأتي بالجزء المشكوك عمداً مع زعمه أن الشارع أوجبه عليه، والفرق بين الصورتين: أن الأولى مع شكّه ينسبه إلى الشارع. والثانية، أنه جاهل بالجهل المركب فيتخيل أنه جزء - مع أنه ليس بجزء - .

3- الزيادة سهواً: كما لو ضم السورة إلى الحمد في الركعة الثالثة خطأً أو غفلةً أو نحوهما.

[6] أي: بالواجب، «تشريعاً» هذه الصورة الأولى، «جهلاً» هذه الصورة الثانية.

[7] أي: لا فرق بين كون جهله عن قصور أو تقصير، فتصح الصلاة في كليهما.

ص: 284

سهواً[1]، وإن استقل العقل - لو لا النقل[2] - بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال[3].

نعم[4]، لو كان[5] عبادة وأتى به كذلك على نحوٍ[6] لو لم يكن للزائد دخل فيه

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة، ويدخل فيها: الغلط، والغفلة، والنسيان.

[2] وقد مرّ أن حكم العقل معلّق، أي: يستقل العقل لو لم يحكم الشرع، أما لو كان حكم العقل مطلقاً فلا يمكن معارضة حكم الشرع له.

[3] أي: حكم العقل لأجل هذه القاعدة - وهي الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية - .

حكم التقييد

[4] أي: ما قلناه من صحة الواجب مع الزيادة إنما هو في الواجب التوصلي؛ وذلك لتحقق العمل الواجب - سواء قصد الامتثال أم لم يقصد - أو الواجب التعبدي إذا لم يقيّد العبادة بذلك الجزء المشكوك، وأما إذا قيّد ففيه تفصيل.

و(التقييد) هو أن يقصد الامتثال في صورة دون أخرى، بحيث يقصد عدم الامتثال لو كانت تلك الصورة الأخرى. نظير من يصلى جماعة مقيداً امتثاله بكون الإمام زيداً لا عمراً، بحيث إنه لا يقصد الامتثال والإطاعة في صورة كون الإمام عمراً.

وهل التقييد مبطل للعبادة؟ وجهان:

الأول: إن التقييد مبطل للعبادة؛ لعدم قصد الامتثال والطاعة.

الثاني: التفصيل بين المطابقة للواقع فيصح، وبين عدم المطابقة فيبطل، ولو شك في المطابقة وعدمها فعليه الإعادة؛ لعدم تيقنه من فراغ الذمة.

[5] «كان» الواجب، «أتى به» بالواجب، «كذلك» أي: مع زيادة الجزء الذي يحتمل اعتبار عدمه.

[6] هذا المقطع بيان للتقييد، والمعنى: أتى بالواجب مع تلك الزيادة «على نحو»

ص: 285

لما يدعو إليه وجوبه، لكان[1] باطلاً مطلقاً[2]، أو[3] في صورة عدم دخله فيه[4]، لعدم قصد الامتثال[5]

--------------------------------------

أي: بقصد أنه «لو لم يكن للزائد دخل فيه» في الواجب «لما» كان «يدعو إليه» إلى الواجب «وجوبه» فاعل «يدعو» أي: الوجوب لم يكن باعثاً للمكلف إلاّ في صورة جزئية الزيادة، بحيث إنه لو علم بعدم جزئيتها لما كان يأتي بالواجب أصلاً.

[1] هذا أحد المحتملات في التقييد، و«لكان» جزاء (لو) في قوله: (نعم، لو كان عبادة...) والمعنى لكان العمل باطلاً.

[2] أي: سواء كان عدم الزيادة دخيلاً في العمل، أم لم يكن دخيلاً.

[3] هذا احتمال آخر في التقييد، وهو التفصيل بين صورة الدخل فتصح العبادة، وبين صورة عدم الدخل فتبطل، وفي حال الشك يحتاط.

أما البطلان في صورة عدم الدخل فلأنّه لم يقصد الامتثال. وأما الصحة في صورة الدخل فلأنّه قصد امتثال ما أراده المولى. وأما الاحتياط في صورة الشك فلعدم علمه بفراغ ذمته.

[4] أي: أو البطلان في صورة عدم دخل الزائد في الواجب؛ وذلك لأنه لم يقصد أمر المولى - لأن أمره إنّما هو بالخالي عن الزيادة - والذي قصده من العمل مع الزيادة لم يأمر به المولى. والحاصل: ما أتى به لم يكن مأموراً به، وما أمر به لم يأت به.

[5] في بعض النسخ (لعدم قصد الامتثال... الخ)، والمعنى: إن المكلف لم يأت بما أمره به المولى، ومعنى (في هذه الصورة) أي: في صورة عدم الدخل.

وفي نسخ أخرى (لعدم قصور الامتثال... الخ) فيكون استدلالاً للصحة في صورة الدخل، والمعنى: إنه قصد امتثال أمر المولى وقد تحقق ما قصده، فمعنى (في هذه الصورة) أي: في صورة الدخل.

ص: 286

في هذه الصورة، مع استقلال[1] العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال[2]، لقاعدة الاشتغال. وأما[3] لو أتى به[4] على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحاً[5]، ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحوٍ، مع عدم علمه بدخله[6]، فإن[7] تشريعه

--------------------------------------

[1] أي: حسب هذا الاحتمال الثاني - وهو التفصيل - لو شك في الدخل وعدم الدخل، فلا يدري هل امتثل أم لا؟ فلابد من الاحتياط؛ وذلك لاشتغال ذمته بالتكليف مع عدم علمه بأدائه.

[2] أي: لم يتبيّن له الدخل أو عدم الدخل.

التشريع مع عدم التقييد

[3] أي: لو أتى بالعبادة لا بقصد التقييد، بل كان الأمر يدعوه إلى الامتثال - سواء كان للزائد دخل أم لا - ولكنه مع عدم علمه بالدخل قصد الجزئية، فهنا ارتكب حراماً بتشريعه، ولكن هذا التشريع لا يرتبط بنفس العبادة، بل هو في التطبيق - كما سيأتي توضيحه - .

[4] بالواجب، «على نحو» أي: بقصد يكون الوجوب، «يدعوه» أي: يكون باعثاً للمكلّف، «إليه» إلى الواجب، «على أي حال» سواء كان له دخل أم لا.

[5] أي: كان العمل العبادي صحيحاً، «ولو» وصلية، «كان» المكلّف، «دخله» أي: دخل الزائد، «فيه» في العمل العبادي، «بنحو» أي: لو لم يكن جزءاً واقعاً.

[6] لأن التشريع يتحقق مع نسبة العمل إلى الشارع مع عدم علم المكلف.

[7] هذا دليل صحة العبادة؛ وذلك لأن المكلّف قصد الأمر الواقعي وأتى بالعبادة بكل أجزائها وشروطها.

والتشريع لم يكن في مقام أمر المولى، بل في مقام العمل، أي: تطبيق الأمر على هذا الفعل الخارجي الذي أتى به، والتشريع لا يكون مبطلاً للعمل إلاّ إذا كان في نفس أمر المولى، أما إذا كان في الفعل الخارجي فلا يكون مبطلاً.

ص: 287

في تطبيق المأتي مع المأمور به، وهو[1] لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال.

ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة[2]. وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى[3].

الرابع[4]:

--------------------------------------

[1] أي: هذا التطبيق في مقام العمل لا يُخلّ بقصد القربة، «على كل حال» أي: سواء كان جزءاً وشرطاً أم لا.

[2] وقد قرروا الاستصحاب بعدة تقريرات وفي حقائق الأصول(1)

خمس تقريرات له، فراجع.

وأحد التقريرات: هو أنه قبل زيادة الجزء كانت الأجزاء السابقة صحيحة فنستصحب تلك الصحة بعد الإتيان بالجزء الزائد.

وفيه: إن الأجزاء السابقة لا علم بصحتها إلاّ بعد الانتهاء من الصلاة، ففي حال الصلاة تكون مراعاة، فلا يقين سابق.

[3] لكن المصنف لم يذكرها هناك.

التنبيه الرابع: لو تعذر الجزء أو الشرط

[4] حاصل التنبيه الرابع هو: أنه لو علمنا بأن هذا الشيء جزء أو شرط في حال القدرة عليه، وشككنا في الجزئية أو الشرطية في حال العجز، فهل عند العجز يسقط التكليف من أصله، أم يجب الإتيان بالباقي؟

فإنه لو كان الشيء جزءاً مطلقاً - حتى في حال العجز - فإن المكلف غير قادر على الإتيان بالمكلف به؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، فيسقط التكليف للعجز عنه،

ص: 288


1- حقائق الأصول 2: 344.

إنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة[1] ودار بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكن منه - فيسقط[2] الأمر بالعجز عنه على الأول، لعدم القدرة حينئذٍ على المأمور به[3]، لا على الثاني[4] فيبقى متعلقاً بالباقي - ولم يكن هناك[5] ما يعين

--------------------------------------

وكذا في الشرط.

أما لو كان جزءاً في حال التمكن فقط، ولم يكن جزءاً في حال العجز، فإنه في حالة العجز عنه يكون الملكف قادراً على الإتيان بالواجب؛ لأن ما لا يقدر عليه لا يكون جزءاً، وكذا في الشرط.

[1] أي: نعلم بالشرطية أو الجزئية، ولكن لا ندري هل هما بشكل مطلق أو في حال التمكن فقط؟ «دار» أي: دار الأمر، «أن يكون» الشيء، «مطلقاً» شرحه بقوله: «ولو في حال العجز عنه».

[2] هذه نتيجة الاحتمالين: فعلى الأول - وهو الشرطية والجزئية مطلقاً - : يسقط الأمر؛ لأنه عاجز عن امتثاله؛ لعجزه عن الإتيان بأحد أجزائه، والكل عدمٌ عند عدم جزئه.

وعلى الثاني - وهو الشرطية والجزئية في حال التمكن فقط - : يبقى التكليف؛ لأنه قادر على امتثاله، والجزء الذي كان عاجزاً عنه ليس بجزء في حال العجز.

[3] لأن المأمور به كان مركباً من أجزاء وشروط، وأحدها لم يكن مقدوراً.

[4] أي: لا يسقط الأمر بناءً على الاحتمال الثاني - وهو أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكن - «فيبقى» الأمر.

[5] فإنه لو جرت الأدلة الاجتهادية لا تصل النوبة إلى الأصول العملية - من براءة أو اشتغال - .

والدليل الاجتهادي أحد أمرين:

ص: 289

أحد الأمرين[1] من إطلاق دليل اعتباره[2] جزءاً أو شرطاً، أو إطلاق دليل المأمور به[3] مع إجمال[4] دليل اعتباره أو إهماله[5]، لاستقل[6] العقل[7] بالبراءة عن

--------------------------------------

1- إطلاق دليل الجزء أو الشرط، كما لو قال: (السورة جزء من الصلاة) فإن الكلام مطلق يشمل صورتي التمكن والعجز، ونتيجة هذا الإطلاق سقوط التكليف في صورة العجز.

2- إطلاق دليل التكليف، كقوله: (أقم الصلاة) فإن الوجوب للصلاة مطلق يشمل صورة التمكن وصورة العجز عن الجزء أو الشرط، ونتيجة هذا الإطلاق بقاء التكليف ولزوم أدائه حتى في صورة العجز عن الجزء، فيلزم الإتيان بالباقي.

[1] الجزئية أو الشرطية مطلقاً، أو في خصوص حال التمكن.

[2] أي: اعتبار الشيء جزءاً أو شرطاً، وهذا الإطلاق في دليل الجزئية.

[3] أي: إطلاق دليل التكليف، وأنه واجب سواء تمكن من جزئه وشرطه أم لا.

[4] إشارة إلى أنه مع وجود إطلاق دليل الجزء أو الشرط لا تصل النوبة إلى إطلاق دليل المأمور به؛ وذلك لأن القيد أقوى ظهوراً من المقيّد، فيكون إطلاق القيد أقوى من إطلاق المقيّد.

وهنا وجوب الصلاة مقيّدة بقيد هو الجزء أو الشرط، فكما كان يقدم دليل الجزء والشرط على دليل الوجوب فيقال: إن الصلاة مقيدة بهذا الجزء والشرط، كذلك إطلاق القيد - وهو الجزء والشرط - يقدم على إطلاق المقيد - وهو وجوب الصلاة - .

[5] الضميران يرجعان إلى الجزء أو الشرط، فلو كان دليل الجزء أو الشرط مجملاً لم يتضح الإطلاق فيه، أو كان مهملاً من الأساس بلا إطلاق أصلاً، فحينئذٍ تصل النوبة إلى إطلاق المأمور به.

فمع فقد الإطلاقين تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[6] جزاء (لو) في قوله: (لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة... الخ).

[7] وكذا تجري البراءة الشرعية؛ لجريان أدلتها حينئذٍ.

ص: 290

الباقي، فإن[1] العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.

لا يقال[2]: نعم[3]، ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية[4] إلاّ في حال التمكن منه[5].

فإنه يقال[6]:

--------------------------------------

[1] دليل جريان البراءة العقلية، وحاصله: انا نشك في أصل وجوب الباقي في حال العجز عن الجزء والشرط، وحين الشك في أصل التكليف تجري البراءة؛ إذ العقاب على ترك هذا التكليف عقاب بلا بيان واصل من الشارع، وهو قبيح، «تركه» أي: ترك الباقي.

أدلة لزوم الإتيان بالباقي
اشارة

ثم إن القائل بوجوب الباقي - بعد سقوط الجزء أو الشرط غير المقدور - استدل بثلاثة أدلة:

الدليل الأول: جريان الأصل السببي

[2] هذا الدليل الأول على وجوب الباقي، وحاصله: إن إجراء البراءة في أصل التكليف أصل مسبّبي، ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي - وهو البراءة عن جزئية أو شرطية غير المقدور - فإنه مع جريان البراءة عن المقدور لا يبقى شك في وجوب الباقي، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصل البراءة عن الباقي.

[3] أي: نعم، البراءة عن الباقي تجري لو لا جريان البراءة عن الجزئية أو الشرطية.

[4] أما الجزء والشرط فوجوبه ساقط قطعاً؛ لعدم القدرة عليه، فالكلام في سقوط الجزئية أو الشرطية وعدم سقوطهما في حال العجز، حيث تظهر الثمرة في وجوب الباقي أو عدم وجوبه، فدقق.

[5] أي: من الجزء أو الشرط.

[6] إشكال على الدليل الأول، وحاصله: إنه لا يجري الأصل السببي هنا،

ص: 291

إنه لا مجال هاهنا لمثله[3]، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان، فيختص بما يوجب نفي التكليف، لا إثباته.

نعم، ربما يقال[4]:

--------------------------------------

ومع عدم جريانه تصل النوبة إلى الأصل المسببي؛ وذلك لأن حديث الرفع جاء لأجل الامتنان على العباد، ولا يكون امتنان بوضع التكليف، بل برفعه.

والأصل السببي - وهو البراءة عن الجزئية أو الشرطية - يُثبت التكليف في الباقي، فيكون خلاف الامتنان، فلا يجري، ويبقى الأصل المسببي - وهو البراءة عن التكليف في الباقي - بلا محذور، فيجري.

[3] «هاهنا» في رفع الجزئية أو الشرطية، «لمثله» أي: لحديث الرفع وأمثاله، «أنه» حديث الرفع وأمثاله.

الدليل الثاني: استصحاب الباقي

[4] حاصله: إثبات وجوب الباقي بالاستصحاب، في ما لو كان قادراً على الكل ثم عجز عن جزء أو شرط، فحين القدرة كان الباقي واجباً عليه، فيستصحب هذا الوجوب بعد العجز.

ويرد عليه إشكالان:

الأول: إنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي، ولا نقول بجريان الاستصحاب فيه؛ وذلك لأن استصحاب الكلي على ثلاثة أقسام:

1- لو تحقق فرد ثم شككنا في بقائه، فكما يمكن استصحاب بقاء ذلك الفرد كذلك يمكن استصحاب بقاء الكلي الذي كان ضمن ذلك الفرد.

2- لو تحقق فرد لكن لا نعلم أنه فرد طويل البقاء أم فرد قصير البقاء، ثم شككنا في البقاء، بسبب أنه إن كان الفرد الطويل فهو باقٍ، وإن كان الفرد القصير فقد زال، فهنا لا يمكن استصحاب الفرد - لعدم اليقين السابق - لكن يمكن استصحاب الكلي.

ص: 292

«إن قضية الاستصحاب في بعض الصور[1] وجوب الباقي في حال التعذر أيضاً». ولكنه[2] لا يكاد يصح إلاّ بناءً على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي[3]،

--------------------------------------

3- لو تحقق فرد ثم علمنا بزواله مع احتمال تحقق فرد آخر حين زوال الأول، كما لو دخل زيد الدار ثم خرج منها ظهراً، واحتملنا دخول عمرو حين خروج زيد، فقد قطعنا بوجود الإنسان في الدار، لكن من الظهر نشك في بقاء الإنسان الكلي، وهذا المورد لا يجري فيه الاستصحاب، إلاّ إذا رأى العرف اتحاد الموضوعين، كالسواد الشديد والسواد الضعيف، فإنه وإن كانا بحسب الدقة متباينين، لكن العرف يرى السواد الضعيف نفس السواد الشديد مع فقدانه للغموق.

إذا اتضح ذلك فنقول هنا: الكامل فرد والناقص فرد آخر للكلي، فقد زال وجوب الفرد الكامل؛ لعدم التمكن منه بالعجز عن الجزء أو الشرط، ونشك في حدوث وجوب الفرد الناقص، فلو أردنا استصحاب الوجوب كان من القسم الثالث من الكلي.

الإشكال الثاني: لو أردنا استصحاب الفرد - لا الكلي - فإن الفرد قد تبدّل، فلا توجد وحدة للموضوع.

اللهم إلاّ أن يقال: إن العرف يرى الكامل والناقص فرداً واحداً مسامحة، والمتبع في وحدة الموضوع هو التسامح العرفي، لا الدقة العقلية.

[1] لو كان قادراً على كل الأجزاء والشرائط فثبت عليه الوجوب، ثم عجز عن جزء أو شرط.

[2] أي: لكن هذا الاستصحاب لا يصح، وهذا هو الإشكال الأول، بناءً على إرادة استصحاب كلي الوجوب لا الفرد.

[3] حيث إن المتيقن هو وجوب الكامل، والمشكوك وجوب فرد آخر وهو

ص: 293

أو على المسامحة[1] في تعيين الموضوع في الاستصحاب وكان[2] ما تعذر مما يسامح به عرفاً بحيث يصدق[3] مع تعذره[4] بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه. ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام.

كما أن وجوب الباقي[5] في الجملة[6] ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من

--------------------------------------

الناقص، فنشك أنه حين ارتفاع وجوب الكامل هل حدث وجوب الناقص في ذمة المكلّف؟

[1] وهذا الإشكال الثاني، بناءً على إرادة استصحاب الفرد لا الكلي.

[2] أي: المسامحة العرفية إنّما تكون لو كان الناقص قليلاً بحيث اعتُبرَ الناقص هو نفس الكامل.

[3] أي: يصدق عرفاً بقاء الوجوب أو ارتفاعه؛ إذ لو رأوه موضوعاً آخر لم يكن من البقاء والارتفاع، بل من باب جعل أو رفع حكم عن موضوع آخر.

[4] أي: مع تعذّر ما تعذر من الجزء أو الشرط، «ارتفاعه» أي: ارتفاع الوجوب، «بعدم وجوبه» عدم وجوب الباقي.

الدليل الثالث: قاعدة الميسور
اشارة

[5] فقد استدل بثلاثة روايات على أن الباقي يكون واجباً، وقد أشكل عليها سنداً بأنها مراسيل، مضافاً إلى عدم اعتبار كتاب عوالي اللئالي، كما عن صاحب الوسائل وصاحب الحدائق. وقد تصدى الشيخ الأعظم في الرسائل(1)

للجواب عنه: بأن المشهور عملوا بهذه الأخبار فينجبر ضعف السند بهذا العمل.

[6] أي: إذا صدق عرفاً أنه ميسور التكليف، لا ما إذا كان فاقداً لمعظم الأجزاء بحيث لا يراه العرف ميسور التكليف، فمن استطاع رمي الجمرة فقط لا يقال لها إنها ميسور الحج، وكذا لو كان الجزء غير المتمكن منه ركناً في نظر العرف، فماء اللحم - مثلاً - يتقوّم باللحم، فلا يقال لفاقد اللحم: إنه ميسور ماء اللحم.

ص: 294


1- فرائد الأصول 2: 390.

قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم[1]»(1)، وقوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور[2]»(2)،

وقوله: «ما لا يدرك كله لا يترك كله[3]»(3).

ودلالة الأول[4] مبنية على كون كلمة «من» تبعيضية، لا بيانية، ولا بمعنى

--------------------------------------

[1] بتقريب: أن العاجز عن بعض الأجزاء مستطيع لسائر الأجزاء، فيجب عليه الإتيان بها لقوله: (فأتوا) وهو أمر ظاهر في الوجوب.

[2] بتقريب أن فاقد الجزء هو ميسور العمل، فلا يسقط بالعجز عن الواجد لكل الأجزاء.

[3] بتقريب أن (لا يترك) جملة خبرية يراد منها النهي، أي: لا يجوز ترك كلّه، بل يأتي بما تمكن.

الإشكال على الاستدلال بالرواية الأولى

[4] أشكلوا على الرواية الأولى بثلاثة إشكالات:

الإشكال الأول: إن (من) في (منه) بمعنى الباء، و(ما) مصدرية زمانية(4)، فيكون المعنى: فأتوا بالشيء مدة استطاعتكم. وهذا لا يدل على حكم فاقد الأجزاء.

أو أن (منه) بيانية، لبيان الشيء و(ما) مصدرية زمانية، فيكون المعنى: فأتوا الشيء ما استطعتم. ولا يخفى عدم صحة كلا الأمرين؛ لأن (من) لم تستعمل في اللغة بمعنى الباء؛ ولأن (من) البيانية يلزم أن يكون ما قبلها جنساً لما بعدها، كقوله: {فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ}(5)، فالرجس جنس يشمل جميع النجاسات المادية والمعنوية، فيأتى (من الأوثان) بياناً لذلك الرجس، وأن المقصود الأوثان.

ص: 295


1- عوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
2- عوالي اللئالي 4: 58، مع اختلاف يسير.
3- عوالي اللئالي 4: 58.
4- فرائد الأصول 2: 390.
5- سورة الحج، الآية: 30.

الباء[1]؛ وظهورها[2] في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى[3]، إلاّ[4] أن كونه بحسب الأجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد.

ولو سلم[5]،

--------------------------------------

وفي ما نحن فيه ضمير (منه) هو نفس (الشيء) فلا تكون (من) بيانية.

الإشكال الثاني: إنا نسلّم أن (من) للتبعيض ،لكن التبعيض على نوعين:

1- التبعيض في الأفراد، كمن يعجز عن صوم كل شهر رمضان لكنه يقدر على صيام نصفه، فهنا يأتي من الأفراد ما استطاع.

2- التبعيض في الأجزاء.

ولا يتم الاستدلال إلاّ لو كان التبعيض في الأجزاء، ولكن ليس للجملة ظهور فيه، بل هي مجملة فلا يمكن الاستدلال بها.

الإشكال الثالث: ولو سلمنا ظهور (من) في التبعيض في الأجزاء، لكن يلزم رفع اليد عن هذا الظهور هنا؛ وذلك لأن هذا الكلام المروي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إنّما هو في قضية كانت في الأفراد - وهو تكرار الحج - لا الأجزاء.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] أي: ظهور (من) في (منه).

[3] كما شرحناه من أن (من) لم تستعمل بمعنى الباء، والبيانية إنّما لو كان قبلها جنساً لما بعدها، لا نفسه.

[4] إشاره إلى الإشكال الثاني، «كونه» أي: كون التبعيض، «غير واضح» أي: لا ظهور فيه، «لاحتمال» أي: التبعيض هنا مجمل فلا يمكن الاستدلال بالحديث لإجماله.

[5] إشارة إلى الإشكال الثالث، أي: لو سلم الظهور في التبعيض بحسب الأجزاء، «أنه» أن التبعيض، «هاهنا» في خصوص هذه الرواية، «بهذا اللحاظ» أي: بلحاظ الأفراد؛ وذلك لوجود قرينة صارفة عن الظهور في الأجزاء.

ص: 296

فلا محيص عن أنه - هاهنا - بهذا اللحاظ يراد، حيث ورد[1] جواباً عن السؤال عن تكرار الحج[2] بعد أمره به. فقد روي[3] أنه خطب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقال: «إن الله كتب عليكم الحج»، فقام عكاشة - ويُروى سراقة بن مالك - فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً، فقال: «ويحك! وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجب[4]، ولو وجب ما استطعتم[5]، ولو تركتم لكفرتم[6]، فاتركوني ما تركتم، وإنما هلك[7] من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا[8] أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا

--------------------------------------

[1] بيان للقرينة الصارفة.

[2] والحج الثاني هو فرد آخر للحج، لا أنه جزء للحج الأول.

[3] قيل: هذا شأن نزول آية {لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ}(1).

[4] وقد استفيد منه أن للرسول الولاية التشريعيّة.

[5] أي: كان فيه عسر شديد عليكم.

[6] كفراً عملياً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ}(2) والكفر العملي لا يُخرج عن الملّة، لكنه كعمل الكفار.

[7] لأنهم سألوا، فجاءهم التشريع، لكنهم خالفوه فهلكوا، «اختلافهم» أي: ذهابهم وإيابهم، ولم يكن الغرض من ذلك إلاّ التعنّت، كما في قصة بقرة بني إسرائيل، حيث لو كانوا يذبحون أيَّة بقرة لأجزأتهم، لكنهم صعّبوا على أنفسهم فصعّب الله عليهم.

[8] أي: إن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مكلّف بالتبليغ ،فإذا نزل حكم بلّغه، وإن سكت فذلك يدل على عدم نزول حكم، فلا تسألوا عنه.

ص: 297


1- سورة المائدة، الآية: 101.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(1).

ومن ذلك[1] ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً، حيث لم يظهر[2] في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها، لاحتمال[3] إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام[4] بالمعسور منها، هذا. مضافاً[5]

--------------------------------------

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثانية

[1] وعلى الاستدلال بالرواية الثانية مناقشتان:

الأولى: نظير الإشكال الثاني على الرواية الأولى، وحاصله: إن المراد من (الميسور) هو الميسور من الأفراد لا الميسور بحسب الأجزاء، لا أقل من الإجمال.

[2] أي: حيث لا يوجد ظهور للحديث الثاني.

[3] هذا الاحتمال يُخِلّ بالظهور، فكلا الأمرين محتمل، ولا ترجيح في نظر العرف، فدلالة الحديث مجملة.

[4] أي: الواجب الكلي - بنحو العموم أو الإطلاق - الذي له أفراد متعددة، كما مثّلنا بمن لا يتمكن من صيام بعض أيام شهر رمضان، فانه لا تسقط الأيام التي يتمكن فيها من الصيام.

[5] هذه المناقشة الثانية، وحاصلها: إن الرواية لا دلالة لها على وجوب الباقي، بل تدل على جوازه فقط، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوبه؛ وذلك لأن (الميسور) يشمل الواجب والمستحب، فكما قد يعجز الإنسان عن بعض أجزاء الصلاة الواجبة، كذلك قد يعجز عن بعضها في المستحبة، ولا إشكال في عدم لزوم الإتيان بالميسور من الصلاة المستحبة، بل ذاك إلى المكلف إن شاء أتى وإن شاء ترك، وحينئذٍ لا دلالة لقوله: (لا يسقط) على اللزوم؛ لأنه لو كان دالاً على اللزوم كان (الميسور) خاصاً بالواجب، وهذا ما لا يقولون به.

ولكن يمكن دفع هذه المناقشة بأن (لا يسقط) يحتمل معنيين:

ص: 298


1- بحار الأنوار 22: 31؛ مجمع البيان 3: 386، مع اختلاف يسير.

إلى عدم دلالته[1] على عدم السقوط لزوماً[2]، لعدم اختصاصه[3] بالواجب. ولا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم، إلاّ أن يكون[4] المراد عدم سقوطه بما له من الحكم[5] - وجوباً كان أو ندباً - بسبب سقوطه[6] عن المعسور، بأن يكون[7]

--------------------------------------

1- إن الميسور لا يسقط باعتبار حكمه، فيكون المعنى عدم سقوط حكم الميسور، ففي الواجب لا يسقط وجوبه، وفي المستحب لا يسقط استحبابه، فتدل الرواية على لزوم الباقي إن كان التكليف بنحو الوجوب، لا على نحو الاستحباب.

2- الميسور لا يسقط بنفسه، فيكون المعنى بقاؤه بنفسه في ذمة المكلف، وهذا يعني إما لزوم الإتيان بالميسور مطلقاً، فلا يشمل (الميسور) المستحبات، وإما عدم دلالة (لا يسقط) على اللزوم، فلا يدل على وجوب الباقي.

وحيث إن المصنف رجح المعنى الأول فلا تصح هذه المناقشة، كما مرّ عكسه في قوله: (لا ضرر) حيث كان رفعاً للموضوع باعتبار رفع حكمه، وهنا إثبات الموضوع باعتبار إثبات حكمه.

[1] أي: عدم دلالة الثاني - وهو رواية الميسور - .

[2] أي: بنحو الوجوب بحيث يجب الباقي.

[3] «اختصاصه» الميسور، «معه» أي: مع عدم الدلالة على اللزوم، «دلالته» الميسور، «على أنه» أن عدم السقوط. فتحصّل أن (لا يسقط) لا يدل على اللزوم؛ وذلك بقرينة شمول (الميسور) للمستحب.

[4] هذا دفع المناقشة الثانية.

[5] بيان للمعنى الأول، وهو مختار المصنف، «سقوطه» سقوط الميسور، «بما له من الحكم» أي: باعتبار حكمه.

[6] أي: لا يسقط حكم الميسور بسبب سقوط الحكم عن المعسور.

[7] بيان معنى (عدم سقوط الميسور بما له من الحكم) فإن الشارع - بما هو شارع -

ص: 299

قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله[1] هو ذلك - كما أن الظاهر[2] من مثل «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي ما له من تكليف أو وضع - لا أنها[3] عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف، كي لا يكون له[4] دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه[5]، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر[6]، فافهم[7].

وأما الثالث[8]،

--------------------------------------

لا يرفع التكوينيات كما لا يجعلها، وإنما يرفع ويضع الأحكام، فإذا تعلق جعل أو رفع بالموضوع فلابد أن يكون مراده جعله ووضعه بما له من الحكم.

[1] وهو جعل موضوع، «هو ذاك» أي: بما له من الحكم.

[2] في رفع موضوع - وهو عكس ما نحن فيه - .

[3] بيان للمعنى الثاني - الذي لا يرتضيه المصنف - «أنها» أي: إن قضية الميسور، «عدم سقوطه بنفسه» أي: عدم سقوط الميسور بنفسه، فيكون المعنى هو بقاء الميسور في ذمته، وهذا يستلزم إما عدم شمول (الميسور) للمستحبات، حيث إنها لا تبقى في الذمة، وإما رفع اليد عن اللزوم في (لا يسقط) فلا دلالة له على لزوم الإتيان بالباقي.

[4] أي: للميسور.

[5] وهو دلالة (لا يسقط) على اللزوم.

[6] أي: على وجه آخر وهو عدم دلالة (لا يسقط) على اللزوم.

[7] لعله إشارة إلى عدم الفرق بين عدم سقوطه بحكمه، أو عدم سقوطه بنفسه؛ وذلك لأن عدم السقوط بنفسه وبقائه في الذمة قد يكون بنحو الوجوب، وقد يكون بنحو الاستحباب، فيصح أن يقال: إنه باقٍ في الذمة استحباباً.

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثالثة

[8] وهو قوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)(1)،

فيرد على الاستدلال به:

ص: 300


1- عوالي اللئالي 4: 58.

فبعد تسليم[1] ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي، لا دلالة[2] له إلاّ على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجباً كان أو مستحباً - عند[3] تعذر بعض أجزائه، لظهور الموصول[4] في ما يعمهما. وليس ظهور[5] «لا يترك» في الوجوب - لو سلم[6] -

--------------------------------------

أولاً: ما ذكر في الرواية الأولى والثانية، وأن (كله) في (ما لا يدرك كله) ليس ظاهراً في الأجزاء، بل لعل المراد ما لا يدرك من الأفراد.

وثانياً: إن (ما لا يدرك) عام يشمل الواجب والمستحب، وكما مرّ لا معنى للزوم الإتيان بما تبقى من المستحب، بل يكون المراد رجحان الإتيان بالباقي - من غير لزوم - .

وثالثاً: إن (لا يترك) نفي، وهو جملة خبرية، والجملة الخبرية لا دلالة لها على اللزوم.

ورابعاً: لو فُرض أن (لا يترك) يدل على اللزوم فإنه يجب رفع اليد عن ظهوره؛ وذلك لظهور (ما لا يدرك) في الأعم من الواجب والمستحب، والترجيح إنما هو لظهور الموضوع لا لظهور المحمول، لا أقل من تعارض الظهورين وتساقطهما، فلا يبقى ظهور في وجوب الإتيان بالباقي.

[1] إشارة إلى الإشكال الأول، «الكل» في قوله: (ما لا يدرك كله).

[2] إشارة إلى الإشكال الثاني، «له» للحديث الثالث.

[3] «عند» متعلق ب- (رجحان) أي: الرجحان في إتيان الباقي عند تعذر بعض الأجزاء، «أجزائه» أي: أجزاء المأمور به.

[4] أي: (ما لا يدرك)، فإن (ما) عام شامل للمستحب وللواجب.

[5] أي: ظهوره في حد نفسه.

[6] إشارة إلى الإشكال الثالث، أي: لا نسلم ظهور (لا يترك) في الوجوب؛ لأنه جملة خبرية!! ولا يخفى أن المصنف في المجلد الأول ذهب إلى دلالة الجملة الخبرية على اللزوم!!

ص: 301

موجباً لتخصيصه[1] بالواجب لو لم يكن[2] ظهوره في الأعم قرينةً[3] على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية[4] من النفي. وكيف كان[5] فليس ظاهراً في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه[6] في غير المقام.

ثم[7]

--------------------------------------

[1] أي: تخصيص الموصول؛ وذلك لأن ظهور المحمول لا يرجح على ظهور الموضوع، لا أقل من تساقطهما.

[2] إشارة إلى الإشكال الرابع، «ظهوره» أي: ظهور الموصول.

[3] حيث إن ظهور الموضوع أقوى من ظهور المحمول، فيكون ظهور الموضوع قرينةً على رفع اليد عن ظهور المحمول.

[4] أي: حمل (لا يترك) على الكراهة أو على المرجوحية بشكل مطلق، بحيث يشمل الكراهة والحرمة.

[5] يعني حتى لو لم نقل بترجيح ظهور الموضوع، فلا أقل من تعارض الظهورين وتساقطهما، «هاهنا» حيث إن الموصول أعم من الواجب والمستحب.

[6] أي: ظهور (لا يترك) وهو جملة خبرية، «فيه»: في اللزوم، «غير المقام» والمقام هو ما كان ظهور معاكس في الموضوع.

تشخيص الميسور

[7] إن كلمة (الميسور) استعملت في الرواية الثانية، وجعلت موضوعاً للحكم، فلابد من معرفة معناها.

وبما أن الكلام ملقى إلى العرف - لأن الرسل تكلموا بلسان قومهم كما قال: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1) - فلذا يُرجع إلى العرف في تشخيص مفاهيم الكلمات، فكل ما اعتبره العرف ميسوراً يلزم الإتيان به - لو قبلنا القاعدة - حتى وإن لم يكن ميسوراً دقة. وهنا يذكر المصنف أنّ:

ص: 302


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

إنه حيث كان الملاك[1] في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفاً، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط[2] أيضاً، لصدقه حقيقةً عليه[3] مع تعذره عرفاً، كصدقه عليه كذلك[4] مع تعذر الجزء في الجملة وإن كان فاقد الشرط مبايناً للواجد عقلاً[5]؛ ولأجل ذلك[6] ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها[7]

--------------------------------------

1- فاقد بعض الأجزاء هو ميسور عرفاً وعقلاً.

2- فاقد الشرط ليس من الميسور عقلاً، بل هو مباين؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه، ولكن بما أنه ميسور عرفاً فتنطبق عليه قاعدة الميسور.

[1] حيث ألقى الشارع الكلام إلى العرف بلسانهم.

[2] كما لو تعذرت الرقبة المؤمنة، بأن كان كل الرقاب كفاراً. فإن الرقبة الكافرة مباينة للمؤمنة عقلاً - لأن كل فرد من الكلي يباين الفرد الآخر - لكنه عرفاً تعتبر الكافرة الميسور من الرقبة المؤمنة.

[3] أي: لصدق الميسور على الباقي، وقوله: «حقيقةً» أي: صدقاً حقيقياً في العرف، لا مجازاً، «مع تعذره» أي: مع تعذر الشرط.

[4] أي: كصدق الميسور على الباقي، «كذلك» حقيقة عرفاً، «في الجملة» لا ما إذا كان فاقداً لمعظم الأجزاء أو الجزء، الذي يكون ركناً عند العرف - كما سيأتي مثاله بعد قليل - .

[5] لأنهما مصداقان من مصاديق الكلي، ومن الواضح التباين بين المصاديق، مثلاً: زيد وعمرو مصداقان لكلي الإنسان، وليس أحدهما ميسور الآخر؛ لأنهما متباينان.

[6] أي: لأجل أن الملاك هو إطلاق العرف الميسور على الباقي.

[7] أي: لركن الأجزاء، مثلاً: ماء اللحم لا يطلق على الفاقد للّحم؛ لأنه ركن في هذا الطعام.

ص: 303

مورداً لها[1] في ما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفاً وإن كان غير مباين للواجد عقلاً[2].

نعم[3]، ربما يلحق به[4] شرعاً ما لا يعدّ بميسور عرفاً تخطئةً للعرف، وأن[5] عدم العدّ كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه[6] الفاقد من قيامه[7] في هذا الحال

--------------------------------------

[1] أي: لقاعدة الميسور، «عليه» على الفاقد للمعظم أو للركن.

[2] لأن الأجزاء قد لا يكون لها دخل في الماهية، أو يكون لها دخل إن وجدت، فإن لم توجد فلا، مثلاً: الناسي لجزء من أجزاء الصلاة - غير الأركان - صلاته صحيحة، وبفعله تحققت ماهيتها حتى مع فقدان جزء، فتأمل.

توسعة أو تضييق الميسور

[3] فإن الشرع أو كل مفاهيم الألفاظ إلى العرف، لكنه قد يتدخل فيضيق الموضوع أو يوسعّه.

وفي ما نحن فيه، قد لا يرى العرف الفاقد ميسوراً، لكن الشارع - لعلمه بحقائق الأمور - يعلم بأنه يوجد الملاك في الفاقد، أو المقدار الملزم من الملاك، وحينئذٍ يعلن كفاية الفاقد، كوضوء الجبيرة حيث لا يراه العرف ميسور الوضوء.

أو أن العرف يرى الفاقد ميسوراً، ولكن الشارع يعلم بأنه لا ملاك فيه، وحينئذٍ يبيّن عدم كفايته، مثلاً: لو تمكن من الصيام إلى قبل الغروب بدقيقة.

وهذا قد يكون لتخطئة العرف، أو لأجل توسيع الموضوع أو تضييقه.

[4] أي: بالواجد للأجزاء والشرائط قد يلحق الفاقد الذي لا يراه العرف ميسوراً، لكن الشارع يُخطِّئ العرف ويبيّن أنه ميسور.

[5] بيان للتخطئة، «العدّ» أي: عدم عدّ العرف له ميسوراً.

[6] أي: لعدم اطلاع العرف على «ما» الملاك الذي، «هو» الفاقد، «عليه» على ذلك الملاك، قوله: «من قيامه...» بيان لقوله: «ما هو عليه».

[7] أي: من قيام الفاقد، «في هذا الحال» حال تعذر الشرط أو الجزء.

ص: 304

بتمام ما قام عليه الواجد[1] أو بمعظمه[2] في غير الحال، وإلاّ[3] عَدّ أنه ميسوره، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك - أي للتخطئة - وأنه لا يقوم بشيء من ذلك[4].

وبالجملة: ما لم يكن دليل[5] على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق[6]، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما[7] يكون المأمور به قائماً بتمامه أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب.

وإذا قام دليل على أحدهما[8] فيُخرج أو يُدرج تخطئةً أو تخصيصاً[9] في

--------------------------------------

[1] أي: الملاك الذي كان في الواجد.

[2] أي: بمعظم ما قام عليه الواجد، أي: معظم الملاك بحدّ يكون إدراكه لازماً، «في غير الحال» أي: في غير حال التعذر، أي: في حال التمكن.

[3] أي: وإن كان العرف مطلعاً على وجدان الفاقد للملاك أو لمعظمه كان يَعدّ هذا الفاقد من الميسور، «أنه» أن الفاقد، «ميسوره» أي: ميسور الواجد.

[4] مما قام عليه الواجد - أي: الملاك - .

[5] وهو الحالة الاستثنائية التي تدخّل فيها الشارع لتخطئة العرف.

[6] أي: إطلاق دليل (الميسور لا يسقط... الخ)، «منه» أي: من هذا الإطلاق.

[7] أي: بالملاك الذي، وقوله: «بتمامه» بدل عن قوله: «بما يكون المأمور...» وكان اللازم إضافه (به) بعد (قائماً) حتى يكون الضمير الراجع إلى الموصول.

[8] الإخراج عن الميسور العرفي، أو الإدخال فيه.

[9] أي: قد يكون تخطئة للعرف، وقد لا يكون تخطئة، بل إخراج فرد عن الحكم بالتخصيص.

والفرق أن (التخطئة): هي إعلام أن هذا ليس بفرد من الكلي، وقد أخطأ العرف في اعتباره فرداً، و(التخصيص): هو إعلام صحة كونه فرداً، ولكن يخرجه الشارع عن الحكم - مع دخوله في الموضوع - .

ص: 305

الأول[1]، وتشريكاً[2] في الحكم من دون الاندراج في الموضوع في الثاني[3]، فافهم[4].

تذنيب[5]: لا يخفى: أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته[6]،

--------------------------------------

[1] أي: في الإخراج.

[2] عطف على (تخطئة) أي: وقد يرى العرف أنه ليس بفرد، والشرع أيضاً يرى أنه ليس بفرد للكلي، ولكنه يجعل له نفس الحكم.

[3] أي: في الإدخال.

[4] لعله إشارة إلى أنه ليس بتخطئة ولا تشريك، بل هو توسيع الموضوع أو تضييقه، بمعنى أن الشارع يتصرف في الموضوع فيوسعه بحيث يشمل ما لا يعتبره العرف ميسوراً، أو يضيقه بحيث لا يشمل ما يعتبره العرف ميسوراً.

تذنيب

[5] في هذا التذنيب يبحث المصنف عن مورد من موارد الشك في الجزئية والشرطية، وهو ما لو دار الشيء بين كونه جزءاً أو شرطاً وبين كونه مانعاً أو قاطعاً، فلا ندري هل صحة العمل تتوقف على الإتيان به أو تتوقف على تركه؟

مثلاً: لو انحصر الساتر في ما لا يؤكل لحمه، فيدور الأمر بين كون الستر به شرطاً لصحة الصلاة، أو مانعاً عنها، فعليه أن يصلّي بلا ساتر.

ذهب الشيخ الأعظم إلى التخيير(1)؛

لأنه من مصاديق الدوران بين المحذورين، لكن المصنف يرى إمكان الاحتياط بتكرار العمل مرتين - مرة بدون ذلك الجزء أو الشرط، ومرّة أخرى معه - فصار من قبيل الدوران بين المتباينين.

[6] (المانع): هو الذي لا يختل به الهيئة الاتصالية للعمل، فإذا أزال المانع صحّ العمل، كمن يقع على ثوبه نجاسة في الصلاة فإنه ينزع الثوب ويستمر في الصلاة.

و(القاطع): هو الذي يختل به الهيئة الاتصالية للعمل، فلا تصلح الأجزاء

ص: 306


1- فرائد الأصول 2: 400.

لكان من قبيل المتباينين[1]، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين[2]، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى، كما هو أوضح من أن يخفى[3].

خاتمة: في شرائط الأصول[4].

أما الاحتياط[5]: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلاً، بل يحسن على كل حال، إلاّ

--------------------------------------

السابقة للاتصال بالأجزاء اللاحقة، كاستدبار القبلة، فإن الأجزاء السابقة تخرج عن قابلية الاتصال بالأجزاء اللاحقة.

[1] حيث يمكن الاحتياط بالتكرار، كما لو دارت القبلة بين الجهات الأربع، فكل صلاة إلى جهة تباين الصلاة إلى جهات أخرى، فتجب كلها احتياطاً؛ لإدراك الواقع وإبراء الذمة.

[2] الذي لا يمكن الاحتياط فيها، ويكون المكلف مخيراً، وأما هنا فالاحتياط ممكن بتكرار العمل.

[3] ولا يخفى أن ما ذكره المصنف إنما هو في ما لم يكن القاطع أو المانع حراماً، أما لو احتمل الحرمة فيكون من الدوران بين المحذورين، حيث لا يدرى أن هذا الشيء واجب لو كان جزءاً أو شرطاً، أو حرام لو كان مانعاً أو قاطعاً.

خاتمة في شرائط الأصول

اشارة

[4] إنّما لم يؤخر هذا البحث إلى بعد الاستصحاب - مع أن للاستصحاب شروطاً -لكثرة مباحث الاستصحاب، فبالتأخير تحصل فاصلة كبيرة قد يحتاج معه إلى التكرار أكثر.

شرط الاحتياط

[5] قد مرّ في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة حسن الاحتياط، كما مرّ موضوع

ص: 307

إذا كان موجباً لاختلال النظام.

ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً، ولو كان موجباً للتكرار فيها.

وتوهم[1] «كون التكرار عبثاً ولعباً بأمر المولى[2]، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة» فاسد[3]،

--------------------------------------

تكرار العبادة، لكن المصنف يكررها هنا تذكرة. فالاحتياط حسن على كل حال؛ لأن الإنسان يحفظ بالاحتياط غرض المولى، ويدرك مصلحة الواقع، ولا يقع في مفسدته.

نعم، إذا أوجب الاحتياط اختلال النظام، أو أورث محذوراً آخر كالوسوسة فلا حُسن فيه؛ لأن المصلحة الأهم اقتضت رفع اليد عن المصلحة المهمة.

[1] حاصله: إنه لو أمكن العلم أو الحجة، ولكنه احتاط بالتكرار، فإن هذا التكرار استخفاف بالمولى، والاستخفاف لا يجتمع مع قصد التقرب إليه.

[2] والعبث بأمره هو استخفاف به، «وهو» أي: العبث، وقوله: «عبثاً ولعباً» عطف تفسيري.

[3] من جهتين:

1- إن التكرار قد يكون لغرض عقلائي، فلا يكون استخفافاً بأمر المولى، مثلاً: لو كان تحصيل العلم بالقبلة يستلزم قطع مسافة طويلة جداً، تأخذ من الوقت أكثر من التكرار إلى الجهات الأربع، فإن التكرار ليس استخفافاً، بل له داعٍ عقلائي.

2- إن التكرار ليس استخفافاً بأمر المولى، بل قد يكون لغواً من جهة ضم أفعال غير مأمور بها إلى المأمور به، كمن يأمره المولى بإتيان كتاب، وتردد بين عشرة كتب، فلو أتى بها كلها - مع تمكنه من السؤال - فإنه قد امتثل أمر المولى بإتيان ما أمره به من غير استخفاف به، لكنه عمل لغواً بضم تسعة كتب أخرى، وهذا ليس لعباً بأمر المولى، فلا استخفاف فيه.

ص: 308

لوضوح[1] أن التكرار ربما يكون بداعٍ صحيح عقلائي؛ مع[2] أنه لو لم يكن بهذا الداعي، وكان أصل إتيانه[3] بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه، لما ينافي[4] قصد الامتثال، وإن كان لاغياً في كيفية امتثاله[5]، فافهم[6].

بل يحسن[7]

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الإشكال الأول.

[2] الإشكال الثاني، «أنه» أن التكرار، «بهذا الداعي» أي: الداعي العقلائي.

[3] أي: إنّما يأتي بالعمل مكرراً بغرض امتثال أمر المولى، لا بغرض الاستهزاء - مثلاً - ، «إتيانه» إتيان المأمور به، «له» للمكلف، «سواه» سوى أمر المولى.

[4] جزاء (لو) أي: لما كان التكرار ينافي قصد الامتثال.

[5] وذلك بضم ما لم يؤمر به إلى ما أمر به، «امتثاله» أي: امتثال أمر المولى.

[6] لعله إشارة إلى أن اللعب ليس في كيفية الامتثال أيضاً كما لم يكن في أصل الامتثال؛ وذلك لأن المكلف أتى بالصلاة إلى القبلة - واقعاً - وهذا هو الامتثال ولا لعب فيه، وإنما اللغو في ضمّ ثلاث صلوات أخرى إلى غير القبلة، وهي لا ترتبط بالامتثال أصلاً.

[7] أي: حتى لو قام الدليل الشرعي على عدم التكليف، فإنه يحسن الاحتياط أيضاً، مثلاً: لو قامت البينة بطهارة شيء، مع احتمال خطئها، فإنه يجوز التعامل مع الشيء معاملة الطاهر، ولكن يحسن الاحتياط. وكما لو قام خبر واحد على عدم وجوب شيء، بل على استحبابه، ومع ذلك يحتاط المكلف بالالتزام بذلك الشيء؛ وذلك لأن الدليل يرفع الحكم التكليفي ويرفع العقاب، أما الأمور التكوينية فتبقى بحالها، فالمصلحة في الواجب موجودة - علم بها المكلف أم جهل - وكذا المفسدة في الحرام، فلكي يحرز تلك المصلحة، وكذا لكي لا يقع في المفسدة - على فرض وجودهما - فيحتاط، وهذا حسن أيضاً.

ص: 309

أيضاً في ما قامت الحجة على البراءة عن التكليف، لئلا يقع[1] في ما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة.

وأما البراءة العقلية[2]: فلا يجوز إجراؤها إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلاّ بعدهما[3].

وأما البراءة النقلية[4]:

--------------------------------------

[1] دليل حسن الاحتياط، «في ما» بيّن الموصول في قوله: (من المفسدة وفوت المصلحة)، «مخالفته» مخالفة التكليف، «ثبوته» ثبوت التكليف.

شرط البراءة العقلية

[2] الذي كان مستندها (قبح العقاب بلا بيان) فشرط جريانها هو الفحص عن الدليل على التكليف واليأس عنه؛ لعدم حكم العقل بقبح العقاب قبل الفحص واليأس، بل لو لم يفحص وصادف المخالفة فلا يرى العقل مانعاً عن عقابه.

[3] «بها» بالبراءة، «بعدهما» بعد الفحص واليأس.

شرط البراءة النقلية

[4] إن أدلة البراءة الشرعية مطلقة، تشمل صورة عدم الفحص أيضاً؛ ولذا استدلوا بها على عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية، فمن شك في طهارة شيء لا يلزمه الفحص لدليل البراءة، وحينئذٍ فلابد من إثبات لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، من دليل مقيّد لإطلاق دليل البراءة.

وقد استدلوا بثلاثة أدلة على لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، مما يتقيد بها إطلاق دليل البراءة.

الأول: الإجماع على لزوم الفحص.

وفيه: إن الإجماع المحصّل غير حاصل؛ لعدم تعرض كثير من الفقهاء لهذه

ص: 310

فقضية إطلاق أدلتها[1]، وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها[2]، كما هو حالها[3]

--------------------------------------

المسألة، وأما الإجماع المنقول فهو موهون؛ وذلك لأن الإجماع الحجة إنما هو في ما لو كان كاشفاً عن قول المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، أما لو استند المجمعون إلى دليل آخر فلا يكون هذا الإجماع حجة، بل حتى لو احتمل استنادهم إلى دليل، وفي ما نحن فيه يحتمل قوياً استنادهم إلى حكم العقل بلزوم الفحص، فحينئذٍ يرجع دليل الإجماع إلى دليل العقل ولا يكون دليلاً مستقلاً.

الثاني: حكم العقل؛ وذلك للعلم الإجمالي بوجود تكاليف في المشتبهات، فيلزم الاحتياط، ومع الفحص ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ببعض التكاليف، وشك بدوي في سائر الأمور فتجري فيها البراءة.

وفيه: إن العلم الإجمالي منحل، حيث ظفرنا بمقدار من التكاليف، ولا نعلم بوجود تكاليف أخرى في سائر الموارد، ومع ذلك نقول بعدم جواز جريان البراءة الشرعية إلاّ بعد الفحص عن الدليل في تلك الموارد أيضاً.

الثالث: الآيات والأخبار الدالة على لزوم التعلّم والتفقه، فتدلّ على لزوم الفحص عن الدليل للتكليف.

[1] أدلة البراءة، كقوله: (رفع... ما لا يعلمون)(1)

وقوله: (فهو موضوع عنهم)(2) ولم تُقيّد بما بعد الفحص، بل هي مطلقة سواء قبله أم بعده.

[2] أي: في جريان البراءة؛ لأن الدليل مطلق لم يؤخذ فيه الفحص.

[3] «هو» عدم اعتبار الفحص، «حالها» حال البراءة النقلية، أي: تمسكوا لعدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية بإطلاق دليل البراءة، مما يعني أنهم يعترفون بإطلاقها؛ ولذا تمسكوا بالإطلاق في الشبهة الموضوعية.

ص: 311


1- التوحيد: 353.
2- الكافي 1: 164.

في الشبهات الموضوعية، إلاّ أنه[1] استدل على اعتباره بالإجماع، وبالعقل، فإنه[2] لا مجال لها بدونه حيث يعلم إجمالاً بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحص عنه لظفر به.

ولا يخفى[3]: أن الإجماع هاهنا غير حاصل، ونقله لوهنه بلا طائل[4]، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة - مما للعقل إليه سبيل - صعبٌ[5]، لو لم يكن عادةً بمستحيل، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل - لو لا الكل - هو ما ذكر من حكم العقل[6].

وأن الكلام[7]

--------------------------------------

[1] أي: ولكن توجد أدلة أخرى تقيّد إطلاق دليل البراءة، «اعتباره» أي: الفحص في الشبهات الحكمية.

[2] بيان للدليل العقلي - الذي يقيّد إطلاق دليل البراءة - «لها» للبراءة، «بدونه» بدون الفحص.

[3] شروع في الإشكال على الإجماع وعلى دليل العقل.

أما الإجماع ففي قوله: (أن الإجماع هاهنا... الخ)، وأما العقل ففي قوله: (وأن الكلام في البراءة...).

[4] أي: نقل الإجماع غير مفيد؛ وذلك لوهن هذا الإجماع، حيث إنه معلوم الاستناد، لا أقل من احتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل.

[5] لأن الإجماع الحجة هو ما كشف عن قول المعصومعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ومع وجود مستند آخر لحكم الفقهاء لا يُعلم كون مستندهم قول المعصوم، بل لعل ذلك المستند الآخر كان منشأ للحكم.

[6] فيرجع الإجماع إلى الدليل الثاني، فلا يكون دليلاً مستقلاً برأسه.

[7] عطف على قوله: (ولا يخفى أن الإجماع هاهنا... الخ)، وهذا رد للدليل العقلي.

ص: 312

في البراءة في ما لم يكن هناك علم موجب للتنجز[1]، إما[2] لانحلال العلم الإجمالي[3] بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، أو لعدم[4] الابتلاء إلاّ بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها[5].

فالأولى[6]

--------------------------------------

[1] أي: القائلون بلزوم الفحص، يقولون به حتى مع عدم تنجز العلم الإجمالي، إما لانحلال العلم الإجمالي الكبير، أو لعدم الابتلاء ببعض أطراف العلم الإجمالي، ولكن مع ذلك يجب الفحص قبل إجراء أصل البراءة الشرعية.

[2] بيان لصورتي عدم تنجز العلم الإجمالي.

[3] أي: العلم الإجمالي الكبير بوجود مجموعة من التكاليف ضمن مختلف القضايا.

[4] بيان للصورة الثانية من موارد عدم تنجز العلم الإجمالي، وهي أن لا يبتلى المكلف إلاّ بمقدار محدود من القضايا، ولا يعلم وجود تكليف ضمنها، فلا يكون علم إجمالي في ما هو محل ابتلائه، ولكن مع ذلك يجب الفحص قبل إجراء البراءة.

[5] أي: عدم الابتلاء ولو كان من جهة الغفلة، لا من جهة عدم القدرة، فلعل هناك قضايا يمكنه الإتيان بها، ولكنه لغفلته لا تكون محلاً لابتلائه.

[6] هذا هو الدليل الثالث الدال على لزوم الفحص، وبه يقيد إطلاق دليل البراءة، وهو الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلّم، كقوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}(1)، والدالة على عدم قبول عذر المخالف بعدم علمه فيقال له: (هلاّ تعلمت)(2)

مما يدل على وجوب تحصيل العلم - وهو فحص في حقيقته - .

إن قلت: إن مورد البراءة هو عدم العلم بالتكليف - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - فهذا في مورد الشبهات البدوية، وأما مورد أدلة التعلّم فهو ترك العمل بما علم بوجوبه إجمالاً، فلا تشمل موارد الشبهات البدوية حتى تقيد أدلة البراءة.

ص: 313


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.

الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات[1] والأخبار على وجوب التفقه والتعلم[2] والمؤاخذة[3] على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله[4] تعالى. كما في الخبر: «هلا تعلمت»(1).

فيقيد بها[5] أخبار البراءة، لقوة

--------------------------------------

قلت: إن أدلة (التعلّم) إنّما هي في الجاهل - لا في العالم بالعلم الإجمالي - وذلك لظهور مثل: (هلاّ تعلّمت) فيمن لا يعلم أصلاً، وكان عدم تعلّمه عن تقصير، إذن فأدلة البراءة في مورد الشبهات البدوية وهي مطلقة تشمل قبل الفحص وبعده، وأدلة وجوب التعلم أيضاً في الشبهات البدوية ولكنها خاصة بصورة قبل الفحص؛ إذ بعد الفحص قد تحقق التعلّم، وعلى هذا لابد من تقييد أدلة البراءة بأدلة وجوب التعلم، مما ينتج عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص، وجواز إجرائها بعد الفحص.

[1] كآية السؤال: {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(2)، وآية النفر: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}(3) وغيرهما.

[2] الذي هو عبارة أخرى عن الفحص عن التكاليف.

[3] وقد جعل الشيخ الأعظم(4)

جواز المؤاخذة على المخالفة بسبب ترك الفحص دليلاً آخر على لزوم الفحص؛ إذ لو لم يكن الفحص واجباً كان العقاب على المخالفة قبيحاً، لكنا نرى استقلال العقل باستحقاق المخالف للعقوبة لو كان متمكناً من التعلم لكنه تركه.

[4] (الباء) متعلق ب- (المؤاخذة)، أي: المؤاخذة بقوله: (هلاّ تعلّمت).

[5] أي: بالآيات والروايات الدالة على وجوب التفقه والتعلم وعلى المؤاخذة

ص: 314


1- الأمالي (للشيخ الطوسي): 9، مع اختلاف.
2- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- فرائد الأصول 2: 412.

ظهورها[1] في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم في ما لم يعلم، لا بترك العمل[2] في ما علم وجوبه ولو إجمالاً، فلا مجال للتوفيق[3] بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالاً، فافهم[4].

--------------------------------------

لو ترك العمل لجهله.

[1] بيان لكون أدلة (التعلّم) هي أخص من دليل البراءة، و(قوة الظهور) بمعنى تبادر هذا المعنى إلى أذهان أهل اللسان.

ففي أمالي الشيخ الطوسي عن الإمام الصادقعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه سئل عن قوله تعالى: {قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ}(1)، فقال: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصمه، فتلك الحجة البالغة)(2).

فإنه من الواضح أن المعنى أنه كان جاهلاً فلم يعمل، لا أنه كان عالماً إجمالاً فترك العمل!!

[2] لأنه في هذا الحديث قد ذكر أولاً ترك العمل بما يعلم، ثم ذكر ثانياً ترك التعلّم في ما لم يعلم به.

[3] «للتوفيق» أي: الجمع بين الدليلين، «هذه الأخبار» أي: أخبار وجوب التعلّم. أي: بعد ظهور أدلة التعلّم في كونها في صورة الجهل، وأنها أخص من أدلة البراءة، فمقتضى الجمع هو تقييد أدلة البراءة بأدلة التعلّم، ولا مجال لجمع آخر بأن يقال: إن أدلة البراءة هي في الشبهات البدوية، وأدلة التعلم في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي؛ وذلك لأن هذا التوفيق إنّما يكون في المتباينين، وليس هنا كذلك، لما بيّناه من الإطلاق والتقييد، مضافاً إلى أن هذا الجمع تبرعي.

[4] لعله إشارة إلى عدم الحاجة إلى الاستدلال بقوة الظهور؛ وذلك لأنه إذا

ص: 315


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- الأمالي: 9.

ولا يخفى[1]: اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضاً بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل.

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.

أما التبعة[2]: فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة في ما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤدياً إليها[3]،

--------------------------------------

فحص ولم يجد تكليفاً فلا معنى لأن يقال له تعلّم.

أو إشارة إلى أن تقدم أدلة البراءة بشكل مطلق على أدلة التعلم يستلزم اللغوية في أدلة التعلّم؛ إذ مع إجراء البراءة لا يبقى مجال لوجوب التعلّم، فلابد من تقديم أدلة التعلّم على أدلة البراءة، فيقيد دليل البراءة بما بعد الفحص.

شرط التخيير العقلي

[1] نفس ما ذكرناه في البراءة العقلية، من أن العقل لا يستقل بها إلاّ بعد الفحص، نقوله في التخيير العقلي؛ إذ لا يحكم العقل به إلاّ بعد الفحص واليأس، وأما قبله فلا حكم بالتخيير، ودليل هذا الأمر الوجدان.

إجراء البراءة قبل الفحص

أولاً: التبعة
اشارة

[2] أي: استحقاق العقوبة وعدمها، فمن ترك الفحص وأجرى البراءة:

1- فقد يخالف الواقع، كمن أجرى البراءة في العصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين فشربه، فهذا يستحق العقاب.

2- وقد لا يخالف الواقع، كمن أجرى البراءة عن حرمة شرب التبغ، ثم صادف عدم حرمته واقعاً، فهذا متجرٍّ، ويستحق العقاب على تجريه - بناءً على حرمة التجري - .

[3] أي: إلى المخالفة.

ص: 316

فإنها[1] وإن كانت مغفولة حينها[2] وبلا اختيار، إلاّ أنها منتهية إلى الاختيار، وهو[3] كافٍ في صحة العقوبة؛ بل مجرد تركهما[4] كافٍ في صحتها وإن لم يكن مؤدياً إلى المخالفة، مع احتماله[5]، لأجل التجري وعدم المبالاة بها.

نعم، يشكل[6]

--------------------------------------

[1] دفع إشكال، وحاصله: إنه حين المخالفة غافل عن أن فعله مخالفة، ويقبح عقاب الغافل.

والجواب: إن سبب المخالفة هو ترك الفحص، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من شاهق، فقبل ارتطامه بالأرض هو غير مختار، لكن بما أن سبب العمل كان باختياره فإنه تصح عقوبته.

[2] أي: حين المخالفة، «وبلا اختيار» لأن الغفلة أمر غير اختياري، «إلاّ أنها» أن المخالفة، «إلى الاختيار» وهو ترك الفحص.

[3] أي: الانتهاء إلى الاختيار.

[4] أي: ترك التعلّم والفحص، «صحتها» صحة العقوبة.

[5] أي: احتمال أن يؤدي إلى المخالفة، وإنّما ذكر هذا القيد لأنه لا تجري مع عدم الاحتمال، فمن لا يحتمل الحرمة أصلاً لا يصدق عليه أنه تجرّى على مولاه.

إشكال

[6] حاصل الإشكال: إن وجوب التعلم هو وجوب غيري مقدمي، حيث إنه مقدمة للعمل بالتكاليف، فلابد من وجوب ذي المقدمة حتى يترشح وجوبه إلى وجوب المقدمة.

لكن في الواجب المشروط - كالحج المشروط بالاستطاعة - لا وجوب قبل الاستطاعة، وبعد تحقق الاستطاعة يكون غافلاً عن الوجوب، فليس وجوب الحج منجزاً، فكيف تجب مقدمته، التي هي التعلّم والفحص؟

ص: 317

في الواجب المشروط والموقت[1] لو أدّى تركهما[2] قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما، فضلاً[3] عما إذا لم يؤد إليها، حيث لا يكون حينئذٍ[4] تكليف فعلي أصلاً، لا قبلهما - وهو واضح[5] - ولا بعدهما[6] - وهو كذلك -، لعدم[7] التمكن منه

--------------------------------------

وبعبارة أخرى: لم يتنجز الحج أصلاً، لا قبل الاستطاعة؛ لعدم وجوبه، ولا بعد الاستطاعة للغفلة عنه.

[1] (الواجب المشروط) وهو ما توقف أصل الوجوب على تحقق شرط، كوجوب الحج المتوقف على تحقق الاستطاعة؛ إذ قبل الاستطاعة لا وجوب للحج أصلاً. وتسميته بالواجب المشروط حسب اصطلاح الشيخ الأعظم، وهو الواجب المعلّق حسب اصطلاح المشهور.

و(الواجب الموقت) هو من أقسام الواجب المشروط، ويكون شرط الوجوب هو الوقت، مثلاً: قبل شهر رمضان لا وجوب للصوم، ويجب بطلوع الفجر من اليوم الأول.

[2] أي: ترك الفحص والتعلّم، «بعدهما» أي: بعد الشرط والوقت.

[3] أي: في صورة التجري، والمعنى: إنه مع المخالفة يشكل العقاب، فكيف مع عدم المخالفة؛ لأن التجري لا يزيد على المخالفة؟

[4] أي: حين عدم الفحص والتعلم، فلا يوجد تكليف أصلاً لا قبل تحقق الشرط والوقت، ولا بعدهما.

[5] لما مرّ أن المقدمة هي شرط الوجوب، فلا وجوب لذي المقدمة كي يترشح على المقدمة، «وهو» عدم التكليف الفعلي.

[6] بعد تحقق الشرط والوقت، «وهو» عدم التكليف الفعلي، «كذلك» واضح.

[7] بيان لوضوح عدم التكليف الفعلي بعد تحقق الشرط والوقت، «منه» أي: من التكليف.

ص: 318

بسبب الغفلة؛ ولذا التجأ[1] المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك (قدس سرهما)(1)

إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسياً تهيئياً، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه، لا على[2] ما أدّى إليه من المخالفة، فلا إشكال حينئذٍ[3] في المشروط والموقت. ويسهل[4] بذلك[5] الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدق[6]

--------------------------------------

الجواب الأول

[1] حيث لم يتمكنوا من دفع هذا الإشكال عبر الوجوب الغيري المقدمي للفحص والتعلم، اضطروا إلى القول بأن التعلم والفحص واجب نفسي، فهو يجب حتى مع عدم وجوب الواجب المشروط، ولكن المصلحة في وجوب التعلّم هو التهيّؤ للتكاليف حتى لا يخالفها، وبعبارة أخرى: المصلحة في وجوب التعلّم هو حفظ أوامر المولى ونواهيه وتحصيل غرضه.

[2] أي: ليست العقوبة على «ما» المخالفة التي، «أدّى» ترك التعلّم، «إليه» الضمير راجع إلى الموصول، «من المخالفة» بيان للموصول.

[3] أي: حين القول بوجوب التعلّم بالوجوب النفسي التهيّؤي.

[4] إن الشيخ الأعظم(2)

أشكل على استحقاق الغافل للعقوبة حتى في غير الواجب المشروط والموقت؛ وذلك لأن تكليفه لغو لعدم الباعثيّة في هذا التكليف.

فيقول المصنف: إن القول بوجوب التعلّم والفحص نفسياً تهيئياً يسهل الأمر على مثل الشيخ الأعظم، حتى في غير الواجب المشروط والموقت - أي: في الواجب المطلق - .

[5] أي: بالوجوب النفسي التهيّؤي، «غيرهما» غير المشروط والموقت.

[6] أي: لو لم تكن صورة الغفلة مصداقاً للقاعدة العامة (ما بالاختيار لا ينافي الاختيار) و«على» في قوله: «على ما كان» متعلق بقوله: (لم تصدق).

ص: 319


1- مجمع الفائدة والبرهان 2: 110؛ مدارك الأحكام 2: 219 - 320.
2- فرائد الأصول 2: 421.

كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلاً مغفولاً عنه وليس بالاختيار.

ولا يخفى: أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلاّ بذلك[1]، أو الالتزام[2] بكون المشروط أو الموقت مطلقاً[3] معلقاً[4]،

--------------------------------------

[1] أي: بالوجوب النفسي التهيؤي.

الجواب الثاني

[2] حاصله: أن يقال: إن الواجبات المشروطة هي واجبات مطلقة بالنسبة إلى خصوص التعلم، مثلاً: (الحج) واجب مطلق بالنسبة إلى التعلّم، فيترشح من وجوب الحج وجوب المقدمة - التي هي التعلم - ولكنه بالنسبة إلى الاستطاعة وكذا سائر المقدمات واجب مشروط.

فيمكن أن يقول المولى هكذا: يجب من الآن عليك الحج بشرط التحقق الاتفاقي للاستطاعة، فيكون وجوب الحج فعلياً بالنسبة إلى التعلّم، لكن لا تجب تحصيل الاستطاعة؛ لأن المولى علّق الحكم على تحققها الاتفاقي.

إن قلت: هذا خلاف ظاهر الأدلة من عدم وجوب مثل الحج أصلاً قبل الاستطاعة.

قلت: يكفي هذا الاحتمال لدفع الإشكال العقلي، بأنّه كيف يترشح وجوب مقدمي على التعلّم مع عدم وجوب ذي المقدمة - مع وضوح وجوب التعلم شرعاً -؟ وكيف حكم الشارع خلاف حكم العقل؟! فيقال: إنه لا محذور عقلي، فلا إشكال في حكم الشارع بوجوب التعلّم مقدمة.

[3] أي: قبل تحقق الشرط - كالاستطاعة - أو بعد تحققه، أو «مطلقاً» بمعنى الواجب المطلق، أي: يكون المشروط والموقت واجباً مطلقاً لكنه بنحو التعليق.

[4] أي: واجب مطلق، لكنه متوقف وجوداً على تحقق شرط؛ لأن (الواجب

ص: 320

لكنه[1] قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية[2] عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم، فيكون الإيجاب حالياً[3]، وإن كان الواجب استقبالياً[4] قد أخذ[5] على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه[6] ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.

وأما لو قيل[7] بعدم الإيجاب إلاّ بعد الشرط والوقت - كما هو ظاهر الأدلة وفتاوى

--------------------------------------

المعلق) من أقسام الواجب المطلق كما مرّ، فالصلاة تتوقف على الوضوء، بمعنى أن وجودها يتوقف عليه لا وجوبها؛ إذ هي واجبة سواء توضأ أم لم يتوضأ.

وبعد دخول شهر رمضان يجب صيام الشهر كله مع أن الأيام التالية لم تتحقق بعد، فالوجوب حالي - بمجرد دخول الشهر - والواجب استقبالي يتحقق بطلوع الفجر من كل يوم.

[1] أي: لكن هذا الواجب المعلق، «على نحو» أي: على كيفية.

[2] كالزاد والراحلة والرفقة... الخ، فإنها مقدمات وجود الحج وتحققه في الخارج، وليست مقدمات وجوبه، بخلاف الاستطاعة فإنها مقدمة الوجوب.

[3] فيترشح الوجوب منه إلى مقدمته - التي هي التعلّم والفحص - .

[4] يتوقف على تحقق زمانه، كالمستطيع الذي يجب عليه الحج فعلاً، ولكن وقت أداء مناسك الحج يكون في المستقبل - أي: أشهر الحج - .

[5] أي: قد أخذ الوجوب في المشروط والموقت، «على نحو» أي: كيفية إضافية، فهو بالنسبة إلى التعلّم واجب مطلق معلق، ولكن بالنسبة إلى الاستطاعة وسائر المقدمات واجب مشروط أو موقت.

[6] (الشرط) يعني به المقدمة الوجوبية كالاستطاعة، كأن يقول المولى: يجب عليك الحج من الآن، ولكن وقت الواجب هو حين الحصول الاتفاقي للاستطاعة.

[7] أي: إذا لم يرتض أحد هذا الجواب الثاني؛ لأنه خلاف ظاهر الأدلة وفتوى الأصحاب، فلابد من التمسك بالجواب الأول وهو الوجوب النفسي التهيؤي.

ص: 321

المشهور - فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسياً، لتكون العقوبة - لو قيل بها[1] - على تركه، لا على ما أدى إليه من المخالفة، ولا بأس به[2]، كما لا يخفى.

ولا ينافيه[3] ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه،

--------------------------------------

[1] لا إشكال في العقوبة كما صرح المصنف، حيث قال: (فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة في ما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤدياً إليها)، فقوله: «لو قيل بها» لا وجه له، «تركه» ترك التعلّم.

[2] أي: بالوجوب النفسي للتعلم.

[3] إشكال وجوابه، وأما الإشكال فهو: إنه يظهر من الأخبار أن وجوب التعلّم ليس فيه مصلحة لنفسه، بل هو مقدمة لحفظ الأحكام الشرعية، فكيف تقولون بأنه واجب نفسي؟

وأما الجواب: فإن كون الغرض من وجوب التعلّم هو التهيّؤ وحفظ أغراض المولى، وهذا لا ينافي الوجوب النفسي.

قال الشيخ الأعظم: (وما دل بظاهره - من الأدلة المتقدمة - على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمول على بيان الحكمة في وجوبه، وأن الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرمات، حتى لا يفوته منفعة التكليف بها، ولا تناله مضرة إهماله عنها، فإنه قد يكون الحكمة في وجوب شيء لنفسه صيرورة المكلف قابلاً للخطاب)(1).

والحاصل أن وجوب شيء بغرض حفظ واجب آخر على قسمين:

1- الوجوب المقدمي: بمعنى أن يترشح الوجوب من ذي المقدمة على المقدمة، وهذا في مقدمات الواجب غالباً.

ص: 322


1- فرائد الأصول 2: 421.

حيث إن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجباً غيريّاً يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدمياً، بل للتهيؤ لإيجابه، فافهم[1].

وأما الأحكام[2]: فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة[3]، بل[4] في

--------------------------------------

2- الوجوب التهيؤي، بمعنى أن يكون الوجوب لنفسه، ولكن بغرض حفظ واجب آخر.

[1] لعله إشارة إلى أن ظاهر أدلة التعلم هو الوجوب المقدمي الغيري، لا الوجوب التهيؤي.

ثانياً: الحكم الوضعي بالإعادة
اشارة

[2] ما يذكر هنا هو خصوص الإعادة، ومحصله أن الصور في ما لو لم يفحص هي:

1- أدّى عدم الفحص إلى مخالفة الواقع، فلا إشكال في بطلان عمله، ولزوم الإعادة، كمن لم يكن يعلم بجزئية السورة في الصلاة ولم يفحص، وصلّى من غير سورة.

2- لو وافق الواقع في التوصليات، فلا إشكال في صحة العمل وعدم الاحتياج إلى الإعادة.

3- لو وافق الواقع في التعبديات مع تأتّي قصد القربة منه، كما لو كان غافلاً عن القنوت - مثلاً - ولم يأت به، مع عدم كونه جزءاً واقعاً، فلا إشكال أيضاً في صحة العبادة.

4- لو وافق في التعبديات مع عدم تأتي قصد القربة، كما لو كان متردداً حين العمل، ومن المعلوم أن التردد لا ينسجم مع قصد القربة، فهنا العمل باطل ويلزم الإعادة.

[3] هذه الصورة الأولى.

[4] هذه الصورة الرابعة، ولم يذكر الصورة الثانية والثالثة لوضوحهما.

ص: 323

صورة الموافقة أيضاً في العبادة في ما لا يتأتى منه قصد القربة، وذلك[1] لعدم الإتيان بالمأمور به، مع عدم دليل على الصحة والإجزاء[2] إلاّ في الإتمام[3] في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح[4] - وقد أفتى به المشهور - صحة الصلاة وتماميتها[5] في الموضعين مع الجهل مطلقاً[6]، ولو كان عن تقصير موجب[7] لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها، لان ما أتى

--------------------------------------

[1] أي: عدم الصحة في صورة المخالفة، وكذا إذا وافق مع عدم تأتي قصد القربة في العبادات.

[2] لأن سقوط المأمور به يكون بأحد أمرين:

1- الصحة: بأن يتطابق المأتي به مع المأمور به.

2- الإجزاء: بأن يحصل غرض المولى، فيكون غير المأمور به مجزياً عن المأمور به.

ومع عدم الفحص وتحقق المخالفة، أو مع عدم قصد القربة في العبادة لا دليل على الصحة، ولا على الإجزاء.

التمام بدل القصر جهلاً، والجهر والإخفات كذلك

[3] أي: يوجد دليل في موردين، فإنه حتى لو خالف صحت صلاته ولا يلزمه الإعادة:

1- لو صلى تماماً في ما كان تكليفه القصر جهلاً بالحكم، فإنه تصح صلاته ولا يحتاج إلى الإعادة، سواء كان عن تقصير أم عن قصور.

2- لو جهر في موضع الإخفات، أو بالعكس، جهلاً بالحكم فكذلك تصح صلاته.

[4] أي: الخبر الصحيح، فهو صحيح سنداً معمول به من المشهور.

[5] عطف تفسيري، لأن الصحة هي التمامية.

[6] وشرح «مطلقاً» بقوله: «ولو كان عن تقصير».

[7] صفة للتقصير، أي: هذا التقصير يوجب استحقاقه العقاب، ولكن مع ذلك

ص: 324

بها[1] وإن صحت وتمت إلاّ أنها[2] ليست بمأمورٍ بها.

إن قلت[3]: كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها[4]؟! وكيف يصح الحكم

--------------------------------------

عمله صحيح، فهو يستحق العقاب على ترك القصر وعلى ترك الجهر أو الإخفات، لكن ليس عليه الإعادة.

[1] أي: الصلاة تماماً في موضع القصر، وكذا الجهر في موضع الإخفات وكذا العكس.

[2] أي: الصلاة المأتي بها لا أمر لها، لما سيأتي من أن الأمر لا يكون إلاّ بنحو الترتب، والترتب محال، فتبقى الصلاة تماماً لا أمر بها، ولكن حيث أتى بها سقط الأمر بالصلاة قصراً، ولكنه مع ذلك يعاقب.

وهنا يستشكل بأربعة إشكالات:

الأول: كيف تكون الصلاة تماماً صحيحة، مع عدم وجود أمر بها؟ وهل يمكن تحقق عبادة من غير أمر؟

الثاني: كيف يستحق العقاب ولا تصح الإعادة قصراً مع بقاء الوقت وإمكان الإعادة؟

الثالث: إن الصلاة تماماً سبب لفوات المأمور به - وهي الصلاة قصراً - وما يكون سبباً لفوات الواجب يكون محرماً، فكيف تصح الصلاة تماماً مع حرمتها؟

الرابع: إن الصحة في حال الجهل تستلزم الصحة في حال العلم - ولا يلتزم به أحد - .

وكل هذه الإشكالات في الجهر عوض الإخفات أو بالعكس.

الإشكال الأول والثاني

[3] بيّن المصنف فيه الإشكال الأول والثاني مع جوابهما.

[4] فهل تصح عبادة من غير أمر من الشارع؟

ص: 325

باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها حتى[1] في ما إذا تمكن مما أمر بها[2] - كما هو ظاهر إطلاقاتهم - بأن علم بوجوب القصر أو الجهر[3] بعد الإتمام والإخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهراً؟! ضرورة[4] أنه لا تقصير هاهنا[5] يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة: كيف يحكم بالصحة بدون الأمر؟! وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة لو لا[6] الحكم شرعاً بسقوطها وصحة ما أتى بها؟!

قلت[7]:

--------------------------------------

[1] يعني مع بقاء الوقت وإمكان الإتيان بالصلاة قصراً، فكيف لا تصح الصلاة قصراً، مع العقاب على تركها؟

وهل هذا أسوأ حالاً ممن صلّى صلاة فاقدة لجزء أو شرط، حيث يجب عليه إعادتها - في بعض الصور - ولا عقاب عليه؛ لأن الصلاة الأولى كانت عملاً لغواً، والصلاة الثانية كانت المأمور بها فقد أدّى ما عليه، فلا يستحق عقاباً؟

[2] أي: الصلاة قصراً، أو مع الجهر أو الإخفات عوضاً عن الآخر.

[3] أو الإخفات لو كان تكليفه ذلك - كما في صلاة الظهر - ولم يذكره المصنف اختصاراً.

[4] تبيين للإشكال، وحاصله: إنه يتمكن من الإتيان بالمأمور به في وقته - فلا تقصير من هذه الجهة - ولكن يقال له لا تصح صلاتك قصراً وأنت مستحق للعقاب لتركها؟!!

[5] صورة إمكان الإعادة في الوقت.

[6] أي: إذا لم يحكم الشارع بسقوط المأمور به بالصلاة قصراً كان يمكن الإتيان بالمأمور به في وقته، فكيف حكم الشارع بسقوط الصلاة المأمور بها مع عدم الإتيان بها، ومع بقاء وقتها ثم قد يعاقب هذا المصلي؟

[7] حاصل الجواب: أما عن الأول: فإن الصلاة تماماً - مع أنها غير مأمور بها -

ص: 326

إنما حكم بالصحة لأجل اشتمالها[1] على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها، وإن كانت دون مصلحة[2] الجهر والقصر، وإنما لم يؤمر بها[3] لأجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم.

وأما الحكم[4]

--------------------------------------

تشتمل على مصلحة الواجب كاملاً. نعم، تلك المصلحة أقل من مصلحة القصر؛ ولذا لم يكن واجباً تخييرياً؛ إذ مع تساوي المصلحتين لابد من التخيير، وحيث لم يخيّر الشارع علمنا بأن للقصر مصلحة مع مزية، وللتمام في حال الجهل مصلحة كاملة بلا مزية. ولابد من فرض التضاد بين المصلحتين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فمع تحقق مصلحة التمام لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة القصر.

ومثاله في الموالي العرفية: لو أمر المولى سقيه بماء بارد لرفع العطش، فسقاه بماء فاتر، فقد تحققت المصلحة - وهي الارتواء - من غير إمكان تحقق مصلحة الماء البارد المأمور به، فيسقط الأمر هنا، ويكتفي بما لم يكن مأموراً به.

[1] أي: الصلاة، «مصلحة تامة» كالماء الفاتر في المثال حيث يوجب الارتواء، «لازمة الاستيفاء» فإن الارتواء في المثال كان غرضاً يلزم وجوباً تحقيقه.

[2] لعدم وجود تلك المزية، كالبرودة في المثال.

[3] أي: بالصلاة تماماً أو بإخفات، والمقصود أنه إذا كانت واجدة لتمام المصلحة فلماذا لم يأمر المولى بها على نحو الوجوب التخييري؟ والجواب: إن المولى إضافة إلى تحقق تلك المصلحة يريد تحقق المزية - كالبرودة في المثال - «أنه» أن المولى، «بما» بصلاة - وهي صلاة القصر أو صلاة بالجهر في موردنا - .

[4] هذا هو الجواب عن الإشكال الثاني، وحاصله: إنه مع استيفاء المصلحة بالتمام لا يبقى محل لاستيفاء المصلحة بالقصر؛ لأن المصلحتين متضادتان لا تجتمعان، كما في المثال، حيث ارتواء المولى بالماء الفاتر فوّت محل الارتواء بالماء البارد، فالأمر بالإعادة بلا فائدة؛ لعدم إمكان استيفاء مصلحة المأمور به، وهنا

ص: 327

باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة، فإنها بلا فائدة[1]، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، ولذا[2] لو أتى بها في موضع الآخر[3] جهلاً مع تمكنه من التعلم فقد قصّر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا من الجهر كذلك[4] بعد فعل صلاة الإخفات وإن كان الوقت باقياً.

إن قلت[5]:

--------------------------------------

يستحق العقاب؛ لأنه فوّت محلّ المأمور به، وفوّت المزية على المولى.

[1] أي: فلأنها بلا فائدة، «إنها» أي: الإعادة، «تلك المصلحة» عبر الصلاة تماماً أو إخفاتاً، «لا يبقى مجال» لفرض أن المصلحتين متضادتان لا يمكن جمعهما، «في المأمور بها» أي: الصلاة قصراً أو جهراً.

[2] أي: لعدم تمكنه من استيفاء مصلحة المأمور به، فقد تحقق التقصير من هذا المكلف، فيستحق العقاب على تفويته لمصلحة المأمور به.

[3] أي: أتى بالصلاة تماماً في موضع القصر، والصلاة إخفاتاً في موضع الجهر، وبالعكس، «فقد قصّر» أي: كان جاهلاً مقصراً، وهو بذلك يستحق العقاب.

[4] أي: صحيحة.

الإشكال الثالث

[5] حاصل الإشكال: إن الصلاة التمام - وهي غير مأمور بها - قد سببت في تفويت الواجب المأمور به - وهو الصلاة قصراً - والعمل الذي يكون سبباً لتفويت الواجب يكون حراماً، فالصلاة تماماً محرمة، فهي فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب للفساد،هكذا في الجهر والإخفات.

وبعبارة أخرى: هذا الإشكال مركب من أربعة أمور:

1- الصلاة تماماً قد فوتت مصلحة الصلاة قصراً - حسب ادعاءكم - .

ص: 328

على هذا[1] يكون كل منهما في موضع الآخر سبباً[2] لتفويت الواجب فعلاً، وما هو[3] سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة[4] العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت[5]:

--------------------------------------

2- تفويت الواجب حرام، وهنا قد فوَّت الواجب المأمور به - وهو الصلاة قصراً - .

3- مقدمة الحرام محرمة، وهنا الصلاة تماماً سبب لتفويت المأمور به، وهي الصلاة قصراً.

4- الصلاة تماماً حيث كانت محرمة، فهي فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب للفساد.

[1] أي: بناءً على ما ذكرتموه من أن الصلاة تماماً غير مأمور بها، وهي تمنع من إمكان تحصيل مصلحة الصلاة قصراً، «منهما» أي: من التمام في موضع القصر، والإخفات في موضع الجهر، «فعلاً» أي: الواجب الفعلي.

[2] هذا الأمر الأول.

[3] هذا الأمر الثالث، وهو ينطوي على الأمر الثاني أيضاً، أي: تفويت الواجب حرام، ومقدمة التفويت تكون محرمة أيضاً.

[4] إشارة إلى الأمر الرابع.

[5] حاصل الجواب: إن الضدين في مرتبة واحدة، فلا يكون أحدهما سبباً للآخر، وعدم أحد الضدين في نفس مرتبة الضد - لأن النقيضين في مرتبة واحدة - .

مثلاً: الصلاة وعدم الصلاة في مرتبة واحدة، وحيث إن الصلاة ضد للإزالة، فعدم الصلاة أيضاً في نفس مرتبة الإزالة - كما مرّ تفصيله في بحث الضد - .

وهنا الصلاة قصراً في مرتبة الصلاة تماماً؛ لأنهما ضدان، فعدم الصلاة قصراً يكون في مرتبة الصلاة تماماً، إذن لا تكون الصلاة تماماً مقدمة لتفويت الصلاة قصراً، بل هما في مرتبة واحدة، فلا ينطبق عليها أنها مقدمة الحرام.

ص: 329

ليس سبباً لذلك[1]، غايته أنه[2] يكون مضاداً له، وقد حققنا في محله أن الضد وعدم ضده[3] متلازمان ليس بينهما توقف أصلاً.

لا يقال[4]: على هذا[5] فلو صلى تماماً أو صلى إخفاتاً في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما[6] في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه يقال[7]:

--------------------------------------

[1] أي: ليس الصلاه تماماً سبباً لتفويت الواجب - وهو الصلاة قصراً - وكذا في الجهر والإخفات.

[2] «غايته» غاية الأمر، «أنه» أي: إن كلاً منهما - الصلاة تماماً والإخفات في موضع الجهر - «مضاداً له» للواجب وهو الصلاة قصراً وجهراً.

[3] لأن عدم ضده - كعدم الصلاة - في مرتبة ضده كالصلاة، حيث إنهما نقيضان، وحيث إن الضد وضده كالإزالة والصلاة في رتبة واحدة، كان الضد وعدم ضده كالإزالة وعدم الصلاة أيضاً كذلك في رتبة واحدة.

الإشكال الرابع

[4] حيث ذكر المصنف أن الصلاة تماماً - في موضع القصر - تكون واجدة لمصلحة الصلاة قصراً، يأتي إشكال وهو أنه لو صلاها تماماً عمداً مع علمه بأن تكليفه القصر فلابد من صحة صلاته؛ لأنها واجدة للمصلحة!!

[5] أي: اشتمال الصلاة تماماً على مصلحة الصلاة قصراً، وكذا في الجهر والإخفات.

[6] أي: وجوب القصر والجهر، «في موضعهما» أي: موضع القصر والجهر، وكأن هذه الكلمة تكرار وزائدة.

[7] حاصل الجواب: إنا لا نمانع من الصحة ثبوتاً، لكن لا دليل في مرحلة

ص: 330

لا بأس بالقول به[1] لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم. لاحتمال[2] اختصاص أن يكون كذلك[3] في صورة الجهل، ولا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها[4] باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به، كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول[5] بصدد بيان إمكان[6] كون المأتي به في غير موضعه مأموراً به بنحو الترتب.

--------------------------------------

الإثبات، أي: لم يثبت أن المصلحة موجودة في صورة العلم، بل الثابت هو وجود المصلحة في صورة الجهل فقط؛ إذ قد تكون في حالة الجهل مصلحة التيسير مثلاً أو أية مصلحة أخرى، ولا توجد تلك المصلحة في صورة العلم.

[1] أي: بالصحة في صورة العلم، «أنها» الصلاة تماماً أو بإخفات - في المثال - .

[2] أي: إنما قلنا: (لو دل الدليل) لأنه في مرحلة الثبوت هناك احتمالان: أن يكون واجداً للمصلحة، وأن لا يكون واجداً للمصلحة، فلابد لإبراء الذمة في مرحلة الإثبات من وجود دليل على وجدانه للمصلحة، وإلاّ وجب عليه الاحتياط؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[3] أن يكون التمام والإخفات، «كذلك» واجداً للمصلحة.

[4] أي: في الصلاة.

تصحيح الصلاة بنحو الترتب

[5] أي: كاشف الغطاء(1)،

فإن المصنف صحح الصلاة تماماً وإخفاتاً بالمصلحة مع أنه لا أمر لهما.

لكن كاشف الغطاء صحح الصلاة بنحو الترتب، بأن يكون الكل مأمورين بالقصر والجهر، ولكن مع الجهل يكون أمر بالتمام والإخفات، فهذه الصلاة تكون صحيحة لأنها مأمور به.

[6] قد ذكرنا أن صحة الصلاة مما لا إشكال فيها، ولكن البحث حول كيفية هذه

ص: 331


1- كشف الغطاء 1: 171.

وقد حققنا[1] في مبحث الضد امتناع الأمر بالضدين مطلقاً ولو بنحو الترتب بما لا مزيد عليه، فلا نعيد.

ثم إنه ذُكر[2] لأصل البراءة شرطان آخران:

أحدهما[3]: أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

ثانيهما[4]: أن لا يكون موجباً للضرر على آخر.

ولا يخفى[5]:

--------------------------------------

الصحة، وكيف يدفع الإشكال العقلي؟ فبيان إمكان صورة من الصور - ولو مع عدم قيام الدليل عليها - كفيل بدفع الإشكال العقلي؛ لأنه مع الاحتمال لا يحكم العقل أصلاً.

[1] هذا رد لما ذهب إليه كاشف الغطاء، وحاصله: إنه في مرحلة الأهم لا يوجد أمر بالمهم، لكن في مرحلة المهم يطلبه المولى مع أنه لازال على طلبه للأهم، فيكون المولى طالباً للضدين، وهذا محال، فراجع بحث الترتب.

شرطان آخران للبراءة!!

اشارة

[2] ذكرهما الفاضل التوني(1).

[3] إن البراءة هي لنفي التكليف، فلا تجري إذا أثبتت تكليفاً، مثلاً: لو اشتبه النجس بين إناءين، فإن إجراء البراءة في أحد الإناءين يستلزم القول بنجاسة الآخر، وحيث إن هذه البراءة أثبت حكماً فإنها لا تجري.

[4] مثلاً: من غيّر مجرى النهر بحيث ماتت أشجار الناس فلا يمكن إجراء البراءة عن الضمان؛ لأن هذه البراءة توجب ضرراً على الآخرين.

الإشكال على الشرط الأول

[5] إشكال على الشرطين:

ص: 332


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

--------------------------------------

أما الشرط الأول: فإن المثال كان في الشبهة المقترنة بالعلم الإجمالي، وعدم جريان البراءة فيها إنما هو بسبب التعارض بين البراءة في الإناء الأول مع البراءة في الإناء الثاني، وتتساقط الأصول المتعارضة إذا كانت في عرض واحد.

وأما في الشبهة البدوية فإن ثبوت الحكم الشرعي من جهة أخرى له ثلاث صور:

الأولى: أن يكون جريان البراءة منقحاً لموضوع له حكم.

مثلاً: قاعدة (إذا كان الشيء حلالاً كان ثمنه حلالاً أيضاً) الموضوع هو كون الشيء حلالاً، فإذا شككنا في حلية تدخين التبغ فإن أصالة البراءة تجري، ويحكم ظاهراً بحليته - وذلك لإطلاق أدلة البراءة - فتحقق موضوع حلية البيع، فلا إشكال في جريان البراءة، ثم تجري تلك القاعدة الأخرى؛ وذلك لتحقق موضوعها.

الثانية: أن تجري البراءة، فيرتفع مانع عن جريان حكم آخر، أو يتحقق شرط حكم آخر، فإن البراءة تجري لإطلاق أدلتها، فيثبت الحكم الآخر أيضاً؛ لرفع المانع عنه، أو لتحقق شرطه، وثبوته إنما يكون لشمول دليله لهذا المورد.

مثلاً: لو شك في أنه مديون فتجري البراءة، ولما لم يكن مديوناً فقد يكفي ماله للحج، فيتحقق شرط الاستطاعة فيجب الحج؛ وذلك لجريان دليل وجوبه، وهو قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ}(1) مع تحقق الشرط وهو الاستطاعة.

مثال آخر: لو شك في تمكنه من إزالة النجاسة عن المسجد فبأصالة البراءة يثبت عدم وجوب الإزالة، فيرتفع المانع عن الصلاة الثابت وجوبها بقوله: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(2). أما جريان البراءة فلإطلاق أدلتها. وأما وجوب الصلاة فأيضاً لشمول دليله بعد رفع المانع.

ص: 333


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

أن أصالة البراءة عقلاً ونقلاً في الشبهة البدوية[1] بعد الفحص لا محالة تكون جاريةً[2]. وعدم استحقاق العقوبة - الثابت بالبراءة العقلية - والإباحة أو رفع التكليف[3] - الثابت بالبراءة النقلية - لو كان موضوعاً لحكم شرعي[4] أو ملازماً له[5] فلا محيص عن ترتبه عليه[6] بعد إحرازه. فإن[7] لم يكن مترتباً عليه بل على

--------------------------------------

الثالثة: أن تكون الحلية الواقعية موضوعاً لحكم شرعي، فمع جريان البراءة لا يجري ذلك الحكم الآخر؛ إذ إن البراءة تثبت الحلية الظاهرية، وكان موضوع ذلك الحكم الحلية الواقعية، فلم يتحقق موضوعه، لكن تجري البراءة لتحقق موضوعها.

[1] لأن الشبهة المقترنة بالعلم الإجمالي خارجة عن محل البحث، وهذا الكلام للإشكال على مثال الفاضل التوني، كما بيناه.

[2] لإطلاق أدلتها.

[3] حسب اختلاف أدلة البراءة النقلية، فإن بعضها مثبت للإباحة كقوله: (كل شيء لك حلال)، وبعضها يرفع التكليف كقوله: (رفع ما لا يعلمون).

[4] إشارة إلى الصورة الأولى.

[5] أي: ملازماً للحكم الشرعي الآخر؛ وذلك بإثبات شرطه أو رفع مانعه؛ لأن رفع المانع أو إثبات الشرط يلازم ثبوت ذلك الحكم الشرعي الآخر الثابت بدليله الخاص.

[6] أي: لا محيص عن ترتب ذلك الحكم الشرعي الآخر، «عليه» على موضوعه، «بعد إحرازه» أي: بعد إحراز الموضوع أو إحراز الملازم - وهو رفع المانع أو إثبات الشرط - .

[7] إشارة إلى الصورة الثالثة، «فإن لم يكن» الحكم الآخر، «عليه» أي: على عدم الاستحقاق في البراءة العقلية، والإباحة في الشرعية، والمقصود الحكم الآخر لم يكن يترتب على الحكم الظاهري، بل كان مرتباً على الواقع.

ص: 334

نفي التكليف واقعاً فهي وإن كانت جارية[1] إلاّ أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها[2]؛ وهذا ليس بالاشتراط[3].

وأما اعتبار[4] أن لا يكون موجباً للضرر: فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة - كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية -، إلاّ أنه حقيقةً لا يبقى لها مورد، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بياناً وموجباً للعلم بالتكليف ولو ظاهراً[5]، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك[6] فلابد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة

--------------------------------------

[1] أي: البراءة تجري لإطلاق أدلتها.

[2] أي: لعدم ثبوت «ما» الموضوع الذي، «يترتب» الحكم، «عليه» أي: على ذلك الموضوع - وهو الواقع - «بها» بالبراءة؛ لأن البراءة تثبت الحكم الظاهري لا الواقعي.

[3] أي: عدم ترتب الحكم الآخر ليس لأجل هذا الشرط الذي ذكره الفاضل التوني، بل لأجل عدم تحقق موضوعه - وهو الواقع - .

الإشكال على الشرط الثاني

[4] حاصل الإشكال: إن جريان الأصول العملية متوقف على عدم جريان الأدلة الاجتهادية، فمع وجود دليل لا ضرر - وهو دليل اجتهادي - لا تصل النوبة إلى البراءة، وهذا ليس خاصاً بلا ضرر، بل عام يشمل كل الأدلة الاجتهادية، فتخصيص الاشتراط بعدم كونه ضررياً لا وجه له.

[5] أي: بالحكم الظاهري، وهو علم تعبدي، فينتفي موضوع أصالة البراءة - وهو الجهل بالحكم - .

[6] أي: إن لا ضرر قاعدة اجتهادية فلا تصل النوبة إلى البراءة التي هي أصل عملي، «خلافها» البراءة.

ص: 335

الضرر، فتدبر[1]، والحمد لله على كل حال.

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار، وتوضيح مدركها[2] وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية[3] أو الثانوية[4]، وإن كانت أجنبية عن مقاصد الرسالة[5]، إجابةً لالتماس بعض الأحبة.

فأقول وبه أستعين: إنه قد استدل عليها بأخبارٍ كثيرة[6]:

--------------------------------------

[1] لعل مراد الفاضل التوني أن البراءة جعلت للامتنان، فإذا كان جعلها مستلزماً للضرر على الغير كانت خلاف الامتنان، وهذا أمر صحيح، وقد قبله المصنف في مطاوي كلامه سابقاً.

قاعدة لا ضرر

اشارة

[2] أي: دليلها الشرعي، «مفادها» أي: معناها؛ وذلك بتوضيح معنى الكلمات الثلاث (لا)، (ضرر)، (ضرار).

[3] كنسبة القاعدة مع أدلة وجوب الصلاة والصيام والجهاد ونحوها.

[4] كنسبتها مع أدلة نفي الحرج والعسر.

[5] لأن المسألة الأصولية هو ما كان نتيجتها حكم كلي، وهذه القاعدة نتيجتها هي المسائل الجزئية الفقهية، فهي من القواعد الفقهيّة.

1- دليل قاعدة لا ضرر

[6] وقد استدل البعض(1) ببعض آيات القرآن، كقوله تعالى: {وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ}(2)، وقوله تعالى: {لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا...}(3) الآية، ونحوها، ولكن في الاستدلال بها إشكال، حيث لا عموم ولا إطلاق لها؛ ولذا لم يذكرها المصنف.

ص: 336


1- نهاية الدراية 2: 746.
2- سورة البقرة، الآية: 231.
3- سورة البقرة، الآية: 233.

منها: موثقة زرارة عن أبي جعفرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إن سمرة بن جندب كان له عذق[1] في حائطٍ لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فشكى إليه، فأخبر بالخبر، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1).

وفي رواية الحذاء عن أبي جعفرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مثل ذلك، ألا أنه فيها بعد الإباء: «ما أراك يا سمرة إلاّ مضاراً؛ اذهب يا فلان، فاقلعها وارم بها وجهه»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة وغيرها. وهي كثيرة، وقد ادعي تواترها[2] مع اختلافها لفظاً ومورداً، فليكن المراد به تواترها إجمالاً[3]، بمعنى القطع بصدور بعضها.

--------------------------------------

[1] العذق: النخل المثمر، «حائط» أي: بستان، «فأخبر بالخبر» أي: أخبر الأنصاري بما يجري له من مزاحمة سمرة له.

[2] ادعى التواتر فخر المحققين نجل العلامة الحلي(3).

[3] قد مرّ أن التواتر على ثلاثة أقسام:

1- التواتر اللفظي: بمعنى نقل لفظ واحد بأسانيد كثيرة، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (من كنت مولاه فعليّ مولاه)(4).

ص: 337


1- من لا يحضره الفقيه 3: 233، مع اختلاف يسير.
2- الكافي 5: 292.
3- إيضاح الفوائد 2: 48.
4- الكافي 1: 287؛ دعائم الإسلام 1: 16؛ معاني الأخبار: 65؛ من لا يحضره الفقيه 1: 229.

والإنصاف: أنه ليس في دعوى التواتر كذلك[1] جزافٌ. وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها[2]؛ مع أن بعضها موثقة[3]؛ فلا مجال للإشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى.

--------------------------------------

2- التواتر المعنوي: بمعنى نقل قضية واحدة بألفاظ متعددة، كالروايات الدالة على عدد ركعات الصلاة.

3- التواتر الإجمالي: وهو كون المعنى متعدداً واللفظ متعدداً أيضاً لكن نعلم بصدور بعض تلك الأخبار، كأخبار شجاعة أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في أحد وبدر والخندق وغيرها.

وفي التواتر الإجمالي يعلم بالقدر المتيقن من تلك الأخبار، وهو المعنى الموجود في كل تلك الأخبار، فقضايا تلك الغزوات وإن نقلت بأخبار الآحاد لكن كلّها تدل على شجاعتهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: التواتر الإجمالي.

[2] أي: حتى لو لم تكن متواترة، وقيل بضعف أسنادها، فإن المشهور قد عملوا بتلك الأخبار؛ لأن الشهرة جابرة للسند الضعيف.

[3] سند الحديث حسب تصنيف المتأخرين ينقسم إلى أقسام أربعة:

1- الصحيح: وهو الذي رواته كلهم عدول إماميّون ضابطون.

2- الحسن: وهو ما كان رواته معتبرين وفيهم مَن هو ممدوح.

3- الموثق: وهو ما كان رواته معتبرين وفيهم غير إمامي لكنه ثقة، كعبدالله بن بكير، فإنه فطحي ثقة.

4- الضعيف: وهو ما كان في سنده رجال ضعاف أو مهملون - لم يمدحهم ولم يوثقهم الرجاليون القدامى - أو مجاهيل بمعنى عدم ورود ذكر لهم في كتب الرجال والتراجم - . ثم إن الضعيف قد يكون معتبراً إذا عمل به المشهور - وخاصة مشهور القدامى - أو كان محفوفاً بالقرائن الموجبة للاطمئنان بصحته - كقوة المضمون أو الألفاظ - .

ص: 338

وأما دلالتها: فالظاهر أن الضرر[1] هو ما يقابل النفع - من النقص[2] في النفس

--------------------------------------

والرواية التي رواها المصنف رجال سندها كلهم ثقات إماميون سوى عبدالله بن بكير فإنه فطحي ثقة، بل هو من أصحاب الإجماع(1)،

حيث أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

والسند: الكليني: عن العدة، عن البرقي، عن أبيه، عن عبدالله بن بكير، عن زرارة(2)، وكلهم ثقات أجلاء، فالحديث موثق.

2- معنى الضرر

[1] «الضرر» هو النقص الحاصل في النفس أو الأعضاء أو العرض أو المال، فإذا لم يكن نقص فليس بضرر.

مثلاً: من تاجر برأس مال، فإن خسر في تجارته بأن فقد رأس المال أو بعضه، فهذا ضرر توجه إليه، وإن لم يخسر شيئاً حتى وإن لم يربح فإنه ليس بضرر، بل هو عدم نفع، وإطلاق العرف الضرر عليه مجاز. فإن زاد رأس المال وربح في تجارته فيقال: إنه انتفع بالتجارة؛ لأن (النفع) ضد (الضرر).

ثم إن تقابل الضرر والنفع هو تقابل العدم والملكة، أي: عدم الشيء في ما يكون محلاً قابلاً له، مثلاً: العمى والبصر متقابلان بتقابل العدم والملكة؛ إذ لا يمكن إطلاق العمى إلاّ إذا أمكن البصر، فيقال: رجل أعمى، ولا يقال جدار أعمى؛ لأن الجدار لا يقبل البصر، وكاللحية للرجل، فعدمها يكون في الكوسج، ولا يطلق الكوسج على المرأة والصبي.

[2] «من» بيانية لتوضيح معنى الضرر، حيث إن الضرر هو النقص في هذه الأمور، فلا يصدق الضرر على عدم النفع المجرد عن النقص.

ص: 339


1- خلاصة الأقوال: 107.
2- الكافي 5: 292.

أو الطرف أو العِرض[1] أو المال - تقابل العدم والملكة[2].

كما أن الأظهر أن يكون الضرار[3] بمعنى الضرر، جيء به تأكيداً - كما يشهد

--------------------------------------

[1] «الطرف» هو العضو، أي: النقص في الأعضاء، والمراد منه ما يشمل الحواس كالسمع والبصر والشم... الخ و«العرض» هو ماء الوجه.

[2] قال الوالد في (القول السديد): (والمشهور في تقسيم المتقابلين إلى هذه الأقسام الأربعة: أن المتقابلان إما وجوديان أو لا، والأول على نوعين: نوع يكون تعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر، فهما المتضايفان كالأبوة والبنوة، فإن تعقل أحدهما يتوقف على تعقل الآخر.

ونوع لا يتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر، فهما المتضادان...

وعلى الثاني(1)

فلابد أن يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً؛ إذ لا تقابل بين أمرين عدميين، وهذا على قسمين: قسم يعتبر في العدميّ محل قابل للوجودي، فهما العدم والملكة... وقسم لا يعتبر في العدمي محل قابل، فهما سلب وإيجاب)(2)، انتهى.

3- معنى الضِرار

[3] «الضِرار» مصدر باب المفاعلة؛ لأن لباب المفاعلة ثلاثة مصادر، كقولهم: ضارب يضارب (مضاربة) و(ضِراباً) و(ضيراباً).

والأصل في باب المفاعلة أن يكون بين اثنين، كقولهم: (ضارب زيدٌ عمراً)، ولكن قد يكون بمعنى الفعل المجرد، مثل: (سافرت)، وفي (الضِرار) احتمالات:

1- أن يكون (الضِرار) بمعنى المجرد، أي: الضرر، والمصنف رجّح هذا الاحتمال.

2- وقيل: (الضِرار) هو على الأصل في باب المفاعلة، أي: الضرر بين الاثنين، فكما لا ضرر من طرف واحد، كذلك لا مضارّة من الطرفين.

ص: 340


1- أي: في ما لا يكون المتقابلان وجوديين.
2- القول السديد في شرح التجريد: 95 - 96.

به[1] إطلاق المضار على سمرة - ، وحكي عن النهاية(1)؛

لا فعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة؛ ولا الجزاء على الضرر، لعدم تعاهده[2] من باب المفاعلة. وبالجملة: لم يثبت له معنىً آخر غير الضرر.

كما أن الظاهر[3]

--------------------------------------

وفيه: إن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أطلق على سمرة لفظة (مضارّ) ومن المعلوم أنه اسم فاعل من باب المفاعلة، ولم يكن الأنصاري قد سبب ضرراً لسمرة، فالضرر كان من طرف واحد، وهذا دليل على أن باب المفاعلة في (ض ر ر) لم يرد بها الضرر من الطرفين.

3- وقيل: (الضِرار) بمعنى المجازاة على الضرر(2)،

فكما لا يجوز الضرر. كذلك لا تجوز المجازاة على الضرر، بل لابد من مراجعة الحاكم الشرعي ليحكم حسب الموازين الشرعية.

وفيه: إن المجازاة على الفعل ليست من معاني باب المفاعلة، ولم يرد في ذلك شيء ولا نظير من العرب.

[1] أي: الدليل على كون (ضِرار) بمعنى (الضرر) هو استعمال الرسول (المُضارّ) بمعنى (المُضِرّ)، كما صرح بذلك بعض أهل اللغة أيضاً كالجزري في كتاب النهاية.

[2] أي: ليس هذا المعنى معروفاً بين أهل اللسان.

4- معنى «لا»

[3] المعنى الحقيقي ل- (لا النافية للجنس) هو نفي الماهية حقيقة، بمعنى عدم وجود تلك الماهية خارجاً أصلاً، مثل: (لا رجل في الدار). ولكن في (لا ضرر ولا ضرار) من المعلوم وجود الأضرار خارجاً، فلا يراد نفي الماهية خارجاً، فما هو المراد؟ فيه خلاف:

ص: 341


1- النهاية في غريب الحديث 3: 81، مادة «ضرر».
2- فرائد الأصول 2: 461.

أن يكون «لا» لنفي الحقيقة[1] - كما هو الأصل في هذا التركيب - حقيقةً أو ادعاءً[2]

--------------------------------------

1- ذهب المصنف: إلى أن المنفيّ هو نفس الضرر، ولكن المقصود هو نفي الآثار، مثل: (يا أشباه الرجال ولا رجال)(1)،

فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا رجال) لنفي الجنس، أي: لنفي كونهم رجالاً، ولكن بغَرض نفي آثار الرجولة.

2- ذهب الشيخ الأعظم(2):

إلى أن المعنى هو (لا حكم ضرري) فالمنفي هو الحكم المجعول من قبل الشارع.

3- ذهب الفاضل التوني(3):

إلى أن المعنى هو (لا ضرر غير متدارك) فالمعنى أن الشارع قد تدارك كل ضرر؛ وذلك بتشريع حكم يرفع الضرر.

4- ذهب جمع(4)

إلى أن النفي هنا بمعنى النهي، أي: (لا تُضِرّوا أحداً).

[1] أي: الماهية، «في هذا التركيب» أي: في دخول لا النافية للجنس على موضوع خارجي.

[2] أي: نفي الماهية باستعمال (لا) في معناها الحقيقي، أو هو مجاز في الادعاء، أي: ادعاء أن هذا الضرر ليس بضرر، كما مرّ في قول السكاكي في مثل: (رأيت أسداً يرمي) حيث إنه ليس مجازاً في الكلمة - بأن يراد من الأسد الشجاع - بل هو مجاز في الإسناد، فالأسد بنفس معناه - وهو الحيوان المفترس - ولكن المجاز في ادعاء أن زيداً فرد من أفراد الأسد المفترس، فهذا حقيقة ادعائية.

والحاصل: إن (لا) النافية للجنس تستعمل بمعنى نفي الماهية، فقد يكون نفياً حقيقياً كقولنا: (لا رجل في الدار)، وقد يكون نفي الماهية ادعاءً، كما في ما نحن

ص: 342


1- نهج البلاغة، الخطبة: 27.
2- فرائد الأصول 2: 460.
3- الوافية في أصول الفقه: 194.
4- وسيلة الوصول: 695.

كناية[1] عن نفي الآثار، كما هو[2] الظاهر من مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)، و«يا أشباه الرجال ولا رجال»(2)، فإن قضية البلاغة[3] في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً، لا نفي الحكم[4] أو الصفة[5] كما لا يخفى. ونفي الحقيقة[6] ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة[7] غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً

--------------------------------------

فيه، حيث إن (لا ضرر) بمعنى نفي ماهية الضرر بادعاء أن الأضرار الخارجية ليست ضرراً؛ لأن الشارع لم يرتب آثار الضرر عليها.

[1] هذا بدل عن قوله: (ادعاء) أي: نفي الحقيقة ادعاءً هو كناية عن نفي الآثار.

[2] أي: نفي الماهية ادعاءً هو الظاهر... الخ.

[3] هذا دليل المصنف على ما ذهب إليه، وحاصله: إن نفي الماهية ادعاءً هو كلام فصيح، عكس الاحتمالات الأخرى فإنها لا تتناسب مع الفصاحة.

[4] كما ذهب إليه الشيخ الأعظم حيث فسرّ (لا ضرر) ب- (لا حكم ضرري).

[5] كما ذهب إليه الفاضل التوني حيث قال: إن معنى (لا ضرر) هو (لا ضرر غير متدارك).

[6] دفع إشكال، وحاصله: إنه لا فرق - عملياً - بين ما ذهب إليه المصنف وما ذهب إليه الشيخ أو التوني.

والجواب: إن هناك فرقين:

1- فرق بلاغي.

2- فرق عملي، وقد ذكره المصنف في باب الانسداد في الإشكال على المقدمة الرابعة، فراجع.

[7] وهذا ما ذهب إليه المصنف.

ص: 343


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.

في التقدير[1] أو في الكلمة[2]، مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك بُعد إرادة نفي الحكم الضرري أو الضرر الغير المتدارك(1)

أو إرادة النهي من النفي جداً، ضرورة بشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه[3] أو خصوص الغير المتدارك(2) منه. ومثله[4] لو أريد ذاك بنحو التقييد[5]، فإنه وإن لم يكن ببعيد[6]، إلاّ أنه بلا دلالة عليه غير سديد. وإرادة

--------------------------------------

[1] أي: بتقدير الحكم في لا ضرر أي: (لا حكم ضرري)، مثل: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) أي: (اسأل أهل القرية) وهذا يعبر عنه بالمجاز بالإضمار.

[2] أي: نقول: إن معنى (ضرر) هو (الحكم الضرري) مثلاً، وهذا يعبر عنه بالمجاز في الكلمة.

[3] أي: الحكم الضرري، فإن الحكم قد يكون سبباً للضرر ومنشأ له، فإرادة خصوص سبب من أسباب الضرر - وهو الحكم - من قوله: (لا ضرر) ليس من البلاغة في شيء.

[4] «مثله» أي: مثله في البُعد، وضمير «مثله» يرجع إلى (استعمال الضرر وإرادة...).

والحاصل: كما كان المجاز في الكلمة بعيداً كذلك المجاز في الإضمار، «ذاك» أي: الحكم الضرري أو الضرر غير المتدارك.

[5] أي: تقدير قيدٍ، بأن يكون مجاز في الإضمار.

[6] لأنه ليس خلاف الفصاحة، فقد كثر استعمالهم المجاز بالإضمار، مثل: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ}(4) ولكن يحتاج إلى قرينة، ومع عدم وجود

ص: 344


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المتدارك».
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المتدارك».
3- سورة يوسف، الآية: 82.
4- سورة البقرة، الآية: 197.

النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز، إلاّ أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب[1].

وعدم إمكان[2] إرادة نفي الحقيقة حقيقةً[3] لا يكاد[4] يكون قرينة على إرادة واحد منها[5] بعد إمكان حمله على نفيها ادعاءً، بل كان هو الغالب[6] في موارد استعماله.

ثم الحكم[7]

--------------------------------------

قرينة على التقدير لا وجه له.

[1] وهو دخول (لا) النافية للجنس على موضوع خارجي.

[2] إشكال، حاصله: إنا مضطرون - بدلالة الاقتضاء لتصحيح كلام الحكيم - من حمل (لا ضرر) على أحد هذه الوجوه، أي: المجاز في الكلمة أو بالإضمار أو حمل النفي على النهي.

[3] أي: نفي الماهية بالمعنى الحقيقي، وهو عدم وجودها خارجاً.

[4] جواب الإشكال، وحاصله: إن الحمل على الحقيقة الادعائية ممكن، وهو أولى من تلك الوجوه.

[5] أي: من الوجوه المذكورة، «حمله» حمل النفي، «نفيها» نفي الحقيقة.

[6] أي: غالب موارد استعمال نفي الجنس هو في النفي الادعائي، والحمل على المعنى المستعمل غالباً أولى من الوجوه الأخرى.

5- إذا كان (الضرر) موضوعاً

[7] إذا كان الضرر موضوع الحكم الشرعي، أو كان الضرر جزءاً من الموضوع فلا يمكن رفع حكمه ب- (لا ضرر) وذلك لأن الموضوع يقتضي حكمه، فلا يمكن أن يكون رافعاً لحكمه، وإلاّ اجتمع الضدان؛ لأنه حينئذٍ يستلزم أن يكون الموضوع جزءاً من سبب الحكم، وفي الوقت نفسه يكون مانعاً عن الحكم.

مثلاً: الزكاة ضرر مالي - بنقيصة في المال - فقولنا: (الزكاة واجبة) لا يرتفع هذا

ص: 345

الذي أريد نفيه بنفي الضرر[1] هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها[2] أو المتوهم ثبوته لها كذلك[3] في حال الضرر[4]، لا الثابت له بعنوانه[5]، لوضوح[6] أنه العلة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته ويقتضيه[7].

--------------------------------------

الوجوب بدليل (لا ضرر)، وإلاّ كانت الزكاة مقتضية للوجوب - لأنها الموضوع - وفي الوقت نفسه مانعاً عن الوجوب لدلالة (لا ضرر).

[1] أي: بلسان نفي الضرر في قوله: (لا ضرر) حيث اختار المصنف أن المنفي هو نفس الضرر ادعاءً.

[2] أي: بما هو هو قبل عروض عنوان ثانوي، مثلاً: في (الصوم واجب)، الموضوع هو الصوم بنفسه - لا بضميمة شيء آخر - فهذا الحكم يرتفع لو تحوّل الصوم إلى الصوم الضرري.

[3] «ثبوته» أي: ثبوت الحكم، «لها» للأفعال، «كذلك» أي: بعناوينها كما في قصة سمرة، حيث كان يتوهم أنه له الحق في الدخول إلى البستان - ولو من غير استئذان - فجاء قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (لا ضرر ولا ضرار) لنفي هذا الحكم المتوهم.

[4] قوله: «في حال الضرر» متعلق ب- (نفيه) في قوله: (الحكم الذي أريد نفيه).

[5] أي: لا يراد نفي الحكم الثابت للضرر بنفس عنوان الضرر.

[6] بيان علّة عدم رفع الأحكام التي يكون الضرر موضوعاً لها، «أنه» أن الضرر، «العلة للنفي» أي: لرفع الحكم، «عن حكمه» أي: عن حكم نفس الموضوع، «و ينفيه» عطف تفسيري. والحاصل: إن الضرر في (لا ضرر) مانع عن الحكم فيرفعه، والموضوع يقتضي حكمه - فهو جزء العلة للحكم - ولا يعقل أن يكون جزء العلة مانعاً.

[7] أي: بل الموضوع يثبت الحكم، ولكن الثبوت بنحو المقتضي، ولذا عطف عليه تفسيراً فقال: (ويقتضيه).

ص: 346

ومن هنا[1] لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه[2] وأدلة الأحكام، وتقدم أدلته على

--------------------------------------

6- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الأولية)

[1] أي: من جهة أن (لاضرر) ينفي أحكام الأفعال بعناوينها - وبما هي هي - .

و المقصود بيان النسبة بين دليل (لا ضرر) وبين دليل (الأحكام الأولية)، فإن النسبة - عادة - هي العموم والخصوص من وجه.

مثلاً: الصوم قد يكون ضررياً وقد لا يكون، والضرر قد يكون في الصوم وقد يكون في غير الصوم، فمورد الاجتماع هو الصوم الضرري، ومورد الافتراق هو الصوم غير الضرري، والضرر في غير الصوم.

ومقتضى القاعدة في تعارض العامين من وجه هو ملاحظة المرجحات الدلالية أو السندية، ولكن هنا يرجح دليل (لا ضرر)، فما هو الوجه؟

الوجه الأول: ما اختاره المصنف، وهو أن أدلة الأحكام الأولية هي بنحو المقتضي، و(لا ضرر) مانع عن فعلية تلك الأحكام، والجمع العرفي بين الدليلين هو تقدّم المانع مطلقاً، حتى إذا كانت النسبة هي العموم من وجه.

نعم، لو كان دليل الحكم الأولي يدل على أن الموضوع علّة تامة للحكم فلا يمكن أن يكون (لا ضرر) مانعاً؛ لأنه مع تحقق العلة التامة لا مجال للمانع أصلاً. وكذا لو كان الموضوع علة للحكم في بعض الأحيان، ففي تلك الحالات لا يكون (لا ضرر) مانعاً.

الوجه الثاني: ما اختاره الشيخ الأعظم(1)،

وهو حكومة أدلة العناوين الثانوية على أدلة العناوين الأولية؛ لأن الثانوية ناظرة إلى الأولية، وفي الحكومة يتقدم الدليل الحاكم مطلقاً حتى في صورة العموم من وجه - كما سيأتي - .

[2] أي: نفي الضرر كقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا ضرر)، «أدلة الأحكام» أي: أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية، «أدلته» أي: أدلة لا ضرر، «أدلتها» أي: أدلة الأحكام.

ص: 347


1- فرائد الأصول 2: 462.

أدلتها، مع أنها عموم من وجه[1]، حيث إنه يوفق بينهما[2] عرفاً بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي[3] يمنع عنه فعلاً[4] ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته[5]، كما هو الحال[6] في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية والأدلة المتكفلة لحكمها[7] بعناوينها الأولية.

نعم[8]، ربما يعكس الأمر في ما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة.

--------------------------------------

[1] أي: نسبة (لا ضرر) مع أدلة الأحكام هي نسبة العموم من وجه، والقاعدة هي التعارض في مورد الاجتماع والرجوع إلى المرجحات، ولكن تلك القاعدة لا تجري هنا.

[2] بين أدلة لا ضرر وأدلة الأحكام، وعلة الجمع العرفي هو أن أدلة الأحكام هي بنحو المقتضي، وأدلة لا ضرر هي بنحو المانع، والمانع يتقدم مطلقاً عرفاً.

[3] أي: الحكم في مرحلة الاقتضاء، وبوجود (لا ضرر) لا يصل إلى مرحلة الفعلية.

[4] أي: يمنع عن وصول الحكم إلى مرحلة الفعلية، وقوله: «ما عرض» فاعل «يمنع»، «عليها» على العناوين الأولية، فحيث صار الصوم ضررياً فإن الضرر عرض على العنوان وهو الصوم - مثلاً - .

[5] أي: الضرر يمنع بسبب الأدلة الدالة على (لا ضرر)، فالباء في «بأدلته» سببيّة.

[6] أي: هذا الجمع العرفي ليس خاصاً بعنوان الضرر، بل جميع أدلة الأحكام الثانوية تقدم عرفاً على أدلة الأحكام الأولية.

[7] أي: لحكم الأفعال.

[8] إشارة إلى أنه لو كان عنوان الحكم الأولي علة تامة للحكم - مثلاً: (الظلم حرام) فإن الظلم علة تامة للحكم بالحرمة، بحيث لا يوجد ظلم مباح، بل الظلم

ص: 348

وبالجملة: الحكم الثابت بعنوان أولي تارةً يكون بنحو الفعلية مطلقاً[1] أو بالإضافة إلى عارض دون عارض[2] بدلالة[3] لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله[4]؛ وأخرى[5]

--------------------------------------

دائماً قبيح عقلاً حرام شرعاً - فإن الضرر لا يكون مانعاً عن الحكم أصلاً، بلى لو تغير الموضوع يتغير الحكم، لكن هذه الصورة خارجة عن محل البحث.

[1] أي: حتى مع طروّ العناوين الثانوية، فالموضوع علة تامة للحكم كمثال: (الظلم حرام).

[2] أي: أحياناً يكون علة تامة، وحينئذٍ يتقدم على الدليل الثانوي، وأحياناً لا يكون علة تامة، وهنا لا يتقدم على الثانوي، بل الثانوي يتقدم عليه، و(العارض) هو العنوان الثانوي.

مثلاً: (قتل المؤمن حرام) فلا ترتفع الحرمة بعنوان الإكراه والاضطرار، فلا يجوز له القتل حتى لو أكره عليه أو اضطر إليه، فهنا العنوان الأولي علة للحرمة في هذه الحالة.

ولكن ترتفع الحرمة في حال الخطأ، فالقاتل خطأً لم يفعل حراماً، فالقتل لم يكن علة تامة في حالة الخطأ.

[3] متعلق بقوله: (يكون)، أي: يكون بنحو الفعلية بدلالة لا يمكن رفع اليد عنها حتى مع عروض العناوين الثانوية، كدليل حرمة الظلم والقتل.

[4] «ذاك العنوان» الأولي، «دليله» دليل العارض - الثانوي - .

[5] أي: وتارة أخرى يكون دليل العنوان الأولي بنحو المقتضي، فهنا يكون دليل العنوان الثاني مانعاً، وعرفاً يقدم الدليل المانع مطلقاً، «يكون» أي: الحكم الأولي، «دلالة» أي: دليل على هذا الحكم الأولي، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ}(1)، «عنها» عن الدلالة، «بسببه» أي: بسبب دليل الحكم العارض.

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 183.

يكون على نحوٍ لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً، حيث كان اجتماعهما[1] قرينةً على أنه بمجرد المقتضي وأن العارض مانع فعلي. هذا ولو لم نقل[2] بحكومة دليله على دليله[3]، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله[4]، كما قيل[5].

--------------------------------------

[1] اجتماع العنوان الأولي والثانوي، «أنه» أن دليل العنوان الأولي، «بمجرد المقتضي» ولم يصل إلى درجة الفعلية.

[2] إشارة إلى الوجه الثاني - في سبب تقديم العناوين الثانوية على العناوين الأولية -

وهو ما اختاره الشيخ الأعظم، وهو حكومة دليل قاعدة لا ضرر على أدلة أحكام العناوين الأولية. لكن المصنف لم يرتض هذا الوجه؛ لأن شرط (الحكومة) هو أن يكون الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم مثل: (لا شك لكثير الشك) حيث إنه ناظر إلى أدلة الشكيّات.

قال الشيخ الأعظم: (والمراد بالحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه، فالأول: مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دلّ على أنه لا صلاة إلاّ بطهور...)(1)

الخ.

أما المصنف فيقول: إنه من غير المعلوم نظر مثل: (لا ضرر) إلى أدلة الأحكام الأولية، بل هو قانون برأسه، مع قطع النظر عن سائر الأحكام، فتأمل.

[3] أي: بحكومة دليل العنوان الثانوي على دليل العنوان الأولي.

[4] أي: عدم ثبوت نظر الدليل العارض الثانوي إلى دليل الحكم الأولي.

[5] أي: كما قيل بالحكومة، والقائل هو الشيخ الأعظم(2).

ص: 350


1- فرائد الأصول 2: 462.
2- فرائد الأصول 2: 462.

ثم انقدح بذلك[1] حال توارد دليلي العارضين[2]، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلاً، فيعامل معهما[3] معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، وإلاّ[4] فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى[5].

ولا يبعد أن الغالب[6] في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب بثبوت المقتضي

--------------------------------------

7- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الثانوية)

[1] أي: بالجمع العرفي بين أدلة الأحكام الأولية والثانوية اتضح لك عدم جريان ذلك الجمع بين أدلة الأحكام الثانوية نفسها.

[2] أي: لو اجتمع دليلان ثانويّان، مثلاً: لو كان ترك التدخين عسراً عليه، وكان التدخين ضرراً، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: التعارض بينهما، بأن يكون لأحدهما ملاك، وفقدان الآخر للملاك، فحينئذٍ لابد من إجراء حكم التعارض، وهو الترجيح السندي، فيؤخذ بالأقوى سنداً.

ولا يخفى أن هذه الصورة مجرد فرض - لعدم مثال لها في الخارج - .

الصورة الثانية: التزاحم بينهما، بأن يكون لكليها ملاك، فحينئذٍ لابد من إجراء حكم التزاحم، وهو الترجيح بالأقوى منهما ملاكاً - حتى لو كان الآخر أقوى سنداً - .

[3] أي: مع دليلي العارضين - الثانويين - .

[4] أي: إن كانا من باب التزاحم - بوجود الملاك في كليهما - .

[5] لأن القاعدة في باب التزاحم ذلك، مثلاً: لو دار الأمر بين إنقاذ قائد الجيش وبين إنقاذ جندي عادي فإن مقتضي إنقاذ القائد أقوى من إنقاذ الجندي، حتى لو كان دليل وجوب إنقاذ الجندي خبر متواتر، ودليل وجوب إنقاذ القائد خبر واحد، وقد مرّ تفصيل ذلك سابقاً.

[6] أي: في مرحلة الإثبات، بل كل الموارد، «ذاك الباب» أي: التزاحم، «فيهما» أي: في العارضين.

ص: 351

فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم[1] ثبوته إلاّ في أحدهما، كما لا يخفى.

هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.

وأما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه[2]:

أن الدوران، إن كان بين ضرري شخص واحد أو اثنين، فلا مسرح إلاّ لاختيار أقلهما لو كان[3]، وإلاّ فهو مختار.

--------------------------------------

[1] هذا علة للتعارض، فالمعنى: لا يكون الغالب من باب التعارض؛ لأن التعارض إنما هو في ما لم يثبت الملاك إلاّ في أحدهما، والحال أن غالب الموارد يوجد الملاك في كليهما. وبعبارة أخرى: «لعدم» علة للمنفيّ، لا للنفي.

8- في تعارض ضررين

[2] إنّ صور تعارض الضررين متعددة منها:

1- تعارض ضررين في شخص واحد، كما لو اضطر إلى قطع يده أو رجله.

2- تعارض ضررين في شخصين، كما لو أكره على شتم زيد أو عمرو مخيراً بينهما.

وفي هاتين الصورتين يلزم ترجيح الضرر الأخف، وإن تساويا تخيّر.

3- تعارض ضرر نفسه وضرر غيره في ما لو توجّه الضرر إلى الغير، وهنا لا يجب عليه تحمل الضرر ليدفعه عن الغير، كما لو أراد السارق سرقه مال زيد فإنه لا يجب على عمرو إعطاء مال للسارق ليكف عن سرقة مال زيد.

4- لو توجه الضرر إليه فلا يجوز دفع الضرر عن نفسه بإلقاء الضرر على الغير، كما لو أراد السارق سرقة ماله فيدفع السرقة عن نفسه بدلالة السارق على مال عمرو.

[3] أي: لو كان الأقل، كما لو دار الأمر بين قطع اليد أو قطع إصبع، «وإلاّ» أي: لم يكن أقل، بل كانا متساويين، «فهو» المكلف، «مختار» في دفع أيّ الضررين شاء.

ص: 352

وأما لو كان[1] بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر، ولو كان ضرر الآخر أكثر[2]، فإن نفيه يكون للمنة على الأمة، ولا منة على تحمل الضرر لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.

نعم[3]، لو كان الضرر متوجهاً إليه ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر.

اللهم إلاّ أن يقال[4]: إن نفي الضرر وإن كان للمنة، إلاّ أنه بلحاظ نوع الأمة، واختيار الأقل[5]

--------------------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة.

[2] مثلاً: لو أرادوا حبس مديون فلا يجب على الأثرياء دفع دينه إنقاذاً له من الحبس؛ وذلك لأن رفع الضرر إنما هو امتنان من الله على العباد، ولا مِنّة في جعل الضرر على شخص لدفع ضرر عن شخص آخر. وبعبارة أخرى: (لا ضرر) يرفع الحكم، ولا يثبت حكماً؛ إذ إثبات حكم في ذمة مكلف خلاف المنّة.

[3] هذه الصورة الرابعة وهي: دفع الضرر عن النفس بإلقائه على شخص آخر، كما لو أراد الإنسان النجاة لنفسه عن طريق قتل بريء، ولذا قيل: (لا تقية في الدماء) وذلك لعدم جواز إضرار الغير، ودفع الضرر عن النفس بإلقائه على الغير هو من مصاديق إضرار الغير.

[4] حاصله: إن (المنّة) إذا كانت نوعية - أي: بملاحظة نوع الأمة - ف- (لا ضرر) يدل على أن الله تعالى مَنّ على هذه الأمة برفع الضرر عنها، فحينئذٍ لو كان الضرر على نفسه كثيراً والضرر على الغير قليلاً فإن من المِنّة على نوع الأمة هو رفع الضرر الأكثر - ولو أدّى إلى الضرر الأقل - كما لو أراد السارق سرقة ألف منه، فيدفعه بإلقاء الضرر على الغير بأن يسرق السارق من غيره عشرة - مثلاً - .

أما لو قلنا: إن (المِنّة) شخصية، أي: بلحاظ كل شخص - بمفرده - فلا مِنّة على من ألقي الضرر عليه، فلا يجري دليل (لا ضرر) فيه.

[5] «اختيار» مبتدأ، و«منة» خبره.

ص: 353

بلحاظ النوع منة، فتأمل[1].

فصل في الاستصحاب: وفي حجيته إثباتاً ونفياً أقوال للأصحاب[2].

ولا يخفى[3]: أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتّى، إلاّ أنها تشير إلى مفهومٍ

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن (المنة النوعية) تجري في الصورة الثالثة أيضاً - مع عدم إمكان القول بلزوم تحمل الضرر فيها ولو أقل - .

أو إشارة إلى أن (لا ضرر) لا يثبت التكليف، فلا دليل على جواز إلقاء الضرر على الغير.

أو إشارة إلى أن الضرر يتوجه إلى شخص واحد ويرفع عن شخص واحد فقط، فليس فيه مِنّة على الأمة، بل مِنّة على شخص، ونقمة على شخص آخر.

فصل في الاستصحاب

اشارة

ومقدمةً لمبحث الاستصحاب يتم البحث في أمور:

الأول: في تعريف الاستصحاب.

الثاني: في كون الاستصحاب مسألة أصولية.

الثالث: أركان الاستصحاب، وهي اليقين السابق، والشك اللاحق، مع وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

الرابع: وحدة الموضوع والمحمول في استصحاب الأحكام.

[2] قال الشيخ الأعظم: (والمتحصل منها في بادئ النظر: أحد عشر قولاً)(1).

الأمر الأول تعريف الاستصحاب

[3] حاصله: إنهم قد عرّفوا الاستصحاب بعدة تعاريف، وقد أشكل على تلك التعاريف بأنها غير جامعة للأفراد أو غير طاردة للأغيار، لكن هذه الإشكالات

ص: 354


1- فرائد الأصول 3: 48 - 50.

واحد ومعنىً فارد، وهو «الحكم ببقاء حكم[1] أو موضوع ذي حكم[2] شك في بقائه»، إما[3]

--------------------------------------

لا وجه لها؛ لأن الغرض من تلك التعاريف ليس الحدّ ببيان الجنس والفصل، ولا الرسم ببيان الجنس والعرض الخاص، بل الغرض هو تقريب المعنى إلى الذهن، كما في شرح الاسم، حيث يتعارف في كتب اللغة ونحوها الإتيان بلفظ آخر أعرف للسامع، لكي يتصور المعنى، كما يقال: (سعدانة نبت) و(قسورة الأسد).

ولكن إذا أردنا تعريفاً جامعاً مانعاً - وهو مراد من عرّف الاستصحاب - فنقول: (الاستصحاب هو: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقاء ذلك الحكم أو الموضوع).

[1] كما لو شككنا في بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فالاستصحاب يدل على بقاء الوجوب.

[2] كما لو شككنا في حياة زيد، ويترتب على حياته جملة من الأحكام، كعدم تقسيم أمواله، وبقاء زوجته على حبالته... الخ، فحينئذٍ نستصحب هذا الموضوع وهو الحياة؛ لأن لهذا الموضوع أحكاماً شرعية تترتب عليه.

[3] أي: مهما يكن دليل حجية الاستصحاب، فإن مفهوم الاستصحاب شيء واحد. - سواء كان الدليل هو بناء العقلاء، أم النص، أم الإجماع - .

وغرض المصنف هو بيان الإشكال على من أقحم بعض هذه الأدلة في معنى الاستصحاب، كمن قال: (إن الاستصحاب هو بناء العقلاء على إبقاء الحكم...)(1)،

أو قال: (إن الاستصحاب هو الظن ببقاء الحكم...)(2)

فإن إقحام مدرك الحجية في التعريف يستلزم تعدد معنى الاستصحاب، حيث يستلزم معنى آخر للاستصحاب عند من لا يرى بناء للعقلاء في الاستصحاب، أو لا يرى حجية

ص: 355


1- فوائد الأصول 4: 331.
2- شرح مختصر الأصول 2: 453.

من جهة بناء العقلاء على ذلك[1] في أحكامهم العرفية مطلقاً أو في الجملة[2] - تعبداً، أو للظن[3] به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً[4] -، وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك[5]، حسبما تأتي الإشارة إلى ذلك مفصلاً.

ولا يخفى: أن هذا المعنى[6]

--------------------------------------

هذا الظن.

وتعدد معنى الاستصحاب يكون بمعنى عدم بحث العلماء في موضوع واحد، وهذا واضح البطلان؛ إذ الكل يبحث في شيء واحد مع تعدد مدركه ودليله.

[1] أي: على الحكم بالبقاء، «في أحكامهم العرفية» ولم يردع عنه الشارع، بل أمضاه، فيجري في الأحكام الشرعية أيضاً.

[2] أي: بناء العقلاء على الحكم بالبقاء إما في كل الأمور، وإما في الأمور غير الخطيرة، أو في الشك في المانع لا المقتضي - مثلاً - .

[3] «تعبداً» أي: بناء العقلاء قد يكون لمجرد تنظيم شؤون حياتهم من غير أن يكون علة أخرى للحجية، وهذا يعبر عنه بالتعبد، فيكون الاستصحاب حجة دائماً.

«أو للظن» أي: منشأ بنائهم هو الظن الناشئ من الاستصحاب، فتنحصر الحجية في ما لو أفاد الاستصحاب الظن.

ولا يخفى أن أصل استعمال كلمة (التعبد) هي في تنفيذ أوامر الشارع من غير ربط التنفيذ بعلّة، بل لمجرد إطاعة كلام الشارع المقدس، فسواء علم المكلف بالعلة أم لم يعلم فإنه يقوم بتنفيذ إرادة الشارع، ثم عمّموا كلمة (التعبد) في جعل الأحكام من غير ربطها بعلّة خاصة كي يكون الحكم دائراً مدار تلك العلة.

[4] «للظن به» بالبقاء، «الناشئ» ذلك الظن، «ثبوته» ثبوت الحكم.

[5] «عليه» على البقاء، «كذلك» مطلقاً أو في الجملة.

[6] ما ذكرناه في التعريف (الحكم ببقاء حكم أو موضوع... الخ).

ص: 356

هو القابل[1] لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته - مطلقاً أو في الجملة - وفي وجه ثبوته[2] على أقوال[3]، ضرورة[4] أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به[5] الناشئ من العلم بثبوته لما تقابل فيه[6] الأقوال، ولما كان النفي والإثبات واردين على موردٍ واحد، بل موردين.

وتعريفه[7] بما ينطبق على بعضها[8] وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء، بل ذاك الوجه[9]، إلاّ أنه حيث لم يكن بحدٍّ ولا رسم بل من قبيل شرح الاسم - كما هو الحال في التعريفات غالباً - لم يكن[10] له دلالة على أنه نفس الوجه،

--------------------------------------

[1] لأنه المعنى الجامع الذي أقيمت الأدلة عليه وجرى النزاع فيه، ولذا يؤكدون على تنقيح محل النزاع، حتى تتبيّن النقطة المتنازع فيها، لكي لا يكون النزاع في موضوعين أو يعود النزاع لفظياً.

[2] أي: في دليل حجية هذا الاستصحاب.

[3] «على» متعلق بقوله: (النزاع والخلاف) أي: النزاع والخلاف على أقوال.

[4] أي: لو أخذنا الدليل في نفس التعريف لتعدّد الاستصحاب، ولم يكن النزاع في شيء واحد.

[5] أي: لو كان الاستصحاب هو الظن بالبقاء - ومنشأ هذا الظن هو اليقين السابق - .

[6] أي: في الاستصحاب؛ لأن من ينكر بناء العقلاء أو ينكر الحجية من باب الظن يكون منكراً للاستصحاب بهذا المعنى، فلو أثبت حجيته من باب النص - مثلاً - لكان مثبتاً لموضوع آخر.

[7] الغرض هو الاعتذار لأصحاب تلك التعريفات، وأن مرادهم شرح الاسم.

[8] أي: بعض الأقوال.

[9] «الوجه» أي: ما ينطبق على بعض الأقوال.

[10] «لم يكن» خبر قوله: (وتعريفه...)، «لم يكن له» لهذا التعريف الذي

ص: 357

بل للإشارة إليه من هذا الوجه. ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به[1] - إذا لم يكن بالحد أو الرسم - بأس.

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له وما ذكر فيها من الإشكال بلا حاصل وطول بلا طائل.

ثم لا يخفى[2]:

--------------------------------------

ينطبق على بعضها، «أنه» أن الاستصحاب، «نفس الوجه» المذكور في هذا التعريف، «إليه» إلى الاستصحاب، «من هذا الوجه» المذكور في التعريف، والحاصل: إن هذه التعاريف هي مرآة للاستصحاب ومشيرة إليه، وليست حداً ولا رسماً.

[1] «به» بالتعريف، واسم «لم يكن» هو قوله: «بأس».

الأمر الثاني كون الاستصحاب مسألة أصولية

[2] علم أصول الفقه هو: (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية)(1)، وحيث إن الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقاء فإنه يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية، فيكون مسألة أصولية؛ إذ هو (بقاء كل مشكوك البقاء) وهذا حكم شرعي كلي.

وأما القواعد الفقهيّة - كأصالة الطهارة - فهي نفس الحكم الشرعي، وليست واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى: الفرق بين المسألة الأصولية، وبين القاعدة الفقهية هو أن الحكم

الشرعي يستفاد من القاعدة الفقهية بلا واسطة، لكنه يستفاد من المسألة الأصولية مع الواسطة.

مثلاً: في قاعدة الطهارة نقول: (هذا مشكوك الطهارة) و(كل مشكوك الطهارة طاهر) وهذا حكم شرعي فرعي.

ص: 358


1- قوانين الأصول 1: 5؛ فرائد الأصول 3: 18؛ إيضاح كفاية الأصول 1: 24.

أن البحث في حجيته[1] مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق[2] استنباط الأحكام الفرعية. وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة[3] وإن كان ينتهي إليه[4]، كيف[5]! وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلاّ حكماً أصولياً كالحجية مثلاً[6].

هذا لو كان[7] الاستصحاب عبارةً عما ذكرنا.

--------------------------------------

أما في استصحاب الطهارة فنقول: (هذا متيقن الطهارة سابقاً مشكوكها لاحقاً)، (و كل مشكوك البقاء باقٍ) وهذا ليس حكماً فقهياً فرعياً.

[1] حجية الاستصحاب، «يبحث فيها» في هذه المسألة الأصولية.

[2] فليست تلك القاعدة حكماً شرعياً فرعياً كوجوب الصلاة والصوم.

[3] أي: فلا تكون قاعدة فقهية، حيث إن القاعدة نفسها حكم شرعي فرعي، مثلاً: قاعدة الطهارة فإن مفادها (كل شيء طاهر) هو حكم شرعي فرعي.

[4] أي: في المسألة الأصولية الغرض هو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، لكن ليست المسألة هي الحكم الفرعي، بل هي طريق في استنباطه.

مثلاً: (هذا مشكوك بقاء طهارته) (كل مشكوك البقاء باقٍ) (فهذا طهارته باقية) فإن النتيجة هي حكم فرعي، لكن الاستصحاب وقع في الكبرى ولم يكن مسألة فرعية.

[5] يريد المصنف بيان مثال واضح لا يخفى على أحد، فإن الفرق بين مثل: (استصحاب الطهارة) و(قاعدة الطهارة) قد يخفى على البعض، لكن (استصحاب الحجيّة) واضح أنه حكم كلي وليس حكماً فرعياً.

[6] نظير ما لو كان الإنسان بعيد عن المعصوم وجعلت له حجية الخبر الواحد، فمع تواجده في بلد المعصوم هل تبقى الحجية أم تزول؟ فيستصحب حجية الخبر الواحد.

[7] حاصله: إن الاستصحاب لو كان (الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم) كما هو مختارنا، فكونه مسألة أصولية يتضح بما بيناه.

ص: 359

وأما لو كان عبارةً عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته أو الظن به[1] الناشئ[2] من ملاحظة ثبوته، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.

وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه[3] اعتبار أمرين[4] في مورده: القطع بثبوت شيء، والشك في بقائه.

--------------------------------------

أما لو قلنا: إنّ الاستصحاب هو: (بناء العقلاء على بقاء ما عُلم ثبوته) فإنه من الواضح أن هذا ليس حكماً شرعياً فرعياً، بل هو حكم عقلائي، وكذا لو قلنا: إن الاستصحاب هو: (الظن بالبقاء) فإن هذا أيضاً ليس حكماً شرعياً فرعياً.

[1] «به» بالبقاء، وقوله: «أو الظن» عطف على (بناء العقلاء) أي: لو كان الاستصحاب عبارة عن الظن بالبقاء... الخ.

[2] أي: منشأ الظن هو ملاحظة ثبوته سابقاً.

الأمر الثالث أركان الاستصحاب

[3] هذا التعريف هو المستفاد من أدلة الاستصحاب؛ لذلك اعتبار هذين الأمرين مأخوذ من تلك الأدلة.

[4] يشترط في جريان الاستصحاب عدة أمور كما في العناية(1):

1- اليقين السابق.

2- الشك اللاحق.

3- تعلق الشك بالبقاء لا بأصل ما تيقن به، وإلاّ لم يكن استصحاباً، بل كان من قاعدة اليقين.

4- بقاء الموضوع واتحاد المحمول - أي: اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة - .

5- أن لا يكون في مورد الاستصحاب أمارة - ولو على وفاقه - .

6- لزوم الفحص إلى حد اليأس في الشبهات الحكمية.

ص: 360


1- عناية الأصول 5: 16 - 17.

ولا يكاد[1] يكون الشك في البقاء إلاّ مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول. وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية[2] في الجملة[3].

وأما الأحكام الشرعية[4]،

--------------------------------------

7- أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي.

وهنا المصنف يذكر الأول والثاني، وأما باقي الأمور فيأتي التعرض لها تباعاً في المباحث الآتية.

الأمر الرابع وحدة الموضوع والمحمول

اشارة

[1] حاصله: إنه لابد من وحدة الموضوع والمحمول حتى يجري الاستصحاب، فلا يجري مع تعدد الموضوع، كما لو تيقنا بعدالة زيد، ثم شككنا في فسق عمرو، فلا نستصحب العدالة في عمرو لأن الموضوع في القضية المتيقنة هو زيد، وفي القضية المشكوكة هو عمرو، كما لا يجري الاستصحاب مع تعدد المحمول، فلو تيقنا بعدالة زيد ثم شككنا في علم زيد فلا يجري الاستصحاب لإثبات علمه؛ وذلك لاختلاف المحمول في القضيتين.

[2] مثلاً: (زيد عادل يقيناً) و(زيد مشكوك العدالة) فالموضوع وهو (زيد) نفسه في القضيتين، وكذا المحمول وهو (العدالة).

[3] نعم، بعض الأحيان يشك في اتحاد الموضوع الخارجي، كما في الزمانيات، مثلاً: يجب الإمساك عن المفطرات في النهار، وحين الشك في دخول الليل، فإن الموضوع - وهو النهار - غير معلوم البقاء، بل يحتمل تبدله.

إشكالان في استصحاب الأحكام الشرعية
اشارة

[4] إن الموضوع في الأحكام الشرعية هو أمر كلي مركب، فإذا بقيت كل أجزاء المركب فلا شك بالبقاء، بل نعلم ببقاء الحكم الشرعي قطعاً.

ولا يحصل الشك إلاّ بعد زوال بعض هذا المركب، وحينئذٍ لا نعلم ببقاء

ص: 361

سواء كان مدركها العقل أم النقل[1]، فيشكل حصوله فيها[2]، لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلاّ من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه[3]

--------------------------------------

الموضوع؛ لأن الموضوع المركب من الأجزاء يختلف عن الموضوع المركب من بعض تلك الأجزاء دون بعض، فكيف يجري الاستصحاب؟

وهنا في الحقيقة إشكالان:

الأول: إن الموضوع في الأحكام الشرعية يختلف في القضيتين - المتيقنة والمشكوكة - فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعية، بل يجري في خصوص الموضوعات الخارجية، وهذا ما ذهب إليه الأخباريون(1).

الثاني: إنه لا يجري الاستصحاب لو كان دليل الحكم هو العقل؛ وذلك لأنه لا شك إلاّ مع تغير بعض الحالات، وحين الشك لا يحكم العقل قطعاً، وحيث يحتمل دخالة تلك الحالات في الحكم فلا شك في بقاء الحكم، بل قطع بزوال الحكم؛ لأن العقل إنما يحكم لو تيقن بأمر، ومع عدم تيقنه لا حكم له أصلاً، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(2).

[1] «العقل» إشارة إلى إشكال الشيخ الأعظم، «النقل» إشارة إلى إشكال الأخباريين.

[2] «حصوله» أي: حصول اتحاد القضيتين، «فيها» في الأحكام الشرعية.

[3] أي: بعض الأوصاف والحالات، فإنه لو بقيت كل الأوصاف والحالات لم يكن هناك شك، بل قطع في استمرار الحكم، «بعض ما» أوصاف وحالات، «هو» الموضوع، «عليه» الضمير يرجع إلى (ما) فالمعنى: إلاّ من جهة الشك في تغير بعض الأوصاف والحالات، التي كان الموضوع على تلك الحالات والأوصاف.

ص: 362


1- فرائد الأصول 3: 33، حيث نسب اليهم ذلك.
2- فرائد الأصول 3: 37.

مما احتمل دخله فيه[1] حدوثاً أو بقاءً[2]، وإلاّ[3] لما تخلف الحكم عن موضوعه إلاّ بنحو البداء[4] بالمعنى المستحيل في حقه تعالى؛ ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعاً لا رفعاً[5].

--------------------------------------

[1] «مما» من الأوصاف والحالات التي احتمل، «دخله» دخل تلك الأوصاف والحالات، «فيه» في الموضوع.

[2] «حدوثاً» كالتغيّر فإنه سبب لنجاسة الماء الكر حدوثاً، فلا يشترط بقاء التغيّر، فحتى لو رجع الماء إلى حالته الأولية فإن النجاسة تكون باقية.

«بقاءً» كالأعلمية، فكما يشترط الأعلمية في ابتداء التقليد كذلك يشترط بقاء الأعلمية في استمرار التقليد.

[3] أي: إن لم تتغيّر بعض الأوصاف والحالات لبقي الحكم قطعاً ولم يشك في بقائه.

[4] البداء في الناس - عادة - هو تغيّر الرأي لاكتشافهم أمراً كانوا يجهلونه، فيحكم الإنسان على موضوع بشيء ثم لما يتبيّن له الخطأ في حكمه يغيّر الحكم، مع بقاء الموضوع على ما هو عليه. وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فالبداء فيه هو إظهار الأمر بعد خفائه على الناس، ويدل عليه قوله تعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(1).

إذن، لا يعقل تغيّر حكم شرعي مع بقاء الموضوع بنفسه من غير اختلاف فيه. نعم، مع تغيّر الموضوع - كانتهاء أمده مثلاً - يمكن تغيّر الحكم بالنسخ، فإن الحكم إذا كان محدّداً بوقت معين واقعاً فبانتهاء الوقت يتغيّر الموضوع؛ فلذا يتغير الحكم، وهذا هو النسخ في الأحكام الشرعية.

[5] أي: بيان لانتهاء أمد الحكم، لا تغيير الحكم مع بقاء موضوعه، فإن «الدفع» هو بيان عدم شمول الحكم لما بعد الوقت، و«الرفع» هو تغيير الحكم مع كونه قابلاً للاستمرار.

ص: 363


1- سورة الرعد، الآية: 39.

ويندفع هذا الإشكال[1] بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما[2] وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه، إلاّ أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافياً في تحققه[3] وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، وكان بعض[4] ما عليه الموضوع من

--------------------------------------

الجواب عن الإشكال الأول

[1] أما الإشكال الأول، فجوابه: إن اتحاد القضيتين قد يكون بنحو الدقة العقلية، وقد يكون بنحو الاتحاد العرفي، ومع تغيّر بعض الحالات والأوصاف لا وحدة عقلاً، لكن قد تكون وحدة عرفيّة.

وحيث إن دليل الاستصحاب إما بناء العقلاء أو النص، أو الإجماع، فإنه يمكن ادعاء أن العقلاء لا يلاحظون الدقة العقلية في وحدة القضيتين، كذلك النص ملقى إلى العرف، لقوله: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، والعرف لا يلاحظ الدقة العقلية أيضاً، وكذا الإجماع - على فرض صحته - يشمل صورة الوحدة العرفية. إذن، تكفي الوحدة العرفية في القضيتين، وهذه الوحدة حاصلة غالباً.

[2] أي: بحسب الموضوع والمحمول، «جريانه» أي: جريان الاستصحاب.

[3] أي: في تحقق الاتحاد اللازم في الاستصحاب.

[4] المقصود بيان أن الخصوصية التي تغيّرت - ومع تلك الخصوصية كان الحكم مقطوعاً، ومع تغيّر تلك الخصوصية كان بقاء الحكم مشكوكاً - على قسمين:

1- ما لا يراه العرف مقوماً للموضوع، بل يراه حالة طارئة عليه، فهنا يرى العرف اتحاد القضيتين، مثل التغيّر في (الماء المتغير نجس).

2- ما يراه العرف مقوماً للموضوع وأن الحكم يتوقف عليه، كما في (صلِّ خلف العادل).

فإن كان من قبيل القسم الثاني فلا يجري الاستصحاب، وإن كان من قبيل الأول جرى الاستصحاب؛ لشمول أدلته لهذا القسم.

ص: 364


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

الخصوصيات التي يقطع معها[1] بثبوت الحكم له مما يعد بالنظر العرفي من حالاته[2]، وإن كان واقعاً[3] من قيوده ومقوماته، كان[4] جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها[5] لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها مما عد من حالاتها لا من مقوماتها، بمكان من الإمكان، ضرورة[6] صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبداً أو لكونه مظنوناً ولو نوعاً[7]، أو دعوى دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعاً، بلا تفاوت[8]

--------------------------------------

[1] أي: مع تلك الخصوصية، «له» للموضوع.

[2] أي: من حالات الموضوع، بأن لم يكن مقوماً له، بل كان من الطوارئ التي لا يتوقف عليها الموضوع ولا الحكم.

[3] أي: لعلّ تلك الحالة كانت مقوماً واقعاً، ولكن لأن الشرع أوكل الأمر إلى لسان القوم، فلابد من العرف.

[4] «كان» جزاء (لمّا) في قوله: (إلاّ أنه لمّا كان الاتحاد... الخ)، وخبر «كان» هو قوله: (بمكان من الإمكان).

[5] أي: عند الشك في تلك الأحكام، أي: في استمرارها، «لموضوعاتها» أي: موضوعات تلك الأحكام، «بعض ما» أي: خصوصيات وأوصاف، «احتمل دخله» الضمير راجع إلى (ما)، «فيها» أي: في الموضوعات، «مما عُدّ» أي: عدّه العرف، «من حالاتها» حالات الموضوعات.

[6] أي: أدلة الاستصحاب تشمل هذا المورد الذي تغيّر شيء في الموضوع، لكن العرف لم يعتبرها من المقوّمات، بل اعتبرها من الحالات الطارئة.

[7] إذ على هذا المبنى لا يشترط الظن الشخصي، بل يكفي الظن النوعي، بمعنى أنه يوجب الظن لعامة الناس.

الجواب عن الإشكال الثاني

[8] شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وحاصله: إنه مع الشك لا حكم

ص: 365

في ذلك[1] بين كون دليل الحكم نقلاً أو عقلاً[2].

أما الأول: فواضحٌ[3].

وأما الثاني[4]: فلأن الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل

--------------------------------------

للعقل قطعاً، ولكن يمكن حكم الشارع ولا مانع منه، وأدلة الاستصحاب عامة تشمل هذه الصورة أيضاً.

بيانه: إنه مع حكم العقل نكتشف حكم الشرع أيضاً - بالملازمة - لأن العقل حجة باطنة، ولا يمكن أن يحكم خلاف الشرع.

ومع تغيّر خصوصية يحتمل العقل كونها مقوماً فلا يحكم، ولكن ليس عدم الحكم بمعنى الحكم بالعدم، بل العقل يسكت، وهنا نحتمل بقاء الحكم الشرعي إن كان المتغيّر حالة، كما نحتمل زوال الحكم الشرعي إن كان المتغيّر مقوماً، فهذه الصورة تدخل تحت عمومات أدلة الاستصحاب، حيث يقين بحكم شرعي ثم شك في بقائه.

[1] أي: في بناء العقلاء أو النص أو الإجماع.

[2] كما دل العقل على (جواز الكذب للإصلاح من غير ضرر) فيكتشف حكم الشرع بذلك أيضاً، فقيد (الإصلاح) مقوّم للحكم بالجواز، ولكن (من غير ضرر) هل هو مقوّم أم حالة طارئة؟ فحين الضرر لا حكم للعقل؛ لأنه لا يحكم في صورة الشك، ولكن نستصحب الحكم الشرعي بالجواز؛ لشمول أدلة الاستصحاب لهذه الصورة أيضاً.

[3] «الأول»: كون الدليل نص، وهذا واضح؛ لأن الشرع يحكم حتى في صورة شك المكلّف.

[4] أي: مع كون الدليل عقلياً، «المستكشف به» أي: اكتشفنا الحكم الشرعي عبر الحكم العقلي.

ص: 366

دخله في موضوعه[1] - مما لا يرى مقوماً له - كان مشكوك[2] البقاء عرفاً، لاحتمال عدم دخله فيه[3] واقعاً، وإن كان[4] لا حكم للعقل بدونه قطعاً.

إن قلت[5]: كيف هذا مع الملازمة بين الحكمين؟!

قلت[6]:

--------------------------------------

[1] «دخله» الضمير راجع إلى (ما)، «موضوعه» أي: في موضوع حكم الشرع، «مما» صفة ل- (ما احتمل). فالمعنى: الحكم الشرعي الذي اكتشفناه عن طريق حكم العقل، عند ما تنتفي خصوصية نحتمل كونها مقوماً واقعاً، لكن العرف لا يراها مقوماً، إن هذا الحكم الشرعي مشكوك البقاء؛ لأنه كما نحتمل أنه مقوم كذلك نحتمل أن يكون حالة طارئة، فتشمله أدلة الاستصحاب.

[2] «كان» خبر (أن) في قوله: (أما الثاني فلأنّ الحكم...).

[3] أي: كما يحتمل دخل الخصوصية - الزائلة - في الموضوع كذلك يحتمل عدم دخلها، فالنتيجة هو الشك في بقاء الحكم.

[4] أي: لا يحكم العقل قطعاً، ولكن عدم حكمه بمعنى سكوته، وهذا لا ينافي حكم الشرع.

[5] حاصل الإشكال: اكتشاف حكم الشرع عن طريق الملازمة، حيث علمنا بحكم العقل فاكتشفنا منه حكم الشرع، ومع انتفاء حكم العقل تنتفي الملازمة، فلا يبقى مورد لحكم الشرع. «هذا» أي: بقاء حكم الشرع.

[6] حاصله الجواب: إن الملازمة في طرف الوجود لا في طرف العدم، أي: لو حكم العقل يحكم الشرع، ولكن قد لا يحكم العقل ولكن يحكم الشرع، كغالب الأحكام الشرعية التي لا يعرف العقل مدركها، فإن العقل يقرّ بعدم اطلاعه على ملاكات الأحكام، في أكثر الأحيان؛ ولذا لا حكم له، ولكن الشارع - لاطلاعه على الملاكات - يحكم.

ص: 367

ذلك لأن الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف[1]، لا في مقام الثبوت[2]، فعدم استقلال[3] العقل إلاّ في حالٍ غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال، وذلك[4] لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع - من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل - كان على حاله في كلتا الحالتين[5]،

--------------------------------------

وهنا حينما يحكم العقل فبالملازمة يحكم الشرع أيضاً، وبعد تغيّر إحدى الخصوصيات لا حكم للعقل قطعاً، ولكن نشك في بقاء حكم الشرع، فنحتمل عدم البقاء لو كانت الخصوصية مقوِّماً، ونحتمل البقاء لو لم تكن الخصوصية مقوِّماً، فينطبق الاستصحاب على هذا المورد؛ إذ لنا يقين بحكم الشارع سابقاً، والآن نشك في بقاء حكمه.

[1] أي: في مقام الوجود، بمعنى أنه لو حكم العقل فإن الشرع يحكم أيضاً.

[2] أي: في مقام العدم، والتعبير ب- «الثبوت» خلاف الاصطلاح. فالمعنى: إن عدم ثبوت حكم العقل لا يلازم عدم ثبوت حكم الشرع، بل يمكن أن يكون للشرع حكم؛ لأن دليل حكم الشرع قد يكون العقل، وقد يكون النص أو الإجماع - مثلاً - .

[3] هذا بيان لعدم الملازمة في طرف العدم، «إلاّ في حال» كما لو كانت الخصوصية موجودة، «في غير تلك الحال» أي: في ما لو فقدت الخصوصية. وكلمة (غير) لا توجد في بعض النسخ، فتكون العبارة خطأ لانقلاب المعنى إلى غير المقصود.

[4] بيان دليل الانفكاك في طرف العدم، وحاصله: إن ملاك حكم العقل والشرع واحد دائماً؛ لأن العقل حجة باطنة، ولا تناقض بين حجة الله الظاهرة وحجته الباطنة أصلاً، ولكن قد يكتشف العقل هذا الملاك فيحكم، وقد يجهل الملاك فيسكت، ولكن الشرع لمعرفته بالحقائق يعلم بوجود الملاك فيحكم.

[5] حالة وجود الخصوصية، وحالة عدم وجودها، «لم يدركه» فاعله العقل.

ص: 368

وإن لم يدركه إلاّ في إحداهما، لاحتمال[1] عدم دخل[2] تلك الحالة فيه، أو احتمال[3] أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً، وإن كان لها دخل في ما اطلع عليه من الملاك.

وبالجملة: حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعاً[4]، لا ما هو مناط حكمه فعلاً[5]. وموضوع حكمه كذلك[6] مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال

--------------------------------------

[1] تعليل لاحتمال وجود الملاك في كلا الحالتين، وحاصله: إنّ هنا احتمالين:

1- أن لا يكون لتلك الخصوصية دخل في الحكم أصلاً.

2- أن يكون لها دخل في أحد الملاكين، فمع زوالها يزول ذلك الملاك، ولكن حيث لا دخل لها في الملاك الثاني فيبقى الحكم.

وهذان وإن كانا مجرد احتمال لكنهما كافيان في الشك في بقاء الحكم، فتتحقق أركان الاستصحاب.

[2] إشارة إلى الاحتمال الأول.

[3] إشارة إلى الاحتمال الثاني، «معه» مع الملاك الأول، «لها» للخصوصية، «فيه» في الملاك الآخر، «في ما اطلع» الفاعل العقل، «من الملاك» أي: الملاك الأول، والحاصل: إنه يحتمل أن تكون تلك الخصوصية مقوّمة للملاك الأول لكنها غير مقومة للملاك الثاني.

[4] لما ذكرنا من أن الملاك واحد - حيث إن العقل حجة من قبل الله تعالى - .

[5] أي: في مرحلة الفعلية، فلو لم يكن للعقل حكم فعلي - لعدم اطلاعه على الملاك - فلا يلازمه عدم حكم شرعي فعلي.

[6] حكم العقل، «كذلك» أي: فعلاً. والمعنى: إن حكم العقل فعلاً فلا إجمال ولا إهمال في موضوعه؛ لأن العقل لا يحكم إلاّ مع تيقنه، وهذا لا ينافي وجود ملاك واقعاً، بحيث لو اطلع عليه العقل لحكم، ولكن حيث لم يطلع لم يحكم.

ص: 369

والإجمال[1] مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأناً[2]، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً؛ فرب خصوصية لها دخل في استقلاله[3] مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال له بشيء[4] قطعاً، مع احتمال بقاء ملاكه واقعاً، ومعه[5] يحتمل بقاء حكم الشرع جداً، لدورانه[6] معه وجوداً وعدماً، فافهم وتأمل جيداً.

ثم إنه لا يخفى[7] اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقاً، وعدم

--------------------------------------

[1] يُراد ب- «الإجمال» عادة: عدم وضوح النص، فلا معنى للإجمال في الأدلة اللُبّية - كدليل العقل - فمراد المصنف من الإجمال هنا هو الإهمال، فيكون عطفاً تفسيرياً.

[2] أي: (لو علم لحكم)، فهنا يمكن الإهمال بأن نقول: لا يعلم فلا يحكم، ولكنه لو علم لحكم به، «وهو» أي: موضوع الحكم الشأني، «ما قام به» أي: الموضوع الذي تحقق الملاك به.

[3] أي: لتك الخصوصية دخالة في حكم العقل، بمعنى أنه لو وجدت لحكم العقل، ولكن يحتمل العقل أنها ليست بمقوم.

[4] أي: بدون تلك الخصوصية لا يحكم العقل لا إيجاباً ولا سلباً، بمعنى سكوته.

[5] أي: مع احتمال بقاء الملاك.

[6] أي: لدوران حكم الشرع، «معه» مع الملاك، «وجوداً وعدماً» أي: إن كان الملاك كان حكم الشرع، وإن لم يكن الملاك لم يكن حكم للشرع.

الأقوال في الاستصحاب

[7] ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل أحد عشر قولاً في الاستصحاب(1)،

مع ذكر أدلتها والمناقشة فيها.

لكن المصنف يشير إشارة عابرة إلى بعض هذه الأقوال، ولا يتطرق إلى أدلتها؛ لأنه مع ذكر أدلة القول المختار يتبيّن بطلان سائر الأقوال. والأقوال التي يذكرها

ص: 370


1- فرائد الأصول 3: 48 - 50.

حجيته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها.

وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها - وهو الحجية مطلقاً - على نحو يظهر بطلان سائرها.

فقد استدل عليه بوجوه:

الوجه الأول[1]: استقرار بناء العقلاء من الإنسان - بل ذوي الشعور[2] من كافة أنواع الحيوان - على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضياً[3].

--------------------------------------

المصنف:

1- الحجية مطلقاً - مقابل التفصيلات - وهذا هو المختار.

2- عدم الحجية مطلقاً.

3- التفصيل بين الموضوعات فيجري الاستصحاب، وبين الأحكام فلا يجري، وهذا ما ذهب إليه الأخباريون.

4- التفصيل بين ما إذا كان الشك في الرافع فيجري، وبين ما إذا كان الشك في المقتضي فلا يجري، وهذا مختار الشيخ الأعظم.

أدلة الاستصحاب

الدليل الأول

[1] هو استقرار سيرة العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة، ولم يردع عنها الشارع.

[2] «الشعور» الإدراك، وهي في الحيوان الغريزة أو الفطرة.

[3] لأن العمل الذي يكثر لدى الناس إذا لم يكن الشارع راضياً عنه فلا بد من

ص: 371

وفيه[1]: أولاً: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبداً[2]، بل إما رجاءً واحتياطاً[3]، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظناً ولو نوعاً، أو غفلةً كما هو الحال في سائر

--------------------------------------

تبليغ تحريمه، كالربا، حيث إنه شائع بين الناس فنهى عنه الشارع، ولكن إذا لم يبلّغ الشارع التحريم كشف ذلك عن رضاه.

[1] حاصل الإشكال هو أمران:

الأول: إن إبقاءهم الحالة السابقة إنما هو لعلّة، فمهما كانت تلك العلّة أبقوا الحالة السابقة وإلاّ فلا، وهذا لا يفيدنا في الاستصحاب؛ لأنا نريد إثبات حجيته دائماً حتى إذا لم تكن تلك العلل. وأما تلك العلل فهي:

1- الاحتياط: بأن يبقون الحالة السابقة برجاء بقاء الحالة السابقة.

2- الاطمئنان: ومعنى هذا استمرار اليقين السابق وعدم الشك.

3- الظن النوعي بالبقاء - حتى لو لم يظن شخصاً - .

4- الغفلة: فإن الإنسان قد يُبقي الحالة السابقة غفلة، كمن ينتقل من بيت إلى آخر، ثم في الأيام الأوائل يحدث كثيراً ذهابه إلى المنزل الأول.

ومع احتمال أن يكون سبب بناء العقلاء أحد هذه الأمور فلا حجية إلاّ مع وجودها، وكثيراً ما لا توجد هذه الأمور.

الثاني: لو فرض وجود بنائهم فإن هذا البناء منهي عنه، ولم يمضه الشارع؛ وذلك للآيات والروايات الرادعة عن العمل بالظن، مضافاً إلى جعل الشارع طرقاً له، وهي البراءة أو الاحتياط في الشبهات.

[2] قد مرّ معنى (التعبد)، وحاصله: إن يكون ذلك البناء لا لجهة إلاّ لتنظيم أمور حياتهم، وليس له علّة أخرى حتى يدور الحكم مدار تلك العلة.

[3] عطف تفسيري، أي: برجاء إدراك الواقع، وهذا احتياط لكن لا ملزم للعمل به.

ص: 372

الحيوانات[1] دائماً وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلمنا ذلك[2]، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماضٍ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل[3] من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتباع هذا البناء في ما لابد في اتباعه[4] من الدلالة على إمضائه، فتأمل جيداً.

الوجه الثاني[5]: إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

وفيه: منع اقتضاء مجرد الثبوت[6] للظن بالبقاء فعلاً ولا نوعاً، فإنه لا وجه له

--------------------------------------

[1] أي: جميعها، لكن لا يخفى عدم علمنا بكيفية شعور الحيوانات أصلاً.

[2] «ذلك» أي: التعبد، بأن نقول: إن إبقاءهم الحالة السابقة هي للتعبد لا لأجل هذه الأمور - المذكورة - «لكنه» للشأن، «به» بهذا البناء من العقلاء.

[3] أي: رادع عن اتباع غير العلم، كقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1) وقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم)(2)

كما أن الشارع جعل طرقاً في الشبهات - هي البراءة أو الاحتياط - فلا يجوز ترك طرقه واتباع طرق أخرى قد تتخالف في العمل مع طرقه.

[4] أي: إذا كان حكماً إلزامياً - كالوجوب والحرمة - و«من» بيان لقوله: (لا وجه).

الدليل الثاني

[5] حاصله: هو أن وجود الشيء في الحال السابق موجب للظن في بقائه.

وفيه: أولاً: إن الوجود السابق لا يقتضي الظن اللاحق لا ظناً شخصياً ولا ظناً نوعياً؛ لأن منشأ الظن هو غلبة البقاء، وهذه الغلبة غير معلومة.

وثانياً: على فرض وجود هذه الغلبة الموجبة الظن فلا دليل على

حجية هذا الظن.

[6] أي: الثبوت السابق، «للظن» متعلق ب- (اقتضاء)، «فعلاً» أي: ظناً شخصياً،

ص: 373


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- الكافي 7: 407.

أصلاً إلاّ كون[1] الغالب في ما ثبت أن يدوم، مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم. ولو سلم[2]، فلا دليل على اعتباره بالخصوص مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم[3].

الوجه الثالث: دعوى الإجماع عليه، كما عن المبادئ، حيث قال(1):

«الاستصحاب حجة، لإجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا[4]، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولاً؛ ولو لا القول[5] بأن الاستصحاب حجة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجح»، انتهى.

وقد نقل عن غيره أيضاً(2).

--------------------------------------

«فإنه» أي: فإن الاقتضاء هذا.

[1] أي: منشأ هذا الظن هو الغلبة، فإن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب، ولكن من غير المعلوم غلبة البقاء، بل التغيّر هو الأكثر.

[2] أي سلم وجود الظن بسبب الغلبة، «بالخصوص» أي: الظن الخاص - مقابل الظن الانسدادي - .

[3] أي: دلت الأدلة العامة على عدم حجية الظن، كقوله: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(3) فلو لم يوجد دليل قطعي لما أمكن تخصيص هذا العموم.

الدليل الثالث

[4] أي: أم لم يطرأ ما يزيل الحكم.

[5] أي: مع احتمال بقاء الحكم وعدم بقائه يكون ترجيح البقاء بلا مرجح، وهو قبيح، لكن يحكم الفقهاء بالبقاء لوجود المرجح وهو الإجماع.

ص: 374


1- مبادئ الوصول: 250 - 251.
2- فرائد الأصول 3: 54.
3- سورة يونس، الآية: 36.

وفيه[1]: إن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة - مما له مبانٍ مختلفة[2] - في غاية الإشكال، ولو مع الاتفاق[3]، فضلاً عما إذا لم يكن[4] وكان مع الخلاف من المعظم، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقاً أو في الجملة؛ ونقله موهون جداً لذلك[5]، ولو قيل[6] بحجيته لو لا ذلك.

الوجه الرابع: وهو العمدة[7] في الباب، الأخبار المستفيضة.

--------------------------------------

[1] حاصل الإشكال أن الإجماع المحصل غير حاصل.

أولاً: لوجود أدلة تمسك بها القائلون بحجية الاستصحاب، والإجماع هنا مقطوع الاستناد ، فلا يكون حجة، فإن الإجماع محتمل الاستناد ليس بحجة فضلاً عن معلوم الاستناد.

وثانياً: كثرة المخالفين القائلين بعدم حجية الاستصحاب إما مطلقاً أو في الجملة.

وأما الإجماع المنقول فهو ضعيف جداً؛ وذلك لوجود المخالف وللقطع بالاستناد، هذا فضلاً عن عدم حجية الإجماع المنقول - عند البعض - .

[2] أي: توجد أدلة مختلفة لحجية الاستصحاب.

[3] أي: حتى لو اتفق الفقهاء، فهذا الاتفاق غير حجة للعلم باستنادهم إلى تلك الأدلة، فلابد من ملاحظة الأدلة، فإن كانت صحيحة يقبل القول لا لأجل الإجماع، بل لأجل تلك الأدلة.

[4] أي: لم يكن اتفاق.

[5] أي: للعلم بالاستناد، ولخلاف المعظم.

[6] أي: حتى لو قلنا بحجية الإجماع المنقول في صورة عدم وجود مخالف، ولم يكن هناك احتمال الاستناد.

الدليل الرابع الأخبار الدالة على الحجية
اشارة

[7] أي: الاعتماد في حجية الاستصحاب على الروايات؛ لأن سائر الأدلة كانت

ص: 375

منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام[1] وهو على وضوء، أيوجب الخفقة[2] والخفقتان عليه الوضوء؟

قال: «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، وإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت: فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال: «لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكنه ينقضه بيقين آخر»(1).

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة[3]، إلاّ أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث

--------------------------------------

محلاً للإشكال. قال الشيخ الأعظم: (وأول من تمسك بهذه الأخبار - في ما وجدته - والد الشيخ البهائي في ما حكي عنه في العقد الطهماسبي، وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس، وشاع بين من تأخر عنهم)(2)،

انتهى.

صحيحة زرارة الأولى
اشارة

[1] أي: يشارف على النوم، وهذا مجاز بالأوْلِ، أي: سينتهي أمره إلى النوم.

[2] «الخفقة» حركة الرأس بسبب شدة النعاس.

1- سند الرواية

[3] الإضمار في الرواية بمعنى أن لا يذكر الراوي اسم القائل أو المسؤول عنه، فيقول مثلاً: (سألته عن كذا) من غير تعيين المسؤول عنه، أو يقول: (قال كذا) من غير بيان القائل.

وسبب الإضمار هو تقطيع الروايات، فإن أصحاب الأصول لم يبوّبوا كتبهم - عادة - وكانوا يذكرون اسم الإمام أولاً ثم في سائر الأحكام يذكرونه بالضمير، مثلاً يقول: سألت أبا عبدالله عن كذا، ثم يقول وسألته عن كذا، وهكذا. ثم جاء

ص: 376


1- تهذيب الأحكام 1: 8، مع اختلاف يسير.
2- فرائد الأصول 3: 14.

كان مضمرها[1] مثل زرارة، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لا سيما مع هذا الاهتمام[2].

وتقريب الاستدلال بها[3]

--------------------------------------

أصحاب المجاميع الحديثيّة فوضعوا كل حكم في بابه الخاص من غير تغيير في الألفاظ، فسبّب ذلك الإضمار في بعض الروايات.

والأقرب أن رواية هذه المضمرات في المجاميع الحديثيّة قرينة عقلائية على أن المسؤول عنه أو القائل هو الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لأن أصحاب المجاميع وضعوا كتبهم لرواية أقوال المعصومين لا غيرهم. مضافاً إلى أن أجلاء أصحاب الأئمة لم يكونوا يستفتون غيرهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فهذا قرينة أخرى على أن مرجع الضمير هو الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] بصيغة اسم الفاعل.

[2] أي: اهتمام زرارة، والمقصود هو تكرار زرارة للسؤال مرتين وبصيغتين، مرة (أيوجب الخفقة...)، وأخرى (فإن حرك في جنبه...).

2- دلالة الرواية على الاستصحاب

[3] حاصله: إن قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وإلاّ) هو: (إن لا)، وهو أداة الشرط وفعل الشرط، أي: إن لا يستيقن بالنوم. ومن المعلوم الاحتياج إلى جزاء الشرط، فما هو هذا الجزاء؟ هنا ثلاثة احتمالات:

الأول: إن الجزاء محذوف؛ وذلك لسبق نظير الجزاء في الكلام، فالمعنى وإن لا يستيقن بالنوم فلا يجب عليه الوضوء، وحذف الجزاء - بقرينة سبق نظيره - كثير في الكلام الفصيح، وحينئذٍ يكون قوله: (فإنه على يقين... الخ) بيان للعلة، أي: علّة عدم وجوب الوضوء هو أنه كان على يقين، ومن المعلوم أن العلة تُعمِّم، فكلّما كانت العلة كان الحكم، كقولهم: (لا تأكل الرمان لأنه حامض).

الثاني: أن يكون الجزاء: (فإنه على يقين من وضوئه)، وحينئذٍ لا تعليل في

ص: 377

أنه لا ريب[1] في ظهور قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وإلاّ فإنه على يقين إلى آخره» عرفاً في النهي[2] عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه، وأنهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد[3] من قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا» في جواب: «فإن حرك في جنبه... إلى آخره»، وهو[4] اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية[5] الغير

--------------------------------------

الكلام، فلا يمكن استفادة العموم.

وفيه: إنه يلزم في الجزاء أن يكون مترتباً على الشرط، ومن الواضح أن (فإنه على يقين) لا يترتب على عدم اليقين بالنوم؛ إذ سواء تيقن بالنوم أم تيقن بعدم النوم أم شك، فإنه يعلم بأنه كان على يقين من وضوئه. فلابد لتصحيح الكلام من تحويل (فإنه على يقين) إلى إنشاء، حتى يكون معناه: يجب العمل على طبق اليقين، وهذا تكلّف وخلاف الظاهر.

الثالث: أن يكون الجزاء: (ولا ينقض اليقين أبداً بالشك)، وحينئذٍ لا تعليل في الكلام أيضاً، فلا يستفاد العموم.

وفيه: إن هذا التركيب لا يتبادر إلى ذهن أحد، مضافاً إلى ركاكة دخول الواو على الجزاء.

[1] إشارة إلى الاحتمال الأول - وهو كون الجزاء محذوفاً - .

[2] وهذا يقرّب كون الجزاء محذوفاً، وهو نهي، أي: نهي عن نقض اليقين بالشك.

[3] أي: الجزاء محذوف بقرينة سبق نظيره، وهو قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا)، أي: لا يتوضأ حتى يستيقن... الخ.

[4] أي: (ما هو علة الجزاء)، و«في القضية» متعلق بالاندراج.

[5] أي: بناء العقلاء على عدم نقض اليقين بالشك، فحيث إن هذا في ارتكازهم لذلك جعله الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ علّة لعدم لزوم الوضوء؛ لأن هذا المورد من مصاديق هذه القضية الارتكازيّة.

ص: 378

المختصة(1)

بباب دون باب[1].

واحتمال[2] أن يكون الجزاء هو قوله: «فإنه على يقين... إلى آخره» غير سديد، فإنه لا يصح[3] إلاّ بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد.

وأبعد منه[4] كون الجزاء قوله: «لا ينقض... إلى آخره» وقد ذكر: «فإنه على يقين» للتمهيد.

وقد انقدح بما ذكرنا[5] ضعف احتمال اختصاص قضية: «لا تنقض... إلى آخره»

--------------------------------------

[1] فلا خصوصية لباب الوضوء، بل هي قاعدة عامة استدل بها الإمام في أحد المصاديق - وهو باب الوضوء - .

[2] إشارة إلى الاحتمال الثاني.

[3] لما ذكرنا أن (اليقين من الوضوء) غير مترتب على (عدم العلم بالنوم). نعم، لو بدّلنا هذه الجملة الخبرية إلى إنشاء - أي: اعمل على طبق يقينك - فحينئذٍ يترتب هذا الجزاء على الشرط، لكن تبديل الجملة الخبرية إلى إنشاء خلاف الظاهر.

[4] إشارة إلى الاحتمال الثالث. وقد ذكرنا الإشكال فيه من أنه لا يتبادر إلى الذهن، مضافاً إلى ركاكته.

3- عموم دلالة الرواية حتى لغير الوضوء

[5] قد ذكر البعض(2)

اختصاص (عدم نقض اليقين بالشك) بباب الوضوء، وقد ذكر المصنف ثلاثة أوجه في كون القاعدة عامة:

الأول: عموم التعليل كما ذكرناه قبل قليل، ويؤيد عموم التعليل: أن هذه العبارة (لا تنقض اليقين بالشك) ذكرها الإمام في موارد أخرى، كالطهارة والنجاسة، وكالشك في الركعات، وهذا يكشف عن أنها علة عامة.

الثاني: إن اختصاص هذا الحكم بباب الوضوء إنما هو بسبب حمل الألف

ص: 379


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المختصة».
2- ذكر الشيخ الأنصاري هذا الاحتمال 3: 57؛ فوائد الأصول 4: 336.

باليقين والشك في باب الوضوء جداً[1]، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي[2] قطعاً.

ويؤيده[3] تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية[4] أو ما يرادفها، فتأمل جيداً. هذا.

مع أنه[5] لا موجب لاحتماله إلاّ احتمال كون اللام في اليقين[6] للعهد، إشارة

--------------------------------------

واللام في (ولا ينقض اليقين) على العهد، فيكون المعنى لا ينقض يقينه بالوضوء بالشك، ولكن الأصل في (ال) الجنس لا العهد.

الثالث: إن قوله: (على يقين من وضوء) لا يعلم تعلق (من) ب- (يقين) بل يحتمل أن تكون متعلقة بمقدّر، أي: فإنه كائن من وضوئه على يقين، فهذا اليقين مطلق فكذا في قوله: (لا ينقض اليقين) فحتى لو فرضنا أن (ال) للعهد، فإنها عهد إلى يقين مطلق.

[1] «جداً» يرتبط بقوله: (ضعف)، «فإنه» للشأن، «ينافيه» أي: ينافي احتمال الاختصاص، «في أنه» أن التعليل وهذا هو الوجه الأول.

[2] اختصاصه بباب الوضوء يكون بمعنى أن هذا أمر تعبدي؛ لأن العقلاء لا يدركون خصوصية لباب الوضوء. أما لو كان عاماً فهو تعليل بأمر ارتكازي لدى العقلاء كافة، فيكون باب الوضوء من مصاديقه.

[3] أي: يؤيد أنه تعليل بأمر ارتكازي عام لا التعبد في خصوص باب الوضوء، وإنما كان مؤيداً لا دليلاً لاحتمال أن تكون للموارد الثلاثة خصوصية - الوضوء، الركعات، الطهارة والنجاسة - .

[4] أي: (لا تنقض اليقين بالشك).

[5] هذا هو الوجه الثاني، «أنه» للشأن، «احتماله» أي: احتمال اختصاص (لا تنقض...) بباب الوضوء.

[6] أي: «اليقين» في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، ولام العهد تكون هنا

ص: 380

إلى اليقين في «فإنه على يقين من وضوئه» مع أن الظاهر[1] أنه للجنس، كما هو الأصل فيه[2]، وسبق: «فإنه على يقين... إلى آخره» لا يكون قرينةً عليه[3] مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضاً، فافهم[4].

مع أنه[5] غير ظاهر في اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون «من وضوئه» متعلقاً بالظرف[6]، لا ب«يقين»، وكان المعنى: «فإنه كان من طرف وضوئه على

--------------------------------------

للعهد الذكري، أي: اليقين المذكور قبلاً وهو (يقين من وضوئك).

[1] رد كون اللام للعهد، وترجيح أنها للجنس، فتكون عامة، «أنه» أن اللام.

[2] «هو» الجنس، «فيه» في اللام.

[3] أي: على العهد؛ وذلك أنه مع إمكان الحمل على الجنس لا تصل النوبة إلى سائر المعاني. نعم، لو لم يمكن الجنس لزم الحمل على غيره، مثل قوله تعالى: {أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا * فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(1) إذ لا معنى للجنس، ولكن في ما نحن فيه يمكن المحل على الجنس، فلا تصل النوبة إلى العهد.

[4] لعله إشارة إلى أنه سبق من المصنف أن الأصل في اللام التزيين لا الجنس.

أو إشارة إلى أن المناط هو الظهور لا كون الأصل هو الجنس.

[5] هذا هو الوجه الثالث، «أنه» أن (اليقين) في قوله: (على يقين من وضوئه).

وحاصله: إن (اليقين) الأول غير ظاهر في خصوص اليقين بالوضوء، بل يحتمل أن يكون مطلقاً، فقوله بعد ذلك: (ولا ينقض اليقين) حتى إذا كانت اللام للعهد فإنه لا يضر بعموم اليقين.

[6] مراده من الظرف هو (كان) أو (كائن) من أفعال العموم، فيكون المعنى فإنه كائن من وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين بالشك أبداً، فاليقين الأول عام وليس خاصاً بباب الوضوء، وهذا نظير ما يقال: (إني على ثقة من زيد) فإن (من زيد) تعلق بفعل العموم، أي: (إني كائن من طرف زيد على ثقة).

ص: 381


1- سورة المزمل، الآية: 15 - 16.

يقين»، وعليه لا يكون الأصغر[1] إلاّ اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمل.

وبالجملة: لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك، خصوصاً بعد ملاحظة تطبيقها في الأخبار على غير الوضوء أيضاً.

ثم لا يخفى[2]

--------------------------------------

وحينئذٍ يتشكّل قياس منطقي من الشكل الأول، الحد الأوسط فيه هو اليقين المطلق.

فالصغرى: إنه كان من طرف وضوئه على يقين.

والكبرى: اليقين لا ينقض بالشك.

[1] هذا من سهو القلم ومراده الحد الأوسط - الذي يتكرر في الصغرى والكبرى - ولذا صُحِّحَ ذلك في بعض النسخ.

4- في معنى النقض في (لاتنقض)

[2] «النقض» هو نكث الشيء المستمر(1)،

كقطع الحبل وتخريب البناء، وهو ضد (الإبرام) وهو إحكامه كما يقال: أبرم الحبل، أي: أحكم فتله.

فقولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين) كأنّ اليقين أمر مستمر فيتمّ قطعه بالشك، فلذا نهىعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن قطعه.

ويصح عرفاً إطلاق نقض اليقين، سواء كان المتعلق أمراً قابلاً للاستمرار أم لا.

مثال الأول: عدالة زيد لها قابلية الاستمرار، فيحسن القول: نقضت يقيني بعدالته.

مثال الثاني: الليل والنهار لا قابلية لهما في الاستمرار، ومع ذلك يحسن القول: نقضت يقيني بالليل.

ص: 382


1- العين 5: 50؛ لسان العرب 7: 242، مادة «نقض».

حسن إسناد النقض - وهو ضد الإبرام - إلى اليقين، ولو كان[1] متعلقاً بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار، لما يتخيل[2] فيه من الاستحكام؛ بخلاف الظن[3]، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقاً بما فيه اقتضاء ذلك؛ وإلاّ[4]

--------------------------------------

وحيث صح، بل حسن ذلك فلا وجه لتخصيص عبارة (لا تنقض) بما إذا كان الشك في الرافع لا الشك في المقتضي.

والحاصل: إنه يتبع العرف في حسن إطلاق لفظة أو عدم حسنها، وهنا يحسن إطلاق النقض على اليقين، سواء كان متعلقه قابلاً للاستمرار أم لا.

وليس وجه حسن الإطلاق هو القابلية للاستمرار، بدليل قبح إطلاق النقض على بعض الأمور التي لها قابلية الاستمرار، فلا يصح قول: (نقضت الحجر من مكانه)، وبدليل حسن إطلاق النقض على ما لا قابلية له للاستمرار كمثال: (نقض اليقين بالليل).

[1] أي: ولو كان متعلق اليقين أمراً لا استمرار فيه.

[2] هذا وجه حسن إسناد النقض إلى اليقين حتى في صورة الشك في المقتضي، وحاصله: إن اليقين أمر فيه إبرام وإحكام فحينئذٍ يعتبر زواله نقضاً له.

[3] أي: الظن لا استحكام فيه؛ فلذا لا يصح إسناد النقض إليه، حتى وإن كان متعلق الظن أمراً له قابلية الاستمرار، مثلاً: الظن بحياة شاب لا يسند إليه النقض، فلا يقال: نقضت ظني بحياته، مع أن متعلق الظن أمر له قابلية للاستمرار؛ وذلك لأن الظن ليس مستحكماً حتى يقال فيه: (نقضت الظن).

والمقصود أنه لا ينظر العرف إلى متعلق اليقين والظن، بل ينظر إلى نفسيهما.

[4] أي: وإن لم يكن مصحح الإطلاق هو استحكام اليقين، بل كان المناط هو متعلقه، فإن كان قابلاً للاستمرار صدق النقض، وإن لم يكن لم يصح، فلازمه:

1- صحة مثل: (نقضت الحجر من مكانه)، والمعلوم عدم حسن هذا الكلام.

2- عدم صحة مثل: (انتقض اليقين باشتعال السراج) في ما كان منشأ الشك هو

ص: 383

لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له[1]، مع ركاكة مثل (نقضت الحجر من مكانه)، ولما صح أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السراج) في ما إذا شك في بقائه[2] للشك في استعداده، مع بداهة صحته وحسنه.

وبالجملة: لا يكاد يشك في أن اليقين - كالبيعة والعهد - إنما يكون حُسن إسناد النقض إليه[3] بملاحظته، لا بملاحظة متعلقه، فلا موجب[4] لإرادة[5] ما هو أقرب

--------------------------------------

عدم العلم بمقدار الوقود، ومن المعلوم صحة مثل هذا الكلام.

[1] «له» للاستمرار والبقاء.

[2] أي: بقاء الاشتعال، «استعداده» أي: استعداد الاشتعال، كما لو شك في مقدار النفط في السراج.

[3] أي: إلى اليقين - كالعهد والبيعة - «بملاحظته» أي: بملاحظة نفس اليقين وأنه أمر قابل للاستمرار.

تفصيل الشيخ الأعظم
اشارة

[4] إن الشيخ الأعظم ذهب إلى أن الاستصحاب يجري مع الشك في المانع - كهبوب ريح يشك معها في بقاء النار - ولا يجري مع الشك في المقتضي - كالشك في بقاء الوقود - واستدل لذلك بكلمة (النقض)، واستدلاله من وجوه:

الوجه الأول

[5] الوجه الأول: إن اليقين قد انتقض قطعاً؛ لأنه شاك الآن، فكيف يقول: (لا تنقض اليقين)؟ فلابد أن يكون المراد المعنى المجازي.

قال الشيخ الأعظم(1):

إن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية، كما في نقض الحبل، والأقرب إليه - على تقدير مجازيته - هو رفع الأمر الثابت.

وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء - ولو لعدم المقتضي له - بعد أن كان آخذاً به، فالمراد بالنقض عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده.

ص: 384


1- فرائد الأصول 3: 78.

إلى الأمر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء[1] لقاعدة «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات» بعد تعذر إرادة مثل ذاك الأمر[2] مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة.

فإن قلت[3]:

--------------------------------------

إذا عرفت هذا فنقول: إن الأمر يدور بين أن يراد بالنقض مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ويبقى المنقوض عاماً لكل يقين، وبين أن يراد من النقض ظاهره فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار، والظاهر رجحان هذا. انتهى باختصار.

[1] «مما» بيان للأقرب، فإن أقرب المجازات - حسب كلام الشيخ الأعظم - للنقض الحقيقي هو نقض ما فيه الاقتضاء مع الشك في الرافع.

[2] أي: الأمر الخارجي الذي فيه الهيئة الاتصالية - كالحبل - وإنما تعذّر لأنّه شاك الآن، فقد انتقض يقينه قطعاً، وقوله: «حقيقة» متعلق ب- (إرادة مثل ذلك الأمر) أي: تعذر إرادة المعنى الحقيقي من (لا تنقض اليقين)؛ وذلك لأن اليقين ليس من الأعيان الخارجية.

الوجه الثاني

[3] هذا وجه ثانٍ لتأييد ما ذهب إليه الشيخ الأعظم وحاصله: إن متعلق اليقين والشك أمران، فاليقين تعلق بالطهارة صباحاً والشك تعلق بالطهارة مساء، فلا يصح إسناد النقض إليه حقيقة - لتعدد المتعلق - .

بلى، قاعدة اليقين - وهي زوال اليقين السابق، كما لو تيقن بالوضوء ثم شك في أصل تحقق الوضوء وأنه توضأ أم لا - يصدق فيها النقض، لكن في الاستصحاب يتعدد متعلق اليقين والشك، فيكون نظير قولك: (لا تنقض عدالة زيد بالشك في اجتهاده) وذلك لأن الطهارة صباحاً غير الطهارة مساءً. فإذا لم يصح المعنى الحقيقي للنقض - لفرض تعدد المتعلّق - فلابدّ من المصير إلى المعنى المجازي فنقول: إنما يصح المعنى المجازي إذا كان المتيقن مما له قابلية الاستمرار - بأن يوجد المقتضي - فكأنه تعلق

ص: 385

نعم[1]، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقةً[2]، فلو لم يكن[3] هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجهٍ[4] ولو مجازاً؛ بخلاف ما إذا كان هناك[5]، فإنه[6] وإن لم يكن معه أيضاً انتقاض حقيقةً، إلاّ أنه صح إسناده إليه مجازاً، فإن اليقين معه[7] كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.

قلت[8]:

--------------------------------------

اليقين بأمر مستمر ثم انقطع بسبب الشك، ولا يصح المعنى المجازي إذا شك في قابلية المتيقن للاستمرار.

[1] أي: نسلّم حسن إسناد النقض إلى اليقين - باعتبار نفس اليقين لا باعتبار المتعلق - .

[2] لتعدد المتعلق واقعاً، فما تعلق به اليقين - وهو الطهارة الصباحية - لم ينقض، بل هو باقٍ؛ إذ حتى وقت الشك لا زال متيقناً بأنه قد توضأ صباحاً قطعاً.

[3] أي: في الشك في المقتضي لا يصح إسناد النقض إلى اليقين لا حقيقةً ولا مجازاً.

[4] أي: بأي وجه من الوجوه، فقوله: «ولو مجازاً» توضيح للوجه، أي: لم يصح حتى بوجه مجازي.

[5] اسم كان هو (اقتضاء البقاء)، أي: بخلاف ما إذا كان هناك اقتضاء للبقاء، وشك في الرافع، حيث يصح إسناد النقض إلى اليقين مجازاً.

[6] «فإنه» للشأن، «معه» مع اقتضاء البقاء، «إسناده» النقض، «إليه» إلى اليقين.

[7] مع وجود المقتضي للبقاء.

الإشكال على الوجه الثاني

[8] حاصل الإشكال: إن المناط هو نظر العرف، والعرف لا يرى فرقاً بين الطهارة صباحاً مع الطهارة مساءً، فهو يراها شيئاً واحداً، فهو يرى أن اليقين

ص: 386

الظاهر أن وجه الإسناد[1] هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتاً[2] وعدم ملاحظة تعددهما زماناً؛ وهو كافٍ عرفاً في صحة إسناد النقض إليه[3] واستعارته له[4]، بلا تفاوت في ذلك[5] أصلاً في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن. وكونه[6] مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي[7] تعيينه لأجل قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة»، فإن الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر

--------------------------------------

والشك تعلقا بشيء واحد، ولا تفاوت في نظر العرف بين ما كان هناك مقتضٍ للبقاء أم لم يكن، فهما في نظره سواء. نعم، بالدقة العقلية الشك في الرافع أقرب إلى المعنى الحقيقي من الشك في المقتضي، ولكن في الألفاظ المرجع هو العرف، ولا أقربية في نظره، بل هما متساويان عنده.

[1] أي: إسناد النقض إلى اليقين في قوله: (لا تنقض اليقين).

[2] لأن الطهارة الصباحية نفس الطهارة المسائية، والزمان لم يكن قيداً للطهارة حتى تتعدد بتغير الزمان، بل الزمان كان ظرفاً من غير أن يغيّر ذات الطهارة.

[3] «وهو» أي: الاتحاد ذاتاً، «إليه» أي: إلى اليقين.

[4] عطف تفسيري لقوله: (إسناد النقض إليه)، «استعارته» أي: النقض، «له» أي: إلى اليقين.

والاستعارة هي مجاز، بتشبيه شيء بشيء وإثبات أثره مع عدم ذكر المشبّه، مثل: (رأيت أسداً يرمي) حيث شُبّه زيد - مثلاً - بالأسد من جهة الشجاعة من غير ذكر لفظ زيد.

[5] أي: في صحة الإسناد.

[6] أي: كون النقض، وهذا هو توهم أن أقرب المجازات هو النقض في ما له مقتضي البقاء.

[7] خبر (كونه)، ودفع للتوهم، «تعيينه» أي: تعيين هذا المعنى وأنه هو المراد.

ص: 387

العرف لا الاعتبار[1]، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله. هذا كله في المادة[2].

وأما الهيئة[3]: فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل[4]،

--------------------------------------

[1] أي: الدقة العقليّة.

[2] أي: مادة النقض وهي (ن ق ض).

الوجه الثالث

[3] أي: النهي في (لا تنقض)، إذ الوجه الأول والثاني كانا حول المادة، أي: (ن ق ض)، وهذا الوجه حول الهيئة أي: النهي.

وحاصل الوجه: إن النهي إنما يتعلّق بالأمور الممكنة التي هي تحت قدرة المكلف، وحيث إن (اليقين) بما هو صفة نفسانية قد لا يكون داخلاً في الاختيار، فلا معنى للنهي عن نقضه، فلابد أن يكون المراد من اليقين: إما المتيقن - فيكون مجازاً في الكلمة - وإما آثار اليقين - فيكون مجازاً في الإضمار، أي: في تقدير الآثار - وحيث كان مجازاً فإن أقرب المجازات هو ما لو كان المقتضي للاستمرار موجوداً وشك في الرافع.

وفيه: إنه كما لا اختيار في نفس اليقين كذلك لا اختيار في المتيقن؛ لأنه أمر خارجي قد لا يكون تحت اختيار المكلّف، كما لو أراد استصحاب النهار، فإن المتيقن - وهو النهار - لا قدرة للمكلف عليه.

وكذا لا اختيار في آثار اليقين، لأنها أحكام شرعية غالباً، وهذا الحكم يرتبط بالشارع، ولا يتمكن المكلف من نقضه أو إبرامه.

نعم، لو أريد النهي عن النقض في مرحلة العمل فإنه كما يمكن نقض المتيقن أو آثار اليقين عملاً، كذلك يمكن نقض اليقين بحسب العمل.

[4] أي: في حال العمل يفرض وجود اليقين، وأما البناء فهو على القول بلزوم الموافقة الالتزامية.

ص: 388

لا الحقيقة[1]، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلقاً باليقين - كما هو ظاهر القضية[2] - أو(1) بالمتيقن، أو(2)

بآثار اليقين، بناءً على التصرف فيها بالتجوز أو الإضمار[3]، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين[4]، كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه[5] أو أحكام اليقين[6]، فلا يكاد يجدي[7]

--------------------------------------

[1] بأن يراد إزالة اليقين أو المتيقن أو آثار اليقين تكويناً، «بحسبها» أي: بحسب الحقيقة، «سواء كان» أي: الانتقاض.

[2] أي: قضية (لا تنقض اليقين بالشك).

[3] «فيها» أي: في كلمة اليقين، «بالتجوز» أي: المجاز في الكلمة بأن يراد المتيقن من اليقين، «أو الإضمار» أي: المجاز بتقدير كلمة وهي (آثار) نظير: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(3) أي: أهل القرية.

[4] لأنه قد لا يكون تحت الاختيار، فمن رأى الشمس يتيقن بوجود النهار، ولا يمكنه عادة إزالة هذا اليقين.

[5] أي: المتيقن، فإن اليقين قد يتعلق بأمور لا تدخل تحت قدرة الإنسان، كاليقين بالليل والنهار.

[6] أي: آثار اليقين أيضاً قد لا تدخل تحت الاختيار، فإن من آثاره ترتب أحكام شرعية، وهي مرتبطة بإرادة الشارع، ولا اختيار للإنسان فيها.

[7] أي: لا يجدي هذا الوجه الثالث - الذي ذكره الشيخ الأعظم - لجعل دليل الاستصحاب خاصاً بالشك في الرافع لا المقتضي، «بذلك» أي: التصرف بهذه الطريقة بالمجاز في الكلمة أو الإضمار.

ص: 389


1- هكذا في الأصل، والصحيح: «أم».
2- هكذا في الأصل، والصحيح: «أم».
3- سورة يوسف، الآية: 82.

التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها[1]، فلا مجوز له[2]، فضلاً عن الملزم[3] كما توهم.

لا يقال[4]: لا محيص عنه[5]، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره، لمنافاته[6] مع المورد.

--------------------------------------

[1] بأن يراد النهي الحقيقي عن النقض لا عن العمل.

[2] أي: لهذا التصرف - وهو تقدير الآثار أو تفسير اليقين بالمتيقن - وذلك لأنه لا حاجة إلى هذا المجاز، وحيث لا حاجة له فلا معنى لحمل اللفظ عليه.

[3] بأن يقال: إنّه يلزم هذا المجاز في الكلمة أو بالإضمار لتصحيح الكلام.

الوجه الرابع

[4] الوجه الرابع لدلالة الحديث على جريان الاستصحاب مع الشك في الرافع دون الشك في المقتضي: هو أن مورد الحديث هو المتيقن لا اليقين، فإن المراد هو إبقاء الوضوء وعدم لزوم تجديده، وليس المراد ترتيب آثار نفس اليقين، فمعنى (لا تنقض اليقين) هو (لا تنقض الوضوء) - وهو المتيقن - .

بيانه: إن اليقين - بما هو صفه نفسانية - له آثار، مثلاً: الوسواسي يريد زوال هذه الحالة منه، فإن المطلوب عنده هو اليقين بما هو هو، لا باعتبار متعلقه، فلو نذر أن يتصدق بدرهم لو تيقن فإنه مع حصول اليقين يجب عليه التصدق مع قطع النظر عن المتيقن.

كما أن المتيقن قد يكون له آثار، وفي مورد الرواية السؤال عن إبقاء الوضوء - وهو المتيقن - وليس الكلام عن اليقين بما هو يقين وعن آثاره. وحيث أريد المتيقن من اليقين فإنه مجاز، وأقرب المجازات هو الشك في الرافع لا الشك في المقتضي.

[5] أي: رغم أن النقض هو النقض العملي - لا الحقيقي - فلا محيص عن إرادة (المتيقن) من (اليقين).

[6] أي: لمنافاة إرادة اليقين وآثاره، «مع المورد» حيث المراد إبقاء الوضوء وآثاره - وهو المتيقن - .

ص: 390

فإنه يقال[1]: إنما يلزم[2] لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتية بالنظر الآلي، كما هو الظاهر[3] في مثل قضية «لا تنقض اليقين»، حيث تكون ظاهرة[4] عرفاً في أنها كناية[5] عن لزوم البناء والعمل بالتزام[6]

--------------------------------------

[1] حاصل الجواب: إ ن اليقين قد يلاحظ بما هو هو - أي: بالنظرة الاستقلاليّة - وقد يلاحظ بما أنه مرآة إلى الواقع - أي: بالنظرة الآليّة - .

وكما يكون اليقين في الجزئيات مرآة - غالباً - فيقيننا بطلوع الشمس هو مرآة إلى الواقع، مع الغفلة عن نفس هذا اليقين الجزئي، كذلك لفظ (اليقين) في الحديث - والذي معناه كلي - يراد به اليقين المرآتي الآلي، لا اليقين الاستقلالي.

وحينئذٍ لا يترتب أثر اليقين الاستقلالي - بما هو هو - بل يترتب آثار اليقين المرآتي؛ وذلك عبر ترتيب آثار المتيقن!!

[2] أي: يلزم تفسير اليقين بالمتيقن.

[3] أي: الظاهر من لفظ (اليقين) هو اليقين المرآتي، فإنه لا ينساق إلى الذهن ترتيب آثار اليقين بما هو صفة نفسية، «هو» أي: اللحاظ المرآتي.

[4] «تكون» القضية.

[5] أي: في أن القضية كناية عن جعل حكم ظاهري حين الشك، فإذا كان الشك في استمرار الحكم الشرعي فإن الشارع يجعل حكماً مماثلاً - أي: ظاهرياً - وإن كان الشك في بقاء الموضوع فإن الشارع يجعل حكماً مماثلاً لحكم ذلك الموضوع، مثلاً: حياة زيد حكمها وجوب النفقة لزوجته، ومع الشك في الحياة يجعل الشارع حكماً ظاهرياً بلزوم استمرار النفقة.

ثم إن (الكناية) هي في إرادة لازم اللفظ، وفي ما نحن فيه قوله: (لا تنقض اليقين) يراد لازمه، أي: جعل الحكم الشرعي الظاهري.

[6] الباء في «بالتزام» متعلقة بقوله: (اللزوم)، أي: هذا اللزوم - في البناء والعمل -

ص: 391

حكم مماثل للمتيقن تعبداً[1] إذا كان حكماً، ولحكمه[2] إذا كان موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين[3] بالالتزام بحكمٍ مماثل لحكمه شرعاً[4]، وذلك[5] لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ[6] في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه مع عدم دخله فيه أصلاً[7]، كما ربما[8] يؤخذ

--------------------------------------

عن طريق التزام حكم مماثل... الخ.

[1] لأن الحكم الظاهري شأن الشارع، فلذا كان تعبداً.

[2] أي: لحكم المتيقن، فإذا كان المتيقن موضوعاً ذا حكم شرعي، فحين الشك في الموضوع يستصحب الموضوع ويُجعل حكم ظاهري لذلك الموضوع.

[3] أي: بما هو صفة نفسانية قائمة بالإنسان.

[4] «لحكمه» الحكم اليقين، فلو كان لليقين - بما هو صفة نفسانية - أثر - كوجوب التصدق فحين الشك لا يجعل الشارع حكماً مماثلاً بوجوب الصدقة - وقد مرّ بعض الكلام في هذا اليقين في بحث القطع الموضوعي الصفتي فراجع - .

[5] لا إشكال في أن اليقين الجزئي الخارجي يكون مرآة عادة، ولكن اليقين الكلي في (لا تنقض اليقين) كيف يكون مرآةً؟ يقول المصنف: إنه كما يكون اليقين الخارجي مرآة - عادة - كذلك تسري المرآتية إلى اليقين الكلي، و«ذلك» أي: كون اليقين آلي لا استقلالي في قوله: (لا تنقض اليقين...).

[6] أي: يؤخذ المفهوم الكلي لليقين بالمعنى المرآتي.

[7] «حكمه» أي: حكم الموضوع، «دخله» أي: دخل اليقين - بالنظر الاستقلالية - «فيه» في الحكم فلا تترتب آثار نفس اليقين.

[8] أي: وأحياناً يكون اليقين جزءاً من الموضوع، وأحياناً يكون كل الموضوع، كما مرّ في القطع الموضوعي الصفتي، ولكن قوله: (لا تنقض اليقين) ظاهر في اليقين الآلي المرآتي.

ص: 392

في ما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم[1].

ثم إنه[2] حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلاً للتنزيل[3] بلا تصرف وتأويل[4]، غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه،

--------------------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن أخذ اليقين مرآةً هو بمعنى أن يكون المراد منه هو المتيقن، فهذا يرجع إلى كلام الشيخ الأعظم.

أو أنه إشارة إلى أن المفهوم الكلي لليقين لا يمكن أخذه مرآة؛ لأن المرآة مغفول عنها، وهنا (اليقين) معنى اسمي ملحوظ بنفسه.

5- عموم دلالة الرواية للشك في الحكم أو الموضوع

[2] إن قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين) لا يختص بالشك في الموضوعات، كالطهارة والنجاسة ونحوها، بل يشمل الشك في الأحكام أيضاً؛ لأن (اليقين) مطلق، وشموله للموضوع والحكم على حدّ سواء من غير تصرف وتأويل.

إن قلت: مورد الرواية هو الشك في بقاء الوضوء، وهو موضوع.

قلت: أولاً: خصوصية المورد لا تخصص الوارد، مع عموم التعليل.

وثانياً: إن هناك قرائن تدل على عمومها - كما مرّ - :

أ: إن (لا تنقض اليقين...) قضية ارتكازية، استدل بها الإمام، وارتكاز العقلاء هو عدم الفرق بين الشك في الموضوع أو الحكم.

ب: إن هذه القضية ذكرت في عدة موارد في روايات متعددة مما يدل على أنها ليست خاصة بمورد.

[3] أي: قابلاً للجعل الشرعي، بأن يُجعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي، أو حكم ظاهري للموضوع المشكوك في بقائه مماثل لحكم الموضوع الواقعي.

[4] أي: بلا مؤنة زائدة؛ لأنه لو كان هناك تصرف وتأويل قد يقال: إنهما يحتاجان إلى دليل، والأصل عدمهما، ولكن حيث لا تصرف ولا تأويل يؤخذ بإطلاق لفظة (اليقين).

ص: 393

وتنزيل الحكم بجعل مثله - كما أشير إليه آنفاً - كان قضية «لا تنقض» ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية. واختصاص المورد[1] بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية قد أتي بها في غير مورد[2] لأجل الاستدلال بها على حكم المورد[3]، فتأمل[4].

ومنها: صحيحة أخرى لزرارة[5]. قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو

--------------------------------------

[1] أي: مورد الرواية، وهو الشك في الوضوء، «الأخيرة» أي: الشبهات الموضوعية، «تخصيصها» تخصيص (قضية لا تنقض) في الرواية، «بها» بالموضوعية.

[2] أي: غير مورد واحد، بل في موارد متعددة، كالوضوء، والطهارة، والركعات.

[3] مما يدل على عدم خصوصية المورد.

[4] لعله إشارة إلى أن مورد كل تلك الروايات هو شبهة موضوعيّة، فالمستفاد منها هو عموم القضية لكل الشبهات الموضوعية من غير تخصيص بموضوع.

صحيحة زرارة الثانية
اشارة

[5] هذه الصحيحة ليست مضمرة؛ لأن الشيخ الصدوق(1)

رواها بسند صحيح عن الإمام الباقرعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ. كما أنها تضمنت عدة أحكام شرعية:

1- لو علم بالنجاسة ثم نسي وصلى فإن صلاته باطلة.

2- العلم الإجمالي بالنجاسة كالعلم التفصيلي، فلو نسي وصلى بطلت صلاته.

3- لو علم بالطهارة ثم شك فإنه يستصحب الطهارة ويصلي، فلو تبين أنه كان نجساً حين الصلاة فإن صلاته صحيحة.

4- لو علم إجمالاً بالنجاسة يجب عليه غسل أطراف العلم الإجمالي من الثوب ليتمكن من الصلاة في ذلك الثوب.

5- عدم وجوب الفحص عن النجاسة، لكنه يجوز لإزالة الشك.

ص: 394


1- علل الشرائع 2: 361.

غيره[1] أو شيء من المني(1)،

فَعلَّمت[2] أثره إلى أن أصيب له من الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً، وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك.

قال: «تعيد الصلاة وتغسله».

قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته.

قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «تغسله، وتعيد».

قلت: فإن ظننت[3] أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئاً، فصليت، فرأيت فيه.

قال: «تغسله، ولا تعيد الصلاة».

قلت: لِمَ ذلك؟

--------------------------------------

6- لو رأى النجاسة في حال الصلاة فهنا حالتان:

الأولى: إذا كانت بعض أجزاء الصلاة مع النجاسة، مثلاً: شك وهو في الحمد في النجاسة ثم رآها وهو في السجود، فصلاته باطلة.

الثانية: إذا كانت النجاسة رطبة بحيث احتمل إصابتها الآن من غير أن يكون قد أدّى أجزاء من الصلاة معها، فعليه أن يغسل النجاسة ويكمّل الصلاة - هذا إذا لم يؤد الغسل إلى فعل كثير أو فوت الموالاة - .

[1] «رعاف» الدم الخارج من الأنف، و«غيره» أي: غير الرعاف من سائر الدماء.

[2] من العلامة، أي: وضعت علامة على موضع النجاسة.

[3] الظن لغة هو الاحتمال، فلذا يطلق على الشك وعلى الوهم، وعلى الظن - بالمعنى المصطلح - .

ص: 395


1- في المصدر: «مني».

قال: «لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً».

قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟

قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على يقينٍ من طهارتك».

قلت: فهل عليّ - إن شككت في أنه أصابه شيء - أن أنظر فيه؟

قال: «لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك».

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال: «تنقض الصلاة، وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة، وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

وقد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الأولى تقريب الاستدلال بقوله: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» في كلا الموردين[1]، ولا نعيد.

نعم[2]،

--------------------------------------

[1] المورد الأول - وهي المسألة الثالثة - قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لأنك كنت على يقين... الخ).

والمورد الثاني - وهي المسألة السادسة - قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فليس ينبغي أن تنقض... الخ).

تقريب الاستدلال: أولاً: بعموم التعليل، وثانياً: بقوله: (اليقين) حيث اللام للجنس، بل في المسألة السادسة الأمر أظهر؛ وذلك لعدم احتمال العهد أصلاً؛ لعدم سبق اليقين بالطهارة.

إشكال على الاستدلال بالرواية

[2] إن هنا إشكالاً وهو: إن المورد الأول كما يحتمل الاستصحاب كذلك يحتمل قاعدة اليقين، فلا يمكن الاستدلال به على الاستصحاب.

ص: 396


1- علل الشرائع 2: 361؛ الاستبصار 1: 183.

دلالته[1] في المورد الأول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من اليقين في قولهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لأنك كنت على يقين من طهارتك» اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة، كما هو الظاهر[2]، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده[3]

--------------------------------------

وقد مرّ أنه في الاستصحاب يختلف زمان اليقين والشك، فلا يسري الشك إلى الزمان الأول، مثلاً: يعلم بأن يوم الجمعة هو اليوم التاسع والعشرون من شهر رمضان، ثم يشك في أن السبت هل هو آخر شهر رمضان أم أوّل شهر شوال؟ فمع بقاء اليقين بأن يوم الجمعة من شهر رمضان يشك في بقاء الشهر في يوم السبت.

وأما في قاعدة اليقين: فإن الشك يسري إلى الزمان الأول، مثلاً: تيقن بحياة زيد يوم الجمعة ثم شك في حياته في نفس يوم الجمعة، بمعنى أنه هل كان حياً يوم الجمعة أم كان ميتاً فكان يقينه خطأً؟

وفي المورد الأول من الرواية كما يحتمل الاستصحاب بأن يكون تعليل الإمام حول هذا المقطع من السؤال (فإن ظننت أنه قد أصابه) أي: كنت على يقين من الطهارة ثم ظننت الإصابة، كذلك يحتمل قاعدة اليقين بأن يكون تعليل الإمام ناظر إلى قوله: (فنظرت فلم أر شيئاً) أي: نظرت وحيث لم أر شيئاً فتيقنت بالطهارة، ثم علمت بأنه كان نجساً وكنتُ على خطأ من قطعي، ومن المعلوم أن هذا القطع قد تبيّن خطؤه فزال القطع في زمانه.

[1] أي: دلالة قوله: (فليس ينبغي... الخ) في المورد الأول - وهو المسألة الثالثة - .

[2] لأنه لا يوجد يقين في السؤال إلاّ في (فإن ظننت أنه قد أصابه) أي: كنت متيقناً من الطهارة ثم ظننت حدوث النجاسة عبر إصابتها، وأما قول زرارة: (فنظرت فلم أر شيئاً) فلا دلالة له على حدوث يقين بالطهارة بسبب النظر؛ لأن عدم رؤية شيء أعم من القطع والشك؛ لأن عدم رؤية شيء ليست سبباً لليقين بعدم وجوده، فكثيراً ما يبقى الشك.

[3] أي: بعد ظن الإصابة، أي: لما ظن الإصابة فحص، فلمّا لم يجد شيئاً تيقن

ص: 397

- الزائل بالرؤية بعد الصلاة - كان مفاد قاعدة اليقين، كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل[1] على الرواية(1)

بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ليست نقضاً لليقين بالطهارة بالشك فيها، بل باليقين بارتفاعها[2]، فكيف يصح أن يُعلّل عدم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك؟ نعم، إنما يصح أن يعلل به جواز الدخول في الصلاة[3]، كما لا يخفى.

ولا يكاد[4]

--------------------------------------

بعدم الإصابة.

سؤال عن معنى الصحيحة الثانية

[1] حاصل الإشكال أن اليقين قد زال قطعاً حين رؤية النجاسة، فكيف يعلّل الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عدم لزوم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك؟

نعم، الدخول في الصلاة يمكن تعليله بهذا؛ لأنه حين الشروع في الصلاة يعلم بالطهارة سابقاً ويشك في حدوث النجاسة، فباستصحاب الطهارة يجوز له الشروع في الصلاة. أما بعد إكمال الصلاة ورؤية النجاسة فإنه قد تيقن بها، فوجوب الإعادة من نقض اليقين باليقين، فكيف يقول الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تعيد الصلاة... لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً)؟

[2] حيث علم بأنه صلى في النجاسة، فقد زال يقينه السابق بالطهارة بيقينه اللاحق بالنجاسة.

[3] لأنه حين الصلاة لم يكن يعلم بالنجاسة، بل كان شاكاً فيها، فلذا جاز له إجراء استصحاب الطهارة والشروع في الصلاة.

الجواب عن السؤال
اشارة

[4] هنا ثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: إن إجراء الاستصحاب ليس بعد الصلاة، بل قبل الشروع في

ص: 398


1- فرائد الأصول 3: 60.

يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلاّ بأن يقال[1]: إن الشرط في الصلاة فعلاً[2] حين الالتفات[3] إلى الطهارة هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة[4]، لا نفسها[5]، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة[6] عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في

--------------------------------------

الصلاة، فبهذا الاستصحاب يحرز الطهارة ظاهراً، وشرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة لا الطهارة الواقعية. وعليه: فإن صلاته كانت واجدة لجميع الشرائط - ومنها إحراز الطهارة بالاستصحاب - فوقعت صحيحة.

وبعبارة أخرى: الاستصحاب قبل العلم بالنجاسة كما يفيد في جواز الدخول في الصلاة كذلك يكون سبباً لإحراز الطهارة - التي هي شرط الصحة - .

الجواب الثاني: الإجزاء، فالاستصحاب يوجب حكماً ظاهرياً، والحكم الظاهري يُجزي عن الواقعي.

الجواب الثالث: إنّ عجزنا عن فهم كيفية تطبيق كبرى (لا تنقض...) على مورد الرواية لا يضرّ في هذه الكبرى التي قررّها الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

الجواب الأول عن السؤال

[1] هذا الجواب الأول.

[2] أي: الشرط في مرحلة الفعلية، ويقابله الشرط الاقتضائي - كما سيأتي بعد قليل - .

[3] بيان ل- (فعلاً)، والمعنى: إنه حين الغفلة لا تشترط الطهارة أصلاً، بل تبقى في مرحلة الاقتضاء.

[4] الفرق بين الأصل والقاعدة اصطلاحي، ولعل مراده بالأصل: الأصل العملي، وبالقاعدة: الأمارة الشرعيّة.

[5] أي: ليست الطهارة - بما هي هي - شرط، بل الشرط هو إحرازها.

[6] لأن الاستصحاب هو حين الصلاة، أما بعد الصلاة بعد انكشاف وجود النجاسة فلا يمكن الاستصحاب، وذلك لليقين بعدم الطهارة حينئذٍ.

ص: 399

النجاسة بعدها[1]. كما أن إعادتها[2] بعد الكشف[3] تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب حالها، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

لا يقال[4]:

--------------------------------------

[1] وذلك لأنه حين الصلاة قد أحرز الطهارة - بالاستصحاب - والشرط هو الإحراز، وقد تحقق هذا الشرط.

[2] أي: إعادة الصلاة، والمقصود أنه لو كان الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يأمر بإعادة الصلاة كان معنى ذلك هو عدم حجية الاستصحاب، وأنه لم يحرز الطهارة، فلذا لم يتحقق شرط الصلاة - وهو إحراز الطهارة - .

والغرض من هذه العبارة بيان أن العلة تنطبق تماماً على المورد؛ وذلك لأن الإحراز شرط، فالاستصحاب إن كان حجة فقد أوجب إحراز الطهارة، فتحقق شرط صحة الصلاة، وأما لو لم يكن الاستصحاب حجة فلا إحراز للطهارة، فلم يتحقق شرط صحة الصلاة.

فالإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: (فليس ينبغي لك نقض اليقين بالشك) بيّن أن الاستصحاب حجة ولذا أحرزت الطهارة، فتحقق شرط صحة الصلاة، فلا إعادة لوقوع الصلاة صحيحة بأجزائها وشرائطها.

[3] أي: إيجاب إعادتها بعد كشف النجاسة، «حالها» أي: حال الصلاة.

[4] على جواب المصنف إشكالان، وهذا هو الإشكال الأول، وحاصله: إن الطهارة إذا لم تكن شرطاً فلا يصح استصحابها، إذ لا تكون حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي.

أما أنها ليست حكماً شرعياً فلأنها ليست من الأحكام الخمسة - الوجوب، الحرمة، الاستحباب، الكراهة، الإباحة - .

وأما أنها ليست موضوعاً لحكم شرعي، فلأنها ليست صلاة، ولا شرط في الصلاة، فلا ربط لها بموضوع الحكم الشرعي.

ص: 400

لا مجال حينئذٍ[1] لاستصحاب الطهارة، فإنها إذا لم تكن شرطاً لم تكن موضوعة لحكم، مع أنها ليست بحكم، ولا محيص[2] في الاستصحاب عن كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم.

فإنه يقال[3]: إن الطهارة وإن لم تكن شرطاً فعلاً، إلاّ أنها غير منعزلة عن الشرطية رأساً، بل هي شرط واقعي اقتضائي - كما هو قضية التوفيق بين بعض الإطلاقات ومثل هذا الخطاب[4] -، هذا.

--------------------------------------

[1] أي: حين كون الشرط هو إحراز الطهارة لا نفسها.

[2] لأنه لو لم يكن المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم كان الاستصحاب لغواً؛ إذ هو حكم بالبقاء، ولا معنى للحكم بالبقاء مع عدم ترتب أثر شرعي عليه.

[3] ردّ الإشكال من وجهين:

الأول: إن الطهارة شرط اقتضائي، بمعنى أنه إن كانت موجودة فهي الشرط، وإن لم تكن موجودة فإحرازها هو الشرط، وإنما قلنا بهذا للجمع بين الأدلة، فقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ}(1) - مثلاً - يدل على أنها شرط واقعي لأن الألفاظ موضوعة للحقائق بما هي هي، وقوله: (ولا تعيد الصلاة لأنك كنت على يقين... الخ) يدل على كفاية إحراز الطهارة، وعدم اشتراط الطهارة الواقعية.

فمقتضى الجمع هو القول بأن الطهارة الواقعية - إن كانت - فهي الشرط، وإن لم تكن موجودة فالشرط هو إحرازها، وهذا معنى الشرط الاقتضائي.

الثاني: إن الطهارة الواقعية لها دخل في الموضوع؛ لأن الشرط هو (إحراز الطهارة) لا إحراز أمر آخر، فاستصحاب الطهارة الواقعية صار له دخل في موضوع الحكم الشرعي.

[4] الوارد في هذه الصحيحة حيث قالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ولا تعيد الصلاة... لأنك كنت على يقين... الخ).

ص: 401


1- سورة المدثر، الآية: 4.

مع كفاية[1] كونها من قيود الشرط حيث إنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطاً.

لا يقال[2]: سلمنا ذلك[3]، لكن قضيته أن يكون علة عدم الإعادة حينئذٍ[4] بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها[5]، لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب[6]، مع أن قضية التعليل[7] أن تكون العلة له هي

--------------------------------------

[1] إشارة إلى الردّ الثاني، «كونها» كون الطهارة الواقعية، «إنه» الشأن، «إحرازها» الطهارة الواقعية.

[2] هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: لو كان شرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة لا الطهارة الواقعية لكان المفروض تعليل صحة الصلاة بإحراز الطهارة، لا بنفس الطهارة بأن يقول الإمام: (لأنك كنت قد أحرزت الطهارة فلذا صحت صلاتك)، في حين أن الإمام علّل صحة الصلاة بنفس الطهارة، حيث قال: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي... الخ)، وهذا ظاهر في أن الشرط هو نفس الطهارة.

[3] «ذلك» أي: إن إحراز الطهارة هو الشرط لا نفس الطهارة الواقعيّة، «قضيته» أي: مقتضى شرطية الإحراز.

[4] شرح المصنف «حينئذٍ» بقول: «بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة».

[5] «حالها» حال الصلاة، «باستصحابها» باستصحاب الطهارة.

[6] أي: لا أن يكون العلة هو تحقق نفس الطهارة الواقعية، وقد علمنا بها عن طريق الاستصحاب.

[7] أي: مقتضى التعليل الذي ذكره الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك... الخ)، «له» لعدم الإعادة، «نفسها» نفس الطهارة بما هي هي، «لا إحرازها» لا إحراز الطهارة.

ص: 402

نفسها لا إحرازها، ضرورة[1] أن نتيجة قوله: «لأنك كنت على يقين. .. إلى آخره» أنه على الطهارة، لا أنه مستصحبها[2]، كما لا يخفى.

فإنه يقال[3]: نعم، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال[4]، لنكتة[5] التنبيه على حجية الاستصحاب، وأنه كان هناك استصحاب، مع وضوح

--------------------------------------

[1] بيان أن التعليل ظاهر في أن الشرط هو الطهارة الواقعية لا إحرازها.

[2] (مستصحب) بصيغة اسم الفاعل، أي: ليس معنى هذا التعليل أنه محرز للطهارة بواسطة الاستصحاب.

وفرق بين أن نقول: إن الطهارة شرط وأن اليقين طريق إليها، وبين أن نقول: إن إحراز الطهارة شرط ويكون الإحراز عبر الاستصحاب.

[3] حاصل الجواب أن التعليل يمكن أن يكون لحالتين:

1- حالة بعد الصلاة وبعد انكشاف كونها مع النجاسة، وهنا المناسب هو التعليل بالإحراز، بأن يقول: لأنك كنت محرز الطهارة؛ وذلك الإحراز كان شرطاً.

2- حالة حين الصلاة، وهنا كما يمكن التعليل بالإحراز، فتنحصر الفائدة في بيان أن الإحراز هو شرط صحة الصلاة، كذلك يمكن التعليل بالاستصحاب، وهنا يكون للكلام فائدتان: حجية الاستصحاب، وأن الإحراز هو الشرط؛ لأن الشرط لو كان الطهارة الواقعية تكون الإعادة نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين باليقين.

وحيث قال الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فليس ينبغي لك نقض اليقين بالشك أبداً) علمنا أنه ناظر إلى حالة حين الصلاة، والتعليل أثبت أمرين: حجية الاستصحاب، وأن الإحراز يكفي لصحة الصلاة، وعدم لزوم إعادتها.

[4] لأن قوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت) ناظر إلى حين الصلاة؛ إذ بعد الصلاة إنما هو نقض لليقين باليقين.

[5] أي: ليكون للكلام فائدتان، الأولى: حجية الاستصحاب، «مع وضوح» بيان للفائدة الثانية، «استلزام ذلك» أي: استلزام التنبيه على حجية الاستصحاب.

ص: 403

استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف هو ذاك الاستصحاب[1] لا الطهارة، وإلاّ[2] لما كانت الإعادة نقضاً[3]، كما عرفت في الإشكال.

ثم إنه[4]

--------------------------------------

[1] أي: المجدي في صحة الصلاة وعدم لزوم الإعادة هو الإحراز الذي كان عبر الاستصحاب.

[2] أي: لو لم يكن الاستصحاب مجدياً - بعد الانكشاف - كان الشرط هو الطهارة الواقعيّة.

[3] أي: لم تكن الإعادة نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين باليقين، والمعنى: إن الطهارة الواقعية لو كانت شرطاً فإنه بعد الانكشاف يتبيّن لنا عدم تحقق الشرط، فتكون الصلاة باطلة فيجب إعادتها، وحيث حكم الإمام بعدم لزوم الإعادة علمنا أن ذاك الاستصحاب كان سبباً لتحقق الشرط - وهو إحراز الطهارة - فلذا نعلم بوقوع الصلاة صحيحة حتى بعد علمنا بأنها كانت في نجاسة.

الجواب الثاني عن السؤال

[4] مرّ في قوله: (ثم إنه أشكل في الرواية... الخ) أن إعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة ليست نقضاً لليقين بالشك، بل نقض لليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة.

و كان الجواب الأول: إن الشرط هو الإحراز للطهارة لا نفس الطهارة.

وأما الجواب الثاني: فهو أن عدم إعادة الصلاة إنما هو لأجل القول بإجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، فهنا الطهارة الواقعية هي شرط لصحة الصلاة، ولكن حيث أجرى الاستصحاب فقد جعل الشارع حكماً ظاهرياً بالطهارة، وهذا يجزي عن الواقع.

وفيه: إن علة صحة الصلاة لو كان الإجزاء لكان المناسب تعليل عدم الإعادة بالإجزاء لا بالاستصحاب.

ويمكن تصحيح هذا الجواب، ودفع هذا الإشكال: بأن صحة الصلاة تتوقف

ص: 404

لا يكاد يصح التعليل[1] لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كما قيل[2]، ضرورة[3] أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى.

اللهم إلاّ أن يقال[4]: إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة[5] اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، بتقريب[6]

--------------------------------------

على الاستصحاب وعلى الإجزاء معاً، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذكر أحد جزءي الدليل، ولم يذكر الجزء الآخر تعويلاً على وضوحه.

وبيان ذلك: إن صحة الصلاة تتوقف على صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فهي أنه دخل في الصلاة باستصحاب الطهارة، الذي هو حكم ظاهري.

والكبرى: هي أن الحكم الظاهري يجزي عن الواقع.

فالنتيجة: هي صحة الصلاة وعدم لزوم إعادتها.

[1] أي: قوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك... الخ).

[2] نسب ذلك إلى شريف العلماء. قال الشيخ الأعظم: (وربما يتخيّل حسن التعليل لعدم الإعادة بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري للإجزاء)(1).

[3] إشكال المصنف على هذا الجواب الثاني، «عليه» على القول بالإجزاء، «لا لزوم النقض» أي: ليس العلة هي الاستصحاب بناءً على هذا الكلام.

[4] هذا تصحيح للجواب ودفع لهذا الإشكال عليه، «به» بلزوم النقض - أي: بالاستصحاب - .

[5] أي: يكون الاستصحاب صغرى الدليل، وبضميمة الكبرى التي هي الإجزاء يتم الدليل.

[6] حاصله: إن الشارع لو حكم بإعادة الصلاة فإنها لأجل أحد الأمرين:

ص: 405


1- فرائد الأصول 3: 60.

أن الإعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة[1] لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف[2] وعدم حرمته شرعاً، وإلاّ[3] للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر له كما لا يخفى، مع اقتضائه[4] شرعاً أو عقلاً، فتأمل[5]. ولعل ذلك[6] مراد من قال بدلالة الرواية على إجزاء الأمر الظاهري.

--------------------------------------

1- عدم حجية الاستصحاب - بأن لا تكون الصغرى صحيحة - .

2- عدم الإجزاء - بأن لا تكون الكبرى صحيحة - .

وحيث إن المفروض هو وضوح إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي فلا تكون الإعادة إلاّ لعدم جريان الاستصحاب، والإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في هذا الحديث يثبت حجية الاستصحاب، وحينئذٍ تصح الصغرى، فيتم الاستدلال على عدم الإعادة.

[1] إشارة إلى الأمر الأول.

[2] الظرف متعلق ب- (الشك) أي: الشك قبل الانكشاف، «وعدم حرمته» أي: النقض.

[3] إشارة إلى الأمر الثاني، أي: إن قلنا بحرمة النقض شرعاً فوجوب الإعادة إنما هي بسبب عدم الإجزاء، «ذلك الأمر» الظاهري، «له» للإجزاء.

[4] أي: لا يمكن الإعادة بسبب عدم الإجزاء؛ وذلك لثبوت الإجزاء، فلابد أن ينحصر مستند الإعادة إلى نقض اليقين بالشك، وحيث بيّن الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه لا نقض إذن فلا إعادة.

[5] في حاشية المصنف: (وجه التامّل أن اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، ليس بذلك الوضوح، كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى)(1)، انتهى.

[6] أي: بعض الأصوليين استدلوا بهذه الرواية على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي؛ وذلك لدلالة هذه الرواية على صحة الصلاة مع فقدان الطهارة الخبثيّة،

ص: 406


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 4: 442.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل.

مع أنه[1] لا يكاد يوجب الإشكال فيه والعجز عن التفصي عنه إشكالاً في دلالة الرواية على الاستصحاب، فإنه[2] لازم على كل حال، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين، مع بداهة عدم خروجه منهما[3]، فتأمل جيداً.

--------------------------------------

وليس ذلك إلاّ بضميمة الإجزاء إلى الاستصحاب.

الجواب الثالث عن السؤال

[1] إن العجز عن حل الإشكال لا يمنع عن التمسك بعموم كلام الإمامعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقوله: (فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً) يدل على حجية الاستصحاب، سواء فهمنا كيفية تطبيق هذه الكبرى على مورد سؤال الراوي أم لم نفهم، فعدم فهمنا للتطبيق لا يخرج عموم كلام الإمام عن الحجية، «أنه» للشأن، «فيه» في التعليل، «عنه» عن الإشكال، وفاعل «يوجب» هو «الإشكال فيه»، ومفعوله: «إشكالاً في دلالة الرواية».

[2] أي: الإشكال على هذا التعليل وارد، سواء قلنا بدلالة الرواية على الاستصحاب أم قلنا بدلالته على قاعدة اليقين - إذ بعد الصلاة له يقين بعدم الطهارة - مع أن ركن قاعدة اليقين هو الشك اللاحق أيضاً كالاستصحاب. فلا يصح لأجل هذا الإشكال القول بعدم دلالة الرواية على الاستصحاب، بل على قاعدة اليقين، فإن الإشكال مشترك الورود على كليهما.

[3] خروج مفاد التعليل من قاعدة اليقين والاستصحاب، فلا احتمال ثالث لكي نصرف الرواية إليه.

انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس في بحث:

الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة.

ص: 407

ص: 408

فهرست الموضوعات

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول... 5

القول الأول مختار المصنف... 5

القول الثاني حجية الظن بالواقع دون الطريق... 8

القول الثالث حجية الظن بالطريق دون الواقع... 9

الدليل الأول... 9

رد الدليل الأول... 12

رد آخر للدليل الأول... 18

الدليل الثاني للقول الثالث... 27

فصل في الكشف والحكومة والإهمال والتعيين... 36

إشكال وجواب... 40

الإهمال أو التعيين... 41

الظن على الحكومة... 41

1- سبب الظن... 42

2- موارد الظن... 42

3- مرتبة الظن... 43

الظن على الكشف... 43

1- الظن بالطريق الواصل بنفسه... 43

2- الظن بالطريق الواصل بطريقه... 46

3- الظن بطريقٍ ما - إجمالاً - 48

وهم ودفع... 49

تعميم النتيجة على الكشف... 51

الطريق الأول... 52

ص: 409

الطريق الثاني... 55

الطريق الثالث... 55

فصل خروج القياس عن حجية الظن... 57

الجواب عن الإشكال الأول... 60

الجواب عن الإشكال الثاني... 65

أجوبة أخرى... 68

الجواب الأول... 68

الجواب الثاني... 69

الجواب الثالث والرابع... 70

فصل الظن المانع والممنوع... 72

فصل الظن بألفاظ القرآن والروايات... 74

تنبيه... 77

فصل عدم حجية الظن في الامتثال... 78

الظن في أصول الدين في غير الانسداد وحكم القاصر... 88

جبر ووهن السند والدلالة والترجيح بالظن غير المعتبر... 94

ضرب القاعدة... 95

تطبيق القاعدة على الصور الخمس... 96

الصورة الأولى... 96

الصورة الثانية... 97

الصورة الثالثة والرابعة... 98

الصورة الخامسة... 99

المقصد السابع في الأصول العملية

فصل أصالة البراءة... 112

ص: 410

أدلة البراءة... 114

الأول من أدلة البراءة: الكتاب... 114

الثاني من أدلة البراءة: السنة... 118

1- حديث الرفع... 118

2- حديث الحجب... 130

3- حديث الحِلّ... 132

4- حديث السعة... 133

5- حديث: كل شيء مطلق... 135

الثالث من أدلة البراءة: الإجماع... 139

الرابع من أدلة البراءة: العقل... 140

أدلة وجوب الاحتياط... 146

الدليل الأول: على الاحتياط الكتاب... 146

الدليل الثاني: على الاحتياط الأخبار... 147

الدليل الثالث: على الاحتياط العقل... 156

التقرير الأول لدليل العقل على الاحتياط... 157

الجواب... 157

إشكالان: الأول... 159

الإشكال الثاني... 161

التقرير الثاني لدليل العقل على الاحتياط... 165

إشكالات على التقرير الثاني... 166

تنبيهات البراءة... 169

التنبيه الأول في الشك في التذكية... 169

أقسام الأصل الموضوعي... 170

القسم الأول في الشبهة الحكمية مع دلالة الأصل الموضوعي على الحرمة 171

لو لم يجر الأصل الموضوعي... 174

القسم الثاني في الشبهة الحكمية مع كون الأصل الموضوعي دالاً على الحلية 174

القسم الثالث والرابع الشبهة الموضوعية مع وجود الأصل الموضوعي 175

ص: 411

التنبيه الثاني الاحتياط في العبادة المشكوكة... 176

الإشكال في الاحتياط في العبادات المشكوكة... 177

أجوبة خمسة... 178

الجواب الأول والإشكال عليه... 178

الجواب الثاني... 180

المناقشة الثانية لكلا الجوابين... 181

الجواب الثالث... 182

الجواب الرابع... 186

الجواب الخامس... 190

قاعدة من بلغ... 194

الاستدلال على القول بالاستحباب... 194

دليل القول بعدم الاستحباب... 195

التنبيه الثالث في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية... 199

التنبيه الرابع حسن الاحتياط إلاّ في صورة اختلال النظام... 206

فصل في التخيير... 206

رد دليل القول الثالث... 209

عموم البحث للتعبديات والتوصليات... 214

رد دليل القول الثاني... 219

فصل قاعدة الاشتغال... 220

المقام الأول دوران الأمر بين المتباينين... 221

المسألة الأولى... 222

المسألة الثانية... 224

المسألة الثالثة... 225

المسألة الرابعة... 227

المسألة الخامسة... 228

تنبيهات الاشتغال... 231

ص: 412

التنبيه الأول: الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي... 231

التنبيه الثاني: اشتراط الابتلاء بجميع الأطراف... 238

التنبيه الثالث: الشبهة غير المحصورة... 242

الشك في حدوث العسر ونحوه... 244

التنبيه الرابع: حكم الملاقي والملاقى... 245

الصورة الأولى... 247

إشكال وجواب... 248

الصورة الثانية... 249

المورد الأول... 250

المورد الثاني... 251

الصورة الثالثة... 252

المقام الثاني دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين... 253

الاحتياط عقلاً... 253

الدليل الأول للزوم الاحتياط... 253

إشكال وجوابان... 254

الدليل الثاني للزوم الاحتياط... 258

إشكالان... 260

الجواب عن الإشكال الأول... 263

خمسة أجوبة عن الإشكال الثاني... 264

البراءة شرعاً في الأقل والأكثر الارتباطيين... 271

إشكال وجوابه... 272

إشكال آخر وجوابه... 274

تنبيهات... 276

التنبيه الأول: الشك في القيد... 276

التنبيه الثاني: الشك في الجزئية والشرطية حال النسيان... 279

دفع إشكال... 280

التنبيه الثالث: زيادة الجزء عمداً وسهواً 283

ص: 413

حكم التقييد... 285

التشريع مع عدم التقييد... 287

التنبيه الرابع: لو تعذر الجزء أو الشرط... 288

أدلة لزوم الإتيان بالباقي... 291

الدليل الأول: جريان الأصل السببي... 291

الدليل الثاني: استصحاب الباقي... 292

الدليل الثالث: قاعدة الميسور... 294

الإشكال على الاستدلال بالرواية الأولى... 295

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثانية... 298

الإشكال على الاستدلال بالرواية الثالثة... 300

تشخيص الميسور... 302

توسعة أو تضييق الميسور... 304

تذنيب... 306

خاتمة في شرائط الأصول... 307

شرط الاحتياط... 307

شرط البراءة العقلية... 310

شرط البراءة النقلية... 310

شرط التخيير العقلي... 316

إجراء البراءة قبل الفحص... 316

أولاً: التبعة... 316

إشكال... 317

الجواب الأول... 319

الجواب الثاني... 320

ثانياً: الحكم الوضعي بالإعادة... 323

التمام بدل القصر جهلاً، والجهر والإخفات كذلك... 324

الإشكال الأول والثاني... 325

ص: 414

الإشكال الثالث... 328

الإشكال الرابع... 330

تصحيح الصلاة بنحو الترتب... 331

شرطان آخران للبراءة!!... 332

الإشكال على الشرط الأول... 332

الإشكال على الشرط الثاني... 335

قاعدة لا ضرر... 336

1- دليل قاعدة لا ضرر... 336

2- معنى الضرر... 339

3- معنى الضِرار... 340

4- معنى «لا»... 341

5- إذا كان (الضرر) موضوعاً 345

6- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الأولية)... 347

7- النسبة بين (لا ضرر) وبين (أدلة الأحكام الثانوية)... 351

8- في تعارض ضررين... 352

فصل في الاستصحاب... 354

الأمر الأول تعريف الاستصحاب... 354

الأمر الثاني كون الاستصحاب مسألة أصولية... 358

الأمر الثالث أركان الاستصحاب... 360

الأمر الرابع وحدة الموضوع والمحمول... 361

إشكالان في استصحاب الأحكام الشرعية... 361

الجواب عن الإشكال الأول... 364

الجواب عن الإشكال الثاني... 365

الأقوال في الاستصحاب... 370

أدلة الاستصحاب... 371

الدليل الأول: سيرة العقلاء... 371

ص: 415

الدليل الثاني: الظن في البقاء... 373

الدليل الثالث: الإجماع... 374

الدليل الرابع: الأخبار الدالة على الحجية... 375

صحيحة زرارة الأولى... 376

1- سند الرواية... 376

2- دلالة الرواية على الاستصحاب... 377

3- عموم دلالة الرواية حتى لغير الوضوء... 379

4- في معنى النقض في (لاتنقض)... 382

تفصيل الشيخ الأعظم... 384

الوجه الأول... 384

الوجه الثاني... 385

الإشكال على الوجه الثاني... 386

الوجه الثالث... 388

الوجه الرابع... 390

5- عموم دلالة الرواية للشك في الحكم أو الموضوع... 393

صحيحة زرارة الثانية... 394

إشكال على الاستدلال بالرواية... 396

سؤال عن معنى الصحيحة الثانية... 398

الجواب عن السؤال... 398

الجواب الأول عن السؤال... 399

الجواب الثاني عن السؤال... 404

الجواب الثالث عن السؤال... 407

فهرست الموضوعات... 409

ص: 416

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.