إيضاحُ کفاية الأصول المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

المقصد الرابع في العام والخاص،

فصل في معني العام

اشارة

فصل: قد عرف العام بتعاريف[1] وقد وقع من الأعلام(1)

فيها النقض - بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى[2] - بما لا يليق بالمقام[3]، فإنها تعاريف لفظية[4]، تقع في جواب السؤال عنه ب- «ما

-----------------------------------------------------------------

فصل

في معنى العام

المقصد الرابع في العام والخاص، فصل في معنى العام

[1] التعريف الذي يختاره المصنف - كما سيأتي في آخر هذا الفصل - هو: (شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه) لكن هذا شرح للاسم لا تعريف حقيقي.

[2] مثل تعريف العام بأنه (اللفظ المستغرق لما يصلح له).

وأشكل على انعكاسه - أي: شموله لأفراده - بمثل: (العلماء)، فإنه لا يصلح للأفراد، فزيد لا يصح أن يطلق عليه لفظ (العلماء)، بل يقال له: (عالم).

وأشكل على طرده - أي: إخراجه للأغيار - بمثل: (عشرة) فإنها تستغرق أفرادها وليست من الجمع.

وهنالك إشكالات أخرى على هذا التعريف وعلى سائر التعاريف طرداً وعكساً.

[3] أي: مقام التعاريف في الأصول، لجهتين ذكرهما المصنف. الجهة الأولى: إن التعاريف في الأصول هي لشرح الاسم. والجهة الثانية: إنه لا يتعلق بالتعريف الحقيقي غرض.

[4] هذه هي الجهة الأولى، وحاصلها: إن التعاريف في علم الأصول هي لشرح

ص: 7


1- هداية المسترشدين 3: 144؛ الفصول الغروية: 158.

الشارحة»[1]، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب- «ما الحقيقية»[2]. كيف[3]؟! وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرف به[4]

-----------------------------------------------------------------

الاسم؛ وذلك لأن السؤال عن اللفظ فيه أربع مراحل:

1- هل وضع هذا اللفظ لمعنى أم أنه مهمل؟

2- (ما الشارحة) وهي لتعريف الشيء في الجملة.

3- (ما الحقيقية) أي: بيان ماهية الشيء بالحدّ أو الرسم.

4- هل هذا المعنى له وجود خارجي أم لا؟

مثلاً: لفظ (العنقاء)، هل له معنى؟ فيقال: نعم له معنى، ثم يسأل ما هي العنقاء؟ فيقال: طيرٌ، ثم يسأل ما حقيقتها؟ فيقال: حيوان كذائي - بذكر الجنس والفصل - ثم يسأل هل لها وجود؟ فيجاب بلا أو نعم.

[1] ويجوز في التعريف الذي يراد به شرح الاسم أن يكون أعم أو أخص، فلا معنى للإشكال فيه بعدم الاطراد أو عدم الانعكاس.

[2] وهي تقع في السؤال عن حقيقة الشيء، أي: جنسه وفصله أو عرضه الخاص، فيكون الجواب بالحد أو بالرسم.

[3] دليل على كون (ما) شارحة لا حقيقية، وحاصل الدليل: إن المعرِّف لابد أن يكون أجلى من المعرَّف، وليست هذه التعاريف للعام بأجلى من معنى العام الارتكازي، بل العام معناه أجلى؛ ولذا يجعل معناه الارتكازي ميزاناً لصحة أو عدم صحة هذه التعاريف، فيقال: إنه غير مطرد؛ لأنه شمل أفراداً ليست من العام، أو غير منعكس؛ لأنه لم يشمل بعض أفراد العام، فالمفهوم الارتكازي للعام وكذا مصاديقه واضحة، بل أوضح من كل هذه التعاريف، إذن لا تكون هذه التعاريف حقيقية بل لشرح الاسم.

[4] أي: المعنى المركوز من العام أوضح من التعاريف التي ذكرت لتعريف العام.

ص: 8

مفهوماً ومصداقاً، ولذا[1] يجعل صدق ذاك المعنى[2] على فرد وعدم صدقه المقياس في الإشكال عليها[3] بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه من أحد، والتعريف لابد أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن يخفى[4].

فالظاهر[5] أن الغرض من تعريفه إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما

-----------------------------------------------------------------

ف- «منه» راجع إلى (العام)، و«مما» يراد به التعاريف، و«به» راجع إلى (ما) أي: التعاريف.

[1] دليل: أن المعنى المرتكز للعام أوضح من كل هذه التعاريف.

[2] أي: المركوز في الأذهان.

[3] أي: على التعاريف.

[4] لكن لا يخفى أن كون التعريف أجلى من المعرَّف ليس كونه أجلى مفهوماً، وإلاّ فما من تعريف إلاّ والمعرَّف أجلى منه مفهوماً، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، فإن الأول أجلى وأوضح بلا كلام، بل المراد كونه أجلى منه في بيان الحقيقة وشرح الماهية، فالإنسان أجلى من الحيوان الناطق بحسب المفهوم، والحيوان الناطق أجلى منه بحسب شرح الحقيقة وبيان الماهية - كذا قيل - .

[5] هذه هي الجهة الثانية: في كون تلك التعاريف لا تليق بالمقام لو كانت حقيقية.

وحاصلها: إن تعريف العام لا يتعلق به غرض حقيقي؛ وذلك لأن لفظ العام لم يقع موضوعاً لحكم شرعي حتى يلزم معرفة معناه بالدقة.

وإنما الغرض الإشارة إلى المصاديق، فحينما يحكم على العام بأحكام مثل: (إذا خصص العام فهل هو حجة في الباقي أم لا؟) هذه الكلمة - أي: العام - لها مصاديق، وبالتعريف نشير إلى تلك المصاديق في الجملة.

لكن لا يخفى أن هذه أيضاً محل تأمل؛ لأن مصاديق العام أيضاً مركوزة في

ص: 9

لا شبهة في أنها أفراد العام[1] ليشار به إليه[2] في مقام إثبات ما له من الأحكام[3]، لا بيان ما هو حقيقته وماهيته، لعدم تعلق غرض به[4] - بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه -، حيث لا يكون بمفهومه العام[5] محلاً لحكم من الأحكام[6].

ثم[7]

-----------------------------------------------------------------

الأذهان، ومفهوم العام أيضاً مركوز فيها - كما قال المصنف - فأي حاجة إلى تعريف يشير إلى المفهوم أو المصاديق؟!!

[1] أي: بيان تعريف يكون بمفهومه جامعاً بين المصاديق القطعية للعام.

[2] أي: ليشار بذلك المفهوم المذكور في التعريف إلى العام.

[3] أي: حينما نذكر أحكام العام كقولنا: (العام له صيغة تخصه)، (العام حجة حتى لو خصص بمتصل أو منفصل) الخ.

[4] أي: بالتعريف الحقيقي؛ وذلك لأن الأفراد والمصاديق التي هي موضوع للأحكام واضحة لا لُبس ولا إشكال فيها.

[5] أي: المفهوم الجاري في كل المصاديق.

[6] فلا يوجد في الشرع مورد وقع لفظ (العام) فيه موضوعاً لحكم من الأحكام، حتى نضطر لتحديد مفهوم هذا اللفظ.

أقسام العام

[7] الغرض بيان وحدة معنى العام، وتعدد الأقسام لا يضر بوحدة المعنى؛ لأن التقسيم ليس باعتبار اختلاف المعنى، وإنّما بلحاظ اختلاف الحكم.

مثلاً في قولنا: (الصلاة إما واجبة وإما مستحبة) التقسيم بلحاظ الحكم لا بلحاظ اختلاف معنى الصلاة. نعم، في مثل قولنا: (العين إما باصرة وإما جارية) يكون التقسيم بلحاظ اختلاف المعنى والمفهوم.

ص: 10

الظاهر أن ما ذكر له من الأقسام من الاستغراقي والمجموعي والبدلي[1] إنما هو باختلاف كيفية[2] تعلق الأحكام به[3]، وإلاّ[4] فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو: «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه». غاية الأمر أن تعلق الحكم به تارةً[5] بنحوٍ يكون كل فرد موضوعاً على حدة[6] للحكم؛ وأخرى[7] بنحوٍ

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنه إما أن يكون الحكم للكل، أو للبعض على البدل، والثاني هو العموم البدلي، والأول إما أن يكون فيه عصيان واحد وإطاعة واحدة فهو العام المجموعي، وإما أن يكون فيه إطاعات وعصيانات بعدد الأفراد فهو العام الاستغراقي.

[2] قال المصنف في الهامش: (إن قلت: كيف ذلك، ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل: (أي رجل) للبدلي، و(كل رجل) للاستغراقي؟.

قلت: نعم، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له، ولو بملاحظة اختلاف كيفية تعلق الأحكام، لعدم إمكان تطرق هذه الأقسام إلاّ بهذه الملاحظة، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

[3] فمثل: (أكرم كل فقيه) قد يراد به إكرام كل واحد بحيث لو أكرم البعض دون البعض فإنه أطاع وعصى، وهذا الاستغراقي، وقد يراد به إكرام كلهم معاً؛ لتعلق غرضه بإكرام مجموعهم؛ بحيث لو لم يكرم بعضهم لما تحقق غرض المولى، وهذا المجموعي، وقد يراد به إكرام واحد منهم فقط من غير تعيين، فهذا البدلي.

[4] أي: وإن لم يلحظ الحكم، فإنه لا اختلاف في هذه الأقسام من الجهات الأخرى، ومنها العموم، فإنه فيها واحد.

[5] وهو العموم الاستغراقي، فكل فرد له الحكم مستقلاً.

[6] أي: مستقلاً، فلو امتثل في فرد فإنه مطيع فيه، ولو ترك ذلك الفرد فإنه عاصٍ فيه، سواء امتثل في سائر الأفراد أم عصى.

[7] وهو العموم المجموعي، فلو أتى بكل الأفراد إلاّ واحداً لم يكن مطيعاً؛

ص: 11


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 349.

يكون الجميع موضوعاً واحداً[1]، بحيث لو أخل بإكرام واحد في (أكرم كل فقيه) - مثلاً - لما امتثل أصلاً، بخلاف الصورة الأولى، فإنه أطاع وعصى؛ وثالثة[2] بنحو يكون كل واحد موضوعاً على البدل، بحيث لو أكرم واحداً منهم لقد أطاع وامتثل[3]، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.

وقد انقدح[4] أن مثل شمول (عشرة) وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها[5]

-----------------------------------------------------------------

وذلك حين تعلق الغرض بتحقيق المجموع بلا ترك فرد أصلاً، مثلاً: يريد منع نفوذ الماء، فقال: (اجعل كل الأحجار أمام الماء) فلو ترك حجراً بحيث نفذ الماء من مكانه لما تحقق غرض المولى، فلم يكن ممتثلاً أصلاً.

[1] أي: جميع الأفراد موضوع واحد، فيكون نظير الموضوع المركب من أجزاء، فلا يحصل الامتثال بترك جزء واحد ولو أتى بسائر الأجزاء.

[2] وهو العموم البدلي، في ما كان الغرض تعلق بفرد واحد لا على التعيين، كما لو أراد عتق رقبة في الكفارة، فقال: (أعتق أية رقبة) فإن (أيّ) من ألفاظ العموم، ولا فرق في الأفراد لتساويها في غرض المولى.

[3] ولو ترك الجميع كان عاصياً، عصياناً واحداً.

[4] أي: قد اتضح بقولنا: إنّ العام بمعنى واحد دفع إشكال على تعريف المصنف، وهو (شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه).

وحاصل الإشكال: إن هذا التعريف يشمل أسماء الأعداد مع أنها ليست بعام.

والجواب: إن لفظ العشرة لا يصلح للانطباق على الواحد، فلا يقال للواحد إنه عشرة، فمفهوم عشرة غير مفهوم الآحاد.

[5] أي: مفهوم العشرة لا ينطبق على الآحاد، فإن الآحاد مصاديق للعشرة؛ وذلك لا يكفي في كون العشرة عاماً، فمثلاً قولنا: (أكرم عشرة رجال)، فإن

ص: 12

للانطباق على كل واحد منها، فافهم[1].

فصل: لا شبهة[2]

-----------------------------------------------------------------

زيداً من مصاديق (العشرة) لكنه لا ينطبق عليه مفهوم (العشرة). وهذا بخلاف العام في مثل: (أكرم كل رجل)، فإن زيداً من مصاديق (رجل) وينطبق عليه أيضاً مفهوم (رجل).

[1] لعله إشارة إلى أن تعريفنا للعام هو شرح للاسم فلا مانع من عدم كونه طارداً، فحتى لو فرض شموله لنحو العشرة فإنه لا يضر مع أنها ليست بعام.

أو إشارة إلى أن تعريفنا وإن كان طارداً للأغيار لكنه ليس جامعاً للأفراد؛ لأن الجمع المحلّى باللام هو عام، ولا ينطبق عليه التعريف؛ لأن مثل العلماء مفهومه لا ينطبق على زيد؛ لأن مفهوم العلماء هو ثلاثة فما فوق من العلماء، فلا يشمل العالم الواحد.

فصل في ألفاظ العموم

اشارة

[2] أمّا الأقوال(1)

في المسألة فهي:

1- القول الصحيح هو وضع بعض الألفاظ للعموم واستعمالها شرعا في العموم، وكذلك الخصوص له ألفاظ.

2- وقيل: إنّ ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط.

3- وقيل: بالاشتراك بين العموم والخصوص لغةً وشرعاً.

4- وقال السيد المرتضى - على ما نسب إليه -: بالاشتراك لغةً، وحقيقة شرعية في العموم فقط.

ص: 13


1- التذكرة بأصول الفقه: 33؛ العدة في أصول الفقه 1: 279؛ الإحكام في أصول الأحكام 2: 200؛ الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 201.

في أن للعموم صيغة تخصه[1] لغةً وشرعاً[2]، كالخصوص[3]، كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما[4]، ضرورة[5] أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه[6] - في أي لغة كان - تخصه[7] ولا يخص الخصوص[8] ولا يعمّه[9]. ولا ينافي اختصاصه به[10] استعماله

-----------------------------------------------------------------

[1] مثل: (كل) و(جميع) ونحوها.

[2] لعله ناظر إلى الإشكال على القول الرابع.

[3] أي: كما أن للخصوص ألفاظاً تتعلق به، مثل: (خاصة) و(بعض) ونحوهما.

[4] أي: بعض الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص، مثل: المفرد المحلّى باللام، فقد يكون للجنس فيفيد العموم، وقد يكون للعهد فيفيد الخصوص.

[5] دليل وضع ألفاظ للعموم، وحاصله: هو التبادر والارتكاز في الأذهان، وهذا الارتكاز والتبادر بديهي.

[6] مثل: (جميع) و(كافة) و(قاطبة) ونحوها.

[7] أي: وضعت للعموم فقط لا لغيره ولا بالاشتراك مع غيره.

[8] أي: لم توضع للخصوص كما في زعم القول الثاني - المشار إليه في أول الفصل - .

[9] أي: لا تشمل الخصوص إضافة إلى العموم، بمعنى الاشتراك بين العام والخاص.

أدلة القول بأن ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط وردّها

الدليل الأول

[10] أي: اختصاص مثل لفظ كل بالعموم، وفاعل «لا ينافي» قوله: (استعماله) أي: ذلك الاستعمال لا ينافي كون لفظ (كل) للعموم.

ص: 14

في الخصوص[1] عنايةً، بادعاء أنه العموم[2] أو بعلاقة العموم والخصوص[3].

ومعه[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصل الدليل: إنه قد استعمل لفظ (كل) في الجزئي، مثل قولهم: (زيد كل الرجل) للمبالغة، ولا إشكال في أن زيداً ليس عموم الرجال، بل هو رجل خاص.

وحاصل الجواب: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، فإن استعمال لفظ (كل) في (زيد) ادعاءً أو مجازاً لا إشكال فيه، مثل: استعمال لفظ (أسد) في الرجل الشجاع.

[2] حسب ما ذهب إليه السكاكي بأنه حقيقة ادعائية، أي: تصرف في أمر عقلي، فقولنا: (زيد أسد) استعمل الأسد في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس، والتصرف كان بادعاء أن زيداً فرد من أفراد هذا الحيوان المفترس.

وفي (زيد كل الرجل) استعمل (كل) بمعناه الحقيقي وهو الاستغراق، والتصرف في ادعاءً أن زيداً اجتمع فيه كل الرجال فهو كلّهم.

[3] حسب ما ذهب إليه المشهور، بأن التصرف في معنى اللفظ، فمعنى الأسد في المثال إنما هو الشجاع مجازاً؛ وذلك بعلاقة المشابهة؛ لأنهم اشترطوا في صحة المجاز وجود العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. لكن المصنف لم يشترط العلاقة، بل قال بكفاية تقبل الذوق لذلك المجاز، سواء كانت علاقة أم لا - كما مرّ مفصلاً - .

الدليل الثاني

[4] أي: ومع ضرورة وضع ألفاظ للعموم، مثل: (كل) كما دل عليه التبادر والارتكاز، لا يُصغى إلى ما استدلوا به.

وحاصل الدليل الثاني: هو أن العام يتضمن الخاص قطعاً، فسواء كان لفظ (كل) موضوعاً للعام أم كان موضوعاً للخاص، فإنه شامل للبعض، وجعل اللفظ دالاً على المتقين أولى من جعله دالاً على المشكوك.

ص: 15

لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ولو في ضمنه[1]، بخلافه[2]، وجعل اللفظ[3] حقيقة في المتيقن أولى؛ ولا[4] إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع، حتى قيل: «ما من عام إلاّ وقد خص»، والظاهر[5] يقتضي كونه[6] حقيقةً لما هو الغالب تقليلاً للمجاز[7]. مع[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ولو في ضمن العام، و«لو» وصلية، أي: سواء قلنا: إنّ لفظ (كل) وأمثاله موضوع للعموم أم للخصوص، فإن الخاص مراد قطعاً ولو بالتضمن.

[2] أي: بخلاف إرادة العام فإنها مشكوكة.

[3] أي: اعتبار أن لفظ (كل) وما رادفه حقيقة في الخصوص - وهو المتيقن - أولى من اعتباره حقيقة في العموم - وهو مشكوك -

الدليل الثالث

[4] أي: ولا يصغى إلى دليلهم الثالث على أن مثل لفظ (كل) وضع للخصوص.

وحاصل دليلهم هو: أن استعمال هذه الألفاظ في الخصوص أكثر من استعمالها في العموم، فلو كان الوضع للعموم كان استعمالها في الخصوص مجازاً، فيستلزم كثرة المجازات، أما لو قلنا: إنّ هذه الألفاظ وضعت للخصوص فإن استعمالها فيه حقيقي، فيكون المجاز قليلاً، وقلة المجاز أرجح من كثرته.

[5] أي: ظاهر الحال، ولعل مستند هذا الظاهر المزعوم هو بناء العقلاء، أو ظاهر حال الواضع الحكيم، فإنه يضع اللفظ لما هو أكثر استعمالاً.

[6] أي: كون مثل: (كل) وما رادفه من ألفاظ العموم.

[7] علة لقوله: (والظاهر)، أي: هذا الظاهر لأجل تقليل المجاز.

ردّ الأدلة

[8] أي: إضافة إلى الجواب الأول، وهو أن التبادر والارتكاز يدلان على

ص: 16

أن تيقن إرادته[1] لا يوجب اختصاص الوضع به، مع كون العموم كثيراً ما يراد. واشتهار[2] التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية،

-----------------------------------------------------------------

الوضع للعام، فلا يصغى لهذه الادعات التي هي شبهة مقابل البديهة، فإضافة إلى ذلك نقول:

1- إن تيقن إرادة شيء من المعنى لا يدل على كون الوضع له؛ لأن كل لفظ موضوع لمركب من أجزاء أو جزئيات، فإنه يشملها من غير أن يكون الوضع لتلك الجزئيات أو الأجزاء، فلفظ (زيد) وضع للمركب من الأجزاء فيشمل رأسه قطعاً، لكن لم يوضع لفظ (زيد) للرأس، وكذلك لفظ (صلاة) وضع لمعنى عام يشمل صلاة الظهر، لكن لم يوضع لخصوص صلاة الظهر، بل وضع للمطلق.

2- إن إرادة العموم من لفظ (كل) وما رادفه كثير أيضاً، ولو فرض أن استعماله في الخاص كثير أو أكثر فإن ذلك لا يوجب أولوية كونه للخاص؛ لكثرة المجازات في اللغة العربية حتى قيل: (أكثر لغة العرب مجازات)(1).

[1] أي: إرادة الخصوص.

[2] أي: إضافة إلى الجواب الأول - أي: دلالة التبادر والارتكاز على الوضع للعام - فإنه يرد على دليلهم الثالث: أولاً: إن التخصيص لا يستلزم المجاز؛ وذلك لأن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وليس التخصيص كذلك، بل كل من العام والخاص مستعمل في معناه من باب تعدد الدال والمدلول، كما سيأتي بعد فصلين.

وثانياً: لا محذور في كثرة المجاز، ولا يضر بالمعنى الحقيقي إذا كان استعمالاً مع القرينة. نعم، لو كثر الاستعمال بحيث لم يكن يحتاج المعنى المجازي إلى نصب قرينة كان من النقل، أي: انقلاب المعنى المجازي إلى معنى حقيقي منقول إليه.

ص: 17


1- قوانين الأصول 1: 277؛ وقاية الأذهان: 114؛ عناية الأصول 1: 50.

كما يأتي توضيحه؛ ولو سلم فلا محذور فيه أصلاً[1] إذا كان بالقرينة[2]، كما لا يخفى.

فصل: ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة[3] في سياق النفي أو النهي[4]. ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً[5]، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلاّ إذا لم يكن فرد منها[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن المجاز في لغة العرب كثير جداً.

[2] نعم، لو كان من غير قرينة دلّ على تحول المعنى المجازي إلى حقيقي.

فصل بعض ألفاظ العموم

1- النكرة في سياق النفي أو النهي

[3] المراد النكرة إذا كانت اسم الجنس دال على الطبيعة المطلقة، مثل: (الإله) في (لا إله إلاّ الله)، كما سيأتي من المصنف الإشارة إليه في قوله: (لكن لا يخفى... الخ).

[4] كقوله: (ما أكلت شيئاً) في النفي، و(لا تأكل شيئاً) في النهي.

[5] أي: مضافاً إلى ظهورها في العموم، فإن العقل أيضاً يدل على عمومها؛ وذلك لأن الطبيعة توجد ولو بوجود فرد واحد، ولا تعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فالإخبار بعدم الطبيعة معناه إخبار عن عدم جميع الأفراد، والنهي عنها نهي عن جميع الأفراد، وهذا معنى العموم، ففي قوله: (لا تظلم أحداً) لو ظلم واحداً فإن طبيعة الظلم قد وجدت فخالف النهي، وكذلك: (ما ظلمت أحداً) لو كان قد ظلم واحداً فإنّ كلامه كذب.

[6] يعني إذا لم يوجد أي فرد من تلك الطبيعة.

ص: 18

بموجود، وإلاّ كانت موجودة[1].

لكن لا يخفى[2]: أنها تفيده[3] إذا أخذت مرسلة[4] - لا مبهمة - قابلة للتقيد[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا كان فرد واحد موجود كانت الطبيعة موجودة؛ لأن الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده.

[2] حاصله: إن النكرة في سياق النفي هي الطبيعة، وهذه الطبيعة على أقسام ثلاثة:

1- الطبيعة المبهمة: وهي في ما لم تتم فيها مقدمات الحكمة، وحينئذٍ فهي حجة في خصوص الأفراد المتيقنة.

2- الطبيعة المطلقة: وهي في ما تمت فيها مقدمات الحكمة، وحينئذٍ فهي حجة في جميع الأفراد.

3- الطبيعة المقيدة: وهي في ما قيدت الطبيعة بقيد خصصها في نوع من أنواع الطبيعة، وحينئذٍ فهي حجة في ذلك النوع فقط.

وهذه الأقسام الثلاثة لو وقعت في سياق النفي أفادت العموم لما يظهر منها.

ففي الأول: العموم للأفراد المتيقنة، وفي الثاني: العموم لجميع الأفراد، وفي الثالث: العموم لذلك النوع.

[3] أي: إن النكرة تفيد العموم.

[4] أي: مطلقة، ويكون ذلك لو تمت مقدمات الحكمة، وقال المصنف في الهامش: (وإحراز الإرسال في ما أضيفت إليه إنّما هو بمقدمات الحكمة، فلولاها كانت مهملة، وهي ليست إلاّ بحكم الجزئية، فلا تفيد إلاّ نفي هذه الطبيعة في الجملة - ولو في ضمن صنف منها - فافهم، فإنه لا يخلو من دقة)، انتهى(1).

[5] لأنه لو لم تتم مقدمات الحكمة فإنه يمكن أن يراد من الطبيعة التقييد، كما يمكن أن يراد منها الإطلاق، فلا طريق لإثبات العموم لكل الأفراد، بل هي عامة

ص: 19


1- كفايه الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 355.

وإلاّ[1] فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما أريد منها يقيناً، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها[2].

وهذا[3] لا ينافي كون دلالتها عليه[4] عقلية[5]، فإنها[6] بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها[7]، لا الأفراد التي تصلح لانطباقها عليها. كما لا ينافي[8] دلالة مثل لفظ

-----------------------------------------------------------------

لخصوص الأفراد المتيقنة.

[1] أي: إن لم تأخذ مطلقة، بل أخذت مبهمة، فسلب الطبيعة لا يقتضي إلاّ سلب جميع الموارد المتيقنة.

[2] أي: لا يقتضي استيعاب جميع أفراد الطبيعة - وهي الأفراد التي يصلح انطباق الطبيعة عليها - ف- «ما» موصولة، وبيانها في (من أفرادها)، وضمير «عليه» راجع إلى (ما) الموصولة.

[3] أي: إن قلت: كيف لم تدل النكرة - وهي الطبيعة المبهمة - في سياق النفي أو النهي على العموم، والحال أن دلالتها عقلية، والدلالة العقلية لا يمكن استثناء مورد منها؟

قلت: هنا النكرة دلت على العموم، لكن المدخول مضيّق، أي: دلت على جميع أفراد المتعلق، والمتعلق هو الأفراد المتيقنة.

[4] أي: دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم.

[5] وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص أو التقييد، بل ما يتراءى أنه تقييد أو تخصيص، فإنه في الحقيقة تبدل موضوع.

[6] أي: فإن الدلالة.

[7] أي: من النكرة، والحاصل: إن الإبهام والتقييد لا يخرج النكرة التي في سياق النفي أو النهي عن العموم، بل هي تدل على العموم، لكن متعلقها يكون ضيقاً - وهو الأفراد المتيقنة - فهي دلت على شمول الحكم لجميع الأفراد المتيقنة.

[8] أي: كما في الدلالة الوضعية تدل الألفاظ الموضوعة للعموم على شمول

ص: 20

(كل) على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله. ولذا لا ينافيه[1] تقييد المدخول بقيود كثيرة. نعم[2]، لا يبعد أن يكون ظاهراً[3] عند إطلاقها في

-----------------------------------------------------------------

الحكم لجميع أفراد المتعلّق - سواء كان المتعلق موسعاً أم مضيقاً - ، فمثل لفظة (كل) موضوعة للعموم، ففي قولنا: (أكرم كل العلماء) وقولنا: (أكرم كل العلماء العدول) لم يختلف معنى (كل) - وهو شمول الحكم لجميع أفراد المتعلق - مع أن المتعلق في الأول موسع يشمل كل العلماء، وفي الثاني مضيق يشمل كل العلماء العدول فقط.

فالحاصل: إ ن الدلالة على العموم - عقلية كانت أم وضعية - تكون باعتبار المتعلق - سعة وضيقاً - من غير اخترام معنى العموم.

[1] أي: لأجل أن عموم (كل) بحسب ما يراد من مدخوله لا ينافي تقييد المدخول، فلو قلنا: (أكرم كل رجل هاشمي عالم متقٍ) فإن هذه القيود وإن ضيقت أفراد المدخول لكنها لم تخرج (كل) عن دلالتها على العموم.

[2] استدراك من قوله: (لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة).

وحاصل مراده: إن النكرة في سياق النفي أو النهي وإن كانت على ثلاثة أقسام - الإطلاق والتقييد والإبهام - لكن الظاهر عند عدم التقييد هو إرادة الإطلاق لا التقييد.

وهذا المعنى هو مراد المصنف حيث ذكره أيضاً في بحث الاجتماع في التنبيه الثاني حيث قال: (اللهم إلاّ أن يقال: إنّ في دلالتهما(1) على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل: كل رجل... الخ)(2)، فراجع.

[3] أي: تكون النكرة ظاهرة، وفي بعض النسخ (أن يكون ظاهراً) وهذا منشأ

ص: 21


1- أي: النفي والنهي.
2- إيضاح كفاية الأصول 2: 358.

استيعاب جميع أفرادها.

وهذا[1] هو الحال في المحلى باللام، جمعاً كان أو مفرداً. بناءً على إفادته للعموم. ولذا[2] لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره.

وإطلاق التخصيص[3] على تقييده[4] ليس[5]

-----------------------------------------------------------------

تفسير الحقائق(1)

للكلام بغير ما ذكرناه فراجع.

2- المعرّف بالألف واللام

[1] في المحلّى باللام بحثان:

الأول: في أنه هل يدل على العموم أم لا؟

الثاني: كيفية دلالته على العموم - لو قيل بها - .

قدّم المصنف البحث الثاني لاشتراك المحلى باللام في الحكم مع النكرة في سياق النفي أو النهي، أي: العموم إنما هو عموم المدخول - سعةً وضيقاً - .

[2] أي: لأجل أن المراد هو عموم المدخول لا ينافي العموم تقييد المدخول، ومفعول (لا ينافي) هو المعموم، و(تقييد) فاعله.

[3] بيان إشكال حاصله: إن تضييق دائرة المدخول إن لم يضر بالعموم فلماذا يسمّى تخصيصاً؟ فمثل: (أكرم العالم العادل) يطلق عليه التخصيص. وهذا دليل على أنّ العموم ليس باعتبار المدخول سعةً وضيقاً، بل إن كان المدخول شمل كل الأفراد فهو العموم، وإن قيّد بوصف ونحوه فليس المدخول عاماً، بل خاص.

[4] أي: تقييد (المحلّى باللام).

[5] الجواب، وحاصله: إن إطلاق التخصيص عليه ليس بمعناه الاصطلاحي بأن يكون عاماً ثم خُصِّص، بل هو من قبيل (ضيق فم الركية) أي: استعمل في عمومٍ أفراده قليلون، أو أقل من عموم آخر.

ص: 22


1- حقائق الأصول 1: 488.

إلاّ من قبيل (ضيّق فم الركية)[1].

لكن دلالته[2] على العموم وضعاً[3] محل منع، بل إنما يفيده[4] في ما إذا اقتضته الحكمة[5] أو قرينة أخرى[6]، وذلك[7] لعدم اقتضائه[8] وضع (اللام)[9] ولا مدخوله[10] ولا وضع آخر للمركب منهما[11]، كما لا يخفى. وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.

-----------------------------------------------------------------

[1] الركية والركايا - كعطية وعطاياً - بمعنى البئر(1)، ومعنى المثل هو احفر فم البئر ضيّقاً، لا بمعنى حفره وسيعاً ثم تضيقه، وهذا المثل يضرب لإيجاد الشيء بحدود ضيقة من البداية.

[2] أي: دلالة المحلّى باللام، وهذا هو البحث الأول، وحاصل ما أفاده المصنف: إنه لا يدل على العموم بنفسه؛ لأن الدلالة إما بسبب حرف التعريف، أو المدخول، أو الهيئة التركيبية، ولم يثبت الوضع في أيٍ منها.

[3] أي: الدلالة بالوضع، أي: وضع اللام أو المدخول أو الهيئة للدلالة على العموم.

[4] أي: إنما يفيد المحلى باللام العموم.

[5] أي: اقتضت العموم مقدمات الحكمة، كقوله تعالى: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2).

[6] شخصية أو عامة، كالاستثناء فإنه قرينة على عموم المستثنى منه.

[7] تعليل لعدم الوضع.

[8] أي: لعدم اقتضاء العموم، والضمير مفعول، وفاعله (وضع اللام).

[9] لأن اللام وضعت للإشارة إلى الماهية، ولم يؤخذ في مفهومها العموم.

[10] لأنه موضوع لنفس الماهية، ولم يؤخذ في مفهوم الطبيعة العموم.

[11] أي: الهيئة التركيبية من اللام ومدخولها.

ص: 23


1- العين 5: 402؛ الصحاح 6: 1251.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

فصل: لا شبهة[1] في أن العام المخصص بالمتصل[2] أو المنفصل[3] حجة في ما بقي[4] في ما علم[5] عدم دخوله في المخصص مطلقاً[6] ولو كان متصلاً، وما

-----------------------------------------------------------------

فصل حجية العام بعد التخصيص بالمُبيّن

اشارة

[1] الخاص قد يكون واضحاً مفهوماً ومصداقاً، وهذا المبحوث في هذا الفصل. وقد يكون مجملاً، وسيأتي بحثه في الفصل اللاحق.

ثم إن الخاص قد يكون متصلاً، وقد يكون منفصلاً:

وفي المتصل: لا ينعقد ظهور الكلام إلاّ في الخاص، فما عُلِم أنه من الخاص كان اللفظ حجة فيه، وما شك فلا حجية فيه.

وفي المنفصل: حيث ينعقد ظهور في العموم فما علم أنه من الخاص فلا يكون العام حجة فيه، وما شك في أنه من الخاص كان داخلاً في العموم؛ لانعقاد الظهور وهو المُتَّبَع في موارد الشك.

[2] كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم).

[3] كما لو قال: (أكرم العلماء)، ثم بعد فاصل قال: (لا تكرم فساق العلماء).

[4] أي: العام المخصص حجة في ما بقي من الأفراد، والحجية تابعة للمراد الجدي للمولى، ويكتشف المراد الجدي من ظهور الكلام فقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) ظاهر في وجوب إكرام غير الفساق كلهم، ومن هذا الظهور نكتشف المراد الجدي للمولى، فيكون العام حجة في ما بقي بعد إخراج الخاص المعلوم.

[5] أي: الأفراد الداخلة في الخاص لا يشملها حكم العام؛ للقطع بخروجها عن ذلك الحكم، أما الأفراد المقطوع بكونها غير داخلة في الخاص فإن العام يشملها.

[6] تفسيره في قوله: (ولو كان متصلاً)، أي: الأفراد المعلوم خروجها من

ص: 24

احتمل[1] دخوله فيه أيضاً إذا كان منفصلاً، كما هو[2] المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب الخلاف إلاّ إلى بعض أهل الخلاف[3].

وربما فصّل بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه[4]، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته[5].

-----------------------------------------------------------------

الخاص تكون داخلة في حكم العام، سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً، ففي مثال: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) من عُلم بعدم كونه فاسقاً داخل تحت أمر أكرم العلماء.

[1] لا يخفى أن هذا استطراد؛ لأنه من بحوث الفصل اللاحق، لا من بحوث هذا الفصل؛ لأن الكلام هنا في ما كان الخاص معلوماً، وهذا القسم في صورة الشك، وعلى كل حال فمعنى العبارة: إنّ الأفراد المشكوكة التي لا يعلم أنها من الخاص، فإن كان الخاص منفصلاً كان العام حجة فيها؛ لأنه انعقد للعام ظهور في جميع الأفراد فكان حجة، ثم خرجت بعض الأفراد، فما علم بخروجه لا يكون العام فيه حجة، وأما مشكوك الخروج فإنه يبقى تحت ظهور العام وحجيته.

أما لو كان الخاص متصلاً فإن العام ينعقد ضيقاً - كما مرّ - فلا يعلم شموله للفرد المشكوك من البداية، فلا ظهور، فلا حجية.

[2] أي: حجية العام في الباقي.

[3] حيث نسب(1)

إليهم سقوط العام عن الحجية بعد التخصيص مطلقاً.

[4] أي: حجية العام بعد التخصيص بالمتصل في ما بقي، فقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) حجة في العلماء العدول.

[5] أي: عدم حجية العام بعد التخصيص بالمنفصل في ما بقي، فقوله: (أكرم العلماء) ثم قوله: (لا تكرم فساق العلماء) يسبب عدم الحجية في العلماء العدول، ومعنى عدم الحجية هو عدم معرفة حكمهم.

ص: 25


1- الإحكام في أصول الأحكام 2: 227؛ أصول الجصاص 1: 131.

واحتج النافي بالإجمال[1]، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات[2]، وتعيين الباقي[3] من بينها بلا معيّن[4] ترجيحٌ بلا مرجح[5].

-----------------------------------------------------------------

دليل النافين

[1] أي: النافي(1)

لحجية العام في الباقي بعد تخصيصه استدل بأن العام حقيقة في الكل، فالتخصيص يوجب المجازية، والمجاز متعدد، فيمكن أن يراد كل الباقي أو بعض الباقي، مثلاً: لو كان العلماء مائة وفساقهم عشرة، فخروجهم يستلزم المجاز في لفظ العلماء، وهذا المجاز له مصاديق متعددة، إما كل الباقي أي: تسعين، ويمكن أن يكون المراد تسعة وثمانين، ويمكن ثمانية وثمانين، وهكذا وهلم جرا، ولا تعيين لأحد المجازات، فلابد من القول بالإجمال.

[2] أي: لما لم يكن الكل مراداً، فكلما كان مراداً يكون خاصاً، سواء كان الباقي أم غيره، فتعددت مراتب الخصوصيات.

[3] «الباقي» هو ما تبقى من أفراد العام بعد إخراج الخاص، وقوله: «تعيين» مبتدأ، خبره (ترجيح).

[4] أي: من غير قرينة خاصة تدل على أن المراد من العام هو كل ما تبقى.

[5] وهو محال إن رجع إلى الترجح بلا مرجّح، أو قبيح إن لم يرجع إليه.

الجواب عن دليل النافين

وقد أجييب عن الدليل بثلاثة أجوبة:

الأول: هو إنكار المجازية في العام المخصص.

الثاني: إن الباقي هو أقرب المجازات، فيكون مراداً.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم(2)

من وجود المقتضي وعدم المانع لحجية الباقي.

ص: 26


1- أصول الجصاص 1: 131.
2- مطارح الأنظار 2: 132.

والتحقيق في الجواب[1] أن يقال: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازاً:

أما في التخصيص بالمتصل: فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلاً[2]، وأن[3] أدوات العموم قد استعملت فيه وإن كان دائرته سعةً وضيقاً يختلف باختلاف ذوي الأدوات[4]، فلفظة (كل) في مثل: (كل رجل) و(كل رجل عالم) قد استعملت في

-----------------------------------------------------------------

الجواب الأول

[1] حاصله: إنه لا مجاز في العام المخصص، سواء كان التخصيص بمتصل أم منفصل.

أما المتصل: فلما مرّ من أن أدوات العموم استعملت في معناها، والتخصيص ضيّق دائرة المدخول، فمثل: (كل) في (كل رجل) و(كل رجل عالم) معناه واحد، وإنما المدخول واسع في الأول وضيّق في الثاني.

وأما المنفصل: فإن العام استعمل بمعناه الحقيقي، لكن ليس حجة في العموم لتعارضه مع الخاص، والحجيّة غير الاستعمال. فإن الحجية مرتبطة بالإرادة الجدية، والحقيقة والمجاز مرتبطان بالإرادة الاستعمالية، والعام المخصص بالمنفصل قد استعمل في معناه الحقيقي، لكن في تعارضه مع الخاص يقدم الخاص؛ لأنه أقوى، فترتفع الحجية عن العموم، لا أنه يتغير معناه. فمثل: (أكرم كل العلماء) إذا خصص بمثل: (لا تكرم فساق العلماء) لا يتغير معنى (كل) إلى (بعض) بل لا يكون حجة في الفساق.

[2] فيكون إطلاق التخصيص عليه مسامحة.

[3] عطف تفسيري، بمعنى أنه لا تخصيص؛ لأن أدوات العموم استعملت في العموم، وسعة المدخول وضيقه لا يرتبط بمعنى العام، «فيه» أي: في العموم، وكذلك ضمير «دائرته».

[4] أي: مدخولات أدوات العموم، فمثل: (كل إنسان)، الأداة هي (كل)، وذو الأداة هو (إنسان).

ص: 27

العموم[1]، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر[2] بل في نفسها[3] في غاية القلة.

وأما في المنفصل: فلأن إرادة الخصوص واقعاً[4] لا تستلزم استعماله فيه[5] وكون الخاص قرينة عليه[6]، بل من الممكن - قطعاً[7] - استعماله معه[8] في العموم قاعدة[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] فلا مجازية في (كل رجل عالم).

[2] لأن الرجال العلماء في غاية القلة بالنسبة إلى مطلق الرجال.

[3] أي: مع قطع النظر عن نسبتها إلى الآخر، كما لو فرض أن الرجال العلماء عشرة فقط.

[4] أي: بالإرادة الجدية.

[5] أي: استعمال العام في الخصوص.

[6] أي: قرينة على الخصوص، والمعنى: إنه في المجاز يراد باللفظ غير معناه مع وجود قرينة تدلّ على أن المراد ذلك المعنى المجازي، مثلاً: (رأيت أسداً يرمي) (الأسد) يراد به الرجل الشجاع - وهو غير ما وضع له - وكانت لفظة (يرمي) قرينة على المراد.

وفي مثل: (أكرم كل العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) المجازية تعني أن يكون معنى (كل) هو (البعض) والقرينة هي (لا تكرم فساق العلماء). فيقول المصنف: إن الطريق لا ينحصر في القول بالمجازية، بل يمكن أمر آخر، وهو أن يقال: إن الخاص لا يمنع ظهور العام في العموم، بل يمنع عن حجيته فقط.

[7] أي: عدم الإشكال في إمكانه.

[8] أي: استعمال العام مع المخصص المنفصل.

[9] أي: لضرب قاعدة عامة ليتمسك بها في موارد الشك، فاستعمال العام بمعناه ليس لغواً، بل فيه فائدة، فالإرادة الاستعمالية إنما تكون في المعنى الحقيقي وهو العموم.

ص: 28

وكون[1] الخاص مانعاً عن حجية ظهوره، تحكيماً[2] للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره[3]، ومعه[4] لا مجال للمصير إلى أنه[5] قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال[6].

لا يقال[7]: هذا مجرد احتمال، ولا يرتفع به الإجمال، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه[8].

فإنه يقال[9]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فائدة الخاص المنفصل منع حجية العام في العموم، لا أنه يغير معنى العام. فالإرادة الجدية تكون في الخصوص، لذا لا حجية للعام في أفراد الخاص.

[2] علة منع حجية العام في العموم هو أن الخاص أظهر أو أنه نص، وكلما تعارض الظاهر مع الأظهر قدّم الأظهر، وكذلك النص يقدم على الظاهر.

[3] أي: ظهور العام، والحاصل: إن التعارض لا يوجب تغير معنى الأضعف دلالةً، بل يوجب ترجيح الأقوى دلالةً على الأضعف في الحجيّة.

[4] أي: إمكان أن يكون العام بمعناه الحقيقي الذي أشار إليه بقوله: (بل من الممكن قطعاً).

[5] أن العام قد استعمل في الخاص.

[6] لعدم معرفة المراد من مراتب الخاص.

[7] الإشكال بأنه وإن كان من الممكن إرادة المعنى الحقيقي، لكن من الممكن أيضاً إرادة المعنى المجازي، وحيث لا معيّن لأحد الاحتمالين كان اللفظ مجملاً، كما في كل مورد يدور الحكم بين معلوم ومجهول؛ لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات.

[8] لأن المجاز له مراتب متعددة - كما مرّ - ولا يُعلم أي مرتبة مرادة.

[9] الجواب: إن اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي حتى إذا احتمل إرادة المعنى المجازي، فلو قال: (رأيت أسداً) واحتمل إرادته للمعنى الحقيقي أو المجازي فإن مجرد احتمال المجازية لا يوجب إجمال اللفظ، بل يحمل على المعنى الحقيقي،

ص: 29

مجرد احتمال استعماله فيه[1] لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم[2]، والثابت[3] من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية، تحكيماً لما هو الأقوى[4]، كما أشرنا إليه آنفاً.

وبالجملة[5]: الفرق بين المتصل والمنفصل وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلاّ في الخصوص[6]، وفي الثاني إلاّ في العموم[7]،

-----------------------------------------------------------------

وخاصة هنا حيث انعقد أولاً ظهور في العموم، ثم بمجيء الخاص نشك في زوال هذا الظهور، فنبقى على الظهور.

[1] أي: استعمال العام في خصوص مرتبة من مراتب الخاص.

[2] لأن المفروض أن الخاص منفصل، فلمّا ذكر العام انعقد له ظهور في العموم، ثم بذكر الخاص لا يعلم انخرام الظهور السابق، فلابد من البقاء عليه، وعلى هذا بناء العقلاء.

[3] أي: لا يلزم من بقاء ظهور العام لغوية الخاص؛ لأن الخاص زاحم حجية العام في الأفراد المخصوصة وترجح عليه، «مزاحمته» أي: مزاحمة العموم.

[4] لأن الخاص أظهر أو نص، وفي الجمع الدلالي يقدم الأظهر أو النص على الظاهر.

[5] يقول المصنف: إن المنفصل والمتصل وإن كانا يختلفان من بعض الجهات، لكنهما مشتركان في عدم المجازية في العموم.

[6] «الأول» المتصل، ففي مثل: (أكرم كل العلماء العدول) انعقد ظهور في خصوص العلماء العدول، فمن شُكَّ في أنه عادل لا يدخل في الحكم، أي: وجوب الإكرام.

[7] أي: بعدم انعقاد الظهور في الثاني إلاّ في العموم، و«الثاني» المنفصل، ففي مثل: (أكرم كل العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) انعقد ظهور في وجوب إكرام كل عالم، ثم أخرج منهم فساقهم، ففي مورد الشك بأن هذا العالم عادل أم

ص: 30

إلاّ أنه[1] لا وجه لتوهم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول[2] وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجةً فيه في الثاني[3]، فتفطن.

وقد أجيب[4] عن الاحتجاج[5] بأن الباقي[6] أقرب المجازات.

وفيه[7]: لا اعتبار في الأقربية بحسب المقدار، وإنما المدار على الأقربية بحسب

-----------------------------------------------------------------

فاسق نرجع إلى عموم (أكرم كل العلماء).

[1] للشأن، أي: وإن افترقا من تلك الجهة لكنهما مشتركان في أن المعنى حقيقي لا مجازي، «منهما» في أيّ واحد من المتصل والمنفصل.

[2] أي: في المتصل؛ لأن المقدار الذي انعقد فيه الظهور هو كل أفراد الخاص، وحجية اللفظ بمقدار دلالته، فقد دل على كل أفراد المدخول وهو العلماء العدول.

[3] أي: في المنفصل، فالعام ليس بحجة في أفراد الخاص؛ لأن دلالة الخاص أقوى، أما في سائر الأفراد فهو حجة.

الجواب الثاني

[4] كما في القوانين والفصول(1)،

والجواب هو بعد تسليم مجازية العام المخصص، وحاصله: إن المجاز له مراتب، ولكن أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي هو الباقي، أي: بعد إخراج الخاص يمكن أن تكون مجازات متعددة بتعدد الأفراد - كما مرّ - لكن الباقي هو أقرب إلى المعنى الحقيقة.

[5] أي: دليل النافين لحجية العام بعد التخصيص.

[6] أي: ما تبقى من أفراد العام بعد إخراج أفراد الخاص هي أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.

[7] حاصل إشكال المصنف على هذا الجواب: إن الأكثرية العددية غير مجدية، بل اللازم الأقربية بأذهان العرف. فالأسد المجازي يمكن أن يراد به الشجاع أو الأبخر أو

ص: 31


1- قوانين الأصول 1: 266؛ الفصول الغروية: 200.

زيادة الأنس الناشئة من كثرة الاستعمال[1].

وفي تقريرات بحث شيخنا الأستاذ+ في مقام الجواب عن الاحتجاج، ما هذا لفظه[2]: «والأولى[3] أن يجاب - بعد تسليم مجازية الباقي - بأن[4] دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده[5]، ولو كانت دلالة مجازية[6]،

-----------------------------------------------------------------

المُشعِر أو نحو ذلك من صفات الأسد، لكن الشجاع أقرب المجازات إلى أذهان العرف.

[1] أي: منشأ زيادة الأنس هو كثرة الاستعمال، فإن العرف يُكثِر استعمال الأسد في الرجل الشجاع، أما في غيره فلا استعمال أو يقلّ الاستعمال. وفي ما نحن فيه لم يعلم كون (الباقي) هو الأقرب إلى أذهان العرف.

الجواب الثالث

[2] حاصل الجواب: إن المقتضي لحمل العام المخصَّص على الباقي موجود، ولا مانع من هذا الحمل، فحصلت العلة التامة لإرادة الباقي.

أما وجود المقتضي: فلأنّا لا نريد إدخال ما كان خارجاً عن مدلول العام حتى نحتاج إلى دليل، بل جميع الأفراد كانت داخلة تحت العموم، خرج منها الخاص، فتبقى سائر الأفراد باقية تحت اللفظ؛ لانطباق لفظ العام عليها بلا احتياج لمعونة شيء آخر.

وأما فقد المانع: فلأنّه لا يوجد دليل يُخرِج الباقي عن حكم العام.

فتمت العِلّة بوجود المقتضي لشمول حكم العام للباقي، وفقد المانع.

[3] أي: على تقدير المجازية، فإن الجواب الثاني - وهو الأقربية - محل إشكال، فالأولى هو هذا الجواب.

[4] هذا بيان لوجود المقتضي لشمول العام المخصَّص لجميع ما تبقى.

[5] فعدم شمول العام للأفراد المخصَّصة لا يضر بشموله للأفراد الباقية.

[6] أي: حتى على تقدير المجازية، فإن العام شامل لجميع من تبقى.

ص: 32

إذ هي[1] بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله؛ فالمقتضي[2] للحمل[3] على الباقي موجود والمانع مفقود، لأن المانع في مثل المقام[4] إنما هو ما يوجب[5] صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه[6] بالنسبة إلى الباقي، لاختصاص المخصص بغيره[7]، فلو شك[8] فالأصل عدمه»(1). انتهى موضع الحاجة.

قلت[9]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: المجازية، وهذا دليل على أن المجازية لا تضر بشمول العام للأفراد المتبقية بأجمعها، وملخّصه: إ نه على المجاز لا تدخل أفراد أجنبية عن العام في مدلوله حتى نحتاج إلى دليل لإخراجها، بل العام كان شاملاً لجميع أفراده، فبالتخصيص أخرجنا بعض الأفراد منه، فيبقى الباقي تحت عنوان العام من غير حاجة إلى دليل لإدخالها، وذلك لأن العام كان منطبقاً عليها.

[2] أي: المقتضي - وهو الدلالة التضمنيّة للعام على أفراده - موجود.

[3] أي: لاعتبار دلالة لفظ العام على جميع من تبقى.

[4] أي: مقام الدلالات اللفظية، حيث إن رفع اليد عن دلالة اللفظ على معناه المطابقي أو التضمني يحتاج إلى دليل.

[5] لفظاً أو عقلاً.

[6] أي: انتفاء المانع، أو انتفاء الصارف الذي هو المانع.

[7] أي: بغير الباقي، وهو ما أخرجه الخاص، فإن ما أخرجه الخاص يُصرف لفظ العام عنه، أما غير الخاص فلا صرف للّفظ عنه، فلا مانع.

[8] يعنى لا يوجد مانع، ولو شك في وجوده فالأصل عدمه.

ردّ الجواب الثالث

[9] حاصل الإشكال على الجواب الثالث: هو إنكار وجود المقتضي، وبيانه: إن

ص: 33


1- مطارح الأنظار 2: 132.

لا يخفى أن دلالته[1] على كل فرد إنما كانت لأجل دلالته[2] على العموم والشمول، فإذا لم يستعمل فيه[3] واستعمل في الخصوص - كما هو المفروض[4] - مجازاً[5]، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات - مما جاز انتهاء التخصيص إليه[6]

-----------------------------------------------------------------

الدلالة التضمنيّة هي فرع الدلالة المطابقية، فإذا انتفت المطابقية انتفت التضمنيّة معها.

ومثاله - للتقريب إلى الذهن - : الأسد معناه الحيوان المفترس الخاص، وهو بالتضمن يشمل ذيل الأسد، فلو انتفت الدلالة المطابقية بإرادة المجاز، فإن الدلالة التضمنية - بشمول اللفظ للذيل - تنتفي أيضاً.

وهنا العام - بمعناه الحقيقي - كان شاملاً للأفراد، ولكن حينما أريد منه المعنى المجازي انتفت الدلالة التضمنية، وحيث إن مراتب المجازات متعددة فترجيح أحدها - وهو الباقي - بلا مرجح.

[1] أي: دلالة العام على كل فرد بالدلالة التضمنيّة.

[2] أي: لأجل دلالة العام على المعنى الحقيقي.

[3] أي: لم يستعمل لفظ العام في العموم.

[4] لأن هذا الجواب بناءً على القول بمجازية العام المخصص.

[5] حال لقوله: (استعمل).

[6] أي: المراتب التي يجوز إرادتها، كأن لا تكون تخصيصاً للأكثر المستهجن. فلو كان للعام مائة فرد وخرج منه بالخاص عشرة، فمراتب المجاز يمكن أن تكون من التسعين فرداً إلى الخمسين، أما أقل من الخمسين فيكون تخصيصاً للأكثر، فإذا استهجنه العرف لم يجز كونه من المحتملات، ويكون هذا الاستهجان دليلاً على عدم إرادته، أما سائر المراتب من الخمسين إلى التسعين فكلها يمكن أن تكون مرادة، فترجيح أحدها - كالباقي - على الأخريات ترجيح بلا مرجح.

ص: 34

واستعمال[1] العام فيه مجازاً - ممكناً[2]، كان[3] تعين بعضها[4] بلا معين[5] ترجيحاً[6] بلا مرجح، ولا مقتضي[7] لظهوره فيه[8]، ضرورة أن الظهور إما بالوضع وإما بالقرينة، والمفروض أنه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة[9]، وليس له[10] موجب آخر.

ودلالته[11] على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم لا

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفسيري على انتهاء، أي: ما جاز انتهاء التخصيص إليه بمعنى استعمال العام فيه مجازاً.

[2] خبر قوله: (كان إرادة).

[3] جزاء الشرط في قوله: (فإذا لم يستعمل فيه).

[4] أي: بعض المراتب - والمراد مرتبة الباقي - .

[5] من قرينة خاصة خارجة عن لفظ العام.

[6] خبر قوله: (كان تعين).

[7] أي: إن كان هناك ظهور، وكان هذا الظهور هو المعيّن لمرتبة الباقي، ولكن لا يوجد هذا الظهور؛ لأن الظهور إما بالوضع، ومفروض كلامنا أن العام بعد التخصيص مجاز، وإما بمقدمات الحكمة وهي مفقودة، وإما بقرينة خاصة والمفروض عدمها، ولا يوجد سبب آخر للظهور.

[8] أي: ظهور لفظ العام في الباقي وهو إحدى مراتب المجاز.

[9] لا عامة كمقدمات الحكمة، ولا خاصة.

[10] أي: ليس للظهور سبب آخر، فإن سبب الظهور إما الوضع وإما القرينة فقط.

[11] أي: دلالة العام. وهذا ردّ على ادعاء التقريرات بأن العام كان يدل على كل فرد بالتضمن، وحاصل الردّ: إن الدلالة التضمنية إنما تكون حين إرادة المعنى الحقيقي، ومع عدم إرادته لا دلالة على التضمن - كما مرّ شرحه - .

ص: 35

يوجب ظهوره[1] في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم[2] إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه[3]. فالمانع عنه[4] وإن كان مدفوعاً بالأصل، إلاّ أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع. نعم[5]، إنما يجدي[6] إذا لم يكن مستعملاً إلاّ في العموم[7]، كما في ما حققناه في الجواب، فتأمل جيداً.

فصل[8]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ظهور العام.

[2] أي: بعد عدم استعمال العام في العموم، فبعد عدم إرادة المعنى المطابقي لا دلالة على المعنى التضمني.

[3] أي: تعيين الباقي، والمراد إذا لم تكن قرينة خاصة.

[4] أي: عن الدلالة على الباقي؛ وذلك لعدم وجود تخصيص آخر.

[5] أي: لو قلنا: إنّ العام بعد التخصيص ليس بمجاز، فحينئذٍ استعمل في المعنى الحقيقي - وهو الشمول لجميع الأفراد - فبالتضمن يدل على كل فرد فرد، فحينئذٍ يوجد المقتضي لشموله لجميع من تبقى بعد التخصيص، فهنا عدم المانع يجدي. أما بناءً على المجاز فإن عدم المانع لا يجدي؛ وذلك لعدم ثبوت المقتضي.

[6] أي: يجدي عدم المانع حين وجود المقتضي.

[7] أي: في المعنى الحقيقي.

فصل حجية أو عدم حجية العام بعد التخصيص بالمجمل

اشارة

[8] محل البحث هو ما إذا كان قدر متيقن داخل في العام، وقدر متيقن داخل في الخاص، وقدر مشكوك لا يعلم دخوله في أيٍ منهما.

أما لو لم يكن قدر متيقن أصلاً فهو خارج عن البحث في هذا الفصل، كما لو

ص: 36

إذا كان الخاص[1] بحسب المفهوم مجملاً[2] بأن كان[3] دائراً بين الأقل والأكثر، وكان منفصلاً، فلا يسري[4]

-----------------------------------------------------------------

قال: (أكرم العلماء إلاّ بعضهم) فلا يوجد قدر متيقن لا للخاص ولا للعام، فلا إشكال في أن العام يكون مجملاً حينئذٍ، وكذلك الخاص.

[1] إجمال الخاص قد يكون بحسب المفهوم وقد يكون بحسب المصداق، وكل واحد منهما قد يكون دوران بين الأقل والأكثر، وقد يكون بين المتباينين، وكل واحد منها إما الخاص متصل وإما منفصل، فالأقسام ثمانية.

الإجمال في مفهوم الخاص

[2] وصوره الأربعة مع أمثلتها:

1- المنفصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر: كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (لا تكرم فساق العلماء)، ولم يُعلم معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبيرة أو يشمل مرتكب الصغيرة أيضاً؟ فهنا دوران بين الأقل والأكثر؛ لأن مرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، ومرتكب الصغيرة مشكوك في فسقه.

2- المتصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر: كالمثال إذا اتصل الخاص بأن قال: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم).

3- المنفصل الدائر أمره بين المتباينين: كما لو قال: (لا تكرم الرجال) ثم قال: (أكرم عدول الرجال)، ودار أمر العدالة بين (حسن الظاهر) وبين (الملكة).

4- المتصل الدائر أمره بين المتباينين: كالمثال إذا اتصل بأن قال: (لا تكرم الرجال إلاّ عدولهم).

[3] بيان للصورة الأولى.

[4] أي: حكم هذه الصورة هو لزوم العمل بالعام في الأفراد المشكوكة، ففي المثال المذكور: مرتكب الصغيرة باقٍ تحت حكم العام - وهو وجوب الإكرام - .

ص: 37

إجماله إلى العام[1]، لا حقيقةً[2] ولا حكماً[3]، بل كان العام متبعاً في ما لا يتبع فيه الخاص[4]، لوضوح أنه[5] حجة فيه بلا مزاحم أصلاً، ضرورة[6] أن الخاص إنّما يزاحمه في ما هو حجة[7] على خلافه تحكيماً للنص أو الأظهر[8]

-----------------------------------------------------------------

والدليل: إن العام انعقد له ظهور في جميع الأفراد، ثم بمجيء الخاص خرج منه الأفراد المعلومة دخولها في الخاص، وأما الأفراد المشكوك دخولها في الخاص فلا يعلم خروجها من العام، فتبقى على حالها مشمولة لحكم العام.

وبعبارة أخرى: الخاص يقدم على العام؛ لأنه أقوى - بالنص أو الأظهرية - والفرد المشكوك لا ظهور للخاص فيه حتى يعارض ظهور العام فيه، ففي المشكوك يوجد ظهور للعام من غير ظهور مزاحم، فيجب التمسك بظهور العام.

[1] فيبقى ظهور العام، فيجب التمسك بظهوره في الفرد المشكوك.

[2] أي: لا يتغير معنى العام كي لا يشمل الفرد المشكوك، بل معنى العام باقٍ على ما هو عليه من المعنى الحقيقي، وهذا يرتبط بالإرادة الاستعمالية، أي: إن ظهور العام باقٍ.

[3] أي: لا يتغير حكم العام، بل حكم العام باقٍ على حاله شاملاً للفرد المشكوك، وهذا يرتبط بالإرادة الجديّة، أي: حجية العام باقية.

[4] ومنه الفرد المشكوك؛ لأنه لا يعلم شمول الخاص له، فيبقى تحت حكم العام.

[5] أي: لوضوح أن العام حجة في ذلك الفرد حيث انعقد ظهور للعام، ولا مزاحم له؛ لأن الخاص لا ظهور له في الفرد المشكوك.

[6] بيان لوضوح عدم المزاحمة.

[7] أي: ضرورة أن الخاص إنّما يزاحم العام في ما هو - أي: الخاص - حجة فيه على خلاف العام.

[8] إذا لم يحتمل الخلاف يكون (نصاً)، وإذا أحتمل الخلاف وهو أقوى من ظهور العام فيكون (أظهر).

ص: 38

على الظاهر[1]، لا في ما لا يكون كذلك[2]، كما لا يخفى.

وإن لم يكن كذلك[3] بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً[4]، أو بين الأقل والأكثر في ما كان متصلاً[5]، فيسري إجماله إليه[6] حكماً في المنفصل المردد بين المتباينين، وحقيقةً في غيره[7].

أما الأول[8]: فلأن العام على ما حققناه كان ظاهراً في عمومه، إلاّ أنه لا يتبع

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو العام، وهذا جمع دلالي عرفي؛ إذ بعد تعارض الخاص والعام يرجّح العرف الخاص على العام؛ لأنه أقوى - بالنص أو الأظهرية - .

[2] أي: لا يرجح الخاص في ما لا يكون الخاص أظهر أو نصاً، وما نحن فيه لا ظهور للخاص في الفرد المشكوك - فضلاً عن كونه نصاً أو أظهر - فيبقى ظهور العام بلا مزاحم.

[3] أي: لم يكن الخاص من الصورة الأولى - أي: المنفصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر - .

[4] أي: سواء كان متصلاً أم منفصلاً - وهو الصورة الثالثة والرابعة - .

[5] وهو الصورة الثانية.

[6] أي: إجمال الخاص إلى العام.

[7] أي: غير المنفصل وهو المتصل، سواء كان الدوران بين المتباينين أم بين الأقل والأكثر.

[8] أي: المنفصل المردد بين المتباينين، وعلّة سريان الإجمال حكماً لا حقيقةً، هو أن العام انعقد له ظهور في الأفراد ثم علمنا بخروج أحد الفردين أو الصنفين حكماً، فيكون من موارد العلم الإجمالي، وحيث إن الشبهة محصورة وجب اتباع الاحتياط إن أمكن، وإلاّ فالتخيير. فلو كان حكم العام الوجوب وحكم الخاص الإباحة، أو العكس، فيحتاط بالإتيان بالفرد المشكوك. ولو كان حكم العام الحرمة

ص: 39

ظهوره في واحدٍ من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما[1].

وأما الثاني[2]: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام[3]، لاحتفاف الكلام بما[4] يوجب احتماله[5] لكل واحد من الأقل والأكثر، أو لكل واحدٍ من المتباينين، لكنه حجة في الأقل، لأنه المتيقن في البين.

فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل[6]، وكذا في المجمل بين المتباينين والأكثر

-----------------------------------------------------------------

وحكم الخاص الإباحة، أو العكس، فيحتاط بترك الفرد المشكوك. ولو كان أحدهما واجباً والآخر محرماً يتخير؛ لعدم إمكان الاحتياط.

[1] لأن العلم الإجمالي بتخصيص أحدهما يوجب سقوط حجية العام في الفردين المتباينين.

[2] أي: المتصل - سواء كان الدوران بين الأقل والأكثر، أم بين المتباينين - فإن إجمال الخاص يسري إلى العام حقيقة؛ وذلك لأنه لا ينعقد للعام عموم؛ لأن المخصص المتصل منع من انعقاد العموم - كما مرّ - فلا ظهور للعام في الفرد المشكوك أصلاً، وحينئذٍ: فإن كان من المتباينين فلا حجية للعام ولا للخاص فيه، بل نرجع إلى الأصول العملية.

وإن كان من الأقل والأكثر فكذلك في الأكثر؛ لعدم حجية أي منهما فيه، وأما الأقل فإنه متيقن الدخول في الخاص فلا إشكال فيه.

[3] أي: من الأساس لا ينعقد للعام ظهور في الشمول لجميع الأفراد، بل يكون عموم لما أريد من المدخول - وهو غير الخاص - كما مرّ.

[4] أي: بالخاص المتصل الذي يمنع انعقاد هذا الظهور.

[5] أي: احتمال لفظ العام.

[6] حيث ينعقد ظهور في المنفصل، فالخاص خارج عنه حكماً، ولا ينعقد ظهور في المتصل، فالخاص خارج حقيقة.

ص: 40

والأقل[1]، فلا تغفل.

وأما إذا كان مجملاً بحسب المصداق[2] - بأن اشتبه فرد، وتردد بين أن يكون فرداً له[3] أو باقياً تحت العام - : فلا كلام[4] في عدم جواز التمسك بالعام[5] لو كان متصلاً به[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث إن الأقل قدر متيقن يتمسك به في الخاص، والأكثر مشكوك يجري فيه أحكام العلم الإجمالي، وكذلك في المتباينين يجري فيها أحكام العلم الإجمالي.

الإجمال في مصداق الخاص

[2] بأن كان مفهوم الخاص واضحاً، ولكن شك في انطباق الخاص على فرد من المصاديق، مثلاً: معنى الفسق معلوم لكن نشك في أنّ زيداً فاسق أم لا.

[3] أي: للخاص، وكذلك اسم كان في قوله: (كان مجملاً) أي: كان الخاص مجملاً.

[4] الأقسام المذكورة هنا أربعة، فإن الخاص: قد يكون متصلاً، وقد يكون منفصلاً، والمنفصل إما دليل لفظي وإما لبّي، واللبّي إما يجوز الاعتماد عليه في مقام البيان، وإما لا يصح الاعتماد عليه في مقام البيان فالمتحصّل هو:

1- المخصص المتصل.

2- المنفصل اللفظي.

3- المنفصل اللبّي الذي يمكن الاعتماد عليه في مقام البيان.

4- المنفصل اللبّي الذي لا يصح الاعتماد عليه في مقام البيان.

[5] وكذلك عدم جواز التمسك بالخاص؛ لأن انطباق الخاص عليه غير معلوم أيضاً.

[6] أي: لو كان الخاص متصلاً بالعام، ولا فرق بين أن يكون الدوران بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر. فلو قال: (أكرم العلماء إلاّ الفساق) ولم نعلم بأن

ص: 41

ضرورة[1] عدم انعقاد ظهور للكلام إلاّ في الخصوص، كما عرفت.

وأما إذا كان منفصلاً عنه: ففي جواز التمسك به[2] خلاف[3].

والتحقيق عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه[4]: إن الخاص

-----------------------------------------------------------------

الفاسق (زيد أم عمرو)، أو لم نعلم بأن الفاسق (بكر) فقط، أم (بكر وخالد)، فكل من زيد وعمرو متباينين، وخالد من الأكثر. نعم، بكر قدر متيقن؛ فلذا يجري فيه حكم الخاص.

[1] وقد مرّ تفصيله، وحاصله: إنه في المتصل ظهور العام ليس في عموم الأفراد، بل في الخاص فقط، أي: يجب إكرام العلماء غير الفساق - في المثال - .

[2] أي: التمسك بالعام في الفرد المشكوك.

[3] فبعضهم(1)

على عدم الجواز مطلقاً، والبعض على الجواز مطلقاً، والبعض مفصل بين المخصص اللفظي واللبّي.

دليل المجوزين

[4] أي: جواز التمسك بالعام، وحاصل الدليل: هو أن العام شامل لجميع أفراده، وإنّما يقدم الخاص عليه لأنه أقوى؛ وذلك في ما علم أنه من الخاص، أما في المصداق المشكوك فلا يكون الخاص حجة فيه، فيبقى عموم العام شاملاً للفرد المشكوك من غير معارض.

ومثاله - كما عن الشهيد الثاني(2) - : وجوب قتل المرتد، خرج منه المرأة فإنها لا تقتل لأجل الارتداد، وأما الخنثى المشكل - غير معلوم كونها ذكراً أم أنثى - فإنها يجري عليها حدّ القتل؛ لدخولها تحت العام، وعدم معلومية شمول الخاص لها، ولا يخفى أن دليلهم إنما هو في الأقل والأكثر، لا في المتباينين.

ص: 42


1- الفصول الغروية: 199؛ قوانين الأصول 1: 265؛ درر الفوائد (للحائري): 216؛ نهاية الأفكار 2: 518؛ فوائد الأصول 2: 536.
2- الروضة البهية 8: 30 - 31.

إنما يزاحم العام في ما كان فعلاً حجّة[1]، ولا يكون[2] حجةً في ما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب (لا تكرم فساق العلماء) لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل (أكرم العلماء) ولا يعارضه[3]، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة[4].

وهو في غاية الفساد[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ما وصل حجيته إلى مرتبة الفعلية - أي: مرتبة التنجز - فإن الحجية إنّما تكون لو تنجز الحكم، أما لو لم يتنجز - كما لو لم يعلم به المكلّف أو اشتبه عليه - فلا حجيّة.

[2] أي: الخاص لا يكون حجة في الفرد الذي يشتبه في كونه من أفراد الخاص؛ لأن الحجية فرع الفعلية - بمعنى التنجز - ولا فعلية في صورة الشك.

[3] إن كان الملاك في أحدهما فقط - أي: في العام أو الخاص - فيكون من باب التعارض، وإن كان الملاك في كليهما، ولكن ملاك الخاص أقوى يكون من باب التزاحم. والعام والخاص قد يكونان من المتزاحمين، وقد يكونان من المتعارضين.

[4] فالعام حجة في أفراده - ومنها الفرد المشكوك كونه من الخاص - والخاص ليس بحجة في المشكوك، فلا تزاحم، بل يقدم الحجة قطعاً.

رد دليل المجوزين

[5] حاصل الرد: هو أن الفرد المشكوك وإن كان داخلاً في العموم اللفظي للعام لكن العام ليس بحجة فيه؛ وذلك لأن الخاص يوجب اختصاص حكم العام بغير أفراد الخاص.

مثلاً في: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساق العلماء) حكم الإكرام يختص بالعلماء غير الفساق، فلا يكون العام حجة في الفرد المشكوك.

وبعبارة أخرى: المراد الجدي من (أكرم العلماء) هو إكرام العلماء غير الفساق،

ص: 43

فإن الخاص وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً[1]، إلاّ أنّه[2] يوجب اختصاص حجية العام[3] في غير عنوانه[4] من الأفراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلاً وحجة في العالم الغير الفاسق(1). فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام[5]، إلاّ أنه لم يعلم أنه[6]

-----------------------------------------------------------------

وحيث إن (زيداً) مشكوك الفسق فلا يعلم شمول العام له، كما لا يعلم شمول الخاص له، فلا يكون من تزاحم الحجة بغير الحجة، بل كلاهما غير حجة.

[1] أي: في ظرف الشك لا يكون الخاص دليلاً في الفرد المشتبه.

[2] أي: إلاّ أن الخاص يوجب حصر حكم العام في غير الخاص.

ولا يخفى أن المصنف لا يقول: إنّ العام يتعنون بعنوان غير الخاص - كما سيأتي بعد قليل - وإنّما يقول: إنّ الحكم ينحصر بغير الخاص، أي: لا يقول: إنّ موضوع العام يتضيّق، فيكون الموضوع (العلماء غير الفساق)، بل حكم العام يتضيّق، أي: وجوب الإكرام ينحصر في (العلماء غير الفساق)، فتأمل.

[3] بالإرادة الجدية؛ لأن الخاص وإن كان منفصلاً لفظاً لكنه متصل حين الإرادة. وبعبارة أخرى: المولى حين نطقه بالعام لم يكن يريد أفراد الخاص أصلاً، وإنما أخّر ذكر الخاص لمصلحة.

نعم، لو كان يريد أفراد الخاص، أو كان غافلاً عنهم - في الموالي العرفية - فإن كلامه الثاني لا يكون تخصيصاً، بل نسخاً، فانتبه.

[4] أي: في غير عنوان الخاص.

[5] أي: داخل في الإرادة الاستعمالية؛ لأن العام استعمل في معناه الحقيقي، وهو كل الأفراد والمصاديق. وكذلك ما هو مقطوع كونه من الخاص، فإنه مصداق للعام بالإرادة الاستعمالية، لكن بالإرادة الجدية لم يكن مراداً.

[6] أي: إلاّ أن الشأن لم يعلم أن المصداق المشتبه من مصاديق العام بما هو

ص: 44


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الفاسق».

من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص حجيته بغير الفاسق[1].

وبالجملة: العام المخصص[2] بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم[3]، كما إذا لم يكن مخصصاً - بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت - إلاّ أنه[4] في عدم الحجية - إلاّ في غير عنوان الخاص - مثله. فحينئذٍ[5] يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين[6]، فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين[7].

-----------------------------------------------------------------

حجة - أي: بما هو مراد بالإرادة الجدية - .

[1] وكذلك لا يجري عليه حكم الخاص؛ لاختصاص حجية الخاص بالفاسق، وهذا مشكوك أمره بين الفسق وعدمه.

[2] قوله: «العام المخصص»، مبتدأ وخبره قوله: (إلا أنه في... الخ).

[3] لأن اللفظ استعمل في ما وضع له وهو (العموم)، فلا فرق في معنى لفظ العام بين (العام المخصص) و(العام غير المخصص).

[4] أي: إلاّ أن العام المخصص بالمنفصل مثل المخصص في المتصل في أنّ حجيتهما منحصرة بغير الخاص، فالعام حجة في غير الخاص - في كليهما - .

[5] أي: بناءً على عدم الحجية.

[6] الحجتان هما: الخاص والعام، و(زيد) المشكوك فسقه داخل في الواقع إما تحت العام وإما تحت الخاص؛ لأنه إما فاسق أو غير فاسق، وحيث لم يعلم اندراجه تحت أي منهما فيكون من اشتباه الحجة بغير الحجة، فلابد من الرجوع إلى الأصل.

[7] لأن ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيتساقطان، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

إن قلت: ما الفرق بين الشبهة المفهومية حيث أدرجتم المشكوك تحت العموم، وبين الشبهة المصداقية حيث لم تدرجوها فيه؟

ص: 45

هذا[1] إذا كان المخصص لفظياً.

وأما إذا كان لبّيّاً[2]: فإن كان[3] مما يصح أن يتّكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب[4]، فهو[5] كالمتصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام

-----------------------------------------------------------------

قلت: في الشبهة المفهومية: الشك في أصل التخصيص فيرتفع بالأصل، فيبقى العام في المشكوك بلا معارض، فحين الشك في أن مرتكب الصغيرة فاسق أم لا، فلا علم بالتخصيص فيه أصلاً.

وأمّا في الشبهة المصداقية: فإن التخصيص معلوم، والمصداق لا يعلم اندراجه تحت أيٍّ من الحجتين.

[1] أي: كل ما ذكر من عدم حجية العام في المصداق المشكوك - في مورد الشبهة المصداقية - إنما هو في المخصص اللفظي.

المخصص اللبي

[2] (اللُب) هو العقل، والدليل اللبّي اصطلاح في الأدلة غير اللفظية، كالإجماع والسيرة والارتكاز مضافاً إلى دليل العقل.

[3] حاصل مختار المصنف: إن الدليل اللبّي المخصص قسمان:

الأول: ما يصح الاتكال عليه في مقام البيان؛ وذلك لشدة وضوحه وعدم الغفلة عنه - عادة - فإن هذا المخصص يكون كالمتصل، فلا ينعقد ظهور للعام في العموم.

مثلاً: لو قال: (حارب من في الدار)، وكان فيهم المهاجمون على المولى والمدافعون عنه، فإن القرينة القطعية تدل على أنه يريد المهاجمين لا المدافعين.

[4] بحيث إذا لم يذكره في كلامه لا يعتبر ناقضاً لغرضه، ولا يعتبر مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة إذا حان وقتها.

[5] أي: هذا المخصص اللبّي، كالخاص اللفظي المتصل مانع عن انعقاد ظهور في العموم، بل ينعقد الظهور في الخصوص فقط.

ص: 46

إلاّ في الخصوص. وإن لم يكن كذلك[1]، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه[2].

والسر في ذلك[3]: أن الكلام[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا القسم الثاني: وهو المخصص اللبّي الذي لا يمكن الاعتماد عليه في مقام التخاطب؛ وذلك في ما لا يلتفت أكثر الناس إليه، كما لو كان متوقفاً على مقدمات تحتاج إلى نظر وتأمل ومراجعة.

مثلاً: الحديث الشريف: (لعن الله بني أمية قاطبة)(1)

خُصِّص بالدليل اللبّي الدال على عدم شموله للمؤمنين من بني أمية، والعلم بهذا المخصص يحتاج إلى مراجعة في الأدلة وإعمال نظر.

[2] أي: كما أن لفظ العام شامل لجميع الأفراد فيشمل المصاديق المشكوكة، كذلك حكم العام وحجيته باقٍ في تلك المصاديق المشكوكة.

[3] أي: في حجية العام في المصداق المشتبه إذا كان المخصص اللبّي مما لا يصح الاعتماد عليه في مقام التخاطب.

وقد أقام المصنف ثلاثة أدلة على حجية العام:

الأول: إن الحجة الملقاة من المولى هي العام فقط بلا معارض.

الثاني: استحقاق العقاب لو ترك الفرد المشكوك.

الثالث: بناء العقلاء.

ولا يخفى أنه كلما ذكرنا - من الآن فصاعداً - المخصص اللبّي نريد هذا القسم الثاني.

الدليل الأول

[4] حاصل الدليل: إنه لا يوجد في الفرد المشكوك إلاّ حجة واحدة، وهي العام من غير معارض؛ لأن الخاص ليس بحجة حين الشك.

ص: 47


1- كامل الزيارات: 176؛ بحار الأنوار 98: 292.

الملقى من السيد حجة[1] ليس إلاّ ما اشتمل على العام[2] الكاشف[3] بظهوره عن إرادته للعموم، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه[4]. مثلاً، إذا قال المولى: (أكرم جيراني)، وقطع[5] بأنه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته[6]، لعدم[7]

-----------------------------------------------------------------

بيانه: إن الدليل اللبي لا يكون دليلاً إلاّ في صورة القطع، فمع عدم القطع ينتفي الدليل اللبّي من رأس؛ ولذا يقولون بالأخذ فيه بالقدر المتيقن فقط لا غير. فالفرد المشكوك لا يشمله الخاص - لأنه لبيّ - ويشمله العام؛ لأن لفظ العام ظاهر في جميع أفراده، ثم إن حجية العام فيه من غير معارض، فيلزم التمسك بالعام فيه.

[1] «حجة» مفعول لأجله، أي: الكلام الملقى لأجل أن يكون حجة على العبد، و«ليس إلاّ... الخ» خبر قوله: (أن الكلام... الخ).

[2] أي: الخاص ليس بحجة في الفرد المشكوك، بل الحجة فقط هو العام بلا مزاحم.

[3] أي: الظهور يكشف عن المراد، وبعبارة أخرى: الإرادة الاستعمالية تكشف عن الإرادة الجدية؛ ولذا قالوا: إن الظواهر حجة وعليه بناء العقلاء.

[4] لأن الخاص يجري في المقطوع فقط، لما ذكرنا من أن حجية الأدلة اللبّية تنحصر في الفرد المتيقن، ولا تشمل الفرد المشكوك.

[5] منشأ القطع هو القرائن الحالية المنفصلة عن الكلام.

[6] أي: منشأ الخروج عن عموم الكلام هو (العلم بعداوته)، فقوله: «للعلم...» علّة للمنفيّ.

[7] علّة حجية العموم في الفرد المشكوك، وحاصل الكلام: إن الخاص هو (معلوم العداوة) فقط، فلا يشمل مشكوك العداوة، فلا يكون الخاص حجة في المشكوك، فيبقى العام شاملاً له وحجة فيه من غير معارض.

ص: 48

حجة أخرى بدون ذلك على خلافه[1]. بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً[2]، فإن قضية تقديمه عليه[3] هو كون الملقى إليه كأنه[4] كان - من رأس - لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقةً[5] في ما كان الخاص متصلاً. والقطع[6] بعدم إرادة العدو لا يوجب[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا حجة بدون العلم بالعداوة على خلاف العموم، حتى نقول بتعارض الحجتين في الفرد المشكوك.

[2] أي: في صورة كون المخصص لفظياً فإن هنالك حجتان، وهما العام والخاص، فيتعارضان في الفرد المشكوك فيتساقطان.

[3] أي: تقديم الخاص على العام مقتضاه هو أن العام لم يكن حجة في الخاص أصلاً؛ لأن المراد الجدي لم يكن شمول العام لأفراد الخاص.

[4] أي: كون العام الملقى إلى العبد، كأنّ ذلك العام لا يشمل الخاص أصلاً. والحاصل: إن لفظ العام وإن كان ظاهراً في جميع الأفراد، لكن المولى لم يريد أفراد الخاص أصلاً.

[5] أي: كما كان العام من رأس لا يعم الخاص - وذلك لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم - إذا كان الخاص متصلاً.

دفع وهم

[6] حاصل التوهم: هو عدم الفرق بين المخصص اللفظي والمخصص اللبّي، فكما أن الخاص اللفظي يوجب القطع بعدم إرادته، كذلك الخاص اللبّي يوجب القطع بعدم إرادته، فما هو الفرق بينهما؟

[7] جواب عن التوهم، وحاصله: إن الخاص اللبي يُخرِج الأفراد المقطوعة فقط، وبعبارة أخرى: الخاص هو (مقطوع العداوة) في المثال، فلا يكون حجة في مشكوك العداوة أصلاً، فالقطع أخذ في موضوع الخاص، بخلاف المخصص

ص: 49

انقطاع حجيته[1] إلاّ في ما قطع أنه عدوّه، لا في ما شك فيه، كما يظهر[2] صدق هذا[3] من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته[4] على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنه[5] بمجرد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي[6] ملاك حجية أصالة الظهور.

-----------------------------------------------------------------

اللفظي، فإن القطع لم يؤخذ في موضوعه.

[1] أي: حجية العام، إلاّ فيمن قطع العبد أنه عدو المولى.

الدليل الثاني

[2] وهو دليل وجداني وحاصله: إن العبد لو ترك الفرد المشكوك في المخصص اللبّي صحة مؤاخذته، وصحة المؤاخذة دليل على أن العام حجة في الفرد المشكوك؛ إذ لو لم يكن حجة لما صحة المؤاخذة. وهذا بخلاف المخصص اللفظي، حيث لا تصح مؤاخذة العبد لو ترك الفرد المشكوك.

[3] أي: حجية العام في الفرد المشكوك إذا كان الخاص لبيّاً.

[4] الفرق بين (صحة المؤاخذة) و(حسن العقوبة) أن الأول في العتاب، والثاني في العقاب، وضمير «عقوبته» و«مخالفته» راجع إلى العبد.

[5] أي: لا يقبل عذر العبد عن عدم إكرام مشكوك العداوة.

[6] أي: سيرة العقلاء هي سبب حجية الظهور، بعد أن لم يجعل الشارع طريقة خاصة به، بل سار على نفس طريقتهم كما قال تعالى: {مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1).

فالحاصل: إن سيرة العقلاء استقرت على حجية الظهور حتى مع احتمال الخلاف، وهنا حتى مع احتمال العداوة فإنهم يعتبرون العام حجة، بخلاف ما إذا كان الخاص لفظياً.

ص: 50


1- سورة إبراهيم، الآية: 40.

وبالجملة[1]: كان بناء العقلاء على حجيتها[2] بالنسبة إلى المشتبه هاهنا[3]. بخلاف هناك[4]. ولعله[5] لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما[6] بإلقاء حجتين هناك[7] تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام كأنه لم يعمه حكماً[8]

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] حاصل الدليل هو: أن بناء العقلاء استقر على حجية العام في الفرد المشتبه لو كان المخصص لبياً، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً فلم يعتبروه حجة.

[2] أي: حجية أصالة الظهور.

[3] أي: بالنسبة إلى المصداق المشكوك، «هاهنا» أي: في الخاص اللبّي.

[4] أي: في المخصص اللفظي لا يوجد بناء للعقلاء في حجية العام في الفرد المشكوك.

[5] أي: لعل بناء العقلاء ناشئ مما ذكرناه في الدليل الأول، حيث قلنا: إنه في الخاص اللفظي تتعارض حجتان، وفي الخاص اللبي لا حجة إلاّ العام، ومن هنا يرجع المصنف إلى شرح الدليل الأول، وكان الأولى تقديم هذه الفقرة هناك.

[6] أي: بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي.

[7] أي: في المخصص اللفظي، والحجتان هما: العام والخاص، «قضيتهما» أي: مقتضى الحجتين، والمراد أن مقتضى الجمع بين الحجتين هو تقديم الخاص على العام لأنه أقوى، وحينئذٍ فإنّ أفراد الخاص لم تكن مرادة في العام أصلاً، ففي قوله: (أكرم العلماء) ثم (لا تكرم فساق العلماء) مقتضى الجمع هو أن نقول: إن (أكرم العلماء) لا يراد فيه فساق العلماء أصلاً، ففي الفرد المشكوك مصداقاً تتعارض الحجتان.

[8] أي: كأن العام لم يشمل الخاص، وعدم الشمول في الحكم بمعنى أن حكم العام لا يشمل الخاص.

ص: 51

من رأس، وكأنه لم يكن بعام؛ بخلاف هاهنا[1]، فإن الحجة الملقاة ليست إلاّ واحدة[2]، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (أكرم جيراني) - مثلاً - لا يوجب رفع اليد عن عمومه[3] إلاّ في ما قطع بخروجه من تحته[4]، فإنه[5] على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه، فلابد من اتباعه[6] ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.

بل يمكن أن يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بخلاف المخصص اللبيّ.

[2] وهي العام، حيث إن المولى لم يذكر الخاص، وإنّما استفيد الخاص من دليل آخر غير لفظي.

[3] أي: عموم العام، وهو (أكرم جيراني).

[4] أي: إلاّ في المصداق المقطوع بأنه خارج من العام؛ وذلك لأن الدليل اللبّي حجة في المقطوع فقط، ولا حجية له في المشكوك - كما مرّ تفصيله - .

[5] حاصله هو: إن الحكيم حينما يُلقي كلاماً فإنه يريد ظاهر هذا الكلام، ولو لم يكن هذا الظاهر مراداً فلابد من إقامة قرينة، وحيث لم يقم هنا قرينة نكتشف من الظاهر مراده الجدي، وهو عمومية العام للفرد المشكوك.

[6] أي: اتباع كلام الحكيم بمعنى اتباع ظاهر كلامه.

إخراج المشتبه من موضوع الخاص

[7] أي: لو كان المخصص لبيّاً فإنه كما نتمسك بالعام في حكم الفرد المشتبه، كذلك يمكن التمسك بالعام لإخراج الفرد المشتبه موضوعاً من الخاص، وإدخاله موضوعاً في العام. مثلاً: العام هو (اللهم العن بني أمية قاطبة)، والخاص اللبي هو (لا يُلعن المؤمن من بني أمية)، ففي الأموي المشتبه أنه مؤمن أم لا، كما نقول: إنّه داخل في حكم العام، أي: جواز اللعن، كذلك نقول: إنّه داخل في موضوع

ص: 52

إن قضية عمومه للمشكوك[1] أنه[2] ليس فرداً لما[3] علم بخروجه من حكمه بمفهومه[4]، فيقال في مثل «لعن الله بني أمية قاطبة»(1):

«إن فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه» لمكان العموم[5]، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً[6]، فينتج أنه ليس بمؤمن، فتأمل جيداً[7].

-----------------------------------------------------------------

العام، أي: إن هذا الإنسان ليس بمؤمن، وحيث ثبت عدم إيمانه يترتب عليه جميع آثار غير المؤمن.

[1] أي: عموم حكم العام للمصداق المشتبه.

[2] أي: إن المشكوك، والجملة خبر لقوله: (إن قضيّة...).

[3] أي: للخاص المعلوم خروجه عن حكم العام.

[4] أي: بسبب معناه، و«بمفهومه» متعلق ب- (خروجه) فالمعنى: المشكوك ليس فرداً للخاص الذي علمنا بخروجه مفهوماً عن حكم العام. فمقطوع الإيمان خرج بمفهومه عن حكم العام، وهو جواز لعن بني أمية قاطبة.

[5] أي: لأجل شمول العموم لهذا الفرد المشكوك من غير أن يشمله الخاص اللبي.

[6] وذلك لعدم جواز لعن المؤمن، فالأموي المشكوك الإيمان يجوز لعنه، ومن جواز لعنه نكتشف عدم إيمانه بالدليل الإنّي.

[7] لكن لا يخفى عدم الفرق بين المخصص اللبي واللفظي، وما ذكره المصنف من الأدلة الثلاثة لا تعدو الادعاء من غير إقامة برهان عليها.

وأيضاً (عدم جواز لعن المؤمن) ليس بالدليل اللبي، بل قامت الأدلة اللفظية على عدم جوازه، فتكون النسبة بين (عدم جواز لعن المؤمن) و(جواز لعن الأموي) هي العموم من وجه.

ص: 53


1- كامل الزيارات: 176.

إيقاظ [1]: لا يخفى: أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل[2]

-----------------------------------------------------------------

وأيضاً العلم بوجود مؤمنين في بني أمية ك- (سعد الخير)(1) يوجب تخصيص اللعن بغير المؤمن، فالعام وهو (العن بني أمية قاطبة) تنحصر حجيته بغير المؤمنين منهم، فتأمل.

إيقاظ

إحراز المشتبه باستصحاب العدم الأزلي

[1] الغرض هو تنقيح أصل يحرز به حال المصداق المشتبه، وحاصل الكلام: إن العام ليس بحجة في المصداق المشتبه؛ لتعارض حجيته مع حجية الخاص اللفظي، ولكن هنا أصل نحرز به أن الفرد المشتبه هو مصداق للعام، فيجري عليه حكم العام.

وبعبارة أخرى: الموضوع يُحرز بالأصل، والحكم يؤخذ من الدليل المثبت للحكم للعام. وهذا الأصل الموضوعي هو استصحاب العدم الأزلي.

[2] أي: في ما انعقد ظهور لفظي للعام في كل الأفراد، وكان الخاص بلسان الإخراج - أي: إخراج أفراد الخاص من العام - فالمنفصل مثل: (أكرم العلماء) ثم قوله: (لا تكرم فساق العلماء)، وأما المتصل الذي هو بلسان الإخراج مثل: (أكرم العلماء إلاّ فساقهم). فإن استصحاب عدم الفسق يُجدي في اعتبار الفرد المشكوك غير داخل في الخاص، فيجري عليه أحكام العام - الإكرام في المثال - حيث إنه مصداق للعام؛ وذلك لأن العام - وهو (أكرم العلماء) - يشمل كل العلماء الذين لا ينطبق عليهم صفة الفسق، فباستصحاب عدم الفسق نُخرج الفرد المشكوك عن الخاص.

ص: 54


1- الاختصاص: 85.

لما كان غير معنون بعنوان خاص[1]، بل بكل عنوان[2] لم يكن ذاك بعنوان الخاص، كان[3] إحراز المشتبه[4] منه بالأصل الموضوعي[5] في غالب الموارد - إلاّ ما شذّ[6] -

-----------------------------------------------------------------

أما لو كان من المتصل الذي هو ليس بلسان الإخراج، بل مما كان يوجب تعنون العام بعنوان الخاص، كالوصف في مثل: (أكرم العلماء العدول) فإن استصحاب عدم العدالة لا يُجدي في إدخال الفرد المشكوك في الموضوع، بل بالعكس يخرجه عن الموضوع.

[1] لأنه على رأي المصنف لا يتعنون العام بعنوان الخاص، بل يبقى العام على عنوانه الكلي، فيدخل فيه جميع العناوين سوى عنوان الخاص، ففي المثال: (أكرم العلماء) يشمل جميع العلماء بجميع أوصافهم وعناوينهم سوى عنوان الفسق، فلا يشمل (العلماء الفساق).

[2] المقصود بقاؤه على كليته، فيجتمع مع كل عنوان سوى عنوان الخاص - الفسق في المثال - .

[3] جزاء قوله: (لما كان غير... الخ).

[4] أي: إحراز أنه ليس فرداً للخاص، فتكون حجية العام في الفرد المشتبه من غير معارض.

[5] أي: الأصل الذي يثبت الموضوع، أي: دخول الفرد المشتبه في موضوع العام. وليس هذا الأصل بمثبت؛ لأنا لا نريد إجراء حكم العام بهذا الأصل حتى يقال أصالة عدم الفسق لا تثبت وجوب الإكرام، بل نريد بهذا الأصل إدخال الفرد المشكوك في موضوع العام، وحينما دخل الفرد في موضوع العام يجري عليه حكم العام، وهو الإكرام لا بالأصل، بل بدليل وجوب الإكرام، وهو (أكرم العلماء).

[6] وهي موارد توارد الحالتين مع عدم العلم بالسابق منهما، كمن كان فاسقاً لفترة وعادلاً لفترة أخرى، فإنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي؛ لانقطاعه باليقين بالفسق في زمانٍ ما.

ص: 55

ممكناً، فبذلك[1] يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به[2] بلا كلام، ضرورة[3] أنه قلّما لا يوجد[4] عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنه[5] مما بقي تحته. مثلاً[6]: إذا شك أن امرأة تكون قرشية فهي وإن كانت وجدت إما قرشية أو غيرها[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بهذا الأصل الموضوعي، «عليه» أي: على الفرد المشكوك.

[2] أي: بالعام، حيث إنه لا يجوز التمسك بالعام إبتداءً؛ لأنه تمسك في العام بالشبهة المصداقية. نعم، بالأصل نحرز فردية المشكوك للعام، ثم نجري عليه حكم العام.

[3] دليل إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي غالباً.

[4] أي: الموارد التي لا يوجد فيها أصل موضوعي قليلة، بل في غالب الموارد يوجد أصل موضوعي.

[5] أي: ينقح بذلك الأصل أن الفرد المشتبه مما بقي تحت العام.

[6] العام: هو حيض المرأة إلى الخمسين، والدم بعد الخمسين يكون استحاضة حتى لو كان بأوصاف الحيض، والخاص: هو كون حيض القرشية إلى الستين. والمرأة المشكوك كونها قرشية تدخلها في العام، باستصحاب العدم الأزلي - أي: استصحاب عدم انتسابها إلى قريش - فيجري عليها حكمه.

ولا يخفى أن الدم أمر تكويني، لكن كونه حيضاً أو استحاضة هو اعتبار شرعي، حيث إنه لو استمر الدم بعد الخمسين اعتبره الشرع حيضاً في القرشية والنبطية، واعتبره استحاضة في غيرهما.

[7] لأن الإنسان يولد وهو منسوب إلى آبائه قطعاً، فالصفة الوجودية لا حالة سابقة لها، ومراده من قوله: «غيرها» أي: الانتساب إلى قبيلة أو قوم آخرين غير قريش، كتميم أو هذيل.

ص: 56

فلا أصل يحرز[1] أنها قرشية أو غيرها، إلاّ[2] أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح[3] أنها ممن لا تحيض إلاّ إلى خمسين، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب[4] أيضاً باقية تحت ما دل على أن المرأة إنما ترى الحمرة[5] إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل تعرف.

وهم وإزاحة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ليس لنا أصل وجودي يثبت أنها قرشية أو تميمية أو هذلية أو أعجمية ونحوها.

[2] أي: لكن لنا أصل عدمي ننفي به نسبتها لقريش، وهو استصحاب العدم الأزلي، وهذا الاستصحاب له أثر، لأنه ينقح موضوعاً له حكم شرعي.

[3] أي: تفيد في إخراج المرأة المشتبه من عنوان الخاص وإدخالها في العام.

[4] بحكم الأصل الموضوعي، «أيضاً» أي: كالمرأة المقطوع بأنها ليست قرشية حكمهما واحد.

[5] أي: الحيض، وكما ذكرنا ليس المراد عدم رؤية الدم خارجاً حتى يستشكل بعدم وجدان الفرق بين القرشية وغيرها، بل المراد اعتبار الدم حيضاً أو استحاضة.

وهم وإزاحة

[6] حاصله: إنه يمكن التمسك بعمومات العناوين الثانوية لإدخال المصداق المشكوك في العام، فيمكن تصحيح كل عمل مشكوك الصحة، بمثل: (أوفوا بالنذور).

فالوضوء بماء الورد مشكوك صحته، فلو نذره شمله عمومات وجوب الوفاء بالنذر، فيجب هذا الوضوء، ومن هذا الوجوب نكتشف صحته؛ لأن وجوب الوفاء يدل على أن العمل صحيح؛ إذ لا يجب الوفاء بالعمل الفاسد. والشك لم يكن لأجل تخصيص أدلة وجوب الوفاء بالنذر، وإنّما منشؤه هو عدم العلم بصحة

ص: 57

ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات[1] في ما إذا شك في فرد[2] لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة أخرى[3]، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف[4]، فيستكشف صحته[5] بعموم مثل: (أوفوا بالنذور)[6] في ما إذا وقع[7] متعلقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر

-----------------------------------------------------------------

هكذا وضوء - هذا ما يظهر من عبارة المصنف - .

ويمكن إجراء هذا البحث بطريقة أخرى فنقول: العام - وهو الوضوء - له أفراد معلومة، ونشك في أن الوضوء بماء الورد هل هو من مصاديق الوضوء أم لا؟ فبنذره يجب الوفاء به، ومنه نكتشف صحة هذا الوضوء، فتأمل.

[1] أي: عمومات العناوين الثانوية.

[2] أي: في حكم فرد مع علمنا بأنه مصداق للعام.

[3] أي: من جهة الشك في صحة ذلك الفرد بالعناوين الأولية.

وبعبارة أخرى: نشك في مصداقية هذا الفرد لعنوان من العناوين الأولية، فنتمكن بعمومات العناوين الثانوية من اكتشاف فرديته لذلك العنوان الأوليّ. فالوضوء بالماء المضاف مشكوك كونه من أفراد الوضوء - وهذا عنوان أولي - فهو شبهة مصداقية، لكن بعمومات أدلة وجوب الوفاء بالنذر - وهي من العناوين الثانوية - نكتشف أنه فرد من أفراد الوضوء.

[4] ومنشأ الشك هو الروايات المتعارضة، وإفتاء مثل الصدوق بصحة الوضوء بماء الورد(1) - مثلاً - .

[5] أي: صحة الوضوء بالمضاف وكذلك الغسل.

[6] لم يرد هذا النص في الروايات، وإنما ورد معناه فيها.

[7] أي: وقع الوضوء بالمضاف وكذلك الغسل.

ص: 58


1- الهداية: 65.

للعموم[1]، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً[2]، للقطع[3] بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به[4].

وربما يؤيد ذلك[5] بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات[6] وفي السفر[7] إذا تعلق بهما النذر كذلك[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر.

[2] لما ثبت في محله بأنه لا يجب الوفاء بالعمل الفاسد؛ لأن العمل الفاسد لا رجحان فيه، ومتعلق النذر يجب أن يكون راجحاً.

[3] منشأ هذا القطع هو الاتفاق، مضافاً إلى لزوم رجحان متعلق النذر، «بأنه» أي: بأن كل ما يجب الوفاء به.

[4] وصورة الدليل، كما عن التقريرات(1):

1- الصغرى: هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به؛ لعموم قوله: أوفوا بالنذور.

2- الكبرى: وكل ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحاً.

3- النتيجة: فيجب أن يكون الوضوء صحيحاً.

[5] أي: اكتشاف صحة العمل المشكوك بواسطة عموم الأدلة الثانوية.

[6] فإن الإحرام قبل الميقات باطل، لكن لو نذره صح للروايات الخاصة في المقام، فإن العنوان الثانوي - وهو النذر - صحَّح ما كان باطلاً قبله.

[7] فإن الصوم في السفر باطل، ولا يجوز - تشريعاً - لكن يصح نذر الصوم في السفر، في غير صوم شهر رمضان، فإنه لا يصح بالنذر.

[8] أي: تعلق النذر بالصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات.

ولا يخفى أن قول المصنف: (وربما يؤيد ذلك) فرض خارج عن البحث؛ لأن الكلام في تصحيح عمل مطلقاً بالعنوان الثانوي، والمثالان إنما يصححان العمل في

ص: 59


1- مطارح الأنظار 2: 148.

والتحقيق[1] أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية في ما شك من غير جهة تخصيصها إذا[2] أخذ في موضوعاتها[3] أحد الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه[4] في الأمور المباحة[5]

-----------------------------------------------------------------

صورة النذر فقط، ولعله لذا قال المصنف: (وربما يؤيّد)، فتأمل.

تحقيق المصنف لرد التوهم

[1] حاصل تحقيق المصنف هو: أن العناوين الثانوية قسمان:

الأول: ما يطرأ على الشيء بشرط كونه محكوماً بحكم حسب عنوانه الأولي، كالنذر، فإنه إنما يصح لو كان الشيء راجحاً بأن كان واجباً أو مستحباً، وفي هذا القسم لا يمكن التمسك بالعنوان الثانوي لتصحيح الشيء؛ للزومه الدور - كما سيتضح بعد قليل - .

الثاني: ما يطرأ على الشيء مطلقاً، ولا ينظر إلى عنوانه الأولي، كالضرر والحرج ونحوهما، فإنها تعرض الأشياء مع قطع النظر عن عناوينها الأولية، فقد تعرض على الواجب أو الحرام أو المستحب أو المكروه أو المباح.

وفي هذا القسم يمكن التمسك بهذه الأدلة لإثبات جواز العمل إذا كان ملاك هذه الأدلة أقوى من ملاكات العناوين الأولية.

القسم الأول

[2] إشارة إلى القسم الأول.

[3] أي: موضوعات العناوين الثانوية، كالنذر الذي أخذ في موضوعه أن يكون راجحاً بعنوانه الأولي، فنذر صلاة الليل صحيح؛ لأنها راجحة بعنوانها الأولي.

[4] أي: شِبه النذر، كالعهد واليمين.

[5] متعلق ب- (وجوب إطاعة الوالد) أي: هذا الحكم الثانوي إنّما يطرأ لو كان

ص: 60

أو الراجحة[1]، ضرورة[2] أنه - معه[3] - لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز[4] التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.

نعم[5]،

-----------------------------------------------------------------

العمل مباحاً.

[1] متعلق ب- (الوفاء بالنذر)، وأما شبه النذر، فالعهد أيضاً يجب أن يكون متعلقه راجحاً، وأما اليمين فيكفي في صحته إباحة العمل.

[2] دليل لقوله: (لا مجال لتوهم الاستدلال... الخ). وحاصله: هو أن التمسك بهذه العمومات يستلزم الدور؛ وذلك لأن صحة النذر تتوقف على رجحان متعلقه، فلو توقف رجحان المتعلّق على صحة النذر دار.

وبعبارة أخرى - كما في الوصول - : (إنّ الحكم بوجوب الإطاعة والوفاء متوقف على الموضوع الذي هو الجواز أو الرجحان، فلو توقفا على الوجوب لزم توقف الشيء على نفسه، ولذا قالوا: إن الحكم لا يتكفل لبيان الموضوع)(1)،

انتهى.

[3] أي: إن الشأن مع اشتراط كون الشيء له حكم أولي.

[4] مفعول (يتوهم عاقل)، أي: لا يتوهم عاقل جواز التمسك بتلك العمومات؛ وذلك لأن هذا التمسك يستلزم الدور الصريح، وهو محال بضرورة العقل.

القسم الثاني

[5] إشارة إلى القسم الثاني، وحاصل الكلام: إن هذا القسم فيه صورتان:

الصورة الأولى: ما لم يعلم حكمه بعنوانه الأولي، فحينئذٍ نتمسك بأدلة العناوين الثانوية - كالضرر والحرج - في جوازه، بلا مزاحمة.

ص: 61


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 148.

لا بأس بالتمسك به في جوازه[1] بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه[2] في ما[3] لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، فإذا شك في جوازه[4] صح التمسك بعموم دليلها[5] في الحكم بجوازها[6]. وإذا[7] كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثر الأقوى منهما[8] لو كان في البين،

-----------------------------------------------------------------

الصورة الثانية: ما علم حكمه الأولي، وحينئذٍ يتزاحم مقتضى الحكم الأولي مع مقتضى الحكم الثانوي.

[1] أي: التمسك بعموم الدليل في جواز الفرد المشكوك، وهذا هو الصورة الأولى.

[2] لعل اشتراط إحراز التمكن والقدرة لأجل أنه لا معنى للجواز إذا لم يكن قادراً، مثلاً: من فقد الماء في صحراء إلى أن أشرف على الموت لا يصح أن يقال حلّ له شرب الخمر في ما لو كان فاقداً لها؛ لأنه مع فقدان الخمر لا يصح أن يقال: إنه اضطر إليها، فتأمل.

[3] أي: في الأحكام الثانوية لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، وعدم الأخذ بمعنى جريان الحكم الثانوي مطلقاً مع قطع النظر عن الحكم الأولي، فإنه في مثل دليل الضرر والحرج يجري الحكم الثانوي، سواء كان الحكم الأولي الوجوب أم الحرمة أم غيرهما من الأحكام.

[4] أي: في جواز الشيء، كما لو شك في جواز شرب الخمر للمضطر.

[5] أي: دليل الأحكام الثانوية.

[6] أي: بجواز الشيء الذي عمّه موضوع الأحكام الثانوية، والأولى تذكير ضمير «جوازها» لرجوعه إلى (الشيء).

[7] إشارة إلى الصورة الثانية من القسم الثاني، «كانت» أي: الموضوعات التي تعلق بها الحكم الثانوي.

[8] ففي مثل: الوضوء الضرري، مقتضى الضرر أقوى فلذا يسقط الوضوء.

ص: 62

وإلاّ[1] لم يؤثر أحدهما، وإلاّ[2] لزم الترجيح بلا مرجح[3]، فليحكم عليه حينئذٍ[4] بحكم آخر - كالإباحة[5] - إذا كان أحدهما مقتضياً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً[6].

وأما صحة الصوم[7]

-----------------------------------------------------------------

وفي مثل الجهاد، مقتضى الجهاد أقوى من مقتضى الضرر؛ لأن حكم الجهاد وضع في مورد الضرر، ولا يرتفع بالضرر الحكم الذي وضع في مورده.

[1] أي: وإن لم يكن أقوى في البين، بل تساويا.

[2] أي: إن أثر أحدهما.

[3] وهو محال لرجوعه إلى الترجح بلا مرجح، وسبب استحالته هو تحقق المعلول بغير علّة.

[4] أي: حين تساويها وعدم ترجيح أحدهما على الآخر.

[5] أي: التخيير العقلي.

[6] أما إذا لم يكن كذلك فيلزم الاحتياط، كما لو دار بين الوجوب والجواز، أو بين الحرمة والجواز.

التحقيق في نذر الصوم في السفر ونحوه

[7] يذكر المصنف ثلاثة أجوبة:

الأول: إن الصوم في السفر راجح ذاتاً لكن يحرم لوجود مانع عن تأثير الرجحان، والنذر يرفع المانع.

الثاني: إن الرجحان في متعلق النذر كما يمكن أن يكون قبل النذر، كذلك يكفي في صحة النذر وجود الرجحان بعد النذر.

الثالث: لا يشترط الرجحان في هذا النذر للدليل الخاص، فنخصص قاعدة لزوم رجحان متعلق النذر بالدليل الدال على صحة نذر الصوم في السفر.

ص: 63

في السفر بنذره فيه - بناءً على عدم صحته فيه بدونه[1] - وكذا الإحرام قبل الميقات: فإنما هو[2] لدليل خاص كاشف[3] عن رجحانهما ذاتاً في السفر وقبل الميقات، وإنما[4] لم يأمر بهما استحباباً أو وجوباً[5] لمانع يرتفع مع النذر. وإما لصيرورتهما[6]

-----------------------------------------------------------------

وكل هذه الأجوبة تجري في نذر الإحرام قبل الميقات أيضاً.

ولا يخفى أن هذه الأجوبة لتصحيح مرحلة الثبوت عقلاً لرفع الدور، بعد ورود الأدلة المصححة لهذا النذر في مرحلة الإثبات، فتأمل.

[1] أي: عدم صحة الصوم في السفر بدون النذر.

[2] أي: إنّما الصحة، وكان الأولى تأنيث الضمير.

الجواب الأول

[3] هذا هو الجواب الأول، وحاصله: إن الدليل الخاص الدال على صحة هذا النذر يكشف عن كون الصوم في السفر راجحاً ذاتاً، فيوجد فيه المقتضي للصحة، وكذلك الإحرام قبل الميقات، ولكن هنالك مانع عن الصحة، وهذا المانع يرتفع بالنذر.

[4] دفع إشكال حاصله: إذا كانا راجحين ذاتاً فلماذا لم يؤمر بهما كبقية أفراد الصوم الواجب أو المستحب؟ والجواب هو وجود مانع، ويرتفع هذا المانع بالنذر.

[5] في الصوم المستحب كالنصف من شعبان، والواجب كالكفارة مثلاً.

الجواب الثاني

[6] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إنه لا يشترط الرجحان قبل النذر، بل يكفي الرجحان ولو كان بعد النذر، فلا دور؛ لأن الرجحان تأخر عن النذر، والرجحان المتأخر يكفي، فلا يشترط أن يكون قبل النذر.

وضمير «لصيرورتهما» يرجع إلى (الصوم في السفر) و(الإحرام قبل الميقات).

ص: 64

راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك[1]، كما ربما يدل عليه[2] ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال[3]: لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك[4] في عباديتهما، ضرورة كون وجوب الوفاء توصلياً[5] لا يعتبر[6] في سقوطه إلاّ الإتيان بالمنذور بأي داعٍ

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لم يكونا راجحين قبل النذر، عكس الجواب الأول الذي ابتنى على الرجحان الذاتي قبل النذر.

[2] أي: على عدم الرجحان قبل النذر، ووجه الدلالة أن الصلاة قبل الوقت لا رجحان ذاتي فيها أصلاً، وقد شبّه الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الإحرام قبل الميقات بالصلاة قبل الوقت.

[3] حاصل الإشكال هو: أنه لا شبهة في كون الصوم والإحرام من الأمور العبادية التي يشترط فيها قصد القربة، ولا يمكن تصحيح العبادية بالنذر؛ لأن الصوم في السفر كان محرماً، وكذلك الإحرام قبل الميقات، فلا معنى لكونه عبادياً مقرباً، والنذر لا يصحح العبادية؛ لأن النذر تابع للمنذور، فإن كان عبادياً وجب الإتيان به بقصد القربة، وإن لم يكن عبادياً يكفي إتيانه بأية كيفية كانت، فمن أين تصحح عبادية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات لو تعلق بهما النذر؟

والحاصل: إن هذا الصوم والإحرام كانا مُحَرَّمين فلا معنى للعبادية فيهما، وبعد النذر وإن وجبا لكن النذر لا يوجب العبادية.

[4] أي: بالنذر، وقوله: «في» متعلق ب- (لا يجدي) أي: النذر لا يجدي في العبادية.

[5] لأن الأدلة الدالة على لزوم الوفاء بالنذر لم تشترط الإتيان بالمنذور بقصد القربة، بل دلت على لزوم الإتيان به صحيحاً - سواء كان عبادياً أم غير عبادي - .

[6] هذا شرح لقوله: (توصلياً)، فهو عطف بيان، أي: معنى التوصليه هنا هو الإتيان بالمنذور.

ص: 65

كان[1].

فإنه يقال[2]: عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما[3] عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلق النذر بهما[4].

هذا لو لم نقل بتخصيص[5] عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يشترط داعٍ خاص من قصد القربة، فلا يمكن اكتشاف لزوم قصد القربة من النذر.

[2] حاصل الجواب: إن المقصود من الرجحان الحاصل بعد النذر هو عروض عنوان عبادي على الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات، أي: إن سبب الرجحان ليس هو مجرد النذر، بل إن النذر سبب لحصول هذا العنوان العبادي الراجح، فمن هنا صححنا عبادية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.

[3] أي: الصوم المنذور في السفر، والإحرام المنذور قبل الميقات.

[4] فالحاصل: إن الرجحان لم ينشأ من النذر، بل النذر كان سبباً لانطباق عنوان عبادي راجح على الصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات.

ولا يخفى أنه يمكن دفع الإشكال بأن يقال: إن النذر يدل على لزوم الإتيان بالمنذور، أما كيفية هذا المنذور فيستفاد من الأدلة الأخرى، فشرائط وأجزاء المنذور لا يتكفل النذر لبيانها، بل المتكفل أدلتها في مضانها، وقد دلت الأدلة على لزوم قصد القربة في كل صوم بلا استثناء، وهكذا يقال في الإحرام. نعم، في ما لا كيفية خاصة للمنذور فإن كيفيته تابعة لقصد الناذر، فتأمل.

ثم إن هذا الإشكال يرد على الجواب الثالث أيضاً، ويجاب عنه بنفس هذا الجواب؛ لذا كان الأولى ذكره بعد الجواب الثالث.

الجواب الثالث

[5] هذا الجواب الثالث، وحاصله: عدم اشتراط رجحان المنذور في هذا النذر بالخصوص، بمعنى أن الدليل دل على لزوم الرجحان في متعلق النذر، لكن نخصّصه

ص: 66

الدليل، وإلاّ[1] أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قِبَل النذر في عباديتهما[2] بعد تعلق النذر بإتيانهما[3] عباديّاً ومتقرّباً بهما منه[4] تعالى، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله[5]، إلاّ أنه يتمكن منه بعده[6]، ولا يعتبر[7] في صحة النذر إلاّ التمكن من الوفاء ولو بسببه، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

بدليل نذر الصوم في السفر، ونذر الإحرام قبل الميقات، حيث كانا محرمين قبل النذر.

وأما العبادية فإن النذر تابع لقصد الناذر، وقد قصد الناذر الإتيان بالصوم بشروطه، ومنها قصد القربة، وكذلك قصد الإحرام الصحيح، ومن شروطه قصد القربة. فهذا الصوم وإن صار راجحاً لكن هذا الرجحان لم يكن شرطاً لصحة النذر، بل هو عنوان طارئ تحقق بعد النذر، ولا ربط له في صحة النذر.

هذا هو الأقرب في شرح العبارة في الفرق بين الجواب الثاني والثالث، ويمكن شرح العبارة بطريقة أخرى فراجع الوصول(1).

[1] أي: وإن قلنا بتخصيص دليل لزوم رجحان متعلق النذر.

[2] أي: وإن لم يشترط الرجحان الطارئ في صحة النذر، لكنه يشترط هذا الرجحان في عباديتهما - أي: الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات - .

[3] أي: قصد الناذر الصوم العبادي والإحرام العبادي، ولأن النذر تابع لقصد الناذر وجب الإتيان بها بقصد القربة.

[4] أي: متقرباً إليه.

[5] أي: إتيانهما عبادياً قبل النذر؛ للنهي عن الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.

[6] أي: إلاّ أن الناذر يتمكن من الإتيان متقرباً بعد النذر.

[7] أي: التمكن من الإتيان بالمنذور شرط لصحة النذر، ولا فرق في أن يكون

ص: 67


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 152.

بقي شيء[1]،

-----------------------------------------------------------------

منشأ القدرة قبل النذر أو بسبب النذر. فالمهم هو القدرة حين العمل، لا القدرة قبل النذر، أو حين النذر، بل لا يشترط القدرة بعد النذر إلى حين وقت العمل. فمن نذر الصوم بعد سنة - وهو يتمكن من الوفاء بالنذر حين حلول وقته - صحّ نذره حتى وإن كان عاجزاً قبل النذر وحين النذر وبعد النذر، قبل حلول وقت الوفاء.

الدوران بين التخصيص والتخصص

[1] في أنه هل يمكن جريان أصالة عدم التخصيص لإحراز أن المصداق المشتبه ليس من أفراد العام، في ما إذا لم يكن هذا المصداق محكوماً بحكم العام، فشككنا أن عدم شمول حكم العام له هل هو من باب التخصيص، أو أن هذا المصداق ليس من أفراد العام أصلاً؟

مثلاً: لو علمنا بأنه لا يجب إكرام زيد المشكوك في علمه، وقد قال المولى: (أكرم العلماء) فيدور الأمر بين كون زيد عالماً وقد خصص به (أكرم العلماء)، وبين عدم كونه عالماً فلذا لا يجب إكرامه، وبقاء العام وهو (أكرم العلماء) على عمومه. فحينئذٍ هل أنّ أصالة عدم التخصيص تثبت عدم كون زيد عالماً، فيترتب عليه جميع أحكام غير العالم، أم لا تجري هذه الأصالة؟

ومثاله في الشرع هو ماء الغسالة - على القول بعدم تنجيسها - فإن العام وهو (كل نجس منجِّس)، وثبت بالدليل عدم تنجيس الغسالة، فيدور الأمر بين عدم كون الغسالة نجسة فلا تخصيص للعام، وبين كون الغسالة نجسة لكنها لا تنجِّس بالدليل الخاص الذي يخصص العام.

فإن قلنا بجريان أصالة عدم التخصيص فلازمها هو طهارة الغسالة، وجريان جميع أحكام الطهارة عليها.

إن قلت: هذا أصل مثبت؛ لأن أصالة عدم التخصيص تثبت أنه ليس بعالم - وهو لازم عقلي - .

ص: 68

وهو: أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص في إحراز[1] عدم كون[2] ما شك في أنه من مصاديق العام[3] - مع العلم بعدم كونه محكوماً بحكمه[4] - مصداقاً له[5]، مثل ما إذا علم أن زيداً يحرم إكرامه، وشك في أنه عالم، فيحكم عليه - بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) - أنه[6] ليس بعالم، بحيث[7] يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام؟

فيه إشكال[8]،

-----------------------------------------------------------------

قلت: الأصول العملية لا حجية لأصولها المثبتة، أما غيرها فهي حجة فيها، وأصالة عدم التخصيص أصل اجتهادي وليس بأصل عملي.

[1] متعلق ب- (التمسك) أي: هل يجوز التمسك لكي نحرز...الخ؟

[2] اسم كون هو (ما شك) وخبره (مصداقاً له).

[3] أي: شك في أنه فرد للعام أو أنه ليس بفرد له، مثل: زيد الذي يشك في أنه من مصاديق العلماء أو أنه من مصاديق الجهال.

[4] أي: نعلم بأن حكم العام لا يشمله، إما لأجل التخصيص، أو لأجل أنه ليس من أفراد العام أصلاً.

[5] أي: للعام، فحاصل المعنى: إن أصالة عدم التخصيص هل تثبت أن هذا الفرد المشكوك ليس مصداقاً للعام بعد علمنا بأن حكم العام لا يشمله؟

[6] نائب فاعل ل- (فيحكم) أي: فيحكم على زيد بأنه ليس بعالم.

[7] أي: بعد أن أثبتنا أنه ليس بعالم نُجري عليه سائر أحكام غير العالم.

وفي مثال الغسالة: بأصالة عدم تخصيص (كل نجس منجِّس) نحكم بأن الغسالة ليست نجسة، فنجري عليها جميع أحكام الأشياء الطاهرة، من جواز الشرب وجواز الصلاة معها ونحو ذلك من الأحكام.

[8] حاصله: إن أصالة عدم التخصيص أصل عقلائي، وعليها بناء العقلاء، والمقدار المتيقن من بنائهم هو لو علم بفردية فرد للعام وشك في خروجه عن حكم

ص: 69

لاحتمال اختصاص حجيّتها[1] بما إذا شك في كون فرد العام[2] محكوماً[3] بحكمه، كما هو[4] قضية عمومه. والمثبت[5] من الأصول اللفظية[6] وإن كان حجة، إلاّ أنه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل[7]، ولا دليل هاهنا إلاّ السيرة وبناء العقلاء، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك[8]، فلا تغفل.

-----------------------------------------------------------------

العام. ولا يعلم إجراؤهم لهذا الأصل في ما لو شكوا في أصل فردية فرد للعام حتى لو علموا بأنه ليس محكوماً بحكم العام، بل لعله يقال: إنه يعلم عدم إجرائهم لها هنا.

[1] أي: حجية أصالة عدم التخصيص.

[2] أي: فرد المعلوم كونه فرداً للعام موضوعاً.

[3] خبر قوله: (كون فرد..)، وضمير «بحكمه» راجع للعام.

[4] أي: كون الفرد محكوماً بحكم العام هو مقتضى عموم العام، فأصالة عدم التخصيص تجري هنا، ولا يعلم جريانها في الفرد المشكوك.

[5] إشارة إلى أن الإشكال ليس لأجل عدم حجية الأصل المثبت، بل الإشكال من جهة الشك في جريان بناء العقلاء؛ وذلك لأن الأصل المثبت حجة في الأصول اللفظية وليس حجة في الأصول العملية.

[6] أي: الأصول المرتبطة بالألفاظ، وبناء العقلاء وإن كان لبيّاً لكن متعلقه اللفظ، وهو لفظ العام، فلذا تكون أصالة عدم التخصيص أصلاً لفظياً، ودليلها لبيّ، فتأمل.

[7] وهو بناء العقلاء، فأي مقدار ثبت بناء العقلاء فيه كان حجة، وكانت لوازمه العقلية حجة أيضاً، أما إذا لم يثبت بناء للعقلاء في مورد فلا حجة في ذلك المورد، ولا تثبت لوازمه أصلاً؛ لأن ثبوت اللوازم فرع ثبوت الأصل.

[8] أي: إجراء أصالة عدم التخصيص في الشبهة المصداقية، وبعبارة أخرى: إن أصالة عدم التخصيص إنّما تجري لو شككنا في مراد المولى، أما مع علمنا بمراده

ص: 70

فصل: هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص؟ فيه خلاف، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادعي الإجماع عليه[1].

والذي ينبغي[2]، أن يكون محل الكلام في المقام أنه هل يكون أصالة العموم

-----------------------------------------------------------------

وأنه لا يجب إكرام زيد فلا تجري.

فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

اشارة

[1] أي: على عدم جواز العمل قبل الفحص(1)،

والفرق بين عدم الخلاف وبين الإجماع أن الأول يتحقق حتى مع سكوت الكثيرين أو الأكثر، والثاني لا يتحقق إلاّ مع تصريح الجميع بالحكم.

تحرير محل البحث

[2] هذا لتحرير محل الكلام، فإن القائلين بعدم الجواز استندوا إلى وجوه مختلفة...

الأول: إن دليل حجية أصالة العموم هو الظن الخاص، ولا يوجد هذا الظن قبل الفحص، فلا حجية قبل الفحص، أو دليل الحجيّة هو الظن الشخصي - كما عن بعض - .

الثاني: ما عن المحقق القمي(2)، من أن دليل الحجية هو الظن المطلق الانسدادي؛ وذلك لأن الخطابات الشرعية خاصة بالمشافهين الحاضرين في زمان المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأما غير المشافهين فلا حجية لتلك الخطابات لهم إلاّ من باب الانسداد، والمقدار المعلوم من حجية الظن الانسدادي هو ما كان بعد الفحص.

ص: 71


1- مطارح الأنظار 2: 157.
2- قوانين الأصول 1: 276.

متّبعةً مطلقاً[1] أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص[2] في الجملة[3] من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ما لم يعلم[4]

-----------------------------------------------------------------

الثالث: ما عن تقريرات الشيخ الأعظم(1)،

من العلم الإجمالي بوجود مخصصات كثيرة للعمومات الشرعية، ولا يجوز العمل إلاّ بعد انحلال العلم الإجمالي، وينحلّ بالفحص فقط.

والمصنف يقول: إنّ محل البحث هو وجوب الفحص أو عدمه بعد الفراغ عن أصل الحجية، وكلام القائل الأول والثاني إنما هو في أصل الحجية.

وكذلك البحث في الوجوب وعدمه بما هو هو، لا باعتبار العوارض والطوارئ، والعلم الإجمالي في كلام الثالث هو عنوان عارض، فلو فرضنا عدم وجود علم إجمالي أو انحلاله بوجدان مجموعة من المخصصات فهل يجوز العمل بسائر العمومات قبل الفحص أم لا؟

[1] أي: ولو قبل الفحص واليأس عن المخصص.

[2] أي: حجية أصالة العموم بالظن الخاص، لا بالظن الانسدادي.

[3] أي: بعد إثبات حجيتها في الجملة - أي: في بعض الصور - وحينئذٍ نبحث عن أن هذه الحجية هل قبل الفحص أم بعده؟

والحاصل: إنا لا نريد أن نبحث هنا البحوث المتعلقة بأصل حجية أصالة العموم وأنها بالظن الخاص أم الانسدادي، وأنها للمشافه أم للأعم، بل بحثنا بعد الفراغ عن أصل الحجية ولو في بعض الصور.

[4] متعلق بقوله: (اعتبارها)، أي: اعتبارها ما لم يعلم المخصِّص؛ لأنه لو علمنا بالمخصصات فلا حجية لأصالة العموم في أفراد الخاص، لما مرّ من أن الخاص مقدَّم على العام؛ لأنه أقوى لكونه نصاً أو أظهر.

ص: 72


1- مطارح الأنظار 2: 161.

بتخصيصه تفصيلاً، ولم يكن[1] من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً. وعليه[2] فلا مجال لغير واحد مما استدل به[3] على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس.

فالتحقيق[4] عدم جواز التمسك به قبل الفحص في ما إذا كان في معرض التخصيص[5]، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن العلم الإجمالي عنوان طارئ، وكلامنا في الحجية وعدمها مع عدم فرض هذه العناوين الطارئة.

[2] أي: على ما بيناه من تحرير محل البحث.

[3] لأن بعض الاستدلالات في أصل الحجية، مع أن محل الكلام بعد ثبوتها، وبعضها مع ملاحظة طروّ العلم الإجمالي، مع أن محل الكلام في حجيتها من حيث هي.

1- الفحص عن المخصص المنفصل

اشارة

[4] حاصل تحقيق المصنف: إن مبنى حجية أصالة العموم هو بناء العقلاء، فاللازم أن تدور الحجية مدار بنائهم. فإن المولى إن كان يكثر من التخصيصات - كما في الخطابات الشرعية - فلا بناء لهم على الحجية إلاّ بعد الفحص. وإن لم يكثر من التخصيصات - كالموالي العرفية - فبناؤهم على الحجية حتى قبل الفحص.

القسم الأول

[5] والمعرضية للتخصيص تكون - عادة - في المولى الذي يكثر من المخصصات المنفصلة.

[6] ولعل سبب ذلك هو أن عمومات الكتاب والسنة إنما هي لضرب القانون، ومن المعلوم أن القوانين الكلية لها تخصيصات كثيرة، وعدم بيانها فوراً إما لغرض التدرج في الأحكام، أو لعدم حاجة المخاطبين في وقت صدور العام، أو للاعتماد على القرائن الحالية، أو لجهات ومصالح أخرى.

ص: 73

وذلك[1] لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله[2] فلا أقل من الشك[3]، كيف[4]! وقد ادعي الإجماع على عدم جوازه، فضلاً عن نفي الخلاف عنه، وهو[5] كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن العام كذلك[6] - كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات[7] - فلا شبهة في أن السيرة على العمل به[8] بلا فحص عن مخصص.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص - في هذه الصورة - .

[2] أي: بالعام قبل الفحص.

[3] أي: الشك في بناء العقلاء على العمل بالعام قبل الفحص في هذه الصورة؛ ولأن بناء العقلاء دليل لُبّي، فلا إطلاق له، فيتمسك به في المقدار المتيقن، وأما المورد المشكوك فلا حجية له.

[4] أي: كيف لا نشك في بناء العقلاء على الحجية، والحال أنه ادعي الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص.

[5] أي: الشك في بناء العقلاء.

ولا يخفى أن المصنف لا يريد الاستدلال بنقل الإجماع على عدم الحجية، حتى يستشكل عليه بعدم حجية هذا الإجماع؛ لأنه معلوم أو محتمل الاستناد، بل يريد بيان الشك في أصل بنائهم.

القسم الثاني

[6] أي: في معرض التخصيص.

[7] وذلك لأن مرادهم ليس ضرب القانون - عادة - بل غالب كلامهم آنيّ وقتيّ، وفي قضايا خارجية أو جزئية.

[8] أي: سيرة العقلاء على العمل بالعام، وسيرة العقلاء تكشف عن بنائهم؛ لأن الطريقة المستمرة في شيء دليل على بنائهم على ذلك الشيء.

ص: 74

وقد ظهر لك بذلك[1] أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له[2]. كما أن مقداره اللازم منه[3] بحسب سائر الوجوه التي استدل بها - من العلم الإجمالي به[4] أو حصول الظن بما هو التكليف[5] أو غير ذلك[6] - رعايتها[7]، فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

مقدار الفحص

[1] أي: بأن منشأ لزوم الفحص هو كون العام في معرض التخصيص.

وحاصل الكلام: إن مقدار الفحص تابع لدليل وجوب الفحص: فإن كان الدليل هو معرضية العام للتخصيص، فالمقدار اللازم من الفحص هو المقدار الذي يخرج العام عن المعرضية. وإن كان الدليل هو العلم الإجمالي، فالمقدار اللازم هو ما يوجب انحلال العلم الإجمالي من أصله، أو يوجب خروج المسألة عن أطرافه.

وإن كان الدليل هو الظن الانسدادي فاللازم الفحص في كل مسألة إلى حدّ الاطمئنان بعدم وجود خاص.

[2] أي: للتخصيص.

[3] أي: مقدار الفحص اللازم من الفحص، فقوله: «اللازم منه» بدل عن ضمير (مقداره).

[4] أي: بالتخصيص - وهو الوجه الثالث في تحرير محل البحث واختاره التقريرات(1) - .

[5] الظن الخاص أو الظن الشخصي - وهو الوجه الأول - .

[6] مثل اختصاص الخطابات للمشافهين وعدم شمولها لغيرهم إلاّ بالانسداد - وهو الوجه الثاني - .

[7] أي: مراعاة هذه الوجوه.

ص: 75


1- مطارح الأنظار 2: 180.

ثم إن الظاهر[1] عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل باحتمال أنه كان[2] ولم يصل، بل حاله[3] حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به[4] مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها[5]، كما لا يخفى.

إيقاظ [6]:

-----------------------------------------------------------------

2- الفحص عن المخصص المتصل

[1] أي: كل ما مرّ من لزوم الفحص ومقداره إنّما هو في المخصص المنفصل؛ وذلك لبناء العقلاء في الفحص - بالتفصيل الذي مرّ - وأما المخصص المتصل فبناء العقلاء على عدم لزوم الفحص عنه، بل يعملون بالعام ولا يفحصون عن المخصصات المتصلة، كما أنهم لا يفحصون عن أي شيء متصل كقرينة المجاز، بل يحملون اللفظ على الحقيقة.

[2] أي: منشأ اللزوم هو احتمال أن المخصص المتصل كان موجوداً، ولكن العقلاء لا يهتمون بهذا الاحتمال، فلذا لا يفحصون عن المتصل مطلقاً.

[3] أي: حال المخصص المتصل.

[4] أي: باحتمال قرينة المجاز.

[5] أي: عن القرينة للمجاز، وقوله: «ولو قبل...» بيان لقوله: (مطلقاً).

فرق الفحص في الأصول اللفظية والأصول العملية

اشارة

[6] لبيان الفرق بين الفحص هنا أعني أصالة العموم - وهي من الأصول اللفظية - وبين الفحص في الأصول العملية.

وحاصل الفرق: إن الفحص هنا - وفي سائر الأصول اللفظية - عما يزاحم الحجية، فالعام حجة في أفراده لكن يلزم الفحص عن الخاص الذي يزاحم حجية العام، وبعبارة أخرى: الفحص إنما هو عن المانع عن الحجية بعد ثبوت المقتضي لها.

ص: 76

لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا[1] وبينه في الأصول العملية، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة[2]، بخلافه هناك، فإنه بدونه[3] لا حجة، ضرورة[4] أن العقل بدونه[5] يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة[6]، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها[7] من غير برهان.

والنقل[8]

-----------------------------------------------------------------

وأما في الأصول العملية، فإنه قبل الفحص لا حجية أصلاً، بل الفحص من شرائط الحجيّة، أي: يكون الفحص محققاً لموضوع تلك الأصول، مثلاً: «عدم البيان» أخذ في موضوع البراءة العقلية، وهو متوقف على الفحص، فمع عدم الفحص لا موضوع لها.

[1] أي: في بحث الفحص عن المخصِّص، «بينه» أي: بين الفحص.

[2] أي: يكون مانعاً مع ثبوت المقتضي.

[3] أي: فإن الشأن بدون الفحص.

[4] دليل عدم وجود المقتضي قبل الفحص في الأصول العملية.

[5] أي: بدون الفحص، أي: يحكم العقل - أو يكشف - عن استحقاق العقاب لمن لم يفحص وصادف مخالفته للواقع، فلا مورد لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فيمن لم يفحص، حيث إن موضوع قبح العقاب هو (عدم البيان)، ولا يتحقق عدم البيان إلاّ بعد الفحص، وعدم العثور على الحكم.

[6] أي: مخالفة الحكم الواقعي الذي كان سيعثر عليه لو فحص عنه، وقيد (على المخالفة) لإخراج التجري، وهو في ما لو لم يفحص واتفق عدم وجود حكم، فلا مخالفة للحكم الواقعي، ولكنه تجرى بعدم الفحص.

[7] أي: فلا يكون المؤاخذة على المخالفة.

إشكال وجواب

[8] حاصل الإشكال هو: عدم الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية

ص: 77

وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما[1] مطلقاً[2]، إلاّ[3] أن الإجماع بقسميه[4] على تقييده به[5]، فافهم[6].

فصل: هل الخطابات الشفاهية[7]

-----------------------------------------------------------------

الشرعية؛ لأن أدلتها نقلية، وهي الآيات والأخبار، وهذه الأدلة مطلقة - تشمل قبل الفحص أيضاً كشمولها لما بعده - فالمقتضي للحجية قبل الفحص موجود ولكن منع عنها مانع، كالأصول اللفظية، فلا فرق.

[1] أي: في مورد البراءة كالشبهات البدوية، ومورد الاستصحاب كما لو كان يقين سابق بالحكم أو الموضوع. والظاهر عدم الحاجة إلى هذا القيد.

[2] أي: حتى قبل الفحص.

[3] دفع هذا الإشكال، وحاصله: إنه لا يمكن التمسك بهذا الإطلاق لقيام الدليل على تقييد هذا الإطلاق، أي: إن الحجية مقيدة بعدم الفحص.

[4] المنقول والمحصَّل.

[5] أي: على تقييد النقل بالفحص.

[6] لعله إشارة إلى أن الإجماع مانع عن الحجية لا أنه لبيان عدم المقتضي للبراءة أو الاستصحاب، حال كل الأدلة التي تقيد الإطلاقات أو تخصص العمومات، فإن المتبادر منها هو المانعية لا عدم وجود المقتضي، فالنتيجة أن الفحص - سواء في الأصول اللفظية أم الأصول العملية - إنّما هو للبحث عن المانع. نعم، في البراءة العقلية يصح هذا الفرق؛ لوضوح أن (عدم البيان) موضوع لها.

فصل عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

اشارة

[7] سواء كانت بأدوات الخطاب مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1)، أم كان بتوجيه

ص: 78


1- سورة البقرة، الآية: 104.

مثل (يا أيها المؤمنون)[1] تختص بالحاضر مجلس التخاطب، أو تعم غيره من الغائبين بل المعدومين[2]؟ فيه خلاف[3].

ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلاً للنقض والإبرام[4] بين الأعلام.

-----------------------------------------------------------------

الكلام إلى المخاطب من غير أدوات الخطاب مثل: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1).

وإنّما قال: «الخطابات الشفاهية» لإخراج الخطابات العامة التي يصرح فيها بعموم الكلام للغائبين والمعدومين، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله)(2).

[1] لم يرد هذا النص في القرآن، بل فيه: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}(3).

[2] من الذين سيولدون بعد صدور الخطابات.

ولا يخفى ارتباط هذا الفصل ببحث العام والخاص؛ لأن الكلام في عموم الخطاب أو خصوصه.

[3] فمنهم من قال: بعدم شموله للغائبين والمعدومين مطلقاً، ومنهم من قال: بشمولها لهم مجازاً، وقيل: بالشمول بالحقيقة اللغوية، وقيل: بالحقيقة الشرعية، وغير ذلك.

تحرير محل البحث

اشارة

[4] أي: لابد من تحرير محل النزاع حتى لا يكون النزاع لفظياً أحياناً. ويمكن التحرير بثلاث صور:

ص: 79


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 46.
3- سورة النور، الآية: 31.

فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف[1] المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين كما صح تعلقه بالموجودين[2] أم لا[3]؟ أو في[4] صحة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب[5] أو بنفس توجيه الكلام إليهم[6]

-----------------------------------------------------------------

الصورة الأولى: هل يمكن تكليف المعدوم أم لا؟ وهنا يلحق الغائب بالموجود؛ لعدم الإشكال في إمكان تكليفه، وهذا بحث عقلي؛ لأنه بحث عن الإمكان وعدمه. ولا يخفى أن هذه الصورة وإن أمكن البحث فيها لكن ليست هي محل نزاع الأعلام.

الصورة الثانية: هل يمكن توجيه الخطاب إلى المعدوم والغائب أم لا يمكن؟ وهذا أيضاً بحث عقلي، وهنا يلحق الغائب بالمعدوم.

الصورة الثالثة: هل أنّ مدخول أدوات الخطاب وضع لخصوص المشافَه - أي: الحاضر الملتفت - أم وضع للأعم؟ وهذا بحث لفظي، وهنا يلحق الغائب بالمعدوم، بل يلحق الحاضر غير الملتفت بالمعدوم أيضاً.

[1] هذه هي الصورة الأولى.

[2] سواء كانوا حاضرين أم غائبين؛ لأنه يصح تكليف الغائب بلا إشكال.

[3] أي: أم لا يصح تعلقه بالمعدومين.

[4] هذه هي الصورة الثانية. «معهم» أي: مع المعدومين.

[5] كأدوات النداء، وضمائر المخاطب كقوله: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ}(1).

[6] أي: إلى الغائبين والمعدومين، من دون استعمال أدوات الخطاب، سواء كان من التكاليف، كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(2)، أو من غيرها، كما لو قال مخاطباً زيداً: (في ذمتي كذا لعمرو) أو (جاء زيد وذهب عمرو).

ص: 80


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.

وعدم صحتها[1]، أو في[2] عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما[3] بقرينة تلك الأداة[4].

ولا يخفى: أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقلياً[5]، وعلى الوجه الأخير لغوياً[6].

إذا عرفت هذا، فلا ريب[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم صحة المخاطبة، وهذا عطف على قوله: (صحة المخاطبة معهم).

[2] هذه هي الصورة الثالثة من تحرير محل النزاع.

والحاصل: إنه النزاع في عموم أو عدم عموم مدخول الأدوات، فمثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ}(1) هل (الناس) عام فيشمل الحاضرين والغائبين والمعدومين أو ليس بعام؟

[3] أي: عدم عموم الألفاظ للغائبين والمعدومين، وقوله: «عدم» معطوف على قوله: (عموم الألفاظ... الخ).

[4] وجه لعدم العموم، فإن مثل الناس لا يكون عاماً، وإنّما ينحصر بالحاضرين، وقرينة هذا الحصر هي أداة الخطاب.

[5] لأنه بحث عن الإمكان وعدمه، وهو بحث عقلي.

[6] لأنه نزاع في معنى تلك الألفاظ، وهو يرتبط باللغة، والأولى تبديل (لغوياً) إلى (لفظياً)، لأن المعاني اللغوية لتلك الكلمات - مثل: الناس - معلومة، وإنما الكلام في المعاني المرادة بالإرادة الجدية.

تحقيق الحال في الصور الثلاث
تحقيق الحال في الصورة الأولى

[7] إن التكليف له مراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعلية، والتنجز.

فلا مانع من إنشاء تكليف يعم المعدوم والغائب والحاضر، فيكون إنشائياً بالنسبة

ص: 81


1- سورة البقرة، الآية: 21.

في عدم صحة[1] تكليف المعدوم عقلاً[2]، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً[3]، ضرورة أنه بهذا المعنى[4] يستلزم الطلب منه[5] حقيقةً، ولا يكاد يكون الطلب كذلك[6] إلاّ من الموجود ضرورةً[7].

نعم، هو[8] بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه أصلاً، فإن الإنشاء خفيف المؤونة[9]،

-----------------------------------------------------------------

إلى المعدوم، وفعلياً بالنسبة إلى الغائب بمعنى أنه يتنجز متى وصله الخطاب، ومنجزاً بالنسبة إلى الحاضر الملتفت.

[1] أي: عدم إمكان هذا التكليف، وليس المراد من عدم الصحة: اللغوية - لما سيأتي بعد قليل - .

[2] لأن البعث والزجر إنما هما لإيجاد الداعي في المكلف، ولا يمكن إيجاد الداعي في المعدوم، ولا يمكن البعث والزجر الحقيقيان مع التفات المولى؛ لعدم وجود من يريد تكليفه.

[3] أي: البعث والزجر الواصلان إلى مرتبة الفعلية.

[4] أي: التكليف بمعنى البعث والزجر فعلاً، وبعبارة أخرى: التكليف الفعلي.

[5] أي: من المكلف.

[6] أي: حقيقة، فلا يعقل الطلب الحقيقي من المعدوم.

[7] أي: هذا من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى إقامة برهان.

[8] أي: التكليف إذا كان في مرحلة الإنشاء، فإنه يصح تعلقه بالمعدوم، كما في ضرب القوانين عند العقلاء، حيث إن القانون يشمل المعدومين إنشاءً، بمعنى أنه متى وجدوا وتحققت فيهم شرائط التكليف تنجز عليهم ذلك القانون.

[9] لأن الإنشاء هو إيجاد الطلب باللفظ، ويكفي في صحته أن يتعلق به غرض عقلائي.

ص: 82

فالحكيم[1] - تبارك وتعالى - ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة[2] طلب شيء قانوناً[3] من الموجود[4] والمعدوم حين الخطاب[5]، ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر[6]، فتدبّر[7].

ونظيره[8]

-----------------------------------------------------------------

وإنشاء الخطاب - ليشمل المعدومين - فيه غرض عقلائي، لكي لا يحتاج المولى إلى إنشاءٍ خاص لكل مكلّف على حده.

[1] بيان لعدم لغوية إنشاء الطلب ليشمل المعدومين.

[2] أي: المصلحة في ذلك الإنشاء، سواء كان سبب الإنشاء وجود الملاك في المتعلق - من المصلحة أو المفسدة - أم كان السبب هو المصلحة في نفس الإنشاء، كالأوامر الامتحانية.

[3] «طلب» مفعول قوله: (ينشئ)، و«قانوناً» مفعول لأجله، وقوله: «من الموجود... الخ» متعلق ب- (طلب) فالمعنى: إنّ الحكيم لأجل المصلحة يُنشِئُ طلباً من الموجود والمعدوم لأجل ضرب قانون عام.

[4] سواء كان حاضراً ملتفتاً، أم حاضراً غير ملتفت، أم كان غائباً.

[5] ظرف «للمعدوم» أي: المعدوم حين الخطاب.

[6] لعدم المصلحة في ذلك.

[7] لعله لدفع توهم أن قاعدة الاشتراك في التكليف تُغني عن إنشاء جديد؛ وذلك لأن معنى الاشتراك هو إنشاء الحكم بالنسبة إلى المعدومين متى ما وُجدوا، فرجع الاحتياج إلى إنشاء لكل فرد فرد، فتأمل.

[8] أي: نظير الطلب الإنشائي من الموجود والمعدوم ما إذا كان إنشاء من غير طلب، كالوقف على الأجيال، فإن الجيل الحالي يتملك العين فعلاً، وأما الأجيال اللاحقة فإنها تتملك العين متى ما وُجدت، لا بالإرث من الجيل السابق، بل بنفس إنشاء الواقف.

ص: 83

من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون[1]، فإن المعدوم منهم[2] يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده[3] بإنشائه[4]، ويتلقى لها[5] من الواقف بعقده، فيؤثر[6] في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلاً إلاّ استعدادها[7] لأن تصير ملكاً له بعد وجوده.

هذا[8] إذا أنشئ الطلب مطلقاً[9]. وأما إذا أنشئ[10] مقيداً بوجود المكلف

-----------------------------------------------------------------

وفائدة التنظير هو رفع الاستيحاش من حكم من الأحكام، وأنه ليس شيئاً استثنائياً، بل له نظائر.

[1] أي: الأجيال الحالية واللاحقة.

[2] حين إنشاء الوقف.

[3] ظرف لقوله: (يصير مالكاً) أي: متى ما وجد صار ضمن المالكين.

[4] أي: ملكيته يتلقاها من الواقف، فبسبب إنشاء الواقف صار مالكاً، لا بسبب آخر كالإرث مثلاً.

[5] أي: للعين. «بعقده» أي: بنفس إنشاء الواقف، ولا يخفى أن مراد المصنف العقد بالمعنى الأعم؛ لأن الوقف إيقاع.

[6] أي: عقد الوقف؛ لأنه كان إنشاء وتحققت شرائط الملكية في الموجودين، فيصير فعلياً بالنسبة إليهم، وأما المعدومون فلم تتحقق الشرائط، فلا فعلية بالنسبة إليهم، بل يبقى إنشاء إلى حين تحقق الشرائط.

[7] أي: قابلية الملكية.

[8] أي: كون الإنشاء شاملاً للمعدومين والغائبين والحاضرين.

[9] من غير تقييد بوجود المكلف، فحينئذٍ نقول: إنه بالنسبة إلى الحاضر الملتفت منجّز، وإلى الغائب فعلي، وإلى المعدوم شأني.

[10] أي: أنشأ الطلب.

ص: 84

ووجدانه الشرائط[1] فإمكانه[2] بمكان من الإمكان[3].

وكذلك[4] لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقة[5]، وعدم إمكانه، ضرورة[6] عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقةً إلاّ إذا كان موجوداً[7] وكان بحيث[8] يتوجه إلى الكلام، ويلتفت إليه.

ومنه[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: وجدان المكلّف سائر الشرائط غير أصل الوجود.

[2] أي: هذا النوع من الطلب؛ لأنه طلب مشروط، ولا ريب في صحة الطلب المشروط.

[3] أي: بمكان من الوضوح.

تحقيق الحال في الصورة الثانية

[4] أي: من عدم صحة تكليف المعدوم اتضح عدم صحة خطاب المعدوم؛ لأن الخطاب الحقيقي هو: (توجيه الكلام إلى الغير بغرض إفهامه)، وهذا يتحقق بالنسبة إلى الحاضر الملتفت.

نعم، يصح خطاب غيره مجازاً - سواء كان غير ملتفت أم معدوماً أم غائباً، بل حتى لو كان جماداً - كقول أحدنا للجدار: (ما أجملك) فإنه خطاب مجازي وبالعناية.

[5] متعلق ب- (خطاب) أي: الخطاب الحقيقي لا يصح للغائب والمعدوم، بل لا يمكن هذا الخطاب الحقيقي.

[6] دليل لعدم إمكان الخطاب الحقيقي للمعدوم.

[7] هذا القيد لإخراج المعدوم.

[8] هذا القيد لإخراج الغائب؛ بل الحاضر غير الملتفت.

تحقيق الحال في الصورة الثالثة

[9] أي: من بيان الحال في الصورة الثانية، وأن الخطاب الحقيقي إنما يتوجه

ص: 85

قد انقدح: أن ما وضع للخطاب - مثل أدوات النداء[1] - لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي[2] لأوجب استعماله فيه[3] تخصيص ما يقع في تلوه[4] بالحاضرين، كما أن قضية[5] إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره.

-----------------------------------------------------------------

للحاضر الملتفت انقدح حكم الصورة الثالثة، وهي في عموم أو عدم عموم مدخول الأدوات. ولا يخفى أن عموم المدخول أو عدمه مسبب عن عموم أو عدم عموم الأداة نفسها، فإن كانت الأداة وضعت للعموم فمدخولها يكون عاماً، وإلاّ فلا.

[1] أي: هنالك احتمالان في وضع أدوات الخطاب، وهما:

الأول: إنها وضعت لتوجيه الكلام للمخاطب بغرض إفهامه، وحينئذٍ فمدخول الأدوات يكون خاصاً بهذا المخاطب أيضاً.

الثاني: إنها وضعت لإيقاع الخطاب، سواء كان هنالك مخاطب أم لم يكن، فقد يكون الداعي هو إفهام المخاطب، وقد يكون الداعي شيئاً آخر، كإبراز التحسر أو الشوق أو نحو ذلك، والداعي لا دخل له بالمعنى، وحينئذٍ تكون الأدوات عامة، ومدخولها أيضاً يكون عاماً، وهذا هو مختار المصنف.

[2] الذي كان توجيه الخطاب للمخاطب بغرض إفهامه، وهذا هو الاحتمال الأول.

[3] أي: استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي.

[4] أي: أوجب تخصيص المدخول - مثل: الناس - بخصوص الحاضرين.

[5] أي: إن مقتضى إرادة العموم من المدخول - بحيث يشمل غير الحاضرين - هو استعمال أداة الخطاب في غير ما وضع له، أي: في غير الخطاب الحقيقي فيكون مجازاً.

والحاصل: إن الأمر في مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ}(1) دائر بين شيئين: إما حمل (يا) على معناها الحقيقي، وتخصيص (الناس) بالحاضرين، وإما حمل (يا) على المجاز وإبقاء (الناس) على عمومه.

ص: 86


1- سورة البقرة، الآية: 21.

لكن الظاهر[1] أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعاً لذلك[2]، بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي[3]. فالمتكلم ربما يوقع الخطاب[4] بها تحسراً وتأسفاً وحزناً[5]، مثل (يا كوكباً ما كان أقصر عمره)[6]، أو شوقاً[7] ونحو ذلك[8]، كما يوقعه[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا الاحتمال الثاني، وهو مختار المصنف، وحاصله: إن أدوات الخطاب وضعت لإيجاد الخطاب مع قطع النظر عن وجود مخاطب ملتفت، وحينئذٍ قد يكون الداعي إفهام المخاطب، وقد يكون أمراً آخر. والدليل على هذا الوجه: عدم ملاحظة المجازية في ما لو استعمل لا بداعي إفهام المخاطب.

[2] أي: للخطاب الحقيقي الذي يراد منه إفهام المخاطب.

[3] أي: إيجاد الخطاب، والدواعي لا دخل لها في المعنى الحقيقي الموضوع له.

[4] أي: الداعي للخطاب قد تكون هذه الأمور مما لا ربط له بالمعنى الحقيقي.

[5] (الحسرة) الحزن على فوت نفع، و(الأسف) طول الحزن، و(الحزن) أعم من الحسرة والأسف.

[6] فهنا يخاطب الشاعر ولده الميت مع علمه بعدم توجه الخطاب إليه، وغرضه هو إبراز التحسر على فقدانه.

[7] كقوله:

يا

آل بيت رسول الله حبكم

فرض

من الله في القرآن أنزله

كفاكم

من عظيم القدر أنكم

من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له(1)

[8] كالاستغاثة، مثل قول الأعمى: (يا رجلاً خذ بيدي).

[9] أي: كما قد يكون الداعي لاستعمال أدوات الخطاب هو الخطاب الحقيقي، فالتحسر والشوق والخطاب الحقيقي كلها دواعٍ، ولا دخل لها بالمعنى الذي وضعت له أدوات الخطاب؛ وذلك المعنى هو إنشاء الخطاب.

ص: 87


1- المراجعات: 85؛ الغدير 2: 303؛ نظم درر السمطين: 18.

مخاطباً لمن يناديه حقيقةً، فلا يوجب[1] استعماله في معناه[2] الحقيقي حينئذٍ التخصيص[3] بمن يصح مخاطبته.

نعم[4]، لا يبعد دعوى الظهور انصرافاً في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفريعي على قوله: (لكن الظاهر أن... الخ).

[2] أي: استعمال ما وضع للخطاب - كأدوات النداء - في معناه الحقيقي وهو إنشاء الخطاب، «حينئذٍ» أي: حين القول بعدم الوضع للخطاب الحقيقي.

[3] مفعول (لا يوجب)، أي: استعمال هذه الأدوات في إنشاء الخطاب لا يوجب كون المدخول خاصاً بالحاضرين، فلا يستلزم على هذا القول - المختار - مجاز أصلاً، عكس الاحتمال الأول الذي كان يستلزم إما المجاز في الأداة أو تخصيص المدخول.

[4] حاصله: إن أدوات الخطاب وإن كانت عامة لكنها تنصرف إلى بعض ما وضعت له، وهو كون الخطاب بداعي توجيه الخطاب وإفهام المخاطب، ولعل منشأ هذا الانصراف هو كثرة الاستعمال في هذا الداعي.

[5] أي: الوضع للإيقاع بأي داع كان، ولكن ينصرف إلى بعض الأفراد والمصاديق.

والحاصل: إنه قد مرّ سابقاً في بحث الأوامر أن حروف الاستفهام وضعت لإيجاد طلب الفهم، سواء كان الداعي هو طلب الفهم حقيقة أم كان للإقرار أو الإنكار أو نحوها من الدواعي.

نعم، تنصرف أداة الاستفهام إلى طلب الفهم حقيقة إذا لم يكن مانع من هذا الانصراف. وكذلك أدوات الترجي مثل: (لعل)، والتمني مثل: (ليت) وضعت لإيقاع وإيجاد التمني والترجي، سواء كان الداعي الرجاء الحقيقي والتمني الحقيقي، أم كان شيئاً آخر، مثل: (لعل) الواردة في القرآن الكريم حيث لا يعقل الرجاء الحقيقي في الله تعالى؛ لأنه مستلزم للجهل، بل هي لإيقاع الرجاء بداعي

ص: 88

في حروف الاستفهام والترجي والتمني[1] وغيرها[2] على ما حققناه في بعض المباحث السابقة من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواعٍ مختلفة[3] مع ظهورها في الواقعي منها[4] انصرافاً[5]، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه. كما يمكن دعوى وجوده[6] غالباً في كلام الشارع، ضرورة[7] وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) و(يا أيها المؤمنون)[8] بمن حضر مجلس الخطاب بلا

-----------------------------------------------------------------

التحريض والتشويق ونحو ذلك.

[1] «الترجي» لما يؤمل وقوعه في المستقبل، و«التمني» لما يمتنع وقوعه في المستقبل مثل: (ليت الشباب يعود يوماً).

[2] كالعَرْض مثل: (ألا تنزل بنا).

[3] أي: وضعت لإيقاع الاستفهام والتمني والترجي وغيرها بأي داع كان، فلا فرق في الدواعي.

[4] أي: ظهور حروف الاستفهام والترجي والتمني ونحوها في الواقعي من الاستفهام... الخ، أي: في طلب الفهم والرجاء الحقيقي والتمني الحقيقي... الخ.

[5] أي: منشأ هذا الظهور هو الانصراف، لا الوضع، «عنه» عن الانصراف.

[6] أي: يمكن ادعاء وجود المانع عن الانصراف في كلام الشارع، حيث نعلم باشتراك التكليف، فلا معنى لحمل الألفاظ على خصوص الحاضرين، ثم التعميم لغيرهم بأدلة أخرى. والحاصل: إن الخطابات القرآنية لا تحمل على خصوص المشافهين؛ وذلك لعدم وضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي، ولا يوجد انصراف إلى خصوص الحاضرين.

[7] دليل وجود المانع عن الانصراف إلى خصوص الحاضرين.

[8] في قوله تعالى: {تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}(2)، وقد مرّ أن هذه الجملة

ص: 89


1- سورة النساء، الآية: 1؛ سورة الحج، الآية: 1؛ سورة لقمان، الآية: 33.
2- سورة النور، الآية: 31.

شبهة ولا ارتياب.

ويشهد لما ذكرنا[1] صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم[2] من العام الواقع تلوها بلا عناية[3] ولا للتنزيل والعلاقة رعاية[4].

وتوهم[5] كونه[6] ارتكازياً، يدفعه[7]

-----------------------------------------------------------------

(يا أيها المؤمنون) لا توجد في القرآن الكريم.

[1] دليل لأصل المطلب، أي: يشهد لوضع أدوات الخطاب للإيقاعي، لا لتوجيه الخطاب للمخاطب.

[2] أي: للغائبين والمعدومين.

[3] أي: من غير أن يكون مجازاً؛ لأن المجاز يحتاج إلى عناية زائدة.

[4] أي: من غير تنزيل المعدوم أو الغائب منزلة الحاضر، فلا توجد ملاحظة علاقات المجاز، فقوله: «و لا للتنزيل... الخ» عطف تفسيري لقوله: (عناية).

توهم وجوابه

[5] إشكال على هذه الشهادة، وحاصلها: إن العلاقة المجازية موجودة - وهي تنزيل المعدوم والغائب منزلة الحاضر - ولعله المجاز بالأوْل، أي: سيؤول الغياب إلى الحضور والعدم إلى الوجود، ولكن هذه العلاقة ارتكازية فلا يلتفت إليها، كسائر الأمور الارتكازية التي يأتي بها الإنسان لا شعورياً من غير التفات.

[6] أي: كون التنزيل.

[7] حاصل الجواب: إن الأمور الارتكازية تتضح بالالتفات إليها والتفتيش عن حالها.

وهنا في أدوات الخطاب لا نرى أثراً للتنزيل حتى بعد الالتفات والتفتيش، فمثل خطاب: (أيها المؤمنون) لا نرى تنزيلاً في شموله لنا ولسائر المعدومين وقت نزول الآية المباركة.

ص: 90

عدم العلم به[1] مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله، مع حصوله بذلك[2] لو كان مرتكزا، وإلاّ[3] فمن أين يعلم بثبوته كذلك[4]؛ كما هو واضح.

وإن أبيت[5] إلاّ عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة[6] كغيرها[7] بالمشافهين[8] في ما لم يكن هناك قرينة على التعميم[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم العلم بالتنزيل حتى مع الالتفات إلى التنزيل والتفتيش عن حال ذلك التنزيل.

[2] أي: حصول العلم بالتنزيل عبر التفتيش والالتفات.

[3] أي: إن لم يحصل (العلم بالتنزيل) بالالتفات والتفتيش.

[4] أي: بثبوت التنزيل ارتكازاً، حيث إن طريق معرفة الارتكاز هو التفتيش، وإن لم نجد شيئاً بالتفتيش فادعاء الارتكاز يكون قولاً بلا دليل.

[5] حاصله: إنه إذا لم تقبل قولنا: إنّ أدوات الخطاب وضعت للخطاب الإيقاعي، وقلتَ: إنها موضوعة للخطاب الحقيقي - الذي هو توجيه الكلام إلى المخاطب بقصد إفهامه - فحينئذٍ لابد من القول: إنّ خطابات الشارع كسائر الخطابات العرفية خاصة بالمشافهين، ولا تشمل غيرهم إلاّ إذا قامت قرينة على الاشتراك في التكليف.

[6] كما مرّ في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1) حيث لا توجد أداة للخطاب، ولكن وُجّه الكلام للمخاطبين.

[7] أي: كغير الخطابات الإلهية.

[8] متعلق بقوله: (اختصاص).

[9] كالاشتراك في التكليف المعلوم ضرورة من الدين.

ص: 91


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

وتوهم[1] صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين - فضلاً عن الغائبين - لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال، فاسد[2]، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب، وعدم[3] صحة المخاطبة معهما لقصورهما[4] لا يوجب نقصاً في ناحيته تعالى، كما لا يخفى[5].

-----------------------------------------------------------------

توهم وجوابه

[1] حاصله: إن دليل عدم إمكان شمول الخطاب لغير الموجودين لا يجري في خطاباته تعالى؛ وذلك لأنه تعالى محيط بالموجود والمعدوم، فلا فرق عنده بين الموجود والمعدوم، فيصح خطابه للمعدوم والغائب بنفس خطابه للموجود.

[2] حاصل الجواب: إن الإحاطة لا تصحح خطاب المعدوم؛ وذلك لقصور في المعدوم من أن يتوجه إليه الخطاب، لا لنقص فيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فكما مرّ، المعدوم ليست له صلاحية لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه، فكان قاصراً عن ذلك، فلا فرق حينئذٍ بين الخطابات القرآنية وغيرها.

[3] دفع دخل مقدر، وحاصل الكلام: إن عدم إمكان توجه الخطاب للمعدوم ليس لقصور في قدرة الله تعالى، بل لأجل القصور في المعدوم، فالنقص منه لا من الله تعالى.

[4] أي: المعدوم والغائب.

[5] ولا بأس بأن نشير مجملاً إلى بعض البحوث الاعتقادية في هذا الموضوع - وإن كان خارجاً عن محل البحث - ونوكل التفصيل إلى كتابنا (شرح أصول الكافي)(1)

أبواب التوحيد فنقول:

1- إن إحاطة الله تعالى ليست بمعنى اشتماله على الممكنات، بل بمعنى إحاطة علمه وقدرته بها، أي: هو عالم بها وقادر عليها؛ لأن غير هذا المعنى يستلزم الإحاطة المكانية، وهو تعالى منزه عن المكان.

ص: 92


1- شرح أصول الكافي 2: 439 فما بعد.

-----------------------------------------------------------------

2- توهم البعض أن علم الله تعالى حضوري - بمعنى حضور الأشياء عنده كعلم الإنسان بنفسه، ويقابله العلم الحصولي الذي هو انعكاس صورة الشيء في الذهن - ولازم هذا الكلام أن تكون الممكنات كلها موجودة عنده من الأزل وإلى الأبد، ولذا اضطروا إلى القول بقدم العالم، وإن ابتدعوا اصطلاح القدم الزماني، ومقصودهم أن العالم معلول له تعالى من الأزل وهو في الزمان، والله خارج عن الزمان، ومثلوا له بالخيط الطويل، أو بقطار الإبل الذي يمرّ أمام ثقب الغار، فمن في الغار يرى بعيراً واحداً، وبعد ذهابه يرى الآخر في حين أن من كان خارج الغار يرى كل القطار معاً.

فهم أرادوا تنزيه الله تعالى عن العلم الحصولي فوقعوا في ما هو أشد منه، وهو القول بقدم العالم، ووجود جميع الموجودات - الماضية والحالية والمستقبلية - في كل الأزمنة، وهو خلاف البديهة.

والصحيح أن علمه تعالى ليس بحصولي ولا حضوري، ولا يمكننا فهم كنه ذلك العلم؛ لأن العلم عين ذاته، فكما لا يمكن إحاطتنا بحقيقته تعالى كذلك لا يمكننا إدراك حقيقة صفاته الذاتية.

3- إن قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمحالات، لا لقصور في القدرة، بل لأجل عدم قابلية المحال، ويمثل له مثالاً عرفياً بأن الرامي يمكنه رمي الأثقال إلى مسافات بعيدة، لكن لا يمكنه رمي ريشة أو ورقة إلى تلك المسافات، لا لقصور في قوته، بل لعدم قابلية الريشة والورقة.

4- إن القول بعالم الذر - كما يظهر من الروايات - وإن جميع الناس خلقوا ذلك الوقت أو قبله، لا ينافي عدم صحة الخطاب لغير الموجودين منهم حين الخطاب؛ وذلك لعدم شعورهم حين الخطاب - حتى وإن كانوا موجودين في عالم آخر - .

ص: 93

كما[1] أن خطابه اللفظي[2] لكونه تدريجياً ومتصرم الوجود[3] كان قاصراً[4] عن أن يكون موجهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة.

هذا[5] لو قلنا بأن الخطاب بمثل {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(1) في الكتاب حقيقة إلى

-----------------------------------------------------------------

توهم آخر وجوابه

[1] رد لتوهم نقله المحقق القمي(2)،

وحاصل التوهم: قيل بشمول الخطابات المذكورة للمكلفين الموجودين وإن كانوا غائبين عن مجلس الوحي؛ لأن الخطاب عن الله تعالى، ولا يتفاوت بتفاوت الأمكنة.

والحاصل: إ ن الأمكنة متساوية بالنسبة إليه تعالى؛ لعدم كونه في المكان، وإحاطته تعالى بجميع الأمكنه على نحو سواء.

والجواب: هو أن الكلام مخلوق له تعالى - لأنه من صفات الفعل - وهو تدريجي الوجود، أي: توجد كلمة وتنعدم ثم توجد كلمة ثانية وهكذا، فلا يمكن أن يوجد هذا الكلام للغائب بنحو الخطاب الحقيقي.

[2] أما وجود القرآن في السماء الرابعة أو في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلا يجدي لهذا القائل؛ لأن الخطاب إنما هو بوجود القرآن اللفظي، وهذه الألفاظ هي التي خوطب بها الناس، لا تلك الحقيقة الموجودة في السماء أو في اللوح أو في الصدر الشريف.

[3] وهو ما يوجود منه جزء ثم ينعدم، ثم يوجد جزء آخر، وهكذا.

[4] أي: الخطاب اللفظي كان قاصراً؛ لأنه مخلوق متصرم الوجود، فيجري عليه أحكام الممكنات. وكان الأولى التعبير بطريقة أخرى؛ لأن هذا التعبير لا يليق بخطاباته.

[5] أي: بحث اختصاص الخطابات بالمشافهين أو عمومها لهم وللغائبين والمعدومين.

ص: 94


1- سورة النساء، الآية: 1.
2- قوانين الأصول 1: 230.

غير النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بلسانه[1].

وأما إذا قيل[2] بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة، وحياً أو إلهاماً[3]، فلا محيص[4] إلاّ[5] عن كون الأداة في مثله[6] للخطاب الإيقاعي[7] ولو مجازاً[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] لكونه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مبلغاً.

[2] كما يظهر من بعض الروايات كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إنّما يعرف القرآن من خوطب به)(1)

حيث دلت على أن المخاطب هو الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] الوحي والإلهام متقاربا المعنى. نعم، في أصل الوضع اللغوي يختلفان جزئياً، فالوحي للإشارة، والإلهام للإلقاء في الروع.

[4] حاصله: هو أن الكلام موجه إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فهو المخاطب بغرض إيصال الحكم إلى المكلفين.

[5] كلمة «إلاّ» لا معنى لها هنا؛ لأن المراد فلابد من كون الأداة للخطاب الإيقاعي.

[6] أي: مثل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ}(2).

[7] للعلم بعدم توجه الكلام للمخاطب الحقيقي وهو النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ لأن الغرض كان تبليغه للأحكام لا أنه المكلف بتلك الأحكام.

[8] أي: على قول من يذهب إلى أن أدوات الخطاب وضعت للخطاب الحقيقي، وهنا لا محيص عن رفع اليد عن هذا المعنى الحقيقي والقول بالمجازية.

ولكن لا يخفى أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أيضاً مكلّف بجميع التكاليف - ولو من باب جريان السنة - وحينئذٍ لا إشكال في القول بأن الخطابات القرآنية وُجِّهت إليه حقيقة بغرض إفهامه، فلا داعي للمجازية، فتأمل.

ص: 95


1- الكافي 8: 311.
2- سورة النساء، الآية: 1.

وعليه[1] لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين، بل يعم المعدومين، فضلاً عن الغائبين.

فصل: ربما قيل[2]: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان:

الأولى[3]: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

وفيه[4]: إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حقق

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على هذا القول وهو أن المخاطب الحقيقي هو النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فلا فرق بين الحاضرين والغائبين والمعدومين؛ لعدم توجه الخطاب إليهم أصلاً، وأما كونهم مكلفين بالحكم الوارد في الخطاب فذلك بالقرينة، وجريان هذه القرينة على المعدوم كجريانها على الموجود، بلا فرق أصلاً.

فصل ثمرة بحث عموم الخطاب للمشافهين

اشارة

[2] والقائل هو المحقق القمي في القوانين(1).

الثمرة الأولى

[3] أما على مبنى عدم عموم الخطاب للمعدومين: فالصغرى: المشافهون هم المقصودون بالإفهام، والكبرى: والمقصودون بالإفهام تكون الظواهر حجة لهم دون غيرهم، والنتيجة: فالمشافهون تكون الظواهر حجة لهم لا غيرهم.

وأما على مبنى عموم الخطاب للمعدومين: فالصغرى هي: الموجودون والمعدومون هم المقصودون بالإفهام، والكبرى نفس الكبرى، فالنتيجة: حجية ظواهر الكتاب لهم جميعاً.

[4] إشكال على الكبرى، وحاصله: إن الظواهر حجة للجميع، سواء قصد إفهامهم أم لم يقصد، بل حتى لو قصد عدم الإفهام، وعلى هذا بناء العقلاء، فمن سمع كلاما ً

ص: 96


1- قوانين الأصول 1: 233.

عدم الاختصاص بهم؛ ولو سلم[1]، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك[2] ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك[3]، وإن لم يعمهم الخطاب[4]، كما يومئ إليه[5] غير واحد من الأخبار[6].

الثانية[7]:

-----------------------------------------------------------------

من وراء الجدار كان ظهوره حجة له، وكذا من سمع إقراراً يمكنه الشهادة في المحكمة، وإن كان المقرّ يتحاشى سماعه. وعليه، فسواء قلنا: إنّ الجميع مقصود بالإفهام أم خصوص المشافهين، فإن ظاهر الكتاب حجة لهم جميعاً، بلا فرق.

[1] إشكال على الصغرى، وحاصله: إن جميع الناس - من الموجودين والمعدومين - مقصودون بإفهامهم للظواهر القرآنية، وقد دلّ على ذلك الأخبار المتواترة. وعليه: فالظواهر القرآنية حجة للمعدومين وللموجودين، فانتفت هذه الثمرة - على المبنى الصحيح - .

ولا يخفى أن كلا الإشكالين مبنائي - كما سيومي إليه المصنف - .

[2] أي: بالإفهام من الظواهر القرآنية.

[3] أي: يكونون مقصودين بالإفهام.

[4] أي: حتى لو قلنا: إنّ الخطاب خاص بالحاضرين - كما مرّ تفصيله في الفصل السابق - لكن الجميع مقصود بالإفهام، فيكون من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة) حيث إنّ الخطاب موجه إلى شخص والمراد إفهام غيره، وهنا المراد إفهام الحاضرين وإفهام غيرهم من الغائبين والمعدومين.

[5] أي: إلى أن الناس كلهم - إلى يوم القيامة - مقصودون بالإفهام.

[6] كالأخبار الآمرة بالتمسك بالثقلين، والأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة - بل مطلق الأخبار - على الكتاب، وغيرها.

الثمرة الثانية

[7] حاصل الثمرة: إنه بعد أن وُجد المعدومون وبلغوا، فإذا تخالفوا مع

ص: 97

صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناءً على التعميم[1] لثبوت[2] الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متحداً مع المشافهين في الصنف[3]، وعدم صحته على عدمه[4]، لعدم كونها حينئذٍ[5] متكفلة لأحكام غير المشافهين، فلابد من إثبات اتحاده معهم[6] في الصنف حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام، وحيث لا دليل عليه حينئذٍ[7] إلاّ الإجماع[8]، ولا إجماع عليه إلاّ في ما

-----------------------------------------------------------------

الموجودين في خصوصية يحتمل دخلها في الحكم - كحضور المعصوم المحتمل كونه شرطاً في وجوب صلاة الجمعة - فإن قلنا: إنّ الخطابات عامة فيمكن للمعدومين التمسك بإطلاق الدليل لنفي دخل تلك الخصوصية.

أما لو قلنا: إنّ الخطابات خاصة بالمشافهين فلا يتمكن المعدومون من التمسك بالإطلاق؛ لأن الخطاب لم يكن موجهاً إليهم، ودليل الاشتراك في التكليف هو الإجماع، وهو دليل لبيّ يتمسك به بالمقدار المتيقن، وهو صورة عدم التخالف مع الموجودين في ما يحتمل دخله في الحكم.

[1] أي: تعميم الخطابات القرآنية للموجودين والمعدومين.

[2] علة صحة تمسك المعدومين بالإطلاقات. والأولى: التعبير ب- (لثبوت الخطاب) ونتيجة ثبوت الخطاب هو عدم فرق الموجودين والمعدومين حين الخطاب.

[3] إذ يمكن نفي كل خصوصية بالإطلاق، بأن يقال: إنّ المولى الحكيم الذي هو في مقام البيان عليه أن يُبيّن كل الخصوصيات المتعلقة بالحكم، وعدم بيانه دليل على عدم دخلها. والمراد من (الصنف) الخصوصيات التي تكتنف المكلفين.

[4] أي: عدم صحة التمسك بالإطلاقات بناء على عدم التعميم.

[5] أي: لعدم كون الإطلاقات حين اختصاص الخطاب بالمشافهين.

[6] أي: اتحاد المعدوم - حين الخطاب - مع المشافهين.

[7] أي: لا دليل على الاتحاد في الحكم حين عدم شمول الإطلاقات للمعدومين.

[8] أي: الإجماع على اشتراك المعدومين مع الموجودين في التكليف،بل هنالك

ص: 98

اتحد الصنف[1]، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك[2]: أنه يمكن إثبات الاتحاد، وعدم دخل ما كان البالغ الآن[3] فاقداً له[4] مما كان المشافهون واجدين له بإطلاق[5] الخطاب إليهم[6] من دون التقييد به[7].

-----------------------------------------------------------------

الضرورة - وهي أيضاً دليل لبي - «عليه» أي: على الاشتراك.

[1] لأنه القدر المتيقن.

[2] شروع في الإشكال على هذه الثمرة، وحاصله: إن المشافهين يمكنهم التمسك بالإطلاق لدفع اشتراط أية خصوصية، وبحكم الاشتراك في التكليف نكتشف عدم اشتراط تلك الخصوصية في المعدومين، فهم وإن لم يمكنهم التمسك بالإطلاق مباشرة لكن حيث يجري الإطلاق في حق المشافهين وينتفي دخل الخصوصية لهم، كذلك ينتفي دخلها للمعدومين بحكم الاشتراك في التكليف.

وعليه، فسواء قلنا بعموم الخطاب أم بخصوصه، فإنه يصح التمسك بالإطلاق للموجودين وللمعدومين - بالطريقة المبيّنة - فلم تصح هذه الثمرة.

[3] الذي كان معدوماً حين الخطاب.

[4] كحضور المعصوم حين الخطاب بآية {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ}(1)، وضمير «له» يرجع إلى (ما) في قوله: (ما كان البالغ).

[5] متعلق بقوله: (إثبات الاتحاد)، أي: يمكن إثبات عدم الفرق بين الموجودين والمعدومين بإطلاق الخطاب للموجودين بضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف.

[6] أي: إلى المشافهين.

[7] الضمير راجع إلى (ما) في قوله: (ما كان البالغ)، والمعنى: من دون تقييد حكم المشافهين بتلك الخصوصية.

ص: 99


1- سورة الجمعة، الآية: 9.

وكونهم كذلك[1] لا يوجب[2] صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه[3] في ما يمكن أن يتطرق الفقدان، وإن صح[4] في ما لا يتطرق إليه ذلك.

-----------------------------------------------------------------

إشكال ودفعه

[1] أي: كون المشافهين واجدين للوصف، وهذا إشارة إلى إشكال حاصله: إن المشافهين لا يمكنهم التمسك بالإطلاق؛ وذلك لأنهم كانوا واجدين لما شك في تقييد الحكم به، ومع وجدانهم له لا حاجة إلى بيانه، فلا يكون الإطلاق دليلاً على عدم اشتراطه بالنسبة إليهم؛ إذ لعله شرط واقعاً لكن لم يُبيّنه الشارع؛ لعدم الحاجة إلى بيانه بعد وجدانهم له.

وبعبارة أخرى: إن اتصاف المشافهين بذلك الشيء يصلح لأن يكون قرينة على دخل ذلك الوصف في الحكم، والإطلاق لا ينعقد مع وجود ما يصلح للقرينية.

[2] دفع للإشكال، وحاصله: إن هذا الكلام يصح لو كان الوصف غير قابل للزوال عن المشافهين، كحضور المعصوم أو القرشية والنبطية ونحوها، فإنه حينئذٍ يصح اعتماد الشارع على وجدانهم لذلك الوصف وعدم ذكره - حتى لو كان شرطاً واقعاً - فلا ينعقد الإطلاق.

أما لو كان الوصف قابلاً للزوال عن المشافهين - ككونهم في مكان خاص أو زمان خاص - فلابد من بيانه إذا كان شرطاً للحكم، وعدم بيانه دليل على عدم اشتراطه، فيمكن للمشافهين التمسك بالإطلاق لنفي الاشتراط، فلا يشترط في المعدومين بقاعدة الاشتراك في التكليف، ولا يخفى أن عامة الأوصاف من هذا القبيل.

[3] أي: من الخطاب، «في ما» أي: في وصف يمكن أن يعرض عليه الزوال عن المشافهين.

[4] أي: صح الإطلاق مع إرادة المقيّد، «ذلك» أي: الفقدان.

ص: 100

وليس المراد[1] بالاتحاد في الصنف إلاّ الاتحاد في ما اعتبر[2] قيداً في الأحكام، لا الاتحاد في ما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام، وإلاّ[3] لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلاً عن المعدومين - حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك[4] إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين

-----------------------------------------------------------------

[1] الظاهر أن هذا من تتمة الجواب عن التوهم، وليس رداً لتوهم آخر، وحاصله: إن المعدومين كالمشافهين عادة في كل ما يحتمل أن يكون دخيلاً في الحكم، والصفات الثابتة التي لا يتطرق إليها الزوال الخاصة بالمشافهين قليلة جداً، وعليه فكما يتمسك المشافهون بالإطلاق كذلك المعدومون حين الخطاب، لقاعدة الاشتراك.

[2] أي: الاتحاد في الخصوصيات التي لها الدخل في الحكم، لا الاشتراك في كل خصوصية وإن لم تكن دخيلة فيه.

[3] أي: وإن لم يكن المراد ذلك، بل كان المعتبر هو الاتحاد في الصنف في كل الشروط والقيود.

إشكال آخر ودفعه

[4] قيل: (لا يبعد أن يكون ذلك دفعاً لما قد يتوهم من أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين، كي يرتفع به دخل ما شك في دخله، ويثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك، بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك، فيقول المصنف في دفعه: إن دليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص الحكم بالمشافهين، وفي تسريته إلى غيرهم إذا لم يكونوا واجدين لخصوصية نحتمل دخلها في الحكم، فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل تلك الخصوصية، وثبوت اتحاد غير المشافهين معهم في الصنف

ص: 101

في ما لم يكونوا[1] مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم[2] أيضاً. فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه[3] كان الحكم يعم غير المشافهين[4] ولو قيل باختصاص الخطابات بهم[5]، فتأمل جيداً.

فتلخص: أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلاّ على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه[6] مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام[7]، وقد حقق[8]

-----------------------------------------------------------------

بوسيلة الإطلاق لم يُجدِ دليل الاشتراك في التسرية منهم إلى غيرهم، ومع الإطلاق وثبوت الاتحاد في الصنف بوسيلته يعم الحكم بدليل الاشتراك لغير المشافهين مطلقاً - من الغائبين والمعدومين جميعاً - وإن لم يكونوا مخاطبين بالخطابات الشفاهية أصلاً)(1)،

انتهى.

[1] أي: لم يكن المشافهون.

[2] أي: في شمول التكاليف للمشافهين، فلو كان لهم حين الخطاب عنوان واحتملنا دخل ذلك العنوان تمسكنا بالإطلاق لدفع اشتراطه، ثم قاعدة الاشتراك في التكليف تدل على عدم اشتراطه في المعدومين حين الخطاب.

[3] أي: مع الإطلاق.

[4] بقاعدة الاشتراك في التكاليف.

[5] إذن فالثمرة الثانية غير صحيحة؛ إذ سواء قلنا: إن الخطاب يشمل غير المشافهين أم قلنا باختصاص الخطاب بهم، فإن كليهما يتمسك بالإطلاق، فالمشافه مباشرة، وغير المشافه عبر اشتراكه مع المشافه.

[6] وهي الكبرى في الثمرة الأولى - كما مرّ - .

[7] وهي الصغرى في الثمرة الأولى - كما مرّ أيضاً في أول الفصل - .

[8] بيان الإشكال على الكبرى، أي: عدم اختصاص الحجية بمن قصد إفهامه.

ص: 102


1- عناية الأصول 2: 308.

عدم الاختصاص به في غير المقام[1]، وأشير[2] إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام[3].

فصل: هل تعقب العام بضمير[4] يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به[5] أو لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

وليكن محل الخلاف[6] ما إذا وقعا في كلامين أو في كلامٍ واحد مع استقلال العام

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في غير هذا المقام، في بحث حجية الظواهر.

[2] بيان الإشكال على الصغرى، أي: منع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام.

[3] أي: في هذا المقام، حيث أشير إليه في أول الفصل، ولا يخفى أن المصنف لم يتعرض للثمرة الثانية في هذا التلخيص.

فصل الضمير الراجع إلى بعض أفراد العام

[4] أي: أن يأتي الضمير عقب العام - أي: بعده - «أفراده» أي: بعض أفراد العام.

[5] أي: هل يوجب هذا التعقب تخصيص العام بسبب ذلك الضمير، بمعنى كون الضمير سبباً لتخصيص العام؟

[6] هذا تحرير محل النزاع، وحاصله: إن الصور المتصورة ثلاث، واحدة منها خارجة عن محل النزاع، واثنتان داخلتان فيه.

أما الخارجة فهي إذا كان الضمير قبل إكمال الجملة التي فيها العام، بحيث لو لا الإتيان بالكلمة التي فيها الضمير لكان الكلام ناقصاً، بمعنى أن يكون الحكم في العام نفس الحكم في الضمير، مثلاً: (المطلقات أزواجهن أحق بردهن) فإن كلمة

ص: 103

بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1). وأما ما إذا كان مثل[1] (والمطلقات أزواجهن أحق بردهن) فلا شبهة في تخصيصه به[2].

والتحقيق[3] أن يقال: إنه حيث دار الأمر بين التصرف في العام بإرادة خصوص

-----------------------------------------------------------------

(أزواجهن) بدل عن المطلقات، فحكم الضمير نفس حكم العام وهو (المطلقات)، فهنا لا إشكال في أن الضمير يوجب تخصيص العام، فالمراد بالمطلقات هنا خصوص الرجعيات منهن.

وأما الصورتان الداخلتان في محل الكلام فهما:

1- إذا وقعا في كلامين لكنهما متصلين، كقوله تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ} إلى قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(2)، فهل أنّ ضمير بعولتهن الراجع إلى الرجعيات يوجب تخصيص المطلقات بالرجعيات أم لا؟

2- إذا وقعا في كلام واحد مع تمامية الجملة التي فيها العام، بمعنى استقلال حكم العام مثل: (أكرم العلماء وخُدّامهم) وعلمنا أن المراد (خدام العلماء العدول)، فهنا هل أنّ الضمير يوجب تخصيص العام أم لا؟

[1] إشارة إلى الصورة الخارجة عن محل البحث.

[2] أي: في تخصيص العام بالضمير.

[3] حاصل التحقيق: إنه لابد في هكذا كلام من التصرف إما في العام وإما في الضمير، أما التصرف في العام فهو بأن يُخصَّص. وأما التصرف في الضمير فهو بأحد نحوين:

1- بإرجاعه إلى بعض الاسم الظاهر، وهو خلاف وضع الضمير، حيث إنه وضع لكي يراد به نفس ما أريد من الاسم الظاهر، وهذا مجاز في الكلمة.

ص: 104


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة البقرة، الآية: 228.

ما أريد من الضمير الراجع إليه[1] أو التصرف في ناحية الضمير - إما بإرجاعه[2] إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه[3] مع التوسع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً[4] إلى الكل توسعاً[5] وتجوزاً - كانت[6] أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها[7]

-----------------------------------------------------------------

2- أن يكون تصرفاً في إسناد الضمير، أي: بأن يسند إلى الضمير حكم عام مع إرادة البعض واقعاً.

[1] ف- {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ} يتصرف فيها، بأن يقال: إنه يراد منها خصوص الرجعيات، والرجعيات هي ما أريد من الضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ}.

[2] أي: إرجاع الضمير إلى بعض الاسم الظاهر - وهو مرجع الضمير - وهذا مجاز في الكلمة، ويعبر عنه بالاستخدام، والاستخدام هو رجوع الضمير إلى غير الاسم الظاهر، أو إلى بعض ذلك الاسم الظاهر، مثل قوله:

إذا

نزل السماء بأرض قوم

رعيناه

وإن كانوا غضاباً(1)

فضمير (رعيناه) يرجع إلى البقل بعلاقة أن المطر سبب لإنبات البقل.

[3] أي: إلى تمام ما هو المراد من مرجعه، وهذا مجاز في الإسناد، وهو النحو الثاني من التصرف في الضمير، فيكون معنى {وَبُعُولَتُهُنَّ}: وبعولة جميع المطلقات، لكن الإرادة الجدية هي بعولة بعض المطلقات - أي: الرجعيات - .

[4] أي: حسب المراد بالإرادة الجدية.

[5] فاستعمل الضمير في الكل، لكن حسب الإرادة الاستعمالية، لا حسب الإرادة الجدية، فيكون مجازاً. و(التوسع) بمعنى السعة في استعمال الكلمات - ولو في غير معناها الحقيقي - ومثاله: (جمع الأمير الصاغة) حينما يراد جمع بعضهم.

[6] جزاء لقوله: (حيث دار الأمر).

[7] أي: سالمة عن أصالة الظهور في جانب الضمير، والمراد سالمة عن معارضتها.

ص: 105


1- الإيضاح في علوم البلاغة: 268؛ كتاب المطول: 426؛ مختصر المعاني: 272.

في جانب الضمير. وذلك[1] لأن المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد[2]، لا في تعيين كيفية الاستعمال وإنه[3] على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد مع القطع[4] بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضمير.

وبالجملة: أصالة الظهور إنما يكون حجة في ما إذا شك في ما أريد، لا في ما إذا شك في أنه كيف أريد، فافهم[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] دليل جريان أصالة الظهور في جانب العام وعدم جريانه في جانب الضمير، وحاصله: إن بناء العقلاء على التمسك بها حينما يشكون في المراد، مثلاً: سمعوا لفظة (أسد) ولم يعلموا هل أريد منها الحيوان المفترس أم الرجل الشجاع؟ فحينئذٍ يجرون أصالة الظهور، أما لو علموا بالمراد وشكوا في كيفية الاستعمال وأنه على نحو الحقيقة أو المجاز - مثلاً - فإنهم لا يجرون أصالة الظهور؛ وذلك لأن غرض العقلاء هو فهم المراد؛ لذا لهم أصول بنوا عليها للوصول إلى هذا الغرض، أما بعد فهم المراد فلا غرض لهم أصلاً في كيفيته؛ ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة؛ إذ بعد اتضاح أن اللفظ استعمل في معنى وفهم المراد منه لا يهمهم أنه على نحو الحقيقة أم المجاز.

وفي ما نحن فيه: المراد من العام - وهو المطلقات - غير معلوم، فلذا يجري فيه أصالة العموم، وأما الضمير فإن المراد منه معلوم - وهو المطلقات الرجعيّات - فلا يجري فيه أصل حتى يعارض أصالة العموم.

[2] حينما يحتملون معنيين أو معاني متعددة فيتمسكون بالظهور - ومنه أصالة العموم - .

[3] أي: وأن الاستعمال، والعطف تفسيري.

[4] من تتمة الكلام فالمعنى: لا في كيفية الاستعمال مع القطع بما يراد.

[5] لعله إشارة إلى عدم جريان أصالة العموم، حيث إن الكلام مكتنف بما يصلح أن يكون قرينة على الخصوص، فكما لا تجري أصالة الظهور في طرف

ص: 106

لكنه[1] إذا انعقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يُعَدّ ما اشتمل على الضمير[2] مما يكتنف به[3] عرفاً، وإلاّ[4] فيحكم عليه[5] بالإجمال، ويرجع[6] إلى ما يقتضيه الأصول[7]. إلاّ أن يقال[8] باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً[9] حتى في ما[10] إذا احتف

-----------------------------------------------------------------

الضمير، كذلك لا تجري في طرف العام، وشرح قوله: (فافهم) بقوله: (ولكنه إذا عقد... الخ).

[1] أي: ترجيح أصالة العموم.

[2] أي: اللفظ الذي اشتمل على الضمير كقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ}.

[3] أي: بالكلام، فيكون صالحاً للقرينية.

[4] أي: إذا عدّ ما اشتمل على الضمير مما يحيط بالكلام فيصلح أن يكون قرينة.

[5] أي: على العام، أي: في غير أفراد الخاص، فإن أفراد الخاص قدر متيقن، فقوله: (والمطلقات) يشمل الرجعيات قطعاً لكن شموله لغيرهن محل إشكال، فيكون (المطلقات) بالنسبة إليهن مجملاً.

[6] في غير موارد الضمير.

[7] فإن كانت حالة سابقة استصحبت، وإلاّ فإن كان أطراف العلم الإجمالي فالاحتياط، وإلاّ فالبراءة.

[8] يعنى كل ما مرّ بناء على حجية أصالة العموم من باب الظن النوعي.

وأما لو لم نقل بذلك، بل قلنا: إنّ العقلاء يجرون أصولهم حتى لو لم يكن ظن نوعي، بل يضربون قانوناً فيسيرون عليه - سواء كان ظهور أم لا - فهنا تجري أصالة الحقيقة بحمل العام على معناه.

[9] ليس المراد التعبد الشرعي، بل المقصود بأنه لا حاجة إلى الظهور النوعي، بل هو قانون عقلائي لازم الاتباع حتى لو لم يكن ظهور.

[10] أي: حتى لو لم يكن ظهور، ومعنى كلامه: حتى في المورد الذي لا يكون

ص: 107

بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي، كما عن بعض الفحول[1].

فصل: قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف[2] - مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق[3] -

-----------------------------------------------------------------

الكلام ظاهراً في المعنى الحقيقي للكلام؛ وذلك المورد هو احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

[1] لعله صاحب الفصول، لكن قيل: إنّه تنظَّر فيه.

فصل تخصيص العام بالمفهوم

[2] أي: المفهوم الذي يكون عكس المنطوق في الإيجاب والسلب، فهل يجوز أن يكون المفهوم مخصصاً للعام الذي في المنطوق أم لا؟ مثلاً: العام: (الماء كله طاهر)، والخاص: المفهوم في قوله: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء)(1)،

حيث إنّ مفهومه (الماء إذا لم يبلغ قدر كر نجسه شيء) فهل هذا المفهوم يخصص ذلك العام أم لا يخصصه؟

[3] أي: مفهوم الأولوية والفحوى؛ لأنه موافق للمنطوق في الإيجاب والسلب.

وفي الحقائق: (والوجه في هذا الاتفاق رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعموم، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة مع البناء على المنطوق؛ للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق، وإلاّ لم يكن مفهوم الموافقة، فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام، ولا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام. أما مفهوم المخالفة فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق، فيدور الأمر بين رفع اليد عنه ورفع اليد عن العموم)(2)،

انتهى.

ص: 108


1- الكافي 3: 2.
2- حقائق الأصول 1: 530.

على قولين. وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور[1].

وتحقيق المقام[2]:

-----------------------------------------------------------------

[1] فقد استدل المجوّزون: بأن التخصيص هو جمع بين الدليلين العام والمفهوم.

وفيه: إن الجمع يجب أن يكون عرفياً، وإلاّ كان تبرعياً، فليس كل جمع أولى من الطرح، بل الجمع الذي قام عليه الدليل.

وقد استدل المانعون: بأن ترجيح الخاص كان لأجل أنه أقوى من العام، وهنا العام - لأنه بالمنطوق - أقوى من الخاص المفهومي، فلذا وجب ترجيح العام.

وفيه: إن المفهوم قد يكون أقوى لعروض جهة تجعله أقوى من المنطوق، وهنا أخصية المفهوم جعلته أقوى من عموم المنطوق.

[2] حاصل التحقيق إن هنالك صوراً متعددة:

الصورة الأولى: إذا كان العام والمفهوم متصلين - سواء كانا في كلام واحد أم كلامين - وكان كلاً من عموم العام وثبوت المفهوم بمقدمات الحكمة، مثل: الفرد المحلى باللام، ومفهوم الشرط - إن قلنا: إنّه بمقدمات الحكمة - .

الصورة الثانية: إذا كانا متصلين، وكان ثبوتهما بالوضع لا بمقدمات الحكمة، مثل: لفظة كل، ومفهوم الحصر - إن قلنا: إنّه بالمفهوم وبالوضع - .

وحكم هاتين الصورتين: أنه إن كان أحدهما أظهر وجب التمسك به، وإلاّ فيتعارضان ويتساقطان، ويتم الرجوع إلى الأصول العملية.

الصورة الثالثة: إذا كانا في كلام واحد أو في كلامين متصلين وكان ثبوت أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة. وحكم هذه الصورة هو ترجيح جانب الوضع - سواء كان العام أم المفهوم - ولعلّ المصنف لم يذكر هذه الصورة لوضوح رأيه فيها.

الصورة الرابعة: إذا كانا في كلامين منفصلين، فإنه ينعقد لكليهما ظهور فيتعارضان، فإن كان أحدهما أظهر أخذ به، وإلاّ فيتساقطان ويلزم الرجوع إلى الأصول العملية.

ص: 109

إنه إذا ورد العام وما له المفهوم[1] في كلام، أو كلامين - ولكن على نحوٍ[2] يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر - ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم[3]، فالدلالة على كل منهما[4] إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة[5] أو بالوضع[6]، فلا يكون[7] هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما، لأجل المزاحمة[8]، كما في مزاحمة ظهور أحدهما

-----------------------------------------------------------------

ولا يخفى أنه يجري في هذه الصورة تقديم ما كان بالوضع على ما كان بمقدمات الحكمة، فتكون الصور أكثر من أربعة.

[1] أي: الجملة التي لها المفهوم الأخص.

[2] أي: كلامين متصلين، بحيث يمكن الاعتماد على أحدهما للتصرف في ظهور الآخر.

[3] وإلغاؤه لأنه أخص، فمع اعتبار عموم العام لا يبقى مورد للمفهوم أصلاً.

[4] من العموم بالمنطوق، والخاص بالمفهوم.

[5] كما لو قال: (أكرم العالم)، و(إن جاءك زيد العالم فأكرمه) حيث إنّ مفهومه: (إن لم يجئك زيد العالم فلا تكرمه) - بناءً على كون مفهوم الشرط بمقدمات الحكمة - ، وهذه هي الصورة الأولى.

[6] كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم إلاّ الفقهاء) حيث إنّ مفهومه حصر الإكرام في الفقهاء دون غيرهم من سائر العلماء - بناءً على كون الحصر بالمفهوم وبالوضع - وهذه هي الصورة الثانية.

[7] هذا بيان حكم الصورتين.

[8] هذا في الصورة الأولى؛ إذ من المقدمات أن لا يكون هنالك ما يصلح للقرينية، ومن المقدمات أن لا يكون قدر متيقن في البين، وهنا كل واحد منها يصلح لأن يكون قرينة للتصرف في الآخر، مضافاً إلى وجود قدر متيقن.

ص: 110

وضعاً لظهور الآخر كذلك[1]؛ فلابد[2] من العمل بالأصول العملية في ما دار فيه[3] بين العموم والمفهوم إذا لم يكن مع ذلك[4] أحدهما أظهر، وإلاّ كان[5] مانعاً عن انعقاد الظهور[6] أو استقراره[7] في الآخر.

ومنه[8] قد انقدح الحال في ما[9] إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال[10]،

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا في الصورة الثانية، حيث يتزاحم الظهوران الناشئان عن الوضع، وقوله: «كذلك» أي: وضعاً.

[2] أي: حين عدم انعقاد الإطلاق أو تعارض الظهورين نتمسك بالمقدار المتيقن، وهو سائر أفراد العام، أما في الخاص فلا نأخذ بالعام ولا بالمفهوم، بل نرجع إلى الأصول العملية، فإن كانت حالة سابقة فالاستصحاب، وإلاّ فإن كان في أطراف العلم الإجمالي فالاحتياط، وإن لم يكن أطرافه فالبراءة.

[3] أي: في مورد دار الأمر في ذلك المورد.

[4] أي: مع الدوران بين العموم والمفهوم.

[5] أي: وإن كان أحدهما أظهر كان ذلك الأظهر مانعاً.

[6] في ما كان منشأه مقدمات الحكمة، حيث إن الأظهر يمنع تلك المقدمات في الآخر، فلا ينعقد له ظهور.

[7] في ما كان منشأ الظهور هو الوضع، حيث يتم رفع اليد عن الظهور بسبب مزاحمة الأظهر. ويمكن إرجاع (المنع عن الانعقاد) إلى كونهما في كلام واحد، و(المنع عن الاستقرار) إلى كونهما في كلامين.

[8] أي: من حكم هاتين الصورتين.

[9] أي: في الصورة الرابعة، وهو ما إذا كان العام والمفهوم في كلامين منفصلين، حيث ينعقد ظهور لكل واحد منها، لكن يتعارضان.

[10] أي: لم يكن الاتصال الصالح لأن يكون كل منهما قرينة على التصرف في الآخر.

ص: 111

وأنه[1] لابد أن يعامل مع كل منهما[2] معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر، وإلاّ[3] فهو المعول والقرينة[4] على التصرف في الآخر بما لا يخالفه[5] بحسب العمل.

فصل: الاستثناء[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان حكم هذه الصورة الرابعة، والضمير للشأن، والعطف تفسيري على قوله: (الحال في ما... الخ).

[2] من العام المنطوقي، والخاص المفهومي.

[3] أي: إن كان أحدهما أظهر فيلزم الأخذ به.

[4] أي: حين كون أحدهما أظهر يكون هو قرينة في التصرف في الآخر.

[5] أي: بما لا يخالف الأظهر، والمعنى هو أن يتصرف في الآخر حتى لا تكون مخالفة عملية للأظهر، فإنه يلزم العمل بالأظهر، وتأويل الظاهر.

هذا ما يبدو من العبارة، وقيل(1)

في معناها: إن التصرف يلزم أن يكون بنحو لا تكون مخالفة حسب العمل وإن كانت مخالفة حسب الحكم، فلو قال: (يجوز إكرام العلماء)، ثم قال: (إن جاء زيد العالم فأكرمه) حيث مفهومه: (إن لم يجئ زيد فلا تكرمه) نحمل المفهوم على الكراهة وهو وإن كان يخالف العام بحسب الحكم - حيث حكم العام الجواز بالمعنى الأخص - ، لكنه لا يخالفه بحسب العمل.

أقول: وهذا المعنى بعيد عن سياق العبارة.

فصل الاستثناء المتعقب لعدة جُمَل

[6] وكذا بعض التوابع الأخر، مثل الوصف، كما لو قال: (أكرم العلماء والشعراء العدول).

ص: 112


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 192.

المتعقب[1] لجمل متعددة هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل[2] أو خصوص الأخيرة[3] أو لا ظهور له في واحد منهما[4]، بل لابد في التعيين من قرينة؟ أقوال.

والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال[5]، ضرورة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الذي وقع عقيب الجمل.

[2] كما نسب إلى الشيخ الطوسي(1).

[3] كما نسب إلى بعض العامة(2).

[4] رجوعه إلى الكل أو الأخيرة بالخصوص، وعدم ظهوره في أيٍ منهما إما لأجل الاشتراك اللفظي، كما نسب إلى السيد المرتضى(3)

أو لأجل الاشتراك المعنوي، كما لعله يظهر من صاحب المعالم(4)،

أو لأجل عدم معلومية حال الوضع فالتوقف، كما نسب إلى بعض العامة.

[5] أي: على كل الأقوال المذكورة؛ وذلك لأن الرجوع إلى الأخيرة قدر متيقن، وليس المقصود هو الظهور في الرجوع إلى الأخيرة، فإن هذا الظهور محل خلاف، فسواء قلنا برجوعه إلى الكل تكون الأخيرة ضمن الكل، أو قلنا برجوعه إلى الأخيرة، أو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، وحتى المتوقف إنّما توقفه في الإرجاع إلى الكل أو خصوص الأخيرة. فعلى كل الأقوال لا إشكال في الرجوع إلى الأخيرة، وإنما الخلاف في رجوعه إلى سائر الجمل.

[6] بيان لتيقن رجوعه إلى الأخيرة - على كل الأقوال - لأن رجوعه إلى غير الأخيرة وعدم رجوعه إليها خلاف طريقة العقلاء، فلو قال: (أكرم العلماء والشعراء إلاّ الفساق) وأرجع الاستثناء إلى العلماء فقط كان مستهجناً عند أهل المحاورة.

ص: 113


1- العدة في أصول الفقه 1: 321.
2- الإحكام في أصول الأحكام 2: 300.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 249.
4- معالم الدين: 124.

أن رجوعه إلى غيرها[1] بلا قرينة[2] خارج عن طريقة أهل المحاورة. وكذا[3] في صحة رجوعه إلى الكل - وإن كان المتراءى[4] من كلام صاحب المعالم(1)

- حيث مهّد مقدمة لصحة رجوعه إليه[5]، أنه محل الإشكال[6] والتأمل. وذلك[7] ضرورة

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة.

[2] نعم، لو كانت قرينة لم يكن به بأس، وكلامنا في الوضع وفي ما لو لم تكن قرينة خاصه على الرجوع إلى أي منها.

فلو قال: (أكرم العلماء والعدول إلاّ الفساق) دلت القرينة على رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة، والقرينة هي عدم صحة استثناء الشيء من ضده.

[3] أي: لا إشكال في إمكان الرجوع إلى الكل، وإنّما المخالف لذلك أو المتوقف إنّما خالف أو توقف لعدم ثبوت الوضع عنده، لا أنه غير ممكن وغير صحيح.

[4] أي: يظهر من صاحب المعالم أنه قد يستشكل على إمكان رجوعه إلى الكل، ولدفع هذا التوهم وإثبات إمكان رجوعه إلى الكل احتاج إلى بيان هذه المقدمة الطويلة، ولو لم يكن الأمر محل إشكال لما احتاج إلى هذه المقدمة.

[5] أي: لصحة رجوع الاستثناء إلى الكل.

[6] أي: إن إمكان رجوع الاستثناء إلى الكل محل إشكال.

وحاصل كلام المعالم هو: تقسيم الوضع، وأن الوضع والموضوع له قد يكونان عامين، وقد يكونان خاصين، وقد يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً، ثم بيّن أن وضع الحروف وأشباهها من قبيل الثالث، فحيث كان الوضع عاماً صح كون معنى أداة الاستثناء عاماً لكي يرجع الاستثناء إلى الكل.

[7] أي: عدم الإشكال في إمكان رجوعه إلى الكل.

وحاصل كلام المصنف: إن كيفية الوضع والموضوع له لا ربط له في صحة الاستثناء من الكل؛ وذلك لأن تعدد أو وحدة المستثنى أو المستثنى منه لا يغيّر معنى

ص: 114


1- معالم الدين: 124.

أن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى - كان[1] الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً - ، وكان[2] المستعمل فيه الأداة في ما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه في ما كان واحداً، كما هو الحال في المستثنى[3] بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً[4].

وبذلك[5] يظهر: أنه لا ظهور لها[6] في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة، وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير.

نعم[7]،

-----------------------------------------------------------------

أداة الاستثناء، كسائر الحروف، مثلاً: (سار زيد من البصرة) و(سار القوم من البصرة) و(وسار القوم من البصرة والكوفة) وأمثالها لا توجب تغيراً في معنى الأداة وهي (من). كذلك قولنا: (أكرم العلماء إلاّ زيداً) و(أكرم العلماء والشعراء إلاّ الفساق من كليهما) و(أكرم العلماء إلاّ النحاة والصرفيين) مثلاً، ففي كلها معنى (إلاّ) واحد، وهو الإخراج، من غير تفاوت في المعنى حين اختلاف النسبة.

[1] أي: سواء كان (الموضوع له) عاماً، كما هو مبنى المصنف، أو خاصاً، كما يرى صاحب المعالم.

[2] عطف تفسيري لقوله: (لا يوجب تفاوتاً)، أي: إنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في المعنى.

[3] أي: كما لو كان المستثنى واحداً أو متعدداً، حيث لا يفرق معنى الأداة.

[4] أي: معنى الأداة لا يتغير بتغير أطراف النسبة - كما مر توضيحه - .

[5] أي: عدم تفاوت معنى أداة الاستثناء - لا من حيث الوضع ولا من حيث الاستعمال - .

[6] أي: إن الشأن لا ظهور لأداة الاستثناء، «إليها» إلى الأخيرة.

[7] أي: كما لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الأخيرة أو الجميع كذلك

ص: 115

غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم، لاكتنافه[1] بما لا يكون معه ظاهراً فيه[2]، فلابد في مورد الاستثناء فيه[3] من الرجوع إلى الأصول[4].

-----------------------------------------------------------------

لا ظهور لغير الأخيرة في العموم لمورد الاستثناء.

وبيان ذلك: إن الجمل المتعددة التي جاء الاستثناء بعدها لا إشكال في عدم شمول الأخيرة لمورد الاستثناء لمعلومية تخصيصها بالاستثناء، أما غير الأخيرة فلا ظهور لها في شمول مورد الاستثناء؛ وذلك لاحتمال كون الاستثناء راجعاً إليها أيضاً، وحيث إن الاستثناء متصل فلا ينعقد لتلك الجمل ظهور في العموم.

مثلاً: لو قال: (أكرم العلماء، وضيّف الحلماء، واحترم المسلمين إلاّ الفساق)، فلا شك في أن الأخيرة - وهي احترم المسلمين - لا تشمل الفساق، أما غير الأخيرة - أي: أكرم، وضيّف - فلا يعلم رجوع الاستثناء إليها، فلا ينعقد لها ظهور في العموم لكل أحد بما فيهم الفساق، فحكم فساق العلماء وفساق الحلماء غير معلوم، فيكون العام مجملاً بالنسبة إلى فساقهم - أي: فساق العلماء والحلماء - .

[1] أي: لاكتناف غير الأخيرة، والمراد أن هذا الاستثناء المتصل يمنع ظهور الجمل غير الأخيرة في العموم لمورد الاستثناء، كما منع ظهور الجملة الأخيرة.

[2] أي: لاكتناف غير الأخيرة بأمر - هو الاستثناء - لا يكون غير الأخيرة مع هذا الأمر ظاهراً في العموم.

[3] أي: في غير الأخيرة، والمعنى فلابد في تلك العمومات في مورد الاستثناء من الرجوع إلى الأصول، ففي المثال: يجب إكرام كل عالم وضيافة كل حليم، أما العالم الفاسق والحليم الفاسق فلا يعلم الحكم فيهما هل الحكم هو وجوب الإكرام أم عدم الوجوب؟ فحينئذٍ يكون الكلام بالنسبة إلى العالم الفاسق والحليم الفاسق مجملاً، وحين الإجمال نرجع إلى الأصول العملية.

[4] العملية، فإن كانت حالة سابقة لزم استصحابها، وإلاّ فتجري أصالة البراءة.

ص: 116

اللهم إلاّ أن يقال[1] بحجية أصالة الحقيقة تعبداً[2]، لا من باب الظهور، فيكون المرجع عليه[3] أصالة العموم إذا كان وضعياً، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة[4]، فإنه لا يكاد تتم تلك المقدمات[5] مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع، فتأمل[6].

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الظهور النوعي غير لازم في الألفاظ، بل يكفي وجود بناء العقلاء على العمل بالعموم حتى إذا لم يكن ظاهراً، وعلى هذا المبنى يلزم العمل بالعموم في غير الأخيرة. لكن قد مرّ عدم صحة هذا المبنى، وأن مبنى حجية أصالة العموم هو الظهور العرفي، بحيث لو لم يكن ظهور - كما في ما نحن فيه - فلا تكون حجيّة.

[2] أي: من باب بناء العقلاء حتى إذا لم يكن ظهور على العموم. وبعبارة أخرى: أن يكون بناء العقلاء على هذا الأصل لا لأجل الظهور النوعي.

[3] أي: بناء على التعبد يكون المرجع أصالة العموم إذا كان اللفظ دالاً بالوضع على العموم.

[4] أي: لو كان منشأ العموم هو الإطلاق فإنه لا يتم الإطلاق إلاّ بمقدمات الحكمة، ولا توجد بعض هذه المقدمات في ما لو جاء الاستثناء عقيب جمل متعددة.

[5] أي: لا تكمل المقدمات، حيث إن إحدى تلك المقدمات هي: عدم وجود ما يحتمل أن يكون قرينة، وهنا الاستثناء يحتمل للقرينية.

فتحصل: إنه بناء على مبنى التعبد تجري أصالة العموم لو كان العموم بالوضع، ولا تجري لو كان العموم بمقدمات الحكمة.

[6] إشارة إلى أن أصالة العموم - على مبنى التعبد - تجري حتى لو كان منشأ العموم مقدمات الحكمة؛ وذلك لأن ما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد الظهور يلزم أن يكون حسب متفاهم العرف ظاهراً في القرينية، وإلاّ فمجرد احتمال القرينية لا يمنع من تمامية مقدمات الحكمة، وهذا ما يظهر من هامش المصنف(1).

ص: 117


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 439.

فصل: الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص[1]، كما جاز بالكتاب[2] أو بالخبر المتواتر[3] أو المحفوف بالقرينة القطعية[4] من خبر الواحد[5] بلا ارتياب[6]، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب[7] على العمل بأخبار الآحاد في قبال

-----------------------------------------------------------------

فصل تخصيص القرآن بالخبر الواحد

اشارة

[1] لا ما إذا كان دليل اعتبار الخبر هو الانسداد؛ وذلك لأن الحجية حال الانسداد من باب الاحتياط، والاحتياط إنما يجري إذا لم يكن دليل، والكتاب دليل.

[2] أي: كما جاز تخصيص الكتاب بالكتاب، كقوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ... }(1) المخصصة لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(2).

[3] كالخبر الدال على عدم إرث القاتل، المخصص لآيات الإرث - كما قيل - .

[4] كالخبر الدال على حرمة السمك الذي لا فلس له، المخصِّص لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ}(3)، والقرينة القطعية هي الإجماع، فتأمل.

[5] «من» بيان لقوله: (أو المحفوف) فالمعنى: الخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة.

[6] أي: جواز تخصيص الكتاب، بالكتاب والمتواتر والمحفوف لا ريب فيه.

دليل جواز التخصيص

[7] والسيرة دليل قطعي، أي: إذا ثبتت سيرة المتشرعة فإنه يحصل القطع بالحكم الشرعي، وهذا هو الدليل الأول.

ص: 118


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة البقرة، الآية: 29.
3- سورة المائدة، الآية: 96.

عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ[1].

واحتمال[2] أن يكون ذلك[3] بواسطة القرينة[4] واضح البطلان[5].

مع أنه لولاه[6] لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه[7]، ضرورة[8] ندرة خبر لم

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا القيد لأجل أن السيرة ليست بحجة بنفسها، وإنما حجيتها مستندة إلى كشفها عن رضا المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لأن عمل الأصحاب بشيء بمرأىً ومسمع من المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من غير ردع منهم كاشف عن رضاهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] إشكال على الدليل الأول، وحاصله: إن عمل الأصحاب بالأخبار المخصصة للكتاب إنّما هو لأجل احتفاف تلك الأخبار بالقرائن القطعية، وأما الخبر غير المحفوف بالقرينة القطعية فلا يعلم تخصيصهم الكتاب به.

[3] أي: عملهم بالخبر الواحد المخصص للكتاب.

[4] أي: القرينة القطعية.

[5] ردّ الإشكال، وحاصله: إنه من المعلوم عملهم بكل خبر معتبر، وتخصيصهم الكتاب به - سواء كان محفوفاً أم لم يكن - ولو كان عملهم لأجل احتفافه بالقرينة لظهر ذلك، حيث كثر عملهم بالخبر الواحد المخصِّص، ولم يظهر أنه كان بالقرينة أصلاً، بل ظهر أنه لم يكن بالقرينة، بل بسبب اعتبار الخبر.

[6] أي: لو لا جواز التخصيص، وهذا دليل ثانٍ على جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وحاصله: إن جميع الأخبار مخصِّصة لبعض عمومات الكتاب.

مثلاً: جميع الأخبار الدالة على المحرمات تخصص آية: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(1)، وجميع الأخبار الدالة على الواجبات تخصص الآيات الدالة على البراءة، فيلزم من عدم الجواز لغوية اعتبار الخبر الواحد حجة.

[7] أي: ما بحكم الإلغاء، بمعنى إلغاء حجيّة الأكثرية الساحقة من الأخبار.

[8] بيان التلازم بين عدم التخصيص وبين الإلغاء.

ص: 119


1- سورة البقرة، الآية: 29.

يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك[1].

وكون[2] العام الكتابي قطعياً صدوراً وخبر الواحد ظنياً سنداً لا يمنع[3] عن التصرف في دلالته[4] الغير القطعية(1)

قطعاً[5]، وإلاّ لما جاز[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو سلم وجود خبر غير مخالف لعموم الكتاب فإن ذلك نادر جداً.

أدلة المنع عن التخصيص

وقد استدلوا بأربعة أدلة على عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

الدليل الأول للمانعين

[2] حاصل الدليل هو: أن الكتاب قطعيّ الصدور والخبر الواحد ظنّي الصدور، ولا اعتبار للظني مقابل القطعي!

[3] هذا ردّ للدليل، وحاصله: إن التخصيص لا يرتبط بالصدور، وإنما بدلالة الكتاب، ومن المعلوم أن دلالته ظنيّة معتمدة على أصالة العموم - الراجعة إلى أن المراد الجدي يتطابق مع المراد الاستعمالي - وحجية أصالة العموم هو في ما لو لم تكن هنالك قرينة على خلافها، والخبر الواحد يصلح للقرينيّة.

وبعبارة أخرى: أصالة العموم والخبر الواحد كلاهما ظنيّان، والجمع العرفي بينهما هو بالتخصيص؛ لأن العمل بالأصالة يستلزم طرح الخبر الواحد، بينما العمل به هو عمل بهما.

[4] أي: في دلالة العام القرآني.

[5] «قطعاً» إما راجع إلى (الدلالة) أي: نقطع بأن الدلالة ظنية، وإما راجع إلى (لا يمنع) أي: لا يمنع عن التصرف قطعاً في الدلالة.

[6] أي: لو كان دليل عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد هو أن الكتاب قطعي الصدور والخبر الواحد ظني السند، فإن هذا الدليل بنفسه يجري في تخصيص الخبر المتواتر بالخبر الواحد، وللزم القول بعدم جواز تخصيص المتواتر بالواحد!

ص: 120


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير القطعية».

تخصيص المتواتر به[1] أيضاً، مع أنه جائز جزماً.

والسر[2]: أن الدوران[3] في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أن الخبر بدلالته وسنده[4] صالح للقرينية[5]

-----------------------------------------------------------------

ولا يلتزم به أحد، بل الكل متفق على جواز تخصيص المتواتر بالخبر الواحد.

[1] أي: بالخبر الواحد أيضاً - كالكتاب - مع أن التخصيص جائز.

[2] هنا يذكر المصنف أمرين:

الأول: إثبات أن الدوران ليس بين صدور الكتاب وسند الخبر الواحد، بل بين أصالة العموم وسند الخبر.

الثاني: بيان حكم هذا الدوران، وأن مقتضى الجمع العرفي هو التخصيص.

[3] بيان للأمر الأول، أي: سبب جواز تخصيص مقطوع الصدور - كالكتاب والمتواتر - بظني الصدور هو أنه ليس التعارض في السند والصدور حتى يرجح القطعي على الظني، بل التعارض إنّما هو بين أصالة العموم وبين دليل حجية الخبر الواحد، ومن المعلوم أن أصالة العموم أصل عقلائي يوجب الظن، بينما دليل حجية الخبر الواحد قطعي، أي: الأدلة القطعية دلت على أن الخبر الواحد حجة، وهذه الحجيّة تستلزم تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، حيث إن العمل بأصالة العموم يساوي طرح الخبر الواحد وعدم حجيته.

[4] بيان للأمر الثاني، أي: وبعد دوران الأمر بين أصالة العموم وبين سند الخبر فإن الجمع العرفي بينهما يقتضي التخصيص.

[5] أي: أصالة العموم إنما تجري إذا لم تقم قرينة على خلافها، وهنا وجود الخبر الواحد قرينة على عدم إرادة العموم.

أما دلالته فهي أقوى؛ لأن الخاص أظهر من العام - كما مرّ - وأما سنده فهو حجة؛ لقيام الأدلة القطعية على حجيته، بينما أصالة العموم أصل، والأصل لا يعارض الأمارة - الدليل الاجتهادي - .

على التصرف فيها، بخلافها[1]، فإنها غير صالحة[2] لرفع اليد عن دليل اعتباره.

ولا ينحصر[3] الدليل على الخبر بالإجماع، كي يقال ب«أنه[4] في ما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به[5]». كيف[6]! وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل

ص: 121

به في قبال العمومات الكتابية.

والأخبار الدالة[7] على أن الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها، أو ضربها على

-----------------------------------------------------------------

[1] ضمير «فيها» و«بخلافها» راجع إلى أصالة العموم.

[2] لأنها أصل، والأصل لا يعارض الأمارة.

الدليل الثاني للمانعين

[3] إشارة إلى الدليل الثاني للمانعين، مع رده. وحاصل الدليل - كما عن المحقق الحلي(1) - : هو أن دليل حجية الخبر هو الإجماع، ومقدار ثبوت الإجماع هو في ما لم يكن دليل أصلاً، فمع عدم وجود أيّ دليل آخر يكون الخبر الواحد حجة، وهنا يوجد عموم قرآني وهو دليل، فلا يكون الخبر الواحد حجة، وبعبارة أخرى: الإجماع دل على حجية الخبر الواحد بشرط أن لا يكون هناك دليل آخر، ومع وجود عموم قرآني لم يتحقق شرط حجية الخبر.

[4] أي: بأن الإجماع.

[5] أي: بالخبر الواحد، فلا يوجد - حينئذٍ - دليل على حجية الخبر الواحد، فلا يجوز العمل به.

[6] شروع في الإشكال على هذا الدليل، وخلاصته: إن دليل حجية الخبر الواحد لا ينحصر بالإجماع، بل من الأدلة السيرة، وهي تشمل الخبر الواحد المخصص للكتاب.

الدليل الثالث للمانعين

[7] وحاصل الدليل: تواتر الروايات(2) على أن الخبر المخالف للكتاب يجب

ص: 122


1- معارج الأصول: 96.
2- وسائل الشيعة 27: 106.

الجدار، أو أنها زخرف، أو أنها مما لم يقل به الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ[1] وإن كانت كثيرةً جداً وصريحة الدلالة[2] على طرح المخالف، إلاّ أنه لا محيص[3]

-----------------------------------------------------------------

طرحه، والخاص مخالف للعام، فالخبر المخصِّص معارض للكتاب، فيجب طرح هذا الخبر وعدم العمل به، فيبقى العام القرآني على عمومه.

وصورة الدليل هكذا:

الصغرى: الخبر المخصص للكتاب مخالف للعام القرآني. والكبرى: وكل مخالف للقرآن يجب الإعراض عنه. فالنتيجة: الخبر المخصص للكتاب يجب الإعراض عنه.

ومعنى وجوب الإعراض عنه هو عدم حجيته، فيبقى العام القرآني سليماً عن التخصيص.

[1] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وإن لم تجدوه موافقاً(1)

فردّوه)(2)،

وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وما خالفه(3)

فاضربوا به عرض الحائط)(4)، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(5)، وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)(6).

[2] فلا يمكن الإشكال على سندها لكثرتها البالغة حد التواتر، ولا يمكن الإشكال على دلالتها لأنها نص صريح في لزوم طرح المخالف.

[3] شروع في الجواب عن هذا الدليل، ويذكر المصنف ثلاثة أجوبة:

الأول: إن التخصيص ليس مخالفة عرفاً، ففي مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم) لا يرى العرف تخالفاً بينهما أصلاً.

الثاني: لو فرض أن التخصيص مخالفة فلابد من حمل تلك الأخبار على نوع

ص: 123


1- أي: للقرآن.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- أي: للقرآن.
4- تفسير الصافي 1: 36.
5- الكافي 1: 69.
6- الكافي 1: 69.

عن أن يكون المراد[1] من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم[2]، إن لم نقل[3] بأنها[4] ليست من المخالفة عرفاً، كيف[5]! وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كثيرة جداً.

مع قوة احتمال[6] أن يكون المراد[7] أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك

-----------------------------------------------------------------

آخر من المخالفة، وهو المخالفة بالتباين، فلا تشمل المخالفة بالعموم والخصوص المطلق؛ وذلك للقطع بصدور كثير من الأخبار المخصصة للقرآن منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - كما مرّ - ولا يمكن أن ينهوا عمّا قالوه.

الثالث: أن يكون المراد من المخالفة ما خالف الحكم الواقعي، لا ما خالف ظاهر القرآن؛ للعلم بعدم إرادة الظاهر أحياناً كما في المتشابهات، فيكون المعنى: أنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يقولون ما يخالف القرآن واقعاً، وقد يصدر منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ما يخالف الظاهر مع كونه موافقاً لواقع القرآن.

[1] إشارة إلى الجواب الثاني.

[2] أي: العموم القرآني، فمعنى المخالفة ما كان مخالفة بالتباين مع عدم إمكان الجمع العرفي، لا مخالفة العمومات القرآنية.

[3] إشارة إلى الجواب الأول - ذكره استطراداً في وسط الجواب الثاني - .

[4] أي: مخالفة العموم، فهذه ليست مخالفة عرفاً.

[5] تتمة للجواب الثاني، حيث قلنا: إنّ مخالفة العموم حتى وإن كانت مخالفة عرفاً، لكنها غير مرادة من تلك الأخبار. والدليل على ذلك هو القطع بصدور الكثير من الأخبار المخصصة للكتاب منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فكيف يأمرون بترك هذه الروايات الصادرة عنهم؟ فلابد من حمل المخالفة على غير مخالفة العموم، مثل المخالفة بالتباين.

[6] إشارة إلى الجواب الثالث.

[7] أي: المراد من الروايات الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب.

ص: 124

وتعالى واقعاً، وإن كان هو على خلافه ظاهراً[1]، شرحاً لمرامه[2] تعالى، وبياناً لمراده من كلامه، فافهم[3].

والملازمة[4] بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعةٌ[5]، وإن كان مقتضى

-----------------------------------------------------------------

[1] وذلك لوجود المتشابهات في القرآن الكريم، التي لا يُراد ظاهرها، مثل قوله تعالى: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(1)، فمع علمنا بأن الظاهر غير مراد أحياناً من الآيات القرآنية يلزم علينا حمل كلمة المخالفة على المخالفة مع المراد الواقعي للباري تعالى.

[2] أي: الخبر المخالف لظاهر الكتاب يكون شارحاً للمراد الواقعي، وقد مرّ سابقاً أن الخاص يبيّن المراد الجدّي للمتكلم، ففي مثل: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم) العام وإن بقي على عمومه استعمالاً، لكن الخاص يبيّن المراد الجدّي منه - فراجع - .

[3] إشارة إلى عدم صحة هذا الجواب الثالث؛ وذلك لأن هذه الروايات وردت لبيان الضابطة التي يعرف بها الناس الخبر الصحيح من غيره، والناس لا يعرفون إلاّ الظواهر، أما المرادات الواقعية فلا يعلمها إلاّ الراسخون في العلم، وهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إذن، فالمراد من المخالفة هنا لا تكون إلاّ مخالفة الظاهر.

الدليل الرابع للمانعين

[4] هذا هو الدليل الرابع للمانعين عن تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وحاصله: إنه لو جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لجاز نسخ الكتاب به أيضاً؛ لأن النسخ تخصيص بالأزمان، كما أن التخصيص هو تخصيص في الأفراد. والتالي - وهو النسخ به - باطل إجماعاً، فالمقدم - وهو التخصيص به - أيضاً مثله في البطلان.

[5] حاصل الجواب: إن القاعدة هي جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد كما جاز التخصيص به، لكن رفعنا اليد عن القاعدة في النسخ لجهتين:

ص: 125


1- سورة القيامة، الآية: 23.

القاعدة[1] جوازهما، لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه[2]، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص.

فصل: لا يخفى: أن الخاص والعام المتخالفين[3] يختلف حالهما ناسخاً ومخصصاً ومنسوخاً، فيكون الخاص مخصصاً تارةً، وناسخاً مرةً، ومنسوخاً أخرى[4]. وذلك

-----------------------------------------------------------------

الأولى: الإجماع على عدم جواز النسخ بالخبر الواحد، ولا يوجد هذا الإجماع في التخصيص.

الثانية: توفر الدواعي لضبط النسخ - لقلّته جداً - عكس التخصيص - لكثرته - .

[1] وهي قاعدة تقديم دليل سند الخبر على الدلالة الظنية للكتاب.

[2] فلو كان نسخ لتواتر نقله أو استفاض على أقل تقدير، فلا يوجد وثوق بصدق المخبر بالنسخ لو كان واحداً.

فصل الدوران بين النسخ والتخصيص

اشارة

[3] بأن يكون أحدهما لثبوت الحكم، والآخر لنفيه، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم فساقهم). أما لو لم يكونا متخالفين فالخاص يكون تأكيداً للعام، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(أكرم زيداً العالم).

[4] والصور متعددة، وهي:

1- تقارن العام والخاص، وحكمه التخصيص.

2- تقدم العام وكون الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، وحكمه التخصيص أيضاً.

3- تقدم العام ومجيء الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، وهذه الصورة قسمان، في أحدهما الحكم هو النسخ، وفي الآخر التخصيص.

ص: 126

لأن الخاص إن كان مقارناً مع العام[1] أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به[2] فلا محيص عن كونه مخصصاً[3] وبياناً له[4].

وإن كان بعد حضوره[5]، كان ناسخاً لا مخصصاً، لئلا يلزم تأخير البيان عن

-----------------------------------------------------------------

4- تقدم الخاص ومجيء العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، وحكمه التخصيص.

5- تقدم الخاص وكون العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، وحكمه التخصيص مع احتمال النسخ.

6- تقدم العام مع الجهل بكون الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أم بعده.

وهناك صور أخرى لم يذكرها المصنف.

الصورة الأولى والثانية

[1] وهي الصورة الأولى، والتقارن يتصور في كلام واحد كقوله: (أكرم العلماء إلاّ الفساق)، أو في كلامين من معصوم واحد.

[2] وهي الصورة الثانية، أي: كان الخاص وارداً بعد العام وقبل حضور وقت العمل بالعام، كما لو قال: (أكرم العلماء يوم الجمعة) ثم في يوم الخميس قال: (لا تكرم فساقهم).

[3] لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل - على المشهور - .

[4] لأن التخصيص هو بيان الإرادة الجدية للمتكلّم، وأن لفظه وإن كان عاماً بالإرادة الاستعمالية، إلاّ أنه لم يشمل الخاص بالإرادة الجدية.

الصورة الثالثة

[5] وهذه هو الصورة الثالثة، أي: ان كان الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام. كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم بعد مضي زمان من العمل به قال: (لا تكرم فساقهم)، وفي هذه الصورة قسمان:

ص: 127

وقت الحاجة[1] في ما إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي[2]، وإلاّ[3] لكان الخاص أيضاً مخصصاً له[4]،

-----------------------------------------------------------------

القسم الأول: لو كان العام لبيان الحكم الواقعي فالنسخ.

القسم الثاني: لو كان العام لبيان الحكم الظاهري فالتخصيص.

[1] هذا القسم الأول من الصورة الثالثة؛ وذلك لأنه لو لم يكن الخاص مراداً له من الأول فذكر العام من غير بيان الخاص يكون إغراء المكلف بالجهل، وتحميله ما ليس من تكليفه، وخاصة إذا استلزم ارتكاب المكلّف للمحرمات - جهلاً - كما لو قال: (اقتل العدو في الحرب) ثم قال: (ولا تقتل الجريح منهم) فإنه لو ذكر الخاص بعد مضي أيام من الحرب كان تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، وإيقاع المكلف في المخالفة.

أما لو كان نسخاً فلا يستلزم محذوراً؛ لأنه يقال: إن قتل الجرحى كان واجباً ثم نسخ الحكم إلى الحرمة.

[2] لأن مضي الحكم الواقعي هو بمعنى أن العموم مراد بالإرادة الجديّة، ومعنى التخصيص هو أن العموم غير مراد بالإرادة الجدية. وبتعبير الحقائق: (إذ لو كان الخاص مخصصّاً كان خلفاً؛ لأن المخصص كاشف عن عدم كون العام مطابقاً للإرادة الجدية، والمفروض أن العام بعمومه مطابق لها، ووارد لبيان عموم الحكم الواقعي ولو بلحاظ ما قبل زمان ورود الخاص)(1).

[3] هذا القسم الثاني من الصورة الثالثة، أي: وإن لم يكن العام لبيان الحكم الواقعي، بل كان لبيان الحكم الظاهري.

[4] أي: للعام؛ وذلك لعدم التنافي بين الحكم الظاهري - المذكور في العام - والحكم الواقعي في الخاص، وستأتي وجوه الجمع بينهما، وهنا عموم العام لم يكن مراداً بالإرادة الجدية فلا ينافيه التخصيص حتى بعد حضور وقت العمل. وأما سبب

ص: 128


1- حقائق الأصول 1: 536.

كما هو الحال[1] في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.

وإن كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص[2] فكما يحتمل أن يكون

-----------------------------------------------------------------

ترجيح التخصيص على النسخ فلما سيأتي من كثرة التخصيص الموجبة لظهور الخاص فيه.

[1] من عدم كون تلك العمومات لبيان الحكم الواقعي، بل لبيان الحكم الظاهري.

الصورة الرابعة

لم تذكر الصورة الرابعة في أكثر نسخ الكفاية، بل نقلها في منتهى الدراية عن بعض النسخ، وتمام العبارة: (وإن كان العام وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به كان الخاص مخصصاً وبياناً له)(1)، انتهى.

وحاصل الصورة: تقدم الخاص وتأخر العام، ولكن مجيء العام كان قبل حضور وقت العمل بالخاص، كما لو قال: (لا تكرم زيداً العالم) ثم قبل حضور وقت العمل قال: (أكرم العلماء)، فلا محيص عن التخصيص بأن يقال: يجب إكرام العلماء إلاّ زيداً؛ وذلك لما مرّ من أن المشهور عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل.

الصورة الخامسة

[2] إشارة إلى الصورة الخامسة، وهي: ما لو تقدم الخاص وحضر وقت العمل به ثم جاء العام، فإنه يحتمل التخصيص ويحتمل النسخ.

أما التخصيص فلعدم محذور فيه، وعدم استلزام تأخير البيان عن وقت الحاجة، فمثل: (لا تحترم الظالم) وحضر وقت العمل، ثم قال: (احترم كل إنسان)، فلو كان إرادته التخصيص كان حاصل كلامه: (احترم كل إنسان إلاّ الظالم) وتقديم الخاص لم يكن مضراً بمراده أصلاً.

وأما النسخ فلإمكان أن يكون قد انتهى أمد الخاص، والحكم عليه بحكم جديد.

ص: 129


1- منتهى الدراية 3: 650.

الخاص مخصصاً للعام يحتمل أن يكون العام ناسخاً له، وإن كان الأظهر[1] أن يكون الخاص مخصصاً، لكثرة التخصيص حتى اشتهر «ما من عام إلاّ وقد خص»، مع قلة النسخ في الأحكام جداً. وبذلك[2] يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان بالإطلاق[3] - أقوى من ظهور العام - ولو كان بالوضع[4] -، كما لا يخفى. هذا[5] في ما علم تاريخهما.

وأما لو جُهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] منشأ هذا الظهور الكثرة، ولا نريد الترجيح بالكثرة؛ لأنها توجب الظن، ولا حجية له، بل الكثرة توجب الظهور، والظهور حجة.

[2] أي: بكثرة التخصيص وقلة النسخ، والمراد هو أن مناط الحجية في الألفاظ هو الظهور، ولا أهمية لمنشأ الظهور، فالإطلاق أضعف من الوضع - عادة - ولذلك يرجح الوضع على الإطلاق في أغلب الموارد، ولكن هنا يرجح الإطلاق على الوضع؛ لأن الإطلاق بقرينة خارجية - هي الكثرة - صار منشأ للظهور الذي هو المناط في الحجية.

[3] الخاص له إطلاق زماني، أي: إن الحكم مستمر في كل الأزمنة، ففي مثال: (لا تحترم الظالم) لو كان الحكم خاصاً بزمان دون زمان آخر كان على المولى الحكيم بيانه، وعدم البيان دليل على إرادته العموم الأزماني.

[4] أي: لو كان عموم العام مستنداً إلى الوضع، كما في الجمع المحلّى باللام، ولفظة (كل).

[5] أي: ما ذكر من أحكام للصور الخمس.

الصورة السادسة

اشارة

[6] إشارة إلى الصورة السادسة، وحاصلها: لو ورد عام ثم ورد خاص بعده،

ص: 130

فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية[1]. وكثرة التخصيص[2] وندرة النسخ هاهنا

-----------------------------------------------------------------

ولم يعلم بأن الخاص كان قبل حضور وقت العمل بالعام - كي يكون تخصيصاً - أم كان بعد حضور وقت العمل بالعام - حتى يكون نسخاً - .

[1] ومقتضاها البراءة؛ لأن الشك - حينئذٍ - هو شك في أصل التكليف.

فعلى التخصيص: لم يكن مكلفاً بالخاص أصلاً، وعلى النسخ: كان مكلفاً بالعام إلى حين مجيء الخاص ناسخاً لحكم العام، فالأمر دائر بين التكليف وعدمه، ومقتضى القاعدة البراءة.

[2] جواب عن إشكال مقدر، وحاصله: إنه لا معنى للرجوع إلى الأصول العملية مع كثرة التخصيص وقلة النسخ، حيث إن اللازم هو الحمل على التخصيص لكثرته.

والجواب: هو أن الكثرة لا توجب إلاّ الظن وهو ليس بحجة فلا يمكن التمسك بها.

إن قلت: ما الفرق بين هذه الصورة السادسة - حيث لم تأخذوا بالكثرة - وبين الصورة الخامسة وقد قال المصنف: (وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً لكثرة التخصيص... الخ).

قلت: الكثرة في الصورة الخامسة أوجبت تقوية الظهور في التخصيص؛ ولذا أخذنا بها؛ لأنه انعقد بالإطلاق ظهور للخاص في استمرار الحكم، والكثرة أوجبت قوة هذا الظهور، عكس الصورة السادسة حيث لم توجب الكثرة ظهوراً ولا تقوية لظهور. وفي الحقائق: (ليس الدوران هنا بين ظهورين كي يقوى أحدهما بالظن المذكور، بل الدوران بين ورود الخاص قبل حضور وقت العمل وبعده، وليس أحدهما مؤدى ظهور كي يقوى بالظن)(1)، انتهى.

ص: 131


1- حقائق الأصول 1: 538.

وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضاً[1]، وأنه واجد لشرطه[2]، إلحاقاً له بالغالب[3]، إلاّ أنه لا دليل على اعتباره[4]، وإنما يوجبان[5] الحمل عليه في ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص[6]، لصيرورة الخاص بذلك[7] في الدوام[8] أظهر من العام، كما أشير إليه، فتدبر جيداً.

ثم إن تعيّن الخاص للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام[9] أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به[10] إنما يكون مبنياً على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل[11]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كالصورة الخامسة.

[2] أي: وأن الخاص واجد لشرط التخصيص، وذلك الشرط هو كونه قبل حضور وقت العمل.

[3] أي: إلحاقاً للخاص بالغالب - وهو التخصيص - .

[4] أي: لا دليل على اعتبار هذا الظن؛ وذلك لما سيأتي من أن الأصل في الظن هو عدم الحجية، إلاّ إذا قام دليل خاص على اعتباره كالخبر الواحد - مثلاً - .

[5] أي: يوجب كثرة التخصيص وقلة النسخ، الحمل على التخصيص. وهذا دفع للسؤال المذكور عن الفرق بين الصورة الخامسة - حيث رجحنا بالكثرة - وبين الصورة السادسة - حيث لم نرجح بها - .

[6] أي: في الصورة الخامسة - السابقة - .

[7] أي: بذلك الظن الحاصل من الكثرة.

[8] أي: كان إطلاقه دالاً على شمول الحكم لكل الأزمنة.

احتمال النسخ في الصورة الثانية والرابعة

[9] وهي الصورة الثانية.

[10] أي: بالخاص، وهي الصورة الرابعة.

[11] كما هو المشهور، حيث قالوا بلزوم حضور وقت العمل، وبعضهم اشترط

ص: 132

وإلاّ[1] فلا يتعين له[2]، بل يدور بين كونه مخصصاً وناسخاً في الأول[3]، ومخصصاً

-----------------------------------------------------------------

فعلية العمل: أي: عمل بعض المكلفين بالمنسوخ.

وعمدة دليلهم هو أن النسخ قبل حضور وقت العمل يستلزم لغوية الحكم المنسوخ.

[1] أي: إن لم يشترط حضور وقت العمل، كما عليه غير المشهور، ودليلهم هو: أن الأحكام على قسمين، ما فيه المصلحة في العمل، وما فيه المصلحة في نفس الحكم. والقسم الثاني يجوز نسخه قبل حضور وقت العمل؛ لأن الغرض منه الامتحان - مثلاً - وهو يحصل في ما لو تهيأ العبد وانشغل بالمقدمات، كما في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل‘، حيث حصل الغرض من الأمر ونجحا في الامتحان قبل حضور وقت العمل، فتأمل.

[2] لأنه مع جواز النسخ وجواز التخصيص وإمكانهما فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، وحينئذٍ يكون المرجع الأصول العملية.

[3] أي: الأول المذكور هنا - وهو الصورة الثانية - وهو ما إذا تقدم العام وورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، فالخاص المتأخر يحتمل أن يكون مخصصاً للعام ويحتمل أن يكون ناسخاً.

قال المصنف في الهامش: (لا يخفى أن كونه مخصصاً بمعنى كونه مبنياً بمقدار المرام عن العام، وناسخاً بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاص، مع كونه مراداً ومقصوداً بالإفهام في مورده بالعام، كسائر الأفراد، وإلاّ فلا يتفاوت بينهما عملاً أصلاً، كما هو واضح لا يكاد يخفى)(1)،

انتهى.

وحاصله هو: فقدان الثمرة، فسواء كان الخاص ناسخاً أم مخصصاً فإنه يجب العمل بما بقي من أفراد العام، ويخرج الخاص عن ذلك العموم. نعم، كيفية الخروج تختلف.

ص: 133


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 455.

ومنسوخاً في الثاني[1]، إلاّ أن الأظهر كونه مخصصاً، وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام[2]، لما أشير إليه[3] من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النسخ جداً في الأحكام.

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ.

فاعلم: أن النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتاً[4]، إلاّ أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] الثاني المذكور هنا - وهو الصورة الرابعة - وهو ما إذا تقدم الخاص وورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص، فالخاص المتقدم يحتمل أن يكون مخصصاً للعام المتأخر، ويحتمل أن يكون منسوخاً والعام ناسخاً.

[2] مراد المصنف أن التخصيص أظهر حتى لو كانت دلالة العام على العموم بالوضع، ودلالة الخاص على الدوام بالإطلاق، فهنا يقدم الإطلاق على الوضع، فيرفع اليد عن عموم العام ويقال بخروج بعض الأفراد منه بالتخصيص، ويؤخذ بالخاص ويقال: إنّه مستمر لكل الأزمنة ولا نسخ فيه.

وفي بعض النسخ (وإن كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص في الدوام) وهو أصوب.

[3] تعليل لترجيح التخصيص على النسخ.

بحث في النسخ

اشارة

[4] «إثباتاً» متعلق ب- (رفع)، فالمعنى إن إطلاق دليل المنسوخ شامل لكل الأزمان، ولكن هذا الإطلاق في الظاهر والإثبات، وليس بمراد واقعاً. فالدليل الناسخ في الظاهر رافع لإطلاق الحكم، لكنه في الواقع ليس كذلك.

[5] أي: في الواقع هو بيان لعدم المقتضي لأصل الحكم، أو عدم المقتضي في استمرار الحكم بعد أن كانت المصلحة لزمان محدّد.

ص: 134

وإنما اقتضت الحكمة إظهار[1] دوام الحكم واستمراره[2] أو أصل إنشائه[3] وإقراره، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار[4] أو ليس له دوام واستمرار[5]؛ وذلك لأن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الصادع للشرع[6]

-----------------------------------------------------------------

وحاصل العبارة هو: أن النسخ في الظاهر هو إزالة الحكم، لكنه في الواقع بيان لعدم المقتضي للحكم أو لاستمراره، والأولى التعبير ب- (بيان انتهاء أمد الحكم).

[1] الأولى التعبير ب- (إخفاء عدم دوام الحكم، أو عدم وجود المقتضي له)، لأن إظهار خلاف الواقع لا يليق به تعالى.

[2] في ما لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل، حيث كانت المصلحة في الحكم، ولكن لأمدٍ محدود، مثل آية الصدقة قبل النجوى(1).

[3] في ما لو كان النسخ قبل حضور وقت العمل، حيث لم يكن للشيء مصلحة، وإنما المصلحة في إنشاء الحكم فقط، مثل: ذبح إسماعيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فلم يكن في ذبحه مصلحة، وإنما اُنشئ الحكم امتحاناً لإبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] أي: لم يكن له ثبوت؛ لعدم المصلحة فيه أصلاً، وإنّما كانت المصلحة في إنشائه امتحاناً.

[5] في ما كانت المصلحة موقتة بوقت معين واقعاً، ولا مصلحة بعد ذلك الوقت.

[6] أي: الذي يجهر به كقوله تعالى: {فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}(2)، والجذر اللغوي للصدع هو التشقُّق(3)،

ومنه تَصدُّع الأرض لقوله: {وَٱلۡأَرۡضِ ذَاتِ ٱلصَّدۡعِ}(4) أي: التشقق بالأنهار والنباتات، ومنه تفرق الناس

ص: 135


1- في سورة المجادلة، الآية: 12.
2- سورة الحجر، الآية: 94.
3- العين 1: 291.
4- سورة الطارق، الآية: 12.

ربما يُلهم أو يوحى إليه[1] أن يُظهر الحكم أو استمراره مع اطّلاعه على حقيقة الحال وأنه ينسخ في الاستقبال، أو مع عدم اطّلاعه على ذلك، لعدم إحاطته[2]

-----------------------------------------------------------------

كقوله: {مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۖ يَوۡمَئِذٖ يَصَّدَّعُونَ}(1) أي: يتفرقون بعض إلى الجنة وبعض إلى النار، ومنه وجع الرأس؛ لأنه كالمتشقق رأسه، قال تعالى: {لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡهَا وَلَا يُنزِفُونَ}(2) أي: لا يصابون بالصُداع ولا ينزفون بذهاب عقولهم، والجهر بالشرع موجب للمشاكل والابتلاءات المختلفة فكأنّه أوجب صداع الرأس، أو أن هذا الجهر يوجب انقسام الناس، ففريق يقبل الحق، وآخر يرفضه.

[1] الإلهام والوحي متقاربان معنىً، وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر، إلاّ أن (الإلهام) في الأصل الإلقاء في الذهن من غير سبب ظاهر، كما قد تحصل إشراقات في الذهن، كقوله تعالى: {فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(3)، و(الوحي) هو إلقاء المطلب بالإشارة كقوله سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ}(4).

[2] تعليل ل- (عدم اطلاعه على ذلك)، والحاصل: إنه لا يمتنع عدم اطّلاع بعض الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على النسخ أو غيره، ولا يستغرب أحد ذلك؛ لأن علم الله غير متناهٍ، والإنسان متناه، فلا يعقل أن يعلم كل ما يعلمه الله تعالى، لاستحالة إحاطة المتناهي باللامتناهي.

أما بالنسبة لرسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقد دلت الروايات على علمهم بما كان وما يكون وما هو كائن مع استثناء مشيئة الله تعالى، كما عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة)(5)،

قال

ص: 136


1- سورة الروم، الآية: 43.
2- سورة الواقعة، الآية: 19.
3- سورة الشمس، الآية: 8.
4- سورة مريم، الآية: 11.
5- الإرشاد 1: 35؛ بحار الأنوار 40: 144.

بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى. ومن هذا القبيل لعله[1] يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت: أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعاً وإن كان بحسب الظاهر رفعاً، فلا بأس به مطلقاً[2]، ولو كان قبل حضور وقت العمل، لعدم لزوم البداء

-----------------------------------------------------------------

تعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ}(1). وسيأتي شرحها بعد قليل في بحث البداء.

[1] حيث إن علم إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بنسخ حكم الذبح كان نقضاً للغرض وهو امتحانه، فإن الإنسان العادي إذا علم بنسخ حكم شاق عليه لا تصعب عليه المقدمات، ولا معنى لامتحانه فيه.

وإنّما قال: «لعلّه» لأن البعض يرى أن إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يكن مأموراً بالذبح(2)،

وإنّما كان مأموراً بالمقدمات، فلمّا أتى بها خاطبه الله {قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ}(3) أي: عملت بما أمرت به.

النسخ قبل حضور وقت العمل

[2] أي: لا محذور في النسخ، سواء كان قبل حضور وقت العمل أم بعد حضور وقت العمل؛ وذلك لأنه مع عدم المصلحة واقعاً في أصل الحكم يصح الأمر به لغرض آخر كالامتحان، ثم ينسخ قبل حضور وقت العمل بأن يُبيّن بأن الحكم لم يكن واقعياً.

وكذلك مع عدم المصلحة في استمرار الحكم يصح الأمر به لغرض العمل لفترة فيها المصلحة، ثم ينسخ بأن يبين انتهاء أمد الحكم.

ص: 137


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- التبيان في تفسير القرآن 8: 518.
3- سورة الصافات، الآية: 105.

المحال[1] في حقه تبارك وتعالى بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى[2] مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهةً[3]، ولا لزوم[4] امتناع النسخ[5] أو الحكم المنسوخ[6]، فإن الفعل إن

-----------------------------------------------------------------

[1] يقول المصنف: وحيث لا يصح هذا الدليل ولا سائر أدلة الامتناع فلا محذور في النسخ قبل حضور وقت العمل.

وحاصل الدليل: إن الحكم لا يكون إلاّ عن مصلحة، وحيث ينسخ قبل حضور وقت العمل فإنه يكشف عن عدم مصلحة في الفعل أصلاً، ولازم ذلك هو الجهل، وحيث بطل اللازم بطل الملزوم.

وبيانه: إ ن الفعل الواحد - مع حفظ كل الجهات فيه - إما أن يكون فيه المصلحة أو لا يكون، والأمر به يكشف عن وجود مصلحة، ثم لو نسخه قبل حضور وقت العمل كان معناه عدم وجود المصلحة، وهذا هو البداء المحال في حقه تعالى، أي: يكشف هكذا نسخ عن تغير الإرادة بسبب الجهل سابقاً! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

[2] وتغير الإرادة دليل على الجهل سابقاً، وهذا محال عليه تعالى. نعم، الإنسان تتغير إرادته في الشيء الواحد لأنه كان يجهل فأراد، ثم لمّا انكشف له الواقع تتغير إرادته.

[3] أي: مع بقاء ذات الفعل وصفاته فإنه يستحيل أن يتصف بحكمين واقعاً، أما مع تغير ذات الفعل كضرب اليتيم ظلماً أو تأديباً، أو صفات الفعل كطروّ عنوان الاضطرار والضرر ونحوهما فلا بأس بتغير الحكم، ولا يستلزم هذا التغير الجهل، بل هو من باب تعدد الحكم بتعدد الموضوع.

[4] أي: ولا يصح الدليل الثاني للامتناع قبل حضور وقت العمل أيضاً، وحاصله: إن الفعل إن كان فيه مصلحة يمتنع نسخه، وإن لم يكن فيه مصلحة امتنع جعل ذلك الحكم.

[5] إذا كان في الفعل مصلحة.

[6] إن لم يكن في الفعل مصلحة.

ص: 138

كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه، وإلا امتنع الأمر به[1]. وذلك[2] لأن الفعل أو دوامه[3] لم يكن متعلقاً لإرادته، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته؛ ولم يكن الأمر[4] بالفعل من جهة كونه[5] مشتملاً على مصلحة، وإنما كان إنشاء الأمر به[6] أو إظهار دوامه[7] عن حكمة ومصلحة.

وأما البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى[8]: فهو مما دل عليه الروايات

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فمع وجود مصلحة لا معنى لتغير الحكم، ومع عدمها لا معنى لأصل جعله.

[2] شروع في الرد على الدليلين، وأنه لا فرق بين حضور وقت العمل وعدم حضوره، فإن صح الإشكالان فلا فرق بين الحضور وعدمه.

[3] رد الدليل الأول، وحاصل الرد: إن أصل الحكم المنسوخ قبل حضور وقت العمل، أو استمرار الحكم المنسوخ بعد حضور وقت العمل، لم يكن متعلقاً لإرادته تعالى، فلم تكن إرادة جدية من أول الأمر، فلا تغير في الإرادة بالنسخ.

[4] رد الدليل الثاني، وحاصل الرد: إن المصلحة لا تنحصر في المقتضي في الفعل، بل يمكن أن تكون في نفس إنشاء الحكم، كالأوامر الامتحانية، أو تكون في إخفاء عدم استمرار الحكم.

[5] أي: كون الفعل.

[6] أي: بالفعل، وهذا في النسخ قبل حضور وقت العمل.

[7] لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل.

بحث في البداء

اشارة

[8] أي: بغير المعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة، وهذا المعنى مستلزم للجهل، والله سبحانه منزه عن أي نقص وجهل، فهذا محال في حقه تعالى، أما البداء بغير ذاك المعنى فلا إشكال فيه، بل دلت عليه الروايات.

ص: 139

المتواترات[1]، كما لا يخفى. ومجمله: أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره[2]، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به مع علمه بأنه يمحوه، أو مع عدم علمه به[3]، لما أشير[4] إليه من عدم

-----------------------------------------------------------------

[1] منها: ما رواها ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه في الكافي الشريف، كتاب التوحيد باب البداء، ونذكرهنا بعضها.

عن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: في هذه الآية {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) قال فقال: (وهل يمحي إلاّ ما كان ثابتاً وهل يثبت إلاّ ما لم يكن)(2).

وعن أبي عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له)(3).

[2] كإظهار عذاب قوم يونس، والحكمة هي تضرعهم واستكانتهم وتوبتهم، فإن الإنسان إذا علم صدور حكم الإعدام عليه فإنه يلتجئ إلى من يظن أنه منجيه، ويتوسل بكل ما يتمكن، ولو كان يقال لهم من الأول: إن العذاب مرفوع لما كانوا ينتبهون ويتضرعون، قال تعالى: {فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ}(4)، فالله تعالى أظهر أنهم سيعذبون لكن أخفى شرط العذاب، وهو عدم التضرع.

[3] أي: مع علم النبي أو الولي بأن الله يمحو ذلك الأمر أو مع عدم علمهما، كما أن يونس عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يكن يعلم بالمحو حسب ما يستفاد من قوله تعالى: {وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ}(5) الآية.

[4] تعليل لعدم علمه، أي: ما ذكرناه قبل قليل في النسخ بأن الأنبياء لا يحيطون بجميع علم الله تعالى، فيمكن أن يكون ما يمحوه من ذلك.

ص: 140


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- الكافي 1: 146.
3- الكافي 1: 148.
4- سورة الأنعام، الآية: 43.
5- سورة الأنبياء، الآية: 87.

الإحاطة بتمام ما جرى في علمه، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو الإلهام - لارتقاء نفسه الزكية، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات[1] - اطلع على ثبوته ولم يطلع على كونه معلقاً على أمر غير واقع[2] أو عدم الموانع[3]؛ قال الله تبارك وتعالى: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}(1) الآية.

نعم، من شملته العناية الإلهية، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ[4] - الذي هو من أعظم العوالم الربوبية، وهو أم الكتاب - يكشف[5] عنده الواقعيات على ما هي عليها، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء، ولبعض الأوصياء، كان عارفاً[6] بالكائنات كما كانت وتكون. نعم، مع ذلك[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: المقدرات التي يمكن أن تتغير لمصلحة؛ كما في الأجل المعلّق الذي يمكن محوه بالصدقة ونحوها، كما ورد في ذلك الروايات المختلفة، وقد جمعها في تفسير البرهان في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ}، فراجع(2).

[2] أي: كان معلقاً على شرط، لكن الشرط لم يتحقق.

[3] أي: كان معلقاً على عدم مانع، لكن وجد المانع.

[4] الذي يظهر من بعض الروايات أن الله أثبت فيه كل ما يتحقق كما يتحقق، من غير محو أو تغيير.

[5] «يكشف» - بالبناء للمفعول - جزاء قوله: (من شملته).

[6] قوله: «كان» بدل أو عطف بيان لقوله: (يكشف عنده) فيكون حاصل المعنى: من شملته العناية الإلهية يكشف عنده الواقعيات، أي: كان عارفاً بالكائنات.

[7] أي: مع علمهم بما في اللوح المحفوظ، والحاصل: إن علم خاتم الأنبياء وبعض الأوصياء بما في اللوح المحفوظ لا ينافي أن يأمرهم الله بالإخبار بما ينسخ من الأحكام، أو ما فيه البداء من التكوينيات.

ص: 141


1- سورة الرعد، الآية: 39.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 264.

ربما يوحى إليه حكم من الأحكام[1]، تارةً[2] بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام معه أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها بخطاب آخر، وأخرى[3] بما يكون ظاهراً في الجِد مع أنه لا يكون واقعاً بجِد، بل لمجرد الابتلاء والاختبار، كما أنه[4] يؤمر وحياً أو إلهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار. فبدا له[5] تعالى، بمعنى: أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولاً، ويبدي ما خفي ثانياً[6]. وإنما نسب إليه تعالى البداء[7] مع إنه في الحقيقة الإبداء، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره.

-----------------------------------------------------------------

[1] التشريعية أو التكوينية، وهو على أقسام ثلاثة:

1- الحكم التشريعي الذي يكون لفترة، وينتهي أمده في زمان، لكنه لم يذكر أمده حين التشريع - وهذا النسخ بعد حضور وقت العمل - .

2- الحكم التشريعي الذي يكون للاختبار - وهذا ينسخ قبل حضور وقت العمل - .

3- البداء في التكوينيات.

[2] إشارة إلى القسم الأول.

[3] إشارة إلى القسم الثاني.

[4] إشارة إلى القسم الثالث.

[5] أي: معنى البداء هو الإظهار وليس بمعنى الظهور، فالحاصل: إنه كان يعلم لكنه أخفاه ثم أظهره.

[6] «ثانياً» متعلق بقوله: (يبدي)، أي: أولاً يأمر بعدم الإظهار، ثم ثانياً يبدي ما أخفاه.

[7] جواب عما يقال من أن الإظهار بعد الإخفاء هو (إبداء)، فلماذا سمي (بداء)، والمعنى اللغوي للبداء هو الظهور؟

فيقال في الجواب: إن الإبداء منه تعالى يشبه في الظاهر البداء في غيره؛ ولذا سُمّي بداءً، مع أنه يتغاير معه جوهراً وحقيقة.

ص: 142

وفي ما ذكرنا كفاية في ما هو المهم في باب النسخ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب[1]، كما لا يخفى على أولي الألباب.

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ[2]، ضرورة أنه[3] على

-----------------------------------------------------------------

[1] وللعلامة المجلسي رضوان الله عليه بحوث قيمة حول البداء، فليراجع كتاب مرآة العقول المجلد الثاني الصفحة 123 فما بعد.

الثمرة بين التخصيص والنسخ

[2] حاصل الثمرة: إنه قد يكون العام سابقاً والخاص لاحقاً، وقد يكون العكس.

وعلى الأول - وهو ورود الخاص بعد العام - :

فعلى التخصيص: ففي الزمان الفاصل بين العام والخاص لم يكن الخاص محكوماً بحكم العام، مثلاً: لو قال يوم الجمعة: (أكرم العلماء) ثم قال يوم الأحد: (لا تكرم فساق العلماء)، ففي يوم السبت لم يكن يجب إكرام فساقهم، وعليه فلو لم يكرمهم - قبل ورود الخاص - كان متجرياً لا عاصياً، ولا يجب عليه القضاء.

وأما على النسخ: فإنه في الزمان الفاصل كان محكوماً بحكم العام، فترك إكرام فساقهم معصية، ويجب عليه القضاء - إن كان مما فيه القضاء - .

وأما على الثاني - وهو ورود العام بعد الخاص - : فعلى التخصيص: يستمر حكم الخاص حتى بعد ورود العام، فلو قال: (لا تكرم زيداً)، ثم قال: (أكرم العلماء)، فإن لازم التخصيص هو استمرار المنع عن إكرام زيد العالم.

وأما على النسخ: فإن حكم الخاص ينتهي، ويلزم إجراء حكم العام عليه، ففي المثال كان: (أكرم العلماء) ناسخاً لحكم عدم إكرام زيد، فيجب إكرام زيد بعد ورود العام.

[3] حكم الصورة الأولى، وهي تقدّم العام وتأخر الخاص.

ص: 143

التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأساً، وعلى النسخ على ارتفاع حكمه عنه من حينه[1] في ما دار الأمر بينهما في المخصّص[2]. وأما إذا دار[3] بينهما في الخاص والعام[4]، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً[5]، وعلى النسخ كان محكوماً به[6] من حين صدور دليله، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: ارتفاع حكم العام عن الخاص من حين ورود الخاص؛ لأن الناسخ يرفع الحكم من حين وروده.

[2] أي: دار الأمر بين التخصيص والنسخ، «في المخصّص» أي: في ما تأخر الخاص.

[3] حكم الصورة الثانية - وهي تقدم الخاص وتأخر العام - .

[4] أي: مع تقدم الخاص وتأخر العام.

[5] لأن الخاص يبين الإرادة الجدية للعام - كما مرّ - .

[6] أي: كان الخاص محكوماً بحكم العام من حين صدور دليل العام، وأما قبل صدور العام فكان الحكم في الخاص هو حسب مقتضى الدليل الأول.

ص: 144

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

اشارة

ص: 145

ص: 146

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين، فصل: عرّف المطلق بأنه ما دل على شائع في جنسه[1].

وقد أشكل عليه بعض الأعلام[2] بعدم الاطراد[3] أو الانعكاس[4]، وأطال الكلام في النقض والإبرام. وقد نبهنا في غير مقام[5]

-----------------------------------------------------------------

فصل معنى المطلق والمقيد

اشارة

[1] المراد بالجنس: الطبيعة، فيشمل الجنس المنطقي، والنوع، والصنف، بل والشخص - باعتبار حالاته المختلفة - والمراد بالشيوع: الشمول لكل الجزئيات على البدل. و(المقيد) هو ما لم يكن شائعاً في جنسه.

[2] صاحب الفصول(1).

[3] أي: هذا التعريف لا يطرد الأغيار؛ لأنه يشمل مثل: (من، ما، أيّ) الاستفهاميات، فإن مثل: (من تكرم)؟ دلّ بالوضع على شايع في جنسه، حيث إنه قابل للانطباق على كثيرين - بالعموم البدلي - لكنه ليس بمطلق؛ لأن شيوعه بالوضع لا بمقدمات الحكمة.

[4] حيث إن هذا التعريف لا يشمل بعض أفراد المطلق، مثل ما دل على نفس الماهية، كاسم الجنس وعلم الجنس، مثل: (رجل) المراد به طبيعة الرجل.

[5] في غير مقام واحد، أي: في مقامات متعددة، كما في بحث المطلق والمشروط، وصدر بحث العام والخاص.

ص: 147


1- الفصول الغروية: 218.

على أن مثله شرح الاسم[1]، وهو مما يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس[2]. فالأولى الإعراض عن ذلك[3] ببيان ما وضع له[4] بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق أو من غيرها[5] مما يناسب المقام.

فمنها: اسم الجنس[6]، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض... إلى غير ذلك[7] من أسماء الكليات من الجواهر والأعراض بل العرضيات[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] «شرح الاسم» هو تبديل لفظ مكان لفظ آخر لتقريب المعنى إلى الذهن، كقولهم: (سعدانة نبت).

[2] فمثل: (الإنسان موجود عاقل) يراد به شرح الاسم، وليس هو طارد للأغيار، حيث هناك موجودات عاقلة غير الإنسان كالجن، ولا جامع للأفراد لعدم شموله للمجانين، لكن لا بأس بهذا التعريف؛ لأن المراد منه شرح الاسم.

[3] أي: عن التعريف وعن النقض والإبرام فيه.

[4] أي: ببيان المعاني التي وضعت ألفاظ المطلق لها.

[5] أي: من غير ما تسمى بالمطلق، فيكون حاصل العبارة: ببيان ما وضع له بعض الألفاظ التي لا تُسمّى بالمطلق، مثل: المعرّف بلام العهد، فإنه ذكر استطراداً لمناسبته لبحث (لام الجنس)، وكذا القسم الأول من النكرة، وغيرهما.

1- اسم الجنس

[6] مجرداً عن حرف التعريف والتنوين ونحوها.

[7] سواء دل على الجواهر، كحيوان وهو جنس منطقي، وإنسان وهو نوع، ورجل وهو صنف، أم دل على الأعراض مثل: سواد وبياض، أم دل على الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية مثل: ملك وفوق، ونحوها.

[8] مراد المصنف هو الأمور غير المتأصلة، أي: الأمور الاعتبارية والانتزاعية، ولا يخفى أن هذا المعنى خلاف الاصطلاح، حيث اصطلحوا (العرض) لمبدأ الشيء الذي يقوم بالغير كالسواد والبياض، و(العرضي) للمشتق منه كالأسود والأبيض،

ص: 148

ولا ريب[1]

-----------------------------------------------------------------

كما قال السبزواري:

وعرضي

الشيء غير العرض

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيض(1)

[1] شروع لبيان ما وضع له اسم الجنس، وحاصله: إن الماهية قد تلاحظ (بشرط شيء)، وقد تلاحظ (بشرط لا)، وقد تلاحظ (لا بشرط).

مثلاً: لو قال المولى: (أعتق رقبة)، فقد يقيدها بالمؤمنة فهذا الماهية (بشرط شيء) وهو الإيمان، وقد يقيدها بعدم العيب فيقول: (أعتق رقبة غير معيوبة) فهذا الماهية بشرط عدم العيب وهو (بشرط لا)، وقد يلاحظ عدم تقييدها بشرط أو عدم شرط فيقول: (أعتق رقبة أياً كانت تلك الرقبة) وهذا هو (لا بشرط)، فهذه أقسام ثلاثة.

وهذه الأقسام لها مقسم، أي: جامع موجود في كل الأقسام، ولا يمكن أن يكون المقسم الجامع أحد الأقسام؛ لاستحالة تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، مثلاً يقال: الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف، فالكلمة هي الجامع بين الأقسام الثلاثة، ولا يصح القول: إنّ الاسم إما اسم أو فعل أو حرف.

عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُimg6.pngفما هو الجامع بين (بشرط شيء) و(بشرط لا) و(لا بشرط)؟ هذا الجامع موجود في كل هذه الثلاثة وغير متصف بخصوصياتها وهنا يعبر عنه ب- (اللابشرط المقسمي)

اللابشرط المقسمي

إذا اتضح ذلك، يقول المصنف: إن اسم الجنس هو الماهية التي لم يلاحظ فيها شرط، ولا عدم شرط ولا اللابشرط القسمي.

فمثل: (إنسان) لم يُلاحظ فيه شرط البياض مثلاً، ولم يلاحظ شرط عدم

ص: 149


1- شرح المنظومة: 29.

أنها[1] موضوعة لمفاهيمها بما هي هي[2] مبهمة مهملة، بلا شرطٍ أصلاً ملحوظ معها. حتى لحاظ أنها كذلك[3].

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس[4] هو نفس المعنى وصرف المفهوم الغير الملحوظ(1)

معه شيء أصلاً - الذي هو[5] المعنى بشرط شيء - ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي[6]، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه[7] - الذي

-----------------------------------------------------------------

البياض، كما لم يؤخذ فيه الإطلاق - أي: اللابشرطية القسمية - .

[1] أن أسماء الكليات - أي: اسم الجنس - .

[2] أي: لنفس الشيء فقط من غير دخل شيء فيه أصلاً، وهذا هو (اللابشرط المقسمي)، وقوله: «مبهمة مهملة بلا شرط» توضيح لقوله: «بما هي هي».

[3] أي: حتى لحاظ أن الماهية مبهمة مهملة من غير شرط؛ وذلك لأن لحاظ عدم الشرط فيها يكون من (اللابشرط القسمي)

[4] «اسم الجنس» نائب فاعل قوله: (الموضوع له)، والمراد: المعنى الذي وضع لذلك المعنى اسم الجنس.

[5] أي: الملحوظ معه شيء هو (بشرط شيء) فقوله: «الذي» وصف لقوله: (الملحوظ معه شيء)، وبعبارة أخرى: «الذي» وصف للمنفي لا للنفي.

[6] «الإرسال» هو العموم الشمولي، مثلاً: (النساء) لفظ يشمل الجميع؛ لأنه أخذ في معناه الشمول، فلا يصدق على الواحدة منهن، و«العموم البدلي» مثل: (رجلٌ) - بالتنوين - فهو يشمل الجميع لكن على البدل، وهذان من أقسام (بشرط شيء).

[7] وهذا (اللابشرط القسمي)، فمثلاً يقال: (إنسان) بشرط أن لا يكون معه شرط أصلاً، فمع هذا اللحاظ لا يصح ملاحظة أي شرط معه، مع أن (اللابشرط المقسمي) يجتمع من (بشرط شيء) و(بشرط لا) لأنه الجامع لهما ولغيرهما.

ص: 150


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الملحوظ».

هو الماهية اللابشرط القسمي -. وذلك[1] لوضوح صدقها - بما لها من المعنى[2] - بلا عناية التجريد عما[3] هو قضية الاشتراط والتقييد فيها[4]، كما لا يخفى، مع بداهة[5] عدم صدق المفهوم بشرط العموم[6] على فرد من الأفراد وإن كان يعم كل واحد منها بدلاً أو استيعاباً[7]. وكذا المفهوم اللابشرط القسمي، فإنه كلي عقلي[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] دليل لقوله: (أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة... الخ)، وحاصله: إن اسم الجنس يصح إطلاقه على المعنى بشرط شيء، وعلى المعنى بشرط عدم شيء، وعلى المعنى اللابشرط، فالإنسان يطلق على الإنسان بشرط السواد، وعلى الإنسان بشرط عدم بياضه، وعلى الإنسان الذي لوحظ فيه لا بشرط من الأوصاف ومن عدمها، وكل ذلك بالاستعمال الحقيقي من غير عناية؛ وذلك دليل على أنه موضوع للمعنى الجامع بينها كلها - وهو اللابشرط المقسمي - ولو كان موضوعاً لأحدها كان استعماله في الآخرين مجازاً، وليس كذلك.

[2] أي: صدق أسماء الأجناس بمعانيها الحقيقية على كل فرد من أفرادها.

[3] «عما» متعلق بالتجريد، أي: بلا مجازية في تجريد المعنى عن اللحاظ.

[4] أي: في أسماء الأجناس، لأن كل من الأقسام الثلاثة - بشرط شيء، بشرط لا، لا بشرط - هي تقييد المعنى بهذا اللحاظ.

[5] هذا تكميل للدليل، وليس دليلاً مستقلاً.

[6] أي: بشرط الشياع في كل الأفراد - استيعاباً أو بدلاً - .

[7] مثلاً: (نساء) يشمل كل إمرأة، لكن لا يصح إطلاقه على امرأة مفردة؛ لأنه موضوع للمعنى بشرط العموم. أما اسماء الأجناس فإنه يصح إطلاقها على أي فرد من الأفراد بلا عناية.

[8] أي: أمر ذهني؛ وذلك لأن المعنى مقيد باللحاظ، واللحاظ أمر ذهني، وكل شيء مركب من أمرين أحدهما اللحاظ فإنه لا موطن له في الخارج؛ لتباين عالم

ص: 151

لا موطن له إلاّ الذهن، لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها[1]، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجاً، فكيف يمكن أن يتحد معها[2] ما لا وجود له إلاّ ذهناً.

ومنها: علم الجنس[3] ك(أسامة)[4]. والمشهور بين أهل العربية[5]: أنه موضوع

-----------------------------------------------------------------

الذهن وعالم الخارج.

ثم اعلم أن قوله: «كلي عقلي» هو خلاف الاصطلاح؛ لأن اصطلاحهم هو أن المركب من الكلي الطبيعي والكلي المنطقي هو الكلي العقلي، مثلاً قولنا: (الإنسان كلي)، ف(الإنسان) كلي طبيعي، و(كلي) كلي منطقي، والمجموع من المبتدأ والخبر يكون كلي عقلي.

[1] أي: على الأفراد الخارجية.

[2] أي: يتحد مع الأفراد الخارجية.

والحاصل: إن (اللابشرط القسمي) هو المعنى الملاحظ فيه عدم تقيد بشرط، فصار هذا اللحاظ جزءاً من المعنى، فلا يعقل وجود هذا المعنى في الخارج؛ لأن اللحاظ أمر ذهني، مع أن أسماء الأجناس يصح اتحادها مع الأفراد الخارجية فيقال: (زيد إنسان) بلا مجاز أصلاً.

2- علم الجنس

[3] وهو المعرفة الدال على الماهية، كما أن اسم الجنس كان نكرة دالاً على الماهية.

[4] عَلَم على الأسد، وكذا ثعالة على الثعلب، وأم عريط على العقرب، ونحوها.

[5] حاصل كلامهم: هو أن علم الجنس وُضع لمعنى مركب من الماهية والتعيّن الذهني، ولتعيّنه كان معرفة، فيقع مبتدأ، ويوصف بالمعرفة، ولا تدخل عليه لام التعريف، ونحو ذلك من خصوصيات المعارف.

ص: 152

للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعينة بالتعين الذهني، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق[1]: أنه موضوع لصرف المعنى[2] بلا لحاظ شيء معه أصلاً[3] - كاسم الجنس -. والتعريف فيه لفظي - كما هو الحال في التأنيث اللفظي -، وإلاّ[4]

-----------------------------------------------------------------

أما اسم الجنس فإنه وضع لنفس الماهية، ولذا كان نكرة، ولتعريفه يحتاج إلى أداة التعريف مثل: (أسد).

[1] حاصل تحقيق المصنف: هو أن لا فرق في معنى اسم الجنس وعَلَم الجنس، فكلاهها يدلان على الماهية بما هي هي، وإنّما الفرق لفظي، أي: أحدهما معرفة في اللفظ، والآخر نكرة في اللفظ، كما في التأنيث اللفظي، فمثلاً: (صحراء) و(بَرّ) بمعنى واحد إلاّ أن لفظ أحدهما مؤنث ولفظ الآخر مذكر، وهكذا (أسامة) و(أسد) معناهما واحد إلاّ أن أحدهما معرفة لفظاً والآخر نكرة لفظاً.

وفائدة ذلك التوسع في اللغة، وتسهيل أوزان الشعر، والإتيان بمقتضى المقام من التعريف والتنكير والتذكير والتأنيث ونحو ذلك.

ثم استدل المصنف لذلك بأمرين كما سيأتي.

[2] أي: إن علم الجنس موضوع للماهية المجردة - من اللابشرط المقسمي كما مرّ - .

[3] أي: من غير أن يكون (لحاظ التعين الذهني) جزءاً من المعنى.

[4] بيان الدليل الأول لمدعى المصنف - وهو إشكال على مبنى المشهور - وحاصله: إن اللحاظ أمر ذهني، فلا يمكن أن يتحقق في الواقع الخارجي - كما مرّ - فلو كان التعيّن الذهني جزءاً من معنى (علم الجنس) لم يتحقق علم الجنس في الخارج، مع أنا نرى صحة مثل: (هذا أسامة) في إشارة إلى أسد خارجي، فلفظ (أسامة) اُطلق على معنى خارجي، بلا عناية المجاز.

بلى على مبنى المشهور يجوز ذلك الإطلاق لو جردنا المعنى من اللحاظ، وحينئذٍ

ص: 153

لما صح حمله[1] على الأفراد بلا تصرف وتأويل[2]، لأنه على المشهور كلي عقلي[3]، وقد عرفت أنه لا يكاد صدقه عليها[4]، مع صحة حمله عليها[5] بدون ذلك كما لا يخفى، ضرورة أن التصرف في المحمول[6] بإرادة نفس المعنى بدون قيده[7] تعسف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه[8]. مع أن[9] وضعه[10]

-----------------------------------------------------------------

يكون اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له فيكون مجازاً!! مع أنا لا نرى مجازاً في هذا الاستعمال.

[1] أي: حمل علم الجنس بأن يجعل خبراً - مثلاً - في قولنا: (هذا أسامة).

[2] أي: بلا تصرف في المعنى، وتأويل في اللفظ، بأن يقال: لا يراد من اللفظ ظاهره الموضوع له.

[3] أي: لأن علم الجنس على مبنى المشهور يكون أمراً ذهنياً؛ لأن المركب من اللحاظ وغيره لا موطن له إلاّ الذهن.

[4] أي: لا يمكن صدق الأمر الذهني على الأفراد الخارجية.

[5] هذا من تتمة الدليل الأول ورد المبنى المشهور، أي: والحال أنه يصح حمل عَلَم الجنس على الأفراد بدون التصرف والتأويل.

[6] أي: علم الجنس الواقع محمولاً في مثل: (هذا أسامة).

[7] الذي هو جزء المعنى.

[8] أي: القضايا المستعملة في لسان العرف، وضمير «عليه» يرجع إلى (تعسف).

[9] بيان الدليل الثاني - وهو إشكال آخر على المشهور - وحاصله: إن علم الجنس يطلق دائماً على الأفراد، فلو كان التعين الذهني جزءاً من المعنى كان الاستعمال دائماً على خلاف الوضع، والحكيم لا يضع لفظاً على معنى لا يستعمله فيه أصلاً.

[10] أي: وضع علم الجنس.

لخصوص معنى[1] يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال[2] لا يكاد يصدر عن جاهل، فضلاً عن الواضع الحكيم.

ومنها: المفرد المعرف باللام[3]. والمشهور أنه على أقسام : المعرف بلام الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه[4] على نحو الاشتراك بينها لفظاً أو معنىً[5].

والظاهر[6]

ص: 154

-----------------------------------------------------------------

[1] هو المركب من الماهية والتعين الذهني.

[2] أي: يحتاج ذلك المعنى إلى تجريده عن الخصوصية - وهي التعيّن الذهني الذي هو أحد جزءي المعنى - .

3- المفرد المعرَّف باللام

[3] المراد خصوص لام الجنس، وأما الدالة على العهد والاستغراق فلا دلالة لها على الإطلاق، وإنما تذكر هنا استطراداً؛ لأن العهد يدل على فرد خاص لا الماهية المبهمة، والاستغراق يدل على العموم لا الإطلاق.

[4] مثال الجنس: (الحمد لله)، والاستغراق: {إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ}(1)، والعهد الذكري: {أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا * فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ}(2)، والعهد الخارجي: (أغلق الباب)، والعهد الذهني: (أكرم الرجل) قاصداً رجلاً معيناً في ذهنه، ولا يخفى أن العهد الحضوري هو من أقسام العهد الخارجي.

[5] أي: الاشتراك بين هذه الأقسام الخمسة، والاشتراك اللفظي هو وضع اللام على كل واحد من هذه الأقسام على حده، والاشتراك المعنوي هو وضع اللام للجامع بين هذه الأقسام، وهذا الجامع موجود بين الأقسام الخمسة.

[6] مراده بيان أن اختلاف المعنى - على مبنى المشهور - إنما يكون في لام التعريف، فهي مشتركة لفظاً أو معنىً بين خمسة أمور، وهذا الاختلاف لا يرتبط

ص: 155


1- سورة العصر، الآية: 2.
2- سورة المزمل، الآية: 15 - 16.

أن الخصوصية في كل واحد من الأقسام من قبل خصوص (اللام)[1]، أو من قبل قرائن المقام[2] من باب تعدد الدال والمدلول[3]، لا باستعمال المدخول[4]، ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك، فكان المدخول على كل حال مستعملاً في ما يستعمل فيه الغير المدخول(1).

والمعروف أن (اللام) تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين[5] في غير العهد الذهني[6].

-----------------------------------------------------------------

بمدخول لام التعريف، فإن المدخول باقٍ على معناه الموضوع له، ففي مثل: (الرجل) المدخول وهو (رجل) دال على الماهية الصرفة - اللابشرط المقسمي - وأما العهد أو الاستغراق أو الجنس فإنه مفاد لام التعريف أو مفاد القرائن الخارجية.

[1] بناءً على الاشتراك اللفظي، حيث المعاني متعددة.

[2] بناءً على الاشتراك المعنوي؛ لأن المعنى واحد - وهو الجامع - وأما الخصوصيات فهي مستفادة من القرائن.

[3] أي: اللام أو القرائن تدل على الجنس أو العهد أو الاستغراق، والمدخول - مثل: رجل - يدل على الماهية الصرفة.

[4] أي: ليس المدخول - وهو رجل في المثال - دال على الجنس تارة، والعهد تارة أخرى، والاستغراق تارة ثالثة.

مبنى المشهور والإشكال عليه

[5] لأنها إذا وضعت للتعريف أفادت التعيين؛ لأن التعيين هو سبب التعريف، والحاصل حينما يكون الغرض هو التعيين يتم التعريف، ولو لا التعيين ما أمكن التعريف.

[6] لأن العهد الذهني لا يفيد التعيين أصلاً، وهو قابل للانطباق على الكثير، فهو إشارة إلى المعنى الموجود في الذهن من غير تعيينه في أي مصداق من المصاديق

ص: 156


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المدخول».

وأنت خبير[1] بأنه لا تعين في تعريف الجنس[2] إلاّ الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً. ولازمه[3] أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد[4] مع ما لا موطن له إلاّ الذهن، إلا بالتجريد. ومعه[5] لا فائدة في التقييد، مع أن التأويل[6] والتصرف في القضايا المتداولة

-----------------------------------------------------------------

الخارجية، هكذا قيل ونسب إلى الرضي صاحب شرحي الكافية والشافية(1).

[1] إشكال على مبنى المشهور، ويذكر المصنف هنا لام الجنس فقط؛ لأن سائر الأقسام لا دلالة لها على الإطلاق، وإنّما ذكرت استطراداً - كما أشرنا إليه - .

[2] أي: الجنس لا يمكن تعيينه في الخارج؛ لأن المعين في الخارج هو الأفراد، فلا يبقى إلاّ أن نقول: إن تعيين الجنس إنما يكون في الذهن، فاللام تُعين المعنى من بين مختلف المعاني الموجودة في الذهن، وهذا يستلزم محذورين.

المحذور الأول

[3] أي: لازم الإشارة إلى المعنى المتميز في الذهن هو عدم إمكان حمل المعرف بلام الجنس على الأفراد؛ لأن الأفراد موجودات خارجية، والمعرف بلام الجنس - على مبنى المشهور - أمر ذهني، ولا يعقل اتحادهما - كما مرّ - مع أنا نرى صحة الحمل ووقوعه مثل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ}(2)، فالأبتر مفرد معرف بلام الجنس اتحد مع الشانئ خارجاً.

[4] أي: اتحاد الأفراد الخارجية.

[5] أي: مع التجريد، والمراد أنه مع الاحتياج حين الحمل إلى التجريد دائماً فإنه من اللغو تقييد المعنى بالتميز الذهني.

المحذور الثاني

[6] إشارة إلى المحذور الثاني الوارد على مبنى المشهور، وحاصله: إن الناس

ص: 157


1- شرح الكافية 1: 497 و3: 245.
2- سورة الكوثر، الآية: 3.

في العرف غير خال عن التعسف. هذا مضافاً[1] إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه[2] - بل لابد من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام[3] أو الحمل عليه[4] - كان لغواً كما أشرنا إليه.

فالظاهر أن (اللام) مطلقاً[5] يكون للتزيين، كما في الحسن والحسين. واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعيّنها على كل حال[6]، ولو قيل[7]

-----------------------------------------------------------------

يحملون المعرف بلام الجنس على الأفراد من غير مجازية، والقول لأنهم يستعملونها بالمعنى المجازي تعسف، وخروج عن مذاق العرف.

[1] هذا تكرار للمحذور الأول، وليس محذوراً ثالثاً، فمفاد قوله: (ومعه لا فائدة في التقييد) وقوله: (الوضع لما لا حاجة له... الخ) واحد، كما لا يخفى على المتأمل.

[2] وهو التميز في الذهن.

[3] إذا كان خبراً مثل: (زيد الرجل).

[4] إذا كان مبتدأ مثل: (العالم زيد).

مختار المصنف

[5] سواء في الأقسام الخمسة المذكورة - وهي الاستغراق والجنس والعهد بأقسامه - أم في غيرها.

[6] أي: التي لابد من تلك القرائن لتعيّن الخصوصيات، سواء قلنا بالاشتراك اللفظي حيث يحتاج إلى قرينة معينة للمعنى، أم قلنا بالاشتراك المعنوي حيث يحتاج إلى تعيين المصداق بالقرينة، أم قلنا بالتزيين حيث يحتاج إلى الدلالة على المراد إلى القرينة.

[7] «لو» وصلية، أي: حتى على مبنى المشهور القائلين بدلالة اللام على المعنى - من العهد والجنس والاستغراق - أما على القول بالتزيين فلا دلالة لها على المعنى، وإنّما هي حرف زائد لمجرد تجميل الكلام.

ص: 158

بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى. ومع الدلالة[1] عليه بتلك الخصوصيات[2] لا حاجة إلى تلك الإشارة[3] لو لم تكن مخلة[4]، وقد عرفت إخلالها، فتأمل جيداً[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] هنا يستدل المصنف على مختاره، وهو أن مبنى المشهور فيه تكلف غير محتاج إليه، حيث لازمه هو القول بأن اللام وضعت لمعنى وتعيين المعنى بالقرينة، في حين أنه على مبنى المصنف يقال: القرينة دلت على المعنى مباشرة.

[2] أي: مع دلالة القرائن على المعنى المتضمن لتلك الخصوصيات، فقوله: «مع الدلالة» يراد به دلالة القرائن، والباء في قوله: «بتلك» بمعنى مع.

[3] أي: الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً، الذي اعتبره المشهور جزء مدلول لام التعريف.

[4] قد ذكر المصنف إخلالها، حيث إن اللحاظ أمر ذهني، ولا يمكن اتحاد ما موطنه الذهن مع الأفراد الخارجية.

[5] لا يخفى أن المصنف تبع الرضي - صاحب شرحي الكافية والشافية - في أن اللام للتزيين مطلقاً، وهذا الكلام غريب جداً بعيد عن محاورات أهل اللسان، بداهة الفرق بين مثل: (جاء رجل وأكرمت الرجل) وبين (جاء رجل وأكرمت رجلاً).

فأما مسألة اللحاظ وأنه أمر ذهني فيمكن أن يقال ذلك في مرحلة الاستعمال، ولم يؤخذ في الموضوع له - كما مرّ نظيره من المصنف في المعنى الحرفي وفرقه عن المعنى الاسمي - واللحاظ في مرحلة الاستعمال مما لابد منه على كل حال؛ إذ لا يمكن استعمال اللفظ في معنىً إلاّ بعد خطور ذلك المعنى في الذهن ولحاظه، ولا يلزم منه جمع لحاظين كما لا يخفى، وحينئذٍ فالمفرد المعرف بلام الجنس يستعمل في الماهية بما هي متعينة بالتعين الذهني، وذلك التعين في مرحلة الاستعمال، فلا تلزم

ص: 159

وأما دلالة الجمع المعرف باللام[1] على العموم - مع عدم دلالة المدخول عليه[2] - : فلا دلالة فيها[3]

-----------------------------------------------------------------

المحاذير التي ذكرها المصنف. فتأمل جيداً.

4- الجمع المعرف باللام

[1] دفع إشكال، وحاصل الكلام: هو أن المصنف اختار عدم دلالة الألف واللام على التعيين، بل هي لمجرد التزيين، وهنا يرد إشكال وهو أنه لا شبهة في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، مع وضوح عدم دلالة مدخول اللام على العموم، حيث إن المدخول دال على الجمع، وهو يبدأ من الثلاثة وإلى الكل، فهذه المراتب الكثيرة لا يتعين المدخول في أي منها، ولكن بعد الدخول اللام عليه دلّ على التعيين، ولا تعيين إلاّ في المرتبة العليا، ولا يكون ذلك إلاّ بواسطة اللام، فثبت أن اللام ليست لمجرد التزيين، بل للتعيين - وهذا حاصل كلام صاحب الفصول(1) - .

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بجوابين:

الأول: إن التعيين لا ينحصر في المرتبة العليا، بل المرتبة الدنيا - وهي أقل الجمع - أيضاً معينة.

الثاني: لو سلمنا دلالة اللام على الاستغراق فلا داعي لأن نقول: إن اللام دلت على التعيين ولا تعيين إلاّ في العموم، بل نقول: إن اللام دلت على العموم مباشرة بلا توسط دلالة على التعيين.

[2] أي: على العموم، حيث إن المدخول جمع، والجمع غير دال على مرتبة من مراتبه، فمثلاً: (رجال) له مراتب تبدأ من ثلاثة وتنتهي إلى شمول جميع الأفراد، أما (الرجال) فإنه يدل على الجميع.

[3] أي: لا دلالة في (دلالة الجمع المعرف على العموم)، والمعنى: لا يثبت بهذه

ص: 160


1- الفصول الغروية: 170 و197.

على أنها[1] تكون لأجل دلالة اللام على التعين، حيث[2] لا تعين إلاّ للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد. وذلك[3] لتعين المرتبة الأخرى، وهي أقل مراتب الجمع، كما لا يخفى. فلابد[4] أن يكون دلالته عليه[5] مستندة إلى وضعه كذلك لذلك[6]، لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين ليكون به التعريف[7].

وإن أبيت[8] عن استناد الدلالة عليه إليه[9] فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين[10]،

-----------------------------------------------------------------

الدلالة مدعى صاحب الفصول.

[1] أي: على أن دلالة الجمع... الخ.

[2] بيان لدليل صاحب الفصول.

[3] بيان للجواب الأول عن كلام الفصول.

[4] بيان لمختار المصنف، وهو أن المجموع من اللام والمدخول يدل على الاستغراق، أي: إن الهيئة التركيبية دالة عليه لا اللام.

[5] أي: دلالة الجمع المحلى باللام على العموم.

[6] أي: إلى وضع الجمع المحلّى، «كذلك» أي: مركباً من اللام والمدخول، «لذلك» أي: للعموم والاستغراق.

[7] أي: ليكون بالتعيين، والمعنى لا إلى دلالة اللام على التعيين - لأن التعريف يساوق التعيين - ولا تعيين إلاّ في العموم - كما هو مدعى صاحب الفصول - .

والحاصل: إن مدعى الفصول هو أن اللام تدل على التعريف، ولا يمكن التعريف إلا بالتعيين، والجمع المحلّى باللام له مراتب متعددة لا تعين لها إلاّ في المرتبة العليا وهي الاستغراق.

[8] هذا الجواب الثاني.

[9] أي: الدلالة على العموم إلى لام التعريف.

[10] لأنه كالأكل من القفا؛ ولأن الدلالة تكون بالتبادر، والتبادر - على فرض

ص: 161

فلا يكون بسببه تعريف إلاّ لفظاً[1]، فتأمل جيداً.

ومنها: النكرة مثل (رجل) في (وجاء رجل من أقصى المدينة)[2]، أو في (جئني برجل)[3].

ولا إشكال أن المفهوم منها في الأول[4] - ولو بنحو تعدد الدال والمدلول[5] - هو الفرد المعين في الواقع، المجهول عند المخاطب[6]، المحتمل[7] الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل. كما أنه في الثاني[8]

-----------------------------------------------------------------

وجوده - إنما هو على الدلالة على العموم، فمن أين جاءت الدلالة على التعيين؟

[1] أي: لا يكون بسبب اللام إلاّ التعريف اللفظي، وأما الاستغراق فهو مستفاد من الهيئة التركيبية.

5- النكرة

[2] وهو ما كان معيناً في الواقع - سواء كان معلوماً عند المخاطب والمتكلم، أم مجهولاً عندهما، أم معلوماً عند أحدهما مجهولاً عند الآخر - وهذا القسم يكون في الإخبار - عادة - .

[3] مما لم يكن معيناً في الواقع، وهذا القسم يكون في الإنشاء كالأمر والنهي، حيث لم يعين الآمر - مثلاً - شخصاً خاصاً.

[4] أي: من النكرة في القسم الأول - وهو المعين في الواقع - .

[5] فمثل: (رجل) يدل على الماهية، و(التنوين) تدل على الوحدة، فالدال متعدد - وهما الاسم والتنوين - والمدلول متعدد أيضاً - وهما الماهية والوحدة - .

[6] وكذا لو كان مجهولاً عندهما، أو مجهولاً عند المتكلم معلوماً عند المخاطب، مثل: (أي رجل جاءك؟)، بل حتى لو كان معلوماً عندهما.

[7] عند الجاهل به، فإنه يحتمل انطباقه على مختلف الأفراد، مع أنه في الواقع لا ينطبق إلاّ على فرد واحد.

[8] أي: (رجل) في المثال الثاني، وهو ما تعلق به أمر أو نهي أو نحوهما من

ص: 162

هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة[1]، فيكون حصة من الرجل، ويكون كلياً ينطبق على كثيرين، لا فرداً مردداً بين الأفراد.

وبالجملة: النكرة - أي ما بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم[2] - إما هو[3] فرد معين في الواقع غير معين للمخاطب، أو حصة كلية، لا الفرد المردد بين الأفراد؛

-----------------------------------------------------------------

الإنشاءات، وفي هذا الكلام بيان الإشكال على صاحب الفصول، حيث رأى أن النكرة - من القسم الثاني - هي الفرد المردد، كما أنه زعم أن مدلول النكرة جزئي لا كلي، والمصنف يبيّن أن الفرد المردد لا وجود له، كما أن القسم الثاني من النكرة كلي طبيعي قابل للانطباق على كثيرين وليس جزئياً.

[1] فليس جزئياً، وهذا هو الفرق بين اسم الجنس وبين القسم الثاني من النكرة، حيث إن اسم الجنس هو الطبيعة المهملة - اللابشرط المقسمي - فلذا يصح تطبيقها على الواحد وعلى الأكثر، وأما هذا القسم من النكرة فهو الطبيعة بقيد الوحدة، ولا يصح تطبيقها إلاّ على الواحد فقط - أيَّ واحدٍ كان - .

[2] أي: ليس كلامنا هنا في مفهوم النكرة - ببيان جنسها وفصلها - بل المراد هو مصاديق النكرة، مثل (رجل) ونحوه حيث إنه نكرة خارجاً، وإن كان مفهوم كل واحد من (رجل) و(نكرة) متغايراً، وقد مرّ أن ملاك الحمل الأولي الذاتي هو الاتحاد مفهوماً والاختلاف في الإجمال والتفصيل، مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وملاك الحمل الشائع هو الاختلاف مفهوماً والاتحاد وجوداً، مثل: (زيد عالم)، حيث إن مفهوم (زيد) يختلف عن مفهوم (عالم) لكنها في الخارج شيء واحد.

[3] مراده أن القسم الأول من النكرة لا يكون فرداً مردداً، بل هو معين في الواقع، وأما القسم الثاني فهو كلي طبيعي وليس فرداً مردداً، فلا وجه لدعوى صاحب الفصول بأن النكرة هي الفرد المردد!!

ص: 163

وذلك[1] لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنه يصدق على كل من جيء به من الأفراد[2]، ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره[3]، كما هو قضية الفرد المردد لو كان هو المراد منها[4]، ضرورة أن كل واحد[5] هو هو، لا هو أو غيره. فلابد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الأمر هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة[6]، فيكون كلياً قابلاً للانطباق، فتأمل جيداً.

إذا عرفت ذلك[7]، فالظاهر صحة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان أن القسم الثاني من النكرة ليس هو الفرد المردد، وحاصله: إن معنى (الفرد المردد) هو ما يحتمل شيئين أو أكثر، وهذا المعنى موطنه الذهن ولا يتحقق في الخارج؛ لأن كل الوجودات الخارجيّة لها تعين وتشخص، فلا يمكن انطباق (الفرد المردد) على أي موجود خارجي.

[2] فهو - أي رجل - كلي طبيعي لا جزئي، فيمكن أن ينطبق على كل فرد من أفراد الرجل.

[3] أي: لا يوجد فرد في الخارج ينطبق عليه (الفرد المردد)، لأن ما في الخارج معين واقعاً لا مردد.

[4] أي: من النكرة - القسم الثاني منها - .

[5] أي: من الأفراد الخارجية.

[6] وهذا القيد لا يجعلها جزئية، فمثل: (جئني برجل) كلى طبيعي مقيد بالوحدة، وليس قيد الوحدة تقييد للماهية بمعنى إخراج بعض أفرادها - مثل: (رجل عالم) حيث أخرج غير العالم - بل رجل واحد يمكن انطباقه على أيِّ فردٍ من أفراد الرجل، لكن ليس المأمور به أكثر من واحد، وهذا في الحقيقة ليس تقييداً - بالمعنى المصطلح - فدقق.

إطلاق لفظ المطلق

[7] أي: هذه الأنواع الأربعة - اسم الجنس، وعلم الجنس والمعرف باللام،

ص: 164

والنكرة بالمعنى الثاني[1]، كما يصح لغةً[2]. وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإطلاق[3] على وفق اللغة من دون أن يكون لهم فيه[4] اصطلاح على خلافها، كما لا يخفى.

نعم، لو صح ما نسب إلى المشهور[5] من كون المطلق عندهم موضوعاً لما قيد بالإرسال والشمول البدلي[6] لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق[7]، إلاّ أن الكلام في صدق النسبة[8].

-----------------------------------------------------------------

والنكرة - وتقسيماتها. وليس كلها يصح إطلاق لفظ (المطلق) عليها، بل بعضها، وهنا يبين المصنف ما تستحق لفظ (المطلق).

[1] لأنهما يدلان على الماهية ويقبلان الانطباق على أفرادها على البدل.

[2] لأن (المطلق) لغةً(1)

هو المرسل غير المقيد، واسم الجنس دال على الماهية بلا تقييد فهو مرسل، كذلك النكرة بالمعنى الثاني، فإن الوحدة ليست قيداً في الحقيقة كما مر قبل قليل، فراجع.

[3] أي: في إجراء لفظ (المطلق) عليهما.

[4] في إطلاق لفظ (المطلق) عليهما، وضمير «خلافها» راجع إلى اللغة.

[5] نسبه إليهم المحقق القمي(2)

- على ما قيل - .

[6] فيكون من اللابشرط القسمي.

[7] لأن اسم الجنس لم يقيد بالشمول والإرسال، لما مرّ من أنه موضوع للماهية المهملة - اللابشرط المقسمي - والنكرة بالمعنى الثاني قيدت بالوحدة لا بالشمول والإرسال.

[8] أي: لنا تأمل في صحة هذه النسبة إلى المشهور، بل الظاهر أنهم جروا على المعنى اللغوي، وليس لهم اصطلاح خاص في المطلق.

ص: 165


1- الصحاح 4: 1518؛ لسان العرب 10: 227.
2- قوانين الأصول 1: 321.

ولا يخفى[1]: أن المطلق[2] بهذا المعنى[3] لطروء القيد غير قابل[4]، فإن ما له من الخصوصية[5] ينافيه ويعانده[6]، بل وهذا بخلافه بالمعنيين[7]، فإن كلاً منهما له

-----------------------------------------------------------------

هل التقييد مجاز؟

الأقول في التقييد ثلاثة:

1- المطلق يستعمل في معناه الحقيقي، والتقييد يستفاد من لفظ آخر، أو من قرينة حالية من باب تعدد الدال والمدلول.

2- المطلق مجاز حينئذٍ مطلقاً.

3- التفصيل بين القيد المتصل فمجاز، وبين المنفصل فحقيقة.

[1] الغرض من هذا الكلام أمران:

الأول: إثبات أن التقييد لا يوجب تجوزاً في المطلق.

الثاني: إشكال آخر على ما نسب إلى المشهور من أن المطلق هو الماهية المقيدة بالإرسال والشمول.

[2] المراد ما كان بالحمل الشائع مطلقاً، أي: مصاديق المطلق، مثل: رقبة، ورجل، ونحوهما.

[3] أي: المعنى المنسوب إلى المشهور.

[4] وذلك لأن الإرسال والشمول يتنافى مع التقييد؛ لأنها ضدان أو نقيضان؛ لأن معنى الإرسال والشمول هو عدم التقييد. نعم، مع رفع اليد عن الإرسال والشمول يصح التقييد لكنه مجاز - حسب المبنى المنسوب إلى المشهور - !!

[5] أي: فإن ما للمطلق من خصوصية الإرسال التي هي جزء الموضوع له - حسب هذا المبنى - .

[6] أي: ينافي ويعاند التقييد.

[7] أي: بخلاف المطلق بمعنى الماهية المبهمة - في اسم الجنس - وبمعنى الماهية بقيد

ص: 166

قابل[1]، لعدم انثلامهما بسببه[2] أصلاً، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوزاً في المطلق، لإمكان إرادة معنى لفظه منه[3]، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال، وإنما استلزمه[4] لو كان بذاك المعنى[5].

نعم[6]، لو أريد من لفظه[7] المعنى المقيد كان مجازاً مطلقاً[8]، كان التقييد بمتصل

-----------------------------------------------------------------

الوحدة - في القسم الثاني من النكرة - .

[1] أي: فإن كلاًّ من المعنيين قابل للتقييد من غير تجوز؛ وذلك لعدم التنافي بين الماهية المبهمة والماهية بقيد الوحدة وبين التقييد، وحينئذٍ فيستعمل المطلق في معناه، ويستفاد القيد من لفظ آخر، أو من قرينة حالية، من باب تعدد الدال والمدلول، ففي مثل: (أعتق رقبة مؤمنة)، المطلق وهو (رقبة) استعمل في الماهية المبهمة، وأما قيد الإيمان فقد استفيد من لفظ آخر وهو (مؤمنة)، فالمطلق استعمل في ما وضع له، فلا تجوّز.

[2] أي: لعدم تغيّر المعنيين بسبب التقييد، لما ذكرنا من أن التقييد هو من باب تعدد الدال والمدلول.

[3] أي: معنى المطلق - الحقيقي - من لفظ المطلق.

[4] فاعل استلزم هو (التقييد)، وضمير الهاء يرجع إلى (التجوز)، أي: إنّما استلزم التقييد التجوز.

[5] المنسوب إلى المشهور.

[6] حاصله: إن مثل: (أعتق رقبة مؤمنة) لو كان معنى (رقبة) الماهية المقيدة، وكان لفظة (مؤمنة) قرينة على أن المراد من (رقبة) ليس الماهية المبهمة، فهذا مجاز؛ لاستعمال لفظ المطلق - أي: الرقبة - في غير ما وضع له.

[7] أي: لفظ المطلق.

[8] أي: سواء على القول المنسوب إلى المشهور، أم على القول المختار.

ص: 167

أو منفصل[1].

فصل: قد ظهر لك أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلاّ على الماهية المبهمة وضعاً[2]، وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجاً عما وضع له، فلابد في الدلالة عليه[3] من قرينة حال، أو مقال، أو حكمة[4].

وهي تتوقف على مقدمات:

إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، لا الإهمال أو الإجمال[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إن كان لفظ المطلق استعمل في معناه والقيد استفيد من لفظ آخر كان معنى المطلق حقيقياً، ولكن لم يستعمل في معناه، بل في المعنى المقيد كان مجازاً، من غير فرق بين القيد المتصل أم المنفصل.

فصل مقدمات الحكمة

اشارة

[2] «وضعاً» قيد لقوله: (لا دلالة)، أي: لم يوضع مثل: (رجل) ليدل على الإطلاق، فاللازم استفادة الإطلاق من خارج اللفظ.

[3] أي: على الإطلاق، و(القرينة الحالية) كما لو علمنا من الخارج عدم الفرق عند المولى بين الرقبة المؤمنة وغير المؤمنة. و(القرينة المقالية) كما لو قال: (أعتق رقبة سواء كانت مؤمنة أم لم تكن).

وحيث إن القرينة الحالية والمقالية لا ضابط لهما، بل نحتاج في كل مورد إلى ملاحظة وجودها أو عدمها، فلذا لم يكونا مورداً للبحث.

[4] أي: بملاحظة حكمة المولى وأنه لا يخلّ بمراده لكونه حكيماً. «وهي» أي: الحكمة.

[5] الإهمال في مقام الثبوت، والإجمال في مقام الإثبات.

ص: 168

ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين[1].

ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب[2]؛ ولو[3] كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه[4] غير مؤثر في رفع الإخلال بالغرض لو كان بصدد البيان[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] كالقرائن اللفظية، فلو قال: (أعتق رقبة مؤمنة)، فإن (رقبة) لا إطلاق فيها؛ لوجود قرينة لفظية دالة على إرادة التقييد وهي (مؤمنة).

[2] مثل الانصراف، وهذا مرتبط بالألفاظ التي استعملها المولى، فلو قال: (جئني بماء) حال كونه عطشان، فإن لفظ (الماء) لا إطلاق له، بل يراد منه المقيّد، أي: الماء الصالح للشرب، فإنه القدر المتيقن في مقام التخاطب.

[3] «لو» شرطية وجواب الشرط قوله: (فإنه غير مؤثر... الخ)، والمعنى أنه لا يضر بالإطلاق وجود القدر المتيقن في خارج مقام التخاطب، بحيث لا ينصرف اللفظ إليه؛ لعدم اعتماد العقلاء على هذا القدر المتيقن، بل إنما يكون اعتمادهم عليه إذا كان في مقام التخاطب؛ وذلك لأنه لا يخلو مطلق من قدر متيقن خارج مقام التخاطب، فلو أضر بالإطلاق لم يبق مطلق أصلاً، فمثل: (أعتق رقبة) لا قدر متيقن في مقام التخاطب؛ لعدم وجود انصراف، لكن في خارج مقام التخاطب نتيقن بكفاية المؤمنة، لكن هذا التيقن لا يضر بإطلاق (رقبة).

[4] أي: فإن المتيقن خارج مقام التخاطب إذا كان مراداً فإنه لا يصح إطلاق الكلام، بل لابد من تقييده بذلك المتيقن، ولو لم يقيده - مع كونه مراداً - فإنه قد أخلّ بمراده، وبما أن المولى حكيم فعدم تقييده بالمتيقن خارج مقام التخاطب دليل على عدم إرادته، بل إرادة الإطلاق. فلو قال: (أعتق رقبة) وكان مراده (الرقبة المؤمنة) فعدم بيان القيد إخلال بالغرض، حتى وإن كانت الرقبة المؤمنة هي القدر المتيقن - خارج مقام التخاطب - .

[5] أي: لو كان بصدد بيان ذلك القدر المتيقن، فإن عدم ذكره إخلال بالغرض.

ص: 169

كما هو الفرض[1].

فإنه[2] في ما تحققت لو لم يرد الشياع لأخل بغرضه، حيث إنه لم ينبّه مع أنه بصدده[3]. وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به[4]، حيث لم يكن مع انتفاء الأولى[5] إلاّ في مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثانية[6] كان البيان بالقرينة، ومع انتفاء الثالثة[7] لا إخلال بالغرض لو كان[8] المتيقن تمام مراده، فإن

-----------------------------------------------------------------

نعم، لو كان القدر المتيقن في مقام التخاطب جاز عدم بيانه، وذلك من سيرة العقلاء.

والحاصل: إن شرط الدلالة على الإطلاق هو عدم وجود الانصراف - قدر متيقن خطابي - ومع وجوده لا إطلاق، ولا يضر بالإطلاق قدر متيقن في غير مقام التخاطب.

[1] أي: فرضنا هو كون المولى في مقام البيان.

[2] هذا دليل إرادة الإطلاق لو تحققت المقدمات الثلاث. والمعنى: فإن الشأن إذا تحققت هذه المقدمات لو لم يرد المولى الإطلاق لأخلّ بغرضة.

[3] أي: مع أن المولى بصدد التنبيه والبيان.

[4] أي: بدون هذه المقدمات أو بعضها لا يوجد إخلال بالغرض.

[5] أي: مع انتفاء المقدمة الأولى لم يكن المولى في مقام البيان حتى يقال إنه أخل بالبيان.

[6] أي: مع جعل قرينة على التقييد فإنها المتبعة، كما لو قال: (أعتق رقبة مؤمنة).

[7] أي: مع وجود الانصراف فإن بناء العقلاء على العمل بالانصراف وعدم استفادة الإطلاق.

[8] أقول: في العبارة غموض، وسنكتفي بشرح الحقائق لها: (يعني: تارة يحرز

ص: 170

الفرض أنه بصدد بيان تمامه وقد بينه[1]، لا بصدد بيان أنه تمامه[2] كي أخل ببيانه، فافهم[3].

-----------------------------------------------------------------

أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده، وأخرى يحرز أنه في مقام بيان تمام مراده وبيان أنه تمام مراده. فإن أحرز أن المتكلم في المقام الأول كان وجود القدر المتيقن مانعاً من الإطلاق؛ لأن المقدار المتيقن إذا كان تمام مراده فهو مبين، فلا مقتضي للحمل على الإطلاق. وإذا أحرز أنه في المقام الثاني فوجود القدر المتيقن غير مانع عن الحكم بالإطلاق؛ لأن اليقين بوجوده ليس بياناً لكونه تمام المراد، فلابد أن يكون تمام المراد هو الطبيعة المطلقة)(1)،

انتهى.

[1] أي: إن المولى بصدد بيان تمام المراد، وقد بيّن تمام المراد بواسطة وجود قدر متيقن تخاطبي - أي: الانصراف - .

[2] أي: لا بصدد بيان أن المتيقن تمام المراد.

[3] قال المصنف في الهامش: (إشارة إلى أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد، وإلاّ كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها، وإلاّ أخل بغرضه. نعم، لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلاّ بصدد بيان أن المتيقن مراد، ولم يكن بصدد بيان أن غيره مراد أو ليس بمراد، قبالاً للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة)(2)، انتهى.

وتوضيحه بلفظ الحقائق: (إذا كان اليقين بوجوده بياناً لتمام المراد فلابد أن يدل بالالتزام على أنه تمام المراد، فيكون بيانه بياناً لتمام المراد)(3)، انتهى.

ص: 171


1- حقائق الأصول 1: 557.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 491.
3- حقائق الأصول 1: 557.

ثم لا يخفى عليك[1]: أن المراد بكونه[2] في مقام بيان تمام مراده مجرد بيان ذلك[3]

-----------------------------------------------------------------

المقدمة الأولی البيان في مقام الاستعمال

اشارة

من هنا يبدأ المصنف في بعض مباحث المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة.

[1] هذا الكلام لدفع إشكال يظهر من تقريرات الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن المقدمة الأولى - وهي كون المولى في مقام البيان - تنتفي لو وجدنا المقيد، فيسقط الإطلاق رأساً، ولا يمكن التمسك به في غير موارد القيد! مثلاً لو قال: (أعتق رقبة) ثم قال: (لا تعتق رقبة غير مؤمنة) فإن هذا التقييد دليل على أن المولى حين كلامه الأول - أي: أعتق رقبة - لم يكن في مقام البيان، فلا إطلاق لرقبة حتى نتمسك به في نفي سائر القيود، مثل الذكورة والأنوثة والعمر واللون ونحوها. والحال أن مبنى العلماء هو التمسك بالإطلاق لنفي سائر القيود!!

ولحل هذه العويصة يقول المصنف إن (البيان) له معنيان:

الأول: البيان الاستعمالي، أي: يريد من اللفظ الإطلاق لكن بالإرادة الاستعمالية، فإذا ورد القيد فإنه لا يتعارض مع ذلك المعنى المطلق؛ لأن القيد مراد جدّي، والإطلاق مراد استعمالي، ولا تنافي بينهما.

الثاني: البيان الجدّي، أي: إرادة المعنى واقعاً، وهذا يتنافى مع القيد؛ لأن القيد بيان جدّي فإذا كان الإطلاق مراداً جِدّاً حصل التنافي بينهما.

وفي المقدمة الأولى - وهي كونه في مقام البيان - يراد المعنى الأول للبيان.

[2] أي: ما ورد في المقدمة الأولى من كونه في مقام... الخ.

[3] أي: بيان تمام المراد، وضميرا «إظهاره» و«إفهامه» يرجعان إلى (تمام المراد).

ص: 172


1- مطارح الأنظار 2: 259.

وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جد[1]، بل قاعدةً وقانوناً[2]، ليكون[3] حجة في ما لم تكن حجة أقوى[4] على خلافه، لا البيان[5] في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فلا يكون[6] الظفر بالمقيد - ولو كان مخالفاً[7] - كاشفاً عن عدم كون المتكلم في مقام البيان. ولذا لا ينثلم به إطلاقه[8] وصحة التمسك به أصلاً، فتأمل

-----------------------------------------------------------------

[1] بل أريد إرادة استعمالية، كما مرّ نظيره في العام والخاص، فإن العام مراد بالإرادة الاستعمالية، ولذا لا يتغير معناه حين ورود الخاص.

[2] أي: الغرض من إرادة الإطلاق بالإرادة الاستعمالية هو ضرب القانون، حتى يُرجع إليه عند الشك، فكلما شككنا في وجود تقييد نرجع إلى الإطلاق؛ لأنه كان مراداً للمتكلّم.

[3] أي: ليكون الإطلاق.

[4] وهو التقييد؛ لأن المقيّد أقوى ظهوراً من المطلق.

[5] أي: ليس المراد من «البيان» في المقدمة الأولى، هو (البيان الجِدّي) الذي يراد في بعض الموارد، مثل قولهم: (قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة) فإن (البيان) في هذا القول هو (البيان الجدي) فيقبح على المولى عدم توضيح مراده الجِدّي حتى يفوت وقت الحاجة؛ لأنه حينئذٍ ناقض لغرضه.

[6] هذه نتيجة الكلام، وحاصلها: إنا لو وجدنا قيداً فإنه لا تنثلم المقدمة الأولى حتى يقال بانتفاء الإطلاق من رأس باعتبار انتفاء إحدى مقدمات الحكمة.

[7] «لو» وصلية، و(القيد المخالف) هو ما تخالف مع المطلق في الإثبات والنفي، وأما القيد الموافق فهو ما اتفقا فيهما، وسيأتي التفصيل في الفصل اللاحق.

ثم إن قوله: «ولو كان مخالفاً» لأجل أنه لا إشكال في أن المخالف مقيد للمطلق، أما الموافق ففيه خلاف، كما سيأتي، فنقول: حتى المخالف - الذي لا إشكال في أنه مقيِّد - لا يضر بالإطلاق.

[8] أي: لا ينثلم بالمقيد إطلاق المطلق، فلو قال: (أعتق رقبة) ثم ظفرنا بقوله:

ص: 173

جيداً[1].

وقد انقدح[2] بما ذكرنا أنّ النكرة في دلالتها على الشياع والسريان أيضاً تحتاج - في ما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال - إلى مقدمات الحكمة، فلا تغفل.

بقي شيء[3]: وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل في ما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد هو كونه[4] بصدد بيانه. وذلك[5] لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات في ما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها

-----------------------------------------------------------------

(لا تعتق الرقبة الكافرة) فإن إطلاق (رقبة) يبقى بحاله في سائر القيود غير الكفر.

[1] أقول: إن الكلام قد يكون له إطلاق من جهة، ولا يكون له إطلاق من جهة أخرى، فمثل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1) له إطلاق من جهة الحِلّية، ولا إطلاق له من جهة طهارة موضع العَضّ، وحينئذٍ فالتقييد ينافي الإطلاق من جهة المقيد لا من جهات أخرى، وعليه فلا بأس بالقول بأن البيان في المقدمة الأولى هو البيان الجدّي، والتقييد ينافي الإطلاق من جهة ذلك القيد لا من سائر الجهات، فتأمل.

[2] كل ما ذكرناه من أول الفصل إلى هنا كان في اسم الجنس، فيقول المصنف: إن النكرة - بالمعنى الثاني - أيضاً تحتاج إلى مقدمات الحكمة لتفيد الإطلاق، طابق النعل بالنعل.

الأصل حين الشك في مقام البيان وعدمه

[3] حاصله: هو تأسيس الأصل حين الشك في أن المتكلم كان في مقام البيان أم لم يكن، وهذا الأصل ليس أصلاً عملياً، بل هو أصل اجتهادي.

[4] أي: الأصل كون المتكلم بصدد بيان تمام المراد، وقوله: «هو كونه... الخ» خبر (يكون) في قوله: (أن يكون الأصل...).

[5] دليل هذا الأصل هو سيرة العقلاء.

ص: 174


1- سورة المائدة، الآية: 4.

إلى جهة خاصة[1].

ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها[2]، مع عدم إحراز كون مطلِقها بصدد البيان، وبُعد كونه[3] لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب(1)

ذلك إليهم. ولعل وجه[4] النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز[5]، والغفلة عن وجهه[6]، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا لم يكن دليل مقيّد فإنهم يتمسكون بالإطلاقات حتى حين الشك.

[2] أي: بالإطلاقات، «مطلقها» بصيغة اسم الفاعل، أي: المتكلّم.

[3] ضمير «كونه» يرجع إلى التمسك، وهذا دفع لتوهم، حاصله: لعل تمسك المشهور بالإطلاقات حين الشك ليس لأجل الأصل، بل لأجل الوضع، أي: وضع المطلقات للإرسال والشمول، وكلّما شككنا في أن المتكلم هل أراد المعنى الموضوع له أم أراد معنى آخر، حملنا كلامه على معناه الحقيقي الموضوع له؟

والجواب: إن النسبة إلى المشهور لم تصح، كما أن من يرى أن الإطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة، كذلك يتمسك بالإطلاق حين الشك، مما يكشف أن استنادهم إلى الإطلاق حين الشك في كون المولى في مقام البيان إنّما هو لاعتمادهم على الأصل العقلائي.

[4] هذا استطراد لبيان منشأ نسبة القول بوضع المطلق للشياع والسريان إلى المشهور، فيقول المصنف: لعل من نسب هذا القول إلى المشهور لاحظ أنهم يتمسكون بالإطلاق حتى حين الشك في كون المتكلم في مقام البيان، ولم يجد وجهاً لهذا التمسك إلاّ ذهابهم إلى وضع المطلق للشياع.

[5] أي: للتمسك بالمطلقات بدون إحراز كون المتكلم في مقام البيان.

[6] أي: وجه التمسك بالإطلاق، وذلك الوجه هو الأصل العقلائي على ما بيناه آنفاً.

ص: 175


1- قوانين الأصول 1: 321.

ثم إنه قد انقدح[1] بما عرفت - من توقف حمل المطلق على الإطلاق في ما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على[2] قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة - أنه لا إطلاق له[3] في ما كان له الانصراف[4] إلى خصوص بعض الأفراد

-----------------------------------------------------------------

المقدمة الثانية والثالثة مانعية الانصراف عن انعقاد الإطلاق

اشارة

من هنا يبدأ المصنف في بعض المباحث المرتبطة بالمقدمة الثانية والثالثة من مقدمات الحكمة.

[1] أي: بما ذكرناه في المقدمة الثانية - انتفاء ما يوجب التعيين - وبما ذكرناه في المقدمة الثالثة - انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب - انقدح أن الانصراف قد يمنع من انعقاد الإطلاق.

[2] «على» متعلق ب- (توقف).

[3] «أنه» فاعل انقدح، أي: انقدح أن الشأن لا إطلاق للفظ المطلق.

[4] أي: كان للفظ المطلق الانصراف... الخ.

ثم اعلم أن الانصراف على أقسام - نذكرها تبعاً لترتيب المصنف - :

الأول: ما أوجب ظهوراً للّفظ في المعنى المنصرف إليه، من غير أن يتحقق اشتراك بين المعنيين، أو نقل إلى المعنى الثاني، فقد يكون المعنى الثاني مجازاً مشهوراً، وقد يكون أحد مصاديق المعنى الحقيقي، مثل: انصراف لفظ (ما لا يؤكل لحمه) إلى خصوص الحيوانات وعدم شموله للإنسان.

وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثانية؛ لأنه يوجب تعيين اللفظ في المقيد، ففي المثال: لا تجوز الصلاة في أجزاء الحيوانات غير المأكولة اللحم، وأما أجزاء الإنسان - كشعره - فلا مانع منه.

الثاني: ما أوجب التشكيك في بعض المصاديق مع تيقن بعض المصاديق الأخرى

ص: 176

أو الأصناف، لظهوره فيه[1]، أو كونه متيقناً منه[2]

-----------------------------------------------------------------

من غير أن يكون ظاهراً فيها، مثل: انصراف لفظ (الماء) إلى غير المياه الزاجية والكبريتية، لكن لا إلى حد الظهور في الغير، بل يكون الغير هو المقدار المتيقن. وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثالثة؛ لأنه أوجب وجود مقدار متيقن في مقام التخاطب - وهو المقيد - .

الثالث: الانصراف البدوي، وهو ما يزول بالتأمل، مثل: انصراف لفظ (الإنسان) إلى السليم من العيوب، لكن بمجرد التأمل يزول هذا الانصراف.

ويدخل في الانصراف البدوي الانصراف الخطوري، أي: ما يزول من غير تأمل، مثل: انصراف (الماء) إلى ماء نهر الفرات لمن يسكن بجنب ذلك النهر.

وهذا الانصراف لا يضر بالإطلاق؛ لأنه لا يوجب تعييناً ولا قدراً متيقناً.

الرابع: ما أوجب الاشتراك بين المعنيين - المنصرف منه والمنصرف إليه - كما قيل في لفظ (الصعيد) بأنه وضع لمطلق وجه الأرض، ولكن لكثرة استعماله في التراب الخالص صار هذا المعنى أيضاً حقيقياً، مع بقاء المعنى الأول على معناه الحقيقي أيضاً بحيث صار مشتركاً بين المعنيين.

وهذا الانصراف أيضاً يوجب انثلام المقدمة الثانية؛ لأن كثرة الاستعمال في المعنى الثاني - المقيد - أوجبت ظهوراً للّفظ فيه، أو انثلام المقدمة الثالثة - إذا لم يوجب الظهور في المعنى الثاني لكنه القدر المتيقن في مقام الخطاب - .

الخامس: ما أوجب النقل إلى المعنى الثاني. وهذا الانصراف أيضاً يوجب انثلام المقدمة الثانية؛ لأن الظهور يكون في المعنى الثاني - المقيّد - .

[1] أي: لظهور لفظ المطلق في خصوص هذا البعض، وبهذا الظهور تنثلم المقدمة الثانية، وهذا هو القسم الأول من الانصراف.

[2] أي: كون هذا البعض متيقناً من لفظ المطلق تيقناً في مقام التخاطب، وبهذا تنثلم المقدمة الثالثة، وهذا هو القسم الثاني من الانصراف.

ص: 177

ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك[1]، بل يكون بدوياً زائلاً بالتأمل؛ كما أنه منها[2] ما يوجب الاشتراك، أو النقل.

لا يقال[3]: كيف يكون ذلك[4]؟ وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلاً.

فإنه يقال[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يوجب قدراً متيقناً ولا ظهوراً، وهذا هو القسم الثالث من أقسام الانصراف.

[2] أي: إ ن الشأن من مراتب الانصراف... الخ، وهذا هو القسم الرابع والخامس.

إشكال وجواب

[3] هذا الإشكال يختص بالقسم الرابع والخامس من الانصراف، وحاصله: إن الاشتراك والنقل يحتاجان إلى الاستعمال المجازي في المعنى الثاني بكثرة إلى أن يصير حقيقة ثانية، لكنكم ذكرتم أن استعمال المطلق وإرادة المقيّد ليس من المجاز في شيء، بل المطلق يستعمل في معناه - وهو اللابشرط المقسمي - والقيد يستفاد من لفظ آخر، فيكون استفادة التقييد من باب تعدد الدال والمدلول!!

والخلاصة: إنه لا يمكن حصول النقل من المطلق إلى القيد وكذلك الاشتراك، بسبب أن النقل والاشتراك يحتاجان إلى المرور بمرحلة المجازية، ولا مجاز هنا!!

[4] أي: النقل أو الاشتراك.

[5] الجواب من وجهين:

الأول: إن استعمال المطلق وإرادة المقيد مجازاً ممكن غير ممتنع، بلى في غالب الموارد لا يكون كذلك، بل يكون من باب تعدد الدال والمدلول، ولكن في غير الغالب قد يستعمل مجازاً، وحينئذٍ يصح النقل أو الاشتراك.

ص: 178

- مضافاً[1] إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له[2]، لا عدم إمكانه، فإن استعمال المطلق في المقيد[3] بمكان من الإمكان[4] - إن[5] كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدالٍ آخر[6] ربما تبلغ بمثابة توجب له[7] مزية أنس - كما في المجاز المشهور - أو تعيناً واختصاصاً به[8]

-----------------------------------------------------------------

الثاني: إن الوصول إلى مرحلة النقل والاشتراك لا يحتاج إلى المرور بمرحلة المجاز، بل يمكن استعمال اللفظ بمعناه الحقيقي في أحد المصاديق بكثرة إلى أن يحصل لهذا المصداق مزيد أنس بحيث ينصرف اللفظ إليه، ثم يكثر الاستعمال إلى حصول الاشتراك أو النقل.

[1] بيان الجواب الأول.

[2] ضمير «أنه» يرجع إلى (التقييد لا يوجب التجوز)، ومعنى قوله: «إنما قيل» هو إنما اخترناه أو قلنا به، فيكون معنى العبارة: إنّما اخترنا أن التقييد لا يوجب التجوز لأجل أنه لا يستلزم التجوز بالضرورة، بل يمكن أن يكون من باب تعدد الدال والمدلول، ومع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي لا داعي للحمل على المعنى المجازي، لا أن المعنى المجازي محال.

[3] بأن يكون لفظ المطلق غير مستعمل في معناه الحقيقي - وهو اللابشرط المقسمي - بل مستعمل في خصوص المقيّد.

[4] فحينئذٍ يمكن استعمال المطلق في القيد مجازاً إلى أن يبلغ حد الاشتراك أو النقل.

[5] بيان للجواب الثاني.

[6] حتى لا يكون مجازاً، بل من باب تعدد الدال والمدلول.

[7] أي: للمقيد مزية أنس حين استعمال لفظ المطلق، فيصبح اللفظ مشتركاً بين المطلق والمقيد، فإرادة أيٍ منهما يحتاج إلى قرينة، كما في المجاز المشهور، حيث إن إرادة المعنى الحقيقي يحتاج إلى نصب قرينة، كما أن إرادة المجاز المشهور أيضاً يحتاج إلى قرينة.

[8] أي: أو توجب للمقيد تعيناً واختصاصاً باللفظ، فينقل اللفظ من المطلق إلى

ص: 179

- كما في المنقول بالغلبة[1] - ، فافهم[2].

تنبيه[3]: وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان وارداً في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أخرى[4]، فلابد في حمله

-----------------------------------------------------------------

المقيد، فلا يحتاج المقيد إلى قرينة؛ لأنه صار المعنى الحقيقي بعد هجران معنى الإطلاق من اللفظ.

[1] أي: المنقول بسبب غلبة استعمال المعنى المجازي إلى حد هجران المعنى الحقيقي، وهو من أقسام الوضع التعيّني.

[2] لعله إشارة إلى أن هذا الإشكال والجوابين فرضيان؛ وذلك لعدم وقوع الاشتراك أو النقل من المطلق إلى المقيد أصلاً، أو إشارة إلى أن الجواب الأول غير مفيد؛ لعدم تحقق المجازية خارجاً - وإن كانت ممكنة - .

إذا كان للمطلق جهات عديدة

[3] حاصله: إن المطلق قد يمكن تقيده بقيد واحد فقط، فهنا إن تمت مقدمات الحكمة يحمل اللفظ على الإطلاق.

وقد يمكن تقييده بقيود متعددة، وهنا إن كان المتكلم ناظراً إلى كل القيود فيكون اللفظ مطلقاً من كل الجهات، وإن كان المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات فإن اللفظ يكون مطلقاً بالنسبة إلى تلك الجهات، ومهملاً أو مجملاً بالنسبة إلى سائر الجهات.

[4] كما في قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(1)، فالآية في مقام بيان حِليّة الصيد الذي قتله الكلب المعلّم، وليست في مقام بيان طهارة موضع العضّ أو نجاسته.

فالإطلاق من جهة الحلية، ولا إطلاق من جهة الطهارة.

ص: 180


1- سورة المائدة، الآية: 4.

على الإطلاق بالنسبة إلى جهةٍ من كونه بصدد[1] البيان من تلك الجهة، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى، إلاّ إذا كان بينهما ملازمة عقلاً[2] أو شرعاً[3] أو عادةً[4]، كما لا يخفى.

فصل: إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين[5](1)، فإما يكونان مختلفين في الإثبات

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كون المتكلم بصدد البيان.

[2] مثلاً: لو كان جاهلاً بوجود عذرة غير مأكول اللحم على ثوبه في الصلاة فإن صلاته صحيحة، وهذه العذرة إن لم تكن مضرة بصحة الصلاة فلازمها هو صحة الصلاة في بصاق غير مأكول اللحم إن كان جاهلاً به، وهذا التلازم عقلي، فإن العذرة النجسة إن لم تضر بالصحة فالبصاق الطاهر لا يضر به بطريق أولى عقلاً.

[3] كما لو حكم الشارع بقصر الصلاة، فإن لازمه الشرعي هو الإفطار، حتى وإن لم يكن الشارع في مقام بيان حكم الإفطار؛ وذلك للملازمة الشرعية بين القصر والإفطار.

[4] كما في حكم الشارع بطهارة سؤر الهرة، ويلازم سؤرها عادة ملاقاة أجزاء الميتة، فإن الشارع وإن لم يكن في مقام بيان الطهارة من جهة ملاقاة الميتة، ولكن الحكم بالطهارة يلازم عادة الحكم بالطهارة من هذه الجهة أيضاً؛ وذلك لعدم انفكاك سؤرها عن ملاقاة أجزاء الميتة، فتأمل.

فصل المطلق والمقيد المتنافيان

اشارة

[5] وهذا في ما نعلم بأن الحكم فيهما واحد، كما لو قال في الكفارة: (أعتق رقبة)، ثم قال في نفس الكفارة: (أعتق رقبة مؤمنة).

ص: 181


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «متنافيان».

والنفي، وإما يكونان متوافقين.

فإن كانا مختلفين مثل: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد[1].

وإن كانا متوافقين[2]، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد[3].

وقد استدل بأنه[4] جمع بين الدليلين، وهو أولى[5].

-----------------------------------------------------------------

أما لو تعدد الحكم كما لو قال: (أكرم العالم)، وقال: (ادرس عند العالم الرباني) فلا كلام في عدم التقييد؛ وذلك لتعدد الحكم.

[1] وذلك لأن ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق، وعلى ذلك بناء العقلاء.

المتوافقان المثبتان

اشارة

[2] المراد المتوافقان المثبتان، كما يظهر من الاستدلال بحمل الأمر على الاستحباب، مضافاً إلى أن المشهور الحمل في المثبتين فقط وعدم الحمل في المنفيين.

وأما المنفيان فإن المصنف سيتعرض لهما في نهاية هذا الفصل قبل قوله: (تنبيه) وسيختار عدم الفرق - خلافاً للمشهور - فانتظر.

[3] أي: حمل المطلق على المقيد، بأن يقال: إن لفظ المطلق لا دلالة له على الإطلاق؛ لانثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة؛ لأن المقيد يوجب التعيين، وقوله: «والتقييد» عطف تفسيري.

[4] أي: بأن الحمل والتقييد جمع بين الدليلين - جمعاً موضوعياً - فبعتق رقبة مؤمنة نكون قد عملنا بقوله: (أعتق رقبة) وذلك لأن الرقبة المؤمنة مصداق من مصاديق الرقبة، وكذلك عملنا بقوله: (أعتق رقبة مؤمنة).

والمراد من الجمع الموضوعي هو أن الموضوع في (أعتق رقبة) يراد به (رقبة مؤمنة).

[5] أي: الجمع أولى؛ لقاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)، ودليل هذه القاعدة هو بناء العقلاء إذا كان الجمع عرفياً، وأيضاً أدلة حجية الأمارات تشمل

ص: 182

وقد أورد عليه[1]: بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وأورد عليه[2]: بأن التقييد ليس تصرفاً في معنى اللفظ[3]، وإنما هو تصرف في وجهٍ من وجوه المعنى[4]،

-----------------------------------------------------------------

صورة إمكان الجمع العرفي.

[1] أي: على الاستدلال، قرّره المحقق القمي(1) إشكالاً على المشهور، وحاصله: إن طريق الجمع لا ينحصر في حمل المطلق على المقيد - وهو جمع موضوعي - بل هنالك طريق آخر وهو جمع حكمي، بأن نتصرف في الحكم بحمل أمر المقيد على الاستحباب، ففي المثال نقول: إنّ (أعتق) في (أعتق رقبة مؤمنة) دال على الاستحباب، فيبقى المطلق على إطلاقه دال على وجوب عتق أية رقبة - مؤمنة كانت أم كافرة - والمقيد يدل على استحباب الرقبة المؤمنة!! وعليه فلا وجه لاستدلال المشهور، حيث لا ترجيح لأحد طريقي الجمع على الآخر.

[2] هذا الإيراد هو انتصار لدليل المشهور، وردّ إشكال المحقق القمي عليه، وقد قرره في التقريرات(2)،

وحاصله: إن الحمل على الاستحباب مجاز في لفظ الأمر، في حين أن حمل المطلق على المقيد لا مجاز فيه أصلاً؛ وذلك لأن وجود المقيد يسبب انثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة في المطلق - حيث وجد ما يوجب التعيين وهو المقيد - فلا يدل المطلق على الإطلاق، وعدم دلالته ليس من المجاز في شيء، إذن فالحمل على الاستحباب يكون مرجوحاً؛ لأنه مجاز، أما حمل المطلق على القيد فإنه لا مجاز فيه، فيكون أولى.

[3] لعدم انعقاد ظهور للّفظ في الإطلاق بسبب انثلام إحدى مقدمات الحكمة.

[4] وهو وصف الإطلاق، وهذا التصرف لا يوجب مجازية أصلاً.

ص: 183


1- قوانين الأصول 1: 325.
2- مطارح الأنظار 2: 273.

اقتضاه تجرده[1] عن القيد، مع تخيل وروده[2] في مقام بيان تمام المراد، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال[3]، فلا إطلاق فيه[4] حتى يستلزم تصرفاً[5]، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد بحمل أمره على الاستحباب.

وأنت خبير[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: اقتضى هذا الوجه - وهو الإطلاق - تجرد اللفظ عن القيد، وقوله: «تجرده» فاعل (اقتضاه).

[2] أي: ورود اللفظ.

[3] أي: أصل وجود القيد معلوم، لكن الاختلاف في كيفية التقييد، هل هو قيد للموضوع أم هو قيد للحكم؟ وبعبارة أخرى كما قيل(1):

أي وبعد الاطّلاع على قيد (أعتق رقبة مؤمنة) نعلم وجود ما يصلح للتقييد على وجه الإجمال؛ لتردده بين كونه مقيداً للإطلاق أو مستحباً من أفضل الأفراد، وهذا معنى قوله: (على وجه الإجمال)، ولكن الصحيح هو رجوع القيد إلى الموضوع.

[4] أي: في لفظ المطلق؛ وذلك لانثلام المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة.

[5] يعنى حمل المطلق على المقيد لا يوجب تصرفاً في معنى المطلق لكي يكون مجازاً، حتى يأتي أحدهم ويعارض هذا الحمل بحمل الأمر في القيد على الاستحباب.

والحاصل: إن حمل المطلق على المقيد لا مجاز فيه، فهو أولى من حمل أمر المقيد على الاستحباب حيث إنه مجاز.

[6] هذا إشكال على التقريرات تأييداً للمحقق القمي ورداً لدليل المشهور، وحاصله: إن على كلام التقريرات إشكالين - طوليين - :

الأول: إن حمل المطلق على المقيد تصرف - وسيأتي شرحه - وحمل الأمر على

ص: 184


1- عناية الأصول 2: 391.

بأن التقييد[1] أيضاً يكون تصرفاً في المطلق، لما عرفت[2] من أن الظفر بالمقيد لا يكون كاشفاً عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل عن عدم كون الإطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة[3] بمراد[4] جدي، غاية الأمر أن التصرف فيه بذلك[5] لا يوجب التجوز فيه[6].

-----------------------------------------------------------------

الاستحباب تصرف آخر، وليس أحدهما أولى من الآخر. نعم، الأول تصرف لا يستلزم المجاز، والثاني يستلزم المجاز، لكن هذا المقدار لا يوجب الأولوية.

الثاني: إن حمل الأمر على الاستحباب لا يوجب أية مجازية؛ لأن المراد بالاستحباب هو تأكد الوجوب، فكلا التصرفين لا مجاز فيه، فلا يكون أحدهما أولى من الآخر.

وحينئذٍ فقول المشهور: (إن حمل المطلق على المقيد أولى لأنه جمع بين الدليلين) غير صحيح.

[1] بيان الجواب الأول.

[2] حاصله: إن وجود المقيد لا يوجب عدم إطلاق لفظ المطلق، بل حتى مع التقييد يبقى إطلاق المطلق، ولكن بالإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية - كما مرّ توضيحه - فحينئذٍ مع وجود المقيّد نكتشف عدم الإرادة الجدية من المطلق، وهذا هو نوع تصرف في المطلق، بلى ليس ذلك مجازاً، لكنه ليس بأولى من التصرف الآخر، وهو حمل الأمر على الاستحباب.

[3] أي: ظاهر المطلق، وهذا الظهور إنّما تم بسبب مقدمات الحكمة، فقوله: «بمعونة» متعلق بقوله: (ظاهره) أي: الظهور بمعونتها.

[4] الباء في «بمراد» متعلقة ب- (عدم كون الإطلاق).

[5] أي: التصرف في المطلق بذلك - أي: بعد كونه مراداً جدياً - .

[6] ولما كان المناط هو الظهور فلا ترجيح للتصرف الذي لا يوجب المجاز على التصرف الذي يوجبه، إذا كانا في عرض واحد من جهة الظهور.

ص: 185

مع أن[1] حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزاً فيه[2]، فإنه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب، فإن المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب، لا مستحباً فعلاً[3]، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه[4] إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه[5].

نعم[6]، في ما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل[7] كان من

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان الجواب الثاني.

[2] أي: في الأمر الوارد في المقيد، وضمير «فإنه» راجع إلى الأمر.

[3] بمعنى أن له ملاك الاستحباب، لكن لم يصل الاستحباب إلى مرتبة الفعلية؛ وذلك لأن الوجوب والاستحباب ضدان، فيستحيل اجتماعها في شيء واحد، بل معنى الاستحباب هو أنه أفضل الأفراد، كما مرّ نظيره في العبادات المكروهة، فراجع.

[4] أي: ملاك الاستحباب لا يقتضي استحباب المقيّد إذا كان مانع، والمانع هنا هو وجوبه الفعلي.

[5] أي: إذا اجتمع ملاك الاستحباب مع ملاك الوجوب، وكان ملاك الوجوب مقتضياً لفعلية الوجوب فحينئذٍ لا يصير استحبابه فعلياً؛ لاستحالة اجتماع الضدين.

[6] تراجع عن الإشكال على التقريرات، وتأييد كلامه في ما لو كان إحراز الإطلاق بالأصل، فحينئذٍ فلا يصح إشكال المحقق القمي على المشهور القائلين بحمل المطلق على المقيد واستدلالهم بأنه جمع بين دليلين.

وحاصل كلام المصنف: إنه لو أحرز الإطلاق بالأصل فإن التقييد يرجح على الإطلاق؛ لأن المقيد دليل ومع وجود الدليل لا تصل النوبة إلى الأصل.

[7] أي: بالأصل العقلائي، الذي سبق تقريره في قول المصنف: (بقي شيء).

ص: 186

التوفيق بينهما حمله[1] على أنه سيق في مقام الإهمال على خلاف مقتضى الأصل، فافهم[2].

ولعل وجه التقييد[3] كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني[4] أقوى[5] من ظهور المطلق في الإطلاق.

وربما يشكل[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من التوفيق بين المطلق والمقيد هو حمل المطلق على الإهمال؛ وذلك لأن الأصل لا يجري مع وجود الدليل، والدليل هنا هو المقيد.

[2] لعله إشارة إلى أن هذا التوفيق يستلزم الإهمال في غالب المطلقات؛ لأن إحراز أكثرها بالأصل، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، فإنهم يقولون: إنّ المقيد يقيدها من جهة ويبقى إطلاقها من سائر الجهات.

[3] أي: لما دار الأمر بين التقييد بحمل المطلق على المقيد وبين عدم التقييد بحمل الأمر في المقيد على الاستحباب، فإنه يلزم رفع اليد عن الظهور الأضعف، حال كل متعارضين كان أحدهما أقوى ظهوراً من الآخر.

[4] خلافاً للقولين الآخرين، حيث أحدهما هو حمل الأمر على الاستحباب كما مرّ قبل قليل، والآخر هو الوجوب التخييري بين الإطلاق والتقييد، وهذا القول أعرض المصنف عن ذكره؛ لوضوح بطلانه؛ لعدم تعقل التخيير بين الكلي وصنفه أو فرده.

[5] وجه الأقوائية هو الفهم العرفي.

عدم التقييد في المستحبات

[6] أي: يشكل ما ذكرناه من أن ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

وحاصل الإشكال: هو النقض بالمستحبات، حيث لم يحملوا فيها المطلق على المقيد، بل قالوا ببقاء استحباب المطلق، وتأكد استحباب المقيد، مع أن اللازم

ص: 187

بأنه[1] يقتضي التقييد في باب المستحبات[2]، مع أن بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيد فيها[3] على تأكد الاستحباب[4]. اللهم[5] إلاّ أن يكون الغالب في هذا الباب[6] هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية[7]، فتأمل[8]؛ أو أنه[9] كان

-----------------------------------------------------------------

- على ما ذكرناه - هو ترجيح ظهور الصيغة في الاستحباب التعييني على ظهور المطلق في الإطلاق!!

[1] أي: بأن هذا الوجه - المذكور آنفاً - .

[2] مما يلزم عدم استحباب المطلق أصلاً.

[3] أي: في المستحبات.

[4] فمثل: (زر الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) مطلق يدل على استحباب زيارته في أي وقت، وقوله: (زر الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يوم عرفه) يحمل على تأكد الاستحباب في ذلك اليوم.

[5] شروع في الجواب عن هذا الإشكال، وحاصله جوابان:

الأول: إن غلبة التأكيد في المستحبات يوجب انهدام ظهور إطلاق الصيغة في الاستحباب التعييني، وبقاء ظهور المطلق على إطلاقه من غير معارض.

الثاني: إن قاعدة التسامح في أدلة السنن تدل على بقاء المطلق على استحبابه، حيث بلغنا ثواب على المطلق، وهذه القاعدة لا تجري في الواجبات؛ لذا كان فرق بينها وبين المستحبات.

[6] أي: باب المستحبات، وهذا بيان للجواب الأول.

[7] وهذه الغلبة توجب انهدام ظهور الصيغة - كما بينّا - .

[8] لعله إشارة إلى أن الواجبات أيضاً تختلف مراتب المحبوبية فيها، مثل: الصلاة، وصلاة الجماعة، وفي المسجد... الخ، فإن كانت الغلبة تهدم ظهور الصيغة في المستحبات فإنها تهدمه في الواجبات أيضاً، فالنتيجة عدم صحة هذا الجواب.

[9] بيان للجواب الثاني، وضمير «أنه» يرجع إلى (حمل الأمر في المستحبات على تأكد الاستحباب).

ص: 188

بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات[1]، وكان[2] عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق - بعد مجيء دليل المقيد - وحمله[3] على تأكد استحبابه من التسامح فيها[4].

ثم إن الظاهر[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من بلغه ثواب على عمل... الخ)(1)،

وقد بلغنا ثواب على العمل بالمطلق.

[2] هذا بيان لكيفية شمول أدلة التسامح للمطلق في المستحبات.

[3] أي: حمل دليل المقيد على تأكد استحباب المقيد مع بقاء المطلق على استحبابه.

[4] قوله: «من التسامح...» خبر قوله: (وكان عدم رفع...) أي: في المستحبات.

وقال المصنف في الهامش: (ولا يخفى أنه لو كان حمل المطلق على المقيد جمعاً عرفياً كان قضيته عدم الاستحباب إلاّ للمقيّد، وحينئذٍ إن كان بلوغ الثواب صادقاً على المطلق كان استحبابه تسامحياً، وإلاّ فلا استحباب له أصلاً، كما لا وجه - بناءً على هذا الحمل وصدق البلوغ - يؤكد الاستحباب في المقيد، فافهم)(2)،

انتهى. وحاصله: أن الحمل لو كان جمعاً عرفياً، فإن العرف لا يفهم بلوغ الثواب على المطلق، مضافاً إلى أن أدلة التسامح تجبر ضعف السند لا الدلالة.

المتوافقان المنفيان

[5] أي: لا فرق في لزوم حمل المطلق على المقيد بين كونهما مثبتين، كما مرّ بحثه، وبين كونهما منفيين، كما لو قال: (لا تعتق المكاتب) وقال: (لا تعتق المكاتب الكافر) فإن المطلق يحمل على المقيد، فيكون النهي عن خصوص (المكاتب الكافر) لا غيره، خلافاً للمشهور حيث قالوا بعدم حمل المطلق على المقيد في المنفيين.

ص: 189


1- وسائل الشيعة 1: 80.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 2: 511.

أنه لا يتفاوت في ما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين[1] بعد فرض كونهما متنافيين[2]، كما لا يتفاوتان[3] في استظهار التنافي بينهما من استظهار[4] اتحاد التكليف من وحدة السبب[5] وغيره[6] من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر، فليتدبر.

تنبيه: لا فرق في ما ذكر من الحمل في المتنافيين[7] بين كونهما في بيان الحكم

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن الدليل المذكور في المثبتين يجري في المنفيين أيضاً بعينه.

[2] ويعرف التنافي من وحدة التكليف - كما مرّ تفصيله - .

[3] أي: لا يتفاوت المطلق والمقيد، والغرض: هو الرد على المعالم والقوانين وغيرهما، حيث تصوروا أن التنافي إنما يكون مع وحدة سبب الحكم، ويرد عليه: إن التنافي هو مع وحدة التكليف، سواء كشفنا وحدة التكليف من وحدة السبب، أم من قرائن حالية أم مقالية.

[4] أي: منشأ استظهار التنافي هو استظهار اتحاد التكليف، ف- «من» متعلق ب- (استظهار) في قوله: (استظهار التنافي).

[5] «من» متعلقة ب- (اتحاد التكليف)، ومثاله لو قال المولى: (أعتق رقبة في الظهار) وقال: (أعتق رقبة مؤمنة في الظهار) حيث السبب واحد وهو (الظهار).

[6] أي: وغير وحدة السبب، كما لو لم نكن نعلم عِلّة الحكم، ولكن لأجل القرائن علمنا بوحدة التكليف، مثاله لو قال: (أعط هذا الدرهم للعالم) وقال: (أعط هذا الدرهم للعالم العادل)، حيث لا نعلم سبب التكليف، ولكن نعلم وحدة التكليف بقرينة حالية، وهي عدم إمكان إعطاء ذلك الدرهم لأكثر من شخص.

المطلق والمقيد في الأحكام الوضعية

[7] أي: حمل المطلق على المقيد - بأن نقول: إنّ المراد من المطلق هو المقيد - ولا فرق في المتنافيين بين المثبتين أو المنفيين أو المختلفين.

ص: 190

التكليفي وفي بيان الحكم الوضعي[1]. فإذا ورد - مثلاً - إن البيع سبب، وإن البيع الكذائي سبب، وعلم أن مراده[2] إما البيع على إطلاقه أو البيع الخاص، فلابد من التقييد[3] لو كان ظهور دليله[4] في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه[5]، كما هو ليس ببعيد[6]، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيد، بخلاف العكس[7] بإلغاء القيد وحمله على أنه غالبي[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] الحكم التكليفي: هو حكم الشارع بالأحكام الخمسة من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة. والحكم الوضعي: كل حكم شرعي لم يكن أحد هذه الأحكام الخمسة، مثل: السببية والمانعية والقاطعية والجزئية والزوجية والملكية والطهارة... الخ.

[2] أي: علمنا بوحدة الحكم، فالسبب واحد، إما مطلق البيع، وإما البيع الخاص.

[3] بأن نقول: إن المراد من المطلق هو المقيد، فقوله: (البيع سبب) يراد منه البيع الخاص.

[4] أي: ظهور دليل التقييد، ومراد المصنف بيان أن تقديم المقيد على المطلق لأجل أقوائية ظهوره، فالملاك هو ظهور اللفظ. والأمر هنا دائر بين كون القيد احترازياً وبين كونه غير احترازي - كالقيد الغالبي - فإن الظهور في كون القيد احترازياً.

[5] أي: في الإطلاق.

[6] أي: الأقوائية ليست ببعيدة، وأشار إلى الدليل بقوله: (ضرورة... الخ).

[7] وهو إرادة المطلق من المقيد؛ وذلك بإلغاء القيد، واعتباره غالبياً، أو لدفع توهم، أو لنحو ذلك.

[8] أي: حمل القيد على أن القيد غالبي، أي: جيء به لا لإخراج ما لا قيد فيه، بل لوجود القيد غالباً، فيكون ذكره لأجل حكمة أخرى، مثلاً قوله تعالى: {وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ}(1) فإن الربيبة - وهي

ص: 191


1- سورة النساء، الآية: 23.

أو على وجه آخر[1]، فإنه[2] على خلاف المتعارف.

تبصرة لا تخلو من تذكرة[3]: وهي: إن قضية[4] مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات[5]،

-----------------------------------------------------------------

بنت الزوجة من زوج آخر - تحرم على الرجل سواء رباها في حجره أم لم يربها في حجره، ولكن جيء بالقيد لأن الغالب أن الأم تصحب معها بناتها الصغار إلى بيت زوجها الجديد، ولعل النكتة في هذا القيد الغالبي هو إلفات الأزواج إلى معاملة بنات زوجاتهم كما يتعاملون مع بناتهم بأن يضعوهن في حجورهم ويمسحوا على رؤوسهن - مثلاً - وخاصة إن كن أيتاماً.

[1] كدفع توهم يتعلق بالمقيد، مثلاً لو قال: يصح بيع الكافر، دفعاً لتوهم اختصاص الصحة ببيع المسلم، فلا يكون تقييداً لقوله تعالى: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1).

[2] أي: فإن العكس خلاف المتعارف؛ وذلك يوجب ضعف الظهور فيه، وأقوائية الظهور في التقييد.

اختلاف مقتضى مقدمات الحكمة

[3] أي: تذكير ببعض ما مرّ في الكتاب.

[4] أي: مقتضى ونتيجة المقدمات.

[5] وذلك لأن نتيجة المقدمات هو إرسال الماهية وعدم تقييدها بشيء، ونتيجة الإرسال قد تكون:

1- العموم البدلي؛ وذلك في ما يراد إيجاد الطبيعة؛ وذلك يتحقق بحصول فرد منها في الخارج، وهذا يكون في الأوامر التكليفية - عادة - .

2- العموم الاستيعابي؛ وذلك في بعض أقسام الأحكام الوضعية، حيث يراد بيان حكم الطبيعة، وحكمها يجري في كل الأفراد.

ص: 192


1- سورة البقرة، الآية: 275.

فإنها تارةً يكون حملها[1] على العموم البدلي، وأخرى على العموم الاستيعابي، وثالثةً على نوع خاص[2] مما ينطبق عليه[3]، حسب[4] اقتضاء خصوص المقام[5] واختلاف الآثار والأحكام[6]، كما هو الحال[7] في سائر القرائن بلا كلام.

فالحكمة[8] في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان[9]، ولا معنى لإرادة

-----------------------------------------------------------------

3- وفي بعض الموارد للطبيعة أصناف، وبعض أصنافها يحتاج إلى قيد زائد، وبعضها لا يحتاج إليه، فلابد من أن تكون نتيجة المقدمات هو عدم إرادة القيد الزائد - لعدم بيانه - ، فيراد بالإطلاق الصنف الذي لا قيد فيه.

[1] أي: فإن قضية المقدمات يكون حمل المطلقات.

[2] أي: على قسم من أقسام الطبيعة - صنفاً كان أم نوعاً أم جنساً - .

[3] أي: من الأنواع التي ينطبق المطلق عليها، فالمطلق له أقسام مختلفة، لكن يراد منه خصوص قسم من تلك الأقسام لاكلّها.

[4] «حسب» متعلق بقوله: (اختلاف المقامات)، والمعنى إن اختلاف المقامات إنما هو بحسب مقتضى المقام، أو بحسب اختلاف الآثار والأحكام.

[5] مثلاً: مقام الإيجاب في صيغة الأمر يقتضي حمل الإطلاق على النفسي العيني التعييني.

[6] فإن أثر الوجوب التكليفي يختلف عن أثر الحكم الوضعي؛ لذا كان الأول بدلياً والثاني شمولياً، حيث إن الوجوب التكليفي يراد به إيجاد الطبيعة، والحكم الوضعي يراد منه بيان حكم الطبيعة.

[7] يعنى إن خصوصية المقام واختلاف الآثار هي قرينة تدل على نوعية الإطلاق، ويلزم اتباعها كما في سائر القرائن.

[8] مثال للقسم الثالث.

[9] لأن (التخييري) - كخصال الكفارة - يحتاج إلى بيان العِدل الآخر من الحكم،

ص: 193

الشياع فيه[1]، فلا محيص[2] عن الحمل عليه في ما إذا كان بصدد البيان.

كما أنها[3] قد تقتضي العموم الاستيعابي، كما في {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(1)، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً[4] ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان؛ وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام[5]؛ ولا مجال[6] لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف، أيَّ بيع

-----------------------------------------------------------------

و(الكفائي) - كالجهاد - يحتاج إلى بيان فاعل آخر أيضاً، فيقال: أنت أو غيرك، و(الغيري) يحتاج إلى بيان ذي المقدمة، كالوضوء الواجب للصلاة الواجبة.

[1] أي: ولا يمكن حمل الوجوب على الشمول، فمثلاً: (صلّ) لا يتمكن المكلف الإتيان بجميع أفراد الصلاة، فلا يعقل أن يأمره المولى بغير المقدور.

[2] أي: لما امتنعت كل المحتملات الأخرى انحصرت صيغة الأمر في خصوص التعييني العيني النفسي.

[3] أي: قضية المقدمات، وهذا هو القسم الثاني؛ وذلك في الأحكام الوضعية الواردة مورد الامتنان، والمصنف يثبت العموم الاستيعابي بواسطة إبطال المحتملات الأخرى وهي: الإهمال، والإجمال، والعموم البدلي.

[4] كأن يقال: إنه تعالى كان في مقام أصل تشريع الحكم مجملاً.

[5] لأنه ليس مقام طلب الطبيعة حتى يقال بتحقق الطبيعة بفرد واحد، بل هو مقام بيان حكم الطبيعة، والحكم الذي للطبيعة يسري في كل أفرادها.

وقيل: المقام هو مقام الامتنان ولا يناسب الامتنان إلاّ الاستيعاب.

[6] أي: هذا الاحتمال أيضاً غير وارد، والاحتمال هو أن يقال: إن البيع عمومه بدلي، فكل بيع اختاره المكلف يكون حلالاً، كما في الأمر المتعلق بالطبيعة، حيث إن كل فرد اختاره المكلف يكون مأموراً به لا غيره، فقول المولى: (صلّ) عمومه بدلي، فأي مصداق أتى به المكلف كان هو الواجب!! وكذلك في الأحكام الوضعية!!

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 275.

كان، مع أنها[1] تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها[2] من الإطلاق، ولا يصح قياسه[3] على ما إذا أخذ[4] في متعلق الأمر[5]، فإن[6] العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن إرادته[7]؛ وإرادة غير العموم البدلي[8] وإن كانت ممكنة

-----------------------------------------------------------------

وأما إشكال هذا الاحتمال فهو:

أولاً: تعليق الحكم على إرادة المكلف محال - كما مرّ نظيره سابقاً - .

ثانياً: إن هذا التعليق قيد زائد، فينفى بالإطلاق؛ إذ لو كان مراداً للزم على المولى بيانه، وقياسه على الأمر المتعلق بالطبيعة مع الفارق - كما سيأتي بعد قليل - .

ومع بطلان هذا الاحتمال وسائر الاحتمالات لا يبقى إلاّ العموم الشمولي.

[1] أي: مع أن (إرادة بيعٍ اختاره المكلف)، وهذا بيان للإشكال الثاني.

[2] أي: لا تكاد هذه الإرادة تفهم بدون نصب دلالة.

[3] بيان لإشكال على الجواب الثاني ودفعه.

أما الإشكال فهو: عدم الفارق بين التكليفي والوضعي، فكما صح في الحكم التكليفي إرادة العموم البدلي من المطلق، كذلك في الحكم الوضعي.

[4] أي: أخذ المطلق.

[5] أي: في الحكم التكليفي - الوجوب - .

[6] هذا دفع للإشكال، وحاصله: إنه في التكليفي بعد بطلان سائر الاحتمالات لم يبق إلاّ إرادة العموم البدلي، وأما في الوضعي فإنه لا يمكن إرادة غير العموم الاستغراقي لبطلان سائر الاحتمالات.

[7] أي: في التكليفي يستحيل إرادة كل المصاديق وأمر المكلف بها؛ لعدم تمكن المكلف من الإتيان بكلّها، ومع عدم القدرة يكون التكليف بغير المقدور، فيستحيل صدور التكليف بالعموم الاستيعابي.

[8] أي: في التكليفي يمكن الإبهام بإرادة فرد معين واقعاً مجمل عند المكلف، لكن بما أن الفرض هو كون المولى في مقام البيان فلا يراد الإبهام، فلا مورد لهذا

ص: 195

إلاّ أنها منافية للحكمة وكون المطلقِ بصدد البيان.

فصل: في المجمل والمبين، والظاهر[1] أن المراد من المبين - في موارد إطلاقه - الكلام الذي له ظاهر، ويكون[2] بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنى؛ والمجمل بخلافه[3]، فما ليس له ظهور مجمل[4] وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه[5]، كما أن ما له الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره[6] وأنه مؤوّل.

-----------------------------------------------------------------

الاحتمال أيضاً، فلم يبق إلاّ العموم البدلي.

فصل في المجمل والمبين

[1] منشأ هذا الظهور هو تبادر هذين المعنيين من لفظ المجمل والمبين.

[2] عطف تفسيري شرحاً لقوله: (الكلام الذي له ظاهر).

[3] بخلاف المبين، أي: لا يكون له ظاهر.

[4] خلافاً لتقريرات الشيخ الأعظم(1)

حيث يرى أن ما اتضح المراد منه - ولو بقرينة خارجية - فهو مبين، وما لم يتضح المراد منه - ولو كان له ظاهر - فهو مجمل.

[5] كالقُرء في قوله تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ}(2) فإن القرء مجمل لاشتراكه بين الحيض والطهر، وإن علمنا بالروايات أن المراد هو الحيض.

[6] «ما» نافية، وذلك كقوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا}(3) فإنه ظاهر في المجيء الحقيقي فهو مبين، وإن علمنا من الشرع والعقل استحالة ذلك على الله، وأن المراد هو مجيء أمر الله تعالى.

ص: 196


1- مطارح الأنظار 2: 295.
2- سورة البقرة، الآية: 228.
3- سورة الفجر، الآية: 22.

ولكل منهما في الآيات والروايات وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى، إلاّ أن لهما أفراداً مشتبهةً وقعت محل البحث والكلام للأعلام في أنها من أفراد أيهما[1]، كآية السرقة[2]، ومثل: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(1) و{أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ}(2)

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في أن الأفراد المشتبه من أفراد المجمل أم المبين.

وفي الوصول: (وهذا الخلاف إنما نشأ من أنس بعض الأذهان ببعض الشواهد والمقربات والمبعدات، بحيث صار سبباً لأنس الذهن بالتلازم بين لفظ ومعنى، أو عدم التلازم أو الشك، فهذا يدعي إجماله وذاك يدعي خلافه)(3)،

انتهى.

[2] قال تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا}(4)، فاليد مجملة عند البعض - كالسيد المرتضى(5)

- لأنها تطلق على الأصابع، وعلى الكف، وعلى ما اتصل بالمرفق، وعلى ما اتصل بالكتف، وإن علم من الروايات المراد منها وأنها الأصابع، وهي مبينة عند بعض كصاحب المعالم(6).

ثم يذكر المصنف ثلاثة أقسام:

الأول: ما كان منشأ الإجمال عدم اتضاح متعلق التكليف، كاليد في المثال الأول.

الثاني: ما كان منشأه عدم ذكر الفعل المكلّف به، بل ذكر العين التي تعلق بها التكليف.

الثالث: ما كان منشأه نفي الفعل مطلقاً - بناءً على القول بالأعم - .

ص: 197


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 1.
3- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 270.
4- سورة المائدة، الآية: 38.
5- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 325.
6- معالم الدين: 153.

مما أضيف التحليل إلى الأعيان[1] ومثل (لا صلاة إلا بطهور)[2].

ولا يذهب عليك: أن إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان[3]، لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ويكون قالباً لمعنىً، وهو مما يظهر بمراجعة الوجدان[4]، فتأمل[5].

ثم لا يخفى: أنهما وصفان إضافيان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حف به لديه[6]، ومبيناً لدى الآخر لمعرفته وعدم

-----------------------------------------------------------------

[1] فمع العلم بأن متعلق التكليف هو فعل المكلف لا الأعيان الخارجية نعلم بأن الحلال أو الحرام هو فعل تعلق بتلك العين، فالأكثر على عدم الإجمال لظهوره في الفعل المقصود منه، فتحريم الأم يراد به نكاحها، وتحليل البهيمة يراد به لحمها، والبعض على الإجمال لكثرة الأفعال المتعلقة بالأعيان مع عدم اتضاح المقصود منها.

[2] مما ينفي الفعل مطلقاً - على القول بالأعم - حيث قال البعض بإجماله؛ لعدم معرفة أن المراد نفي الصحة أم نفي الكمال، وذهب البعض بعدم الإجمال لظهوره في نفي الصحة.

[3] لأن الظهور مرتبط بأنس الذهن، ولا قاعدة خاصة لذلك، بل يلزم تتبع كل جزئي جزئي لمعرفة ظهوره.

[4] ومنشأ الوجدان هو أنس الذهن من المحاورات العرفية.

[5] لعله إشارة إلى أن البرهان قد يكون سنداً للوجدان، أو إشاره إلى أن بعض الظهورات تكون في الكليات التي لها مصاديق كثيرة، مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فيقام عليه البرهان لإثباته.

[6] من القرائن التي أوجبت الشك في الظهور.

ص: 198

التصادم بنظره، فلا يهمنا[1] التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض والإبرام في المقام، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنها خارجة عن المبحث الأصولي، بل يلزم في مواردها - من الفقه أو غيره - بحث كل جزئي على حده.

ص: 199

ص: 200

المقصد السادس في الأمارات

اشارة

ص: 201

ص: 202

المقصد السادس: في بيان الأمارات[1] المعتبرة[2] شرعاً أو عقلاً[3].

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام[4] - وإن كان خارجاً من مسائل الفن[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] الأمارة هي: ما لها كاشفية عن الواقع ولم تكن بحدّ القطع، سواء اعتبرها الشارع كالبينة، أم لم يعتبرها كخبر الثقة الواحد في الموضوعات - على بعض المباني - .

[2] الاعتبار بمعنى المنجزية عند الإصابة، والمعذرية عند الخطأ.

[3] المعتبرة شرعاً كخبر العادل إذا لم يوجب الاطمئنان أو الظن. والمعتبرة عقلاً - والمراد عقلائياً - كشهادة الثقة الفاسق. والمعتبرة شرعاً وعقلاً كالبينة إذا أوجبت الاطمئنان أو الوثوق.

فصل أحكام القطع

اشارة

[4] مثل تنجّز القطع في المعلوم الإجمالي، وحجية قطع القطاع، وحرمة التجري ونحوها.

[5] حيث أصولية المسألة - على مبنى المصنف - إمّا لوقوعها في كبرى استنباط الحكم الشرعي الفرعي، مثل: حجية الظواهر، فيقال: هذا اللفظ ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر حجة، فظاهر هذا اللفظ - أعني الوجوب - حجة، وإمّا انتهاء المجتهد إليها في مقام العمل مثل أصالة البراءة، وكلا الملاكين مفقودان في القطع:

أما الأول: فلأنّ القطع لا يقع كبرى الاستدلال، فلا يقال: هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حرام؛ وذلك لأن الحرام هو ذات الخمر لا الخمر

ص: 203

وكان أشبه بمسائل الكلام[1] - لشدة مناسبته مع المقام[2].

فاعلم[3]: أن البالغ الذي وُضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو

-----------------------------------------------------------------

المعلومة، فالعلم ليس جزء موضوع الحرمة، كما لا يصح أن يقال: الخمر معلومة الحرمة، وكل معلوم الحرمة حرام؛ لأن الحرام هو ذات الشيء لا معلوم الحرمة.

وأما الثاني: فلوضوح أن القطع كاشف عن الواقع، وليس من الأصول العملية.

[1] علم الكلام هو علم العقائد ويبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد. ومسائل القطع ترجع إلى البحث عن المعاد، أي: استحقاق العقاب على مخالفة القطع أو عدم استحقاقه، وإلى البحث عن المبدأ، أي: وجوب الإطاعة لو حصل القطع أم عدم وجوبها.

وإنّما قال: (أشبه بمسائل الكلام) لأن استحقاق العقاب أو عدمه أحد لوازم حجية القطع أو عدم حجيته، في حين أن أصل المسألة عقلية، ولوازمها أعم من استحقاق العقاب أو عدمه، بلى هو أظهر اللوازم.

[2] حيث نبحث عن أحكام الظن والشك، فكان المناسب البحث عن القطع أيضاً، ولأن الأمارة والأصل العملي وظيفة غير القاطع، فكان من المناسب البحث حول وظيفة القاطع.

[3] قال الشيخ الأعظم في الرسائل: (اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن...)(1)،

انتهى.

وقد أشكل المصنف على كلامه بأربعة إشكالات:

الأول: إن المكلف هو الملتفت؛ لأن غير الملتفت ليس بمكلف فعلاً، فلا وجه لقوله: (المكلّف إذا التفت) ولذا بدّل المصنف (المكلف) إلى (البالغ الذي وضع عليه القلم) فإن القلم موضوع عليه سواء كان ملتفتاً أم لا.

ص: 204


1- فرائد الأصول 1: 25.

ظاهري[1] متعلق به[2] أو بمقلديه[3]، فإما أن يحصل له القطع به[4] أو لا[5]. وعلى

-----------------------------------------------------------------

الثاني: إن الظاهر من قوله: (حكم شرعي) هو الحكم الواقعي، مع أن أحكام القطع تشمل الحكم الظاهري أيضاً.

الثالث: (الحكم الشرعي) لا يكون منجزاً إذا لم يكن فعلياً، فالوظائف المذكورة للأقسام الثلاثة إنّما هي إذا كان الحكم فعلياً، أما الحكم الاقتضائي والحكم الإنشائي فلا أثر لهما إذا لم يبلغا مرتبة الفعلية.

الرابع: تداخل الأقسام - كما سيأتي - .

ولذا عدل المصنف عن تعبير الشيخ الأعظم إلى تعبير آخر.

[1] (الحكم الواقعي): هو ما كان للشيء بما هو هو، سواء كان واقعياً أوّلياً كوجوب الوضوء للصلاة، أم واقعياً ثانوياً مثل: وجوب التيمم للفاقد للماء.

و(الحكم الظاهري): هو ما كان للشيء بما هو مشكوك، مثل: الطهارة الثابتة بأصالة الطهارة أو استصحابها، وكالأحكام المستفادة من أخبار الآحاد.

[2] هل هذا التقسيم خاص بالمجتهد أم يشمل المجتهد والمقلد، فيه خلاف مذكور في المفصلات.

[3] مثل: أحكام الحيض والنفاس حيث يستنبط المجتهد أحكامهما لمقلديه من النساء.

[4] أي: القطع بذلك الحكم الواقعي أو الظاهري، ويدخل في هذا الشق مدلول جميع الأدلة الشرعية من الأمارات والأصول العملية؛ لأنها توجب القطع بالحكم الظاهري، فبعد إجراء أصالة الطهارة يقطع المكلف بأن حكمه الظاهري هو الطهارة - مثلاً - .

[5] أي: أو لا يحصل له القطع بالحكم الشرعي - لا الواقعي منه ولا الظاهري - وهذا وظيفته الرجوع إلى الحكم العقلي.

ص: 205

الثاني لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل[1] من اتباع الظن لو حصل له[2] وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة[3]، وإلاّ[4] فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة[5] والاشتغال[6] والتخيير[7]، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: انتهاء هذا البالغ الموضوع عليه القلم إلى الأحكام العقلية.

[2] أي: لو حصل له الظن.

[3] وسيأتي أنه لو تمت مقدمات الانسداد، وهي:

1- العلم بوجود تكاليف كثيرة.

2- وقد انسد باب العلم والظن المعتبر فيها.

3- وعدم جواز إهمال تلك الأحكام.

4- وعدم وجوب الاحتياط التام في كل شيء.

5- وأن ترجيح الوهم على الظن لا يجوز.

وحينئذٍ تنتج هذه المقدمات وجوب العمل بمطلق الظن.

ثم إن قيل: إن هذا الوجوب بحكم الشرع - وهو المعبر عنه بالكشف - فيرجع إلى القطع بالحكم الظاهري.

وأما إذا قيل: إنّ هذا الوجوب هو بحكم العقل - وهو المعبر عنه بالحكومة - فلا يوجد قطع بالحكم الشرعي الظاهري، وحينئذٍ يلزم العمل بهذا الحكم العقلي.

[4] أي: إن لم يحصل الظن، أو لم تتم مقدمات الانسداد، فلابد من الرجوع إلى الأصول العقلية. أمّا الأصول الشرعية فهي ترجع إلى الشق الأول، أي: القطع بالحكم الشرعي الظاهري.

[5] البراءة العقلية ومدركها قبح العقاب بلا بيان.

[6] الاشتغال العقلي ومدركه دفع الضرر المحتمل في الشك في المكلَّف به.

[7] التخيير العقلي مورده دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 206

وإنما عمّمنا متعلق القطع[1]، لعدم اختصاص أحكامه[2] بما إذا كان متعلقاً بالأحكام الواقعية؛ وخصصنا بالفعلي، لاختصاصها بما إذا كان متعلقاً به[3] على ما ستطلع عليه. ولذلك[4] عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من تثليث الأقسام(1).

وإن أبيت إلاّ عن ذلك[5]، فالأولى أن يقال[6]: «إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا[7]»، لئلا تتداخل

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عمّمناه حتى شمل الحكم الظاهري مضافاً إلى الحكم الواقعي.

[2] أي: أحكام القطع، كلزوم المتابعة، وحرمة التجري، ونحوها.

[3] أي: لاختصاص أحكام القطع بما إذا كان القطع متعلقاً بالحكم الفعلي.

[4] أي: لأجل مراعاة التعميم والتخصيص، أي: مراعاة:

1- عموم أحكام القطع للحكم الواقعي والظاهري.

2- واختصاص أحكام القطع بالأحكام الفعلية دون الحكم الإنشائي والحكم الاقتضائي.

[5] أي: عن تثليث الأقسام.

[6] شروع في إشكال آخر على تقسيم الشيخ، وحاصله: إن الشيخ قال: (فيحصل له إما الشك أو القطع أو الظن)، ثم بيَّن أن وظيفة الشاك الرجوع إلى الأصول العملية، ووظيفة الظان الرجوع إلى الأمارات.

ولكن ليس هذا البيان بوافٍ؛ لأن الشاك قد تكون وظيفته الرجوع إلى الأمارات، والظان قد تكون وظيفته الرجوع إلى الأصول العملية، مثلاً: الشاك مع وجود خبر معتبر يلزمه العمل بذلك الخبر حتى وإن بقي على شكه، وكذلك الظان بالنجاسة مع عدم اعتبار ظنه عليه إجراء أصالة الطهارة أو استصحابها.

[7] فغير القاطع - سواء كان شاكاً أم ظاناً - إن كان له طريق معتبر - كخبر الثقة -

ص: 207


1- فرائد الأصول 1: 25.

الأقسام في ما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه على الأخير[1] إلى القواعد المقررة عقلاً أو نقلاً[2] لغير القاطع ومن يقوم[3] عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محله - إن شاء الله تعالى - حسبما يقتضي دليلها[4].

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه[5] يستدعي رسم أمور:

الأمر الأول[6]: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً[7]

-----------------------------------------------------------------

عليه العمل به، وإن لم يكن له طريق معتبر فعليه إجراء الأصل العملي.

[1] أي: مرجع غير القاطع، «الأخير» عدم قيام طريق معتبر.

[2] أي: الأصول العملية العقلية، أو الأصول العملية الشرعية.

[3] أي: ولغير من يقوم عنده الطريق، فمن لم يكن قاطعاً ولم تقم عنده أمارة، فإن عليه الرجوع إلى الأصول العملية.

[4] أي: دليل القواعد - الأصول العملية - فقد يقتضي دليل البراءة نفي الإلزام، وقد يقتضي دليل الاستصحاب بقاء الإلزام - مثلاً - .

[5] كالقطع المطابق للواقع، والمخطئ للواقع، وكالقطع التفصيلي والإجمالي، وكقطع المتعارف والقطاع، ونحوها.

الأمر الأول: بحوث في حجية القطع

اشارة

[6] البحث في هذا الأمر عن:

1- حجية القطع عقلاً.

2- وأن حجيته ذاتيّة لا ينالها الجعل، كما لا يمكن المنع عنها.

3- وأن الحجية إنما هي في صورة كون (المقطوع به) الحكم الفعلي.

1- حجية القطع

[7] بمعنى لزوم ترتيب آثار المقطوع به، وذلك بحكم العقل، مثلاً: من يقطع بوجود حيوان مفترس يلزمه العقل بالتوقي منه.

ص: 208

ولزوم[1] الحركة على طبقه جزماً[2]، وكونه[3] موجباً لتنجز التكليف الفعلي في ما أصاب باستحقاق[4] الذم والعقاب على مخالفته، وعذراً[5] في ما أخطأ قصوراً[6]. وتأثيره في ذلك لازم[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا عطف تفسيري لبيان معنى (وجوب العمل على وفق القطع).

[2] أي: حكماً عقلياً بالجزم.

[3] واعلم أن وجوب العمل على وفق القطع إنما هو أثر تنجز التكليف، حيث إن تنجّز التكليف هو سبب وجوب العمل على وفق القطع، ولا يكون التكليف منجزاً إلاّ بعد فعليته والاطلاع عليه.

وهذا هو معنى الحجية بالمعنى الشرعي، فلذا يكون القطع حجة - بهذا المعنى - .

[4] أي: التنجز إنما هو بسبب حكم العقل باستحقاق الذم والعقاب على المخالفة، فلو لم يحكم العقل بهذا الاستحقاق لا يكون التكليف منجزاً، كموارد الاضطرار ونحوه. وبعبارة أخرى: التنجّز يُنتزع عن حكم العقل باستحقاق الذم والعقاب.

[5] عطف على قوله: (موجباً)، أي: وكونه عذراً في صورة الخطأ، و«عذراً» هنا مصدر بمعنى الفاعل، أي: (معذّراً).

[6] أما لو كان الخطأ عن تقصير، كمن قرأ كتب الضلال متعمداً مع وهن في معتقده، ثم قطع بالضلال، فإنه يعاقب على تقصيره في المقدمات.

ثم إن بين لزوم العمل على طبق القطع وبين الحجية - بمعناها الشرعي - عموماً مطلقاً، فكل قطع يلزم عقلاً العمل به، ولكن ليس كل قطع حجة بمعنى إمكان احتجاج العبد على المولى به، بل القطع الناشئ عن التقصير في المقدمات لا عذر فيه ولا يُؤمِّن من العقاب.

[7] أي: تأثير القطع في لزوم العمل لازم عقلاً؛ لأنه - كما سيأتي - أثر ذاتي، والذاتي لا ينفك عن الشيء.

ص: 209

وصريح الوجدان به[1] شاهد وحاكم؛ فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان[2].

ولا يخفى: أن ذلك[3] لا يكون بجعل جاعل[4]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بهذا الحكم العقلي، فكل واحد يجد في نفسه هذا الحكم العقلي.

ولا يخفى أن العقل كما يرى الأشياء كذلك له أحكام فيها، ولو لا ذلك لم يكن للعقلاء - إن لم يكونوا متشرعة - مُلزم للعمل بما يراه العقل، مضافاً إلى قوله تعالى: {أَمۡ تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ}(1) والأحلام جمع حِلم وهو العقل، ولو لا وجود أوامر للعقول لم يكن معنى لهذه.

[2] بل ذلك غير ممكن؛ لأن البرهان لابد من أن يوجب القطع، وإلاّ لم يكن برهاناً، وحينئذٍ نتسائل هل هذا القطع الناشئ من البرهان حجة أم لا؟ لا يمكن القول بحجيته؛ لأن القطع حسب الفرض لم يكن بحجة؛ لذا احتاج إلى إقامة برهان على حجيته، وإن قيل: إنّ هذا القطع الناشئ من البرهان ليس بحجة احتاج إلى إثبات حجيته بقطع آخر وهكذا فيتسلسل.

نعم، قد يستدل للأمر الضروري لأجل إلفات الذهن إلى كونه ضرورياً.

2- الحجية ذاتية للقطع

[3] أي: وجوب العمل على وفق القطع.

[4] اعلم أن لوازم الشيء قد تكون لوازم الذات، وقد تكون صفات مفارقة - قد تتصف بها الذات وقد لا يتصف - :

والأول: لا ينفك عن الذات، بل يوجد بوجودها ولا يمكن إيجاده بانفراد، مثلاً: زوجية الأربعة لا تنفك عنها، ولا يمكن إيجادها من غير إيجاد للأربعة، بل هي توجد بوجود الأربعة.

والثاني: ينفك عن الذات ويحتاج إلى إيجاد مستقل، مثل قولنا: (زيد عالم)،

ص: 210


1- سورة الطور، الآية: 32.

لعدم جعل تأليفي[1] حقيقة[2] بين الشيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً[3].

وبذلك[4] انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً؛ مع أنه يلزم منه[5] اجتماع الضدين اعتقاداً[6] مطلقاً[7]،

-----------------------------------------------------------------

فالعلم وصف مفارق يحتاج إلى إيجاد ثانٍ بعد إيجاد ذات زيد أولاً.

والحجية لازم ذاتي للقطع فلا يمكن جعلها، بلى يمكن إيجاد القطع تكويناً فتتبعه حجيته.

[1] الجعل إمّا بسيط وهو إيجاد ذات الشيء، وإمّا تأليفي وهو إيجاد الشيء وإيجاد وصف مفارق له. وحجية القطع لم تكن مجعولة لا بجعل بسيط؛ لعدم إيجادها بالاستقلال، ولا بجعل تأليفي؛ لعدم كونها من الأوصاف المفارقة.

[2] أي: ليس إيجاداً بالاستقلال للّوازم، بل إيجاد تبعي؛ وذلك بإيجاد المنشأ، مثلاً: ليس هناك إيجاد الزوجية بالاستقلال، بل إيجاد الأربعة فتوجد الزوجية عرضاً وبالتبع.

[3] أي: بتبع جعل الشيء بسيطاً.

[4] أي: بما بيناه من أن الحجية لازم ذاتي للقطع.

وقد استدل المصنف لعدم إمكان المنع بأمرين - طوليّين - :

1- إن اللازم الذاتي لا يمكن انفكاكه، فلا يمكن المنع عن حجية القطع.

2- إن المنع لغو؛ لعدم إمكان امتثال العبد له؛ للزومه اجتماع الضدين اعتقاداً إن أخطأ القطع، وإن كان القطع مصيباً يكون المنع محالاً للزومه طلب الضدين.

[5] مع أن الشأن يلزم من المنع عن تأثير القطع.

[6] ما يستلزم اجتماع ضدين اعتقاداً لا يصدر من الحكيم؛ لأن الغرض من الأمر والنهي هو امتثال المكلف، ومع اعتقاده بطلب المولى للضدين لا يمكنه امتثال أحدهما.

[7] أي: سواء كان القطع مصيباً أم مخطئاً.

ص: 211

وحقيقة في صورة الإصابة[1]، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك[2]: أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر[3] لم يصر فعلياً، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجز[4]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: يكون اجتماع الضدين حقيقة في هذه الصورة، مثلاً: الحكم الواقعي هو حرمة الخمر، فلو قطع بأن هذا الإناء خمر واقعاً - وكان قطعه مصيباً - فإن المنع عن العمل بالقطع معناه تجويز شرب الخمر، وفي الوقت نفسه تحريم شربه، وهذا من طلب الضدين، الكاشف عن اجتماع الضدين - وهما الإرادة والكراهة - لدى المولى.

3- الحجية في القطع بالتكليف الفعلي

[2] الغرض هو بيان أن التكليف غير الفعلي - كالاقتضائي أو الإنشائي - لا يجب الالتزام به.

إن قلت: حجية القطع ذاتية، فكيف لا يكون القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي حجة؟

قلت: عدم وجوب الالتزام ليس بمعنى عدم حجية القطع؛ لأن المراد من الحجية هو لزوم ترتيب آثار المقطوع به، وليس (لزوم العمل) من آثار الحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

[3] المراد من البعث: الإرادة، ومن الزجر: الكراهة، بما يستتبعان من القول والفعل.

[4] قد مرّ أن للتكليف مراحل - بعضها مقدماته وبعضها نتائجه - :

1- الاقتضاء: بمعنى وجود المصلحة أو المفسدة - وهذا من مقدمات التكليف - .

2- الإنشاء: بمعنى سنّ القانون بالأمر والنهي.

3- الفعلية: بمعنى لزوم العمل بالحكم.

ص: 212

واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن كان ربما يوجب موافقته[1] استحقاق المثوبة[2]. وذلك[3] لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة[4] لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي[5]، ولا مخالفته عن عمد بعصيان[6]، بل كان مما سكت الله عنه، كما في

-----------------------------------------------------------------

4- التنجيز - وهذا نتيجة الحكم - : بمعنى أنه لو وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وجب عليه الالتزام به، ويستحق العقوبة على المخالفة، وكذا التعذير بمعنى أنه معذور لو أخطأ من غير تقصير.

وهذه المراحل مرتّبة طولياً، بمعنى أنه لا يمكن الوصول إلى المرحلة اللاحقة إلاّ بعد المرور بالمرحلة السابقة.

[1] أي: موافقة الحكم غير الفعلي.

[2] وذلك للانقياد، ولا يخفى أن الثواب كلّه تفضل من الله تعالى، واستحقاق الثواب ليس بالذات، وإنّما لأن الله تعالى وعد به، وجعله حقاً على نفسه نظير قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(1)، فإن دل دليل على أن الله وعد الثواب على الانقياد كان المنقاد مستحقاً له، ولعلّه لعدم وجود دليل معتبر قال المصنف: «وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة».

نعم، الانقياد يكشف عن حسن السريرة.

[3] علة عدم كون التكليف غير الفعلي منجزاً ولا معذراً.

[4] أي: مرتبة الفعلية.

[5] لأن حقيقة الأمر البعث، والنهي الزجر، ولا بعث ولا زجر في الاقتضاء والإنشاء فيهما، فلا يرى العقل وجوب إطاعتهما.

[6] هذا دليل آخر عقلي على عدم لزوم العمل طبق الحكم الاقتضائي والإنشائي، وحاصله: إن العقل لا يرى استحقاق المخالف فيهما للعقاب؛ لأنه لا يرى مخالفتهما عصياناً.

ص: 213


1- سورة الروم، الآية: 47.

الخبر[1]، فلاحظ وتدبر.

نعم[2]، في كونه بهذه المرتبة[3] مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل[4] إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين[5]، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

-----------------------------------------------------------------

[1] عن أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها، رحمة من الله لكم فاقبلوها)(1)، والأول إشارة إلى المحرمات، والثاني إلى الواجبات، والثالث إلى الاقتضائيات التي لم تكن المصلحة في الأمر بها أو النهي عنها، وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ}(2).

[2] هذا إشكال في صورة قيام الأمارة أو الأصل العملي المعتبر على حكم، وحينئذٍ يكون الحكم فعلياً ومنجزاً على المكلف؛ وذلك لأنه مع قيام الأمارة أو الأصل يكون حكم ظاهري، فإن طابق الواقع كان من اجتماع المثلين - الواقعي والظاهري - وإن لم يطابق الواقع كان من اجتماع الضدين.

ولا يخفى أن هذا الإشكال لا يرد في صورة القطع؛ لعدم وجود حكم ظاهري في صورة القطع؛ لأن حجية القطع بحكم العقل لا بحكم الشرع، والحكم الظاهري هو حكم شرعي، فتأمل.

[3] أي: كون الحكم بمرتبة الفعلية.

[4] أي: غير القاطع، فإن هذا الإشكال لا يجري في صورة القطع.

[5] اجتماع الضدين في صورة الخطأ، والمثلين في صورة الإصابة، ولا يخفى أن طلب الضدين أو المثلين إنّما يستحيل لاستلزامه اجتماع الضدين أو المثلين في إرادة المولى.

ص: 214


1- وسائل الشيعة 27: 175.
2- سورة المائدة، الآية: 101.

الأمر الثاني[1]: قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة. فهل يوجب استحقاقها[2] في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته[3]، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحق أنه يوجبه[4]، لشهادة الوجدان[5] بصحة مؤاخذته[6]

-----------------------------------------------------------------

الأمر الثاني: التجري

اشارة

[1] يبحث في هذا الأمر عن التجري، وللتجري جهات متعددة:

1- فقد يبحث عن حرمته وعدمها، فتكون مسألة فقهية.

2- وقد يبحث عن إيجاده للمفسدة في الفعل المتجرى به، وكذا إيجاده المصلحة في الفعل المنقاد به، فتكون مسألة أصولية.

3- وقد يبحث عن استحقاق العقوبة وعدمها، فتكون مسألة كلامية.

وبما أن الجهة الكلامية هي أظهر الجهات وأهمها - عند المصنف - لذلك اعتبرها كلامية، وبحث عن استحقاق العقاب في التجري.

[2] أي: استحقاق العقوبة.

[3] الباء سببيّة، أي: التجري بسبب مخالفة القطع.

[4] أي: إن التجري يوجب استحقاق العقاب.

ولم يبحث عن الانقياد واستحقاق الثواب فيه؛ لعدم ترتب أثر عملي عليه.

[5] المراد هو حكم العقل باستحقاق العقاب - لأن طرق الطاعة والمعصية وما يتعلق بها إنما هي بحكم العقل - ومعنى الوجدان أننا نجد من أنفسنا هذا الحكم العقلي.

[6] أي: عدم قبح عقاب المتجري، وهذا هو العمدة من الأدلة، وباقي ما ذكره المصنف علة صحة هذه المؤاخذة.

ص: 215

وذمّه على تجريه[1] وهتك حرمته لمولاه[2]، وخروجه عن رسوم عبوديته[3]، وكونه بصدد الطغيان[4]، وعزمه على العصيان[5]، وصحة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقته[6]، والبناء على إطاعته، وإن قلنا[7] بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة - ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة - بمجرد سوء سريرته أو حسنها وإن كان مستحقاً للّوم[8] أو المدح بما يستتبعانه[9]، كسائر

-----------------------------------------------------------------

[1] لا يخفى أن مجرد صحة الذم لا يدل على استحقاق العقاب، كما سيأتي من المصنف بعد قليل، فلا يكون هذا دليلاً على ما رامه المصنف.

[2] الصحيح هو التعبير ب- (هتك حرمة مولاه) أو (هتكه لحرمة مولاه). وهذا علّة صحة المؤاخذة والعقاب.

[3] أي: خروج المتجري عن طريقة عبودية المولى، وهذه علة أخرى لصحة المؤاخذة.

[4] لا يخفى أن مجرد النية لا عقوبة فيها، بل كونه بصدد الطغيان مع فعلٍ يراد به الطغيان، وبعبارة أخرى: إن الحرام هو إبراز هذه النية بفعل يراد به الوصول إلى ما منعه المولى، وهذا هو السبب لصحة العقوبة.

[5] عطف تفسيري لقوله: (وكونه بصدد الطغيان).

[6] أي: صحة إثابة العبد ومدحه على انقياده، والانقياد هو أن يعمل بمقتضى العبودية، ومقتضاها هو العزم على موافقة المولى بإطاعة أمره.

[7] المراد بيان أن مجرد سوء الباطن أو نية السوء لا توجب استحقاقاً للعقاب - بشهادة العقل والعقلاء - بل إذا أظهر هذه النية بفعل يراد به الوصول إلى المحرّم.

[8] لا يخفى أنه لو اجتمعت ثلاث لامات فإنها تكتب لامين مع وضع تشديد على الثانية - لام الجر، ولام التعريف، ولام فاء الفعل - .

[9] أي: سوء السريرة أو حسن السريرة يستتبعان استحقاق الذم أم المدح.

ص: 216

الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة[1].

وبالجملة: ما دامت فيه[2] صفة كامنة لا يستحق بها إلاّ مدحاً أو لوماً، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما[3] - إذا صار بصدد الجري على طبقها[4]، والعمل على وفقها وجزم وعزم[5]. وذلك[6] لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك[7] وحسنها معه[8]، كما يشهد به[9] مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال[10] في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان

-----------------------------------------------------------------

[1] لا يخفى أن كثيراً من هذه الصفات غير اختيارية، ومع ذلك يصح المدح فيه؛ لأن المدح هو ثناء الحسن حتى لو كان بلا اختيار، كما يقال: مدحت اللؤلؤ لصفائه، ومدحت الجميل لجماله.

[2] أي: في العبد - وهو متصيّد من مطاوي الكلام - .

[3] أي: المدح أو الذم، فإن المتجري يذم ويعاقب.

[4] أي: طبق تلك الصفة الكامنة.

[5] أي: إذا اجتمعت هذه الأمور معاً وهي:

1- الميل، وهو صيرورته بصدد العمل.

2- الجزم، وهو الحكم القطعي بلزوم صدور الفعل، وذلك بتصديق فائدته ودفع الموانع.

3- العزم، وهو الشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو الفعل.

[6] علة أن الصفة الكامنة لا يصح العقوبة عليها ولا يستحق عليها إلاّ اللوم.

[7] أي: من دون كونه قاصداً وجازماً وعازماً.

[8] أي: حسن المؤاخذة مع قصده وجزمه وعزمه.

[9] أي: بحسن المؤاخذة.

[10] لأن طرق الطاعة والمعصية عقلية؛ ولذا حملوا الأمر بالطاعة في قوله:

ص: 217

من استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك[1] مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه[2] من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً[3]، بلا حدوث تفاوت فيه[4] بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة[5]، ولا تغير جهة حسنه أو قبحه

-----------------------------------------------------------------

{أَطِيعُواْ ٱللَّهَ}(1) على الإرشاد(2).

الفعل المتجرّى به

[1] أي: استحقاق العقوبة على التجري، والثواب على الانقياد.

[2] أي: إن التجري لا يغيّر عنوان الفعل، بل يبقى الفعل على حالته قبل التجري، وكذا الانقياد، فمن شرب الماء بزعم أنه خمر يبقى الماء على إباحته - مثلاً - وقد استدل المصنف على مدعاه بأمرين:

الأول: إن القطع ليس من الجهات المحسِّنة أو المقبِّحة للفعل.

الثاني: إن القطع غير ملتفت إليه، وما كان مغفولاً عنه يستحيل أن يُوجب حسناً أو قبحاً.

[3] «الحسن والقبح» يرتبط بالعقل، و«الوجوب والحرمة» بالشرع، وقوله: «واقعاً» بمعنى أن الفعل لا يتغيّر حكمه الواقعي، بل يبقى على حالته الأولية، بلا أن يكون للقطع تأثير في ذلك الحكم الواقعي.

[4] أي: في الفعل (المتجرى به).

[5] حرف الجر في «بغير» يتعلق ب- (القطع)، أي: القطع بخلاف الواقع لا يوجب تغير واقع الشيء. وقوله: «من الحكم والصفة» بيان لقوله: (ما)، و«الحكم»: هو الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة، و«الصفة» هي الحسن أو القبح.

ص: 218


1- سورة الأنفال، الآية: 1.
2- الأصول الأصيلة: 103؛ فرائد الأصول 2: 102.

بجهته[1] أصلاً، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً[2]، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه، مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً. هذا.

مع أن الفعل المتجرى به[3]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بسبب القطع.

[2] فإن حسن بعض الأفعال أو قبحها ذاتي، فلا يتغير أصلاً، كالعدل أو الظلم.

وبعضها حسنها أو قبحها ليس ذاتياً وإنما يتغير بالاعتبارات، سواء كان لها المقتضي لأحدهما كالصدق، أم لم يكن لها المقتضي لأي منهما كشرب الماء، فالصدق قد يكون حسناً، وقد يكون قبيحاً، كما لو كان فيه هلاك مؤمن محقون الدم، وشرب الماء قد يصير حسناً، كما لو كان فيه إنقاذ النفس، وقد يكون قبيحاً، كالإفطار بالماء عمداً في نهار شهر رمضان، وقد يبقى على إباحته بلا عروض عنوان محسِّن أو مقبِّح.

والقطع لا يوجب حسناً ولا قبحاً لا بالذات، ولا هو من الوجوه والاعتبارات التي توجب الحسن أو القبح في الفعل المقطوع به.

كما أن القطع ليس ملاكاً لحب الشارع أو بغضه للشيء.

[3] هذا الدليل الثاني على بقاء المتجرى به على حاله، وحاصله: إن القطع مغفول عنه عادة، فإن القاطع لا يلتفت بأن له صفة القطع، وما كان غير ملتفت إليه لا يكون بالاختيار؛ لأن الغافل غير قاصد ألبتة، وغير القاصد غير مختار، فكان ارتكاب الشيء بعنوان أنه مقطوع به أمراً غير اختياري؛ لأنه مركب من أمرين: أحدهما غير ملتفت إليه، وحينئذٍ لا يكون الفعل بعنوان أنه مقطوع به من الوجوه

ص: 219

أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب[1] - لا يكون اختيارياً، فإن القاطع لا يقصده[2] إلاّ بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي[3]، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان مما يلتفت إليه[4]، فكيف[5] يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك[6] إلاّ إذا كانت اختيارية.

إن قلت[7]: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة

-----------------------------------------------------------------

والاعتبارات المقبّحة أو المحسّنة.

[1] أي: الفعل بهذا الوصف غير اختياري، أما الفعل بغير هذا الوصف فهو اختياري حتماً.

[2] أي: القاطع يقصد الفعل بالعنوان الذي تخيله، لا بعنوان أنه مقطوع، مثلاً: من يشرب الماء متوهماً أنه خمر فإنه يقصد الشرب بما أنه شرب للخمر، وليس قصده أنه يشرب هذا المائع بما هو مقطوع الخمرية.

[3] لأن القطع مرآة للوصول إلى الواقع لذا كان طريقياً، وهو عنوان عارض وآلة للوصول إلى الواقع.

[4] أي: لا يكون بعنوانه الطارئ ملتفاً إليه، وحتى لو كان ملتفتاً إلى وجود صفة القطع في نفسه فإنه لا يشربه بما أنه مقطوع، بل يشربه بما أنه خمر واقعاً.

[5] أي: ما لا يلتفت إليه لا يكون اختيارياً، وغير الاختياري لا يكون ملاكاً لحكم العقل بالحسن أو القبح: ولا ملاكاً لحكم الشرع بالوجوب أو الحرمة.

[6] أي: حكم العقل بالحسن والقبح، أو الشرع بالوجوب والحرمة.

[7] مراد المستشكل أن القطع إذا لم يوجب قبح وحرمة الفعل المتجرى به كذلك لا يوجب قبح وحرمة التجري أيضاً، فهذا الدليل يجري في التجري أيضاً، فيقال: إن التجري - وهو ارتكاب الفعل قاطعاً بالمخالفة عمداً - مركب من الفعل والقطع، أما الفعل فقد قلتم: بعدم قبحه ولا حرمته، وأما القطع فقد قلتم: إنه مغفول عنه،

ص: 220

القطع، وهل كان العقاب عليها[1] إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار[2]؟!

قلت[3]: العقاب إنما يكون على قصد العصيان[4] والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار[5].

إن قلت[6]: إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست باختيارية، وإلاّ لتسلسل[7].

قلت[8]:

-----------------------------------------------------------------

إذاً لا حرمة للتجري؟!!

[1] أي: على المخالفة.

[2] وهو القطع، حيث إنه مغفول عنه!!

[3] حاصل الجواب: إن العقاب في التجري ليس على القطع، بل على هتك حرمة المولى.

[4] أي: القصد الذي أدى - بالنتيجة - إلى تحريك العضلات نحو الفعل.

فليس مراد المصنف أن النية المجردة فيها العقاب، بل مراده أن نيّة العصيان مع استتباعها للفعل.

[5] أي: الفعل بما هو مقطوع غير اختياري، فلا عقوبة عليه.

[6] حاصل الإشكال: إنكم قلتم: إنّ استحقاق العقاب هو على القصد، لكن القصد غير اختياري؛ لأنه من مقدمات الاختيار، ومقدمات الاختيار غير اختيارية وإلاّ لزم التسلسل، وحينئذٍ فالعقاب على القصد عقاب على أمر غير اختياري، فعاد الإشكال!!

[7] لأن مقدمات الاختيار إذا كانت اختيارية فنتسائل لماذا هذه المقدمات اختيارية؟ فيقال: لأن مقدمات هذه المقدمات اختيارية، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى مقدمات المقدمات، وهكذا.

[8] أجاب المصنف بجوابين:

ص: 221

- مضافاً إلى[1] أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أن بعض مباديه غالباً[2] يكون وجوده بالاختيار[3]،

-----------------------------------------------------------------

الأول - وهو الصحيح - : إنه لا جبر في بعض مبادئ الاختيار، كالعزم، فإنه يمكنه أن لا يعزم ويمكنه أن يعزم، حيث إنه بالتأمل في المنافع أو المضار يمكنه صرف النفس عن الفعل أو حملها على الفعل.

الثاني: إن قصد العصيان وإن لم يكن بالاختيار لكن لا مانع من العقاب عليه!!

ونتيجة هذا الجواب هو تسليم الإشكال بأن لا مانع من العقاب على أمر غير اختياري، وحينئذٍ يبطل الدليل الثاني الذي أقامه المصنف على بقاء الفعل (المتجرّى عليه) على ما هو عليه، حينما قال: (مع أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة... الخ).

[1] هذا الجواب الأول.

[2] بل دائماً؛ لأن كل المبادئ إذا كانت غير اختيارية لم يكن هنالك اختيار أصلاً.

[3] لا يخفى اضطراب العبارة؛ لأن قبول عدم اختيارية الاختيار يتنافي مع الاعتراف باختيارية بعض مقدماته؛ وذلك لأن بعض المقدمات إذا كانت اختيارية كانت النتيجة اختيارية.

والصحيح في التعبير أن يقال: إن اختيارية الاختيار إنما هي باختيارية بعض مقدماته، واختيارية تلك المقدمات بذاتها.

وبعبارة أخرى: إن إرادية كل شيء بالإرادة، وإرادية الإرادة بنفسها، فإرادية العزم بنفسه، لا بإرادة أخرى حتى يتسلسل، فالوصول إلى (الذاتية) وانقطاع السؤال ب- (لِمَ) يكون في ذاتية الاختيار في مقدمات الاختيار، لا في ذاتية سوء السريرة في العاصي، وحسن السريرة في المطيع، فإن هذا يستلزم القول بالجبر المعلوم بطلانه بالضرورة.

ص: 222

للتمكن من عدمه[1] بالتأمل[2] في ما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة[3] - يمكن أن يقال[4]: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بُعده عن سيده بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته[5] بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنه[6] يوجب البعد عنه، كذلك لا غروَ[7] في أن يوجب حسن العقوبة، فإنه[8] وإن لم يكن باختياره[9]، إلاّ أنه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم بعض المبادئ، والمراد للتمكن من عدم ارتكابه.

[2] فقد ينصرف الإنسان عن شيء وهو في أشد الحب له، لأجل إدراكه بلحوق الضرر بنفسه من العقوبة أو الملامة.

[3] الظاهر أن المذمة عطف تفسيري على اللوم.

[4] بدء في الجواب الثاني.

[5] أي: كما كان حسن المؤاخذة والعقوبة من تبعة بعده عن سيده أيضاً، ففي التجري والعصيان يحسن العقاب لبعد العبد عن مولاه.

[6] أي: كما أن التجري يوجب البُعد عن المولى.

[7] أي: لا عجب في أن يوجب التجري.

[8] أي: فإن البُعد عن المولى.

[9] قال المصنف في الحاشية: (كيف لا وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية، فإنها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على أولي النهى)(1)،

انتهى.

وفيه: إن اختيارية العمد بذاته - كما مرّ آنفاً - لأن العمد هو القصد إلى الشيء، وهو اختياري بالبداهة. والعجب أن المصنف بعد قليل سَيَرُدُّ على دليل المحقق

ص: 223


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 62.

واقتضاء استعداده[1] ذاتاً وإمكانه[2]. وإذا انتهى الأمر إليه[3] يرتفع الإشكال[4] وينقطع السؤال ب- «لِمَ»، فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات. وبذلك[5] أيضاً ينقطع السؤال عن أنه لِمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنه يساوق[6] السؤال عن أن الحمار لِمَ يكون ناهقاً، والإنسان لِمَ يكون ناطقاً؟

-----------------------------------------------------------------

السبزواري في الذخيرة بما يناقض كلامه هذا، فانتظر.

[1] أي: استعداد وقابلية العاصي الذاتية.

[2] أي: وبحسب إمكانه، وفي الوصول: (فإن إمكان كل شيء بحسبه، فإمكان الخبيث إنّما هو إمكان الخبيث لا إمكان مطلق ،كما أن إمكان الطيب إنما هو إمكان الطيب لا مطلقاً)(1)، فتأمل.

[3] أي: إلى اقتضاء استعداده الذاتي.

[4] أي: الإشكال على جعل الخبيث خبيثاً.

أقول: بل لا يرتفع الإشكال أصلاً؛ لأن الخبيث ذاتاً هو شر محض، وقد قالوا: إنّ الله لا يخلق الشر، بل يخلق الخير، والشر إنما ينشأ من سوء الاختيار، كما قال تعالى: {ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ}(2).

مضافاً إلى أن العقاب على ما ليس بالاختيار ظلم - بداهة - .

[5] أي: بذاتية سوء السريرة للخبيث - كما زعم المصنف - .

[6] فإن هذا السؤال يساوق السؤال عن ذاتيات الأشياء، وإنها لماذا جعلت كذلك؟

أقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الفصل ذاتي للنوع، فالنهيق ذاتي للحمار، والنطق ذاتي للإنسان، أما سوء السريرة فليس ذاتي باب الكليات الخمس، ولا ذاتي باب البرهان.

ص: 224


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 300.
2- سورة الروم، الآية: 41.

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه «تعالى» والبعد عنه سبب لاختلافها[1] في استحقاق الجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً، والذاتي لا يعلل.

إن قلت: على هذا[2] فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت: ذلك لينتفع به[3] من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربه أنسه، {وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ}(1)[4]، قال الله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ}(2)، وليكون حجةً على من ساءت

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لاختلاف تلك الأفراد.

[2] أي: على هذا القول من أن سوء السريرة وحسنها ذاتيان، وحاصل الإشكال: إن من حسنت سريرته يكون من أهل الجنة حتماً؛ لأن حسن السريرة مقتضى ذاته، ونتيجته هو السعادة ودخول الجنة، وكذلك من ساءت سريرته فإن سوءها هو مقتضى ذاته، والنتيجة هو العذاب، سواء بعث الأنبياء أم لا.

[3] أي: ينتفع ببعث الرسل وبإنزال الكتب.

[4] ذكرنا في التفسير: أن الهداية من الله؛ لأن ترتب كل معلول على علته إنما هو بإذن الله تعالى، ولو لا إذنه لحصل المانع، بل عدم المقتضي، كما في صيرورة نار إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ برداً وسلاماً، والهداية هي من الله بشرط أن يوفر العبد أسبابها باختياره ويزيل موانعها، كالفسق والظلم قال سبحانه: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ}(3) وقال: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ}(4).

ص: 225


1- سورة الأعراف، الآية: 43.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة المائدة، الآية: 108.
4- سورة البقرة، الآية: 258.

سريرته وخبثت طينته[1]، {لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ}(1)[2]، كيلا يكون للناس على الله حجة[3]، بل كان له حجة بالغة.

ولا يخفى[4]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أقول: كيف يكون حجة إذا كان مجبوراً على كفره وعصيانه؟! ثم إنا قد ذكرنا بحوث الطينة في شرح أصول الكافي(2)،

وقلنا: إنّ خلق المؤمن من الطينة الحسنة والكافر من طينة سجين لا يوجب الجبر، بل ولا المقتضي للإيمان أو الكفر، وذكرنا أن الله بعلمه الأزلي علم المؤمن من الكافر، والعلم ليس سبباً لفعل الغير، كعلمنا بطلوع الشمس يوم غد، فإن هذا العلم لا دخل له في ذلك الطلوع، فمن علم الله بأنه سيختار الكفر فإنه سيموت كافراً - حتى لو خلقت طينته من عليين - ومن علم الله بأنه سيختار الإيمان فإنه يموت مؤمناً - حتى لو كانت طينته من سجين - وحينئذٍ كان من خلاف الحكمة دخول طينة عليين في جهنم، ودخول طينة سجين في الجنة؛ ولذلك خلق الله الكافر من طينة سجين، وخلق المؤمن من الطينة الطيّبة؛ ليكون دخولهما الجنة أو النار على طبق الحكمة من وضع الأشياء مواضعها، من غير أن يكون لتلك الطينة تأثير من اختيار الكفر والإيمان أصلاً - حتى من باب المقتضي - فدقق جيداً حتى لا تقع في توهم الجبر، والله العاصم وهو المستعان.

[2] هذه الآية على خلاف ما رامه المصنف أدلّ، فإن الامتحان إنما يصحّ لو كان اختيار لا جبر.

[3] وهذه الآية أيضاً تدل على خلاف ما رامه المصنف، فإن المجبور له الحجة - ببداهة العقل - وإنما المختار العالم لا حجة له لو خالف.

الدليل النقلي على استحقاق المتجري للعقاب

[4] من هنا يبدأ المصنف بالإشارة إلى الدليل الشرعي على استحقاق المتجري

ص: 226


1- سورة الأنفال، الآية: 42.
2- شرح أصول الكافي 8: 9 - 29.

أن في الآيات[1] والروايات[2] شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإطلاق[3] في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

-----------------------------------------------------------------

للعقاب، بعد أن انتهى من الدليل العقلي الذي شهد عليه الوجدان.

[1] كقوله تعالى: {فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ}(1) فقد ورد في التفسير أن نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخرهم عن القاتلين إنما هو لرضاهم بقتلهم. وكقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}(2). وكقوله تعالى: {وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ}(3). وكقوله سبحانه: {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ}(4).

[2] كالذي ورد في تعليل خلود أهل النار في النار، وخلود أهل الجنة في الجنة، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كانت عليه من المعصية أو الطاعة، وكقول أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(5).

وغيرها من الآيات والروايات، وقد ذكر شطراً منها الشيخ الأعظم في الرسائل.

أقول: لا يخفى عدم دلالتها على قبح وحرمة التجري ولا على استحقاق العقاب عليه، بل أقصى ما تدل عليه هو أن للقلب معاصيَ، وأن ما يتعلق بأصول الدين يجب فيه الاعتقاد القلبي، ويحرم فيه الاعتقاد بعكس الحق.

[3] الغرض بيان أن الأدلة الشرعية هنا إرشاد لحكم العقل، وهذه الشهادة إنما هي للتنبيه على ذلك الحكم العقلي؛ وذلك لأن طرق الطاعة والمعصية إنما هي طرق عقلية، والشارع قد أرشد إليها أحياناً.

ص: 227


1- سورة آل عمران، الآية: 183.
2- سورة النور، الآية: 19.
3- سورة البقرة، الآية 284.
4- سورة القصص، الآية: 83.
5- نهج البلاغة، الحكم: 154.

ومعه[1] لا حاجة إلى ما استدل[2] على استحقاق المتجرئ للعقاب بما حاصله[3]: «إنه لولاه[4] مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة[5] عن تحت قدرته واختياره،

-----------------------------------------------------------------

دليل آخر على استحقاق العقاب في التجري وردّه

[1] أي: ومع شهادة الوجدان على استحقاق المتجري للعقاب.

[2] نُسب ذلك إلى المحقق السبزواري صاحب الذخيرة، لكن قيل: إن كلام السبزواري ليس في التجري وإنما في المعصية الحقيقية.

[3] بيانه: إنه لو فرضنا أن شخصين قصدا شرب الخمر - مثلاً - فصادف أحدهما الواقع، وأخطأ الآخر فشرب ما ليس بخمر متوهماً أنه خمر، وحينئذٍ... .

1- فإن قيل: باستحقاقهما العقاب فهو المطلوب، حيث ثبت العقاب على المتجري.

2- وأما عدم استحقاقهما للعقاب فهذا خلاف الضرورة؛ إذ لا شك في استحقاق شارب الخمر متعمداً للعقاب.

3- وأما استحقاق المتجري للعقاب دون العاصي فهذا أيضاً خلاف الضرورة.

4- وأما استحقاق العاصي للعقاب دون المتجري فلا يمكن المصير إليه؛ لأن مصادفة قطع العاصي للخمر، وعدم مصادفة قطع المتجري لها ليس بأمر اختياري، وإناطة العقاب وعدمه بأمر غير اختياري غير معقول.

وحيث بطلت هذه الاحتمالات لم يبق إلاّ الاحتمال الأول، وهو استحقاقهما للعقاب، وهو المطلوب.

[4] إن الشأن لو لا استحقاق المتجري للعقاب، مع ضرورة أن العاصي مستحق للعقاب.

[5] «الخارجة» صفة (المصادفة)، فإن العاصي والمتجري كلاهما ارتكبا ما قطعا

ص: 228

مع بطلانه وفساده[1]».

إذ للخصم أن يقول[2]: بأن استحقاق العاصي دونه[3] إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه[4] - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحققه فيه[5]، لعدم مخالفته أصلاً - ولو بلا اختيار -، بل[6] عدم صدور فعل منه في بعض أفراده[7] بالاختيار، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع

-----------------------------------------------------------------

بأنه معصية، لكن صادف أحدهما ولم يصادف الآخر، والمصادفة ليست بالاختيار كما هو واضح.

[1] أي: بطلان وفساد إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار.

[2] حاصل الإشكال على هذا الاستدلال: هو أن عقاب العاصي ليس لأجل المصادفة للواقع، بل لأجل مخالفته العمدية، وهذه المخالفة صدرت بالاختيار.

وأما المتجري فإن عدم عقابه لأجل عدم المصادفة، وهي وإن لم تكن اختيارية إلاّ أنه لا مانع من عدم العقاب لأمر غير اختياري، إنما القبيح هو العقاب لأمر غير اختياري.

[3] أي: دون المتجري.

[4] أي: في العاصي، وذلك السبب هو مخالفة العاصي عن عمدٍ واختيارٍ.

[5] أي: عدم تحقق سبب استحقاق العقاب في المتجري؛ وذلك لأن المتجري لم يخالف، حتى وإن كانت عدم المخالفة لأمر غير اختياري.

[6] كما مرّ من أن الفعل (المتجرى به) أو (المنقاد به) - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختيارياً.

[7] «منه» من المتجري، «بعض أفراده» في غير الشبهة المحصورة، وأما في الشبهة المحصورة فإن الارتكاب عن اختيار؛ إذ لم يؤخذ الارتكاب بما هو مقطوع الحرمة؛ وذلك لعدم وجود القطع التفصيلي بالفرد المرتكب، وإنما علم إجمالي.

ص: 229

- مثلاً - بأن مائعاً خمر مع أنه لم يكن بالخمر، فيحتاج[1] إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية[2] سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثم[3] لا يذهب عليك: أنه ليس في المعصية الحقيقية إلاّ منشأ واحد لاستحقاق

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: هذا المستدل لا ينفعه هذا الاستدلال لإثبات استحقاق العقاب على التجري، بل لابد من أن يستدل بما استدللنا به من أن قصد العصيان قبيح يستحق فاعله عليه العقاب.

[2] أي: قصد العصيان، «سبب» لاستحقاق العقوبة.

عدم تعدد العقاب في المعصية

[3] حاصله: إن سبب العقوبة هو هتك حرمة المولى، وهذا الهتك كما هو موجود في المعصية كذلك موجود في التجري، فلذلك كان هذا الهتك سبباً لاستحقاق العقاب.

أما صاحب الفصول(1)

فإنه ذهب إلى أنه في المعصية الحقيقية يوجد سببان لاستحقاق العقاب: أحدهما المخالفة، والآخر الجرأة على المولى، ولكنه لما رأى أنه للمعصية الواحدة عقوبة واحدة حتى لو تعدد السبب، فإنه قال بتداخل الأسباب بما يوجب استحقاق عقوبة واحدة غليظة!!

وأشكل عليه المصنف:

أولاً: بأن منشأ العقوبة في المعصية الحقيقة هو شيء واحد، وهو هتك حرمة المولى.

وثانياً: إن وحدة العقوبة تكشف بالدليل الإني على وحدة سبب الاستحقاق؛ لأن المعلول الواحد لا يكون إلاّ من العلة الواحدة.

وثالثاً: إنه لو فرض تعدد سبب استحقاق العقاب فلا وجه للتداخل، بل لابدّ من القول بتعدد العقاب لتعدد جهاته.

ص: 230


1- الفصول الغروية: 87.

العقوبة - وهو هتك واحد[1] - فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين - كما توهم -. مع ضرورة[2] أن المعصية الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة. كما[3] لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى. ولا منشأ لتوهمه[4] إلاّ بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف - بنحو الإن[5] - عن وحدة السبب.

الأمر الثالث[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] وهذا هو الإشكال الأول. نعم، شدة العقوبة ترتبط بكيفية الهتك، فكلما كان الهتك أشد كانت العقوبة أشد.

[2] أي: منشأ توهم تداخل العقابين هو ما ثبت بالضرورة أن المعصية الواحدة لها عقاب واحد لا عقابين.

[3] هذا هو الإشكال الثاني.

[4] هذا هو الإشكال الثالث، وضمير توهمه يرجع إلى صاحب الفصول.

[5] أي: بالدليل الإنّيّ وهو الانتقال من المعلول إلى العلة، كالعلم بالنار بسبب مشاهدة الدخان. وأما الدليل اللِمّيّ فهو العلم بالمعلول عن طريق العلم بالعلة، كما لو شاهد ناراً من بعيد فإنه يعلم بوجود الحرارة عندها.

الأمر الثالث: القطع الموضوعي

اشارة

[6] يبحث في هذا الأمر:

أولاً: عن تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي، ثم بيان أقسام الموضوعي.

وثانياً: عن قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي، وعدم قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي، ثمّ الخلاف بين الشيخ الأعظم والمصنف بين قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي.

وثالثاً: في عدم قيام الأصول العملية مقام القطع إلاّ الاستصحاب.

ص: 231

إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف[1] - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب، أو الذم والعقاب من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب[2].

وقد يؤخذ[3] في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه[4]، لا يماثله ولا يضاده[5] كما إذا ورد مثلاً في الخطاب أنه: «إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق

-----------------------------------------------------------------

أولاً: أقسام القطع

[1] المراد هو القطع الطريقي، الذي أخذ طريقاً للوصول إلى الحكم.

[2] أي: من غير أن يكون ذلك القطع موضوعاً لحكم شرعي آخر.

[3] أي: يؤخذ القطع، وهذا هو القطع الموضوعي؛ لأن القطع بشيء صار موضوعاً أو جزء موضوع لحكم شرعي آخر.

[4] و(المتخالفان) أمران وجوديان لا يتماثلان ولا يتضادان، ويمكن أن يجتمعا في موضوع واحد، كالسواد والحلاوة، فإنها ليسا مثلين ولا ضدين، ويمكن أن يجتمعا في شيء واحد كالتمر مثلاً.

وهنا متعلق القطع يخالف متعلق الحكم - من غير تماثل ولا تضاد - كما لو قال: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم)، فإن متعلق القطع هو (حياة الولد)، ومتعلق الحكم هو (التصدق بدرهم).

[5] لاستحالتهما، أما التماثل، فكما لو قال: (إن قطعت بالحرمة فهي عليك حرام)، وجه الاستحالة هو استلزامه اجتماع المثلين، أو لاستلزامه طلب الحاصل، وكلاهما محال.

وأما التضاد، فكما لو قال: (إن قطعت بالحرمة فهي عليك واجب)، وجه الاستحالة هو استلزامه اجتماع الضدين، أو لاستلزامه الخلف؛ لأن القطع بالحرمة يساوق القطع بعدمها. فتأمل.

ص: 232

بكذا» - تارةً[1] بنحو يكون[2] تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك[3]؛ وأخرى[4] بنحو يكون جزؤه وقيده، بأن يكون القطع به[5] في خصوص ما أصاب موجباً له[6].

وفي كل منهما[7] يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلقه؛ وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع، أو المقطوع به[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] شروع في بيان أقسام القطع الموضوعي.

[2] أي: يكون القطع تمام الموضوع، ولا ينظر إلى الواقع أصلاً، فحتى لو كان ذلك القطع جهلاً مركباً فإنه يترتب عليه ذلك الحكم الآخر، مثل: مانعيّة الغصب، فقول المولى: (إن قطعت بالغصب كان مانعاً عن صحة الصلاة) فإن هذا القطع سواء كان مصيباً أم مخطئاً فإنه مانع عن صحة الصلاة، والمانعية حكم شرعي وضعي، فمن صلّى في مقطوع الغصبية بطلت صلاته، سواء كان قطعه صحيحاً أم كان جهلاً مركباً.

[3] أي: لذلك الحكم الآخر.

[4] أي: وتارة أخرى يكون ذلك القطع جرءاً من الموضوع، أو قيده، ومثال القيد كما لو كان القطع شرطاً للموضوع.

[5] أي: القطع بالوجوب - في المثال - .

[6] أي: موجباً لذلك الحكم، ومثاله الشرعي: الشهادة، فإن الشاهد لو كان قاطعاً بما يشهد به وكان قطعه مطابقاً للواقع فإنه حينئذٍ تترتب آثار الشهادة. فلو لم يكن قاطعاً لا حجية لشهادته، ولو علمنا ببطلان قطعه وأنه جهل مركب فكذلك لا اعتبار بشهادته، فالقطع كان جزءاً من الموضوع، والجزء الآخر هو إصابة هذا القطع للواقع.

[7] أي: من القسمين: القطع كل الموضوع، أو القطع جزء الموضوع.

[8] أي: القطع الموضوعي بما هو مرتبط بالقاطع، أو بما هو متعلق بالمقطوع به؛

ص: 233

وذلك[1] لأن القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة[2] - ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره[3] - صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة[4] وحالة

-----------------------------------------------------------------

لأن القطع من الأمور الحقيقية ذات الإضافة، فلذا يمكن النظر إليه باعتبار تعلّقه بهذا الطرف من الإضافة - وهو القاطع - أو بذاك الطرف - وهو المقطوع به - .

فحاصل الأقسام - المذكورة هنا - أربعة:

القطع الموضوعي:

[1] دليل على إمكان أخذ القطع الموضوعي بما هو كاشف، أو بما هو صفة، وكذا أخذ الصفة باعتبار القاطع أو باعتبار المقطوع به.

[2] (الصفة الحقيقية) هي ما كان لها وجود خارجي، كالشجاعة والجبن، والحب والبغض، ونحوها، ويقابلها (الصفة الانتزاعية) التي لا وجود لها في الخارج إلاّ بوجود منشأ الانتزاع، كالزوجية في الأربعة.

ثم إن الصفات الحقيقية قد لا تحتاج إلى متعلق كالشجاعة - مثلاً - وقد تحتاج إلى متعلق تضاف إليه كالحب والبغض، حيث تحتاج إلى محبوب ومبغوض منه، والقطع من القسم الثاني، أي: من الصفات الحقيقية ذات الإضافة.

[3] فكونه نوراً لنفسه دليل على أنه من الصفات الحقيقية، وكونه نوراً لغيره دليل على أنه من الصفات ذات الإضافة، ولو كانت العبارة: (ومُنوّراً لغيره) كان أولى.

[4] أي: من جهة كونه صفة حقيقية.

ص: 234

مخصوصة بإلغاء جهة كشفه[1]، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها[2]؛ كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه[3] وحاكٍ عنه. فتكون أقسامه[4] أربعة، مضافةً إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

ثم لا ريب[5] في قيام الطرق والأمارات[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] المقصود هو عدم ملاحظة جهة كشف القطع، وإلاّ فإن الكشف ذاتي للقطع، ولا يمكن إلغاء الذاتي.

[2] أي: إلغاء اعتبار خصوصية أخرى في الموضوع مع كونه صفة خاصة، كإلغاء اعتبار منشأ القطع، والحاصل: إنه يُراعى كون القطع صفة، ولا يُلاحظ فيه جهة الكشف، كما لا يلاحظ فيه الخصوصيات الأخرى - كمنشأ القطع - .

[3] أي: يصح أن يؤخذ القطع في الموضوع باعتبار كونه كاشفاً عن الواقع.

[4] أي: أقسام القطع الموضوعي - المذكورة هنا - أربعة أقسام، مضافاً إلى القطع الطريقي.

ثانياً: قيام الأمارات مقام القطع
اشارة

[5] هل تقوم الطرق والأمارات الشرعية - بعد ثبوت حجيتها - مقام القطع أم لا؟

والكلام في عدة أمور:

الأول: قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي.

الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي.

الثالث: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي.

1- قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي

[6] الأدلة الشرعية الكاشفة عن الواقع إن كانت تكشف عن الحكم الشرعي سُمِّيت بالطرق كالخبر الواحد، وإن كشفت عن الموضوع الشرعي سُمِّيت بالأمارات، مثل: قاعدة اليد.

ص: 235

المعتبرة - بدليل حجيتها واعتبارها[1] - مقام هذا القسم[2]. كما لا ريب[3] في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل[4] مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام، بل لابد من دليل آخر على التنزيل، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار[5]، لا له بما هو صفة وموضوع، ضرورة أنه كذلك[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] القطع حجة بالذات كما مرّ، أما غير القطع فلابد من دلالة دليل قطعي على حجيته، ومعنى الحجية هو التنجيز إن أصاب، والتعذير إن أخطأ.

وقيام الطرق والأمارات مقام القطع إنما هو بمعنى ترتيب أثر القطع وهو المنجزية والمعذرية، فنفس دليل الاعتبار يدل على الحجية بلا حاجة إلى دلالة دليل آخر.

[2] أي: مقام القطع الطريقي.

2- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي

[3] أي: لا إشكال في عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي بما هو صفة نفسيّة؛ وذلك لأن معنى الحجية هو ترتيب أثر القطع من حيث المنجزية والمعذرية، فمثل: (صدّق العادل) ظاهر في أن قول العادل حجة، ولا يدل على أزيد من ذلك، فإذا أردنا إجراء سائر أحكام القطع على الطرق والأمارات فلابد من وجود دليل آخر.

ومثاله: ما لو أراد المولى إزالة الوسوسة من الوسواسي، فقال: (إن قطعت بالطهارة فلك درهم)، فلو قامت البينة على الطهارة لم يتحقق موضوع إعطاء الدرهم؛ لأن الموضوع كان القطع بما هو صفة نفسية.

[4] أي: بمجرد دليل الاعتبار، بل لابد من دليل آخر.

[5] أي: دليل حجية الخبر الواحد - مثلاً - ظاهر في أن الخبر له أثر القطع بما هو حجة، وذلك الأثر هو التنجيز والإعذار، «له» للقطع، «هو» القطع.

[6] «أنه» أي: إن القطع، «كذلك» أي: بما هو صفة.

ص: 236

يكون كسائر الموضوعات والصفات[1].

ومنه[2] قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل[3] مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الكشف، فإن القطع[4] المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] فكما لا تقوم الطرق والأمارات بدليل حجيتها مقام سائر الصفات النفسية، كذلك لا تقوم مقام القطع بما هو صفة؛ وذلك لأنّ دليل الحجية يثبت التنجيز والتعذير لا غير.

نعم، لا بأس بقيامها مقام القطع الوصفي لو قام دليل ثانٍ وكذلك في سائر الصفات.

مثلاً: لو قال المولى: (الشجاعة أثرها كذا)، ثم قال: (وإني نزلت الإنفاق منزلة الشجاعة في ترتب ذلك الأثر) فهذا لا إشكال فيه، وكذا لو قال: (إن الوسواسي إذا قطع - باعتبار القطع صفة نفسية - فله كذا)، ثم قال: (وإني نزلت الخبر الواحد منزلة هذا القطع) فحينئذٍ يترتب ذلك الأثر.

3- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي

[2] أي: مما ذكرناه في القطع الموضوعي الوصفي يتبين حكم القطع الموضوعي الكشفي؛ لأن الدليل الدال على عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي جارٍ بعينه في القطع الموضوعي الكشفي.

[3] أي: بدليل حجيتها واعتبارها، بل لابد للتنزيل من دليل آخر.

[4] أي: القطع الموضوعي الكشفي، لا فرق بينه وبين سائر الأمور التي لها دخل في موضوع الحكم الشرعي. فكما أن دليل اعتبار الخبر الواحد - مثلاً - لا يُنَزِّل الخبر منزلة سائر موضوعات الأحكام، كذلك هذا الدليل لا يُنَزِّل الخبر منزلة القطع الموضوعي الكشفي.

[5] «مقامه» مقام القطع، «شيء» كالخبر الواحد - مثلاً.

ص: 237

بمجرد حجيته وقيام[1] دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله[2].

وتوهم[3] كفاية دليل الاعتبار[4] الدال على إلغاء احتمال خلافه[5]، وجعله[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف تفسيري على (حجيته)، أي: فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته وبمجرد قيام دليل على اعتباره.

[2] أي: ما لم يقم دليل آخر - غير دليل الحجية - على تنزيل الخبر - مثلاً - منزلة القطع الموضوعي الكشفي، وضمائر «حجيته» و«اعتباره» و«تنزيله» و«دخله» ترجع إلى قوله: (شيء)، ومثّلنا للشيء بالخبر الواحد، وضمير «كدخله» يرجع إلى القطع الموضوعي الوصفي.

كلام الشيخ في القطع الموضوعي الكشفي

[3] هذا ما ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن دليل الخبر الواحد - مثلاً - مطلق، وحيث إن القطع الموضوعي الكشفي له جهتان: جهة كونه موضوعاً لحكم آخر، وجهة كونه كاشفاً عن الواقع - فمثل: (صدق العادل) مطلق - لذا يُنزّل الخبر منزلة القطع في الحجية وفي كونه موضوعاً أيضاً.

[4] أي: أدلة الطريق والأمارة - كالخبر الواحد - كافية في تنزيلها منزلة القطع الموضوعي الكشفي، ومنشأ الكفاية هو إطلاقها.

[5] أي: خلاف مدلول الطريق؛ وذلك لأن الطرق والأمارات لا توجب القطع - عادة - بل توجب الظن، فاحتمال الخلاف وارد، لكن دليل الاعتبار يقول ألغِ احتمال الخلاف.

[6] أي: جعل الطريق، فكل ما للطريق يكون للأمارة أيضاً؛ لعدم الفرق بينهما إلاّ في تعلق أحدهما بالحكم والآخر بالموضوع.

ص: 238


1- فرائد الأصول 1: 33 - 34.

بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً، فيقوم مقامه[1] طريقاً كان أو موضوعاً، فاسد جداً[2]، فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال[3]، لا يكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين[4]، حيث لابد في كل تنزيل منهما[5] من لحاظ المنزَّل والمنزَّل عليه[6]، ولحاظهما في أحدهما آليّ[7]، وفي الآخر استقلاليّ[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فيقوم الطريق مقام القطع.

الإشكال الأول على كلام الشيخ

[2] حاصل رد المصنف لدليل الشيخ الأعظم، هو: أن التمسك بالإطلاق إنّما يكون إذا كان الشيء ممكناً في مرحلة الثبوت، أما إذا استحال ثبوتاً فلا معنى لمحاولة إثباته بالإطلاق. وتنزيل الطرق والأمارات منزلة القطع بدليل واحد محال، فلا تصل النوبة إلى ادعاء الإطلاق. وأما الاستحالة فلأجل استحالة الجمع بين اللحاظ الآلي وبين اللحاظ الاستقلالي للتضاد بينهما، وجهة الكشف آلية، وكونه موضوعاً استقلالياً، فلا يمكن جمع بينهما في دليل واحد، بل لابد من دليلين.

[3] أي: احتمال الخلاف، وهذا دليل الاعتبار؛ إذ الطرق والأمارات لا تفيد القطع - عادة - بل تفيد الظن، وحينئذٍ يحتمل الخلاف في كل مورد، لكن دليل الاعتبار يدل على إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به.

[4] الآلي وهو في القطع الطريقي، أو الاستقلالي وهو في القطع الموضوعي، ووجه عدم كفايته هو التضاد بين اللحاظين، ولا يمكن الجمع بين المتضادين في شيء واحد.

[5] أي: تنزيل الطريق منزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، وتنزيله منزلة القطع من جهة كونه طريقاً.

[6] «المنزل» هو الطريق، و«المنزل عليه» هو القطع.

[7] وهو القطع من جهة كونه طريقاً.

[8] وهو القطع من جهة كونه موضوعاً.

ص: 239

بداهة[1] أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع[2] ومؤدى الطريق؛ وفي كونه[3] بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما[4]، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما[5].

نعم[6]، لو كان في البين ما بمفهومه[7] جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أنه ليس[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لعدم كفاية دليل اعتبار الأمارات والطرق لكلا التنزيلين، «حجيته» و«تنزيله» الضميران يرجعان إلى الطريق، «طريقيته» أي: طريقيّة القطع.

[2] وهذا النظر الآلي في القطع الطريقي.

[3] أي: في كون الطريق بمنزلة القطع في دخل القطع.

[4] وهذا النظر الاستقلالي في القطع الموضوعي.

[5] لأن التنزيلين متضادان، ويستحيل الجمع بينهما في شيء واحد، وهنا الشيء الواحد هو (اللحاظ).

[6] استدراك، وحاصله: إن المتضادين إن كان بينهما جامع مفهومي أمكن جعل الجامع بدليل واحد، كالسواد الشديد والخفيف مثلاً، فهما متضادان لكن يجمعهما السواد.

ولو فرض أن هناك جامعاً بين اللحاظ الآلي والاستقلالي لأمكن بدليل واحد جعل الجامع للأمارات والطرق، ولكن لا وجود لجامع مفهومي بين اللحاظين، فلا يمكن جعل اللحاظين بدليل واحد، بل لابد من دليلين.

[7] المهم أن يكون جامعاً حقيقياً يسري في كليهما كالجنس أو النوع - مثلاً - أما الجامع غير المفهومي فلا يفيد، كأن يقال: إن الجامع هو (اللحاظ)، فإنه جامع لفظي عنواني وليس جامعاً مفهومياً، كما في ألفاظ المشترك اللفظي - مثلاً - .

[8] «ليس» هنا تامة، أي: والمفروض هو عدم وجود الجامع المفهومي بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.

ص: 240

فلا يكون[1] دليلاً على التنزيل إلاّ بذاك اللحاظ الآليّ، فيكون حجة[2] موجبة لتنجز متعلقه[3] وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه، بناءً[4] على استحقاق المتجري؛ أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله[5] في الموضوع، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يكون الدليل الدال على إلغاء احتمال الخلاف.

والمقصود أنه لا يكون دليل اعتبار الطريق والأمارة إلاّ دالاً على أحد التنزيلين، إمّا التنزيل الآلي - الطريقي - وإمّا الاستقلالي - الموضوعي - .

[2] لأن الحجية هي نتيجة التنزيل الآلي، فمثل: (صدق العادل) يدل على قيام قول العادل مقام القطع في الحجية، أي: في التنجيز والتعذير، وهذا هو اللحاظ الطريقي الآلي.

[3] أي: متعلق الطريق، فلو دل على الوجوب كان هذا المتعلق - وهو الوجوب - منجزاً، فإن أصاب الطريق الواقع استحق العقاب على المخالفة، وإن أخطأ الطريق الواقع، فإنه يستحق العقاب للتجري لو ارتكبه.

[4] قيد لقوله: (أو خطئه)، أي: صحة العقوبة في صورة المخالفة بناءً على استحقاق المتجري للعقاب.

[5] أي: فيكون الطريق مثل القطع في دخله في الموضوع، في ترتيب الحكم الذي للقطع الموضوعي على الطريق أو الأمارة، وقوله: (من الحكم الشرعي) بيان ل- (ما) في قوله: (ترتيب ما لَهُ).

[6] الإشكال هو أن دليل الطريق إذا لم يفِ إلاّ بأحد التنزيلين - وكل من التنزيلين ممكن - فلماذا يُنَزّل منزلة القطع الطريقي - أي: باللحاظ الآلي - ولا يُنَزّل منزلة القطع الموضوعي - أي: باللحاظ الاستقلالي -؟

ص: 241

على هذا لا يكون[1] دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنه يقال[2]: لا إشكال في كونه دليلاً على حجيته[3]، فإن ظهوره[4] في أنه بحسب اللحاظ الآليّ مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه. فتأمل في المقام، فإنه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى[5]: أنه لو لا ذلك[6] لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دال على إلغاء احتمال خلافه مقام القطع بتمام أقسامه، ولو في ما أخذ في الموضوع على نحو

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على إمكان كل من التنزيلين لا يكون الدليل الدال على الأمارة والطريق... الخ.

[2] حاصل الجواب: إن دليل الطريق ظاهر في الحجية - وهو الطريقية واللحاظ الآلي - والظهور هو المتَّبع.

[3] أي: دليلاً على كونه منجزاً ومعذراً، والحجية هي اللحاظ الطريقي الآلي - كما مرّ - .

[4] أي: ظهور دليل الطرق.

الإشكال الثاني على كلام الشيخ

[5] هذا إشكال ثانٍ على كلام الشيخ الأعظم: في قيام الطرق والأمارات - بأدلتها - مقام القطع الموضوعي الكشفي.

وحاصل الإشكال: إنه إن أمكن الجمع بين اللحاظين فلا فرق حينئذٍ بين إمكانه في القطع الموضوعي الكشفي، وفي القطع الموضوعي الوصفي، فكيف فرّق الشيخ بينهما، حيث قال في الأول بقيام الأمارات والطرق مقامه، وذهب في الثاني إلى عدم قيامها مقامه؟

[6] أي: لو لا الإشكال العقلي الدال على عدم إمكان الجمع بين اللحاظين.

ص: 242

الصفتية، كان تمامه[1]، أو قيده وبه قوامه[2].

فتلخص بما ذكرنا: أن الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلاّ مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلاً[3].

وأما الأصول: فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها[4] أيضاً، غير الاستصحاب[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: سواء كان القطع الوصفي تمام الموضوع، «أو قيده» أي: أو قيد الموضوع - بأن كان جزءاً أو شرطاً للموضوع - .

[2] عطف تفسيري، أي: بالقطع الموضوعي الصفتي قوام الموضوع.

[3] أي: القطع الطريقي فقط.

ثالثاً: عدم قيام الأصول مقام القطع
اشارة

[4] أي: قيام الأصول مقام القطع - طريقياً كان أم موضوعياً - وقوله: «بأدلتها» أي: بأدلة اعتبارها، مثل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا}(1) وهو من أدلة البراءة، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذن فتخير)(2)

وهو من أدلة التخيير.

وذلك لأن القيام مقام القطع الموضوعي محال؛ لما مرّ من اجتماع اللحاظين - الآلي والاستقلالي - .

وأما القيام مقام القطع الطريقي فإن معنى القيام هو الحجية - أي: التنجيز والإعذار - والأصول العملية لا تنجيز ولا إعذار فيها، بل هي وظائف للجاهل.

وبتعبير آخر: الأصول العملية لا تنظر إلى الواقع أصلاً، فليس فيها جهة كشف أصلاً حتى تكون منجزة له إن أصابت الواقع، ومعذرة إن أخطأت، فلا تقوم مقام القطع في الحجية - التي هي التنجيز والإعذار - .

[5] أما الاستصحاب فلأنّ له كشفاً عن الواقع - ولو في الجملة - فيمكن أن يكون منجزاً لذلك الواقع أو معذراً عنه، فأمكن أن يقوم مقام القطع الطريقي.

ص: 243


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- عوالي اللئالي 4: 133؛ مستدرك الوسائل 17: 303.

لوضوح أن المراد من قيام المقام[1] ترتيب ما له من الآثار[2] والأحكام من تنجز التكليف وغيره - كما مرت إليه الإشارة[3] - ، وهي[4] ليست إلاّ وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.

لا يقال[5]: إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف - لو كان[6] -.

فإنه يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من قيام الشيء مقام القطع.

[2] أي: ترتيب ما للقطع من الآثار، مثل: الحجية واستحقاق العقاب على المخالفة.

[3] قبل قليل حيث قال المصنف: (فيكون حجة موجبة لتنجز متعلّقه وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه... الخ).

[4] أي: الأصول العملية - غير الاستصحاب - لا يوجد فيها كشف عن الواقع حتى يتنجز، أو يكون سبباً للعذر - إن أخطأ - .

عدم قيام الاحتياط مقام القطع

[5] حاصله: إن الاحتياط يُنجِّز التكليف، فإن التكليف الموجود في البين - وهو اجتناب النجس مثلاً - يتنجز في الإناءين المشتبهين.

[6] أي: لو كان في الواقع تكليف، فإن وجوب الاحتياط ينجز هذا التكليف، فيجب الاجتناب عنهما، وإن ارتكبهما فقد ارتكب المخالفة الواقعية، وإن ارتكب أحدهما فصادف الواقع فقد خالف، وإن أخطأ الواقع فقد تجرى.

نعم لا معنى للمعذرية في الاحتياط؛ لأن الاحتياط لا يوجب مخالفة التكليف الواقعي أصلاً.

[7] حاصل الجواب: إن الاحتياط؛ إما عقلي وإما شرعي، وكلاهما لا يقومان مقام القطع.

ص: 244

أما الاحتياط العقلي: فليس إلاّ لأجل[1] حكم العقل بتنجز التكليف وصحة العقوبة على مخالفته، لا شيء[2] يقوم مقامه في هذا الحكم.

وأما النقلي[3]: فإلزام الشارع به وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على

-----------------------------------------------------------------

أما الاحتياط العقلي فهو المنجزية بعينها، وليست المنجزية أثراً له حتى يقال: إنّ المنجزية كانت أثراً للاحتياط فقام مقام القطع في أثره.

وأما الاحتياط الشرعي - الذي هو من الأصول العملية - فلا نقول به؛ لأن مورده الشبهة التحريمية البدوية، ومختارنا فيها البراءة لا الاحتياط.

[1] المقصود أن مورد الاحتياط العقلي هو في الشبهة المحصورة، حيث يشتبه الواجب أو يشتبه الحرام بين أفراد قليلة.

وهنا يحكم العقل بأن التكليف - وهو الوجوب أو الحرمة - منجز عليك، فيلزمك في الواجب الإتيان بالأطراف المشتبهة، كالصلاة إلى الجهات حين اشتباه القبلة، أو يلزمك في الحرام ترك كل الأطراف المشتبهة، كترك الإناءين اللذين أحدهما نجس، وهذا الحكم العقلي بتنجز التكليف هو الاحتياط بعينه، فليس التنجز أثراً للاحتياط، بل هو نفس الاحتياط.

[2] أي: ليس الاحتياط شيئاً يقوم مقام القطع في التنجز، كي نقول: إن الاحتياط أثره التنجز، وقد قام في هذا الأثر مقام القطع، بل هذا التنجز هو نفس الاحتياط.

[3] أي: الاحتياط النقلي، ومورده الشبهات البدوية، كما لو احتمل حرمة شيء أو وجوب شيء، فيتركه في الأول ويأتي به في الثاني احتياطاً. فإن الاحتياط في محتمل الوجوب وإن كان مستحباً، لكنه لا خلاف في عدم وجوبه فلا تنجز. وأما الاحتياط في محتمل الحرمة، فلا نقول بلزومه، فلا تنجز أيضاً. نعم، الأخباريون قالوا بوجوبه، وعلى قولهم يقوم مقام القطع في التنجز، لكن سيأتي عدم صحة كلامهم.

ص: 245

المخالفة كالقطع، إلاّ أنه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجمالي[1]، فافهم[2].

ثم لا يخفى: أن دليل الاستصحاب[3]

-----------------------------------------------------------------

إذن، فلا وجود للاحتياط الشرعي كأصل عملي، بل هو أمر مستحب في نفسه، لا يوجب تنجزاً أصلاً.

[1] أي: في الشبهة المحصورة؛ لأنه معلوم إجمالاً أن أحد الأطراف المشتبهة واجب أو حرام، والاحتياط هنا بحكم العقل، والروايات الآمرة به كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يهريقهما ويتيمم)(1)

إرشاد لحكم العقل.

[2] لعله إشارة إلى أنه يكفي قيامه مقام القطع على بعض المباني، ولا يلزم قيامه على كل المباني.

أو هو إشارة إلى أن الاحتياط في الشبهات المحصورة نقلي أيضاً.

أو إشارة إلى أن الاحتياط العقلي وإن كان هو التنجز وليس التنجز أثره، لكن المراد في قيام المقام هو التنجز - سواء كان أثراً أم كان نفس الأصل - .

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع

[3] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تنقض اليقين أبداً بالشك)(2)،

وحيث إن للاستصحاب كشف عن الواقع - في الجملة - لذا يمكن أن يقوم مقام القطع الطريقي، والمصنف لا يذكر هنا القطع الطريقي؛ لأنه أشار إليه في قوله: (لا معنى لقيامها مقامه بأدلته، غير الاستصحاب).

أما القطع الموضوعي: فلا يقوم الاستصحاب - بدليله - مقامه؛ للزوم اجتماع اللحاظين، وهو محال، كما مرّ.

ص: 246


1- الاستبصار 1: 21.
2- وسائل الشيعة 2: 356.

أيضاً لا يفي بقيامه[1] مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً، وأن مثل: «لا تنقض اليقين»(1)

لابد من أن يكون مسوقاً إما بلحاظ المتيقن[2]، أو بلحاظ نفس اليقين[3].

وما ذكرنا في الحاشية[4](2)

- في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع[5] وأن دليل الاعتبار[6] إنما يوجب تنزيل المستصحَب والمؤدّى منزلة الواقع[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: قيام الاستصحاب، «مطلقاً» أي: سواء كان تمام الموضوع أم جزأه، وسواء كان موضوعياً وصفياً أم موضوعياً كشفياً.

[2] أي: باللحاظ الآلي؛ لأنه يلاحظ المكشوف مع عدم ملاحظة نفس القطع.

[3] أي: باللحاظ الاستقلالي؛ لأنه يلاحظ قطعه مع عدم ملاحظة المقطوع.

تصحيح لحاظ واحد للقطع الطريقي والموضوعي

[4] أي: في إمكان دلالة دليل الأمارات والأصول على قيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي معاً.

[5] أي: في تنزيل مؤدّى الأمارة والمستصحب منزلة الواقع، فتكون قائمة مقام القطع الطريقي، وكذلك تنزيل القطع بها منزلة القطع الموضوعي.

[6] حاصله: إنه بعد استحالة الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، فإنا نقول: إن دليل حجية الأمارة والاستصحاب لوحظ فيهما الطريقية فقط، ولكن لازمه قيام القطع بالمؤدّى والمستصحَب مقام القطع الموضوعي. فقيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الطريقي بالمطابقة، وقيامها مقام القطع الموضوعي بالملازمة؛ وذلك لا يستلزم جمع لحاظين، فلا يكون محالاً.

[7] «المستصحَب» في الاستصحاب، و«المؤدّى» في الطرق والأمارات، «منزلة الواقع» أي: كما أن القطع الطريقي يكشف عن الواقع كذلك دلّ دليل الأمارة والاستصحاب على حجيتهما، أي: قيامهما مقام القطع في جهة الكشف عن الواقع.

ص: 247


1- وسائل الشيعة 2: 356.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29.

وإنما كان[1] تنزيل القطع في ما له دخل في الموضوع[2] بالملازمة[3] بين تنزيلهما، وتنزيل[4] القطع بالواقع تنزيلاً وتعبداً[5] منزلة القطع بالواقع حقيقة - لا يخلو[6] من تكلف، بل تعسف، فإنه لا يكاد[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في دليل الأمارة والأصل لم يُلاحظ قيامهما مقام القطع الموضوعي، ولكن هذا القيام لازم ذلك الدليل. مثلاً قوله: (صدِّق العادل) يدل بالمطابقة على قيام الخبر الواحد مقام القطع الطريقي، أي: يدل على حجية الخبر الواحد، ولكن لازم (صدق العادل) هو أن القطع بالحكم الظاهري - الناشئ من الخبر الواحد - يقوم مقام القطع الموضوعي.

[2] أي: إنما كان تنزيل القطع بالمؤدى أو بالمستصحب منزلة القطع الموضوعي بسبب الملازمة.

ولا يخفى أن في العبارة حذفاً، وكان الأولى أن يقول: (وإنّما كان تنزيل القطع بهما منزلة القطع الذي له دخل في الموضوع بالملازمة).

[3] أي: الملازمة في دليل الأمارة والاستصحاب بين تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع، وبين تنزيل القطع بالمؤدّى والمستصحب منزلة القطع بالواقع. «تنزيلهما» أي: تنزيل المؤدّى والمستصحب.

[4] أي: وبين تنزيل القطع بالحكم أو الموضوع الظاهري.

[5] لأنه بعد قيام الأمارة والاستصحاب وإن لم يكن قطع بالواقع، لكن يوجد قطع بالحكم الظاهري أو بالموضوع الظاهري، وهذا القطع هو قطع بالواقع المجعول من طرف الشارع - وهو الحكم أو الموضوع الظاهريين - .

[6] خبر قوله: (و ما ذكرناه في الحاشية)، وإشكال عليه. «تكلّف» لأن هذه الملازمة غير ثابتة عقلاً، ولا يدل عليها اللفظ، «بل تعسف» للزوم الدور.

[7] حاصل كلام المصنف في بيان الدور: إن موضوع الحكم الشرعي إذا كان مركباً من جزءين، فلا يترتب عليه الحكم إلاّ إذا أحرز كلا الجزءين، إما بالوجدان،

ص: 248

-----------------------------------------------------------------

وإما بالتعبد، وإما أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد.

مثلاً قوله: (الماء الكر لا ينجسه شيء) الموضوع مركب من (الماء) و(الكر). فالحكم وهو (لا ينجسه شيء) يترتب بعد إحراز كلا الجزءين... إمّا بالوجدان، بأن نعلم بأن هذا المائع ماء وأنه كر. وإمّا بالتعبد، بأن نستصحب كونه ماءً، ونستصحب كونه كراً. وإمّا أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، كأن نعلم بأنه ماء ونستصحب الكرية.

ولو كان إحراز كليهما بالتعبد فلابد أن يكونا في عرض واحد، كما في المثال المذكور، حيث جرى الاستصحابان معاً. أمّا لو كانا طوليين - بأن كان إحراز أحدهما متوقفاً على إحراز الآخر - فلا يجري دليل التعبد؛ لاستلزامه الدور.

مثلاً: إن قال المولى: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم) الموضوع مركب من (القطع) و(حياة الولد)...

1- فدليل الاستصحاب - وهو (لا تنقض اليقين بالشك) - يدل على لزوم استصحاب حياة الولد.

2- ولكن لا يجري الاستصحاب إلاّ إذا كان له أثر، فإن جعل الحجية للأمارات والأصول لا يصح من غير أثر لها، لأنه لغو.

3- وهذا الأثر لا يترتب إلاّ إذا أحرز الجزء الثاني من الموضوع - وهو القطع أو ما يقوم مقامه - لأن الحكم لا يترتب إلاّ بعد إحراز كل أجزاء الموضوع.

4- وإحراز الجزء الثاني يتوقف على إحراز الجزء الأول؛ لأن الثاني لازم والأول ملزوم - حسب مفروض المصنف في حاشية الرسائل(1)

- وإحراز اللازم متوقف على إحراز الملزوم.

وهذا الدور بعينه: حيث توقف استصحاب حياة الولد على استصحاب حياته بواسطتين.

ص: 249


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29.

يصح تنزيل[1] جزء الموضوع أو قيده[2] بما هو كذلك[3]، بلحاظ أثره[4]، إلاّ في ما كان جزؤه الآخر أو ذاته[5] محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه[6]. فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع[7] ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: تنزيل المؤدى أو المستصحب منزلة القطع.

[2] «جزء الموضوع» إذا كان الموضوع مركباً من جزءين، «أو قيده» إذا كان الموضوع واحداً لكنه كان مشروطاً بشرط - مثلاً - ، كما لو قال: إن الصدقة ترتب على حياة الولد بشرط القطع به.

[3] أي: بما هو جزء أو قيد للموضوع، وإنما ذكر هذا لأنه لو كان للتنزيل أثراً آخر جرت الأمارة أو الأصل بلحاظ ذلك الأثر، وارتفع الدور.

[4] أي: التنزيل بلحاظ الأثر، لأنه لا يصح تنزيل الأمارة أو الأصل منزلة القطع - وذلك بجعل الحجية لهما - إلاّ إذا كان لهما أثر، وإلاّ كان التنزيل لغواً.

[5] «جزؤه الآخر» في ما كان الموضوع مركباً من جزءين، و«ذاته» في ما كان الموضوع واحداً لكنه كان مقيداً بقيد، فإحراز ذات الموضوع متوقف على إحراز القيد.

[6] أي: دليل الأمارة والأصل شمل كلا الجزءين معاً في عرض واحد، أو شمل الموضوع وقيده كذلك معاً، كاستصحاب المائية والكرية معاً، فإن قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) كما يدل على استصحاب المائية كذلك يدل على استصحاب الكرية، في عرض واحد.

[7] كالمائية - في مثال الماء الكر - .

[8] كالكرية - في المثال - فإنه لو وُجد دليل على تنزيل الجزء الآخر أيضاً كان الموضوع كاملاً، فيترتب عليه الحكم، أمّا لو لم يكن دليل على تنزيل الجزء الآخر كان الموضوع غير كامل، فلا يترتب الحكم، وحينئذٍ يكون تنزيل الجزء الأول لغواً.

ص: 250

في ما لم يكن محرزاً حقيقةً[1]؛ وفي ما لم يكن[2] دليل على تنزيلهما بالمطابقة[3] كما في ما نحن فيه - على ما عرفت[4] - لم يكن دليل الأمارة[5] دليلاً عليه أصلاً[6]، فإن دلالته على تنزيل المؤدى[7] تتوقف على دلالته[8] على تنزيل القطع[9] بالملازمة[10]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا كان الجزء الآخر محرزاً بالوجدان فلا نحتاج إلى دليل لتنزيله، أما لو لم يكن محرزاً بالوجدان فلابد من وجود دليل على تنزيله.

[2] هذا بيان للدور.

[3] حتى يكونا في عرض واحد، كمثال الماء الكر.

[4] في بيان ما ذكره المصنف في حاشية الرسائل(1)،

حيث إن الاستصحاب - مثلاً - ينزل المستصحب منزلة حياة الولد، ولازمه تنزيل القطع بالمستصحب منزلة القطع بحياته، فكان أحد التنزيلين بالمطابقة والآخر بالالتزام.

[5] أو دليل الاستصحاب.

[6] أي: لا يجري الدليل في التنزيل أصلاً حتى في الجزء الأول؛ لأن إجراء الدليل يستلزم الدور - كما عرفت - ففي مثال: (إن قطعت بحياة ولدك فتصدق بدرهم) لو شك في حياته فلا يجري الاستصحاب أصلاً.

[7] هذا الطرف الأول في الدور، أي: إن دلالة دليل الأمارة على تنزيل مؤداها منزلة الواقع، وكذلك دلالة دليل الاستصحاب على تنزيل المستصحب منزلة الواقع.

[8] اختصر المصنف هنا المراحل، والمراد أنه يتوقف على أن يكون أثر، والأثر يتوقف على إحراز الجزء الآخر من الموضوع، وهو القطع أو ما يقوم مقامه، وضمير «دلالته» يرجع إلى (دليل الأمارة).

[9] أي: تنزيل القطع بمؤدى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

[10] «بالملازمة» متعلق بقوله: (دلالته)، فالمعنى: يتوقف على دلالة دليل الأمارة بالملازمة على تنزيل القطع بمؤدى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

ص: 251


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 29 - 31.

ولا دلالة له كذلك[1]، إلاّ بعد دلالته على تنزيل المؤدى[2]. فإن الملازمة إنما تكون بين تنزيل القطع به[3] منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدى[4] منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمل جيداً، فإنه لا يخلو عن دقة.

ثم لا يذهب عليك: أن هذا[5] لو تمّ لعمّ[6]؛ ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرابع[7]: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم،

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان للطرف الأخير من الدور، والمعنى: ولا دلالة لدليل الأمارة على أن القطع بالمؤدى بمنزلة القطع بالواقع إلاّ... الخ.

[2] أي: إلاّ بعد دلالة دليل الأمارة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع.

والحاصل: إن جريان الأمارة لإحراز المودّى يتوقف على الأثر، وهو يتوقف على إحراز الجزء الثاني - وهو القطع بالمؤدى - وهذا الإحراز يتوقف على إحراز المؤدى، وهذا هو الدور بعينه.

[3] أي: بالمؤدى، وهذا الجزء الثاني من الموضوع.

[4] وهذا الجزء الأول من الموضوع.

[5] أي: إن الشأن، لو تمّ هذا التوجيه الذي ذكره المصنف في حاشية الرسائل.

[6] أي: لكان عاماً لكل أنواع القطع، سواء كان قطعاً موضوعياً وصفياً أم موضوعياً كشفياً، وسواء كان القطع كل الموضوع أم جزأه؛ وذلك لأن دليل الملازمة عام يشمل جميع هذه الأقسام.

الأمر الرابع: الظن الموضوعي

[7] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان إمكان أن يكون الظن بحكمٍ موضوعاً لحكم مماثل أو مضاد، وبيان وقوعه في الخارج.

وبما أن الكلام حول القطع فيقدم القطع أولاً، ثم يذكر حكم الظن.

ص: 252

للزوم الدور[1]؛ ولا مثله، للزوم اجتماع المثلين[2]؛ ولا ضده، للزوم اجتماع الضدين[3].

نعم، يصح[4] أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه، أو من مثله، أو من ضده.

-----------------------------------------------------------------

[1] كأن يقول المولى: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة بنفس ذلك الوجوب المقطوع). وهذا محال؛ لأن الموضوع متقدم على الحكم رتبة، فوجوب الصلاة جزء الموضوع ومتقدم على الحكم، لكن الحكم هو نفس هذا الوجوب، فهو متأخر عن الموضوع، وهذا هو الدور بعينه.

وبعبارة أخرى: وجوب الصلاة حكم، فهو متأخر عن الموضوع، والموضوع مركب من القطع ووجوب الصلاة، فالموضوع متأخر عن وجوب الصلاة؛ لتأخر المركب عن أجزائه، فالنتيجة هي أن وجوب الصلاة توقف على نفسه؛ وذلك دور صريح.

[2] كأن يقول: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة بوجوب آخر)، وهذا ليس بدور؛ لأن الوجوب في الحكم غير الوجوب في الموضوع، لكن هذا من اجتماع المثلين؛ لاجتماع وجوبين في شيء واحد.

إن قلت: لوكان القطع خاطئاً لم يكن اجتماع المثلين.

قلت: لكن يعتقد القاطع باجتماع المثلين، وكما يمتنع اجتماع المثلين خارجاً كذلك يمتنع اجتماعهما اعتقاداً.

[3] كأن يقول: (إن قطعت بالوجوب كان حراماً عليك)، وهذا يستلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ولو اعتقاداً.

[4] كأن يقول: (لو قطعت بإنشاء الوجوب فاعلم بأن ذلك كان تقية - مثلاً - والحكم الواقعي هو الحرمة). ولا بأس بذلك؛ لعدم اجتماع المثلين أو الضدين؛ وذلك لاختلاف المرتبة.

ص: 253

وأما الظن بالحكم: فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون[1]، إلاّ أنه لما كان معه[2] مرتبة الحكم الظاهري محفوظةً[3]، كان جعل حكم آخر في مورده[4] - مثل الحكم المظنون أو ضده - بمكان من الإمكان[5].

إن قلت[6]: إن كان الحكم المتعلق به الظن[7] فعلياً أيضاً بأن يكون الظن متعلقاً بالحكم الفعلي[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] وكأن يقول: (إن ظننت بالوجوب وجب بنفس ذلك الوجوب) وذلك للزوم الدور؛ لأن الحكم متأخر عن الموضوع، والموضوع مركب من أمرين: أحدهما هو نفس ذلك الحكم، فتقدم الحكم على نفسه، وهذا الدور بعينه.

[2] أي: مع الظن.

[3] أي: كان يمكن في مورد الظن جعل حكم ظاهري، كأن يقال: (إن ظننت بالنجاسة فعليك الاستصحاب أو إجراء أصالة الطهارة)، والحكم الدال عليه الاستصحاب أو قاعدة الطهارة إنّما هو حكم ظاهري.

[4] أي: في مورد الظن.

[5] كما لو ظن بالنجاسة ودل الاستصحاب عليها، فقد جعل حكماً مماثلاً، أو دل الاستصحاب على الطهارة، فقد جعل حكماً مضاداً.

[6] حاصله: إنه لا يمكن جعل حكم مماثل أو مضاد لو كان الحكم المظنون فعلياً، كأن يقول: (إن ظننت بالحرمة الفعلية فقد حرمت عليك فعلاً بحكم مماثل أو وجبت عليك فعلاً بحكم مضاد)، وذلك لاجتماع حكمين في مرتبة واحدة، ولا يمكن اجتماع حكمين فعليين في مرتبة واحدة.

[7] أي: كان الموضوع هو: الظن بالحكم الفعلي.

[8] الظاهر أن قوله: «بأن يكون... الفعلي» زائداً لا يحتاج إليه؛ لأنه نفس العبارة السابقة.

ص: 254

لا يمكن أخذه[1] في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين[2]، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر[3]، كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت[4]: يمكن أن يكون الحكم فعلياً[5]، بمعنى أنه لو تعلق به القطع - على ما هو عليه من الحال[6] -

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لا يمكن أخذ (الظن بحكم فعلي) موضوعاً لحكم فعلي آخر مماثل أو مضاد.

[2] حيث إن الحكم المأخوذ في الموضوع، وكذلك المأخوذ في الحكم، كلاهما فعلي، فاتّحدت الرتبة.

[3] كأن يقول: (إن ظننت بالوجوب الفعلي لصلاة الجمعة حرمت عليك صلاة الظهر فعلاً) فما في الموضوع هو الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة، وما في الحكم هو حرمة صلاة الظهر، وهو حكم آخر، فلا مانع منه.

[4] حاصل الجواب: إن الحكم الفعلي قسمان:

الأول: الحكم الفعلي الذي لا إرادة ولا كراهة للمولى معه، وإنما إذا تنجز حدثت الإرادة والكراهة.

الثاني: الحكم الفعلي الذي معه إرادة وكراهة، فإذا علم به العبد صار منجزاً يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وإذا لم يعلم به كان معذوراً مع بقاء كراهة أو إرادة المولى.

ويصح أن يكون الذي في الموضوع هو القسم الأول، والذي في الحكم هو القسم الثاني، مثلاً يقول: (إن ظننت بالوجوب الفعلي الذي لا إرادة ولا كراهة للمولى فيه فحينئذٍ يجب عليك فعلاً، بمعنى حدوث إرادة وكراهة فيه).

[5] هذا القسم الأول من الحكم الفعلي.

[6] أي: بدون إضافة قيد فلو قطع لتنجز، ولكن لا يتنجز في صورة الظن، بل

ص: 255

لتنجز، واستحق على مخالفته العقوبة، ومع ذلك[1] لا يجب على الحاكم[2] رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن[3]، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه في ما أمكن[4]، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه[5] تارةً، وإلى ضده أخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به[6] جعل حكم آخر مثله أو ضده[7]، كما لا يخفى.

إن قلت[8]: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلاّ أنه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين

-----------------------------------------------------------------

لا يجب على المولى رفع جهل العبد، كما لا يجب عليه أمره بالاحتياط، بل يمكنه جعل طريق قد يطابق الظن، وقد يخالفه؛ وذلك لعدم وجود إرادة أو كراهة من المولى لذلك الحكم الفعلي.

[1] أي: مع كونه فعلياً بهذا المعنى.

[2] عدم الوجوب لعدم تحقق إرادة أو كراهة للحاكم.

[3] كأن ينبِّه العبد بالحكم الواقعي، مع حضور العبد لدى المولى الحاكم، أو يرفعه تكويناً.

[4] كما لو كان في الشبهة البدوية مع إطاقة العبد، أما لو كان في الدوران بين المحذورين، أو مع عدم تمكن العبد من الاحتياط فحينئذٍ عدم وجوب جعل الاحتياط واضح.

[5] أي: إلى ذلك الحكم الفعلى، كأن يقول: (إن ظننت بالنجاسة الفعلية فاستصحب)، وكانت الحالة السابقة النجاسة مثلاً.

[6] أي: بالحكم الفعلي.

[7] لأنه في صورة القطع يتنجز الحكم الفعلي، ويكون قطع بالإرادة أو الكراهة حتماً، فيكون من اجتماع المثلين أو الضدين؛ لأن كليهما - الحكم والموضوع - حكم فعلي من القسم الثاني، عكس مورد الظن، حيث إن المأخوذ في الموضوع من القسم الأول، والمأخوذ في الحكم من القسم الثاني.

[8] حاصل الإشكال: كيف يجتمع الظن بالحكم الواقعي مع حكم ظاهري مثله

ص: 256

أو الضدين؟

قلت[1]: لا بأس باجتماع الحكم الواقعيّ الفعلي بذاك المعنى[2] - أي لو قطع به من باب الاتفاق[3] لتنجز - مع حكم آخر فعلي في مورده[4]، بمقتضى[5] الأصل أو الأمارة، أو دليل[6] أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص، على ما سيأتي[7] من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

-----------------------------------------------------------------

أو ضده، واجتماع الحكم الواقعي والحكم الظاهري هو من اجتماع المثلين أو الضدين؟

[1] حاصله: إننا سنبيّن لاحقاً إمكان اجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري؛ لعدم استلزامه اجتماع مثلين أو ضدين مع اختلاف المرتبة، فانتظر.

[2] وهو القسم الأول من الحكم الفعلي، أي: عدم وجود إرادة وكراهة إلاّ بعد التنجز.

[3] أي: من غير دخالة المولى في رفع جهله، بل حصل له القطع من طريق آخر، ولا يخفى أن قوله: «من باب الاتفاق» لبيان أدنى الفروض، وإلاّ فلو حصل له القطع عبر المولى فإنه يتنجز أيضاً.

[4] أي: حكم فعلي من القسم الثاني في نفس الشيء الذي كان متعلقاً للحكم الفعلي من القسم الأول.

[5] أي: فعلية الحكم الآخر هي بمقتضى الأصل أو الأمارة، وهذا في الظن الطريقي.

[6] هذا في الظن الموضوعي، أي: بمقتضى دليل جعل الظن بحكم موضوعاً لحكم مماثل أو مضاد، «بالخصوص» أي: خصوص الظن دون القطع أو الشك أو الوهم، كأن يقول: (إن ظننت بوجوب كذا فعليك بالعمل بالخبر الواحد - طابق ظنك أم خالف - ).

[7] في بحث حجية الأمارات.

ص: 257

الأمر الخامس[1]: هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته[2] عملاً، يقتضي موافقته التزاماً، والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية[3]، بحيث كان له امتثالان وطاعتان: (إحداهما) بحسب القلب والجنان، (والأخرى) بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي[4]، فلا يستحق العقوبة عليه[5]، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية؟

-----------------------------------------------------------------

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية

اشارة

[1] في هذا الأمر عدة بحوث:

1- عدم وجوب الموافقة الالتزامية - على مبنى المصنف - .

2- على القول بالوجوب، إن لم يعلم بالتكليف تفصيلاً وجبت عليه الموافقة الالتزامية إجمالاً، أي: الالتزام بما هو الواقع.

3- لو فرض وجوب الموافقة الالتزامية التفصيلة، ففي صورة العلم الإجمالي يسقط هذا الوجوب؛ لعدم التمكن منه.

4- وجوب الالتزام لا يكون مانعاً عن جريان الأصول العملية في دوران الأمر بين المحذورين.

البحث الأول

[2] الضمير يرجع إلى (التكليف)، وكذا الضمير في «موافقته التزاماً» و«التسليم له» و«بحيث كان له».

[3] «الأمور الاعتقادية» هي الأمور التي ليست من أصول الدين، لكن يلزم الاعتقاد بها، كتولي أولياء الله والتبري من أعدائه، فإنهما من فروع الدين، لكن وجوبهما مرتبط بالقلب - هكذا قيل - فتأمل.

[4] عطف على قوله: (يقتضي موافقته التزاماً...).

[5] أي: على عدم الموافقة التزاماً.

ص: 258

الحق هو الثاني[1]، لشهادة الوجدان[2] الحاكم[3] في باب الإطاعة والعصيان بذلك، واستقلال العقل[4] بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيده إلاّ المثوبة دون العقوبة، ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به[5] ومعتقداً ومنقاداً له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها؛ وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً[6] مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم لزوم الموافقة الالتزامية، واستدل المصنف لذلك بأمرين:

1- حكم العقل - بشهادة الوجدان - بعدم الوجوب.

2- حكم العقل أيضاً بعدم استحقاق العبد للعقاب لو لم يوافق التزاماً مع موافقته عملاً.

[2] الكاشف عمّا يراه العقل أو يحكم به.

[3] لأن طرق الطاعة والمعصية عقلية، وإنما الشارع يكلّف، أما كيفية إطاعة ذلك التكليف أو معصيته فهو مما يحكم به العقل.

[4] هذا الدليل الثاني، فإن العقل يحكم بعدم استحقاق العقاب على المخالفة الالتزامية، وهذا من المستقلات العقلية، أي: الأحكام الواقعة في سلسلة العلل، فإن العقل يحكم بعدم استحقاق العقاب مع قطع النظر عن حكم المولى.

[5] «به» أي: بالحكم، «له» أي: المولى، وعدم انقياده قلبي لا عملي، «ذلك» أي: عدم استسلامه والتزامه يوجب انحطاط درجته لدى المولى، ولكن ذلك غير العقاب، ولا يكشف عن الوجوب، كبعض الرذائل الأخلاقية التي ليست محرمة لكنها توجب انحطاط الدرجة.

[6] أي: مخالفة العبد لأمر المولى أو نهيه مخالفة التزامية، مع عمل العبد على طبق حكم المولى.

ص: 259

ثم لا يذهب[1] عليك: إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية لو كان المكلف متمكناً منها لوجب[2] - ولو في ما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملاً[3]، ولا يحرم[4] المخالفة القطعية عليه كذلك[5] أيضاً، لامتناعهما[6]، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته -، للتمكن[7] من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به[8] بما هو الواقع[9] والثابت وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة[10].

-----------------------------------------------------------------

البحث الثاني

[1] شروع في البحث الثاني، وهو أنه لو قيل بوجوب الموافقة الالتزامية فإنها تجب حتى لو لم تمكن الموافقة العملية.

[2] أي: لوجبت هذه الموافقة، وتذكير الضمير لأن تأنيث الموافقة لفظي، وهي مصدر فيجوز الوجهان.

[3] لعدم إمكان الموافقة القطعية كما في دوران الأمر بين المحذورين.

[4] مراد المصنف: هو عدم إمكان المخالفة القطعية، فإنه في دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن المخالفة القطعية، بل عليه اختيار أحد الأمرين.

[5] «عليه» أي: على المكلّف، «كذلك» أي: عملاً.

[6] أي: امتناع الموافقة القطعية والمخالفة القطعية.

[7] دليل لقوله: (تجب)، أي: على تقدير وجوب الموافقة الالتزامية فإنها تجب حتى لو لم يتمكن من الموافقة العملية؛ وذلك لتمكنه من الموافقة الالتزامية الإجمالية، فإن العجز عن واجب لا يسبب سقوط واجب آخر يتمكن منه الإنسان.

[8] الضمير في «له» و«به» يرجع إلى (ما هو الثابت واقعاً).

[9] الاعتقاد بالواقع بما هو الواقع، أي: بنفس الكيفية التي عليها واقعاً.

[10] أي: يلتزم بالواقع إجمالاً حتى وإن لم يعلم الواقع بالتفصيل.

ص: 260

وإن أبيت[1] إلاّ عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه[2] لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذٍ[3] ممكنةً، ولما وجب عليه الالتزام بواحد[4] قطعاً، فإن[5] محذور الالتزام بضد التكليف عقلاً[6] ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة[7]

-----------------------------------------------------------------

البحث الثالث

[1] أي: إن قيل بلزوم الموافقة الالتزامية التفصيلية فإنه مع دوران الأمر بين المحذورين لا يتمكن المكلف من الالتزام بهذا الوجوب، فيسقط عنه، كما في كل مورد لا يقدر على أداء التكليف.

[2] أي: الالتزام بالواقع بخصوص عنوانه التفصيلي، وعدم كفاية الالتزام الإجمالي.

[3] أي: حين دوران الأمر بين المحذورين.

[4] أي: بواحد من الوجوب أو الحرمة، بأن يختار أحد الطرفين ثم يلتزم به اعتقاداً وعملاً.

[5] أي: في دوران الأمر بين المحذورين يدور أمر المكلف بين عدم الالتزام رأساً، وبين الالتزام بأحد الطرفين، ولا ترجيح؛ وذلك لجهتين:

الأولى: لأن الالتزام بأحد الطرفين قد يكون التزاماً بضد التكليف الواقعي، ومحذور هذا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام.

الثانية: ما سيأتي في قوله: (مع ضرورة...).

[6] أي: حين اختياره أحد الطرفين والالتزام به لعله قد التزم بخلاف الواقع، وهو ضد التكليف.

[7] هذا الوجه الثاني، وحاصله: إن دليل وجوب الموافقة الالتزامية يدل على وجوب الالتزام بالحكم الواقعي، ولا يقتضي التخيير بين الالتزام بالواقع وبين الالتزام بضده.

ص: 261

أن التكليف - لو قيل باقتضائه[1] للالتزام - لم يكد يقتضي إلاّ الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضده تخييراً.

ومن هنا[2] قد انقدح[3]: أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانعٌ عن إجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية[4] في أطراف العلم لو كانت جاريةً مع قطع النظر عنه[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] ضمير «باقتضائه» و«يقتضي» و«بنفسه» و«به» و«بضده» راجع إلى (التكليف).

البحث الرابع

[2] أي: سقوط وجوب الالتزام بالتكليف في صورة دوران الأمر بين المحذورين؛ لأن الواجب إنما هو بالالتزام بالحكم عيناً، لا التخيير بينه وبين ضده.

[3] حاصله: إنه مع عدم العلم بالتكليف تفصيلاً، فهل تجري الأصول العملية لرفع وجوب الالتزام بالتكليف أم لا تجري؟

فعلى القول بسقوط الالتزام - مع دوران الأمر بين المحذورين - فإنه لا مانع من جريانها، إذا لم يكن في جريانها محذور آخر، فإن وجوب الالتزام قد سقط، فلا يكون مانعاً.

وإن قلنا بوجوب الالتزام مطلقاً فإن الأصول العملية لا ترفع هذا الوجوب؛ وذلك للزوم الدور - كما سيأتي - .

[4] أي: لا فرق في سقوط وجوب الالتزام لعدم التمكن من الامتثال بين الشبهة الموضوعية أو الحكمية.

ومثال الموضوعية: ما لو تردَّد بين أنه حلف على الفعل أو على الترك.

ومثال الحكمية: ما لو تردَّد بين وجوب وحرمة صلاة الظهر يوم الجمعة.

[5] أي: عن العلم الإجمالي، وحاصل كلام المصنف: إن وجوب الالتزام ليس بمانع عن جريان الأصول. نعم، يمكن أن يكون هناك مانع آخر كالعلم الإجمالي.

ص: 262

كما لا يدفع بها[1] محذور عدم الالتزام به[2]، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذٍ أيضاً، إلاّ على وجه دائر، لأن جريانها[3] موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللازم في جريانها، وهو[4] موقوف على جريانها بحسب الفرض[5].

اللّهمّ إلاّ أن يقال[6]: إن استقلال العقل بالمحذور فيه[7] إنما يكون في ما إذا لم

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو قلنا: إنّ الالتزام واجب حتى في صورة دوران الأمر بين المحذورين، فهل تجري الأصول العملية لرفع هذا الوجوب أم لا تجري؟

الصحيح أنها لا تجري؛ لأن جريانها مستلزم للدور؛ وذلك لأن الأصول العملية تجري إذا لم يكن محذور في جريانها، ومع وجود محذور فلا جريان، فلو كان جريانها سبباً لدفع المحذور كان دوراً صريحاً.

وبعبارة أخرى: مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة - مثلاً - فان المحذور هو احتمال عدم الالتزام بالتكليف، بل الالتزام بضد التكليف، ومع وجود هذا المحذور لا تجري الأصول أصلاً؛ لأن جريانها لغو.

فلو قلنا: إنّا ندفع هذا المحذور بواسطة إجراء الأصول؛ إذ مع جريان الأصول لا محذور في احتمال الالتزام بضد التكليف، فهذا دور واضح.

[2] أي: في عدم الالتزام حين كان التكليف مردداً.

[3] أي: لو جرت الأصول كان لازمها هو سقوط وجوب الالتزام.

[4] أي: عدم المحذور.

[5] أي: الفرض بأن الأصول إنما أجريت لكي نرفع بها وجوب الالتزام. وبيان الدور هو: إن جريان الأصول يتوقف على عدم المحذور، وعدم المحذور يتوقف على جريان الأصول.

[6] حاصله: إنه لا دور؛ لأن المحذور يرفع بحكم العقل، لا بجريان الأصل.

جريان الأصل عدم المحذور حكم العقل

[7] أي: في عدم الالتزام.

ص: 263

يكن هناك ترخيص[1] في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه[2]، بل ولا في الالتزام بحكم آخر. إلاّ أن الشأن[3] حينئذٍ[4] في جواز جريان الأصول[5] في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتب أثر عملي عليها[6]، مع

-----------------------------------------------------------------

[1] وسيأتي أن العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية العملية وعدم المخالفة القطعية، فيكون ترخيص الشارع اقتحام أحد الأطراف مانعاً عن هذا المقتضي، فإذا جاز ارتكاب أحد الأطراف فلا محذور في عدم الالتزام بالتكليف أو الالتزام بضده.

[2] أي: مع الترخيص لا محذور في عدم الالتزام.

[3] أي: لزوم الالتزام ليس بمانع عن جريان الأصول، لكن هناك مانع أهم وهو عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، لجهتين:

الأولى: عدم الفائدة في إجراء الأصول.

الثاني: تناقض صدر الدليل مع ذيله لو جرت الأصول.

[4] أي: حين تردد الواقع بين محذورين.

[5] علق المصنف هنا في الهامش فقال: (والتحقيق جريانها لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابلية المورد للحكم إثباتاً ونفياً، فالأصل المحكي يثبت له الحكم تارة كأصالة الصحة، وينفيه أخرى كاستصحاب الحرمة والوجوب في ما دار بينهما، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

[6] لأن الأثر إما عملي أو قلبي:

أما عملاً: فإن الإنسان لا محالة إما فاعل أو تارك، ولا يزيده جريان الأصل شيئاً، بخلاف الشبهة البدوية، فإن جريان أصالة البراءة فيها يفيد عدم وجوب الاحتياط.

وأما قلباً: فإن الالتزام ليس بواجب، أو ليس بممكن - لدوران الأمر بين المحذورين - فلا معنى لجريان الأصل لنفي وجوبه.

ص: 264


1- حقائق الأصول 2: 41.

أنها[1] أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية؛ مضافاً[2] إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها[3]، كما ادعاه شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه(1)،

وإن كان محل تأمل ونظر[4]، فتدبر جيداً.

الأمر السادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلاً في ما يترتب على القطع من الآثار[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع أن الأصول هي أحكام في مقام العمل، فإذا لم يكن لها أثر عملي فلا معنى لجعلها، بل هو لغو.

[2] إشارة إلى الجهة الثانية في عدم جريان الأصول هنا، وحاصلها: إن دليل الاستصحاب مثلاً هو: (لا تنقض اليقين بالشك، بل انقضه بيقين آخر) فلو جرى هذا الدليل في أطراف العلم الإجمالي كان ذلك سبباً لتناقض الدليل؛ لأن أطراف العلم الإجمالي أفراد مشكوكة، فيشملها قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، ولكن هناك يقين إجمالي في البين فيشملها: (بل انقضه بيقين آخر)، وهذا الشمول موجب لتناقض الصدر والذيل، وحيث لا يعقل تناقض كلام الشارع فلابد من القول بعدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

[3] أي: في مدلول الأدلة على تقدير شمول تلك الأدلة.

[4] للنقض بالشبهة غير المحصورة؛ ولأن هذا الذيل لا يوجد في كل أدلة الأصول، بل أكثرها خالية عنه، فلا تناقض في تلك الأدلة، فتأمل.

الأمر السادس: لا استثناء في حجية القطع

1- القطع الطريقي

[5] كالتنجز، وصحة العقوبة على المخالفة - سواء كانت مخالفة للواقع أم كانت تجرياً - ونحوها.

ص: 265


1- فرائد الأصول 3: 410.

عقلاً بين أن يكون حاصلاً بنحوٍ متعارف[1] ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف[2] لا ينبغي حصوله منه - كما هو الحال غالباً في القطاع[3] -، ضرورة[4] أن العقل[5] يرى تنجز[6] التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله[7]، وصحة[8] مؤاخذة قاطعه على مخالفته[9]،

-----------------------------------------------------------------

[1] مما يحصل لعامة الناس القطع من ذلك السبب غالباً، وقوله: (ومن سبب ينبغي...) عطف تفسيري.

[2] أي: أو حاصلاً بنحو غير متعارف.

[3] فإن «القطاع» صيغة مبالغة، أي: كثير القطع، وهو الذي يحصل له القطع كثيراً من الأسباب غير المتعارفة.

[4] استدلال لعدم الفرق بين القطع الحاصل بنحو متعارف أو الحاصل بنحو غير متعارف.

[5] حيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلية - كما مرّ - فلذا استدل بحكم العقل بعدم الفرق. والمصنف قد استدل بأدلة خمسة، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة:

1- إن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع مطلقاً.

2- صحة عقوبة مخالف القطع غير المتعارف مطلقاً، وعدم صحة المؤاخذة على اتباع القطاع لقطعه - لو كان مخالفاً للواقع - .

3- عدم صحة اعتذار القطاع بأن قطعه كان من أسباب غير متعارفة فلذا خالفه، كما لا يصح الاحتجاج على القطاع بأن قطعه لم يكن متعارفاً.

[6] هذا هو الدليل الأول.

[7] أي: من سبب لا ينبغي حصول القطع منه.

[8] هذا الدليل الثاني.

[9] أي: مخالفة القاطع غير المتعارف، وقوله: «على مخالفته» أي: على مخالفة ذلك القطع.

ص: 266

وعدم[1] صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك[2]، وعدم[3] صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه[4]، وعدم[5] حسن الاحتجاج عليه بذلك[6] ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

نعم[7]، ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتبع في عمومه وخصوصه[8]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذا الدليل الثالث.

[2] أي: عدم صحة الاعتذار عن المخالفة بأن القطع حصل من سبب غير متعارف.

[3] هذا تتمة للدليل الثاني، ويمكن جعله دليلاً رابعاً.

[4] أي: بخلاف الواقع، فلو قطع وكان قطعه مخالفاً للواقع وعمل بقطعه، فإن العقل يراه معذوراً.

[5] هذا تتمة للدليل الثالث، ويمكن جعله دليلاً خامساً.

[6] أي: على القطاع بمخالفة قطعه للواقع.

2- القطع الموضوعي

[7] أي: في القطع الموضوعي يكون الموضوع حسب ما جعله الشارع، فلذا يمكن أن يجعل القطع المتعارف موضوعاً دون قطع القطاع كما يمكنه العكس، مثلاً يقول: (لو قطعت بحياة ولدك من سبب متعارف فتجب الصدقة عليك)، فإنه حينئذٍ لا تجب الصدقة لو كان السبب غير متعارف، كما يدعى نظير ذلك في الأحكام الشرعية، فقد قيل بأنّ القطع فيها أخذ موضوعياً، بأن كان موضوعها هو القطع الذي سببه الأخذ من أهل بيت العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[8] أي: في عموم وخصوص هذا القطع الموضوعي، فكيفية أخذ القطع في الموضوع تابعة لدليل ذلك الحكم الشرعي.

ص: 267

دلالة دليله[1] في كل مورد؛ فربما يدل على اختصاصه بقسم في مورد[2]، وعدم اختصاصه به[3] في آخر، على اختلاف الأدلة واختلاف المقامات، بحسب مناسبات[4] الأحكام والموضوعات وغيرها[5] من الأمارات.

وبالجملة: القطع في ما كان موضوعاً عقلاً[6] لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، ولا من حيث المورد[7]، ولا من حيث السبب، لا عقلاً وهو واضح[8]، ولا شرعاً، لما عرفت من أنه لا تناله يد الجعل نفياً ولا إثباتاً وإن نسب إلى بعض

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: دلالة دليل الحكم الشرعي الذي أخذ القطع موضوعاً فيه.

[2] أي: اختصاص الحكم بقسم من القاطعين، كما يدعى بأن القطع بالنجاسة أخذ موضوعياً بأن كان القطع من الإنسان المتعارف لا الوسواسي.

[3] أي: عدم اختصاص الحكم بذلك القسم في مورد آخر.

[4] أي: المناسبات المختلفة كالمصالح والمفاسد، فإنها توجب اختلاف كيفية القطع الموضوعي، مثلاً: الشارع يريد إزالة الوسوسة فيجعل القطع بالنجاسة من السبب المتعارف موضوعاً لوجوب التطهير.

[5] أي: غير هذه المناسبات، وقوله: «من الأمارات» بيان لقوله: «غيرها» مثلاً: القرائن الخارجية واللفظية.

[6] أي: موضوعاً لحكم العقل بالتنجز وصحة العقوبة وعدمها، ونحوها من الآثار.

وليلاحظ أن المراد هنا بيان حجية القطع الطريقي مطلقاً. فلا يختلط عليك الأمر في قوله: «موضوعاً عقلاً»، فإن المراد أن القطع الطريقي له أحكام عقلية، فهو موضوع لتلك الأحكام.

[7] أي: (المقطوع به).

[8] لما ذكرناه من الأدلة في أول هذا الأمر السادس.

ص: 268

الأخباريين(1):

«أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية». إلاّ أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها[1]، وأنها[2] إنما تكون إما في مقام منع الملازمة[3] بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر(2)

في باب الملازمة، فراجع؛ وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية، لأنها لا تفيد إلاّ الظن[4]، كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الأسترآبادي حيث قال - في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ -: «الرابع: إن كل مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسك بكلامهم عليهم الصلاة والسلام - إنما يعتبر[5] من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا سابقاً أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه[6] تعالى أو بنفيها»(3).

-----------------------------------------------------------------

ما نسب إلى بعض الأخباريين

[1] أي: عدم صحتها، فإن الكذب هنا بمعنى غير المطابق للواقع.

[2] أي: إن كلماتهم.

[3] في رد من قال: (كلما حكم به العقل حكم به الشرع).

[4] فهو لا ينكر حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية، بل يدعى أن المقدمات العقلية لا توجب القطع بحكم الشارع، بل الظن، والظن ليس بحجة.

[5] أي: وجه القول باعتباره هو إفادته الظن، وحيث أثبتنا أن الظن ليس بحجة، فلا دليل على اعتباره أصلاً.

[6] أما إذا لم يكن في نفس الأحكام، كما لو كان في مقدماتها التصورية أو التصديقية، فيمكن القول بحجية الظن فيها.

ص: 269


1- الفوائد المدنية: 255؛ الحدائق الناضرة 1: 132.
2- فرائد الأصول 1: 59 - 60.
3- الفوائد المدنية: 255.

وقال في جملتها[1] أيضاً - بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة فنقول: إن تمسكنا بكلامهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقد عصمنا من الخطأ[2]، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم منه؛ ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه[3] شرعاً وعقلاً، ألا ترى أن الإمامية استدلوا على وجوب عصمة الإمام بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ[4]، وذلك الأمر محال، لأنه قبيح[5]؟ وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه[6] تعالى»(1).

انتهى موضع الحاجة من كلامه.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في جملة ما استدل به على انحصار المدرك في السماع عن الصادقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] لأن كلامهم مطابق للواقع دائماً لعصمتهم.

[3] أي: لازم واجب.

[4] إذ يجب اتباع الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ والنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلو كانوا غير معصومين كان وجوب اتباعهم أمر باتباع الخطأ ولو أحياناً، وهو قبيح محال.

أما مع عصمتهم فإن لزوم اتباعهم هو أمر باتباع الحق الصحيح، وهو حسن عقلاً.

[5] أي: استحالته لأجل قبحه مع القدرة عليه، كالظلم فإنه تعالى قادر عليه، لكنه يستحيل عليه لقبحه، فالاستحالة ليست لأجل التناقض حتى يكون محالاً ذاتاً.

[6] لأن كلامه أن اتباعهم يوجب العصمة من الخطأ، وهو بمعنى القطع بعدم الخطأ، والتمسك بغيرهم - ومنه المقدمات العقلية - لا يوجب العصمة من الخطأ، بل الظن بعدم الخطأ!!

ص: 270


1- الفوائد المدنية: 259.

وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في الرسالة(1).

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأول في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ»(2)،

انتهى.

وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير(3)

المفيد للقطع، وإنما همّه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل في ما لا قطع.

وكيف كان فلزوم اتباع القطع مطلقاً[1]، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتب سائر آثاره عليه[2] عقلاً، مما لا يكاد يخفى على عاقل، فضلاً عن فاضل. فلابد في ما يوهم خلاف ذلك في الشريعة[3] من المنع[4] عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدماته[5] الموجبة له، ولو

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو معنى التنجز، أي: لزوم اتباع القطع الطريقي مطلقاً - من أيِّ سبب كان حتى من القطاع - .

[2] سائر آثار القطع على القطع، مثلاً: عدم صحة المؤاخذة عند مخالفة القطع للواقع.

[3] مثل الروايات الدالة على عدم جواز العمل بالرأي، ووجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنه من الشر القول بشيء من غير سماع من المعصوم ونحوها.

[4] أي: نقول إن الروايات لا تمنع من العمل بالقطع، بل تدل على عدم حصول القطع بهذه الأمور.

[5] أي: مقدمات العلم التفصيلي، وكذا ضمير «الموجبة له».

ص: 271


1- فرائد الأصول 1: 52.
2- الفوائد المدنية: 32.
3- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المفيد».

إجمالاً[1]، فتدبر جيداً[2].

الأمر السابع[3]: إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي[4] علة تامة لتنجزه، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك[5]؟ فيه إشكال.

ربما يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] «ولو إجمالاً» يتعلق بقوله: (منع بعض مقدماته) أي: بعض المقدمات الموجبة للعلم لا تتحقق، ولا نحتاج إلى معرفة تلك المقدمات، بل يكفى أن نعرف بأن بعض المقدمات - إجمالاً - غير حاصلة.

[2] ويمكن حمل تلك الروايات على أن القطع موضوعي. أو أن الولاية شرط في صحة الأعمال ونحوها من المحامل.

الأمر السابع: العلم الإجمالي

اشارة

[3] يبحث فيه عن العلم الإجمالي في مقامين، الأول: في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي. الثاني: في كفاية الامتثال الإجمالي.

[4] لا الاقتضائي أو الإنشائي - كما مرّ - .

المقام الأول تنجز التكليف بالعلم الإجمالي
اشارة

[5] أي: علة للتنجز أم لا، وفيه ثلاثة أقوال:

الأول: إن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز مطلقاً.

الثاني: إنه علة للتنجز مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين وجوب الموافقة القطعية فهو مقتضٍ، وحرمة المخالفة القطعية فهو علة تامة.

[6] مختار المصنف هو القول الأول، وهو أن العلم الإجمالي مقتضٍ لحرمة

ص: 272

إن التكليف حيث لم ينكشف به[1] تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة[2]، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً[3]، بل قطعاً[4].

وليس محذور[5] مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور[6] مناقضة الحكم الظاهري

-----------------------------------------------------------------

المخالفة القطعية، ولوجوب الموافقة القطعية، فإذا وجد مانع عن تأثير هذا المقتضي فلا بأس بالمخالفة القطعية، وبعدم الموافقة القطعية.

[1] بالعلم الإجمالي، وذلك لتردّد متعلق العلم.

[2] مرتبة الحكم الظاهري: هي الجهل بالتكليف الواقعي، فإن العلم الإجمالي مشوب بالجهل، ومع وجود الجهل يمكن جعل حكم ظاهري، و«معه» أي: مع العلم الإجمالي.

[3] مثل أن يقول بجواز ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين بالنجس، مع احتمال أن يكون هو النجس.

[4] مثل: إباحة ارتكاب كل الأطراف المشتبهة، مما يقطع بوجود النجس فيها - مثلاً - .

إشكال التناقض وجوابه

[5] إشكال على تجويز المخالفة الاحتمالية أو القطعية، وحاصله: لزوم التناقض في حكم الشارع، مثلاً يقول: (اجتنب عن النجس)، ثم يقول: (يجوز لك ارتكاب النجس بين هذين الإناءين) مع عدم رفع يده عن وجوب الاجتناب.

[6] هذا جواب نقضي، وحاصله: تجويز اقتحام الشبهات غير المحصورة، مع احتمال اختيار المكلف لما هو الحرام واقعاً، وكذا في الشبهات البدوية أجاز الشارع الارتكاب مع إمكان مصادفتها للواقع المحرّم، فالشارع طلب الاجتناب عن النجس، ولكن في الوقت نفسه أباح التعامل بالطهارة مع الأشياء المشكوكة، مع احتمال كونها نجسة واقعاً.

ص: 273

مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة(1)،

بل الشبهة البدوية.

لا يقال[1]: إن التكليف فيهما لا يكون بفعلي.

فإنه يقال[2]: كيف المقال في موارد ثبوته في أطراف غير محصورة، أو في الشبهات البدوية مع القطع به[3]، أو احتماله[4]، أو بدون ذلك[5]. ضرورة[6]

-----------------------------------------------------------------

والجواب في الشبهة غير المحصورة والبدوية هو الجواب في الشبهة المحصورة، لا فرق بينها أصلاً.

[1] من هنا إلى قوله: (أو بدون ذلك) لا يوجد في بعض النسخ.

وحاصل الإشكال هو: الفرق بين الشبهات المحصورة من جهة، وبين الشبهات البدوية وغير المحصورة من جهة أخرى؛ وذلك لأن التكليف فيهما ليس بفعلي فلا تناقض، وأما المحصورة فالتكليف فيها فعلي فحصل التناقض.

[2] حاصله: إنه في الشبهة غير المحصورة وكذا في الشبهة البدوية قد يكون الحكم فعلياً، فماذا تقولون في دفع التناقض في هذه الموارد؟

[3] أي: بالتكليف، كما في الشبهة غير المحصورة، فلو علم بنجاسة إناء واحد من ألف إناء، فإن الحكم باجتناب النجس فعلي، ومع ذلك أجاز الشارع ارتكاب بعض الأطراف؛ لأنها شبهة غير محصورة.

[4] كما في الشبهة البدوية، حيث يحتمل وجود التكليف، وكما يستحيل التناقض كذلك يستحيل احتماله - كما مرّ سابقاً - .

[5] أي: بدون الاحتمال، كما لو كان غافلاً.

[6] أي: إن كانت مناقضة في حكم الشارع في الشبهة المحصورة بين حرمة الشيء واقعاً، وبين جواز الاقتحام في بعض الأطراف أو كلها، كذلك هناك مناقضة في حكمه في الشبهة غير المحصورة، فلا فرق بين الاشتباه في إناءين أو في ألف إناء، وكذلك في الشبهة البدوية مع احتمال مصادفتها للحرام فإن تجويز

ص: 274


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المحصورة».

عدم التفاوت في المناقضة بينهما[1] بذلك[2] أصلاً؛ فما به التفصي عن المحذور فيهما[3] كان به التفصي عنه في القطع به[4] في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء الله مفصلاً[5].

نعم[6]، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية

-----------------------------------------------------------------

الاقتحام مناقضة، والجواب هناك يكون الجواب هنا أيضاً.

[1] أي: بين الشبهة المحصورة من جانب، وبين الشبهة غير المحصورة والبدوية من جانب آخر.

[2] أي: بوجود العلم في المحصورة، وعدم وجوده في غير المحصورة والبدوية، ووجه عدم التفاوت هو وجود العلم في كل هذه الشبهات.

[3] أي: فالجواب الذي يكون به دفع محذور المناقضة في البدوية وغير المحصورة.

[4] أي: كان بذلك الجواب التفصي عن المحذور في المحصورة.

[5] أشار إليه في ذيل الأمر الرابع، وسيأتي مفصلاً في أول البحث عن حجية الأمارات.

دليل أن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز

[6] لما اختار المصنف أن العلم الإجمالي ليس علة تامة وأنه مقتضٍ، أراد الاستدلال عليه بأمرين، أحدهما لإثبات أنه مقتضٍ، والثاني لإثبات أنه ليس بعلة تامة.

الأول: حكم العقل بتنجز التكليف لو لم يكن مانع، وهذا دليل على أنه مقتضٍ؛ لأنه لو لم يكن مقتضياً للتنجز لما صح الحكم بالتنجز بمجرد عدم وجود المانع.

الثاني: التنجز في بعض الصور دون بعض، وهذا دليل على عدم كونه علة تامة؛ لأن العلة التامة تؤثر في كل الموارد بلا استثناء.

ص: 275

التامة[1]، فيوجب[2] تنجز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً[3] كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً[4] كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها[5] كما هو ظاهر «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

وبالجملة[6]: قضية صحة المؤاخذة[7] على مخالفته مع القطع به بين أطراف

-----------------------------------------------------------------

[1] المقتضي هو الذي يؤثر أثره لو لم يكن مانع، كإحراق النار للورق إن لم يكن رطباً - مثلاً - فالنار مقتضٍ للإحراق لا علة تامة.

والعلة التامة هي تؤثر أثرها دائماً، ويترتب عليها المعلول قهراً، مثلاً: ترتب الحرارة على النار، فبمجرد وجود النار توجه الحرارة أيضاً.

[2] أي: نتيجة كونه مقتضياً أن يوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف بشرط عدم وجود مانع، مثل جميع المقتضيات.

[3] كعدم القدرة على الالتزام بالتكليف، فمع العلم بوجود مياه نجسة لا يتمكن المكلف الاجتناب عن كل المياه؛ لتوقف حياته عليها.

[4] أي: مانع شرعي؛ وذلك بوجود دليل شرعي رخص فيه الشارع الاقتحام.

[5] أي: في الشبهة غير المحصورة.

والحاصل: إن في الشبهة غير المحصورة يوجد مانع عن تأثير المقتضي للتنجز، وذلك المانع عقلي وشرعي أيضاً.

[6] هنا إشارة إلى الأمر الثاني - وهو أن العلم الإجمالي ليس بعلة تامة - .

وحاصله: إن وجود الأثر في بعض الموارد دون بعض دليل على أن العلم الإجمالي مقتضٍ، إذ لو كان علة تامة كان الأثر دائمياً، والأثر هو صحة المؤاخذة.

[7] هذه الصحة بحكم العقل، «مخالفته» أي: مخالفة التكليف مع القطع بذلك التكليف.

ص: 276


1- وسائل الشيعة 17: 87، مع اختلاف يسير.

محصورة، وعدم صحتها[1] مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجز، لا علة تامة[2].

وأما احتمال[3]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم صحة المؤاخذة عقلاً، وقوله: «مع الإذن» أي: عدم صحة المؤاخذة مع الإذن شرعاً.

[2] ثم إن المصنف في الهامش قد تراجع عن كون العلم الإجمالي مقتضياً، وقال: إنه علة تامة، فقد علق على قوله: (لا في العلية التامة): (لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة - على ما يأتي - لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعلياً، والحكم الظاهري الفعلي، كان الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات المؤدية إلى خلافه - لا محالة - غير فعلي، فحينئذٍ فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره - ولو إجمالاً - بلزوم موافقته وإطاعته. نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلاً بالنظام، فلا تنجز حينئذٍ، لكنه لأجل عروض الخلل في المعلوم، لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك في ما إذا أذن الشارع في الاقتحام، فإنه أيضاً موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً، وقد انقدح بذلك أنه لا مانع عن تأثيره شرعاً أيضاً، فتأمل جيداً)(1)، انتهى.

وحاصله: إن العلم - التفصيلي أو الإجمالي - علة تامة للتنجز، لكن إذا تغيَّر المعلوم فكان التكليف المعلوم إنشائياً لا فعلياً فإنه لا تنجز، لا لأجل عدم تأثير العلم، بل لأجل أن المعلوم كان التكليف الإنشائي، وهذا التكليف لا تنجز له، فتأمل.

دليل التفصيل بين المخالفة والموافقة

[3] هذا هو القول الثالث، وحاصله: إن العلم الإجمالي علة لحرمة المخالفة

ص: 277


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 126.

أنه[1] بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية[2] وترك المخالفة القطعية، فضعيف جداً[3]، ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين[4] كالقطع بثبوتهما[5] في الاستحالة[6]، فلا يكون عدم القطع بذلك معها[7] موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صح الإذن في المخالفة

-----------------------------------------------------------------

القطعية، فلا يجوز ارتكاب الإناءين المشتبهين معاً، لكنه مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية، فلا يجب الاجتناب عن كلا الإناءين إلاّ بنحو المقتضي.

ودليل هذا القول أن المخالفة القطعية توجب التناقض في حكم المولى، وحيث يستحيل دائماً تناقض حكمه فالتكليف يكون علة تامة لعدم جواز المخالفة القطعية.

لكن تجويز ارتكاب بعض الأطراف لا يلزم منه تناقض في حكمه، فلذا يكون التكليف مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية، لا علة تامة.

[1] أي: إن التكليف.

[2] فلا يجوز في المثال الإذن في اقتحام كل الأطراف مما يعلم بعدم موافقته لأمر الشارع أصلاً.

[3] وذلك لأن محذور المناقضة إن كان صحيحاً فلا فرق بين العلم بتناقض المولى، وبين احتمال تناقضه، فإن التناقض محال حتى لو كان احتمالاً. فإن من يرتكب أحد الأطراف فنحن نحتمل أنه ارتكب الحرام الواقعي، وحينئذٍ فيكون المولى متناقضاً.

[4] اللازم من المخالفة الاحتمالية.

[5] بثبوت المتناقضين؛ وذلك لازم المخالفة القطعية.

[6] إذ كما نعلم أن المولى لا يكلّف بالمتناقضين كذلك لا نحتمل تكليفه بالمتناقضين.

[7] أي: عدم القطع بالتناقض مع المخالفة الاحتمالية.

ص: 278

الاحتمالية، صح في القطعية أيضاً[1]، فافهم[2].

ولا يخفى[3]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو تم دفع المناقضة في المخالفة الاحتمالية كذلك يتم دفعها في المخالفة القطعية. والحاصل: إن محذور المناقضة إن صح فاللازم القول بالعلية التامة مطلقاً، وإن لم يصح فاللازم القول بالاقتضاء مطلقاً، فلا وجه للتفصيل.

[2] لعله إشارة إلى ما ذكره المصنف في الهامش - وقد نقلناه آنفاً - .

وفي الوصول: (ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الإذن في المخالفة القطعية لا يقع مورداً لتصديق العبد لما يرى من المناقضة، بخلاف الإذن في المخالفة الاحتمالية؛ لأن احتمال المكلف كون الواقع في الطرف الآخر موجب لتصديقه، فالفارق بين المقامين إمكان تصديق المكلف جواز المخالفة الاحتمالية، وعدم إمكان تصديقه جواز المخالفة القطعية)(1).

بحث فنيّ

[3] إن الشيخ الأعظم قسّم البحث في العلم الإجمالي إلى:

1- حرمة المخالفة القطعية، وجعل البحث فيها في مباحث القطع.

2- وجوب الموافقة القطعية، وجعلها في مباحث البراءة والاشتغال.

لكن المصنف لم يرتض هذا التقسيم، فقال: إن البحث هنا في القطع عن كليهما، فيقال: هل العلم الإجمالي علة تامة للتنجز فتجب الموافقة القطعية، أو أنه بنحو الاقتضاء فتحرم المخالفة القطعية؛ لأن كلاهما مرتبط بالقطع لا بالشك.

وبعد إثبات أنه بنحو العلية لا وجه للفحص عن المانع لا هنا ولا في باب البراءة والاشتغال. ولكن لو أثبتنا أنه بنحو الاقتضاء فيلزم البحث هناك عن وجود المانع أو عدم وجوده؛ وذلك للشك في وجوده، فكان البحث مرتبطاً بالشك الذي هو موضوع البراءة والاشتغال.

ص: 279


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 364.

أن المناسب للمقام[1] هو البحث عن ذلك[2]، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال[3] - بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره[4] في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية - هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته؛ كما لا مجال بعد البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلاً[5]، كما لا يخفى.

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به[6].

وأما سقوطه به[7]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مقام البحث عن القطع وآثاره.

[2] أي: عن تنجز العلم الإجمالي - سواء بنحو الاقتضاء أم بنحو العلية التامة.

[3] وجه المناسبة، هو أن موضوعهما الشك، والمانع مشكوك في وجوده، فقد تجري البراءة، وقد يكون مجرى الاحتياط - كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى - .

[4] أي: تأثير العلم الإجمالي.

[5] أي: للبحث عن المانع في باب البراءة والاشتغال؛ إذ معنى العليّة هو وجود المقتضي وعدم وجود المانع، فبعد ثبوت أنها علّة نقطع بعدم وجود المانع فلا معنى للبحث عن المانع أصلاً.

[6] أي: تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

المقام الثاني سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي

[7] أي: سقوط التكليف بالعلم الإجمالي، وهنا بحثان:

الأول: مع إمكان تحصيل القطع تفصيلاً.

الثاني: مع عدم إمكان القطع، وإمكان الظن التفصيلي.

أما مع إمكان تحصيل القطع التفصيلي فقد يكون:

1- في التوصليات.

ص: 280

بأن يوافقه إجمالاً: فلا إشكال فيه في التوصليات[1].

وأما في العباديات: فكذلك[2] في ما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقل والأكثر[3]، لعدم الإخلال[4] بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول

-----------------------------------------------------------------

2- أو في التعبديات من غير حاجة إلى التكرار، كما لو شك في جزئية شيء.

3- أو في التعبديات مع الاحتياج إلى التكرار.

البحث الأول: مع إمكان القطع التفصيلي
1- في التوصليات

[1] وذلك لأن الغرض في التوصليات يحصل بتحقق الفعل بأية كيفية كانت، حتى من غير قصد، مثلاً: إذا أريد تطهير ثوب للصلاة واشتبه الماء المطلق بين مائعين، فلو غسله بهما فإنه يتيقن بطهارته، وبه يتحقق غرض المولى.

كما أن الغرض في التوصليات يحصل بتحقق الفعل خارجاً ولو بالحرام، كما لو غسل الثوب النجس بالماء المغصوب، فإنه ارتكب الحرام واستحق العقاب، لكن الثوب تطهر.

2- في العبادات غير المحتاجة إلى التكرار

[2] أي: لا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي.

[3] كما لو شك في جزئية شيء في العبادة، فلو شك مثلاً في أنّ السلام الأول واجب أو مستحب، فإنه مع الإتيان به قد علم بامتثال أمر المولى، فإنه إن كان جزءاً فقد أتي به، وإن لم يكن جزءاً واجباً فإن الإتيان به لم يكن مُخِلاً؛ لأن الفرض في المثال هو الدوران بين الوجوب والاستحباب.

[4] أي: مع الإتيان بالأكثر، فإنه قد أتى بكل ما يحتمل دخله في الغرض، سواء كان الدخيل في الغرض سابقاً على الأمر أو لاحقاً، فإن الإتيان بالأكثر يحقق الغرض قطعاً.

ص: 281

الغرض منها[1] - مما لا يمكن أن يؤخذ فيها[2]، فإنه[3] نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز[4] - في ما إذا أتى بالأكثر[5]؛ ولا يكون إخلال[6]

-----------------------------------------------------------------

وقد مرّ سابقاً أن الدخيل في الغرض قد يكون سابقاً على الأمر، كالأجزاء والشرائط ونحوهما، وقد يكون لاحقاً على الأمر، مثل: قصد القربة ولواحقها؛ لعدم إمكان أخذ قصد القربة في موضوع الحكم، وإلاّ استلزم الدور؛ لأن قصد القربة متأخر عن الأمر؛ لأنه لا قصد للقربة إلاّ في ما كان مأموراً للشارع، فلو أخذ في موضوع الحكم - مع العلم بأن الموضوع متقدم على الحكم - فيلزم الدور؛ إذ قصد القربة متوقف على الأمر، والأمر متوقف على الموضوع - ومن أجزاء الموضوع قصد القربة - .

[1] أي: من العبادة.

[2] لأن الأخذ يستلزم الدور - كما شرحناه - ولكن لما علمنا دخله في حصول غرض المولى يحكم العقل بلزوم إتيانه.

[3] بيان سبب عدم إمكان أخذه في العبادة.

[4] «قصد الإطاعة» هو قصد القربة، و«الوجه» أي: قصد الوجوب أو الاستحباب، و«التمييز» أي: تشخيص العبادة من حيث المصاديق بأنها قضاءٌ أم أداءٌ، عن نفسه أم عن غيره، هذا الفرد - كالظهر - أم ذلك الفرد - كالعصر - ونحو ذلك.

[5] أي: عدم الإخلال بشيء في ما إذا أتى بالأكثر، والمعنى أن الذي يأتي بالأكثر كالصلاة مع التسليمة الأولى - مثلاً - فقد قصد القربة، ويمكنه قصد وجوب الصلاة، وكذلك ميّزها عن غيرها، كما لو عينها بأنها الظهر.

[6] أي: في التسليمة الأولى - في المثال - حينما يأتي بها لا يكون الإتيان بقصد الجزئية؛ لأنه تشريع لعدم علمه بالجزئية، «حينئذٍ» حين الإتيان بالأكثر.

ص: 282

حينئذٍ إلاّ بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها[1] بقصدها[2]؛ واحتمال دخل قصدها[3] في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية[4].

وأما في ما احتاج إلى التكرار[5]: فربما يشكل[6] من جهة الإخلال بالوجه تارة، وبالتمييز أخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثةً.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على فرض أنها جزء فلم يقصد الجزئية، أما على فرض أنها ليست بجزء فلم يخل بشيء أصلاً.

[2] متعلق ب- (إتيان) أي: عدم الإتيان بالمحتمل بقصد الجزئية.

[3] أي: قصد الجزئية، بأن يقال: إنه يجب في الواجبات قصد جزئية كل جزء!!

[4] لعدم وجود دليل عقلي أو عقلائي أو شرعي عليه، بل الدليل على خلافه.

3- في العبادات المحتاجة إلى التكرار

[5] كما لو اشتبهت القبلة في الجهات الأربع، فمع إمكان العلم بجهة القبلة، فهل يجوز الامتثال الإجمالي بالصلاة إلى الجهات الأربع، أم لابد من تحصيل العلم التفصيلي؟

[6] أي: يشكل التكرار، والإشكالات ثلاثة:

1- الإخلال بقصد الوجه، والجواب: إن تكرار الصلاة إنما كان بداعي الوصول إلى الواجب، فلا إخلال بقصد الوجه - وهو الوجوب هنا - .

2- الإخلال بالتمييز - حيث لا يعلم بأن الواجب أياً من هذه الصلوات الأربع - والجواب: إن التمييز غير واجب؛ لعدم وجود دليل عليه في الأخبار.

3- اللعب والعبث بأمر المولى، والجواب: إنه قد لا يكون عبثاً ولعباً، كما لو كان بقصد عقلائي، ولو فرض أنه لعب فليس لعباً في أمر المولى، بل في كيفية الامتثال، فإنه قد أتى بما أمره المولى كاملاً ولكن ضم إليه أفعال باطلة، وهي لا تؤثر في امتثاله لأمر المولى وإطاعته.

ص: 283

وأنت خبير[1] بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ[2] في الإتيان مثلاً بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه[3]، غاية الأمر أنه لا تعيين له ولا تمييز[4]، فالإخلال إنما يكون به، واحتمال اعتباره[5] أيضاً في غاية الضعف، لعدم عين منه ولا أثر[6] في الأخبار؛ مع أنه مما يغفل عنه غالباً[7]، وفي مثله[8] لابد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلاّ لأخلّ بالغرض[9]، كما نبهنا عليه سابقاً[10].

-----------------------------------------------------------------

[1] جواب الإشكال الأول.

[2] أي: بعدم إخلال بقصد الوجه بأي شكل من الأشكال.

[3] متعلق ب- (الإتيان)، فإن الذي يكرر الصلوات بالاتجاهات إنّما يفعل ذلك لأنه يقصد الوصول إلى الواجب بينها، فكان إتيانه لأجل الوجوب، فلا إخلال بقصد الوجه.

[4] أي: لا يدري أن أياً من الصلوات الأربع هي الواجبة، وهذا إخلال بالتمييز لا إخلال بالوجه، «به» أي: بالتمييز.

[5] أي: اشتراط التمييز في صحة العبادة، وهذا جواب الإشكال الثاني.

[6] «لعدم عين» بالدلالة المطابقية، «ولا أثر» بالدلالة الالتزامية.

[7] دفع إشكال مقدر، وحاصله: هو أن عدم ذكره في الأخبار للاعتماد والتعويل على ارتكاز المكلّفين! والجواب: هو أن التمييز أمر يغفل عنه غالب المكلفين، وما يغفل عنه إذا كان دخيلاً في الغرض فلابد للمولى بيانه، فعدم بيان المولى دليل على عدم اشتراطه.

[8] أي: مثل التمييز المغفول عنه غالباً.

[9] لأن أمر المولى لأجل امتثال العبد، فلو لم يذكر أمراً دخيلاً في الغرض مع غفلة الغالب عنه فإنه قد أوقع الناس في المخالفة، وفي عدم تحقيق غرض نفسه، وهو قبيح على الحكيم.

[10] في التوصلي والتعبدي.

ص: 284

وأما كون التكرار لعباً وعبثاً[1]: فمع أنه ربما يكون لداعٍ عقلائي[2]، إنما يضر[3] إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها[4]، كما لا يخفى.

هذا كله[5] في قبال[6] ما إذا تمكن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأما إذا لم يتمكن إلاّ من الظن به كذلك[7]:

-----------------------------------------------------------------

[1] جواب عن الإشكال الثالث بجوابين، «أنه» أي: إن التكرار.

[2] هذا هو الجواب الأول، وحاصله: إن لا عبث بأمر المولى؛ إذ إن الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار قد يكون لداعٍ عقلائي، كما لو كان الفحص والتحقيق والامتثال التفصيلي موجباً للعسر والمشقة، مثلاً: لو كان في صحراء لا يدري القبلة فيها، فلو أراد الرجوع إلى البلد والصلاة إلى اتجاه القبلة لاستغرق ساعات، وكلّفه أموالاً كثيرة، بينما الصلاة إلى الجهات الأربع كانت أسهل عليه.

[3] هذا الجواب الثاني، وحاصله: إن اللعب بأمر المولى يتنافى مع قصد القربة فلذا يضر بالعبادة؛ لأنه استهزاء بالمولى، ولكن التكرار ليس لعباً بأمر المولى، بل في كيفية الإطاعة بأن ضمّ غير العبادة إلى العبادة.

وبعبارة أخرى: إن أصل العمل كان بانبعاث من أمر المولى وإرادة امتثاله، فلا عبث فيه أصلاً.

[4] أي: إلى الطاعة، كتحصيل الثواب أو الفرار من العقاب لو خالف.

[5] البحث في جواز أو عدم جواز الامتثال الإجمالي.

[6] أي: الإتيان بالامتثال الإجمالي في قبال الامتثال القطعي.

البحث الثاني: الامتثال الإجمالي مع عدم إمكان القطع التفصيلي

[7] «به» بالامتثال، «كذلك» أي: تفصيلاً. والصور:

1- إذا لم يكن الظن معتبراً، وكان متمكناً من الاحتياط فلا إشكال في تقديم الامتثال الإجمالي على الظن.

ص: 285

فلا إشكال في تقديمه[1] على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره إلاّ في ما[2] إذا لم يتمكن منه. وأما لو قام[3] على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني، كما لا إشكال[4] في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظني بالظن المطلق[5]

-----------------------------------------------------------------

2- إذا لم يكن الظن معتبراً، ولم يتمكن من الاحتياط فيلزمه الرجوع إلى الأصول العملية.

3- إذا كان الظن معتبراً - لكونه ظناً خاصاً كخبر الواحد - فلا إشكال في الاجتزاء بالظن الخاص.

4- إذا كان الظن معتبراً بدليل الانسداد، وكانت إحدى مقدماته عدم وجوب الاحتياط، فلا إشكال في جواز العمل بالظن أو الامتثال الإجمالي.

5- على الانسداد، وكانت المقدمة حرمة الاحتياط فلا يجوز الامتثال الإجمالي، ويجب العمل بالظن.

[1] أي: تقديم الامتثال الإجمالي، وهذه هي الصورة الأولى، «اعتباره» أي: اعتبار الظن.

[2] إشارة إلى الصورة الثانية؛ وذلك كما لو كان دوران بين المحذورين، أو في الشبهة غير المحصورة ونحوها، «منه» أي: من الامتثال الإجمالي.

[3] هذه الصورة الثالثة، «اعتباره» أي: اعتبار الظن، «مطلقاً» أي: حتى في صورة انفتاح باب العلم، بأن يكون الظن معتبراً حتى لو تمكن من القطع بالامتثال الإجمالي، وذلك كالظنون الخاصة التي قام الدليل على اعتبارها.

[4] هذه الصورة الرابعة، «في قبال الظني» أي: في قبال الامتثال الظني.

[5] إنّما يعبر عن الظن في الانسداد بالظن المطلق؛ لأن الدليل دلّ على اعتبار كل ظن، عكس ما لو لم نقل بالانسداد، فإن كل ظن يحتاج إلى دليل خاص، فيعبر عنه بالظن الخاص.

ص: 286

المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدماته[1] عدم وجوب الاحتياط. وأما لو كان[2] من مقدماته بطلانه - لاستلزامه العسر المخل بالنظام، أو لأنه ليس من وجوه الطاعة والعبادة[3]، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى في ما إذا كان بالتكرار كما توهم(1)

- فالمتعين[4] هو التنزل عن القطع تفصيلاً إلى الظن كذلك؛ وعليه[5] فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من مقدمات الانسداد، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان أن للانسداد مقدمات، وهي:

1- نعلم بوجود تكاليف فعلية كثيرة في الشريعة.

2- انسد باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

3- لا يجوز إهمال تلك الأحكام.

4- لا يجب الاحتياط، أو لا يجوز الاحتياط.

5- إن ترجيح الوهم أو الشك على الظن ترجيح المرجوح على الراجح.

فلو قلنا في المقدمة الرابعة - بأنه لا يجب الاحتياط - فحينئذٍ فيجوز العمل بالظن كما يجوز الامتثال الإجمالي.

[2] هذه الصورة الخامسة، «مقدماته» مقدمات الانسداد، «بطلانه» أي: بطلان الاحتياط - أي: عدم جوازه - لاستلزام الاحتياط العسر... الخ.

[3] وجوه الطاعة عقلاً، ووجوه العبادة شرعاً، فإن طرق الطاعة والمعصية عقلية، أما نفس العبادة فهي مجعولة شرعاً، فيمكن أن لا يجعل الشارع الصلاة الاحتياطية عبادة - مثلاً - فتأمل.

[4] المتعين في الصورة الخامسة، هو ترك الامتثال الإجمالي الموجب للقطع، والعمل بالظن، «كذلك» أي: تفصيلاً.

[5] أي: بناءً على عدم جواز الامتثال الإجمالي - في هذه الصورة الخامسة - .

ص: 287


1- فرائد الأصول 2: 409.

وإن احتاط فيها[1]، كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.

فيقع المقال في ما هو المهم من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صح أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور:

أحدها: إنه لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية(1)

ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العِلية[2]، بل مطلقاً[3]؛ وأن ثبوتها لها[4] محتاج إلى جعل، أو ثبوت مقدمات[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في العبادات، ولكن إذا استلزم احتياطه التكرار.

الأمارات المعتبرة
المقدمة الأولى

[2] لإمكان انفكاك الحجية عن الأمارات، ولو كانت علة لها لما أمكن انفكاك المعلول عن علته.

[3] أي: حتى بنحو المقتضي؛ ولذا لا يحكم بحجيتها بمجرد فقد الموانع، بل لابد من إيجاد المقتضي، فهي في حد ذاتها لا اقتضاء لها للحجية ولا لعدم الحجية، بل هي قابلة لكليهما.

[4] أي: ثبوت الحجية للأمارة.

[5] إلى جعل من جاعل كالشارع مثلاً وذلك في الظنون الخاصة، «أو ثبوت...» أي: أو حكم العقل بالحجية - بلا حاجة إلى جاعل - وذلك بناءً على الانسداد بنحو الحكومة.

ص: 288


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

وطروء حالات[1] موجبة لاقتضائها[2] الحجية عقلاً - بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة[3] - . وذلك[4] لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتاً[5] - بلا خلاف - ولا سقوطاً؛ وإن كان ربما يظهر فيه[6] من بعض المحققين(1)

الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ[7]؛ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] عطف توضيحي ل- (ثبوت مقدمات).

[2] أي: اقتضاء الأمارات.

[3] أي: حكومة العقل، ففي هذه الصورة لا جعل للحجية من جاعل، بل تكون الحجية بحكم العقل.

وسيأتي أن نتيجة مقدمات الانسداد قد يقال فيها بالكشف، أي: يُكشف منها حكم الشارع بحجية الظن، ومرجع هذا إلى جعل الشارع للحجية، وقد يقال فيها بالحكومة، أي: يحكم العقل بحجية الظن من غير أن يكون هنالك جاعل للحجية.

[4] دليل أن الأمارة ليست كالقطع في كون الحجية ذاتية لها.

[5] أي: بدون جعل الحجية لا طريق لإثبات التكليف، وقوله: «ثبوتاً» مقابل «سقوطاً» أي: بدون الجعل لا إثبات ولا إسقاط للتكليف بالأمارة.

[6] أي: في السقوط، فإنه نسب إلى جمال الدين الخوانساري أنه يكتفي بالظن في فراغ الذمة عن التكليف، وقوله: (الخلاف) فاعل (يظهر).

[7] بلا حاجة إلى جعل الحجية لهذا الظن، وهذا خلاف ما عليه الكل بأنه لا حجية لهذا الظن، وأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

[8] فإن دليل قاعدة الاشتغال هو وجوب دفع الضرر المحتمل، فاذا قيل: إنّ الضرر المحتمل لا يجب دفعه بحكم العقل فلا دليل على لزوم الاحتياط لكي يتيقن بالبراءة، بل يكفي الظن بالبراءة.

ص: 289


1- مشارق الشموس: 76.

فتأمل[1].

ثانيها[2]: في بيان إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية(1)

شرعاً، وعدم لزوم محال منه[3] عقلاً، في قبال دعوى استحالته للزومه[4].

وليس الإمكان[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] لعله إشارة: إلى أنه لو لم يجب دفع الضرر المحتمل فيكفي احتمال الامتثال - ولو وهماً - ولا وجه لاشتراط الظن بالبراءة.

أو إشارة إلى أن هذا لا يستلزم حجية الظن - عقلاً - بل عدم لزوم القطع، وبينهما فرق.

[2] بعد أن أثبتنا في المقدمة الأولى أن الحجية ليست لازماً ذاتياً للظن - لا بنحو العلية ولا بنحو الاقتضاء - وأنها ممكنة للظن ذاتاً، نبحث في هذه المقدمة عن إمكانها وقوعاً، خلافاً لمن يرى استحالتها وقوعاً.

[3] أي: من التعبد بالأمارة غير العلمية.

[4] أي: استحالة التعبد بالأمارة غير العلمية، للزوم المحال - ذاتاً أو وقوعاً - .

والمحال الذاتي هو ما يستحيل بالذات، كاجتماع النقيضين، أما المحال الوقوعي فهو ممكن الوقوع بالذات فلا استحالة ذاتية له، لكنه يستلزم القبيح - مثلاً - فيستحيل على الباري تعالى، كالظلم.

المقدمة الثانية

[5] هذا رد على الشيخ الأعظم، فإنه ادّعى: أن العقلاء إذا شكّوا في شيء حكموا بإمكانه الذاتي والوقوعي، لكن المصنف يقول: إن هذا ليس من سيرة العقلاء، بل إذا شكوا في إمكان شيء توقفوا فيه ولم يحكموا عليه بشيء - لا بالإمكان ولا بالوجوب ولا بالامتناع - .

قال الشيخ الأعظم: (واستدل المشهور على الإمكان، بإنا نقطع بأنه لا يلزم

ص: 290


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير العلمية».

- بهذا المعنى، بل مطلقاً[1] - أصلاً[2] متبعاً عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله[3] من الامتناع؛ لمنع[4] كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه[5]؛ ومنع حجيتها[6] لو سلم ثبوتها، لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظن به[7] - لو

-----------------------------------------------------------------

من التعبد به محال. وفي هذا التقرير نظر؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسنة والمقبحة، وعلمه بانتفائها، وهو غير حاصل في ما نحن فيه، فالأولى أن يقرر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان...)(1).

وحاصله: إن عدم وجدان سبب للاستحالة ثبوتاً يكفي في حكم العقلاء بالإمكان إثباتاً.

[1] «بهذا المعنى» أي: الوقوعي، «مطلقاً» أي: الوقوعي والذاتي.

[2] أي: قانوناً وقاعدةً للعقلاء، كي يُرتّبوا آثار الإمكان على ما لم يعلموا باستحالته.

[3] أي: حينما يحتملون الاستحالة - وقوعاً أو ذاتاً - .

[4] إشكال المصنف على كلام الشيخ من وجهين:

أولاً: لا سيرة للعقلاء في ذلك، بحيث يرتبون أحكام الإمكان على المجهول.

وثانياً: على فرض وجود هذه السيرة فلا حجية فيها؛ لأنها لا توجب أكثر من الظن، ونحن الآن في مقام الاستدلال على إمكان حجية الظن، فالتمسك بدليل ظني دور واضح، كما أنه لا يوجد دليل قطعي على حجية هذه السيرة.

[5] أي: في الإمكان.

[6] أي: منع حجية سيرة العقلاء هنا، وهذا الإشكال الثاني.

[7] أي: الظن باعتبار سيرة العقلاء، أو الظن بوجود الدليل على حجية هذه السيرة، «لو كان» أي: لو فرض وجود هذا الظن.

ص: 291


1- فرائد الأصول 1: 106.

كان - فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه، فما ظنك به[1]؟ لكن[2] دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه[3]، حيث يستكشف به عدم ترتب محال - من تالٍ باطل[4] فيمتنع مطلقاً[5] أو على الحكيم تعالى[6] - فلا حاجة معه[7] في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان، وبدونه[8] لا فائدة في إثباته[9]، كما هو واضح.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: فما ظنك بهذا الدليل الذي هو محل الكلام في إمكانه واستحالته.

والحاصل: إنه لا يمكن الاستدلال على الإمكان بما هو محل خلاف في إمكانه واستحالته - إلاّ على وجه دائر - .

[2] لما لم يرتض المصنف دليل المشهور على الإمكان وذلك للإشكال الذي أورده الشيخ عليه، وكذلك لم يرتض استدلال الشيخ بسيرة العقلاء استدل هو - أي: المصنف - بالوقوع، فإن أدل دليل على الإمكان الوقوع في الخارج.

[3] أي: إمكان التعبد بالأمارة، وضمير «بها» يرجع إلى الأمارة، و«به» يرجع إلى الوقوع.

[4] لأن المحال الوقوعي: هو ما استلزم تالياً باطلاً يمتنع على الحكيم، والمحال الذاتي ما استلزم باطلاً بحيث يمتنع وجوده مطلقاً.

[5] «مطلقاً» من الحكيم وغيره، وذلك لو كان محالاً ذاتياً.

[6] لو كان محالاً وقوعياً، فقد يرتكبه بعض الناس، ولكنه يقبح على الحكيم، فيستحيل عليه.

[7] أي: مع وقوع التعبد لا نحتاج إلى إثبات إمكان الشيء، فان هذا الإثبات لغو؛ لأنه بعد الوقوع يكون الإمكان بديهياً جداً.

[8] أي: بدون الوقوع الخارجي لا فائدة في إثبات الإمكان، مثلاً: إثبات إمكان وجود إنسان ذي عشرة رؤوس لغو؛ لعدم وقوعه في الخارج، ومع عدم الوقوع فأية فائدة تُرتجى من بحث إمكانه!!

[9] أي: إثبات الإمكان.

ص: 292

وقد انقدح بذلك[1] ما في دعوى شيخنا العلامة(1) - أعلى الله مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلاً.

والإمكان[2] في كلام الشيخ الرئيس: «كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه[3] واضح البرهان»(2)، بمعنى[4] الاحتمال المقابل للقطع والإيقان. ومن الواضح أن لا موطن له[5] إلاّ الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.

-----------------------------------------------------------------

إن قلت: إن الوقوع في الخارج أول الكلام، وقد أنكره ابن قبة.

قلت: إنكاره في بعض الظنون كالخبر الواحد، أما في الموضوعات والشهادات في الحدود والتعزيرات والحقوق ونحوها، فلا خلاف في كون بعض الظنون - كالبينة - حجة.

[1] أي: عدم صحة الاستدلال على إمكان التعبد بسيرة العقلاء.

[2] المقصود دفع إشكال: أن ابن سينا أيضاً يرى ما قاله الشيخ الأعظم، ولعل الشيخ أخذ كلامه منه.

[3] أي: لم يمنعك، «عنه» أي: عن جعله في بقعة الإمكان.

[4] هذا توضيح من المصنف لكلام ابن سينا، وحاصله: إن الإمكان في كلام ابن سينا ليس هو الإمكان في مقابل الوجوب والامتناع حتى نرتب آثاره، بل معناه الاحتمال، أي: لا تُنكر الغرائب، بل احتملها، وهذا الاحتمال ينسجم مع كون الشيء واجباً واقعاً أو ممكناً أو ممتنعاً، فلا يرتب أثر أي منها، بل يعتبره محتملاً، فيبحث عن الدليل الذي يثبت إمكانه أو امتناعه أو وجوبه.

[5] أي: للاحتمال، والحاصل: إن النزاع مع ابن قبة في الإمكان وعدمه ليس في مجرد الاحتمال، فإن الاحتمال أمر وجداني، فلا يبحث عن دليل لوجوده أو

ص: 293


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- الحكمة المتعالية 1: 364؛ شرح الإشارات 3: 418.

وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم - من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال[1] - أمور:

أحدها[2]: اجتماع المثلين - من إيجابين أو تحريمين مثلاً - في ما أصاب، أو ضدين -

-----------------------------------------------------------------

لعدم وجوده، بل النزاع مع ابن قبة في الإمكان المقابل للامتناع والوجوب، وهذا هو الذي يحتاج إلى النقاش والاستدلال.

[1] المحال الذاتي كاجتماع الضدين، والباطل - وإن لم يكن محالاً ذاتاً - كتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ما استدل به على استحالة التعبد بالأمارة
الدليل الأول

[2] حاصله: إنه إذا أصابت الأمارة الواقع فحينئذٍ يكون حكمان متماثلان - أحدهما الحكم الواقعي والآخر الحكم الظاهري - واجتماع المثلين محال.

وإذا أخطأت الأمارة، كما لو كان في الواقع حراماً وأدت الأمارة إلى وجوبه - مثلاً - :

أ: فإن بقيت مصلحة الواقع فيلزم ثلاثة محاذير:

1- اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد؛ لأن الأحكام تابعة لملاكاتها، فالوجوب يقتضي وجود مصلحة ملزمة، والحرمة تقتضي وجود مفسدة ملزمة.

2- اجتماع إرادة وكراهة من عمل واحد في نفس المولى؛ لأن المصلحة أوجبت حبَّه للشيء فلذا أمر به، والمفسدة أوجبت بُغضه للشيء لذا نهى عنه.

3- اجتماع وجوب وتحريم - الحرمة حسب الحكم الواقعي والوجوب حسب الحكم الظاهري مثلاً - .

ب: وأما لو لم تبق مصلحة الواقع، وزالت الإرادة أو الكراهة فيلزم محذور التصويب.

ص: 294

من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار[1] في البين - في ما أخطأ، أو التصويب[2] وأن لا يكون[3] هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.

ثانيها[4]: طلب الضدين في ما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.

-----------------------------------------------------------------

[1] وعدم الكسر والانكسار كان سبباً لاجتماع الإرادة والكراهة، وكذا الوجوب والحرمة. وأما لو كان هنالك كسر وانكسار فإنه يبقى الأقوى، وتكون على طبقه إرادة أو كراهة، ثم وجوب أو تحريم من غير اجتماع للضدين؛ لأنه لو كان للشيء مصلحة وكان فيه مفسدة، كالخمر التي فيها منافع اقتصادية، وفيها أضرار عقلية وجسمية ونحوها، فيلاحظ أن الفائدة لا تقوى أمام الضرر؛ فلذا يحصل كسر وانكسار، فتكون هذه الفائدة مقابل مقدار من الضرر فيتساقطان، ويبقى مقدار آخر من الضرر سليماً عن المعارض، فتكون كراهة له ثم تحريم، كما قال تعالى: {قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ}(1).

[2] أي: لو قيل برفع الشارع يده عن حكمه الواقعي، وجعل الحكم طبق الأمارة فقط، فإن ذلك التصويب المجمع على بطلانه.

وبعض العامة كانوا يرون أنه ليس لله في الوقائع حكم! بل كلّما أفتى به المفتي يكون حكم الله تعالى، وهذا الكلام سخيف جداً، بل محال عقلاً، كما بُيّن في موضعه.

[3] هذا بيان لمعنى التصويب هنا، وقوله: «أحكام» اسم (لا يكون).

الدليل الثاني

[4] الفرق بين هذا والدليل السابق هو: أن الدليل الأول كان اجتماع المثلين أو الضدين في متعلق واحد، أما هذا الدليل فهو طلب الشيء وطلب ضده، فهما في متعلقين، لكنا نعلم بأن أحدهما ضد الآخر ولا يجتمعان، كصلاة الجمعة وصلاة الظهر.

وهذان الدليلان يدلان على أن الحجية للأمارة يستلزم المحال الذاتي.

ص: 295


1- سورة البقرة، الآية: 219.

ثالثها[1]: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في ما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه[2] محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب[3]: إن ما ادعي لزومه إما غير لازم[4] أو غير باطل[5].

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] وهذا لا يستلزم محالاً ذاتياً، بل يستلزم باطلاً، أي: أمراً قبيحاً على المولى، وهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة لو خالفت الأمارة الواقع.

[2] أي: كون ما هو واجب أو ما هو حرام واقعاً محكوماً بحكم آخر ظاهراً. فإذا عمل المكلف بمؤدى الأمارة فإنه تفوت عليه مصلحة الواقع، أو يقع في المفسدة التي كان النهي الواقعي لأجلها، ومن القبيح على المولى تشريع أمر يؤدي إلى ذلك.

الجواب
اشارة

[3] وقد أجاب المصنف بثلاثة أجوبة:

1- لا يوجد حكم ظاهري أصلاً، بل هناك حكم واقعي فقط، وبذلك يرتفع التضاد، والتعبد بالأمارة له مصلحة غالبة على مصلحة الواقع أو مفسدته.

2- على فرض وجود أحكام ظاهرية فلا تضاد أيضاً؛ لأن وجوب الحكم الظاهري مقدمي، والمصلحة في إنشائه - كالأوامر الامتحانية - ووجوب الحكم الواقعي حقيقي ناشئٍ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، فارتفع التضاد باختلاف موضوع الحكمين.

3- وعلى فرض وحدة الموضوع، فإن الواقعي: فعليٌ منجز، والظاهري: فعلي غير منجز - أي: لو علم به لصار فعلياً - .

[4] وهو اجتماع المثلين أو الضدين كما في الإشكال الأول، وطلب الضدين كما في الإشكال الثاني.

[5] وهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة كما في الإشكال الثالث.

ص: 296

وذلك[1] لأن التعبد[2] بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية[3] بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون[4] موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحة الاعتذار به[5] إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته[6] تجرياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة الغير(1) المجعولة[7]،

-----------------------------------------------------------------

الجواب الأول

[1] «ذلك» أي: عدم لزوم أو عدم بطلان اللوازم المذكورة، وهذا إشارة إلى الجواب الأول.

وحاصله: إن مثل: (صدق العادل) لا يستتبع جعل أحكام ظاهرية على طبق كلام العادل، بل إن كان خبره صحيحاً فإن الحكم الواقعي الذي كشف الخبر عنه يكون منجزاً، بمعنى صحة المؤاخذة على مخالفته - مثلاً - وإن كان خبره خطأً فإن المكلف يكون معذوراً على العمل به، والخلاصة: إنه لا حكم ظاهري، بل حكم واقعي قد يكون منجزاً وقد لا يكون منجزاً.

[2] أي: إلزام العبد بالطاعة، «حجيته» أي: حجية الطريق غير العلمي.

[3] أي: أحكام ظاهرية حسب مضمون الخبر الواحد - مثلاً - .

[4] أي: تكون الحجية، «به» أي: بالطريق، فإن الخبر الواحد لو أصاب الواقع كان ذلك الواقع منجزاً على المكلف، بمعنى صحة العقوبة على مخالفته.

[5] أي: بالطريق، فلو أخطأ الخبر الواحد مثلاً ثمّ عمل المكلف به فإنه يصح أن يعتذر على مخالفته للواقع بأنه عمل حسب الطريق الذي جعله الشارع.

[6] أي: إن أخطأ الطريق فإن العبد يكون متجرياً إن خالفه، ومنقاداً إن وافقه.

[7] أي: القطع، فإنه مع القطع لا يكون حكم ظاهري، بل تنجيز إن أصاب، وإعذار إن أخطأ، وفي حال الخطأ إن وافق يكون منقاداً، وإن خالف يكون متجرياً.

ص: 297


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المجعولة».

فلا يلزم[1] اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأما تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته[2]، فلا محذور فيه أصلاً[3]، إذا كانت في التعبد به[4] مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم[5]، لو قيل باستتباع[6] جعل الحجية للأحكام التكليفية، أو بأنه[7] لا معنى

-----------------------------------------------------------------

[1] لعدم وجود حكم ظاهري أصلاً، بل حكم واقعي فقط، وهذا كان بيان أن ما أدّعي لزومه غير لازم.

[2] في ما أخطأ الطريق.

[3] وهذا بيان أن ما أدعي لزومه غير باطل.

[4] أي: بالطريق، فإن تكليف الناس بالعمل بالعلم فقط فيه مشقة عظيمة، بل اختلال النظام، وهذا المحذور أشد من الوقوع في مخالفة الواقع قليلاً حينما يعمل المكلف بالطرق.

الجواب الثاني

[5] أي: على المباني الأخرى يلزم القول بوجود أحكام ظاهرية، ومع ذلك لا يلزم المحال؛ لاختلاف موضوع الحكمين:

المبنى الأول: إن جعل الحجية يستلزم جعل حكم ظاهري؛ لأن الحجية حكم وضعي، وكل حكم وضعي يلزم منه حكم تكليفي.

والمبنى الثاني: هو عدم وجود أحكام وضعية، بل المجعول هو أحكام تكليفية ينتزع منها الحكم الوضعي، مثلاً: جواز التصرف وجواز البيع والأولوية في التصرف وعدم جواز تصرف الغير إلاّ بإذنه ينتزع منه الملكية، وعلى هذا المبنى الحجية هي منتزعة من الحكم الظاهري.

[6] إشارة إلى المبنى الأول.

[7] إشارة إلى المبنى الثاني، «بأنه» للشأن «لجعلها» أي: لجعل الحجية.

ص: 298

لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلاّ أنهما[1] ليسا بمثلين أو ضدين، لان أحدهما طريقي[2] عن مصلحة في نفسه[3] موجبة لإنشائه الموجب للتنجز[4] أو لصحة الاعتذار بمجرده[5]، من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصل الجواب أن هناك حكمين: واقعي، وظاهري.

أما الواقعي: فهو حكم حقيقي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، وإرادة أو كراهة حقيقية.

وأما الظاهري: فهو حكم مقدّمي ناشئ عن مصلحة في نفس الحكم، كالأوامر الامتحانية، فإنه لا مصلحة أو مفسدة، وكذلك لا إرادة أو كراهة في متعلقها، بل المصلحة في نفس تلك الأحكام.

ولا مانع من اجتماع هذين الحكمين لاختلاف الموضوع، فلا تضاد ولا تماثل، كما لا إرادة ولا كراهة في متعلق الحكم المقدمي، بل هما فقط في متعلق الحكم الواقعي.

[2] أي: مقدمي، حيث إن جعله لكونه مقدمة للوصول إلى الأحكام الواقعية، فالمصلحة في الحكم الظاهري هي في نفس إنشائه، لا في متعلقه.

[3] أي: في نفس الحكم، «إنشائه» أي: إنشاء الحكم الظاهري.

[4] أي: فائدة هذا الحكم المقدمي هو تنجز الحكم الواقعي في صورة الإصابة، وصحة الاعتذار في صورة الخطأ.

[5] أي: بمجرد الإنشاء، وقوله: «من دون...» توضيح لقوله: (بمجرده)، «كذلك» أي: نفسانية.

[6] أي: متعلق الأمر الطريقي - المقدمي - وهو الفعل لم يتعلق به إرادة أو كراهة، بل كانت المصلحة والإرادة في نفس الحكم - كما في الأوامر الامتحانية - .

ص: 299

في ما يمكن هناك انقداحهما[1] حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل وإن لم يحدث بسببها[2] إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلاّ أنه إذا أوحي بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي أو ألهم به الولي[3] فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما[4] الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إذا أمكن وجود الإرادة - بمعنى الشوق الأكيد - والكراهة، وذلك في نفوس الأنبياء والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ. حيث ثبت في العقائد(1)

بأن الله تعالى ليس محلاً للحوادث؛ لأن الحوادث تستلزم تغيراً في الذات، والتغير يستحيل على القديم، فإن كل ما يتغير حادث؛ لذا فالحب والبغض والغضب والرضا ونحوها تستحيل بمعناها الحقيقي على الباري سبحانه، بل هي بمعنى ترتيب آثارها من الثواب أو العقاب، والبعد أو القرب من رحمته تعالى، فهو سبحانه يعلم بالمصلحة أو المفسدة، وهو تعالى مختار، فيكون العلم والاختيار سبباً للحكم.

لكن هذه الإرادة والكراهة لا تستحيل على الأنبياء والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فلذا في الأحكام الواقعية تنقدحان في نفوسهم الشريفة، أما في الأحكام الظاهرية فلا إرادة وكراهة في نفوسهم باتجاه المتعلق، بل إرادة فقط في إنشاء الحكم.

[2] أي: بسبب المصلحة أو الفسدة، «المبدأ الأعلى» هو الله سبحانه وتعالى.

[3] الإلهام هو الإلقاء في القلب، كقوله تعالى: {فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا}(2)، والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يوحى إليهم - بالمعنى المصطلح الخاص بالأنبياء - ولكن يُلهمون؛ لأن قلوبهم أوعية مشيئة الله تعالى.

[4] أي: المصلحة أو المفسدة، «الموجبة للإنشاء» أي: حينما ينشئ النبي أو الولي، سواء كانت ألفاظ الإنشاء منهما، أم كانا ناقلين للألفاظ التي خلقها الله وأوصلها إليهما.

ص: 300


1- المسلك في أصول الدين: 50؛ قواعد المرام: 94؛ كشف المراد: 408.
2- سورة الشمس، الآية: 8.

بخلاف[1] ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق[2]، بل إنما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقياً[3]؛ والآخر[4] واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه[5]، موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه[6] بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاّ العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا -. فلا يلزم أيضاً[7] اجتماع إرادة وكراهة، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادة بين الإنشاءين في ما إذا اختلفا[8]؛ ولا يكون من اجتماع المثلين في ما اتفقا؛ ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي، فافهم[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في الحكم الظاهري - وهو مقدمي طريقي - ليس في متعلقه مصلحة أو مفسدة ولا إرادة أو كراهة.

[2] أي: في الفعل الذي تعلق به الحكم - نظير الأوامر الامتحانية - حيث لم يكن فيه مصلحة، وإنّما كان الأمر باعتبار المصلحة في نفس الإنشاء.

[3] «به» بالمتعلق، فالمصلحة في نفس الإنشاء؛ وذلك لأن الأحكام الظاهرية مقدمة وطريق للوصول إلى الأحكام الواقعية - غالباً - .

[4] هذا عدل قوله: (لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه... والآخر واقعي حقيقي...).

[5] أي: متعلق التكليف، أي: في نفس الفعل التي تعلق به الحكم.

[6] إرادة وكراهة المتعلق الموجبة لإنشاء الحكم، و«بعثاً وزجراً» مفعول لأجله، أي: الإنشاء لأجل البعث والزجر.

[7] كما في الجواب الأول.

[8] بأن خالف الطريق الواقع، فكان الحكم الواقعي الوجوب والحكم الظاهري الحرمة - مثلاً - .

[9] لعله إشارة إلى أن هذا الجواب لا يدفع محذور الإلقاء في المفسدة وتفويت

ص: 301

نعم[1]، يشكل الأمر في بعض الأصول العملية[2]، كأصالة الإباحة الشرعية، فإن الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً[3]، كما في ما صادف الحرام، وإن كان[4] الإذن فيه لأجل مصلحة فيه، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في

-----------------------------------------------------------------

المصلحة، أو إشارة إلى أن بعض أدلة الأحكام الظاهرية يستفاد منها جعل حكم بالنسبة إلى المتعلق، أو لغير ذلك.

[1] فإن بعض الأصول العملية لا تكشف الواقع أصلاً - كأصالة الإباحة، وحينئذٍ فقول الشارع: (كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه)(1)

هو جعل للإباحة الظاهرية، فالإذن في الارتكاب - وإن كان لمصلحة في نفس الإذن - ينافي الحرمة الواقعية.

مثلاً: لو شك في نجاسة مائع - وهو نجس واقعاً - فإن الحكم الواقعي هو الحرمة، وأصالة الإباحة تدل على الإذن في شربه، فهذا الترخيص يضاد تلك الحرمة.

[2] أي: الأصول العملية التي ليس فيها جهة الكشف عن الواقع أصلاً كأصالة الإباحة، أما الأصول العملية التي لها كشف عن الواقع كالاستصحاب فيمكن اعتبارها كالأمارات والطرق، حيث يجعل فيها حكم ظاهري طريقي - أي: مقدمي - وحكم واقعي حقيقي، فيقال: إنها صارت حجة ولزم العمل بها؛ لأنها أحكام طريقية توصل إلى الواقع، أما مثل أصل الإباحة فلا معنى لكونه طريقياً مقدمة للواقع، لما عرفت من أنها لا كشف لها عن الواقع أصلاً.

[3] أي: ينافي المنع الفعلي، فعاد محذور اجتماع الضدين، حيث منع الشارع ورخص في الشيء الواحد.

[4] أي: حتى لو لم يكن تنافٍ بين المصلحة في الحكم الظاهري والمفسدة في متعلق الحكم الواقعي، لكن هناك تنافٍ بين الإذن في الاقتحام مع المنع عنه، «فيه» أي: في الاقتحام لأجل مصلحة في نفس الاقتحام.

ص: 302


1- وسائل الشيعة 17: 89، مع اختلاف يسير.

المأذون فيه[1]. فلا محيص[2] في مثله[3] إلاّ عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة[4] في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى، لكنه لا يوجب الالتزام[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الفعل الذي تعلق به الحكم الواقعي بالحرمة، وتمَّ الإذن في اقتحامه بأصالة الإباحة.

والحاصل: إن هذا الجواب الثاني وإن رفع التنافي بين مصلحة الحكم الظاهري بالإباحة مع مفسدة الواقع، لكنه لم يرفع التنافي بين الإذن في الاقتحام مع المنع عنه.

الجواب الثالث

[2] شروع في الجواب الثالث، وحاصله: إن الحكم الفعلي قسمان:

الأول: الحكم الفعلي التعليقي، أي: لو علم المكلف به لصار فعلياً منجزاً، ولو لم يعلم به لبقي على كونه إنشائياً، وفي هذا لا إرادة ولا كراهة.

الثاني: الحكم الفعلي الحقيقي، أي: هو فعلي سواء علم به أم لم يعلم، لكن لو علم به صار منجزاً، ولو لم يعلم به لم يصر منجزاً.

وحينئذٍ فنقول: إن الحكم الواقعي هو فعلي تعليقي، والحكم الظاهري هو فعلي حقيقي، ولا تنافي بينهما أصلاً؛ لأن أحدهما في صورة العلم والآخر في صورة الجهل، والإرادة والكراهة لم تتعلق إلاّ بالحكم الظاهري، فلا تضاد ولا طلب ضدين، فتأمل.

[3] أي: في مثل بعض الأصول العملية، والمراد جميع الأصول العملية ومؤديات الطرق والأمارات.

[4] بالنسبة إلى الحكم الواقعي، وانحصار الإرادة أو الكراهة في الحكم الظاهري فقط.

[5] وذلك لعدم اشتراط الفعلية بكونها عن إرادة أو كراهة، فيمكن أن يكون الحكم فعلياً تعليقياً بلا إرادة أو كراهة. نعم، الحكم الفعلي الحقيقي لا يكون إلاّ مع إرادة أو كراهة.

ص: 303

بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه[1] على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه، كسائر[2] التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها. وكونه فعلياً[3] إنما يوجب البعث أو الزجر[4] في النفس النبوية أو الولويّة في ما إذا لم ينقدح فيها[5] الإذن لأجل مصلحة فيه.

فانقدح بما ذكرنا[6]: أنه لا يلزم الالتزام[7] بعدم كون الحكم الواقعي في مورد

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كون التكليف، وهذا بيان للحكم الفعلي التعليقي.

[2] فهو ليس إنشائياً صرفاً بحيث لو علم به لم يوجب تكليفاً أصلاً.

[3] أي: فعلياً حقيقياً.

[4] المقصود: إنما يوجب الإرادة والكراهة.

[5] أي: في النفس النبوية أو الولوية - وهي نسبة إلى (الولي) - .

الجواب الرابع والإشكال عليه

[6] ما ذكرناه في الجواب الثالث من بيان أن الحكم الفعلي قد يكون تعليقياً وقد يكون واقعياً، «أنه» للشأن، «لا يلزم» بناءً على أن الحكم الفعلي قسمان.

[7] كما نسب إلى الشيخ الأعظم، حيث حلّ إشكال طلب الضدين أو المثلين، بأن الحكم الظاهري فعلي، والحكم الواقعي إنشائي، ولا تنافي بين الحكمين لتغاير متعلقهما.

لكن هذا الكلام يرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول

الأول: إن الحكم الإنشائي - حتى لو علمنا به - لا يوجب تكليفاً أصلاً، مثلاً: حين نزول القرآن دفعة واحدة على قلب النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في ليلة القدر من السنة الأولى من البعثة فقد كانت جميع التكاليف الواردة فيه إنشائية، وهذا العلم لم يوجب فعليتها؛ لأن فعليتها كانت تدريجية خلال أكثر من عشرين عاماً.

ص: 304

الأصول والامارات فعلياً، كي يشكل[1]:

تارةً، بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ[2] بما قامت الأمارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ[3] مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان[4] به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال[5]: لا مجال لهذا الإشكال لو قيل بأنها[6] كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية، لأنها بذلك[7] تصير فعلية تبلغ تلك المرتبة.

فإنه يقال[8]: لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا

-----------------------------------------------------------------

فإذا كان العلم بالحكم الإنشائي لا يستلزم تكليفاً فإن القول بأن الحكم الواقعي إنشائي معناه عدم وجوب الالتزام به حتى لو علم به أو قامت الأمارة عليه!!

[1] أي: لو التزمنا بما نسب إلى الشيخ يرد إشكالان، فتارة إشكال أول - كما بيناه - .

[2] أي: حين كون الحكم الواقعي إنشائياً.

[3] عطف تفسيري لقوله: (ما لم تصر فعلية).

[4] الواو للحال، أي: والحال أنه من الواضحات لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه.

[5] جواب عن الإشكال، وحاصله: إن التكليف قبل قيام الأمارة إنشائي، وحين قيام الأمارة يصير فعلياً، فقيام الأمارة يكون سبباً لصيرورة الحكم فعلياً.

[6] أي: الأحكام الواقعية.

[7] «لأنها» لأن الأحكام الواقعية، «بذلك» أي: بقيام الأمارة عليها، «تلك المرتبة» أي: مرتبة البعث والزجر.

[8] دفع للجواب، وحاصله: إ ن الموضوع إذا كان مركباً من أمرين فلا يترتب الحكم عليه إلاّ بعد إحراز كلا الجزءين، مثلاً: في (الماء الكر عاصم) لا تترتب العصمة إلاّ بعد إحراز المائية وإحراز الكرية، إما بالوجدان، وإما بالتعبد - كالاستصحاب - وإما بالاختلاف بأن يحرز أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالتعبد.

ص: 305

حقيقةً ولا تعبداً[1] - إلاّ حكم إنشائي تعبداً، لا حكم إنشائي أدت إليه الأمارة. أما حقيقةً: فواضح[2]، وأما تعبداً[3]: فلأنّ قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبداً، لا الواقع[4] الذي أدت إليه الأمارة، فافهم[5].

اللهم إلاّ أن يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

وهنا موضوع الحكم الفعلي مركب من أمرين: 1- الحكم الإنشائي الواقعي. 2- اتصاف هذا الحكم بكونه مؤدى الأمارة.

والجزء الثاني لا يمكن إثباته بنفس الأمارة؛ لأن الأمارات تثبت الواقع، ولا تثبت الواقع موصوفاً بكونه مؤدى الأمارة!!

[1] أي: لا بالوجدان، ولا بدليل شرعي يدل على لزوم اعتبار الحكم مؤدى الأمارة.

[2] لأنه لا علم بإصابة الأمارة للواقع؛ إذ لعلها أخطأته، الواقع فلم يكن هناك حكم إنشائي أصلاً.

[3] أي: لا يوجد دليل يجعل الحكم متصفاً بهذا الوصف شرعاً تعبدياً.

[4] أي: الأمارة تؤدي إلى الواقع بما هو واقع، ولا تؤدي إلى الواقع الموصوف بكونه مؤدّى الأمارة.

[5] لعله إشارة إلى أن الأمارة لا تدل على هذا الوصف - أي: كون الحكم الإنشائي مؤدى الأمارة - لكن هذا الوصف ينطبق قهراً بعد قيام الأمارة، فأحرز الجزء الأول بقيام الأمارة وأما الجزء الثاني - وهو الاتصاف بكونه مؤدى الأمارة - فقد أحرز وجداناً، وقيل غير ذلك(1).

[6] دفع للإشكال، وحاصله: إن الحكم الواقعي إنشائي، وبدلالة الأمارة عليه يصير فعلياً؛ إذ لو لم يصر فعلياً كان جعل الحجية للأمارة لغو؛ لعدم ترتب أي

ص: 306


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 178؛ حقائق الأصول 2: 74.

إن الدليل[1] على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّىً لها، هو دليل الحجية[2] بدلالة الاقتضاء[3]. لكنه[4] لا يكاد يتم إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً[5]، وإلا[6] لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا يخفى.

وأخرى[7]، بأنه كيف يكون التوفيق بذلك[8]، مع احتمال أحكام فعلية بعثية

-----------------------------------------------------------------

أثر على الحكم الإنشائي البحت.

[1] أي: أدلة حجية الأمارات التي تُنزِّل مؤدى الأمارة منزلة الواقع.

[2] أي: دليل الفعلية والتنجيز والتعذير.

[3] (دليل الاقتضاء) هو ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه، وهنا صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية يلزم القول بفعلية الأحكام الإنشائية بمجرد قيام الأمارة عليها.

[4] هذا رد وجود دلالة الاقتضاء هنا؛ وذلك لأن دليل الأمارات له أثر آخر غير الفعلية، وهو التهيّؤ مثلاً للفعلية، أو النذر، أو الانقياد؛ لأن موافقة الإنشائي البحت فيه الثواب، ونحو ذلك.

[5] سوى فعلية الأحكام الإنشائية.

[6] أي: وإن وجدنا آثاراً أخرى، «تلك الدلالة» أي: دلالة الاقتضاء.

الإشكال الثاني

[7] أي: لوقلنا بمقالة الشيخ الأعظم - من كون الأحكام الواقعية إنشائية - فإنه يرد إشكال آخر، وهو أنه كما يحتمل كونها إنشائية كذلك يحتمل كونها فعلية، وحينئذٍ فيحتمل التضاد والتنافي، وكما يستحيل التضاد كذلك يستحيل احتماله - كما مرّ سابقاً - .

[8] «التوفيق» أي: الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، «بذلك» أي: بالقول بأن الواقعي إنشائي محض.

ص: 307

أو زجرية[1] في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة[2] لأحكام فعلية؟ ضرورة[3] أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصح[4] التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون[5] مورد الطرق إنشائياً غير فعلي[6].

كما لا يصح[7] بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة، بل في مرتبتين[8]، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين[9].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: أحكام فعلية وصلت إلى مرحلة البعث والزجر.

[2] أي: الطرق والأصول التي تبين الحكم الفعلي، وحينئذٍ يحصل التنافي بين حكمين فعليين.

[3] بيان لوجه الإشكال، «احتماله» أي: احتمال ثبوت المتنافيين.

[4] أي: نتيجة ورود هذين الإشكالين فإنه لا يمكن الذهاب إلى الجواب المنسوب إلى الشيخ الأعظم.

[5] «يكون» تامة بمعنى يوجد.

[6] «إنشائياً» خبر (كون)، و«غير فعلي» بدل أو عطف بيان لقوله: (إنشائياً).

الجواب الخامس وردّه

[7] أي: لا يصح هذا الجواب عن إشكال التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، وهو منسوب إلى المحقق الفشاركي، وكذا إلى الشيخ الأعظم، وحاصل الجواب: هو أن الحكمين في مرتبتين، حيث إن موضوع الحكم الواقعي هو الشيء بما هو، وموضوع الظاهري هو الشيء المشكوك، فاختلف الموضوع، فلا تضاد!! لأن من شروط التضاد اتحاد الموضوع.

[8] أي: مرتبة الشيء بما هو، ومرتبة الشيء بما هو مشكوك.

[9] المرتبة الأولى هي الحكم الواقعي، والمرتبة الثانية هي الشك في الحكم الواقعي، وفي الوصول: (إذ موضوع الحكم الواقعي هو الشيء، وموضوع الحكم

ص: 308

وذلك[1] لا يكاد يجدي، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي[2]، إلاّ أنه يكون[3] في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة[4] لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

فتأمل في ما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

ثالثها[5]:

-----------------------------------------------------------------

الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، فيلزم أولاً الموضوع ثم الحكم الواقعي ثم الشك في الحكم الواقعي ثم الحكم الظاهري)(1).

[1] أي: عدم صحة هذا الجواب لأجل أنه في مرتبة الحكم الظاهري يوجد الحكم الواقعي أيضاً؛ لأن الشارع لم يرفع يده عن الحكم الواقعي حين الشك، فحين الشك اجتمع الحكمان: الظاهري والواقعي.

[2] لأن الظاهري خاص بصورة الشك، والواقعي موجود في المراحل السابقة على الشك.

[3] أي: إلاّ أن الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري - أي: في مرتبة الشك - حيث لم يرفع الشارع يده عن حكمه الواقعي حين الشك.

[4] بأن يكون الحكم الواقعي الوجوب، والحكم الظاهري الحرمة - مثلاً - .

المقدمة الثالثة

[5] أي: ثالث الأمور من المقدمات، فبعد أن أثبتنا إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية نذكر هنا الأصل الذي يرجع إليه حين الشك، ثم نذكر في الفصول اللاحقة الموارد التي ثبتت حجيتها.

وحاصل المقدمة الثالثة هو: إن غير القطع يحتاج إلى جعل الحجية، فمع العلم بالحجية تترتب آثارها من صحة المؤاخذة ونحوها - مما سيأتي بيانها - ومع عدم العلم بالحجية يحكم العقل جزماً بعدم ترتب الآثار أصلاً، وهذا معنى قولهم: (الشك

ص: 309


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 397.

إن الأصل في ما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز[1] التعبد به واقعاً، عدم[2] حجيته جزماً، بمعنى[3] عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعاً، فإنها[4] لا تكاد تترتب[5] إلاّ على ما اتصف بالحجية فعلاً، ولا يكاد[6] يكون الاتصاف بها إلاّ إذا أحرز التعبد به وجعله طريقاً متبعاً، ضرورة[7] أنه بدونه لا يصح المؤاخذة[8]

-----------------------------------------------------------------

في الحجية موضوع عدم الحجية) أي: مع عدم العلم بالحجية نقطع بعدم ترتب آثارها.

[1] إما عطف تفسيري على «لا يعلم اعتباره...»، وإما أن يكون «لا يعلم...» في صورة الانفتاح و«لا يحرز...» في صورة الانسداد بناءً على الكشف، وإما «لا يعلم...» في صورة العلم بالحجية و«لا يحرز...» في صورة وجود دليل معتبر على الحجية.

[2] خبر (إن الأصل).

[3] لأن الحجية هي بمعنى التنجيز والإعذار، وهذه الآثار هي عبارة أخرى عنهما - أي: عن التنجيز والإعذار - ، «عليه» أي: على ما لا يعلم اعتباره.

[4] «فإنها» أي: فإن الآثار، وهذا دليل عدم ترتب الآثار.

[5] بحكم العقل القطعي، «فعلاً» أي: الحجية المحرزة خارجاً.

[6] أي: لا يمكن اتصاف الدليل بكونه حجة فعلاً إلاّ إذا أحرز أن الشارع جعله حجة وتعبَّدنا به، «بها» بالحجية، «التعبد به» مرجع الضمير هو (ما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً) وكذا كثير من الضمائر اللاحقة، وسنرجعها إلى المعنى اختصاراً.

[7] «أنه» للشأن، «بدونه» بدون الإحراز، وهذا دليل لعدم ترتب الآثار إلاّ إذا أحرز التعبد.

[8] فإن آثار الحجية أربعة:

1- صحة العقوبة على المخالفة إن أصابت الواقع.

ص: 310

على مخالفة التكليف بمجرد إصابته[1]، ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها[2]، ولا يكون مخالفته تجرياً، ولا يكون موافقته بما هي موافقة[3] انقياداً، وإن كانت[4] بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته. فمع[5] الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه[6]، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

-----------------------------------------------------------------

2- كونه عذراً لو خالف الواقع إن أخطأت الأمارة.

3- التجريّ في مخالفة الأمارة المخطئة للواقع.

4- الانقياد في موافقة الأمارة المخطئة.

وكل ما لم يكن حجة أو كان مشكوك الحجية فإن العقل لا يرتب أي أثر من هذه الآثار.

[1] أي: إصابة الدليل المشكوك للواقع، فإنه حينئذٍ لو خالف فلا يحكم العقل بصحة عقوبته، بل يحكم بعدم صحتها، فانتفى الأثر الأول.

[2] أي: لدى مخالفة الدليل المشكوك للواقع مع عدم الإصابة، فإنه لو خالف الواقع فإنه لا يصح الاعتذار بهذا الدليل المشكوك، فانتفى الأثر الثاني.

[3] أي: الإتيان بالعمل لموافقة الدليل المشكوك الحجية ليس بانقياد. نعم، الاحتياط للوصول إلى الواقع هو انقياد، لكنه لا ربط له بموافقة الدليل المشكوك.

[4] أي: الموافقة، «كذلك» أي: انقياداً، فإن الاحتياط للوصول إلى الواقع برجاء الإصابة هو انقياد، وهذا لا ربط له بالدليل المشكوك، «إصابته» أي: إصابة الواقع.

[5] هذا نتيجة ما سبق، أي: حين الشك لا تترتب الآثار بحكم العقل، فنقطع بعدم الحجية، «التعبد به» أي: بالدليل، «عدم حجيته» أي: الدليل.

[6] لأن موضوع الحجية هو (العلم بالحجية)، ومع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم قهراً بحكم العقل.

ص: 311

وأما[1] صحة الالتزام بما أدى إليه[2] من الأحكام وصحة نسبته إليه[3] «تعالى»،فليسا[4] من آثارها، ضرورة[5] أن حجية الظن عقلاً - على تقرير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحتهما[6]، فلو فرض[7] صحتهما شرعاً مع الشك

-----------------------------------------------------------------

[1] ذكرنا أربعة آثار للحجية، وقد أضاف الشيخ الأعظم(1)

أثرين:

أحدهما: صحة الالتزام القلبي بأنه حكم الله تعالى.

الثاني: صحة نسبته إلى الشارع المقدس.

وحين الشك في الحجية لا يصح الالتزام ولا تصح النسبة؛ لقيام الأدلة على عدم صحتهما، وبذلك نكتشف عدم الحجية لعدم وجود أثرها.

[2] أي: «بما» بالحكم الذي، «أدى» الدليل المشكوك، «إليه» إلى ذلك الحكم.

[3] أي: نسبة المؤدّى إلى الله تعالى.

[4] إشكال على الأثرين، وحاصل الإشكال: إن هذين الأمرين ينفكان عن الحجية، ولو كانا من آثار الحجية لم يمكن انفكاكهما؛ لأن الأثر إما بمعنى أنه معلول أو أنه لازم، ولا يمكن انفكاك المعلول عن علته، كما لا ينفك اللازم عن الملزوم.

[5] هذا الإشكال الأول وإثبات الانفكاك في ما لو قلنا بالانسداد وبحكومة العقل بحجية الظن، فإن الظن حينئذٍ حجة مع عدم صحة نسبة المؤدّى إلى الشارع وعدم صحة الالتزام؛ لعدم حكم للشارع وإنّما الحكم للعقل.

[6] أي: صحة الالتزام والنسبة.

[7] هذا إشكال ثانٍ، لكن المصنف دمجه مع الإشكال الأول بفاء التفريع؛ لأن فيه إثبات الانفكاك أيضاً - كالأول - .

وحاصله: إنه يمكن أن تصح النسبة ويصح الالتزام ولكن مع عدم جعل الحجية. وهذا الفرض وإن لم يتحقق خارجاً إلاّ أن إمكانه دليل على عدم كون

ص: 312


1- فرائد الأصول 1: 131.

في التعبد به لما كان يجدي[1] في الحجية شيئاً ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها[2]، ومعه[3] لما كان يضر عدم صحتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً. فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - نفسه الزكية، بما أطنب من النقض والإبرام(1)،

فراجعه بما علّقناه عليه(2)، وتأمل.

وقد انقدح بما ذكرنا: أن الصواب في ما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل[4]، فتدبر جيداً.

-----------------------------------------------------------------

الحجية علة لصحتهما، ولا هما لازمين لها؛ وذلك لعدم إمكان انفكاك المعلول عن علته، ولا اللازم عن الملزوم، فمجرد إمكان الانفكاك دليل على عدم العلية وعدم التلازم.

والفرق بين الإشكالين هو أن الأول إثبات الحجية مع عدم صحتهما، والثاني إمكان صحتهما مع عدم الحجية.

[1] أي: ما كان تجدي صحة الالتزام والنسبة.

[2] الأربعة التي مرت آنفاً، فإنّها لا تنفك عن الحجية أصلاً.

[3] أي: مع ترتب تلك الآثار الأربعة لا يضر بالحجية عدم صحة النسبة والالتزام، وكذلك صحتهما. والحاصل: إن صحتهما أو عدم صحتهما بحث مهم، لكنه غير مرتبط بالمقام الذي هو ترتيب أو عدم ترتيب آثار الحجية على الدليل المشكوك.

[4] وهو أن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية عقلاً، لا ما ذكره الشيخ من أنه مع الشك في الحجية قام الدليل الشرعي على عدم جواز الاستناد إلى الشارع، وعدم جواز الالتزام القلبي به، وحينئذٍ نكتشف عدم الحجية؛ وذلك لأن هذين

ص: 313


1- فرائد الأصول 1: 131.
2- درر الفوائد: 41.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً[1] عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصول:

فصل: لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة[2]، لاستقرار[3] طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح[4] عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه،كما هو واضح.

-----------------------------------------------------------------

ليسا أثراً للحجية، حتى نكتشف عدم الحجية حين عدمهما.

[1] لأن موضوع عدم الحجية هو (الشك في الحجية)، وأما معلوم الحجية فهو خارج عن موضوع هذا الأصل.

فصل حجية ظواهر الألفاظ

اشارة

[2] فإن بعض المصاديق لا خلاف فيها ولا إشكال - وهو الحجية لمن قصد إفهامه وظنّ بالظاهر - ولكن هناك خلاف في بعض التفاصيل. فمنهم من قيّد الحجية بما إذا ظن المكلف بالظاهر، ومنهم من قيدها بعدم الظن بخلاف الظاهر، ومنهم من قيدها بمن قصد إفهامه، فلا حجة لمن لم يقصد إفهامه، وسيأتي الإشارة إليها.

[3] هذا هو الدليل القطعي على حجية الظواهر للألفاظ، وهو مركب من أمرين:

1- استقرار سيرة العقلاء على العمل بالظواهر.

2- عدم ردع الشارع عن هذه السيرة قطعاً؛ لعدم وجود ردع لفظي، ولا ردع عملي باختراع طريقة جديدة في المحاورات.

[4] هذا دليل القطع بعدم الردع.

ص: 314

والظاهر[1] أن سيرتهم على اتباعها من غير تقييد بإفادتها للظن فعلاً[2]، ولا بعدم الظن كذلك[3] على خلافها قطعاً؛ ضرورة[4] أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظن بالوفاق ولا بوجود الظن بالخلاف.

كما أن الظاهر[5] عدم اختصاص ذلك[6] بمن قصد إفهامه، ولذا[7] لا يسمع

-----------------------------------------------------------------

التفصيل الأول وردّه

[1] حيث إن البعض اختار حجية الظواهر بشرط إفادتها الظن الشخصي بمراد المتكلّم.

واختار الآخر الحجية بشرط عدم الظن على خلاف الظواهر، وقد نسب الشيخ الأعظم هذين القولين إلى بعض معاصريه(1).

وكلا القولين محل تأمل، بل سيرة العقلاء على حجية الظواهر للألفاظ مطلقاً، سواء أفادت الظن أم لا، وسواء كان ظن بخلافها أم لا.

[2] أي: الظن الشخصي، بل يكفي الظن النوعي بتلك الظواهر وإن لم يظن السامع في مورد من الموارد.

[3] أي: فعلاً، بمعنى الظن الشخصي.

[4] دليل عدم تقييد الحجية بالظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف.

التفصيل الثاني وردّه

[5] نسب إلى المحقق القمي(2)

التفصيل في الحجية، بين من قصد إفهامه بالكلام فالظاهر حجة له، وبين من لم يقصد إفهامه فالظاهر غير حجة له.

[6] أي: اتباع العقلاء للظواهر.

[7] استدل المصنف على حجية الظواهر حتى لمن لم يقصد إفهامه بأمرين، يكتشف منهما الحجية لدى العقلاء مطلقاً:

ص: 315


1- فرائد الأصول 1: 170.
2- قوانين الأصول 1: 398.

اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمه أو يخصه[1]، ويصح به[2] الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به[3] صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه فضلاً عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك[4]

-----------------------------------------------------------------

الأول: عدم قبول عذر من لم يقصد إفهامه لو خالف، مثلاً: لو خاطب الملك وزيره وأمره بأمر وكان ذلك الأمر عاماً لجميع العبيد، أو خاصاً بأحدهم، فلو خالف العبد فإنه لا يقبل عذره بأنه لم يكن مخاطباً، وقد قصد المولى إفهام غيره لا هو.

الثاني: صحة الاستناد إلى الكلام ولو ممن لم يقصد إفهامه، بل حتى لو قصد عدم إفهامه، كما لو أقرّ المنكر في مجلس خاص، وسمعه أحدهم صدفة، وحتى لو كان المنكر يحاول إخفاء الإقرار عنه فهمس لكن سمعه الشخص، فإنه يصح الاستناد إلى هذا الإقرار والشهادة عليه.

ومن ذلك يكشف أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقاً حتى لمن لم يقصد إفهامه، وحتى إذا قصد عدم إفهامه.

[1] أي: يعم من لم يقصد إفهامه، أو يخصّه، كما لو أمر المولى أحد العبيد بأمر عام لكلهم، أو أمره بأن يوصل طلب المولى إلى أحدهم، فلو سمع العبد المأمور هذا الأمر صدفة فإنه يجب عليه الامتثال، ولا يصح له الاعتذار.

[2] أي: بظاهر الكلام، وهذا هو الدليل الثاني.

[3] أي: بصحة الاحتجاج، «من سمعه» أي: سمع الإقرار.

التفصيل الثالث وردّه بين الكتاب الكريم وبين غيره من الظواهر

اشارة

[4] أي: في حجية ظواهر الألفاظ.

ص: 316

بين الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، والأئمة الطاهرين. وإن ذهب بعض الأصحاب(1) إلى عدم حجية ظاهر الكتاب.

إما بدعوى[1] اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله[2] ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة[3] وقتادة[4] عن الفتوى به.

-----------------------------------------------------------------

الدليل الأول

[1] هذا دليلهم الأول، وحاصله: هو عدم وجود ظاهر للكتاب؛ لأن فهم القرآن مختص بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنهم المخاطبون به لا غيرهم، واستدل لذلك ببعض الروايات.

[2] وهم الراسخون في العلم، أي: الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[3] فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال لأبي حنيفة: (أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال: فبِمَ تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيّه!! قال: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم!! قال: يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً!! ويلك، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً...)(2)،

الحديث.

[4] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال لقتادة: (بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم... إلى أن قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به)(3).

ص: 317


1- الفوائد المدنية: 178؛ الدرر النجفية: 34.
2- وسائل الشيعة 27: 47.
3- الكافي 8: 311.

أو بدعوى[1] أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين(1) العالمين بتأويله[2]، كيف[3]! ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل[4] إلاّ الأوحدي من الأفاضل؟ فما ظنك بكلامه تعالى مع إشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء[5].

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثاني

[1] حاصلها: إنه ليس للقرآن ظاهر؛ إذ هو يتضمن مضامين عالية ومطالب غامضة، لا يمكن الوصول إليها إلاّ بواسطة الراسخين في العلم.

ويشهد لذلك أن كتب العلماء - مع أنها تشتمل على قليل من المطالب العميقة - لا يفهمها إلاّ القليل من الفضلاء، مع أن مضامينها لا تقاس بمضامين القرآن الكريم.

فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن)(2).

[2] كما قال تعالى: {وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ}(3) والراسخون هم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (فرسول الله أفضل الراسخين، قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله مُنزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه...)(4).

[3] أي: كيف يصل أفكار غير الراسخين إلى القرآن، والحال أنه لا يكاد... الخ.

[4] أي: كتب المتقدمين، أو الأوائل في كل علم وهم علماء ذلك العلم.

[5] قال تعالى: {مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ}(5) وقال سبحانه: {وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ

ص: 318


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير الراسخين».
2- وسائل الشيعة 27: 203.
3- سورة آل عمران، الآية: 7.
4- تفسير العياشي 1: 164.
5- سورة الأنعام، الآية: 38.

أو بدعوى[1] شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر[2]، لا أقل من احتمال شموله[3] لتشابه[4] المتشابه وإجماله.

أو بدعوى[5] أنه وإن لم يكن منه[6] ذاتاً، أنه صار منه عرضاً، للعلم الإجمالي

-----------------------------------------------------------------

ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ}(1).

الدليل الثالث

[1] حاصلها: إن للقرآن ظاهراً، ولكنّا مُنعنا عن العمل به؛ وذلك لأن (الظاهر) من المتشابه، وقد نهينا عن اتباع المتشابه، قال تعالى: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ}(2). لا أقل من احتمال أن يكون (الظاهر) من (المتشابه) فلابد من الاحتياط؛ للعلم الإجمالي بالنهي عن المتشابه، وهو موجود بين آيات القرآن، ولعلّ الظاهر منها.

[2] متعلق ب- (شمول) أي: المتشابه يشمل الظاهر كما يشمل المُجمل.

[3] وهذا الاحتمال منجز، لما ذكرنا من العلم الإجمالي.

[4] هذا وجه الاحتمال، فإن معنى (المتشابه) غير معلوم، فهل هو يشمل الظاهر أم لا؟ و«إجماله» عطف تفسيري (للمتشابه).

الدليل الرابع

[5] حاصلها: إن القرآن ليس له ظهور؛ لكثرة التخصيص والتقييد والمجاز ونحوها مما أزالت الظهور في كثير من الآيات، وهذه الآيات غير معلومة بالتفصيل، بل هي ضمن الظواهر؛ وذلك مما يسقط الظهور رأساً؛ وذلك لعدم جريان الأصول العقلائية التي تعيّن المراد - ومنها أصالة الظهور - في أطراف العلم الإجمالي.

[7] أي: أن الظاهر وإن لم يكن من المتشابه بالذات لكنه صار من المتشابه بالعرض.

ص: 319


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.

بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر[1].

أو بدعوى[2] شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل[3] الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

ولا يخفى: أن النزاع يختلف صغروياً وكبروياً[4] بحسب الوجوه. فبحسب[5] غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً. وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، ويكون[6] المنع عن الظاهر، إما لأنه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً[7]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كما هو واضح.

الدليل الخامس

[2] حاصلها: إن الآيات لها ظهور، لكن الروايات المانعة عن التفسير بالرأي منعت عن التمسك بهذا الظهور، قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي...)(1).

[3] أي: تلك الأخبار شاملة لحمل الظاهر في معنى على ذلك المعنى، فإذا قلنا: إنّ الله أراد من ذلك اللفظ ذلك المعنى كان هذا تفسيراً بالرأي.

[4] يقال: (هذا الظاهر) و(كل ظاهر حجة)، فالنزاع الصغروي هو في إنكار الظهور، والنزاع الكبروي هو عدم قبول (كل ظاهر حجة)، خلافاً لما يظهر من الشيخ الأعظم حيث جعل النزاع صغروياً مطلقاً.

[5] كما بيناه في أول كل وجه من هذه الأدلة الخمسة.

[6] عطف تفسيري، أي: النزاع الكبروي هو منع البعض عن العمل بالظاهر مع تسليم ظهوره.

[7] كما هو الوجه الثالث، فإن المتشابه له ظهور، لكن منعنا من العمل به، مثل: {وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ}(2) لها ظهور، لكن ردعنا عن التمسك

ص: 320


1- وسائل الشيعة 27: 45.
2- سورة القيامة، الآية: 22 - 23.

أو لكون[1] حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكل هذه الدعاوى فاسدة:

أما الأولى: فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله، اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته[2]، بداهة[3] أن فيه ما لا يختص به[4]،

-----------------------------------------------------------------

به، بل لابد من التأويل.

[1] كما هو الوجه الخامس، فإنه يقرّ بوجود الظهور، لكن يدعي المنع عنه.

الإشكال على الدليل الأول

[2] وحاصل الإشكال على الدليل الأول في ثلاثة أوجه:

الأول: إن من القرآن ما يفهمه كل عارف باللسان، فالمراد بالأحاديث الدالة على اختصاص فهمه بأهله هو فهمه من كل الجهات.

الثاني: إن الردع إنما هو لعدم مراجعة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حيث يعلمون بالخاص والناسخ ونحوهما، فالممنوع هو (حسبنا كتاب الله)(1)،

أما بعد مراجعتهم وعدم وجدان ما يخالف الظواهر فلا إشكال في التمسك بالظواهر القرآنية.

الثالث: في كثير من الروايات إرجاع الرواة إلى القرآن ليستنبطوا منه، فلابد في الجمع بينهما وبين الروايات الرادعة؛ وذلك بحمل الرادعة على الردع من دون الرجوع إليهم، وحمل الآمرة على لزوم التمسك به بعد الرجوع إليهم وعدم وجدان ما يخالفه.

[3] إشارة إلى الوجه الأول من الإشكالات.

[4] أي: لا يختص بأهله، مثلاً: قوله تعالى: {قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}(2) يفهم ظاهره كل عارف باللسان.

ص: 321


1- الأمالي (للشيخ المفيد): 36؛ مناقب آل أبي طالب 1: 236.
2- سورة الإخلاص، الآية: 1.

كما لا يخفى؛ وردع[1] أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه[2] والفتوى به مع اليأس عن الظفر به[3]؛ كيف[4]! وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته[5].

وأما الثانية: فلأنّ[6] احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم

-----------------------------------------------------------------

[1] إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكالات.

[2] أي: عما ينافي الظاهر من تخصيص، أو تقييد، أو قرينة مجاز، أو تأويل، ونحوها.

[3] وهنا نقطة الافتراق، حيث إن الأخباريين يقولون بلزوم التوقف في ما لا تفسير فيه عن المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، والأصوليون قالوا بالعمل على حسب الظاهر الذي لا حديث فيه، مع اتفاق الطرفين على وجوب العمل على حسب تفسير المعصوم وإن خالف الظاهر.

[4] هذا الوجه الثالث من الإشكالات، أي: كيف لا يمكن الاستدلال بظاهر القرآن والحال أنه قد وقع... الخ؟

[5] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله، ما جعل عليكم في الدين من حرج)(1).

وكذا حديث الثقلين، والأحاديث الآمرة بعرض الروايات على القرآن(2)...

وغيرها.

الإشكال على الدليل الثاني

[6] حاصله: إن تلك المعاني الغامضة إنما هي في بطون القرآن، أما ظواهره فهي واضحة لدى كل أهل اللسان، مع أنها مشتملة على المضامين العالية أيضاً، بل

ص: 322


1- الكافي 3: 33.
2- المحاسن 1: 220.

ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها، كما هو محل الكلام.

أما الثالثة: فللمنع[1] عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر[2] كون المتشابه هو خصوص المجمل[3]، وليس[4] بمتشابه ومجمل.

وأما الرابعة: فلأنّ[5] العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر إنما يوجب

-----------------------------------------------------------------

هذا من معاجز القرآن، حيث يفهم ظاهره أهل اللسان مع علّو مضامينه، قال تعالى: {وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ}(1)، ولذا كان العرب الجاهليون الأمّيون ينحنون أمام عظمة القرآن، ولو لم يفهموا ظواهره لما كان ذلك، كما يشاهد بالنسبة إلى من لا يفهم العربية، حيث لا يفقه شيئاً ولا يتأثر.

الإشكال على الدليل الثالث

[1] حاصله: هو أن لفظ (المتشابه) نص في المجمل فقط ولا يشمل غيره، كما هو واضح لدى أهل اللسان، وأما الظاهر فليس من المتشابه قطعاً.

[2] أي: فإن من البديهي والواضح.

[3] أي: (المتشابه) نص في المجمل. ولا يخفى أن المصنف لا يريد الاستدلال بظهور لفظ المتشابه حتى يرد عليه إشكال الدور، بل يريد القول: إنه نص وليس ظاهراً.

[4] أي: ليس الظاهر بمتشابه، وقوله: (ومجمل) عطف تفسيري.

الإشكال على الدليل الرابع

[5] أجاب المصنف عن الدليل الرابع بأمرين:

الأول: إن هذا العلم الإجمالي ينحل بعد الفحص ووجدان الموارد التي ما أريد الظاهر منها، كالمخصصات والمقيدات والمجازات، فما علم بأن الظاهر غير مراد يؤخذ بالدليل المخصِّص أو المقيِّد ونحوهما، وفي غير تلك الموارد لا علم لنا ببقاء ظاهر مع عدم إرادته، فتجري أصالة إرادة الظاهر.

ص: 323


1- سورة القمر، الآية: 17 - 22 - 32 - 40.

الإجمال[1] في ما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار[2] المعلوم بالإجمال. مع[3] أن دعوى اختصاص أطرافه[4] بما إذا تفحص عما يخالفه[5] لظفر به، غير بعيدة، فتأمل جيداً.

وأما الخامسة[6]:

-----------------------------------------------------------------

كما لو سقطت قطرة دم في إناءين، ثم بعد الفحص تبين الإناء النجس، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بنجاسة أحدهما المعلوم، وشك بدوي في الآخر، فيكون مسرحاً لأصالة الطهارة.

[1] أي: إجمال الظواهر ودخولها في المتشابه، «إذا لم ينحل» أي: العلم الإجمالي.

[2] لأنه لو كان الظفر بأقل من المعلوم الإجمالي فإنه لا ينحل العلم، كما لو علم بنجاسة خمسة من عشرة آنية ثم تبين أربعة منها، فإن العلم الإجمالي في الستة يبقى بحاله. والباء في قوله: «بموارد» و«بمقدار» متعلّقه ب- (الظفر).

[3] هذا هو الجواب الثاني، وحاصله: إن العلم الإجمالي قد ينحل بشكل كامل، وقد ينحل في بعض الموارد. مثلاً: لو علم بنجاسة مجموعة من الأواني ضمن مقدار محصور فإنه يجب عليه اجتنابها كلها، فلو فحص في أحدها وتبين عدم نجاسته فإن العلم الإجمالي ينحل في هذا الواحد، ويبقى في الباقي على حاله.

وهنا في كل حكم وارد في القرآن الكريم لو فحصنا عن خلاف الظاهر فيه ولم نجده فإن العلم الإجمالي بالنسبة إلى تلك الآية ينحل حتى لو بقي في غيرها.

[4] أي: اختصاص وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

[5] أي: عما يخالف الظاهر في كل آية آية بانفرادها، «لظفر به» أي: بالمخالف.

الإشكال على الدليل الخامس

[6] أجاب المصنف عنها بثلاثة وجوه:

الأول: إن حمل اللفظ على ظاهره ليس من التفسير أصلاً.

ص: 324

فيمنع كون حمل الظاهر[1] على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع، ولا قناع للظاهر. ولو سلم[2] فليس من التفسير بالرأي، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني[3] الذي لا اعتبار به[4]، وإنما كان منه[5] حمل اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره[6]، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك

-----------------------------------------------------------------

الثاني: لو فرض أنه تفسير فليس تفسيراً بالرأي؛ لأن المراد من الرأي هو الذوق الذي لا دليل على اعتباره.

الثالث: لو فرض أنه تفسير بالرأي فإن الأدلة الآمرة بالتمسك بالقرآن تخصص الأدلة الناهية عن التفسير بالرأي؛ لأن الأدلة الناهية عامة، والأدلة الآمرة خاصة، وهذا مقتضى الجمع بحمل العام على الخاص.

[1] أي: حمل اللفظ الذي له ظهور على المعنى الذي كان ظاهراً من اللفظ، «فإنه» أي: فإن التفسير.

[2] هذا هو الجواب الثاني، أي: ولو سلّم أن من التفسير: حمل اللفظ على ظاهره.

[3] أي: الذوق الذي لا دليل عليه، وإنما هو حسب ميل الشخص، وهو لا يفيد أكثر من الظن.

[4] أي: الذي لا دليل عليه، أو الدليل على عدم حجيته.

[5] أي: من الرأي، حيث ذكر المصنف أن حمل اللفظ على الظاهر ليس تفسيراً بالرأي، ثم بيّن معنى الرأي، وهو حمل اللفظ على خلاف الظاهر، أو حمل المشتبه أو المشترك على أحد المعنيين من دون قرينة تعيّن المراد.

[6] أي: يحمل اللفظ على خلاف الظاهر؛ لأن ذوقه يقتضي ذلك المعنى، كتفسير بعضهم لقوله تعالى: {وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ}(1) بأن المراد الضرب في الأرض أي: السفر، مع أن هذا المعنى خلاف الظاهر جداً، بل غلط.

ص: 325


1- سورة النساء، الآية: 34.

الاعتبار، من دون السؤال عن الأوصياء، وفي بعض الأخبار[1] «إنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم»(1)

هذا.

مع[2] أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك[3] ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه[4] قضية التوفيق بينها وبين

-----------------------------------------------------------------

[1] استدلال بالحديث على أن معنى التفسير بالرأي هو حمل اللفظ المجمل على معنى من دون الرجوع إلى الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[2] هذا هو الجواب الثالث.

[3] «به» أي: بالرأي، «ذلك» أي: خلاف الظاهر، «ولو» وصلية.

والحاصل: إن هناك روايات متواترة آمرة بالتمسك بالقرآن، ولا معنى للتمسك إلاّ بالعمل بالظواهر؛ لندرة النص جداً، وهذه الروايات أخص من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي؛ لأنها - حسب الفرض - تشمل: حمل اللفظ على الظاهر، وحمل المتشابه على أحد معنييه من غير قرينة، وحمل اللفظ على خلاف الظاهر، فلابد من تخصيص العام؛ لأنه الطريق العرفي للجمع.

لا يقال: بينهما عموم من وجه؛ لأن الرواية الآمرة كما تشمل حمل اللفظ على الظاهر كذلك تشمل حمل اللفظ على النص.

فإنه يقال: حمل الروايات الآمرة على التمسك بالنص مساوق لإلغائها؛ وذلك لقلة النص جداً، بل قيل بعدم وجود النص في آيات الأحكام سوى بعض آيات الإرث من بعض الوجوه فقط.

[4] أي: إن حمل الروايات الناهية على ذلك، وهذا وجه الجواب الثالث، «بينها» أي: بين الروايات الناهية عن التفسير بالرأي.

ص: 326


1- وسائل الشيعة 27: 200، لكن لا توجد في النص كلمة (فيعرفونهم).

ما دل على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين[1]، وما دل على التمسك به[2] والعمل بما فيه[3]، وعرض الأخبار المتعارضة عليه[4]، وردَّ الشروط المخالفة له[5]، وغير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه، ضرورة[6] أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات

-----------------------------------------------------------------

[1] المتواتر بين الفريقين، بألفاظ متقاربة، فقد قال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1).

[2] أي: بالقرآن، كقول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة...)(2).

[3] كوصية أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(3).

[4] كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه...)(4).

[5] كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له...)(5).

[6] دليل على أن المراد والروايات الآمرة بالتمسك هو التمسك بظاهره؛ وذلك لندرة النصوص.

ص: 327


1- بصائر الدرجات: 412؛ دعائم الإسلام 1: 28؛ معاني الأخبار: 90؛ مسند أحمد بن حنبل 3: 14؛ سنن الدارمي 2: 432؛ صحيح مسلم 7: 123.
2- الكافي 2: 598.
3- نهج البلاغة، الرسائل: 47.
4- وسائل الشيعة 27: 118.
5- الكافي 5: 169.

أو الشروط[1] أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها[2]، ليست إلاّ ظاهرةً في معانيها، ليس فيها ما كان نصاً، كما لا يخفى.

ودعوى[3] العلم الإجمالي بوقوع التحريف[4] فيه بنحوٍ إما بإسقاط أو تصحيف[5] وإن كانت غير بعيدة[6]، كما يشهد به بعض الأخبار[7] ويساعده الاعتبار[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: تكون مرجعاً في باب الشروط حتى نعلم بموافقتها للكتاب أو مخالفتها.

[2] وهي آيات الأحكام.

ردّ التحريف في القرآن

[3] حاصل هذه الدعوى: إن وقوع التحريف في الكتاب يمنع عن التمسك به؛ إذ لا يعلم بموارد السِقط فيه، فلا يمكن الاعتماد على ظاهر ما تبقى!!

[4] «التحريف» هو التغيير، واتفقت الأمة على عدم وقوع الزيادة في القرآن، وأما النقيصة فلم يقع فيه أيضاً كما هو الحق والمشهور شهرة عظيمة، ولا يعبأ بروايات باطلة روت أكثرها العامة وروى بعضها بعض الأصحاب.

[5] «التصحيف» هو التغيير في اللفظ المؤدي إلى تغيير المعنى، كما في القراءات التي تخالف القراءة المشهورة المتواترة.

[6] بل بعيدة وباطلة.

[7] هذه الأخبار إما لا دلالة فيها، بل ناظرة إلى التفسير أو التأويل، وإما لها محمل صحيح لا يستلزم منه القول بالتحريف، وإما ضعيفة واهية يلوح منها آثار الوضع والاختلاق.

[8] منشأ هذا الاعتبار هو عدم التدبر في الآيات وخاصة لمن ليسوا من أهل اللسان، وإلاّ ففي غير المتشابهات المعاني واضحة ظاهرة، والربط والنظم أيضاً في غاية الوضوح.

ص: 328

إلاّ أنه[1] لا يمنع عن حجية ظواهره[2]، لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك[3] أصلاً. ولو سلم[4] فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام. والعلم[5] بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات، غير ضائر بحجية آياتها[6]، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] شروع في بيان وجه عدم إخلاله بالظواهر.

أولاً: لو فرض - محالاً - وقوعه فإن التحريف لا يخل بالظاهر، مثلاً: لو أمر المولى عبده بعشرة أوامر ولم يصل الأمر العاشر إليه، فإن ذلك لا يخل بظواهر الأوامر التسعة الأولى.

ثانياً: لو سُلّم إخلال التحريف بالظاهر فإن العلم الإجمالي بوقوعه غير منجز؛ وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يوجب الاحتياط لو كانت الأطراف كلها محلاً للابتلاء، أما لو كان بعضها خارجاً عن محل الابتلاء فلا يتنجز، كما لو علم بنجاسة إنائه أو إناء ملك الهند، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، وهنا آيات الأحكام هي محل الابتلاء، أما سائر الآيات فليس فيها حكم، بل هي مواعظ وإرشادات، وبذلك لا يُعلم أن التحريف - على فرضه محالاً - واقع في آيات الأحكام، بل يفرض فيها أو في غيرها، وبذلك يكون العلم الإجمالي غير منجز.

[2] أي: ظواهر القرآن، وهذا هو الجواب الأول.

[3] أي: في الظواهر، «بذلك» بالتحريف - المزعوم - .

[4] هذا هو الجواب الثاني، «بوقوعه» أي: التحريف - المزعوم - .

[5] بيان لعدم تنجز العلم الإجمالي بسبب خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، «بوقوعه» التحريف، «فيها» في آيات الأحكام.

[6] أي: آيات الأحكام.

[7] المقصود هو عدم ترتب تكليف على بقية الآيات؛ وذلك لأن الغرض منها الوعظ والإرشاد والتذكير ونحوها.

ص: 329

والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها[1] إذا كانت كلها حجة، وإلا[2] لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم[3].

نعم[4]، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره[5] بما اتصل به[6] لأخل بحجيته[7]، لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ، وإن انعقد له الظهور لو لا اتصاله[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: حجية الظواهر.

[2] بيان أن العلم الإجمالي بوجود خلل في الظواهر - حتى في ما لم تكن محلاً للابتلاء - لو كان مضراً بها للزم سقوط كل الظواهر عن الحجية؛ وذلك لأنا نعلم أن المتكلمين لا يريدون الظواهر في بعض الأحيان، وتخفى القرينة أو يحرّف كلامهم.

[3] لعله إشارة إلى أن الآيات كلها حجة وتستلزم تكليفاً، كالاعتقاد بها والاهتداء بضوئها والإخبار بمضامينها، ونحو ذلك.

أو إشارة إلى أنه لم يدع أحد وقوع التحريف في آيات الأحكام، بل كل ما ادعي في آيات الولاية والبراءة ونحوها.

[4] إشكال على الجواب الأول، وحاصله: إن التحريف لا يخلّ بالظاهر بشرط أن يكون في كلام مستقل، أما لو احتمل تحريف قرينة متصلة أو في الكلام المتصل فيضر بالظاهر، فلا ينعقد ظهور.

[5] أي: في ظاهر آيات الأحكام أو في غير هذا الظاهر من سائر الآيات؛ لأن احتمال سقوط كلام متصل - قد يكون قرينة أو يكون مغيراً للظهور - يمنع عن انعقاد الظهور، فلا ظهور حينئذٍ ليكون حجة.

[6] الباء متعلقة بالخلل، أي: الخلل بما اتصل بالظاهر.

[7] أي: بحجية ظاهر آيات الأحكام، «له» أي: للظاهر - لو لا الخلل - ، «حينئذٍ» أي: حين احتمال خلل في المتصل.

[8] أي: لو لا اتصال الظاهر بما يحتمل أن يغير المعنى - مثلاً - .

ص: 330

ثم إن التحقيق[1]

-----------------------------------------------------------------

اختلاف القراءات

[1] لا بأس بأن ننقل هنا ما ذكرناه في شرح أصول الكافي(1)

- في بحث البداء - :

قال الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) (2)،

فكل القراءات ليست قرآناً إلاّ القراءة المشهورة، التي عليها عامة المسلمين في كل العصور، وقد فصّل السيد الوالد (رضوان الله عليه) ذلك في كتاب الوصائل، فراجع(3).

وقراءتهم هي قراءة الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، التي رواها - كما هي - حفص، عن عاصم، عن عبدالله بن حبيب، عن علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال، فقال ربيعة: ضال؟ فقال: نعم، ضال، ثم قال أبو عبدالله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: أما نحن فنقرأ على قراءة أبي)(4)،

أي: قراءة أبيه الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ويمكن أن يريد أُبَيّ بن كعب، لأنه قرأ على نفس هذه القراءة المشهورة، ورواها أيضاً حفص عن عاصم عن عبدالله بن حبيب عن أُبي بن كعب.

والطريف أن القرائين المشهورة المتداولة في أيدي المسلمين هي على هذه القراءة بهذه الرواية، وهؤلاء الرواة كلهم من الشيعة الكوفيين، فحفص هو: حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي، عن عاصم بن أبي النجود الكوفي، عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السُلمي، وهو من خواص أصحاب أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، كما ذكره البرقي(5).

ص: 331


1- شرح أصول الكافي 2: 425.
2- الكافي 2: 630.
3- الوصائل إلى الرسائل 2: 232 - 236.
4- الكافي 2: 634.
5- الرجال (للبرقي): 5.

أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور[1] - مثل {يَطۡهُرۡنَۖ} بالتشديد والتخفيف[2] -

-----------------------------------------------------------------

ثم إن في القرائين المطبوعة ذكروا أن عبدالله بن حبيب روى هذه القراءة عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأُبَيّ بن كعب، قال بعض المطلعين: إن عبدالله بن حبيب لم يروها عن عثمان وإنما أقحموا اسمه إقحاماً.

ثم لا يخفى أن هذه هي القراءة الوحيدة المتواترة، ولا حاجة فيها إلى رواية حفص عن عاصم، وإنما تُذكر الرواية للتمييز بين هذه القراءة - الصحيحة - وبين سائر القراءات - التي كانت اجتهادات من القرّاء - وأيضاً للاحتجاج على العامة، حيث فيها إثبات أن الحافظ للقراءة المشهورة هم رجال الشيعة لا غير، بل بعض أصحاب الرجال من العامة ضعفوا بعض رجال هذه الرواية!! فعبد الله بن حبيب طعن فيه بعض الرواة - وأغلب الظن أنهم من العامة؛ لأنه كان من خواص علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - وكذا حفص بن سليمان ضعفه ابن حبان(1)!!

وإذا لم يأتمنوهم على رواية الأحاديث فكيف اعتمدوا عليهم في قراءة القرآن الكريم!!

[1] أي: مما يغيّر المعنى الظاهر.

[2] لأن يَطْهُرن بالتخفيف - كما هو القراءة المشهورة - يدل على حصول الطهارة ولو من غير اختيار، فيكون المعنى انقطاع الحيض، وأما يَطَّهَّرن بالتشديد فهو من باب التَفَعُّل مما يدل على الفعل الاختياري، فيكون المعنى الطهارة الصادرة بالاختيار، ولا يكون ذلك إلاّ بعد الغسل، قال تعالى: {وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ}(2).

لكن لا يخفى أن قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ} من باب التَفَعُّل بلا اختلاف في القراءات،

ص: 332


1- المجروحين 1: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 222.

يوجب[1] الإخلال بجواز التمسك والاستدلال[2]، لعدم إحراز ما هو القرآن[3]، ولم يثبت تواتر القراءات[4] ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها[5]، لكنه[6] مما لا أصل له، وإنما الثابت جواز القراءة بها[7]، ولا ملازمة

-----------------------------------------------------------------

فلا يعارضه مفهوم الغاية في قراءة التخفيف، كما أن التطهّر لا يختص بالغسل، فلعل المراد التطهر من الخبث، فتأمل.

[1] خبر إن، أي: إن التحقيق أن ذلك يوجب عدم جواز التمسك بأيّ منهما؛ وذلك لعدم معلومية القرآن الذي نزل على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأنه أي القراءتين؟!

[2] عطف تفسيري، أو «التمسك» في العمل، و«الاستدلال» في الفتوى.

[3] ل- «أن القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(1)

كما قال الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وعلى رأي المصنف لم يتضح لنا ذلك الواحد، فاختلط الحجة باللاحجة.

[4] عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، بل لو صح الادعاء فإنما هو تواتر إلى القراء السبعة أو العشرة، أما منهم إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فالمقطوع به عدم تواترها - إلاّ القراء المشهورة حسب ما بيّنا - .

[5] حسب علمي، فإن أول من ادعى تواترها هو الشهيد الثاني(2)، ولعله أخذه من العامة.

[6] أي: لكن النسبة إلى المشهور، أو لكن التواتر.

[7] كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (اقرأوا كما عُلّمتم)(3)،

ولعل المراد كما تعلمتم عند المعلمين في الكتاتيب، وهم كانوا يعلّمون حسب القراءات!! لكن ادعاء جواز القراءة بها أيضاً محل تأمل.

ص: 333


1- الكافي 2: 630.
2- رسائل الشهيد الثاني 1: 628.
3- الكافي 2: 631.

بينهما[1]، كما لا يخفى.

ولو فرض[2] جواز الاستدلال بها[3] فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها[4] بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى[5] بناءً على اعتبارها من باب الطريقية[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بين جواز القراءة وبين الاستدلال، فلعل جواز القراءة للتسهيل، ولطف من الله تعالى، وفي الحديث: (إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية)(1) وهذا الجواز لا يلازم جواز الاستدلال، وهو أمر واضح.

[2] في هذا رد على ما قاله الشيخ الأعظم(2)،

حيث ذهب إلى أنه لو جاز الاستدلال بالقراءتين فلابد من إعمال المرجحات الدلالية أو نحوها لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى.

والمصنف يستشكل عليه بأنه لا دليل على إعمال المرجحات؛ لأنها في موارد الأخبار المتعارضة؛ وذلك بالنص الخاص، فلا يجوز قياس سائر الأمارات المتعارضة على الخبرين المتعارضين، بل يلزم مراجعة الأصل في باب تعارض الأمارات، وهو التخيير بناءً على السببيّة، والتساقط بناءً على الطريقيّة.

[3] أي: بالقراءات.

[4] كما ذهب إليه الشيخ الأعظم، فإن الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط أو التخيير، وأما الترجيح فهو خاص بالأخبار، فلا يصح قياس سائر الأمارات على الأخبار، بل لابد من إعمال الأصل.

[5] وذلك لأن التعارض إنّما هو في المؤدى، وأما في غيره فلا تعارض فتبقى الحجية.

[6] أي: الكاشفية عن الواقع؛ وذلك لأن الواقع واحد، فلابد من خطأ إحدى الأمارتين قطعاً، وحيث لم تُعلم فلا طريق إلاّ التساقط، للتعارض الحاصل.

ص: 334


1- الكافي 2: 619.
2- فرائد الأصول 1: 157.

والتخيير بينها بناءً على السببية[1]، مع عدم دليل[2] على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلابد من الرجوع حينئذٍ[3] إلى الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات[4].

فصل[5]: قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام، فإن أحرز بالقطع وأن

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو قلنا بالمصلحة السلوكية، أي: إن اتباع الأمارة فيه مصلحة - مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع - فإن كلا الأمارتين لهما مصلحة سلوكية، فيكون من باب التزاحم، وفي هذا الباب لا طريق إلاّ التخيير.

[2] فإجراء حكم تعارض الروايات في سائر الأمارات قياس.

[3] أي: حين قلنا: إنّ الأمارات من باب الطريقية فتتساقط الأمارات، فلابد من تركهما والرجوع إلى دليل آخر، فإن كان دليل اجتهادي كالعموم أخذ به، وإن لم يكن دليل اجتهادي فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[4] مثلاً: في آية {يَطۡهُرۡنَۖ} بعد تعارض القراءتين يُرجع إلى عموم قوله: {نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ}(1)، ولو قيل بعدم جواز التمسك بهذا العموم فالمرجع استصحاب عدم جواز الوطء، أو استصحاب جوازه، حسب الاختلاف في استصحاب الجعل أو المجعول - كما سيأتي في التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب - .

فصل احتمال القرينة وكيفية إحراز الظهور

اشارة

[5] يبحث في هذا الفصل عن أربعة أمور:

الأول: لو احتمل وجود القرينة الصارفة للكلام عن ظهوره فالأصل العقلائي هو عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

ص: 335


1- سورة البقرة، الآية: 223.

المفهوم[1] منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا، فلا كلام.

وإلاّ[2]، فإن كان[3] لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أن الأصل عدمها[4]. لكن الظاهر أنه معه[5]

-----------------------------------------------------------------

الثاني: لو علم بوجود شيء لكن شك في كونه قرينة صارفة عن الظهور أم لا فبناء العقلاء على التوقف ومعاملته معاملة المجمل.

الثالث: لو لم يعلم المعنى الموضوع له أو المفهوم من اللفظ فلابد من إحراز المعنى، ولا يكفي الظن.

الرابع: لو نصّ اللغوي على المعنى فهل أنّ كلامه معتبر أم لا؟

[1] عطف تفسيري على القطع، أي: إن أحرز المفهوم - الظاهر - من الكلام إحرازاً بالجزم واليقين، «هو ذا» أي: المفهوم هو هذا المعنى.

[2] أي: لم يحرز الظاهر بالقطع فلابد من الرجوع إلى بناء العقلاء لنرى كيفية تعاملهم، وذلك لإمضاء الشارع لطريقتهم.

الأمر الأول احتمال وجود قرينة

[3] أي: «كان» عدم القطع بالظهور «قرينة» صارفة للفظ عن ذلك المعنى الظاهر فيه.

[4] المراد الأصل العقلائي، حيث لا يعتنون بهذا الاحتمال.

[5] أي: إن الشأن مع احتمال وجود القرينة.

المقصود هو الإشكال على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من أنه يُجري العقلاء أصالة عدم القرينة، ثم يجرون أصالة الظهور، والمصنف يرى أنهم يجرون أصالة الظهور من الأول بلا إجراء لأصالة عدم القرينة، والفرق أن إجراء أصالة عدم القرينة إنما يكون بعد الفحص، فعلى مقالة الشيخ يلزم الفحص ابتداءً، وعند اليأس تجري الأصالة، ومن ثم تجري أصالة الظهور، لكن على مبنى المصنف

ص: 336

يبنى على المعنى الذي لولاها[1] كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أنه يبنى عليه[2] بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم[3].

وإن كان[4] لاحتمال قرينية الموجود فهو[5]

-----------------------------------------------------------------

حيث لا يلزم إجراء أصالة عدم القرينة فلا يلزم الفحص، بل بمجرد سماع الكلام تجري أصالة الظهور.

[1] أي: لو لا القرينة، «فيه» في المعنى، «ابتداءً» من غير إجراء أصالة عدم القرينة.

[2] «أنه» للشأن، «عليه» على الظهور، «عدمها» أي: عدم القرينة، كما هو مبنى الشيخ الأعظم.

[3] لعله إشارة إلى أن العقلاء يجرون أصالة عدم القرينة ولا يحتاج إلى التفاتهم، بل إجراؤها في ارتكازهم؛ولذا لو شكوا فإنهم يفحصون عنها بالمقدار المتعارف، وكما قيل: (إنه لابد أولاً من إجراء أصالة عدم القرينة ليثبت موضوع أصالة الظهور، حتى تجري هي فيه)(1).

الأمر الثاني احتمال قرينية الموجود

[4] أي: إن كان عدم القطع بالظهور لأجل وجود شيءٍ يحتمل أن يكون قرينة، مثل: الاستثناء المتعقب لعدة جملات، كقوله: (أكرم العلماء والزهاد والعباد إلاّ الفساق)، حيث يحتمل رجوع الاستثناء إلى كل الجمل، فهل ينعقد ظهور في العموم في العلماء والزهاد أم لا؟

[5] أي: يختلف الحكم حسب اختلاف المباني:

1- فإن قلنا: إنّ حجية أصالة الحقيقة لا ترتبط بأصالة الظهور، وإنما هي أصل

ص: 337


1- منتهى الدراية 4: 325.

وإن لم يكن بخالٍ عن الإشكال[1] - بناءً على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد[2] - ، إلاّ أن الظاهر[3] أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان[4] لأجل الشك في ما هو الموضوع له لغةً، أو المفهوم منه عرفاً[5]،

-----------------------------------------------------------------

عقلائي يجرونه - سواء كان ظهور أم لم يكن - فإن الموجود المحتمل كونه قرينة وإن أخلّ بالظهور لكنه لا يخل بالمعنى الحقيقي، فلابد من إجراء أصالة الحقيقة، وحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

2- وإن قلنا: إن أصالة الحقيقة هي مصداق من مصاديق أصالة الظهور، والعقلاء إنما يحملون اللفظ على معناه الحقيقي لأجل ظهوره فيه - كما هو الصحيح - فحينئذٍ لا ظهور مع احتمال قرينية الموجود، فلا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

[1] في العبارة خلل؛ لأنه لا إشكال بناء على التعبد، والصحيح هو ما في بعض النسخ (وإن لم يكن مجال للإشكال).

[2] أي: بناء عقلائي لا يرتبط بأصل آخر - كأصالة الظهور - .

[3] أي: إلاّ أن الصحيح هو أن أصالة الحقيقة هي من مصاديق أصالة الظهور، «فيعامل معه» أي: مع الكلام المحفوف بما يحتمل أن يكون قرينة.

الأمر الثالث عدم كفاية الظن في الظهور

[4] أي: وإن كان عدم القطع بالظهور.

[5] مثال اللغة: الشك في معنى لفظ الصعيد، هل هو مطلق وجه الأرض أم خصوص التراب؟

ومثال العرف: الشك في معنى الدابة في قوله: (و ينزح لموت الدابة سبعين دلواً) هل المتفاهم العرفي منها خصوص الحمار أو يشمل الفرس أيضاً، مع وضوح المعنى اللغوي وهو مطلق الحيوان، كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ

ص: 338

فالأصل[1] يقتضي عدم حجية الظن فيه[2]، فإنه ظن في أنه[3] ظاهر، ولا دليل إلاّ على حجية الظواهر.

نعم[4]، نسب إلى المشهور(1)

حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع[5].

واستدل لهم[6]

-----------------------------------------------------------------

رِزۡقُهَا}(2)، مع العلم بأن المعنى اللغوي ليس مراداً في منزوحات البئر، بل المراد خصوص المتفاهم العرفي.

[1] للشك في حجية الظن، وقد مرّ أن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية، بل دلت الأدلة على النهي عن اتباع الظن - كما سيأتي - .

[2] أي: في الظهور غير المقطوع به.

[3] أي: فإن هذا الظن هو ظن في أن اللفظ ظاهر في المعنى، ولا بناء للعقلاء إلاّ على حجية الظواهر المقطوع بها، لا الظواهر المظنون بها.

الأمر الرابع عدم حجية كلام اللغوي

اشارة

[4] أي: ادّعي حجية الظن بالظهور إذا كان من قول اللغوي؛ وذلك للدليل الخاص، فيكون كلام اللغوي من الظنون الخاصة المستثناة من أصالة عدم حجية الظن.

[5] أي: في بيان المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ.

[6] أي: للمشهور بأربعة أدلة:

الأول: سيرة العقلاء. الثاني: إجماع العلماء. الثالث: إن اللغوي أهل خبرة في المعاني الحقيقية، وبناء العقلاء على الرجوع إلى أهل خبرة كل أمر. الرابع: الانسداد.

ص: 339


1- فرائد الأصول 1: 173.
2- سورة هود، الآية: 6.

باتفاق العلماء، بل العقلاء[1] على ذلك[2]، حيث لا يزالون[3] يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج. وعن بعض دعوى الإجماع[4] على ذلك(1).

وفيه[5]: إن الاتفاق - لو سلم اتفاقه[6] -

-----------------------------------------------------------------

الدليل الأول والثاني

[1] هذا الدليل الأول، وحاصله: إنّ السيرة العملية للعقلاء والعلماء قائمة على الرجوع إلى اللغويين، بل التسليم بما قالوه - ولو كان الموقف موقف لجاج وعناد - .

[2] أي: على حجية قول اللغوي.

[3] بيان لاستمرار هذه السيرة، فلا نحتاج إلى دليل لإثباتها، بل كل من راجع العقلاء يجد ديدنهم ذلك.

[4] هذا الدليل الثاني، والفرق بين هذا وبين الأول: هو أن هذا اتفاق بالقول، وذاك اتفاق بالعمل.

[5] جواب عن الدليلين: أما الأول، فيرد عليه:

1- إن السيرة العملية غير موجودة.

2- وعلى فرض وجودها فغير مفيدة؛ لعدم اتصالها بزمان المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فإن سيرة العقلاء تحتاج إلى إمضاء، فإن كانت في زمان المعصوم ولم يردع عنها كشف عن إمضائه لها، لكن الرجوع إلى كتب اللغة لم يكن في زمانهم إلاّ نادراً، بل حدث بعد زمانهم، فهذه السيرة غير متصلة فلا حجية فيها.

3- إن لهذه السيرة قدراً متيقناً، فلا يمكن التمسك إلاّ بذلك المقدار.

[6] إشارة إلى الجوابين الأول والثاني، فأولاً: لا نسلم «اتفاقه» أي: حصوله، وثانياً: على فرض حصوله فغير مفيد.

ص: 340


1- فرائد الأصول 1: 174، حيث ذكر الشيخ أنه حكي عن السيد المرتضى دعوى الإجماع على ذلك.

فغير مفيد، مع أن المتيقن منه[1] هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة[2]. والإجماع[3] المحصل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة مما احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجل - لو لا الكل[4] - هو اعتقاد أنه[5] مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة في

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: من اتفاق العقلاء والعلماء، وهذا الجواب الثالث، «إليه» أي: إلى قول اللغوي.

[2] لأن كلامه شهادة، ولا تقبل الشهادة إلاّ إذا كان شاهدان اثنان، مع عدالتهما.

ولا يخفى أن هذا في اتفاق العلماء، أما العقلاء فلا يشترطون العدالة، بل الوثاقة.

[3] هذا جواب عن الدليل الثاني، وحاصله: إن الإجماع المحصل غير موجود هنا؛ لعدم إمكان التحقق من آراء أكثر العلماء في هذه المسألة؛ لعدم تعرضهم لبحثها.

وأما الإجماع المنقول فإنه وإن كان حجة في الجملة - كما سيأتي - لكن لا حجية له هنا؛ لعدم كشفه عن قول المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؛ لأن المسألة من مقدمات الحكم الشرعي وليست هي حكماً شرعياً؛ ولأن هذا الإجماع محتمل الاستناد، وهذا النوع من الإجماع ليس بحجة - حتى لو كان محصّلاً - .

الدليل الثالث

[4] دخول في بيان الدليل الثالث، وحاصله: إن الأكثر أو الكل اتفقوا على الرجوع إلى أهل الخبرة من كل فن، واللغوي هو أهل الخبرة بالمعاني الحقيقية، فلابد من الرجوع إليه لمعرفة الأوضاع.

[5] أن الرجوع إلى اللغوي، «مما» أي: من مصاديق ما اتفق عليه العقلاء، وقوله: «من الرجوع» بيان ل- (ما).

ص: 341

ما اختص بها[1]. والمتيقن[2] من ذلك[3] إنما هو[4] في ما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل[5] لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك[6]، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همّه ضبط موارده[7]، لا تعيين أن أياً منها كان اللفظ فيه حقيقةً، أو مجازاً، وإلاّ[8] لوضعوا لذلك علامة. وليس[9] ذكره أولاً علامة كون اللفظ حقيقة

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الرجوع ينحصر في اختصاصه لا في غيره.

[2] حاصل الجواب من وجهين:

الأول: كبروي، أي: رجوع العقلاء لأهل الخبرة والعمل بما قالوا إنّما هو في صورة اطمئنانهم بكلامهم، ومع الشك لا يعملون، بل يراجعون آخرين إلى حد الاطمئنان، فإذا شك المريض بكلام الطبيب فإنه يراجع طبيباً آخر - مثلاً - .

والثاني: صغروى، أي: إنكار كون اللغوي أهل خبرة الأوضاع، بل هو أهل خبرة موارد الاستعمال، وهي أعم من الحقيقة، فلا يثبت بكلامه المعنى الحقيقي.

[3] أي: من الرجوع إلى أهل الخبرة.

[4] بيان للجواب الأول الكبروي.

[5] بيان للجواب الثاني الصغروي.

[6] أي: الأوضاع، وهي المعاني الحقيقية، بل اللغوي خبير بموارد الاستعمال التي قد تكون بالمعنى الحقيقي، وقد تكون بالمعنى المجازي؛ ولذا قالوا: (الاستعمال أعم من الحقيقة).

[7] أي: اهتمام اللغوي بتسجيل موارد الاستعمال.

[8] أي: لو كان يريد اللغوي تعيين المعنى الحقيقي من المجازي للزم عليه أن يضع علامة لتمييز الحقيقي من غيره، وحيث لم يفعلوا ذلك علمنا أن همَّهم هو ضبط موارد الاستعمال.

[9] دفع إشكال، وحاصل الإشكال: إن علامة الحقيقة هي الذكر أولاً، فكل

ص: 342

فيه، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة[1] إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني[2] غالباً بحيث[3] يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه وإن كان المعنى معلوماً في الجملة - لا يوجب[4]

-----------------------------------------------------------------

ما ذكر أولاً هو المعنى الحقيقي، وغيره المعنى المجازي.

والدفع: هو أنه في المشترك اللفظي المعنى الثاني أيضاً حقيقي، فليس كل ثانٍ مجازي، ولا كل أول حقيقي.

الدليل الرابع

[1] هذا دليل رابع أقاموه لحجية قول اللغوي، وحاصله: إن باب العلم والعلمي لمعرفة المعاني الحقيقية منسدّ في اللغة، وحين الانسداد يصبح الظن بسبب قول اللغوي حجة؛ وذلك لكثرة الحاجة إليه بلا طريق علم أو علمي!!

[2] أصل المعنى معلوم لدى أهل اللسان، لكن حدود المعنى كثيراً ما هي غير معلومة، حتى في المعاني الواضحة لدى الكل، مثلاً: الماء مع بديهية معناه لكن حدوده غير معلومة؛ فلذا حصل الشك في المياه الزاجية والكبريتية في أنها ماء مطلق أم لا؟ وهنا لا طريق إلاّ مراجعة أهل اللغة.

[3] بيان للتفاصيل، أي: انسد باب معرفة التفاصيل حتى لا يبقى مصداق مشكوك، فلا نعلم كثيراً أن الفرد المشكوك هل هو داخل في المعنى ومن مصاديقه، أم خارج من المعنى وليس من مصاديقه!!

[4] «لا يوجب» خبر قوله: (وكون موارد...)، وقد أجاب المصنف عن هذا الدليل بأمرين:

الأول: إن مقدمات دليل الانسداد تقتضي حجية الظن في الأحكام الشرعية، لا غيرها، وقول اللغوي ليس في الأحكام، بل في المبادئ، فلم تتم المقدمة الثانية.

ص: 343

اعتبار قوله ما دام[1] انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى؛ ومع[2] الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظن - من باب حجية مطلق الظن[3]، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها في ما عدا المورد.

-----------------------------------------------------------------

كما أن من المقدمات هو لزوم العسر والحرج لو لم يعمل بالظن واحتاط في تلك الموارد، ولا عسر ولا حرج في عدم العمل بكلام اللغوي، فلم تتم المقدمة الرابعة.

كما أن من المقدمات أن إجراء البراءة يستلزم الخروج عن الدين، وترك أكثر التكاليف، وعدم العمل بكلام اللغوي لا يستلزم ذلك، فلم تتم المقدمة الثالثة. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل مقدمات الانسداد.

الثاني: إن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية يوجب حجية مطلق الظن، حتى لو انفتح العلم في سائر العلوم، فلو فرضنا انفتاح باب العلم باللغات، وكان باب العلم بالأحكام الشرعية منسد، فلو شككنا في معنى كلمة وتوقف على معرفتها حكم شرعي، فإنه لنا مراجعة اللغوي والعمل بكلامه - إن أفاد الظن - ولو لم يكن باب العلم في الأحكام الشرعية منسداً فلا يجوز العمل بقول اللغوي، حتى لو فرض انسداد باب العلم في اللغات.

والحاصل: إن هذا الدليل أعم من المدعى من وجه وأخص منه من وجه، فقد يلزم العمل بقول اللغوي حتى في صورة انفتاح باب العلم باللغات، كما ذكرنا في الجواب الثاني، وقد لا يجوز العمل بقوله حتى في صورة انسداد باب العلم باللغات، كما ذكرنا في الجواب الأول.

[1] إشارة إلى الجواب الأول.

[2] إشارة إلى الجواب الثاني. «قوله» أي: قول اللغوي.

[3] إن هنا إشكالاً ثالثاً مطوياً في كلام المصنف، وحاصله: إن الانسداد لا يوجب حجية قول اللغوي بشكل مطلق، بل يوجبه لو أفاد الظن.

ص: 344

نعم[1]، لو كان هناك دليل على اعتباره[2] لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له[3] على نحو الحكمة، لا العلة.

لا يقال[4]: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو فرض وجود دليل خاص على حجية قول اللغوي فإن سبب جعل الحجية هو الانسداد، وعدم التمكن من تحصيل العلم، كما لعله يقال مثل ذلك في سائر الأمارات بأن الحجية إنما جعلت لها لعدم التمكن من العلم.

لكن الانسداد ليس بنحو العلّة - كي يدور الحكم مدارها ثبوتاً وعدماً - بل بنحو الحكمة، وهي تكون منشأ لتشريع الحكم، لكن لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: (المشهور كونه من الظنون الخاصة التي ثبتت حجيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، وإن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها)(1)،

انتهى.

[2] أي: دليل خاص على اعتبار قول اللغوي.

[3] أي: للاعتبار.

[4] حاصله: هو أن من الواضحات هو رجوع العقلاء والعلماء إلى اللغويين، فكيف لا تكون حجة؟

[5] إن فائدة كتب اللغة لا تنحصر في الحجية، بل لها فوائد أخرى:

منها: أن مراجعتها قد توجب القطع بالمعنى الموضوع له - كما يحدث كثيراً - فالقطع يكون حجة، وطريق تحصيله كتب اللغة.

ومنها: إنها قد توجب القطع بالظهور، فإن المعاني المتعددة المذكورة في اللغة قد يقطع الإنسان بظهور الكلام في أحدها - مع قطع النظر عن كونه معنى موضوعاً له أم مجازاً - .

ص: 345


1- فرائد الأصول 1: 173.

مع هذا[1] لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنىً بعد الظفر به وبغيره[2] في اللغة. وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه[3] أو مجاز، كما اتفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

فصل: الإجماع المنقول[4] بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص[5]، من جهة أنه من أفراده[6]، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع عدم حجية كلام اللغوي، «إليها» أي: إلى اللغة، «فإنه» أي: فإن الرجوع.

[2] أي: بالمعنى وبغير ذلك المعنى، فإنه كثيراً ما توجد كلمة في كلام ومعناها غير واضح، ولكن مع الاطلاع على معانيها نقطع أن أحد تلك المعاني هو المناسب للكلام ولسياقه، فنقطع بظهور الكلام في ذلك المعنى.

[3] أي: لم يقطع بأن اللفظ حقيقة في ذلك المعنى أم مجاز، وليس ذلك بمهم؛ لأن المهم معرفة الظهور.

فصل الإجماع المنقول

اشارة

[4] الغرض من عقد هذا الفصل هو بيان أن الإجماع المنقول هل هو من مصاديق الخبر الواحد؟ فإن قلنا بحجية أخبار الآحاد فهل يكون هو منها أم لا؟ وكان الأولى تأخير هذا البحث عن بحث حجية الخبر الواحد.

[5] أي: من باب الظن الخاص، لا الظن المطلق - الانسدادي - .

[6] أي: من جهة أن الإجماع المنقول من أفراد الخبر الواحد، «عليه» أي: على الإجماع المنقول.

ص: 346

فلابد في اعتباره[1] من شمول أدلة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:

الأول[2]: إن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ومستند القطع[3] به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه[4] بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً، أو قطعه[5] باستلزام ما يحكيه

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لابد في اعتبار الإجماع المنقول من شمول أدلة اعتبار الخبر الواحد، «له» أي: للإجماع المنقول، ولا فرق في هذا الشمول في كونه بنحو العموم إن كانت تلك الأدلة عامة، أو بنحو الإطلاق إن كانت مطلقة.

الأمر الأول

في الإجماع المحصل

[2] في معرفة معنى الإجماع المحصَّل، حتى يتضح أن النقل تعلق بأي شيء.

[3] أي: سبب القطع بقول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أحد أمور:

الأول: الإجماع التضمني أو الدخولي، وهو العلم بدخول الإمام ضمن المُجمعين.

الثاني: الإجماع اللطفي، وهو القطع بأن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يرى هذا الرأي عن طريق قاعدة اللطف، فإن اللطف - أي: البِرّ - واجب على الإمام، فلا يترك الأمة كلها في ضلال ولو في مسألة واحدة.

الثالث: الإجماع الحدسي، أي: الحدس القطعي بأن الإمام يقول بما يقول به المجمعون، وهذا الحدس قد يحصل عادة وقد يحصل اتفاقاً.

الرابع: الإجماع التشرفي، وهو السماع من المعصوم مباشرة، ولكن دواعي الإخفاء سبّبت عدم التصريح بذلك.

[4] هذا المستند الأول، «علمه» أي: علم حاكي الإجماع.

[5] هذا المستند الثاني، «قطعه» أي: قطع الحاكي.

ص: 347

لرأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عقلاً من باب اللطف[1]، أو عادةً[2]، أو اتفاقاً[3] من جهة حدس رأيه وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادةً[4]، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، حيث إنهم[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] اللطف هنا بمعنى البِرّ، وقاعدة اللطف تعني أن البِرّ بالعباد كما أوجب إرسال الرسل وإنزال الكتب، كذلك يوجب منع اجتماعهم على الباطل، بإيجاد اختلاف فيهم؛ ليكون حكم الله معمولاً به ولو من البعض.

[2] هذا القسم الأول من المستند الثالث، وهو الحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، بحيث يكتشف من رأيهم قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عادة، كما لو رأينا تلاميذ عالم كلهم يذهبون إلى رأي حدسنا حدساً قطعياً بأن العالم كان يرى ذلك الرأي أيضاً.

[3] هذا القسم الثاني من المستند الثالث، وهو الحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، بحيث يكتشف من رأيهم قوله اتفاقاً لا عادة؛ وذلك لخصوصية المورد.

ولا يخفى أن المستند الثاني وهو اللطف والمستند الثالث - بقسميه - كلها توجب الحدس القطعي بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لذا عطف «أو عادة أو اتفاقاً» على قوله: (عقلاً).

لكن منشأ الحدس يختلف، فتارة: هو حكم العقل من باب اللطف فهذا هو المستند الثاني، وتارة: التلازم العادي، وهذا هو القسم الأول من المستند الثالث، وتارة: الصدفة، وهذا هو القسم الثاني من المستند الثالث.

[4] في الوصول: (ولا منافاة بين الحدس عادة وعدم الملازمة عادة؛ إذ التلازم وليد عِلّية أو اشتراك في العِلّية، ولا نريد أن نقول بِعلّية قول الإمام للإجماع، ولا كونهما معلولين لعلة ثالثة، وإنما نريد أن نقول: إن عادة الناس جرت باستكشاف رأي الإمام من رأي المجمعين حدساً كما لا يخفى)(1)،

انتهى.

[5] شروع في بيان طريقة معرفة مستند المجمعين في دعواهم الإجماع. فمن لا يعتقد بالملازمة العقلية ولا العادية ولا يعتقد بدخول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين، ومع

ص: 348


1- الوصول إلى كفاية الأصول 3: 440.

مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية[1] ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً.

كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف[2] بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وممن اعتذر عنه بانقراض عصره[3]، أنه استند إلى قاعدة اللطف. هذا مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك[4]، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

-----------------------------------------------------------------

ذلك يدعي الإجماع، فذلك يكشف عن أنه يرى المستند الثالث - بقسمه الثاني - حيث ينحصر المستند في هذه الثلاثة - غالباً - فإذا انتفى اثنان انحصر في الثالث.

[1] التي مستندها قاعدة اللطف، «ولا الملازمة العادية» التي مستندها الحدس عادة برأي الإمام مع عدم وجوبه عقلاً، «وعدم العلم بدخول جنابه» الذي هو الإجماع الدخولي المتضمن لدخول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[2] أي: أجاب عن إشكال أنه كيف تدعي الإجماع مع مخالفة فلان وفلان؟ وكان جوابه: إن المخالف معروف، فهذا الجواب يكشف عن أنه قائل بالإجماع الدخولي؛ إذ مع وجود المخالف لا يلزم اللطف - على مبنى القائل بوجوبه عقلاً -، وكذا لا حدس برأي المعصوم، فلم يبق إلاّ الإجماع الدخولي.

[3] أي: أجاب عن إشكال وجود المخالف بأن خلافه لا يضر بالإجماع لعدم وجود مخالف حالاً، وهذا الجواب يكشف عن أن مستنده قاعدة اللطف؛ لأنها - على المبنى - تدل على وجوب اللطف على الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بحيث لا يدع الأمة كلها في مخالفة الواقع، وهذا الدليل يجري في كل عصر عصر، فلو انقرض عصر المخالف واتفق أهل العصر اللاحق على حكم فإن هذا الحكم لو كان خلاف الواقع كان عدم تدخّله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ خلاف اللطف.

[4] أي: تصريحهم بمستندهم من اللطف أو الحدس ونحوهما.

ص: 349

وربما يتفق[1] لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرفه برؤيته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وأخذه الفتوى من جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء[2].

الأمر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع[3]، فتارةً[4] ينقل رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في ضمن نقله حدساً[5] - كما هو الغالب - أو حساً[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] هذه صورة رابعة من ادعاء الإجماع وهو الإجماع التشرفي.

[2] مثل: أن لا يتخذ ذلك ذريعة لكي يدعي الكذابون أنهم رأوا الإمام وسمعوا منه الأحكام، فيكون ذريعة لتغيير الشريعة؛ ولذا ورد الأمر بتكذيب مدعي المشاهدة(1)، فتأمل.

الأمر الثاني

طريقة نقل الإجماع

[3] لنقل الإجماع طريقان:

1- فقد يكون نقلاً للمسبَّب - وهو رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - في ضمن نقل السبب، كأن يقول: أجمعت الأمة مما يكتشف منه قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وهذا تارة يكون نقل رأي الإمام بالحدس وهو الغالب، أو بالحس بأن سمع كلامهم ويعلم أن الإمام أحد المتكلمين، وهذا نادر جداً.

2- وقد يكون نقل السبب فقط، كأن يقول: أجمعوا، وفي رأيه هذا الإجماع حجة من باب اللطف أو الحدس العادي أو الحدس الاتفاقي.

[4] هذا هو نقل السبب والمسبّب معاً، «رأيه» أي: قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[5] أي: في ضمن نقل الإجماع، ونقل رأي الإمام يكون عن حدس، فهذا الناقل نقل الإجماع وفي ضمنه ينقل أنه يحدس برأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[6] أي: ينقل السبب وينقل في ضمنه رأي الإمام ولكن عن حس، مثل: أن

ص: 350


1- بحار الأنوار 52: 151.

- وهو نادر جداً -، وأخرى[1] لا ينقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً[2]. واختلاف[3] ألفاظ النقل أيضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً[4] في ذلك[5]، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.

الأمر الثالث: إنه[6]

-----------------------------------------------------------------

يكون سمع كلامه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - من دون معرفة شخصه - في ضمن كلام المجمعين. والظاهر عدم وقوع هذا النوع خارجاً.

[1] أي: وتارة أخرى، ينقل السبب - وهو الاتفاق - فقط من دون ذكر أن ذلك كاشف عن قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[2] أي: السبب عقلاً أو...، فإن الناقل حينما يدعي الإجماع فإنه يراه سبباً لكشف رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من غير تصريح بذلك، والسببيّة عند الناقل قد تكون عقلية باللطف، أو عادية بالحدس الدائم من غير لزوم عقلي، أو اتفاقية بالحدس أحياناً.

[3] عطف على قوله: (لا يخفى اختلاف نقل الإجماع).

[4] مثلاً لو قال: (اتفقت الأمة من عصر النبي إلى يومنا هذا) فهذا صريح في نقل السبب والمسبب، ولو قال: (اتفقت الأمة) كان ظاهراً في نقلها، ولو قال: (اتفق الأصحاب) كان ظاهراً في نقل السبب فقط، ولو قال: (أجمع العلماء) فلا يعلم أنه نقل للسبب فقط أو للسبب والمسبب كليهما.

[5] شرح المصنف مرجع الإشارة بقوله: (أي: إنه نقل السبب... الخ)، والمقصود أنه ليس هناك إجمال في ادعاء الإجماع وإنّما الإجمال في الكيفية.

الأمر الثالث

موارد حجية الإجماع المنقول

[6] بيان لموارد حجية الإجماع المنقول وموارد عدم حجيته وهي:

1- لو نقل السبب والمسبب عن حس لكن تحقق هذا موهون جداً، فلا تشمله

ص: 351

لا إشكال في حجية الإجماع المنقول بأدلة[1] حجية الخبر إذا[2] كان نقله متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل[3] بأن نقله كذلك[4] في زمان الغيبة موهون جداً.

وكذا[5] إذا لم يكن متضمناً له، بل كان ممحضاً لنقل السبب عن حس، إلاّ أنه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً[6]، فيعامل حينئذٍ مع المنقول

-----------------------------------------------------------------

أدلة حجية الخبر.

2- لو نقل السبب عن حس فقط فهو حجة لو كان المنقول إليه يراه سبباً.

3- لو نقل المسبب حدساً، لملازمة اعتقدها، ولم يعتقد المنقول إليه بتلك الملازمة، فلا حجية له.

4- لو اشتبه الأمر وأنه نقل السبب عن حس أو المسبب عن حدس فلا تبعد الحجية.

[1] «بأدلة» متعلق بقوله (حجية)، أي: لا يوجد دليل خاص على حجية الإجماع المنقول، وإنما هو مصداق من مصاديق الخبر الواحد، فتشمله أدلة حجية الخبر.

[2] هذا المورد الأول.

[3] أي: الحجية تتوقف على أن لا يكون النقل موهوناً، فحينئذٍ قد يقال: إنّ أدلة حجية الخبر اللفظية منصرفة عن هذا المورد، وبناء العقلاء معلوم على عدم حجية هذا النوع من الخبر.

[4] أي: نقل المسبّب، «كذلك» عن حس.

[5] هذا المورد الثاني، أي: وكذا لا إشكال في حجية الإجماع المنقول، «متضمناً له» أي: للمسبّب، «إلاّ أنه» أي: إن السبب.

[6] والخلاصة هو: أن نقل السبب خبر حسي من الثقة، فيلزم تصديقه، وبعد أن علم المنقول إليه بالسبب تعبداً فإنه يعلم بالمسبَّب حسب مبناه، «حينئذٍ» أي: حين كان سبباً في نظره.

ص: 352

معاملة المحصل[1] في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره[2].

وأما[3] إذا كان نقله للمسبّب لا عن حس[4]، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجهٍ[5]، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته[6]، إذ المتيقن من بناء العقلاء[7] غير ذلك؛ كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك[8] - على تقدير دلالتهما[9] -

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن حجية الخبر معناها تنزيل مؤداه منزلة الواقع، فلا فرق بين أن يُحصِّل هو الإجماع أو ينقله له الثقة.

[2] أي: بأحكام وآثار المحصَّل، فكما يجب الالتزام بأحكام وآثار الإجماع المحصل، كذلك يجب الالتزام بهما في هذا المورد من الإجماع المنقول - وهو المورد الثاني - وقوله: «وآثاره» عطف تفسيري لقوله: (أحكامه).

[3] هذا المورد الثالث، وهو ما إذا كان نقل السبب عن حسّ مع اعتقاده بكونه سبباً. لكن المنقول إليه لا يعتقده سبباً.

[4] مع كون نقله للسبب عن حس، ولا يخفى لزوم إضافة هذا المقطع لتستقيم العبارة في إيصال مقصود المصنف.

[5] أي: بوجه من وجوه مستند الإجماع كاللطف ونحوه، فعند الناقل يكون ما حكاه سبباً للحدس بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ولكن عند المنقول إليه لا سببية لذلك.

[6] أي: عدم نهوض أدلة حجية الخبر على حجية هذا الإجماع المنقول؛ وذلك لأن الأدلة تدل على حجية خبر الثقة حساً، ولا تدل على حجية حدسه.

[7] الذي هو العمدة لحجية خبر الثقة، «غير ذلك» أي: غير الحدس.

[8] أي: الأدلة النقلية على حجية خبر الثقة تنصرف إلى خبره الحسّي دون حدسه.

[9] أي: لو فرض نهوض الأدلة النقلية على حجية الخبر، وسيأتي الإشكال فيها.

ص: 353

خصوصاً[1] في ما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة، هذا في ما انكشف الحال[2].

وأما في ما اشتبه[3]، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار[4]، فإن عمدة أدلة حجية الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به[5] في ما يحتمل كونه عن حدس[6]، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف والتفتيش عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على طبقه والجري على وفقه بدون ذلك[7].

نعم[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم حجية حدس الثقة في هذه الصورة واضح جداً؛ لوضوح عدم شمول بناء العقلاء لها، ووضوح انصراف الأدلة النقلية عنها.

[2] بأن علمنا أنه ينقل السبب أو المسبب عن حدس أو حس.

[3] وهذا المورد الرابع، وهو ما لم نعلم أن الناقل هل ينقل السبب أو المسبب عن حس أو حدس؟

[4] أي: حجية هذا الإجماع المنقول.

[5] أي: كذلك يعملون بخبر الثقة.

[6] ويحتمل كذلك كونه عن حس، ولم يعلموا بأي منهما، فإن بناءهم هو قبول خبر الثقة حتى في هذه الصورة من غير تفحص وتفتيش.

[7] أي: بدون ذلك التفتيش.

[8] رجوع عما ذكره في المورد الرابع، وحاصله: إنه وإن كان للعقلاء بناء على حمل خبر الثقة على الحس، إلاّ أن ذلك في ما لم يكن أمارة أو قرينة على كون خبره عن حدس، وفي ما نحن فيه غالب الإجماعات المنقولة مبنية على الحدس أو على قاعدة اللطف، فلا بناء للعقلاء على العمل بها.

ص: 354

لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك[1] في ما لا يكون هناك أمارة على الحدس[2] أو اعتقاد الملازمة في ما لا يرون هناك ملازمة[3]. هذا.

لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل[4] أو اعتقاد الملازمة عقلاً[5]، فلا اعتبار لها[6] ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستنداً إلى الحس[7].

فلابد في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: على العمل بالخبر بدون التفتيش عن أنه عن حس أو حدس.

[2] حدساً اتفاقياً، أو حدساً عادياً، من غير أن تكون ملازمة عقلية، «اعتقاد الملازمة» أي: عقلاً.

[3] أما لو كانت قرينة على حدس الناقل، أو أن خبره مبتنٍ على ملازمة عقلية مع أنهم لا يعتقدون بتلك الملازمة، فلا بناء للعقلاء على العمل بخبره.

[4] المقصود الحدس العادي وكذلك الحدس الاتفاقي.

[5] المبتنية على قاعدة اللطف.

[6] أي: لا اعتبار لهذه الإجماعات المنقولة؛ لأنها على الغالب مبتنية على الملازمة العقلية بقاعدة اللطف، وهي غير مقبولة هنا، أو مبتنية على الحدس الاتفاقي، وهو غير معلوم.

[7] فلو انكشف أن نقل السبب المستند إلى الحس بأن كان مدعي الإجماع سمع أو رأى الآراء كلها، وكان المنقول إليه يرى تمامية السبب، فحينئذٍ ينتقل هو إلى المسبب، وهو قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيكون حجة له، أما لو لم ينتقل إلى المسبب فلا يكون حجة.

[8] فهل تدل على اتفاق كل الفقهاء في كل العصور، أم على فقهاء عصر الناقل، أم على أصحاب الكتب، أم على المشهورين منهم؟

ص: 355

ولو بملاحظة حال الناقل[1] وخصوص موضع النقل[2]، فيؤخذ بذاك المقدار[3] ويعامل معه كأنه المحصل[4]؛ فإن كان بمقدار تمام السبب[5]، وإلاّ فلا يجدي[6] ما لم يضم إليه - مما حصّله[7] أو نقل له من سائر الأقوال[8] أو سائر الأمارات[9] - ما

-----------------------------------------------------------------

[1] حيث يختلف الناقلون، فمنهم من كان كثير التتبع، دقيقاً في العبارة، كالمحقق الحلي، وصاحب مفتاح الكرامة، وأمثالهما، ومنهم من كان يبني إجماعاته على الأصول والحدس بفتاوى الفقهاء، كما ربما يقال في إجماعات ابن زهرة.

[2] كما لو كانت المسألة مذكورة قديماً وحديثاً، أما لو كانت مسألة مستحدثة لم يتطرق إليها السابقون، أو أهملها الأكثر في كتبهم فلا يحصل اطمئنان بصحة نقل الإجماع.

[3] أي: المقدار الذي دل عليه اللفظ، «معه» أي: مع ذلك المقدار.

[4] لأن أدلة حجية خبر الثقة - بل كل الأمارات - تدل على تنزيل مؤدى الخبر والأمارات منزلة الواقع.

[5] بأن أوجب علم المنقول إليه بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[6] أي: لو لم يوجب علم المنقول إليه فلا يفيد الإجماع المنقول، إلاّ إذا قرن به شواهد وقرائن أخرى، كان المجموع من الإجماع المنقول وتلك الشواهد والقرائن موجباً للاطمئنان.

[7] أي: ما لم يضم إلى الإجماع من قرائن وشواهد أخرى حصل المنقول إليه تلك الشواهد، وفاعل «يضم» (المنقول إليه)، وضمير «حصّله» يرجع إلى الموصول في (مما)، ومفعول «يضم» (ما به تمَّ).

[8] أي: ما لم يضم إليه الأقوال الأخرى، فيكون الإجماع المنقول جزء السبب، وسائر الأقوال جزءاً آخر للسبب.

[9] أي: ما لم يضم سائر الأمارات إلى الإجماع المنقول، كما لو انضم إلى الإجماع المنقول خبر ضعيف أو شهرة فتوائية أو نحوهما من الأمارات التي لا تكون

ص: 356

به تم[1]، فافهم[2].

فتلخص بما ذكرنا[3]: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد من جهة حكايته[4] رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالتضمن أو الالتزام كخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وما نقله من الأقوال بنحو الجملة والإجمال[5] - وتعمه أدلة اعتباره[6]، وينقسم بأقسامه[7]، ويشاركه في أحكامه، وإلا[8] لم يكن مثله[9] في الاعتبار من جهة الحكاية.

-----------------------------------------------------------------

حجة بانفرادها، ولكن ضم بعضها إلى بعض قد يوجب الاطمئنان.

[1] أي: تمّ السبب للاطمئنان.

[2] لعلّه إشارة إلى أن هذا الكلام معناه عدم حجية الإجماع المنقول، بل كونه مؤيداً فقط، وهذا ما لا يقول به أحد.

[3] هذا المقطع إلى قوله: (ينبغي التنبيه على أمور) تكرار لما ذكره من أول بحث الإجماع، إضافة إلى دفع إشكال في حجية الخبر إذا كان جزء المؤثر للأثر، وخبر «أن الإجماع» هو (كخبر الواحد).

[4] أي: كشفه عن المسبب - وهو قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - «بالتضمن» في الإجماع الدخولي، «الالتزام» في الإجماع اللطفي أو الحدسي العادي أو الحدسي الاتفاقي.

[5] أي: الملازمة بين قول الإمام وبين الأقوال المنقولة والتي نقلها ناقلها في جملة واحدة بقوله: (بالإجماع) مثلاً.

[6] أي: تشمل الإجماع المنقول أدلة اعتبار الخبر الواحد، لما مرّ من أن الإجماع المنقول هو من مصاديق الخبر الواحد.

[7] أي: ينقسم الإجماع المنقول بأقسام الخبر الواحد، من الصحيح والضعيف والمجهول والمرسل ونحوها.

[8] أي: وإن لم يكن المنقول إليه ممن يرى الملازمة بين قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وبين ما نقله.

[9] لم يكن الإجماع المنقول مثل: الخبر الواحد.

ص: 357

وأما من جهة نقل السبب[1]: فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل؛ فلو ضم إليه[2] - مما حصله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر الأمارات - مقدار[3] كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، ويكون حاله[4] كما إذا كان كله منقولاً؛ ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] وهو أقوال الفقهاء، «فهو» أي: فالإجماع المنقول، و(فهو) مبتدأ و(مثل ما إذا نقلت...) خبره.

[2] إلى الإجماع المنقول.

[3] نائب فاعل قوله: (لو ضُمّ).

[4] الغرض هو دفع توهم، وحاصل التوهم: هو أن أدلة حجية الخبر تدل على حجيته إذا كان له تمام الأثر، ولا تشمل ما لو كان له جزء من الأثر، وهنا الإجماع المنقول ليس له أثر بوحده، فلا تشمله أدلة حجية الخبر.

وجوابه: هو أنه لا فرق في حجية الخبر بين أن يكون الأثر يترتب عليه لوحده، أو يترتب الأثر على شيئين أو أكثر، بأن يثبت الخبر جزءاً من سبب الأثر والجزء أو الأجزاء الأخرى يثبتها شيء آخر، وله نظائر، مثل:

1- توثيق الرواة في علم الرجال، لا يترتب عليه الأثر، بل يتوقف الأثر على ثقة الراوي، وعلى روايته للرواية.

2- خصوصيات الواقعة المسؤول عنها، مثلاً قال الثقة: أننا في الواقعة الفلانية كنا في تقية، فهذا لا أثر له ما لم ينضم إليه الكلام الصادر عن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيحمل على التقية.

[5] أي: تمام السبب، وذلك بأن كان الأثر يترتب على الخبر لوحده.

ص: 358

أو ما له دخل فيه وبه قوامه[1]، كما يشهد به[2] حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل[3] وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها[4] وغير ذلك[5] مما له دخل في تعيين مرامه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من كلامه.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول[6]: إنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع[7] غالباً هو اعتقاد الملازمة عقلاً لقاعدة اللطف، وهي باطلة[8]، أو اتفاقاً بحدس رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من فتوى جماعة، وهي

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: أو كان المخبر به له دخل في السبب، «به قوامه» عطف تفسيري، أي: بالمخبر به قوام السبب.

[2] أي: بعدم التفاوت في الاعتبار، «حجيته» أي: الخبر.

[3] في علم الرجال، فإن توثيق الراوي لا أثر له لوحده وليس سبباً لحكم شرعي، بل يُضمّ هذا إلى روايته، فينتج المجموع حكماً شرعياً.

[4] كما لو ورد نهي عن شيء ثم بيّن الثقة أن الإمام كان في تقية، فإن بيان الراوي ليس لوحده أثر، بل إذا ضم إلى الرواية يكون الأثر للمجموع.

[5] كما لو قال الثقة: إن الروايات المضمرة بلفظ (سألته) إنما يقصد بها الراوي الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - مثلاً - .

تنبيهات

التنبيه الأول

[6] في بيان أن الإجماع المنقول يفيد من حيث نقل السبب - وهو نقل آراء العلماء - ولا يفيد من حيث نقل المسبب - أي: قول المعصوم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - .

[7] أي: عِلة ادعاء الإجماع من قائله أحد أمور أربعة، وكلها غير ثابته، فالنتيجة أن لا حجية للإجماع من حيث نقل المسبّب.

[8] أي: غير ثابتة في موضوع اتفاق العلماء؛ وذلك لأن قاعدة اللطف تعني

ص: 359

غالباً غير مسلمة.

وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بشخصه في الجماعة[1]، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه[2] عادة من الفتاوى، فقليل جداً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم[3] بدخوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل[4] تشرف بعض الأوحدي بخدمته

-----------------------------------------------------------------

أن الغرض من الخِلقة لا يتحقق إلاّ بإرسال الرسل، فقوله تعالى: {مَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ}(1) دليل على أن الغرض هو العبادة، ولا معرفة للناس بالعبادة إلاّ عبر الأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ولو لا إرسالهم لكان نقضاً للغرض، تعالى الله عن ذلك، وهذا المقدار هو المسلَّم من قاعدة اللطف.

وأما جريانها في كل جزئي فغير معلوم، وخاصة أن الناس هم سبب الغيبة، كما أنه قد يكون مانع عن بيان الحكم الواقعي، فكما لم تقتض قاعدة اللطف ظهور الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لوجود المانع، كذلك لعل عدم بيانه للحكم الواقعي لوجود مانع، ومع هذا الاحتمال لا تجري قاعدة اللطف أصلاً؛ لأنه إذا جاء الاحتمال - في الأحكام العقلية - بطل الاستدلال، حيث لا يحكم العقل أو لا يكشف إلاّ حين قطعه وعدم وجود أي احتمال.

[1] وهو المبنى الثاني، أي: الإجماع الدخولي.

[2] وهو المبنى الثالث، أي: الحدسي العادي، أي: علّة الاطلاع على رأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هو الاطلاع على الفتاوى التي تلازم قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «من الفتاوى» بيان لقوله: (بما يلازمه)، وضمير «يلازمه» يرجع إلى (ما).

[3] أما الظن فقد يحصل، لكن لا دليل على حجية هذا الظن، بل اللازم القطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[4] وهو المبنى الرابع، ولكن هذا الاحتمال لا يفيد، لأنه مجرد احتمال في

ص: 360


1- سورة الذاريات، الآيات: 56.

ومعرفته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أحياناً.

فلا يكاد يجدي[1] نقل الإجماع إلاّ من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه بما[2] اكتنف به من حالٍ أو مقالٍ، ويعامل معه[3] معاملة المحصل.

الثاني[4]: إنه لا يخفى أن الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبب[5]. وأما بحسب السبب[6] فلا تعارض في

-----------------------------------------------------------------

الإجماعات المدعاة، ولا يفيد القطع.

[1] أي: فائدة الإجماع المنقول إنما هي في نقل السبب، وهو اتفاق العلماء، فناقل الإجماع بما أنه ثقة وينقل عن حس آراء علماء زمانه أو الذين من قبله، فإن كلامه حجة لنا بمقدار ما دلّ عليه لفظه.

[2] أي: المقدار المحرز إنّما هو بسبب القرائن الحالية أو المقالية المصاحبة لادعاء الإجماع، «لفظه» أي: لفظ الإجماع، «اكتنف به» أي: باللفظ.

[3] أي: مع اللفظ الذي ينقل الاتفاق، يعامل معه معاملة المحصل، أي: كما لو رأى وسمع المنقول إليه آراء العلماء.

التنبيه الثاني

[4] في بيان أنه قد لا يفيد الإجماع المنقول حتى من باب نقل السبب أيضاً، وذلك لو تعارض ادعاء الإجماع.

[5] لأن التعارض هو نتيجة عدم مطابقة أحدهما للواقع، وحيث إن الواقع هو واحد لا أكثر، فقول المعصوم لا يكون مطابقاً لكلا الإجماعين قطعاً، بل قد يكون مطابقاً لأحدهما فقط.

[6] وهو اتفاق العلماء، فيحتمل أن يكون كلا الادعاءين صحيحين مطابقين للواقع؛ وذلك لاختلاف المباني، فكل واحد يدعيه طبقاً لمبناه، مثلاً: أحدهما يرى اتفاق علماء عصره فيدعي الإجماع لقاعدة اللطف - التي تجري حتى في العصر

ص: 361

البين، لاحتمال صدق الكل[1].

لكن[2] نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلح لأن يكون سبباً ولا جزء سبب[3]، لثبوت الخلاف فيها[4]، إلاّ[5] إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية[6] موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لو اطلع عليها[7] ولو مع إطلاعه على الخلاف؛ وهو[8]

-----------------------------------------------------------------

الواحد على مبناهم - ويرى الآخر اتفاق علماء عصر آخر فيدعي الإجماع أيضاً مخالفاً للأول، فلا تعارض بين السبب - أي: الاتفاق - لأن كل واحد ناظر إلى عصر نفسه مثلاً.

[1] بمعنى مطابقة كلامهم للواقع.

[2] بيان أن هذه الإجماعات المتعارضة لا تفيد أيضاً من حيث نقل السبب، لثبوت الخلاف، «حينئذٍ» أي: حين ثبوت الخلاف.

[3] أي: لا يكون سبباً لقطعنا بقول المعصوم، كما لا يفيد أيضاً حتى لو ضُم إليه ضمائم.

[4] أي: في الفتاوى.

[5] استدراك على قوله: (لا يصلح...) ببيان: إنه قد يكون أحد النقلين من عالم متتبع مُطّلع على الآراء، والآخر من عالم يدعي الإجماع حتى لو ابتنى على أصل، كأن يتصور أن المسألة من مصاديق البراءة، فيدعي الإجماع على المسألة للاتفاق على مبناها - حسب زعمه - .

[6] مثل: اتفاق أصحاب الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

[7] فإن المنقول إليه لو كان يطلع تفصيلاً على هذه الخصوصية لكان يقطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ولكنه لم يَطّلع عليها، لكن ينقل له فقيه تلك الخصوصية، فإنه وإن لم يطلع عليها تفصيلاً لكنه أطلع عليها إجمالاً.

[8] أي: وجود خصوصية توجب القطع بقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ص: 362

وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلاً[1] ببعيد، إلاّ أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك[2] إلاّ مجملاً[3] بعيد، فافهم[4].

الثالث[5]: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حيث المسبب[6] لابد في اعتباره[7] من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مع الاطلاع التفصيلي على الفتاوى على رغم اختلافها.

[2] «عليها» على الفتاوى، «كذلك» أي: تفصيلاً.

[3] استثناء منقطع، أي: مع عدم الاطلاع التفصيلي، بل الاطلاع الإجمالي.

[4] لعله إشارة إلى عدم البُعد في القطع بقول المعصوم ولو من النقل الإجمالي إذا كان الناقل فقيه متتبع دقيق.

أو إشارة إلى أن هذا النقل قد يكون جزءاً من السبب، وإذا ضم إليه مؤيدات أخرى قد يحصل القطع برأيه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

أو إشارة إلى أن القطع حجة - من أي سبب كان - وليس من البعيد قطع البعض بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الدعاوى.

التنبيه الثالث

[5] حاصله: إن نقل التواتر هل يكون سبباً للعلم بالمخبر به أم لا؟

1- فمن حيث المسبب - وهو المخبر به - قد يكون النقل سبباً للعلم، مع معرفة مبنى الناقل.

2- ومن حيث السبب - وهو كثرة الإخبار بحد التواتر - يثبت أن هناك ناقلين كثيرين.

[6] وهو الواقعة المنقولة - أي: المخبر به - .

[7] أي: اعتبار نقل التواتر، «الإخبار به» أي: بالتواتر.

[8] أي: لو علم تفصيلاً، «به» أي: بذلك المقدار.

ص: 363

ومن حيث السبب[1] يثبت به كل مقدار كان إخباره بالتواتر دالاً عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربما لا يكون إلاّ دون حد التواتر[2]، فلابد في معاملته معه معاملته[3] من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد[4]. نعم[5]، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو[6] عند المخبر - لوجب ترتيبه[7] عليه ولو

-----------------------------------------------------------------

والحاصل: أن يتفق ناقل التواتر مع المنقول إليه في معنى التواتر، أما لو كان الناقل يرى حصول التواتر بإخبار خمسة مثلاً، والمنقول إليه لا يرى حصول التواتر بالخمسة، فحينئذٍ لا يجدي نقل التواتر.

[1] أي: إخبار الجماعة، «به» أي: بنقل التواتر، «إخباره» أي: إخبار الناقل، «عليه» أي: على ذلك المقدار، والمعنى: إنه لو كان يخبر الناقل بالتفصيل أسماء الناقلين وعددهم فإنه كان يثبت كلامه للزوم تصديق العادل، كذلك خبره الإجمالي يثبت ذلك المقدار - كما لو كان يخبر تفصيلاً - .

[2] لاختلاف مبنى الناقل مع مبنى المنقول إليه، فلو كان الناقل يكتفي في التواتر بمقدار أقل من المنقول إليه، فلابد أن يضم إليه أخباراً أخرى ليكون المجموع تواتراً.

[3] أي: لابد في معاملة المنقول إليه مع نقل التواتر معاملة التواتر.

[4] أي: المجموع من النقل والمقدار الآخر المحصل يبلغ ذلك الحد، أي: حد التواتر.

[5] أي: لو كان لنفس نقل التواتر - حتى لو لم يكن مطابقاً للواقع، بل كان مطابقاً لرأي الناقل - أثر، كما لو نذر أن يتصدق كلّما سمع بادعاء التواتر!! فلابد من ترتيب هذا الأثر.

لكن لا يخفى عدم وجود هكذا أثر خارجاً، إلاّ بواسطة النذر، وهذا لا يعتبر ثمرة للمسألة - كما مرّ - .

[6] شرح لقوله: (في الجملة).

[7] أي: ترتيب هذا الأثر على نقل التواتر.

ص: 364

لم يدل[1] على ما بحد التواتر من المقدار.

فصل: مما قيل باعتباره بالخصوص[2] الشهرة في الفتوى[3]. ولا يساعده[4] دليل.

وتوهم[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] في نظر المنقول إليه، «على ما» أي: على مقدار من الأخبار تصل لحد التواتر.

فصل الشهرة الفتوائية

اشارة

[2] لقيام الدليل الخاص على الاعتبار، لا من باب الظن المطلق.

[3] الشهرة على أقسام:

منها: الشهرة في الفتوى، وهي محل الكلام في هذا الفصل.

ومنها: الشهرة في الرواية، بمعنى كثرة نقلها في الأصول والمجاميع، وهذه الشهرة مرجحة لدى تعارض الأخبار.

ومنها: الشهرة في العمل، بأن يعمل المشهور بخبر، فإن كان ضعيفاً جبرت الشهرة ضعفه، وإن أعرض المشهور عن خبر صحيح سنداً سقط عن الاعتبار؛ ولذا قيل الشهرة جابرة وكاسرة.

[4] أي: لا يدل دليل على هذا القول بحجية الشهرة الفتوائية.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية وردّها

الدليل الأول

[5] حاصل التوهم(1):

هو أن علة حجية الخبر الواحد هو إفادته للظن، وهذه العلة موجودة في الشهرة الفتوائية وبشكل أقوى، فإن الظن الحاصل منها أقوى

ص: 365


1- مفاتيح الأصول: 480 و499.

«دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه[1] بالفحوى[2]، لكون[3] الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده[4] الخبر» فيه ما لا يخفى[5]، ضرورة[6] عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته[7] الظن، غايته[8]

-----------------------------------------------------------------

من الظن الحاصل من الخبر الواحد.

[1] أي: على اعتبار الشهرة الفتوائية.

[2] أي: دليل الأولوية، التي يعبر عنها بمفهوم الموافقة، نظير قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ}(1) يدل بالأولوية على حرمة الضرب؛ لأن العِلة في الضرب أقوى من العلة في قول أف، وهنا العلة في الشهرة - وهي الظن - أقوى من العلة في الخبر الواحد؛ لأن الظن الحاصل منها أقوى من الظن الحاصل منه.

[3] بيان الفحوى، «تفيده» أي: تفيد الشهرة الفتوائية ذلك الظن.

[4] أي: من الظن الذي يفيد ذلك الظن الخبر، و«الخبر» فاعل «يفيد».

[5] أولاً: لأن كون ملاك حجية الخبر هو إفادته للظن غير معلوم، غاية الأمر الظن بأن الملاك هو الظن، ولا اعتبار بالظن بالملاك، بل هو من القياس.

وثانياً: يمكن ادعاء القطع بأن الظن ليس ملاكاً، ولذا الخبر حجة سواء أفاد الظن أم لا، بل حتى مع الظن بالخلاف فهو حجة، وذلك يكشف أن العِلة ليست هي حصول الظن.

وثالثاً: من غير المعلوم أن الظن في الشهرة أقوى من الظن في الخبر، بل قد يقال بالعكس.

[6] إشارة إلى الإشكال الأول، «دلالتها» أي: دلالة أدلة حجية الخبر الواحد.

[7] أي: عِلة اعتبار الخبر إفادته - أي: الخبر - .

[8] أي: غاية الأمر هو الظن بأن الملاك هو إفادة الظن، ولا حجية لهذا الظن بالملاك، فيكون من القياس المنهي عنه؛ إذ لا يمكن تعميم الحكم إلاّ بعد القطع بالملاك.

ص: 366


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

تنقيح ذلك بالظن[1]، وهو لا يوجب إلاّ الظن بأنها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به[2]. مع[3] أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة(1).

وأضعف منه[4] توهم دلالة المشهورة[5] والمقبولة[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كشف الملاك بالظن، «وهو» أي: الظن بالملاك لا يوجب إلاّ الظن بالأولوية، «بأنها» أي: بأن الشهرة.

[2] أي: لا اعتبار بالظن بالملاك.

[3] إشارة إلى الإشكال الثاني، «بأنه» أي: بأن الظن.

الدليل الثاني

[4] أي: من الاستدلال بالأولوية هو الاستدلال بالمشهورة والمقبولة، حيث أرادوا تعميم الموصول فيهما، مع عدم مساعدة الفهم العرفي لذلك التعميم، كما سنُبيّنه بعد قليل.

[5] التى رواها ابن أبي جمهور الأحسائي، عن العلامة، مرسلاً عن زرارة قال: (سألت الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكما الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر...)(2)، الحديث.

فإن الموصول وهو (ما اشتهر) عام يشمل المشهور بالشهرة الفتوائية!!

[6] التي رواها المشايخ الثلاثة عن عمر بن حنظلة، عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (... ينظر إلى ما كان من روايتهما منا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه...)(3)،

الحديث.

ص: 367


1- فرائد الأصول 1: 232.
2- عوالي اللئالي 4: 133.
3- وسائل الشيعة 27: 106.

عليه، لوضوح[1] أن المراد بالموصول في قوله في الأولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1)، وفي الثانية: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به»(2)

هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى[2].

-----------------------------------------------------------------

فإن الموصول في قوله: (ما كان) عام يشمل الشهرة الفتوائية!!

[1] بيان وجه الضعف، وهو أن المتفاهم العرفي من الموصول في المشهورة والمقبولة هو الرواية، لا كل مشهور، قال الشيخ الأعظم: (إن المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور، ألا ترى أنك لو سألت عن أي المسجدين أحب إليك، قلت ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب اليك محبوبية كل مكان يكون الاجتماع فيه أكثر - بيتاً كان أو خاناً أو سوقاً - وكذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرمانيين، فقلت: ما كان أكبر)(3).

ووجه الأضعفية: هو أن الملاك لو علم به فإن تعميمه من المتفاهم العرفي، بخلاف الموصول في المشهورة والمقبولة، فإن تعميمه خلاف المتفاهم.

[2] نعم، استدل البعض بعموم العلة في قوله: (اشتهر)، وبقوله: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، لكن هذا الاستدلال في غير محله، فإنه في المشهورة: تمَّ تعليق الحكم على الوصف وهو (اشتهر) وذلك مشعر بالعلية، لكن لا قطع بهذه العلية. وفي المقبولة: (المجمع عليه) هو المتفق عليه لا المشهور الاصطلاحي، فإن (ما اشتهر) في اللغة بمعنى الوضوح.

ص: 368


1- عوالي اللئالي 4: 133.
2- وسائل الشيعة 27: 106.
3- فرائد الأصول 1: 234.

نعم[1]، بناءً على حجية الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته[2]، بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك[3] خرط القتاد.

فصل: المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد[4]

-----------------------------------------------------------------

الدليل الثالث

[1] بيان لدليلهم الثالث على حجية الشهرة الفتوائية، وهو استدلال بالملاك، فإن بناء العقلاء على حجية الخبر الواحد إنما هو بسبب أنهم يريدون إحراز الواقع، والخبر الواحد محرز له لذا اعتبروه وعملوا به، وهذا الملاك موجود في الشهرة الفتوائية، فإنها محرزة للواقع أيضاً.

[2] أي: بناء العقلاء غير مختص بحجية الخبر الواحد، «أمارة» أي: محرزة للواقع، وكاشفة عنه.

[3] أي: إن بناءهم على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان.

ثم إن قوله: «لا يبعد» يراد به الإمكان في مرحلة الثبوت، وقوله: «دون إثبات ذلك...» يراد به في مرحلة الإثبات، فلا تنافي بين التعبيرين، فتأمل.

فصل حجية الخبر الواحد

اشارة

[4] لا فرق في التعبير بين (خبر الواحد) و(الخبر الواحد).

أما الأول: فلأنه غالب هذه الأخبار هي من راوٍ واحد، وبعضها من راويين اثنين أو أكثر، فلا بأس بالتعبير بخبر الواحد تغليباً.

وأما الثاني: فلأنه غالباً تكون الأخبار واحدة لا خبرين بمضمون واحد أو أكثر، فلذا جاز التغليب أيضاً.

ص: 369

في الجملة[1] بالخصوص[2].

ولا يخفى: أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية[3]. وقد عرفت[4] في أول

-----------------------------------------------------------------

[1] لأنه ليس الغرض الآن بيان تلك التفاصيل، بل يراد إثبات الحجية في مقابل إنكار حجيتها مطلقاً، قال الشيخ الأعظم: (أما القائلون بالاعتبار فهم مختلفون من جهة أن المعتبر منها كل ما في الكتب المعتبرة، كما يحكي عن بعض الأخباريين أيضاً، وتبعهم بعض المعاصرين من الأصوليين بعد استثناء ما كان مخالفاً للمشهور، أو أن المعتبر بعضها وأن المناط في الاعتبار عمل الأصحاب، كما يظهر من كلام المحقق، أو عدالة الراوي أو وثاقته، أو مجرد الظن بصدور الرواية من غير اعتبار صفة الراوي...)(1) إلى آخر كلامه.

[2] أي: قام على اعتباره دليل أخرجه من القاعدة العامة التي تدل على عدم حجية الظن، فليس حجيته من باب الانسداد.

[3] لابتناء غالب الفقه على أخبار الآحاد.

أصولية المسألة

[4] هنا إشكالان في كون مسألة حجية الخبر الواحد من مسائل الأصول.

الأول: إنهم قالوا: إنّ موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة - الكتاب والسنة والإجماع والعقل - وليس الخبر الواحد من هذه الأربعة، فهو ليس بسنة، بل حاكٍ عنها.

الثاني: إن البحث في مسائل العلم يكون عن عوارضها الذاتية - أي: ما يلحقها من الأحكام - لا بحث عن أصل وجودها، فإن ذلك من المبادئ التصورية، والمبادئ من مقدمات العلم لا من مسائله، والبحث عن حجية الخبر الواحد بحث عن دليلية الدليل وليس بحثاً عن عوارضه، ودليلية الدليل في الواقع هو بحث عن أصل وجود الدليل.

وللجواب عن هذين الإشكالين طرق:

ص: 370


1- فرائد الأصول 1: 240.

الكتاب أن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط[1]، ولو لم يكن البحث فيها[2] عن الأدلة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول(1)

كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلة.

وعليه[3] لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة أصولية - تجشّم دعوى[4] «أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل»، ضرورة[5] أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الأدلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها.

-----------------------------------------------------------------

منها: جواب المصنف، وحاصله: إن موضوع علم الأصول ليس الأدلة الأربعة، بل كل ما له دخل في استنباط الحكم الشرعي، أي: كل مسألة تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي، فهي مسألة أصولية، وموضوعها موضوع في علم الأصول، وفي مسألة حجية الخبر الواحد تقع نتيجة البحث في طريق الاستنباط.

[1] بشرط أن لا يكون من المقدمات البعيدة، بل تكون النتيجة كبرى في الدليل الدال على الحكم الفقهي الكلي، مثل: حرمة شرب الخمر ووجوب صلاة الجمعة.

أما تطبيق هذا الحكم الفرعي الكلي على المصاديق الجزئية فهو من شأن المقلّد.

[2] أي: في المسألة.

[3] أي: بناءً على كون الموضوع الأدلة الأربعة.

[4] هذا ما سلكه صاحب الفصول(2)

لدفع الإشكال، وحاصله: إن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها - لا بوصف كونها أدلة - وحينئذٍ فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارضها الذاتية، فالبحث عن حجية الخبر هو بحث عن العارض الذاتي لنفس الخبر بما هو هو.

[5] بيان لوجه الإشكال على صاحب الفصول، وحاصله: إن الخبر ليس من

ص: 371


1- قوانين الأصول 1: 9؛ الفصول الغروية: 11.
2- الفصول الغروية: 12.

كما لا يكاد يفيد[1] عليه[2] تجشّم دعوى «أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة - وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره[3] - هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت[4] إلاّ بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟»، فإن[5] التعبد بثبوتها[6] مع الشك فيها[7] لدى

-----------------------------------------------------------------

الأدلة الأربعة، فليس الخبر هو السنة، بل هو حاكٍ عنها، ومن المعلوم الفرق بين الشيء وبين الحاكي عنه، هذا مضافاً إلى أن جعل الموضوع هو ذوات الأدلة يسبب دخول مختلف العلوم في الأصول، كالتفسير والدراية ونحوهما.

[1] هذا ما سلكه الشيخ الأعظم(1)

لدفع الإشكال، وحاصله: إن البحث في حجية الخبر الواحد إنّما هو بحث عن أن (السنة هل تثبت بالخبر الواحد أم لا؟)، فصار موضوع المسألة هو: السنة، والبحث عن أحوالها وعوارضها الذاتية - أي: ثبوتها بالخبر الواحد - .

[2] أي: بناءً على كون موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة.

[3] لا يخفى أن القول له عموم وإطلاق، أما الفعل فلا جهة له، بل يُثبت جواز أصل الفعل في الجملة، وكذا التقرير. وعلى كل حال فالسنة تعمّ هذه الثلاثة.

[4] أي: أم لا يثبت قول الحجة وفعله وتقريره إلاّ بما يفيد القطع كالتواتر، أو القرينة القطعية، ويعبر الخبر حينئذٍ بأنه محفوف بالقرينة.

[5] أشكل المصنف على كلام الشيخ بأمرين:

الأول: إن حجية الخبر - أي: تنزيل مؤداه منزلة الواقع - إنما هو تعبدي، بمعنى وجوب العمل بالخبر الواحد، وهذا من عوارض الخبر الحاكي للسنة لا من عوارض نفس السنة.

[6] أي: بثبوت السنة، ومعنى التعبد هو الأمر بتنزيل مؤدى الخبر منزلة الواقع.

[7] أي: مع عدم العلم بالسنة؛ لأن أخبار الآحاد لا توجب القطع، بل أقصى الأمر هو أنها توجب الظن.

ص: 372


1- فرائد الأصول 1: 238.

الإخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها[1]، كما لا يخفى. مع[2] أنه[3] لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك[4] في أنها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه[5]، كما هو واضح.

وكيف كان فالمحكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس(1)

عدم حجية الخبر. واستدل لهم[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الشارع يأمر باتباع الحكم الذي كان مؤدى للخبر مع عدم علمنا بكونه قولاً للمعصوم، فهذا التعبد - أي: الأمر بالاتباع - عارض لما شك في أنه سنة - وهو مؤدى الخبر - وليس عارضاً للسنة نفسها.

[2] هذا الإشكال الثاني على كلام الشيخ، وحاصله: إن المبحوث في هذه المسألة ليس ثبوت السنة بالخبر الواحد، بل ما يبحث عنه هنا هو حجية الخبر، ولازم حجيته هو ثبوت السنة بالخبر، فإن الخبر الواحد إن كان حجة تثبت السنة، وإن لم يكن حجة لم تثبت السنة. ومسائل العلم إنّما هي في ما إذا كان المحمول عارضاً على موضوع العلم، وليس هنا كذلك، فإن الحجية ليست للسنة، بل عارضاً على الخبر ولازمه ثبوت السنة، فتأمل جيداً.

[3] أي: ثبوت السنة بالخبر لازم للمحمول في المسألة وهو حجية الخبر.

[4] أي: المناط في كون المسألة من مسائل العلم أم أنها استطراد، «أنها» أي: المسائل، «غيره» غير المباحث.

[5] أي: لازم المبحوث عنه، فإن (المبحوث عنه) هو حجية الخبر، و(لازمه) هو ثبوت السنة.

أدلة القول بعدم حجية الخبر الواحد

[6] بالأدلة الأربعة، ولم يذكر هنا دليل العقل، لما مرّ في دعوى استحالة التعبد

ص: 373


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528؛ المهذب 2: 598؛ غنية النزوع: 329؛ مجمع البيان 9: 199؛ السرائر 1: 48.

بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم[1].

والروايات الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ[2] أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان[3]، أو لم يكن موافقاً للقرآن[4]،

-----------------------------------------------------------------

بالظن، ومرّ بيان الإشكال فيه.

الأول: الكتاب

[1] كقوله تعالى: {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ}(1) وقوله سبحانه: {وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ}(2) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(3) وقوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(4).

الثاني: الروايات

[2] عن الإمام الهادي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا)(5).

[3] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (إذا جاءكم عنا حديث، فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم)(6).

[4] عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (انظروا أمرنا، وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم، فقفوا

ص: 374


1- سورة النساء، الآية: 157.
2- سورة الأنعام، الآية: 116.
3- سورة يونس، الآية: 36.
4- سورة الإسراء، الآية: 36.
5- وسائل الشيعة 27: 119.
6- الكافي 2: 222.

إليهم[1]؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله[2]؛ أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف[3]؛ أو على النهي عن قبول حديث إلاّ ما وافق الكتاب أو السنة[4]... إلى غير ذلك.

والإجماع المحكي عن السيد(1)

في مواضع من كلامه، بل حكي عنه[5] أنه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشيعة.

-----------------------------------------------------------------

عنده، وردوه إلينا)(2).

[1] متعلق ب- (ردّ) في قوله: (والروايات الدالة على ردّ... الخ).

[2] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل)(3).

[3] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(4).

[4] عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق الكتاب والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة)(5).

والمراد بالسُنة - هنا - هو القول القطعي الثابت عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وكذا فعله وتقريره.

الثالث: الإجماع

[5] أي: ليس فقط مجمعاً عليه، بل هو من مسلّمات مذهب الإمامية، «أنه» أي: السيد المرتضى، «جعله» أي: الخبر الواحد.

ص: 375


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 309؛ فرائد الأصول 1: 246.
2- وسائل الشيعة 27: 120.
3- المحاسن 1: 221.
4- الكافي 1: 69.
5- بحار الأنوار 2: 249.

والجواب: أما عن الآيات: فبأن الظاهر منها[1] أو المتيقن من إطلاقاتها[2] هو اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية[3]، لا ما يعم[4] الفروع الشرعية، ولو سلم عمومها لها[5] فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأما عن الروايات[6]: فبأن الاستدلال بها خالٍ عن السداد، فإنها أخبار آحاد.

لا يقال[7]:

-----------------------------------------------------------------

الجواب

[1] في ما كان للّفظ عموم، ومنشأ الظهور هو السياق الوارد في ذمهم لاتّباعهم الظن في العقائد.

[2] في ما كان لها إطلاق، ولا تتم مقدمات الحكمة إذا كان هناك متيقن في البين، وفي هذه الآيات بقرينة السياق يوجد قدر متيقن.

ثم إنه لو فرض عمومها وإطلاقها فإنها مخصصّة ومقيّدة بالأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد، كما سنذكر مفصلاً.

[3] كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، أما فروع الاعتقادات - كخصوصيات الجنة والنار - فلا بأس بأخذها من أخبار الآحاد.

[4] أي: ليس للآيات عموم أو إطلاق حتى يشمل الظن في المسائل الفقهية.

[5] أي: عموم الآيات للفروع الشرعية.

[6] حاصل الجواب: إنه لا يصح الاستدلال لنفي حجية الخبر الواحد بأخبار الآحاد.

نعم، لو كان الغرض هو الإلزام - بمعنى الإشكال على القائل بالحجية - لكان لذكر هذه الروايات مجال، لكن المفروض أنهم في مقام الاستدلال على دعواهم عدم حجية الخبر الواحد.

[7] حاصله: إن الاستدلال بالروايات لأجل أنها متواترة، والمتواتر يوجب العلم، فالاستدلال إنما هو بما يوجب العلم على نفي حجية الخبر الواحد؛ لأن

ص: 376

إنها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنىً[1]، إلاّ أنها متواترة إجمالاً[2]، للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

فإنه يقال[3]:

-----------------------------------------------------------------

التواتر هو كثرة نقل مجموعة يُؤمَن عدم تواطؤهم على الكذب بحيث يوجب العلم.

[1] (التواتر اللفظي) هو اتفاق الناقلين على لفظ واحد، كما في قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه)(1).

و(التواتر المعنوي) هو اتفاق الناقلين على معنى واحد مع تعدد الألفاظ، كالروايات الدالة على استحباب النوافل اليومية.

وهذه الروايات النافية لحجية الخبر الواحد ليست متواترة لفظاً ولا معنىً.

[2] (التواتر الإجمالي) هو في ما إذا كان اللفظ والمعنى متعدداً، لكن كان هناك جامع بين كل تلك الروايات، مثل: أخبار غزوات النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ومواقف الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيها، فإنها قضايا مختلفة بألفاظ مختلفة لكن كلها اتفقت على شجاعة الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

ولا يخفى أن المصنف فسّر التواتر الإجمالي بطريقين، يختلف أحدهما عن الآخر - وإن أمكن إرجاع الأول إلى الثاني - :

1- أن يعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار.

2- أن يكون جامع بين كل تلك الأخبار.

وبما أنه اصطلاح فلا مشاحة فيه، وإن استقر آراء العلماء بعد المصنف على الثاني، وقيل: إن المصنف هو أول من أشار إلى التواتر الإجمالي.

[3] إن المقدار المسلّم من تلك الأخبار هو الخبر المخالف للقرآن والسنة، وهذا المقدار لا يفيد من ينكر حجية الخبر الواحد كلاً، فإن الجامع في هذه الأخبار هو عدم حجية بعض أخبار الآحاد، وهذا لا ينكره حتى المثبتين للحجية.

ص: 377


1- الكافي 1: 420؛ الأمالي (للشيخ الصدوق): 122.

إنها[1] وإن كانت كذلك، أنها لا تفيد إلاّ في ما توافقت عليه[2]، وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً، كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفيد[3] عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة؛ والالتزام به ليس بضائر[4]، بل[5] لا محيص عنه[6] في مقام المعارضة.

وأما عن الإجماع: فبأن المحصل منه غير حاصل. والمنقول منه للاستدلال به غير قابل[7] خصوصاً في المسألة[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] «إنها» إن الروايات، «كذلك» متواترة إجمالاً.

[2] أي: المقدار الجامع بين كلها، «و هو» أي: ما توافقت عليه.

[3] بيان ما توافقت عليه الأخبار النافية.

[4] لأن القائلين بالحجية أيضاً لا يقولون بحجية الخبر المخالف، فلا يضرّ قولهم بحجية الخبر في الجملة.

[5] إنما ترقّى المصنف لأجل أن الخبر المخالف أنواع، فقد تكون المخالفة لعمومه، وقد تكون لظاهره، وقد تكون لنصه، ونحوها. لا خلاف في بطلان المعارض للنص، وفي البقية خلاف بين الأعلام، أما في صورة تعارض الأخبار فقد اتفقوا على ترجيح الموافق على المخالف.

[6] أي: عن عدم حجية الخبر المخالف.

[7] هذا الإشكال الأول على الإجماع، وحاصله: عدم وجود إجماع محصّل، وأما المنقول فإنه من مصاديق الخبر الواحد، فلا يصح الاستدلال به على عدم حجية الخبر الواحد.

[8] هذا الإشكال الثاني على الإجماع، وهو: إنه إجماع مدركي، أي: معلوم الاستناد، فإن المجمعين استندوا على أدلتهم من الكتاب والسنة ونحوهما، والإجماع المدركي ليس بحجة على المشهور.

ص: 378

كما يظهر وجهه للمتأمل؛ مع[1] أنه معارض بمثله، وموهون[2] بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة.

فصل في الآيات التي استدل بها:

فمنها: آية النبأ. قال الله تبارك وتعالى: {إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ...}(1).

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه[3]. أظهرها: أنه[4] من جهة مفهوم الشرط[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] إشكال ثالث على الإجماع، حاصله: إنّ هذا الإجماع معارض بادعاء الإجماع على حجية الخبر الواحد، فيتعارضان، فلا حجية لأحدهما.

[2] إشكال رابع على الإجماع، وهو: إن المشهور قائلون بحجية الخبر الواحد، فلا إجماع لأنّا نعلم بعدم اتفاقهم، بل ذهاب الأكثر إلى خلافه.

فصل الآيات الدالة على حجية الخبر الواحد

اشارة

[3] منها: مفهوم الشرط - بثلاثة تقريرات - ومنها: مفهوم الوصف. ومنها: التعليل في {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2).

[4] أي: أظهر الوجوه، «أنه» أن الاستدلال.

[5] ذكر المصنف ثلاثة تقارير لمفهوم الشرط:

الأول: كون الموضوع خارج الشرط، أي: (النبأ إن جاء به الفاسق فيجب

ص: 379


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- سورة الحجرات، الآية 6.

وأن[1] تعليق الحكم[2] بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على[3] كون الجائي به

-----------------------------------------------------------------

التبيّن)، فمفهومه (النبأ إن لم يجئ به الفاسق فلا يجب التبيّن).

الثاني: كون الموضوع جزء الشرط، فيكون الشرط مركباً من أمرين: النبأ ومجيء الفاسق، أي: (إن وُجد نبأ للفاسق فتبيّن). وهذا لا مفهوم له؛ لأنه لو زال الموضوع لم يبق شيء كي يتعلق به حكم، نظير: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فإنه لا مفهوم له، لزوال الموضوع حين عدم رزق الولد.

وبعبارة أخرى: لابد من بقاء الموضوع حتى يكون هنالك حكم، فلو كانت للموضوع حالتان، فقلنا: إنّ له حكماً خاصاً في إحدى الحالتين، فبزوال تلك الحالة يزول ذلك الحكم، ويأتي بدله حكم آخر، مثلاً في: (إن جاء زيد فأكرمه)، لزيد حالتان: حالة المجيء وحالة عدم المجيء، والإكرام ارتبط بحالة المجيء في المنطوق، فيكون عدم وجوب الإكرام مرتبطا بحالة عدم المجيء في المفهوم.

أما لو لم يكن للموضوع حالتان، بل حالة واحدة، فزوال تلك الحالة معناه زوال الموضوع، فلا مفهوم له؛ إذ لا دلالة لجعل حكم آخر لموضوع آخر، فلا معنى للقول: إنّ (إن جاء زيد فأكرمه) يدل على أنه (إن لم يجئ وجاء عمرو فلا يجب إكرامه).

الثالث: ظهور انحصار الحكم في الموضوع، وسيأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.

[1] بيان للتقرير الأوّل.

[2] وهو وجوب التبين «بإيجاب» متعلق ب- (الحكم) أي: الحكم الذي هو وجوب التبين.

[3] «على» متعلق بقوله: (تعليق) أي: تعليق الجزاء على الشرط وهو (مجيء الفاسق)، فليس النبأ ضمن الشرط، بل الموضوع خارج عن الشرط، فيكون المعنى (النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا).

ص: 380

الفاسق يقتضي[1] انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى[2]: أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع[3]، فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع[4]، فافهم[5].

نعم[6]، لو كان الشرط[7] هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع[8].

-----------------------------------------------------------------

[1] «يقتضي...» خبر (أن تعليق...) أي: إن التعليق في الجملة الشرطية يقتضي انتفاء الحكم - وهو التبيّن - عند انتفاء الموضوع - وهو مجيء الفاسق به - .

[2] أي: على هذا التقرير لا يكون الموضوع جزء الشرط حتى يكون انتفاء الشرط بمعنى انتفاء الموضوع، فلا موضوع كي يكون له حكم.

[3] أي: تعليق الحكم على وجود الموضوع.

[4] ففي مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) يمكن أن يقال: إنه لا مفهوم له، أو أن له مفهوماً وهو (إن لم ترزق الولد فلا تختنه لعدم وجوده) لكن هذا المفهوم لا يثبت حكماً.

[5] إما إشارة إلى أنه لا معنى للسالبة بانتفاء الموضوع، فإنها هنا خلاف المتفاهم العرفي.

أو للإشارة إلى أن التقرير الأول لا دليل عليه، بل هو خلاف المتفاهم من الآية الكريمة، ومجرد احتماله لا يسوغ الاستدلال به، فمع احتمال التقرير الثاني لا ترجيح للتقرير الأول عليه، بل لعل التقرير الثاني هو الأقرب للمتفاهم العرفي.

[6] بيان للتقرير الثاني، وأنه لا مفهوم بناءً على هذا التقرير.

[7] أي: لو كان النبأ جزءاً من الشرط، فالشرط مركب من وجود النبأ، ومن مجيء الفاسق به.

[8] فمع تحقق الموضوع يترتب عليه الحكم، ولا دلالة أصلاً على حكم موضوع آخر، فالموضوع هنا نبأ الفاسق، فلا دلالة للكلام على نبأ العادل، لأنه موضوع آخر.

ص: 381

مع[1] أنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلاّ أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين[2] في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه[3] ووجود موضوع آخر، فتدبر[4].

ولكنه يشكل[5]:

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان للتقرير الثالث، «ولو» وصلية، «لذلك» لبيان تحقق الموضوع.

وحاصله: إن تخصيص الفاسق بالذكر يدل على انحصار وجوب التبين بخبره، وإلاّ فلو كان يجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لم يكن وجه لتخصيص الفاسق بالذكر، بل كان الأنسب تعميم الموضوع بأن يقال: إن جاء إنسان بنبأ، أو نحو ذلك.

[2] فلا يجب تبيّن في موضوع آخر، كخبر العادل؛ لأن انحصار حكم في موضوع يدل - بمفهوم الحصر - على عدم وجود ذلك الحكم في موضوع آخر.

[3] أي: عند انتفاء خبر الفاسق، الذي هو موضوع وجوب التبيّن، «موضوع آخر» أي: خبر العادل.

[4] لعله إشكال على هذا التقرير، وحاصله: إن تخصيص الفاسق بالذكر قد يكون لأجل أنه شأن النزول، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد، أو كان الغرض التنبيه على فسق الوليد وإبطال نظرية عدالة كل الصحابة، أو لغير ذلك من الأغراض.

إشكال آخر وجوابه

[5] أي: لكن الاستدلال بآية النبأ يرد عليه إشكال آخر - حتى لو دفعنا إشكال أن القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع - .

وحاصل الإشكال: هو أن التعليل في قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(1) عام، يشمل خبر العادل أيضاً، فإن خبره لا يرفع الجهل، بل أقصى ما يوجبه الظن، ومع الظن يبقى الجهل، ولو بمقدارٍ ما، ومع عموم التعليل لا يبقى مجال للمفهوم أصلاً؛ لأن العِلّة إذا كانت فهي نص أو أظهر، فلا يبقى مفهوم في نظر العرف الملقى إليه الكلام.

ص: 382


1- سورة الحجرات، الآية 6.

بأنه ليس لها هاهنا[1] مفهوم ولو سلم[2] أن أمثالها ظاهرة في المفهوم، لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك[3] بين المفهوم والمنطوق يكون قرينةً على أنه ليس لها مفهوم[4].

ولا يخفى[5]: أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم[6]، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة[7] وفعل[8] ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل، ربما أشكل[9] شمول

-----------------------------------------------------------------

[1] «بأنه» للشأن، «لها» للقضية الشرطية، «هاهنا» في آية النبأ.

[2] إشارة إلى ما مرّ في مفهوم الشرط، بعدم وجود دليل على المفهوم إلاّ إذا استفيد من الخارج بأن الشرط هو العلة المنحصرة للجزاء، «أمثالها» أي: أمثال هذه الجملة الشرطية في آية النبأ.

[3] أي: هذا التعليل عام يشمل المنطوق وهو خبر الفاسق، والمفهوم وهو خبر غير الفاسق، ولا يخفى أن تسميته بالمفهوم مسامحة.

[4] لأن العِلة نص أو أظهر، فلا يبقى مجال للمفهوم.

[5] غرضه دفع هذا الإشكال، وبيان أن العلة خاصة بخبر الفاسق؛ وذلك لأن الجهالة - كما يتبادر منها - هي السفاهة، وهي العمل غير العقلائي، ولا سفاهة في العمل بخبر العادل.

[6] بالنظر إلى مادة الجهالة، وهي الجهل الذي معناه عدم العلم.

[7] «أنها» أن الجهالة، وذلك للتبادر، فالهيئة هي التي أوجبت انصراف المعنى إلى الجهل السفهي، لا إلى مطلق الجهل.

[8] عطف تفسيري لتوضيح معنى الجهالة. وقوله: «غير بعيدة» خبر (مع أن دعوى).

إشكال ثالث

[9] وهو إشكال الدور، والفرق بين هذا الإشكال، والإشكال اللاحق، هو أن هذا الإشكال على أول السند - وهو الخبر الذي سمعناه أو وجدناه في كتاب

ص: 383

مثلها[1] للروايات الحاكية لقول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بواسطة أو وسائط، فإنه[2] كيف يمكن

-----------------------------------------------------------------

مصنفه - والإشكال اللاحق هو في إخبار الوسائط.

مثلاً: لو سمعنا أو شاهدنا في كتابه أن المفيد قال: سمعت الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال كذا... فالإشكال الثالث يختص بخبر المفيد، والإشكال الرابع في إخبار الوسائط - مثلاً: الصفار - ولكن جوهر الإشكالين واحد، والجواب عن كل واحد منها جواب عن الآخر أيضاً كما سيتضح، ولا يخفى أن للإشكال الثالث عدة تقارير، وإنما ذكرنا أظهرها وأوضحها.

[1] أي: مثل آية النبأ من الآيات والروايات التي يستدل بها على حجية خبر العادل، فإن هذا الإشكال جار في كلها.

[2] حاصل الإشكال الثالث هو: إن مفهوم الآية هو (صدق العادل)، ومعنى تصديقه هو لزوم ترتيب الآثار على كلامه. أما لو لم يكن للخبر أثر فلا معنى لجعل الحجية؛ لأنها لغو، كما لو أخبرنا العادل بأن المريخ طوله كذا فرسخ، فهذا الخبر لا أثر له، وجعل الحجية له لغو.

وعليه: يلزم أن يكون خبر العادل ذا أثر قبل حكم الشارع بوجوب تصديقه، ثم يحكم الشارع بوجوب التصديق، بمعنى لزوم ترتيب ذلك الأثر. مثلاً: (الدم) أثره الشرعي هو وجوب الاجتناب، فلو أخبر العادل بأن هذا الشيء هو دم فإن الشارع يجعل الحجية لهذا الخبر، بمعنى أنه يحكم بترتيب الأثر وهو وجوب الاجتناب.

وفي الإخبار بالواسطة، كما لو قال المفيد: حدثني الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال كذا... فخبر المفيد ثابت لنا بالوجدان بالسمع أو في كتابه، فمعنى صدق العادل - أي: المفيد - هو ترتيب الآثار على خبره، والأثر في المثال هو ثبوت كلام الصدوق تعبداً. فيلزم أن يكون الأثر - وهو تحقق كلام الصدوق تعبداً - مقدماً على صدّق العادل وهو المفيد، أي: يكون خبر الصدوق ثابتاً قبل حكم الشارع بتصديق المفيد.

ص: 384

الحكم بوجوب التصديق[1] الذي ليس إلاّ بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من[2] الأثر الشرعي بلحاظ[3] نفس هذا الوجوب[4]

-----------------------------------------------------------------

لكن خبر الصدوق يثبت بصدّق العادل وهو المفيد، حيث لو لا وجوب تصديق المفيد لم يكن تحقّق تعبدي لخبر الصدوق.

فالنتيجة: هي أن (صدّق العادل) متأخر عن تحقّق خبر الصدوق؛ لأن تحقّق خبر الصدوق هو أثر كلام المفيد، وحيث وجب تصديق المفيد لزم ترتيب الأثر، وهو تحقق خبر الصدوق.

ولكن في الوقت نفسه (صدق العادل) متقدم على تحقق خبر الصدوق؛ لأنه لو لا صدّق العادل - وهو المفيد - لم يكن تحقق تعبدي لخبر الصدوق.

فالحاصل: هو تقدم وتأخر (صدّق العادل)، وهذا محال.

[1] المستفاد من مفهوم آية النبأ وأمثالها، وفي مثالنا الحكم بوجوب تصديق المفيد، «الذي» صفة لوجوب التصديق، «المخبر به» وهو كلام الصدوق في المثال حيث أخبرنا المفيد به.

[2] قوله: «من» بيان لقوله: (ما للمخبر به)، والأثر الشرعي هو لزوم تصديق الصدوق - في المثال - .

[3] «بلحاظ» متعلق بقوله: (بوجوب التصديق) أي: كيف يمكن الحكم بوجوب تصديق المفيد مع أن الأثر هو نفس صدّق العادل - أي: تصديق الصدوق مثلاً - حيث يلزم تقدم وتأخر (صدّق العادل)؟

[4] أي: نفس (صدّق العادل) لكلام الصدوق؛ لأن كلام المفيد لا معنى لتصديقه إلاّ باعتبار أثره، وهو ثبوت كلام الصدوق، ثم إن كلام الصدوق لا معنى لثبوته إلاّ باعتبار لزوم تصديقه، وعلى هذا صح أن نقول: لا معنى لوجوب تصديق المفيد إلاّ وجوب تصديق الصدوق، ولا معنى لوجوب تصديق كلام

ص: 385

في ما[1] كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر[2]، لأنه[3] وإن كان أثراً شرعياً لهما، إلاّ أنه[4] بنفس الحكم[5] في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

-----------------------------------------------------------------

الصدوق إلاّ ثبوت كلام أبيه ولزوم تصديقه، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[1] أي: الإشكال إنّما هو إذا كان ما ينقله العادل - كالمفيد - هو خبر عادل - كالصدوق - .

[2] كما لو أخبر النجاشي بعدالة الكليني مثلاً، فهنا يجري نفس الإشكال، حيث إن (صدّق العادل) يدل على لزوم ترتيب الأثر على كلام النجاشي، وأثر كلام النجاشي هو لزوم تصديق الكليني ف- (صدّق العادل) متقدم على كلام الكليني ومتأخر عنه.

أما تقدمه: فللزوم تقدم الموضوع على الحكم، حيث إن (صدّق العادل) أثبت عدالة الكليني تعبداً. وأما تأخره: فلأنّ (صدّق العادل) هو حكم لكلام الكليني أيضاً، ويلزم تأخر الحكم عن موضوعه.

ولا يخفى أن بحث (عدالة المخبر) خارج عن موضوع الكلام، لكن ذكره المصنف استطراداً لمناسبة المقام.

[3] أي: لأن وجوب تصديق العادل، «لهما» أي: لخبر العدل - كخبر الصدوق في المثال الأول - ولعدالة المخبر - كالكليني في المثال الثاني - .

[4] أي: إلاّ أن تصديق العادل - وهو الصدوق والكليني في المثالين - .

[5] أي: يكون (صدِّق العادل) حكماً لخبر الصدوق والكليني فهو متأخر عنها، لكن الفرض أن خبر الصدوق والكليني ثبت بنفس (صدّق العادل) حيث وجب تصديق المفيد والنجاشي، فخبر الصدوق والكليني متأخر عن (صدّق العادل).

ص: 386

نعم[1]، لو أنشئ هذا الحكم ثانياً فلا بأس في أن يكون[2] بلحاظه أيضاً[3]، حيث إنه[4] صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع[5]. بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلاّ جعل واحد، فتدبر.

ويمكن ذب الإشكال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إنه لو أنشئ (صدّق العادل) مرتين لم يكن دور، ولا أي إشكال آخر، فالإنشاء الأول مقدم على خبر الواسطة، والإنشاء الثاني يكون حكماً لخبر الواسطة ومؤخراً عنها.

[2] أي: يكون الأثر - وهو وجوب تصديق الصدوق والكليني - بلحاظ هذا الإنشاء الثاني.

[3] أي: كترتيب سائر الآثار.

[4] أي: تصديق الصدوق - مثلاً - صار أثراً لخبر الصدوق لا بالجعل الأول الذي حقّق خبره تعبداً، بل بجعل ثانٍ فارتفع الدور.

[5] الظاهر أن مراده من اتحاد الحكم والموضوع هو الدور؛ لأن (صدّق العادل) حكم لخبر الصدوق فهو متوقف عليه، وخبر الصدوق تحقّق تعبداً بصدق العادل فتوقف خبره عليه، فصار دوراً.

1- صدّق العادل يوقف على خبر الصدوق - لأنه حكمه - .

2- وخبر الصدوق يتوقف على صدق العادل - لأنه تحقق به - .

أقول: وبيّن بعضهم معنى (اتحاد الحكم والموضوع) بطريقة أخرى.

دفع الإشكال الثالث

[6] بثلاثة أجوبة:

الأول: إن (صدّق العادل) - المفهوم من أمثال آية النبأ - قضية طبيعية، والقضية الطبيعية تنحل إلى جميع مصاديقها، مثل: الإنسان الذي هو كلي طبيعي يتحد مع جميع أفراده.

ص: 387

بأنه[1] إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده[2]، وإلا[3] فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه[4] سراية حكم الطبيعة إلى أفراده[5]، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع[6].

هذا مضافاً[7]

-----------------------------------------------------------------

فمثل: (صدّق العادل) يكون موضوعاً باعتبار بعض الأفراد، ويكون حكماً باعتبار أفراد آخرين.

نظير قول القائل: (كل خبري صادق)، فإن الحكم بأن أخباره صادقة يشمل حتى هذا القول؛ لأنه قضية طبيعية، فتأمل.

الثاني: إنه لو فرض عدم شمول (صدّق العادل) للخبر بالواسطة لأمكن القول بأنّ مناطه يشمله؛ لأن علة تصديق العادل تجري بلا فرق بين الخبر بالواسطة وبين الخبر بلا واسطة.

الثالث: على فرض عدم الشمول فإنه لا يفرق العقلاء بين الآثار، فسواء كان الأثر هو تصديق عادل آخر أم كان غيره من الآثار.

ثم إن في قوله: (الذب عن الإشكال) مسامحة لفظية.

[1] هذا الجواب الأول، «بأنه» أي: بأن الإشكال، «إنّما يلزم» الإشكال.

[2] حيث لا يمكن أن يكون فرد واحد مقدماً ومتأخراً.

[3] أي: وإن لم يكن بلحاظ الأفراد، بل كانت القضية طبيعية.

[4] أي: إلى الأثر، والأثر هو الحكم بوجوب تصديق الصدوق - في المثال - .

[5] أي: كسراية حكم الطبيعة إلى أفرادها، فمثل: (كل خبري صادق) يراد به طبيعة الخبر، وهذه الطبيعة تشمل هذا الكلام - وهو كل خبري صادق - أيضاً.

[6] إذ الطبيعة تنحل إلى كل أفرادها، فباعتبار فرد تكون موضوعاً، وباعتبار فرد آخر تكون حكماً.

[7] هذا هو الجواب الثاني.

ص: 388

إلى القطع بتحقق ما هو المناط[1] في سائر الآثار في هذا الأثر، أي وجوب التصديق بعد تحققه[2] بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً[3] لأجل المحذور.

وإلى[4] عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل[5]، ولو[6] بنفس الحكم في الآية به، فافهم[7].

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: الملاك والعِلة التي أوجبت حجية الخبر تجري في الخبر بالواسطة أيضاً.

[2] أي: بعد أن تحقق خبر الصدوق تعبداً - في المثال - فإن ملاك (صدّق العادل) يشمله.

[3] أي: وجوب تصديق الصدوق - في المثال - لا يمكن أن يكون ملحوظاً في مثل: آية النبأ؛ وذلك لوجود المحذور - وهو اتحاد الحكم والموضوع بالمعنى الذي بيناه - .

[4] هذا الجواب الثالث، أي: ومضافاً إلى عدم القول...الخ، «بينه» أي: بين وجوب التصديق، وبين سائر الآثار، أي: كما تترتب سائر الآثار على خبر العادل كذلك يترتب عليه وجوب تصديق الصدوق - في المثال - لعدم الفصل بين الآثار.

[5] «هو» أي: الموضوع الذي صار أثره الشرعي وجوب التصديق، «خبر العدل» مثلاً الصدوق، ففي المثال لو سمعنا المفيد يقول: حدثني الصدوق، فإن كلام المفيد حجة لنا بمعنى ترتيب كل الآثار عليه، وثبوت كلام الصدوق ولزوم تصديقه من آثار خبر المفيد ف- (صدّق العادل) إن لم يشمله باللفظ، لكن لعدم الفصل بين هذا الأثر وسائر الآثار نقول بلزوم تصديق الصدوق.

[6] أي: الأثر - وهو ثبوت كلام الصدوق ولزوم تصديقة - ثبت بنفس صدّق العادل؛ إذ لو لا تصديق المفيد لم يكن يثبت قول الصدوق - تعبداً - .

[7] لعله إشارة إلى أن الجواب الأول لا يحلّ مشكلة الدور، كما أن الجواب الثاني والثالث تسليم بعدم دلالة الآية على الخبر بالواسطة، بل كانت الدلالة بمعونة الملاك وعدم الفصل.

ص: 389

ولا يخفى: أنه لا مجال - بعد اندفاع الإشكال بذلك[1] - للإشكال في خصوص الوسائط[2] من الأخبار - كخبر الصفار[3] المحكي بخبر المفيد مثلاً - بأنه[4] لا يكاد يكون خبراً تعبداً[5] إلاّ بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل[6] الشامل للمفيد؛ فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حكماً له أيضاً[7]؟!

وذلك[8]

-----------------------------------------------------------------

إشكال رابع

[1] أي: بالأجوبة الثلاثة المذكورة.

[2] أي: دون ناقل الخبر - وهو في أول السند - وقد ذكرنا الفرق بين الإشكال الثالث والرابع، بأن خبر المفيد - في المثال - ثابت بالسماع منه أو المشاهدة في كتابه، فيكون الدور في ترتيب الأثر، كما بينا في الإشكال الثالث، وأما هذا الإشكال فإن الدور في نفس الخبر في الوسائط، فإن تحقق الخبر متوقف على (صدّق العادل)، وهو - أي: صدق العادل - حكم له.

[3] الواقع في آخر السند، ولا يخفى أن الإشكال يعم جميع الوسائط، فقول المفيد حدثني الصدوق عن أبيه عن الصفار عن الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ... حيث إن الإشكال يشمل خبر الصدوق، وخبر أبيه، وخبر الصفار.

[4] أي: خبر الواسطة - كالصفار في المثال - .

[5] أي: بحكم الشارع، لأنا لم نسمع من الصفار، فلا نعلم بكلامه، سوى أن المفيد حكاه، ولوجوب تصديق المفيد يحكم الشارع بلزوم الاعتقاد بتحقق خبر الصفار.

[6] أي: وجوب تصديق المفيد صار سبباً للحكم بوجود خبر الصفار تعبداً.

[7] أي: كيف (صدّق العادل) الذي أوجد خبر الصفار تعبداً يكون حكماً لخبر الصفار؟ فإن هذا هو الدور بعينه.

[8] جواب عن الإشكال الرابع بنفس الأجوبة الثلاثة عن الإشكال الثالث.

ص: 390

لأنه إذا كان خبر العدل[1] ذا أثر شرعي[2] حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت[3] من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له[4] مناطاً وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيداً.

ومنها: آية النفر. قال الله تبارك وتعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ...}(1) الآية[5].

وربما يستدل بها من وجوه:

أحدها[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] الصفار - في المثال - .

[2] وهو تصديق الصفار وثبوت كلام الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وثبوت الأحكام الشرعية التي تضمنها كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[3] بيان للأجوبة الثلاثة.

[4] الحكم في الآية لهذا الأثر - وهو تصديق الصفار في المثال - .

الاستدلال بآية النفر

[5] تمام الآية: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ}.

[6] حاصله: إن معنى {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} ليس هو الترجي الحقيقي - لاستلزامه الجهل تعالى الله عن ذلك - بل معناه هو محبوبية الحَذَر شرعاً وعقلاً.

أما شرعاً: فلأنَّ العلماء بين قائل بوجوب العمل بالخبر الواحد وبين قائل بحرمته، ولا قائل بأن العمل محبوب لكنه مستحب! فإذا ثبتت المحبوبية ثبت وجوب العمل.

ص: 391


1- سورة التوبة، الآية: 122.

إن كلمة «لعل» وإن كانت مستعملة[1] على التحقيق في معناه الحقيقي - وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي[2] -، إلاّ أن الداعي إليه[3] حيث يستحيل في حقه «تعالى» أن يكون هو الترجي الحقيقي[4] كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل[5]، وعقلاً[6] لوجوبه مع وجود ما يقتضيه وعدم

-----------------------------------------------------------------

وأما عقلاً: فلأن التحذر إنّما يكون عمّا فيه خوف العقوبة، وذلك يكون حين قيام الحجة، وأما إذا لم تقم حجة فلا خوف من العقوبة، فلا معنى للحذر، بل لا حسن فيه أصلاً.

[1] قد مرّ أن الترجي ونحوه في كلام الله تعالى لا يراد به الترجي الحقيقي - وهو رجاء وقوع الفعل مع الجهل به - ولكن في الوقت نفسه لا نرى مجازية في استعمالاتها القرآنية، فلابد من القول بأنها وضعت لإنشاء الترجي، وداعي الاستعمال قد يكون بسبب الجهل، وقد يكون لإظهار محبوبية الشيء، والأول مستحيل على الله تعالى، فيثبت الثاني، ففي كلامه تعالى (لعل) استعملت في معناها الحقيقي، لكن الداعي هو إظهار المحبوبية - أي: الثواب على الفعل - .

[2] أي: إيجاد الترجي في الخارج؛ لأن الفرق بين الإخبار والإنشاء هو أن الإخبار حكاية عن أمور خارجية، والإنشاء هو إيجاد الشيء بألفاظه، فلذا لم يحتمل الإنشاء الصدق أو الكذب.

[3] أي: إلى الترجي الإيقاعي الإنشائي.

[4] لأن الرجاء إنّما يكون في صورة الجهل بما سيكون مع أمل بتحقق المراد.

[5] أي: لعدم القول بالفصل، فمن قائل بأن العمل بخبر الواحد واجب، وقائل بأنه حرام، ولا قائل بالاستحباب أو الجواز، فإذا ثبتت المحبوبية ثبت الوجوب.

[6] أي: إذا ثبتت المحبوبية ثبت الوجوب العقلي، «لوجوبه» أي: لوجوب الحذر، «مع وجود ما يقتضيه» وهو الحجة، أي: الدليل الدال على الوجوب أو الحرمة. فإذا وجب الحذر بقوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} نكتشف منه حجية الخبر الواحد.

ص: 392

حسنه - بل عدم إمكانه[1] - بدونه.

ثانيها[2]: إنه لما وجب الإنذار - لكونه[3] غايةً للنفر الواجب، كما هو[4] قضية كلمة «لو لا» التحضيضية[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عدم إمكان وجوب التحذر بدون وجود ما يقتضي التحذر؛ لأن الشارع إنما يأمر لو كان مقتضٍ لأمره، وإلاّ كان لغواً أو باطلاً؛ لبداهة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

[2] حاصله: إنه لا معنى لوجوب الإنذار إلاّ وجوب القبول، فإنه من اللغو أن يقال لزيد بلّغ، ثم يقال لعمرو لا تستمع إلى كلامه، فإذا وجب الإنذار لزمه وجوب القبول بأن يتحذر عما أنذره.

ولذا قيل: إن قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ}(1) لازمه وجوب قبول قولهن إذا أخبرن بالحمل، وإلاّ لغى وجوب البيان وعدم الكتمان.

[3] أي: لكون الإنذار، وحاصل الكلام: إن النفر واجب وذلك لدخول (لو لا) عليه، و(لو لا) - هنا - تدل على التحضيض وهو الطلب الشديد، وبعد ثبوت وجوب النفر يثبت وجوب الإنذار - لأن غاية الواجب واجبة - وبعد ثبوت وجوب الإنذار يلازمه وجوب الحذر.

[4] استدلال لوجوب النفر، «هو» أي: وجوب النفر.

[5] لأن (لو لا) قد تكون للعتاب والتقريع، وهي تدخل على ما انقضى وقته، كقوله تعالى: {وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا...}(2).

وقد تكون للتحضيض، أي: الطلب الشديد، وهي تدخل على ما يراد تحققه في الحال أو المستقبل، مثل هذه الآية - آية النفر - والطلب الشديد ظاهر في الوجوب.

ص: 393


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- سورة النور، الآية: 16.

- وجب التحذر، وإلاّ لغا وجوبه[1].

ثالثها[2]: إنه جعل[3] غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأول[4] بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته[5] من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب في ما لم يكن هناك حجة على التكليف[6]. ولم يثبت[7] هاهنا عدم الفصل[8]، غايته عدم

-----------------------------------------------------------------

[1] للتلازم بين وجوب القول ووجوب القبول، «وجوبه» أي: وجوب الإنذار.

[2] الفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن ذلك بيان لتلازم وجوب الحذر مع وجوب الإنذار، وهذا الوجه لبيان أن الحذر هو غاية الإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

[3] أي: إن التحذر، وإنما كان غاية لقوله: {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} وهذا ظاهر في أن الغاية من الإنذار هو التحذير.

[4] حاصله: إنه لا وجوب عقلي؛ لأن وجود مقتضي التحذر ليس بمعنى الوجوب، بل قد يجب، كما في الشبهات المحصورة، حيث ثبت عقلاً وجوب الاحتياط، وقد لا يجب، كما في الشبهات البدوية، حيث يحسن الاحتياط - لإدراك مصلحة الواقع - مع عدم وجوب هذا الاحتياط. ولا وجوب شرعي؛ لعدم الإجماع المركب - وسيأتي توضيحه - .

[5] أي: مخالفة الواقع «من فوت...» بيان للمحذور، و«حسن» خبر قوله: (بأن التحذر...).

[6] كالشبهات المحصورة حيث توجد حجة على التكليف، أما في الشبهات البدوية فلا حجة على التكليف.

[7] هذا رد للوجوب الشرعي، وحاصله: إن الإجماع المركب إنّما يكون حجة لو اتفقوا على نفي القول الثالث، أما مع السكوت عن القول الثالث فلا إجماع.

[8] أي: الإجماع على نفي القول الثالث.

ص: 394

القول بالفصل[1].

والوجه الثاني والثالث[2] بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبداً، لعدم إطلاق[3] يقتضي وجوبه[4] على الإطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: كل واحد رأى رأياً من غير التعرض لنفي هذا القول الثالث، وهو محبوبية العمل بخبر الواحد من غير وجوبه، فتأمل.

[2] أي: يشكل الوجهان، وحاصله جوابان:

الجواب الأول: إن فائدة الإنذار لو كانت منحصرة في التحذر لكان الإنذار لغواً لو لم يجب التحذر، ولكن لا انحصار للفائدة في التحذر، بل يمكن أن تكون الفائدة هي حصول العلم بالحكم الشرعي - إما من قول الواحد، أو من قول مجموع النافرين.

إن قلت: لوجوب التحذر إطلاق، فيجب التحذر مطلقاً، سواء حصل العلم أم لم يحصل.

قلت: لا إطلاق لفظي؛ إذ {لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} لا يوجد فيه صيغة الأمر أو سائر ما يستفاد منه الإطلاق. ولا إطلاق مقامي؛ لأن المقام هو مقام بيان وجوب النفر - ولذا كان لوجوب النفر إطلاق مقامي في نفي أي شرط محتمل لوجوب النفر - وليس المقام مقام بيان أن التحذر لازم للإنذار أو غاية له، بل ذكر وجوب التحذر تبعاً.

والحاصل: إن وجوب التحذر في الجملة يخرج الكلام عن اللغوية. وحيث لا إطلاق فلا دليل على وجوب التحذر في غير صورة العلم - لأنها القدر المتيقن - .

وأما الجواب الثاني: فسيأتي في قوله: (لو لم نقل بكونه مشروطاً به).

[3] لا لفظي كما هو واضح، ولا مقامي كما يشير إليه المصنف بقوله: (ضرورة أن...).

[4] أي: وجوب الحذر.

ص: 395

النفر[1]، لا لبيان غايتية التحذر. ولعل وجوبه[2] كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل[3] بكونه مشروطاً به[4]، فإن النفر إنما يكون لأجل[5] التفقه وتعلم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين[6] - على الوجهين في تفسير الآية -، لكي يحذروا إذا أنذروا بها،

-----------------------------------------------------------------

[1] كما يظهر من صدرها حيث قال: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ...} الآية.

وحيث إن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر كان لها إطلاق مقامي بالنسبة إلى النفر، فلو شككنا بأن النفر خاص بالشباب أم يشمل الشيوخ مثلاً، فإن الإطلاق المقامي يدل على تعميم الوجوب.

[2] أي: حيث لم يكن لوجوب التحذر إطلاق، فلا يمكن التمسك إلاّ بالقدر المتيقن وهو التحذر حين حصول العلم.

[3] هذا هو الجواب الثاني عن الاستدلال بالوجه الثاني والثالث، وحاصله: إن وجوب التحذر مشروط بحصول العلم؛ وذلك لأنه بعد الإنذار بالدين يجب الحذر، فلابد من إحراز أن المنذر الناقل إنما ينقل الدين، كي يجب الحذر، فمع الشك في أن ما ينقله من الدين فلا ترتب لوجوب الحذر.

[4] أي: بكون وجوب الحذر مشروطاً بإفادة العلم.

[5] حيث قال تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ}، والدين هو معالم الدين والأحكام التي جاء بها الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

[6] فقد قيل(1):

{لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: النافرون {وَلِيُنذِرُواْ} قومهم المتخلفين، وهذا أقرب لسياق الآية. وقيل: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: المتخلفون حيث يستمعون إلى كلام الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في المدينة {وَلِيُنذِرُواْ} المتخلفون {قَوۡمَهُمۡ} النافرين {إِذَا رَجَعُوٓاْ} النافرون {إِلَيۡهِمۡ} إلى المتخلفين في المدينة.

ص: 396


1- التبيان في تفسير القرآن 5: 321؛ مجمع البيان 5: 126؛ الفصول الغروية : 272.

وقضيته[1] إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها. كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل أيضاً[2] بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً[3]، فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر[4]، حيث إنه ليس شأن الراوي إلاّ الإخبار بما تحمله، لا التخويف والإنذار؛ وإنما هو شأن المرشد[5] أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد[6].

قلت[7]: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: مقتضى كون النفر للتفقه وتعلم معالم الدين هو لزوم إحراز كون ما يقوله المنذر هو الفقه والدين الذي تعلمه.

إشكال آخر

[2] حاصل الإشكال: ان لفظة (الإنذار) تعني الإخبار مع التخويف، ومن المعلوم أن شأن الراوي إنما هو الإخبار وليس من شأنه التخويف، فالآية لا تدل على حجية قول الراوي، بل تدل على حجية قول الواعظ، وكذا المجتهد الذي يفتي لمقلديه، فإن كلاً من الواعظ والمجتهد يخوّف المتعظ والمقلد من مغبّة مخالفة الحكم الشرعي.

[3] أي: سواء أفاد العلم أم لم يفد.

[4] بل تدل على حجية الخبر بما فيه من التخويف، وذلك خاص بالواعظ للمتعظ، والمجتهد للمقلّد.

[5] مقصود المصنف إنما هو شأن الواعظ؛ وذلك لأن الوعظ إنّما يكون مع علم السامع بالتكليف، فيأتي الواعظ فيؤكده عليه ويخوفه من مغبة المخالفة، وأما الإرشاد فإنما يكون مع جهل المسترشد بالحكم، فيأتي المرشد فيعلمه ذلك، فلذا كان الأولى التعبير بالواعظ والمتعظ.

[6] ولذا استدل بالآية على وجوب التقليد، لا على حجية الخبر الواحد.

[7] جواب المصنف عن الإشكال، وحاصله: إن الرواة في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان

ص: 397

من النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أو الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من الأحكام إلى الأنام إلاّ كحال نقلة الفتاوى إلى العوام؛ ولا شبهة في أنه يصح منهم[1] التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ[2]، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجةً بدونه[3] أيضاً، لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم[4].

ومنها: آية الكتمان[5]: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا...}(1) الآية.

-----------------------------------------------------------------

نقلهم لأجل التخويف عادة، وحالهم كحال ما يسمى الآن ب- (مسأله گو) الذين ينقلون فتاوى المجتهدين إلى العوام، فإنهم لا ينقلون لمجرد النقل، بل لأجل العمل، ونقلهم مقترن بالإنذار عادة. وإذا كان نقل الراوي المقترن بالتخويف حجة، فيكون نقله بلا تخويف حجة أيضاً؛ للقطع بعدم خصوصية للتخويف.

[1] أي: من نقلة الفتاوى، بل يقترن نقلهم بالتخويف - عادة - .

[2] «التحذير بالبلاغ» عطف تفسيري لقوله: (الإبلاغ والإنذار) وبيان أن الإنذار إنما يكون بواسطة الإبلاغ.

[3] أي: بدون التخويف.

[4] لعله إشارة إلى ردَّ عدم القول بالفصل كما مرّ في آية النفر.

أو إشارة إلى أن تعميم القبول إلى الخبر الذي لا تخويف فيه أو لم يكن مع تخويف إنما هو لعدم خصوصية التخويف، لا لأجل عدم القول بالفصل.

أو لغير ذلك.

الاستدلال بآية الكتمان

[5] قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}.

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 159.

وتقريب الاستدلال بها إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلاً[1]، للزوم لغويته بدونه[2].

ولا يخفى[3]: أنه لو سلّم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر من دعوى الإهمال[4] أو استظهار الاختصاص[5] بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما[6]،

-----------------------------------------------------------------

وحاصل الاستدلال: إن الكتمان حرام لقوله: {يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ}(1)، فإذا وجب الإظهار وجب القبول، بدلالة الاقتضاء، حيث إن الإظهار بلا لزوم القبول لغو، فصوناً لكلام الحكيم من اللغوية يحكم بوجوب القبول.

[1] أي: بدلالة الاقتضاء التي هي بحكم العقل، ودلالة الاقتضاء تكون كلّما توقف صدق أو صحة الكلام على شيء.

[2] أي: لغوية حرمة الكتمان بدون وجوب القبول.

[3] إشكال على الشيخ الأعظم(2)

حيث لم يتعرض لنفي الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول، وإنما أشكل على الاستدلال بأن الآية لا إطلاق لها، فلعل وجوب القبول في صورة العلم، أو بأن الآية مقيدة بصورة العلم.

يقول المصنف: إنه مع قبول الملازمة لا وقع للإشكال بعدم الإطلاق أو التقييد بصورة العلم؛ لأن الملازمة عقلية، ومع ثبوتها تكون في جميع الصور.

فاللازم الإشكال على الاستدلال بنفي الملازمة أولاً حتى لا يكون هناك دليل عقلي، ثم الإشكال بعدم دلالة اللفظ، فلا يكون دليل لفظي.

[4] أي: عدم وجود إطلاق في الآية.

[5] أي: استفادة التقييد، بأن يكون القبول مقيداً بصورة العلم.

[6] أي: فإن الملازمة تنافي الإهمال والاستظهار؛ وذلك لأن الملازمة عقلية،

ص: 399


1- سورة البقرة، الآية: 159.
2- فرائد الأصول 1: 287.

كما لا يخفى. لكنها ممنوعة[1]، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً[2]، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق[3] بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له عليهم الحجة البالغة.

ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر، {فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}(1).

وتقريب الاستدلال بها[4] ما في آية الكتمان.

-----------------------------------------------------------------

ومع حكم العقل بالملازمة بين أمرين لا يعقل انفكاكها أصلاً؛ إذ مع احتمال الانفكاك لا يحكم العقل أصلاً.

[1] أي: لكن الملازمة ممنوعة؛ وذلك لأن دلالة الاقتضاء لا تجري إذا لم تنحصر الفائدة في وجوب القبول، وما نحن فيه الفائدة غير منحصرة، بل يمكن أن تكون الفائدة هي كثرة الناقلين مما يوجب وضوح الحق والعلم به.

ويؤيد هذا أن شأن نزول الآية في كتمان اليهود لعلائم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ المذكورة في التوراة، ومن المعلوم أنه لا يكفي الظن في الاعتقاد بالنبوة، بل يلزم العلم، ففي مورد النزول عدم الكتمان كان لأجل اتضاح الحق بالعلم واليقين، فلم تنحصر الفائدة في القبول التعبدي.

[2] أي: من دون أن يكون سبب القبول هو حصول العلم.

[3] أي: اتضاح الحق للناس.

الاستدلال بآية السؤال

[4] الاستدلال بدلالة الاقتضاء، فإن وجوب السؤال لغو لو لم يجب القبول، فتنزيهاً للمولى عن اللغو يدل العقل على وجوب القبول.

أما وجوب السؤال فلقوله: {فَسَۡٔلُوٓاْ} وهو أمر يدل على الوجوب.

ص: 400


1- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.

وفيه[1]: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب[2].

وقد أورد عليها[3]: بأنه لو سلم[4] دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] الجواب الأول - وارتضاه المصنف - : بأن قوله تعالى: {إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} ظاهر في أن علة وجوب السؤال هو تحصيل العلم، فإنما وجب السؤال لتحصيل العلم، لا لأجل قبول كلام المسؤول مطلقاً، وكفى بتحصيل العلم فائدة جليلة، فلا لغوية في كلام المولى - حتى وإن لم تدل الآية على حجية الخبر الواحد - .

[2] أي: قبول الجواب - سواء أفاد العلم أم لم يفد - لأن المولى أمر بقبوله، فالمراد (بالتعبد) هو: امتثال أمر المولى في القبول مطلقاً.

[3] الجواب الثاني، عن الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن الراوي لا يكون من أهل الذكر، بل غالب الرواة ليسوا كذلك؛ لأن معنى الذكر هو العلم والاطلاع، والرواة إنما هم نَقَلة، فالآية تدل على لزوم القبول من أهل الذكر وهم الفقهاء، فتكون الآية في مقام قبول فتوى المجتهد العالم على مقلده الذي لا يعلم، وليست في مقام القبول من الراوي - بما هو راوٍ - .

[4] «أنه» الشأن، لو تنازلنا عن الجواب الأول، وقلنا بدلالة الآية على وجوب القبول من أهل الذكر مطلقاً - أفاد العلم أم لم يفد - .

[5] تفسير أهل الذكر بأهل العلم، والآية عامة فمن مصاديقها علماء أهل الكتاب، والسؤال عنهم شأن نزول الآية. ومن مصاديقها: الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وقد وردت روايات(2) صحاح في أن الآية فيهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ. ومن مصاديقها: المجتهدون الصالحون للتقليد.

ص: 401


1- فرائد الأصول 1: 290.
2- تفسير العياشي 2: 360؛ تفسير القمي 2: 68؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 423.

فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى[1] لا الرواية.

وفيه[2]: إن كثيراً من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن أهل الذكر والعلم ولو كان السائل من أضرابهم[3]؛ فإذا وجب قبول روايتهم[4] في مقام الجواب - بمقتضى هذه الآية - وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً[5]، لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق

-----------------------------------------------------------------

وما أكثر تفسير الآيات بالمصاديق البارزة أو الواضحة أو المصاديق الأهم، مع عدم انحصار المعنى في ذلك التفسير.

[1] لأن المجتهدين كلهم من أهل الذكر، فتدل الآية على وجوب التقليد، لا على وجوب القبول من الراوي - وإن لم يفد العلم - .

[2] حاصل إشكال المصنف على الجواب الثاني: هو أن بعض الرواة لا إشكال في أنهم كانوا فقهاء، كزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما - من أصحاب الإجماع وغيرهم - فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم؛ لعدم الفصل، فلم يقل أحد بوجوب قبول رواية الفقهاء وعدم قبول رواية غير الفقهاء، كما أن السؤال لا خصوصية له، فإذا وجب القبول بعد السؤال وجب القبول إذا ابتدأ الراوي بيان قول الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

[3] إشارة إلى دفع إشكال، حاصله: إن الآية ظاهرة في سؤال الجهال عن أهل العلم، فلا تشمل سؤال الفقهاء الرواة، مثل: سؤال زرارة عن محمد بن مسلم - مثلاً - .

والدفع: إن المناط كون المسؤول من أهل الذكر، بلا فرق بين كون الراوي منهم أو لم يكن منهم، بل الفقيه إذا لم يكن يعلم كلام الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فإنه يصدق عليه {لَا تَعۡلَمُونَ} فبسؤاله الرواية عن فقيه آخر يصدق عليه أنه سأل من أهل الذكر.

[4] أي: رواية الرواة الذين هم من أهل الذكر والاطلاع.

[5] حتى إذا لم يكونوا من أهل الذكر والاطلاع، بل كان ثقة في النقل فينقل

ص: 402

بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر، وإنما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم[1].

ومنها: آية الأُذن، {وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1). فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين[2] وقرنه بتصديقه تعالى[3].

وفيه[4]:

-----------------------------------------------------------------

بأمانة ما سمعه أو رآه، وسواء كانت الرواية بعد السؤال أم لم تكن.

[1] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على جواب الشيخ الأعظم لأنه يقول بعدم دلالة الآية على وجوب قبول رواية الراوي - حتى إذا كان الراوي مثل زرارة - فلم يثبت دلالة في أحد حتى نتمسك للتعميم بعدم الفصل، بل يقول الشيخ: إن الرواية في مقام إثبات حجية الفتوى فقط.

أو لعله إشارة إلى أن المصنف أشكل على الاستدلال بعدم الفصل كما مرّ في آية النبأ، فلا مورد للاستدلال به في هذه الآية، أو لغير ذلك.

الاستدلال بآية الاُذُن

[2] وجه الاستدلال أن تصديقهم حسن - لأن الله مدحه لذلك - وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه - كما مرّ في الاستدلال بآية النفر مع شرحه - .

[3] وهذا يؤيد وجوب تصديق المؤمنين؛ لأن تصديق الله تعالى واجب، واقتران تصديقهم بتصديقه له ظهور عرفي في وجوب تصديقهم أيضاً.

[4] الجواب الأول: هو أن الأُذُن هو الذي يُظهر التصديق - حتى مع علمه بالكذب - وليس معناه العمل بقول الغير - كما هو المراد من حجية الخبر الواحد - .

وإظهار تصديق الغير - حتى مع العلم بكذبه - من محاسن الأخلاق والفضائل.

ص: 403


1- سورة التوبة، الآية: 61.

أولاً: إنه إنما مدحه بأنه أذن، وهو سريع القطع[1]، لا الأخذ بقول الغير تعبداً.

وثانياً[2]: إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم[3]

-----------------------------------------------------------------

ويدل على ذلك أن شأن نزول الآية(1)

في المنافق الذي نَمَّ على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نميمة، فأخبره الله تعالى بذلك، فقال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ذلك للنمام فأنكر أن يكون قد نَمّ، فسكت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كالمصدّق لكلامه، فذهب المنافق يقول إنه اُذُن - بمعنى بسيط لا فكر له -

فيصدق كل ما يقال له، قال له الله فصدقه، وقلت له فصدقني فنزلت هذه الآية، ودلت على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ليس اُذُن بشكل مطلق - فإنه صفة سيئة - بل هو {أُذُنُ خَيۡرٖ} وهذا من محاسن الأخلاق وفضائلها.

ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بعد إخبار الله تعالى له وإنكار المنافق لم يكن ليصدق كلام المنافق ويكذب كلامه تعالى، فشأن نزول الآية يدل على عدم اعتناء الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بكلام المنافق، وإنّما سكت سكوتاً حُمِل على أنه صدقه، وهذا أجنبي عن بحث حجية الخبر الواحد.

[1] لم يكن المدح بأنه اُذن، بل المدح على كونه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ {أُذُنُ خَيۡرٖ} وليس معنى {أُذُنُ خَيۡرٖ} سريع القطع، فإن هذا ليس من الفضائل، بل من المساوئ، والمعنى هو ما بيناه في التوضيح السابق.

[2] حاصل الجواب الثاني: إن حجية الخبر الواحد تعين وجوب ترتيب كل الآثار حتى لو كانت بضرر بعض الناس، ومعنى {أُذُنُ خَيۡرٖ} هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفع الناس ولا تضرهم، وهذا لا ربط له بحجية الخبر الواحد.

[3] لأن عدم تكذيب الغير في وجهه نفع له، والسكوت حينما يبرئ نفسه أيضاً نفع له.

ص: 404


1- مجمع البيان 5: 68؛ التفسير الأصفى 1: 475.

ولا تضر غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار[1]، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر. ويظهر ذلك من تصديقه للنمّام[2] بأنه ما نمّه[3] وتصديقه له تعالى بأنه نمّه. كما هو المراد[4] من التصديق في قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فصدّقه وكذّبهم[5]» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمد! كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة[6] أنه قال قولاً وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»(1)،

فيكون مراده

-----------------------------------------------------------------

[1] حتى المُضِرّة لبعض الناس.

[2] لم يكن تصديقاً للنمام، بل كان سكوتاً عنه مما توهم النّمام أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد صدَّقه.

[3] أي: بأن النمام لم ينمّ على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، و«ما» نافيه.

[4] غرض المصنف الاستشهاد بحديثين استعمل فيهما التصديق وأريد به ترتيب الأثر في ما ينفع، وعدم ترتبه في ما يضر.

[5] فالمراد بقوله: «صدّقه» هو ترتيب الأثر الذي ينفعه، ومعنى «كذّبهم» هو عدم ترتيب الأثر الذي يضره، وليس المراد من كذّبهم هو اتهامهم بالكذب أو الاعتقاد بأنهم كاذبون، بل المراد عدم ترتيب الأثر الذي يضره على كلامهم؛ إذ من الواضح أن الإنسان يقطع بأقل من خمسين قسامة بأنهم صادقون، فكيف يجوّز الشارع له اتهامهم بالكذب؟ فالمراد هو عدم ترتيب الأثر الذي كان بضرره.

[6] في المفردات: (وهي أيمان تقسّم على أولياء المقتول ثم صار اسماً لكل حلف)(2)،

انتهى.

فإنه إذا دلت قرائن على أن فلاناً قاتل، فلكي يعاقب لا يكتفى بالقرائن، بل لابد من أن تحلف مجموعة كبيرة من ذوي المقتول بأن فلاناً قاتل، وهذه المجموعة - وعادة تكون خمسين - تسمى (القسّامة).

ص: 405


1- الكافي 8: 147، مع اختلاف يسير.
2- المفردات في غريب القرآن: 670.

تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم، وتكذيبهم في ما يضره ولا ينفعهم، وإلا[1] فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين! وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل[2]، فتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

و«خمسون قسامه» إما (قسامة) بدل عن (خمسون) فالمعنى خمسون شخصاً يقسمون، أو تمييز فيكون خمسون قسامه: ألفين وخمسمائة شخص، ولا بأس بأن يكون المراد هذا للدلالة على المبالغة.

[1] أي: إن لم يكن المراد من (صدقه وكذبهم) ما ذكرناه، بل كان المراد هو التصديق والتكذيب بترتيب جميع الآثار. فهذا المراد لا يمكن قبوله أصلاً، ولا يعقل أن يتفوه به الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؛ لوضوح حصول القطع بكلام الخمسين.

[2] حيث نهاه الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - نهياً إرشادياً - عن إعطاء ماله لشخص قال عنه المؤمنون بأنه شارب الخمر، فلم يمتثله إسماعيل - لكون النهي إرشادياً - فأكل ذلك الشخص ماله. فقال إسماعيل: (يا أبت لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت الناس يقولون! فقال: يا بُنيّ: إن الله عزوجل يقول في كتابه: {يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ}(1)، يقول: يصدق الله ويصدق المؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأتمن شارب الخمر...)(2)

الخ.

وفي الوصول: (فإنه ليس المراد بتصديقهم في المقام: ترتيب آثار شرب الخمر على الرجل، بل المراد عدم ائتمانه، فليس المراد ترتيب الأثر الضار، بل ترتيب أثر ينفعه ولا يضر غيره)(3)،

انتهى.

ثم إنه لا تتوهم المنافاة بين تكذيبهم في خبر القسامة، وتصديقهم في خبر إسماعيل. فإن المراد بتكذيبهم هو عدم ترتيب الأثر الضار على الرجل، والمراد

ص: 406


1- سورة التوبة، الآية: 61.
2- الكافي 5: 299.
3- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 58.

فصل: في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد وهي وإن كانت طوائف كثيرة[1]

-----------------------------------------------------------------

بتصديقهم هو عدم ترتيب الأثر الضار على النفس. وبعبارة أخرى: لا تُرَتِّب الأثر الضار عليه كما في خبر القسامة، ولا عليك كما في خبر إسماعيل.

فصل في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد

[1] منها: الروايات الدالة على الرجوع إلى بعض الرواة بالتعيين، كقول الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فلا يجوز لك أن ترده)(1).

ومنها: الروايات الدالة على حجية أخبار الثقات - من غير تعيين راوٍ بخصوصه - كالتوقيع الشريف: (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا)(2).

ومنها: الروايات الدالة على حجية رواية وفتوى العلماء، كالتوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...)(3).

ومنها: الروايات الواردة في علاج التعارض بين الأخبار، فإنها تدل على حجية خبر الثقة بنحو الجزم؛ ولذا كان السؤال عن وقوع التعارض وكيفية علاجه، كما روي أنه سُئل الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (يجيء الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟ فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)(4).

وهنا طوائف أخرى أشار إليها الشيخ الأعظم في الرسائل، وإن شئت الاطلاع

ص: 407


1- وسائل الشيعة 27: 143.
2- وسائل الشيعة 27: 149.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 484.
4- وسائل الشيعة 27: 121.

- كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها - إلاّ أنه يشكل[1] الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير متفقة[2] على لفظ ولا على معنى فتكون[3] متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنه مندفع[4]: بأنها وإن كانت كذلك[5]، إلاّ أنها متواترة إجمالاً، ضرورة أنه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وقضيته[6] وإن كان حجية خبر دل على حجيته أخصها مضموناً[7]،

-----------------------------------------------------------------

على تلك الروايات فراجع كتاب وسائل الشيعة، كتاب القضاء.

[1] خلاصة الإشكال على الاستدلال بالروايات: أنها أخبار آحاد، ولا يصح الاستدلال على حجية الخبر الواحد بأخبار الآحاد، فإنه دور واضح.

[2] أي: كثرة تلك الأخبار لا تخرجها عن كونها أخبار آحاد، فإن التواتر إما الاتفاق على لفظ واحد - وهو التواتر اللفظي - أو على معنى واحد - وهو التواتر المعنوي - وهذه الأخبار لا يجمعها لفظ واحد ولا معنى واحد.

[3] تفريع على قوله: (غير متفقة)، أي: ليست متفقة لفظاً ولا معنىً حتى تكون متواترة.

[4] حاصل الدفع: إن تلك الأخبار لكثرتها متواترة إجمالاً، وقد مرّ أن معنى التواتر الإجمالي: إما وجود قدر جامع بينها، وإما العلم بصدور بعضها، وفي تسمية هذا الثاني بالتواتر مسامحة، وظاهر كلام المصنف هنا هو المعنى الثاني.

[5] أي: غير متفقة على لفظ أو معنى لتكون متواترة لفظاً أو معنى، «أنها» أي: الأخبار الدالة على الحجية، «أنه» أن الشأن.

[6] أي: مقتضى التواتر الإجمالي - بعد عدم العلم بصدور أيّ منها - هو الأخذ بأخصها مضموناً مما نعلم بأن كل تلك الأخبار دالة عليه قطعاً.

[7] أي: القدر الجامع بين كل تلك الأخبار وهو خبر الثقة العادل المشهور رواية وفتوى، فإن الخبر الجامع لهذه الأوصاف تشمله كل تلك الروايات وتدل على حجيته.

ص: 408

إلاّ أنه يتعدى عنه[1] في ما إذا كان بينها[2] ما كان بهذه الخصوصية وقد دل على حجية ما كان أعم، فافهم[3].

فصل: في الإجماع على حجية الخبر وتقريره من وجوه[4]:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبع[5] فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: عن الخبر الأخص مضموناً، والمعنى أن التواتر الإجمالي دل على حجية الأخص مضموناً، وهذا الأخص الجامع للأوصاف المذكورة قليل جداً، ولكن يوجد خبر جامع لهذه الأوصاف ودال على حجية كل خبر ثقة، فبضم هذا الخبر لذلك التواتر الإجمالي ينتج حجية أخبار الثقات مطلقاً.

[2] أي: بين الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد.

[3] لعله إشارة إلى عدم وجود خبر هو أخصها مضموناً ودال على حجية خبر الثقة مطلقاً.

أو إشارة إلى أن التواتر الإجمالي دال على حجية خبر الثقة مطلقاً بلا حاجة إلى ضم هذه الضميمة.

أو أن التواتر المعنوي حاصل في تلك الأخبار.

فصل في الإجماع على حجية الخبر

[4] الأول: الإجماع القولي - محصلاً أو منقولاً بالتواتر - .

الثاني: الإجماع العملي، الكاشف عن اتفاقهم قولاً.

الثالث: سيرة العقلاء الممضاة من الشارع، ولا يخفى أن في عدّ هذا من الإجماع مسامحة؛ لأنه دليل آخر غير الإجماع.

[5] أي: هو إجماع محصل بالمراجعة في كلماتهم.

ص: 409

إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بذلك[1] ويقطع به[2]، أو من تتبع الإجماعات المنقولة[3] على الحجية(1).

ولا يخفى: مجازفة هذه الدعوى[4]، لاختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيات[5]، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من تتبعها؛ وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة؛ اللهم إلاّ أن يدعى[6] تواطؤها على الحجية في الجملة،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بالحجية، ولا يضر مخالفة السيد المرتضى وأتباعه، فإنهم معلوموا النسب على مبنى الإجماع الدخولي، ولا تضر مخالفتهم على مبنى اللطف، وكذا على مبنى الحدس.

[2] أي: كشف رضا الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالقطع لا بالظن؛ لأن الكشف الظني غير مفيد، بل نحتاج إلى دليل قطعي لإثبات حجية الخبر الواحد أو أي ظن خاص.

[3] أي: يمكن إثبات الإجمالي القولي بتواتر نقل الإجماع، فهو إجماع منقول متواتر يفيد القطع.

[4] وذلك لوضوح اختلافهم في الخبر الحجة على أقوال، فمنهم من اعتبر كل ما في الكتب الأربعة، ومنهم من اعتبر حجية خبر الثقة، ومنهم من قال بحجية خبر الإمامي، ومنهم من اشترط عمل المشهور، ومنهم من اشترط عدم إعراض المشهور، وغير ذلك. ومع هذه الاختلافات كيف حصل الإجماع؟!

[5] «في اعتباره» أي: خبر الواحد، و«من الخصوصيات» بيان لقوله: (في ما أخذ...)، و«معه» أي: مع اختلاف الفتاوى.

[6] أي: يقال: إنه وإن اختلف الفتاوى في شرط حجية الخبر الواحد لكنها متفقة على حجيته في الجملة، وغرضنا الآن إثبات الحجية في الجملة مقابل السلب الكلي، كما قال المصنف في مقام رد أدلة النافين: (وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام).

ص: 410


1- فرائد الأصول 1: 311.

وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها[1]، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها[2]: دعوى اتفاق العلماء عملاً[3] - بل كافة المسلمين - على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول[4] - أنه لو سلم اتفاقهم[5] على ذلك[6]، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين[7] أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين، كما هم[8] لا يزالون يعملون بها في غير الأمور

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: في الحجية، «إثباته» أي: إثبات تواطئها - أي: توافقها - على الحجية في الجملة.

[2] أي: ثاني الوجوه هو الاتفاق العملي الكاشف عن اتفاقهم القولي، والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن ذاك كان بياناً للإجماع القولي، وهذا للإجماع العملي.

[3] أي: اتفاقهم من جهة العمل الكاشف عن إجماعهم القولي.

[4] أي: إن اختلافهم في الخصوصيات المأخوذة في الخبر الواحد توجب وهن ادعاء الاتفاق.

[5] حاصل الإشكال: هو أن منشأ الاتفاق العملي قد يكون حكم الشرع، وقد يكون سيرة العقلاء.

فالأول: كاتفاق المسلمين على نجاسة الميتة، فإن منشأه حكم الشرع، وهذا هو الكاشف عن إجماعهم القولي الكاشف عن قول المعصوم.

والثاني: كاتفاق المسلمين على الاعتماد على أهل الخبرة، فإن منشأه هو بناء العقلاء، وهذا لا يكون كاشفاً عن الإجماع القولي ولا كاشفاً عن رأي المعصوم، وهذا يرجع إلى الوجه الآتي، فلا يكون وجهاً مستقلاً.

[6] أي: اتفاق العلماء والمسلمين على العمل بخبر الواحد.

[7] وهذا هو الذي ينفع في إثبات الإجماع.

[8] تأييد بأن اتفاقهم العملي ليس منشؤه الشرع، بل منشؤه سيرة العقلاء؛ ولذا

ص: 411

الدينية من الأمور العادية.

فيرجع إلى ثالث الوجوه؛ وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي، ضرورة أنه لو كان[1] لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضاً[2].

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتباع غير العلم. وناهيك[3] قوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ}(1)[4]، وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔاۚ}(2).

قلت[5]: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه - مضافاً إلى أنها وردت

-----------------------------------------------------------------

العلماء والمسلمين حتى في غير أمورهم الدينية يعملون بخبر الواحد، وهذا يكشف عن أن عملهم به في أمورهم الدينية بما هم عقلاء لا بما هم متشرعة.

[1] أي: إن الردع لو كان موجوداً لكان مشتهراً؛ وذلك لأن العمل بخبر الواحد شائع ورائج، فلو كان منع لراج وظهر واشتهر لارتباطه بالحياة اليومية للناس.

[2] وذلك لأن المتشرعة يعملون به في الشرعيات أيضاً، فلو كان ممنوعاً لبيّنه الشارع ولشاع بين الناس.

[3] أي: يكفيك.

[4] أي: لا تتبع غير العلم، من (قفا، يقفو) أي: اتبع.

[5] أجاب المصنف بثلاثة أجوبة على أن الآيات والروايات المانعة عن اتباع الظن لا تشمل الخبر الواحد:

الأول: إنها خاصة بالعمل بالظن في أصول الدين.

ثانياً: إنها لو لم تكن خاصة بأصول الدين فلا دلالة لها أيضاً؛ لأن الاستدلال

ص: 412


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 36.

إرشاداً[1] إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، ولو سلم فإنما المتيقن[2]، لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها[3] هو خصوص[4] الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة - لا يكاد[5]

-----------------------------------------------------------------

بإطلاقها، ومن مقدمات الحكمة هو عدم وجود قدر متيقن، لكن هنا يوجد قدر متيقن - وهو أصول الدين - فلا يمكن التمسك بإطلاقها، بل يمكن ادعاء انصرافها إلى أصول الدين.

ثالثاً: الدور، وسيأتي توضيحه.

[1] لأن العقل يكشف أو يحكم بعدم جواز اتباع الظن في أصول الدين؛ لأن الموضوع خطير جداً، ويرتبط بالمصير الأبدي للإنسان، فلابد من تحصيل العلم به، ومع حكم العقل أو كشفه يكون أمر الشارع إرشادياً، - كما ذكروا في الفرق بين الأوامر المولوية والأوامر الإرشادية - .

[2] أي: لو سلم بأنها لم ترد في أصول الدين، فيقال: إن استفادة شمولها لخبر الواحد إنما هو بالإطلاق، وهذا الإطلاق غير تام؛ لعدم تمامية مقدمات الحكمة؛ وذلك لوجود قدر متيقن.

[3] أي: لو لم نقل بالانصراف، والفرق أنه مع وجود القدر المتيقن لا يُعلم بأن المولى أراد الأزيد منه، أما الانصراف فهو يدل على أن المولى أراد خصوص مورد الانصراف.

«أنه» أي: الظن في أصول الدين، «إطلاقها» فاعل «المنصرف» والضمير عائد إلى الآيات والروايات المانعة عن العمل بالظن.

[4] «هو خصوص» خبر لقوله: (فإنما المتيقن).

[5] لا يكاد خبر قوله: (فإنه مضافاً...) وهذا بيان للإشكال الثالث وهو الدور، وتوضيحه: إن الآيات إنّما تكون رادعة عن العمل بالخبر الواحد إذا لم تخصصها السيرة؛ لأن السيرة إذا خصصت الآيات فلا تكون الآيات شاملة للخبر الواحد

ص: 413

يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر، وذلك لأن الردع بها[1] يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها[2] بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو[3] يتوقف على الردع عنها بها[4]، وإلا[5] لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى.

لا يقال[6]: على هذا[7] لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلاّ على وجه

-----------------------------------------------------------------

حتى تردع عنه، وعدم تخصيص السيرة للآيات متوقف على رادعية الآيات؛ لأن الآيات لو لم تكن رادعة لخصصتها السيرة فأخرجت منها الخبر الواحد، وهذا دور مصرح.

[1] أي: الردع بالآيات عن العمل بالخبر الواحد.

[2] أي: عموم وإطلاق الآيات، ولا يخفى أن الآيات الرادعة كلها مطلقة، فالدليل يكون مقيد لها، وكذا الروايات - حسب علمنا - كذلك مطلقة، فقوله: (تخصيص عمومها) إنّما هو فرض.

[3] أي: تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها.

[4] أي: على الردع عن السيرة بالآيات.

[5] أي: وإن لم تردع الآيات عن السيرة لكانت السيرة سليمة عن المعارض، فتكون المتبعة، فيتم بها تخصيص أو تقييد الآيات.

[6] هذا إشكال نقضي، وهو أن دلالة السيرة على حجية خبر الثقة أيضاً دوري، فلا يمكن الاستدلال بالسيرة على الحجية؛ لأن ما يلزم منه المحال يكون محالاً أيضاً؛ وذلك لأن حجية الخبر بالسيرة يتوقف على عدم رادعية الآيات عن هذه السيرة؛ لأن الآيات لو كانت رادعة سقطت السيرة عن الاعتبار، وعدم الرادعية يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة؛ لأن الآيات لو لم تُخَصَّص كانت عامة شاملة لهذه السيرة، وتخصيص الآيات متوقف على عدم ردع الآيات عن السيرة، فصار دوراً مضمراً.

[7] أي: بناءً على جريان الدور في رادعية الآيات عن السيرة.

ص: 414

دائر، فإن اعتباره بها[1] فعلاً يتوقف على عدم الردع بها عنها[2]، وهو يتوقف على تخصيصها بها[3]، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها[4].

فإنه يقال[5]: إنما يكفي في حجيته بها[6] عدم ثبوت الردع عنها لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي[7] في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى[8]؛

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: اعتبار الخبر بالسيرة، فإنها دليل حجيته، وقوله: «فعلاً» أي: بعد نزول الآيات الرادعة.

[2] أي: عدم الردع بالآيات عن السيرة.

[3] و«هو» أي: عدم الردع، «تخصيصها» أي: الآيات، «بها» أي: بالسيرة.

[4] «هو» التخصيص، «بها» بالآيات، «عنها» عن السيرة.

[5] حاصل الجواب: هو إنكار آخر الدور، أي: تخصيص الآيات بالسيرة لا يتوقف على عدم رادعية الآيات، كما كان في النقض بالدور، بل يتوقف على عدم ثبوت الرادعية. فعدم الرادعية يتوقف على التخصيص، ولكن التخصيص لا يتوقف على عدم الرادعية، بل يتوقف على عدم ثبوت الرادعية.

[6] أي: في حجية الخبر بالسيرة، وذلك بأن تكون السيرة مخصصة للآيات المانعة عن العمل بالظن.

[7] أي: كما يكفي في حجية الخبر بالسيرة عدم ثبوت الردع كذلك يكفي في تخصيص السيرة للآيات عدم ثبوت الرادعية.

والحاصل: إن السيرة العقلائية تكون حجة لو لم يثبت رادع شرعي عنها.

[8] ولا يخفى أن الدور ليس بصحيح لا كما ادعاه المصنف ولا كما ذكره في النقص؛ وذلك لأن عدم أحد الضدين لا يتوقف على وجود الضد الآخر، بل يلازمه، فإن استقبال القبلة - مثلاً - لا يتوقف على استدبار الجهة الأخرى، بل هما متلازمان، وهنا الردع لا يتوقف على عدم التخصيص، بل هما ضدان، ووجود

ص: 415

ضرورة[1] أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو[2] في صورة المخالفة عن الواقع، يكون[3] عقلاً في الشرع متبعاً ما لم ينهض دليل على المنع[4] عن اتباعه في الشرعيات، فافهم وتأمل[5].

-----------------------------------------------------------------

الردع يلازم عدم التخصيص - وهو ضده - . وكذا عدم الردع لا يتوقف على التخصيص، بل يلازمه.

[1] دليل أنه يكفي عدم ثبوت الرادعية في حجية السيرة العقلائية. وحاصله: إن طرق الطاعة والمعصية طرق عقلية، ولم يجعل الشارع طريقاً خاصاً.

ولما كانت السيرة من الطرق العقلائية فتكون حجة في إثبات أمر المولى ونهيه، والثواب على امتثال الأمر والنهي والعقاب على مخالفتهما، وحيث إن السيرة العقلائية دلت على حجية الخبر الواحد - بما يتضمنه من أمر المولى ونهيه - فيلزم اتباع هذه السيرة، وإطاعة المولى بامتثال الأمر والنهي وعدم معصيته بمخالفتهما.

[2] «لو» وصلية، أي: لو وافق الأمر لا يكون مستحقاً للعقوبة حتى إذا كان الأمر خاطئاً؛ وذلك لأنه اتبع الطريقة العقلائية في طاعة المولى.

[3] «يكون» خبر (أن ما جرت...)، والمعنى أنه بحكم العقل يكون الطريق العقلائي متبعاً في الأوامر الشرعية.

[4] أي: دليل خاص بخصوص طريق من الطرق العقلائية، كالقياس.

[5] أشار المصنف إلى وجهه في الحاشية، وحاصله: إنه لو تعارضت السيرة في الحجية وإطلاق الآيات في عدم الحجية فإنهما يتساقطان، فنرجع إلى الأصل العملي وهو استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات الرادعة، إلى آخر ما ذكره في الحاشية فراجع(1).

ص: 416


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 3: 342.

فصل: في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد.

أحدها[1]: إنه يعلم إجمالاً[2] بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار[3] من الأئمة

-----------------------------------------------------------------

فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد

أول الوجوه العقلية

[1] حاصله: إنا نعلم بوجود التكاليف الشرعية في مضامين مختلف الأدلة، وهذا العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود هذه التكاليف المعلومة بالإجمال في مضامين الأخبار المروية عن الأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وإلى شك بدوي في مضامين سائر الأدلة، حيث لا نعلم بوجود تكاليف أزيد مما في مضامين الأخبار.

نظير ما إذا علمنا بوجود شياه محرمة في قطيع غنم، فهذا علم إجمالي كبير، ثم علمنا بأن المقدار المعلوم موجود في الأغنام السوداء، فإن العلم الإجمالي الكبير - بوجود معلومة الحرمة في القطيع - ينحل إلى علم إجمالي صغير بوجود المحرّمة في السوداء، وشك بدوي بالنسبة إلى البيضاء، فيكون مجرى أصالة البراءة في البيضاء، والاحتياط في السوداء.

وحينئذٍ فالأخبار المثبتة للتكليف تكون مقتضى الاحتياط هو العمل بها، وأما الأخبار النافية للتكليف فإن لم يكن في موردها احتياط جاز العمل بها، ولكن إذا كان في موردها ما يثبت التكليف فالاحتياط هو ترك تلك الأخبار والعمل بما يقتضي الاحتياط.

[2] هذا هو العلم الإجمالي الصغير.

[3] ولا نعلم بالتفصيل الأخبار الصادرة، فلذا يلزم الاحتياط في جميع الأخبار.

ص: 417

الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بمقدار وافٍ بمعظم الفقه[1]، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمنا الإجمالي[2] بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى[3] العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير(1)

المعتبرة[4].

ولازم ذلك[5] لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة[6]، وجواز العمل على طبق النافي منها[7] في ما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له[8] من قاعدة

-----------------------------------------------------------------

[1] بحيث لا نعلم وجود تكليف آخر في مضامين سائر الأدلة، بل نحتمل وجود تكاليف فيها، وهذا الاحتمال شك بدوي يكون مجرى أصالة البراءة.

[2] وهو العلم الإجمالي الكبير.

[3] «إلى» متعلق ب- (لانحلّ).

[4] كالشهرة الفتوائية، وإنّما قال: «الغير المعتبرة» لأن الأمارات المعتبرة خارجة عن أطراف العلم الإجمالي أصلاً، ولأنها لو كانت معتبرة لم يكن معنى لإجراء أصالة البراءة في أطرافها، بل كان يجب العمل بها.

[5] أي: لازم انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير - بوجود التكاليف المعلومة بالإجمال في مضامين الأخبار - .

[6] أي: المثبتة للتكليف؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي هو وجوب الاحتياط، والعمل بالتكاليف المثبتة هو مطابق للاحتياط.

[7] أي: من الأخبار، لأن العمل بها لا يخالف الاحتياط، وكذا ترك العمل بها لا يخالف أيضاً الاحتياط، فلذا كان العمل بها جائزاً لا واجباً.

نعم، لو خالف الاحتياط العمل بالأخبار النافية وجب تركها والعمل بما يقتضيه الاحتياط؛ إذ مع العلم الإجمالي يجب العمل بالاحتياط وترك ما يخالفه.

[8] أي: للتكليف، كقاعدة الاشتغال التي موردها هو الشك في المكلّف به، بأن

ص: 418


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «غير المعتبرة».

الاشتغال أو الاستصحاب بناءً[1] على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة[2] على انتقاضها فيه، وإلاّ[3] لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

-----------------------------------------------------------------

نعلم بأصل التكليف مع دوران الأمر بين فردين أو أفراد معدودة، كما لو علمنا بوجوب إما صلاة الجمعة أو صلاة الظهر في زمان الغيبة، فلا يجوز العمل بالخبر الذي ينفي التكليف عن أحدهما؛ لأن قاعدة الاشتغال هي وفق الاحتياط دون الخبر النافي.

وكاستصحاب التكليف، كعلمنا بوجوب صلاة العيدين في زمان الحضور، وعند الشك في وجوبها في زمان الغيبة نستصحب التكليف - لأنه الموافق للاحتياط - فلا يجوز العمل بالأخبار النافية للوجوب في زمان الغيبة.

[1] «بناء» قيد للاستصحاب، أي: جريان الاستصحاب هنا متوقف على أحد المبنيين دون الآخر؛ وذلك لأنه لو كان هنالك علم إجمالي ثم خرج بعض الأفراد عن كونها طرفاً للعلم الإجمالي فهل يجري الاستصحاب أم لا؟ فيه خلاف.

كما لو علمنا بنجاسة الإناءين، ثم علمنا إجمالاً بتطهير أحدهما، فهل يجري استصحاب وجوب الاجتناب عن الإناءين أم لا؟

وما نحن فيه من هذه المصاديق، حيث علمنا إجمالاً بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف، فهل نتمكن من استصحاب وجوب صلاة الجمعة الثابتة في زمان الظهور أم لا؟ فإن قلنا - في المبنى - بجريان الاستصحاب فإنه يجري هنا، ولا يجوز العمل بالخبر النافي، وإلاّ لم يجر الاستصحاب وبقي الخبر النافي سليماً عن أن يعارضة الاستصحاب - الموافق للاحتياط - .

[2] لأن انتقاض الحالة يكون إما بالعلم أو بالدليل المعتبر تعبداً.

[3] أي: وإن لم نقل بجريان الاستصحاب في ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فيه.

ص: 419

وفيه[1]: إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر بحيث يُقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً[2] على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم[3] عما

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن هذا الدليل يثبت لزوم الاحتياط في العمل بالخبر المثبت، وهذا المقدار لا يثبت لزوم العمل به حتى وإن كان مخالفاً للأصول اللفظية والعملية. مع أن معنى حجية الخبر كونه مقدماً على الأصول اللفظية كالعموم والإطلاق ونحوها إذا كان الخبر خاصاً أو مقيداً - مثلاً - .

فتحصل: عدم نهوض هذا الدليل لإثبات حجية الأخبار النافية للتكليف، ولا يثبت تقديم الخبر على الإطلاق والعموم ونحوها، كما لا يثبت تقديم الخبر على بعض الأصول العملية.

[2] بأن كان الخبر منطوقاً وغيره مفهوماً، ومن الواضح تقديم المنطوق - إذا كان حجة - على المفاهيم.

[3] إشارة إلى عدم ورود إشكال آخر أورده الشيخ الأعظم، فإن الشيخ الأعظم(1)،

قرّر الدليل: بأنا نعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في مضامين مختلف الأدلة، ونعلم إجمالاً بوجود كثير من تلك التكاليف في مضامين الأخبار.

وأورد على هذا التقرير: بأن علمنا بوجود تكاليف في مضامين الأخبار لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ إذ العلم الإجمالي لا يختص بمضامين الأخبار، بل هو عام لكل الأدلة، نظير ما لو علمنا بوجود أغنام محرمة في القطيع وعلمنا بوجود أغنام محرمة في الأغنام السوداء، فإن هذا العلم الثاني لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول الكبير.

يقول المصنف: إن هذا الإشكال لا يرد على التقرير الذي بيناه، حيث إنا نعلم إجمالاً بوجود التكاليف في مضامين الأخبار، ولا نعلم بوجود تكاليف أخرى في مضامين سائر الأدلة.

ص: 420


1- فرائد الأصول 1: 359.

أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الأمارات لا في خصوص الروايات، لما عرفت[1] من انحلال العلم الإجمالي بينهما[2] بما علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال[3]، فتأمل جيداً.

ثانيها[4]: ما ذكره في الوافية مستدلاً على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة - مع عمل جمع به من غير ردٍ ظاهر[5].

وهو[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لسلامة الدليل عن هذا الإشكال.

[2] أي: بين الروايات وبين سائر الأمارات.

[3] إشارة إلى العلم الإجمالي الصغير، وهو علمنا بوجود تكاليف في مضامين الأخبار، مع عدم علمنا بوجود تكليف آخر في مضامين سائر الأدلة.

ثاني الوجوه العقلية

[4] الفرق بين هذا الدليل وسابقه - مع اشتراكهما في الاستدلال بالعلم الإجمالي - هو أمران:

1- إن هذا الدليل أخص، حيث استدل به على حجية ما في الكتب المعتمدة - بشرط العمل وعدم الرد - والدليل السابق أعم يدل على حجية مطلق الأخبار.

2- إن هذا يتطرق إلى عدم معرفة تفاصيل التكاليف إلاّ عبر الأخبار، والسابق يتطرق إلى الأحكام بشكل مطلق.

[5] الدليل على حجية الخبر بثلاثه شروط: 1- كونه في الكتب المعتمدة - كالكتب الأربعة - . 2- أن يكون قد عمل به جمع من الأصحاب. 3- أن لا يكون الخبر مردوداً بأن أعرض عنه الأصحاب، أو حمل على التقية ونحوها.

[6] حاصل الدليل مركب من ثلاث مقدمات: 1- نعلم بوجود تكاليف. 2- نعلم بأن هذه التكاليف ليست بمنسوخة، بل مستمرة إلى يوم القيامة. 3- لا طريق إلى

ص: 421

«إنا نقطع ببقاء التكليف(1) إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية[1]، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن جُلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي(2)،

بحيث نقطع[2] بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكر ذلك فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان»(3)،

انتهى.

وأورد عليه[3]: أولاً: بأن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط

-----------------------------------------------------------------

تفاصيل هذه التكاليف إلاّ الأخبار، بحيث إنه لو تركنا الأخبار ولم نعمل بهذه التفاصيل لخرجت هذه التكاليف عن حقيقتها قطعاً، فالصلاة مركبة من أجزاء ولها شرائط وموانع، وأكثر هذه الأجزاء والشرائط والموانع لا تُعلم إلاّ بواسطة الأخبار، بحيث لو تركناها لخرج فعلنا عن حقيقة الصلاة.

[1] مقصوده من «الأصول» هو أساسيات التكاليف الفرعية، «الضرورية» التي هي من ضروريات الدين.

[2] مثلاً: الصلاة التي لم تتضمن الأجزاء والشرائط ولم تَخْلُ عن الموانع المذكورة في الأخبار ليست بصلاة قطعاً، ولو كان التعبير ب- (نقطع بخروج الأفعال عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد) كان أفضل.

[3] الإشكال الأول، هو ما ذكره الشيخ الأعظم(4)

وحاصله: إن مرجع هذا الدليل إلى العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي بوجود التكاليف وتفاصيلها إنما هو في عامة الأخبار، لا في خصوص الأخبار التي ذكرها صاحب الوافية - وهي الموجودة في الكتب المعتمدة مع عمل جمع من غير ردّ ظاهر - .

ص: 422


1- في الوافية: «التكاليف».
2- في الوافية: «غير القطعي».
3- الوافية: 159.
4- فرائد الأصول 1: 361.

بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذٍ[1] إما الاحتياط أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته[2].

قلت[3]: يمكن أن يقال: إن العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار[4]، إلاّ أن العلم[5] بوجود الأخبار الصادرة عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بقدر الكفاية بين تلك الطائفة[6]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لما كان متعلق العلم الإجمالي هو عامة الأخبار فاللازم الاحتياط بالعمل بعامة الأخبار الدالة على الأجزاء والشرائط، وإن لم يكن العمل بعامتها للزوم الحرج مثلاً، فاللازم العمل بجميع ما ظن صدوره - حتى لو لم يكن فيه الشروط التي ذكرها صاحب الوافية - لأن العمل بما ظن صدوره أقرب إلى الاحتياط، «حينئذٍ» أي: حين كون العلم الإجمالي في عامة الأخبار.

[2] وكذا مانعيته وقاطعيته، ونحوها.

[3] المصنف لم يرتض هذا الإشكال، حيث إنه يرى انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير وشك بدوي، حيث إنا لا نعلم بوجود أجزاء وشرائط وموانع زائداً عما هو موجود في الكتب المعتمدة المعوّل بأخبارها غير المعرض عنها، فانحلّ العلم الإجمالي الكبير. نعم، نحتمل وجود جزء أو شرط أو مانع آخر غير مذكور في تلك الكتب، لكن هذا الاحتمال شك بدوي فيكون مجرى البراءة.

[4] حتى التي لا تتوفر فيها الشروط التي ذكرها صاحب الوافية، وهذا هو العلم الإجمالي الكبير.

[5] مقصوده انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير بوجود الأجزاء والشرائط في ضمن تلكم الأخبار، وشك بدوي في وجود شيء منها في سائر الأخبار.

[6] المشروطة بالشروط التي ذكرها صاحب الوافية.

ص: 423

أو العلم[1] باعتبار طائفة كذلك بينها يوجب[2] انحلال ذاك العلم الإجمالي وصيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم - كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول -. اللهم إلاّ أن يمنع[3] عن ذلك وادعي[4] عدم الكفاية في ما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها، فتأمل[5].

-----------------------------------------------------------------

[1] الفرق هو أن هذا هو العلم باعتبارها ولزوم العمل بها مع عدم العلم بصدورها، وقبله: هو العلم بصدورها، «كذلك» أي: بقدر الكفاية، «بينها» أي: بين تلك الطائفة المشروطة بالشروط التي ذكرها صاحب الوافية.

[2] خبر (أن) في قوله: (إلاّ أن العلم)، «غيرها» أي: غير تلك الطائفة.

[3] إشكال على قوله: (قلت يمكن... الخ)، وحاصله: هو منع انحلال العلم الإجمالي الكبير وبقاء العلم الإجمالي في كل الأخبار، «ذلك» أي: الانحلال.

[4] هنا ادّعاءان على سبيل منع الخلو:

الادعاء الأول: هو أن كل الأخبار طرف في العلم الإجمالي، فإنا نعلم بعدم كفاية ما في تلك الطائفة، فتكون الطائفة الأخرى أيضاً داخلة في أطراف العلم الإجمالي من غير انحلال له.

الادعاء الثاني: هو العلم بوجود أجزاء وشرائط أو موانع في الطائفة الأخرى أيضاً.

فالأول ناظر إلى الطائفة الأولى وعدم كفايتها، والثاني ناظر إلى الطائفة الأخرى والعلم بوجود أجزاء ونحوها فيها.

[5] لعلّه إشارة إلى أن المنع عن الانحلال لا وجه له، وكذا هذان الادعاءان محل إشكال، فإنا بعد تتبع أحوال أصحاب الكتب الأربعة ونحوها من الكتب المعتمدة، وشدّة تتبعهم ودقّتهم مع إرادتهم جمع كل الأجزاء والشرائط والموانع، نقطع بعدم وجود تكليف آخر في سائر الأخبار، لا أقل بعدم علمنا بوجود شيء آخر فيها، فتكون مورداً لأصالة البراءة لانحلال العلم الإجمالي.

ص: 424

وثانياً[1]: بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الأخبار النافية لهما[2].

والأولى[3] أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة في ما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما[4] من عموم دليل أو إطلاقه[5]، لا الحجية[6] بحيث

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: ما مرّ في الإشكال على الدليل العقلي الأول، وهو أن مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط، والاحتياط يقتضي العمل بالأخبار المثبتة للتكليف لا النافية، «قضيته» أي: مقتضى هذا الدليل الذي ذكره صاحب الوافية.

[2] أي: للجزئية والشرطية؛ وذلك لأن قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين، والإتيان بكل ما يحتمل جزئيته وشرطيته، وسيأتي أن مبنى المصنف هو الاحتياط هنا لا البراءة.

[3] هذا هو الإشكال الثالث، وهو أيضاً كان يرد على الدليل الأول، وقد ذكره المصنف هناك مفصلاً، «عليه» أي: على الدليل الثاني وهو ما ذكره صاحب الوافية.

[4] أي: نفي الشرطية أو الجزئية، فإنه لو قامت حجة معتبرة على نفيهما فلا تصل النوبة إلى الاحتياط بالعمل بالأخبار، بل اللازم العمل بتلك الحجة، كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ثم قامت بينة على تعيينه، فإنه ينحل العلم الإجمالي.

[5] كعموم آية أو خبر متواتر، فإنه حجة معتبرة، فلا يلزم الاحتياط بالعمل بالخبر الواحد؛ لأن الخبر الواحد - على هذا الدليل - إنّما يُعمل به للاحتياط، ولا معنى للاحتياط مع وجود حجة معتبرة.

[6] وهذه الحجية هي المطلوبة من الخبر الواحد بحيث يمكنه تخصيص عموم القرآن، وتقييد إطلاقه، ونحوه.

ص: 425

يخصص أو يقيد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي[1] في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها[2]: ما أفاده بعض المحققين[3] بما ملخصه: «إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة[4]، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحوٍ يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه[5]،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: هذا أيضاً المطلوب من حجية الخبر الواحد، حيث يلزم رفع اليد عن الأصول العملية ولزوم العمل بالخبر، أما هذا الدليل فلا يمكنه أن يثبت حجية الخبر النافي للتكليف في قبال الأصول الدالة على الاحتياط.

والحاصل: إن هذا الدليل أخص من المدعى، فيثبت حجية خصوص الخبر المثبت للتكليف إذا لم يكن قباله عموم أو إطلاق، وحجية خصوص الخبر النافي للتكليف إذا لم يكن في قباله احتياط ولو بأصل عملي.

ثالث الوجوه العقلية

[2] حاصله: إن ذمتنا مشغولة بالعمل بالسنة يقيناً - بمعنى وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة - والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، فإن تمكنا من تحصيل اليقين بالبراءة عبر الرجوع إلى الأخبار القطعية الصدور أو المعلومة الاعتبار فذلك لازم، وإلاّ فلابد من الرجوع إلى الأخبار المظنونة الصدور أو مظنونة الاعتبار.

[3] وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم(1).

[4] لأنا مكلفون بتكاليف، وعامة تلك التكاليف - إلاّ النادر - تثبت بالكتاب والسنة، فما دام الشارع يريد تلك الأحكام لابد من الرجوع إليها.

[5] أي: ما بحكم العلم، وهو ما دل على اعتباره دليل قطعي، مثل: ظواهر الكتاب.

ص: 426


1- هداية المسترشدين 3: 373.

فلابد من الرجوع إليهما كذلك[1]، وإلا[2] فلا محيص عن الرجوع على نحوٍ يحصل الظن به[3] في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما».

وفيه[4]: إن قضية بقاء التكليف فعلاً[5] بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة - كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه «زيد في علو مقامه» - إنما هو[6] الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقن الاعتبار[7]، فإن وفى، وإلا[8] أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة[9]

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إلى الكتاب والسنة، «كذلك» أي: على نحو يحصل العلم بالحكم، أو ما بحكم العلم.

[2] أي: وإن لم يكن تحصيل العلم أو ما بحكمه.

[3] أي: الظن بذلك الرجوع في الخروج عن عهدة التكليف الدال على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة.

[4] حاصل الإشكال الأول هو: إن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية عقلاً لا الظنية، فلا وجه للرجوع إلى الظن أصلاً، حيث يمكن تحصيل البراءة اليقينية بالاحتياط.

[5] أي: استمرار التكليف بالرجوع إلى الأخبار إلى زماننا وإلى يوم القيامة.

[6] لأنه مقتضى قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية).

[7] وهو الأخبار المقطوعة الصدور أو المعلومة الاعتبار بأن قام دليل قطعي على اعتبارها.

[8] أي: إن وَفَت الأخبار المتيقنة الاعتبار فهو المطلوب، وبالعمل بها نخرج عن عهدة تكليف الرجوع إلى السنة، وإن لم تفِ أضيف إلى المتيقنة الاعتبار الرجوع... الخ.

[9] أي: المتيقن اعتباره بالنسبة إلى غيره من الأخبار، كالخبر الصحيح بالنسبة إلى الخبر الضعيف مثلاً.

ص: 427

لو كان[1]، وإلاّ[2] فالاحتياط بنحو عرفت[3]، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره؛ وذلك[4] للتمكن من الرجوع علماً تفصيلاً أو إجمالاً، فلا وجه معه[5] من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا.

مع[6] أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذاك المعنى[7] في ما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأما الإيراد[8] عليه:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لو كان متيقن الاعتبار بالإضافة.

[2] أي: لو لم يكن متيقن الاعتبار بالأصالة ولا بالإضافة، بل كانت الأخبار متساوية، فلابد من الرجوع إلى الاحتياط لا إلى الظن.

[3] أي: عرفت في الوجه الأول من لزوم العمل بالأخبار المثبتة للتكليف، وجواز العمل بالأخبار النافية إن لم يكن قبالها احتياط حتى ولو كان استصحاباً أو اشتغالاً.

[4] أي: وجه عدم جواز الرجوع إلى الظن هو إمكان تحصيل العلم ولو بنحو إجمالي عبر الاحتياط.

[5] أي: مع العلم التفصيلي أو الإجمالي.

[6] هذا إشكال ثانٍ على الوجه الثالث، وحاصله: إن أصل التكليف بالرجوع إلى الأخبار غير معلوم، فانتفى الاستدلال من أصله؛ إذ لا اشتغال يقيني حتى يستدعي البراءة اليقينية.

[7] أي: بمعنى الأخبار الحاكية لها، إذا لم تكن مقطوعة الصدور أو الاعتبار، وقوله: «واسع» خبر (أن) في (مع أن مجال المنع...).

[8] وهذا إشكال آخر ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وحاصله: إن هذا الوجه العقلي الثالث ليس وجهاً مستقلاً، بل إما يرجع إلى دليل الانسداد أو إلى الوجه العقلي

ص: 428


1- فرائد الأصول 1: 363.

برجوعه، إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه[1] دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية، وإما إلى الدليل الأول لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه[2]: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة[3] إلى يوم القيامة. فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

فصل: في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن وهي أربعة:

الأول[4]:

-----------------------------------------------------------------

الأول، حيث إن مبنى هذا الدليل إن كان وجود تكاليف واقعية فهذا يرجع إلى دليل الانسداد، وإن كان المبنى هو العلم بصدور جملة من الأخبار فهذا يرجع إلى الوجه العقلي الأول.

[1] أي: لو كان مبنى هذا الدليل وجوهره.

[2] المصنف لم يرتض هذا الإشكال الثالث لذا ردّه، وحاصل الرد: إن ملاك هذا الدليل هو وجوب العمل بالروايات، وهذا الملاك يختلف عن ملاك الانسداد، وعن ملاك الوجه الأول.

[3] في ما أورثت الظن - مثلاً - أو كانت مقطوعة الصدور بالإضافة.

فصل الوجوه التي أقيمت على حجة الظن

اشارة

[4] وهو: مركب من صغرى وكبرى:

أما الصغرى: فإن المجتهد حينما يظن بحكم شرعي إلزامي - من الوجوب والحرمة - فإنه يظن بأن المكلف لو خالف ذلك الحكم فإنه يعاقب أخروياً ويبتلى بالمفسدة

ص: 429

إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي[1] مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى: فلأن الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم[2] الظن بالعقوبة على مخالفته، أو الظن بالمفسدة فيها[3]،

-----------------------------------------------------------------

دنيوياً؛ لأن كل حكم شرعي إلزامي تجب طاعته وتحرم مخالفته، فلذا يستحق العقاب على المخالفة، وكذا كل حكم إلزامي فإنما كان لأجل مصلحة أو مفسدة في المتعلق، ومخالفته توجب فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة.

وأما الكبرى: فإن العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المظنون.

إن قلت: مبنى هذا الحكم العقلي هو التحسين والتقبيح العقليان، أي: حكم العقل بحسن دفع الضرر المحتمل وقبح الوقوع فيه، والأشاعرة لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، فلا تثبت هذه الكبرى على مبناهم.

قلت: ليس المبنى منحصراً في التحسين والتقبيح العقليين، بل هو حكم عقلي مستقل مع قطع النظر عنهما؛ ولذا اتفق كافة العقلاء عليه حتى الذين لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين.

[1] أما الظن بسائر الأحكام فليس مخالفته مظنة للضرر؛ لجواز مخالفة الاستحباب والكراهة والإباحة المقطوعة، فضلاً عن المظنونة.

[2] أي: لازمه أمران: الأول: العقوبة الأخروية؛ لأن لازم الحكم الإلزامي المقطوع به هو استحقاق الثواب على موافقته، والعقاب على مخالفته، إذ لا معنى للحرمة وللوجوب بلا استحقاق للعقاب على المخالفة. فيكون لازم الحكم الإلزامي المظنون هو الظن بالعقاب على المخالفة.

[3] هذا هو اللازم الثاني، وهو المفسدة الدنيوية؛ لأن الحكم بالحرمة ليس إلاّ لأجل وجود مفسدة في الفعل ولذا حرم، فالظن بالحرمة يلازم الظن بالمفسدة على المخالفة.

ص: 430

بناءً[1] على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأما الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح[2]، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما[3]، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون، بل المحتمل بما هو كذلك[4]، ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح، مثل[5] الالتزام بفعل ما استقل بحسنه إذا قيل باستقلاله، ولذا[6] أطبق العقلاء عليه

-----------------------------------------------------------------

وأما الظن بالوجوب فإنه يلازم الظن بفوات المنفعة الملزمة على المخالفة، وهذا سيشير إليه المصنف في نهاية جوابه.

[1] أي: المفسدة الدنيوية بناءً على التبعية، أما العقوبة فلا تتوقف على التبعية كما سيذكره المصنف بعد قليل.

[2] فلا يصح الإشكال المنسوب إلى بعض العامة على الكبرى، بأنها تتوقف على التحسين والتقبيح العقليين، وحيث إن الأشاعرة ينكرون هذا التوقف فتبطل الكبرى على مبناهم.

يقول المصنف: إن لزوم دفع الضرر المظنون لا يتوقف على التحسين والتقبيح، بل هو حكم عقلي مستقل، والشاهد عليه إطباق العقلاء - بما فيهم المنكرون للتحسين والتقبيح - عليه.

[3] أي: ملاك حكم العقل بالتحسين والتقبيح.

[4] «هو» ذلك الضرر، «كذلك» أي: مظنون أو محتمل.

[5] «مثل» خبر (يكون) في قوله: (بل يكون التزامه بدفع... الخ).

والمعنى: إنه حتى لو لم نقل بالتحسين والتقبيح فالعقل يحكم أو يكشف لزوم دفع الضرر المظنون، كما كان يحكم أو يكشف لزوم الدفع على القول بالتحسين والتقبيح.

[6] هذا شاهد على حكم أو كشف العقل - حتى لو لم نقل بها - «عليه» أي: على لزوم دفع الضرر المظنون، بل المحتمل.

ص: 431

مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبر جيداً[1].

والصواب في الجواب[2] هو منع الصغرى:

أما العقوبة[3]: فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته[4]،

-----------------------------------------------------------------

[1] ولعله يُشكل على المصنف بأن حكم العقل أو كشفه ما يتعلق بأفعال العباد - أي: ما ينبغي أن يفعل أو يترك - إنّما هو راجع إلى التحسين والتقبيح لا غير، وأما إطباقهم فلعدم التفات منكري التحسين والتقبيح على ابتناء هذه المسألة على التحسين والتقبيح؛ ولذا أقروا ما التزمه العقل من غير شبهة أو مكابرة. وأما في أصل المسألة فانكروا التحسين والتقبيح، لشبهة أو لمكابرة.

[2] لما بيّنا صحة الكبرى وعدم الصواب في الإشكال عليها، نبدأ بالإشكال على الدليل، وذلك عبر الإشكال على الصغرى، وهي (مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر). فنقول: المراد بالضرر: إما الضرر الأخروي، أو المفسدة الدنيوية في مخالفة الحرام، أو تفويت المصلحة في مخالفة الواجب. لكن الملازمة بين مخالفة الحكم المظنون وبين هذه الثلاثة غير ثابتة أو غير مفيدة كما سيتبيّن.

الأول: العقوبة

[3] حاصله: إنه لا ملازمة بين نفس الحكم وبين العقوبة على المخالفة، فكيف تكون ملازمة بين الحكم المظنون وبين العقوبة؟ وذلك لأنه قد تتحقق المخالفة بلا عقوبة، كما لو لم يتنجز التكليف للجهل به، فهنا مخالفة من غير عقوبة، وقد تكون عقوبة بلا مخالفة كما في التجري.

نعم، معصية التكليف تلازم استحقاق العقوبة، لكن مع الظن بالتكليف وعدم وجود دليل على حجية هذا الظن تجري أصالة البراءة، فلا معصية ليكون استحقاق العقاب.

[4] أي: مخالفة التكليف المظنون.

ص: 432

لعدم الملازمة[1] بينه والعقوبة على مخالفته؛ وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها[2]، ومجرد الظن به[3] بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به[4]، كي يكون مخالفته عصيانه[5].

إلاّ أن يقال[6]:

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: لما لم يكن ملازمة بين نفس التكليف وبين العقوبة فبطريق أولى لا يكون ملازمة بين الظن بالتكليف وبين العقاب، «بينه» أي: بين التكليف، «مخالفته» أي: مخالفة التكليف.

[2] «مطلق المخالفة» حتى لو لم تكن معصية، «بنفسها» أي: بنفس العقوبة؛ لأن المعصية لا يلازمها العقوبة الخارجية وإلاّ استحال الانفكاك، وإنّما تلازم الاستحقاق للعقوبة، وأما فِعلية العقوبة فهي متوقفة على عدم العفو.

[3] أي: بالتكليف، والمراد هو أن الظن بالتكليف لا يثبت العصيان في المخالفة، إلاّ إذا أثبتنا حجية هذا الظن بدليل آخر، فالاستدلال بهذا الدليل على حجية هذا الظن مصادرة.

[4] أي: لا يتنجز التكليف بهذا الظن، حتى تكون مخالفته معصية.

[5] أي: حتى تكون مخالفة التكليف المظنون عصيان لذلك التكليف، بل مخالفته ليست بعصيان لجريان أدلة البراءة.

[6] حاصله: إنه في الضرر المظنون لا يحكم العقل باستحقاق العقاب، كما أنه لا يحكم بعدم استحقاق العقاب، فلا حكم للعقل إثباتاً ولا نفياً، وحينئذٍ فيكون العقاب محتملاً، ويجب التحرز عن العقاب المحتمل بحكم العقل.

وبعبارة أخرى: لا يحكم العقل لا بالعقاب ولا بعدمه، لكنه يحتمل كلاً من العقاب وعدمه، وحين احتمال العقاب يحكم العقل بوجوب احترازه والاحتياط؛ لأنه ضرر كبير جداً.

ص: 433

إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده[1] بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلاّ أنه لا يستقل أيضاً بعدم استحقاقها معه[2]، فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة. ودعوى[3] استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جداً، لا سيما[4] إذا كان هو العقوبة الأخروية، كما لا يخفى[5].

وأما المفسدة[6]: فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: بتنجز التكليف بمجرد الظن بالتكليف، «على مخالفته» أي: مخالفة التكليف المظنون.

[2] أي: عدم استحقاق العقوبة مع الظن بالتكليف، «حينئذٍ» أي: حين الظن بالتكليف.

[3] لما أثبت المصنف الصغرى، وهي احتمال العقوبة على مخالفة التكليف المظنون، يريد هنا إثبات الكبرى، وهي لزوم دفع الضرر المحتمل.

[4] أي: إذا كان الضرر المحتمل عظيماً كالضرر الأخروي، بل حتى لو كان موهوماً لكن كان المحتمل مهماً، كما لو علمنا بكون إحدى الأواني العشرة مسمومة، فيحكم العقل بوجوب اجتنابها كلها، مع أن الاحتمال في كل آنية لا يتعدى العشرة بالمائة، ولكن لما كان المحتمل مهماً وجب الاحتياط بحكم العقل.

[5] ولكن الصحيح هو أنه مع عدم وجود دليل معتبر يستقل العقل بعدم استحقاق العقوبة؛ وذلك لوجود البراءة العقلية والشرعية، فلا احتمال للعقوبة حتى يجب دفعه بالاحتياط.

الثاني: المفسدة

[6] هذا هو الشق الثاني في منع الصغرى، وحاصله: إنه حتى لو قلنا: إنّ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المظنون، لكنا نقول: إن المفسدة لا تكون ضرراً دائماً، بل قد يكون معها مصلحة شخصية للفاعل، كالمقامر الرابح، والمرابي، وأمثالهما، فمع وجود المفسدة النوعية في القمار والربا لكن لا ضرر على هذين، بل نفع!!.

ص: 434

خالفه[1]، إلاّ أنها ليست بضرر على كل حال[2]، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما[3] يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً، كما لا يخفى.

وأما تفويت المصلحة[4]: فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في استيفائها[5] المضرة، كما في الإحسان بالمال، هذا. مع منع[6] كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه[7]، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها[8]،

-----------------------------------------------------------------

[1] بالوقوع في المفسدة لو خالف التكليف المظنون؛ وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

[2] بل أحياناً تكون ضرراً، وأحياناً لا تكون ضرراً، بل قد تكون نفعاً لفاعلها.

[3] أي: أحياناً المفسدة التي أوجبت الحرمة ليست ضرراً على فاعلها، بل هي مفسدة تتعلق بالمعنويات بحيث توجب ذم الفاعل، كأن يعمل خلاف المروءة - مثلاً - .

الثالث: تفويت المصلحة

[4] وذلك بمخالفة الواجب، فإن الوجوب إنّما هو لأجل المصلحة، فبمخالفته تفوت تلك المصلحة، ولكن عدم النفع ليس بضرر كما هو واضح، وضمير «أنه» و«فيه» يرجع إلى التفويت.

[5] أي: في فعل الواجب حيث يصل الإنسان إلى تلك المصلحة.

[6] المراد أن الأحكام ليست دائماً تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلق، بل ذلك هو الغالب، وأحياناً تكون المصلحة في نفس الحكم لا في المتعلق كما في الأوامر الامتحانية، وحينئذٍ لا تكون مخالفة الحكم المظنون وقوعاً في مفسدة ولا تفويتاً لمصلحة.

[7] أي: في المتعلق للأمر أو النهي.

[8] أي: في نفس الأحكام، «إنّما هي» أي: الأحكام.

ص: 435

كما حققناه في بعض فوائدنا[1].

وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة - اللتان في الأفعال[2] وأنيط بهما الأحكام - بمضرة[3]. وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك[4] - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه.

ولعمري هذا أوضح من أن يخفى. فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلاً؛ ولا استقلال للعقل[5] بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم[6].

-----------------------------------------------------------------

[1] ويرد عليه: إن المصلحة إن كانت في نفس الحكم فلابد من تحقق تلك المصلحة بمجرد صدور الحكم من الشارع بلا حاجة إلى فعل العبد!!.

[2] مقابل المصلحة في نفس الحكم، حيث لا مصلحة في الفعل أصلاً، «وأنيط بهما الأحكام» لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

[3] أي: ليست ضرراً دائماً. نعم، قد يكون فيها الضرر وقد لا يكون، و«بمضرة» خبر (ليست).

[4] أي: استقلال العقل بقبح ما فيه المفسدة وحسن ما فيه المصلحة، و«من الأفعال» بيان لقوله: (ما فيه المفسدة) و(ما فيه المصلحة).

[5] لما أثبتناه من عدم الملازمة بين الضرر وبين المفسدة أو تفويت المصلحة.

والحاصل: إنه لا يعلم بأن فيه الضرر، فلا تجري قاعدة (دفع الضرر المظنون أو المحتمل واجب). ووجود المفسدة أو تفويت المصلحة وإن كان مظنوناً إلاّ أنه لا حكم للعقل بقبح الفعل أو الترك.

[6] لعله إشارة إلى أنه وإن لم يكن تلازم بين المفسدة أو تفويت المصلحة وبين الضرر إلاّ أنه محتمل؛ إذ في بعض الأحيان توجد مفسدة أو تفويت مصلحة ويوجد الضرر، ففي مورد الظن بالتكليف يوجد ظن للمفسدة أو تفويت المصلحة، فيحتمل

ص: 436

الثاني[1]: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

وفيه[2]: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك[3] إلاّ[4] في ما إذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً[5]، أو عدم وجوبه شرعاً[6]،

-----------------------------------------------------------------

أن يكون هناك ضرر، وقد أقر المصنف بأن دفع الضرر المحتمل لازم، فعليه يلزم العمل بالظن ويتم الدليل!!.

الدليل الثاني لحجية الظن

[1] وحاصله: إنه يدور الأمر بين العمل بالوهم أو العمل بالظن، لكن العمل بالوهم ترجيح للمرجوح على الظن الراجح، وترجيح المرجوح على الراجح قبيح، فالنتيجة هي لزوم العمل بالظن عقلاً.

[2] حاصله: أولاً: إنه لو أمكن الجمع بين مقتضى الوهم والظن فهو المقدّم عقلاً، فلا يكون ترجيحاً للمرجوح على الراجح، كما في موارد الاحتياط. مثلاً: لو كان الظن بالاستحباب والوهم بالوجوب فإن الإتيان بذلك العمل جمعٌ بين الدليلين بلا ترجيح للمرجوح على الراجح.

وثانياً: لو كان هناك دليل شرعي يرجح الوهم فلا يكون الأخذ به ترجيحاً للمرجوح على الراجح، كما لو قامت بينة شرعية على الطرف الموهوم.

وثالثاً: لو لم يمكن الجمع، ولم يوجد دليل شرعي فإن هذا الدليل لوحده لا يكفي؛ لأنه المقدمة الخامسة من مقدمات دليل الانسداد، ومع عدم ضمّ سائر المقدمات لا ينتج الدليل أصلاً.

[3] «منه» من عدم الأخذ بالظن، «ذلك» أي: ترجيح المرجوح على الراجح.

[4] بيان للإشكال الأول، «بطرفه» أي: بطرف الظن المقابل له وهو الوهم.

[5] الجمع عقلاً يكون بالاحتياط، وعدم إمكان الجمع يكون في ما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة.

[6] أي: عدم وجوب الجمع، كما لو قام دليل رجح جانب الوهم، وهذا

ص: 437

ليدور[1] الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه. ولا يكاد[2] يدور الأمر بينهما إلاّ بمقدمات دليل الانسداد، وإلاّ[3] كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي[4] أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما[5] على حسب اختلاف الاشخاص[6] أو الأحوال[7] في اختلاف المقدمات على ما ستطلع على حقيقة الحال.

الثالث[8]:

-----------------------------------------------------------------

إشارة إلى الإشكال الثاني.

[1] نتيجة عدم إمكان الجمع عقلاً أو عدم وجوبه شرعاً، فالنتيجة هي دوران الأمر بين ترجيح الظن أو ترجيح طرف الظن - أي: مقابله - وهو الوهم.

[2] إشارة إلى الإشكال الثالث.

[3] أي: وإن لم تتم مقدمات الانسداد.

[4] لو لم تتم المقدمة الثانية - وهي انسداد باب العلم والعلمي - فإن اللازم هو الرجوع إلى ما دل الدليل الشرعي على الرجوع إليه، كالبينة وخبر الواحد، حتى لو كان الظن في خلافهما - مثلاً - .

ولا يخفى أن قول المصنف: «الرجوع إلى العلم» محل إشكال؛ لعدم إمكان اجتماعه من الظن.

[5] لو لم تتم المقدمة الرابعة، وهي عدم جواز الاحتياط في الجملة وعدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب والتخيير والبراءة... الخ.

[6] فالبعض يحصل له العلم، والآخر لا يحصل له - مع أن السبب واحد - مثلاً - .

[7] كوجود الحالة السابقة فالاستصحاب، أو كونه مورداً للعلم الإجمالي فالاحتياط، أو شبهة بدوية فالبراءة - مثلاً - .

الدليل الثالث لحجية الظن

[8] هذا الدليل يتشكل من ثلاث من مقدمات دليل الانسداد، ولذا بدون سائر المقدمات لا ينتج، ومعها يكون نفس دليل الانسداد لا دليلا آخر.

ص: 438

ما عن السيد الطباطبائي+(1)، من إنه لا ريب[1] في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات. ومقتضى ذلك[2] وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكن[3] مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لأنه عسر أكيد وحرج شديد[4]؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأن[5] الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً[6].

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، ومعه[7] لا يكون دليل آخر بل ذاك الدليل.

-----------------------------------------------------------------

[1] وهذه ترجع إلى المقدمة الأولى من دليل الانسداد.

[2] لأنه علم إجمالي، حيث نعلم بوجود تكاليف بين المشتبهات - التي لا نعلم بالتفصيل أحكامها - ومقتضى ذلك هو لزوم الاحتياط.

[3] وهذا يرجع إلى بعض المقدمة الرابعة من دليل الانسداد، مع ذكر دليل تلك المقدمة وهو الجمع بين الدليلين.

[4] العسر هو المشقّة البدنية، والحرج هو المشقّة النفسية، وقد يستعمل الحرج بمعنى يشمل الضرر والعسر والحرج - بالمعنى الأخص - .

[5] وهذا يرجع إلى المقدمة الخامسة، مع استدلال لها بالإجماع.

[6] حيث لم يقل أحد بترجيح الوهم والشك على الظن!!.

[7] أي: مع سائر المقدمات، وهي المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية، والبعض الآخر من المقدمة الرابعة، وهي عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير... الخ كما سيأتي بعد قليل.

ص: 439


1- فرائد الأصول 1: 382، حيث حكاه عن صاحب الرياض.

الرابع[1]: دليل الانسداد وهو مؤلف من مقدمات[2] يستقل العقل[3] مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفاً[4] - على ما تعرف - ولا يكاد يستقل بها بدونها[5]. وهي خمس:

أولها[6]: إنه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية[7] في الشريعة.

ثانيها[8]:

-----------------------------------------------------------------

دليل الانسداد

[1] أي: الوجه الرابع من أدلة حجية الظن هو الدليل المعبر عنه بالانسداد، ويقال للظن المستند على الانسداد: (الظن المطلق).

[2] تتوقف صحة دليل الانسداد عليها.

[3] من غير حاجة إلى حكم من الشرع، «تحققها» أي: تمامية وصحة المقدمات.

[4] (الحكومة) هي حجية الظن بحكم العقل، و(الكشف) هو كشف العقل لحكم الشرع بحجية مطلق الظن، فمع تمامية تلك المقدمات يستقل العقل باكتشاف حكم الشرع، أو يستقل هو في الحكم، وسيأتي تفصيل ذلك.

[5] أي: بكفاية الإطاعة الظنية بدون تمامية المقدمات المذكورة.

[6] وهذه المقدمة وإن كانت واضحة إلاّ أن وضوحها لا يوجب الاستغناء عنها - كما عن المصنف في حاشية الرسائل(1)

- ، وفيه تأمل.

[7] أي: وصلت إلى مرحلة الفعلية، و(ثبوت التكليف) يختلف عن (عدم جواز إهمالها)، ففي الوصول: (والمراد بهذه المقدمة: الثبوت في الجملة، لا الثبوت علينا، حتى لا تكون مع المقدمة الثالثة - وهي عدم جواز إهمالها - تكراراً)(2).

[8] هذه هي العمدة في دليل الانسداد، وهي الأصل فيه، وأما سائر المقدمات فقد أضافها بعض المدققين، وهي وإن كانت لازمة لكي ينتج الدليل، لكنه كان

ص: 440


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 131.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 4: 100.

إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي[1] إلى كثير منها.

ثالثها[2]: إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها[3] أصلاً.

رابعها[4]: إنه لا يجب علينا الاحتياط[5] في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة[6]، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل[7] في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط[8]، ولا إلى فتوى العالم بحكمها[9].

-----------------------------------------------------------------

يمكن الاستغناء عنها اتكالاً على وضوحها.

[1] العلمي: هو الظن أو الشك أو الوهم المستند حجيته إلى العلم، كالخبر الواحد، حيث إنه ظني لكن دليله قطعي. ولا يجوز أن تكون حجية الظن مستندة إلى غير العلم للزوم الدور - كما مرّ - .

[2] فإن إهمال التكاليف - بذريعة عدم حصول العلم أو العلمي - يستلزم الخروج عن الدين.

[3] أي: عدم محاولة امتثال تلك التكاليف.

[4] حاصلها: هو عدم وجوب الاحتياط التام، بل عدم جوازه، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصول الشرعية في كل مسألة بخصوصها.

[5] أي: الاحتياط التام الذي سببه العلم الإجمالي، بأن نحتاط في كل المظنونات والموهومات والمشكوكات.

[6] إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام، وعدم الجواز هذا هو بحكم العقل والشرع.

[7] أي: الأصل العملي.

[8] أي: الاحتياط في كل مسألة بخصوصها، كالاحتياط في الشبهات التحريمية - مثلاً - فيحتاط في المسألة مع قطع النظر عن سائر المسائل، وهذا احتياط خاص ببعض المسائل.

[9] أي: يقلد المجتهد مجتهداً آخر عالماً بتلك المسألة.

ص: 441

خامسها[1]: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً.

فيستقل[2] العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظنية[3] لتلك التكاليف المعلومة، وإلا[4] لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي بها إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة مع قطع النظر عن العلم بها[5]، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية، والفرض بطلان كل واحد منها.

أما المقدمة الأولى[6]: فهي وإن كانت بديهية، إلاّ أنه قد عرفت انحلال العلم

-----------------------------------------------------------------

[1] حاصله: إن الظن راجح، والوهم مرجوح، فالعمل بالوهم ترجيح للمرجوح على الراجح، وكذا ترك العمل بالمظنونات والتمسك بأحد الاحتمالين في المشكوكات.

[2] هذه نتيجة تمامية المقدمات الخمس، «حينئذٍ» أي: حين تمامية هذه المقدمات.

[3] أي: الامتثال الظني، حيث إن العمل بالظنون يوجب الظن بأداء التكاليف الواقعية، «التكاليف المعلومة» أي: بالإجمال.

[4] أي: لو لم نعمل بالظن فذلك يستلزم أحد المحاذير التالية - على سبيل منع الخلو - :

1- الإهمال للتكاليف، والمفروض إبطال الإهمال بالمقدمة الثالثة.

2- الاحتياط، أو الرجوع إلى الأصل، أو تقليد المجتهد لغيره، والمفروض إبطال هذه بالمقدمة الرابعة.

3- الإطاعة المشكوكة أو الموهومة، والمفروض إبطالها بالمقدمة الخامسة.

[5] أي: عن العلم الإجمالي بالتكاليف، فنغُضُّ الطرف عن هذا العلم ونعمل بالأصل العملي حتى إذا كان براءة أو استصحاباً أو تخييراً - مثلاً - .

الكلام في المقدمة الأولى

[6] حاصله: هو عدم إمكان الاستناد إلى هذه المقدمة؛ وذلك لأنها وإن كانت

ص: 442

الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ التي تكون في ما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه[1] لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات[2]، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه[3] ولو سلم[4] الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

-----------------------------------------------------------------

بديهية ولا تحتاج إلى الاستدلال إلاّ أنها غير مجدية؛ وذلك لانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير - بما في الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة - وشك بدوي في سائر الأدلة، والاحتياط بالعمل بجميع روايات الكتب المعتبرة لا يوجب عسراً، فضلاً عن اختلال النظام.

[1] أي: مع الانحلال، وهذا دفع إشكال حاصله: إن انحلال العلم الإجمالي الكبير غير مفيد؛ لعدم جواز الاحتياط في الروايات أيضاً.

والجواب: إنه لا محذور من الاحتياط في الروايات؛ لأن المحذور إما العسر أو الإجماع، لكن لا عسر في العمل بالروايات؛ إذ التكاليف الموجودة في الروايات منحصرة في مجموعة قليلة، ولا إجماع في عدم جواز الاحتياط بالعمل بما في الروايات.

[2] لأنها أطراف العلم الإجمالي الصغير - كما بيّنا - و«هو» أي: الاحتياط في خصوص ما في الروايات.

[3] أي: عدم وجوب الاحتياط بما في الروايات.

[4] «لو» وصلية، أي: لو لم ينحل العلم الإجمالي الكبير، فقد نسلّم بعدم وجوب الاحتياط في كل الأطراف المظنونة والمشكوكة والموهومة - ومنها الروايات - للإجماع على عدم وجوب الاحتياط حينئذٍ، لكن مع انحلال العلم الإجمالي الكبير لا نسلم وجود إجماع بعدم وجوب الاحتياط بما في الروايات.

ص: 443

وأما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم: فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد. وأما بالنسبة إلى العلمي: فالظاهر أنها[1] غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه[2]، وهو - بحمد الله - وافٍ بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلاً منها[3]، كما لا يخفى.

وأما الثالثة[4]: فهي قطعية، ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزاً

-----------------------------------------------------------------

الكلام في المقدمة الثانية

[1] أي: إن هذه المقدمة، وهي انسداد باب العلمي.

[2] لأن عمدة الأدلة - عند المصنف - هو بناء العقلاء، وبناؤهم على حجية الخبر الذي يثقون بمطابقته للواقع حتى إذا كان الراوي ضعيفاً.

ولا يخفى أن بين الوثوق بصدق الخبر وبين وثاقة المخبر عموماً من وجه، فقد يكون المخبر غير ثقة ولكن الخبر يوثق بصدقه، وقد يكون المخبر ثقة ولكن لا يوثق بخبر نقله، والغالب هو الاجتماع، أي: وثاقة المخبر تلازم وثاقة الخبر.

[3] أي: من التكاليف.

الكلام في المقدمة الثالثة

[4] أي: عدم جواز إهمال الأحكام قطعي، وهذه المقدمة لا تتوقف على تنجز العلم الإجمالي، بل دليلها هو العلم بعدم رضا الشارع بإهمال أحكامه وكذا يدل عليها الإجماع.

فحتى من لا يقول بتنجز العلم الإجمالي، وأجاز الاقتحام التدريجي لكل الأطراف، فإنه يقول بعدم جواز الإهمال هنا، لما عرفت من عدم ابتناء هذه المسألة على مسألة تنجز العلم الإجمالي. وكذا في الموارد التي لا نقول بتنجز العلم الإجمالي فيها، للاضطرار إلى ارتكاب بعض أطرافها - وما نحن فيه منها - فإنا نقول بلزوم عدم الإهمال، للعلم والإجماع المذكورين.

ص: 444

مطلقاً[1]، أو في ما جاز أو وجب[2] الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي؛ وذلك[3] لأن إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعاً، ومما يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت[4]: إذا لم يكن العلم بها منجزاً لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف[5] - كما أشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف -

-----------------------------------------------------------------

[1] كما نسب إلى المحقق القمي، حيث أجاز ارتكاب كل الأطراف تدريجياً.

[2] إشارة إلى ما سيأتي من أن القول بلزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي يستثنى منه بعض الموارد.

ومنها: لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف، فإنه يجوز له ارتكاب الطرف الآخر أيضاً - في بعض الصور - مثلاً: لو سقطت قطرة دم في أحد الإناءين وأضطر إلى شرب أحدها علاجاً، فإن العلم الإجمالي لا يتنجز؛ لأنه لا يُعلم بصدور أمر (اجتنب) من المولى؛ لأن الإناء الأول مضطر إليه فلا معنى لوجوب الاجتناب عنه، وأما الإناء الثاني فلا يعلم سقوط الدم فيه، بل هناك احتمال، وهذا الاحتمال يدفع بأصل البراءة؛ لأنه شك بدوي.

وهنا العلم الإجمالي بتكاليف في كل المظنونات والمشكوكات والموهومات لا يجوز الالتزام به لاستلزامه لاختلال النظام، وحتى لو لم يوجب الاختلال فإنه لا يجب للزوم العسر، وحينئذٍ يجوز ارتكاب بعض الأطراف، ومع ذلك لا يجوز ارتكاب سائر الأطراف؛ لعدم ابتناء هذه المسألة على تنجز أو عدم تنجز العلم الإجمالي - كما عرفت - .

[3] بيان لعدم ابتناء عدم جواز الإهمال على تنجز العلم الإجمالي.

[4] حاصله: إن المقدمة الثالثة تبتني على العلم الإجمالي، وحيث لم يتنجز العلم الإجمالي فلا مورد لهذه المقدمة، «العلم بها» أي: بالتكاليف.

[5] حتى لا يلزم اختلال النظام.

ص: 445

حينئذٍ[1] - على تقدير المصادفة[2] إلاّ عقاباً بلا بيان[3]؟ والمؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت[4]: هذا[5] إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط[6]، وقد علم به[7] بنحو اللِمّ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب[8] للزوم المراعاة، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات. مع صحة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال[9] وأنه مرغوب عنه شرعاً قطعاً،

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: حين جواز اقتحام بعض الأطراف.

[2] أي: لو صادفت ترك واجب أو فعل حرام.

[3] لأنه إذا لم يتنجز العلم الإجمالي فلا دليل على وجوب الاجتناب، بل أصل البراءة يدل على جواز الاقتحام، فلو صادف مخالفة تكليف فلا عقاب عليها؛ إذ العقاب مع جريان البراءة قبيح.

[4] أجاب المصنف بأمرين: اللِمّ، والإجماع. وحاصلهما: إنه يجب الاحتياط في الباقي لما ذكرنا من قيام الدليل على عدم جواز إهمال كل الأحكام، فليس دليل الاحتياط في الباقي هو العلم الإجمالي حتى لا يجب الاحتياط لو لم يتنجز العلم الإجمالي.

[5] أي: العقاب بلا بيان.

[6] من طريق آخر غير العلم الإجمالي.

[7] أي: بوجوب الاحتياط، و«اللِمّ» هو الاستدلال على المعلول بالعلة، فحيث نعلم العِلة - وهي اهتمام الشارع بتكاليفه - اكتشفنا المعلول، وهو لزوم الاحتياط في سائر الأطراف.

[8] أي: يستلزم ذلك الاحتياط وجوب مراعاة التكاليف، حتى وإن كان بالعمل بسائر الأطراف - بعد عدم لزوم الاحتياط في البعض الآخر للعسر أو اختلال النظام - .

[9] أي: حال جواز أو وجوب ارتكاب بعض الأطراف.

ص: 446

وأما مع استكشافه[1] فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ[2] بلا بيان وبلا برهان كما حققناه في البحث وغيره.

وأما المقدمة الرابعة[3]: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام، في ما يوجب عسره[4] اختلال النظام. وأما في ما لا يوجب[5]

-----------------------------------------------------------------

[1] جمله (أما مع استكشافه) زائدة ولذا خلت منها بعض النسخ؛ لأن الكلام قبلها حول صورة الاستكشاف.

[2] أي: حين لزوم الاحتياط في باقي الأطراف.

الكلام في المقدمة الرابعة

[3] تنقسم المقدمة الرابعة إلى ثلاثة مطالب:

1- عدم وجوب الاحتياط التام، بل عدم جوازه في الجملة.

2- عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المسألة.

3- عدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكمها.

فيبدأ المصنف في الإشكال على المطالب الثلاثة.

المطلب الأول

أما المطلب الأول: فهو صحيح إذا أوجب الاحتياط التام اختلال النظام؛ وذلك لدلالة العقل والنقل على عدم جوازه.

ولكن لو لم يوجب الاحتياط اختلالاً في النظام فلا دليل على عدم جوازه، بل الدليل على وجوبه؛ لحكم العقل بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

إن قلت: إن هذا الاحتياط فيه حرج أو ضرر، وهما مرفوعان.

قلت: أدلة نفي الحرج والضرر لا تشمل هذا المورد - كما سيأتي توضيحه - .

[4] أي: عسر الاحتياط، بمعنى أنه لا يجب الاحتياط التام الموجب للعسر إذا كان موجباً لاختلال النظام.

[5] أي: إذا لم يوجب الاحتياط العَسِر اختلالاً للنظام.

ص: 447

فمحل نظر بل منع[1]،

-----------------------------------------------------------------

[1] لأن أدلة الضرر والعسر لا ترفع التكليف بشكل مطلق، بل ترفع التكليف الذي نشأ منه الضرر والعسر، وأما إذا لم ينشأ من التكليف ضرر أو عسر، بل كان المنشأ هو اشتباه الحكم وتردده بين عدة أمور فلا يُرفع ذلك التكليف بأدلة نفي العسر أو الضرر، بل يلزم الاحتياط بحكم العقل.

بيان ذلك: إن هناك خلافاً بين الشيخ الأعظم وبين المصنف في المرفوع بأدلة نفي الضرر والعسر، فالشيخ الأعظم يرى أن معنى (لا ضرر) و(لا عُسر)، هو لا حكمَ ضرريّ أو عُسريّ، فيكون المرفوع هو الحكم، سواء كان ذلك الحكم سبباً للضرر أم العسر بشكل مباشر، كالوضوء في شدة البرد مع ضرره، أم بشكل غير مباشر، كما لو كان الوضوء بالماء المطلق سهلاً، ولكن لاشتباه الماء المطلق في ألف آنية كان الوضوء بكلّها عسراً أو فيه ضرر.

وأما المصنف فإنه يرى أن معنى (لا ضرر) و(لا عسر) هو نفي الموضوع الضرري أو العسري، ولكن نفي الموضوع باعتبار الحكم. فالمرفوع هو الوضوء الضرري أو العسري مثلاً، وحين اشتباه الماء المطلق في ألف آنية فإن الوضوء بالماء المطلق الواقعي لا ضرر فيه ولا عسر، فلم ينشأ الضرر أو العسر من حكم الشارع، فلا يكون الحكم مرفوعاً. نعم، الضرر أو العسر نشأ من حكم العقل بوجوب الاحتياط بكل الأواني الألف، وهذا الحكم لم يكن من الشارع حتى يرفعه.

والحاصل: إن الوضوء بالماء المطلق لم يكن ضررياً أو عُسرياً، فلا يكون مرفوعاً، والضرر الناشئ من لزوم الاحتياط لم يكن بحكم الشارع، بل كان بحكم العقل.

وفي ما نحن فيه: أحكام الشارع الواقعية لم توجب عسراً ولا ضرراً، فلا تُرفع تلك الأحكام بدليل لا ضرر ولا عسر، وإنما حَكَم العقل بلزوم الاحتياط - حسب مقتضى العلم الإجمالي - .

ص: 448

لعدم حكومة[1] قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط[2]؛ وذلك لما حققناه في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر، من أن التوفيق بين دليلهما[3] ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما[4]، هو نفيهما[5] عنهما بلسان نفيهما،

-----------------------------------------------------------------

[1] ومعنى (الحكومة) هو أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر مع توسعة أو تضييق في الموضوع، مثلاً قوله: (لا شك لكثير الشك) ناظر إلى أدلة أحكام الشكوك في الصلاة، بعدم اعتبار كثير الشك شاكاً، فصار تضييق في الموضوع، فالجمع العرفي يقتضي تقديم الدليل الناظر بشكل كامل - حتى وإن كان بين الدليلين عموم من وجه - .

[2] أي: الاحتياط العقلي بسبب العلم الإجمالي. وسبب عدم الحكومة هو عدم وجود ضرر أو عسر أصلاً في حكم الشارع كي يرفعه بلا ضرر أو لا عسر، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[3] أي: دليل نفي العسر والضرر.

[4] أي: بما يعم الضرر أو العسر؛ وذلك لأن دليل وجوب الوضوء مطلق، يشمل الوضوء غير الضرري والوضوء الضرري، وكذا أدلة الأحكام الوضعية كقوله: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1) الدال على لزوم العقود، هي أدلة مطلقة تشمل العقد غير الضرري والعقد الضرري.

[5] «هو» أي: التوفيق، «نفيهما» نفي الضرر والعسر، «عنهما» عن التكليف والوضع، «بلسان نفيهما» نفي الضرر والعسر.

والمعنى أن المنفي هو الموضوع، ولكن المقصود هو نفي الحكم - التكليفي أو الوضعي - وذلك لوضوح عدم النفي التكويني للضرر أو العسر، وإنّما المنفي هو التشريع.

ص: 449


1- سورة المائدة، الآية: 1.

فلا يكون له[1] حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف[2]، وإنما هو[3] في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم[4]، لو كان معناه[5] نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل[6] - لكانت قاعدة نفيه محكّمةً على قاعدة الاحتياط[7]،

-----------------------------------------------------------------

وبعبارة أخرى: المنفي هو الحكم بلسان نفي الموضوع.

[1] أي: لدليل نفي العسر والضرر، فما دام المنفي هو الموضوع الضرري أو العسري، فإذا لم يوجب الموضوع عسراً أو ضرراً فلا يكون منفياً أصلاً.

[2] أي: في الموضوع الذي تعلق به التكليف.

[3] أي: إنما العسر، «محتملاته» أي: محتملات التكليف، «احتياطاً» بحكم العقل حيث يوجد علم إجمالي.

[4] أي: لو قلنا بما ذهب إليه الشيخ الأعظم، من أن المنفي هو الحكم الضرري أو العسري فلا يجب الاحتياط، وتكون أدلة العسر والضرر حاكمة مطلقاً على أدلة الاحتياط؛ وذلك لأن حكم العقل بوجوب الاحتياط إنما يكون للوصول إلى حكم الشارع الواقعي - المتردد بين الأطراف الكثيرة - ولو لا حكم الشارع بوجوب الوضوء بالماء المطلق في مثال اشتباهه في ألف إناء لم يحكم العقل بوجوب الاحتياط، فيكون منشأ العسر أو الضرر هو حكم الشارع، وحيث إن معنى (لا ضرر) و(لا عسر) هو نفي الحكم الذي ينشأ منه العسر أو الضرر فإن الوضوء بالماء المطلق - في المثال - يكون مرفوعاً.

[5] أي: معنى الدليل الدال على نفي العسر والضرر، وقوله: «نفي الحكم» خبر (كان).

[6] القائل هو الشيخ الأعظم(1).

[7] لعدم بقاء مورد للاحتياط بعد رفع أصل التكليف؛ لأن معنى الاحتياط

ص: 450


1- فرائد الأصول 2: 460.

لأن العسر حينئذٍ[1] يكون من قبل التكاليف المجهولة[2]، فتكون منفية بنفيه[3].

ولا يخفى[4]: أنه على هذا لا وجه[5] لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لابد من دعوى وجوبه شرعاً[6]، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جيداً.

-----------------------------------------------------------------

هو ارتكاب كل أطراف العلم الإجمالي للوصول إلى التكليف الواقعي، وحيث ارتفع التكليف فلا يبقى موضوع للاحتياط أصلاً.

[1] أي: منشأ العسر، حين اشتباه التكليف الواقعي.

[2] أي: بسبب إرادة الوصول إلى تلك التكاليف الواقعية فيضطر المكلف إلى الاحتياط، فتكون تلك التكاليف منشأ العسر.

[3] أي: فتكون التكاليف المجهولة منفية بسبب نفي العسر.

[4] إشكال على الشيخ الأعظم، حيث إنه ذهب إلى عدم وجوب الاحتياط في كل الأطراف بسبب العسر، ولكنه قال بوجوب الاحتياط عقلاً في بعض الأطراف.

والمصنف يقول: إنه إذا سقط لزوم الاحتياط في بعض الأطراف فإنه لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط في باقي الأطراف، بل تجري فيها البراءة، كما لو اشتبه النجس بين إناءين واضطر إلى شرب أحدهما المعيّن، فإنه لا يجب الاحتياط في الآخر - كما مرّ شرحه قريباً - .

نعم، حيث علمنا بأن الشارع لا يريد إهمال أحكامه أو لأجل الإجماع نحكم بوجوب الاحتياط شرعاً لا عقلاً.

[5] الذي ارتضاه الشيخ الأعظم، وهو أن أدلة نفي العسر والضرر إنما تنفي الحكم الضرري أو العسري.

[6] أي: وجوب الاحتياط شرعاً، بالإجماع أو بسبب علمنا بأن الشارع لا يريد إهمال أحكامه.

ص: 451

وأما الرجوع إلى الأصول[1]: فبالنسبة إلى الأصول المثبتة - من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف - فلا مانع[2] عن إجرائها عقلاً، مع حكم[3] العقل وعموم النقل. هذا، ولو قيل[4] بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم

-----------------------------------------------------------------

المطلب الثاني

[1] هذا شروع في ردّ المطلب الثاني من المقدمة الرابعة.

وحاصله: إنه في زمان الانسداد يجوز الرجوع إلى الأصول العملية، أما الأصول المثبتة للتكليف فإنه يوجد مقتضٍ لجريانها - وهو عموم الأدلة النقلية في الأصول الشرعية وعموم الأدلة العقلية في الأصول العقلية - مع عدم وجود مانع عن إجرائها.

مثلاً: لو شك في وجوب القصر أو التمام فإن الاحتياط العقلي في الجمع بينهما لا إشكال فيه؛ لوجود المقتضي لهذا الاحتياط - وهو حكم العقل في موارد العلم الإجمالي - مع عدم وجود مانع، وهذا مثال لعموم الدليل العقلي.

وكذا لو شك في وجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة، فإن استصحاب الوجوب للجمعة لا مانع منه، مع جريان أدلة الاستصحاب في هذا المورد، وهذا مثال لعموم الدليل النقلي.

وأما الأصول النافية للتكليف فسيأتي الحديث عنها، وأنه لا مانع من جريانها أيضاً.

[2] بيان للزوم إجرائها، لوجود المقتضي وعدم المانع.

[3] بيان لوجود المقتضي، وهو شمول دليل الأصول العقلية لصورة الانسداد، وكذلك الأدلة النقلية الدالة على الأصول الشرعية لها إطلاق أو عموم يشمل حتى صورة الانسداد.

[4] دفع لما يتوهم: من وجود المانع عن إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف.

وحاصله: إنَّ المصنف يرى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم

ص: 452

الإجمالي، لاستلزام[1] شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها[2] - بمقتضى «لا تنقض» - لوجوبه[3] في البعض[4]، كما هو[5] قضية «ولكن تنقضه بيقين آخر». وذلك[6] لأنه إنما يلزم في ما إذا كان الشك في

-----------------------------------------------------------------

الإجمالي؛ وذلك لأن جريانه يسبب التناقض في دليل الاستصحاب.

مثلاً: لو كان إناءان طاهران، ثم تنجس أحدهما، واشتبه الأمر علينا، فلا يمكن إجراء استصحاب الطهارة في كلا الإناءين حيث إن اليقين بالطهارة انتقض باليقين بالنجاسة، فإجراء استصحاب الطهارة في الإناءين بمقتضى (لا تنقض اليقين بالشك) يتعارض مع قوله: (بل انقضه بيقين آخر) حيث يوجد علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين.

والتوهم: هو أنه مع العلم الإجمالي في حال الانسداد كيف يجري الاستصحاب المثبت للتكليف - وكذا النافي للتكليف كما سيأتي - ؟

والجواب: إنه إنما يتناقض الدليل إذا كان الشك في الأطراف فعلياً، أما إذا كان أحد الأطراف مغفولاً عنه فلا مانع من جريان الاستصحاب، ولا يلزم محذور التناقض.

[1] بيان لوجه عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، «دليله» دليل الاستصحاب، «لها» لأطراف العلم الإجمالي، «مدلوله» مدلول دليل الاستصحاب.

[2] من الأطراف، والحرمة للنهي في قوله: (لا تنقض).

[3] متعلق ب- (تناقض)، أي: تناقض الحرمة لوجوب النقض.

[4] بسبب العلم الإجمالي بانثلام الحالة السابقة في بعض الأطراف.

[5] أي: وجوب النقض في البعض، بمقتضى الجملة الخبرية الدالة على الوجوب في قوله: (ولكن انقضه بيقين آخر).

[6] أي: عدم المانع عن جريان الاستصحاب إنما هو لأجل أن الشك ليس فعلياً في كل الأطراف حين الانسداد، وهذا جواب عن التوهم، «لأنه» الضمير للشأن،

ص: 453

أطرافه فعلياً[1]؛ وأما إذا لم يكن كذلك[2]، بل لم يكن الشك فعلاً إلاّ في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً - كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام[3]، كما لا يخفى - فلا يكاد يلزم ذلك[4]، فإن قضية «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض[5]، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم[6].

-----------------------------------------------------------------

«يلزم» التناقض.

[1] أي: في أطراف العلم الإجمالي، «فعلياً» أي: ملتفتاً إليه، وحينئذٍ فإن المكلف لو أراد إجراء الاستصحاب في الأطراف لوقع في التناقض، فمن شاهد سقوط قطرة دم في أحد الإناءين الطاهرين واشتبه عليه الإناء المتنجس، فلو أجرى الاستصحاب في كلا الإناءين لرأى التناقض بين (لا تنقض) وبين (بل انقضه).

[2] أي: لم يكن الشك فعلياً في كل الأطراف، بل كان شكلاً فعلياً - ملتفت إليه - في بعض الأطراف، مع الغفلة عن سائر الأطراف، «بعض أطرافه» أطراف العلم الإجمالي.

[3] حيث إنه مع إرادة استنباط حكم مسألة لا يكون ملتفتاً إلى سائر المسائل.

[4] أي: التناقض في مدلول دليل الاستصحاب، «حينئذٍ» أي: حين عدم الالتفات إلى سائر الأطراف.

[5] أي: ليس في الطرف المشكوك الملتفت إليه علم بالانتقاض الإجمالي؛ للغفلة عن سائر الأطراف، فلا تناقض.

[6] لعله إشارة إلى أنه لا علم إجمالي بالانتقاض في موارد الأصول المثبتة؛ إذ لا نعلم بنسخ أي من التكاليف الثابتة سابقاً المشكوك بقائها الآن، كما لا نعلم بفقدانها لشرطها.

أو هو إشارة إلى أنه قد يكون الشك فعلياً في كل الأطراف، كما لو كتب المفتي رسالة عملية وأراد تجويز عمل المكلف بها، وكذا علم الانسدادي بالتكاليف إجمالاً

ص: 454

ومنه[1] قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضاً، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن[2] هناك مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها، ولا مانع كذلك[3] لو كانت موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً[4] أو نهض عليه علمي[5] بمقدار المعلوم إجمالاً[6]، بل

-----------------------------------------------------------------

حتى حين استنباط كل مسألة بانفراد.

[1] شروع في بيان عدم المانع من جريان الأصول النافية للتكليف، «منه» أي: من عدم وجود المانع في الأصول المثبتة اتضح عدم المانع في الأصول النافية أيضاً؛ لأن المانع إن كان التناقض في دليل الاستصحاب فقد أجبنا عنه، وإن كان المانع هو الخروج عن الدين فالجواب أنه لا خروج عن الدين؛ وذلك لكفاية الأدلة الدالة على التكاليف - من موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة للتكليف - بحيث إن من يعمل بها لا يكون خارجاً عن الدين، بل قد يقال بانحلال العلم الإجمالي من أصله - وسيأتي توضيحه - .

[2] أي: المقتضي، وهو حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية، موجود، فاللازم البحث عن المانع، فإن ثبت عدم المانع فإنه تجري الأصول بلا إشكال، «إجرائها» أي: الأصول النافية.

[3] أي: عقلاً أو شرعاً.

[4] علم بالتواتر أو بالقرائن القطعية أو بالضرورة ونحوها، فإن الانسدادي لا ينكر وجود العلم ببعض الأحكام قليلاً.

[5] فإن الانسدادي لا ينكر حجية بعض الظنون بالدليل الخاص، كحجية الظواهر، ولكنه اضطر إلى سلوك دليل الانسداد لمّا لم يتمكن من إثبات حجية الأخبار بطريق آخر، فأراد إثبات حجيتها عبر دليل الانسداد.

[6] أي: بمقدار التكاليف المعلومة إجمالاً، مثلاً: نعلم بوجود مائة تكليف - فرضاً - لكنها اشتبهت ضمن آلاف الشبهات، التي نحتمل بأن نكون مكلفين بها، ثم

ص: 455

بمقدار[1] لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط[2]، وإن لم يكن بذاك المقدار[3]، ومن الواضح أنه[4] يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال[5].

وقد ظهر بذلك[6]: أن العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً[7]

-----------------------------------------------------------------

رأينا أن موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة بلغت المائة، فإن العلم الإجمالي ينحل.

[1] أي: لو كان مقدار موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة أقل من المقدار المعلوم إجمالاً، ولكن كان ترك المشتبهات لا يستلزم الخروج من الدين، ففي المثال: لو علمنا بوجود مائة تكليف - فرضاً - ثم كان موارد العلم والعلمي والأصول المثبتة بمقدار خمسة وتسعين، فإن ترك المشتبهات لا يستلزم الخروج من الدين؛ لفرض أن التكليف المعلوم إجمالاً فيها لا يتعدى الخمسة.

[2] لأنه من الشبهة غير المحصورة، ففي مثالنا: خمسة تكاليف ضمن آلاف المشتبهات يكون من مصاديق الشبهة غير المحصورة، التي لا يجب الاحتياط فيها، والفرض أن تركها لا يستلزم الخروج عن الدين كي يلزم الاحتياط من هذه الجهة.

[3] أي: المقدار المعلوم إجمالاً.

[4] أي: إن عدم استكشاف إيجاب الاحتياط.

[5] فإن موارد العلم والعلمي والأصول تختلف باختلاف المباني، وباختلاف الحالات التي تعرض على المجتهد، مثلاً: بعض الأمور توجب العلم لدى البعض، ولا توجب حتى الظن لدى البعض الآخر، كما أنه تختلف الآراء في جريان الأصول والظنون الخاصة.

[6] بذلك الذي ذكرناه من عدم المانع عن جريان الأصول المثبتة والنافية مع ضميمة موارد العلم والعلمي.

[7] أما عدم الموجب للاحتياط عقلاً فلانحلال العلم الإجمالي، وأما شرعاً فلعدم الإجماع في هذه الصورة، ولا خروج عن الدين.

ص: 456

أصلاً، كما لا يخفى.

كما ظهر[1]: أنه لو لم ينحل بذلك كان خصوص موارد لأصول النافية مطلقاً ولو من مظنونات عدم التكليف محلاً للاحتياط فعلاً[2] - ويرفع اليد عنه فيها[3] كلاً أو بعضاً بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - لا[4] محتملات التكليف مطلقاً[5].

وأما الرجوع[6]

-----------------------------------------------------------------

[1] إشكال على كلام الشيخ الأعظم، حيث ذهب إلى أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي فلابد من الاحتياط في كل محتملات التكليف، ولا يرفع اليد عن هذا الاحتياط إلاّ إذا أوجب اختلال النظام أو العسر.

والإشكال هو أنه في موارد الأصول المثبتة قد قامت الحجة الشرعية على لزوم العمل بها، فلا تصل النوبة إلى الاحتياط.

كما أن الشيخ الأعظم ذهب إلى أن مقتضى العسر هو رفع اليد عن الموهومات كلها، والمصنف يرى أن العسر لو ارتفع برفع اليد عن بعض الموهومات وجب الاحتياط في سائرها بمقتضى العلم الإجمالي - الذي استثني منه مقدار العسر والمفروض أنه يرتفع برفع اليد عن بعض الموهومات لا كلها - .

[2] أي: حين عدم الانحلال.

[3] أي: عن الاحتياط في مظنونات عدم التكليف - أي: الموهومات - .

[4] عطف على قوله: (كان خصوص موارد الأصول النافية...) والمعنى أن مورد الاحتياط هو الأصول النافية لا مطلق محتملات التكليف.

[5] «مطلقاً» أي: سواء كانت نافية أم مثبتة، وسواء ارتفع العسر بكلها أم ببعضها.

المطلب الثالث

[6] شروع في رد المطلب الثالث من المقدمة الرابعة، وحاصله: إن الانسدادي يرى خطأ الانفتاحي، فكيف يجوز له تقليد من يعتقد بخطئه؟

ص: 457

إلى فتوى العالم: فلا يكاد يجوز، ضرورة أنه[1] لا يجوز إلاّ للجاهل، لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره[2] إلاّ من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل.

وأما المقدمة الخامسة[3]: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل - بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها[4] - إلاّ إلى الإطاعة الظنّية، دون الشكيّة أو الوهميّة، لبداهة مرجوحيتها بالإضافة إليها[5]، وقبح[6] ترجيح المرجوح على الراجح.

-----------------------------------------------------------------

[1] أي: إن الرجوع إلى فتوى العالم.

[2] رجوع الانسدادي إلى الانفتاحي بنظر الانسدادي.

الكلام في المقدمة الخامسة

[3] حاصل كلام المصنف هو قبول هذه المقدمة - لبداهة رجحان الظن على الشك والوهم، ووضوح قبح ترجيح المرجوح على الراجح - .

ولكن بعد الإشكال على المقدمة الأولى، والرابعة، بل والثانية لا تصل النوبة إلى هذه المقدمة؛ لأنا ذكرنا في المقدمة الأولى: أن العلم الإجمالي ينحل، فيلزم الاحتياط في خصوص ما في روايات الكتب المعتبرة. وذكرنا في المقدمة الثانية: أن باب العلمي غير منسدّ. وذكرنا في المقدمة الرابعة: أنه يلزم العمل بالأصول العملية مطلقاً، لا أقل من لزوم العمل بالأصول المثبتة للتكليف. فلا تصل النوبة إلى دوران الأمر بين العمل بالظن وبين العمل بغيره، فيكون العمل بالظن راجحاً، وبغيره قبيح.

[4] عدم الوجوب في ما إذا استلزمت الإطاعة العملية العسر.

[5] أي: مرجوحية الإطاعة الشكية والوهمية إذا قيست بالنسبة إلى الإطاعة الظنية، حيث إن الظن له جهة كشف عن الواقع دون الشك والوهم.

[6] أي: واستقلال العقل بقبح هذا الترجيح

ولا يخفى أن ترجيح المرجوح على الراجح ممكن ذاتاً لكنه قبيح. نعم، الترجّح بلا مرجح محال؛ لاستلزامه المعلول بلا علّة.

ص: 458

لكنك[1] عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية[2]، مع دوران الأمر بين الظنية والشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بما[3] في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيته[4] الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به[5]، حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عما يوجب اختلال النظام. وما أوردنا[6] على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقاً ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع[7] لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ[8] فإلى

-----------------------------------------------------------------

[1] بيان لعدم فائدة هذه المقدمة الخامسة في باب الانسداد؛ لعدم الحاجة إليها بعد انحلال العلم الإجمالي، وبعد انفتاح باب العلمي، وبعد لزوم العمل بالأصول العملية.

[2] حتى يقال بترجيح الإطاعة الظنية عليها، والمقصود هو أن المقدمة الخامسة سالبة بانتفاء الموضوع، فلا دوران بين الظن والشك والوهم حتى يكون ترجيحهما عليه ترجيحاً للمرجوح.

[3] «بما» متعلق بالانحلال، أي: الانحلال بسبب روايات الكتب المعتبرة حيث ينحل العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، كما مرّ تفصيله.

[4] أي: مقتضى الانحلال، حيث انحل العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير فيلزم الاحتياط فيه، وإلى شبهات بدوية فتجري فيها أصالة البراءة، «فيها» أي: في الكتب المعتبرة.

[5] أي: بالاحتياط بما في الكتب المعتبرة، «منه» من الاحتياط.

[6] أي: كذلك لا تصل النوبة من جهة ما أوردناه... الخ.

[7] المقتضي: هو عموم النقل في الأصول العملية الشرعية، وحكم العقل في الأصول العملية الشرعية. ولا مانع، فلا إجماع، ولا خروج عن الدين، ولا علم إجمالي - لفرض انحلاله - .

[8] أي: لو لم ينحل العلم الإجمالي بما في الأصول المثبتة وموارد العلم وموارد

ص: 459

الأصول المثبتة وحدها. وحينئذٍ[1] كان خصوص موارد الأصول النافية محلاً لحكومة العقل[2] وترجيح مظنونات التكليف منها على غيرها[3] ولو[4] بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة[5] شرعاً بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعاً أو عقلاً[6] على ما عرفت تفصيله. هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبر جيداً.

-----------------------------------------------------------------

العلمي فلابد من الاحتياط في الأصول النافية، ولكن لا بأس بجريان الأصول المثبتة؛ لقيام الدليل عليها من غير مانع، «فإلى الأصول...» أي: فجواز الرجوع إلى الأصول... الخ.

[1] أي: حين عدم انحلال العلم الإجمالي، وانحصار الرجوع إلى الأصول المثبتة.

[2] حكمه بوجوب الاحتياط بسبب العلم الإجمالي.

[3] غير المظنونات، وهي المشكوكات والموهومات.

[4] إشارة إلى دفع إشكال، وهو: إنه إذا جاز الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي - لأجل دفع اختلال النظام أو العسر - فلا موجب للاحتياط في بقية الأطراف، وحينئذٍ فلا تصل النوبة إلى ترجيح الظن على غيره!.

والجواب: هو أنه لا موجب عقلي للاحتياط بعد سقوط العلم الإجمالي، ولكن يجب الاحتياط في الجملة بحكم الشرع، لعلمنا باهتمام الشارع بأحكامه - كما مرّ تفصيل كل ذلك في المقدمة الثالثة - .

[5] أي: في خصوص المظنونات، دون الموهومات والمشكوكات.

[6] شرعاً في ما أوجب العسر، وعقلاً في ما أوجب اختلال النظام.

انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع في بحث:

فصل الظن الانسدادي في الفروع والأصول

ص: 460

فهرست الموضوعات

المقصد الرابع في العام والخاص

فصل في معنى العام... 7

أقسام العام... 10

فصل في ألفاظ العموم... 13

أدلة القول بأن ألفاظ العموم وضعت للخصوص فقط وردّها 14

الدليل الأول... 14

الدليل الثاني... 15

الدليل الثالث... 16

ردّ الأدلة... 16

فصل بعض ألفاظ العموم... 18

1- النكرة في سياق النفي أو النهي... 18

2- المعرّف بالألف واللام... 22

فصل حجية العام بعد التخصيص بالمُبيّن... 24

دليل النافين... 26

الجواب عن دليل النافين... 26

الجواب الأول... 27

ص: 461

الجواب الثاني... 31

الجواب الثالث... 32

ردّ الجواب الثالث... 33

فصل حجية أو عدم حجية العام بعد التخصيص بالمجمل... 36

الإجمال في مفهوم الخاص... 37

الإجمال في مصداق الخاص... 41

دليل المجوزين... 42

رد دليل المجوزين... 43

المخصص اللبي... 46

الدليل الأول... 47

دفع وهم... 49

الدليل الثاني... 50

الدليل الثالث... 51

إخراج المشتبه من موضوع الخاص... 52

إيقاظ إحراز المشتبه باستصحاب العدم الأزلي... 54

وهم وإزاحة... 57

تحقيق المصنف لرد التوهم... 60

القسم الأول... 60

القسم الثاني... 61

التحقيق في نذر الصوم في السفر ونحوه... 63

الجواب الأول... 64

الجواب الثاني... 64

الجواب الثالث... 66

ص: 462

الدوران بين التخصيص والتخصص... 68

فصل العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص... 71

تحرير محل البحث... 71

1- الفحص عن المخصص المنفصل... 73

القسم الأول... 73

القسم الثاني... 74

مقدار الفحص... 75

2- الفحص عن المخصص المتصل... 76

إيقاظ فرق الفحص في الأصول اللفظية والأصول العملية... 76

إشكال وجواب... 77

فصل عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم... 78

تحرير محل البحث... 79

تحقيق الحال في الصور الثلاث... 81

تحقيق الحال في الصورة الأولى... 81

تحقيق الحال في الصورة الثانية... 85

تحقيق الحال في الصورة الثالثة... 85

توهم وجوابه... 90

توهم وجوابه... 92

توهم آخر وجوابه... 94

فصل ثمرة بحث عموم الخطاب للمشافهين... 96

الثمرة الأولى... 96

الثمرة الثانية... 97

ص: 463

إشكال ودفعه... 100

إشكال آخر ودفعه... 101

فصل الضمير الراجع إلى بعض أفراد العام... 103

فصل تخصيص العام بالمفهوم... 108

فصل الاستثناء المتعقب لعدة جُمَل... 112

فصل تخصيص القرآن بالخبر الواحد... 118

دليل جواز التخصيص... 118

أدلة المنع عن التخصيص... 120

الدليل الأول للمانعين... 120

الدليل الثاني للمانعين... 122

الدليل الثالث للمانعين... 122

الدليل الرابع للمانعين... 125

فصل الدوران بين النسخ والتخصيص... 126

الصورة الأولى والثانية... 127

الصورة الثالثة... 127

الصورة الرابعة... 129

الصورة الخامسة... 129

الصورة السادسة... 130

احتمال النسخ في الصورة الثانية والرابعة... 132

بحث في النسخ... 134

النسخ قبل حضور وقت العمل... 137

بحث في البداء... 139

ص: 464

الثمرة بين التخصيص والنسخ... 143

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

فصل معنى المطلق والمقيد... 147

1- اسم الجنس... 148

2- علم الجنس... 152

3- المفرد المعرَّف باللام... 155

مبنى المشهور والإشكال عليه... 156

المحذور الأول... 157

المحذور الثاني... 157

مختار المصنف... 158

4- الجمع المعرف باللام... 160

5- النكرة... 162

إطلاق لفظ المطلق... 164

هل التقييد مجاز؟... 166

فصل مقدمات الحكمة... 168

المقدمة الأولى البيان في مقام الاستعمال... 172

الأصل حين الشك في مقام البيان وعدمه... 174

المقدمة الثانية والثالثة مانعية الانصراف عن انعقاد الإطلاق... 176

إشكال وجواب... 178

إذا كان للمطلق جهات عديدة... 180

فصل المطلق والمقيد المتنافيان... 181

ص: 465

المتوافقان المثبتان... 182

عدم التقييد في المستحبات... 187

المتوافقان المنفيان... 189

المطلق والمقيد في الأحكام الوضعية... 190

اختلاف مقتضى مقدمات الحكمة... 192

فصل في المجمل والمبين... 196

المقصد السادس في الأمارات

فصل أحكام القطع... 203

الأمر الأول: بحوث في حجية القطع... 208

1- حجية القطع... 208

2- الحجية ذاتية للقطع... 210

3- الحجية في القطع بالتكليف الفعلي... 212

الأمر الثاني: التجري... 215

الفعل المتجرّى به... 218

الدليل النقلي على استحقاق المتجري للعقاب... 226

دليل آخر على استحقاق العقاب في التجري وردّه... 228

عدم تعدد العقاب في المعصية... 230

الأمر الثالث: القطع الموضوعي... 231

أولاً: أقسام القطع... 232

ثانياً: قيام الأمارات مقام القطع... 235

1- قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي... 235

2- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي... 236

ص: 466

3- عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي... 237

كلام الشيخ في القطع الموضوعي الكشفي... 238

الإشكال الأول على كلام الشيخ... 239

الإشكال الثاني على كلام الشيخ... 242

ثالثاً: عدم قيام الأصول مقام القطع... 243

عدم قيام الاحتياط مقام القطع... 244

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع... 246

تصحيح لحاظ واحد للقطع الطريقي والموضوعي... 247

الأمر الرابع: الظن الموضوعي... 252

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية... 258

البحث الأول... 258

البحث الثاني... 260

البحث الثالث... 261

البحث الرابع... 262

الأمر السادس: لا استثناء في حجية القطع... 265

1- القطع الطريقي... 265

2- القطع الموضوعي... 267

ما نسب إلى بعض الأخباريين... 269

الأمر السابع: العلم الإجمالي... 272

المقام الأول تنجز التكليف بالعلم الإجمالي... 272

إشكال التناقض وجوابه... 273

دليل أن العلم الإجمالي مقتضٍ للتنجز... 275

دليل التفصيل بين المخالفة والموافقة... 277

بحث فنيّ... 279

ص: 467

المقام الثاني سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي... 280

البحث الأول: مع إمكان القطع التفصيلي... 281

1- في التوصليات... 281

2- في العبادات غير المحتاجة إلى التكرار... 281

3- في العبادات المحتاجة إلى التكرار... 283

البحث الثاني: الامتثال الإجمالي مع عدم إمكان القطع التفصيلي... 285

الأمارات المعتبرة... 288

المقدمة الأولى... 288

المقدمة الثانية... 290

ما استدل به على استحالة التعبد بالأمارة... 294

الدليل الأول... 294

الدليل الثاني... 295

الدليل الثالث... 296

الجواب... 296

الجواب الأول... 297

الجواب الثاني... 298

الجواب الثالث... 303

الجواب الرابع والإشكال عليه... 304

الإشكال الأول... 304

الإشكال الثاني... 307

الجواب الخامس وردّه... 308

المقدمة الثالثة... 309

فصل حجية ظواهر الألفاظ... 314

ص: 468

التفصيل الأول وردّه... 315

التفصيل الثاني وردّه... 315

التفصيل الثالث وردّه بين الكتاب الكريم وبين غيره من الظواهر... 316

الدليل الأول... 317

الدليل الثاني... 318

الدليل الثالث... 319

الدليل الرابع... 319

الدليل الخامس... 320

الإشكال على الدليل الأول... 321

الإشكال على الدليل الثاني... 322

الإشكال على الدليل الثالث... 323

الإشكال على الدليل الرابع... 323

الإشكال على الدليل الخامس... 324

ردّ التحريف في القرآن... 328

اختلاف القراءات... 331

فصل احتمال القرينة وكيفية إحراز الظهور... 335

الأمر الأول احتمال وجود قرينة... 336

الأمر الثاني احتمال قرينية الموجود... 337

الأمر الثالث عدم كفاية الظن في الظهور... 338

الأمر الرابع عدم حجية كلام اللغوي... 339

الدليل الأول والثاني... 340

الدليل الثالث... 341

الدليل الرابع... 343

ص: 469

فصل الإجماع المنقول... 346

الأمر الأول في الإجماع المحصل... 347

الأمر الثاني طريقة نقل الإجماع... 350

الأمر الثالث موارد حجية الإجماع المنقول... 351

تنبيهات... 359

التنبيه الأول... 359

التنبيه الثاني... 361

التنبيه الثالث... 363

فصل الشهرة الفتوائية... 365

أدلة حجية الشهرة الفتوائية وردّها 365

الدليل الأول... 365

الدليل الثاني... 367

الدليل الثالث... 369

فصل حجية الخبر الواحد... 369

أصولية المسألة... 370

أدلة القول بعدم حجية الخبر الواحد... 373

الأول: الكتاب... 374

الثاني: الروايات... 374

الثالث: الإجماع... 375

الجواب... 376

فصل الآيات الدالة على حجية الخبر الواحد... 379

الاستدلال بآية النبأ 379

ص: 470

إشكال آخر وجوابه... 382

إشكال ثالث... 383

دفع الإشكال الثالث... 387

إشكال رابع... 390

الاستدلال بآية النفر... 391

إشكال آخر... 397

الاستدلال بآية الكتمان... 398

الاستدلال بآية السؤال... 400

الاستدلال بآية الاُذُن... 403

فصل في الأخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد... 407

فصل في الإجماع على حجية الخبر... 409

فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد... 417

أول الوجوه العقلية... 417

ثاني الوجوه العقلية... 421

ثالث الوجوه العقلية... 426

فصل الوجوه التي أقيمت على حجة الظن... 429

الدليل الأول لحجية الظن... 429

الأول: العقوبة... 432

الثاني: المفسدة... 434

الثالث: تفويت المصلحة... 435

الدليل الثاني لحجية الظن... 437

الدليل الثالث لحجية الظن... 438

ص: 471

دليل الانسداد... 440

الكلام في المقدمة الأولى... 442

الكلام في المقدمة الثانية... 444

الكلام في المقدمة الثالثة... 444

الكلام في المقدمة الرابعة... 447

المطلب الأول... 447

المطلب الثاني... 452

المطلب الثالث... 457

الكلام في المقدمة الخامسة... 458

فهرست الموضوعات... 461

ص: 472

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.