إيضاح کفاية الأصول المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السيدجعفر، 1349 -

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان واسم المؤلف: إيضاح کفاية الأصول/ تالیف السيدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالفکر، 1397.

مواصفات المظهر: 5 ج.

ISBN : دوره 978-600-270-236-4 : ؛ 120000 ریال: ج.1 978-600-270-237-1 : ؛ 120000 ریال: ج.2 978-600-270-238-8 : ؛ 120000 ریال: ج.3 978-600-270-239-5 : ؛ 120000 ریال: ج.4 978-600-270-240-1 : ؛ 120000 ریال: ج.5 978-600-270-241-8 :

حالة الاستماع: فیپا

ملاحظة : العربیة.

ملاحظة : ج. 2 - 5 (چاپ اول: 1397)(فیپا).

ملاحظة : هذا الكتاب هو وصف لكتاب "کفاية الأصول" الذي المؤلف آخوند الخراساني.

ملاحظة : فهرس.

قضية : آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفاية الأصول -- النقد والتعليق

قضية : Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein . Kefayat ol - osul -- Criticism and interpretation

قضية : أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

المعرف المضاف: آخوند الخراساني، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

المعرف المضاف: Akhond khorasani, Mohammad Kazem ibn Hosein. . Kefayat ol - osul

ترتيب الكونجرس: BP159/8/آ3ک7021326 1397

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5279147

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد: فحينما باحثت الكفاية للمحقق المدقق الآخوند الخراساني قدّس سرّه، كنت أكتب بعض المطالب في قصاصات أوراق - للحاجة إلى المراجعة إليها حين الدرس - ثم اقترح علي بعض الأعزّة أن أتوسع فيها قليلاً لتكون كتاباً توضيحياً ليراجع إليها هو وغيره من الطلاّب حين الحاجة، فاستجبت للطلب رغم كثرة شروح الكفاية التوضيحيّة، والذي أفضلها كتاب (الوصول إلى كفاية الأصول) للسيد الوالد أعلى الله درجاته، والذي قد استفدت منه كثيراً في هذا الكتاب، وغيره من الشروح؛ وذلك لاختلاف أذواق الطلبة واختلاف نمط الشروح، أسأل الله القبول، وأن يجعل النفع في هذا الكتاب، إنه ولي التوفيق.

قم المقدسة

جعفر بن محمد الحسيني الشيرازي

5 / ربيع الأول / 1431

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسَّلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فقد رتّبته على مقدّمة ومقاصد وخاتمة. أما المقدمة[1] ففي بيان أمور:

الأول[2]:

-----------------------------

[1] إنّما كانت مقدمة لأنها خارجة عن مسائل العلم، ولكنها تمهيد له. فمعرفة موضوع العلم وتعريفه، والغرض منه تكشف للإنسان ملامح ذلك العلم؛ ولأنّ المجلد الأول من الأصول هو بحث في الألفاظ، كان من المناسب معرفة الوضع وأقسامه، ومُصححاته وعلائمه.

ولمّا كانت للشارع اصطلاحات خاصة به تَمَّ البحث عن الحقيقة الشرعية أو المتشرعيّة، وعن ألفاظ العبادات وأنها للصحيح أم للأعم، وألفاظ المعاملات وأنها للسبب أو المسبب.

ولمّا ارتبطت بعض الأحكام ببعض حالات المكلف - كالعدالة والفسق - وهي حالات متبدّلة، كان من المناسب بحث المشتق، وأنه حقيقة في المتلبس بالمبدأ أو في الأعم، وغيرها من البحوث.

كل هذه خارجة عن مسائل الأصول، لكنها ممهّدة له، بحثها المصنف في ثلاثة عشر أمرا في المقدمة.

الأمر الأول موضوع علم الأصول وتعريفه

اشارة

[2] في موضوع علم الأصول، ومسائله، وتعريفه.

ص: 9

إنّ موضوع كل علم - وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة[1]، أي بلا واسطة

------------------------

وقد بدأ المصنف ببيان معنى الموضوع في كل علم، وكذا معنى المسائل، وتمايز العلوم بعضها عن بعض، تمهيداً لتطبيقها على علم الأصول.

ولا يخفى أن كل علم مركب من الموضوع والمسائل والمبادئ.

1- موضوع العلوم

[1] اعلم أن ثبوت شيء لشيء آخر على أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يكون هذا الثبوت باقتضاء الذات، من غير أن تكون هناك علة، ومثاله: زوجية الأربعة، فإن الزوجية من اقتضاء ذات الأربعة من غير واسطة.

القسم الثاني: أن يكون الثبوت بواسطة - ويعبر عنه بہ (الواسطة في الثبوت) - وهذا على ستة أصناف:

1- الثبوت بواسطة داخلية مساوية - أي: بواسطة الفصل - مثل ثبوت التكلم للإنسان بواسطة كونه ناطقاً.

2- الثبوت بواسطة خارجية مساوية - أي: بواسطة العَرَض الخاص - مثل ثبوت الضحك للإنسان بواسطة التعجب، فالتعجب الذي هو خارج ذات الإنسان - لأنه عرض خاص - ومساوٍ للإنسان - لعدم وجود متعجب آخر غيره - صار سببا لضحك الإنسان.

3- الثبوت بواسطة داخلية أعم - أي: بواسطة الجنس - مثاله: ثبوت المشي للفرس بواسطة كونه حيواناً.

4- الثبوت بواسطة خارجية أعم - أي: بواسطة العَرَض العام - مثاله: التعب الثابت للإنسان بواسطة المشي.

5- الثبوت بواسطة خارجية أخص، مثاله: الضحك العارض للحيوان بواسطة

ص: 10

--------------------------

التعجب، فقد ثبت الضحك للحيوان بواسطة عرض أخص، وهو التعجب؛ لأن التعجب خاص بنوع من الحيوان وهو الإنسان.

ولا يخفى عدم وجود واسطة داخلية أخص؛ لأن الداخلي: إما فصل - وهو مساوٍ - أو جنس - وهو أعم - ولا ثالث.

6- الثبوت بواسطة أمر مباين، مثاله: ثبوت الحرارة للماء بواسطة النار؛ إذ بين النار والماء تباين - لايجتمعان - .

القسم الثالث: الواسطة في العروض، أي: لا يكون عارضاً للشيء حقيقة، بل عارض على غيره، ولكن ينسب إلى الشيء مجازاً، مثل: (جرى الميزاب)، مع أن الجاري حقيقة هو الماء، ولكن نُسب الجريان إلى الميزاب مجازاً، بعلاقة الحال والمحل.

القسم الرابع: الواسطة في الإثبات، أي: الواسطة في علمنا، مثل: كون الدخان واسطة لعلمنا بوجود النار، وهذا القسم خارج دائرة البحث الآن.

ثم اعلم أن موضوع العلم هو ما يبحث عن عوارضه الذاتية، لا ما يبحث عن عرضه الغريب.

وقد اختلفوا في تعيين العرض الذاتي والعرض الغريب. فالمصنف يرى أن القسم الأول والثاني - بأصنافه الستة - هي من العرض الذاتي، والقسم الثالث هو العرض الغريب.

والمشهور على أن الذاتي هو القسم الأول، والصنف الأول والثاني من القسم الثاني، وأما الغريب فهو الصنف الرابع والخامس والسادس وكذا القسم الثالث، واختلفوا في الصنف الثالث.

والصحيح هو ما يراه المصنف؛ لأن مبنى المشهور يستلزم خروج كثير من مسائل العلوم عنها، والتزام الاستطراد فيها.

ص: 11

في العروض[1] - هو نفس موضوعات مسائله عيناً[2] وما يتحد[3] معها خارجاً،

------------------------

مثلاً: الرفع يعرض الكلمة بواسطة كونها فاعلاً - وهذا من الصنف الخامس؛ إذ الواسطة هي الفاعل، وهو أخص من الكلمة - فهل

يلتزم أحد بأن بحث رفع الفاعل ليس من مسائل النحو؟

ثم اعلم أن للعرض تقسيمات متعددة، كالعرض العام والخاص، وكالعرض اللازم البين وغير البين... وغير ذلك من التقسيمات، إلاّ أن الغرض هنا كان التقسيم من جهة عروضه لشيء آخر، وأنه هل هو بواسطة أو بغير واسطة؟ ... الخ.

[1] فالعرض الذاتي - عند المصنف - هو القسم الأول، والقسم الثاني - بجميع أصنافه - وأما إذا كان واسطة في العروض - وهو القسم الثالث - فهو العرض الغريب. خلافاً للمشهور حيث ادخلوا بعض أصناف القسم الثاني في العرض الغريب - كما عرفت شرحه مفصلاً - .

[2] فإن كل مسألة من مسائل العلم تتركب من موضوع ومحمول، والموضوع في المسألة هو نفس موضوع العلم خارجاً، والتغاير في المفهوم، فموضوع العلم كلي، وموضوع المسألة مصداق لذلك الكلي.

مثلاً: موضوع علم النحو: (الكلمة)، والكلمة متحدة مع (الفاعل) خارجاً، في مسألة (الفاعل مرفوع)، والفرق أن (الكلمة) كلي، و(الفاعل) مصداق لذلك الكلي.

[3] عطف تفسيري، وإنّما يلزم الاتحاد لكي تكون المسائل بحث عن موضوع العلم، أما لو كان موضوع المسألة مغايراً لموضوع العلم لزم خروج تلك المسائل عن ذلك العلم، حيث لا تبحث عن موضوع العلم، بل عن موضوع آخر.

ص: 12

وإن كان يُغايرها مفهوماً تغاير[1] الكلي ومصاديقه والطبيعي[2] وأفراده.

والمسائل: عبارة[3] عن جملة من قضايا متشتتة، جَمَعَها اشتراكها في الدخل[4] في الغرض الذي لأجله دُوِّنَ هذا العلم، فلذا[5] قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له[6] دخل في مُهِمَّين، لأجل كل منهما دُوِّنَ علم على حِدَة، فيصير

-------------------------

[1] أي: تغاير موضوع العلم مع موضوع المسألة، كتغاير الكلي ومصاديقه.

[2] عطف تفسيري على (الكلي ومصاديقه).

2- مسائل العلوم

[3] العلم هو مجموعة مسائل - أي: قضايا لها موضوع ومحمول - وهذه القضايا المختلفة يجمعها وحدة الهدف.

مثلاً: الهدف من علم النحو هو صيانة اللسان عن الخطأ في الإعراب، وهذا الهدف يجمع بين مسألة (الفاعل مرفوع) و(المفعول منصوب) و(المضاف إليه مجرور)؛ لأن العلم بكل مسألة من هذه المسائل وتطبيقها يصبّ في الهدف العام لعلم النحو، وهو صيانة اللسان.

[4] «جَمَعَها» جمع تلك القضايا في علم واحد، «اشتراكها» أي: القضايا، «الدخل»: أي التأثير، «دُوّن» من التدوين بمعنى التأليف.

[5] أي: لأن الغرض هو الجامع بين القضايا المتشتتة نجد أن بعض المسائل تُبحث في علوم مختلفة.

مثلاً: مسألة التجري يبحث عنها في الفقه والأصول والكلام؛ لأن أغراض هذه العلوم تنطبق عليها، فمن جهة ارتباطها بفعل المكلف، يقال: هل التجري حرام؟ ومن جهة ارتباطها باستنباط الأحكام الشرعية، يقال: هل التجري قبيح؟ ومن جهة ارتباطها بالمعاد، يقال: هل التجري يوجب استحقاق العقوبة؟

[6] «مما» من المسائل التي، «كان له» لبعض المسائل، «مهمّين» غرضين، «منهما» من المهمّين، «على حدة» بانفراده، «فيصير» يصير ما كان له دخل في مهمين.

ص: 13

من مسائل العلمين.

لا يقال[1]: على هذا[2] يمكن تداخل عِلْمين في تمام مسائلهما في ما كان هناك مُهمّان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد[3] انفكاكهما.

فإنه يقال[4]:

-------------------------

[1] إشكال على جعل الضابطة في المسائل هي (اشتراكها في الدخل في الغرض).

وحاصله: إنه لو كان الاشتراك في الغرض هو الجامع لمسائل العلم الواحد - مع إمكان أن يترتب على مسألة واحدة غرضان - للزم اتحاد علمين في كل المسائل لو اتفق ترتب غرضين على كل مسألة مسألة.

وأنت ترى أنه من القبيح كتابة علمين - مع اتحادهما في كل المسائل - وهذا يكشف عن أن الضابط في (المسائل) ليس الاشتراك في الغرض، بل الضابط هو وحدة الموضوع - مثلاً - .

[2] أي: كون علة التدوين هو الغرض، «في ما كان» أي: التداخل في هذه الصورة، «متلازمان» اتفاقاً، «جملة من القضايا» التي تشكل مسائل العلمين.

[3] عطف بيان لقوله (متلازمان).

[4] الجواب من وجهين:

الأول: إنا لا نتكلم في الفرضيات، وإنما نتكلم في العلوم الخارجية، ولا يوجد علمان يترتب غرضان متلازمان على كل مسائلهما.

الثاني: إنه لو فرض ذلك فلا يحسن تأليف علمين، بل يكتب كتاب واحد، ويقال: إن هذه المسائل يترتب عليها غرضان.

وبعبارة أدق: إنا ادعينا أن المسائل يجمعها وحدة الغرض، ولم ندّعِ أن وحدة الغرض هي سبب وحدة العلم، حتى ينقض بأنه يمكن فرض علم واحد مع ترتب غرضين.

ص: 14

- مضافاً[1] إلى بُعد ذلك بل امتناعه عادةً[2] - لا يكاد[3] يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يُبحث فيه تارة[4] لكلا المهمين وأخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فإن حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة لأجل مهمين[5] مما لا يخفى.

وقد انقدح بما ذكرنا[6] أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى

-------------------------

[1] هذا الجواب الأول.

[2] الممتنع العادي: هو ما يمكن بالذات، لكنه لم يتحقق ولن يتحقق أصلاً، كطيران الإنسان من غير وسيلة.

[3] هذا الجواب الثاني، «لذلك» لوجود غرضين في كل المسائل.

[4] أي: قد يكون القصد من التأليف كلا الغرضين، وقد يكون القصد أحد الغرضين.

ولا يخفى أن قصد المؤلف لا دخل له في المسائل، فالمسائل متحدة والعلم واحد، سواء كان قصد المؤلف كلا الغرضين أم أحدهما.

[5] «لأجل» متعلق بقوله: (حسن تدوين)، «مما لايخفى» خبر قوله: (فإن حسن...).

3- تمايز العلوم

[6] حيث قال المصنف: (والمسائل: عبارة عن جملة من قضايا متشتتة جَمَعَها اشتراكها في الدخل في الغرض، الذي لأجله دوّن هذا العلم).

والكلام في المائز بين العلوم، كعلم النحو والفقه.

1- قيل: المائز هو الموضوع(1)،

فموضوع علم النحو هو الكلمة والكلام، وموضوع علم الفقه هو فعل المكلّف.

ص: 15


1- الفصول الغروية: 11.

التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلاّ[1] كان كل بابٍ[2] - بل كل مسألة[3] - من كل علم علماً على حدة - كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل - فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد، كما لا يكون وحدتهما[4] سبباً لأن يكون من الواحد.

-------------------------

2- وقيل: المائز هو المحمول(1)،

ففي النحو الإعراب - الرفع والنصب والجر - وفي الفقه الأحكام - الوجوب والحرمة والإباحة والاستحباب والكراهة - .

3- والمختار: إن المائز هو الغرض، فكلما اتحد الغرض من مسألتين كانتا من علم واحد - حتى مع اختلاف موضوعها ومحمولها - وذلك لأن المهم عند الناس هو الهدف والغرض من العلم، ولا يَهِمُّهُم ما إذا كان الموضوع واحداً أم لا.

ويرد على القول بأن التمايز بالموضوع أو المحمول: إن تعدد أبواب العلم الواحد، وكذا تعدد المسائل، إنما هو لتعدد الموضوع أو المحمول - وإلاّ كان العلم كله باباً واحداً ومسألة واحدة - فهذا التعدد يستلزم تعدد العلم الواحد، بل يستلزم أن تكون كل مسألة علماً مستقلاً؛ لاختلاف موضوعها أو محمولها عن سائر المسائل!!

[1] أي: وإن لم يكن التمايز بالغرض، بل كان بالمحمولات أو الموضوعات.

[2] بناءً على أن التمايز بالموضوع؛ لأن موضوع كل باب يختلف عن موضوع سائر الأبواب، مثلاً: الموضوع في باب الفاعل هو الفاعل، وفي باب المفعول هو المفعول وهكذا.

[3] بناءً على أن التمايز بالمحمول، فمسألة (الفاعل مرفوع) تختلف محمولاً عن مسألة (الفاعل لايتقدَّم على الفعل) وهكذا.

[4] أي: الموضوع والمحمول، كوحدة موضوع علم النحو وعلم الصرف - وهو الكلمة والكلام - فإنه لا يوجب وحدة عِلمي النحو والصرف.

ص: 16


1- بدائع الأفكار: 32.

ثم إنه[1] ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد[2] مع موضوعات المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه[3]، بداهة عدم دخل ذلك[4] في موضوعيّته أصلاً.

-------------------------

4- موضوع علم الأصول

اشارة

[1] يريد المصنف بيان موضوع علم الأصول، ويُمهّد لذلك مقدمة، وهي: إن موضوع كل مسألة من مسائل العلم هي مصداق جزئي لموضوع العلم، مثلاً: (الفاعل مرفوع) و(المفعول منصوب) و(المضاف إليه مجرور) هذه مسائل موضوعاتها جزئيات للكلي، وهو (الكلمة)، فإنها الجامع بين هذه الموضوعات المختلفة.

وبذلك يتبيّن أن موضوع علم الأصول هو الكلي الجامع بين موضوعات مختلف مسائل علم الأصول.

وإن سألت: ما هو ذلك الموضوع الجامع لعامة مواضيع المسائل؟

فجوابنا: إنه لا يشترط المعرفة التفصيلية لذلك الجامع الكلي، بل يكفي أن نعلم أن هناك شيئاً كلياً هو الجامع.

[2] لأن الكلي الطبيعي لا وجود له في الخارج إلاّ بوجود أفراده، فالإنسان لا يوجد إلاّ في ضمن الأفراد الجزئية كزيد وعمرو...، «واسم مخصوص» عطف تفسيري على قوله (عنوان خاص).

[3] سواء كانت دلالة تفصيلية، كقولنا: موضوع علم النحو: الكلمة والكلام، أم كانت دلالة إجمالية، كقولنا: موضوع علم الأصول: هو الكلي الجامع لموضوعات مسائله.

[4] أي: ما دل عليه، وبعبارة أخرى: عدم دخل الاسم في كونه موضوعاً، فإن الموضوع إنّما هو الحقيقة الخارجية، سواء كان لها اسم أم لم يكن لها اسم؛ لأن

ص: 17

وقد انقدح بذلك[1] أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص[2]

-------------------------

الاسم إنّما هو للإشارة إلى تلك الحقيقة، «موضوعيته» أي: موضوعيّة الموضوع.

[1] أي: بهذه المقدمة وأنه لا يشترط معرفة الاسم في موضوعيّة الموضوع.

[2] قال المشهور: إن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة(1)

- الكتاب والسنة والإجماع والعقل - .

وذهب المحقق القمي إلى أن الموضوع هو (الأدلة الأربعة بما هي أدلة)(2) فجعل موضوع علم الأصول مركبا من: (الأدلة) و(بما هي أدلة).

وقد اُشكل عليه(3):

بأن كلامه يستلزم عدم اُصولية البحوث المتعلقة بإثبات حجية هذه الأربعة، كالبحث عن حجية ظاهر القرآن والسنة، وكالبحث عن حجية الإجماع والعقل، مع أن البحث عن حجية هذه الأربعة من أهم مسائل علم الأصول.

بيان الإشكال: إن مسائل العلم هي البحث عن عوارض الموضوع - بعد ثبوت الموضوع - أما البحث عن أصل وجود الموضوع فهو من المقدمات، والتي يعبر عنه بالمبادي التصديقية.

فلو جعلنا موضوع علم الأصول هو (الأربعة بما هي أدلة) كان (دليليتها) جزء الموضوع، فالبحث عن (الدليليّة) بحث عن أصل ثبوت الموضوع، فيكون هذا البحث من المبادئ لا من المسائل.

ولأجل هذا الإشكال التزم صاحب الفصول بأن موضوع علم الأصول هو (الأدلة الأربعة بما هي هي)، فأخرج (الدليلية) عن الموضوع، وبذلك يكون البحث عن

ص: 18


1- أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 121.
2- قوانين الأصول 1: 9.
3- الحاشية على كفاية الأصول 1: 13.

الأدلة الأربعة بما هي أدلة[1]، بل ولا بما هي هي[2]، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها[3].

وهو واضح[4] لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها؛ لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة

-------------------------

الدليلية - أي الحجيّة - بحث عن عوارض الموضوع؛ لأن الحجية تعرض على هذه الأربعة.

ويرد عليه: إن كلامه يستلزم دخول جميع العلوم المرتبطة بالقرآن والسنة - كعلم التفسير - في علم الأصول.

ثم إن المصنف أورد إشكالاً عاماً على كلا القولين - قول القوانين وقول الفصول - وحاصله: إن جعل الأدلة الأربعة موضوعاً لعلم الأصول يستلزم خروج كثير من المسائل الأصولية المهمة عن علم الأصول، كالبحث عن حجية الخبر الواحد، وكبحث تعارض الخبرين.

[1] كما ذهب إليه المحقق القمي.

[2] كما ذهب إليه صاحب الفصول.

[3] أي: ليس من عوارض الأدلة الأربعة.

[4] يذكر المصنف أن جعل الموضوع: الأدلة الأربعة، يستلزم خروج بعض أهم المسائل الأصولية من علم الأصول، وهو بحث حجية الخبر الواحد، وبحث تعارض الخبرين؛ وذلك لأنه ما هو المراد من السنة؟

فيه احتمالان:

1- السنة: هي قول وفعل وتقرير المعصوم، فخروج الخبر عن السنة واضح، ويرشدك إلى الفرق: أن (السنة) حجة قطعا، فإنه لا خلاف في حجية قول وفعل وتقرير المعصوم، ولكن (الخبر) وهو الحاكي عن السنة، قد اختلف في حجيته، بل بعض أقسام الخبر ليس بحجة أصلاً.

ص: 19

- كعمدة مباحث التعادل والتراجيح[1]، بل ومسألة حجية خبر الواحد - لا عنها ولا عن سائر الأدلة.

ورجوع البحث فيهما[2] في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر - كما أفيد(1)

- وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه[3] أيضاً بحث

-------------------------

2- السنة: هي الخبر مضافاً إلى قول المعصوم وفعله وتقريره، فعلى هذا الاحتمال يكون الخبر من السنة، لكن يرد إشكال آخر سيأتي شرحه.

أولاً: القول بأن السنة لاتشمل الخبر
اشارة

[1] عمدة مباحثهما في تعارض الخبرين، والبحث ليس في عوارض الأدلة الأربعة، بل في عوارض الخبر - نعم، بعض مباحث التعادل والتراجيح ترتبط بتعارض ظاهر آيتين، أو تعارض إجماعين منقولين، وهذه المباحث هي بحث عن عوارض الأدلة، فتكون داخلة في مسائل الأصول.

دفاع الشيخ الأعظم

[2] دافع الشيخ الأعظم في بحث الخبر الواحد عن كون موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة، وأرجع البحث عن حجية (الخبر الواحد) إلى البحث عن (السنة)؛ وذلك بأن يقال: هل السنة تثبت بالخبر الواحد أم لا؟

فالموضوع في هذه المسألة هو (السنة)، فكان البحث عن حجية الخبر الواحد بحثاً عن عوارض (السنة) التي هي أحد الأدلة الأربعة.

وكذا في بحث التعادل والتراجيح يمكن القول: إن السنة تثبت بأيّ الخبرين؟

«البحث فيهما» أي: في حجية الخبر وفي تعارض الخبرين، «كما أفيد» أفاده الشيخ الأعظم.

[3] أي: البحث عن ثبوت السنة بأي واحد من الخبرين، هو في الحقيقة بحث عن حجية الخبر - الراجح - وحينئذٍ يقال: إن السنة هل تثبت بهذا الخبر الراجح أم لا

ص: 20


1- فرائد الأصول 1: 238.

في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال، غير مفيد[1]؛ فإن البحث عن ثبوت الموضوع وما هو[2] مفاد كان التامة ليس بحثاً عن عوارضه[3]،

-------------------------

تثبت؟ «في هذا الحال» أي: في حال التعارض.

الإشكال على دفاع الشيخ

[1] حاصل الإشكال: إن كان الموضوع هو (الأدلة بما هي أدلة) أو (الأدلة بما هي هي)، فالبحث عن ثبوت السنة بالخبر هو بحث عن أصل وجودها - وهو من المبادئ التصديقية - وليس بحثا عن عوارض السنة، فلا يكون هذا البحث من مباحث علم الأصول.

ثم اعلم أنه قد اصطلح على إثبات أصل الوجود ب(مفاد كان التامة)، وعلى إثبات عوارض الوجود ب(مفاد كان الناقصة)؛ وذلك لأن (كان) قد تكون بمعنى (وجد) فلا خبر لها، كما يقال: (كان الله)، وهذا إثبات لأصل الوجود فقط، وقد تكون لإثبات شيء لشيء موجود، كما يقال: (كان زيد عالماً) حيث محط الكلام ليس عن إثبات وجود زيد، بل عن إثبات علمه، فكان هنا ناقصة، أي: تحتاج إلى الخبر.

كما اصطلح على نفي الشيء ب(ليس التامة)، وعلى نفي وصف عن شيء موجود ب(ليس الناقصة) كقولنا: (ليس زيد عالماً).

كذلك اصطلح على السؤال عن أصل الوجود ب(هل التامة)، وعلى السؤال عن وصف لشيء موجود ب(هل الناقصة)، كقولنا: (هل زيد عالمٌ؟)

ولا يخفى أن هذا مجرد اصطلاح، وإلاّ فليس في اللغة العربية (هل التامة) ولا (ليس التامة).

[2] عطف تفسيري على قوله (ثبوت الموضوع).

[3] أي: ليس بحثاً عن عوارض الموضوع - الذاتية - حتى تكون من مسائل العلم، بل هو بحث عن أصل الوجود، وهو من المبادئ التصديقية.

ص: 21

فإنها[1] مفاد كان الناقصة.

لا يقال[2]: هذا[3] في الثبوت الواقعي، وأما الثبوت التعبدي[4] - كما هو المهم في هذه المباحث[5] - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنه يقال[6]: نعم[7]، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن

-------------------------

[1] أي: فإن العوارض هي مفاد كان الناقصة، أي: إثبات وصف لشيء موجود.

إشكال وجوابه

[2] حاصل الإشكال: إنا لا نبحث عن الوجود الواقعي للسنة، فإن هذا الوجود معلوم مقطوع به؛ لأنه لا شك في أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كانت لهم أقوال وأفعال وتقارير، بل البحث هو عن الثبوت الجعلي التعبدي، الذي هو بمعنى وجوب العمل - وهذا هو معنى الحجيّة - وهذا بحث عن عوارض الموضوع، وليس بحثا عن أصل وجوده.

[3] أي: صيرورة البحث عن ثبوت السنة بالخبر بحثاً عن المبادئ التصديقية ومفاد كان التامة.

[4] أي: الجعل الشرعي، والذي هو بمعنى لزوم العمل على طبقه - أي: الحجية - .

[5] مباحث الخبر الواحد ومباحث التعادل والتراجيح.

[6] حاصل الجواب: إن السنة التعبدية هي الخبر الواحد، وحينئذٍ فوجوب العمل والحجية صارت عوارض للخبر لا للسنة، فلا يكون البحث عن حجية الخبر الواحد بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول. فالموضوع في قولنا: (الخبر الواحد تثبت به السنة التعبدية) هو الخبر لا السنة.

[7] أي: نسلم أن الثبوت التعبدي من العوارض، وأنه مفاد كان الناقصة، «لكنه» لكن الثبوت التعبدي.

ص: 22

الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسنة المحكية[1] به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى. وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان منها إلاّ أنه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيداً.

وأما[2] إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها[3]،

-------------------------

[1] أي: كما يجب العمل بالسنة، كذلك يجب العمل بالخبر، «المحكية به» أي: السنة التي نعرفها عن طريق الخبر، فإن الخبر حاكٍ عنها، «عوارضه» الخبر، «عوارضها» السنة.

ثانياً: القول بأن السنة تشمل الخبر

[2] قلنا: إنّ موضوع علم الأصول إن كان الأدلة الأربعة، فإن ذلك يستلزم خروج بعض أهم المباحث عن علم الأصول، مثلاً: يقال: السنة... إما يراد بها نفس قول المعصوم وفعله وتقريره، وقد بيّنا خروج مثل مباحث الخبر الواحد، وعمدة مباحث التعادل والتراجيح.

وإما يراد بالسنة قول المعصوم وفعله وتقريره والخبر الحاكي عنه، فحينئذٍ تدخل بحوث الخبر الواحد، وبحوث التعارض في علم الأصول، لكن كثير من المباحث لا تدخل في علم الأصول؛ لأنها ليست بحثاً عن العوارض الذاتية لهذه الأربعة - أي: فعل المعصوم وقوله وتقريره والخبر الواحد - بل هي عوارض غريبة؛ لأن الواسطة أعم؛ وذلك لأن البحث في دلالة الأوامر والنواهي ونحوها هي بحوث عامة لا تختص بالكتاب والسنة، فعروضها عليهما إنما هو بواسطة أعم.

أقول: هذا الإشكال يرد على مبنى المشهور من كون العروض بواسطة (خارجية أعم) من العرض الغريب، أما على مبنى المصنف فهذا أيضاً عرض ذاتي - فراجع أول الكتاب - .

[3] أي: إضافة إلى فعل المعصوم وقوله وتقريره تشتمل الخبر الواحد الحاكي عن السنة.

ص: 23

فلأنَّ[1] البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلاّ أن البحث في غير واحد من مسائلها - كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها - لا يخص الأدلة[2]، بل يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

ويؤيّد ذلك[3] تعريف الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية(1)،

وإن كان الأولى[4] تعريفه بأنه:

-------------------------

[1] أي: فأيضاً تخرج كثير من المباحث على القول بأن الموضوع هو الأدلة الأربعة؛ لأن البحث في... الخ.

[2] الأربعة، فيكون البحث فيها بحثاً عن العارض الأعم الخارج.

5- تعريف علم الأصول

[3] أي: يؤيد كون موضوع علم الأصول هو (الكلي المتحد مع موضوعات المسائل).

وجه التأييد: إن القواعد المُمَهَّدة أعم من الأدلة الأربعة، فهذه القواعد سواء كانت من الأدلة أم لم تكن، فأصول الفقه هو العلم بها.

وإنّما كان مؤيدا لا دليلاً؛ لأن التعاريف عند المصنف هي شرح للاسم، ويراد بها تقريب المعنى إلى الذهن، كقولهم: (سعدانة نبت)، فلا يلزم في التعاريف الطرد والعكس.

[4] لما كان تعريف المشهور لا يخلو عن عدة إشكالات، أعرض المصنف عنه، وعرّف الأصول بتعريف أقرب إلى الواقع، وحيث إن هذه التعاريف شرح للاسم، فلذا قال: (الأولى). ثم إن الإشكالات في تعريف المشهور هي:

1- قولهم: (العلم)، مع أن هذه المسائل هي أصول الفقه، سواء علم بها أحد أم لم يعلمها، وهكذا سائر العلوم، فإنها تلك المسائل من غير دخل لعلم الناس. نعم، العلم بها هو مقدمة للاستفادة منها، لا أنه داخل في حقيقتها؛ ولذا بدل المصنف لفظ (العلم) إلى (صناعة يُعرف بها).

ص: 24


1- قوانين الأصول 1: 5.

صناعة[1] يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي يُنتهى إليها[2] في مقام العمل[3]، بناءً[4] على أن مسألة حجية الظن على

-------------------------

2- قولهم: (القواعد الممهدة)، أي: التي مهَّدها السابقون، مع أن المسائل التي تضاف إلى أصول الفقه مما استنبطها اللاحقون أيضاً داخلة في أصول الفقه؛ ولذا بدّل المصنف (القواعد الممهدة) إلى (القواعد التي يمكن أن تقع...).

هذا بناء على قراءة (الممهَّدة) بفتح الهاء حتى تكون اسم مفعول، أما على قراءتها بكسر الهاء فلا يرد الإشكال.

3- قولهم: (لاستنباط الأحكام الشرعية) يخرج به بحث (الانسداد على الحكومة)، وكذا الأصول العملية العقلية؛ إذ لا يستنبط منها حكم شرعي، بل هي وظائف عقلية في مقام العمل؛ لذا أضاف المصنف: (أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل).

وهناك فروق أخرى مذكورة في مظانها، كما أنه على تعريف المصنف إشكالات أخرى، فراجع المفصلات.

وقوله: (الأولى) بمعنى الأفضلية؛ لأن تعريف المصنف أقرب إلى حقيقة (أصول الفقه) من تعريف المشهور، ولكن حيث إن التعاريف شرح للاسم فلا فرق بينها، إلاّ أن بعضها أولى من بعض لقربها إلى الحقيقة.

[1] (الصنع): إجادة الفعل، و(الصناعة): الفن الذي يحتاج إلى ملكة لفعله، كالحدادة والتجارة. ومعنى كلام المصنف أن (أصول الفقه) ليس تلك القواعد، بل هو ملكة تعرف بها تلك القواعد.

[2] «يُنتهى» بالمجهول، أي: القواعد التي يَنتهي إليها الفقيه في مقام العمل بعد أن لا يجد طريقاً إلى الحكم الشرعي.

[3] لا في مقام استنباط الحكم الشرعي؛ لعدم وجود دليل على حكم الشرع.

[4] أي: إنّ إضافة (أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل) إنما هو على مبنى كون هاتين المسألتين من مسائل علم الأصول.

ص: 25

الحكومة[1] ومسائل الأصول العملية[2] في الشبهات الحكمية[3]

-------------------------

[1] سيأتي في بحث الانسداد - إن شاء الله تعالى - أنه لو قلنا بانسداد العلم والظن الخاص - بأن لم نتمكن من إثبات حجية الخبر الواحد - فحينئذٍ يحكم العقل بحجية الظن مطلقاً - بعد تمامية مقدمات الانسداد - وقد اختلف في أن هذا الظن هل يكشف عن حكم الشارع، أم أنه لا يكشف عن حكمه، وإنّما لزم العمل به لحكم العقل؟

فعلى الأول - أي: الكشف - : يكون الانسداد قاعدة لاستنباط الحكم الشرعي، فيدخل في تعريف المشهور.

وعلى الثاني - أي: حكومة العقل - : لا يكون الانسداد قاعدة لاستنباط الحكم الشرعي، فلا يدخل في تعريف المشهور، لكنه يدخل في تعريف المصنف.

[2] قيل المراد: الأصول العملية العقلية، كالتخيير في المتزاحمين، والاحتياط في العلم الإجمالي، وأما الأصول العملية الشرعية فيستنبط منها حكم شرعي ظاهري.

وقيل: الأصول العملية الشرعية لا تدل على حكم شرعي - لا واقعي ولا ظاهري - بل هي وظيفة في مقام العمل، فتأمل.

وعلى كل حال لا تدخل الأصول العملية - كلها أو خصوص العقلية منها - في تعريف المشهور، لكنها تدخل في تعريف المصنف.

[3] أما الأصول العملية في الشبهات الموضوعية فهي ليست من الأصول، بل هي مرتبطة بالفقه.

والفرق أن الأصول العملية المرتبطة بالشبهات الحكمية يستنبط منها الأحكام الشرعية الكلية، مثلاً: أصالة البراءة يستنبط منها حِلّية التدخين - وهو حكم كلّي فقهي - وكذا حليّة كل شيء شك في حليته أو حرمته، وإجراء هذه الأصول من وظيفة الفقيه.

أما الأصول العملية المرتبطة بالشبهات الموضوعية فإنها لا يستنبط منها الأحكام

ص: 26

من الأصول[1]، كما هو كذلك، ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.

الأمر الثاني: الوضع[2] هو نحو اختصاص للّفظ[3] بالمعنى وارتباط خاص بينهما[4]، ناشٍ(1)

-------------------------

الشرعية الكلية، ويمكن إجرائها للعامي أيضاً، بل ترتبط بالجزئيات الخارجية، كما لو شك في حلية هذا الطعام أو حرمته، أو شك في طهارة هذا الثوب أو نجاسته، وهذه الأصول العملية أمور فقهية وليست مسائل أصولية.

[1] «من الأصول» خبر (أن) في قوله: (بناء على أن مسألة... الخ)، «كما هو كذلك» أي: نحن نقول: إنّ هاتين المسألتين من الأصول؛ لعدم وجه لإخراجهما عن علم الأصول بزعم الاستطراد فيهما.

الأمر الثاني في الوضع

اشارة

[2] عَرَّفوا الوضع: بأنه تخصيص اللفظ بالمعنى - كتخصيص لفظ زيد للمولود - .

وبما أن هذا المعنى لا يشمل الوضع التعيّني، لذلك عدل عنه المصنف إلى قوله: (نحو اختصاص) ثم فسّره بقوله: (وارتباط خاص بينهما).

والحاصل: إن هناك ارتباطاً بين هذا اللفظ وهذا المعنى، بحيث يحضر المعنى إلى الذهن حين سماع ذلك اللفظ، وكذا يستعمل ذلك اللفظ حين إرادة نقل المعنى إلى السامع.

و«نحو اختصاص» أي: كيفية مخصوصة بربط اللفظ بالمعنى.

[3] هنا ثلاثة لامات: اللام الجارة، ولام التعريف، وفاء الفعل، وفي رسم الخط إذا اجتمعت لامات ثلاث تكتب بلامين مع وضع التشديد على الثانية.

[4] عطف تفسيري لشرح معنى الاختصاص.

ص: 27


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «ناشئ».

من تخصيصه به تارةً[1] ومن كثرة استعماله فيه أخرى[2]؛ وبهذا المعنى[3] صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] هذا هو الوضع التعييني، أي: يأتي الواضع ويقول: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى، وهذا النوع يكثر في تسمية الأشياء الخاصة، كتسمية المواليد، والاختراعات ونحوهما.

[2] هذا هو الوضع التعيّني، أي: يكثر استعمال لفظ في معنى حتى يختص به.

والظاهر أن اللغات كلّها من هذا القبيل - إلاّ القليل النادر من ألفاظها - فإن المجتمعات الإنسانية - في مسيرة تاريخها - حينما تلتقي بشيء جديد لم تعهده من قبل، أو حالات جديدة، فإنها تستعمل فيه لفظاً، ثم يكثر استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى حتى يصير حقيقة، وهذا ما يفسر تطور اللغات، وانفصال بعضها عن بعض، بحسب هجرة بعضهم أو ابتعاد أماكنهم.

[3] أي: بتفسير الوضع ب(نحو اختصاص) يصح هذا التقسيم؛ لأن الاختصاص قد يكون منشؤه التخصيص، وقد يكون كثرة الاستعمال، وأما على تفسير الوضع ب(التخصيص) فإنه لا يصح التقسيم؛ لعدم شموله للوضع التعيّني؛ لأنه ليس تخصيص، بل تخصّص.

أقسام الوضع

اشارة

لا بأس بالتنبيه على بعض الأمور:

الأول: الوضع في مرحلة التصور الذهني على أقسام أربعة، وفي مرحلة الإمكان الخارجي على ثلاثة، وفي مرحلة الوقوع الخارجي على قسمين.

أما في مرحلة التصور، فالمتصوّر أربعة أقسام:

1- الوضع العام والموضوع له العام.

2- الوضع العام والموضوع له الخاص.

3- الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

ص: 28

ثم إن الملحوظ[1] حال الوضع إما يكون[2] معنىً عاما فيوضع اللفظ له تارة، ولأفراده[3] ومصاديقه أخرى، وإما يكون[4] معنىً خاصاً

-------------------------

4- الوضع الخاص والموضوع له العام.

وأمّا في مرحلة الإمكان، فيمكن الثلاثة الأوائل، ويمتنع الرابع.

وأما في مرحلة الوقوع، فقد وقع القسم الأول والثالث فقط.

الثاني: في معنى (الوضع) و(الموضوع له) و(العام) و(الخاص).

1- المعنى الذي يتصوره الواضع يقال له (الوضع) - وهذا تعبير مجازي - .

2- المعنى الذي يضع الواضع اللفظ له يُسمّى (الموضوع له).

3- المراد من (العام): هو (المطلق)، وهذا هو حسب المعنى اللغوي للعام، وليس المراد هو المعنى الاصطلاحي له.

4- المراد من (الخاص) هو المعنى الجزئي.

الثالث: ثمرة هذا البحث علمية، وقد يقال ببعض الثمرات العملية له - كاستحالة تقييد الهيئة؛ لأنها معنى حرفي - بناء على كون الموضوع له في الحروف خاصاً.

1- مرحلة التصور

[1] إشارة إلى مرحلة التصور.

[2] هذا القسم الأول: وهو الوضع العام والموضوع له العام، مثل وضع (النساء)، فإن المعنى المتصور عام، واللفظ وضع لذلك المعنى لا لغيره.

[3] هذا القسم الثاني: وهو الوضع العام والموضوع له الخاص، مثل: (الإنسان)، فإن المعنى الذي تصوره الواضع هو معنىً مطلق، لكن اللفظ وضع على خصوص الأفراد - هذا على بعض المباني، وإلاّ فسيأتي من المصنف إنكار وقوع هذا القسم فانتظر - .

[4] هذا إشارة إلى القسم الثالث، والرابع. فالثالث: هو الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كوضع اسم (زيد) على المولود، فقد تصور الأب الواضع

ص: 29

لا يكاد يصح[1] إلاّ وضع اللفظ له دون العام، فتكون الأقسام ثلاثة[2]. وذلك[3]

-------------------------

معنى خاصاً هو هذا الوليد، ثم وضع لفظ (زيد) عليه فقط دون غيره. والرابع: هو الوضع الخاص والموضوع له العام.

2- مرحلة الإمكان
اشارة

[1] هذه المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإمكان. فلا إشكال في إمكان الوضع الخاص والموضوع له الخاص، لكن يستحيل الوضع الخاص والموضوع له العام، «له» للخاص.

[2] أي: في مرحلة الإمكان.

استحالة الوضع الخاص والموضوع له العام

[3] قد يُتسائل عن سبب إمكان الوضع العام والموضوع له الخاص، واستحالة العكس، فأي فرق بين الصورتين بحيث أمكنت إحداهما وامتنعت الأخرى؟

والمصنف في مقام الجواب يبيّن الفرق، وهو: إن تصور العام يستلزم تصور الخاص إجمالاً، فإن الكلي الطبيعي لا وجود خارجي له إلاّ في ضمن أفراده، فكلّما تصورنا كلياً طبيعياً فقد تصورنا أفراده إجمالاً، أي: تصورنا له أفراداً وإن لم نميّز تلك الأفراد بالتفصيل؛ ولذا كان الكلي وجهاً - ومرآةً - للمصاديق الجزئية؛ ولذا أمكن (الوضع العام والموضوع له الخاص) بأن يتصور الواضع معنىً كلياً كالإنسان، ثم يضع اللفظ لأفراده ومصاديقه الجزئية، من غير تشخيص وتمييز لتلك الأفراد في ذهنه.

ولكن تصوّر الخاص لا يستلزم تصور العام - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - إذ مع تصور فرد جزئي بمشخصاته الفردية لا تصور للمعنى العام أصلاً؛ ولذا لا يكون الخاص وجهاً ومرآةً للعام. نعم، قد يلاحظ معنىً جزئياً، ثم ينتقل ذهنه إلى كلي ذلك المعنى، ثم يضع اللفظ للكلي - كما لو رأى حيواناً جديداً فوضع لفظاً لكلي

ص: 30

لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك[1]، فإنه من وجوهها[2]، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجهٍ[3]؛ بخلاف الخاص[4]، فإنه - بما هو خاص - لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر الأفراد[5] فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها[6] أصلاً ولو بوجه.

نعم[7] ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع

-------------------------

ذلك الحيوان - لكن هذا ليس من (الوضع الخاص)، بل من (الوضع العام والموضوع له العام)؛ لأن تصور الجزئي صار سبباً لتصور الكلي ثم وضع اللفظ لذلك الكلي، فتأمل.

[1] أي: بما هو عام.

[2] أي: فإن العام وجه للأفراد، ومرآة لها، إذ لا وجود للعام إلاّ في ضمن الأفراد.

[3] أي: إجمالاً، فإذا تصورنا العام - الذي هو مرآة للأفراد - فقد تصورنا الأفراد إجمالاً، ومع تصور الشيء يمكن وضع اللفظ له.

[4] أي: لا يمكن أن يكون الخاص مرآةً للعام، فإن الواضع يتصور معنىً جزئياً ولم يتصور المعنى العام، فكيف يضع اللفظ لمعنى لم يتصوره؟

[5] أي: لا يكون فرد مرآة لفرد آخر، لعدم تصور ذلك الفرد الآخر أصلاً.

[6] أي: لا يكون معرفة وتصور الخاص معرفة للعام ولا لسائر الأفراد، «ولو بوجه» أي: ولو بنحو المرآتيّة.

[7] إشارة إلى أن الواضع قد يتصور الخاص ثم ينتقل ذهنه إلى العام فيتصوره، ثم يضع اللفظ للعام، وهذا من (الوضع العام والموضوع له العام) وليس من (الوضع الخاص والموضوع له العام)؛ وذلك لأن الواضع تصور بالاستقلال المعنى العام ثم وضع اللفظ له، منتهى الأمر أن منشأ تصوره للمعنى العام هو الخاص، «يوجب تصوره» أي: يكون تصور الخاص سبباً لتصور العام، كما لو رأى حيواناً ثم فكّر في نوع ذلك الحيوان، فوضع لفظاً للنوع.

ص: 31

عاماً، كما كان الموضوع له عاماً. وهذا بخلاف[1] ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الأفراد - لا يكون متصوراً إلاّ بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه[2] وتصوره بنفسه[3] ولو كان بسبب تصور أمر آخر[4].

ولعل خفاء ذلك[5] على بعض الأعلام(1)

وعدم تمييزه بينهما كان موجباً لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصاً مع كون الموضوع له عاماً. مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل.

-------------------------

[1] أي: في الوضع العام والموضوع له الخاص لا يتصور الواضع الأفراد بالاستقلال، بل يتصور العام فقط بما هو مرآة للأفراد.

وغرض المصنف دفع إشكال حاصله: إنه في (الوضع العام والموضوع له الخاص) - الذي حكمتم بإمكانه - أيضاً لمّا يتصور العام ينتقل ذهنه إلى تصور الخاص، وحينئذٍ لا يكون الوضع عاماً، بل الوضع خاص.

والجواب: إنه لا يتصور الخاص بالاستقلال - ولذا لا تأتي إلى ذهنه الأفراد جميعاً، بل ولا فرد واحد - لكنه يتصور الأفراد إجمالاً؛ وذلك لأن العام مرآة لأفراده، فتصور الواضع للأفراد ليس بالاستقلال.

[2] كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

[3] كما في الوضع العام والموضوع له العام.

[4] أي: لو كان تصور الخاص سبباً لتصور العام فإنه حينئذٍ يتصور العام بالاستقلال.

[5] أي: خفاء الفرق بين تصور الشيء بنفسه وبالاستقلال، وبين تصور الشيء بوجهه.

ص: 32


1- بدائع الأفكار: 40.

ثم إنه لا ريب[1] في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كوضع الأعلام. وكذا الوضع العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس. وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد توهم(1)[2]

-------------------------

3- مرحلة الوقوع
اشارة

[1] هذه المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوقوع الخارجي.

لا شك في وقوع (الوضع الخاص والموضوع له الخاص) كأسماء الأعلام، فإن الواضع يتصور معنى جزئياً ويضع اللفظ لذلك المعنى.

كما لا شك في وقوع (الوضع العام والموضوع له العام) كأسماء الأجناس - أي: الطبائع الكلية - مثل أسامي الحيوانات ونحوها، فإن الواضع يتصور معنى عاماً - أي: مطلقاً كما مرّ - ثم يضع اللفظ لذلك المعنى المطلق الذي له مصاديق كثيرة، فلم يضع الرجل - مثلاً - لخصوص رجلٍ جزئي، بل وضعه للمعنى المطلق القابل للانطباق على كل رجال الدنيا.

أما (الوضع العام والموضوع له الخاص) فليس له مورد خارجي، حيث لا نجد وضعاً من هذا القسم. نعم، قد توهم أن وضع الحروف وأسماء الإشارة والضمائر من هذا القبيل.

فلابد - لتوضيح الأمر - من بيان كيفية الوضع في الحروف وما اُلحق بها، ليتبيّن أنها ليست من (الوضع العام والموضوع له الخاص).

المعنى الحرفي

[2] في الحرف وما اُلحق به ثلاثة أقوال(2):

القول الأول: إن الوضع عام والموضوع له عام، والمستعمل فيه عام - وهذا مختار المصنف - أي: تصوّر الواضع معنى مطلقاً، ثم وضع اللفظ لذلك المعنى

ص: 33


1- الفصول الغروية: 16.
2- أصول الفقه 1: 56.

-------------------------

المطلق، والناس يستعملون اللفظ في نفس ذلك المعنى المطلق.

مثلاً: تصور الواضع الابتداء المطلق، ثم وضع لفظ (مِن) لهذا المعنى، والناس يستعملون (مِن) في نفس ذلك المعنى، وكذا لفظ (هذا) مثلاً، وُضع لما يشار إليه، ويُستعمل في نفس المعنى.

القول الثاني: إن الوضع عام والموضوع له خاص.

وسيتضح عدم صحة هذا القول عند بيان الإشكالات الواردة على القول الثالث.

القول الثالث: إن الوضع عام والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

والإشكال الوارد على كلا القولين هو: إن الخصوصية - التي أوجبت كون (الموضوع له) أو (المستعمل فيه) خاصاً - إمّا خصوصية خارجية - كمكان معيّن - وإمّا خصوصية ذهنية.

أما الخصوصية الخارجية، فيرد عليها: إن الحرف قد يستعمل عاماً، كما في قوله (سِر من البصرة)، حيث لم يعيّن الآمر نقطة انطلاق معيّنة، بل لو انطلق من أية نقطة في البصرة كان ممتثلاً.

هذا مضافاً إلى أنه يرد على القول الثالث أن الموضوع له كان عاماً، فالاستعمال في المعنى الخاص يكون مجازاً؛ لأنه لم يستعمل الكلمة في المعنى الذي وضعه الواضع، فمثل: (سرت من البصرة) يصبح مجازاً على هذا القول، وهذا واضح البطلان، وهذا الإشكال لم يُشر إليه المصنف لأنه سيتضح مما سيأتي.

وأما الخصوصية الذهنية، فيرد عليها:

أولاً: إن الخصوصية الذهنية هي اللحاظ - أي: تصور المعنى - وهذا اللحاظ إذا كان جزءاً من المعنى فإنه حين الاستعمال لابد من تصوره؛ إذ في مقام الاستعمال

ص: 34

أنه[1] وضع الحروف وما ألحق بها من الأسماء[2]؛ كما توهم(1)[3]

أيضاً أن المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاماً.

والتحقيق - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه والموضوع له

-------------------------

لابد من تصور المعنى، وحيث إن المعنى يشتمل على الخصوصية الذهنية - التي هي اللحاظ - فلابد من لحاظ هذا اللحاظ.

وبعبارة أخرى: لابد من تصور المعنى حين الاستعمال، وحيث إن ذلك المعنى مركب من (الابتداء في مِن)، و(الخصوصية الذهنية التي هي اللحاظ)، فقد اجتمع لحاظان اثنان، وبالوجدان لا يوجد حين التلفظ إلاّ لحاظ وتصور واحد.

وثانياً: إن تقييد المعنى بالخصوصية الذهنية يستلزم كون المعنى ذهنياً؛ لأن المقيّد بالأمر الذهني لا يكون إلاّ في الذهن.

فالقول: إنّ (المستعمل فيه) خاص يستلزم إما عدم إمكان امتثال مثل: (سِر من البصرة) لعدم تعقل تقييد السير الخارجي بالأمر الذهني، وإما المجاز في الكلمة بحيث لم تستعمل (من) في معناها - وهو الابتداء المقيد بالخصوصية الذهنية - .

وثالثاً: إن تقييد المعنى الحرفي بالخصوصية الذهنية يستلزم تقييد المعنى الاسمي بتلك الخصوصية؛ إذ لا فرق بين (مِن) وبين (الابتداء) من حيث المعنى، إلاّ أن (الابتداء) ملاحظ بنفسه، و(من) ملاحظ في غيره، وأما في سائر الجهات فهما سواء.

[1] أي: إن (الوضع العام والموضوع له الخاص) هو وضع الحروف ونحوها، وهذا هو القول الثاني.

[2] أي: الأسماء التي فيها شباهة بالحرف؛ ولذا كانت مبنيّة؛ لأن سبب البناء هو الشباهة بالحروف.

[3] هذا هو القول الثالث، «فيها» في الحروف وما ألحق بها.

ص: 35


1- الفصول الغروية: 16.

فيها حالهما[1] في الأسماء. وذلك لأن الخصوصية المتوهمة[2] إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها[3] جزئياً خارجياً، فمن الواضح[4] أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك[5]، بل كلياً؛ ولذا[6] التجأ بعض الفحول(1)

إلى جعله جزئياً إضافياً، وهو كما ترى.

-------------------------

[1] «فيها» في الحروف، «حالهما» حال (الموضوع له) و(المستعمل فيه)، كما أن الوضع عام أيضاً، وإنّما لم يذكره المصنف لوضوحه؛ لأنه لو كان الموضوع له والمستعمل فيه عامين فلابد من كون الوضع عاماً؛ لاستحالة الوضع الخاص والموضوع له العام كما مرّ.

[2] تلك الخصوصية التي سبَّبت التحوّل من العمومية في (الوضع العام)، إلى الخصوصية في الموضوع له الخاص والمستعمل فيه الخاص؛ لأنه لا يمكن تحوّل العام إلى الخاص إلاّ بمشخصات فردية، وهذه المشخصات يعبر عنها ب(الخصوصية). وهذا إشارة إلى البند (ألف) من الإشكال.

[3] أي: المعنى الذي صار خاصاً بسبب تلك الخصوصية. وقوله: «جزئياً خارجياً» خبر قوله: (لكون المعنى...).

[4] هذا هو الإشكال الذي يرد على كلا القولين: الثاني والثالث.

[5] «فيها» في الحروف، «كذلك» أي: خاصا.

[6] أي: لتصحيح كون (الموضوع له) و(المستعمل فيه) خاصاً التجأ الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية إلى القول بأنهما - أي: الموضوع له والمستعمل فيه - جزئيان إضافيان.

لكنه من الواضح أن الجزئي الإضافي هو كلي - ينطبق على كثيرين - لكنه أضيق دائرة من الكلي الذي يقع فوقه، مثل الإنسان بالنسبة إلى الحيوان، فالجزئي الإضافي في الحقيقة عام لا خاص.

ص: 36


1- الفصول الغروية: 16.

وإن كانت هي[1] الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً - حيث إنه[2] لا يكاد يكون المعنى حرفياً إلاّ إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به[3] ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلاّ في الموضوع[4]، كذلك هو لا يكون في الذهن إلاّ في مفهوم آخر؛ ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره(1) - فالمعنى[5] وإن كان لا محالة يصير جزئياً بهذا اللحاظ[6] بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً كما لوحظ أولاً ولو كان اللاحظ واحداً[7]، إلاّ أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذاً

-------------------------

[1] إشارة إلى البند (باء) من الإشكال، «كانت» الخصوصيّة المتوهمة، «لكونه» لكون (الموضوع له) أو (المستعمل فيه).

[2] الغرض من هذا الكلام هو بيان كيفية كون تلك الخصوصية ذهنية، وهذا يتوقف على بيان معنى الحرف: فنقول: إن الفرق بين الاسم والحرف هو أن (الاسم) يُلاحظ بما هو هو وبالاستقلال، أي: مع قطع النظر عن المعاني الأخرى، كالجوهر الّذي هو وجود قائم بالذات لا يتوقف على شيء. وأما (الحرف) فهو يلاحظ بما أنه حالة في المعاني الأخرى، كالعَرَض الذي لا يوجد إلاّ في ضمن جوهر.

وحينئذٍ فقد لزم (اللحاظ) حين استعمال الحرف، وهذا اللحاظ هو (الخصوصية الذهنية)؛ لأن الموجود في الذهن هو الجزئي الحقيقي، حيث إنه لا يوجد شيء - في الخارج أو في الذهن - إلاّ بعد التشخص.

[3] أي: من خصوصيات المعنى الآخر، تلك الخصوصيات القائمة بذلك المعنى الآخر.

[4] أي: الجوهر، «كذلك هو» أي: المعنى الحرفي، «في تعريفه» تعريف الحرف.

[5] «فالمعنى» جزاء (إنْ) في قوله: (وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً).

[6] أي: بلحاظ كونه حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به.

[7] لأن الموجود يكون جزئياً - سواء كان في الخارج أم في الذهن - وهنا المعنى

ص: 37


1- شرح الرضي على الكافية 1: 30.

في المستعمل فيه[1]، وإلاّ[2] فلابد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ[3] بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الألفاظ، وهو كما ترى[4].

مع أنه[5] يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي[6]

-------------------------

الملاحظ أولاً هو وجود جزئي ذهني، والملاحظ ثانياً وجود جزئي آخر. «كما لوحظ أولاً» أي: مثل اللحاظ الأول.

[1] أي: ليس جزءاً من المعنى الذي استعمل ذلك اللفظ في ذلك المعنى.

[2] إشارة إلى الإشكال الأول، و«إلاّ» أي: وإن أخذ اللحاظ في المعنى المستعمل فيه.

[3] أي: الجزء الثاني من المعنى، مثلاً: معنى (من) مركب من (الابتداء) و(اللحاظ)، وحيث إنه لابد من تصور المعنى حين الاستعمال فلابد من لحاظ آخر يتعلق ب- (الابتداء)، فمعنى «ما هو ملحوظ» أي: جزء المعنى الذي هو (الابتداء)، وقوله «بهذا اللحاظ» أي: اللحاظ الذي هو الجزء الآخر من المعنى.

[4] أي: تعدد اللحاظ خلاف الوجدان، فإن الناس حين الاستعمال لهم تصور واحد للمعنى، لا تصوران.

[5] إشارة إلى الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «لا يصدق» أي: لايصدق المعنى الحرفي.

[6] مراد المصنف من «الكلي العقلي» هو الأمر الذهني، وهذا خلاف الاصطلاح، لأنهم اصطلحوا بالكلي العقلي على مثل قولهم: (الإنسان كلي)، فهذه الجملة يقال لها الكلي العقلي، حيث إن المبتدأ (كلي طبيعي) والخبر كلمة (كلي).

وبعبارة أخرى: الكلي عندهم على ثلاثة أقسام:

1- الكلي الطبيعي: وهو ما يمكن أن يصدق على كثيرين، مثل: (الإنسان).

2- الكلي المنطقي: وهو كلمة (كلي).

3- الكلي العقلي: وهو المركب من الكلي الطبيعي والكلي المنطقي.

ص: 38

عليها[1]، حيث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل: (سر من البصرة) إلاّ بالتجريد وإلغاء الخصوصية[2]، هذا.

مع أنه[3] ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلاّ كلحاظه في نفسه[4] في الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ[5] معتبراً في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ (الابتداء) - مثلاً - إلاّ الابتداء. فكما لا يعتبر في معناه لحاظه[6] في نفسه ومستقلاً، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه[7] موجباً لجزئيته، فليكن كذلك فيها.

إن قلت[8]:

-------------------------

[1] على الخارجيات.

[2] أي: إلاّ بالاستعمال المجازي، بأن لم يستعمل اللفظ في معناه الموضوع له - كالابتداء، واللحاظ - ، بل في جزء من معناه - وهو الابتداء فقط - وهذا مجاز.

[3] إشارة إلى الإشكال الثالث، «أنه» للشأن.

[4] أي: كلحاظ المعنى في نفسه، من غير أن يكون حالة لغيره.

[5] أي: لحاظ المعنى في نفسه - بالاستقلال - «فيها» أي: في الأسماء، «ذاك اللحاظ» أي: لحاظ المعنى في غيره - آلياً - .

[6] «معناه» أي: معنى الابتداء، «لحاظه» لحاظ المعنى، «معناها» أي: (من)، «لحاظه» لحاظ المعنى.

[7] أي: لحاظ المعنى في الاسم لا يوجب جزئية معناه، «كذلك» لا يوجب جزئية معناها، «فيها» في الحروف.

[8] حاصل الإشكال هو أنكم قلتم: إنّ معنى (مِن) و(الابتداء) واحد، ولحاظ الاستقلالية والآلية غير مأخوذ في المعنى، فعلى هذا يلزم الترادف بين الكلمتين، وجواز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر!! وهو بديهي البطلان.

ص: 39

على هذا[1] لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخر[2]، وهكذا[3] سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت[4]: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضعٍ[5]، حيث إنّه وُضِعَ الاسم ليُراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليُراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الإشارة إليه غير مرة. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتفقا في ما له الوضع[6]. وقد عرفت[7] بما لا مزيد عليه: أن نحو إرادة

-------------------------

[1] أي: بناء على اتحاد معنى الحرف والاسم، وأن الآلية والاستقلالية غير مأخوذة في المعنى.

[2] شأن كل مترادفين، حيث يجوز تبديل أحدهما بالآخر.

[3] أي: كما يقال في (من والابتداء) كذلك يقال في سائر الحروف والأسماء التي معناها واحد.

[4] حاصل الجواب عن الإشكال: إنه لا فرق بين معنى الحرف والاسم، ولكن الفرق في كيفية الوضع، أي: في شرط الواضع، فإنه تصور معنىً واحداً ثم وضع لذلك المعنى لفظاً، واشترط أن يستعمل حين النظر الاستقلالي، وهذا هو الاسم، ثم وضع لذلك المعنى لفظاً آخر، واشترط استعماله حين النظر الآلي، فتأمل.

[5] أي: بكيفية وضع، وقوله: (حيث إنه...) شرح لكيفية الوضع.

[6] أي: اتفقا في المعنى الذي وضع اللفظ لأجل ذلك المعنى.

[7] بيان أن كيفية الوضع لا ربط لها بالمعنى، فالحاصل أن الآلية والاستقلالية ترتبط باللحاظ، وقد بينا أن اللحاظ غير مأخوذ في المعنى.

ص: 40

المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته[1].

ثم لا يبعد[2] أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك[3]، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل[4] في حكاية ثبوت معناه في موطنه[5]، والإنشاء ليستعمل

-------------------------

[1] أي: ليس جزءاً من المعنى أو قيداً فيه، بل هو خارج عن حريم المعنى، فتأمل.

الخبر والإنشاء

[2] الخبر: هو نسبة شيء إلى شيء في الخارج، سواء صدقت النسبة أم كذبت، مثل: (جاء زيد).

والإنشاء: هو النسبة من غير أن يكون لها خارج، فلذا لا يحتمل الصدق والكذب، مثل: (صلِّ).

ثم هناك جُمل تستعمل تارة في الإخبار، وتارة في الإنشاء، مثل: (أنكحت) و(بعت)، فما هو الفرق؟

يذهب المصنف إلى أنه لا فرق في الخبر والإنشاء بين المعنى (الموضوع له)، والمعنى (المستعمل فيه)، بل الفرق إنما هو في كيفية الاستعمال. فمعنى (بعتُ) هو إثبات نسبة البيع إلى نفسه، فحين إرادة الإخبار يستعمل (بعتُ) لهذه النسبة، ولكن بغرض الحكاية عمّا فعله سابقاً، وحين إرادة الإنشاء يستعمل (بعتُ) لنفس هذه النسبة، ولكن بغرض إيجاد البيع، فالحكاية والإيجاد خارجان عن حريم المعنى (الموضوع له)، والمعنى (المستعمل فيه).

[3] أي: الاختلاف في كيفية الاستعمال، لا في المعنى (الموضوع له)، ولا في المعنى (المستعمل فيه).

[4] أي: الغرض من الاستعمال هو الحكاية، فيكون الخبر موضوعاً لمعنى - وهو إثبات النسبة - ويستعمل في ذلك المعنى، ولكن بغرض الحكاية.

[5] «معناه» معنى الخبر، «موطنه» أي: في محله من الماضي أو الحال أو المستقبل.

ص: 41

في قصد تحققه وثبوته[1]، وإن اتفقا في ما استعملا فيه[2]، فتأمل[3].

ثم إنه قد انقدح مما حققناه[4] أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه[5] في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام[6]، وأن تشخصه إنما نشأ من قِبَل طور

-------------------------

[1] أي: قصد إيجاد المعنى.

[2] أي: اتفق الخبر والإنشاء في المعنى المستعمل فيه، وكذلك في المعنى الموضوع له.

[3] لعله إشارة إلى أن الأقسام ثلاثة: 1- ما يكون إنشاءً فقط كالأمر والنهي، 2- ما يكون إخباراً فقط كالجحد، مثل لم يضرب، 3- ما يستعمل في الإخبار والإنشاء، فما ذكرناه يجري في القسم الثالث فقط. أو هو إشارة إلى أن الألفاظ المستعملة في الإخبار والإنشاء إنّما وضعت للإخبار فقط، واستعمالها في الإنشاء مجاز.

أو أن الإيجاد والحكاية هي نفس معنى الهيئة في مثل: (بعتُ) ولا معنى آخر لهذه الهيئة، فلا يصح جعلهما - الإيجاد والحكاية - من كيفية الاستعمال، بل هما المعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه)، وقيل غير ذلك.

أسماء الإشارة والضمائر

[4] من أن الآلية والاستقلالية خارجان عن معنى الاسم والحرف، وكذا الحكاية والإيجاد خارجان عن معنى الإنشاء والإخبار، بل هي من كيفية الاستعمال.

[5] إذا كان (المستعمل فيه) عاماً، فلابد من كون (الموضوع له) عاماً؛ ولذا اكتفى المصنف بذكر (المستعمل فيه).

[6] مثلاً: تصوّر الواضع (المفرد المذكر) فوضع لفظة (هذا) له، والناس يستعملون (هذا) في نفس المعنى الذي تصوره الواضع ووضع لفظ (هذا) له، أي: (المفرد المذكر)، أما خصوص كون (هذا) هو (زيد) فمما لا يرتبط بالمعنى، بل هو خصوصية ناشئة من الاستعمال، مثلاً: يذكر المتكلم (زيداً) أولاً ثم يقول (هذا فعل كذا)، أو يشير إلى زيد بيده ويقول: (هذا جاء) فإن تشخص (هذا) في (زيد) لا يرتبط بالمعنى - لا بالمعنى الموضوع له، ولا بالمعنى المستعمل فيه - وهكذا في الضمائر.

ص: 42

استعمالها[1]، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها[2] إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر[3]، وبعضها ليخاطب به المعنى[4]، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص[5]، كما لا يخفى. فدعوى: «أن المستعمل فيه في مثل: (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قِبَل[6] الإشارة أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإن الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه» غير مجازفة[7].

فتلخص مما حققناه: أنّ التشخّص الناشئ من قِبَل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه[8]، سواء كان تشخّصاً خارجياً - كما في مثل أسماء

-------------------------

[1] أي: كيفية استعمال أسماء الإشارة والضمائر.

[2] أي: وضعت لمعنى وتستعمل في ذلك المعنى، لكن الغرض هو الإشارة، ومن المعلوم أن الإشارة إما إلى الموجود الذهني أو الموجود الخارجي، والشيء الموجود إنما هو جزئي.

[3] وهي ضمائر الغائب والمتكلّم، حيث إن معناها المفرد أو المثنى أو الجمع - مذكراً أم مؤنثاً - والغرض من وضعها واستعمالها هو الإشارة إلى المعنى، لكن هذا الغرض هو من كيفيات الاستعمال، ولا دخل له في المعنى.

[4] وهي ضمائر المخاطب، فمعناها هو المفرد أو المثنى أو الجمع - مذكراً أم مؤنثاً - ولكن الغرض من الوضع والاستعمال هو التخاطب مع المعنى.

[5] لأنه لا يمكن الإشارة أو التخاطب إلاّ مع الموجود، ولا يكون الشيء موجوداً إلاّ إذا كان جزئياً متشخصاً بالخصوصيات الفردية.

[6] أي: جهتهما وطرفهما؛ وذلك لا يرتبط بالمعنى - الموضوع له والمستعمل فيه - أصلاً.

[7] لكن قد يقال: إن مجرد الإمكان ليس دليلاً على الوقوع، فراجع المفصّلات.

خلاصة البحث

[8] أي: لا يدخل التشخص في المعنى - لا في المعنى (الموضوع له) ولا في المعنى

ص: 43

الإشارة[1] - أو(1) ذهنياً - كما في أسماء الأجناس[2] والحروف ونحوهما -، من غير فرق في ذلك[3] أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس[4]، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصاً في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر[5]. ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره[6]، من خصوصيات[7] الموضوع له أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه[8] لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلاّ[9] فليكن

-------------------------

(المستعمل فيه) - .

[1] أي: الإشارة إلى الخارجيات، أما في الإشارة إلى الذهنيات فإن التشخص ذهني.

[2] مثل: رجل وفرس وكتاب، لأن اسم الجنس كلي طبيعي، ووجوده ذهني، ولا وجود خارجي له إلاّ في ضمن الأفراد الجزئية.

[3] أي: ذلك التشخص الكائن من جهة الاستعمال.

[4] ففي كليهما (الوضع) و(الموضوع له) و(المستعمل فيه) عام، والجزئية إنما هي في كيفية الاستعمال.

[5] قيل منهم: التفتازاني، وسيد شريف، وصاحب الفصول(2).

[6] أي: قصد المعنى بالنظرة الآلية.

[7] أي: توهم أنه جزء المعنى أو قيد له.

[8] أي: قصد المعنى - كالابتداء - «من لفظه» أي: من اللفظ الموضوع لذلك المعنى - مثل: (مِن) - «على أنحائه» أي: كيفيات المعنى - كالآليّة - «شؤونه» شؤون المعنى.

[9] أي: إن كانت الآلية جزءاً من المعنى فلتكن الاستقلالية أيضاً جزءاً منه، فيصير الموضوع له أو المستعمل فيه في أسماء الأجناس ونحوها خاصاً أيضاً، وهذا ما لا يقولون به، «كذلك» أي: من خصوصيات المعنى.

ص: 44


1- هكذا في بعض النسخ، والصحيح: «أم».
2- الفصول الغروية: 16.

قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك. فتأمل في المقام، فإنه دقيق وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

الثالث: صحة استعمال اللفظ[1] في ما يناسب ما وُضِع له[2] هل هو بالوضع[3] أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان(1). أظهرهما أنه بالطبع، بشهادة

-------------------------

الأمر الثالث الاستعمال بالطبع

كان الأمر الثاني في المعنى، فإن المعنى يتصوره الواضع ثم يضع اللفظ له أو لغيره، ثم يستعمل الناس اللفظ في ذلك المعنى أو غيره. وأما هذا الأمر وما بعده فهو في اللفظ.

[1] لا إشكال في استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، ولكن الكلام في استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فهل هذا الاستعمال بحاجة إلى وضع الواضع أم يكفي ملاءمته للطبع؟

إختار المصنف الثاني، واستشهد له بالوجدان، فإنا نشاهد أن العقلاء يستعملون اللفظ في غير ما وضع له إذا لاءم الطبع حتى مع منع الواضع، كمن سمّى ولده زيداً ثم منع من استعمال اسمه في من يشابهه، فإن العقلاء لا يهتمون بمنعه، وكذا لا يجوّزون استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا لم يلاءم الطبع حتى مع تسويغ الواضع، مثلاً: لا يجوزون إطلاق القلب على الإنسان مع وجود العلاقه النوعية، التي أجازها الواضع - وهي استعمال الجزء وإرادة الكل إذا كان الجزء مُقَوّماً للكل، كالرقبة في الإنسان - .

[2] أي: المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ.

[3] ولذا قالوا: إنّ جميع العلائق المجوزة للاستعمال المجازي هي بوضع نوعي من الواضع.

ص: 45


1- قوانين الأصول 1: 64؛ الفصول الغروية: 25.

الوجدان بحسن الاستعمال فيه[1] ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال في ما لا يناسبه[2] ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلاّ حسنه[3]. والظاهر أن صحة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله[4] من قبيله[5]. كما يأتي الإشارة إلى تفصيله.

الرابع: لا شبهة[6] في صح-ة إطلاق اللفظ

-------------------------

[1] أي: في غير ما وضع له، «عنه» أي: عن الاستعمال.

[2] أي: في معنى لا يناسب ما وضع له، «ترخيصه» أي: ترخيص الواضع.

[3] أي: انعقد بناء العقلاء على (أن حسن الاستعمال كافٍ في صحته وجوازه)، وفي العبارة قلب أي: (لا معنى للحسن إلاّ صحة الاستعمال) فتدبر.

[4] «النوع» كقولنا: (زيد اسم) ف- «زيد» اسم دائماً، والمراد من النوع هو ما يشمل جميع الأفراد. و«المثل» كقولنا: (ضرب فعل) ف«ضرب» في هذا المثال هو (اسم) لأنه مبتدأ، لكن مثله من حيث اللفظ هو فعل ماضٍ. وهكذا «الصنف» كما سيأتي في البحث القادم.

[5] أي: بالطبع لا بالوضع.

الأمر الرابع استعمال اللفظ وإرادة نوعه وصنفه...

اشارة

[6] حاصل هذا الأمر أن اللفظ قد يستعمل ولا يراد به معناه الموضوع له، بل يراد معنى آخر، وهذا على أقسام منها:

1- استعمال اللفظ وإرادة نوعه - أي: الكلي الشامل لجميع أفراده - كقولنا: (ضَرَبَ كلمةٌ)، فكل لفظ هو (ضَرَبَ) يكون كلمة حتماً.

2- استعمال اللفظ وإرادة صنفه - أي: الكلي الشامل لبعض أفراده لا جميعها - كقولنا: (زيد في «قام زيد» فاعل)، فإن لفظ (زيد) قد يكون فاعلاً وقد لا يكون فاعلاً بل مفعولاً مثلاً.

ص: 46

وإرادة نوعه به[1]، كما إذا قيل: (ضرب - مثلاً - فعل ماضٍ)[2]؛ أو صنفه[3]، كما إذا قيل: (زيدٌ في «ضرب زيد» فاعلٌ)[4]، إذا لم يقصد به شخص القول[5]؛ أو مثله[6] ك(ضرب) في المثال[7]

-------------------------

3- استعمال اللفظ وإرادة مثله - أي: جزئي آخر من اللفظ - كقولنا: (ضَرَبَ فعل ماضٍ)، فإن نفس لفظ (ضَرَبَ) المستعمل في هذه الجملة ليس فعلاً ماضياً، بل هو اسم مبتدأ، ولكنا أردنا مثله.

4- استعمال اللفظ وإرادة شخصه - أي: نفس الكلمة التي خرجت من الفم - كقولنا: (زيد لفظ) مع إرادتنا نفس كلمة (زيد) التي استعملناها في هذه الجملة.

يقول المصنف: لا إشكال في الثلاثة الأولى، لإجازة الطبع لهذا الاستعمال. وإنّما الكلام في القسم الرابع، وسيأتي بيان الإشكال فيه مع جوابه.

[1] المراد من النوع: الكلي الشامل لجميع الأفراد، فيدخل الجنس المنطقي في هذا القسم، «نوعه» نوع اللفظ، «به» بهذا الإطلاق.

[2] الصواب التمثيل ب- (ضرب كلمة)، لأن المثال المذكور في المتن هو للمثل لا للنوع، فإن (ضرب) هنا مبتدأ فلا يشملها (فعل ماضٍ) بل يراد أن مثلها فعل ماضٍ.

[3] أي: الكلي الذي يشمل بعض الأفراد لا كلها.

[4] ف(زيد) قد يكون فاعلاً، كما لو صدر منه الفعل واستعمل بعد الفعل، مثل: (ضرب زيد)، لكن (زيد) قد يكون مبتدأ أو مفعولاً أو غير ذلك.

[5] أي: نفس لفظ (زيد) الخارج من الفم في هذا المثال، بل يقصد كل لفظ (زيد) وقع عقيب الفعل مع صدور الفعل منه.

[6] وهو أن لا يراد نفس المذكور بالكلام، بل ما يشابهه لفظاً.

[7] أي: في المثال الأول وهو (ضرب - مثلاً - فعل ماضٍ)، فإن نفس (ضرب) المستعمل في الجملة ليس فعلاً، بل اسم مبتدأ.

ص: 47

في ما إذا قُصِدَ[1]. وقد أشرنا[2] إلى أن صحة الإطلاق كذلك وحسنه إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلاّ[3] كانت المهملات موضوعة لذلك؛ لصحة الإطلاق كذلك فيها[4]، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى[5].

وأما إطلاقه[6] وإرادة شخصه - كما إذا قيل: (زيد لفظ)، وأريد منه شخص

-------------------------

أما لو كان مراد المصنف من قوله (في المثال) هو المثال الثاني، أي: (زيد «في ضرب زيد» فاعل) ففيه إشكال، بل لابد من أن تكون العبارة (أو مثله ك«زيد» في المثال).

[1] أي: إذا لم يقصد شخص القول، بل قصد نظيره.

[2] الغرض بيان أن استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ليس بالوضع، بل بالطبع، ويدل على ذلك جواز استعمال الألفاظ المهملة وإرادة نوعها أو صنفها أو مثلها، كقولنا: (ديز لفظ)، ولو كان هذا الاستعمال بالوضع لكانت جميع المهملات موضوعة عن طريق الواضع، وأن لا يكون هناك لفظ مهمل، وهذا خلف.

[3] أي: وإن كان صحة الاستعمال بالوضع، «لذلك» أي: للنوع أو الصنف أو المثل.

[4] «كذلك» أي: بأحد الثلاثة - النوع، الصنف، المثل - ، «فيها» أي: في المهملات.

[5] لأنه خلف، حيث إنها مهملة، والالتزام بالوضع معناه أنها ليست مهملة، مضافاً إلى بداهة عدم الوضع فيها.

إرادة الشخص

[6] أي: إطلاق اللفظ، «شخصه» أي: نفس الكلمة التي خرجت من الفم الآن. كما لو قال: (زيد لفظ)، ويقصد نفس كلمة (زيد) التي قالها الآن.

وقد أشكل في ذلك الفصول(1)،

وقال باستحالته.

ص: 48


1- الفصول الغروية: 22.

نفسه - ففي صحته بدون تأويل[1] نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول[2] أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول(1). بيان ذلك: إنه إن اعتبر دلالته على نفسه،

-------------------------

واستدل: بأن (القضية) هي ما تركبت من: الموضوع، والمحمول، والنسبة - أي: الهيئة التركيبية بينهما - فلو أطلق اللفظ وأريد به شخصه لزم أحد محذورين:

1- إن قلنا: أنّ (ز ي د) تدل على نفسها، وكان نفس (زيد) الملفوظ هو الموضوع، لزم اتحاد الدال؛ والمدلول، لأن المعنى المراد هو نفس لفظ (زيد)، فكان لفظ (زيد) دالاً ومدلولاً.

2- وإن لم تدل (ز ي د) على شيء فإن الجملة تكون بلا موضوع، فيلزم تركب الجملة من المحمول والنسبة فقط، وهذا محال أيضاً؛ لأن النسبة لا تكون إلاّ بين شيئين - الموضوع والمحمول - .

والجواب: أما الشق الأول: فيمكن الالتزام به؛ وذلك بتغاير الدال والمدلول اعتباراً - رغم اتحادهما ذاتاً - وهذا يكفي في رفع الاستحالة.

وأما الشق الثاني: فيمكن الالتزام بأن الموضوع هو نفس الوجود الخارجي للفظ (زيد).

وكما تصح النسبة إذا كان الموضوع حاكياً عن معنى، كذلك تصح النسبة إذا كان الموضوع حاضراً بنفسه، فلفظ زيد في (زيد لفظ) حاضر، فيكون هو الموضوع، وليس الموضوع شيئاً يحكي عنه اللفظ - كما في سائر القضايا - فتحقق الموضوع والمحمول وصحت النسبة.

[1] كأن يقدّر (هو) - مثلاً - فيكون المعنى (زيد هو لفظ)، فتأمل.

[2] هذا الشق الأول، وقيل في وجه الاستحالة: إنّ المدلول علّة للدال، كالنار التي هي علة للدخان، ولا يمكن اتحاد العلة ومعلولها. وقيل: إن المدلول ملاحظ استقلالياً، والدال ملاحظ آلياً، ويمتنع اجتماع اللحاظين، وقيل غير ذلك.

ص: 49


1- الفصول الغروية: 22.

حينئذٍ[1] لزم الاتحاد، وإلاّ[2] لزم تركبها من جزءين[3]، لأن القضية اللفظية على هذا[4] إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع[5]، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع إمتناع التركب إلاّ من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبَين.

قلت[6]: يمكن أن يقال: إنه يكفي[7] تعدد الدال والمدلول اعتباراً، وإن اتحدا ذاتاً؛ فمن حيث إنه لفظ صادر عن لافظه كان دالاً، ومن حيث إن نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً.

مع أن[8] حديث تركب القضية من جزءين لو لا اعتبار الدلالة[9] في البين إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه[10]،

-------------------------

[1] أي: حين دلالة لفظ (زيد) على نفس لفظه، بأن لا يكون للفظ (زيد) معنى آخر، بل المعنى نفس هذا اللفظ.

[2] هذا الشق الثاني، أي: وإن لم نقل بالاتحاد، بل قلنا: إنّ لفظ (زيد) ليس دالاً على شيء، فلا مدلول، فلا يلزم المحذور الأول.

[3] أي: من المحمول والنسبة، وهذا مستحيل؛ لعدم إمكان النسبة إلاّ بين شيئين.

[4] أي: بناءً على عدم دلالة اللفظ على نفسه.

[5] لأن لفظ (زيد) لم يدل على معنى، لكي يحكي عنه.

[6] جواب المصنف عن كلا الشقين اللذين ذكرهما الفصول.

[7] جواب الشق الأول.

[8] جواب الشق الثاني.

[9] أي: إن لم نقُل بدلالة اللفظ على المعنى، بل كان نفس لفظ (زيد) هو المعنى المراد.

[10] أي: نفس اللفظ الذي خرج من الفم، بأن نقول: لا يشترط في الموضوع

ص: 50

وإلاّ[1] كان أجزاؤها الثلاثة تامة وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الأمر[2] أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.

وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ[3] بشيء. بل يمكن[4] أن يقال: إنه

-------------------------

كونه حاكياً عن شيء، بل يكفي حضور ذلك الشيء. كما لو أردنا تعداد شيء فأشرنا إلى الأول وقلنا: واحد، وأشرنا إلى الثاني وقلنا: اثنان، وهكذا، فالموضوع هو نفس الوجود الخارجي بلا حاكٍ عنه، والمحمول هو: واحد، اثنان... .

[1] أي: وإن كان الموضوع نفس الوجود الخارجي، «أجزاؤها» أي: أجزاء القضيّة، «فيها» في القضية.

[2] أي: هنا ليس اللفظ حاكياً عن الموضوع كما في القضايا المتعارفة، بل اللفظ هو نفس الموضوع - بلا حكاية - «أنّه»: أي: إن شخص اللفظ، «عنه»: عن الموضوع.

[3] أي: ليس من استعمال اللفظ في معنى، بل يكون اللفظ نفس المعنى.

احتمال في النوع والصنف

[4] لما بيّن المصنف أن الموضوع هو نفس شخص اللفظ في ما لو اُطلق اللفظ وأريد شخصه، أراد أن يعمّم هذا الكلام حتى في ما اُطلق اللفظ وأريد نوعه أو صنفه، كما لو قيل: (ضرب كلمة) أو (زيد فاعل في «ضرب زيد»). فيقول: إنه يمكن القول: إن (ضرب) في المثال الأول، و(زيد) في المثال الثاني ليسا حاكيين عن الموضوع، بل هما بأنفسهما الموضوع.

بيان ذلك: إن الجزئي قد يكون له حكم، لا من حيث خصوصياته الفردية، بل بما هو مصداق للكلي، وحينئذٍ فالحكم يعمم على سائر المصاديق لذلك الكلي، كما لو قيل: (زيد ناطق) فنطق زيد ليس لخصوصياته الفردية، بل بما هو إنسان، وفي ما نحن فيه نقول: يمكن أن يكون الموضوع نفس لفظ ضرب في قولنا: (ضرب كلمة) ولكن بما هو مصداق للنوع.

ص: 51

ليس أيضاً من هذا الباب[1] ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه[2] حقيقة، لا لفظه[3] وذاك معناه[4]، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاكٍ، وقد حُكم عليه ابتداءً، بدون واسطة أصلاً، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنىً، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ، لا بما هو خصوص جزئيّه.

نعم[5]، في ما إذا أريد به فرد آخر مثله كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى. اللهم إلاّ أن يقال[6]:

-------------------------

[1] أي: ليس من استعمال اللفظ في المعنى، بحيث يكون اللفظ حاكياً عن معنى، بل اللفظ هو المعنى.

[2] «فإنه» اللفظ، «فرده» أي: فرد النوع أو الصنف، والمقصود: إن اللفظ المذكور هو أحد مصاديق النوع أو الصنف، فيمكن الحكم على الفرد بحكمٍ هو للنوع والصنف.

[3] عطف على (نفس الموضوع)، أي: فيكون اللفظ - مثلاً ضرب - هو الموضوع، لا أن الموضوع هو اللفظ الحاكي عن معنى، وذلك المعنى هو النوع أو الصنف، «لفظه» أي: لفظ الموضوع.

[4] أي: لا أن اللفظ هو حاكٍ عن النوع أو الصنف، بأن استعمل اللفظ وأريد النوع أو الصنف، «لفظه»: لفظ النوع أو الصنف، «ذاك» أي: النوع أو الصنف، «معناه» أي: معنى اللفظ، «كي يكون» اللفظ، «مستعملاً فيه» في المعنى.

[5] أي: ما ذكرناه في النوع والصنف لا يجري في المِثْل؛ وذلك لأن المِثْل ليس مصداقاً لمثله.

إشكالات على هذا الاحتمال

[6] هذا الاحتمال الذي ذكره المصنف بقوله: (بل يمكن أن يقال...) يرد عليه

ص: 52

إن لفظ (ضرب) وإن كان فرداً له[1] إلاّ أنه إذا قصد به حكايته[2] وجعل عنواناً له ومرآته كان لفظه[3] المستعمل فيه، وكان حينئذٍ كما[4] إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أطلق[5] وأريد به نوعه - كما إذا أريد به فرد مثله - كان من باب

-------------------------

ثلاثة أمور:

الأول: إنه في إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف، كما يمكن جعل اللفظ نفس الموضوع - لأنه مصداق للكلي - كذلك يمكن جعل اللفظ حاكياً عن المعنى الكلي، فلا يمكن الجزم بالاحتمال الأول.

الثاني: إن المتعارف بين الناس: كون اللفظ حاكياً عن المعنى - حتى في مورد النوع أو الصنف - فلا وجه للحمل على الاحتمال الأول.

الثالث: أحياناً لا يمكن جعل اللفظ نفس الموضوع، وذلك في ما كان الحكم على النوع أو الصنف لكنه لا يشمل شخص اللفظ الخارج عن الفم، كقولنا: (ضَرَب فعل ماضٍ)، فإن الحكم على النوع ولكنه لا يشمل (ضرب) في نفس هذا المثال؛ لأنه مبتدأ وليس فعلاً ماضياً.

[1] أي: فرداً للكلي، لا لفظاً حاكياً عن المعنى الكلي.

[2] أي: كونه فرداً إنما يصح على الاحتمال الأول، «أنه» للشأن، «به» ب(ضرب)، «حكايته» حكاية الكلي، «جعل» أي: جُعل (ضرب)، «له» للكلي.

[3] «كان» جزاء (إذا)، «كان» أي: كان ضرب، «لفظه» أي: اللفظ الذي أريد به المعنى الكلي الذي استعمل لفظ (ضرب) في ذلك المعنى.

[4] أي: كان اللفظ حاكياً عن معنى، كما أن المِثْل يحكي عن مِثله - في ما لو اُطلق اللفظ وأريد به مثله - «كان» أي: كان لفظ ضرب، «حينئذٍ» أي: حين قصد حكاية المعنى.

[5] «أطلق» اللفظ.

ص: 53

استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فرداً منه[1] وقد حكم في القضية بما يعمه؛ وإن أطلق[2] ليحكم عليه بما هو فرد كلّيّه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته[3]، فليس من هذا الباب، لكن[4] الإطلاقات المتعارفة ظاهراً ليست كذلك، كما لا يخفى. وفيها[5] ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).

الخامس: لا ريب[6] في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي،

-------------------------

[1] «إن» وصلية، «كان» اللفظ، «منه» من الكلي - النوع أو الصنف - .

[2] هذا هو الاحتمال الآخر، وأما الاحتمال الأول فهو ما أشار إليه بقوله: (فإذا أطلق وأريد...)، و«أطلق» أي: اللفظ.

[3] «لا بما هو» اللفظ - ض ر ب - ، «لفظه» أي: اللفظ الدال على المعنى، «به» باللفظ، «حكايته» المعنى، «هذا الباب» أي: باب استعمال اللفظ في المعنى.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني.

[5] إشارة إلى الإشكال الثالث. «فيها» في الإطلاقات المتعارفة - أي: إطلاق اللفظ على المعنى - «منه» من اللفظ، «ذلك» نفس الشخص الملفوظ - الخارج من الفم - ففي المثال: (ضرب) اسم ومبتدأ، فلا يكون - بشخصه - موضوعاً ل(فعل ماضٍ)، بل هو حاكٍ.

الأمر الخامس معنى تبعية الدلالة للإرادة

اشارة

[6] هل أنّ إرادة المتكلم جزء معنى الألفاظ التي ينطق بها؟

لا إشكال في عدم كون إرادته جزءاً للمعنى، فاللفظ يدل على معنى وليست الإرادة جزءاً منه.

ويدل على ذلك ثلاثة أمور:

الأول: إن الإرادة هي قصد المعنى ولحاظه، واللحاظ ليس جزءاً من المعنى - كما

ص: 54

لا[1] من حيث هي مرادة للافظها[2]، لما عرفت[3] بما لا مزيد عليه من أن

-------------------------

مرّ تفصيله في المعنى الحرفي - بل هو من مقومات الاستعمال، فإنّ من يريد استعمال لفظ في معنى لابد له من تصور ذلك المعنى، وهذا التصور متأخر عن المعنى وعارض عليه، فليس جزءاً منه.

الثاني: لا إشكال في الإسناد - أي: نسبة المحمول إلى الموضوع - من غير مجازية في الكلام، ولو كانت الإرادة جزءاً من المعنى للزم أحد محذورين:

1- إما عدم صحة الإسناد؛ لأن الموضوع هو (المعنى المراد)، والمحمول أيضاً (معنىً مراد)، والإرادتان وجودان ذهنيان جزئيان، ولا يصح اتحاد الوجودين أصلاً، ففي مثل: (زيد قائم)، الموضوع هو: (زيد المراد)، وهي إرادة جزئية في ذهن المتكلم، المحمول هو: (قائم المراد)، وهذا أيضاً إرادة جزئية، فلا يمكن الإسناد؛ لأن ملاكه هو الاتحاد، وهنا إرادتان جزئيتان غير متحدتين.

2- وإما المجاز في الكلام، بأن نجرّد الموضوع والمحمول عن معناهما الموضوع له - وذلك عبر إخراج الإرادة عن المعنى - والمجازية بديهية البطلان.

الثالث: إن الإرادة جزئية، فإذا كانت جزء المعنى لزم أن لا يكون هناك موضوع له عام، بل يكون وضع جميع الألفاظ من الموضوع له الخاص، وهذا لا يلتزم به أحد.

[1] أي: لم توضع الألفاظ للمعاني بحيث تكون إرادة المتكلم جزءاً للمعنى أو شرطاً له.

[2] فهي (لا بشرط) عن الإرادة.

[3] هذا هو الدليل الأول، وقد عرفت في المعنى الحرفي أن اللحاظ لا يكون جزءاً من المعنى؛ لاستلزام الاستعمال اجتماع لحاظين؛ ولاستلزام عدم إمكان امتثال الأوامر والنواهي إلاّ بالتجريد والمجازية.

ص: 55

قصد[1] المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد[2] يكون من قيود المستعمل فيه.

هذا مضافاً[3] إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف[4]، مع[5] أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه[6] في (ضرب زيد) - مثلاً - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان. مع[7] أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ[8] عاماً والموضوع له خاصاً، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين في ما وضع له اللفظ، فإنه[9] لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة

-------------------------

[1] والقصد هو اللحاظ والإرادة، «أنحائه» أي: كيفيات القصد، من الآلية والاستقلالية وإرادة المعنى وأمثال ذلك.

[2] أي: لا يكاد يكون (قصد المعنى) من قيود المعنى المستعمل فيه، وإلا لزم الدور؛ لأن قصد المعنى متأخر عن المعنى، فلا يمكن أخذه في المعنى.

[3] هذا هو الدليل الثاني.

[4] أي: الموضوع والمحمول، والتصرف في اللفظ يكون عبر تغيير معناه الموضوع له.

[5] هذا تتمة الدليل الثاني، وبيان وجه الدليل، «أنه» للشأن، «كانت» الألفاظ، «لها» للمعاني، «لما صح» الحمل، «بدونه» بدون التصرف.

[6] أي: المسند إلى زيد، وإنّما مَثّل المصنف بمثالين لبيان عدم الفارق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

[7] هذا هو الدليل الثالث.

[8] وذلك في غير الأعلام ونحوها، حيث إن الوضع في سائر الألفاظ عام والموضوع له عام أيضاً - كما مرّ - .

[9] أي: إن قلت: إن الإرادة المأخوذة في المعنى هي مفهوم الإرادة لا مصداقها

ص: 56

فيه[1]، كما لا يخفى، وهكذا[2] الحال في طرف الموضوع.

وأما ما حكي عن العلمين[3] الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي - من مصيرهما إلى

-------------------------

- وهي إرادة المتكلم - ومفهوم الإرادة عام، فلا يلزم الموضوع له الخاص.

قلت: لا إشكال في عدم أخذ مفهوم الإرادة في معاني الألفاظ؛ وذلك لعدم خطورها في الذهن عند سماع الكلمات، ولو كانت الإرادة جزءاً للمعنى لتبادرت إلى الأذهان عند سماع الألفاظ.

ثم إن مفهوم الإرادة هو معنى كلمة (الإرادة)، وهو معنى اسمي.

[1] أي: في اللفظ.

[2] هذا المقطع راجع إلى الدليل الثاني، أي: كما أن المحمول في (زيد قائم)، والمسند إلى زيد في (ضرب زيد) هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، كذلك الحال في الموضوع أيضاً. ولو قدم المصنف هذا المقطع كان أفضل لنظم العبارة.

كلام ابن سينا والطوسي

[3] بعد أن ذكرنا أن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي، لا بما هي مرادة، يذكر المصنف كلاماً للفصول، حيث نسب إلى العَلَمين بأنهما يقولان: إنّ الإرادة جزء المعنى.

وحيث لم يرتضِ المصنف هذه النسبة، بيّن كلام العلمين وفسره بما يتطابق مع مدعاه.

قال العَلَمان: (الدلالة تتبع الإرادة)، ويقول المصنف: ليس معنى هذا الكلام أن الإرادة جزء من المعنى وشرطه كي يدل اللفظ على ذلك المعنى مضافاً إلى الإرادة؛ وذلك لأن الدلالة على نوعين:

1- الدلالة التصورية: وهي خطور المعنى إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ، وهذا لا يحتاج إلى إرادة أصلاً، فلو صدر اللفظ من حيوان، كالببغاء أو من النائم والساهي، فإنه يخطر المعنى إلى الذهن.

2- الدلالة التصديقية: وهي الدلالة على كون المتكلم قاصداً للمعنى وليس

ص: 57

أن الدلالة تتبع الإرادة - فليس ناظراً[1] إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة - كما توهمه بعض الأفاضل(1)

-، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية - أي: دلالتها على كونها[2] مرادة للافظها - تتبع إرادتها منها وتتفرع عليها - تبعية مقام الإثبات للثبوت وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف -، فإنه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال[3]، ولذا لابد من إحراز[4] كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة[5]، وإلاّ[6] لما كانت لكلامه هذه الدلالة،

-------------------------

ساهياً أو غالطاً، وهذا يتم بالقرائن - ولو بالأصول العقلائية - .

وكلام العَلَمين هو في النوع الثاني، أي: دلالة اللفظ على أن المتكلم قاصد للمعنى، متوقف على إرادة المتكلم، فلو لم يُرِد المتكلم المعنى لم يكن للّفظ دلالة على أنه قاصد؛ وذلك لأن الدلالة هي في مرحلة الإثبات، والإرادة في مرحلة الثبوت، ومن الواضح توقف مرحلة الإثبات على الثبوت.

[1] أي: ليس نظر (ما حكي) إلى ما فهمه صاحب الفصول من أن الإرادة جزء المعنى.

[2] أي: دلالة الألفاظ على كون المعاني، «إرادتها» أي: المعاني، «منها» من الألفاظ، «وتتفرع» عطف على (تتبع)، «تبعية» مفعول مطلق نوعي، أي: دلالة الألفاظ على أن المعاني مرادة للمتكلم هي من قبيل تبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت.

[3] أي: بل كان المتكلم قاصداً واقعاً، ولذا كانت دلالة وكشف.

[4] ولو بأصل عقلائي - كأصالة الجِدّ، لا الهزل مثلاً - .

[5] أي: دلالة ظاهر كلامه على أنه قد أراد المعنى.

[6] أي: وإن لم يُحرز كون المتكلم بصدد الإفادة، كما لو لم يكن في مقام البيان، «هذه الدلالة» بأنّه قد قصد ظاهر الكلام.

ص: 58


1- الفصول الغروية: 17.

وإن كانت[1] له الدلالة التصورية - أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار[2] أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار -.

إن قلت[3]: على هذا[4]، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت[5]: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة. ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه - واضح لا محيص عنه[6]. ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمّن هو عَلَم في التحقيق والتدقيق؟!

-------------------------

[1] «إن» وصلية، أي: ليس له دلالة تصديقية مع أن له دلالة تصورية.

[2] بحيث لا نعلم أن المتكلم إنسان أم بغبغاء مثلاً.

[3] حاصل الإشكال: هو أن لازم كلامكم - من أن الدلالة التصديقية تتبع الإرادة - أن لا يكون للكلام دلالة في صورتين:

1- إذا أراد المتكلم شيئاً، ولكن فهم السامع شيئاً آخر خطأً، فإنه لا إشكال في أن للكلام دلالة، ولكن على ما قلتم لا دلالة للكلام!

2- إذا تكلم المتكلم بكلام له ظهور أو نص، لكنه لم يكن قاصداً شيئاً أصلاً، فكذلك للكلام دلالة، ولكن على قولكم لا دلالة للكلام!

[4] أي: تبعية الدلالة التصديقية للإرادة.

[5] حاصله: نعم، لا توجد دلالة تصديقيّة، بلى توجد دلالة تصورية، وقد خلط المستشكل بين الدلالتين.

[6] بل بالعكس، فكلامهما ليس على ما بيّنه المصنف، بل على ما ذكره الفصول - فراجع المفصلات - .

ص: 59

السادس: لا وجه[1] لتوهم وضعٍ للمركبات[2] غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه[3] بعد وضعها بموادها، في مثل: (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكراً)،

-------------------------

الأمر السادس وضع المركبات

[1] إذا لاحظنا جملة اسمية أو فعلية، مثل «زيد قائم» أو «ضرب عمرو بكراً»، نجد مفردات وتركيباً، ف(زيد) لفظ مفرد، و(قائم) لفظ مفرد آخر، وتركيب للمفردين (زيد قائم)، فهنا ثلاثة أوضاع:

الأول: مادة المفردات مثل: (ق و م) و(ز ي د).

الثاني: هيئة المفردات، أي: طريقة اجتماعها وحركاتها وهي (فاعل) و(فَعْل).

الثالث: الهيئة التركيبية من المفردات، وهي الجملة الاسمية والفعلية. وهذه الأوضاع الثلاثة لا كلام فيها.

إنما الكلام في وضع رابع، وهو أن تكون كل جملة - من الجمل المستعملة - لها وضع يخصها، بأن نقول بوضع (زيد قائم) بهذا التركيب زائداً على وضع (زيد) و(قائم) و(الهيئة التركيبية)، يقول المصنف: إنه لا وجه لتوهم وجود هذا الوضع الرابع؛ وذلك لجهتين:

1- عدم الحاجة إليه؛ إذ وضع المفردات والهيئات التركيبية وافية بالمقصود من الوضع - وهو الإفصاح عما في الضمير - .

2- استلزامه الدلالة على المعنى مرتين، مرة باعتبار وضع المفردات، وأخرى باعتبار وضع المركب، وهذا خلاف الوجدان.

مضافاً إلى استلزامه عدم تناهي الوضع؛ إذ كيفية تركيب الكلمات ينتج عدداً غير محدود من الجمل، وعدم تناهي الوضع باطل بداهةً.

[2] أي: وضع شخصي لكل جملة مستعملة بخصوصها.

[3] أي: إلى وضع المركبات، «وضعها» أي: المفردات، ومثّل المصنف بمثالين: للجملة الاسمية، وللجملة الفعلية.

ص: 60

شخصياً[1]، وبهيئاتها[2] المخصوصة من خصوص إعرابها[3] نوعياً، ومنها[4] خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب[5] والإضافات بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعياً[6]،

-------------------------

[1] هذا الوضع الأول، أي: وضع مواد المفردات بوضع شخصي، مثلاً: (ز ي د) و(ق و م) و(ض ر ب) كلها لها وضع شخصي، فقد تصوّر الواضع هذه المواد بنفسها ووضع لها معنى.

[2] هذا الوضع الثاني، أي: وضع هيئة المفردات بوضع نوعي، فتصور الواضع هيئة خاصة - أي: صورة مخصوصة - فوضع لها معنى، مثلاً: هيئة (فاعل) تدل على صدور الفعل منه أو قيامه به، وهيئة (مفعول) تدل على وقوع الفعل عليه، وهيئة (فعّال) تدل على المبالغة، وهكذا.

[3] الظاهر أن مراد المصنف من (الإعراب) هو: (التصريف) أي: قد وُضع لكل معنى - في المشتق - هيئة خاصة من: (فاعل) و(مفعول) و(فعّال) و(مفعل)... الخ، وهذه الهيئات غير خاصة بفعل خاص، بل تجري في أغلب الأفعال؛ لذا كان الوضع فيها نوعياً وليس شخصياً.

[4] هذا هو الوضع الثالث، أي: ومن الهيئات المخصوصة، هو الهيئة التركيبية بين المفردات، كالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، مثل: (زيد قائم)، والجملة الفعلية الدالة على أصل الصدور، مثل: (قام زيد)، وكذلك الجملة الدالة على التأكيد مثل: (إن زيداً قائم)، والدالة على الحصر مثل: (إياك نعبد... الخ).

[5] كنسبة فعلٍ إلى فاعل مثل: (زيد قائم) أو (قام زيد)، و«الإضافات» عطف تفسيري على (النسب).

[6] أي: وضع هيئة المركبات إنما هو بوضع نوعي.

ثم اعلم أنا شرحنا العبارة بما هو أقرب إلى مراد المصنف، وفي بعض الشروح شرحها بكيفية أخرى، فارجعوا ضمير (بعد وضعها) إلى المركبات، و(بموادها)

ص: 61

بداهة[1] أن وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها[2]، كما لا يخفى، من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها[3]، مع[4] استلزامه الدلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك[5] هو وضع الهيئات على حدة غير

-------------------------

أي: مواد المفردات مع عدم ذكر المصنف لهيئات المفردات، و(بهيئاتها) أي: المركبات؛ وذلك بأن يقال بوضع الإعراب - أي: الرفع والنصب والجر - للدلالة على الفاعلية والمفعولية... الخ، فيكون معنى (إعرابها) هو المعنى المصطلح، فيكون الوضع أربعة أقسام مع نفي الوضع الخامس، أي: وضع مادة المفردات، وهيئة المفردات، وإعراب المفردات، والهيئة التركيبية من الجمل، فهذه أوضاع ثابتة، وأما ما ينفيه المصنف فهو وضع خامس، وهو وضع كل جملة على حدة وبانفرادها، فتأمل.

[1] الدليل الأول على بطلان وضع خاص للمركبات - أي: لكل جملة على انفرادها - «وضعها» أي: المركبات، «كذلك» أي: بوضع مفرداتها - مادةً وهيئةً - ووضع الهيئة التركيبية نوعاً.

[2] أي: من المركبات، فإن الوضع تابع للغرض، وحيث يفي وضع المفردات ووضع الهيئة التركبية بالغرض فلا حاجة إلى وضع آخر.

[3] أي: للمركبات، «بجملتها» أي: بمجموعها، بأن يقال: إن كل جملة هي موضوعة بوضع مستقل بنفسها.

[4] هذا الدليل الثاني، أي: لو قلنا: إنّ كل جملة لها وضع مستقل فهذا يستلزم أن تكون لكل جملة دلالتان، مثلاً في (زيد قائم)، يقال: وُضِع (زيد) و(قائم) و(الهيئة التركيبية) مرةً، ومرةً أخرى وضع تركيب (زيد قائم)، فهنا وضعان ودلالتان، وهذا بديهي البطلان، «وضع نفسها» أي: المركبات بجملتها.

[5] أي: هذا الوضع الرابع، أي: وضع المركبات بجملتها. «وضعها» أي:

ص: 62

وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوةً على وضع كلّ منهما(1).

السابع: لا يخفى أنّ تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه[1] إلى الذهن من نفسه - وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه، بداهة[2] أنّه لو لا وضعه له لما تبادر.

لا يقال[3]:

-------------------------

المركبات، «بجملتها» أي بخصوصها، «منهما» أي: من الهيئات والمواد.

الأمر السابع علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

الحقيقة: استعمال اللفظ في ما وُضِع له، والمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وُضِع له لوجود علقة مع المعنى الحقيقي، كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع.

وطريق تمييز الحقيقة عن المجاز أحد الأمور التالية:

1- التبادر، بمعنى فهم أهل اللسان المعنى من اللفظ من غير قرينة.

2- عدم صحة السلب.

3- الاطراد، بمعنى عموم اللفظ لكل مصاديق المعنى.

4- تنصيص أهل اللغة، وسيأتي البحث عنه في (المقصد السادس) من هذا الكتاب.

1- التبادر

اشارة

[1] عطف تفسيري، لبيان معنى التبادر، «وبلا قرينة» عطف تفسيري لقوله: (من نفسه) أي: من نفس اللفظ، «كونه» اللفظ، «فيه» في المعنى.

[2] إذ فهم معنى من لفظ لا يكون بغير علّة، وإلاّ لزم معلول من غير علّة، وهو محال، إذاً فلابد من منشأ للتبادر، ولا منشأ إلاّ الوضع.

[3] حاصل الإشكال: إن الوضع هو سبب العلم بالمعنى الحقيقي؛ إذ لو لا الوضع لما علمنا به، فكيف يكون التبادر سبباً للعلم بالمعنى الحقيقي، أليس هذا دوراً مصرحاً؟

ص: 63


1- قوانين الأصول 1: 264.

كيف يكون[1] علامةً؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له - كما هو واضح -، فلو كان العلم به موقوفاً عليه[2] لدار.

فإنه يقال[3]: الموقوف عليه غير الموقوف عليه[4]، فإن العلم التفصيلي بكونه موضوعاً له[5] موقوفٌ على التبادر، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي[6] به، لا التفصيلي، فلا دور.

-------------------------

[1] أي: كيف يكون التبادر علامة على المعنى الحقيقي، «توقفه» أي: التبادر، «بأنه» بأن اللفظ، «موضوع له» أي: للمعنى.

[2] «به» بالمعنى الحقيقي، «عليه» على التبادر.

[3] هنا جوابان:

الأول: التبادر يتوقف على العلم الارتكازي بالوضع، والتبادر سبب للعلم التفصيلي بالوضع، فلا دور لاختلاف سبب التبادر ومسبّبه.

العلم الارتكازي التبادر

العلم التفصيلي

الثاني: تبادر أهل اللسان سبب علم غير أهل اللسان بالوضع، فلا دور أيضاً.

[4] أي: العلم المتوقف على التبادر يختلف عن العلم الذي هو سبب للتبادر، فالعلم (الموقوف) ذلك التبادر (عليه) على ذلك العلم، بأن كان ذلك العلم سبباً للتبادر، (غير) العلم (الموقوف عليه) التبادر، بأن كان ذلك العلم معلولاً للتبادر.

[5] بكون اللفظ موضوعاً للمعنى، «موقوف على التبادر» أي: معلول له، فالتبادر سبب للعلم التفصيلي - أي: كونه حقيقة لا مجازاً - «وهو» أي: التبادر.

[6] ليس المقصود بالعلم الإجمالي هو ما اصطلح عليه الأصوليون من كون المعلوم مردداً بين فردين أو أفراد، بل المراد هو العلم الارتكازي.

وتوضيح ذلك: إن الطفل يسمع الألفاظ، وبالتدريج يحصل له ارتكاز في ذهنه بحيث يتصور المعنى كلّما سمع اللفظ، مع الغفلة عن كونه معنىً حقيقياً، ثم لمّا يريد معرفة المعاني الحقيقية فإنه يلاحظ التبادر، فكل لفظ تبادر معناه في ذهنه من غير

ص: 64

هذا إذا كان المراد به[1] التبادر عند المستعلم. وأما[2] إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح من أن يخفى.

ثم[3]

-------------------------

معونة قرينة يعرف بأنه معنىً حقيقي، وإلاّ عرف بأنه مجاز.

[1] أي: بالتبادر الذي هو علامة الحقيقة.

[2] إشارة إلى الجواب الثاني.

شرط التبادر

[3] المعنى الحقيقي يتبادر من غير معونة قرينة، فلو سمعنا لفظ (أسد) مثلاً، فإنا حينئذٍ نتصور الحيوان المفترس حتى في ما لم تكن قرينة أصلاً.

أما لو انسبق إلى الذهن معنى، لكن بمعونة قرينة، كما يتبادر الرجل الشجاع من قولنا (أسد على المنبر)، فهذا ليس أمارة على المعنى الحقيقي.

ومنه: ما لو كان بمعونة مقدمات الحكمة، فهذا النوع من التبادر لا يجدي نفعاً.

ثم إنه لو شككنا في أن هذا التبادر هل هو من حاق اللفظ أم أنه بمعونة قرينة - كالشهرة مثلاً - فهل نتمكن من التمسك بأصالة عدم القرينة لإثبات أن التبادر من حاق اللفظ، فيكون المعنى حقيقياً؟

والجواب: إن أصالة عدم القرينة لها موردان:

الأول: ما لو علمنا بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، كما في لفظ (أسد)، وشككنا في أن مراد المتكلم هل هو الحيوان المفترس أم الرجل الشجاع؟ فهنا تجري أصالة عدم القرينة، فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي.

الثاني: ما لو علمنا بمراد المتكلّم، ولكن لم نعلم بأن هذا المراد هو المعنى الحقيقي من اللفظ أم المعنى المجازي، كما لو علمنا أن قوله: (اغتسل للجمعة) دال على الاستحباب، وشككنا في وجود قرينة دالة على الاستحباب فلا يكون (اغتسل) مستعملاً في معناه الحقيقي، أو عدم وجود قرينة فيكون (اغتسل)

ص: 65

إن هذا[1] في ما لو عُلِم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما في ما احتمل استناده إلى قرينة فلا يُجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه[2]، لا إليها - كما قيل(1) - لعدم الدليل على اعتبارها[3] إلاّ في إحراز المراد[4] لا الاستناد[5].

ثم إن عدم صحة[6] سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن

-------------------------

مستعملاً في المعنى الحقيقي، فهنا لا تجري أصالة عدم القرينة؛ وذلك لأن أصالة (عدم القرينة) إنما هي أصل عقلائي، والعقلاء يجرونها في الصورة الأولى - وهي عدم معرفة مراد المتكلم مع معرفتهم بالمعنى الحقيقي - ولا يجرونها في الصورة الثانية - وهي معرفة مراد المتكلم مع عدم معرفة الحقيقة عن المجاز - .

وسبب بنائهم هذا هو أنهم يريدون فهم مقصود المتكلم، ولا يهُمُّهم ما إذا كان بمعناه الحقيقي أم بمعناه المجازي، فإذا لم يعرفوا مقصوده التجأوا إلى أصل - هو أصالة عدم القرينة - وأما إذا عرفوا مقصوده فلا يلتجئون إلى شيء أصلاً.

[1] أي: كون التبادر علامة للحقيقة، «نفس اللفظ» من غير معونة قرينة - ولو مقدمات الحكمة - .

[2] «إليه» إلى نفس اللفظ، «إليها» إلى القرينة، خلافاً للمحقق القمي.

[3] أي: اعتبار أصالة عدم القرينة.

[4] أي: المراد من الكلمة، لكن بعد معرفة المعنى الحقيقي هل أراده المتكلم أم أراد المعنى المجازي؟ فتجري أصالة عدم القرينة.

[5] أي: استناد التبادر إلى حاق اللفظ لا إلى القرينة، وهذا في ما عُلم المراد ولم يعلم أنه معنى حقيقي أم مجازي.

2- عدم صحة السلب

[6] ثاني العلامات - التي يذكرها المصنف - لتمييز الحقيقة عن المجاز، هي عدم صحة السلب في الحقيقة، وصحة السلب في المجاز، بيانه: إن حمل شيء على شيء

ص: 66


1- الفصول الغروية: 33.

إجمالاً[1] كذلك - [2] عن معنى[3] تكون علامة كونه حقيقةً فيه، كما أن صحة سلبه عنه[4] علامة كونه مجازاً في الجملة[5].

-------------------------

- بأن يسند المحمول إلى الموضوع - على نوعين:

1- الحمل الأولي الذاتي: بأن يوجد اتحاد في الماهية بين المحمول والموضوع، إلاّ أن اللفظ مختلف، كقولنا: (الإنسان بشر) وقولنا: (الإنسان حيوان ناطق)، وهذا الحمل علامة الحقيقة؛ إذ لا يصح السلب، فلا يصح القول إنّ الإنسان ليس بشراً - مثلاً - .

وأما لو صح السلب فهذا علامة المجاز، فيصح أن يقال: (ليس زيد أسدا).

2- الحمل الشايع الصناعي: بأن يختلف مفهوم الموضوع والمحمول، ولكن يتحدان في الخارج مصداقاً، مثل: (زيد عالم) فإن مفهوم (زيد) يختلف عن مفهوم (العالم)، لكنهما متحدان خارجاً، فهذا الرجل هو (زيد) وهو (العالم). فصحة الحمل دليل على أن هذا الموضوع هو من أفراد ذلك المحمول حقيقة، وأما لو صح السلب مثل قولنا للبليد (فلان حمار) فإنه يصح سلب (الحمار) عنه حقيقة، فهذا دليل المجازية.

[1] أي: عدم صحة السلب يتوقف على العلم الارتكازي بالمعنى، وأما العلم التفصيلي بالمعنى فهو يتوقف على عدم السلب، فلا دور، وسيشير المصنف إلى الدور ودفعه بعد قليل.

[2] أي: كالتبادر الذي كان متوقفاً على العلم الارتكازي بالمعنى.

[3] «عن» متعلقه بقوله: (سلب اللفظ)، أي: عدم صحة سلب اللفظ عن معنى، «يكون» عدم صحة السلب، «علامة كونه» كون اللفظ، «حقيقة فيه» في المعنى.

[4] سلب اللفظ عن المعنى.

[5] إشارة إلى الخلاف بين المشهور والسكاكي، فصحة السلب علامة المجاز في الجملة، أي: إما في الكلمة - على المشهور - وإما في الإسناد - كما ذهب إليه السكاكي(1) - وسيأتي بعد قليل الفرق بين القولين.

ص: 67


1- مفتاح العلوم: 156.

والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه[1] وصحة الحمل عليه بالحمل الأوّليّ الذاتي[2] - الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً - [3]، علامة[4] كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي[5] - الذي ملاكه الاتحاد وجوداً، بنحو من أنحاء الاتحاد[6] - علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية[7].

-------------------------

[1] أي: عدم صحة سلب اللفظ عن المعنى، وقوله: (وصحة الحمل عليه) عطف تفسيري.

[2] إنّما سمي (أولياً) لأنه أوّليّ الصدق والكذب - كذا قيل - وسمي (ذاتياً) لأنه في الذاتيات، أي: الجنس والفصل.

[3] لا يخفى أن الحمل الأولي الذاتي على قسمين:

1- المترادفان: مثل: (الإنسان بشر)، وفي هذا القسم يكون الاتحاد مفهومياً وماهويّاً.

2- التعريفات: مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وهنا يكون الاتحاد ماهويّاً فقط، أي: ماهية الإنسان نفس ماهية الحيوان الناطق.

[4] «علامة» خبر (أنّ عدم صحة السلب... الخ)، «كونه» كون اللفظ.

[5] إنما سمي بذلك لأنه شائع ومشهور في الصناعات، حيث يكثر فيها كون شيء مصداقاً لشيء آخر.

[6] كالاتحاد الصدوري، بمعنى صدور الفعل من الفاعل، مثل: (زيد ناصر). وكالاتحاد القيامي، بمعنى قيام الفعل بالموضوع، مثل: (زيد ميّت). وكالاتحاد الحلولي، بمعنى حلول الشيء في آخر، مثل: (زيد أبيض)، وسيأتي تفصيله في بحث المشتق.

[7] كون اللفظ من مصاديق المعنى - أي: كون المحمول من مصاديق الموضوع - إنّما هو في أحد أقسام الحمل الشايع الصناعي؛ وذلك لأن أقسامه ثلاثة:

ص: 68

كما أن صحة سلبه كذلك[1] علامة أنه ليس منها، وإن لم نقل[2] بأن إطلاقه

-------------------------

1- الموضوع فرد جزئي للمحمول الكلي، مثل: (زيد ضاحك)، وهذا الحمل دليل على أن زيداً مصداق حقيقي للضاحك.

2- الموضوع كلي لكنه أخص من المحمول، مثل: (الزنجي ضاحك) وهذا الحمل علامة لكون الموضوع من أصناف المحمول حقيقة، لا من أفراده.

3- الموضوع كلي متساوٍ مع المحمول، مثل: (الإنسان ضاحك)، وهذا الحمل علامة اتحاد الموضوع والمحمول خارجاً، لا أن الموضوع من أفراد المحمول؛ ولذا قال المصنف في تعليقه: (في ما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلياً وفرداً، لا في ما إذا كانا كليين متساويين، أو غيرهما)(1).

قوله: (متساويين) إشارة إلى القسم الثالث، وقوله: (أو غيرهما) إشارة إلى القسم الثاني، ولا يوجد قسم آخر؛ لعدم جواز كون الموضوع أعم من المحمول، فلا يصح القول: إن (الحيوان فرس).

[1] «سلبه» اللفظ، «كذلك» بأي نحو من الأنحاء، «أنه» أن اللفظ، «منها» من مصاديق المعنى.

[2] أي: صحة السلب علامة المجاز حتى لو قلنا بما قاله السكاكي؛ وذلك لأنّ كلا القولين متفقان على المجازية، وإنّما الخلاف في محل المجاز، فهل المجاز في الكلمة - كما عليه المشهور - أم أن المجاز في الإسناد؟ - كما عليه السكاكي - .

بيانه: إن مثل: (زيد أسد) لا إشكال في أنه مجاز، لكن أين محل المجاز؟

1- المشهور(2):

على أن المجاز في الكلمة، أي: إن (أسد) لم يستعمل في معناه الموضوع له - وهو الحيوان المفترس الخاص - بل استعمل في الشجاع.

2- السكاكي: على أن (أسد) بنفس معناه - أي: الحيوان المفترس الخاص - ولكن

ص: 69


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 131.
2- فوائد الأصول 1: 94.

عليه[1] من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وأن التصرف فيه[2] في أمر عقلي - كما صار إليه السكاكي(1)- .

واستعلام[3] حال اللفظ وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما[4] ليس على وجهٍ دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه[5] بالإجمال

-------------------------

المجاز في توسعة أفراد (الأسد)، وادعاء أنّ (زيد) من مصاديق الأسد المفترس، فعلى هذا القول لا مجاز في كلمة (الأسد)، بل هي على معناها، وإنّما المجاز في إدخال (زيد) ضمن مصاديق الحيوان المفترس، وهذا ما يعبر عنه ب(المجاز في الإسناد) أو (المجاز في الأمر العقلي).

[1] إطلاق اللفظ على المعنى.

[2] أي: التصرف المجازي، «فيه» في الإطلاق - أي: الإسناد - ، «في أمر عقلي» وهو توسعة مصاديق (الأسد المفترس) لتشمل (زيداً) أيضاً.

[3] ردّ إشكال الدور، الذي مرّ نظيره في التبادر.

حاصل الإشكال: إنه لا يمكن الحمل إلاّ بعد العلم بالوضع - ولذا من لا يعرف اللسان لا يتمكن من الحمل - فلو كان العلم بالوضع يتوقف على الحمل لدار دوراً مُصرّحاً، وهكذا في عدم صحة السلب؛ إذ هي تتوقف على العلم بالوضع، فلو توقف العلم بالوضع عليها لكان دوراً.

والجواب: أولاً: إنّ العلم الارتكازي هو علة صحة الحمل، ثم إن صحة الحمل هي علة العلم التفصيلي، وهكذا في صحة السلب.

وثانياً: الفرق بين العالم باللغة وبين المستعلم.

[4] بصحة السلب وعدم صحة السلب.

[5] «الموقوف» أي: العلم بالوضع الذي يتوقف عليه صحة السلب أو عدمها، «الموقوف عليه» أي: العلم بالوضع الذي يتوقف هو على صحة السلب أو عدمها.

ص: 70


1- مفتاح العلوم: 156.

والتفصيل، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيداً.

ثم إنه قد ذُكر(1)

الاطّراد[1] وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضاً[2].

ولعله[3] بملاحظة نوع العلائق[4] المذكورة في المجازات،

-------------------------

3- الاطراد

[1] الاطراد: هو صحة استعمال اللفظ في المعنى - في جميع الأفراد أو الحالات - ف(زيد) يطلق على الرجل الخاص في كل حالاته، و(ضارب) يطلق على كل من صدر عنه الضرب في جميع الأحوال.

وعدّ البعض الاطراد من علائم الحقيقة، وعدم الاطراد من علائم المجاز.

واُشكل عليه: بأنه يصح استعمال اللفظ في المعنى المجازي في كل الأفراد والحالات، فيصح - مثلاً - استعمال (الأسد) في (الرجل الشجاع) في كل الرجال، وفي كل أحوالهم.

والجواب: إن المراد هو نوع العلاقة لا صنفها، ونوع العلاقة خاص بالمعنى الحقيقي دون المعنى المجازي.

مثلاً: استعمال (الأسد) في غير الحيوان المفترس الخاص إنّما هو بعلاقة (الشجاعة)، ولكن ليس كل شجاعة، بل الشجاعة التي في الإنسان، فيقال: (زيد أسد)، ولا يقال: (الديك أسد) إذا كان شجاعاً، وهكذا خصوص الشباهة في الشجاعة، فلا يطلق الأسد على الرجل الأبخر ولا المُشعِر، بسبب شباهته بالأسد في بخر الفم أو كثافة الشعر.

ولصاحب الفصول جواب آخر سيأتي مع رده.

[2] «أيضاً» كما ذُكر التبادر أو عدمه، وصحة السلب أو عدمها.

[3] إشارة إلى جواب الإشكال المذكور.

[4] لا صنفها، ونوع تلك العلاقة هي الحيثية التي أوجبت صحة استعمال اللفظ في المعنى.

ص: 71


1- الفصول الغروية: 38.

حيث لا يَطَّرِد[1] صحة استعمال اللفظ معها، وإلاّ[2] فبملاحظة خصوص[3] ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة.

وزيادة قيد[4]:

-------------------------

[1] أي: لا يَطَّرِد في المجازات، «معها» مع نوع العلائق.

[2] أي: إذا لم نلاحظ نوع العلاقة، بل لاحظنا صنفها، فإن المجاز مُطَّرِد أيضاً، حيث يصح استعمال الأسد في كلّ رجل شجاع وفي جميع الحالات.

[3] أي: بملاحظة صنف العلاقة، كالشجاعة في الرجل - في مثال الأسد - .

[4] هذا الجواب ذكره صاحب الفصول - ولم يرتضه - وحاصله:

إن الاطراد قد يكون على نحو الحقيقة، وقد يكون على نحو المجاز، والأول علامة الحقيقة دون الثاني.

وفيه: إنه لا نعرف أن الاطراد على أية كيفية - من الحقيقة أو المجاز - إلاّ بعد معرفة الحقيقة عن المجاز تفصيلاً، وحينئذٍ يكون الاطراد متوقفاً على معرفة الحقيقة، فإذا كان علامة لها - حيث تتوقف معرفة الحقيقة عليه - لزم الدور المصرح.

إن قلت: ندفع الدور بالتزام العلم الارتكازي والعلم التفصيلي، أو باختلاف العالم والمستعلم - كما مرّ في التبادر - .

قلت: الاطراد على نحو الحقيقة لا يتوقف على العلم الارتكازي، بل يتوقف على العلم التفصيلي بالحقيقة؛ إذ معرفة أن اللفظ شائع في معناه وأنه على نحو الحقيقة لا المجاز ليس علماً ارتكازياً، بل هو علم تفصيلي بالحقيقة والمجاز.

وكذا المستعلم إذا علم بأن الاطراد عند أهل اللسان على وجه الحقيقة، فإنّ معنى ذلك أنه يعلم المعنى الحقيقي؛ لذا علم بأن ذلك الاطراد عند أهل اللسان ليس بالمجاز، بل بالحقيقة، وحينئذٍ فأي حاجة له إلى الاطراد؟ فإنه يعلم الحقيقة، فإذا أراد تحصيل العلم بها عن طريق الاطراد كان من تحصيل الحاصل.

ص: 72

«من غير تأويل»[1]، أو: «على وجه الحقيقة»[2]، وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك[3] بالحقيقة، إلاّ أنه حينئذٍ لا يكون علامة لها[4] إلاّ على وجهٍ دائر. ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هاهنا[5]، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال[6] بالاطّراد أو بغيره.

الثامن: انّه للّفظ[7] أحوال خمسة، وهي:

-------------------------

[1] هذا على مذهب السكاكي، حيث يتم التأويل في اللفظ؛ وذلك عبر توسعته ليشمل الأفراد المجازية.

[2] هذا على رأي المشهور - من المجاز في الكلمة - .

[3] «كذلك» أي: (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة).

[4] للحقيقة، والوجه الدائر:

العلم بالمعنى الحقيقي الاطراد على نحو الحقيقة العلم التفصيلي بالمعنى الحقيقي.

[5] «هاهنا» متعلق بقوله: (ولا يتأتى التفصي)، و«ما ذكر في التبادر» من توقفه على العلم الارتكازي، وتوقف العلم التفصيلي عليه، وكذا الفرق بين العالم والمستعلم.

[6] أي: إنّ الاستعمال على نحو الحقيقة أم المجاز.

الأمر الثامن أحوال اللفظ

[7] أي: بملاحظة المعنى، له أحوال متعددة، ذكر المصنف منها خمسة - كمثال - وإلاّ فالأحوال حدود الخمسة عشرة.

ثم اعلم أن البحوث ثلاثة:

الأول: إذا استعمل اللفظ في معنى، ولم يعلم أن الاستعمال على نحو الحقيقة أم المجاز.

-------------------------

فالسيد المرتضى على أن الاستعمال علامة الحقيقة، والمشهور على أنه أعم من الحقيقة، وقد مرّ الإشارة إلى هذا البحث في الأمر السابع.

ص: 73

الثاني: إذا علمنا بالمعنى الحقيقي والمجازي، ثم استعمل اللفظ:

1- ولم نعلم أن المراد هو المعنى الحقيقي أو المجازي، فإن الأصل العقلائي هو حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، كحمل الأسد على الحيوان المفترس الخاص، دون الرجل الشجاع.

2- وكذا لو دار الأمر بين معنى حقيقي معلوم وبين الاشتراك، فإن الأصل العقلائي هو أصالة عدم الاشتراك، كالعين في الجاسوس، حيث لا ندري أنه مجاز بعلاقة نظر الجاسوس بعينه، أم حقيقة فيكون مشتركاً مع العين الباصرة.

3- وكذا لو دار الأمر بين إرادة العموم من لفظ العام وبين إرادة الخصوص، فالأصل العقلائي هو أصالة العموم.

4- وكذا إن دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين النقل، فأصالة عدم النقل مُحكّمة.

5- وكذا إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين الإضمار - بتقدير شيء - مثل: (طاب زيد) فلا ندري هل مراده (طاب زيد بنفسه) أم بتقدير الأخلاق، أي: (طابت أخلاق زيد)، فأصالة عدم الإضمار محكّمة.

ومرجع هذه الأصول كلها إلى أصالة الظهور، حيث إنها أصل معتبر عند العقلاء، ويبنون أمورهم عليها، والشارع قد أمضى هذه الأصول - كما سيأتي في بحث أصالة الظهور - .

الثالث: إذا دار الأمر بين هذه الأحوال الخمسة فلا وجه للترجيح إلاّ الظهور، أي: ظهور اللفظ في أحد المعنيين.

ص: 74

التجوّز[1] والاشتراك[2] والتخصيص[3] والنقل[4] والإضمار[5] لا يكاد يصار إلى أحدها في ما إذا دار الأمر بينه[6] وبين المعنى الحقيقي[7] إلاّ بقرينة صارفة عنه إليه.

وأما إذا دار الأمر بينها، فالأصوليون وإن ذكروا(1) لترجيح بعضها على بعض وجوهاً[8]، إلاّ أنها استحسانية لا اعتبار بها[9] إلاّ إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى[10]، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك[11]، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] كالأسد في الرجل الشجاع.

[2] كالمولى في العبد والسيد، وكالعين في الذهب والفضة.

[3] كأكرم العلماء إلاّ فساقهم.

[4] كنقل لفظ الصلاة من الدعاء إلى الأركان المخصوصة.

[5] وذلك بتقدير شيء، كقوله تعالى: {وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ}(2) أي أهل القرية، والإضمار من أقسام المجاز، فذكر المصنّف له يكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

[6] أي: بين أحد هذه الخمسة.

[7] لا يخفى أن كلا المعنيين في الاشتراك والنقل حقيقي، وكذا في التخصيص، فإنه لا خروج عن المعنى الحقيقي، بل الإرادة الجدية تخالف الإرادة الاستعمالية، كما سيأتي تفصيله.

فقول المصنف: (بينه وبين المعنى الحقيقي) لا يخلو من مسامحة.

[8] كترجيح المجاز على الاشتراك؛ لأن المجاز أكثر وأفصح، وعدم الحاجة فيه إلاّ لقرينة واحدة، عكس الاشتراك، وأمثال هذه المرجحات.

[9] لا من الشرع، ولا من بناء العقلاء.

[10] فإن بناء العقلاء - وقد أمضاه الشارع - على العمل بظهور الألفاظ.

[11] اعتبار هذه الوجوه بدون الظهور.

ص: 75


1- الفصول الغروية: 40.
2- سورة يوسف، الآية: 82.

التاسع: إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية[1] وعدمه على أقوال[2].

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقالٍ[3]، وهو: أن الوضع التعييني

-------------------------

الأمر التاسع الحقيقة الشرعية

اشارة

[1] غالب ألفاظ العبادات والمعاملات كانت مستعملة قبل الإسلام في لغة العرب، بمعانٍ أخرى، فالصلاة بمعنى الدعاء، والحج بمعنى القصد، والزكاة بمعنى النمو، والنجاسة بمعنى القذارة، والطهارة بمعنى النظافة، وهكذا.

وبعد الإسلام استعملت هذه الألفاظ في معانٍ استحدثها الشارع، بحيث تتبادر عند المتشرعة تلك المعاني من هذه الألفاظ، لا المعاني اللغوية.

والسؤال أنّه متى وكيف صارت تلك الألفاظ حقائق في المعاني الشرعية؟

إن قلنا: إنها صارت حقائق في زمن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فهذا هو الحقيقة الشرعية، وإن صارت بعد زمانه فهذا الحقيقة المتشرعية، وإن قلنا: إنها كانت مستعملة قبل الإسلام في هذه المعاني فلا حقيقة شرعية ولا متشرعية، بل هي حقائق لغوية.

[2] منها: الثبوت مطلقاً، أو النفي مطلقاً، أو التفصيل بين العبادات ففيها حقائق شرعية وبين المعاملات فلا، وغير ذلك.

ومختار المصنف: إن قلنا: إنّ هذه المعاني مستحدثة في شرعنا فهي حقائق شرعية، وطريقة وضعها هي: الوضع التعييني الاستعمالي، أي: استعمل الشارع تلك الألفاظ لتلك المعاني - في المرة الأولى - بقصد الوضع.

وإن قلنا: إنّ هذه المعاني ثابتة في الشرائع السابقة فهي حقائق لغوية، كانت مستعملة قبل الإسلام، والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ استعملها في نفس تلك المعاني اللغوية - وهذا ما يرجحه المصنف - .

[3] لأجل إثبات الحقيقة الشرعية عن طريق إثبات أن الوضع فيها هو وضع تعييني استعمالي.

ص: 76

كما يحصل بالتصريح بإنشائه[1] كذلك[2] يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له[3]، بأن[4] يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان[5] لابد حينئذٍ[6] من نصب قرينةٍ، إلاّ أنه[7] للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى كما في المجاز، فافهم[8].

-------------------------

[1] أي: بإنشاء الوضع، مثل أن يقول: وضعت اسم (علي) على هذا الوليد الجديد، وهذا النوع الأول من الوضع التعييني وقد مرّ سابقاً.

[2] أي: يحصل الوضع التعييني بنوع ثانٍ، وهو أن يستعمل اللفظ في المعنى بقصد الوضع، مثل أن يقول لابنه المولود جديداً: (ناولوني محمداً) قاصداً وضع لفظ (محمد) على الوليد الجديد.

[3] أي: يستعمل اللفظ في المعنى الجديد، ولكن بكيفية استعماله في المعنى الموضوع له، أي: من غير مجاز ولا قرينة مجازية.

[4] تفسير لقوله: (كما إذا وضع له)، «الحكاية عنه» أي: يُخبر عن الوضع، «عليه» على الوضع، «بنفسه» بنفس الاستعمال.

[5] أي: للدلالة على الوضع الاستعمالي - بالمعنى المذكور - لابد من نصب قرينة بأنه يريد وضع اللفظ للمعنى الجديد بهذا الاستعمال، لكن هذه القرينة ليست قرينة المجاز؛ لأن قرينة المجاز إنّما هي للدلالة على أن اللفظ مستعمل في غير ما وضع له، وهذه القرينة هي للدلالة على وضع اللفظ على المعنى الجديد بهذا الاستعمال، ففرق بين القرينتين.

[6] أي: حين إرادة الوضع التعييني الاستعمالي.

[7] جواب عن إشكال، وهو: إذا لزم نصب قرينة فهذا استعمال مجازي.

والجواب: إن القرينة قسمان - كما بيناه - ، «أنه» أي: إن نصب القرينة، «ذلك» أي ذلك القصد - وهو الوضع التعييني الاستعمالي - .

[8] لعله إشارة إلى أن الوضع التعييني الاستعمالي ممتنع؛ لاستلزامه اجتماع

ص: 77

وكون[1] استعمال اللفظ فيه كذلك[2] في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائرٍ[3] بعد ما كان مما يقبله الطبع

-------------------------

اللحاظين الآلي والاستقلالي.

أو إشارة إلى أن القرينة على إرادة المعنى ليست خاصة بالمجاز، بل القرينة في الوضع التعييني الاستعمالي أيضاً دالة على إرادة المعنى، فالفرق من جهة أخرى.

[1] دفع إشكال، وحاصل الإشكال: إن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له، والمجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة، ولا تخرج الألفاظ المستعملة عن أحدهما، فلا يصح الوضع التعييني الاستعمالي؛ لأنه ليس بحقيقة؛ لأنه لم يستعمل اللفظ في ما وضع له، بل بنفس هذا الاستعمال يراد الوضع، ولا مجاز؛ إذ لم يراعَ فيه علاقات المجاز.

والجواب: إن لزوم كون اللفظ إما حقيقة أو مجازاً، مما لا دليل عليه، بل يجوز استعمال كل ما لاءم الطبع حتى وإن لم يكن بحقيقة ولا بمجاز، والوضع التعييني الاستعمالي ملائم للطبع، فلا مانع منه.

[2] «فيه» في المعنى، «كذلك» أي: بقصد الوضع، «ما اعتبر في المجاز» من العلاقات النوعية المذكورة في علم البلاغة، مثلاً: الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، فاستعمالها في الأركان المخصوصة لم يكن لعلقة أصلاً؛ إذ العلقة المتوهمة هي اشتمال الأركان المخصوصة على الدعاء، فيكون من استعمال الجزء في الكل، كالرقبة في الإنسان، لكن لا تصح هذه العلقة؛ لأن استعمال الجزء وإرادة الكل إنّما هو في ما إذا كان وجود الكل يتوقف على الجزء - كتوقف حياة الإنسان على الرقبة - وليست الصلاة متوقفة على الدعاء، بل الدعاء جزء من الصلاة لكنه ليس بركن؛ ولذا تصح الصلاة لو نسي الأدعية الواجبة فيها!!

[3] جواب عن الإشكال، «بعد ما كان» أي: كان هكذا استعمال - وهو الاستعمال بقصد الوضع - .

ص: 78

ولا يستنكره. وقد عرفت سابقاً[1] أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.

إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني[2] في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً، ومدعي القطع به غير مجازف قطعاً. ويدل[3] عليه[4] تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته.

-------------------------

[1] في بحث استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه.

[2] أي: النوع الثاني منه، وهو الوضع التعييني الاستعمالي، بأن يكون النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ استعمل لفظ الصلاة لأول مرة قاصداً وضعها للأركان المخصوصة، كما لو قال: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)(1)

قاصداً هذا الوضع!!، «القطع به» أي: بالوضع التعييني الاستعمالي.

[3] استدل المصنف لإثبات الحقيقة الشرعية عن طريق الوضع التعييني الاستعمالي، بأمرين:

الأول: التبادر في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فالأصحاب كانوا يفهمون هذه المعاني الشرعية من ألفاظه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

الثاني: إن استعماله إن كان مجازياً بقرينة فلابد من وجود علقة بين المعاني اللغوية والمعاني الشرعية، ولا نجد علقة أصلاً.

وهذا جعله المصنف مؤيداً؛ لأنه لا يشترط العلقة، بل يكفي ملاءمة الطبع - كما مرّ مراراً - .

ولا يخفى أن هذين يدلان على أصل الحقيقة الشرعية، لا على أنها بالوضع التعييني الاستعمالي.

[4] أي: على الوضع التعييني الاستعمالي، «منها» أي: من تلك الألفاظ، «محاوراته» محاورات النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

ص: 79


1- عوالي اللئالي 1: 198.

ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة[1] بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء؟ ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل[2] بينهما، كما لا يخفى.

هذا كله[3] بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

وأما بناءً على كونها[4] ثابتة في الشرائع السابقة - كما هو قضية غير واحدٍ من الآيات، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ}(1)، وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ}(2)، وقوله تعالى: {وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا}(3)... إلى غير ذلك - فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية،

-------------------------

[1] من العلاقات المصححة للاستعمال المجازي.

[2] لأنه - كما ذكرنا - لابد من كون الجزء مما ينتفي الكل بانتفائه، كالرقبة في الإنسان.

[3] من إثبات الحقيقة الشرعية عن طريق الوضع التعييني الاستعمالي، «معانيها» أي: معاني الألفاظ المعهودة.

[4] أي: كون تلك المعاني، وحاصله: إن هذه المعاني كانت موجودة في الشرائع السابقة، فهي ليست مستحدثة في شرعنا، وكان في العرب قبل الإسلام مَن يدين بتلك الشرائع، وكان يستعمل هذه الألفاظ في تلك المعاني على نحو الحقيقة، مثلاً: كان لليهود صوم، وكان عرب اليهود يصومون ويستعملون لفظ (الصوم) في هذا المعنى الشرعي، وهكذا سائر الألفاظ، وكان سائر العرب يفهمون هذه المعاني من تلك الألفاظ، بل كانوا يستعملونها أيضاً، فثبت أن تلك الألفاظ ليست حقائق شرعية، بل حقائق لغوية.

ص: 80


1- سورة البقرة، الآية: 183.
2- سورة الحج، الآية: 27.
3- سورة مريم، الآية: 31.

واختلاف الشرائع فيها[1] جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات[2]، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال[3] لا مجال لدعوى الوثوق، فضلاً عن القطع بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم[4] دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه.

ومنه[5] قد انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه. ومع الغض عنه فالإنصاف أن منع حصوله[6] في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه

-------------------------

[1] «فيها» في هذه المعاني الشرعية، «اختلافها» أي: اختلاف الحقيقة.

[2] عطف تفسيري؛ لأن هذه الأجزاء هي تحقق الصلاة؛ لأنها كلٌ مركب من أجزاء، والأجزاء هي التي تُحَقِّق الكل.

[3] أي: احتمال كون هذه المعاني الشرعية ثابتة في الشرائع السابقة، «بكونها» أي: بكون هذه الألفاظ.

[4] أي: بعد إثبات أنها حقائق لغوية، فإنه تبطل جميع الأدلة التي أقاموها لإثبات الحقيقة الشرعية، كدعوى التبادر في زمن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ لأنه تبادر مستند إلى ما قبل الإسلام، كتبادر سائر الكلمات بمعانيها اللغوية في عصره صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلا حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ومناقشتها - على رغم ضعفها - «ثبوتها» أي: ثبوت الحقيقة الشرعية، «دلالتها» أي: دلالة تلك الوجوه، «لولاه» أي: لو لا هذا الاحتمال - وهو كونها حقائق لغوية - .

[5] أي: من هذا الاحتمال، يظهر عدم إمكان القول بالوضع التعييني الاستعمالي، «معه» أي: مع هذا الاحتمال، «عنه» عن الاحتمال المذكور.

[6] حصول الوضع التعييني.

ص: 81

مكابرة[1]. نعم[2]، حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل[3].

وأما الثمرة[4]

-------------------------

[1] لوضوح تبادر المعاني الشرعية من هذه الألفاظ في زمان النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ ولذا لم يتوقف فقيه في حمل ألفاظه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ على المعاني الشرعية.

[2] أي: القول بحصول الوضع التعييني في خصوص لسان الشارع - بأن يكون قد استعمل اللفظ بقصد الوضع - هذا القول ممنوع، بل حصل الوضع التعييني في لسانه ولسان الأصحاب.

[3] لعله إشارة إلى منافاة هذا المنع مع ما مرّ، حيث ذهب المصنف إلى الوضع التعييني الاستعمالي في لسان النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، حيث قال: (فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً).

مضافاً إلى أن الوضع التعييني الاستعمالي يتحقق من شخص واحد فقط - كما مرّ في مثال تسمية الطفل الوليد - لا من أشخاص متعددين.

الثمرة

[4] هل للقول بالحقيقة الشرعية أو عدم القول بها تأثير عملي في الفقه؟

يقول المصنف:

أ: إن لم نقل بالحقيقة الشرعية فلابد من حمل ألفاظ الشارع على معانيها اللغوية - إن لم تكن قرينة - .

ب: وإن قلنا بالحقيقة الشرعية، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: إذا علمنا بأن استعمال اللفظ كان بعد تحقق الحقيقة الشرعية - كما في آخر حياة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - فهنا لابد من حمل ألفاظه على المعاني الشرعية.

الصورة الثانية: إذا جهلنا بأن استعمال اللفظ كان بعد تحقق الحقيقة الشرعية أم قبل تحققها فلابد من الاحتياط؛ إذ لا يوجد ما يُعيّن مراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

ص: 82

-------------------------

ولكن قد يقال بلزوم الحمل على المعنى الشرعي، وقد يقال بلزوم الحمل على المعنى اللغوي.

أما الأول - وهو لزوم الحمل على المعنى الشرعي - فقد استدل له بدليلين:

الدليل الأول: استصحاب عدم الاستعمال إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية، فإن اللفظ أمر حادث، ونحن نشك في وقت صدور هذا اللفظ عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فنستصحب عدم استعماله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لهذا اللفظ إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية.

وفيه: أولاً: إن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم تحقق الحقيقة الشرعية إلى حين الاستعمال؛ لأنها أمر حادث أيضاً، ومع تعارض الأصلين فإنهما يتساقطان.

وثانياً: إن هذا الاستصحاب أصلٌ مثبت، وهو ليس بحجة.

والأصل المثبت: هو لو لم يكن أثر الاستصحاب أمراً شرعياً، بل كان أمراً عادياً أو عقلياً.

وهنا: استصحاب (عدم الاستعمال إلى حين تحقق الحقيقة الشرعية) إنّما أثره: (تحقق الاستعمال بعد الوضع الشرعي)، والاستعمال بعد الوضع ليس حكماً شرعياً، بل أمر عقلي، فإنّه إذا ثبت أصل الاستعمال وثبت أنه لم يكن قبل الوضع فالعقل يحكم بأن الاستعمال كان بعد الوضع.

الدليل الثاني: بناء العقلاء على أنه لو شك في وقت الاستعمال فإنه يحمل اللفظ على تأخر الاستعمال عن الوضع.

وفيه: إنه ليس للعقلاء هذا الأصل، بل يتوقفون ويحتاطون.

وأما الثاني - وهو لزوم الحمل على المعنى اللغوي - فقد استدل له: بأصالة عدم النقل، فكلّما شككنا في نقل لفظ عن معناه إلى معنى آخر فلابد من الحمل على معناه الأصلي.

ص: 83

بين القولين[1] فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة[2] على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت[3]، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، في ما إذا علم تأخر الاستعمال. وفي ما إذا جهل التاريخ[4] ففيه إشكال[5]. وأصالة تأخر الاستعمال[6] - مع معارضتها[7] بأصالة تأخر الوضع - لا دليل[8] على اعتبارها تعبداً إلاّ على القول بالأصل المثبت. ولم يثبت[9] بناء من العقلاء على التأخر مع

-------------------------

وفيه: إن أصالة عدم النقل هي أصل عقلائي، والعقلاء يجرونها في ما لو شكوا في أصل النقل، لا في ما إذا علموا بالنقل وشكوا في تاريخه، بل في هذه الصورة يتوقفون ويحتاطون.

[1] ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً، ونفيها مطلقاً.

[2] إذ لو كانت هناك قرينة على مراده فلابد من حمل اللفظ على ذلك المراد، سواء كان مطابقا للمعنى اللغوي أم المعنى الشرعي، وسواء قلنا بالحقيقة الشرعية أم لم نقل.

[3] أي: مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

[4] سواء جهل تاريخ الوضع والاستعمال، أم جهل تاريخ أحدهما، على تفصيل سيأتي في بحث الاستصحاب.

[5] أي: لا يوجد ما يعيّن أحد المعنيين - اللغوي أو الشرعي - فلابد من الاحتياط.

[6] هذا الدليل الأول للزوم الحمل على المعنى الشرعي، وهذه الأصالة هي الاستصحاب.

[7] هذا الإشكال الأول على هذا الدليل.

[8] هذا الإشكال الثاني، «تعبداً» أي: بحكم الشارع.

[9] إشارة إلى الدليل الثاني.

ص: 84

الشك، وأصالة عدم النقل[1] إنما كانت معتبرة في ما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل[2].

العاشر: أنه وقع الخلاف[3] في أن ألفاظ العبادات[4] أسامٍ لخصوص الصحيحة أو للأعم منها.

وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين يذكر أمور[5]: منها[6]: إنّه لا شبهة في تأتّي

-------------------------

[1] هذا دليل لزوم الحمل على المعنى اللغوي.

[2] لعله إشارة إلى سقوط هذه الثمرة؛ إذ مراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ واضح في جميع استعمالاته، فهناك قرائن تدل على أنه قصد المعنى الشرعي، فلا ثمرة عملية لهذا البحث.

أو إشارة إلى أن صور الجهل بالتاريخ مختلفة - فقد يكون جهل بتاريخهما، وقد يكون جهل بتاريخ أحدهما - وفي جريان الاستصحاب أو عدم جريانه في بعض هذه الصور خلاف، سيأتي في مباحث الاستصحاب.

الأمر العاشر الصحيح والأعم

اشارة

[3] لا إشكال في أن المأمور به هو الصحيح، فلا يريد الشارع الفاسد ولا يأمر به، وإنّما الخلاف في (الاسم)، بمعنى أن الصلاة - مثلاً - هل هي اسم للصلاة الصحيحة، أم هي اسم للصلاة مطلقاً - صحيحة كانت أم فاسدة -؟

[4] وأما المعاملات فسيأتي في الأمر الأول في خاتمة البحث.

[5] هي مقدمات البحث.

المقدمة الأولى: تحرير محل النزاع

[6] في ثبوت الحقيقة الشرعية أو عدمها أقوال ثلاثة - هي أهم الأقوال - :

1- ثبوتها، وحينئذٍ يجري البحث في أن الشارع هل وضع الاسم لخصوص الصحيح أم وضعه للأعم.

ص: 85

الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة[1]. وفي جريانه على القول بالعدم[2] إشكالٌ.

-------------------------

2- عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، وأن الشارع استعمل هذه الألفاظ في العبادات مجازاً، فمثل قوله تعالى: {أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ}(1) يراد بها الأركان المخصوصة على نحو المجاز في الكلمة.

فتصوير النزاع على هذا القول مشكل؛ إذ كما يكون الصحيح مجازاً، كذلك يكون الأعم مجازاً، وكلاهما يحتاج إلى القرينة، وبعبارة أخرى: لا تكون الألفاظ أسامي للعبادات، بل الألفاظ مجاز فيها.

وللشيخ الأعظم طريقة تصوير جريان النزاع على هذا القول، وسيأتي توضيحه.

3- عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، ولا مجاز في كلام الشارع، بل المعاني الشرعية هي مصاديق للمعنى اللغوي - فهي حقائق لغوية - وعلى هذا القول أيضاً يشكل تصوير محل النزاع؛ إذ لا تسمية أصلاً حتى نبحث عن أنها تسمية للصحيح أم تسمية للأعم.

ولكن يمكن تصوير جريان النزاع - على نفس طريقة الشيخ الأعظم في القول السابق - وسيأتي بيانه.

[1] إذ يتم البحث عن أن الشارع هل وضع لفظ العبادة لخصوص الصحيح، أم وضعها للأعم؟

[2] أي: عدم ثبوت الحقيقة الشرعية - سواء قيل: إنها مجازات، أم قيل: إنها مصاديق للمعاني اللغوية - «جريانه»: أي: الخلاف.

نعم لو قلنا: إنها حقائق كانت قبل الإسلام والعرب قد استعملوا هذه الألفاظ فيها، فحينئذٍ يجري النزاع أيضاً، لكن المصنف لم يذكر هذه الصورة.

ص: 86


1- سورة الأنعام، الآية: 72.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره[1]: إن النزاع وقع على هذا[2] في أن الأصل[3] في هذه الألفاظ المستعملة مجازاً في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداءً وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل عليه[4] كلامه مع القرينة

-------------------------

[1] هذا بناء على القول الثاني - وهو أنها مجازات في معانيها الشرعية - «تصويره» أي: تصوير الخلاف.

وحاصل التصوير: هو أن يقال بسبك مجاز من مجاز، ثمّ يُتسائل بأن أيَّ المجازين هو الأول؟

بيانه: إنه قد يستعمل اللفظ في غير معناه الحقيقي لوجود علقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ثم يستعمل اللفظ في معنى مجازي آخر لوجود علقة بين المعنى المجازي الأول والمعنى المجازي الثاني، مثلاً: يستعمل الأسد في زيد لعلاقة الشجاعة، ثم يستعمل الأسد في عمرو لشباهة عمرو بزيد، فهذا هو سبك مجاز من مجاز.

فهنا يقال: هل المجاز الأول - الذي روعيت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي - هو الصحيح، ثم سبك منه مجاز ثانٍ، وهو الأعم، أم بالعكس؟

ثم إنه في سبك مجاز من مجاز توجد قرينة نوعية - وهي العلاقة الأصلية - تدلّ على أن المراد هو المجاز الأول، وللحمل على المجاز الثاني لابد من وجود قرينة شخصية - أي قرينة ثانية - فكلّما علمنا بأن المعنى الحقيقي ليس بمراد لابد من الحمل على المعنى المجازي الأول، إلاّ إذا قامت قرينة أخرى على أن المراد المعنى المجازي الثاني.

[2] أي: هذا القول، وهو عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

[3] أي: المجاز الأول، الذي لوحظت علاقته بالمعنى الحقيقي.

[4] لأنه - كما ذكرنا - مع عدم إرادة المعنى الحقيقي توجد قرينة نوعية على أن المراد هو المجاز الأول، وتلك القرينة النوعية هي العلقة بين المعنى المجازي الأول وبين المعنى الحقيقي، «ينزل عليه» أي: على الأول - الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين

ص: 87

الصارفة[1] عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى معيّنةٍ للآخر.

وأنت خبير[2] بأنه لا يكاد يصح هذا[3] إلاّ إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء[4] الشارع في محاوراته استقر - عند عدم نصب قرينة أخرى - على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنّى لهم بإثبات ذلك.

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نُسب إلى الباقلاني[5]، وذلك بأن يكون

-------------------------

المعنى اللغوي ابتداءً - «كلامه» كلام الشارع.

[1] أي: وجود قرينة على المجاز، «قرينة أخرى» هي القرينة الشخصية الثانية، المعيّنة للمجاز الثاني.

[2] هذا إشكال على هذا التصوير، وحاصله: إن التصوير المذكور ممكن في مرحلة الواقع - وعالم الثبوت - ولكن لا طريق إلى إثباته؛ إذ نحتاج إلى أمرين:

1- إثبات أن بناء الشارع على ملاحظة العلاقة بين المعنى اللغوي وبين أحدهما - الصحيح أو الأعم - ولكن لا طريق لنا لإثبات بنائه، وأنه لاحظ العلاقة بين المعنى اللغوي وبين الصحيح، أو بين المعنى اللغوي وبين الأعم.

2- إثبات أنه لو أراد المعنى المجازي الأول اكتفى بالقرينة الأولى، وأنه لو أراد المعنى الثاني جاء بقرينة ثانية، وأيضاً لا طريق لإثبات هذا البناء.

[3] هذا التصوير، «كذلك» أي: بين المعنى اللغوي وبين خصوص أحدهما - الصحيح أو الأعم - وهذا هو الأمر الأول.

[4] هذا هو الأمر الثاني، «إرادته» أي: المجاز الأول، «هذا» أي: عدم نصب قرينة ثانية، «عليه» على المجاز الأول.

[5] وهذا هو القول الثالث، فقد نُسب إلى الباقلاني أنه قال: إنّ الشارع استعمل ألفاظ العبادات في نفس المعاني اللغوية، وإن المعاني الشرعية هي مصاديق للمعاني اللغوية.

ص: 88

النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة[1] التي لا يتعدى عنها إلاّ بالأخرى الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الأجزاء والشرائط أو هما في الجملة، فلا تغفل.

ومنها: إن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد، وهو التمامية[2]. وتفسيرها بإسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين -

-------------------------

فالصلاة في لسان الشارع استعملت بمعنى الدعاء، ولكن دعاء بكيفية مخصوصة، والأجزاء والشرائط هي مشخصات فردية.

وأما كيفية تصوير النزاع على هذا القول الثالث فهو أن يقال: إن القرينة الدالة على أن المراد من الصلاة - مثلاً - هو المصداق الجامع لجميع الأجزاء والشرائط - وهو الصحيح - أو المصداق الذي فيه الأجزاء والشرائط في الجملة - وهو الأعم - .

وهذه القرينة ليست قرينة المجاز، بل هي القرينة المعيّنة للمعنى الحقيقي في أحد مصاديقه، كقولنا: (جاء رجل كريم)، حيث إن (كريم) عيّنت الرجل في (زيد) مثلاً، وهو مصداق حقيقي للرجل.

[1] وهي القرينة النوعية التي توجد في كلام الشارع - عادة - ، «إلاّ بالأخرى» أي: إلاّ إذا كانت قرينة شخصية تمنع عن التمسك بالقرينة النوعية.

المقدمة الثانية: في معنى الصحة والفساد

[2] أي: جامع للأجزاء والشرائط، فاقد للموانع والقواطع، فكل عبادة كانت كذلك كانت صحيحة، وإلاّ كانت فاسدة. وهذا معنى الصحة.

وللصحة لوازم، منها: عدم لزوم الإعادة والقضاء، فإن العبادة الجامعة للشرائط والأجزاء الفاقدة للقواطع والموانع تكونُ محقِّقة لغرض المولى، وبتحقق الغرض يسقط الأمر، ولا أمر جديد بإعادة أو قضاء.

ومن اللوازم: إن العبادة الصحيحة توافق الشرع، وما وافق الشرع استحق عليه الثواب.

ص: 89

أو غير ذلك[1] إنما هو بالمهمّ من لوازمها، لوضوح اختلافه[2] بحسب اختلاف الأنظار. وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها[3] بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

ومنه[4] ينقدح: أن الصحة والفساد أمران

-------------------------

ومن ذلك يتضح: أن تفسير الفقهاء(1)

للصحة بأنها ما أسقط القضاء، وتفسير المتكلمين بأنها ما وافق الشرع(2)،

إنما هو تفسير باللازم، لا أن هناك اختلافاً في معنى الصحة.

وكل من الفقهاء والمتكلمين فسّر الصحة بلازمها الذي يهمّه، فالمهم عند الفقيه هو فعل المكلف من القضاء وعدمه، والمهم عند المتكلم الثواب والعقاب؛ لأن علم الكلام هو ما يرتبط بالله وأفعاله، والثواب مترتب على موافقة الشرع، والعقاب على مخالفته. وبعبارة أخرى: صحة الصلاة لازمها موافقة الشرع، ولازم الموافقة هو ترتب الثواب.

[1] كتفسير الصحة ب(ترتب الأثر)، كترتب (النهي عن الفحشاء) على الصلاة الصحيحة - مثلاً - أو ترتب بطلان الجمعة الثانية في ما لو اُقيمت صلاة جمعة صحيحة في أقل من فرسخ.

[2] أي: اختلاف المهم من اللوازم، «وهذا» أي: اختلاف الأثر المهم في كل علم.

[3] «لا يوجبه» أي: تعدد المعنى، «اختلافها» أي: الصحة؛ إذ هذا الاختلاف إنما هو تعدُّدٌ في المصاديق، وليس اختلافاً في المفهوم - كي يتعدد المعنى - فصلاة المسافر تختلف عن صلاة الحاضر في عدد الركعات، ولكن مفهوم الصلاة واحد، وإنّما الاختلاف في الفرد - أي: المصداق - .

[4] أي: من اختلاف الصحة بحسب اختلاف الحالات يتضح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فقد يكون الفعل صحيحاً في حالة، فاسداً في حالة أخرى، مثلاً:

ص: 90


1- قوانين الأصول 1: 158.
2- تقريرات المجدد الشيرازي 3: 73.

إضافيان[1]، فيختلف شيء واحد صحةً وفساداً بحسب الحالات، فيكون تاماً بحسب حالةٍ، وفاسداً بحسب أخرى، فتدبر جيداً.

ومنها: إنه لابد[2] على كلا القولين من قدر جامع[3] في البين كان هو المسمى بلفظ كذا[4].

ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة[5]، وإمكان[6] الإشارة إليه بخواصه

-------------------------

صلاة الظهر بركعتين صحيحة للمسافر، فاسدة على الحاضر.

[1] لأن الماهية - في المركبات المخترعة - قد تحصل بفعلٍ في حالة، ولا تتحقق بنفس الفعل في حالة أخرى.

المقدمة الثالثة: في الجامع بين الأفراد

اشارة

[2] إن للصلاة - مثلاً - أفراداً كثيرة جداً، فإن لم يكن جامع بين تلك الأفراد - بحيث تكون الأفراد مصاديق لذلك الجامع - لزم كثرة الوضع بحيث يكون لكل فرد وضع، فتكون الصلاة مشتركاً لفظياً بين تلك الأفراد، وهذا بديهي البطلان، فلابد من وجود قدر جامع، وقد وضع لفظ الصلاة لذلك الجامع، وتكون أفراد الصلاة من مصاديق ذلك الجامع.

والأثر يدل على وجود الجامع، لأنا نجد أن لجميع أفراد الصلاة الصحيحة أثراً - كالنهي عن الفحشاء والمنكر - ووحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر.

[3] المراد من «القدر الجامع» هو الماهية التي تكون كلياً طبيعياً، ولها اتحاد في الخارج مع الأفراد - وسيأتي تفصيله بعد قليل - .

[4] مثلاً: الصلاة، الزكاة، الصوم... الخ.

الجامع على الصحيح
اشارة

[5] لأن لها الآثار، ووحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر.

[6] أي: ليس من الضروري أن نعرف ذلك الجامع بالتفصيل - بجنسه وفصله -إذ

ص: 91

وآثاره، فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامعٍ واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع[1]، فيصح[2] تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلاً: (بالناهية عن الفحشاء) و(ما هو معراج المؤمن) ونحوهما.

والإشكال(1)

فيه[3]: «بأن الجامع لا يكاد يكون أمراً مركباً، إذ كل ما فرض

-------------------------

حقائق أكثر الأشياء مجهولة عندنا، بل يكفي علمنا بأصل وجوده، وذلك عن طريق آثاره.

[1] «فيه» في الأثر؛ وذلك لقاعدة (الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد)، وإلاّ لصدر كل شيء من كل شيء.

ولا يخفى التأمل في هذه القاعدة؛ وذلك لأنهم فرضوا لزوم السنخية بين العلة والمعلول، وهذا لا يتم على مبنى التوافي، ولا مبنى الإعداد، بل حتى على مبنى التوليد؛ إذ العليّة ليست ذاتية للعلة، بل هي بالجعل، وقد ذكرنا بعض التفصيل في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

[2] أي: بعد علمنا بوجود الجامع لا يلزم معرفتنا التفصيليّة به، بل يكفي الإشارة إليه عبر الإشارة إلى آثاره.

إشكال الشيخ الأعظم

[3] أشكل الشيخ الأعظم على وجود الجامع، بأن الجامع لا يخلو من أحد أمرين:

1- أن يكون مركباً، وهذا غير ممكن؛ لأن كل مركب يمكن فرضه صحيحاً في حالة، فاسداً في حالة أخرى: مثلاً: الصلاة الكاملة من كل الأجزاء والشرائط تكون صحيحة للمختار ولكنها باطلة للمضطر.

2- أن يكون بسيطاً - مفهوماً - والجامع البسيط لا يخلو من أحد أمرين:

ص: 92


1- مطارح الأنظار 1: 46-49.
2- شرح أصول الكافي 2: 543.

-------------------------

الأول: أن يكون ذلك الجامع البسيط هو: (المطلوب).

وفيه: أولاً: استلزامه الدور؛ لأن معنى (الصلاة واجبة) هو: (المطلوب واجب)، فالموضوع هو (المطلوب)، والحكم (واجب)، ولا يكون الشيء مطلوباً إلاّ إذا كان مأموراً به، فقد اُخذ الوجوب في (المطلوب)، ومعنى ذلك تقدم (الوجوب) على (المطلوب)؛ إذ أجزاء الموضوع متقدمة على الموضوع.

فتحصّل أن (الوجوب) يكون متأخراً عن (المطلوب)؛ لأن الوجوب هو الحكم، ويكون متقدماً لأنه من أجزاء الموضوع.

وثانياً: استلزامه الترادف بين (الصلاة) وبين (المطلوب)، وهذا واضح البطلان.

وثالثاً: إن كون الصلاة هي العنوان البسيط - وهو المطلوب - يستلزم أن تكون الأجزاء والشرائط مقدمات لتحقق هذا العنوان، فالواجب هو ذلك العنوان، والأفعال مقدمات له، ومعنى ذلك أنه لو شككنا في جزء أو شرط فلا نتمكن من إجراء أصالة البراءة، بل يجب الاحتياط، وهذا خلاف مبنى المشهور.

بيانه: إن الواجب إن كان أمراً مركباً، فكلّما شككنا في وجوب جزء أو شرط أجرينا أصالة البراءة؛ لأن الشك يكون في أصل التكليف، فنشك في أن الشارع هل أوجب هذا الجزء - مثلاً - أم لا؟ فنقول: الأصل عدم الوجوب، وأما إذا كان الواجب أمراً معلوماً، وشككنا في ما يتحقق به الواجب، فإن الشك يكون في المكلَّف به - أي: في المحصِّل للواجب - وهنا يكون مجرى أصالة الاحتياط؛ إذ لا شك في التكليف، حيث نعلم بتعلقه بذمتنا، ولكن نشك في خروجنا عن عهدة هذا التكليف المعلوم فلابد من الاحتياط؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

وفي الصلاة - مثلاً - إن قلنا: إنّ الواجب هو المركب من الأجزاء والشرائط فإنه يمكن إجراء البراءة في كل جزء أو شرط مشكوك، ولكن لو كانت الصلاة هي العنوان البسيط، وكانت الأجزاء مقدمة للوصول إلى ذلك العنوان، فكلما شككنا

ص: 93

جامعاً يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً، لما عرفت[1]. ولا أمراً بسيطاً، لأنه لا يخلو إما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساوياً له[2]، والأول[3] غير معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب[4] في متعلقه؛

-------------------------

في جزء فإنّا نشك في تحقق ذلك العنوان لو لم نأت بذلك الجزء وكذا في الشرط، فلابد من إجراء الاحتياط.

لكن المشهور يُجرون البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح، فلا يمكن أن يقولوا: إنّ الجامع هو ذلك الأمر البسيط.

الثاني: أن يكون الجامع البسيط هو عنوان ملازم للمطلوب، مثل: (المحبوب) أو (ذي المصلحة) ونحوهما.

ويرد عليه الإشكال الثالث، بل إشكال الترادف أيضاً.

هذا حاصل إشكال الشيخ الأعظم، ولذا التزم بأن الألفاظ موضوعة لتمام الأجزاء والشرائط في حق القادر المختار العامد العالم، فتكون الصلاة الواقعة من غيره بدلاً مسقطاً للواقع، وليست بصلاة، ويكون استعمال لفظ الصلاة فيها مجازاً - كذا في الحقائق(1) عن التقريرات - .

[1] من أن الصحة والفساد أمران إضافيان.

[2] كعنوان المحبوب، حيث يكون المحبوب ملزوماً، والمطلوب لازماً، وهما لا ينفكان خارجاً، فلذا كانا متساويين، كنور الشمس، حيث إن النور لازم، والشمس ملزوم.

[3] أي: عنوان المطلوب، «لبداهة» هذا الإشكال الأول، وهو الدور.

[4] أي: الحكم، فما يكون الحكم سبباً له يكون متأخراً عن الحكم، فلا يمكن أخذه في الموضوع؛ لأن الموضوع متقدم على الحكم، «في متعلقه» أي: في موضوع الطلب، و(في) تتعلق بقوله: (أخذ).

ص: 94


1- حقائق الأصول 1: 56.

مع[1] لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب؛ وعدم[2] جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حينئذٍ[3] في المأمور به فيها، وإنما الإجمال في ما يتحقق به[4]، وفي مثله لا مجال لها[5] - كما حقق في محله -، مع أن المشهور القائلين بالصحيح، قائلون بها في الشك فيها[6]. وبهذا[7] يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً».

مدفوع[8]:

-------------------------

[1] هذا هو الإشكال الثاني.

[2] هذا هو الإشكال الثالث.

[3] أي: حين كون المأمور به هو عنوان (المطلوب)، فهو واضح لا شك فيه، والبراءة إنما تجري في ما لو شك في التكليف، «فيها» في العبادات.

[4] أي: في المحصِّل للتكليف، وهنا مجرى الاحتياط، مثلاً: لو أمر المولى بإكرام زيد، ثم شككنا في أن زيداً هل هو الرجل الأول أم الثاني؟ فلابد من إكرامهما حتى نتيقن من براءة الذمة من التكليف المعلوم.

[5] «مثله» أي: في ما إذا كان الإجمال في (المكلّف به) مع العلم بأصل التكليف، «لها» للبراءة.

[6] قائلون بالبراءة في أجزاء العبادات وشرائطها.

[7] أي: بهذا الإشكال الثالث، يستشكل أيضاً في ما لو كان الجامع البسيط هو عنوان آخر غير المطلوب، بل كان ملزوماً للمطلوب.

الجواب عن الإشكال

[8] حاصل جواب المصنف: إن الجامع هو كلي طبيعي - له مفهوم بسيط - وهذا الكلي الطبيعي متحد مع الأجزاء والشرائط خارجاً، بمعنى كونه منتزعاً عنها، كما أن الإنسان له مفهوم بسيط وهو كلي طبيعي، وهو متحد مع الأفراد في الخارج.

ص: 95

بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد[1] منتزع[2] عن هذه المركبات المختلفة - زيادةً ونقيصةً، بحسب اختلاف الحالات - متحد معها نحو اتحادٍ[3]، وفي مثله تجري البراءة[4]، وإنما لا تجري في ما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً[5] مسبباً عن مركبٍ مرددٍ بين الأقل والأكثر، كالطهارة[6] المسببة عن الغسل والوضوء في ما إذا

-------------------------

وفي طلب الكلي الطبيعي يكون الطلب متعلقاً بالأفراد - واقعاً - وفي مثله تجري البراءة من كل جزء أو شرط مشكوك.

مثلاً: الإنسان متحد مع الأفراد خارجاً، فلو قال المولى: أكرم الإنسان، وشككنا في أن مراده هل يشمل قطيع اليد؟ فإنا نجري البراءة عن اشتراط اليد؛ لأن الطلب في الحقيقة تعلق بالكلي المتحد مع الأفراد الخارجية.

[1] أي: مفهوم بسيط، وستأتي الإشارة إلى أن المراد من (البسيط مفهوماً) هو ما يكون له معنى واحد، ولا يكون المعنى شيئين، حتى وإن كان مركباً خارجياً، أو مركباً ذهنياً من الجنس والفصل، فالشجرة - مثلاً - مفهومها بسيط، مع أنها مركبة خارجاً من الأغصان والأوراق وغيرهما، ولها ماهية مركبة من الجنس والفصل؛ ولذا ف(زيد) بسيط مفهوماً و(غلام زيد) مركب مفهوماً.

[2] أي: كلي طبيعي متحد مع الأفراد، وذلك بانتزاعه عنها.

[3] أي: بإحدى كيفيّات الاتحاد وهي اتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده.

[4] لأن التكليف في الواقع تعلق بالأفراد.

[5] أي: له وجود خارجي بسيط.

[6] وقد اختلف فيها: فقيل(1):

إن الطهارة هي نفس الغسلات والمسحات - في الوضوء - وقيل(2):

إنها النور الباطني الذي يحصل بسبب هذه الغسلات والمسحات، وهذا النور أمر بسيط وجوداً.

ص: 96


1- شرح العروة الوثقى 9: 40.
2- مصباح الهدى 7: 305.

شك في أجزائهما. هذا[1] على الصحيح.

وأما على الأعم، فتصوير الجامع في غاية الإشكال[2]، فما قيل في تصويره أو يقال وجوه:

أحدها[3]: أن يكون عبارةً عن جملةٍ[4] من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة

-------------------------

فعلى القول الأول تجري البراءة عن الأجزاء أو الشرائط المشكوكة، وعلى الثاني يجب الاحتياط، لأنه شك في المكلّف به.

[1] أي: تصور الجامع - المذكور - .

الجامع على الأعم
اشارة

[2] إذ الفاسد لا أثر له، فلا يمكن اكتشاف الجامع بين الصحيح والفاسد عن طريق الأثر، مضافاً إلى الإشكال في كل جامع ذكروه.

الوجه الأول

[3] أي: أحد الوجوه، ما عن المحقق القمي(1)،

من أن الجامع هو بعض الأجزاء - كالأركان - .

وفيه: أولاً: إنه قد يُسمّى الفاقد لبعض الأركان صلاة، بل قد يقع صحيحاً، حتى مع فقدان كل الأركان كصلاة الغريق، حيث هي صلاة صحيحة مع فقدانها للأركان.

وقد لا يُسمّى الواجد للأركان صلاة، فمن نوى وكبر وركع وسجد فقط ثم قام وذهب، لا يسمى عمله صلاة أصلاً.

وثانياً: إذا كانت الأركان فقط هي المسماة بالصلاة فلا يصح إطلاق اسم الصلاة على الأركان الذي انضم إليها سائر الأجزاء إلاّ مجازاً - من باب إطلاق اسم الجزء على الكل - مثلاً: الرقبة اسم للعضو المعلوم، فلو أطلقت على الإنسان كان مجازاً.

[4] أي: بعض الأجزاء.

ص: 97


1- مطارح الأنظار 1: 51.

- مثلاً - وكان الزائد عليها معتبراً في المأمور به، لا في المُسمّى[1].

وفيه: ما لا يخفى، فإن التسمية[2] بها حقيقةً لا تدور مدارها، ضرورةَ صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّي[3]؛ مع أنه[4] يلزم أن يكون الاستعمال في ما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه[5] مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء[6] في الكل، لا[7] من باب إطلاق الكلي على الفرد والجزئي - كما هو

-------------------------

[1] أي: الاسم للأركان فقط، أما انضمام سائر الأجزاء فهو شرط في المأمور به الواجب، مثلاً: الرقبة اسم للعضو المخصوص، والمأمور به في قول المولى: (أعتق رقبة) هي ذلك العضو منضماً إلى أعضاء أخرى، والذي يكون مصداقاً للإنسان.

[2] هذا هو الإشكال الأول، «بها» بالصلاة، «مدارها» مدار الأركان.

[3] «عند» متعلق ب(الصدق وعدم الصدق).

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، «أنه» للشأن.

[5] أي: بجميع الأجزاء والشرائط المأمور بها، «عنده» عند الأعميّ.

[6] «للجزء» الأركان، «للكل» الأركان مع سائر الأجزاء.

[7] هذا دفع لإشكال وحاصله:

إن قلت: لفظ الصلاة موضوع للأركان فقط، وسائر الأجزاء والشرائط هي مشخصات فردية، كالكلي الطبيعي الذي يكون موضوعاً للماهية، وأما سائر الأجزاء فهي مشخصات.

قلت: إذا كان لفظ الصلاة موضوعاً للأركان فاستعماله في الصلاة الجامعة للأركان وسائر الأجزاء استعمالٌ في غير ما وضع له؛ لأنه من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل.

وبعبارة أخرى: المركب من (الأركان) يباين المركب من (الأركان والأجزاء الأخرى)، فالأركان لها وجود خاص، والأركان مع الأجزاء الباقية لها وجود

ص: 98

واضح[1]، - ولا يلتزم به[2] القائل بالأعم، فافهم[3].

ثانيها[4]:أن تكون موضوعةً(1)

لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية

-------------------------

آخر، فهما متباينان؛ إذ لا يعقل أن يكون وجودٌ خارجي مصداقاً لوجود خارجي آخر، فلابد من القول: إنه استعمال لفظ الجزء وإرادة الكل، كالرقبة التي هي مباينة لسائر الاجزاء، وقد صح استعمالها فيها - مجازاً - .

[1] لما ذكرنا من تباين الوجودات الخارجية.

[2] بالمجاز - بعلاقة الجزء والكل - .

[3] لعلّه إشارة إلى أن أسماء العبادات - كالصلاة - إذا اُخذت (لا بشرط) عن الأجزاء لم يكن إطلاق لفظ الصلاة على (الأركان مع الأجزاء) مجازاً. نعم، لو اُخذت الأركان (بشرط لا) فإطلاقها على (الأركان مع الأجزاء) مجاز.

الوجه الثاني

[4] أي: ثاني الوجوه - التي ذكروها للجامع الأعميّ - هو: إن الجامع هو معظم الأجزاء بحيث يصدق عليها الصلاة - مثلاً - فلو فرضنا أن أجزاء الصلاة خمسة عشرة، فالمعظم هو عشرة - مثلاً - .

وفيه: أولاً: ما مرّ من الإشكال في الوجه الأول، من أن ذلك يستلزم المجاز في الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط.

وثانياً: يلزم الاختلاف في الماهية؛ إذ قد يكون جزء داخلاً في المعظم تارة، وخارجاً عنه تارة أخرى، مثلاً: لو صلى وقرأ الحمد فيكون الحمد داخلاً في الماهية، ولو صلى ولم يقرأ الحمد يكون الحمد خارجاً عن الماهية.

وهذا أمر غير معقول؛ إذ أجزاء الماهية الواحدة معلومة منحصرة، فلا يمكن أن يكون شيء داخلاً في الماهية تارة وخارجاً عنها أخرى.

وثالثاً: يلزم الترديد في الماهية - في مرحلة الثبوت - وذلك في ما لو أتى بالصلاة مع

ص: 99


1- مطارح الأنظار 1: 54.

عرفاً[1]، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه[2].

وفيه: - مضافاً[3] إلى ما أورد على الأول أخيراً -: إنه عليه[4] يتبادل ما هو المعتبر في المسمى، فكان شيء واحد داخلاً فيه تارةً، وخارجاً عنه أخرى، بل[5] مردداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيما[6] إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

ثالثها[7]:

-------------------------

جميع الأجزاء والشرائط، وحينئذٍ فكل جزء يمكن أن يكون من المعظم أو خارجاً عنه. والترديد في الماهية - ثبوتاً - غير معقول.

ورابعاً: إن الصلاة - مثلاً - لا يمكن ضبط (المعظم) فيها؛ لأن لها مصاديق تختلف من حيث الأجزاء في كل شيء، فمن صلاة الظهر للمقيم المختار إلى صلاة الغريق، وبينهما مراتب، كصلاة الوتر وصلاة المضطر، وصلاة تتضمن جميع المستحبات... الخ.

[1] فمعظم الأجزاء بشرط صدق اسم الصلاة - مثلاً عليها - «كذلك»، أي: عرفاً.

[2] «صدقه» أي: الاسم، «عدمه» عدم المسمى.

[3] هذا الإشكال الأول.

[4] هذا الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على كون (المعظم) هو الجامع، «فيه» في المسمى.

[5] هذا الإشكال الثالث، أي: بل يكون الشيء الواحد مردداً... الخ.

[6] إشارة إلى الإشكال الرابع، وهو عدم انضباط المعظم في مثل الصلاة، «هذا» أي: التبادل أو الترديد.

الوجه الثالث

[7] هذا الوجه هو محاولة القياس بين الجامع على الأعم وبين الأعلام الشخصيّة، وحاصله: إن الأعلام وضعت لوجود خاص، واختلاف حالاته لا

ص: 100

أن يكون وضعها[1] كوضع الأعلام الشخصية[2]، ك(زيد)، فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته، كذلك فيها[3].

وفيه: إن الأعلام إنّما تكون موضوعة للأشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص[4]، ويكون الشخص حقيقةً باقياً ما دام وجوده باقياً وإن تغيرت

-------------------------

ترتبط بأصل وجوده، بل ترتبط بالعوارض اللاحقة بالوجود مما هي خارج عن ذات الشيء، مثلاً: حينما يولد طفل فيسمّى زيداً، فإن اسم زيد إنّما هو لحصة خاصة من الوجود، وأما الحالات التي تعرض هذه الحصة - كالصغر والكبر، أو العلم والجهل، أو الصحة والمرض، أو سلامة الأعضاء ونقصانها... الخ - فكلّها خارجة عن ذات (زيد) وإنّما هي من العوارض، كذلك في العبادات لا يضرّ بالتسمية تبادل الحالات أو الأجزاء أو الشروط، ولا زيادتها أو نقصانها، فيطلق الاسم على العبادات بكل تلك الحالات.

وفيه: إنه قياس مع الفارق؛ فإن الأعلام الشخصية وضعت لوجود جزئي، والتشخّص عارض على الوجود - فإن الشيء ما لم يوجد لم يتشخص - وأما العبادات فهي أمور كليّة قابلة للانطباق على مصاديق كثيرة، فلابد من وجود جامع يجمع كل تلك الأفراد كي يكون انطباق الاسم عليها على نحو الحقيقة، فتأمّل.

[1] أي: وضع ألفاظ العبادات.

[2] حيث إنها وضعت لحصة من الوجود، وأما التشخصات فهي خارجة عن حقيقة الأعلام.

[3] أي: كذلك لا يضر الزيادة والنقصان وتبادل الحالات، «فيها» أي: في ألفاظ العبادات.

[4] أي: هذه الحصة من الوجود كان لها حدود، وتلك الحدود سبّبت التشخص؛

ص: 101

عوارضه من الزيادة والنقصان وغيرهما من الحالات والكيفيات[1]، فكما لا يضر[2] اختلافها في التشخص لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات[3] مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات[4]، ولا يكاد يكون موضوعاً له[5] إلاّ ما كان جامعاً لشتاتها وحاوياً لمتفرقاتها[6]، كما عرفت في الصحيح منها.

رابعها[7]: إن ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحيح التام الواجد لتمام

-------------------------

ولذا قالوا: (الشيء ما لم يوجد لم يتشخص)(1)، وقد أشكلوا في قول البعض: (ما لم يتشخص لم يوجد)، وذلك لأن التشخص عارض على الوجود، لا العكس، فتأمل.

[1] عطف تفسيري، أو (الحالات) هي عوارض الجسد كالمرض والصحة، و(الكيفيات) هي عوارض النفس كالعلم والجهل.

[2] عدم الضرر بسبب أن الحصة الخاصة من الوجود لم تتبدل، بل تبدلت العوارض، والحاصل أن اختلاف العوارض لا يتسبب في تبدل الوجود، كذلك لا يتسبب في تغيّر الاسم واختلافه.

[3] لأنها موضوعة للكلي، لا للوجود الجزئي الخاص.

[4] التركيب من حيث الأجزاء، والتقييد من حيث الشروط وعدم الموانع.

[5] أي: للمركب والمقيّد.

[6] وذلك الجامع هو كلي، فيبقى السؤال بحاله: ما هو ذلك الجامع - على الأعم - ؟

الوجه الرابع

[7] هذا الوجه هو قياس الجامع الأعمّي على المعاجين المركبة.

وحاصله: إن لفظ العبادات وضع ابتداءً للصحيح الجامع لجميع الأجزاء والشرائط الخالي عن جميع الموانع والقواطع، ثم العرف يتسامحون فيطلقون تلك

ص: 102


1- هداية المسترشدين 2: 692.

الأجزاء والشرائط، إلاّ أن العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلاً له منزلة الواجد، فلا يكون مجازاً في الكلمة[1] - على ما ذهب إليه السكاكي(1)

في الاستعارة[2] -

-------------------------

الألفاظ على الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط، أو الواجد لبعض الموانع أو القواطع.

ويمكن أن يصوّر ذلك التسامح على أحد نحوين:

الأول: إنهم يفترضون الفاقد من مصاديق الواجد، على نحو الحقيقة الادعائية - كما هو مذهب السكاكي - فلا يكون استعمال اللفظ في الفاقد مجازاً.

الثاني: إنهم يستعملون لفظ العبادة في الفاقد مجازاً - ابتداءً - ولكن بعد الاستعمال لدفعات محدودة صار اللفظ حقيقة في الفاقد أيضاً على نحو الوضع التعيّني.

وهذا النوع من الوضع التعيّني لا يحتاج إلى كثرة الاستعمال، بل يكفي الاستعمال مرات متعددة؛ وذلك بسبب المشابهة في الصورة - في المصداق الفاسد - أو المشاركة في الأثر - في الفرد الصحيح - .

ونظير ذلك المعاجين المركبة من عدة مواد، وُضِع اسمها ابتداءً على الواجد لجميع الأجزاء، ثم استعمل في الفاقد لبعض تلك الأجزاء إما بنحو الحقيقة الادعائية أو بنحو الوضع التعيّني، لمشابهة المعجون الناقص للمعجون الكامل في الشكل أو في الأثر.

[1] لأن تنزيل الفاقد منزلة الواجد إنّما هو بمعنى اعتبارهم الفاقد مصداقاً من مصاديق الكلي - الموضوع للواجد - .

[2] قد مرّ في بحث علائم الحقيقة والمجاز تفصيل كلام السكاكي، وقد مرّ أن (الاستعارة) هي تشبيه شيء بشيء، ثم ذكر (المشبّه به) مع عدم ذكر (المشبَّه)، مثل: (رأيت أسداً يخطب).

ص: 103


1- مفتاح العلوم: 156.

بل يمكن[1] دعوى صيرورته حقيقةً فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعةً أو دفعات، من دون حاجةٍ إلى الكثرة والشهرة[2]، للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداءً لخصوص مركبات واجدة لأجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورةً، والمشارك في المهم أثراً، تنزيلاً أو حقيقةً[3].

وفيه[4]: إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها[5] ابتداءً مركباً خاصاً، ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت

-------------------------

[1] هذا النحو الثاني، وهو على مذهب المشهور القائلين بالمجاز في الكلمة. «صيرورته» أي: لفظ العبادة، «حقيقة»، بالوضع التعيّني، «فيه» أي: في الفاقد، «كذلك» أي: بنحو الاستعارة - وتنزيل الفاقد منزلة الواجد - .

[2] على عكس غالب الأوضاع التعيّنيّة، وإنّما لم يحتج إلى الكثرة أو الشهرة بسبب أحد أمرين:

1- المشابهة في الصورة - وهذا في الفاسد غالباً - .

2- المشاركة في الأثر، كالنهي عن الفحشاء في الصلاة - وهذا في الصحيح - .

[3] التنزيل على مذهب السكاكي، والحقيقة على مذهب المشهور.

[4] حاصل الجواب: إن المعاجين وضعت ابتداءً لشيء معلوم الأجزاء ثم استعمل الاسم في الفاقد مسامحة، ولكن في العبادات - كالصلاة - لم يكن الوضع لشيء معلوم الأجزاء والشرائط، بل هناك اختلاف كبير في عامة الأجزاء والشرائط في الصلوات، فصلاة الظهر للمختار المقيم صلاة، وصلاة الغريق أيضاً صلاة، وبينهما صور كثيرة، بل قد تكون كيفية واحدة صحيحة في حالة، فاسدة في حالة أخرى.

[5] «الموضوع له» أي: المعنى الذي وضع اللفظ له، «فيها» في المعاجين.

ص: 104

أن الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالةٍ فاسداً بحسب حالةٍ أخرى، كما لا يخفى، فتأمل جيداً.

خامسها[1]: أن يكون حالها حال أسامي المقادير

-------------------------

الوجه الخامس

[1] حاصله: القياس بأسامي المقادير والأوزان بأحد تصويرين:

الأول: إنّ الواضع قد لاحظ فيها قدراً معيناً - كثمانية عشرة حمصة - ثم وضع الاسم - كالمثقال - لحدود ذلك المقدار، سواء زاد قليلاً أم نقص أم كان مساوياً.

وفي العبادات لاحظ الشارع أجزاء خاصة ثم وضع الاسم لتلك العبادة، سواء زادت عن تلك الأجزاء أم نقصت أم تساوت.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه، أن الوضع في الوجه الرابع متعدد، فوضع ابتداءً في الواجد لتلك الأجزاء، ثم وضع مرة أخرى في الأقل أو الأكثر، وفي هذا الوجه الوضع واحد، فقد وضعه للأعم من الزائد والناقص.

الثاني: إن الوضع كان خاصاً بالواجد للأجزاء، ثم بكثرة الاستعمال المجازي صار الأقل والأكثر حقيقة بالوضع التعيني.

وفرقه عن الوجه السابق أن ذاك كان الوضع التعيّني فيه بسبب الأنس من غير احتياج إلى كثرة الاستعمال، وفي هذا الوجه الوضع التعيني بكثرة الاستعمال.

وفيه: أولاً: ما مرّ من أن الأوزان والمقادير مضبوطة معينة، ثم يتسامح العرف في الناقص والزائد قليلاً، وليس في العبادات الصحيحة مقدار معيّن من الأجزاء والشرائط حتى يُلاحظ الناقص والزائد بالنسبة إليها.

وثانياً: إن هذا يستلزم الوضع الخاص والموضوع له العام، وقد مرّ بطلانه، ولكن المصنف لم يذكر هذا الإشكال لأن قائل هذا الوجه - وهو الميرزا حبيب الله الرشتي(1) على ما قيل - يصحح هذا الوضع.

ص: 105


1- بدائع الأفكار: 139.

والأوزان[1]، مثل المثقال والحقّة والوزنة إلى غير ذلك ممّا لا شبهة[2] في كونها حقيقةً في الزائد والناقص في الجملة[3]، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً إلاّ أنّه لم يضع له بخصوصه، بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو[4] أنّه وإن خصّ به أوّلاً، إلاّ أنّه بالاستعمال كثيراً فيهما - بعناية أنّهما منه - قد صار حقيقةً في الأعمّ ثانياً.

وفيه: إنّ الصحيح[5] - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادةً ونقيصةً، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جيّداً.

منها[6]:

-------------------------

وثالثاً: لا يخفى أنّ استعمال الأوزان في الزائد والناقص إنما هو للمسامحة العرفية، لا لأجل الوضع؛ ولذا لو كان ثمن الشيء غالياً - كالذهب - لا يتسامحون بالزيادة والنقيصة، كما هو واضح.

[1] عطف الخاص على العام؛ لأن المقادير تشمل الأوزان والمساحات والأحجام وغيرها.

[2] بل العكس فإنها لا شبهة في كونها حقيقة في المقدار المعين فقط.

[3] أي: الزيادة والنقيصة المناسبة لذلك المقدار، كالغرام في الكيلو - مثلاً - لا خمسمائة غرام في الكيلو.

[4] إشارة إلى التصوير الثاني، «أنه» الواضع، «خص به» بذلك المقدار الخاص، «فيهما» في الزائد والناقص، «منه» من ذلك المقدار.

[5] في العبادات.

المقدمة الرابعة: ضرورة تصوير الجامع على الأعم

[6] هذه المقدمة هي من تتمة المقدمة السابقة؛ وذلك لأنه قد يقال بعدم ضرورة تصوير الجامع - على الأعم - وذلك لأن ألفاظ العبادات لم توضع للجامع حتى

ص: 106

إنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين[1]. واحتمال كون الموضوع له خاصّاً بعيد جدّاً، لاستلزامه[2] كون استعمالها في الجامع - في مثل: «الصلاة تنهى عن الفحشاء»(1)

و«الصلاة معراج المؤمن»(2)،

و«الصوم جُنّة من النار»(3)

- مجازاً، أو منع[3] استعمالها فيه في مثلها، وكلّ منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على اُولي النهاية.

-------------------------

نحتاج إلى تصويره، بل وضعت للأفراد، فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً.

وفيه: إن القول: إنّ (الموضوع له خاص) يستلزم أحد محذورين:

الأول: القول بالمجازية في ما لو استعمل لفظ العبادة في الكلي، كقوله: (الصلاة عمود الدين) و(الصوم جنة من النار... الخ)، حيث استعمل اللفظ في خلاف ما وضع له؛ إذ الموضوع له الخاص، وفي هذه الأمثلة استعمل في العام.

الثاني: أن يقال: إنّ اللفظ استعمل في الأفراد فلا مجازية، ولكن هذا يستلزم أن تكون أفراد الصلاة عموداً للدين، فكل صلاة بمفردها عموده، وهذا لا يمكن الالتزام به؛ لأن الظاهر أن الآثار مترتبة على طبيعة الصلاة لا على الأفراد، فتأمل.

[1] فلابد من تصوير الجامع الكلي.

[2] إشارة إلى المحذور الأول.

[3] إشارة إلى المحذور الثاني، «استعمالها» أي: ألفاظ العبادات، «فيه» أي: في الجامع، «مثلها» أي: مثل هذه الموارد، فيقال: إنّ هذه الألفاظ لم تستعمل في الجامع، بل استعملت في الأفراد.

ص: 107


1- إشارة لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ} سورة العنكبوت، الآية: 45.
2- التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.

ومنها:[1]

-------------------------

المقدمة الخامسة: ثمرة بحث الصحيح والأعم

اشارة

[1] ذكر المصنف ثلاثة ثمرات لهذا البحث:

الثمرة الأولى

الثمرة الأولى: إجمال الخطاب على الصحيح، وعدم إجماله على الأعم.

بيانه: إن (الشبهة) قد تكون في المفهوم وقد تكون في المصداق:

أما الأول: فكما لو قال المولى: (أكرم العادل)، وشككنا في أن العدالة هل هي حسن الظاهر، أم أنها ملكة نفسانية؟ فلو كان زيد حسن الظاهر فإنه لا يجوز التمسك بإطلاق (أكرم العادل) لإثبات وجوب إكرامه؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المفهومية، حيث لا نعلم انطباق العادل عليه، فكيف ندخله في قوله (أكرم العادل)؟

وأما الثاني: فكما لو كان مفهوم (العادل) معلوماً واضحاً، وشككنا في أن زيداً عادل أم ليس بعادل، فلا يجوز التمسك بالعام أيضاً؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وفي ما نحن فيه قول المولى: (أقم الصلاة) مطلق، فهل يجوز التمسك بهذا الإطلاق لنفي الأجزاء والشرائط المشكوكة؟

1- لا يمكن ذلك على الصحيح؛ لأن الشك إنما هو في أصل التسمية، فهل الأفعال من دون ذلك الجزء صلاة أم ليست بصلاة؟ فلو أردنا التمسك بإطلاق (أقم الصلاة) كان تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن مفهوم الصلاة معلوم وهو الصلاة الصحيحة، والشك إنما هو في أن هذه الأفعال صلاة أم لا.

2- أما على الأعم، فيمكن التمسك بالإطلاق، لأنه يصح إجراء اسم الصلاة على الأفعال الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط، فحينئذٍ هذا الفعل الفاقد صلاة

ص: 108

أنّ ثمره النزاع إجمال الخطاب[1] على القول الصحيحي وعدم[2] جواز الرجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شك[3] في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أصلاً، لاحتمال[4] دخوله في المسمى كما لا يخفى، وجواز الرجوع إليه في

-------------------------

حتماً، فنتمسك بإطلاق الصلاة لنفي وجوب ذلك الجزء أو الشرط. هذا إذا تحقق الإطلاق اللفظي، بأن تحققت مقدمات الحكمة، ككون المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الخلاف... الخ.

أما إذا لم تتم مقدمات الحكمة، أو رجع الشك في الجزئية أو الشرطية إلى الشبهة المفهومية أو المصداقية، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى على القول بالأعم.

مثلاً: بناءً على الجامع الأول على القول بالأعم - وهو كون الأركان هي الجامع - فلو شككنا في شيء أنه ركن أم ليس بركن، فهنا شك في مفهوم الصلاة، فلا يمكن التمسك بإطلاق (أقم الصلاة) لنفي كونه ركناً؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المفهومية.

وهنا بعد عدم وجود الإطلاق لابد من الرجوع إلى الأصل العملي، وهو البراءة عن الجزء أو الشرط الزائد، أو الاشتغال - على خلاف بين الأصوليين - .

[1] (المجمل) هو الكلام الذي ليس له ظاهر، فلا يمكن الاستدلال به، فيلزم الرجوع إلى الأصل العملي.

[2] هذا نتيجة الإجمال، أي: لما كان الخطاب مجملاً فإنه لا يجوز التمسك بإطلاقه؛ لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية. «إطلاقه» أي: إطلاق الخطاب.

[3] أي: في رفع الشك في الجزئية...، «أصلاً» قيد لقوله: (عدم جواز).

[4] إذ يتوقف اسم العبادة على الواجد لجميع أجزائها وشرائطها، وهذا الجزء المشكوك إن كان من أجزائها واقعاً فالاسم متوقف عليه، وإن لم يكن من أجزائها فلا توقف، إذن توقف اسم العبادة عليه محتمل، وبعد الشك في أن الفعل الفاقد

ص: 109

ذلك[1] على القول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه[2] مما شك في جزئيته أو شرطيته. نعم لابد في الرجوع إليه[3] في ما ذكر من كونه وارداً مورد البيان[4]، كما لابد منه[5] في الرجوع إلى سائر المطلقات؛ وبدونه[6] لا مرجع أيضاً[7] إلاّ البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين[8].

-------------------------

هل يطلق الاسم عليه أم لا، يكون التمسك بالإطلاق تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

[1] «إليه» إلى الإطلاق «ذلك» أي: رفع جزئية أو شرطية المشكوك.

[2] أي: في غير الجزء أو الشرط الذي يحتمل دخول ذلك الجزء أو الشرط في الاسم، كما مثلنا في الشك في ركنية شيء - بناءً على الجامع الأعمي الأول - .

[3] أي: إلى الإطلاق - على الأعم - «في ما ذكر» أي: رفع جزئية أو شرطية المشكوك، «كونه» أي: الخطاب.

[4] أي: تتم مقدمات الحكمة - التي منها كون المتكلم في مقام البيان - وإنما ذكر خصوص هذه المقدمة كمثال، أو أنه خصّها بالذكر لأهميتها.

[5] أي: من كونه وارداً مورد البيان.

[6] أي: بدون البيان، بأن لم تتم مقدمات الحكمة، فلا يمكن التمسك بالإطلاق، ولابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[7] أي: كما لا يكون الإطلاق مرجعاً فكذلك لا مرجع آخر إلاّ الأصول العملية.

[8] الشك في (المكلّف به) على قسمين:

1- الشك بين المتباينين، كما لو شك في أن النجس هل هو الإناء الأول أم الثاني؟ والأصل هنا هو الاحتياط؛ وذلك للعلم الإجمالي.

2- الشك بين الأقل والأكثر، وهو على قسمين:

ص: 110

وقد انقدح بذلك[1]: أن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله[2] على القولين[3]، فلا وجه[4] لجعل الثمرة هو الرجوع إلى

-------------------------

أ: غير الارتباطيين، كالشك بأنه مديون عشرة أم عشرين، وهنا العشرة معلومة، والأكثر مشكوك فيجري فيه أصل البراءة؛ لأنه شك في التكليف الزائد.

ب: الارتباطيين، وذلك في المركب، كالشك في جزئية شيء أو شرطيته في الصلاة، وقد اختلفوا في أن الأصل هو البراءة - كما هو المشهور - أم الاحتياط.

[1] أي بأن شرط التمسك بالإطلاق هو أن يكون في مقام البيان - إضافة إلى سائر مقدمات الحكمة - .

[2] الإجمال: هو تعلق الحكم بالطبيعة مع تشريع التفاصيل، ولكن لا دلالة عليها لقصور في اللفظ، كما لو قال: (إيتني بعين) ولم ينصب قرينة على أن مراده الذهب أم الفضة، أو نصب قرينة لكنها خفيت على السامع.

والإهمال: هو تعلق الحكم بالطبيعة مع عدم تشريع التفاصيل، بل التفاصيل اُرجئت إلى وقت آخر، فالقصور ليس من اللفظ، بل بسبب المصلحة في تأخير البيان.

[3] أي: القول بالصحيح أو القول بالأعم؛ وذلك لأنه بعد إجمال الخطاب لا يوجد أصل لفظي يرجع إليه، فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي.

الثمرة الثانية

[4] هنا ثمرة ثانية ذكرها المحقق القمي(1)،

وهي أن الأصل على الصحيح هو الاشتغال؛ لأن التكليف معلوم - وهو الصحيح - والشك في كيفية إبراء الذمة منه، وفي مثله يجري الاحتياط.

وأما على الأعم، فإن اسم الصلاة يصدق على الفاقد لذلك الجزء، فيحمل

ص: 111


1- قوانين الأصول 1: 43.

البراءة على الأعم والاشتغال على الصحيح، ولذا[1] ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح.

وربما قيل[2]: بظهور الثمرة في النذر أيضاً.

-------------------------

الأمر عليه، أي، يقال: إنه مأمور به.

وفيه: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ بعد سقوط الإطلاق لا نعلم أن الفاقد مأمور به أم ليس مأموراً به، فلا يمكن التمسك بمثل قوله: (أقم الصلاة).

بل مسألة الأقل والأكثر لا ربط لها بمسألة الصحيح والأعم؛ إذ هي مرتبطة بإرجاع الشك في الجزء والشرط إلى الشك في التكليف أو الشك في المكلف به؛ ولذا ذهب المشهور إلى الصحيح، ومع ذلك ذهبوا إلى البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

[1] أي: لأجل عدم ابتناء الأصل العملي في الارتباطيين على مسألة الصحيح والأعم.

الثمرة الثالثة

[2] وقد ذكرها المحقق القمي(1)

أيضاً، وهي أنه لو نذر إعطاء درهم - مثلاً - لمن يصلّي، فعلى الصحيح لابد للوفاء بالنذر من إعطائه لمن صلى صحيحاً، وأما على الأعم فيمكن إعطائه لمن لا نعلم بصحة صلاته.

وفيه: أولاً: إن هذه ثمرة فرعية وليست ثمرة للمسألة الأصولية التي يشترط أن تكون حكماً كلياً.

وثانياً: حتى لو أرجعنا البحث إلى بحث كلي، فإنه لا ينبغي البحث في مسألة مهمة كمسألة الصحيح والأعم ثم جعل الثمرة في النذر.

وثالثاً: النذر تابع لنية الناذر، فلو نذر أن يعطى الدرهم لمن صلاته صحيحة فلا يكفى إعطائه لمن لا يعلم بصحة صلاته، حتى على القول بالأعم، وكذا العكس.

ص: 112


1- قوانين الأصول 1: 43.

قلت: وإن كان تظهر[1] في ما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم في البرء(1) - في ما لو أعطاه لمن صلّى ولو علم بفساد صلاته[2]، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم - على الأعم، وعدم البرء على الصحيح، إلاّ أنه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة[3]، لما عرفت من أن ثمرة[4] المسألة الأصولية هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية، فافهم[5].

وكيف كان[6]، فقد استدل للصحيحي بوجوه:

أحدها: التبادر، ودعوى[7] أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح.

-------------------------

[1] أي: تظهر الثمرة و«إعطاء» مفعول (نذر)، «في البرء» متعلق بقوله: (يظهر).

[2] مع أنه قد نسب إلى المحقق القمي أنه جعل الثمرة: في ما لم يعلم بفساد صلاته أو صحته «لإخلاله» متعلق ب- (فساد).

[3] حيث إن الوفاء بالنذر أو عدم الوفاء به حكم فرعي، والمسألة الأصولية ما كان نتيجتها حكماً كلياً - كما مرّ - .

[4] الأولى حذف (ثمرة) وحذف (نتيجتها)، لأن المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق الاستنباط، وليس ثمرتها أو نتيجتها.

[5] لعله إشارة إلى أن بحث (الصحيح والأعم) ليس بحثاً أصولياً؛ ولذا جعله المصنف في مقدمات علم الأصول، فلا يهم كون نتيجته بحثاً فرعياً!

[6] أي: سواء صحت هذه الثمرات أم لم تصح.

أدلة القول بالصحيح

الدليل الأول: التبادر

[7] عطف تفسيري لبيان التبادر، والتبادر أمر وجداني لا يمكن إقامة البرهان عليه، فمن كان خالي الذهن يجد في نفسه أنه لو سمع كلمة الصلاة - مثلاً - فإنه

ص: 113


1- هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى: «البر» بمعنى الطاعة.

ولا منافاة[1] بين دعوى ذلك[2] وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فإن المنافاة[3] إنما تكون في ما إذا لم يكن معانيها على هذا مبيّنة بوجه، وقد عرفت كونها مبيّنة بغير وجه.

ثانيها: صحة السلب[4] عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه[5]

-------------------------

ينسبق إلى ذهنه الصلاة الصحيحة دون الفاسدة.

[1] دفع لإشكال وحاصله: إن قلت: قد ذكرتم أن الصحيح أمر مجمل، فلا نعرف الجامع بين أفراده - وهو المسمى بالصلاة مثلاً - فكيف تدعون هنا التبادر، مع أنه لابدّ أن يكون المعنى مبيناً واضحاً ليتبادر من اللفظ؟

قلت: يكفي في التبادر كون المعنى مبيناً من جهة، حتى وإن كان مجملاً من جهات أخرى، وهنا العبادات مبيّنة من جهة الآثار، فنعلم أن الصلاة الصحيحة ناهية عن الفحشاء والمنكر - مثلاً - وهذا يكفي للتبادر، فيتبادر من لفظ (الصلاة) العمل الذي له هذا الأثر - وهو الصحيح - .

[2] أي: التبادر، «هذا القول» أي: على القول: إنّ الألفاظ للصحيح «مجملات» لأنا لا نعرف الجامع الذي وضع الاسم له.

[3] إشارة إلى جواب الإشكال، «معانيها» أي: معاني ألفاظ العبادات، «بوجه» من الوجوه، «بغير وجه» واحد، بل بوجوه متعددة؛ وذلك عن طريق الآثار المتعددة، كعمود الدين، ومعراج المؤمن، وناهية عن الفحشاء، وغيرها.

الدليل الثاني: صحة السلب

[4] أي: إطلاق لفظ العبادة على الفاسد إنما هو بالمجاز، والعلاقة هي الشباهة الظاهرية بين الصحيح والفاسد، وإلاّ فبالدقة فإن العرف ينفون الاسم عن الفاسد فيقال: هذه ليست بصلاة واقعاً وإن كانت شبيهة بها.

[5] أي: أجزاء العبادة وشرائطها، وتذكير الضمير باعتبار (الفاسد) «عليه» على الفاسد.

ص: 114

بالمداقّة، وإن صح الإطلاق عليه بالعناية.

ثالثها[1]: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات[2]، مثل: «الصلاة عمود الدين»(1)

أو «معراج المؤمن»(2)

و«الصوم جُنة من النار»(3)،

-------------------------

الدليل الثالث: إثبات الآثار أو نفيها

[1] حاصله: مركب من شقّين:

الأول: إن الأخبار أثبتت آثاراً للعبادات من غير تقييدها بالصحيحة، فالصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومن المقطوع به أن الأثر إنما هو للصحيح دون الفاسد.

وهنا يدور الأمر بين شيئين:

1- إما أن نقول: إنّ هذه الأسامي إنما هي اسم للصحيح؛ ولذا رتّبت الآثار على هذه المسمّيات، وهو المطلوب.

2- وإما أن نقول بالمجازية، وتقدير لفظ (الصحيحة)، أي: الصلاة الصحيحة ناهية عن الفحشاء والمنكر، والمجاز خلاف الظاهر.

الثاني: إن الأخبار نفت الماهية عن الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط، كقوله: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)، وهنا أيضاً يدور الأمر بين شيئين:

1- حمل (لا) على حقيقتها، وهو نفي الجنس، فتنتفي ماهية الصلاة بفقدان الجزء الذي هو فاتحة الكتاب.

2- حمل (لا) على نفي الصحة، أي: لا صلاة صحيحة إلاّ بالفاتحة، وهذا مجاز لا يصار إليه مع إمكان الحقيقة.

[2] من دون تقييدها ب- (الصحيحة)؛ وذلك يدل على التساوي بين المسميات - كالصلاة - وبين الصحيح؛ إذ لو كان الاسم للأعم لم تكن الآثار إلاّ لبعض المسميات.

ص: 115


1- وسائل الشيعة 4: 27.
2- التفسير الكبير 1: 266.
3- الكافي 2: 19.

إلى غير ذلك، أو نفى ماهيتها وطبائعها[1]، مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)،

ونحوه مما كان ظاهراً في نفي الحقيقة[2] بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطراً أو شرطاً.

وإرادة[3] خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ونفي الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب[4] في نفي مثل الصحة أو الكمال، خلاف الظاهر لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه.

-------------------------

[1] العطف تفسيري، والضمير للمسميات، والمعنى نفي ماهية المسمى عند فقدان جزء، كقوله: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)، أو فقدان شرط كقوله: (لا صلاة إلاّ بطهور).

[2] إذ (لا) نافية للجنس، أي: الماهية والحقيقة.

[3] دفع لإشكال، وحاصله:

إن قلت: نقدّر (صحيحة) في الأخبار، ففي الطائفة الأولى نقول: الصلاة الصحيحة عمود الدين، وفي الطائفة الثانية نقول: لا صلاة صحيحة إلاّ بفاتحة الكتاب، وهكذا سائر الأخبار؛ وذلك لشيوع هذا النوع من الاستعمال.

قلت: أولاً: هذا التقدير خلاف الظاهر؛ لأنه مجاز فلا يُصار إليه مع إمكان الحقيقة.

وثانياً: في الطائفة الثانية يمكن القول: إنه مع إرادة نفي الكمال، كما في: (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد) لم تستعمل لفظ (لا) إلاّ في معناها وهو نفي الحقيقة، ادعاءً، بأن يقال: إن الغرض لما كان التأكيد على الوصف فقد فرض المتكلم أن العبادة الفاقدة لذلك الوصف كأنها باطلة، وأنها ليست عبادة ادعاءً، على نمط الحقيقة الادعائية التي ذهب إليها السكاكي.

[4] أي: إثبات الأثر للشيء مع إرادة خصوص الصحيح، وكذا نفي الحقيقة ب- (لا) مع قصد نفي الكمال لا نفي الصحة.

ص: 116


1- مستدرك الوسائل 4: 158.

واستعمال[1] هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع[2]، حتى في مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1)

مما يعلم[3] أن المراد نفي الكمال، بدعوى[4] استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحوٍ من العناية[5]، لا على الحقيقة، وإلاّ لما دلّ على المبالغة[6]، فافهم[7].

-------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الثاني، و«استعمال...» مبتدأ، و«ممكن...» خبره.

[2] بأن نقول: إن (لا) النافية للجنس لم تستعمل في نفي صفة الكمال، حتى مجازاً.

[3] «من» بيان لقوله: (في مثل...) أي: مما يعلم خارجاً بأن العبادة صحيحة لكنها فاقدة لوصف الكمال.

[4] متعلق بقوله: (ممكن المنع)، أي: المنع بسبب هذه الدعوى، و«استعماله» أي: استعمال هذا التركيب، «في مثله» مثل: (لا صلاة لجار المسجد... الخ).

[5] فتكون حقيقة ادعائية - على ما ذهب إليه السكاكي - .

[6] أي: التأكيد على أهمية الوصف، فلو قلنا: إن المعنى (لا صلاة كاملة إلاّ في المسجد) فهذا لا يفيد البلاغة والجمال الأدبي، ولا يستفاد منه أهمية الصلاة في المسجد.

أما لو قلنا: إنّ المعنى هو أن هذه الصلاة ك- (لا صلاة)، وأنها من أفراد الصلاة غير الصحيحة ادعاءً، فهذا يفيد الأهمية للوصف.

[7] قال المصنف في الحاشية: (إشارة إلى أن الأخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرة في ذلك لمكان أصالة الحقيقة، ولازم ذلك كون الموضوع له للأسماء هو الصحيح، ضرورة اختصاص تلك الآثار به، إلاّ أنه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى؛ لإجرائها العقلاء في إثبات المراد، لا في أنه على نحو الحقيقة لا المجاز، فتأمل جيداً)(2)، انتهى.

ص: 117


1- مستدرك الوسائل 3: 356.
2- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 187.

رابعها[1]: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة - كما هو قضية الحكمة الداعية إليه[2] - ، والحاجة وإن دعت أحياناً إلى استعمالها في الناقص أيضاً، إلاّ أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة، بل - ولو كان - مسامحة[3]، تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد. والظاهر أن الشارع غير متخطٍ عن هذه الطريقة.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة إلاّ أنها قابلة للمنع[4]،

-------------------------

وحاصله: إن لفظ العبادات في هذه الأخبار استعمل في العبادة الصحيحة، ولكن الاستعمال أعم من الحقيقة، وأما اصالة الحقيقة فإجراؤها انما يكون في ما لو علمنا المعنى الحقيقي عن المجازي، ولم نعلم بمراد المتكلم. أما لو علمنا مراده، ولكن لم ندرِ أنه استعمال مجازي أو حقيقي فلا تجري أصالة الحقيقة، وقد مرّ تفصيل ذلك.

الدليل الرابع: طريقة الواضعين

[1] حاصل الدليل مركب من أمرين:

1- إن العقلاء حينما يخترعون مركباً فإنهم يضعون الاسم لذلك المركب التام الأجزاء؛ لأن غرضهم من الوضع هو التفهيم، وهذا الغرض مترتب على المركب التام؛ لأنه منشأ الأثر، وليس لهم غرض في الناقص الذي لا أثر له.

2- والشارع لم يكن له طريقة خاصة في الوضع، بل جرى على نفس المنوال الذي جرى فيه العقلاء.

ومن الواضح أن منشأ الأثر في العبادات هو الصحيح، لا الأعم منه ومن الفاسد، فلابد أن يكون الوضع له لا للفاسد..

[2] أي: إلى الوضع، وتلك الحكمة هي التفهيم «استعمالها» الألفاظ.

[3] أي: بل الاستعمال في الناقص إنما هو بنحو المسامحة.

[4] إذ غرض الواضعين كما يتعلق بإفهام الصحيح، كذلك يتعلق بإفهام الفاسد

ص: 118

فتأمل[1].

وقد استدل للأعمي أيضاً بوجوه:

منها: تبادر الأعم[2].

وفيه[3]: إنه قد عرفت الإشكال في تصوير الجامع الذي لابد منه[4]، فكيف يصح معه دعوى التبادر؟

-------------------------

أيضاً، وشاهده كثرة استعمال اللفظ وإرادة الفاسد منه، فمن أين أتى القطع بطريقة الواضعين؟

[1] في العناية: (ولعله إشارة إلى ضعف قوله: إلاّ أنها قابلة للمنع، فإن المنصف إذا راجع وجدانه بعد ما تتبع أوضاع المركبات العرفية والعادية واستقرأها، وفرض نفسه واضع اللفظ لمعنى مخترع مركب يجد من نفسه في مقام الوضع: عدم التخطي عن الوضع لما هو المركب التام)(1).

وقيل غير ذلك(2).

أدلة القول بالأعم

الأول: التبادر

[2] أي: تبادر الجامع بين الصحيح والفاسد.

[3] حاصله عدم إمكان تصوير الجامع على الأعم؛ إذ يلزم منه دخل الشيء في المسمى وعدم دخله، فإن كان الجزء أو الشرط موجوداً كان دخيلاً في الاسم، وإن كان مفقوداً لم يكن دخيلاً فيه، وهذا تناقض واضح.

[4] لأن الجامع هو (الموضوع له)، ولا يمكن وضع لفظ لمعنى إلاّ مع تصور ذلك المعنى، «معه» مع الإشكال على تصوير الجامع، بل قد ثبت تبادر الصحيح، كما مرّ في الدليل الأول من أدلة القائلين بالصحيح.

ص: 119


1- عناية الأصول 1: 90.
2- منتهى الدراية 1: 143.

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد[1].

وفيه منع، لما عرفت[2].

ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم[3].

وفيه[4]: إنه إنما يشهد على أنها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح، وقد عرفتها، فلابد[5] أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل

-------------------------

الثاني: عدم صحة السلب

[1] فلا يصح القول: إنّ الصلاة الباطلة ليست بصلاة - مثلاً - بل يصح الحمل فيقال - مثلاً - : صلاة الحائض صلاة.

[2] عرفت في الدليل الثاني من أدلة الصحيحي من صحة السلب بالمداقة، وإن صح الإطلاق بالعناية.

الثالث: صحة التقسيم

[3] حيث يصح أن يقال: الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة، والتقسيم دليل وجود المقسم في الأقسام، ولو لا ذلك لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وهو محال، فلا يصح أن يقال: الاسم إمّا اسم وإمّا فعل.

فلو كانت الصلاة اسم للصحيح لم يصح تقسيمها إلى الصحيح والفاسد؛ إذ معناه هو أن الصلاة الصحيحة إما صحيحة وإما فاسدة، وهذا من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو محال.

[4] حاصل الجواب: إن الاستعمال أعم من الحقيقة، وهنا المقسم هو الأعم، لكن لا دليل على كون هذا الاستعمال حقيقياً، بل دلّ الدليل على أن الأسماء وضعت للصحيح، فيكون استعمالها في المقسم مجاز، «أنه» أن التقسيم، «أنها» أن الأسامي، «كونها» كون الأسامي، «عرفتها» عرفت الدلالة.

[5] أي: بعد أن دل الدليل على أن الصلاة - مثلاً - اسم للصحيح، فيكون أخذها في المقسم إنما هو بمعناها المجازي.

ص: 120

فيه اللفظ ولو بالعناية.

ومنها[1]: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة، كقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «بُني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه»(1)، «فلو

-------------------------

الرابع: الإطلاق في الأخبار

[1] حاصل الاستدلال: إنه قد أطلقت ألفاظ هذه العبادات في الأخبار على الأعم، وقد مثَّل المستدل بمثالين:

الأول: حديث: (بُنِيَ الإسلام على خمس...)، فإن هناك فقرات أطلق فيها ألفاظ هذه العبادات على الأعم، منها:

أ: قوله: (فأخذ الناس بأربع)، وهذه الأربع من غير ولاية فاسدة قطعاً، ولو كانت هذه العبادات أسامي للأعم للزم أن يقول: (فترك الناس الخمس ولم يأخذوا بشيء منها).

ب: قوله: «فلو أن أحداً صام نهاره» فإن هذا صومه فاسد لعدم ولايته، ومع ذلك أطلق الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لفظ (الصوم) عليه، فلو كانت العبادات أسامي للصحيح للزم أن يقول: (فلو أن أحداً أمسك نهاره).

والجواب:

أولاً: إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إن الألفاظ في هذه الرواية مستعملة في الصحيح فقط، وإنما أطلقت هذه الألفاظ على عباداتهم لزعمهم بأنها صحيحة، فالمعنى إن هؤلاء زعموا بأنهم أخذوا بالأربع الصحيحة، وأنه لو زعم أحد بأنه صام نهاره... الخ.

وثالثاً: يمكن القول: إنّ استعمال هذه الألفاظ في الأعم بالعناية والمجاز، بعد

ص: 121


1- الكافي 2: 18.

أن أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة»(1)،

فإن الأخذ بالأربع[1] لا يكون بناءً على بطلان عبادات تاركي الولاية إلاّ إذا كانت أسامي للأعم. وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «دعي الصلاة أيام أقرائك[2]»(2)،

ضرورة[3] أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها؛ لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

-------------------------

قيام الدليل على أن هذه الألفاظ موضوعة للصحيح.

[1] هذا وجه الاستدلال على أن هذه الألفاظ أطلقت على غير الصحيح، فإنه بناءً على الصحيح فإن هؤلاء لم يأخذوا بشيء من الخمس أصلاً.

[2] هذا المثال الثاني من الأخبار التي استعملت الأسامي في الأعم.

وحاصل الاستدلال: إن الحائض غير قادرة على الصلاة الصحيحة أصلاً، فلو كانت الصلاة اسماً للصحيح كان النهي في هذا الخبر متوجهاً إلى غير المقدور، وهو قبيح، فلا يصح أن يأمر المولى بغير المقدور، مثل أن يقول: (لا تطر) فلابدّ من القول: إنّ الصلاة موضوعة على الأعم ليصح هذا النهي؛ وذلك لقدرة الحائض على الصلاة الفاسدة.

والجواب: أولاً: إنّ الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إنّ النهي هنا ليس مولوياً؛ لعدم حرمة إتيانها بصورة الصلاة، كما في حالة تمرين الصغار. بل النهي إرشادي، أي: هو إرشاد إلى عدم قدرتها على الإتيان بالصلاة، وهذا لا محذور فيه، كالنهي عن الصلاة في جلود ما لا يؤكل لحمه، فإنه إرشاد إلى عدم التمكن من الصلاة فيها. نعم، لو أتت بصورة الصلاة بقصد القربة كان تشريعاً محرماً، لكن هذا مرتبط بالنية لا بالعمل.

[3] وجه الاستدلال بهذا الحديث على الأعم، «أنه» للشأن، «منها» من الصلاة.

ص: 122


1- وردت بمضمونه أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار 27: 166.
2- الكافي 3: 85.

وفيه[1]: إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

مع أن المراد[2] في الرواية الأولى هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بني عليها الإسلام. ولا ينافي[3] ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعلّ أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقة، وذلك[4] لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو

-------------------------

[1] إشكال مشترك على الاستدلال بكلا الخبرين. وحاصله كما مرّ: إن استعمال لفظ في معنى لا يدل على كونه معنىً حقيقياً، ولا تجري هنا أصالة الحقيقة؛ لأنها إنما تجري في ما لو لم يعلم المراد، فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي، أما مع العلم بالمراد والشك في أنه حقيقي أم مجازي فلا تجري هذه الأصالة؛ لأن همّ العقلاء هو معرفة المراد، ولا يهمّهم بعد معرفة المراد أنه معنى حقيقي أم مجازي.

هذا مضافاً إلى أن هذه الأصالة - كسائر الأصول - إنما تجري مع عدم الدليل على خلافها، وهنا قد دلّ الدليل على أن الألفاظ موضوعة للصحيح، فيكون الاستعمال غير دال على الحقيقة قطعاً.

[2] الجواب الثاني عن الاستدلال بالحديث الأول، وحاصله: إن ألفاظ العبادات هنا أطلقت على خصوص الصحيح، بقرينة قوله: (بني الإسلام على خمس...) ومن المعلوم أن الإسلام مبنيٌّ على خصوص الصحيح منها، فليست الصلاة الباطلة مما بُنيَ عليها الإسلام، كما هو واضح.

[3] أي: إن قلت: إن صدر الرواية وإن كان العبادة الصحيحة، ولكن تتمتها يراد بها الأعم، حيث قال: فأخذ الناس بأربع.

قلت: تتمة الرواية أيضاً يراد بها الصحيح أيضاً، ولكن بمعنى أنهم أخذوا باعتقادهم بالأربع، وإلاّ ففي الحقيقة لم يأخذوا بشيء منها، وهذا هو الجواب الثاني عن الاستدلال بالحديث الأول، «ذلك» كون المراد خصوص الصحيح، «إذ لعل...» بيان لعدم المنافاة.

[4] أي: أخذهم بحسب اعتقادهم، «استعمالها» استعمال ألفاظ العبادات.

ص: 123

الأعم؛ والاستعمال في قوله: «فلو أن أحداً صام نهاره...» كان كذلك[1] - أي بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة[2]. وفي الرواية الثانية[3]، الإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة؛ وإلاّ كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة بل بما يسمى في العرف بها - ولو أخل بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفاً - محرماً على الحائض ذاتاً[4]، وإن لم تقصد به القربة، ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيداً.

ومنها[5]:

-------------------------

[1] أي: بمعنى أخذهم بها حسب اعتقادهم.

[2] هذا الجواب الثالث عن الحديث الأول، وحاصله: استعمال اللفظ مجازاً في عباداتهم الفاسدة، وسبب المجاز هو المشابهة.

[3] عطف على قوله: (مع أن المراد في الرواية الأولى...)، وحاصله: إن الأمر بترك الصلاة - وهو يلازم النهي عنها - إنما هو للإرشاد إلى عدم وقوع الصلاة صحيحة، وليس أمراً مولوياً؛ إذ لو كان مولوياً لكان فعل هذه الصلاة محرمة على الحائض حتى لو كان للتعليم والتمرين، وهذا ما لا يقولون به. وبعبارة أخرى: الأصل في الأوامر والنواهي المولوية، إلاّ إذا كانت قرينة على الإرشاد، وهنا توجد قرينة، وهي عدم حرمة الأفعال بنفسها، ولو كان الأمر مولوياً لكانت محرمة، كما هو واضح.

[4] (الحرمة الذاتية) بمعنى حرمة الأفعال بنفسها، ويقابلها (الحرمة التشريعيّة) أي: نسبة الفعل إلى الشارع، فهذا محرم لكنه لا يرتبط بالأفعال، بل بالقصد، فقوله: (وإن لم تقصد...) شرح للحرمة الذاتية.

الخامس: تعلق النذر

[5] أي: من الوجوه التي استدل بها الأعمي، وهذا الوجه يتركب من مقدّمتين:

ص: 124

أنه لا شبهة[1] في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث[2] بفعلها، ولو كانت الصلاة[3] المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل به الحنث أصلاً، لفساد الصلاة المأتي بها، لحرمتها[4]، كما لا يخفى؛ بل يلزم المحال[5]، فإن النذر - حسب الفرض[6] - قد تعلق بالصحيح منها ولا تكاد تكون معه صحيحة، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال[7].

-------------------------

الأولى: لا إشكال في صحة نذر ترك الصلاة في الأماكن المكروهة كالحمّام - مثلاً - .

الثانية: لو خالف النذر وصلّى في الحمام حنث نذره، ووجبت عليه الكفارة.

والنتيجة: إن الصلاة لو كانت موضوعة للصحيح لزم محذوران:

1- عدم حصول الحنث لو صلّى في الحمام؛ وذلك لأن هذه الصلاة محرّمة بسبب النذر، فتكون فاسدة؛ لأن النهي في العبادة موجب لفسادها، والصلاة الفاسدة لم تكن متعلقة للنذر، فلا حنث للنذر.

2- لزوم المحال؛ وذلك لأن النذر تعلق بالصلاة الصحيحة، وبتحقق النذر تبطل هذه الصلاة، فلزم من فرض صحة الصلاة عدم صحتها، وسيأتي توضيحه.

[1] هذا المقدمة الأولى، «وشبهه» أي: شبه النذر كالعهد واليمين.

[2] هذا المقدمة الثانية، «بفعلها» أي: بالإتيان بالصلاة.

[3] إشارة إلى اللازم الأول، «به» بفعل الصلاة.

[4] لحرمة الصلاة بسبب النذر، والنهي في العبادة موجب للفساد.

[5] إشارة إلى اللازم الثاني.

[6] أي: فرض أن الصلاة اسم للصحيح فقط، «منها» من الصلاة، «ولا تكاد» الصلاة، «معه» مع النذر.

[7] لأنه يكون موجوداً ومعدوماً في وقت واحد، مضافاً إلى أن الشيء لا يكون علة لعدمه. ولبيان الاستحالة وجوه ثلاثة، كما في الحقائق(1):

ص: 125


1- حقائق الأصول 1: 76.

قلت[1]: لا يخفى أنه لو صح ذلك[2] لا يقتضي إلا عدم صحّة تعلق النذر بالصحيح[3]، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً، مع أن الفساد[4] من قبل النذر لا ينافي

-------------------------

1- إن صحة النذر يقتضي عدم صحته؛ وذلك لأن النذر تعلق بالصلاة الصحيحة، ومقتضى نفوذ النذر هو حرمة هذه الصلاة، وإذا حرمت الصلاة كانت فاسدة، ومقتضى فسادها عدم تعلق النذر بها - لإنه تعلّق بالصحيحة - فتحصل أن لازم صحة النذر هو عدم صحته.

2- إن صحة العبادة تقتضي عدم صحتها، لأن صحتها توجب تعلق النذر بتركها، والنذر يقتضي بطلان تلك العبادة.

3- إنه يلزم من تحقق الحنث عدم تحققه؛ لأن تعلق الحنث بها يوجب فسادها، والفساد موجب لعدم تحقق الحنث؛ لأن الحنث إنما يكون بفعل الصحيح المنذور تركه.

[1] هذا الجواب عن الدليل الخامس، من وجهين:

الأول: إن عدم تعلق النذر بالصحيح لا يكشف عن كون العبادة اسماً للأعم؛ إذ هنا استعمل لفظ العبادة في الأعم، والاستعمال لا يدل على الحقيقة.

وبعبارة أخرى: لا يمكن تعلق النذر بالصحيح، سواء قلنا: إنّ العبادة اسم للصحيح أم للأعم، فحتى على القول بالاعم لا يصح أن ينذر عدم الصلاة الصحيحة بأن يقول: (لله عليَّ أن لا أصلي في الحمام صلاة صحيحة).

الثاني: إن النذر يتعلق بالصحيح لو لا النذر، وسيأتي توضيحه.

[2] أي: هذا الوجه الخامس من الاستدلال. وهذا جواب عن كلا المحذورين، أي: عدم حصول الحنث، ولزوم المحال.

[3] سواء كانت العبادات أسامي للصحيح أم للأعم، فلا يصح تعلق النذر بالصحيحة.

[4] وهذا جواب عن المحذور الثاني فقط، وحاصله: إن النذر تعلق بالصحيح من كل الجهات لو لا تعلق النذر به، فلو صلّى بلا وضوء - مثلاً - لم يكن حانثاً؛

ص: 126

صحة متعلقه، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها[1].

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنما يكون لأجل الصحة[2] لو لا تعلقه. نعم[3]، لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل[4] لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان.

-------------------------

لعدم تعلق النذر بهذه الصلاة؛ لأنها فاسدة في نفسها، أما لو استجمعت كل الأجزاء والشرائط مع عدم الموانع كانت صلاة صحيحة لو لا النذر. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن يُؤخذ النذر في متعلق النذر، لأن المتعلق هو موضوع النذر؛ فهو مقدّم على النذر إذن، فالنذر تعلق بالعمل الصحيح من كل الجهات لو لا النذر، «من قبل النذر» أي: الفساد الناشئ بسبب النذر، «متعلقة» أي: متعلق النذر؛ وذلك لأن المتعلق هو الصحيح من كل الجهات لو لا النذر.

[1] فرض وجود الصحة عدم الصحة.

[2] أي: لأجل ارتكاب متعلق النذر - وقد كان نذر أن لا يأتي بذلك المتعلق - وذلك المتعلق هو الصلاة الصحيحة لو لا النذر، «تعلقه» تعلق النذر.

[3] أي: لو نذر أن لا يأتي في الحمام بصلاة صحيحة من كل الجهات، ثم صلّى في الحمام، لم يكن حانثاً؛ لأن متعلق النذر الصلاة الصحيحة حتى مع النذر، لكن الذي أتى به هو صلاة فاسدة من جهة النذر.

لكن لا يخفى بطلان هذا النذر من أساسه؛ لعدم القدرة على المتعلق أصلاً، كما أشار المصنف في الحاشية، فقال(1):

(أي ولو مع النذر، ولكن صحته) أي: النذر (كذلك) أي: المتعلق بترك الصلاة المطلوبة بالفعل (مشكل، لعدم كون الصلاة معه) مع هذا النذر (صحيحة مطلوبة، فتأمل جيداً).

[4] أي: الصحيحة من كل الجهات بحيث يتعلق بها الأمر.

ص: 127


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 195.

بقي أمور الأول[1]: إن أسامي المعاملات[2] إن كانت موضوعة للمسبَّبات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم اتّصافها بهما[3]، كما لا يخفى، بل بالوجود تارةً وبالعدم أخرى.

-------------------------

بقي أمور

الأمر الأول: في أسامي المعاملات

[1] هنا بحوث:

1- هل المعاملات اسم للسبب كعقد البيع، أم للمسبَّب كالملكية؟

2- هل أنها اسم للصحيح أم للاعم؟

3- اختلاف الشرع والعرف في بعض المعاملات - كالبيع الربوي - هل هو في المفهوم أم في المصداق؟

فقد يقال: إن البيع - مثلاً - اسم للمسبَّب كالملكية. وقد يقال: إنه اسم للسبب وهو العقد.

فعلى الأول: لا يمكن فرض الصحة والفساد؛ لأن الملكية أمر بسيط، ولا يمكن فرض الصحة والفساد في الأمر البسيط؛ لأنه دائر بين الوجود والعدم، وإنما يمكن فرضهما في المركب، فيكون التام صحيحاً، والناقص فاسداً - مثلاً - .

وأما على الثاني - وهو كون المعاملات أسامي للأسباب - : فإن العقد مركب من إيجاب وقبول وله شرائط؛ فلذا يمكن فرض التام والناقص فيه، فيجري البحث بأنها أسامٍ للصحيح أم للأعم.

[2] بالمعنى الأعم، فيشمل الإيقاعات كالطلاق.

[3] لعدم اتصاف المعاملات بهذا المعنى بالصحة والفساد؛ وذلك لبساطة المسببات، «بل بالوجود...» أي: بل تتصف بالوجود تارة إن تحقق السبب، وبالعدم تارة أخرى إن لم يتحقق السبب.

ص: 128

وأما إن كانت[1] موضوعة للأسباب، فللنزاع فيه مجال.

لكنه[2] لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً، وأن الموضوع له[3] هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعاً وعرفاً[4].

والاختلاف[5]

-------------------------

[1] أي: كانت ألفاظ المعاملات، «فللنزاع فيه» أي: في كونها موضوعة للصحيح أم للأعم، فالصحيحي يقول: إنها موضوعة للتام المؤثر، والأعمّي يقول: إنها اسم لمطلق العقد، سواء كان تاماً ومؤثراً أم لا.

[2] للشأن، أي: لا يبعد دعوى كونها للصحيح، كما ادعينا ذلك في العبادات؛ وذلك للتبادر، وصحة السلب من الفاسد، وغير ذلك من الأدلة التي ذكرناها في الصحيح.

بل إمكانه هنا أسهل؛ وذلك لصعوبة تصوير الجامع في العبادات - لاختلافها كما مرّ - وسهولة تصوير الجامع في المعاملات؛ لعدم وجود ذلك الاختلاف في الأسباب، بل هي منحصرة قليلة، «أيضاً» كما ادعينا في العبادات.

[3] عطف تفسيري لبيان معنى (كونها موضوعة للصحيحة).

[4] فقد يقال: إن المعاملات اسم للعقد المؤثر شرعاً، وقد يقال: للمؤثر عرفاً، وقد يقال: للمؤثر شرعاً وعرفاً، والمصنف اختار الثالث، أي: العقد الذي يؤثر في الشرع والعرف هو اسم للمعاملة.

[5] أي: إن قلت: كيف تكون المعاملة اسم للعقد المؤثر شرعاً وعرفاً مع أنّا نرى الاختلاف بينهما، فالعقد الربوي غير مؤثر شرعاً مع كونه مؤثر عرفاً - مثلاً - .

قلت: اختلاف الشرع والعرف ليس في مفهوم البيع، فكلاهما متفق على أن البيع هو (المؤثِّر للأثر)، وإنما الاختلاف في المصداق، فهل العقد الربوي مؤثّر أم لا؟ فالشرع على عدم تأثيره والعرف على تأثيره.

ص: 129

بين الشرع والعرف في ما يعتبر[1] في تأثير العقد لا يوجب[2] الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة[3] الشرع العرفَ في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره[4] في تأثيره محققاً لما هو المؤثر كما لا يخفى، فافهم[5].

الثاني[6]:

-------------------------

وهذا نظير اختلاف القائلين بالصحيح في العبادات، مثلاً: البعض(1) يعتبر تكرار التسبيحات ثلاث مرات، والبعض يكتفي بواحدة منها، فلو صلّى رجل وقرأ التسبيحات مرة واحدة كانت صلاته باطلة على الأول، وصحيحة على الثاني، مع اتفاقهما في المفهوم، وأن الصلاة اسم للصحيح، ولكن اختلافهما في المصداق.

[1] أي: في الشرائط التي تعتبر.

[2] خبر قوله: (والاختلاف)، وهو جواب عن الإشكال، «بينهما» بين الشرع والعرف، «في المعنى» أي: في مفهوم المعاملة.

[3] عطف على قوله: (المحققات والمصاديق)، أي: بل الاختلاف في تخطئة الشرعِ العرفَ.

[4] أي: بدون الشرط الذي اعتبره الشرع، والمعنى إن الشرع يُخطِّئ العرف حيث تخيل العرف صحة المعاملة الربوية مثلاً الفاقدة للشرط الذي اعتبره الشرع.

[5] لعله إشارة إلى أن اختلاف الشرع والعرف في المفهوم لا في المصداق، فالشرع لا ينكر أن البيع الربوي بيع، ولكنه ينكر صحته، فتأمل.

الأمر الثاني: عدم الإجمال في ألفاظ المعاملات

[6] قد مرّ أن ثمرة النزاع هو إجمال ألفاظ العبادات بناء على القول بالصحيح، وعدم إجمالها بناءً على الأعم.

ولكن هذه الثمرة لا تجري في المعاملات؛ وذلك لأن المعاملات إمضائيات - أي:

ص: 130


1- روضة المتقين 2: 308؛ مصابيح الظلام 7: 265.

إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ العبادات[1]، كي لا يصح التمسك بإطلاقها[2] عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها شرعاً؛ وذلك[3] لأن إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان[4] ينزّل على أن المؤثر عند

-------------------------

إن الشارع أمضى ما يجريه العرف من معاملات - وقد ذكرنا في الأمر الأول أنه لا اختلاف في مفهوم المعاملات بين الشرع والعرف.

وعليه: إذا شككنا في شرطية شيء أو جزئيته في المعاملات - كالعقد باللغة العربية - ورأينا أن العرف يعتبرون المعاملة بدون ذلك الشرط أو الجزء، فحينئذٍ يمكن التمسك بإطلاق مثل: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ }(1) لنفي ذلك الجزء أو الشرط، وصحة المعاملة بدونه.

والحاصل: إنّ ألفاظ العبادات مخترعات شرعية، ومع الشك في كل جزء أو شرط يكون المفهوم مجملاً، فلا يمكن التمسك بالإطلاق، وأما ألفاظ المعاملات فهي إمضائية، فمع الشك في جعل الشارع شرطاً أو جزءاً يمكن مراجعة العرف، وحيث نراهم يطلقون لفظ المعاملة على الفاقد لذلك الشرط أو الجزء، فيمكن التمسك بإطلاق مثل: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ } لنفي ذلك الشرط أو الجزء، بعد صدق كونه بيعاً عرفاً.

[1] التي كانت تصبح مجملة بناءً على القول بالصحيح.

[2] لأن اللفظ إذا صار مجملاً لا تجري فيه مقدمات الحكمة، فلا إطلاق له حتى يمكن التمسك بذلك الإطلاق، لكن ألفاظ المعاملات لا تصير مجملة.

[3] دليل عدم إجمال ألفاظ المعاملات حين الشك في دخل شيء فيها، «إطلاقها» أي: إطلاق ألفاظ المعاملات.

[4] بأن تمَّ الإطلاق؛ وذلك بتمامية مقدمات الحكمة، وإلاّ لم يكن إطلاق أصلاً.

ص: 131


1- سورة البقرة، الآية: 275.

الشارع هو المؤثر عند أهل العرف[1] ولم يعتبر[2] في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزّل عليه إطلاق كلام غيره حيث إنه منهم[3]، ولو اعتبر[4] في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان[5] ونصب القرينة عليه، وحيث لم ينصب بانَ[6] عدم اعتباره عنده أيضاً. ولذا[7] يتمسكون بالإطلاق[8] في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعةً للصحيح.

نعم[9]،

-------------------------

[1] لأن المعاملات إمضائيات.

[2] عطف على (ينزّل...)، والمعنى: لأن إطلاقها لم يعتبر في تأثير... الخ. «تأثيره» أي: تأثير المؤثر وهو المعاملة، «عنده» عند الشارع، «فيه» في التأثير، «عندهم» عند العرف.

[3] أي: الشارع من العرف، كما قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، فكل كلام الشارع يحمل على ما هو المتعارف في العرف، إلاّ إذا جاء بماهية مخترعة كالعبادات، وليست المعاملات ماهيات شرعية مخترعة، بل هي إمضاء لما في العرف.

[4] أي: اعتبر الشارع «تأثيره» تأثير المؤثر وهو المعاملة «ما شك» من شرط أو جزء.

[5] لئلا يكون ناقضا للغرض، وملقياً للناس في المخالفة.

[6] أي: انكشف عدم اعتبار ذلك المشكوك عند الشارع أيضاً كالعرف.

[7] أي: لكون المعاملات إمضائية، وأنّ وضعها للصحيح لا يوجب إجمالها.

[8] لنفي الجزء أو الشرط المشكوك، «ألفاظها» ألفاظ المعاملات.

[9] أي: لو كان الشرط أو الجزء المشكوك يحتمل دخله في المعاملة العرفية، فحينئذٍ تكون المعاملة مجملة عرفاً، فتكون مجملة عند الشارع أيضاً؛ وذلك لأنه

ص: 132


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.

لو شك في اعتبار شيء فيها عرفاً، فلا مجال للتمسك بإطلاقها[1] في عدم اعتباره، بل لابد من اعتباره[2]، لأصالة عدم الأثر[3] بدونه، فتأمل جيداً.

الثالث[4]:

-------------------------

مع فقدان ذلك الشرط أو الجزء يشك في صدق عنوان المعاملة عرفاً، فلا نعلم أنها بيع أم لا، وحيث كان الشك في المفهوم لا تصل النوبة إلى التمسك بالإطلاق؛ إذ يكون تمسكاً بالعام في الشبهة المفهومية.

[1] إطلاق ألفاظ المعاملات «عدم اعتباره» أي: عدم اعتبار ذلك الشيء المشكوك.

[2] أي: اعتباره في صحة المعاملة، فيلزم الإتيان بذلك الشرط أو الجزء المشكوك؛ وذلك لأنه مع عدمه لا نعلم بانتقال الملك وتحقق البيع، فبمقتضى الاستصحاب يكون كل شيء على ملك مالكه قبل إجراء البيع، ويُعَبَّر عن هذا الاستصحاب بأصالة الفساد في المعاملات.

[3] وهو الاستصحاب، وقد شرحناه في الهامش السابق، «بدونه» بدون ذلك الشيء المشكوك.

الأمر الثالث: الأجزاء والشرائط الدخيلة في المُسمّى

[4] الغرض من هذا الأمر هو ردّ تفصيل منسوب إلى المحقق البهبهاني(1)،

حيث ذهب إلى أن الأسامي هي للصحيح من حيث الأجزاء وللأعم من حيث الشرائط.

وقبل ذلك قدّم المصنف مقدمة، ذكر فيها أن دخالة شيء في العبادة - مثلاً - على خمسة أقسام:

1- أن يكون جزءاً للماهية، بحيث تنتفي الماهية بانتفائه، وفي الحقيقة فإن المأمور به ليس إلاّ تلك الأجزاء، كالركوع والسجود في الصلاة، فإن ماهية الصلاة متحدة مع هذه الأجزاء.

ص: 133


1- تقريرات المجدد الشيرازي 1: 329.

إن دخل شيء وجودي أو عدمي[1] في المأمور به تارةً[2] بأن يكون داخلاً في ما

-------------------------

وبناء على الصحيح فإن انتفاء أيّ جزء من أجزاء الماهية يوجب انتفاء تلك الماهية، فلا يصدق الاسم على الباقي.

2- أن يكون شرطاً للماهية، بحيث تنتفي الماهية بانتفائه، وفي الواقع فإن ذات الشرط خارج عن الماهية، ولكن الشرط يوجب خصوصية في المشروط، وتكون تلك الخصوصية جزءاً للماهية، مثلاً: الوضوء - بناءً على كونه الغسلتين والمسحتين - شرط للصلاة، وهو خارج عن ماهيتها، لكن الخصوصية التي يوجبها الوضوء في الصلاة هي الجزء، ولذا قيل: (تقيّدٌ جزءٌ وقيدٌ خارجي)(1).

وعليه: فإن انتفاء شرط الماهية يوجب انتفاءها.

3-4- أن يكون جزءاً أو شرطاً للفرد لا للماهية، بمعنى أن الماهية قد توجد في ضمن هذا الفرد وقد توجد في ضمن فرد آخر، فانتفاء شرط أو جزء الفرد لا يوجب انتفاء الماهية، مثلاً: الصلاة في المسجد شرط لفرد الصلاة لا لماهيتها، فانتفاء شرط المسجدية لا يوجب بطلانها، وكذا القنوت جزء لفرد الصلاة لا لماهيتها، وهذا شرط أو جزء موجب للمزيَّة، وقد يكون موجباً للمنقصة كالصلاة في الحمام.

5- أن يكون المأمور به ظرفاً لذلك الشيء، فلا يكون الشيء شرطاً ولا جزءاً للمأمور به - لا لماهيته ولا لفرده - فيكون من قبيل المطلوب في المطلوب، كلبس ثوبي الإحرام حال الحج، فهو واجب مستقل نفسي ظرفه الحج - على ما قيل - .

ومن الواضح أن هذا القسم غير دخيل في المسمى ولا في المأمور به أصلاً.

[1] العدمي بمعنى كون وجود ذلك الشيء مُخِلاًّ؛ لأن العدم لا يؤثر ولا يتأثر، بل ذلك من خصائص الوجود.

[2] هذا هو القسم الأول - وهو الأجزاء التي يتكوّن منها الماهية - «يكون» ذلك الشيء، «منه» من ذلك الشيء، «ومن غيره» وهي سائر الأجزاء.

ص: 134


1- شرح المنظومة 2: 27.

يأتلف منه ومن غيره، وجُعِل[1] جملته متعلقا للأمر، فيكون جزءاً له وداخلاً في قوامه. وأخرى[2] بأن يكون خارجاً عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية المأخوذة فيه بدونه[3]، كما إذا أخذ شيء[4] مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له متعلقاً للأمر، فيكون[5] من مقدماته لا مقوماته.

-------------------------

ولا يخفى أن أجزاء المركب هي وجودات مستقلة، ووحدتها اعتبارية - إمّا لدخالتها في الغرض، أو للأمر بها منضمَّة - .

فإن لوحظت تلك الوجودات بشرط الانضمام كانت هي الكل، وإن لوحظت لا بشرط الانضمام كانت هي الجزء، فالركوع إن لوحظ منضماً إلى سائر الأجزاء كانت الصلاة، وإلاّ فهي الركوع، فتأمل.

[1] فعل ماضٍ مجهول، عطف على (يأتلف)، «جملته» أي: مجموع ذلك الشيء وغيره، «فيكون» ذلك الشيء مع غيره، «له» للمأمور به.

[2] هذا هو القسم الثاني - وهو الشرائط التي لها دخل في الماهية - «يكون» الشيء، «عنه» عن المأمور به، «لكنه» أي: لكن ذلك الشيء.

[3] أي: ذلك الشرط وإن كان خارجاً، لكنه يوجب خصوصية، وتلك الخصوصية هي جزء المأمور به، «فيه» في المأمور به، «وبدونه» بدون ذلك الشيء - الذي هو الشرط - .

[4] أي: مأمور به كالصوم، إذا تعلق الأمر به بشرط الطهارة مثلاً، فقد تكون هذه الطهارة سابقة كغسل المستحاضة الكثيرة قبل طلوع الفجر، وقد يكون مقارناً كغسلها ظهراً، وقد يكون لاحقاً كغسلها بعد غروب الشمس - على بعض الأقوال(1)

- «به» أي: بهذا الخارج، «له» لهذا الخارج، فمعنى العبارة: كما لو أخذ الشيء كالصوم متعلقاً للأمر حال كونه مسبوقاً أو ملحوقاً أو مقارناً للطهارة.

[5] أي: فيكون هذا الخارج عن الشيء «من مقدماته» من مقدمات الشيء؛ لأنه

ص: 135


1- كشف الغطاء 2: 238؛ مصباح الفقيه 4: 311.

وثالثة[1] بأن يكون مما يتشخص به[2] المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه، وربما يحصل له بسببه مزية[3] أو نقيصة[4]، ودخل هذا فيه[5] أيضاً طوراً بنحو الشطرية وآخر بنحو الشرطيّة.

فيكون[6] الإخلال بما له دخل بأحد النحوين[7] في حقيقة المأمور به وماهيته

-------------------------

ليس جزءاً للشيء لكن يتوقف الشيء عليه.

[1] إشارة إلى القسم الثالث والرابع، بأن لا يكون الشيء جزءاً أو شرطا للماهية، مع كونه جزءاً أو شرطاً للفرد الموجود.

[2] أي: يكون من مقومات الوجود لا الماهية، حيث لا يوجد الشيء إلاّ إذا كان متشخصاً في ضمن فرد، «المتشخص به» أي: الفرد الموجود الخارجي، «عنوانه» أي: عنوان المأمور به، فالصلاة في المسجد فرد للصلاة المأمور بها.

[3] يحصل للمأمور به بسبب ذلك الشيء، كالمسجدية التى تضاعف ثواب الصلاة.

[4] كالصلاة في الحمام، فإن إيجاد ماهية الصلاة في هذا الفرد المتشخص بالحمام يوجب قلّة ثوابها.

[5] «هذا» أي: ما يتشخص به المأمور به، «فيه» في المأمور به، «بنحو الشطرية» الجزئية كالقنوت في الصلاة، «بنحو الشرطية» كالأذان والإقامة، وهما شرطان لفرد الصلاة - على ما قيل - لا لماهيتها.

[6] بيان لأحكام الصور الأربع، وحاصلها: إن الإخلال بشرط الماهية أو جزئها يوجب انتفاء الاسم والبطلان، أما الإخلال بشرط أو جزء الفرد فلا يوجب إخلالاً بالاسم ولا البطلان.

[7] الشرطية والجزئية، «وماهيته» عطف تفسيري على (حقيقة المأمور به)، «موجباً» خبر قوله: (فيكون)، «لفساده» فساد المأمور به.

ص: 136

موجباً لفساده لا محالة؛ بخلاف[1] ما له الدخل في تشخصه وتحققه مطلقاً، شطراً كان أو شرطاً، حيث لا يكون الإخلال به[2] إلاّ إخلالاً بتلك الخصوصية مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى غير موجبة لتلك المزية، بل كانت[3] موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه[4]، كالصلاة في الحمام.

ثم إنه[5] ربما يكون الشيء مما يندب إليه فيه، بلا دخل له[6] أصلاً - لا شطراً ولا شرطاً - في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له[7] دخل ظرفاً في مطلوبيته

-------------------------

[1] أي: بخلاف الإخلال بشرط أو جزء الفرد، «في تشخصه» أي: في وجوده الخارجي، وشرح قوله: (مطلقاً) بقوله: (شرطاً كان أو شطراً).

[2] أي: الإخلال بجزء أو شرط الفرد، «بتلك الخصوصية» كخصوصية المسجدية، «خصوصية أخرى» كخصوصية البيتيّة - أي: الصلاة في البيت - .

[3] أي: بل قد توجب الخصوصية الأخرى للنقصان، كالصلاة في الحمام حيث يوجب قلة ثواب الصلاة، «نقصانها» أي: نقصان الماهية، والمراد نقصان ثوابها.

[4] في قوله قبل قليل: (وبما يحصل بسببه مزية أو نقيصة).

[5] بيان للقسم الخامس - وهو كون المأمور به ظرفاً للشيء من غير دخالة الشيء في ذلك المأمور به - لا في ماهيته ولا في فرده، فيكون من باب مطلوب في مطلوب.

«إنه» للشأن «يندب فيه» أي: إلى ذلك الشيء، بمعنى الأمر به - سواء بنحو الوجوب أم بنحو الاستحباب - .

[6] أي: بلا دخالة ذلك الشيء في حقيقة المأمور به، فليس هو شرطه ولا جزءه، كما لا دخالة لذلك الشيء في فرد المأمور به أصلاً.

[7] أي: للمأمور به، والمعنى أنه حين تحقق المأمور به تكون هناك مصلحة نفسية في فعل ذلك الشيء، فيكون المأمور به ظرفاً فقط، «مطلوبيته» أي: مطلوبية ذلك الشيء الذي ندب إليه، «أثنائه» أي: أثناء المأمور به.

ص: 137

بحيث لا يكون مطلوباً إلاّ إذا وقع في أثنائه فيكون مطلوباً نفسياً[1] في واجب أو مستحب[2]، كما إذا كان مطلوبا كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به[3] موجباً للإخلال به ماهيةً ولا تشخصاً وخصوصية أصلاً.

إذا عرفت هذا كله[4]، فلا شبهة[5] في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسياً في التسمية بأساميها، وكذا[6] في ما له دخل في تشخصها مطلقاً.

وأما[7] ما له الدخل شرطاً في أصل ماهيتها فيمكن الذهاب أيضاً إلى عدم دخله

-------------------------

[1] أي: في حد ذاته بلا تعلقه بالمأمور به - لا كشرط له ولا كجزء - .

[2] أي: المأمور به قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، ومع ذلك يكون ظرفاً للشيء المطلوب نفسياً.

كما أن هناك مطلوبات نفسية ظرفها قبل المأمور به، كالمضمضمة قبل الوضوء، فهي ليست شرطاً ولا جزءاً منه - على ما قيل - لكن ظرف استحبابها قبل الوضوء، وقد تكون مطلوبات نفسية ظرفها بعد المأمور به، كتعقيبات الصلاة - على ما قيل - فإنها ليست شرطاً ولا جزءاً من الصلاة، لكنها مستحبات نفسية ظرفها بعد الصلاة، كذلك قد تكون مطلوبات نفسية ظرفها حين العمل.

[3] أي: بما ندب إليه في أثناء المأمور به، «للإخلال به» بالمأمور به.

[4] كل ما مرّ كان مقدمة لبيان التفصيل بين الصحة من حيث الأجزاء والصحة من حيث الشرائط، وردّ هذا التفصيل.

[5] أي: لا شبهة في عدم دخل القسم الخامس، وكذا عدم دخل القسم الثالث والرابع؛ وذلك لعدم ارتباطها بالماهية، فلا ارتباط لها باسم العبادات والمعاملات، و«في التسمية» متعلق بقوله: (عدم دخل).

[6] أي: لا شبهة في عدم دخل جزء أو شرط الفرد في التسمية، «مطلقاً» جزءاً أو شرطاً.

[7] أي: وأما القسم الثاني - وهو شرط الماهية - «فيمكن» أي: يمكن التفصيل

ص: 138

في التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءاً فيها[1]، فيكون الإخلال بالجزء مخلاً بها دون الإخلال بالشرط، لكنك عرفت[2] أن الصحيح اعتبارهما فيها.

الحادي عشر[3]:

-------------------------

بين شرط الماهية فلا دخل له في التسمية، وبين جزء الماهية فله دخل في التسمية، «بها» بأسماء العبادات.

[1] «فيها» في التسمية، «بها» بالتسمية، ولعل دليل هذا التفصيل - المنسوب إلى الوحيد البهبهاني - : هو أن الشرط ليس مؤثراً في المصلحة، وإنّما المؤثر تمام الأجزاء، ويكون دخل الشرط في الأجزاء باعتبار توقف تأثيرها في المصلحة على الشرط، فيمكن الوضع للأجزاء والإشارة إليها بمفهوم المقتضي للتأثير، وحيث أمكن الوضع للأجزاء فقط أمكن إثبات ذلك ببعض الأدلة الدالة على الأعم - كذا في الحقائق(1)

بتصرف - .

[2] ردّ لهذا التفصيل من وجهين:

الأول: إن الجامع قد اكتشفناه عن طريق الآثار - كالنهي عن الفحشاء والمنكر - ومن المعلوم أن الآثار مترتبة على الصحيح من كل الجهات - سواء الأجزاء أم الشرائط - .

الثاني: إن الأدلة الدالة على الصحيح - كالتبادر وصحة السلب عن الفاسد وغيرها - كلّها تدل على الصحيح من جميع الجهات، لا الصحيح من حيث الأجزاء فقط، «اعتبارهما» الأجزاء والشرائط، «فيها» في التسمية.

الأمر الحادي عشر الاشتراك اللفظي

اشارة

[3] الاشتراك اللفظي هو وضع لفظ واحد مرات متعددة على معنيين أو أكثر، كلفظ (العين) الذي وضع على الباصرة والذهب والفضة... الخ والبحث في عدة نقاط:

ص: 139


1- حقائق الأصول 1: 87.

الحق وقوع الاشتراك[1]، للنقل والتبادر وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد؛ وإن أحاله بعض(1)[2]،

لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع،

-------------------------

1- في وقوع الاشتراك في اللغة.

2- ردّ القول باستحالة الاشتراك مطلقاً.

3- ردّ القول باستحالة الاشتراك في القرآن فقط مع إمكانه في غير القرآن.

4- ردّ القول بوجوب الاشتراك.

1- وقوع الاشتراك في اللغة

[1] أي: الاشتراك اللفظي، أما الاشتراك المعنوي فلا إشكال في وقوعه، ومعنى الاشتراك المعنوي أن يوضع لفظ واحد لمعنى واحد، ويكون لذلك المعنى مصاديق متعددة، كلفظة الإنسان.

وقد استدل المصنف لوقوع الاشتراك اللفظي بثلاثة أدلة:

الأول: نقل أهل اللغة، مما يوجب القطع في وقوع الاشتراك.

إن قلت: ان المصنف لم يذكر تنصيص أهل اللغة ضمن علائم الحقيقة، فكيف يستدل به هنا؟

قلت: النقل هنا أوجب القطع، فالدليل هو القطع، وليس التنصيص بنفسه، فتأمل.

الثاني: التبادر، فمن لفظة (العين) مثلاً يتبادر كل معانيها.

الثالث: عدم صحة السلب، فلا يصح القول: إنّ الذهب ليس بعين، أو الباصرة ليست بعين... وهكذا.

2- رد القول بالاستحالة

[2] أي: قالوا باستحالة الاشتراك، أي: الاستحالة الوقوعية بعد وضوح عدم

ص: 140


1- مفاتيح الأصول: 23.

لخفاء القرائن. لمنع الإخلال[1] أولاً، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة، ومنع كونه مخلاً بالحكمة ثانياً، لتعلق الغرض بالإجمال أحياناً.

كما[2] أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم(1)،

لأجل[3] لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن، والإجمال[4] في المقال لو لا الاتكال

-------------------------

استحالته ذاتاً، واستدلوا لذلك: بأن الاشتراك خلاف حكمة الوضع - وهي التفهيم - ولا يمكن التفهيم باللفظ المشترك لخفاء القرائن في كثير من الاحيان، «لإخلاله» أي: الاشتراك.

[1] أي: وهذا فاسد لجهتين:

الأولى: إنه يمكن الاعتماد على القرائن الواضحة، مما لا يبقى معها إجمال في المقصود، فالدليل أخص من المدعى.

الثانية: إن الإجمال ليس خلاف حكمة الوضع، بل قد يتعلق غرض العقلاء بإجمال كلامهم.

3- وقوع الاشتراك في القرآن

[2] حيث زعموا أن الاشتراك وإن كان ممكناً وواقعاً في اللغة والعرف، لكنه مستحيل في القرآن.

واستدلوا لذلك بأنه إمّا تُنصب قرينة أو لا تُنصب.

والأول: موجب للتطويل بلا فائدة، وهذا باطل؛ لأن القرآن مبني على الفصاحة، والإيجاز من الفصاحة، فإذا أمكن الإتيان بلفظ واحد دال على المعنى لا وجه للإتيان بلفظين - المشترك مع قرينة - .

والثاني: موجب لإجمال المراد، وهو لا يليق بالقرآن الذي أنزل لهداية الناس.

[3] هذا الشق الأول - وهو إيضاح المراد عبر القرينة - .

[4] هذا الشق الثاني - وهو عدم الإتيان بالقرينة - .

ص: 141


1- الفصول الغروية: 31.

عليها، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى، كما لا يخفى. وذلك[1] لعدم لزوم التطويل في ما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر[2]؛ ومنع[3] كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض، وإلاّ[4] لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه بوقوعه فيه، قال الله تعالى: {مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ}(1).

-------------------------

[1] تعليل لعدم استحالته في القرآن، ورد دليل الاستحالة: أما الشق الأول، وهو التطويل بلا طائل، ففيه: إن القرائن قد تكون حالية فلا تطويل، كما أن القرينة اللفظية قد يؤتى بها لغرض آخر، وقرينيتها تكون بالملازمة، فيكون ذكرها بفائدة، كقوله تعالى: {عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا}(2) حيث جاء تعالى بلفظ (يشرب) بغرض بيان نعيم أهل الجنة، وهذه اللفظة بالتبع صارت قرينة لتعيين المراد من قوله (عيناً).

[2] غير تعيين المراد.

[3] أي: وأما الشق الثاني - وهو إجمال المراد - ففيه: إنه يليق بكلامه تعالى؛ إذ قد يتعلق الغرض بالإجمال؛ ولذا كانت آيات متشابهة في القرآن الكريم. «كونه» أي: كون الإجمال.

[4] أي: وإن لم يكن الإجمال لائقاً بكلامه لما كانت متشابهات في القرآن، ومن المعلوم وقوع المتشابه في القرآن.

ولا يخفى أن للمتشابه فوائد مهمة، منها: اضطرار الناس للرجوع إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ليفسروا لهم، وكذا امتحان الناس، وغير ذلك.

ص: 142


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة الإنسان، الآية: 6.

وربما توهم(1)[1]

وجوب وقوع الاشتراك في اللغات، لأجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ المركبات[2]، فلابد من الاشتراك فيها.

وهو فاسد[3]، لوضوح امتناع[4] الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الأوضاع الغير(2)

المتناهية؛

-------------------------

4- ردّ القول بوجوب الاشتراك

[1] حاصله: وجوب الاشتراك في اللغات؛ لأن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، ولابد من الدلالة على تلك المعاني غير المتناهية، ولا طريق إلاّ بالاشتراك اللفظي.

[2] أي: المركبة من الحروف الهجائية، «فيها» في الألفاظ.

[3] أي: هذا التوهم - بوجوب الاشتراك - باطل لجهات متعددة:

الأولى: إن لازم كلامه هو عدم تناهي الأوضاع للدلالة على المعاني غير المتناهية، وهذا مستحيل؛ لأن الوضع من الإنسان المتناهي، فيستحيل صدور غير المتناهي عنه، هذا مضافاً إلى ضرورة تناهي الألفاظ المشتركة، بل هي قليلة جداً.

الثانية: لو فرض عدم تناهي الأوضاع - لصدورها من الله تعالى بناءً على كونه الواضع - فلا فائدة في الأوضاع غير المتناهية؛ وذلك لأن حاجة البشر إنما هي إلى مقدار متناهٍ من المعاني.

الثالثة: منع عدم تناهي المعاني؛ وذلك لأن الكليات متناهية، فالوضع للكليات - التي تنطبق على مصاديق كثيرة - يُغنينا عن الوضع لجزئيات المعاني.

الرابعة: يمكن استعمال الألفاظ مجازاً، فإذا لم تفِ الألفاظ بالمعاني أمكن استعمال تلك الألفاظ مجازاً في المعاني التي لا لفظ لها.

[4] هذا الجواب الأول، «استدعائه» أي: الاشتراك.

ص: 143


1- الفصول الغروية: 31.
2- هكذا في بعض النسخ، والصحيح «غير المتناهية».

ولو سلّم[1] لم يكد يجدي إلاّ في مقدارٍ متناهٍ؛ مضافاً[2] إلى تناهي المعاني الكلية، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية إلاّ أن وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بإزائها، كما لا يخفى؛ مع[3] أن المجاز باب واسع، فافهم[4].

الثاني عشر[5]:

-------------------------

[1] هذا الجواب الثاني، أي: لو سلمنا بأن صدور غير المتناهي من الواضع ممكن، «لم يكد» غير المتناهي، «مقدار متناه» من المعاني.

[2] هذا الجواب الثالث، «جزئياتها» أي: جزئيات الكليات «بإزائها» أي: بإزاء الجزئيات.

[3] هذا الجواب الرابع.

[4] لعله إشاره إلى عدم تناهي المركبات، فلا يشترط إفهام اللفظ عبر وضع مستقل لكل معنى، بل يمكن إفهام كثير من المعاني عبر تركيب الكلمات، مثلاً: الروائح كثيرة ولم يوضع لها لفظ خاص، ومع ذلك يمكن عبر الإضافة إفهام أنواعها، كأن يقول رائحة اللحم، رائحة الخبز... الخ.

أو إشارة إلى عدم الحاجة إلى هذا البحث بعد وقوع الاشتراك قليلاً في اللغات، وضرورة وقوعه في القرآن الكريم، فجميع الأدلة في عدم إمكانه أو عدم وقوعه مغالطة ينبغي أن لا يُعتنى بها.

الأمر الثاني عشر في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

اشارة

[5] إذا كان اللفظ موضوعاً لمعنيين أو أكثر، كالعين الجارية والباصرة، فهل يجوز استعمال لفظ واحد وإرادة المعنيين أو المعاني؟

وكذلك هل يجوز استعمال لفظ واحد وإرادة معناه الحقيقي والمجازي معاً؟

وقبل الخوض في البحث لابد من تمهيد مقدمتين:

المقدمة الأولى: ليس الكلام هنا في المشترك المعنوي، فإن استعمال لفظه وإرادة جميع الأفراد جائز بلا إشكال، مثل لفظ: (الإنسان) يراد به القدر المشترك بين أفراده.

ص: 144

-------------------------

ولا في المركبات التي تتكوّن من عدة أجزاء، ثم يطلق اللفظ على ذلك المركب، كالدار، حيث تطلق على المركب من أجزاء كثيرة، فهذا أيضاً لا إشكال فيه.

وإنما الكلام هنا في استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين مستقلين، كالعين في الجارية والباصرة، والأسد في المفترس والرجل الشجاع.

المقدمة الثانية: في الاستعمال، وقد مرّ سابقاً بحث الوضع، وهو عمل الواضع، بأن يختار لفظاً فيضعه على معنى.

ونبحث الآن عن الاستعمال، بأن يستعمل الناس اللفظ الموضوع لمعنى في ذلك المعنى حقيقةً أو في غير مجازاً.

قد يقال: إن الاستعمال هو جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، فكلّما أراد المتكلم إفهام معنى للسامع جعل اللفظ علامة على بيان مراده.

ومن الواضح جواز جعل علامة واحدة لشيئين، كالدخان الذي هو علامة النار والطبخ والضيف وأمثال ذلك.

لكن الصحيح أن اللفظ يُوجِد المعنى في ذهن السامع، فذهن السامع خالٍ عن المعنى، ولكنه بمجرد سماعه اللفظ يُوجَد المعنى في ذهنه.

وسبب ذلك أن اللفظ صار مرآة للمعنى بحيث يكون اللفظ مغفولاً عنه، وإنما يكون كل التوجه إلى المعنى؛ ولذا يسري حسن أو قبح اللفظ إلى المعنى.

والحاصل: إن حقيقة الاستعمال هي جعل اللفظ فانياً في المعنى بحيث يكون اللفظ وجوداً للمعنى؛ ولذا يكون اللفظ مغفولاً عنه، ويكون كل التوجه إلى المعنى.

بعد هاتين المقدمتين يتبين استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى - كما سيأتي توضيحه - .

ص: 145

إنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال[1] - بأن يراد منه كل واحد كما إذا لم يستعمل إلاّ فيه[2] - على أقوال[3].

أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلاً. وبيانه: إنّ حقيقة الاستعمال[4] ليس مجرد جعل اللفظ علامةً لإرادة المعنى، بل جعله وجهاً[5] وعنواناً له، بل بوجهٍ نفسه[6] كأنه الملقى[7] ولذا[8] يسري إليه قبحه أو حسنه، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] هذا القيد لإخراج المشترك المعنوي، ولإخراج المركبات، كما تمّ توضيحه في المقدمة الأولى، «بأن يراد» بيان لمعنى الاستقلال والانفراد، «منه» من اللفظ، «كل واحد» من المعنيين أو المعاني.

[2] لم يستعمل اللفظ إلاّ في ذلك المعنى الواحد فقط.

[3] يذكر المصنف - هنا - من الأقوال(1):

1- الاستحالة العقلية، وهو مختار المصنف.

2- جوازه عقلاً، وعدم وقوعه خارجاً؛ وذلك لشرط الواضع، وهو مختار المحقق القمي.

3- جوازه في المفرد مجازاً، وفي التثنية والجمع حقيقة، وهو مختار صاحب المعالم.

[4] بيان للمقدمة الثانية.

[5] أي: جعل اللفظ وجهاً للمعنى، بمعنى جعل اللفظ وجوداً للمعنى.

[6] أي: بل اللفظ بوجه صحيح يكون نفس المعنى، أي: يكون مرتبة من مراتب وجود المعنى.

[7] أي: الملقى عبر التلفظ يكون نفس المعنى، مثلاً: من يريد إفهام القلم، فتارة يأتي بالقلم نفسه، وتارة يأتي بلفظ (ق ل م)، فكأنّ اللفظ نفس المعنى.

[8] أي: لأن اللفظ صار نفس المعنى، نجد أن آثار المعنى تكون للّفظ أيضاً، مثلاً: حسن المعنى يسري إلى اللفظ، وكذا قبحه.

ص: 146


1- الفصول الغروية: 54؛ قوانين الأصول 1: 70.

ولا يكاد[1] يمكن جعل اللفظ كذلك[2] إلاّ لمعنى واحد، ضرورة[3] أن لحاظه هكذا[3] في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إنّ لحاظه كذلك[5] لا يكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون[6]، ومعه[7] كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد؟ ومع استلزامه[8] للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

-------------------------

[1] أي: بعد هاتين المقدمتين اتضح أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى محال؛ إذ لا يعقل فناء شيء واحد في شيئين؛ لأن ذلك مستلزم اجتماع لحاظين؛ وذلك محال؛ لأن اللحاظين متضادان فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وبعبارة أخرى: إن اللفظ حينما يكون بتمامه وجهاً لتمام المعنى وفانياً فيه، فلا يبقى شيء لكي يجعل بتمامه وجهاً للمعنى الآخر.

[2] أي: لا يمكن جعل اللفظ وجهاً وعنواناً إلاّ لمعنى واحد فقط؛ إذ لا يعقل فناء شيء واحد في شيئين.

[3] دليل الاستحالة: وهو اجتماع لحاظين في شيء واحد، وهو محال.

[4] أي: لحاظ اللفظ، «هكذا» أي: وجهاً وفانياً، «إرادة معنى» واحد، «لحاظه» لحاظ ذلك اللفظ، «كذلك» وجهاً وفانياً، «الآخر» المعنى الآخر.

[5] حاصله: إن لحاظ اللفظ فانياً في المعنى الأول يُوجب عدم بقاء شيء ليكون فانياً في المعنى الثاني، «لحاظه» لحاظ اللفظ، «كذلك» وجهاً.

[6] عطف تفسيري، فالوجه وذي الوجه بنفس معنى العنوان والمعنون، أي: المعنى الذي جعل اللفظ عنواناً ووجهاً له.

[7] أي: مع لحاظ اللفظ فانياً في المعنى، «معه» مع المعنى الأول، «كذلك» بحيث يكون اللفظ فانياً في المعنى الثاني أيضاً.

[8] هذا بيان لوجه الاستحالة، وحاصله: إن ذلك يستلزم اجتماع اللحاظين

ص: 147

وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد، لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين[1].

فانقدح بذلك[2] امتناع استعمال اللفظ مطلقاً[3] - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنى، بنحو الحقيقة أو المجاز.

ولو لا امتناعه[4]

-------------------------

في شيء واحد، وذلك محال - كما مرّ تقريبه - «استلزامه» استلزام استعمال اللفظ في المعنى الثاني، «غير لحاظه» اللفظ، «كذلك» فانياً في المعنى الأول.

[1] فيرى لفظين، فيكون كل لفظ فانياً في معنى!

[2] بامتناع إرادة معنيين من لفظ واحد.

[3] شَرَح قوله: (مطلقاً) بقوله: (مفرداً...) و(بنحو الحقيقة...) خلافاً لصاحب المعالم(1) حيث جوّزه في المفرد مجازاً، وفي التثنية والجمع حقيقةً.

[4] أي: الوجه في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو استحالة ذلك، ولو لا الاستحالة لجاز ذلك.

أما ما ذهب إليه صاحب المعالم من أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في معنيين إلغاء لقيد الوحدة فيكون مجازاً؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له. فغير صحيح؛ لأن (الوحدة) لم تُؤخذ في المعاني أصلاً، مثلاً: لفظ (الإنسان) وضع للحيوان الناطق، وليس المعنى الحيوان الناطق مقيداً بالوحدة كما هو واضح.

وكذا ما ذهب إليه المحقق القمي من أن اللفظ موضوع للمعنى في حال الوحدة، فلا يجوز استعماله في معنيين؛ لأن اللغات توقيفية فلابد من مراعاة الوحدة في حال الاستعمال.

وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن حالات الوضع غير دخيلة في المعنى، ولا تُقيّده،

ص: 148


1- معالم الدين: 38-39.

فلا وجه لعدم جوازه[1]، فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له[2] واضح المنع[3].

وكون الوضع في حال وحدة[4] المعنى وتوقيفيته[5] لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى.

ثم لو تنزّلنا عن ذلك[6] فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية

-------------------------

مثلاً: لو كان الوضع في الليل فهذا لا يوجب عدم جواز الاستعمال في النهار، كذلك الوضع في حال الانفراد لا يوجب عدم جواز الاستعمال في غير حال الانفراد.

[1] أي: لعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[2] كما ذهب إليه صاحب المعالم.

[3] لعدم الدليل على اعتبار الواضع قيد الوحدة، بل نُلاحظ في الأوضاع المختلفة - كتسمية المواليد - الغفلة عن قيد الوحدة.

بل قد يقال: إنه لو أريد لحاظ المستعملين فإن هذا اللحاظ يمتنع أخذه في الوضع؛ لأن الاستعمال متأخر عن الوضع، فلا يمكن أخذه في الموضوع له.

[4] كما ذهب إليه المحقق القمي(1).

[5] أي: توقيفية الوضع، وهذا دليل المحقق القمي، كما شرحناه آنفا، «لا يقتضي...» بيان للجواب.

[6] أي: عن الاستحالة العقلية، وهذا شروع للإشكال على تفصيل صاحب المعالم بين استعمال المفرد في أكثر من معنى فيكون مجازاً، وبين استعمال التثنية والجمع في الأكثر فيكون حقيقة.

واستدلال صاحب المعالم(2)

من شقين:

1- إنّ لفظ المفرد موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر من واحد

ص: 149


1- قوانين الأصول 1: 70.
2- معالم الدين: 39.

والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلاً على كونه[1] بنحو الحقيقة فيهما لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، وبنحو المجاز فيه[2] لكونه موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملاً في جزء المعنى[3] بعلاقة الكلّ والجزء، فيكون مجازاً(1).

وذلك[4] لوضوح أن الألفاظ لا تكون موضوعة إلاّ لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة[5]، وإلاّ[6] لما جاز الاستعمال في الأكثر، لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء، والشيء بشرط لا، كما لا يخفى.

-------------------------

هو إلغاء لقيد الوحدة، فيكون استعمال اللفظ في جزء المعنى وهو مجاز، والعلاقة المصححة لهذا الاستعمال هي علاقة الكل والجزء.

2- وإن لفظ التثنية والجمع في قوة تكرار المفرد، فلفظ (عينان) في قوة قولك: (عين وعين) فكل لفظ استعمل في معناه الحقيقي، أي: المعنى بقيد الوحدة.

[1] كون اللفظ، و«فيهما» «لكونهما» أي: التثنية والجمع.

[2] في المفرد، «لكونه» المفرد.

[3] لأن المعنى مركب من مفهوم الشيء مقيداً بالوحدة.

[4] شروع في رد التفصيل، «وذلك» الذي قلناه بأنه (لا وجه للتفصيل... الخ)، وحاصله: أما الشق الأول، فيرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إنّ قيد الوحدة ليست قيداً للمعنى أصلاً - لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية - فإن الألفاظ موضوعة لنفس المعنى بلا هذا القيد، والدليل هو تبادر المعنى فقط، وعدم تبادر قيد الوحدة أصلاً.

[5] عبارة «بلا ملاحظة قيد الوحدة» توضيح لقوله: (نفس المعاني).

[6] أي: إن لم يكن اللفظ موضوعاً لنفس المعنى، بل كان موضوعاً للمعنى بقيد الوحدة.

ص: 150


1- معالم الدين: 39.

والتثنية والجمع[1] وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلاّ أن الظاهر أنّ اللفظ

-------------------------

وهذا الإشكال الثاني، وحاصله: إنه لو فرض أن الألفاظ وضعت للمعاني مع قيد الوحدة كان لازم ذلك عدم جواز استعمال الألفاظ في أكثر من معنى حتى مجازاً؛ وذلك لعدم العلاقة المُصحِّحة للاستعمال المجازي؛ لتباين المعنى بقيد الوحدة مع المعنى بقيد الانضمام، فالمعنى بقيد الوحدة هو (بشرط لا)، والمعنى بقيد الانضمام هو (بشرط شيء) ومن المعلوم التباين بينهما، فلا يكون من قبيل علاقة الكل والجزء.

وبعبارة أخرى: (المعنى بقيد الانضمام) ليس جزءاً من (المعنى بقيد الوحدة)، بل هو مباين له.

[1] شروع في ردّ الشق الثاني، فإنه يرد عليه إشكالان:

الإشكال الأول: إن المتبادر من التثنية والجمع هو تكرار المعنى الواحد، لا أنه فردان لمعنيين، مثلاً: (عينان) يتبادر منه فردان من المعنى الواحد كالباصرة، لا فردان من معنيين كالباصرة والجارية، فإن ذلك خلاف المتبادر، فيكون مجازاً لا حقيقة.

إن قلت: إن التثنية في الأعلام الشخصية تكرار لمعنيين، حيث إنه لا معنى كلّي للأعلام، بل كل لفظ له معنى يغاير معنى اللفظ الآخر، مثلاً: (زيدان) يراد به معنيان، هما: زيد بن عمرو، وزيد بن خالد - مثلاً - .

قلت: التثنية في الأعلام بتأويل المسمى، أي: فردان من المسمى بزيد، فنفرض كلياً اعتبارياً هو عنوان (المسمى بزيد) ثم نُكرِّر هذا المعنى بلفظ التثنية. هذا أولاً.

وثانياً: لو فرض عدم الحاجة إلى التأويل إلى (المسمى بكذا) بل قلنا بكفاية الاتحاد في اللفظ في صحة التثنية على نحو الحقيقة، فنقول: إن ذلك ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ص: 151

فيهما[1] كأنه كرّر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه. فإذا قيل مثلاً: (جئني بعينين) أريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية.

والتثنية والجمع في الأعلام إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها[2]. مع أنه[3] لو قيل بعدم التأويل وكفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما[4] حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقةً، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر، لأنّ هيئتهما[5] إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه[6] استعمالهما في معنى واحد، كما إذا استعملا[7] وأريد المتعدد من معنى واحد منهما، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] في التثنية والجمع، «كأنّه» كأنّ اللفظ، «أفراد معناه» الواحد لا أفراد معنيين أو معاني، «أنه» أن اللفظ، «منه» من اللفظ.

[2] أي: المفرد الذي تمّت تثنيته هو مأوّل إلى (المسمى بزيد) مثلاً، وهو جامع عنواني اعتباري.

[3] الإشكال الثاني - على الشق الثاني من استدلال صاحب المعالم - وحاصله: إنه لو قلنا بكفاية الاتحاد اللفظي في جواز التثنية والجمع حقيقة - حتى مع اختلاف المعنى - فليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل هو استعمال اللفظ في معنى واحد؛ لأن التثنية وضعت للاثنين، وهنا استعملنا لفظ التثنية في معناه الموضوع له، فليس استعمالاً للّفظ في أكثر من معنى، وكذلك في الجمع.

[4] استعمال التثنية والجمع على نحو الحقيقة لا المجاز، «هذا» أي: هذا الاستعمال.

[5] أي: هيئة التثنية والجمع، «مما يراد» أي: من المعنى الذي يراد.

[6] أي: معاني المفرد.

[7] أي: فلا يكون - حينئذٍ - فرق في استعمال لفظ التثنية والجمع بين إرادة أفراد

ص: 152

نعم[1] لو أريد - مثلاً - من عينين[2] فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلاّ أن حديث[3] التكرار لا يكاد يجدي في ذلك[4] أصلاً، فإن فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضاً، ضرورة أن التثنية عنده إنما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة، والفرق[5] بينها وبين المفرد إنما يكون في أنه موضوع

-------------------------

متعددة من معنى واحد، وبين أفراد من معانٍ مختلفة، فكلاهما استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، وليس استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[1] أي: يكون استعمال التثنية من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى، في صورة إرادة أربعة أفراد - مثلاً - كما لو أراد فردين من العين الجارية، وفردين من الباكية في قوله: (عينان)، لأنها بمنزلة (عين وعين) والأولى أريد بها فردان من الجارية، والثانية أريد بها فردان من الباكية، فكان من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى.

[2] أي: من لفظ (عينين)

[3] أي: في هذه الصورة (وهي إرادة فردين من الجارية وفردين من الباكية) لا يكون استعمال اللفظ في معناه الحقيقي - خلافاً لما ذهب إليه صاحب المعالم - وذلك لأن (عينين) هي تكرار عين مرتين، فكل (عين) دلت على فردين، وفي ذلك إلغاء لقيد الوحدة.

[4] أي: في كون الاستعمال حقيقياً، «فيه» استعمال التثنية في أربعة أفراد، «أيضاً» كما في المفرد إذا استعمل وأريد أكثر من معنى، «عنده» عند صاحب المعالم.

[5] أي: بناء على كلام صاحب المعالم فإنّ قيد الوحدة مأخوذة، سواء في المفرد أم في المكرر في التثنية، والفرق بين المفرد وبين مكرر التثنية غير فارق، ففي المفرد يراد من اللفظ الطبيعة بقيد الوحدة، وفي التثنية يراد تكرار الفرد مع قيد الوحدة، أو فردين من معنيين بقيد الوحدة، «بينها» بين التثنية، «أنه» أن المفرد، «هي» التثنية، «منها» من الطبيعة.

ص: 153

للطبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هو أوضح من أن يخفى.

وهم ودفع: لعلّك تتوهم[1] أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطوناً سبعة(1) أو سبعين[2] تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلاً عن جوازه.

ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها[3] أصلاً على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله[4] كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من

-------------------------

وهم ودفع

[1] حاصل الإشكال: إنه قد دلت الروايات على أن للقرآن ظهراً بطناً، فكما يراد الظاهر من ألفاظه كذلك يراد بطنه، وهذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فيدل على إمكانه؛ لأن الوقوع أدل دليل على الإمكان.

والجواب من وجهين:

الأول: لعل اللفظ يدل على الظاهر، وأما الباطن فهو أريد بنفسه - من غير دلالة اللفظ عليه - لكن إرادته كانت مقارنة لإرادة الظاهر من اللفظ.

الثاني: أن يكون البطن من لوازم المعنى الظاهر، فإذن لم يستعمل اللفظ إلاّ في المعنى الظاهر، ولازمه كانت تلك البطون، ومن المعلوم أن اللفظ غير مستعمل في اللوازم، كما لو قال: (جاء الحاج) ولازم مجيئه الضيافة، فلم يستعمل اللفظ في الضيافة، بل استعمل في معناه الظاهر وهو مجيء الحاج، لكن يُفهم اللازم من غير أن يكون استعمال اللفظ فيه.

[2] قيل: إن الروايات دالة على سبعة دون سبعين، «جوازه» جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

[3] أي: للأخبار، «ارادتها» أي: إرادة البطون.

[4] بيان الجواب الأول، والضمير للشأن، «بإرادتها» البطون.

ص: 154


1- عوالي اللئالي 4: 107.

اللفظ كما إذا استعمل فيها[1]، أو كان المراد[2] من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها[3].

الثالث عشر: إنه اختلفوا[4] في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ[5] في الحال[6] أو في ما يعمه وما انقضى عنه على أقوال(1)،

بعد الاتفاق على كونه[7] مجازاً في ما يتلبس به في الاستقبال.

-------------------------

[1] أي: ليست البطون مرادة من اللفظ بحيث يكون اللفظ مستعملاً فيها.

[2] بيان الجواب الثاني «معناه» معنى اللفظ، الذي ذلك المعنى استعمل اللفظ فيه.

[3] إدراك تلك اللوازم؛ وذلك لأن الله تعالى أفاض علمها إلى حججه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حصراً.

الأمر الثالث عشر بحث المشتق

اشارة

[4] الغرض هو تحرير محل النزاع، فيقال: مثل: (ناصر) مشتق، ويطلق في ثلاث حالات:

1- من نصر في الماضي، وهنا محل الخلاف بأن استعمال (ناصر) على من صدر منه النصر سابقاً هل هو استعمالاً حقيقياً أم مجازياً.

2- من هو مشغول بالنصر حالاً، ولا إشكال في أن الاستعمال فيه حقيقي.

3- من سينصر في المستقبل، وهذا لا إشكال في كونه مجازاً لعدم اتصاف الذات بالمبدأ.

[5] أي ارتباط المبدأ بالذات، وإنّما عبر بالتلبس، لأن أنحاء ارتباط الذات بالمبدأ - أي المصدر - مختلفة، كما سيأتي بعد قليل.

[6] أي حال النسبة - كما سيأتي توضيحه - «يعمّه» أي يعمّ الحال والماضي، فيكون المشتق موضوعاً لكليهما.

[7] كون المشتق، «به» بالمبدأ.

ص: 155


1- نهاية الدراية 1: 113.

وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها ينبغي تقديم أمور:

أحدها[1]: إنَّ المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات[2] مما يكون مفهومه[3] منتزعاً عن الذات بملاحظة[4] اتصافها

-------------------------

الأمر الأول: معنى المشتق

[1] لا يخفى أن هناك عموماً من وجه بين المشتق الأصولي، والمشتق الصرفي؛ لأن المشتق في الصرف هو كل ما أخذ من المصدر، سواء كان فعلاً أم اسماً كضارب ويضرب، ولا يطلق على الجامد الذي لا مصدر له كزيد وزوج ونحوهما.

والمشتق الأصولي هو الذات الذي جرى عليها المبدأ، فلا يشمل الأفعال؛ لأنها ليست للذات، وقد يشمل بعض الجامدات، مثل: (زوج) فإنه اسم جامد، ولكن معناه ذات تلبست بالزوجيّة.

فاتضح أن بين المشتق الصرفي والمشتق الأصولي عموماً من وجه، فيجتمعان في الأسامي المشتقة من المصدر، كاسماء الفاعل والمفعول والآلة... الخ. ويفترق الصرفي في الأفعال، ويفترق الأصولي في الجوامد التي يجري عليها المبدأ، كالزوج والرق ونحوهما.

[2] أي: ما يكون دالاً على ذات متصفة بالمبدأ، وبعبارة أخرى: ذات ينتزع عنها مفهوم المشتق؛ لاتصاف تلك الذات بمبدأ خارج عنها، ولكنه متحد معها.

[3] أي: من المشتقات التي يكون مفهومها منتزعاً عن الذات؛ لأنها ليست داخلة في الذات ولا هي أمر اعتباري، بل هي أمر حقيقي انتزاعي.

[4] أي: سبب الانتزاع هو اتصاف الذات بالمبدأ، فلا يدخل في المشتق ما كان منتزعاً عن نفس الذات بلا اتصاف بأمر خارج عنها، كالإنسانية المنتزعة عن الإنسان.

ص: 156

بالمبدأ واتحادها معه بنحوٍ من الاتحاد[1]، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإيجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو[2] ظاهر العنوانات وصريح بعض المحققين(1).

مع عدم صلاحية[3] ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلاّ

-------------------------

[1] أي: أنحاء الاتحاد أربعة، وكيفية ذلك الاتحاد لا يوجب اختلافاً في حقيقة المشتق، وتلك الأنحاء:

1- الحلول: بأن يحلّ المبدأ في الذات، مثل زيد عالم، فالعلم حلّ في زيد.

2- الانتزاع: بأن ينتزع المبدأ عن الذات، كالسابق والفوقية والتحتية، فإنها تنتزع عن الذات باعتبار اتصافها بالسبق والفوق والتحت ونحوها.

ثم إنه يدخل في هذا النحو الأمور الاعتبارية، كالملكية والزوجية ونحوها؛ وذلك لأن المصنف لم يفرق بين الاعتبار والانتزاع، فتأمل.

3- الصدور: بأن كان الفعل قائماً بغير الفاعل، كالضارب، فإن الفعل قائم بالمضروب.

4- الإيجاد: بأن يكون الفعل قائماً بالفاعل، كالآكل والمتكلم ونحوهما.

[2] أي: عدم الفرق ظاهر عنوان البحث في كتب الأصوليين، حيث عنونوا البحث بالمشتق، وكل هذه مشتقات.

[3] احتمل صاحب الفصول(2)

تخصيص البحث باسم الفاعل وما في معناه - من الصفات المشبهة - فلا يشمل أسماء المفعول والزمان والمكان والآلة... الخ.

ومنشأ هذه الاحتمال ثلاثة وجوه:

1- التمثيل: حيث مثّلوا للمشتق باسم الفاعل وما في معناه، لكن من الواضح أن التمثيل لا يوجب حصر البحث في المُمَثَّل به.

ص: 157


1- هداية المسترشدين 1: 369.
2- الفصول الغروية: 60.

التمثيل به[1]، وهو غير صالح[2]، كما هو واضح.

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلة[3] من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه[4] من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات.

ولعل منشأه[5] توهم كون ما ذكره لكل منها - من المعنى[6] - مما اتفق عليه الكل،

-------------------------

2- توهم أن المعاني التي ذكرها لتلك المشتقات هي معانٍ متفق عليها، فلا مورد للنزاع، لكن الصحيح هو أنهم قد اختلفوا في تلك المعاني أيضاً.

فتحصّل أنه لا وجه لتخصيص النزاع باسم الفاعل وما يشابهه، بل يجري في جميع المشتقات، أي: الذوات التي جرى عليها المبدأ.

3- اختلاف كيفية التلبس، وسيأتي توضيحه.

[1] أي: بذلك البعض، أي: من المشتقات.

[2] أي: التمثيل غير صالح لتخصيص البحث في المُمَثَّل به.

[3] وهو صاحب الفصول(1).

[4] مما صدر الفعل عن الفاعل أو قام به، وذلك كأسماء الفاعل والصفات المشبهة التي تكون بمعنى قيام الفعل، «وما يلحق بها» كالمصادر المستعملة بمعنى اسم الفاعل، وكالمنسوبات مثل الكوفي والبصري وأمثالهما.

[5] منشأ هذا الزعم، وهذا هو الوجه الثاني.

[6] ومن المعاني التي ذكرها متوهماً الاتفاق عليها:

1- اسم المفعول: حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال.

2- اسم الزمان: حقيقة في الزمن الذي وُجِد فيه المبدأ في الحال أو الماضي، ومجاز في غيره.

3- اسم الآلة: حقيقة في ما اُعِدَّ للآليّة، أو اختص بها، سواء حصل به المبدأ أم لم يحصل.

ص: 158


1- الفصول الغروية: 60 وفيه: «أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به...».

وهو كما ترى.

واختلاف[1] انحاء التلبّسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية[2] والشأنية والصناعة والملكة - حسبما نشير إليه[3] -

-------------------------

4- صيغ المبالغة: حقيقة في الذات التي كَثُرَ اتصافها بالمبدأ، ولا يعتبر الاتصاف حال النطق.

ويرد عليه: إن النزاع يجري فيها أيضاً، فاسم المكان والزمان هل هو حقيقة في المكان والزمان الذي وقع فيه الفعل حالاً أو أعمّ من الحال والماضي؟ وكذا البواقي.

[1] هذا هو الوجه الثالث للتوهم، وحاصله: إن بعض المشتقات موضوعة للأعم بالاتفاق، فهي خارجة عن حريم النزاع، مثلاً: (الخيّاط) يطلق حقيقة على من مهنته الخياطة حتى إذا لم يكن مشغولاً بالخياطة، فهذا المشتق - الخياط - موضوع للأعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه.

ثم إن منشأ اختلاف المشتقات هو اختلاف المادة، فبعض المواد لا تطلق إلاّ على المتلبس بها، وبعضها تطلق حتى على الذي انقضت عنه.

[2] الفعلية: كالقائم والقاعد، فهي تطلق على من تلبس فعلاً بالمبدأ.

والشأنية: كالمُثمِر، فهي تطلق على الشجرة التي لها شأنية الاثمار وإن لم يخرج ثمرها بعد.

والصناعة: كالخياطة، فإنها تطلق على الذي يمتهن هذه المهنة.

والملكة: كالاجتهاد، فهي تطلق على من له ملكة الاجتهاد.

[3] هذا كلام صاحب الفصول، فقال: (إن المشتق إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدية إلى الغير كان حقيقة في الحال والماضي، أعني القدر المشترك بينهما، وإلاّ كان حقيقة في الحال)(1).

وقال أيضاً: (إنه قد يطلق المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته، كما يقال

ص: 159


1- الفصول الغروية: 60.

لا يوجب[1] تفاوتاً في المهم من محل النزاع[2] هاهنا، كما لا يخفى.

-------------------------

هذا الدواء نافع كذا أو مضرّ، وشجرة كذا مثمرة، والنار محرقة إلى غير ذلك. وقد يطلق ويراد به المتصف بملكة المبدأ، وباتخاذه حرفة وصناعة، كالكاتب والصانع والتاجر والشاعر ونحو ذلك. ويعتبر في المقامين حصول الشأنية والملكة والاتخاذ حرفة في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره، وفي الثاني خاصة سبق مزاولة مع عدم الإعراض)(1).

[1] هذا الجواب، وحاصله: إن كيفية التلبس بالمبدأ تختلف، لكن ذلك لا يوجب اختلافاً في جهة البحث. فتلبّس الذات بالمبدأ قد يكون بكيفية هي الملكة، ومن المعلوم أن التلبس بالملكة ليس بمعنى المزاولة الفعلية، فالمجتهد حتى وإن كان نائماً فإنه متلبس بالاجتهاد؛ لأن معنى تلبسه هو كونه ذا ملكه. نعم، لو زالت الملكة يكون قد انقضى عنه المبدأ.

وكذا تلبّس النجّار ليس بمعنى مزاولة النجارة فعلاً، بل بمعنى أن تكون النجارة حرفته، وهذه الحرفة تكون مستمرة ما دامه لم يُعرض عن النجارة وينشغل بالحِدادة مثلاً، والانقضاء يحصل بهجرانه النجارة وانشغاله بالحدادة مثلاً.

وكذا تلبس الشجرة بالثمرة ليس بمعنى وجود الثمرة فعلاً على الشجرة، بل بمعنى قابليتها للإثمار، وهذا الإثمار موجود حتى لو كانت الشجرة يابسة في الشتاء - مثلاً - وانقضاء المبدأ إنما يكون بزوال الشأنية... وهكذا.

فتحصل أن كيفية التلبس تختلف، وكيفية انقضاء المبدأ أيضاً تختلف، لكن ذلك لا يوجب تفاوتاً في بحث المشتق.

[2] وهو أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، أم أنه حقيقة في الأعم من المتلبس ومن المنقضي عنه المبدأ.

ص: 160


1- الفصول الغروية: 60.

ثم إنه لا يبعد[1] أن يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذات ومنتزعاً عنها بملاحظة اتصافها بعَرَض أو عَرَضي[2] ولو كان جامداً، كالزوج والزوجة والرق والحر.

وإن أبيت[3] إلاّ عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق - كما هو قضية الجمود

-------------------------

[1] بيان أن المشتق الأصولي قد يطلق على أسماء وهي ليست مشتقاً صرفياً، وكما ذكرنا فإن بين المشتق الأصولي والصرفي عموماً من وجه، فالزوج مشتق أصولي ويجري فيه النزاع، مع عدم كونه مشتقاً صرفياً؛ لأنه اسم جامد.

وإنما كان مشتقاً أصولياً لأن (زوج) هو بمعنى ذات متصفة بالزوجية، فبسبب هذا الاتصاف انتزعت لفظ الزوجية وأطلقت على الذات، فيقال بعد الطلاق أو وفاة الزوجة: هل إطلاق (الزوج) عليه حقيقي، أم مجازي باعتبار انقضاء المبدأ عنه؟

وإنما يجري الكلام فيه لأن غرض البحث يجري هنا أيضاً، فعموم البحث وخصوصه يتبع عموم الغرض وخصوصه.

[2] مراد المصنف من (العَرَض) ما كان أمراً خارجياً متأصلاً قائماً بالغير، أي: الشيء الذي له وجود خارجي، كالبياض والسواد.

ومراده من (العرضي) الاعتبارات العقلائية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج، كالزوجية والملكية.

وهذا الاصطلاح يخالف اصطلاح أهل المعقول، فإن (العرض) عندهم المبدأ كالبياض، و(العرضي) عندهم المشتق كالأبيض، كما قال السبزواري:

وعرضي

الشيء غير العرضِ

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيضِ(1)

ولا مشاحة في الاصطلاح.

[3] أي: إذا قيل: إنهم أرادوا المشتق الصرفي فقط، فنقول: إن ملاك البحث يجري في هذه الجوامد، بل إنَّ بعض الفقهاء أجروا بحث المشتق في لفظ (الزوجة)،

ص: 161


1- شرح المنظومة 1: 29.

على ظاهر لفظه - فهذا القسم من الجوامد أيضاً محل النزاع. كما يشهد به[1] ما عن الإيضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه: «تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين[2]،

-------------------------

وهذا يدل على عموم البحث أو لا أقل من وجود ملاك البحث، وهذا المقدار يكفي في تعميم البحث.

[1] إن فخر المحققين ابن العلامة(1)

أجرى البحث في لفظ (الزوجة) في مسألة الرضاع، وحاصل المسألة: إنه لو كان لرجل ثلاث زوجات: كبيرتان وصغيرة رضيعة، مع الدخول بالكبيرتين.

1- فإذا أرضعت إحدى الكبرتين هذه الصغيرة فإن الكبيرة تحرم؛ لأنها صارت أم الزوجة، وتحرم الصغيرة أيضاً لأنها صارت بنت الزوجة المدخول بها.

2- وبعد ذلك أرضعت الكبيرة الثانية الصغيرة، فإن حرمة هذه الكبيرة يتوقف على بحث المشتق؛ وذلك لأن الصغيرة قد كانت زوجة، وحين رضاعها من الثانية ليست بزوجة؛ لانفساخ نكاحها بإرضاع الأولى.

فإن قلنا: إنّ المشتق حقيقة في الأعم فالصغيرة زوجة، والكبيرة الثانية تصير أم الزوجة، فتحرم.

وإن قلنا: المشتق حقيقة في خصوص المتلبس فالصغيرة ليست بزوجة، فلا تصبح الكبيرة الثانية أماً للزوجة.

[2] بل الصحيح هو (مع الدخول بإحدى الكبيرتين) فإن الدخول بإحداهما يكفي في التحريم. أمّا تحريم الكبيرتين كلاهما فلصيرورتهما أُماً للزوجة. وأمّا تحريم الصغيرة فللدخول بأمها الرضاعية؛ لأن المدخول بها قد أرضعتها حتى لو لم تكن الأخرى مدخول بها.

ص: 162


1- إيضاح الفوائد 3: 52.

وأما المرضعة الأخيرة، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها، لأن هذه يصدق عليها أم زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه[1]، هكذا هنا[2]»(1).

وما عن[3] المسالك في هذه المسألة: من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق(2).

فعليه[4] كلُّ ما كان مفهومه منتزعاً عن الذات بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات[5]

-------------------------

[1] «المشتق منه» هو المبدأ.

[2] أي: المرضعة الثانية أرضعت الصغيرة التي كانت زوجة، وقد انقضى عنها الزوجية ف- «هكذا» قد انقضى المبدأ، «هنا» في هذه المسألة، وقيل معنى (هكذا هنا) أي: هكذا عبارة الإيضاح هنا في مسألة الرضاع!

[3] عطف على قوله: (ما عن صاحب الإيضاح).

[4] أي: بناءً على شمول بحث المشتق لبعض الجوامد.

[5] أي: بشرط أن لا يكون المبدأ ذاتياً؛ وذلك لأن الذاتي قسمان:

1- ذاتي باب الكليات الخمس، وهو الجنس والفصل.

2- ذاتي باب البرهان، وهو ما ينتزع من نفس الذات بلا ضم ضميمة، كانتزاع الإمكان من الممكن.

أما الأول: فإن انقضاء المبدأ سبب عدم صدق اللفظ قطعاً، فإذا تحوّل الإنسان إلى تراب لا يقال له إنسان قطعاً.

وأما الثاني: فلا يتصور انقضاء المبدأ؛ لامتناع انفكاك لوازم الذات عن الذات.

وأما إذا لم يكن المبدأ ذاتياً فانفكاكه عن الذات ممكن، فيمكن بقاء الذات مع

ص: 163


1- إيضاح الفوائد 3: 52.
2- مسالك الأفهام 7: 268.

- كانت عرضاً أو عرضياً[1]، كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والإضافات[2] - كان محل النزاع وإن كان جامداً. وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتيات[3]، فإنه لا نزاع[4] في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها.

ثانيها[5]:

-------------------------

زوال المبدأ، كالزوج حيث يمكن بقاء الرجل مع زوال الزوجية عنه.

[1] قد مرّ أن مراد المصنف من (العرض) هو ماله وجود خارجي متأصل قائم بالغير كالبياض والسواد، ومراده من (العرضي) الاعتبارات العقلائية كالزوجية ونحوها.

[2] العطف تفسيري، أو يقال: إن الفرق بينهما أن (الاعتبار) قائم بنفس المعتبر حتى لو لم يكن تصوره أو وجوده متوقفاً على الغير، و(الإضافة) متوقفة على الغير.

[3] «الذات» كالنوع وهو تمام الذات، و«الذاتي» كالجنس والفصل وهو جزء الذات، وكالإمكان وهو خارج عن الذات لكنه ملازم له.

[4] قد مرّ سبب عدم الخلاف قبل قليل.

الأمر الثاني: في اسم الزمان

[5] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان دخول (اسم الزمان) في النزاع، وأنّه هل وُضِع لخصوص المتلبس بالمبدأ أم للأعم؟

حيث إنه أشكل(1)

على دخول اسم الزمان في النزاع، بأن البحث إنما هو في الذات الباقية بعد انقضاء المبدأ، ولا يجري البحث مع زوال الذات.

و(الذات) في ما نحن فيه هي نفس الزمان، ومع انقضاء المبدأ تنقضي الذات أيضاً، فلا مجال للنزاع - وهو زمان انقضاء المبدأ - وذلك لأن الزمان الثاني فردٌ مباين للزمان الأول (وهو زمان التلبس).

ص: 164


1- نهاية الدراية 1: 118.

قد عرفت[1] أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلاّ أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لأن الذات فيه[2] - وهي الزمان - بنفسه ينقضي ويتصرّم[3]. فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقةٌ في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال أو في ما يعم المتلبس به في المضي؟

ويمكن حل الإشكال[4]

-------------------------

ومن الواضح أنه لا يصح إطلاق وصف فرد على فرد آخر مباين، مثلاً: لو كان زيد عالماً، وعمرو جاهلاً، فلا يصح إطلاق العلم على عمرو، وهكذا في اسم الزمان، فإن الزمان الأول الذي تلبس بالمبدأ فرد، والزمان الثاني بعد انقضاء المبدأ فرد آخر مباين.

مثلاً: (المقتل) وضع لزمان القتل، فالذات هي زمان خاص والمبدأ هو القتل، ومع انقضاء القتل ينقضي زمانه أيضاً، فلم تبق الذات بعد انقضاء المبدأ كي يقال: إن إطلاق المبدأ عليها حقيقة أم مجاز.

[1] في الأمر الأول، «الجارية على الذات» أي: المحمولة على الذات، «جريانه» أي: النزاع.

[2] أي: في اسم الزمان.

[3] والزمان الثاني - بعد الانقضاء - هو فرد مباين، «الوصف» أي: المبدأ كالقتل، «الجاري عليه» على الزمان في المقتل مثلاً.

[4] حاصل الجواب: إن لفظ المشتق لم يوضع للمصداق كي يقال: إنّ مصداق اسم الزمان واحد - وهو المتلبس بالمبدأ - بل وُضع لفظ المشتق للكلي، والوضع للكلي لا ينافي انحصار المصداق في فرد واحد.

ولنذكر لذلك مثالين:

1- لفظ (الله)، قيل: هو اسم للكلي! لكنه منحصر خارجاً في فرد واحد، هو الباري تعالى، لكن لا يخفى بطلان هذا التوهّم.

ص: 165

بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام[1] - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلاّ[2] لما وقع الخلاف في ما وضع له لفظ الجلالة؛ مع أن الواجب[3] موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.

ثالثها[4]: إنّه من الواضح روج الأفعال والمصادر المزيد فيها[5] عن حريم

-------------------------

2- (واجب الوجود) اسم للكلي، لكن لا يوجد خارجاً إلاّ فرد واحد فقط، هو الله سبحانه وتعالى.

وهنا - في اسم الزمان - يمكن أن يقال: إنّ الواضع وضع هيئة اسم الزمان للأعم، لكن خارجاً لا يوجد إلاّ مصداق واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال.

[1] وهو اسم الزمان، «بإزاء الفرد» أي: انحصار الوضع في المصداق، «العام» أي: وضع الهيئة للأعم من المتلبس والمنقضي.

[2] أي: لو كان انحصار المصداق في فرد موجب للوضع لذلك الفرد دون الكلي.

[3] هذا هو المثال الثاني.

الأمر الثالث: في الأفعال والمصادر

اشارة

[4] يذكر في هذا الأمر خروج المصادر والأفعال عن البحث؛ وذلك لأن الكلام حول ما إذا كانت الذات متصفة بوصف فانقضى ذلك الوصف مع بقاء الذات، ولا تدل المصادر على الذات أصلاً، بل تدل على المبدأ فقط، كما أن الأفعال لا تدل على الذات أيضاً، بل الأفعال تدل على النسبة فقط - أي: نسبة المبدأ إلى الذات - فليس مدلولها الذات أصلاً.

والحاصل: إن المصادر المزيد فيها وكذلك الأفعال هي مشتقات نحوية، لكنها ليست بمشتقات أصولية - كما مرّ توضيحه - .

[5] إنما خصص (المزيد فيها) - كالإكرام والاستخراج - بالذكر، مع أن المصدر

ص: 166

النزاع، لكونها غير جارية على الذوات[1]، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة[2] في الدلالة على ما يتصف به[3] الذوات ويقوم بها[4] كما لا يخفى، وأنّ الأفعال[5] إنما تدل على قيام المبادئ بها قيام صدور أو حلول[6]، أو طلب فعلها

-------------------------

المجرد خارج عن البحث أيضاً؛ لأن المصدر المزيد فيه مشتق نحوي، فقد يتوهم دخوله في البحث؛ فلذا أراد المصنف بيان خروجه عن البحث؛ لأنه ليس بمشتق أصولي، وأما المصدر المجرد فهو مبدأ الاشتقاق - على رأي البصريين(1)

- فلا يطلق عليه (المشتق) أصلاً.

[1] أي: لا تدل على وصف في الذات؛ ولذا لا يصح حملها على الذات بنحو الحقيقة.

[2] أي: كالمصدر المجرد، مثل: (نَصْر)، فإن المصادر مطلقاً - مجردة أم مزيدة - تدل على الوصف ولا تدل على الذات، فلا تكون مشتقاً أصولياً، الذي هو الذات التي يجري عليها الوصف.

[3] «ما» أي: الوصف الذي، «به» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة.

[4] عطف تفسيري، أي: يقوم ذلك المبدأ بالذات.

[5] وجه خروج الأفعال عن البحث هو أن للأفعال مادة وهيئة...

أما المادة: فلا تدل إلاّ على نفس الطبيعة من حيث هي هي - وهي المبدأ - من غير دلالة على الذات.

وأما الهيئة: فلا دلالة لها إلاّ النسبة - أي: نسبة المبدأ إلى الذات - ولا دلالة لها على الذات أصلاً.

فمثل: (نَصَرَ) لا يدل على ذات أصلاً حتى يبحث فيه عن انقضاء المبدأ عن الذات.

[6] هذا في الأفعال الخبرية، وذكر الصدور والحلول إنما هو للمثال، وقد مرّ قول المصنف في صدر بحث المشتق: (كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور أو الإيجاد).

ص: 167


1- تعليقة على معالم الأصول 2: 391.

أو تركها[1] منها على اختلافها[2].

إزاحة شبهة[3]: قد اشتهر في ألسنة النحاة(1) دلالةُ الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران بها[4] في تعريفه. وهو اشتباه[5]، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي

-------------------------

[1] في الأفعال الإنشائية، كالأمر والنهي، «منها» من الذات.

[2] أي: تعدد أنحاء الأفعال:

فطلب الترك: قد يكون تنزيهياً - كالمكروه - أو تحريمياً، أو إرشادياً.

ومبادئ الأفعال: قد تكون فعلية أو شأنية أو صناعة أو ملكة - كما مرّ - .

وطلب الفعل: قد يكون بنحو الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة.

وأنحاء القيام: قد يكون صدورياً أو حلولياً أو انتزاعياً.

عدم دلالة الفعل على الزمان

[3] هذا المطلب استطراد في البحث، حيث ذكر أن الفعل لا يدخل في المشتق الأصولي، فانجرَّ الكلام إلى البحث عن حقيقة الفعل.

فقد قال النحاة: إن الفعل ما دلّ على معنى مستقل مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، فمعنى الفعل عند النحويين مركب من معنى مستقل والزمان.

وبهذا فرّقوا بين الاسم والفعل، حيث إن الاسم ما دلّ على معنى مستقل من غير اقتران بزمان.

[4] أي: بالدلالة على الزمان، «تعريفه» تعريف الفعل.

[5] حاصل الإشكال على كلام النحاة: إن الأفعال قد تكون إنشائية - كالأمر والنهي - وقد تكون إخبارية - كالماضي والمضارع - .

أما الإنشائية: فإنها تدل على طلب الفعل أو الترك فقط، ولا دلالة لها على الزمان أصلاً، فمثل: (اُنصُر) يدلّ على طلب إيجاد النصر فقط.

ص: 168


1- شرح الرضي على الكافية 4: 5.

عليه[1]، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر[2] نفس الإنشاء بهما[3] في الحال، كما هو الحال[4] في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما[5]

-------------------------

إن قلت: إن نفس الأمر صدر في حال التكلم.

قلت: كل الزمانيات يكون الزمان ظرفاً لها؛ لاستحالة خروج الزمانيات عن الزمان، فالزمان كالمكان هما ظرف للأجسام والأفعال الزمانيّة، لكن لم يُؤخذ الزمان ولا المكان في مدلول تلك الاجسام والأفعال. فمثل: (زيد) داخل في الزمان والمكان، لكن باعتبارهما ظرفاً له، وليسا داخلين في معنى زيد.

وكذلك اسم الفاعل مثل: (زيد ناصر) لا دلالة له على الزمان - باعتراف النحويين أنفسهم بعدم دلالة الاسم على الزمان - مع أن الزمان ظرف للنصرة، فلابد من وقوع النصر في أحد الأزمنة الثلاثة.

وأما الأفعال الخبرية - كالماضي والمضارع - : فلا تدل على الزمان أيضاً، كما سيأتي توضيحه.

[1] أي: على الزمان.

[2] دفع لتوهم وهو: إنّ الطلب وقع في الزمان الحال، أي: حال التكلّم.

والجواب: إن الزمان الحال هو ظرف وليس جزء المعنى، فكل الكلمات - من اسم أو فعل أو حرف - تصدر من المتكلم في الحال، مع وضوح عدم كون الحال جزء المعنى.

[3] أي: بالأمر والنهي، والمعنى إيجاد الطلب بالفعل والترك كان ظرفه زمان الحال.

[4] أي: الشأن في سائر الكلمات كذلك.

[5] بغير الماضي والمستقبل، كالجملة الاسمية مثل: (زيد ناصر).

ص: 169

كما لا يخفى، بل يمكن[1] منع دلالة غيرهما[2] من الأفعال على الزمان إلاّ[3] بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيات، وإلاّ[4] لزم القول بالمجاز والتجريد[5] عند

-------------------------

[1] أي: الأفعال الإخبارية أيضاً لا تدل على الزمان؛ وذلك لوجوه - بعضها دليل وبعضها مؤيد - .

وأما الدليل فهو:

1- إن الأفعال قد تسند إلى الزمان، فيقال: (مضى الزمان)، ومن المعلوم عدم دلالة (مضى) على الزمان، وإلاّ لزم وقوع الزمان في الزمان؛ وهو محال؛ لأن الشيء لا يكون ظرفاً لنفسه.

2- يقال: (عَلِم الله)، والله سبحانه ليس في الزمان، وكذا صفاته الذاتية خارجة عن الزمان؛ لأنه سبحانه خالق الزمان، والزمان مخلوق، ويستحيل إحاطة المخلوق بالخالق.

وحينئذٍ إذا كان الزمان جزء مدلول الأفعال لزم المجاز في هذين الموردين - أي: في نسبة الفعل إلى الزمان وإلى الله - وذلك لعدم دلالة الفعل فيهما على الزمان مع كونه جزء المعنى - بناءً على هذا القول - .

مع وضوح أنا لا نرى أيّة مجازية في مثل: (مضى الزمان) و(علم الله).

[2] غير الأمر والنهي، والمراد: الأفعال الإخبارية.

[3] أي: قد تكون دلالة على الزمان بشرطين:

1- الإطلاق، بأن لم تكن قرينة على الإضافة، وسيأتي بعد قليل توضيحه.

2- الإسناد إلى الزمانيات - أي: الأجسام والأفعال التي لا تنفك عن الزمان - .

ومن الواضح أن الدلالة حينئذٍ ليست بالوضع كي يكون الزمان جزء المعنى.

[4] أي: لو قيل بدلالة الفعل على الزمان.

[5] «والتجريد» عطف تفسيري على (المجاز)؛ لأن الفعل في نفس الزمان، وكذا

ص: 170

الإسناد إلى غيرها[1] من نفس الزمان والمجردات[2].

نعم[3] ،لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى[4] خصوصية أخرى[5] موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع في ما كان الفاعل من الزمانيات[6].

-------------------------

في المجرد لا يدل على الزمان، فصار مجازاً؛ لعدم دلالة الكلمة على معناها الموضوعة له، بل على جزء المعنى.

[1] غير الزمانيات.

[2] أي: الموجودات التي لا تكون ماديّة، ولا يخفى أنه لا مجرد سوى الله سبحانه وتعالى، وكل المخلوقات هي أجسام - كثيفة أو لطيفة - .

[3] الزمان ليس جزء معنى الفعل، ولكن قد يدل الفعل على الزمان بالدلالة الالتزامية؛ وذلك لوجود خصوصية في تلك الأفعال تلازم الزمان. فالماضي له خصوصية التحقُّق، أي: وقوع الفعل؛ وذلك يلازم الزمان الماضي. والحال له خصوصية التلبُّس والاشتغال فعلاً؛ وذلك يلازم الزمان الحال. والمستقبل له خصوصية الترقّب، وهو يلازم الزمان القادم. وعلى كل حال لم يوضع الفعل للزمان، فليس الزمان من معناه، بل بالدلالة الالتزامية دلّ على الزمان، ومن المعلوم أن هذه الدلالة لا ترتبط بالمعنى.

[4] أي: هذه الخصوصية ترتبط بالمعنى لا باللفظ، أي: لا ارتباط لها بدلالة اللفظ لتكون بالوضع.

[5] غير خصوصية الإخبار - الذي يكون ذلك الإخبار في حال النطق - ، «للدلالة» الالتزامية، «النسبة» أي: نسبة الفعل إلى الفاعل.

[6] أي: هذه الخصوصية إنما هي في ما لو كان الذي صدر عنه الفعل من الزمانيات، وإلاّ فلو كان مجرداً، وكان الفعل من صفاته الذاتية فلا توجد تلك الخصوصية، فلا دلالة التزامية على الزمان، مثل: (علم الله)، كما مرّ توضيحه.

ص: 171

ويؤيده[1] أن المضارع يكون مشتركاً معنوياً بين الحال والاستقبال، ولا معنى له[2] إلاّ أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه[3] يدل على مفهوم زمان يعمهما، كما أن الجملة الاسمية[4] ك- (زيد ضارب) يكون لها معنى[5] صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة،

-------------------------

[1] هذا المؤيد الأول على عدم كون الزمان جزء معنى الفعل، وحاصله: إنّ الفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال، مع عدم وجود جامع بينهما. ومن المعلوم أنّه لابدّ في المشترك المعنوي من وجود جامع يشترك فيه الأفراد، وهنا نتسائل: ما هو الجامع بين الحال والمستقبل؟

فإن قيل: الجامع هو نفس الزمان.

قلنا: لا يوجد زمان جامع بين الحاضر والمستقبل؛ لأن مصداق الزمان جزئي مع وضوح كون الجامع كلياً، ومفهوم الزمان عام يشمل الماضي أيضاً، مع بداهة عدم دلالة المضارع على الزمان الماضي.

ثم إن اعتبار هذا مؤيداً لأجل احتمال أن يكون الاشتراك لفظياً، بمعنى أن المضارع وضع مرّةً للحال ومرّةً أخرى للاستقبال، وفي المشترك اللفظي لا حاجة إلى الجامع، بل قد يوضع لفظ واحد لمعانٍ متباينة بأوضاع متعددة.

[2] أي: للاشتراك المعنوي، «يكون له» أي: للمضارع، والحاصل: إنّ المشترك المعنوي بحاجة إلى جامع، «انطباقه» ذلك المعنى، «منهما» من الحال والمستقبل.

[3] أي: لا يدل المضارع يدل على الزمان المطلق ليكون جامعاً.

[4] أي: ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل على الزمان، بل الزمان يستفاد بالالتزام من الخصوصيات، كذلك نقول في الجملة الاسمية، فهي لم توضع للزمان بالاتفاق، ولكن قد تكون فيها خصوصية تسبِّب الدلالة على الزمان بالالتزام، مثل اسم الفاعل في (زيد ناصرٌ) أمس أو اليوم أو غداً.

[5] هو صدور حدث من الفاعل، ومن المعلوم أن الزمان ظرف للحدث.

مع عدم دلالتها[1] على واحد منها أصلاً، فكانت الجملة الفعلية مثلها[2].

ص: 172

وربما يؤيد ذلك[3] أن الزمان الماضي في فعله[4] وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع لا يكون[5] ماضيا أو مستقبلاً حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي[6] مستقبلاً حقيقة وفي المضارع ماضياً كذلك، وإنما يكون ماضياً أو مستقبلاً في فعلهما

-------------------------

[1] أي: الجملة الاسمية، «منها» من الأزمنة الثلاثة.

[2] في عدم الدلالة على الزمان وضعاً، واستفادة الزمان من الإطلاق لوجود تلك الخصوصية.

[3] هذا المؤيد الثاني على عدم كون الزمان جزء معنى الفعل، وحاصله: إنه قد تستعمل الأفعال في الزمان الإضافي، بمعنى أنه قد يستعمل الفعل الماضي في الزمان المستقبل، ولكن كونه ماضياً بالإضافة إلى شيء لاحق له من غير أن يكون مجازاً، كما يقال: (سيجيء زيد بعد سنة وقد أكمل دراسته)، فإكمال الدراسة لم يتحقق الآن، بل سيتحقق بعد أحد عشر شهراً مثلاً، ومع ذلك استعمل الفعل الماضي من غير مجازيّة؛ لأن إكمال الدراسة يقع قبل السنة، فبهذا الاعتبار استعمل الفعل الماضي.

ولو كان الفعل الماضي يدل على الزمان الماضي لكان هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له فيكون مجازاً، مع وضوح عدم المجازيّة. وإنما جعله مؤيداً لاحتمال أن يكون مرادهم دلالة الفعل على الزمان أعم من كونه حقيقياً أم إضافياً.

[4] أي: في الفعل الماضي.

[5] أي: قد لا يكون الزمان الماضي حقيقة، بل يتحقّق في الزمان المستقبل، وكذا الفعل المضارع قد لا يستعمل في الحال أو الاستقبال الحقيقي، بل قد يكون ماضياً حقيقة.

[6] أي: في الفعل الماضي، «كذلك» حقيقة، «فعلهما» أي: فعل الماضي والمضارع.

ص: 173

بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: (يجيء زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيام)، وقوله: (جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو في ما بعده مما مضى)، فتأمل جيداً.

ثم لا بأس[1] بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه بما يناسب المقام، لأجل الاطراد[2] في الاستطراد في تمام الأقسام.

فاعلم أنه وإن اشتهر بين الأعلام(1)

أن الحرف ما دل على معنى في غيره[3] - وقد بيناه في الفوائد(2)

بما لا مزيد عليه - إلاّ أنك عرفت في ما تقدم[4] عدم

-------------------------

الفرق بين الاسم والحرف

[1] كان البحث حول الفرق بين الاسم والفعل، حيث زعم النحاة أن الفرق هو دلالة الفعل على الزمان وعدم دلالة الاسم عليه، وهو بحث استطرادي؛ لعدم ارتباطه ببحث المشتق، ثم لكي يكمل البحث عن الفرق بين الكلمات نبحث حول الفرق بين الاسم والحرف، «عما عداه» أي: عن الاسم.

[2] أي: لتعميم البحث. وحاصل الفرق هو: إن معنى الاسم والحرف واحد، لكن الاسم وضع ليُلاحَظ استقلالاً، والحرف وضع ليلاحظ آلةً، من غير كون لحاظ الآليّة والاستقلالية جزءاً في المعنى، بل هما في مقام الاستعمال، مثلاً: (من) و(الابتداء) بمعنى واحد، لكن (من) وُضعت لتلاحظ آلة في الغير في مقام الاستعمال، و(الابتداء) وضع ليلاحظ مستقلاً في حال الاستعمال.

[3] أي: وجوده متوقف على الغير، فيكون معنى الحرف آلياً.

[4] في المقدمة الثانية التي عقدها المصنف للتحقيق عن (الوضع)، حيث قال: (إن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الاسماء... الخ)، «بينه» بين الحرف.

ص: 174


1- شرح الكافية 1: 7.
2- فوائد الأصول 1: 38.

الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى[1] وأنه فيهما[2] ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية[3] ولا عدم الاستقلال بها. وإنما الفرق[4] هو أنه[5] وُضع ليستعمل وأريد منه معناه حالةً لغيره وبما هو في الغير، ووُضِعَ غيره[6] ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو. وعليه[7] يكون كل من الاستقلال بالمفهومية وعدم الاستقلال بها إنما اعتبر في جانب الاستعمال[8]،

-------------------------

[1] أي: ذات المعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه) واحد، وهو طبيعة الشيء من غير لحاظ الاستقلالية أو الآلية، مثلاً: (الابتداء) و(من) بمعنى واحد، والفرق إنما هو في مقام الاستعمال.

[2] أي: إن المعنى في الاسم والحرف، «فيه» في المعنى.

[3] بعدم ملاحظته آلة في الغير - كما توهم في الاسم - «بها» أي: عدم الاستقلال بالمفهومية بأن تلاحظ حالة في الغير - كما توهم في الحرف - .

[4] أي: الفرق بين الاسم والحرف إنما هو في حال الاستعمال، فالواضع اشترط استعمال الاسم حين إرادة الاستقلال، واستعمال الحرف حين إرادة الآلية.

وبعبارة أخرى: (الابتداء) - مثلاً - له حالتان: حالة استقلالية بملاحظته بما هو هو، وحالة آلية بملاحظته حالة في غيره، ولا ربط لهاتين الحالتين بمعنى (الابتداء) بل هما من الصفات العارضة عليه، فالمعنى (الموضوع له) و(المستعمل فيه) هو الطبيعة المجردة الكلية لذلك الابتداء، لكن حين الاستعمال قد يلتصق بها صفة عارضية هي الاستقلالية والآلية.

[5] ضمائر «أنه» و«منه» و«معناه» و«لغيره» ترجع إلى (الحرف).

[6] غير الحرف - وهو الاسم - .

[7] أي: بناء على هذا الفرق بين الاسم والحرف، «الاستقلال بالمفهومية» في الاسم، و«عدم الاستقلال بها» في الحرف.

[8] أي: حين الاستعمال تعرض إحدى هاتين الصفتين - الاستقلالية والآلية - ،

ص: 175

لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما[1] تفاوت بحسب المعنى؛ فلفظ الابتداء[2] لو استعمل في المعنى الآلي ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازاً واستعمالاً له في غير ما وضع له[3]، وان كان بغير ما وضع له.

فالمعنى في كليهما[4]

-------------------------

«لا المستعمل فيه» أي: المعنى، ومن المعلوم أن الاستعمال متأخر عن المعنى، فلا يمكن أخذ ما ينتج من الاستعمال - وهو الآلية أو الاستقلالية - في المعنى الذى هو متقدم على الاستعمال، كما مرّ تفصيله.

[1] أي: لو كانت الآلية والاستقلالية مأخوذة في المعنى (المستعمل فيه) لكان الفرق بين الاسم والحرف في المعنى.

[2] أي: لفظا (الابتداء) و(من) بمعنى واحد، فلو استعمل أحدهما مكان الآخر لم يكن مجازاً؛ إذ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، والمفروض هو أن معناهما واحد، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر إنما هو استعمال اللفظ في ما وضع له، نعم، هذا الاستعمال لا يجوز لمنع الواضع عن ذلك.

فتحصل أن استعمال اللفظ في المعنى على ثلاثة أنحاء:

1- استعمال اللفظ في غير ما وضع له لوجود علاقة، وهذا هو المجاز.

2- استعمال اللفظ في ما وضع له مع مراعاة شرط الواضع، وهذا هو الحقيقة.

3- استعمال اللفظ في ما وضع له مع عدم مراعاة شرط الواضع، وهذا ليس بحقيقة ولا مجاز، بل قد يعتبر غلطاً.

[3] «له» للّفظ، «بغير ما وضع له» أي: على خلاف شرط الواضع.

[4] أي: الاسم والحرف يشتركان في ثلاثة أمور:

الأول: المعنى في نفسه - من غير ملاحظة الأوصاف العارضة عليه - وهذا المعنى كلي طبيعي، سواء في الحروف أم في الأسماء كافة، سوى الأعلام.

ص: 176

في نفسه كلي طبيعي[1] يصدق على كثيرين؛ ومقيداً[2] باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، وإن كان[3] بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهناً كان جزئياً ذهنياً، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد[4] وإن كان[5] بالوجود الذهني، فافهم وتأمل في ما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه[6] وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصاً، بخلاف ما عداه، فإنه عام.

-------------------------

الثاني: المعنى في مقام الاستعمال، حين تعرض عليه الآلية أو الاستقلالية، فكلاهما - أي: الاسم والحرف - يكونان ذهنيين؛ لأن الآلية والاستقلالية تكونان باللحاظ، واللحاظ هو بمعنى وجود الشيء في الذهن.

الثالث: إن وجودهما - الاسم والحرف - في الذهن يكون سبباً لجزئيتهما، حيث إن كل موجود - خارجي أو ذهني - يكون جزئياً حقيقياً؛ لأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. فالمعنى في نفسه كلي، ولكن باعتبار وجوده في الذهن يكون جزئياً.

[1] المراد أن المعنى هو طبيعة الشيء.

[2] هذا الأمر الثاني من نقاط الاشتراك، «كلي عقلي» أي: أمر ذهني؛ لأن الآلية والاستقلالية إنما هما باللحاظ.

وقد مرّ أن اصطلاح المصنف في (الكلي العقلي) يغاير الاصطلاح المنطقي. فالاصطلاح في المنطق في مثل: (الإنسان كلي) الموضوع هو كلي طبيعي، والمحمول هو الكلي المنطقي، ومجموع الموضوع والمحمول هو كلي عقلي.

[3] هذا هو الوجه الثالث من نقاط الاشتراك، «لحاظه» أي: إن لحاظ المعنى هو نفس الوجود الذهني؛ لأن اللحاظ هو الوجود في الذهن.

[4] فوجود الشيء يساوق الجزئية؛ إذ لو بقي كلياً من دون مشخصات جزئية لم يوجد في الخارج، ومع التشخص يوجد لكنه يصير جزئياً.

[5] أي: لا فرق في كون الموجود جزئياً بين الوجود الخارجي أو الوجود الذهني.

[6] حيث جعلوا اللحاظ دخيلاً في المعنى، مع كونه متأخر عن الاستعمال - كما

ص: 177

وليت شعري[1] إن كان قصد الآلية فيها[2] موجباً لكون المعنى جزئياً فلِمَ لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجباً له؟! وهل يكون ذلك[3] إلاّ لكون هذا القصد

-------------------------

وضّحناه - ، «وتوهم» عطف على الخلط والاشتباه، «ما عداه» أي: ما عدا الحرف وهو الاسم.

[1] يستدل المصنف بدليلين على أن الآلية ليست جزءاً من معنى الحروف:

الأول: إن لحاظ الآلية لو كان جزءاً من معنى الحروف، فلابد أن يكون لحاظ الاستقلالية جزءاً من معنى الأسماء؛ لأن الفرق بين الأسماء والحروف هو في هذا اللحاظ، فإذا كان اللحاظ في أحدهما دخيلاً في المعنى فلابد أن يكون دخيلاً في المعنى الآخر.

ومن المعلوم أن لحاظ الاستقلالية إذا أخذ في الاسم صار الاسم جزئياً، لما ذكرنا من أن اللحاظ هو بمعنى الوجود الذهني، والموجود - سواء كان خارجياً أم ذهنياً - يكون جزئياً.

الثاني: إن أخذ لحاظ الآلية في معنى الحروف يستلزم عدم إمكان امتثال التكاليف؛ لأن اللحاظ أمر ذهني، وحيث إن الحروف مقيدة باللحاظ فتكون الحروف ذهنية، ولأن الأسماء قيدت بالحروف تكون تلك الأسماء ذهنية أيضاً. مثلاً في قوله: (سر من البصرة إلى الكوفة) السير والبصرة والكوفة مقيدة بالحرف - من وإلى - والمقيَّد بالأمر الذهني يكون ذهنياً؛ لعدم إمكان تقييد الوجود الخارجي بالأمور الذهنية، وحينئذٍ يكون المطلوب هو السير الذهني والبصرة والكوفة الذهنيان! فلا يمكن امتثال هذا الأمر خارجاً.

[2] هذا هو الدليل الأول، «فيها» أي: في الحروف، «فيه» في الاسم، «له» أي: لكون معنى الاسم جزئياً.

[3] «ذلك» أي: عدم كون قصد الاستقلالية في الأسماء موجباً لجزئية المعنى، «هذا القصد» أي: قصد الاستقلالية.

ص: 178

ليس مما يعتبر في الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل في الاستعمال؟ فلِمَ لا يكون فيها كذلك[1]؟! كيف[2]؟ وإلاّ لزم أن يكون معاني المتعلقات[3] غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها - على هذا - كليات عقلية[4]، والكلي العقلي لا موطن له إلاّ الذهن، فالسير والبصرة والكوفة في: (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة، لتقيدها[5] بما اعتبر فيه القصد،

-------------------------

[1] أي: إن قصد الاستقلالية لا يوجب جزئية المعنى الاسمي، فكذلك قصد الآلية لا يوجب جزئية المعنى الحرفي؛ وذلك لأن قصد الاستقلالية والآلية ليس جزءاً من المعنى، بل هو في مقام الاستعمال، فالاستعمال هو سبب اللحاظ - إذ لابد من تصور المعنى حين الاستعمال - ومن المعلوم أن الاستعمال متأخر عن المعنى، وحينئذٍ فلا يمكن أخذ اللحاظ في المعنى.

وبعبارة أخرى: المعنى متقدم رتبة على الاستعمال، والاستعمال هو سبب اللحاظ، فيكون اللحاظ متأخراً عن المعنى بمرتبتين، فلا يمكن أخذه في المعنى.

«لا يكون» قصد الآلية، «فيها» في الحروف، «كذلك» كالأسماء غير دخيل في المعنى، بل مرتبط بالاستعمال.

[2] هذا هو الدليل الثاني. والمعنى: كيف يكون قصد الآلية مأخوذاً في معنى الحروف وموجباً لجزئية معناها؟

[3] أي: ما تعلقت به الحروف، مثل: (السير) و(البصرة) و(الكوفة) في مثال: (سر من البصرة إلى الكوفة)، «لكونها» لكون معاني المتعلقات، «على هذا» على تقدير دخل اللحاظ الآلي في معاني الحروف.

[4] أي: أمور ذهنية.

[5] أي: لتقيد السير والبصرة والكوفة، «بما اعتبر فيه القصد» أي: لتقيدها بالحروف التي اعتبر، «فيها» أي: في الحروف، «القصد» أي: اللحاظ، فصارت الحروف ذهنية، فالمقيد بها يكون ذهنياً أيضاً.

ص: 179

فتصير عقلية[1]، فيستحيل انطباقها على الأمور الخارجية.

وبما حققنا[2] يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي والصدق على كثيرين، وأن[3] الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آلياً أو استقلالياً، وكليته بلحاظ نفس المعنى.

ومنه[4] ظهر عدم اختصاص الإشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره. فتأمل في المقام، فإنه دقيق ومزال الأقدام للأعلام، وقد سبق في بعض الأمور[5] بعض الكلام، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة، فافهم.

رابعها[6]:

-------------------------

[1] أي: فتصير المتعلقات ذهنية أيضاً، «انطباقها» أي: انطباق المتعلقات.

[2] هذا جواب عن شبهة، وحاصلها: إنكم قلتم: إن معاني الحروف والأسماء كلية، ثم قلتم: إنها تلاحظ حين الاستعمال، وحينئذٍ تكون جزئية، فهل هذا إلاّ تناقض بين الكلامين؟!

والجواب: إن الكلية إنما هي باعتبار المعنى في نفسه ومن حيث هو هو، والجزئية إنما هي باعتبار مقام الاستعمال، فلا منافاة.

[3] بيان كيفية التوفيق، وهو جواب عن الشبهة، «كليته» أي: كلية المعنى.

[4] أي: مما حققناه تبين أن الإشكال والجواب غير مختص بالحروف، بل يجريان في الأسماء أيضاً، «غيره» أي: غير الحرف - وهو الاسم - .

[5] أي: الأمر الثاني من مقدمات علم الأصول، حيث تمّ البحث عن الوضع.

الأمر الرابع: اختلاف مبادئ المشتقات

[6] الغرض هو رد التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني(1):

بين ما إذا كان الاتصاف أكثرياً بحيث يكون عدم التلبس مضمحلاًّ في جنب التلبس، فلا يعتبر فيه التلبس في الحال مثل النجّار والعالم.

ص: 180


1- قوانين الأصول 1: 78؛ بدائع الأفكار: 178.

إنّ اختلاف المشتقات في المبادئ - وكون المبدأ في بعضها حرفةً وصناعةً[1]، وفي بعضها قوةً وملكةً[2]، وفي بعضها فعلياً - لا يوجب[3] اختلافاً في دلالتها بحسب الهيئة

-------------------------

وبين ما لم يكن الاتصاف أكثرياً فيشترط فيه التلبس في الحال في صدق المشتق كالضارب والقائم.

ويرد عليه: إن البحث في المشتق هنا في الهيئة، وإنها حقيقة في خصوص المتلبس أم الأعم. نعم، كيفية التلبس تختلف - وهذا يرتبط بالمادة وهي غير مرتبطة بالبحث - فقد يكون التلبس بالحرفة، فالبقال مثلاً متلبس بهذه الحرفة حتى وإن كان في منزله. نعم، لو ترك البقالة واشتغل بعمل آخر يكون قد انقضى عنه المبدأ.

وقد يكون التلبس بالصناعة - وهي الأعمال التي بحاجة إلى ملكة كالصياغة والنجارة - فما دام لم يهجر ذلك العمل يكون متلبساً بالصناعة.

وقد يكون التلبس بالملكة، كالمجتهد والكاتب، فما دامت الملكة موجودة يكون متلبساً حتى لو كان مشتغلاً بالأكل والنوم مثلاً.

وقد يكون التلبس بالشأنية، مثل سيف قاطع.

وقد يكون التلبس بالفعلية، كالقائم والقاعد.

ففي كل هذه الموارد البحث في أن الهيئة هل هي حقيقة في خصوص المتلبس أم في الأعم؟ وأما كيفية التلبس فذلك يرتبط بالمادة - وهي لا ترتبط ببحثنا هنا - .

[1] الحرفة: هي امتهان عمل لا يحتاج إلى ملكة كالبقالة، و«الصناعة» امتهان عمل يحتاج إليها كالنجارة والصياغة، وقيل: العطف تفسيري.

[2] وهي امتلاك صفة تُمكّنه من ذلك الأمر، كالاجتهاد الذي هو ملكة تُمكِّن المجتهد من الاستنباط.

[3] خبر (إن)، وهذا بيان الإشكال على التفصيل المزبور، «الجهة المبحوث عنها» وهي دلالة هيئة المشتق.

ص: 181

أصلاً، ولا تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى. غاية الأمر[1] أنّه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلاً[2] لو أخذ حرفةً أو ملكةً ولو لم يتلبس به إلى الحال[3] أو انقضى عنه[4]، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعلياً[5]، فلا يتفاوت فيها[6] أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات[7]، كما أشرنا إليه[8].

خامسها[9]:

-------------------------

[1] أي: التفاوت هو في المادة - في كيفية التلبس - ، «أنه» للشأن، «به» بالمبدأ، «لو أُخذ» أخذ المبدأ.

[2] «فعلاً» أي: التلبس حاصل ولم ينقض عنه حتى لو كان مشغولاً بأمر آخر.

[3] أي: حال الإخبار، والمعنى أنه حصل على الحرفة أو الملكة لكنه لم يزاول لحد الآن، مثلاً: أصبح مجتهداً لكنه لم يشتغل فعلاً بالاستنباط.

[4] كأن يكون المجتهد في حال النوم - مثلاً - مع بقاء الملكة.

[5] أي: لو أخذ المبدأ أمراً فعلاً - لا ملكة وحرفة... الخ - كالضرب والأكل، فحينئذٍ يكون التلبس حين الفعل فقط، «مما مضى» لو انقضى عنه كما لو أنهى الأكل، «أو يأتي» لو لم يتلبس بالحال.

[6] في الجهة المبحوث عنها - أي: الهيئة - .

[7] عطف تفسيري على (أنحاء التلبسات).

[8] في الأمر الأول من بحث المشتق.

الأمر الخامس: معنى «الحال» في العنوان

[9] في تحقيق معنى (الحال) المذكور في العنوان في قولهم: (هل المشتق حقيقة في المتلبس بالحال). وحاصل الكلام أن هنا أحوالاً ثلاثة:

1- حال النطق: وهو زمان التكلّم.

2- حال التلبس: وهو وقت اتصاف الشيء بالصفة.

ص: 182

إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس[1] لا حال النطق، ضرورة[2] أن مثل: (كان زيد ضارباً أمس)، أو (سيكون غداً ضارباً) حقيقةً[3] إذا كان متلبساً بالضرب في الأمس في المثال الأول، ومتلبسا به في الغد في الثاني، فجريُ[4] المشتق

-------------------------

3- حال الجري: وهو حال نسبة الصفة إلى الشيء.

مثلاً: لو قلنا: زيد عالم أمس، فحال النطق هو وقت التفوّه بهذه الكلمات. وحال الجري هو وقت النسبة الإيقاعية، أي: نسبة العلم إلى زيد، وهو أمس. وحال التلبس هو الوقت الذي كان عالماً، فلنفرض أنه كان عالماً منذ يومين فيكون حال التلبس أمس وقبل أمس.

يقول المصنف: ليس المراد من (الحال) في العنوان حال النطق لجهتين:

1- إن مثل: (كان زيد ضارباً أمس) و(سيكون ضارباً غداً) حقيقة بلا إشكال، مع أن الضرب لم يتحقق في حال النطق.

2- اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، فالمشتق - وهو اسم - لا يدل على زمان النطق.

وأما احتمال أن يراد ب- (الحال): زمان النطق، فاستدل له بأمرين:

1- إن ظاهر كلمة (الحال) هو زمان النطق.

2- إن المشتقات تدل على زمان الحال إما للانصراف أو بمقدمات الحكمة.

لكن كلا الوجهين غير صحيحين، كما سيأتي الإشكال عليهما.

[1] مراد المصنف من (حال التلبس) هو حال الجري - النسبة الإيقاعية - كما سيصرح به في طيّ كلامه.

[2] هذا هو الدليل الأول للمدعى.

[3] مع أنه لو كان المعيار في الحقيقة هو حال النطق لكان المثالان مجازاً؛ لعدم اتصاف زيد بالضرب في حال النطق.

[4] أي: نسبة الوصف إلى الذات كان بلحاظ حال التلبس، فلذا قلنا: (كان

ص: 183

حيث كان بلحاظ حال التلبس - وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في الآخر - كان حقيقةً بلا خلاف.

ولا ينافيه[1] الاتفاق على أن مثل: (زيد ضارب غدا) مجاز، فإن الظاهر[2] أنه في ما إذا كان الجريُ في الحال - كما هو قضية الإطلاق[3] - ، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجريُ والاتصاف في الحال والتلبس في الاستقبال.

ومن هنا ظهر الحال في مثل: (زيد ضارب أمس)، وأنه داخل في محل الخلاف[4] والإشكال. ولو كانت[5] لفظةُ (أمس) أو (غد) قرينةً على تعيين زمان النسبة

-------------------------

أمس)، (وسيكون غداً).

[1] هذا إشكال على ادعاء عدم الخلاف في كون المشتق حقيقة في المثالين؛ وذلك لاتفاقهم على المجازية في مثل: (زيد ضارب أمس)، و(زيد ضارب غداً)، مع أن زمان الجري هو أمس وغد، ولكن حيث لم يكن متلبساً بالضرب في زمان الحال مجازاً! «لا ينافيه» الضمير يرجع إلى ما ادعاه من كونه حقيقة بلا خلاف.

[2] جواب الإشكال، وحاصله: إن المجازية ليست لعدم التلبس في حال النطق، بل لأجل أن الجري - والنسبة الإيقاعية - هي باعتبار الحال، مع أن الجري كان في الماضي، أو سيكون في المستقبل، فالمعنى (زيد متصف بالضرب الآن) وهذا مجاز؛ لأن اتصافه كان في الماضي أو سيكون في المستقبل، «أنه» أن الاتفاق على المجازية.

[3] أي: مقتضى حمل ضارب على زيد، فالإطلاق - هنا - بمعنى الحمل، كما نقول: (أطلقنا هذا الاسم على هذا المولود).

والمعنى أن حمل ضارب على زيد يقتضي كون النسبة في زمان الحال، وأما قولنا: (غداً) و(أمس) فهو بيان لزمان الضرب.

[4] بين القائل بكون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس وبين القائل بالأعم.

[5] أي: لو جعلنا قيد (أمس) و(غد) في المثالين لبيان زمان النسبة، لا لبيان زمان الضرب، كان المثالان حقيقة.

ص: 184

والجري أيضاً كان المثالان حقيقةً.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقةً في ما إذا جرى على الذات بلحاظ حال التلبس[1]، ولو كان في المضي أو الاستقبال؛ وإنما الخلاف في كونه حقيقةً في خصوصه[2] أو في ما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازاً في ما إذا جرى عليها فعلاً بلحاظ التلبس في الاستقبال.

ويؤيد ذلك[3] اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه[4] الصفات الجارية على الذوات. ولا ينافيه[5] اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى

-------------------------

والحاصل: إن في قولنا: (زيد ضارب أمس)، و(زيد ضارب غداً):

أ: إن كان قيد (أمس) و(غداً) لبيان زمان الضرب مع كون النسبة في الحال كان مجازاً.

ب: وإن كان القيدان لبيان زمان النسبة كان حقيقةً.

[1] أي: باتحاد حال الجري وحال التلبس، سواء كانا في الماضي أم في الحال أم في المستقبل.

[2] أي: في خصوص المتلبس بالمبدأ، «جرى عليها» على الذات، «في الحال» حال النطق، «عنه» عن الذات، أي: نسبنا الصفة إلى الذات في حال النطق مع كون التلبس ماضياً.

وبتعبير آخر: انفكاك حال الجري عن حال التلبس الماضي. نعم، لو انفكّ حال الجري عن حال التلبس المستقبلي فإنه مجاز بلا إشكال.

[3] هذا هو الدليل الثاني على أن المقصود من كلمة (الحال) في العنوان هو حال الجري - النسبة الإيقاعية - لا حال النطق.

[4] أي: من الاسم، «الصفات الجارية على الذات» بمعنى المشتقات،مثل اسم الفاعل واسم المفعول... الخ.

[5] أي: لا منافاة بين قولهم بعدم دلالة الاسم على الزمان، وقولهم باشتراط

ص: 185

الحال أو الاستقبال، ضرورة[1] أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا[2] وقد اتفقوا على كونه مجازاً في الاستقبال.

لا يقال: يمكن أن يكون[3] المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه

-------------------------

عمل المشتقات بكونها دالة على زمان الحال أو الاستقبال، فإن مثل: (ضارب) و(مضروب) يمكن أن تعمل في الأسماء لكن بشرط دلالتها على الحال أو الاستقبال، فيقال: أضارب زيدٌ عمراً غداً؟ أو أمقتول زيد الآن؟ ولا تعمل إذا كانت بمعنى الماضى.

[1] هذا وجه عدم المنافاة، فإن قولهم: إنّ الاسم لا يدل على الزمان معناه أن الزمان ليس جزءاً لمعناه؛ إذ الاسم لم يوضع للزمان، وأما اشتراطهم العمل بأن يكون دالاًّ على المستقبل أو الحال فإن معناه دلالته لا بنفسه، بل بالقرينة الخارجية.

ففي المثالين المذكورين الدال على الحال كلمة (الآن)، والدال على الاستقبال كلمة (غداً)، وليس الدال (ضارب) و(مقتول).

[2] أي: كيف لا تكون الدلالة على الزمان بدال آخر، مع أنهم قد اتفقوا على أن المشتق إذا استعمل في الاستقبال كان مجازاً؟ وهذا يدل على أن اشتراطهم العمل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال لا يراد منه دلالته بنفسه وضعاً، وإلاّ كان كلامهم متناقضاً.

[3] يذكر المصنف هنا وجهين لكون المراد من (الحال) في العنوان حال النطق.

الأول: إن ظاهر كلمة (الحال) هو الحال المقابل للماضي والمستقبل، لا حال الجري أو التلبس؛ وذلك للتبادر الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال.

والجواب - ولم يذكره المصنف لوضوحه - أنه مع قيام الدليل على أن (حال النطق) غير مراد فلا وجه للتمسك بهذا الظهور، «الظاهر» والمقصود من الظهور هو الانصراف.

ص: 186

عند إطلاقه، وادعي(1) أنه الظاهر[1] في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الإطلاق أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنا نقول[2]: هذا الانسباق وإن كان مما لا ينكر إلاّ أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها[3]: إنّه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك.

-------------------------

[1] هذا هو الوجه الثاني، وحاصله: إن ألفاظ المشتقات - مثل ضارب وناصر ومقتول... الخ - حينما تطلق على شخص فإن ظاهرها اتصافه بها في الزمان الحال. وهذا الظهور إما من الانصراف، فإن المنصرف من الضارب هو الضارب الآن. وإما مقدمات الحكمة، فإن المولى الحكيم في مقام البيان، فلو كان مراده زمان الجري أو التلبس لوجب التنبيه عليه.

[2] هذا الجواب عن الوجه الثاني، وحاصله: إنا نسلّم بالظهور في زمان الحال إما للانصراف أو لمقدمات الحكمة، لكن هذا الظهور لا يرتبط بوضع المشتق، بل منشؤه إما كثرة الاستعمال أو مقدمات الحكمة، وكلاهما قرينة تدل على المراد، وكلامنا ليس في ذلك، بل كلامنا إنما هو في تعيين الوضع في المشتق.

وتظهر الثمرة في ما لو علمنا بعدم إرادة زمان النطق، فإنه حينئذٍ لا انصراف ولا مقدمات حكمة، فإن معرفة المعنى الموضوع له يكون مفيداً حينئذ في تشخيص مراد المتكلّم، «هذا العنوان» في بحث المشتق، «منه» من المشتق.

الأمر السادس: في تأسيس الأصل

اشارة

[3] وحاصله: إنه لو لم نتمكن من إقامة الدليل على كون الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم، فهل هناك أصل يرجّح أحدهما؟

فنقول: إن الأصل إما لفظي وإما عملي:

ص: 187


1- الفصول الغروية: 60.

وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية[1] - مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم[2] - لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له[3].

-------------------------

الأول: الأصل اللفظي

والمراد به الأصل الذي يشخّص الموضوع له، وهنا أصلان:

1- أصالة عدم الوضع لخصوص المتلبّس، بمعنى أن الواضع لم يلاحظ هذه الخصوصية.

ويرد عليها:

أ: معارضتها بأصالة عدم الوضع للأعم من المتلبس والمنقضي، أي: إن الواضع لم يلاحظ المعنى الأعم حين الوضع.

ب: مضافاً إلى عدم الدليل على اعتبار هذه الأصالة؛ وذلك لأن الأصول اللفظية هي أصول عقلائية، فلابد من إحراز بناء العقلاء فيها، وفي المشتق لا إحراز لبناء العقلاء على أصالة الخصوصية، بل قد يقال بإحراز عدم اعتبار هذه الأصالة عندهم.

2- ترجيح الاشتراك المعنوي على المجاز، وسيأتي توضيحه مع الإشكال فيه.

[1] أي: عدم ملاحظة الواضع لخصوص التلبس بالمبدأ في الحال.

[2] أي: عدم ملاحظة الواضع للأعم من التلبس والمنقضي عنه المبدأ.

[3] وذلك لأن غرض العقلاء هو تشخيص مراد المتكلّم، فإذا عرفوا مراده فلا يهمّهم بعد ذلك معرفة كون استعماله حقيقياً أم مجازياً، فلا تجري الأصول لمعرفة مراده، مثلاً: لو عرفوا المعنى الحقيقي من المجازي ثم شكّوا في مراد المتكلم يجرون أصالة الحقيقة لتشخيص المراد، ولكن لا تجري الأصول لتشخيص الوضع.

وبعبارة أخرى: إنما يجرون الأصول اللفظية لترتب ثمرة عملية عليها، وهي تشخيص المراد، فلو لم تترتب ثمرة عملية، بل انحصرت في ثمرة علمية نظرية فلا

ص: 188

وأما ترجيح الاشتراك المعنوي[1] على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة، فممنوع[2]، لمنع الغلبة أولاً، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها[3] ثانياً.

وأما الأصل العملي[4]

-------------------------

يجرون الأصول اللفظية.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنه بعد معرفة مراد المتكلم من المشتق فلا يهمهم كونه حقيقياً أم مجازياً.

[1] هذا هو الأصل اللفظي الثاني، وحاصله: إن المشتق لو كان موضوعاً للأعم كان استعماله في المتلبس وفي المنقضي حقيقة؛ لكونهما مصداقين من الأعم، فيكون اشتراكاً معنوياً - وهو وضع اللفظ للعام الذي ينطبق على مصاديقه - .

أما لو قلنا بالوضع لخصوص المتلبس فيكون الاستعمال في المنقضي مجازاً. والاشتراك المعنوي خير من المجاز؛ وذلك لكثرة الاشتراك المعنوي، فلابد من حمل اللفظ عليه.

[2] وجوابه: أولاً: المجاز أيضاً كثير، بل قد يقال: إنه أكثر من المشترك المعنوي، حتى قيل: إن أكثر لغة العرب مجازات.

وثانياً: لا دليل على أن الغلبة من المرجحات، وقد مرّ بأن المعيار هو الظهور، أما الوجوه الأخرى - ومنها الغلبة - فمجرد استحسانات لا توجب ظهوراً فلا اعتبار بها.

[3] أي: لا حجة عقلائية في الترجيح بالغلبة.

الثاني: الأصل العملي

[4] أي: بعد عدم وجود أصل لفظي يُرجِّح الوضع لخصوص المتلبس أو الوضع للأعم، تصل النوبة إلى الأصول العملية، وهي التي تشخص وظيفة المكلّف في مقام العمل.

فنقول: لا يوجد أصل عملي يُرجِّح الوضع للمتلبس أم للأعم، بل الوظيفة

ص: 189

فيختلف في الموارد[1]، فأصالة البراءة في مثل: (أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه[2] لو كان الإيجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت[3] إلاّ أنها

-------------------------

العملية تختلف باختلاف الموارد. فالأصل الحكمي قد يكون البراءة وقد يكون الاستصحاب.

1- البراءة، مثلاً: لو كان زيد عالماً يوم السبت ثم نسي علمه يوم الأحد، ثم قال المولى يوم الاثنين: أكرم العلماء، فهنا نشك في وجوب إكرام زيد؛ لأن لفظ (العالم) إن وضع لخصوص المتلبس فلا يجب إكرامه، وإن وضع للأعم فيجب إكرامه، وحيث إن الشك في التكليف - بوجوب إكرام زيد - ولا حالة سابقة فأصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب.

2- الاستصحاب، مثلاً: لو كان زيد عالماً في يوم السبت، فقال المولى: أكرم العلماء، ثم بعد ذلك نسي علمه، فهنا لنا يقين بوجوب إكرام زيد يوم السبت، ونشك في زوال هذا الوجوب بنسيانه، فالاستصحاب يقتضي الاستمرار في وجوب إكرامه.

[1] حسب الحالة السابقة، فإن وجب الإكرام سابقاً جرى الاستصحاب، وإلاّ جرت البراءة.

[2] أي: وجوب الإكرام، «قبل الانقضاء» أي: قبل انقضاء المبدأ.

الأقوال في المشتق

اشارة

[3] عن المحقق القمي: والظاهر أنها - أي: الأقوال - مُحدَثة من إلجاء كل واحد من الطرفين في مقام العجز عن ردّ شبهة خصمه.

وقد أشار المصنف في مطاوي كلامه إلى بعض تلك التفصيلات:

ص: 190

حدثت بين المتأخرين - بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين(1)

-، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى[1] أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال[2]. وقد مرت الإشارة[3] إلى أنه لا يوجب التفاوت في ما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس في الحال، وفاقاً لمتأخري الأصحاب والأشاعرة، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة.

ويدل عليه[4]:

-------------------------

فمنها: التفصيل بين ما إذا كان الاتصاف أكثرياً فلا يعتبر بقاء المبدأ، وبين ما لم يكن كذلك فيعتبر بقاء المبدأ.

ومنها: التفصيل بين كون المشتق لازماً فيعتبر البقاء، وبين كونه متعدياً فلا يعتبر.

ومنها: التفصيل بين التلبس بضده فلا يصدق عليه المشتق، وبين عدم التلبس بضده فيصدق.

ومنها: التفصيل بين كونه محكوماً عليه فلا يشترط بقاء المبدأ، وبين كونه محكوماً به فيشترط.

[1] من كون المبدأ ملكة وحرفة كالنجّار، أو كونه فعلاً كالضارب.

[2] مثل كونه محكوماً عليه، كقوله: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ}(2) حيث يصدقان على من انقضى عنه السرقة، وكونه محكوماً به، مثل: (زيد ضارب) حيث لا يصدق على من انقضى عنه الضرب.

[3] في مقدمات بحث المشتق، وخاصة في الأمر الرابع.

أدلة القول بالوضع لخصوص المتلبس
اشارة

[4] استدل المصنف على أن وضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال بثلاثة أدلة:

1- التبادر في خصوص المتلبس.

ص: 191


1- قوانين الأصول 1: 76.
2- سورة المائدة، الآية: 38.

تبادر[1] خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال.

وصحةُ السلب مطلقاً[2] عما انقضى عنه - كالمتلبس به في الاستقبال[3] -؛ وذلك لوضوح أن مثل القائم والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن متلبساً بالمبادئ، وإن كان متلبساً بها قبل الجري والانتساب[4]، ويصح سلبها عنه. كيف[5]؟

-------------------------

2- صحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ.

3- التضاد بين الصفات.

الدليل الأول: التبادر في خصوص المتلبس

[1] فمثل: (زيد عالم) يتبادر منه خصوص من هو عالم حال الجري والنسبة الإيقاعية، دون من كان عالماً ثم نسي علمه، وهكذا جميع المشتقات يتبادر منها خصوص المتلبس دون المنقضي عنه المبدأ، وهذا التبادر إنما هو من حاقّ اللفظ فيكون أمارة الحقيقة، وليس التبادر مستنداً إلى الانصراف أو مقدمات الحكمة؛ وذلك يُعلم بالوجدان.

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي

[2] «مطلقاً» مقابل جميع التفاصيل المذكورة وغيرها، أو إن «مطلقاً» بمعنى في ما إذا لم يقيّد لفظ المشتق بزمان مثل: (الآن) أو (أمس) أو (غد) ونحوها.

[3] أي: كما يصح سلب المشتق عن المتلبس في المستقبل مطلقاً، كذلك يصح سلبه عن المنقضي عنه المبدأ مطلقاً.

[4] أي: قبل نسبة المشتق إلى الذات، وبعبارة أخرى: قبل حمله عليها، «سلبها» سلب المبادئ، «عنه» عمّن لم يكن متلبساً بالمبادئ.

[5] هذا تأييد لصحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ، وحاصله: إنه كيف يصح صدق المشتق على من انقضى عنه المبدأ في الوقت الذي اتصفت الذات بما يضاد

ص: 192

وما يضادها[1] بحسب ما ارتكز من معناها[2] في الأذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

وقد يقرر هذا وجهاً على حدة[3]، ويقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة[4]

-------------------------

ذلك المبدأ؟ «كيف» يصدق المشتق على المنقضي، «وما يضادها» يُضادّ المبادئ، مثلاً: هل يصح أن نطلق القائم على القاعد فعلاً باعتبار أنه كان قائماً في ما مضى؟

[1] أي: يضاد تلك المبادئ، «ما ارتكز» بالوجدان، «معانيها» معاني المبادئ، «عليه» على من كان متلبساً بالمبدأ.

[2] هذا ردّ لما قاله المحقق الرشتي من إنكار التضاد بناء على الوضع للأعم، حاصله: إن الارتكاز العرفي - وهو الوجدان - يقضي بالمضادة مع قطع النظر عن هذه الأقوال. واللازم هو كشف الحقيقة عن طريق الوجدان والارتكاز، لا ترك الارتكاز والوجدان بسبب بعض الوجوه التي لا صحة لها.

الدليل الثالث: المضادة بين الصفات

[3] أي: دليلاً ثالثاً - غير دليل صحة السلب - .

[4] اعلم أن التقابل - بمعنى عدم إمكان اجتماع شيئين - على أقسام:

1- تقابل النقيضين: بأن لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما مطلقاً، كالوجود والعدم.

2- تقابل العدم والملكة: بأن لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما عن المحل القابل، كالعمى والبصر.

3- التضايف: بأن يكونا وجودييّن ويتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر، كالأبوة والبنوة.

4- الضدين: بأن يكونا وجوديين لا يمكن اجتماعهما مع إمكان ارتفاعهما، ولايتوقف تعقل أحدهما على الآخر، كالبياض والسواد.

ص: 193

المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني[1]، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة، بل مخالفة[2]، لتصادقها في ما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.

ولا يرد[3] على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين(1)

من عدم

-------------------------

وهذه الأوصاف لا يمكن اجتماعها مع تحقق شروط التناقض، وهي وحدة الزمان والمكان، والموضوع والمحمول، والشرط والإضافة، وكذا القوة والفعل، وكذا الجزء والكل.

نعم، لو لم يكن بين الأوصاف تضاد، بل تخالف أمكن اجتماعها في محل واحد، كالسواد والحلاة، حيث يجتمعان في التمر - مثلاً - .

وعليه: فإن مثل القيام والقعود متضادان، فلا يمكن اجتماعهما في محل واحد، ولو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي لجاز إطلاق القائم على القاعد باعتبار كونه متلبساً بالقيام في ما مضى، وكان معنى ذلك كون القيام والقعود متخالفين لا متضادين.

[1] هذا استشهاد لتضادها بالوجدان، وهو تمهيد لردّ إشكال المحقق الرشتي.

[2] لجواز إطلاق القائم على القاعد فعلاً - مثلاً - واجتماع وصفين في محل واحد دليل على عدم تضادهما، بل تخالفهما، وهذا أمر يخالف الوجدان كما هو واضح، «بينها» بين الأوصاف المتضادة.

والحاصل: لو صدق القائم على زيد القاعد لما كان بين القيام والقعود مضادة، لكن التالي باطل بالوجدان، فالمقدم مثله.

[3] حاصل الإشكال هو أنه لو اشترطنا التلبس بالمبدأ في الحال لكانت مضادة بين تلك الأوصاف، أما لو لم نشترط التلبس فلا مضادة.

ص: 194


1- بدائع الأفكار: 181.

التضاد على القول بعدم الاشتراط[1]، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

إن قلت[2]: لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط.

قلت[3]:

-------------------------

وبعبارة أخرى: لا نسلّم المضادة بين تلك الصفات بناءً على القول بأن المشتق وضع للأعم.

وجوابه: إن التضاد أمر وجداني فلا يمكن رفع اليد عنه، وأما اشتراط التلبس بالمبدأ في الحال فهو أمر غير معلوم، فلا يمكن رفع اليد عن الأمر الوجداني بسبب أمر غير معلوم.

[1] أي: عدم اشتراط التلبس بالمبدأ في صدق المشتق، «ارتكازه» ارتكاز التضاد، «بينها» بين الصفات التي مبادئها متضادة.

إشكال وجوابه

[2] حاصل الإشكال: هو أننا لا ننكر دلالة الارتكاز على المضادة بين الصفات المتقابلة، لكن هذا الارتكاز إنما يفيد كون المضادة بالوضع لو كان منشؤه حاقّ اللفظ، وأما الارتكاز الإطلاقي - أي: الذي مستنده الانصراف - فلا يفيد شيئاً في معرفة الوضع، وقد مرّ في بحث التبادر أن التبادر إنما يكون علامة الحقيقة إذا كان مستنداً إلى حاقّ اللفظ، لا الانصراف أو مقدمات الحكمة، وكلامنا الآن في تشخيص وضع المشتق لا معناه بمعونة القرائن - من الانصراف أو مقدمات الحكمة - .

«ارتكازها» ارتكاز المضادة، «الانسباق» التبادر في خصوص المتلبس، «من الإطلاق» بمعونة مقدمات الحكمة أو الانصراف، «لا الاشتراط» أي: اشتراط الواضع التلبس بالمبدأ في الحال.

[3] حاصل الجواب: إن هذا الارتكاز ليس بسبب الانصراف؛ وذلك لأن الانصراف إنما يكون بسبب كثرة الاستعمال أو كثرة الأفراد، وليس المتلبس بأكثر

ص: 195

لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق[1] في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر.

إن قلت[2]: على هذا[3] يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع[4].

-------------------------

استعمالاً ولا أكثر أفراداً من المنقضي، فلا وجه للانصراف، فلم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الارتكاز إنما هو مستند إلى حاق اللفظ.

[1] وهو استعمال مجازي.

إشكال آخر

[2] حاصله: إن استعمال المشتق في المنقضي لو كان مجازاً - وهذا الاستعمال كثير أو أكثر - فمعنى ذلك أن المعنى المجازي يكون أكثر استعمالاً من المعنى الحقيقي، وهذا خلاف حكمة الوضع.

لا تقولوا: إنّ أكثر لغة العرب مجازات، فليكن استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ مجازاً شائعاً وأكثر من المعنى الحقيقي، فلا محذور في ذلك.

لأنا نقول: أولاً: لا نسلم أن أكثر لغة العرب مجازات.

وثانياً: المراد كثرة أنواع المجاز لا كثرة أفراده، مثلاً: الأمر حقيقة في الوجوب، وهو أكثر استعمالاً في المعني الحقيقي. نعم، المعاني المجازية كثيرة كالتهديد والدعاء والاستحباب... الخ، فمعنى حقيقي واحد ولكن المعاني المجازية متعددة، لكن الاستعمال في المعنى الحقيقي أكثر من جميع الاستعمالات المجازية.

[3] أي: كون استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ كثيراً أو أكثر، «يكون» المشتق، «وهذا» غلبة المجاز.

[4] وهي وضع اللفظ لكي يستعمل في ما وُضع له بغرض التفهيم والتفهّم؛ وذلك يقتضي استعمال اللفظ في ما وضع له، فلو كثر استعماله في المجاز استلزم صعوبة التفهيم والتفهم للاحتياج إلى إضافة قرينة.

ص: 196

لا يقال[1]: كيف وقد قيل بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك[2] - لو سلم - فإنما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد[3]. نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائماً كذلك، فافهم[4].

قلت[5]: - مضافاً إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد بعد مساعدة الوجوه

-------------------------

[1] هذا من تتمة الإشكال، فالمستشكل يدفع عن نفسه النقض بالمقولة المعروفة وهي (أكثر لغة العرب مجازات)(1).

[2] هذا دفع المستشكل لما أورد عليه، وحاصله جوابه: أولاً: بعدم تسليم هذه المقولة - وإن كانت معروفة - ، وثانياً: إنّ المراد منها ليس الأكثرية في الأفراد، بل في الأنواع.

[3] أي: لا ننكر غلبة استعمال المعنى المجازي أحياناً، لكن هذا نادر وقليل، فلا يحمل عليه سائر الموارد.

[4] لعله إشارة إلى أنه في تلك الموارد القليلة لم يكن أكثرية المجاز خلافاً لحكمة الوضع، فليكن كذلك في المشتق، فيقال: إن استعماله في المنقضي مجازاً لا ينافي حكمة الوضع أيضاً!

الجواب عن الإشكال

[5] حاصل الجواب عن الإشكال:

أولاً: إن قولكم «يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازاً، وهو بعيد» ليس دليلاً، فإنه مجرد الاستبعاد، وهو استحسان لا يُعتمد عليه في مقام الاستدلال، وخاصة أن هناك وجوهاً - من التبادر وصحة السلب والمضادة - تدل على هذا الأمر الذي اعتبرتموه بعيداً، «بالمراد» أي: كون المشتق حقيقة في المتلبس فقط.

ص: 197


1- قوانين الأصول 1: 29؛ مطارح الأنظار 2: 173.

المتقدمة عليه - إن ذلك[1] إنما يلزم لو لم يكن استعماله في ما انقضى بلحاظ حال التلبس[2]، مع أنه بمكان من الإمكان. فيراد من (جاء الضارب، أو الشارب) - وقد انقضى عنه الضرب والشرب - جاء الذي كان ضارباً[3] وشارباً قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون[4] الاستعمال بلحاظ هذا الحال،

-------------------------

[1] أي: غلبه المجاز، وهذا هو الوجه الثاني، وحاصله: إنا لا نسلّم كثرة أو أكثرية استعمال المشتق في المعنى المجازي؛ وذلك لما مرّ من أن المعنى الحقيقي إنما هو باعتبار حال التلبس والجري، فعندما نستعمل الضارب والشارب مثلاً فيمن انقضى عنه الضرب والشرب، فهنا احتمالان:

1- أن يكون المراد ضارب حالاً باعتبار ضربه في ما مضى، وهذا معنى مجازي.

2- أن يكون المراد من كان ضارباً، وهذا معنى حقيقي، كما مرّ؛ إذ هو نسبة الضرب إليه باعتبار حالة تلبسه به، ومع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي لا وجه للحمل على المعنى المجازي، وعليه: فاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ وإن كان كثيراً أو أكثر لكنه ليس معنىً مجازياً، بل هو معنى حقيقي باعتبار حالة التلبس، «استعماله» استعمال المشتق.

[2] وذلك باتحاد زمان الجري - النسبة الإيقاعية - وزمان التلبس، «مع أنه» الاستعمال بلحاظ حال التلبس.

[3] أي: يُراد جاء الذي كان ضارباً، وكونه ضارباً كان قبل المجيء حينما كان مشغولاً بالضرب، «لا حينه» فليس ضربه حين المجيء - وقد انقضى الضرب - بل قبل المجيء، والحاصل: نسبة الضرب إليه ليست في حالة المجيء، بل النسبة إليه باعتبار ضربه قبل المجيء.

[4] أي: لو كان المراد كونه ضارباً حين المجيء بعد انقضاء الضرب يكون استعمال لفظ الضارب بلحاظ «هذا الحال» وهو حال الانقضاء.

ص: 198

وجعله[1] معنونا بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة[2] أنه لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة[3]: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق[4]

-------------------------

[1] عطف على (بلحاظ هذا الحال) أي: ويكون الاستعمال، «وجعله» أي: بجعل ذلك الشخص، «معنوناً بهذا العنوان» أي: بعنوان الضرب فيصير ضارباً، «فعلاً» في حال النطق، «تلبسه» تلبس الشخص.

[2] في توضيح العبارة احتمالات، والأقرب ما ذكره الوالد في الوصول(1): «ضرورة أنه» أي: المشتق «لو كان للأعم» بأن أمكن جريه بلحاظ حال التلبس الموجب للحقيقة، وبلحاظ حال التكلّم الموجب للمجازية «لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» وحينئذٍ فلا يتعيّن كونه مجازاً، حتى يرد أنه يلزم كون المجاز أكثر من الحقيقة.

[3] الظاهر أن هذا المقطع هو تلخيص لأمور ذكرها المصنف:

1- فقوله: (كثرة الاستعمال... من الإطلاق) جواب الإشكال الأول - بأن تبادر المتلبس لعلّه للانصراف - فيقول المصنف: إن الاستعمال في المنقضي كثير فلا وجه للانصراف، فيكون تبادر المتلبس إنما هو من حاق اللفظ.

2- وقوله: (إذ مع عموم... ملاحظة العلاقة) جواب عن الإشكال الثاني - بأن الاستعمال في المنقضي أكثر فإذا كان مجازاً لزم أكثرية المجاز على الحقيقة - فيقول المصنف: إن الاستعمال في المنقضي إنما هو بلحاظ حال التلبس فلا يكون مجازاً، ومع إمكان الحمل على هذا المعنى - وهو معنى حقيقي - لا وجه للحمل على المعنى المجازي، وهو استعماله باعتبار حال النطق.

[4] أي: تمنع من دعوى «أن تبادر خصوص حال التلبس إنما هو ناشٍ عن الانصراف».

ص: 199


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 269.

إذ مع عموم المعنى[1] وقابلية كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق[2] - لا وجه لملاحظة حالة أخرى[3]، كما لا يخفى. بخلاف ما إذا لم يكن له العموم[4]، فإن استعماله[5] حينئذ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكناً، إلاّ أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازاً وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا[6] غير استعمال اللفظ في ما لا يصح

-------------------------

[1] كما ذكرنا فإن هذا المقطع هو تلخيص لجواب الإشكال الثاني وإنما عبر ب- (إذ) لارتباط الجوابين، فالمتبادر هو خصوص حالة تلبس، وأما الاستعمال في حال الانقضاء فهو أيضاً باعتبار حالة التلبس، «عموم المعنى» أي: معنى المشتق يشمل المنقضي عنه المبدأ أيضاً، «كونه» كون المعنى، «في المورد» أي: في المورد الذي انقضى عنه المبدأ.

[2] بأن ينطبق الجري مع التلبس، أي: تكون النسبة باعتبار حال التلبس لا باعتبار حال النطق.

[3] وهي حالة النطق حتى يكون مجازاً.

[4] أي: إذا لم يمكن إرادة المعنى الحقيقي فلابد من الحمل على المعنى المجازي، مثلاً: لو قال: (رأيت أسداً يخطب) فلا طريق إلاّ الحمل على المجاز؛ لوجود القرينة القطعية، أما لو قال: (رأيت أسداً في الصحراء) فهنا وإن أمكن إرادة المعنى المجازي لكن حيث أمكن الحمل على المعنى الحقيقي فهو المتعيّن.

[5] هذا توضيح لقوله: (لا وجه لملاحظة حال أخرى)، «استعماله» استعمال المشتق، «حينئذٍ» حين كان له عموم، «وإن كان ممكناً» لجواز استعمال المعنى المجازي، «إلاّ أنه» أن الاستعمال، «بمكان...» خبر كان في قوله: (لما كان بلحاظ...)، «لاستعماله» استعمال المشتق.

[6] أي: هذا المورد الذي يمكن الحمل على المعنى الحقيقي وعلى المعنى المجازي، يختلف عن المورد الذي لا يمكن الحمل على الحقيقي، فلابد من الحمل على المعنى المجازي.

ص: 200

استعماله فيه حقيقةً، كما لا يخفى، فافهم[1].

ثم إنه ربما أورد[2] على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله(1):

إنّه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقاً[3] فغير سديد[4]، وإن أريد مقيداً[5] فغير مفيد؛ لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق[6].

-------------------------

[1] لعله إشارة إلى أن هذا الكلام هو بمعنى (أن الاستعمال علامة الحقيقة)، وهذا ما لا يقولون به، أو إشارة إلى أنه بعد وضوح مراد المتكلّم فلا يوجود أصل يدل على أن ذلك المراد هو معنى حقيقي أم مجازي.

الإشكال على الاستدلال بصحة السلب

[2] الإشكال على الاستدلال بصحة السلب عن المنقضي لإثبات كون المشتق حقيقة في المتلبس بالحال.

وخلاصته: إن صحة السلب مطلقاً غير صحيح، وصحة السلب في الجملة غير مفيد.

أما الأول: فإن زيداً المنقضي عنه الضرب لا يصح أن نقول فيه: إنه ليس بضارب مطلقاً - لا في الماضي ولا في الحال ولا في المستقبل - وذلك لثبوت ضربه في الماضي.

وأما الثاني: فإن سلب المقيّد ليس علامة للمجاز، فإنه يصح - مثلاً - سلب (الإنسان العالم) عن زيد، وليس ذلك علامة على كون الإنسان مجازاً في زيد؛ لأن سلب المقيّد لا يلازم سلب المطلق، وهكذا هنا فإن سلب الضرب عن زيد في حال الانقضاء ليس علامة على مجازية إطلاق الضارب على زيد لو انقضى عنه الضرب.

[3] صحة السلب في جميع الحالات.

[4] فإنه كذب؛ إذ لا إشكال في كون زيد - في المثال - ضارباً في الماضي.

[5] أي: صحة سلب الضرب عنه في حال الانقضاء.

[6] في كل الحالات، وإلاّ فالسلب المقيّد يمكن حتى من المعنى الحقيقي كما مرّ مثاله.

ص: 201


1- الفصول الغروية: 60؛ بدائع الأفكار: 180.

وفيه[1]:

-------------------------

الجواب عن الإشكال

[1] حاصل الجواب: إن القيد يمكن أن يرجع إلى ثلاثة احتمالات:

1- رجوعه إلى المحمول - وهو المسلوب - فقولنا: (ليس زيد بضارب الآن) يراد نفي الضاربية المقيّدة ب(الآن) عن زيد.

2- رجوعه إلى السلب، بمعنى كون النفي في الحال، أي: ليس الآن زيد ضارباً.

3- رجوعه إلى الموضوع، أي: زيد مقيداً بالحال ليس بضارب.

فعلى الأول: لا تكون صحة السلب علامة المجاز؛ لأن نفي الضاربية المقيدة بقيد الحال لا تدل على نفي الضاربية بشكل مطلق.

وعلى الثاني: فإن صحة السلب علامة للمجاز؛ وذلك لأن اللفظ لو كان حقيقة في معنى كان حقيقة في جميع حالاته، فالإنسان حقيقة في الحيوان الناطق، سواء كان عالماً أم جاهلاً، أسود أم أبيض، رجلاً أم امرأة... وهكذا.

فلو صحّ سلب اللفظ عن بعض الحالات كان ذلك دليلاً على عدم كونه حقيقة في تلك الحالة؛ إذ لو كان حقيقة فيها لما صحّ سلبه عنها.

وهذا السلب مطلق، أي: سلب اللفظ عن تلك الحالة مطلقاً في جميع الموارد، فيكون علامة المجاز.

وهكذا في ما نحن فيه؛ لأن السلب حالاً عن كون زيد ضارباً دليل على عدم كون الضارب حقيقة في زيد في حال انقضاء الضرب؛ إذ لو كان حقيقة في تلك الحالة لما صحّ سلبه عنه.

وعلى الثالث: فكذلك؛ لأن زيداً المقيّد بكونه في الحال ليس بضارب في جميع الأزمنة؛ وذلك لأن الضارب في الزمان الماضي ليس زيد المقيد بالحال، وإلاّ لزم التناقض، فإن الضارب في الماضي هو نفس زيد لكن لا بقيد كونه في الحال، فدقق.

ص: 202

إنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب[1] الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق[2] - كما هو واضح - فصحة سلبه[3] وإن لم تكن علامةً على كون المطلق مجازاً فيه إلاّ أن تقييده ممنوع؛ وإن أريد[4] تقييد السلب فغير ضائر[5] بكونها علامة، ضرورة[6] صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان[7]

-------------------------

[1] وهو الاحتمال الأول، و«المسلوب» المحمول - الذي هو المشتق - ففي قولنا: (زيد ليس بضارب)، الذي تمّ سلبه هو (الضارب) لذلك أطلق عليه المسلوب.

[2] أي: سلب المقيّد لا يلازم سلب المطلق، فسلب الإنسان العالم عن زيد لا يلازم سلب الإنسان المطلق عنه.

ومعنى قوله: (أعم) هو أنه قد يصح السلب المقيّد ولا يصح السلب المطلق، وقد ثبت في علم المنطق أن المطلق أعم من المقيّد، لكن نقيض المطلق أخص من نقيض المقيد، فالحيوان أعم من الإنسان، لكن اللاحيوان أخص من اللاإنسان.

[3] أي: نعترف بأن صحة السلب عن «المسلوب المقيّد» ليست علامة للمجاز، لكنا نمنع رجوع القيد إلى المسلوب، «مجازاً فيه» أي: في المنقضي عنه المبدأ، «تقييده» أي: تقييد المسلوب.

[4] هذا الاحتمال الثاني.

[5] أي: إن تقييد السلب لا يضرّ بكون (صحة السلب) علامة للمجاز.

[6] بيان عدم الضرر في تقييد السلب؛ وذلك لأن المعنى الحقيقي لا يصح سلبه عن أفراده، فلو صحّ سلبه عن فرد من الأفراد كشف ذلك عن عدم كون ذلك الفرد معنىً حقيقياً. وفي ما نحن فيه: المشتق إذا كان حقيقة في الأعم كان المنقضي عنه المبدأ أحد أفراده، فلا يصحّ السلب عنه، ولكنا حيث وجدنا صحة سلب المشتق عن المنقضي عنه المبدأ عرفنا أنه ليس حقيقة فيه.

[7] هذا الاحتمال الثالث.

ص: 203

منع تقييده[1] أيضاً بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات[2] الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقاً[3] بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جداً[4].

ثم لا يخفى[5] أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ بين كون

-------------------------

[1] أي: لا توجد ضرورة في إرجاع القيد إلى (السلب) بل يمكن إرجاع القيد إلى الموضوع، ومع ذلك تكون صحة السلب حينئذٍ علامة للمجاز، «أيضاً» كما منعنا من رجوع القيد للمسلوب.

[2] أي: الموضوع الذي اتصف بتلك الصفة، فيقال: زيد بقيد كونه في الحال ليس بضارب.

[3] أي: فيصح سلب المشتق «مطلقاً» من دون تقييده بحال الانقضاء «بلحاظ هذا الحال» أي: حال الانقضاء في الموضوع، فالمعنى أن الموضوع مقيداً بحال الانقضاء يصح سلب المشتق منه بشكل مطلق - من غير تقييد المشتق بحال الانقضاء - .

مثلاً: (زيد المقيد بكونه في الحال) غير ضارب، لا في الماضي ولا في الحال، وأما الضرب الحاصل في الماضي من زيد فليس من زيد بقيد كونه في الحال.

وبعبارة أخرى إن هنا موضوعين:

الأول: زيد في الآن، ومن المعلوم أن زيداً بقيد كونه في الحال لم يكن ضارباً أصلاً.

الثاني: زيد مطلقاً أو زيد في حال التلبس، وهو الذي كان ضارباً في ما مضى.

[4] لأن المطلب دقيق، حتى لا تستشكل بأنه كيف يكون زيد المقيد بزمان الحال غير ضارب مطلقاً، مع صدور الضرب من زيد في الماضي؟ وقد عرفت الجواب بتعدد الموضوع.

عموم صحة السلب
اشارة

[5] حاصله: إن صحة السلب عن المنقضي عامة لكل الحالات، فلا تصح

ص: 204

المشتق[1] لازما وكونه متعدياً، لصحة سلب[2] الضارب عمّن يكون فعلاً غير متلبس بالضرب، وكان متلبساً به سابقاً. وأما إطلاقه عليه في الحال[3]، فإن كان

-------------------------

التفاصيل المذكورة هنا؛ وذلك لأن الكلام حول دلالة هيئة المشتق، وأما دلالات المادة فلا دخل لها في المعنى المشتق، والمصنف يشير إلى تفصيلين، ويردّهما، ومن ذلك يتضح الإشكال في سائر التفصيلات.

1- التفصيل بين اللازم والمتعدي

[1] وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول(1):

بأن المشتق إن كان متعدياً مثل: (ضارب) فهو حقيقة في الأعم؛ وذلك لصحة إطلاق الضارب على من انقضى عنه المبدأ، فيقال: جاء الضارب مثلاً، وأما إن كان لازماً مثل: (قائم) فهو حقيقة في خصوص المتلبس؛ لعدم صحة إطلاق القائم على من انقضى عنه المبدأ.

ولعل وجه هذا التفصيل هو أن الفعل اللازم يقوم بالذات، فانقضاؤه عن الذات سبب سلب لفظ المشتق عنها، وهذا بخلاف الفعل المتعدي فإنه يقوم بالغير - وهو المفعول - فلذا لا يعتبر في صدق المشتق على الذات بقاء المبدأ فيها.

[2] وهذا بيان الإشكال على هذا التفصيل، وحاصله: صحة السلب مطلقاً عمن انقضى عنه المبدأ، سواء كان الفعل لازماً أم متعدياً، فكما يصح سلب القيام عمن هو قاعد الآن وإن كان قائماً سابقاً، كذلك يصح سلب الضرب عمن ليس بضارب الآن وإن كان ضارباً في ما مضى.

[3] دفع وهم، وحاصل الوهم: إنه يصح إطلاق (الضارب) على من انقضى عنه المبدأ، وهذا دليل الحقيقة.

وحاصل الدفع: إن الإطلاق إن كان بلحاظ حال التلبس فهذا لا إشكال في كونه حقيقة - بلا فرق بين اللازم والمتعدي - فلا فرق في كونه حقيقة بين قولنا: (كان زيد أمس ضارباً) وبين قولنا: (كان أمس قائماً).

ص: 205


1- الفصول الغروية: 60.

بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ الحال فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها، كما لا يخفى.

كما لا يتفاوت[1] في صحة السلب عنه بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت[2] من وضوح صحته مع عدم التلبس أيضاً، وإن كان معه أوضح.

-------------------------

وإن كان الإطلاق بلحاظ الحال فهو مجاز، ومجرد الاستعمال ليس دليلاً على الحقيقة.

«إطلاقه» المشتق، «عليه» على المنقضي، «فلا إشكال» أي: في كونه حقيقة، بلا فرق بين اللازم والمتعدي فهذا ليس مورداً للخلاف، «وإن كان» الإطلاق، «فهو» فالإطلاق، «منها» من الحقيقة.

2- التفصيل بين التلبس بالضد وعدمه

[1] وهذا تفصيل آخر نسب إلى الشهيد، وحاصله: إنه بعد انقضاء المبدأ: تارة تتلبس الذات بضد المبدأ، كالقائم إذا قعد، وحينئذٍ لا يكون إطلاق القائم على الذات حقيقة، وتارة لا تتلبس الذات بالضد، كالأسود إذا صار بلا لون، فيكون إطلاق الأسود عليها حقيقة.

والدليل هو أنه مع اتصاف الذات بالضد فإن إطلاق المبدأ المنقضي يستلزم منه الجمع بين الضدين، فنقول: هذا قائم وقاعد حقيقة، وهذا واضح البطلان، بخلاف ما لو انقضى المبدأ ولم تتصف الذات بالضد، فلا يستلزم محذور اجتماع الضدين، «عنه» عن المنقضي.

[2] حاصل الإشكال على هذا التفصيل: هو صحة السلب عن المنقضي حتى لو لم يتلبس بالضد، فما كان أسود ثم صار بلا لون يصحّ أن نقول فيه: هذا ليس بأسود، «عنه» عن المنقضي، «تلبسه» أي: تلبس الذات، وتذكير الضمير باعتبار (المنقضي عنه)، «صحته» صحة السلب، «معه» مع التلبس بالضد.

ص: 206

ومما ذكرنا[1] ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه:

الأول[2]: التبادر. وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.

-------------------------

[1] أي: ما ذكرناه من صحة السلب عن المنقضي بلحاظ الحال مطلقاً، و«من التفاصيل»: التفصيل بين كون المشتق محكوماً عليه أو محكوماً به، وبين كونه ملكة أو عدم كونه ملكة، ونحو ذلك من التفاصيل.

والحاصل: إن هيئة المشتق تدل على اتصاف الذات بالمبدأ في حال التلبس، وهذا هو المعنى الحقيقي لها، ولا فرق في ذلك بين اختلاف المبادئ من أية جهة من الجهات.

أدلة القول للأعم
الدليل الأول: التبادر

[2] استدلوا بأنه حين إطلاق لفظ المشتق فإنه يتبادر إلى الأذهان من تلبس بالمبدأ ولو آناً ما.

ويرد عليه: إن التبادر إنما هو في خصوص المتلبس بالمبدأ، كما مرّ.

ولعل منشأ خطأ هؤلاء هو أنهم رأوا إطلاق لفظ المشتق على ما انقضى عنه المبدأ من دون عناية المجاز، مثل إطلاق لفظ القاتل - مثلاً - على من قتل في الماضي، لكنهم غفلوا عن أن هذا الإطلاق إنما هو بلحاظ حال التلبس، وهذا لا خلاف في كونه حقيقة.

وحيث إن التبادر أمر وجداني، وكل واحد يمكن أن يدعي خلاف ما يدعيه الآخر ويستدل له بالوجدان، لذلك لابدّ من البحث عن المنبّهات على الوجدان، ومنها: مراجعة العرف وأهل اللسان وإعطاؤهم أمثلة ليحكموا بحكمهم، مثلاً: هل يصح في الليل أن نقول: هذا صائم الآن؟ كلاّ. نعم، يصحّ أن نقول: كان صائماً، فإطلاق الصائم عليه بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء.

ص: 207

الثاني[1]: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول عمن انقضى عنه المبدأ.

وفيه[2]:

-------------------------

الدليل الثاني: عدم صحة السلب

[1] فالمقتول - مثلاً - قد انقضى عنه المبدأ - وهو القتل الذي وقع في ما مضى وانتهى - ومع ذلك لا يصح سلب المقتول عنه، فهل يصح أن نقول: (إن حمزة رضوان الله عليه ليس بمقتول)!

[2] حاصل الجواب من وجوه ثلاثة:

1- التصرف في المبدأ، أي: (القتل) - مثلاً - يراد منه خروج الروح بسبب قهري مثلاً، وهذا المعنى مستمر إلى الأبد، فقولنا: (حمزة مقتول) يراد به هذا المعنى، لا الطعن وقطع الرأس ونحو ذلك، وهكذا في (مضروب) يراد منه أثر الضرب، وهو مستمر أبداً.

وبعبارة أخرى: هيئة المشتق تدل على خصوص المتلبس بالحال، والمثالان - المبدأ أي: القتل والضرب - أريد منهما معنىً مجازي، والمجاز في المادة لا يلازم المجاز في الهيئة، فهيئة المشتق باقية على معناها الحقيقي، وصحة إطلاق المقتول والمضروب لأجل عدم انقضاء القتل والضرب بمعناهما المجازي.

2- أن يكون إطلاق المضروب والمقتول باعتبار حالة التلبس، أي: كان مضروباً وكان مقتولاً، إذا أريد المعنى الحقيقي للضرب والقتل، وهو الطعنة الموجبة لزهوق الروح واللطمة، وقد ذكرنا مراراً أنه إذا أريد حالة التلبس يكون إطلاق المشتق على نحو الحقيقة.

3- إنه يصح السلب بلحاظ الحال، بأن نقول: إنه ليس بمقتول الآن ولا بمضروب الآن، بل هو مقتول ومضروب في الماضي.

والحاصل: إن عدم صحة السلب إن كانت بلحاظ حالة التلبس، أو باعتبار التصرف في معنى القتل والضرب فهذا لا يدل على وضع المشتق للأعم. وإن كانت بلحاظ الحال فعدم صحة السلب ممنوعة، كما اتضح.

ص: 208

إنّ عدم صحته في مثلهما إنما هو لأجل[1] أنه أريد من المبدأ معنىً يكون التلبس به باقياً في الحال ولو مجازاً، وقد انقدح من بعض المقدمات[2] أنه لا يتفاوت الحال في ما هو المهم في محل البحث والكلام، ومورد النقض والإبرام اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقةً أو مجازاً.

وأما لو أريد[3] منه نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب في ما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع كما عرفت، لا بلحاظ الحال أيضاً، لوضوح[4] صحة أن يقال: (إنه ليس بمضروب الآن، بل كان).

الثالث[5]: استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ - تأسياً بالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - كما عن غير واحد من

-------------------------

[1] إشارة إلى الجواب الأول، «أنه» للشأن، «التلبس به» بالمبدأ، «ولو مجازاً» أي: ذلك المعنى مجازي، لكنه يرتبط بالمادة ولا يرتبط بهيئة المشتق - التي هي محلّ البحث - .

[2] أي: المقدمة الرابعة، وحاصل الكلام: إن كلامنا ليس في المادة، فقد تكون حقيقة وقد تكون مجازاً - وفي المثالين معناها مجازي - وإنما الكلام في مدلول الهيئة، وفي هذين المثالين الهيئة دالة على معناها الحقيقي، وهو إطلاقها على المتلبس بالمبدأ.

[3] إشارة إلى الجواب الثاني، «منه» من المبدأ، «نفس ما وقع على الذات» أي: المعنى الحقيقي للقتل، وهو الطعن الموجب لزهوق الروح، والمعنى الحقيقي للضرب وهو اللطمة.

[4] إشارة إلى الجواب الثالث.

الدليل الثالث: استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ

[5] حاصله: إن ابراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ دعا الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، فأجابه تعالى بقوله: {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}(1)، ثم إن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ استدل على عدم

ص: 209


1- سورة البقرة، الآية: 124.

الأخبار بقوله تعالى[1] {لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}(1) على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً[2] لمنصب الإمامة والخلافة[3]؛ تعريضاً بمن تصدى لها ممن عبد الصنم

-------------------------

صحة إمامة خلفاء الجور بأنهم قبل الإسلام كانوا مشركين يعبدون الأصنام فلذا لا يصلحون للإمامة بنص الآية الدالة على نيل الظالمين عهد الله تعالى بالإمامة، والشرك هو ظلم عظيم لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ}(2).

و هذا الاستدلال يتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم؛ إذ لو كان حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ لأمكن للخصم أن يقول: إن هؤلاء أسلموا فانقضى عنهم الظلم، فلا يصدق عليهم الظالم بعد إسلامهم!

[1] «بقوله» متعلق ب- (استدلال الإمام)، أي: استدل الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الآية، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (أوحى الله عزوجل إلى ابراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ}(3) فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يارب ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عزوجل إليه... قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريتك، قال: يارب ومَن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصلح أن يكون إماماً...)(4)

الحديث.

[2] قيل في الفرق بينهما: إن الصنم مصوّر، والوثن حجارة لا صورة لها، كانوا يتخذونهما للعبادة من دون الله تعالى.

[3] كلمتان مترادفتان إلاّ أن الفرق بينهما اعتباري، فباعتبار الناس هو إمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وباعتبار الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو خليفته.

ص: 210


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة لقمان، الآية: 13.
3- سورة البقرة، الآية: 124.
4- الأمالي (للشيخ الطوسي): 379.

مدة مديدة. ومن الواضح توقف ذلك[1] على كون المشتق موضوعاً للأعم، وإلاّ لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.

والجواب: منع التوقف على ذلك[2]، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبس.

-------------------------

[1] أي: الاستدلال بالآية، «وإلاّ» أي: إن كان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس.

[2] أي: على وضع المشتق للأعم.

والجواب يتوقف على مقدمة، وهي أن الأوصاف التي تؤخذ في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام:

1- ما لا دخل لها في الحكم أصلاً، وإنما اُخذ الوصف للإشارة إلى الموضوع، كقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (الإمام خاصف النعل)(1)

ومن المعلوم أن خصف النعل لا دخل له في الإمامة، وإنما أراد الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الإشارة إلى الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ حيث كان في تلك الحالة مشغولاً بترقيع نعله.

2- ماله دخل في الحكم حدوثاً ولا دخل له في بقاء الحكم، كقوله: (الماء المتغيّر بالنجاسة نجس)، فوصف التغير له تأثير في حدوث النجاسة في الكر، لكن لا تأثير له في بقائها، فلو زال التغيّر بقيت النجاسة.

3- ما له دخل في الحكم حدوثاً وبقاءً، مثل: (صلّ خلف العادل) فالحكم - وهو جواز الصلاة - يتوقف على حدوث العدالة وبقائها، فلا يكفي مجرد حدوثها.

إذا اتضح ذلك نقول في الجواب: إن الاستدلال بالآية إنما هو لأجل كون الظلم من قبيل القسم الثاني، أي: إن الظلم - ولو آناً ما - يمنع عن الإمامة أبداً؛ وذلك

ص: 211


1- الكافي 5: 12.

وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إنّ الأوصاف العنوانية[1] التي تُؤخذ في موضوعات الأحكام تكون على أقسام:

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعاً للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان[2] من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلاً.

ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى عِلّية المبدأ للحكم[3] مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه ولو في ما مضى.

-------------------------

لأن الآية في صدد بيان عظم منزلة الإمامة وجلالة قدرها بحيث لا يليق بها إلاّ من لم يظلم في كلّ عمره.

ويمكن الجواب بنحو آخر، وهو أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، لكن في الآية أريد الأعم؛ وذلك بقرينة جلالة منصب الإمامة، فالقرينة هي الدالة على عدم لياقة من عبد صنماً للإمامة أبداً، ولا يخفى أن هذا إنما هو في مقام الاحتجاج على الخصم، وإلاّ فجميع خلفاء الجور كانوا متلبسين بالظلم حين تصديهم للإمارة بمختلف أنواع الظلم، ومنها: عبادة الأصنام باطناً وعدم الإيمان بنبوة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وعدم الإطاعة للإمام الحق، فضلاً عن جورهم على الناس.

[1] أي: التي أخذت في موضوع الأحكام، وإنما سميت (عنوانية) لأنها تُؤخذ عنواناً للموضوع، كقولنا: (العادل يُصلّى خلفه).

[2] أي: لمعرفة الناس بأن الموضوع متصف بهذا العنوان، ففي المثال كان الناس في المسجد يرون الإمام علياً عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مشغولاً بخصف النعل، وبعبارة أخرى: اتخذ الوصف طريقاً لتفهيم الموضوع، «معهوديته» أي: الموضوع، «لاتصافه» أي: الموضوع، «به» بالعنوان.

[3] أي: إن الحكم متوقف على اتصاف الموضوع بذلك الوصف، فالنجاسة في المثال متوقفة على اتصاف الكرّ بالتغيّر، بحيث لو لم يتغيّر لم تنجس، لكن التغيّر

ص: 212

ثالثها: أن يكون لذلك[1] مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائراً مدار صحة الجري عليه[2] واتصافه به حدوثاً وبقاءً.

إذا عرفت هذا فنقول[3]:

-------------------------

علة مُحدثة للحكم لا مُبقية، فالحكم باقٍ حتى مع زوال التغيّر، «مع كفاية» أي: يكفي في استمرار الحكم، «عليه» على الموضوع كالماء في المثال.

[1] أي: يكون أخذ الوصف في الموضوع، «لذلك» أي: للإشارة إلى عِلّية المبدأ للحكم، «عدم الكفاية» أي: عدم كفاية الحدوث لاستمرار الحكم، بل لابد من بقاء الوصف ليبقى الحكم، فإن زال الوصف زال معه الحكم.

[2] أي: جري المبدأ على الموضوع، فلابد من اتصافه به استمراراً ليستمر الحكم، وقوله: (واتصافه به) عطف تفسيري، أي: اتصاف الموضوع بالمبدأ.

[3] حاصله: إنه لا إشكال في عدم كون (الظالمين) في الآية من القسم الأول؛ لعدم إرادة أشخاص معينين، بل أريد كل ظالم في كل زمان ومكان، فيدور الأمر في (الظالمين) بين القسم الثاني والثالث.

فإذا لم تكن هناك قرينة على التعيين في أحدهما فلا يمكن الاستدلال بالآية على أن المشتق أعم، فلعلّ (الظالمين) في الآية من القسم الثاني، أي: إن الظلم سبب عدم صلاحية الظالم للإمامة حدوثاً لا بقاءً، بمعنى أن حدوث الظلم - حتى لو لم يبق - سبب عدم الصلاحية للإمامة، فيكون استدلال الإمام بالآية لهذه الجهة، لا لكون المشتق حقيقة في الأعم.

ولكن قامت القرينة على أن (الظالمين) في الآية من قبيل القسم الثاني، وتلك القرينة هي ما دلت عليه الآية من عظم منزلة الإمامة - بحيث إن إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم ينلها إلاّ بعد نبوته بسنوات طوال، وبعد أن اجتاز الابتلاءات والامتحانات الصعبة، فإذا كان حال إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هكذا فهل يمكن أن ينال الإمامة من كان أكثر عمره عابداً للصنم؟!

ص: 213

إن الاستدلال بهذا الوجه[1] إنما يتم لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير، ضرورة[2] أنه لو لم يكن المشتق للأعم لما تمّ بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حين التصدي، فلابد أن يكون[3] للأعم، ليكون حين التصدي حقيقةً من الظالمين ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم، وأما إذا كان[4] على النحو الثاني فلا، كما لا يخفى.

ولا قرينة على أنه على النحو الأول[5]،

-------------------------

[1] أي: الدليل الثالث للأعم، وهو استدلال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بهذه الآية، «العنوان» أي: (الظالمين)، «النحو الأخير» من كون الظلم حدوثاً وبقاءً سبباً لعدم القابلية للإمامة.

[2] بيان أن الاستدلال يتوقف على أخذ (الظالمين) على النحو الأخير، «أنه» للشأن، «لما تمَّ» الاستدلال بالآية، «عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً» أي: تركهم لعبادة الأصنام في الظاهر؛ لأن المقام مقام احتجاج على المخالفين القائلين بإسلام خلفاء الجور واقعاً، «حين التصدي» للخلافة.

[3] أي: يكون المشتق، «للأعم» أي: حقيقة في الأعم، «ليكون» أي: ليكون الخليفة الجائر، ولو قال (ليكونوا) لكان أحسن، «ولو انقضى» في الظاهر.

[4] أي: إذا كان أخذ عنوان الظالمين في الآية، «النحو الثاني» من كون المبدأ - وهو الظلم - سبباً حدوثاً لا بقاءً، «فلا» أي: فلا يتم الاستدلال بالآية.

[5] أي: القسم الثالث، وإنما عبّر عنه بالنحو الأول لأنه ذكره أولاً في الجواب عن الاستدلال، حيث قال: (إن الاستدلال بهذا الوجه... الخ).

والمقصود بيان أن الاستدلال بالآية على الأعم يتوقف على كون (الظالمين) من القسم الثالث، ولكن لا قرينة تعيّن هذا، بل يحتمل أن يكون من القسم الثاني، فلا يمكن الاستدلال بالآية على الأعم.

ص: 214

لو لم نقل[1] بنهوضها على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلها، وأنّ لها خصوصية[2] من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أن المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً، كما لا يخفى.

إن قلت[3]: نعم، ولكن الظاهر أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعاً، لا بقرينة المقام مجازاً، فلابد[4] أن يكون للأعم، وإلاّ لما تَمَّ.

-------------------------

[1] أي: بل القرينة دالة على أن (الظالمين) في الآية من القسم الثاني، أي: الظلم سبب لعدم القابليّة للإمامة حدوثاً، فحتى لو تاب فإنه لا يصلح لها، «بنهوضها» أي: القرينة.

[2] لأنها أعلى من النبوة، فإبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كان نبياً، وبعد اجتيازه الاختبارات الصعبة استحق نيل منصب الإمامة، «لذلك» المنصب المهم، «المتقمص بها» أي: الذي يتبوأ منصب الإمامة، «أصلاً» في كل حياته.

[3] حاصله: إن الظاهر أن الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد الاستدلال بالمعنى الحقيقي لكلمة (الظالمين)، لا أنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بصدد التمسك بقرينة المقام، فإن القرينة تدل على المجازية؛ لعدم حاجة المعنى الحقيقي إليها.

وبناءً على إرادة المعنى الحقيقي وعدم الحاجة إلى القرينة لابد من القول بوضع المشتق للأعم ليتم استدلاله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، «نعم» أي: نقبل أن المناسب لمنصب الإمامة هو عدم الظلم في كل العمر، «ظاهر العنوان» أي: (الظالمين)، «وضعاً» أي: المعنى الحقيقي الموضوع له، «مجازاً» لأن الاحتياج إلى القرينة دليل المجازية.

[4] أي: لما كان مقصوده عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الاستدلال بالمعنى الحقيقي من غير قرينة لابد في صحة الاستدلال من كون المشتق حقيقة في الأعم ليتم الاستدلال، فإن الوضع لخصوص المتلبس لا ينسجم مع الاستدلال، «وإلاّ» أي: لو لم يكن المشتق للأعم، «لما تمّ» أي: لما صحّ الاستدلال.

ص: 215

قلت[1]: لو سلم، لم يكن[2] يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازاً، بل يكون حقيقةً لو كان بلحاظ حال التلبس، كما عرفت؛ فيكون معنى الآية - والله العالم -: من كان ظالماً ولو آناً في زمان سابق لا ينال عهدي أبداً. ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا يستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التلبس[3].

ومنه[4]

-------------------------

[1] حاصل الجواب: أولاً: لا نسلّم أن الإمام يريد الاستدلال بالوضع من دون التمسك بالقرينة، بل هو عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يريد الاستدلال بالظهور، ولا فرق في حجية الظهور بين كونه مستنداً إلى الوضع أو إلى القرينة.

وثانياً: إنه لا يلزم المجازية حتى لو قلنا: إنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبس، فإن من تصدّى للخلافة بعد تركه عبادة الأصنام يصح إطلاق (الظالم) عليه باعتبار حال التلبس، كما صحّ إطلاق السارق والقاتل على من انقضى عنه القتل والسرقة، ولكن باعتبار تلبسه بهما في الماضي - كما مرّ تفصيله - فيكون معنى الآية من تلبس بالظلم ولو آناً ما فلا يناله عهد الله تعالى في الإمامة.

وأما القرينة فهي لتعيين أحد المصاديق للمعنى الحقيقي، فإن استعمال (الظالم) في المتلبس بالظلم معنى حقيقي، وله مصاديق، أحدهما: من كان متلبساً، والآخر: من لا زال متلبساً، والثالث: من تلبس سواء استمر تلبسه أم لا، فالقرينة المذكورة لتعيين المصداق الثالث.

[2] اسم (لم يكن) ضمير الشأن، والخبر جملة (يستلزم... الخ)، «كونه» أي: المشتق، «لوكان» الجري.

[3] كي يستلزم المجازية، بل الاستعمال إنما هو بلحاظ حال التلبس، وهو المعنى الحقيقي.

دليل التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به

[4] أي: من أن استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس هو استعمال في المعنى الحقيقي.

ص: 216

قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل[1] بين المحكوم عليه والمحكوم به - باختيار عدم الاشتراط في الأول(1)- بآية[2] حد السارق والسارقة والزاني والزانية. وذلك[3] حيث ظهر أنه[4] لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ولو بعد انقضاء المبدأ؛ مضافاً[5] إلى وضوح بطلان تعدد الوضع حسب وقوعه محكوماً عليه أو به، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] حاصله: إن المشتق إن كان محكوماً عليه - أي: موضوعاً - فهو موضوع للأعم، بدليل آية حد السرقة والزنا، فإنه لو كان الوضع لخصوص المتلبس لما أمكن إجراء الحدّ أبداً؛ لأنهما حين اعتقالهما وسوقهما إلى المحكمة قد انقضى عنهما السرقة والزنا.

وأما إذا كان المشتق محكوماً به - أي: حكما - مثل: (زيد قائم) فهو موضوع لخصوص المتلبس، ولعلّ دليلهم هو التبادر وصحة السلب ونحو ذلك.

[2] متعلق ب- (الاستدلال).

[3] هذا إشكال على التفصيل:

أولاً: إنّ (السارق) و(الزاني) استعملا بلحاظ حال التلبس، أي: من كان سارقاً ومن كان زانياً.

وثانياً: استلزام هذا التفصيل تعدد الوضع في كل مشتق؛ لأن المشتق كما يستعمل محكوماً عليه كذلك يستعمل محكوماً به، فحين الأول يكون موضوعاً للأعم، وحين الثاني يكون موضوعاً لخصوص المتلبس، وهذا واضح البطلان.

[4] هذا الإشكال الأول، «أنه» للشأن، و«دلالتها» مفعول (لا ينافي) والضمير للآية، أي: إرادة المتلبس من كلمة السارق والزاني لا تنافي إجراء الحدّ، وفسّر المصنف قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو بعد انقضاء... الخ).

[5] هذا هو الإشكال الثاني؛ وذلك لوضوح أن كلمة (السارق) مثلاً لها معنى واحد لا معنيان.

ص: 217


1- الحدائق الناضرة 1: 122.

ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا وفي المقدمات ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات.

بقي أمور: الأول: إن مفهوم المشتق[1] - على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه(1) - بسيط منتزع عن الذات[2] باعتبار[3] تلبسها بالمبدأ واتصافها به، غير

-------------------------

أمور ترتبط ببحث المشتق

الأمر الأول: في بساطة المشتق
اشارة

[1] أما مصداقه الخارجي فهو مركب عادة، والمفهوم: هو ما ينقدح في الذهن، والمصداق: هو الوجود الخارجي، مثلاً: حينما نسمع لفظة (العالم) ينقدح في ذهننا معنىً واحد، لا معنيان، مع أن المصداق الخارجي للعالم هو (زيد) مثلاً، ولا إشكال في كونه مركباً.

[2] أما كونه بسيطاً فلأنّه لا ينقدح في الذهن إلاّ شيء واحد، لا شيئان، وهذا أمر وجداني وسيأتي البرهان له، عكس مثل: (غلام زيد) فإنه ينقدح في الذهن شيئان.

وأما كونه منتزع عن الذات فلأن العقل حينما يرى الوجود الخارجي المتصف بالمبدأ فإنه ينتزع عنه المشتق، مثلاً: حينما نرى (زيداً) وهو متصف بصفة (العلم) ننتزع منه (العالم)؛ وذلك لأن الانتزاع إنما هو عملية ذهنية، لكن منشأها الوجود الخارجي - عادة - مثلاً (الأربعة) الموجودة في الخارج ينتزع الذهن منها (الزوجية).

[3] هذا منشأ الانتزاع، وقوله: (واتصافها به) عطف تفسيري لقوله: (تلبسها بالمبدأ)، وكذا قوله: (غير مركب) عطف بيان لقوله: (بسيط).

ص: 218


1- شرح المطالع: 11.

مركب. وقد أفاد في وجه ذلك[1]: «إن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق - مثلاً -، وإلاّ لكان العرض العام[2] داخلاً في الفصل؛

-------------------------

الدليل الأول لبساطة المشتق

[1] وهو الدليل البرهاني، وحاصله:

إن مفهوم المشتق لو كان مركباً كان التركيب من أمرين (الشيء) و(المبدأ)، فيكون مفهوم (العالم) مثلاً (شيء له العلم)، فنقول: إن (الشيء) المأخوذ في المفهوم هل هو مفهوم الشيء أم مصداق الشيء؟ وفي كليهما المحذور، وحيث بطل التالي فالمقدم - وهو تركب المشتق - مثله في البطلان.

1- أما (مفهوم الشيء) فهو عرض عام؛ لأنه يعرض كل الموجودات؛ إذ ليس مفهوم الشيء داخلاً في جنسها ولا فصلها.

وحيث إن (الناطق) مشتق فعلى هذا يكون معناه (شيء له النطق)، فدخل (مفهوم الشيء) في الفصل - وهو الناطق - ولازم ذلك دخول العرض العام في الفصل، وهو محال؛ لأن الفصل ذاتي، والعرض العام غير ذاتي، فدخول العرض العام في الفصل معناه كون مثل: (الناطق) ذاتياً وغير ذاتي وهو تناقض.

2- وأما (مصداق الشيء) فهو الوجود الخارجي لذلك المفهوم، فعلى القول بتركب المشتق منه ومن المبدأ يكون معنى (الإنسان كاتب) هو (الإنسان إنسان له الكتابة)، ومن المعلوم أن قضية (الإنسان كاتب) قضية ممكنة، أما (الإنسان إنسان له الكتابة) فهي قضية ضرورية؛ لأن حمل الشيء على نفسه ضروري. فلازم التركب هو انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، وهو باطل بداهة.

[2] وهو ما كان خارجاً عن الذات لكنه يعرض عليها، وكونه عاماً لأنه غير خاص بنوع من الأنواع كالمشي، عكس العرض الخاص الذي يعرض على نوع واحد كالضاحك.

ص: 219

ولو اعتبر فيه[1] ما صدق عليه الشيء انقلبت مادة الإمكان الخاص[2] ضرورة[3]، فإن الشيء الذي له الضحك هو الإنسان، وثبوت الشيء لنفسه ضروري»(1).

هذا ملخص ما أفاده الشريف على ما لخصه بعض الأعاظم(2).

وقد أورد عليه في الفصول[4]، ب- : «أنّه يمكن أن يختار الشق الأول[5]، ويدفع الإشكال[6] بأن كون الناطق - مثلاً - فصلاً مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه

-------------------------

[1] أي: في المشتق، «ما صدق عليه الشيء» أي: المصداق الخارجي.

[2] (المادة) أي: النسبة بين الموضوع والمحمول، وهذا حسب اصطلاح المنطقيين، وقوله: (الخاص) لأن القضية الممكنة تنقسم إلى قسمين: (الممكنة العامة) وهي التي حُكم فيها بعدم ضرورة كلا الجانبين - السلبي والإيجابي - .

مثلاً قولنا: (الإنسان كاتب) قد نلاحظ فيه أن عدم الكتابة ليس بضروري فقط، فهذا الإمكان العام، وقد نلاحظ أن الكتابة وعدمها ليسا بضروريين، فهذا الإمكان الخاص.

[3] أي: إلى قضية ضرورية.

1- إيراد الفصول على الشِق الأول
اشارة

[4] حاصله: إمكان دفع الإشكال سواء أريد من (الشيء) المفهوم أم المصداق.

أما لو أريد من (الشيء) المفهوم، فنقول: إن كلامنا في المعنى اللغوي للمشتق، وأما المنطقيون فقد استعملوا المشتق في الفصل بعد تجريده عن العرض العام - أي: الشيء - فالناطق لغةً هو (شيء له النطق) وكلامنا في تحقيق معنى المشتق حسب اللغة، لا حسب اصطلاح المنطقيين.

[5] أي: كون (الشيء) في المشتق هو (مفهوم الشيء).

[6] بدخول العرض العام في الفصل، «اعتبروه» أي: الناطق، «مفهوم الذات»

ص: 220


1- شرح المطالع: 11.
2- الفصول الغروية: 61.

مجرداً عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغةً كذلك»(1).

وفيه[1]: إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف في معناه أصلاً، بل بما له[2] من المعنى، كما لا يخفى.

والتحقيق[3]: أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه[4]،

-------------------------

أي: مفهوم الشيء، «وذلك» اعتبار المنطقيين، «وضعه» أي: المشتق، «كذلك» مجرداً عن الذات.

إشكال المصنف على الفصول

[1] حاصله: إنا نعلم أن المنطقيين لم يُريدوا من (الناطق) مثلاً إلاّ المعنى اللغوي، وليس لهم اصطلاح آخر.

[2] أي: بل اعتبروه فصلاً بما للناطق من المعنى اللغوي.

[3] بعد أن لم يرتضِ المصنف جواب صاحب الفصول أجاب هو بجواب آخر، وهو: إن الفصول المنطقية ليست فصولاً حقيقية؛ وذلك لعدم معرفتنا بحقائق الأشياء، فلا يعلمها إلاّ الله تعالى، فلا نعلم جنسها ولا فصلها، وإنما يذكر المنطقيون ما هو لازم الفصل، وأظهر خواصه للدلالة عليه، والحاصل: إن الفصل المنطقي هو (فصل مشهوري) أي: ما اشتهر بينهم، وليس فصلاً حقيقياً، فالناطق في الحقيقة هو عرض خاص لكنه لازم للفصل الحقيقي، وعليه فلا مانع من دخول العرض العام - وهو مفهوم الشيء - في العرض الخاص؛ لأن كلا العرضين خارجان عن الذات، فلا يلزم محذور دخول العرض في الذات.

[4] هذا عطف تفسيري لبيان المقصود من (لازم ما هو الفصل)، فإن لازم الفصل الحقيقي قد يكون لازماً عاماً، وهذا لا يستعمل في الإشارة إلى الفصل الحقيقي، وقد يكون لازماً خاصاً وهو ظاهر، فهذا يستعمل للإشارة إلى الفصل الحقيقي.

ص: 221


1- الفصول الغروية: 61.

وإنما يكون فصلاً مشهورياً[1] منطقياً يوضع مكانه إذا لم يُعلم نفسه، بل لا يكاد يُعلم، كما حقق في محله، ولذا[2] ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا[3] متساويي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالإرادة في الحيوان؛ وعليه[4] فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق، فإنه وإن كان عرضاً عامّاً، لا فصلاً مقوّماً للإنسان، إلاّ أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به[5] كان من أظهر خواصه.

وبالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق إلاّ دخول العرض في الخاصة[6]

-------------------------

[1] أي: ما اشتهر بين المنطقيين، «مكانه» أي: مكان الفصل الحقيقي، «إذا لم يعلم» أي: لم يُعلم الفصل الحقيقي.

[2] هذا تأييد لكون الفصول المنطقية ليست فصولاً حقيقية، وحاصله: اتفاق المنطقيين على أن الفصل لا يكون إلاّ شيئاً واحداً غير مركب، ومع ذلك قد يجعلون الفصل مركباً من شيئين، كما في (الحيوان) حيث إن فصله (الحساس المتحرك بالإرادة)، وهذا يكشف عن أن الفصول التي يذكرونها ليست فصولاً حقيقية، وإلاّ كان كلامهم متناقضاً، حيث إنّهم من جهة يلتزمون بعدم تركب الفصل، ومن جهة أخرى يجعلون بعض الفصول مركبة، «مكانه» مكان الفصل.

[3] هذا تعليل لجعل فصلين، فإن أظهر الخواص إذا كان واحداً - كالناطق في الإنسان - جعلوه فصلاً لوحده، ولكن لو تعددت الخواص وكانت متساوية فيجعلونها كلها في الفصل، «كانا» اللازمان، «إليه» إلى الفصل.

[4] أي: لما لم تكن الفصول المنطقية فصولاً حقيقية، «فإنه» أي: إن مفهوم الشيء.

[5] أي: اتصاف الشيء بالنطق فيقال: شيء له النطق.

[6] أي: دخول العرض العام في العرض الخاص، فإن الناطق عرض خاص وليس فصلاً حقيقياً.

ص: 222

التي هي من العرضي[1]، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيداً.

ثم قال: «إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضاً[2]، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقاً[3]،

-------------------------

[1] أي: الخاصة ليست من الذاتي حتى يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي، بل الخاصة من العرضي، ولا بأس بدخول العرض العام فيه.

ثم في اصطلاحهم (العَرَض) هو المبدأ الذي يقوم بالغير كالبياض، و(العَرَضي) هو المشتق من هذا المبدأ، كالأبيض، قال السبزواري:

وعرضيّ

الشيء غير العرضِ

ذا

كالبياض ذاك مثل الأبيضِ(1)

2- إيراد الفصول على الشق الثاني
اشارة

[2] أي: كما يمكن اختيار الشِق الأول - وهو كون الشيء مفهوم الشيء - ويدفع به الإشكال، كذلك يمكن اختيار الشق الثاني، أي: كون الشيء مصداق الشيء، ويدفع الإشكال أيضاً.

وحاصل الجواب: إن قولنا: (الإنسان ضاحك) مثلاً ينحل إلى (الإنسان إنسان له الضحك)، ومن المعلوم أن الإنسان المقيّد بالضحك ليس ضرورياً للإنسان، بل هو ممكن؛ لأن المقيّد بالممكن ممكن، وعليه فلا يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية.

ويمكن دفع هذا الجواب بوجهين:

الأول: ما ذكره المصنف بقوله: (ويمكن أن يقال... الخ).

الثاني: ما ذكره صاحب الفصول، ولكن المصنف لم يرتضه، وسيأتي توضيحهما.

[3] أي: في (الإنسان ضاحك) ليس المحمول هو الإنسان من غير قيد حتى تكون

ص: 223


1- شرح المنظومة 1: 29.

بل مقيداً بالوصف،وليس ثبوته[1] للموضوع حينئذٍ بالضرورة، لجواز[2] أن لا يكون ثبوت القيد ضرورياً»(1)، انتهى.

ويمكن أن يقال[3]:

-------------------------

القضية هكذا (الإنسان إنسان) فتكون ضرورية، بل المحمول هو (الإنسان المقيّد بالضحك)، ومن المعلوم أن هذا ليس ضرورياً للإنسان.

[1] أي: ليس ثبوت الشيء، «حينئذٍ» حين تقيّده بالوصف.

[2] أي: لو كان القيد غير ضروري فلا يكون ثبوت المقيّد ضرورياً، ففي (الإنسان إنسان له الضحك) ثبوت (إنسان له الضحك) للإنسان ليس بضروري؛ لأن القيد ليس ضرورياً.

نعم، لو كان القيد ضرورياً كان ثبوت المقيّد ضرورياً، فمثل: (الإنسان إنسان له النطق) قضية ضرورية.

أ- إشكال المصنف على إيراد الفصول

[3] حاصل إشكال المصنف أن في قولنا: (إنسان له الضحك) مثلاً احتمالان:

الأول: أن يكون القيد - وهو الضحك - خارجاً عن المحمول، وإنما التقيّد بالضحك هو الداخل في المحمول، فيكون المحمول ذا جزءين: الذات والتقيّد، نظير الوضوء للصلاة، فليس الوضوء جزءاً من الصلاة، لكن التقيّد بالوضوء جزءاً منها، فالصلاة مركبة من أجزاء كالركوع والسجود ونحوهما، ومن تلك الأجزاء تقيّدها بالوضوء، وكما قال السبزواري: (تقيّد جزء وقيد خارجي)(2).

الثاني: أن يكون القيد والتقيّد كلاهما داخلين في المحمول، فالكتابة والتقيّد بها جزءان من المحمول، فيكون المحمول ذا أجزاء ثلاثة: الذات والقيد والتقيّد.

ص: 224


1- الفصول الغروية: 61.
2- شرح المنظومة 2: 27.

إنّ عدم كون ثبوت القيد ضرورياً لا يضرُّ بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان[1] ذات المقيد، وكان القيد خارجاً - وإن كان التقيّد داخلاً[2] بما هو معنى حرفي[3] -

-------------------------

فعلى الأول: يلزم الانقلاب، فيعود المحذور؛ وذلك لأن قيد (الضحك) خارج، و(التقيّد) معنى حرفي لا يمكن لحاظه مستقلاً، فلا يمكن حمله - إذ في الحمل يلزم النظرة الاستقلالية للشيء - وحينئذٍ يحصل الانقلاب؛ لأن معنى (الإنسان ضاحك) هو (الإنسان إنسان) مع تقيّدٍ لكنه غير ملاحظ، وهذا المعنى قضية ضرورية.

وعلى الثاني: يلزم الانقلاب في جزء المحمول؛ وذلك لأن المحمول إذا كان مركباً انحلت القضية إلى قضيتين، مثلاً قولنا: (زيد عالم عادل) تنحل إلى (زيد عالم) و(زيد عادل)، وفي ما نحن فيه المحمول ينحل إلى (الإنسان إنسان) و(الإنسان له الضحك)، ومن المعلوم أن القضية الأولى ضرورية.

والحاصل: إنه يلزم الانقلاب على كل حال.

[1] بيان للاحتمال الأول، «ذات المقيّد» وهو الإنسان في المثال.

[2] بيان أن دخول (التقيّد) في المحمول حتمي، لكنه لا يمنع الانقلاب.

أما ضرورة دخوله: فلأن المقصود من (الإنسان ضاحك) ليس هو حمل الإنسان على نفسه، بل المقصود بيان أنه ضاحك، فإذا كان القيد والتقيّد خارجين لزم حمل الإنسان على نفسه، وهو غير المقصود، فلابد من ربط الضحك بالإنسان، ويكون ذلك عن طريق دخول التقيّد بها في المحمول.

وأما عدم منعه الانقلاب فلما ذكره المصنف وسيأتي توضيحه.

[3] لأن التقيّد هو النسبة بين القيد والمقيّد، والنسبة هي معنى حرفي، ومن المعلوم أن المعنى الحرفي لا يُلاحظ في نفسه، فالمُلاحظ هو ذات الشيء.

ص: 225

فالقضية لا محالة تكون ضروريةً[1]، ضرورة ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيداً بالنطق[2] للإنسان، وإن كان[3] المقيد به بما هو مقيد - على أن يكون القيد داخلاً - فقضية (الإنسان ناطق) تنحلُّ في الحقيقة إلى قضيتين[4]: إحداهما: قضية (الإنسان إنسان)، وهي ضرورية، والأخرى: قضية (الإنسان له النطق)، وهي ممكنة. وذلك[5] لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم تكون أوصافاً، فعقد الحمل[6] ينحلّ إلى القضية، كما أنّ عقد الوضع ينحلُّ إلى

-------------------------

[1] هذا بيان دليل الانقلاب إلى قضية ضرورية.

[2] الصحيح أن يقول: (بالضحك)، لأن الكلام في انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، فقوله: (بالنطق) من سهو القلم، وكذا قوله بعد قليل: (الإنسان ناطق)، وقوله: (الإنسان له النطق).

[3] بيان للاحتمال الثاني، «كان» المحمول، «بما هو مقيد» أي: بملاحظة القيد، لا ملاحظ ذات المقيد بانفراده من دون لحاظ القيد، «داخلاً» في المحمول.

[4] لأن تعدد المحمول يستلزم تعدد القضية.

[5] هذا دليل تعدد القضية، وحاصله: إنه لا فرق بين القيود والأخبار، فكل قيد خبر، وكل خبر قيد، مثلاً: لو لم نعلم بأن زيداً شاعر فيقال: (زيد شاعر) فهنا كان (شاعر) خبراً، لكن بعد علمنا بذلك يقال: (جاء زيد الشاعر) فهنا يكون (الشاعر) قيداً، وعليه: فقيد الضحك يمكن أن يؤخذ في قضية مستقلة من غير أن يكون قيداً، وبذلك تتشكل القضية الثانية، أي: (الإنسان له الضحك)، كما تشكلت القضية الأولى وهي (الإنسان إنسان)، و«ذلك»: أي: الانحلال.

[6] «عقد الحمل» هو اتصاف الذات بوصف المحمول، و«عقد الوضع» هو اتصاف الذات بالوصف العنواني للموضوع.

مثلاً: في قولنا (زيد عالم)، عقد الوضع هو الذات المتصفة بكونها زيداً، وعقد الحمل هو الذات المتصفة بكونها عالمة.

ص: 226

قضية مطلقة عامة عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي(1)،

فتأمل[1]. لكنه قدّس سرّه

-------------------------

وعقد الحمل ينقسم إلى ثمانية أقسام مذكورة في المنطق(2)، وأما عقد الوضع ففيه خلاف(3) هل هو قضية (مطلقة عامة) أم (ممكنة عامة).

و«المطلقة العامة» هي القضية التي دلّت على وقوع النسبة فعلاً، أي: خرجت من القوة إلى الفعل، سواء كانت ضرورية أم لا، وسواء كانت دائمة أم لا، وسواء كانت في الماضي أم الحاضر أم المستقبل، نظير قولنا: (كل إنسان ناطق بالفعل).

و«الممكنة العامة» ما دلت على عدم ضرورة الطرف المقابل، فإن كانت القضية موجبة دلت على عدم ضرورة سلبها، وإن كانت سالبة دلت على عدم ضرورة إيجابها، ومعنى ذلك هو أن النسبة في القضية غير ممتنعة، سواء كانت ضرورية أم لا، وسواء كانت واقعة أم لا، وسواء كانت دائمة أم لا، نظير قولنا: (الإنسان عالم بالإمكان العام) بمعنى عدم امتناع اتصافه بالعلم، فعدم العلم ليس بضروري.

ففي مثل: (كل كاتب متحرك الأصابع)، عقد الوضع هو (الذات التي لها الكتابة)، فعلى الأول تكون القضية (الذات التي لها الكتابة بالفعل هي متحركة الأصابع)، وعلى الثاني (الذات التي يمكن أن يكون لها الكتابة هي متحركة الأصابع).

ولا يخفى أن كلامنا هنا في عقد الحمل، وأمّا عقد الوضع وكيفيته فهو غير مرتبط بالبحث، لكن المصنف ذكره تتمة للكلام.

[1] لعله إشارة إلى صحة كلام الفصول وعدم ورود الإشكال عليه؛ وذلك لأنه على الاحتمال الأول - من دخول التقيّد وخروج القيد - فإن كون التقيد معنى حرفياً لا يمنع عن لحاظه آلياً، فالتقيّد بعد كونه أمراً ممكناً يكون سبباً لبقاء القضية ممكنة، وعدم انقلابها إلى ضرورية.

ص: 227


1- شرح المطالع: 128.
2- المنطق: 97.
3- المنطق: 178.

تنظر[1] في ما أفاده بقوله: «وفيه نظر، لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف[2] - قوةً أو فعلاً[3] - إن كانت مقيدة به واقعاً صدق الإيجاب بالضرورة[4]، وإلاّ صدق السلب بالضرورة، مثلاً: لا يصدق: زيدٌ كاتبٌ بالضرورة، لكن يصدق: زيدٌ

-------------------------

وأما على الاحتمال الثاني - من دخول القيد أيضاً - فلا تنحل القضية إلى قضيتين تامتين، بل تنحل إلى قضيتين: إحداهما تامة، وهي (الإنسان إنسان له الضحك) وأخراهما ناقصة - وهي المحمول في القضية التامة - أي: (إنسان له الضحك)، وكلا القضيتين ممكنتان - كذا في عناية الأصول -(1).

ب - إشكال الفصول على إيراده

[1] أي: أشكل على إيراده، وقال: إن إشكال انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية وارد.

وحاصله: إن الموضوع إذا لوحظ بشرط المحمول كانت القضية ضرورية، وإن لوحظ بشرط عدم المحمول كانت القضية ممتنعة.

مثلاً: قولنا: (الإنسان كاتب) إن لوحظ الإنسان بوصف الكتابة صارت القضية هكذا (الإنسان بوصف الكتابة كاتب) وهذه ضرورية، وإن لوحظ الإنسان بوصف عدم الكتابة، فقضية (الإنسان بوصف عدم الكتابة كاتب) قضية ممتنعة.

[2] أي: الذات التي هي الموضوع حال كونها مقيدة بالوصف الذي هو المحمول.

[3] أي: سواء كان الوصف بالقوة أم بالفعل، فزيد قد يكون كاتباً بالفعل، وقد يكون كاتباً بالقوة، «كانت» أي: الذات، «به» أي: بالوصف، «واقعاً» أي: في الثبوت والخارج، و«إلاّ» أي: إن لم تكن مقيدة بالوصف، بل كانت مقيدة بعدم الوصف.

[4] في نسخ الكفاية هكذا: (زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة) وعلى هذا شرحنا كلام الفصول، وهو الذي فهمه المصنف من كلامه فأشكل عليه بما سيأتي.

ص: 228


1- عناية الأصول 1: 152.

الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتبٌ بالضرورة»(1)، انتهى.

ولا يذهب عليك[1] أنّ صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه[2] مقيداً به واقعاً لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الإيجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة؛ كما لا يكاد يضرّ بها[3] صدق السلب كذلك بشرط عدم كونه مقيداً به واقعاً؛ لضرورة السلب بهذا الشرط[4]، وذلك[5] لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا[6] إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول

-------------------------

ج - ردّ إشكال الفصول

[1] حاصله: إنه في القضايا يُنظر إلى الموضوع بما هو هو، أي: (لا بشرط)، وحينئذٍ تلاحظ نسبة المحمول إليه، فقد تكون ضرورية مثل الإنسان ناطق، وقد تكون ممتنعة مثل الإنسان واجب، وقد تكون ممكنة مثل الإنسان كاتب، أما ملاحظة الموضوع بشرط المحمول فهو يوجب ضرورية تمام القضايا الممكنة، فالإنسان مقيداً بالكتابة كاتب بالضرورة، وهكذا سائر القضايا.

[2] كون الموضوع، «دعوى الانقلاب» ما ادعاه الشريف من أن المشتق إذا كان مركباً لزم انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية.

[3] أي: لا يضر بالقضية الممكنة، «كذلك» أي: بالضرورة، «عدم كونه» كون الموضوع، «به» بالمحمول، فالإنسان بشرط عدم الكتابة ليس بكاتب بالضرورة، ومقصود المصنف من (عدم كونه مقيداً) هو (تقيّده بالعدم).

[4] بشرط تقيّد الموضوع بعدم المحمول.

[5] بيان لعدم صحة دعوى الانقلاب.

[6] «المادة» هي كيفية النسبة، وهي ثمانية أنواع مذكورة في المنطق(2)، و«الجهة» هي الألفاظ الدالة عليها، كالإمكان والضرورة ونحو ذلك.

ص: 229


1- الفصول الغروية: 61.
2- الإشارات والتنبيهات 1: 141؛ المنطق: 172.

إلى ذاك الموضوع موجّهةٌ بأيّ جهة منها[1]، ومع أية منها في نفسها صادقة؛ لا[2] بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له كذلك، وإلاّ[3] كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة صيرورة الإيجاب أو السلب بلحاظ الثبوت وعدمه[4] واقعاً ضرورياً، ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدعوى[5] هو انقلاب مادة الإمكان بالضروة في ما ليست مادته واقعاً في نفسه وبلا شرط غير الإمكان.

وقد انقدح بذلك[6] عدم نهوض ما أفاده بإبطال الوجه الأول كما زعمه قدّس سرّه،

-------------------------

[1] من الجهات الثمانية، وقوله: (ومع أية...) عطف تفسيري، «منها» من الجهات، «في نفسها» أي: مع قطع النظر عن تقييدها بشيء.

[2] أي: ليس المناط ملاحظة اتصاف الموضوع بالمحمول حتى يكون الموضوع بشرط المحمول، وحينئذٍ تكون القضية ضرورية، وكذلك ليس المناط ملاحظة اتصاف الموضوع بعدم المحمول، وحينئذٍ تكون القضية ممتنعة، «ثبوتها» النسبة، «له» للموضوع، «كذلك» واقعاً.

[3] أي: لو لم تلاحظ النسبة في نفسها، بأن لم يكن الموضوع لا بشرط، «منحصرة» في جميع القضايا.

[4] أي: الإيجاب بلحاظ الثبوت، والسلب بلحاظ عدم الثبوت.

[5] أي: ما ادعاه الشريف في استدلاله على بساطة المشتق، «بالضرورة» أي: الانقلاب إلى الضرورة، وقوله: (غير الإمكان) خبر (ليست).

3- إيراد آخر للفصول على الشق الأول

[6] قد مرّ أن المشتق إذا كان مركباً فهو مركب من (شيءٌ له الكتابة) مثلاً، وقلنا: إن (الشيء) إما مفهوم الشيء وإما مصداقه، فأشكل الشريف على الشق الأول - مفهوم الشيء - بأنه يلزم منه دخول العرض العام في الفصل، وأشكل على

ص: 230

فإن[1] لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما إنما يكون ضرورياً مع إطلاقهما، لا مطلقاً ولو مع التقيد، إلاّ بشرط تقيد المصاديق به أيضاً[2]، وقد عرفت حال الشرط[3]، فافهم[4].

-------------------------

الشق الثاني - أي: مصداق الشيء - بأنه يلزم منه الانقلاب، وهنا يريد صاحب الفصول تعميم إشكال الانقلاب إلى الشق الأول أيضاً، وحاصله: إن عروض مفهوم الشيء على مصاديقه ضروري، مثلاً: (الإنسان شيء له الكتابة)، فالإنسان هو مصداق من مصاديق الشيء، وانطباق المفهوم على مصاديقه أمر ضروري.

[1] هذا إشكال المصنف على كلام الفصول، وحاصله: إن (الشيء) إذا كان مطلقاً كان انطباقه على المصاديق ضرورياً، ففي (الإنسان كتاب) لو كان (الإنسان شيء) كانت القضية ضرورية، ولكن ليس الأمر هكذا، بل (الشيء) مقيّد بالكتابة، وثبوت الشيء المقيد بالكتابة للإنسان ليس بضروري، «لحوق» أي: عروض، «إطلاقهما» أي: الشيء والذات، وقوله (مطلقا) فسّره بقوله (ولو مع التقييد).

[2] أي: إلاّ إذا كان المصداق - وهو الموضوع في المثال - مقيداً، بأن كان بشرط المحمول، فتكون القضية هكذا: (الإنسان المقيد بالكتابة هو شيء له الكتابة).

[3] أي: قد أجبنا عن ذلك، حينما قلنا: إنّ الموضوع في القضايا يُلاحظ بنفسه، ولا يُلاحظ مقيداً.

[4] لعله إشارة إلى المنافاة بين ما ذكر هنا من عدم ضرورية (الإنسان شيء له الكتابة)، وبين ما ذكره قبل قليل من ضرورية (الإنسان شيء له الكتابة)، حيث ذكر أن هذه القضية تنحل الى قضيتين: والأولى: ضرورية، فكما أن (الإنسان إنسان) قضية ضرورية، كذلك (الإنسان شيء) أيضاً قضية ضرورية.

ص: 231

ثم إنه[1] لو جعل التالي في الشرطية الثانية[2] لزوم أخذ النوع في الفصل - ضرورة أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الإنسان - كان أليق بالشرطيّة الأولى،

-------------------------

4- تعديل الشق الثاني من البرهان

[1] حاصله: إن البرهان الذي أقامه الشريف على بساطة المشتق هو أن المشتق لو كان مركباً فإما مركب من مفهوم الشيء مع المبدأ، وإما مركب من مصداق الشيء مع المبدأ، ثم أشكل على الشق الأول بأنه يلزم منه دخول العرض العام في الفصل، وأشكل على الشق الثاني بلزوم الانقلاب، يقول المصنف: لو بدّلنا الإشكال في الشق الثاني إلى (دخول النوع في الفصل) كان أليق وأولى.

أما كونه أليق: فلصيرورة المحذورين في كلا الشقين على نمط واحد، ففي الشق الأول: دخول العرض العام في الفصل، وفي الشق الثاني: دخول النوع في الفصل، ففي مثل: (الإنسان ناطق) يكون (الإنسان) هو النوع، ومعنى التركب أن يكون الناطق هو (إنسان له النطق)، فدخل النوع في الفصل.

أما كونه أولى: فلأن محذور الانقلاب كان فيه تأمّل، أو لأن الإشكال في الشق الأول لم يكن وارداً، لما مرّ من أن الناطق ليس بفصل حقيقي، بل هو ملازم للفصل، فلم يدخل العرض العام في الفصل، بل دخل العرض العام في العرض الخاص، ولا محذور فيه.

وأما هذا الإشكال فهو وارد على الشق الثاني حتى لو لم نقل: إنّ (الناطق) فصل حقيقي؛ وذلك لعدم صحة أخذ النوع في العرض الخاص؛ وذلك لأن النوع ذاتي، والعرض الخاص عرضي، ويستحيل أخذ الذاتي في العرضي.

[2] وهو ما عبّرنا عنه بالشِق الثاني من البرهان، «ضرورة» بيان لكيفية لزوم دخول النوع في الفصل.

ص: 232

بل كان أولى، لفساده مطلقاً[1] ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشيء[2] في لازمه وخاصته، فتأمل جيداً.

ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة بضرورة[3] عدم تكرار الموصوف في مثل: (زيد الكتاب)، ولزومه[4] من التركّب وأخذ الشيء مصداقاً أو مفهوماً في مفهومه.

إرشاد[5]: لا يخفى: أنّ معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراكاً وتصوراً،

-------------------------

[1] أي: لفساد دخول النوع في الفصل، وشرح قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو لم يكن مثل... الخ).

[2] أي: ذات الشيء، بأن تؤخذ الذات في العرض.

الدليل الثاني على بساطة المشتق
اشارة

[3] وهو استدلال بالوجدان؛ وذلك لأن معنى التركب هو تكرار الموصوف، ففي مثل: (جاء زيد الكاتب) يكون المعنى بناءً على التركب من المفهوم والمبدأ هو (جاء زيد الشيء الذي له الكتابة)، وبناء على التركب من المصداق والمبدأ هو (جاء زيد زيد الذي له الكتابة)، والحال أننا بالوجدان لا نرى تكراراً للموصوف أصلاً.

[4] أي: لزوم التكرار، وقوله: «وأخذ...» عطف تفسيري على (التركب)، «في مفهومه» مفهوم المشتق.

إرشاد: في معنى البساطة

[5] قد يتوهم التنافي بين ما اشتهر من أن المشتق بسيط، وبين قولهم: إن معناه هو شيء له المبدأ.

ولدفع هذا التوهم يقول المصنف: إن البساطة والتركب قد تكون في مقام التصوّر، وقد تكون في مقام التحليل العقلي.

فالأول: نظير المعنى المتصوّر من الشجر والحجر وزيد، فإن ما يأتي في الذهن ويُتصوَّر هو معنى واحد.

ص: 233

بحيث لا يتصور عند تصوره إلاّ شيء واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما[1].

وبالجملة: لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة[2] المعنى وبساطة المفهوم، كما لا يخفى.

وإلى ذلك[3] يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد مع ما هما عليه[4] من الاتحاد ذاتاً، فالعقل بالتعمل يحلل النوع ويفصله إلى جنس وفصل بعد

-------------------------

والثاني: هو أن العقل يحلل الأشياء فيقول: الشجر (شيء له الشجرية) والحجر: (شيء له الحجرية) وهكذا، فالبساطة في عالم التصوّر، والتركّب في عالم التحليل العقلي، فلا تنافي.

ومن ذلك يتضح دفع الإشكال على (الحدّ) في الحمل الأولي الذاتي، نظير (الإنسان حيوان ناطق)، حيث إن المحدود الذي يراد تعريفه - وهو الإنسان - عين الحدّ، وهو الحيوان الناطق، لكن الفرق بالإجمال والتفصيل، أي: إن الإنسان شيء بسيط له مفهوم واحد، لكن حين التحليل العقلي نُحلِّله إلى جزءين.

[1] لأنه لا ينسبق إلى الذهن من كلمة الحجر مثلا إلاّ مفهوم واحد، وكذلك الشجر.

[2] «وحدة» فاعل (لا تنثلم)، وقوله: «وبساطة المفهوم» عطف تفسيري على (وحدة المعنى).

[3] أي: البساطة في التصوّر، والتركب بالتعمّل العقلي.

[4] «هما» الحدّ والمحدود، «عليه» الضمير يرجع إلى ما الموصولة، و«من الاتحاد ذاتاً» بيان ل(ما) الموصولة.

فلا يرد الإشكال: (بأن الحدّ لو كان عين المحدود لزم إحالة تعريف الشيء على نفسه، وإن كان بجزئه كان تعريفاً بجزء نفسه الأخفى، وإن كان بخارجه فإن المباين

ص: 234

ما كان أمراً واحداً إدراكاً، وشيئاً فارداً تصوراً، فالتحليل[1] يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

الثاني[2]:

-------------------------

لا يصير معرفاً). - كذا في الوصول(1)

- .

والجواب: إن الحدّ عين المحدود ذاتاً، ولكن غيره تصوراً، ولا نريد بالحدّ تصور مفهوم الشيء، بل نريد معرفة أجزائه العقلية.

[1] «فتق» أي: تفصيل، «ما» المعنى الذي، «هو» المحدود، «عليه» على ذلك المعنى، «الرتق» الإجمال الذهني.

الأمر الثاني: الفرق بين المشتق والمبدأ

[2] هذا الأمر تتمة لبحث بساطة المشتق، والغرض منه دفع توهم: أنه لو كان المشتق بسيطاً لم يصح حمله على الذات، كما أن المبدأ لا يصحّ حمله على الذات؛ لأنه معنى بسيط، مع أنه بالبداهة يصح الحمل في مثل: (زيد ناصر).

بيان التوهم: هو أنه لابد في حمل شيء على شيء من الاتحاد من جهة، والاختلاف من جهة أخرى، ففي الحمل الأولي الذاتي: يكون الاتحاد من حيث الحقيقة، والاختلاف في الإجمال والتفصيل، مثل: (الإنسان حيوان ناطق)، وفي الحمل الشائع الصناعي: يكون الاتحاد في الذات والاختلاف في المفهوم مثل: (زيد ضارب).

فلو كان المشتق مركباً صحّ الحمل؛ لأن معنى المشتق حينئذ (ذات لها الضرب) فالاتحاد في الذات صحّح الحمل.

أما لو كان المشتق بسيطاً فحيث لم تؤخذ الذات في معناه فكيف يصح الحمل؟ كما أن المبدأ حيث لم تؤخذ الذات فيه لم يصح حمله على الذات، فلا يصح (زيد ضَرْبٌ).

ص: 235


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 322.

الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً[1]: أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه[2] من نحو من الاتحاد. بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه[3] يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية.

وإلى هذا[4] يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا، أي: يكون مفهوم المشتق غير آبٍ عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

وصاحب الفصول[5] - حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين

-------------------------

والجواب: هو أن المبدأ والمشتق كلاهما بسيطان، وإنما الفرق هو أن المشتق وضع لمعنى بسيط غير آبٍ عن الحمل، لكن المبدأ وضع لمعنى بسيط آبٍ عن الحمل.

[1] أي: لا باعتبار التحليل العقلي، «أنه بمفهومه» أن المشتق بسبب مفهومه الذي وضع المشتق لذلك المفهوم، وقوله: (لا يعصي عن الجري عليه) عطف تفسيري، «عليه» على ما تلبس بالمبدأ.

[2] بيان سبب صحة الحمل، وهو الاتحاد من جهة، «لما» اللام للتعليل، «هما» المشتق والذات المتلبسة بالمبدأ، «عليه» الضمير يرجع للموصول، (من الاتحاد) بيان (ما) الموصولة.

[3] فإن المبدأ، «ذلك» الحمل، «قيس» المبدأ، «إليه» إلى المتلبس بالمبدأ، «الهوهوية» عطف تفسيري، وكلمة (الهوهوية) مصدر جعلى من (هو هو).

[4] أي: الاباء عن الحمل في المبدأ، وعدم الإباء عن الحمل في المشتق.

[5] حاصله: إن لقولهم (بشرط لا) و(لا بشرط) و(بشرط شيء) معنيين:

الأول: - وهو المعنى المشهور - إن الذات قد تلاحظ بالنسبة إلى شيء من العوارض الخارجة عنها بأحد الأنحاء الثلاثة، مثلاً (الرِقبة) قد تلاحظ بشرط

ص: 236

الاعتبارين[1] بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك[2]، لأجل[3] امتناع حمل العلم والحركة على الذات وإن اعتبرا لا بشرط. وغفل[4] عن أن المراد ما ذكرنا،

-------------------------

الإيمان، وقد تلاحظ بشرط عدم الإيمان، وقد تلاحظ لا بشرط أي: من غير فرق بين كونها مؤمنة أم لا، وفي كل ذلك مفهوم (الرقبة) شيء واحد.

والثاني: - وهو ما استعمله أهل المعقول - هو الإباء عن الحمل وعدم الإباء عنه.

وحيث إن أهل المعقول فرّقوا بين المبدأ والمشتق بأن المبدأ (بشرط لا) والمشتق (لا بشرط)... تصور صاحب الفصول بأن مرادهم من ذلك حسب المعنى الأول، بأن يكون (الحمل) و(عدم الحمل) من العوارض الخارجة عن الذات، فيكونان مرتبطين بكيفية لحاظ المتكلّم. فأشكل عليهم: بأن الأمر لا يرتبط بكيفية اللحاظ، فهل يصح أن نلاحظ المبدأ بشرط الحمل فنقول: (زيد ضَرْبٌ)؟ فالاختلاف بين المبدأ والمشتق ليس حسب العوارض الذاتية، بل باعتبار الذات.

لكن المصنف بيّن أن مراد أهل المعقول هو المعنى الثاني، أي: الإباء وعدم الإباء عن الحمل، فلا يرد عليهم إشكال صاحب الفصول.

[1] أي: (بشرط لا) و(لا بشرط)، «بلحاظ...» أي: حسب المعنى الأول بأن تكون حقيقة المشتق والمبدأ واحدة، والفرق بينهما باعتبار كيفية اللحاظ.

[2] أي: بالاعتبارين - بشرط لا ولا بشرط - بلحاظ الطورئ والعوارض الخارجية.

[3] أي: لو كانت الحقيقة واحدة والفرق بالاعتبار لأمكن اعتبار المبدأ (لا بشرط) فيصح الحمل، مع وضوح عدم صحة هذا الاعتبار، فلا يصح (زيد علمٌ وحركةٌ) ونحو ذلك.

[4] هذا جواب المصنف عن إشكال صاحب الفصول، «ما ذكرنا» أي: إن مرادهم المعنى الثاني، وهو الإباء عن الحمل أو عدم الإباء عنه.

ص: 237

كما يظهر منهم[1] من بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادة والصورة، فراجع.

الثالث[2]:

-------------------------

[1] أي: إن المعنى الثاني هو مراد أهل المعقول في موارد متعددة، منها: ما ذكروه في الفرق بين الجنس والمادة، والفرق بين الفصل والصورة، حيث قالوا: إن الجنس لا بشرط، والمادة بشرط لا، وكذا الفصل لا بشرط، والصورة بشرط لا.

بيان ذلك: إن الإنسان - مثلاً - حسب التحليل الذهني مركب من جنس وفصل، وهما الحيوان الناطق، وحسب الخارج مركب من مادة هي البدن، وصورة نوعية هي الصورة الإنسانية. فقال أهل المعقول: إن الفرق بين الجنس والمادة أن الجنس لا بشرط عن الحمل، فيصح أن يقال: الإنسان حيوان، وأما المادة فهي بشرط لا عن الحمل، فلا يصح أن يقال: الإنسان بدنٌ؛ لعدم صحة حمل الكل على الجزء الخارجي.

وكذا في الفرق بين الفصل والصورة، فيصح أن نقول: الإنسان ناطق، ولا يصح أن نقول: الإنسان صورة.

ومن الواضح أن مرادهم من (بشرط لا) و(لا بشرط) هنا هو المعنى الثاني - أي: الإباء أو عدم الإباء عن الحمل - فكذلك مرادهم في بحث المشتق.

الأمر الثالث: ملاك الحمل

[2] الغرض من عقد هذا الأمر بيان اشتباه وقع فيه صاحب الفصول(1)، حيث توهم أنه لو أردنا حمل شيء على آخر لابد من اعتبار التركب بينهما.

والمصنف في مقام الرد عليه يذكر أن مصحح الحمل هو الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى، وأما اعتبار التركب فيرد عليه إشكالات متعددة، منها:

الإشكال الأول: عدم الحاجة إلى هذا الاعتبار، فيكون اشتراطه لغواً، فإنه

ص: 238


1- الفصول الغروية: 62.

ملاك الحمل - كما أشرنا[1] إليه - هو الهوهويّة والاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر[2]، كما يكون[3]

-------------------------

يكفي في صحة الحمل الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى، ومع كفايته لا وجه لاعتبارٍ آخر.

الإشكال الثاني: إنه لو اعتبرنا الموضوع والمحمول شيئاً واحداً بالتركيب كان كل من الموضوع والمحمول جزءاً من الكل - الذي هو المركب منها - وحينئذٍ يلزم حمل أحد الجزءين على الآخر، وهو باطل قطعاً، مثلاً: الإنسان مركب من يد وعين... الخ، فهل يصح أن نقول (اليدُ عينٌ)؟!

الإشكال الثالث: إن الوجدان يدل على عدم اعتبار التركب، سواء في التعريفات مثل: (الإنسان حيوان ناطق) أم في غير التعريفات مثل: (زيد قائم)، فإن الوجدان يقضي بأن الموضوع - الإنسان، زيد - لم يؤخذ فيه قيد التركب، وكذا المحمول (قائم، حيوان ناطق).

[1] في الأمر الثاني حيث قال: (وملاك الحمل والجري إنما هو نحوٌ من الاتحاد والهوهوية).

[2] وهذا على أقسام ثلاثة:

1- الاتحاد الخارجي، والاختلاف في المفهوم والماهية، مثل: زيد عالم.

2- الاتحاد الماهوي والخارجي، والاختلاف في المفهوم، مثل: الإنسان حيوان ناطق.

3- الاتحاد المفهومي والخارجي والماهوي، والتغاير الاعتباري، مثل الحمل في اللغة كقولهم: (البشر إنسان) فهما واحد خارجاً ومفهوماً وماهية، لكن باعتبار العلم بأحد المترادفين والجهل بالمرادف الآخر صحّ الحمل.

[3] أي: نظير ما يكون في المشتق والذات، فهما متحدان وجوداً، ومتغايران مفهوماً.

ص: 239

بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه[1] ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار[2] كون مجموعهما بما هو كذلك واحداً، بل يكون لحاظ ذلك مخلاًّ[3]، لاستلزامه المغايرة[4] بالجزئية والكلية، ومن الواضح[5] أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد[6] بين الموضوع والمحمول؛ مع وضوح[7] عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها[8] إلاّ نفس معانيها، كما هو الحال في

-------------------------

[1] أي: مع هذا الملاك - الاتحاد من جهة والمغايرة من جهة أخرى - وهذا تلميح للإشكال الأول.

[2] عطف تفسيري على (ملاحظة التركيب بين المتغايرين)، «بما هما كذلك» أي: بما هما مجموع.

[3] بيان للإشكال الثاني، «ذلك» أي: لحاظ المجموع أمراً واحداً، «لاستلزامه» أي: لاستلزام هذا اللحاظ.

[4] «المغايرة» بين الموضوع والمحمول من جهة وبين المجموع منهما من جهة أخرى.

[5] فإن الكل ليس متحداً مع الجزء، فكيف صحّ الحمل؟

[6] في تركيب العبارة خلل، والأفضل أن يقول: (لحاظ نحو الاتحاد) أو (لحاظ الاتحاد).

[7] بيان الإشكال الثالث، وهو أن اعتبار التركيب خلاف الوجدان، «ذلك» التركيب، «التحديدات» أي: الحدود والتعريفات، و«سائر القضايا» غير التعريفات.

[8] أي: جهة الموضوعات، «معانيها» أي: معاني الموضوعات، «حملها» حمل المحمولات، «عليها» على الموضوعات، «هما» الموضوع والمحمول، «عليه» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة، «من نحو...» بيان للموصول.

ص: 240

طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلاّ بملاحظة ما هما عليه من نحوٍ من الاتحاد مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحوٍ من الاعتبار[1].

فانقدح بذلك[2] فساد ما جعله في الفصول(1) تحقيقاً للمقام. وفي كلامه موارد للنظر[3] تظهر بالتأمل وإمعان النظر.

الرابع[4]:

-------------------------

[1] بأن لا يكون المغايرة في الذات، بل باعتبار الإجمال والتفصيل مثلاً، وقد ذكرنا قبل قليل الأقسام الثلاثة للمغايرة، فراجع.

[2] أي: بما ذكرناه من مناط الحمل، من الاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر، وعدم اعتبار التركب.

[3] منها: إن مجرد اعتبار التركب لا يُصحِّح حمل أحد المتغايرين على الآخر، فهل يصح حمل الحجر على الإنسان بمجرد اعتبار اتحادهما؟ فتأمل.

الأمر الرابع: في صفات الله تعالى

[4] حاصله: إن صاحب الفصول ادعى الاتفاق على لزوم المغايرة بين المبدأ والذات، ولو لا المغايرة لزم حمل الشيء على نفسه، وهو قبيح. وحيث إن صفات الله تعالى الذاتية هي عين ذاته فلا مغايرة بينه وبين علمه وقدرته وحياته، فكيف صحّ الحمل في قولنا: (الله عالم قادر حيّ)؟

وبعبارة أخرى: المبدأ - وهو العلم والقدرة والحياة - هو عين المشتق - وهو العالم والقادر والحيّ - فكيف صحّ الحمل؟

فأجاب صاحب الفصول(2)

بأن المشتقات في صفات الذات نُقِلَتْ إلى غير معناها الموضوع له، فكلمة (العالم) في الله تختلف عن (العالم) في الناس.

وأشكل عليه المصنف بأنه لا ريب في لزوم المغايرة بين المبدأ والذات، لكن لا

ص: 241


1- الفصول الغروية: 62.
2- الفصول الغروية: 62.

لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه[1] مفهوماً، وإن اتحدا عيناً وخارجاً[2]، فصدق الصفات مثل[3] - العالم والقادر والرحيم والكريم إلى غير

-------------------------

يشترط كونها مغايرة في الوجود الخارجي، بل تكفي المغايرة في المفهوم، فمفهوم كلمة (الله) تختلف عن مفهوم كلمة (العالم) مع اتحادهما خارجاً. ولا اتفاق بين العلماء على لزوم المغايرة في الخارج حتى يحتاج إلى القول بالنقل.

[1] أي: الذات التي يحمل المشتق عليها، فزيد يغاير العلم؛ فلذا صح أن نقول: (زيد عالم).

[2] العطف في (عيناً وخارجاً) تفسيري.

[3] لا يخفى أن صفات الله تعالى على ثلاثة أقسام:

1- صفات الذات: وهي عين ذاته بلا تفاوت بينه تعالى وبينها، كالعلم والقدرة والحياة... الخ.

2- صفات الفعل: وهي ما تُنتزع من أفعاله تعالى، كالخلق والرزق والإحياء... الخ، وهذه لا تتحد مع ذاته؛ فلذا يصح أن نقول: لم يرزق ثم رزق، ولم يخلق ثم خلق.

3- الصفات السلبية: وهي ما يجلّ الله تعالى عن الاتصاف بها، كالتركب والجسمية... الخ.

والكلام الآن في القسم الأول، حيث اتحاد المبدأ مع الذات.

ولا يخفى أن (الرحيم) من صفات الفعل، فهو خارج عن محل البحث، وأما (الكريم) فإن أريد منه العلو الذاتي فهو من صفات الذات، وإن أريد منه السخاء فهو من صفات الفعل.

ثم إن (صفات الجلال) اصطلاح في الصفات السلبية، فإن الله يجلّ عن الاتصاف بها، فعطفها على صفات الكمال في كلام المصنف خلاف الاصطلاح؛ لعدم اتحاد

ص: 242

ذلك من صفات الكمال والجلال - عليه تعالى - على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته[1] - يكون على الحقيقة[2]، فإنّ المبدأ فيها[3] وإن كان عين ذاته تعالى خارجاً إلاّ أنه غير ذاته تعالى مفهوماً.

ومنه[4] قد انقدح ما في الفصول(1) من الالتزام بالنقل أو التجوّز[5] في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى - بناءً على الحق من العينية -، لعدم[6] المغايرة المعتبرة بالاتفاق.

وذلك[7] لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوماً، ولا اتفاق على اعتبار غيرها إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى؛ وقد عرفت ثبوت المغايرة

-------------------------

الصفات السلبية مع ذاته - كما هو واضح.

والحاصل: إن الكلام في خصوص صفات الذات.

[1] أي: صفاته الذاتية، كما اتضح في التعليقة السابقة.

[2] أي: من دون نقل أو تجوّز.

[3] أي: في صفات الذات، «أنه» أن المبدأ، «غير ذاته مفهوماً» أي: مفهوم كلمة (العلم) غير مفهوم كلمة (الله) و(العالم) مثلاً.

[4] أي: مما ذكرنا من كفاية المغايرة المفهومية، «ما في الفصول» أي: من الإشكال، أو فساد ما في الفصول.

[5] لم يذكر الفصول (التجوّز) بل اقتصر على (النقل).

[6] هذا وجه التزام الفصول بالنقل، «المعتبرة بالاتفاق» أي: أطبق الكل على لزوم المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات، وحيث إنه لا مغايرة في صفات الذات فلابد من النقل فيها.

[7] بيان وجه فساد ما في الفصول، «غيرها» غير المغايرة المفهومية، «عدم اعتباره» أي: عدم اعتبار غير المغايرة المفهومية بأن تكون مغايرة خارجاً.

ص: 243


1- الفصول الغروية: 62.

كذلك[1] بين الذات ومبادئ الصفات.

الخامس[2]: إنه وقع الخلاف - بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت[3] بين المبدأ وما يجري عليه المشتق - في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة.

-------------------------

[1] «كذلك» أي: مفهوماً «الذات» أي: ذات الله تعالى.

الأمر الخامس: في عدم النقل في صفاته تعالى
اشارة

[2] الغرض من هذا الأمر بيان أنه يشترط في المشتق قيامه بالذات، ولكن أنواع القيام تختلف، فتارة باختلاف المادة، فالضارب قيام الضرب به صدوري بمعنى صدور الضرب عنه، والعالم قيام العلم به حلولي بمعنى حلول العلم فيه، وتارة باختلاف الهيئات، فالضارب والمضروب - مثلاً - يختلفان في كيفية القيام؛ لاختلاف الهيئة فيهما، ففي الضارب القيام صدوري، وفي المضروب حلولي.

ومن ذلك يتضح الإشكال في ما زعمه بعض من عدم اشتراط قيام المبدأ بالذات، مستدلين بأنه في مثل الضارب لم يقم الضرب بذات الفاعل، بل قام بالمفعول.

كما يتضح الإشكال على ما ذهب إليه صاحب الفصول، من أنه يشترط القيام، ولكنه ذهب إلى النقل في صفات الله تعالى الذاتية، حيث لا قيام للمبدأ بالذات - لاشتراط الاثنينية في القيام - بل صفاته الذاتية عين ذاته المقدسة.

أما الإشكال على الأول: فلأنه لا يشترط في القيام كونه صدورياً، بل القيام في المثال حلولي، حيث حلّ الضرب في المفعول.

وأما الإشكال على الثاني: فلأنّه من أنواع القيام هو القيام العيني بأن تكون الذات عين المبدأ.

[3] في الأمر الرابع، «وما يجري عليه المشتق» أي: الذات، «في اعتبار» متعلق ب- (الخلاف)، «به» بالذات، «في صدقه» متعلق ب- (اعتبار)، أي: هل يعتبر في كون المشتق حقيقة لا مجازاً أن يقوم المبدأ بالذات أم لا؟

ص: 244

وقد استدل من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب[1] والمؤلم - بالفتح - .

والتحقيق: إنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولي الألباب في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها من التلبس[2] بالمبدأ بنحوٍ خاص، على اختلاف أنحائه[3] - الناشئة من اختلاف الموادّ[4] تارةً، واختلاف الهيئات[5] أخرى - من القيام[6]

-------------------------

[1] دون الضارب، ففي كلمة (الضارب) لم يقم (الضرب) بالمشتق - الذي هو الضارب - بل قام بغيره وهو المضروب.

[2] «جريه» جري المشتق، «عليها» على الذات، «من التلبس» (التلبس) فاعل (يعتبر) فكلمة (من) هنا لا وجه لها.

[3] أي: أنحاء التلبس، وقوله «الناشئة» صفة ل- (أنحائه).

[4] فتارة: يكون القيام صدورياً إذا كان الفعل متعدياً كالضارب، وأخرى: يكون حلولياً إذا كان الفعل لازماً كالعلم، وثالثة: يكون انتزاعياً اعتبارياً كالمالك، ورابعة: يكون انتزاعياً إضافياً كالسابق، وخامسة: يكون انتزاعياً مع الاتحاد خارجاً، كوصف الله تعالى بالعالم.

ففي كل هذه الأمثلة تكون الهيئة واحدة، وهي صيغة (فاعل)، ولكن الاختلاف في كيفية القيام والتلبس كان بسبب المادة.

[5] فتارة يكون صدورياً كالضارب، وأخرى وقوعاً عليه كالمضروب، وثالثة: باعتبار الوقوع فيه زماناً أو مكاناً كالمقتل.

[6] هذا بيان لاختلاف المواد والهيئات، وقد اتضح أن (الصدوري) يرتبط بالمادة والهيئة، و(الوقوع عليه) و(الوقوع فيه) يرتبطان بالهيئة، و(الحلولي) و(الانتزاعي) يرتبطان بالمادة.

ص: 245

صدوراً، أو حلولاً، أو وقوعاً عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه[1] مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً، كما في صفاته تعالى - على ما أشرنا إليه آنفاً[2] - ، أو[3] مع عدم تحقق إلاّ للمنتزع عنه، كما في الإضافات والإعتبارات التي لا تحقق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء، وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة[4].

-------------------------

[1] أي: انتزاع المبدأ عن الذات؛ وذلك لأن الانتزاع أمر ذهني ويكون في المفاهيم، وهو على أقسام:

1- انتزاع المفهوم مع عينية المبدأ والذات خارجاً، فالعلم ينتزع عن الله تعالى، لكن مع اتحاده تعالى مع العلم.

2- الانتزاع عنه مفهوماً مع عدم وجود المبدأ في الخارج، ويكون ذلك بالإضافة إلى شيء آخر، كالسابق، فلا يوجد وجود في الخارج هو السبق، لكن الذهن بملاحظة إضافة الأول إلى الثاني ينتزع عنوان السبق.

3- الانتزاع المفهومي، مع عدم وجود ما بإزاء في الخارج، ويكون ذلك باعتبار المعتبر، كالمالك.

[2] أي: قبل قليل في الأمر الرابع.

[3] عطف على (مع اتحاده).

[4] مراد المصنف من «الخارج المحمول» هو العارض الاعتباري، كالزوجية والملكية ونحوهما، ومن «المحمول بالضميمة» العارض المتأصل كالسواد والبياض.

ولا يخفى أن هذا يخالف اصطلاح أهل المعقول، فإنهم اصطلحوا الأول على ما يقتضيه ذات الموضوع، من غير ضمّ ضميمة مثل: (البياض أبيض)، واصطلحوا الثاني على ما يقتضيه الموضوع مع احتياجه إلى ضمّ ضميمة، مثل: (الورق أبيض)، فإن ذات الورق لا تقتضي حمل الأبيض عليه، بل لابد من ضمّ البياض إلى الورق ليصح الحمل.

ص: 246

ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، وقائماً به عيناً، لكنه بنحو من القيام[1]، لا بأن يكون هناك اثنينية، وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين الذات. وعدم اطلاع العرف[2] على مثل هذا التلبس[3]

-------------------------

[1] أي: لكن القيام في صفاته إنما هو بنحو القيام العيني، من غير اثنينية بينه وبين صفاته الذاتية، «بحذائه» أي: بازاء المبدأ، وهذا لازم الاثنينية، حيث يكون ما بازاء المبدأ غير ما يكون بإزاء الذات.

إشكال وجوابه

[2] ذكر المصنف أنه لابد في المشتق من قيام المبدأ بالذات، وأن أحد أنحاء القيام هو القيام بنحو العينية.

وأشكل عليه: بأن المرجع في الألفاظ هو العرف، والعرف لا يفهم القيام بنحو العينية، فكيف نحمل ألفاظ صفاته تعالى على معنى لا يفهمه العرف؟

والجواب: هو أن العرف حجة في تعيين مفاهيم الألفاظ، وليس حجة في تعيين المصاديق، مثلاً: العرف حجة في تعيين مفهوم (الماء) ولكن ليس حجة في تعيين أن هذا السائل المعيّن هل هو ماء أم لا؟

والدليل على حجية العرف في المفاهيم هو أن الشرع نزل بلسان العرف لغرض إفهامهم، فما يفهمونه من الألفاظ يكون هو مراد المولى، وإلاّ كان نقضاً للغرض.

ولكن بعد معرفة العرف لمعنى الكلمات ومفاهيمها فلا دليل على حجية تطبيقهم ذلك المفهوم على مورد من الموارد، وعدم الدليل على الحجية يكفي في عدم الحجية.

[3] أي: قيام المبدأ بالذات بنحو العينية، وقوله: (من الأمور الخفية) بيان لقوله: «مثل هذا التلبس»، أي: المصاديق الخفية للمفهوم، فالعرف يعرف المفهوم لكن يخفى عليه بعض المصاديق.

ص: 247

من الأمور الخفية لا يضر[1] بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقةً ولو[2] بتأمّل وتعمّل من العقل، والعرف إنما يكون مرجعاً في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

وبالجملة: يكون مثل العالم والعادل وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما[3] بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا في ما يعتبر في الجري[4] من الاتحاد وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث إنّه بنحو العينية فيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره.

فلا وجه لما التزم به في الفصول(1) من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليها من المعنى[5]، كما لا يخفى. كيف[6]!

-------------------------

[1] خبر (عدم اطلاع...) أي: عدم إطلاق العرف على هذا المصداق لا يضر في كونه مصداقاً حقيقياً لذلك المفهوم، «لها» للصفات.

[2] أي: لم يكن مصداقيته واضحة للعرف، إلاّ باعمال الدقة العقلية.

[3] أي: على الله تعالى وعلى غيره.

[4] أي: اختلفا في كيفية القيام - المعتبر ذلك القيام في المشتق - وقوله: (من الاتحاد...) بيان ل- (ما) الموصولة، «إنه» إن الاتحاد.

[5] «عما» عن المعنى الذي، «هي» الصفات، «عليها» الضمير يرجع إلى (ما) الموصولة، وكان الأولى تذكيره، «من المعنى» بيان للموصول.

[6] بيان لإشكال آخر على صاحب الفصول في قوله بالنقل، وحاصله: إنا نتساءل: إن كلمة (العالم) في الله إذا نقلت إلى معنى آخر، فذلك المعنى إمّا ما يقابل العالم - أي: الجاهل - وقد تعالى الله عن الجهل علواً كبيراً، وإما إلى معنى آخر لا نعرفه، فيكون قولنا: (إنه عالم) مجرد لقلقة لسان من غير فهم للمعنى.

ص: 248


1- الفصول الغروية: 62.

ولو كانت بغير معانيها العامة[1] جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلاّ بما يقابلها؛ ففي مثل ما إذا قلنا: (إنّه تعالى عالم) إما أن يعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى[2]، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإما أن لا نعني شيئاً فتكون كما قلنا من كونها صرف اللقلقة وكونها بلا معنى، كما لا يخفى.

والعجب[3] أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى.

-------------------------

وحيث بطل كلا اللازمين فلابد من القول: إنّ استعمال العالم فيه بنفس المعنى المستعمل في غيره، فلا نقل.

أقول: سيأتي الإشكال على كلام المصنف في شرح قوله: (فتأمل) فانتظر.

[1] أي: المعاني الجارية على عموم الموجودات، كالعالم فهو بمعنى واحد في كل المخلوقات - وهو المنكشف لديه الشيء - .

[2] أي: غير المنكشف لديه الأشياء، وهذا بمعنى الجهل، وقد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

[3] أي: إن صاحب الفصول بعد أن التزم بالنقل في تلك الصفات، قال: إنه بعد النقل لا يصح استعمال تلك الصفات في الممكنات؛ لأن معنى (العالم) مثلاً صار (الذات المتحدة مع العلم من غير قيام) وهذا المعنى لا يصدق على الممكنات؛ لأن العالم فيها هو (قيام العلم بالذات).

والمصنف يرد عليه بأنه كما ترى، أي: عجيب جدا، فهل لا يصح أن نقول: (زيد عالم) مثلاً؟

وسيأتي الإشكال على المصنف عند قوله: (فتأمل)، «أنه» صاحب الفصول، «ذلك» النقل، «صدقها» الصفات.

ص: 249

وبالتأمل في ما ذكرنا[1] ظهر الخلل في ما استدل من الجانبين[2] والمحاكمة[3] بين الطرفين، فتأمل[4].

-------------------------

[1] من أنه لابد في المشتق من قيام المبدأ بالذات، ولكن القيام أنواع منها العينية، والحلول، والصدور... الخ.

[2] القائلين بعدم اشتراط القيام أصلاً، وصاحب الفصول القائل باشتراط القيام مع القول بالنقل في صفاته تعالى.

[3] عطف على (الخلل) أي: ظهرت المحاكمة بينهما، والحاصل: إنه يمكن الحكم بين الطرفين بأن القائل باعتبار القيام يريد القيام بأي نحو من الأنحاء، وإن القائل بعدم اعتبار القيام يريد عدم اعتبار القيام الخاص من الحلول والصدور ونحو ذلك.

[4] لعله إشارة إلى عدم ورود الإشكال على صاحب الفصول.

أولاً: إنّ كلامه في نقل الهيئة لا المادة، فهيئة (العالم) نقلت في صفة الله إلى المتحد مع العلم من غير قيام، ولا يقصد نقل مادة (العلم) إلى معنى آخر حتى يشكل عليه بأنه نقل إلى جهل أو معنى لا نعرفه.

وثانيا: إنه حتى لو أراد النقل في المادة فلا يلزم المحذوران؛ وذلك لأنه يمكن أن يكون مراده أن معنى العلم هو (الانكشاف الزائد على الذات) فنقل في الله تعالى إلى (الانكشاف غير الزائد).

وثالثاً: إن مقصوده من عدم استعمال الصفات بعد النقل في غير الله هو أن المعنى الجديد - أي: الانكشاف غير الزائد - لا يستعمل في غيره، وليس مقصوده أن كلمة (العالم) لا تستعمل في غيره تعالى.

ثم اعلم أن صفاته الذاتية - كالعلم - حيث إنها عين ذاته فكُنهها وحقيقتها مجهولة لدينا، فادعاء المصنف أنها بنفس المعنى العام محل نظر واضح، ولا يلزم من ذلك

ص: 250

السادس[1]:

-------------------------

كون وصفه بتلك الصفات مجرد لقلقة لسان، بل نقول: إن كنه علمه تعالى مجهول لنا، ولكن المقدار الذي نتعقّله من علمه أنه ليس بجاهل، لا بمعنى أن أوصافه سلوب، بل بمعنى أن أوصافه حقيقية، وهي عين ذاته، ولكنا لا نفهم منها إلاّ السلوب.

ولكن مع ذلك ليس استعمال هذه الأوصاف فيه على سبيل المجاز؛ وذلك لأنها تستعمل بنفس المفهوم العرفي على نحو الإرادة الاستعمالية - التي هي مناط الحقيقة والمجاز - ولكن بالإرادة الجدية يراد ما ذكرناه، وللكلام تفصيل لا يسعه المجال، فراجع شرحنا على أصول الكافي(1)،

والله العاصم وهو المستعان.

الأمر السادس: في الإسناد المجازي للمشتق

[1] الغرض من عقد هذا الأمر هو بيان أنه لا يشترط في كون المشتق حقيقة أن يكون اتصاف الذات بالمبدأ على نحو الحقيقة، بل يمكن أن يكون المشتق مستعملاً في معناه الحقيقي، مع كون اتصاف الذات بالمبدأ مجازياً.

بيان ذلك: قد يكون اتصاف الذات بالمبدأ بنحو حقيقي، كقولنا: (الماء جارٍ) فالذات - وهي الماء - متصفة بالجريان حقيقة، وقد يكون اتصاف الذات بالمبدأ بنحو مجازي، كقولنا: (الميزاب جارٍ)، فالذات - وهي الميزاب - غير جارية حقيقة، وإنما جريانها مجازي باعتبارها ظرفاً للماء، ولكن مع ذلك فإن كلمة (جارٍ) مستعملة بمعناها الحقيقي، فلا يراد منها إلاّ السيلان والحركة.

وسبب ذلك أن المجاز قد يكون في الإسناد، كمثال: (جرى الميزاب)، فإن الجريان والميزاب بمعناهما الحقيقي، وإنما المجاز في أنه اُسند الجريان إلى الميزاب بدلاً من إسناده إلى الماء، وقد يكون المجاز في الكلمة، مثل: (رأيت أسداً يرمي) فالمراد من (الأسد) هو الرجل الشجاع مجازاً.

ص: 251


1- شرح أصول الكافي 2: 218 و 265.

الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة[1] التلبس[2] بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به ولو مجازاً[3] ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسناداً إلى غير ما هو له[4] وبالمجاز إلاّ أنه في الإسناد، لا في الكلمة. فالمشتق في

-------------------------

ومن ذلك كلّه يتضح الإشكال في ما ذهب إليه صاحب الفصول(1) من أنه لابد من كون الإسناد حقيقياً حتى يكون المشتق حقيقياً، وقد عرفت وجه الإشكال في كلامه.

[1] أي: لا يشترط في كون لفظ المشتق مستعملاً في معناه الحقيقي، و«حقيقة» أي: على نحو الحقيقة دون المجاز.

[2] «التلبّس» فاعل «لا يعتبر»، وقوله: «حقيقة» فسّره بقوله: (وبلاواسطة في العروض).

ومقصود المصنف من (الواسطة في العروض) عدم كون الشيء متصفاً بالعرض، بل المتصف به هو الواسطة، فالجاري هو الماء حقيقة، لكن نسب الجريان إلى الميزاب لكونه الواسطة في الجريان؛ إذ إن الماء جرى فيه.

وهذا اصطلاح للمصنف، وهو يغاير اصطلاح أهل المعقول في (الواسطة في العروض) فإنهم يقصدون أن الشيء متصف حقيقة بالعرض بواسطة اتصاف الواسطة بذلك العرض حقيقة، مثلاً: تحرّك الجالس في السفينة إنما هو بواسطة حركة السفينة نفسها، فالحركة عرضت على هذا الجالس بواسطة عروضها على السفينة.

[3] أي: يكفي في كون المشتق بمعناه الحقيقي التلبس «به» أي: بالمبدأ، «مجازاً» أي: في الإسناد، «هذه الواسطة» أي: في العروض.

[4] «ما» أي: شيء - وهو الميزاب - «هو» الجريان، «له» الضمير يرجع إلى الموصول، «أنه» أن المجاز.

ص: 252


1- الفصول الغروية: 62.

مثل المثال بما هو مشتق[1] قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسنداً إلى الميزاب بالإسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

ولكن ظاهر الفصول(1)

بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي[2] في صدق المشتق حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة؛ وهذا[3] - هاهنا - محل الكلام بين الأعلام. والحمد لله، وهو خير ختام.

-------------------------

[1] أي: من جهة هيئته، فالمشتق مستعمل في معناه الموضوع له، وهو (ذات لها الجريان)، وليس معنى (جارٍ) في المثال أنه (محلّ الجريان) مثلاً.

[2] أي: لابد من أن يكون الإسناد حقيقياً حتى يكون المشتق حقيقة، وإلاّ كان المشتق أيضاً مجازاً، ففي مثال: (الميزاب جارٍ) كما يكون مجازاً في الإسناد كذلك يكون مجازاً في كلمة (جارٍ).

[3] «هذا» أي: المجاز في الكلمة، «هاهنا» في بحث المشتق، ومراد المصنف أن بحث المشتق في أنه حقيقة في خصوص المتلبس ومجاز في غيره، أم أنه حقيقة في الأعم، إنما هو في الحقيقة والمجاز في الكلمة، فلا يرتبط المجاز في الإسناد بالبحث.

ص: 253


1- الفصول الغروية: 62.

ص: 254

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

ص: 255

ص: 256

المقصد الأول: في الأوامر وفيه فصول:

الأول: في ما يتعلق بمادة الأمر[1] من الجهات، وهي عديدة:

الجهة الأولى[2]: إنه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعددة، منها: الطلب، كما يقال: (أمره بكذا). ومنها: الشأن، كما يقال: (شغله أمر كذا). ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: {وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ}(1). ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(2). ومنها: الشيء، كما تقول: (رأيتُ اليوم أمراً عجيباً).

-------------------------

الفصل الأول في مادة الأمر

اشارة

[1] أي: لفظة (أ- م - ر)، ويقابلها صيغة الأمر مثل: (افعل).

الجهة الأولى: معنى مادة الأمر

اشارة

[2] يذكر المصنف في هذه الجهة الأبحاث التالية:

1- المعنى اللغوي لمادة الأمر، ويرجّح المصنف هنا أن المعنى مشترك بين الطلب في الجملة والشيء، وأما المعاني الأخرى فهي مصاديق للشيء، وليست معاني لكلمة الأمر.

2- المعنى الاصطلاحي للأمر، فقد يقال: إنه حقيقة في (صيغة افعل) وأمثالها، ويشكل المصنف عليه.

ص: 257


1- سورة هود، الآية: 97.
2- سورة هود، الآية: 66 و 82.

ومنها: الحادثة[1]. ومنها: الغرض، كما تقول: (جاء زيدٌ لأمر كذا).

ولا يخفى أن عد بعضها[2] من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم[3]، ضرورة[4] أن الأمر في (جاء زيدٌ لأمر) ما استعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض[5]؛ نعم، يكون مدخوله مصداقه، فافهم[6].

-------------------------

3- كلمة (الأمر) استعملت في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فهل هي استعمالات بنحو الحقيقة والمجاز أم بنحو الاشتراك اللفظي أم بنحو الاشتراك المعنوي؟

فإن كان ظهور في أحد المعاني فهو، وإلاّ فتصل النوبة إلى الأصل العملي.

1- المعنى اللغوي لمادة الأمر

[1] كقولك: (وقع أمرٌ) أي: حادثة.

[2] وهي غير (الطلب) و(الشيء) من المعاني.

[3] «المفهوم» هو المعنى العام للشيء الذي ينقدح في الذهن حين السماع إلى لفظه، و«المصداق» هو الفرد الخارجي أو الذهني لذلك المعنى، مثلاً: كلمة (رجل) لها مفهوم، و(زيد) مصداق لهذا المفهوم، فلا يصح أن نقول: إن لكلمة رجل معنيين أحدهما: (الإنسان البالغ الذكر) والآخر: (زيد)، فليس زيد من معاني رجل، بل هو مصداق لمعنى الرجل.

[4] بيان مصداقية الأمثلة المذكورة لمعنى الأمر.

[5] لأن معنى اللام الجارة هو (التعليل)، فقولك: (جئت للصلاة) تدل اللام على أن الغرض من المجيء هو الصلاة، والصلاة هي مصداق الغرض، كذلك في (جاء لأمر كذا) الدال على الغرض هو اللام، والأمر مصداق لذلك الغرض، وأما معنى الأمر هنا فهو الشيء، أي: (جاء لغرض شيء هو كذا)، و«مدخوله» مدخول اللام وهو (أمر)، «مصداقه» أي: مصداق الغرض.

[6] لعلّه إشارة إلى أن اللام غير مستعملة في (الغرض) وإلاّ لكان معنى (جئت لغرض كذا) جئت غرض غرض كذا، بل اللام مستعملة في التعليل.

ص: 258

وهكذا الحال[1] في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا}(1) يكون مصداقاً للتعجب، لا مستعملاً في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك[2] ظهر ما في دعوى الفصول(2) من كون لفظ الأمر حقيقةً في المعنيين الأولين[3].

ولا يبعد[4] دعوى كونه حقيقةً في الطلب - في الجملة[5] - والشيء.

هذا بحسب العرف واللغة.

وأما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على أنه[6]

-------------------------

اللهم إلاّ أن يقال: إن (اللام) تدل على المعنى الحرفي للغرض، وكلمة (غرض) تدل على المعنى الاسمي له، وهذا متعارف كقولهم: (زيد على فوق السطح).

[1] أي: في اشتباه المفهوم بالمصداق، فالمعنى في الآية: فلما جاء الشيء المرتبط بنا، وحيث إن هذا الشيء هو العذاب فهو أمر عجيب، فليس معنى (أمرنا) الفعل العجيب، بل هو مصداق له.

[2] أي: بالفرق بين المفهوم والمصداق، ولزوم عدم الخلط بينهما، يتضح أن (الشأن) ليس معنىً للأمر، بل هو مصداق للمعنى، فحينما نقول: (شغله أمر كذا) معناه شغله شيء هو كذا، وهذا الشيء هو مصداق للشأن.

[3] أي: الطلب والشأن.

[4] هنا يبين المصنف رأيه، ويقول: إنه لا يبعد أن يكون (الأمر) مشتركاً لفظياً بين معنيين، هما (الطلب)، و(الشيء).

[5] أي: الطلب المقيّد بأمور ستذكر تباعاً، ككونه صادراً عن العالي ونحو ذلك.

2- المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر

[6] «أنّه» أي: أن مادة الأمر، وتذكير الضمير باعتبار (لفظ الأمر).

ص: 259


1- سورة هود، الآية: 66.
2- الفصول الغروية: 62.

حقيقة في القول المخصوص[1]، ومجازٌ في غيره(1).

ولا يخفى[2] أنه عليه[3] لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه حينئذٍ[4] لا يكون معنىً حدثياً[5]، مع أن الاشتقاقات[6] منه ظاهراً تكون بذلك المعنى المصطلح عليه

-------------------------

[1] أي: صيغة أفعل ونحوها من الصيغ، «غيره» غير القول المخصوص، من سائر المعاني فإنها مجازية بحسب الاصطلاح.

[2] المصنف يستشكل على هذا الاصطلاح، ثم يأوّل كلامهم بما يدفع عنه الإشكال.

أما الإشكال: فهو إن (صيغة افعل) اسم ذات، وليست اسماً للحدث، ومن المعلوم أنه لا يصح الاشتقاق من الذات، بل الاشتقاق إنما هو في الحدث، مثلاً: لا يصح الاشتقاق من كلمة (رجل) لأنه اسم للذات، ويصح الاشتقاق من كلمة (النصر) فيقال: نَصَرَ يَنصُر ناصر منصور... الخ.

وعليه: فلو كان المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر هو (صيغة افعل)، لما صحَّ أن يقولوا: أمر يأمر آمر مأمور... الخ، مع أن الأصوليين حينما يستعملون هذه الاشتقاقات لا يريدون المعنى اللغوي - الذي هو الطلب - بل يريدون المعنى المصطلح بينهم.

فاتضح أن المعنى المصطلح ليس هو (صيغة افعل).

[3] «أنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على هذا المعنى الاصطلاحي، «منه» من لفظ الأمر.

[4] «معناه» معنى الأمر، «حينئذٍ» حين إرادة هذا الاصطلاح وهو (صيغة افعل).

[5] لأنه حسب هذا الاصطلاح هو اسم للقول المخصوص، أي: صيغة افعل، وهي لا تدل على الحدث، بل هي هيئة مخصوصة جامدة.

[6] دفع لإشكال المقدر، أي: لعلك تقول: إنهم حينما يستعملون الاشتقاقات يريدون المعنى اللغوي، أي: الطلب الذي هو معنىً حدثي.

ص: 260


1- الفصول الغروية: 63.

بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر[1].

ويمكن[2] أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول[3] لا نفسه[4] - تعبيراً[5] عنه بما يدل عليه -. نعم[6]، القول المخصوص - أي: صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص[7].

-------------------------

والجواب: إن ظاهر حالهم هو أنهم يتكلمون في اصطلاحاتهم، لا بحسب المعنى اللغوي، «منه» من الأمر، «المعنى الآخر» أي: المعنى اللغوي.

[1] لعلّه إشارة إلى منع هذا الظهور، فالأصوليون كما يستعملون الألفاظ حسب اصطلاحاتهم، كذلك قد يستعملونها بحسب المعنى اللغوي.

[2] هذا توجيه لكلامهم بما يدفع الإشكال عنهم، وحاصله: إن اصطلاح الأصوليين لا يختلف عن المعنى اللغوي، بل المعنى اللغوي هو (الطلب بشكل مطلق)، والمعنى الاصطلاحي هو(الطلب بصيغة افعل)، فيكون المعنى الاصطلاحي من مصاديق المعنى اللغوي، وهو معنى حدثي فيصح الاشتقاق منه.

[3] أي: بصيغة افعل، وهذا أحد مصاديق المعنى اللغوي العام.

[4] أي: لا نفس القول - الذي هو صيغة افعل - .

[5] أي: حينما قالوا: إن الأمر اصطلاحاً هو القول المخصوص أرادوا بذلك هو الطلب بصيغة افعل، ولكن بدلاً عن هكذا تعبير ذكروا الدال (وهو القول المخصوص) وأرادوا المدلول (وهو الطلب بهذا القول)، «عنه» عن الطلب، «بما» بقولٍ، «يدل عليه» على الطلب.

[6] بيان: إنه الاصطلاح وإن كان هو الطلب بالقول المخصوص ولذا يصح الاشتقاق، إلاّ أنه قد يستعمل لفظ الأمر ويراد به نفس القول المخصوص؛ وذلك لكون القول المخصوص من مصاديق الأمر.

[7] أي: صيغة الأمر كما يمكن أن تكون مصداقاً للمعنى اللغوي وهو الطلب

ص: 261

وكيف كان فالأمر سهل لو ثبت النقل[1]، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهمُّ بيان ما هو معناه عرفاً ولغةً ليحمل عليه في ما إذا ورد بلا قرينة.

وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة[2]،

-------------------------

المطلق، كذلك يمكن أن تكون مصداقاً للمعنى الاصطلاحي وهو الطلب المخصوص، فمثل قوله: (انصر) مصداق لكليهما.

[1] لكن يمكن القول: إنه لا اصطلاح خاص للأصوليين في مادة الأمر، بل يستعملونها بنفس المعنى اللغوي.

3- مادة الأمر في الكتاب والسنة

[2] استعملت مادة الأمر في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فهل المعاني كلها حقيقة أم بعضها مجاز؟ فلابد من ذكر مطالب:

أولاً: إنه لا دليل على كون هذه المعاني بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز - إلاّ ما سنذكره في المطلب الخامس - .

ثانياً: إنه قد مرّ في الأمر الثامن من المقدمات أنه حين تعارض الأحوال لا يوجد دليل على ترجيح بعضها على بعض، فلا دليل على ترجيح الاشتراك على المجاز أو العكس. وفي ما نحن فيه: استعملت مادة الأمر في الكتاب والسنة في معانٍ متعددة، فلا وجه لحملها على المجاز أو الاشتراك أو نحو ذلك، لأجل الوجوه المذكورة في تعارض الأحوال.

ثالثاً: لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، أي: لو رأينا كلمة (أمر) في الكتاب والسنة، ولم نعلم أن المراد أيٌ من المعاني فهل المراد الطلب أم غيره؟ فحينئذٍ نجري أصل البراءة؛ لأنه شك في الطلب وهو شك في التكليف، فالأصل البراءة عنه.

رابعاً: إنه بعد معرفة المراد من اللفظ لا يوجد دليل على أن استعمال اللفظ في ذلك المعنى هل كان على نحو الحقيقة أم المجاز؟ فإن الاستعمال أعم من الحقيقة،

ص: 262

ولا حجة[1] على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح[2] عند تعارض هذه الأحوال - لو سلم، ولم يعارض بمثله - فلا دليل على الترجيح به، فلابد مع التعارض[3] من الرجوع إلى الأصل في مقام

-------------------------

فلو كان اللفظ ظاهراً في أحد المعاني فهو حجة، حتى لو لم نعلم منشأ ذلك الظهور هل هو الوضع أم الإطلاق أم الانصراف.

نعم، لو علمنا بالمعنى الحقيقي والمجازي، ثم رأينا استعمال اللفظ ولم نعلم المراد، فإن بناء العقلاء حينئذٍ على حمل اللفظ على معناه الحقيقي دون المجازي؛ وذلك لأن غرض العقلاء هو فهم المراد، فجعلوا طُرُقاً لمعرفته، ومن تلك الطرق حمل اللفظ على المعنى الحقيقي، أما بعد معرفة المراد فلا يهمّهم كون اللفظ حقيقة فيه أم لا.

خامساً: لا يبعد دعوى أن لفظ الأمر المستعمل في الكتاب والسنة يتبادر منه الطلب، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[1] إشارة إلى المطلب الأول، «أنه» الاستعمال في تلك المعاني.

[2] إشارة إلى المطلب الثاني، وحاصله: هناك ثلاثة إشكالات - طُوليّة - على هذه المرجحات:

1- عدم تسليم وجود تلك المرجحات.

2- على فرض تسليمها، فهي معارضة بمثلها؛ لأن لكل حال من الأحوال مرجحات.

3- على فرض عدم معارضتها بمثلها فلا دليل على الترجيح بها.

«لو سلم» إشارة إلى الإشكال الأول، «ولم يعارض بمثله» إشارة إلى الإشكال الثاني، و«فلا دليل...» إشارة إلى الإشكال الثالث، «به» بما ذكر من المرجحات.

[3] إشارة إلى المطلب الثالث، أي: مع تعارض الأحوال بحيث لم نعلم بأن اللفظ ظاهر في أيّة واحدة منها.

ص: 263

العمل[1]. نعم[2]، لو علم ظهوره في أحد معانيه - ولو احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق[3] - فليحمل عليه وإن لم يعلم أنه حقيقةٌ فيه بالخصوص أو في ما يعمه، كما لا يبعد[4] أن يكون كذلك في المعنى الأول.

الجهة الثانية[5]:

-------------------------

[1] أي: الأصل العملي، لا الأصل اللفظي؛ إذ مع وجود الأصل اللفظي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

[2] إشارة إلى المطلب الرابع.

[3] أي: نحتمل أن يكون الظهور لأجل الإطلاق، لا لأجل الوضع أو الانصراف، «فليحمل عليه» جزاء الشرط في (ولو احتمل...)، «عليه» على ذلك المعنى الظاهر، «أنه» أن لفظ (الأمر)، «فيه» في ذلك المعنى الظاهر، «في ما يعمه» بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي.

[4] إشارة إلى المطلب الخامس، «كذلك» أي: ظاهراً، «المعنى الأول» أي: الطلب.

إن قلت: في أوائل البحث في هذه الجهة قال المصنف: (ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء). وهذا ينافي ما يذكره هنا حيث قال: (كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول).

قلت: كان الكلام هناك في المعنى الحقيقي لمادة الأمر لغةً، فذكر المصنف أنه مشترك بين معنيين. والكلام هنا في ظهور مادة الأمر المستعملة في الكتاب والسنة، فيذكر المصنف أنها ظاهرة في الطلب. فلا منافاة بين الكلامين، كما نقول: إن لفظة العين مشتركة بين كذا وكذا لغة، لكن في استعمال زيد ظاهرة في العين الباصرة، فتأمل.

الجهة الثانية: في اشتراط العُلوّ

[5] اختلفوا في أنه هل يشترط في صدق الأمر: العلو، أم الاستعلاء، أم كليهما؟

ص: 264

الظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر[1]، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً، ولو أطلق عليه كان بنحوٍ من العناية، كما أن الظاهر عدم اعتبار

-------------------------

القول الأول - وهو مختار المصنف - : اشتراط العلو فقط، ويدل عليه التبادر، وأما الطلب الصادر من المساوي أو السافل فليس بأمر حقيقة، ولو أطلق عليه الأمر كان مجازاً.

القول الثانى: اشتراط الاستعلاء(1) فقط - سواء كان من العالي أم المساوي أم السافل - .

ويرد عليه: إن الوجدان والتبادر يدل على عدم اشتراطه؛ ولذا لو تواضع المولى وطلب شيئاً صدق عليه الأمر مع أنه غير مستعلٍ.

القول الثالث: اشتراط أحد الأمرين(2) - من العلو والاستعلاء - على سبيل منع الخلو.

واستدل لاشتراط الاستعلاء أو كفايته - وهذا دليل للقول الثاني والثالث معاً - بأنه يطلق (الأمر) على السافل المستعلي، وتوبيخه على أمره.

ويرد عليه: إن استعمال لفظة (الأمر) على طلب السافل المستعلي ليس على نحو الحقيقة؛ لأن الاستعمال أعم منها، بل يصح سلب (الأمر) عن طلب المساوي والسافل، وهذا يدل على أن الاستعمال فيه مجازي.

وأما التوبيخ فليس على أمره، بل على استعلائه، فمعناه: إنك ليست بعالٍ فلماذا تستعلي على العالي؟!

[1] ودليله التبادر، «أطلق» أي: استعمل لفظ الأمر، «عليه» على طلب المساوي والسافل، «بنحو العناية» أي: المجاز، وسيأتي دليل المجازية وهو صحة السلب.

ص: 265


1- معارج الأصول: 62.
2- إشارات الأصول: 80.

الاستعلاء[1]، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً لجناحه.

وأما احتمال اعتبار أحدهما[2] فضعيف(1)، وتقبيح[3] الطالب السافل من العالي المستعلي عليه[4]، وتوبيخه بمثل: (إنّك لِمَ تأمره) إنما هو[5] على استعلائه[6]، لا على أمره حقيقةً بعد استعلائه، وإنما يكون[7] إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه. وكيف كان[8] ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعلياً كفايةٌ.

الجهة الثالثة[9]:

-------------------------

[1] ودليله التبادر أيضاً، «مستخفضاً لجناحه» أي: متواضعاً في طلبه.

[2] على سبيل منع الخلو، أي: إما العلو وإمّا الاستعلاء.

[3] إشارة إلى دليل اعتبار الاستعلاء أو كفايته.

[4] «المستعلي عليه» صفة للسافل، «عليه» على العالي، «وتوبيخه» عطف على (تقبيح).

[5] هذا ردّ الدليل المذكور، «هو» التقبيح والتوبيخ.

[6] أي: ليس التوبيخ على أنه أمر أمراً حقيقياً بسبب استعلائه.

[7] هذا بيان وجه الاستعمال المجازي، فإنه لابد في المجاز من علاقة مع المعنى الحقيقي، وفي ما نحن فيه الشبه في الاستعلاء، فكما أن العالي حين الأمر يستعلي عادة، كذلك هذا المساوي أو السافل قد استعلى، فلذا شابه الآمر الحقيقي.

[8] سواء كان التوبيخ على أمره أم على استعلائه، «كفاية» في عدم اشتراط الاستعلاء أصلاً.

الجهة الثالثة: الأمر حقيقة في الوجوب

اشارة

[9] والمقصود فيها هو بيان أن الأمر يدل على الوجوب وضعاً، وفي دلالة الأمر

ص: 266


1- قوانين الأصول 1: 81؛ هداية المسترشدين 1: 577.

-------------------------

على الوجوب أو على مطلق الطلب الشامل للوجوب وللاستحباب قولان:

القول الأول: دلالته على الوجوب(1)،

ولهذا القول دليل ومؤيدات.

أما الدليل: فهو التبادر، فإن مادة الأمر يتبادر منها الوجوب، وهو دليل على الوضع للوجوب.

وأما المؤيدات فهي أربعة:

1- التحذير من مخالفة الأمر في قوله {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، والتحذير يدل على الوجوب؛ إذ لا معنى للتحذير عن مخالفة المستحب.

وإنما كان هذا مؤيداً لأن (أمره) استعمل في الوجوب، والاستعمال أعم من الحقيقة، مضافاً إلى أن التحذير قرينة على أن المراد من الأمر الوجوب، فلعلّ الأمر يدل على الأعم، لكن أريد هنا خصوص الوجوب بالقرينة المذكورة.

2- المقابلة بين الأمر وبين الاستحباب، في قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)(3) فإن استحباب السواك لا ريب فيه، فالحديث يدل على أنه لو لا المشقة لكان السواك واجباً.

وأيضاً إنما جعل هذا مؤيداً لأنه استعمال للأمر في الوجوب، ولوجود قرينة المشقة، فإنه لا مشقة في المستحب، وأيضاً وجود قرينة أخرى خارجية هي علمنا بالاستحباب.

3- ما ورد في قصة بُريرة، حيث كانت أمة وكان زوجها عبداً فاُعتقت، فخيّرها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بين بقائها على نكاح زوجها وبين فسخها للنكاح، فاختارت

ص: 267


1- هداية المسترشدين 1: 595.
2- سورة النور، الآية: 63.
3- الكافي 3: 22.

لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب، لانسباقه[1] عنه عند إطلاقه.

ويؤيده قوله تعالى: {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ}(1)؛ وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(2)؛

وقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - لبريرة بعد قولها: أتأمُرني يا رسول الله - : «لا، بل إنما أنا شافع»(3) ... إلى غير ذلك؛ وصحة[2] الاحتجاج

-------------------------

الفسخ، فقال لها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (لو راجعتيه فإنه أبو ولدك)، فقالت: يارسول الله أتأمرني؟ فقال: (لا بل أنا شفيع)(4)،

فقالت: لا حاجة لي فيه.

وجه التأييد هو مقابلة الأمر مع الشفاعة، وأنها استعملت الأمر في الوجوب، أي: هل توجب عليّ، وإنما كان مؤيداً لما ذكرناه من أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

4- صحة مؤاخذة العبد لو خالف الأمر، مع أنه لا مؤاخذة على ترك المستحب، كما وبّخ الله تعالى إبليس بتركه السجود في قوله {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(5).

ويحتمل أن يكون هذا دليلاً ثانياً على دلالة الأمر على الوجوب. نعم، الآية مؤيدة؛ لأن الأمر بالسجود استعمل في الوجوب، والاستعمال أعم من الحقيقة، مضافا إلى أن الأمر بالسجود كان بصيغة الأمر في قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ}(6) ولم يكن بمادة الأمر، وكلامنا الآن في المادة لا في الصيغة.

[1] أي: لانسباق الوجوب من مادة الأمر، وهذا الاستدلال بالتبادر، «إطلاقه» من غير قرينة، «يؤيده» أي: يؤيد الدلالة على الوجوب.

[2] «صحة» إما معطوف على (قوله تعالى)، فيكون هذا مؤيداً رابعاً، وإما معطوف على (لانسباقه) فيكون دليلاً ثانياً.

ص: 268


1- سورة النور، الآية: 63.
2- الكافي 3: 22.
3- مستدرك الوسائل 15: 32.
4- مستدرك الوسائل 15: 32.
5- سورة الأعراف، الآية: 12.
6- سورة الحجر، الآية: 29؛ سورة ص، الآية: 72.

على العبد، ومؤاخذته بمجرد مخالفة[1] أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ}(1).

وتقسيمه[2]

-------------------------

[1] من غير بحث عن أن الأمر كان للوجوب أم للاستحباب، فإن التوبيخ بمجرد المخالفة دليل على كون الأمر للوجوب.

أدلة كون الأمر للطلب المطلق

[2] القول الثاني(2):

هو دلالة مادة الأمر على الطلب الشامل للوجوب والاستحباب، واستدل له بأمور:

الأول: صحة تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب، ولو كان الأمر دالاً على خصوص الوجوب لما صحّ التقسيم؛ لاستلزامه تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، فهل يصح أن نقول: الاسم إما اسم أو فعل أو حرف؟

والجواب: إن في التقسيم استعمل الأمر في المعنى الأعم، والاستعمال أعم من الحقيقة.

الثاني: إن مادة الأمر استعملت في الوجوب وفي الندب، فإما أن يكون الأمر مشتركاً معنوياً بينهما، بأن يكون موضوعاً للطلب المطلق، وإما مشتركاً لفظياً بينهما، وإما حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر، ولا ريب أن الاشتراك المعنوي أرجح منهما؛ لأنه أكثر، والأكثر أرجح.

والجواب: عدم اعتبار هذه المرجّحات، كما مرّ في الجهة الأولى من بحث مادة الأمر، وفي المقدمة الثامنة في تعارض الأحوال.

الثالث: الاستدلال ببرهان مركب من صغرى وكبرى، أما الصغرى فهي: (فعل المستحب طاعة للمولى)، وأما الكبرى فهي: (كل طاعة مأمور بها)،

ص: 269


1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- قوانين الأصول 1: 81 - 82.

إلى الإيجاب والاستحباب إنما يكون قرينةً[1] على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه. وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى.

وأما ما أفيد(1)

من أن الاستعمال فيهما[2] ثابت، فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز؛ فهو[3] غير مفيد، لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى وفي تعارض الأحوال، فراجع.

والاستدلال[4] بأنَّ فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به(2).

فيه: ما لا يخفى من منع الكبرى[5]

-------------------------

فالنتيجه: (فعل المستحب مأمور به) وهو المطلوب.

وفيه: الإشكال على الكبرى، لأنه إن أريد المعنى الحقيقي للمأمور به فلا نسلّم أن كل طاعة مأمور بها، وإن أريد المعنى المجازي للمأمور به فلا يفيد المستدل؛ لأن كلامنا حول المعنى الحقيقي للأمر، لا المعنى الأعم من الحقيقي والمجازي.

[1] هذا جواب عن الدليل الأول، وحاصله: إن التقسيم دليل على استعمال المقسم في المعنى الجامع بين الأقسام، لكن الاستعمال أعم من الحقيقة، «منه» من الوجوب، «تقسيمه» تقسيم الأمر، لا في كل المقامات حتى يكون دليلاً على كونه حقيقة في المعنى الأعم.

[2] في الإيجاب والاستحباب، وهذا الدليل الثاني.

[3] جواب عن الدليل، «الجهة الأولى» من مباحث مادة الأمر، «في تعارض الأحوال» وهو الأمر الثامن من المقدمات.

وحاصله: إن المناط في الترجيح هو الظهور، لا الوجوه الاستحسانية.

[4] هذا الدليل الثالث.

[5] وهي (كل طاعة فهي فعل للمأمور به)، وحاصله: إن أردتم المعنى الحقيقي

ص: 270


1- مبادئ الوصول: 93.
2- قوانين الأصول 1: 82.

لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلاّ[1] لا يفيد المدعى.

الجهة الرابعة[2]: الظاهر أن الطلب الذي يكون

-------------------------

للأمر فهذه الكبرى غير صحيحة؛ إذ ليس كل طاعة فعل للمأمور به، وإن أردتم المعنى المجازي للأمر فالكبرى صحيحة لكنها لا تفيدكم؛ لأنكم تريدون إثبات المعنى الحقيقي لا المجازي.

[1] أن لا يراد المعنى الحقيقي من الأمر.

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة

اشارة

[2] أصل البحث في هذه الجهة في بيان معنى (الطلب) الذى تدل عليه (مادة الأمر)، حيث ذكرنا أن الأمر يدل على الطلب، فيريد المصنف بيان معنى الطلب، ثم ينجر الكلام إلى بحث كلامي حول اتحاد الطلب والإرادة، ثم ردّ أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، ثم ينجر الكلام إلى بحث الجبر وهو أيضاً من البحوث الكلامية، فالكلام في مقامات أربع:

المقام الأول: معنى الطلب في مادة الأمر

وحاصل كلام المصنف أن (الطلب) يطلق على ثلاثة أشياء:

1- الكيفية النفسانية: وهي الشوق المؤكّد الحاصل بأسبابه، وهذا له وجود خارجي عيني، وهو من مقولة الأعراض.

2- الإنشاء بألفاظ مخصوصة: كالإنشاء بمادة الأمر، أو صيغة الأمر، أو الجملة الخبرية، ونحو ذلك، نحو (آمرك بكذا)، أو (افعل كذا)، أو (يعيد صلاته) قاصداً وجوب الإعادة.

3- المفهوم الجامع بين المعنيين.

ثم إن (مادة الأمر) تدل على الطلب حسب المعنى الثاني، أي: إن لفظة (الأمر) تدل على الطلب الإنشائي، وهذه الدلالة بحسب الوضع. ولو أنكر أحد الوضع فلا

ص: 271

هو معنى الأمر[1] ليس هو الطلب الحقيقي[2] - الذي يكون طلباً بالحمل الشائع[3] الصناعي -، بل الطلب الإنشائي - الذي لا يكون بهذا الحمل[4] طلباً مطلقاً، بل طلباً

-------------------------

أقل من الانصراف إلى الطلب الإنشائي.

ثم يذكر المصنف أن لفظة (الطلب) وضعت لمفهوم الطلب الجامع بين الطلب الحقيقي والإنشائي، لكنها تنصرف إلى الطلب الإنشائي. عكس لفظة (الإرادة) فإنها وضعت للمفهوم الجامع، لكنها تنصرف إلى الإرادة النفسانية، دون الإرادة الإنشائية.

[1] أي: معنى مادة الأمر، وقد ذكر المصنف في الجهة الأولى أن معنى مادة الأمر هو الطلب والشيء، فيريد الآن بيان معنى هذا الطلب.

[2] أي: الذي له وجود حقيقي خارجي، وهو الشوق المؤكد، الذي هو من الكيفيات النفسانية.

[3] أي: يكون مصداقاً للطلب ومتحداً معه وجوداً، فإن مفهوم الطلب له مصداقان: أحدهما الطلب الحقيقي، والآخر الطلب الإنشائي، ولفظة (الطلب) موضوعة للمصداق الأول.

ولا يخفى أن تعبير المصنف بالحمل الشائع الصناعي هنا خلاف الاصطلاح، فإن اصطلاحهم في (الحمل الشائع) هو ما إذا كان مفهومان لكنهما اتحدا خارجاً في مصداق مثل العالم والعادل، فهما مفهومان قد يكون مصداقهما واحداً هو زيد، فنحمل أحدهما على الآخر فنقول: (العالمُ عادلٌ)، وأما حسب اصطلاح المصنف - هنا - فأن يكون شيء مصداقاً لمفهوم، فالطلب الحقيقي مصداق لمفهوم الطلب الجامع بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي.

[4] أي: بالحمل الشائع الصناعي، فلا يصح أن نقول: (الطلبُ الإنشائي طلبٌ) بل لابد من أن نقول: (الطلب الإنشائي طلبٌ إنشائي)، «مطلقاً» من غير تقييد بالإنشائي.

ص: 272

إنشائياً -، سواء أُنشئ[1] بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الأمر، أو بغيرها.

ولو أبيت[2] إلاّ عن كونه موضوعاً للطلب، فلا أقل من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو[3] الحال في لفظ (الطلب) أيضاً، وذلك[4] لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أن الأمر[5] في لفظ (الإرادة) على عكس لفظ (الطلب)، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية.

واختلافهما[6] في ذلك ألجأ بعض أصحابنا(1) إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة

-------------------------

[1] المقصود أن هذا البحث ليس خاصاً بمادة الأمر، بل يجري في صيغة الأمر، وفي «غيرهما» غير المادة والصيغة، كالجلمة الخبرية الواقعة في مقام الطلب.

[2] بعد أن ذكر المصنف أن الأمر موضوع لخصوص الطلب الإنشائي يذكر أنه لو أنكر أحد هذا الوضع، وادعى أن الأمر موضوع للطلب المطلق، فنقول: إن الأمر وإن كان موضوعاً للأعم لكنه منصرف إلى خصوص الطلب الإنشائي، ومنشأ هذا الانصراف هو كثرة الاستعمال، «كونه» كون الأمر، «للطلب» أي: مفهومه الجامع، «منه» من الطلب، «إطلاقه» إطلاق الأمر.

[3] أي: كما أن الانصراف إلى الطلب الإنشائي هو حال لفظة (الطلب)، فهي موضوعة للمعنى الجامع لكنها تنصرف إلى الإنشائي.

[4] هذا بيان لمنشأ الانصراف.

[5] أي: الشأن، أي: كما أن عكس هذا هو شأن لفظة (الإرادة)، بمعنى أنها وُضعت للمعنى الجامع لكنها تنصرف إلى الإرادة الحقيقية، «عنها» عن الإرادة، «الإرادة الحقيقية» التي هي الكيفية النفسانية.

المقام الثاني: في اتحاد الطلب والإرادة

[6] أي: اختلاف لفظ الإرادة ولفظ الطلب، «في ذلك» في المعنى الذي ينصرف اللفظ إليه.

ص: 273


1- هداية المسترشدين 1: 586.

من المغايرة بين الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما(1).

فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا(2)[1]

إلاّ أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضاً.

فاعلم، أن الحق كما عليه أهله[2] - وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى[3] أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المُنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية.

-------------------------

وحاصل ما أفاده المصنف: إن الطلب والإرادة هما بمعنى واحد، وهو المفهوم الجامع بين الكيفية النفسانية الخاصة وبين إنشائها باللفظ، إلاّ أن المنصرف من لفظ (الإرادة) هو الكيفية النفسانية، والمنصرف من لفظ (الطلب) هو الإنشاء المخصوص.

وهذا الانصراف كان سبب توهم بعض أصحابنا اختلاف معناهما، كما هو مذهب الأشاعرة، خلافاً لمذهب العدلية من اتحادهما معنىً.

[1] وهو حاشية المصنف على رسائل الشيخ الأعظم، «من المحذور خالية» كعدم توفر كتاب الفوائد، «الإعادة» أي: لما لم تكن الإعادة بلافائدة... .

[2] «عليه» على ذلك المطلب الحق، «أهله» أهل الحق وهم العدلية الشيعة.

[3] أي: اتحادهما في المفهوم وفي الوجود الخارجي وفي الإنشاء.

أما في المفهوم: فهما مترادفان، أي: يدلان على معنى واحد كالإنسان والبشر.

وأما في الوجود الخارجي: فإن هناك مصداقاً خارجياً واحداً لكليهما، وهذا لازم ترادف المعنيين.

وأما في الإنشاء: فإن إصدار الأمر باللفظ أو بالكتابة هو طلب وهو إرادة.

ص: 274


1- كشف المراد: 223.
2- فوائد الأصول: 23.

وبالجملة: هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا[1] أن الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه[2] - كما عرفت - متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً، ضرورة[3] أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد[4]، ففي مراجعة الوجدان[5] - عند طلب شيء والأمر به حقيقةً - كفايةٌ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن[6]

-------------------------

[1] المقصود بيان أن الطلب والإرادة متحدان في العوالم الثلاثة - عالم المفهوم والذهن، وعالم المصداق والوجود الخارجي، وعالم الإنشاء - وليس المراد أن أحدهما في أحد العوالم متحد مع الآخر في العالم الآخر، ضرورة اختلاف العوالم.

والحاصل: إنا لا نقصد اتحاد الطلب في عالم الإنشاء مع الإرادة في عالم الخارج.

نعم، منشأ الخلط عند الأشاعرة أنهم لمّا رأوا أن لفظ (الطلب) ينصرف إلى الطلب الإنشائي، و(الإرادة) تنصرف إلى الإرادة الحقيقية، لذا قالوا بالتغاير بين الطلب والإرادة.

[2] أي: إذا أطلق (الطلب) ولم يقيّد بقيد فإنه ينصرف إلى الطلب الإنشائي، «إليها» إلى الإرادة الحقيقية، «إطلاقها» إطلاق لفظ الإرادة من غير تقييد، «أيضاً» كانصراف لفظ الطلب.

[3] دليل عدم اتحاد الإرادة الحقيقية مع الطلب الإنشائي، وإنما كانت المغايرة واضحة؛ لأن عالم الإنشاء يختلف عن عالم الخارج.

[4] أي: الاتحاد في كل واحد من العوالم الثلاثة، لا مع اختلاف العالمين.

[5] هذا دليل اتحاد الطلب والإرادة، وهو استدلال بالوجدان، «ففي مراجعة...» خبر مقدّم، «كفاية» مبتدأ مؤخّر.

[6] هذا منبّه للوجدان، فقد يغفل الإنسان عن وجدانه فيحتاج إلى منبّه ليلتفت

ص: 275

الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها سوى[1] ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه والتصديق لفائدته، وهو[2] الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها[3].

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة[4] والإرادة هناك صفة أخرى

-------------------------

إليه، «بها» بالنفس، «غيرها» غير الإرادة، وهذه الكلمة تأكيد لقوله: (لا يجد غير الإرادة...).

[1] أي: توجد في النفس مبادئ الإرادة ومقدمتها، ولكنها ليست طلباً كما هو واضح.

ومبادئ الإرادة هي:

1- «خطور الشيء» وهو تصوره، مثل أن يتصوّر الماء.

2- و«التصديق بفائدته» بأن يذعن بفائدة شرب الماء مثلاً.

3- «الميل» أي: حصول الرغبة إليه، فقد يتصور الإنسان الشيء ويذعن بفائدته لكن لا يرغب إليه فلا تتحقق الإرادة.

4- «هيجان الرغبة» وهو العزم على أن يفعل الشيء.

وبعد حصول هذه الأربعة يأتي دور مقدمة الإرادة، وهي الجزم بمعنى رفع الموانع، وبعد ذلك تتحقق الإرادة.

ولا يخفى أن الأفضل اعتبار كل هذه الخمسة مقدمات للإرادة.

[2] عطف تفسيري لبيان (ما هو مقدمة تحققها)، أي: بعد المبادئ الأربعة تصل النوبة إلى مقدمة الإرادة وهي الجزم، ثم فسّره بقوله: (بدفع ما...)، «توقفه» الإنسان، «طلبه» طلب الشيء.

[3] أي: لأجل الفائدة يدفع الإنسان الموانع.

[4] التي هي مبادئ الإرادة ومقدمتها، والمعنى لا توجد صفة أخرى في النفس غير الإرادة ومقدماتها، «صفة» اسم (يكون)، «بها» بالنفس، «يكون هو» أي:

ص: 276

قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيصَ عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن يكون[1] ذاك الشوق المؤكد - المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به في ما لو أراده لا كذلك[2] - مسمىً[3] بالطلب والإرادة، كما يعبّر به تارةً وبها أخرى، كما لا يخفى.

وكذا الحال[4] في سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات

-------------------------

تكون تلك الصفة، وتذكير الفعل والضمير باعتبار الخبر وهو (الطلب).

[1] عطف على (اتحاد...)، أي: ولا محيص عن أن يكون... الخ.

ثم ان الإرادة على قسمين: تكوينية وتشريعية.

1- أما التكوينية: فهي أن يريد فعل نفسه بالمباشرة، كأن يريد أن يشرب الماء، فيحرّك عضلاته نفسه نحو شرب الماء.

2- وأما التشريعية: فهي أن يريد فعل الغير باختياره، ويكون ذلك عبر إصدار الأمر إليه ليفعل ذلك الفعل بالاختيار، كأن يأمر عبده بشرب الماء، فهنا المريد لا يحرك عضلاته لكن يأمر العبد لكي يشرب ذلك العبد الماء. ف- (ذلك الشوق المؤكد) هو الإرادة، و(المستتبع لتحريك العضلات) في التكوينية، و(المستتبع لأمر عبيده) في التشريعيّة.

[2] أراد الفعل لا بالمباشرة.

[3] خبر (يكون) في قوله: (وأن يكون ذلك الشوق...)، «به» بالطلب، و«بها» بالإرادة.

[4] بعد أن ذكر المصنف اتحاد الطلب والإرادة، وأنه نشعر بالوجدان عدم وجود صفة أخرى في النفس، بعد ذلك يعمّم البحث إلى سائر صيغ الإنشاء، وكذا الجمل الخبرية:

1- ففي صيغ الإنشاء كالتمني، هناك تمنٍّ إنشائي بقوله: (ليت الأمر كذا)، وهناك صفة في النفس بالرغبة إلى حصول الشيء، وبالوجدان لا نرى صفة أخرى في النفس.

ص: 277

المعروفة القائمة بالنفس - من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك - صفة أخرى[1] كانت قائمة بالنفس، وقد دلّ اللفظ عليها[2]، كما قيل[3]:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلاً(1)

وقد انقدح بما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة - بالأمر مع عدم

-------------------------

2- وفي الجمل الخبرية: نرى لفظاً دالاً عليها، ونرى في النفس (العلم) بتحقق النسبة أو عدم تحققها، ولا شيء آخر في النفس.

خلافاً للأشاعرة حيث زعموا وجود صفة أخرى في النفس عبروا عنها ب- (الكلام النفسي).

[1] قوله: «صفة أخرى» اسم قوله: (فإنه لا يكون...).

[2] أي: زعموا أن في النفس صفتين، إحداهما: الكلام النفسي ويدل عليه اللفظ، والأخرى: التمني والترجي والعلم ونحوها ولا يدل عليها شيء من الألفاظ.

[3] الشعر للأخطل، وقد استدل به للأشاعرة على وجود الكلام النفسي.

وبطلان الاستدلال واضح، فإن قول الشاعر ليس بحجة قطعاً، مضافاً إلى أن مراده هو أن الكلام دليل على ما في الضمير، مثلاً من يقول: (ليت الشباب يعود) كشف كلامه عن وجود صفة التمني في نفسه، وليس مراد الشاعر إثبات صفة أخرى هي الكلام النفسي، ولوضوح بطلان هذا الاستدلال لم يجعله المصنف من الأدلة على الكلام النفسي، وإنما ذكره لتوضيح مراد الأشاعرة.

المقام الثالث: أدلة تغاير الطلب والإرادة وردّها
اشارة

وبعض هذه الأدلة أقامها الأشاعرة لإثبات الكلام النفسي، وبعضها أقامها آخرون لإثبات التغاير بين الطلب والإرادة، والمصنف يذكر هنا ثلاثة أدلة، وفي آخر البحث يذكر دليلاً رابعاً.

ص: 278


1- البيت للأخطل، حكاه الرازي في التفسير الكبير 1: 20.

الإرادة[1]، كما في صورتي الاختبار والاعتذار[2] - من الخلل، فإنه[3] كما لا إرادة حقيقةً في الصورتين لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي[4] الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بيناً

-------------------------

الدليل الأول: الأوامر الامتحانية والتعذيرية

[1] الدليل الأول للأشاعرة: هو انفكاك الأمر والإرادة في موردين، ففيهما يوجد أمر ولا توجد إرادة، وهذا دليل على تغاير الطلب والإرادة.

الأول: الأوامر الامتحانية، كأمر إبراهيم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بذبح إسماعيل، حيث كان طلباً، لكن لم يُرِدْ الله تعالى تحقق الذبح.

الثاني: الأوامر التعذيرية، وهي ما إذا أراد المولى تأديب العبد، لكنه يحتاج إلى مبرّر لذلك؛ إذ لا يصحّ عقوبته بلا مخالفة، فحينئذٍ يأمره بما يعلم عصيانه له، فهنا يوجد طلب من غير إرادة.

[2] أي: إظهار عذر المولى في عقوبة العبد، «من الخلل» بيان لقوله: (ما في استدلال الأشاعرة).

[3] هذا بيان الخلل والإشكال في هذا الدليل، وحاصله: إن في صورة الاختبار والاعتذار لا يوجد طلب حقيقي ولا إرادة حقيقية، وإنما الموجود الطلب والإرادة الإنشائيين، وبعبارة أخرى: حصل في الاستدلال خلط بين مرتبتين، فالطلب الموجود هو الطلب الإنشائي، والإرادة غير الموجودة هي الإرادة الحقيقية، فنقول: كما يوجد الطلب الإنشائي فكذلك توجد الإرادة الإنشائية، وكما لا توجد الإرادة الحقيقية فكذلك لا يوجد الطلب الحقيقي، «الصورتين» الاختبار والاعتذار، «كذلك» حقيقي، «فيهما» في الصورتين.

[4] «الإيقاعي» توضيحٌ ل- (الإنشائي)، «الذي هو» الطلب الإنشائي مدلول لصيغة افعل أو لمادة الأمر.

ص: 279

ولا مبيناً[1] في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

وبالجملة: الذي يتكفله الدليل ليس إلاّ الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف[2] عن مغايرتهما، وهو مما لا محيصَ عن الالتزام به - كما عرفت - ولكنّه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلاً، لمكان[3] هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي، كما لا يخفى.

ثم إنه يمكن مما حققناه[4] أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاعٌ في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً، حقيقياً وإنشائياً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب - كما هو[5]

-------------------------

[1] أي: لم يكن واضحاً من الدليل، ولا الأشاعرة وضّحوا كيفية دلالة هذا الدليل على مغايرة الطلب الإنشائي للإرادة الإنشائية، فإن غاية ما يدل عليه الدليل هو مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية، وهذا لا خلاف فيه، وإنما النزاع في مغايرة الإرادة الحقيقية للطلب الحقيقي.

[2] صفة للانفكاك، «مغايرتهما» الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية، «وهو» هذا الانفكاك، «لكنه» لكن الانفكاك.

[3] بيان عدم ضرره بالدعوى، وحاصله: إن الطلب أيضاً قسمان: حقيقي وإنشائي، والاتحاد إنما يكون مع اتحاد الرتبة بأن يكونا من عالم واحد، وادّعاء الأشاعرة هو المغايرة في عالم الخارج، لكن دليلهم هو التغاير في عالمين، وهذا لا يثبت دعواهم.

[4] وهو إثبات اتحاد الطلب والإرادة في العوالم الثلاثة: المفهوم، والخارج، والإنشاء، «الطرفين» العدلية القائلين بالاتحاد والأشاعرة القائلين بالمغايرة، «نزاع» حقيقي، بل النزاع يرجع لفظياً.

[5] أي: كما الطلب الإنشائي «لفظه» لفظ الطلب، «والحقيقي...» عطف على (الإنشائي من الطلب)، «هو» الإرادة الحقيقية، «منها» من لفظة الإرادة.

ص: 280

كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه - والحقيقي من الإرادة - كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها - ، فيرجع النزاع لفظياً، فافهم[1].

دفع وهم[2]: لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة - من نفي غير الصفات

-------------------------

[1] إشارة إلى أن النزاع بين الطرفين ليس لفظياً، كيف والأشاعرة يريدون إثبات الكلام النفسي لله سبحانه بهذه الأدلة، والعدلية ينفون الكلام النفسي؟

الدليل الثاني: معاني الكلمات

[2] من أدلة الاشاعرة(1)

على تغاير الطلب والإرادة هو إثباتهم للكلام النفسي.

وحاصل دليلهم هو: إنه حين التلفظ بالإنشاء كالأمر والنهي والتمنى ونحوها، وكذا التلفظ بالأخبار، لابد أن يكون لهذه الألفاظ معنى، وذلك المعنى موطنه النفس، فيدور المعنى بين الكلام النفسي، وبين الصفات النفسية المشهورة كالعلم في الأخبار، وكالتمني في الإرادة ونحوهما في الإنشاء.

والثاني باطل لوضوح مغايرة المعنى للعلم في الإخبار، فحينما نقول: (جاء زيد) ليس مدلول هذا الكلام علمنا بمجيئه، بل مدلوله هو النسبة بين المجيء وبين زيد، وكذا وضوح مغايرة المعنى للترجي والتمني والإرادة ونحوها في الإنشاء، فليس معنى (ليت الشباب يعود) هو صفة التمني الموجودة في النفس، وكذا ليس مدلول (انصر) الإرادة الموجودة في النفس، بل المدلول شيء آخر هو الكلام النفسي، فثبت مغايرة الطلب النفسي المدلول عليه بصيغة (انصر) مثلاً، للإرادة النفسية التي هي صفة أخرى في النفس.

والجواب: إن لهذه الكلمات معنى، ولكن ليس موطن المعنى في النفس ليثبت الكلام النفسي المغاير للصفات المشهورة، فيكون طلباً نفسياً يدل عليه الأمر والنهي مثلاً، مغايراً للإرادة النفسية - التي هي من الصفات المشهورة - بل موطن المعنى هو:

ص: 281


1- فوائد الأصول: 25.

المشهورة[1] وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً مدلولاً للكلام اللفظي كما يقول به[2] الأشاعرة - أنّ هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام[3].

-------------------------

أ: في الإخبار هو الخارج أو الذهن، مثلاً حينما نقول: (الإنسان كاتب) مدلول هذا الخبر هو ثبوت النسبة بين الإنسان والكتابة في الخارج، وحينما نقول: (الإنسان نوع) مدلول هذا الخبر هو ثبوت النسبة بين الإنسان والنوعية في عالم الذهن، وليست هذه النسبة صفة نفسية لتثبت بذلك صفة أخرى غير العلم.

وكذلك حينما نقول: (الإنسان ليس بناهق) مدلول هذا الخبر هو سلب النسبة بينهما في الخارج، وفي مثل: (الإنسان ليس بجنس) المدلول هو سلب النسبة بينهما في عالم الذهن.

ب: وفي الإنشاء ليس موطن المعنى النفس، بل موطنه عالم الإنشاء؛ وذلك لأن الصيغ الإنشائية تُوجِد معانيها، وهذه المعاني بعد إيجادها في عالم الإنشاء قد تكون مؤثرة لآثار شرعية أو عرفية، مثلاً: صيغة النكاح إنشاء ويترتب عليها الأثر الشرعي وهو الزوجية.

فتحصّل أن مدلول الإخبار والإنشاء ليس الصفات النفسية المشهورة، ولا الكلام النفسي، وإنما المدلول في الإخبار هو النسبة أو سلبها في عالم الذهن أو الخارج، وفي الإنشاء هو الإيجاد الذي قد يترتب عليه أثر شرعي أو عرفي.

[1] أي: الصفات النفسية المعلومة من العلم والإرادة والتمني... الخ، و«أنه» للشأن، والعطف تفسيري.

[2] أي: بالكلام النفسي، وقوله: «أن هذه...» خبر (ليس غرض...).

[3] كي يرد عليهم إشكال أنه من الواضح أن مدلول (جاء زيد) مثلاً ليس (علم المتكلم بالنسبة)، وأن مدلول (ليت الشباب يعود) ليس هو صفة التمني القائمة بالنفس.

ص: 282

إن قلت: فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت: أما الجمل الخبرية فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها[1] أو نفيها في نفس الأمر[2] من ذهن أو خارج ك(الإنسان نوعٌ) أو (كاتبٌ).

وأما الصيغ الإنشائية فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا(1)

- موجدة لمعانيها في نفس الأمر[3] - أي: قصد ثبوت معانيها وتحققها بها - وهذا نحو من الوجود[4]، وربما يكون هذا[5] منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه - شرعاً وعرفاً - آثارٌ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

-------------------------

[1] طرفي النسبة وهما الموضوع والمحمول، «أو نفيها» عطف على (ثبوت النسبة) أي نفي النسبة.

[2] و«نفس الأمر» هو الشامل لعالم الخارج، والذهن، والإنشاء؛ ولذا فسره بقوله: (من ذهن أو خارج)، ولم يذكر عالم الإنشاء؛ لأنه من أقسام الوجود الذهني.

[3] والمراد (عالم الإنشاء) الذي هو من مصاديق (نفس الأمر)، وقوله: (أي قُصد...) بيان لمعنى الإيجاد، وقوله: (وتحققها بها) عطف على (ثبوت) أي: قُصد تحقق معاني هذه الكلمات بهذه الألفاظ.

[4] أي: الوجود في عالم الإنشاء من أقسام الوجود.

[5] أي: هذا الوجود في عالم الإنشاء؛ لأنه نوع من أنواع الوجود قد يكون منشأً لآثار عقلائية وشرعية.

مثلاً: حينما تجرى صيغة النكاح توجد الزوجية في عالم الإنشاء، فيعتبر العقلاء أو الشرع الزوجية، ثم يرتبون عليها الآثار كوجوب النفقة والإرث... الخ.

وإنما قال: (ربما يكون...) لأن بعض الإنشاءات لا يترتب عليها أثر، فالتمني لا يرتب عليه العقلاء والشرع أثراً عادة.

ص: 283


1- فوائد الأصول: 17.

نعم[1]، لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقةً، إما لأجل وضعها[2] لإيقاعها في ما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها[3] إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة[4] كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمةً بالنفس وضعاً أو إطلاقاً.

-------------------------

و«العقود» ما كان بين طرفين بأن يحتاج إلى إيجاب وقبول كالنكاح، و«الإيقاعات» ما كان من طرف واحد كالطلاق.

[1] بعد أن ذكرنا أن مدلول الخبر والإنشاء ليس أمراً نفسياً، يأتي المصنف ويذكر أنه لا مشكلة في أن نقول: إنّ هناك دلالة التزامية على وجود الصفات المشهورة في النفس، لكنها ليست مدلولة للّفظ، مثلاً من يقول: (ليت كذا...) لازم كلامه أن هناك صفة تمنٍّ في نفسه.

[2] أي: منشأ هذه الدلالة الالتزامية أحد أمرين:

الأول: الوضع بأن يكون الواضع قد اشترط استعمال الإنشاء حين تحقق هذه الصفات المشهورة، «وضعها» أي: وضع هذه الصيغ، «لإيقاعها» أي: لإيجاد هذه المعاني، «إليه» إلى الإيقاع.

[3] الثاني: أن يكون منشأ هذه الدلالة الالتزامية هو الانصراف لا الوضع، فلم يشترط الواضع هذا الشرط، لكن كثرة الاستعمال مع وجود هذه الصفات صار سبباً لانصراف إطلاق هذه الصيغ إلى صورة كون الإيجاد بداعي وجود هذه الصفات المشهورة في النفس.

[4] قرينة على خلاف هذا الوضع أو الانصراف، ومثال وجود القرينة: الأوامر الامتحانية، حيث لا توجد إرادة في النفس، «بصيغتها» أي: بصيغة الطلب والاستفهام وغيرهما، «لأجل» خبر (كان إنشاء...).

ص: 284

إشكال ودفع[1]:

أما الإشكال[2]: فهو أنّه يلزم - بناءً على اتحاد الطلب والإرادة - في تكليف الكفار بالإيمان[3]، بل مطلق أهل العصيان[4] في العمل بالأركان إما أن لا يكون

-------------------------

الدليل الثالث: عدم تخلف الإرادة عن المراد

[1] هذا دليل آخر للأشاعرة على تغاير الطلب والإرادة.

[2] حاصله: إنه من الواضح أن الكفار والعُصاة مكلّفون تكليفاً جدّياً؛ ولذا يصح عقابهم لمخالفتهم الأمر، كما أنه من الواضح عدم تخلف إرادة الله عن المراد، فإنه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

ولكن بناءً على اتحاد الطلب والإرادة يلزم أحد محذورين:

الأول: إذا لم تكن إرادة في تكليف الكفار والعُصاة فلا يكون طلباً حقيقياً - لاتحادهما - بل طلب صوري غير جدّي، فلا يصح عقابهم على المخالفة.

الثاني: إذا كانت إرادة حقيقية فيكون طلب حقيقي، لكن مخالفة الكفار والعصاة سيكون بمعنى تخلّف الإرادة عن المراد، فقد أراد الله الإيمان والطاعة لكن لم يتحقق مراده!!

وحيث إن كلا الأمرين باطل، فيثبت تغاير الطلب والإرادة، ففي تكليف العصاة والكفار يوجد طلب حقيقي لكن لا توجد إرادة حقيقية.

[3] لا إشكال في كون الكافر مكلفاً بالإيمان، فيجب عليه بحكم العقل أن يؤمن، وقد اختلف الأصحاب في تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول، والأقرب هو عموم التكليف لكل المؤمنين والكفار؛ لإطلاق الأدلة، مع قدرة الكافر على العمل الصحيح؛ وذلك بأن يؤمن، فهو قادر على العمل الصحيح بواسطة قدرته على مقدمته، والمقدور بالواسطة مقدور.

[4] أي: المسلمين العصاة، و«العمل بالأركان» أي: فروع الدين لأنها ترتبط

ص: 285

هناك تكليف جدي[1] إن لم يكن هناك إرادة، حيث إنّه لا يكون حينئذٍ طلب حقيقي، واعتباره[2] في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة[3] فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا يكاد يتخلف، إذا أراد الله شيئاً يقول له كن فيكون.

وأما الدفع[4]:

-------------------------

بالجوارح عادة، عكس أصول الدين حيث ترتبط بالقلب عادة.

[1] وهو المحذور الأول؛ إذ لا إرادة للعمل فلا طلب - لاتحادهما - .

[2] أي: اعتبار الطلب الحقيقي، وقوله: (في الطلب الجدي) أي: في التكليف الجدّي «من البديهي» الواضح جداً، ففي طلب الهازل أو الساهي والغالط في الموالي العرفية، وكذا بعض أقسام الأوامر الامتحانية لا يوجد تكليف حقيقي؛ لعدم وجود طلب جِدّيّ.

[3] وهذا المحذور الثاني، يعني إذا كان طلباً حقيقياً فاتحاده مع الإرادة يستلزم وجود إرادة حقيقية من المولى جلّ وعلا، فكيف لم يتحقق مراده مع وجود إرادة منه تعالى؟ مع وضوح عدم تخلّف إرادته عن مراده.

[4] وحاصله: إنا نلتزم بالشق الثاني، وهو وجود إرادة حقيقية، ولكن لا يلزم محذور تخلّف الإرادة عن المراد، بيان ذلك:

إن الإرادة نوعين:

1- الإرادة التكوينية: وهي تعلق الإرادة بفعل نفس المريد، بأن يريد الله تعالى خلق زيد ورزق عمرو وإماتة بكر... الخ، فهذه فبمجرد أن يريد الله ذلك يتحقق المراد بلا فصل.

2- الإرادة التشريعية: وهي تعلق الإرادة بصدور الحكم الشرعي، بأن يريد الله تحريم الخمر وإيجاب الصلاة... الخ، فكذلك بمجرد إرادته صدور الحكم فإن الحكم

ص: 286

فهو أنّ استحاله التخلف[1] إنما تكون في الإرادة التكوينية - وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام[2] -

-------------------------

يصدر بلا فصل، والغرض من التشريع هو أن يعلم به المكلّفين، ويلتزمون به ويطيعونه باختيارهم، وليست إرادته تعالى تعلّقت بفعل المكلفين مباشرة؛ لأن ذلك خلاف المصلحة بأن يصدر الفعل منهم بالإلجاء والقسر.

إذا تبيّن ذلك فنقول: في تكليف الكفار والعصاة ليس المراد هو تحقق الفعل أو الترك منهم قسراً، بل المراد هو تكليفهم، وهذا قد تحقَّق، والغرض هو إطاعتهم بالاختيار، فارتبطت الإطاعة باختيارهم إن شاؤوا أطاعوا وإن شاؤوا عصوا، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

فتبيّن أنه كما يوجد طلب حقيقي كذلك توجد إرادة حقيقية - لاتحادهما - مع عدم لزوم تخلّف الإرادة عن المراد.

[1] أي: تخلّف الإرادة عن وقوع الفعل خارجاً.

[2] اعلم أنه قد اختلفوا في معنى الإرادة.

1- فقال جمعٌ: إنها من صفات الذات، وأرجعوها إلى العلم، أي: العلم بأفضل الأمور في الخلق بحيث يكون النظام على أحسن الوجوه وأتمّها.

وحيث أشكل عليهم: بأن العلم قديم، فإذا كانت الإرادة بهذا المعنى قديمة لزم قدم المخلوقات كلّها.

فأجاب بعض الفلاسفة: بالتزامهم بهذا اللازم، وابتدعوا اصطلاح القديم الزماني.

وحيث إن هذا كلام واضح البطلان؛ لذلك أجاب آخرون: بأن هذا العلم هو مقيّد، أي: العلم بوجود المصلحة في الأشياء في أوقاتها.

وهذا أيضاً جواب سقيم؛ لأن العلم - حتى المقيّد منه - قديم، فإذا كان العلم

ص: 287

دون الإرادة التشريعية - وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف[1] - وما لا محيصَ عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية[2]، لا التكوينية. فإذا توافقتا[3] فلابد من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا فلا محيصَ عن أن يختار الكفر والعصيان.

-------------------------

إرادةً لزم قدم الإرادة، وحيث لا تتخلّف الإرادة عن المراد لزم قدم الأشياء، فعاد المحذور من جديد.

2- وقال آخرون - تبعاً للروايات - بأن الإرادة من صفات الفعل، وهي إيجاد الأشياء وخلقها.

إن قلت: يظهر من بعض الآيات والروايات أن الإرادة قبل الخلق فكيف تكون نفس الخلق؟

قلت: لابد من تأويل تلك الأدلة، كما نؤوّل الاستواء على العرش، واليد، والعين... الخ الواردة في الآيات؛ وذلك لتواتر الروايات الدالة على أن الإرادة من صفات الفعل وأنها مُحدَثة، مضافاً إلى الدليل العقلي، وإن شئت التفصيل فراجع الجزء الثاني من شرحنا على أصول الكافي(1).

[1] أي: في فعله اختياراً، فلا مصلحة في إلجائه وقسره، وهذا أيضاً أحد القولين في الإرادة التشريعية، والقول الآخر - وهو الصحيح - إن الإرادة التشريعية هي إصدار الحكم، كما عرفت.

[2] وهي أيضاً لا تتخلف عن المراد؛ لأن المراد ليس هو صدور الفعل من المكلف قسراً، بل المراد صدور الحكم، وقد صدر، والغرض منه هو امتثال المكلّف باختياره - كما عرفت - .

المقام الرابع: في شبهة الجبر والجواب عنها
اشارة

[3] أي: توافقت الإرادة التكوينية والتشريعية، بأن أراد الله تكويناً الإيمان والطاعة، فلابد من تحقق إيمان العبد وطاعته، ثم جزاؤه بالثواب.

ص: 288


1- شرح أصول الكافي 2: 220.

-------------------------

ولكن لو تخالفت الإرادة التكوينية عن الإرادة التشريعية، بأن أراد الله تكويناً كفر العبد وعصيانه، فلابد من تحقق ما أراده الله تكويناً من كفره وعصيانه.

وهنا ينشأ إشكالان، يحاول المصنف الجواب عنهما، لكنه يذهب إلى أمر غريب، كما سيتضح:

الإشكال الأول: إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية على الإيمان والطاعة أو على الكفر والمعصية، فكيف يصحّ التكليف؟ وذلك لأن إرادته التكوينية لا تتخلّف عن المراد، فإن أراد الإيمان والطاعة وقعا بلا تخلّف من غير قدرة العبد على المخالفة، وإن أراد تعالى كفر العبد وعصيانه وقعا أيضاً حتماً بلا قدرة للعبد على خلاف إرادته تعالى، فيكون العبد مضطراً ملجأً فكيف يصح تكليفه؟

وجواب المصنف: هو أن الله تعالى أراد الإيمان الصادر عن اختيار العبد، وكذا أراد الكفر الصادر عن اختيار العبد، فلو صدر الإيمان والكفر لا عن اختيار العبد وبالاضطرار والإلجاء لكان تخلفاً للإرادة عن المراد، وكذا الكلام في الطاعة والعصيان.

الإشكال الثاني: إن الله قد أراد الكفر الصادر عن اختيار العبد، وكذا الإيمان الصادر عنه، لكن الكفر والإيمان الصادرين عن اختيار العبد مستندان إلى إرادته تعالى، وإرادته تعالى ليست باختيار العبد، فانتهى أمر الكفر والإيمان إلى ما ليس باختيار العبد، فكيف تصح مؤاخذة العبد على ما ليس باختياره؟

وجواب المصنف: إن العقاب ليس بسبب الاستحقاق، حتى يستشكل بأن المضطر المُلجأ لا يستحق العقاب، بل العقاب هو من اللوازم الذاتية للكفر والعصيان، وهما بسبب الشقاوة الذاتية للعبد الكافر، وهكذا الثواب بسبب السعادة الذاتية.

ص: 289

-------------------------

إن قلت: كيف صار هذا الكافر شقيّاً حتى تلزمه المخالفة ثم العقاب؟

قلت: شقاوته ذاتية، والذاتي لا يعلل!!

هذا حاصل جواب المصنف عن الإشكالين.

أقول: يرد على ما ذكره المصنف أمور منها:

أولاً: التهافت بين الجوابين، ففي الجواب عن الإشكال الأول أسند الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلى الإرادة الأزلية، لكنه في الجواب عن الإشكال الثاني أسندها إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين!!

وثانياً: لزوم الجبر بناءً على كلا الجوابين...

أما على الأول: فلأنه أسند الفعل إلى إرادة الله التكوينية المتعلقة بصدور الفعل عن العبد باختياره، وهذا عين الجبر؛ لأنه هل يتمكن العبد من اختيار غير ما أراده الله تعالى؟ بل في الكلام تناقض، فإذا تعلقت الإرادة الأزلية لا يكون الفعل صادراً عن اختيار العبد، وإذا كان الفعل صادراً باختيار فلم تتعلق به الإرادة الأزلية.

وأما على الثاني: فلأنه أسند الفعل إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين، وهذا عين الجبر أيضاً؛ وذلك لأنهما مجعولان تبعاً لأصل جعل الذات، فاستند الفعل إلى جعله تعالى - ولو تبعاً - وهذا هو الجبر بعينه.

وإن شئت التفصيل أكثر فراجع (الوصول إلى كفاية الأصول)(1)

للسيد الوالد و(عناية الأصول)(2)، وغيرهما، وقد بينا شطراً من جواب شبهة الجبر في شرح أصول الكافي(3)،

فراجع.

والجواب الصحيح هو: إن الله أراد أن يكون العبد مختاراً، فإذا أراد العبد الفعل أراده الله، وإذا لم يُرد العبدُ الفعل لم يُرده الله. وحيث بينّا أن الإرادة من صفات

ص: 290


1- الوصول إلى كفاية الأصول 1: 401 - 406.
2- عناية الأصول 1: 196-199.
3- شرح أصول الكافي 2: 501 فما بعد.

إن قلت[1]: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها[2] التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

قلت[3]: إنما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية[4]، وإلاّ[5] فلابد من صدورها بالاختيار،

-------------------------

الفعل، فلا يرد إشكال تبعية إرادته لإرادة المكلّف، بل هو نظير إرادته تعالى لإثابة المحسن لمّا أحسن، وإرادته عقاب المسيء لمّا أساء، وإرادته استجابة الدعاء لمّا يدعو الداعي وهكذا.

ولا يرد إشكال: لماذا أراد العبد هكذا؛ وذلك لأنّ إراديَّة كل شيء بالإرادة، وإرادية الإرادة بذاتها.

[1] هذا بيان للإشكال الأول، «بإرادته» أي: التكوينية.

[2] بالكفر والعصيان والطاعة والإيمان، «لكونها» أي: هذه الأربعة، وهذا وجه عدم صحة التكليف، «المعتبر» صفة الاختيار، «فيه» في التكليف.

[3] جواب المصنف عن الإشكال الأول، «بذلك» بتعلق الإرادة التكوينية، «الإرادة» أي: التكوينية الإلهية، «بها» بهذه الأربعة.

[4] أي: بالمقدمات الاختيارية لهذه الأربعة، فإن التصور والتصديق والعزم والجزم - كما مرّ - هي مقدمات إرادة العبد، فإذا كانت إحداها اختيارية كان الفعل اختيارياً؛ لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، فلنفرض أنه تصوّر الشيء بلا اختيار ثم صدّق به وبفائدته بلا اختيار أيضاً، ثم اشتاق إليه بلا اختيار، لكن الجزم كان بالاختيار، فارتكابه للفعل يكون اختيارياً، كما هو واضح.

[5] أي: وإن تعلقت إرادة الله تعالى بالإيمان عن اختيار العبد، وكذا بالطاعة والكفر والمعصية.

ص: 291

وإلاّ[1] لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن قلت[2]: إن الكفر والعصيان - من الكافر والعاصي - ولو[3] كانا مسبوقين بإرادتهما، إلاّ أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف[4] وقد سبقهما الإرادة الأزلية[5] والمشية الإلهية، ومعه[6] كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟!

قلت[7]: العقابُ إنما بتبعة الكفر والعصيان[8] التابعين للاختيار الناشئ عن

-------------------------

[1] أي: وإن لم تصدر هذه الأربعة عن اختيار.

[2] بيان للإشكال الثاني.

[3] «لو» وصلية، «بإرادتهما» إرادة الكفر والعصيان، «ما لا بالاختيار» أي: ما ليس باختيار العبد وهو الإرادة الإلهية.

[4] أي: كيف لا يكونان مسبوقين بشيء غير اختياري؟ «وقد» أي: والحال أنه قد... الخ.

[5] بناءً على أن الإرادة من صفات الذات، لكنّك قد علمت أنها من صفات الفعل فليست بأزلية.

[6] أي: ومع سبق الإرادة الأزلية.

[7] جواب المصنف عن الإشكال الثاني، وإنما خصّ المصنف الكلام في العقاب لأنه لا إشكال على إعطاء الثواب على أمر غير اختياري، فإن الثواب حينئذٍ تفضّل، إنما الإشكال في العقاب على غير الاختياري، فإنه ظلم، والله تعالى منزّه عن الظلم.

[8] أي: العقاب ليس عن استحقاق حتى يستشكل بأنه لا استحقاق للعقاب على الأمر غير الاختياري، وإنما العقاب لازم ذاتي للكفر والعصيان، وذلك الكفر والعصيان تابعان لاختيار العبد؛ وذلك الاختيار ناشئ عن مقدماته، وتلك المقدمات ناشئة عن الشقاوة الذاتية، وتلك الشقاوة ليست لها عِلّة حتى نبحث عنها.

ص: 292

مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما[1] الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه(1)[2]،

والناس معادن كمعادن الذهب والفضة(2)[3] - كما في الخبر - والذاتي لا يعلل[4]، فانقطع سؤال أنّه لم جعل السعيد

-------------------------

وحاصل مراد المصنف: إن العقاب له أسباب ولتلك الأسباب أسباب إلى أن تنتهي إلى الشقاوة الذاتية، وهذه ليست لها علّة، فلم تنتهِ الأسباب إلى إرادة الله تعالى كي يستشكل بقبح العقاب فيقال: إنّه تعالى أجبره ثم يعاقبه!!

أقول: قد تبين لك بما ذكرناه قبل قليل ضعف هذا الكلام، وتهافته مع جواب الإشكال الأول، فليس سبب إرادة العبد للكفر شقاوته الذاتية، بل ليست لإرادته سبب؛ لأنها بالذات وهي التي لا تعلّل، فإراديّة كل شيء بالإرادة، وإراديّة الإرادة بنفسها، فدقق.

[1] أي: شقاوة الكافر والعاصي.

[2] أقول: ليس معنى الحديث ما رامه المصنف، بل معنى الحديث ما فسّره الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فعن ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن معنى قول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (الشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه»؟ فقال: الشقي من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله - وهو في بطن أمه - أنه سيعمل أعمال السعداء)(3).

[3] أقول: أيضاً ليس معنى الحديث ما فهمه المصنف، بل معناه هو اختلاف قابليات الناس، بل الحديث يدل على أن الكلّ له قابلية الخير، كما أن الذهب والفضة كلاهما خير - وإن كان أحدهما خير من الآخر - .

[4] ليس معنى هذه الكلمة: (أن الشيء الذاتي لا يحتاج إلى علة في وجوده)،

ص: 293


1- ورد بهذا المضمون في توحيد (للشيخ الصدوق): 357.
2- الكافي 8: 177.
3- التوحيد: 356.

سعيداً والشقي شقياً؟ فإنّ السعيد سعيدٌ بنفسه والشقي شقيٌ كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست)، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرشد والهداية، وبه الاعتصام.

وهم ودفع[1] لعلك تقول: إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل لزم - بناءً على أن تكون[2] عين الطلب - كونُ المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.

لكنك[3] غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما يكون خارجاً،

-------------------------

فإن احتياج الممكن إلى علة من البديهيات، بل معناها: إن الذاتي لا يحتاج إلى علة أخرى غير علة أصل وجوده، مثلاً: زوجية الأربعة لا تحتاج إلى عِلة أخرى غير أصل عِلة وجود الأربعة.

وبعبارة أخرى: إن عِلة أصل الوجود هي عِلة للذاتي أيضاً، فتدبّر.

دليل رابع: على تغاير الطلب والإرادة، وردّه

[1] هنا يذكر المصنف دليلاً رابعاً لمن ذهب إلى تغاير الطلب والإرادة، ثم يبيّن وجه الخلل فيه.

أما الدليل: فهو أن الإرادة التشريعية هي (العلم بالمصلحة في فعل العبد)، فلو قال المولى: (أقيموا الصلاة) كان هذا إنشاءً للطلب، وبناءً على اتحاد الطلب والإرادة يلزم أن يكون هذا الأمر إنشاءً للعلم، وهذا واضح البطلان؛ لبداهة أن المولى بقوله: (أقيموا الصلاة) لم يُنشئ العلم.

وعليه يتبيّن أن المولى أنشأ طلباً ولم ينشئ إرادة، وبذلك ثبت تغاير الطلب والإرادة.

[2] أي: تكون الإرادة، و«كون» فاعل (لزم).

[3] هذا جواب الوهم، وحاصل جواب المصنف: إن المراد من اتحاد الطلب

ص: 294

لا مفهوماً، وقد عرفت[1] أن المنشأ ليس إلاّ المفهوم لا الطلب الخارجي، ولا غَرْوَ[2] أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيصَ عنه في جميع

-------------------------

والإرادة هو اتحادهما في الوجود الخارجي، وليس المراد اتحاد مفهوميهما، فإنه من الواضح أن مفهوم الطلب يغاير مفهوم الإرادة، وهكذا في سائر صفات الذات، فإن العلم والقدرة والحياة... الخ هي عين ذات الله تعالى، بمعنى اتحادها وعدم الفرق بينها في الوجود، مع وضوح اختلاف مفهوم العلم عن مفهوم القدرة، وهكذا فالمُنشأ بصيغة الأمر هو مفهوم الطلب، وهو يغاير مفهوم الإرادة، فليس مفهوم الإرادة - وهي العلم بالمصلحة - مُنشأ بالصيغة، فلا يرد الإشكال.

أقول: الصحيح في الجواب أن يقال:

أولاً: إن الإرادة ليست (العلم بالمصلحة في فعل العبد) بل هي من صفات الفعل، مع أن العلم من صفات الذات، كما مرّ توضيحه.

وثانياً: إن الإرادة - التي هي من الصفات - إنما هي الإرادة الخارجية لا الإرادة الإنشائية، وليست الإرادة الإنشائية بمعنى العلم، وإنما الإرادة التي ذهب المصنف إلى أنها بمعنى العلم هي الإرادة الخارجية.

وعليه: فلا محذور في أن نقول: إن صيغة الأمر تُوجِد الإرادة الإنشائية، وهي ليست العلم.

وثالثاً: إن الذي يوجد بالأمر ليس المفهوم، بل طلب إنشائي.

[1] حينما قال المصنف: (وأما الصيغ الإنشائية فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا... الخ)، «المُنشأ» بصيغة الأمر أو بمادته، «إلاّ المفهوم» أي: مفهوم الطلب، ومقصود المصنف الطبيعة المهملة - بنحو اللابشرط المقسمي - .

[2] أي: لا عجب، «اتحاد الإرادة والعلم» بناءً على أن الإرادة من صفات الذات، ولكن قد عرفت أنها من صفات الفعل.

ص: 295

صفاته تعالى[1]، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة. قال أميرالمؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه[2]»(1).

الفصل الثاني في ما يتعلق بصيغة الأمر، وفيه مباحث:

المبحث الأول: إنّه ربما يذكر للصيغة معانٍ[3]

-------------------------

[1] أي: صفاته الذاتية، «لرجوع» أي: لاتحادها مع ذاته المقدسة، فليست هي زائدة على ذاته.

[2] أي: نفي الصفات الزائدة عنه، بأن تكون صفات الذات مغايرة لذاته، فإن ذلك يستلزم تعدد القدماء، والتركب في ذاته، والاحتياج في رتبة ذاته، وكل ذلك محال في حقه تعالى. عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا للاستضاءة بنور القرآن ومعارف أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

الفصل الثاني في صيغة الأمر

اشارة

[3] معنى صيغة الأمر هو الطلب الإنشائي - لا مفهوم الطلب ولا الطلب النفساني - .

وأما سائر المعاني المذكورة فهي ليست معاني للصيغة، بل هي موارد استعمالها، وفي كل تلك الموارد يكون المعنى هو الطلب الإنشائي.

وبعبارة أخرى: استعمال الصيغة في معناها - وهو الطلب الإنشائي - تارة يكون بداعي الطلب الحقيقي، وتارة أخرى يكون بداعٍ آخر.

ومن المعاني التي ذكروها:

1- الترجي: وهو ترقب حصول شيء محبوب لا وثوق بحصوله.

ص: 296


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

قد استعملت فيها[1]، وقد عُدَّ منها الترجي والتمني والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير... إلى غير ذلك[2].

-------------------------

2- التمني: وهو طلب محال أو ممكن يعلم بعدم وقوعه، كقوله: (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي)(1).

3- التهديد: كقوله تعالى: {ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ}(2).

4- الإنذار: أي: الإخبار بخطر محدق، كقوله تعالى: {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ}(3).

5- الإهانة: كقوله تعالى: {ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ}(4).

6- الاحتقار: كقوله تعالى: {أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ}(5)، لأن سحرهم كان في مقابل المعجزة.

7- التعجيز: وهو بيان لعجز الطرف المقابل، كقوله تعالى: {فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ}(6).

8- التسخير: أي: تبديل حقيقة إلى أخرى، وقيل: هو بمعنى الاستهزاء بهم، كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(7).

[1] أي: ادّعوا أن الصيغة قد استعملت في هذه المعاني مجازاً لا على نحو الحقيقة.

[2] منها: الإباحة، كقوله: {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ}(8)، ومنها: الإرشاد، كقوله:

ص: 297


1- لسان العرب 11: 361.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة هود، الآية: 65.
4- سورة الدخان، الآية: 49.
5- سورة يونس، الآية: 80؛ سورة الشعراء، الآية: 43.
6- سورة البقرة، الآية: 23.
7- سورة البقرة، الآية: 65؛ سورة الأعراف، الآية: 166.
8- سورة البقرة، الآية: 60 و 187؛ سورة الأعراف، الآية 31.

وهذا كما ترى[1]، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحدٍ منها، بل لم يستعمل إلاّ في إنشاء الطلب[2]، إلاّ أن الداعي إلى ذلك[3] كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي[4] يكون أخرى أحد هذه الأمور، كما لا يخفى.

قصارى ما يمكن أن يُدَّعى[5] أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب في ما إذا

-------------------------

{وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ}(1)، ومنها: الامتنان، كقوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ}(2)، ومنها: الدعاء، كقوله: {رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي}(3).

[1] أي: ما ذكر من استعمال الصيغة في المعاني المتعددة، «كما ترى» أي: واضح البطلان، «منها» من المعاني المذكورة.

[2] مقصوده (الطلب الإنشائي) مقابل الطلب النفساني، ومفهوم الطلب.

[3] أي: الدواعي تختلف، لكن المعنى واحد، «ذلك» أي: إنشاء الطلب.

[4] أي: الفعل الذي يريد الآمر تحقّقه في الخارج واقعاً، «أخرى» أي: تارة أخرى، «الأمور» المذكورة بعنوان معاني الصيغة.

[5] أي: غاية ما يمكن أن يقال: إن استعمال الصيغة في الموارد المذكورة مجاز، لكن ليس مجازاً في الكلمة بأن تكون الصيغة بهذه المعاني، بل لأنه خلاف شرط الواضع.

بيان ذلك: إنه قد يقال: إنّ الواضع وضع صيغة الأمر على معنى الطلب الإنشائي، وبشرط أن يكون الداعي هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، فإذا كان الداعي شيئاً آخر - من التمنّي والتهديد... الخ - كان استعمالاً للصيغة بمعناها، وهو الطلب الإنشائي، ولكن مع مخالفة لشرط الواضع، فيكون استعمالاً مجازياً.

ص: 298


1- سورة البقرة، الآية: 282.
2- سورة المائدة، الآية: 88؛ سورة الأنعام، الآية: 142.
3- سورة الأعراف، الآية: 151؛ سورة ص، الآية: 35؛ سورة نوح، الآية: 28.

كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها[1] بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها[2] تهديداً مجازاً. وهذا[3] غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل.

إيقاظ[4]: لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الإنشائية،

-------------------------

[1] «بها» بالصيغة، «بعثاً» مفعول لأجله، أي: لأجل البعث وتحريك العبد نحو المطلوب، و«حقيقة» خبر يكون.

[2] أي: إنشاء الطلب بالصيغة، «تهديداً» أي: لأجل التهديد وكذا سائر الأمور المذكورة.

[3] أي: إنشاء الطلب بالصيغة لأجل التهديد ونحوه ليس استعمالاً للصيغة بمعنى التهديد ونحوه، «كونها» كون الصيغة، «غيره» غير التهديد من سائر الأمور المذكورة.

[4] الغرض هو تعميم هذا الكلام إلى سائر الصيغ الإنشائية، فكما أن صيغة الأمر موضوعة للطلب الإنشائي فقط، كذلك صيغة التمني والترجي والاستفهام موضوعات للتمني المُنشأ، والترجي المُنشأ، وطلب الفهم، وأمّا سائر المعاني المذكورة لها فإنّما هي دواعي الاستعمال، لا أنها معانٍ لهذه الصيغ.

ومن ذلك يتضح الإشكال على ما ذهب إليه البعض، من أن هذه الصيغ إذا استعملت في كلامه تعالى فهي مجاز.

بيان ذلك: إن التمني والترجي الحقيقيان سببهما العجز وعدم القدرة، وإلاّ فالقادر يُحقِّق مطلوبه من غير تمنٍّ وترجٍّ له، وكذا الاستفهام الحقيقي سببه الجهل، فيطلب الفهم ليرفع جهله، وأما العالم بكل شيء فلا وجه للاستفهام الحقيقي فيه.

وعليه: فالله القادر العالم لم يستعمل هذه الصيغ في معناها الحقيقي، بل في معناها المجازي.

ص: 299

فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصفات[1] حقيقةً يكون الداعي غيرها أخرى. فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها[2]، واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى - لاستحالة[3] مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى مما لازمه العجز أو الجهل[4] -، وأنه لا وجه له[5]، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها[6]، لا الإنشائي الإيقاعي الذي

-------------------------

وفيه نظر: لأن التمني الإنشائي، والترجي الإنشائي، والاستفهام الإنشائي هو معنى هذه الصيغ، وقد استعملت في كلامه بنفس هذه المعاني، لكن لا بداعي إظهار ثبوت هذه الصفات فيه تعالى، فإن ذلك مستحيل في حقه، بل لدواعٍ اُخرى، سيأتي بيان بعضها.

[1] أي: صفة التمني والترجي والاستفهام تكون موجودة في نفس المتكلّم، «يكون» أي: كذلك يكون، «غيرها» أي: غير ثبوت هذه الصفات، «أخرى» أي: تارة أخرى.

[2] حتى تكون مجازاً في الكلمة، «صيغها» أي: صيغ التمني والترجي والاستفهام، «عنها» عن التمني الإنشائي والترجي الإنشائي والاستفهام الإنشائي، «استعمالها» أي: استعمال هذه الصيغ، «غيرها» غير معانيها الحقيقية.

[3] وجه التزامهم بالانسلاخ عن معانيها الحقيقية.

[4] العجز في التمني والترجي؛ لأن القادر يفعل ما يريد ولا يتمنى ولا يترجى، والجهل في الاستفهام؛ لأن العالم لا يطلب الفهم لأنه يعلم.

[5] هذا تأكيد لقوله: (فلا وجه للالتزام...)، وبيان وجه الإشكال في هذا الالتزام، «أنه» للشأن، «له» لهذا الالتزام.

[6] أي: التمني والترجي والاستفهام الحقيقيّة، أما الإنشائي منها فلا محذور فيه، وقوله: «الإيقاعي» عطف بيان لقوله: (الإنشائي).

ص: 300

يكون[1] بمجرد قصد حصوله بالصيغة - كما عرفت -. ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضاً[2]، لا لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل لأمر آخر - حسبما يقتضيه الحال - من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير... إلى غير ذلك.

ومنه[3] ظهر أن ما ذُكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي

-------------------------

[1] أي: الذي يتحقق ذلك التمني الإنشائي - وكذا أخويه - بمجرد كون الداعي هو حصول التمني وأخويه بالصيغة.

والمعنى إنه لا يوجد تمنٍّ حقيقي في نفس المولى، لكن الغرض من استعمال صيغة التمني هو حصول التمني الإنشائي - وكذا أخويه - «كما عرفت» في صيغة الأمر، وأنها للطلب الإنشائي - سواء كان بداعي الطلب الحقيقي - الذي هو البعث والتحريك نحو المطلوب - أم كان بداعٍ آخر.

[2] أي: مثل كلامنا، حيث نستعملها في هذا المعنى، لكن الدواعي تختلف، «ثبوتها» أي: تحقق هذه المعاني في ذاته تعالى، فإن ذلك مستحيل، «لأمر آخر» أي: لداعٍ آخر، ومنها:

1- إظهار المحبة: كقوله تعالى: {وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ}(1) حيث إن الاستفهام لبيان محبته تعالى لموسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.

2- الإنكار: كقوله تعالى: {أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِينَ}(2).

3- التقرير: كقوله: {ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بَِٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ}(3).

[3] أي: مما ذكرناه من أن الصيغة ليس لها إلاّ معنى واحد، سواء في التمني أم الترجي أم الاستفهام.

ص: 301


1- سورة طه، الآية: 17.
2- سورة الإسراء، الآية: 40.
3- سورة الأنبياء، الآية: 62.

أيضاً[1].

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقةٌ[2] في الوجوب أو في الندب أو فيهما[3] أو في المشترك بينهما وجوه، بل أقوال.

لا يبعد[4]

-------------------------

[1] كما لم يكن ينبغي المعاني المتعددة في صيغة الأمر.

المبحث الثاني: هل الصيغة تدل على الوجوب وضعاً

[2] قد مرّ في البحث السابق أن صيغة الأمر وضعت للطلب، فهل هذا الطلب خصوص الطلب الوجوبي أم غيره؟

اختلفوا على أقوال(1)،

منها:

1- إنها وضعت لخصوص الوجوب.

2- وضعها للندب فقط.

3- وضعها لهما بنحو الاشتراك اللفظي.

4- وضعها لهما بنحو الاشتراك المعنوي.

5- وضعها للوجوب، لكن لكثرة استعمالها في الندب نُقلت إليه، أو صارت مجازاً مشهوراً في الندب.

[3] بنحو الاشتراك اللفظي، «المشترك بينهما» أي: الجامع بينهما وهو الطلب الراجح، فيكون مشتركاً معنوياً.

[4] يختار المصنف القول الأول، وهو وضع الصيغة لخصوص الوجوب، ويذكر دليلاً ومؤيداً.

أما الدليل: فهو تبادر الوجوب من الصيغة عند عدم وجود أيّة قرينة.

وأما المؤيد: فهو عدم قبول عذر العبد المخالف، فإذا أمره المولى بصيغة الأمر

ص: 302


1- قوانين الأصول 1: 83؛ معالم الدين: 46؛ بدائع الأفكار 1: 197.

تبادر الوجوب عند استعمالها[1] بلا قرينة.

ويؤيده[2] عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقالٍ.

وكثرة الاستعمال فيه[3] في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله

-------------------------

ولم تكن هناك قرينة، فخالف العبد، واعتذر باحتمال إرادة الندب، فلا يقبل عذره، مع أن الأمر لو كان موضوعاً لخصوص الندب لقبل عذره، وكذا لو كان موضوعاً للقدر المشترك أو كان مشتركاً لفظياً لصح اعتذاره، لكنا نرى عدم قبول عذره، وليس ذلك إلاّ لكون صيغة الأمر موضوعة لخصوص الوجوب.

وإنما اعتبر المصنف هذا مؤيداً لاحتمال أن تكون الدلالة على الوجوب بسبب الإطلاق ومقدمات الحكمة، أو للقرينة العقلية بعدم الترخيص في الترك، لا بسبب الوضع.

وكذا قوله في الدليل: (لا يبعد)، لأجل احتمال أن يكون التبادر بسبب مقدمات الحكمة، أو القرينة العقلية، فلا يكون حجة.

[1] استعمال الصيغة، «بلا قرينة» إذ التبادر بمعونة القرينة لا يدل على الوضع.

[2] أي: يؤيد الوضع للوجوب، «باحتمال» أي: الاعتذار بسبب هذا الاحتمال، «الاعتراف» أي: اعتراف المخالف، «دلالته» دلالة الأمر، أي: صيغة الأمر، «عليه» على الندب.

[3] أي: في الندب، وهذا دليل القول الخامس، وحاصله: إنا نسلّم بأن صيغة الأمر وُضعت للوجوب، ولكنّها استعملت في الروايات في الاستحباب بكثرة بحيث نقلت إلى الاستحباب، أو لا أقل من صيرورة الاستحباب مجازاً مشهوراً، فعلى النقل لابد من حمل الصيغة على الاستحباب، وعلى المجاز المشهور يتمّ التوقف، فلا تحمل على الوجوب ولا على الاستحباب حتى تكون قرينة دالة على أحدهما.

ص: 303

إليه[1] أو حمله عليه[2]، لكثرة استعماله[3] في الوجوب أيضاً؛ مع أن[4] الاستعمال وإن كثر فيه إلاّ أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك[5] في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهوراً فيه ليرجح[6] أو يتوقف - على الخلاف في المجاز المشهور - كيف[7]! وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى

-------------------------

ويرد عليه:

أولاً: إن الاستعمال كثيراً في الحقيقة يمنع عن النقل وعن الحمل على المجاز المشهور، وقد استعملت صيغة الأمر في الوجوب كثيراً.

وثانياً: كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كان مع القرينة يمنع عن النقل، وكذا يمنع عن صيرورته مجازاً مشهوراً.

[1] «نقله» نقل الأمر، أي: صيغة الأمر، «إليه» إلى الندب.

[2] هذا في المجاز المشهور، أي: حمل الأمر على الندب.

[3] هذا الإشكال الأول، «استعماله» أي: الأمر، «أيضاً» ككثرة استعماله في الندب.

[4] هذا هو الإشكال الثاني، «فيه» في الندب، «أنه» أن الاستعمال في الندب.

[5] أي: مع القرينة، «صيرورته» أي: صيرورة اللفظ، «فيه» في المعنى المجازي.

[6] أي: لو كان مجازاً مشهوراً رُجّح على المعنى الحقيقي، فيحمل عليه حتى لو لم تكن قرينة، أو يُتوقّف فلا يُحمل لا على المعنى الحقيقي ولا على المعنى المجازي، بل لابد من قرينة على أحدهما.

[7] هذا جواب نقضي، أي: كيف تكون كثرة الاستعمال مع القرينة موجبة للحمل على المجاز المشهور أو التوقف، والحال أن لفظ العام يستعمل في الخاص كثيراً، ولكن مع ذلك يبقى العام ظاهراً في العموم دون الخصوص الذي هو أكثر؟

وفيه نظر، لما سيأتي من أن تخصيص العام لا يوجب استعمال العام في الخاص.

ص: 304

قيل: (ما من عام إلاّ وقد خص)، ولم ينثلم به[1] ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

المبحث الثالث: هل الجمل الخبريّة التي تستعمل في مقام الطلب والبعث[2] - مثل

-------------------------

[1] أي: بكثرة استعمال العام في الخاص، «ظهوره» ظهور العام، «يُحمل» لفظ العام، «عليه» على العموم.

المبحث الثالث: في دلالة الجمل الخبرية على الوجوب

اشارة

والبحث في مقامين: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب، وفي أنها مستعملة في نفس معناها وإنما المجاز في الداعي.

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب

[2] في كثير من الأخبار، بل الاستعمالات العرفية، قد يطلب المولى من عبده شيئاً من غير أن يأتي بصيغة الأمر، بل يستعمل جملة خبرية، مثلاً: يسأل العبد عمّا يصنع حال الجنابة، فيُجاب (يغتسل)، والمقصود الطلب والأمر أي: (ليغتسل) أو يسأل عن خلل في الصلاة، فالجواب (يعيد صلاته) أي: ليُعد صلاته.

ففي هذه الألفاظ وأشباهها لا يُراد المعنى الحقيقي - وهو ثبوت النسبة في الخارج - قطعاً، بل المراد هو الطلب، وقد اختلف في أن هذا الطلب ظاهر في الوجوب أم في الندب أم في القدر المشترك بينهما:

1- فقد يقال: بعدم ظهوره في الوجوب ولا في الندب، بل يبقى الكلام مجملاً، فلابد من قرينة لتعيين أحدهما.

واستدل له بأن المعنى الحقيقي غير مراد، والمجازات متعددة - لأن الوجوب والندب ومطلق الطلب كلها مجازات - ولا قرينة تعيّن أحدها.

2- وقد يقال - وهذا ما يرجحه المصنف - : بأن الجملة الخبرية في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب، بل هي أظهر في الوجوب من الصيغة.

ص: 305

(يغتسل) و(يتوضأ) و(يعيد) - ظاهرة في الوجوب، أو لا - لتعدد المجازات[1] فيها، وليس الوجوب بأقواها[2] بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار بثبوت النسبة[3] والحكاية عن وقوعها -؟

الظاهر الأول[4]، بل يكون أظهر من الصيغة[5]؛ ولكنه لا يخفى[6] أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي الطلب - مستعملة في غير معناها، بل تكون

-------------------------

[1] هذا دليل القول بعدم ظهورها في الوجوب، «فيها» في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب.

[2] أي: ليس هو الأظهر حتى تحمل الجملة الخبرية عليه، «حملها» أي: الجملة الخبرية.

[3] في الجملة الموجبة، أو عدم ثبوت النسبة في الجملة السالبة، وقوله: «والحكاية عن وقوعها» عطف تفسيري على (ثبوت النسبة).

[4] وهو ظهورها في الوجوب.

[5] ووجه الأظهرية هو ما سيأتي في قوله: (حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه... الخ).

المقام الثاني: في أن استعمالها في معناها

[6] حاصله: إن الجملة الخبرية في مقام الطلب مستعملة في نفس معناها الحقيقي - وهو ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها - ولكن الداعي هو الطلب، ففي قوله: (يعيد صلاته) معنى الجملة هو الإخبار عن ثبوت إعادة الصلاة لهذا المصلّي، ولكن الداعي لهذا الإخبار هو إنشاء الطلب.

وقد مرّ في الأمر الثاني من المقدمات: أن المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنما الفرق بينهما هو في أن (الخبر) وُضع ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، و(الإنشاء) وُضع ليستعمل في قصد إيجاد المعنى. مثلاً: (جاء زید) و(ليجئ زيد)

ص: 306

مستعملة فيه[1]، إلاّ أنه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحوٍ آكد[2]، حيث إنّه[3] أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاراً بأنه لا يرضى إلاّ بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال[4] في الصيغ الإنشائية - على ما عرفت من أنها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواعٍ أخر -، كما مر.

-------------------------

معناهما واحد، وهو ثبوت نسبة المجيء إلى زيد، لكن الداعي في الأول هو حكاية النسبة، والداعي في الثاني طلب إيجاد النسبة.

ثم إن المصنف يُبيّن أن دلالة الجمل الخبرية في مقام الطلب على الوجوب بوجهين طوليين:

الوجه الأول: هو ظهورها في الوجوب بنحو آكد وأبلغ.

الوجه الثاني: دلالة الإطلاق ومقدمات الحكمة على الوجوب.

[1] أي: في نفس معناها، «أنه» أن الاستعمال في معناها.

[2] وهذا هو الوجه الأول، وحاصله: إن الغرض من الطلب هو الإيجاد، فصيغة الأمر تدل على الطلب، أما الجملة الخبرية فتدلّ على تحقق الغرض من الطلب، وهو إيجاد العبد لما أمره به المولى، فكأنّ المولى يفترض أن العبد أطاع وتحقّق ما أراده في الخارج.

وبعبارة أخرى: إن المولى - وهو في مقام الطلب - قد أخبر بوقوع ما طلبه، إظهاراً بأنه لا يريد إلاّ الوقوع ولا يرضى بغيره، وهذا أكثر تأكيداً للوجوب.

[3] «إنه» إن المولى، «في مقام طلبه» لأن المولى في مقام تكليف العبد، «بأنه» أن المولى، «بوقوعه» بوقوع المطلوب.

[4] أي: حال الجملة الخبرية في أن معناها واحد مع اختلاف الدواعي، كحال الصيغ الإنشائية التي معناها واحد مع تعدد الدواعي، كما مرّ قبل قليل، «الإيقاعية» أي: الإيجادية.

ص: 307

لا يقال[1]: كيف[2] ويلزم الكذب كثيراً، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك[3] في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً.

فإنه يقال[4]: إنما يلزم الكذب إذا أتي بها[5] بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي البعث. كيف! وإلاّ[6] يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل: (زيد كثير

-------------------------

[1] حاصله: إنّ الجملة الخبرية في مقام الطلب لا يمكن أن تكون مستعملة في معناها الحقيقي - وهو ثبوت النسبة خارجاً - وذلك لاستلزامه الكذب إذا عصى العبد أو لم يأت بالتكليف، حيث لم تتحقق النسبة، وكان قد أخبر عنها.

[2] أي: كيف تكون الجملة الخبرية في مقام الطلب مستعملة في ثبوت النسبة؟ «ويلزم» أي: والحال أنه يلزم من ذلك.

[3] أي: المطلوب بالجملة الخبرية، بمعنى أن طلبه كان عبر الجملة الخبرية.

[4] حاصل الجواب: إنّ الغرض من الخبر هو الذي يُخرجه عن الكذب، فمن يُخبر عن تحقق شيء لكن لا بغرض الإخبار، بل بغرض الكناية لا يكون كاذباً حتى لو لم يتحقق ذلك الشيء.

مثلاً: يتعارف التعبير عن (السخيّ) ب- (كثير الرماد) فيقال: زيد كثير الرماد، وهذا ليس بكذب حتى لو لم يكن طبخه بالحطب، ولم يوجد رماد في داره؛ وذلك لأن هذا القول لا يراد منه الإخبار، بل يراد منه الدلالة على شدة كرمه، نعم، لو لم يكن كريماً كان الإخبار عن كثرة رماده كذباً.

[5] أي: بالجملة الخبرية، «والإعلام» عطف تفسيري، «كيف» أي: كيف يكون كذباً والحال أن غالب الكنايات إخبار عما لم يتحقق في الخارج مع أنها صادقة قطعاً؛ لأن الغرض ليس الإخبار، بل الغرض شيء آخر وهو ملزوم المُخْبَر به؛ لأن الكريم يُهيِّئ الطعام للضيوف، فيكثر الحطب والنار فيكثر الرماد، فالمراد الملزوم - وهو الكرم - ولكن بطريقة بيان اللازم عادة الذي هو كثرة الرماد.

[6] أي: إذا لم يكن الداعي مخرجاً للكلام عن الكذب.

ص: 308

الرماد، أو مهزول الفصيل)[1]، لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، وإنما يكون كذباً[2] إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ[3]، فإنه مقال بمقتضى الحال[4].

هذا مع أنه[5]

-------------------------

[1] لأن الكريم يسقي الضيوف حليب الناقة، فلا يبقي شيئاً للفصيل - وهو ولدها - فيصير مهزولاً ضعيفاً.

[2] أي: لو لم يتحقق الملزوم - الذي هو المراد من الكلام - يكون قوله كذباً، فإذا قلنا: فلان كثير الرماد، ولم يكن له رماد لكنه كان كريماً، كان الكلام صادقاً، ولكن إذا لم يكن كريماً كان الكلام كذباً؛ لأنه كان يقصد الإخبار عن كرمه، والحال إنه ليس بكريم، فصار الخبر مخالفاً للواقع.

[3] أي: أبلغ من الطلب بالصيغة، فكما هو آكد كذلك هو أبلغ؛ لأن البلاغة هي الكلام بحسب مقتضى الحال.

[4] «مقال» هو الكناية، «بمقتضى الحال» الذي هو تأكيد الطلب.

والحاصل: إنه جمع بين أمرين: بين الطلب وبين الإخبار عن أنه لا يرضى إلاّ بتحقق المطلوب.

[5] هذا بيان للوجه الثاني، فقد مرّ أن دلالة الجملة الخبرية على الوجوب بوجهين، أحدهما: الظهور في الوجوب بنحو آكد وأبلغ، والآخر: هو أنه إن لم يكن ظاهراً في الوجوب فإن مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الوجوب.

بيانه: إن في مثل: (يعيد صلاته) احتمالات ثلاثة: مطلق الطلب، أو الندب، أو الوجوب.

والاحتمال الأول - وهو مطلق الطلب - منتفٍ، لأن المفروض أن المولى في مقام البيان، ومطلق الطلب الدائر بين الوجوب والندب سبب إجمال الكلام. فيدور

ص: 309

إذا أتي بها[1] في مقام البيان فمقدمات الحكمة مقتضيةٌ لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة[2] إن لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا أقلّ من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده[3]، فإن شدّة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبةٌ لتعين إرادته[4] إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم[5].

-------------------------

الأمر بين الندب والوجوب، لكن النكتة المتقدمة - وهي شدة مناسبة الإخبار للوقوع - تناسب الوجوب؛ لأن تحقق الشيء مع الوجوب أكثر وأقوى من تحقق الشيء مع الندب، الذي يجوز تركه لكل أحد، فلا يتحقق المطلوب كثيراً.

والحاصل: إن الواجب أقرب إلى التحقق من المندوب، فحيث إن المولى في صدد البيان، ولم ينصب قرينة على الاستحباب، فلابد من الحمل على الوجوب لتلك النكتة.

[1] أي: بالجملة الخبرية، «لحملها» أي: الجملة الخبرية.

[2] أي: شدة مناسبة الإخبار للوقوع، «ظهورها» الجملة الخبرية، «فيه» في الوجوب، «كونها» أي: كون تلك النكتة، «تعيّنه» تعيّن الوجوب.

[3] أي: الحكم الذي كان المولى بصدد بيانه.

[4] أي: إرادة المولى للوجوب، «غيره» غير الوجوب.

[5] لعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة تقتضي نفي القيد الزائد، ولا تقتضي تعيين أحد المحتملات إذا لم يكن في جميعها قيداً زائداً، وسيأتي تفصيله في بحث المطلق والمقيد.

وفي ما نحن فيه، قد يقال: إن للندب قيداً زائداً - وهو عدم المنع عن الترك - فالإطلاق ينفي هذا القيد، فيثبت الوجوب.

لكن يرد عليه: بساطة الأحكام، فالندب بسيط كما أن الوجوب بسيط، ولو

ص: 310

المبحث الرابع[1]: إنّه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقةً[2] في الوجوب هل لا تكون ظاهرةً فيه أيضاً، أو تكون؟

قيل[3]:

-------------------------

قيل بتركّب الندب من الطلب مع عدم المنع عن الترك، يقال ذلك أيضاً في الوجوب بأنه مركب من الطلب مع المنع عن الترك، وسيأتي في المبحث اللاحق بيان المصنف لهذا الكلام.

المبحث الرابع: هل الصيغة تدل على الوجوب بالإطلاق؟

اشارة

[1] عقد المصنف المبحث الثاني لبحث دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالوضع، فلو لم تنهض الأدلة على ذلك، فهل يمكن إثبات دلالة الصيغة على الوجوب بالانصراف أو بالإطلاق؟ وهذا ما عقد له المبحث الرابع، وكان الأولى دمج المبحثين في مبحث واحد.

[2] أي: بالوضع، «ظاهرة» بالانصراف أو الإطلاق، «فيه» في الوجوب «هل لا تكون» أي: لا تكون غير ظاهرة، والمراد أن تكون ظاهرة في الوجوب؛ لأن نفي النفي إثبات.

أ- الانصراف إلى الوجوب

[3] القول بظهور الصيغة في الوجوب بالانصراف(1)،

وقد استدل له بثلاثة أدلة:

1- إن استعمال الصيغة في الوجوب أكثر من استعمالها في الندب، وكثرة الاستعمال توجب الانصراف.

وفيه: منع الصغرى، فإن استعمال الصيغة في الندب إن لم يكن أكثر، فلا أقل من كثرته، مما يمنع الانصراف إلى الوجوب.

2- إن الوجوب أكثر من الندب، وفرق هذا عن سابقه أن ذاك كان في أكثرية

ص: 311


1- هداية المسترشدين 1: 596.

بظهورها فيه، إما لغلبة الاستعمال فيه[1]، أو لغلبة وجوده، أو أكمليته.

والكلُّ كما ترى، ضرورة[2] أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ليس بأقل لو لم يكن بأكثر؛ وأما الأكملية[3] فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلاّ لشدة أنس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجهاً له[4]، ومجرد الأكملية لا يوجبه، كما لا يخفى.

نعم[5]، في ما كان الآمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على

-------------------------

استعمال الصيغة، وهذا في أكثرية الوجوب، سواء كان بالصيغة أم بالجملة الخبرية أم بدليل لبّي كالإجماع ونحوه.

وفيه: منع الصغرى أيضاً.

3- إن الوجوب أكمل من الندب، واللفظ ينصرف إلى الفرد الأكمل.

وفيه: منع الكبرى، فإن الأكملية لا توجب الانصراف، فهل قوله: (أعتق رقبة) ينصرف إلى الفرد الأكمل منها، وهو الرقبة العالمة العادلة... الخ؟ كلاّ.

[1] هذا الوجه الأول، «الاستعمال» استعمال الصيغة، «فيه» في الوجوب.

وقوله: (أو لغلبة وجوده) هو ثاني الوجوه.

وقوله: (أو أكمليته) هو ثالث الوجوه.

[2] ردّ الوجه الأول والثاني؛ وذلك بمنع الصغرى.

[3] ردّ الوجه الثالث؛ وذلك بمنع الكبرى.

[4] أي: اللفظ يصير مرآة للمعنى، بحيث يفنى المعنى في اللفظ، وقد مرّ تفصيله في بحث الوضع فراجع، «يصير» اللفظ، «له» للمعنى، «لا يوجبه» أي: لا يوجب شدة الأنس.

ب - دلالة الإطلاق على الوجوب

[5] بعد الإشكال على انصراف الصيغة إلى الوجوب، يذهب المصنف إلى دلالة إطلاقها على الوجوب.

ص: 312

الوجوب، فإن الندب كأنه[1] يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاقُ اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كافٍ في بيانه[2]، فافهم[3].

-------------------------

وحاصله: إن للندب مؤنة زائدة وهي تحديده بعدم المنع عن النقيض، وأما الوجوب فلا قيد زائد فيه؛ إذ هو مجرد الطلب من غير تحديده بحدّ، ومقتضى مقدمات الحكمة أن المولى الحكيم لو أراد القيد لوجب عليه أن يذكره، وحيث إنه لم يذكر القيد فلابدّ من عدم إرادته.

وبعبارة أخرى: إن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع عن الترك، ولكن (المنع عن الترك) هو بمعنى طلب عدم الترك، وهذا يساوق طلب الفعل، فحقيقة الوجوب هي الطلب فقط.

أما الندب فهو طلب الفعل مع عدم المنع عن الترك، و(عدم المنع عن الترك) ليس طلباً كي نقول: إنه نفس الطلب، بل هو قيد زائد على الطلب.

وعليه: فإطلاق الكلام يدل على عدم القيد الزائد - وهو عدم المنع عن الترك - فيكون الأمر طلباً فقط، وهذا يساوق الوجوب كما عرفت.

[1] يبدو أن المصنف غير مطمئن بهذه المقالة؛ لذا عبّر عنها ب- (كأنّه).

[2] أي: بيان الوجوب.

[3] لعله إشارة إلى ضعف هذا الوجه؛ وذلك لأن الوجوب والندب كلاهما بسيطان غير مركبين، أحدهما: المرتبة الشديدة من الطلب، والآخر: المرتبة الضعيفة منه، فلا قيد زائد في أيّ منهما.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا الوجه لا يرتبط بالإطلاق، بل هو وجه عقلي، قد ذهب إليه جمع من أن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ليست بالوضع ولا بالإطلاق، بل هي بدلالة العقل.

ص: 313

المبحث الخامس[1]: إنّ إطلاق الصيغة[2] هل يقتضي كون الوجوب توصلياً - فيجزئ إتيانه مطلقاً[3] ولو بدون قصد القربة - أو لا[4] - فلابد من الرجوع في ما شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل -؟

لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:

أحدها[5]: الوجوبُ التوصلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول

-------------------------

المبحث الخامس: في التوصلي والتعبدي

اشارة

[1] بعض الواجبات لابد من قصد القربة فيها كالصلاة والصوم، وبعضها نعلم بعدم لزوم قصد القربة فيها، كغسل الثوب عن النجاسة، وكنفقة الزوجة.

والكلام هو في ما لو شككنا في أن هذا الواجب توصلي أو تعبدي، فهل هناك أصل لفظي يدل على أحدهما؟ ولو فرض عدم وجود أصل لفظي فما هو مقتضى الأصل العملي؟

[2] أي: هل للصيغة إطلاق من هذه الجهة بأن يقال: إن اشتراط قصد القربة قيدٌ زائد، فلو كان مراداً للمولى كان لابد من بيانه، وحيث لم يذكره المولى فالإطلاق ينفيه، فيدل على التوصلية.

ثم إن الظاهر أن البحث عام للصيغة ولغيرها.

[3] أي: يكفي في الامتثال وتحقق غرض المولى، «إتيانه» أي: الواجب، وفسّر قوله: (مطلقاً) بقوله: (ولو بدون قصد القربة).

[4] أي: أو أن إطلاق الصيغة لا يقتضي التوصلية، «فلابد» أي: بعد عدم الإطلاق لابد لتعيين التوصلية أو التعبدية من الرجوع إلى الأصول العملية.

المقدمة الأولى: في معنى التوصلي والتعبدي

[5] في تعريف التوصلي والتعبدي، وحاصل كلامه:

إن التوصلي: هو ما يحصل الغرض منه بمجرد تحقق الفعل في الخارج، ولو من

ص: 314

الواجب، ويسقط[1] بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك[2]، بل لابد في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرباً به منه تعالى.

ثانيها[3]:

-------------------------

غير قصد القربة، وبتحقق الغرض يحصل الامتثال، فيسقط الأمر.

وأما التعبدي: فهو ما لا يحصل الغرض بمجرد تحقق الفعل في الخارج، بل لابد من إتيانه بقصد القربة.

ولم يعرّفه بأنه ما يشترط فيه قصد القربة، وما لا يشترط فيه قصدها؛ وذلك لما سيتضح في المقدمة الثانية.

ثم لا يخفى أن التوصلية والتعبدية يرتبطان بالمادة لا الهيئة، أي: يرتبطان بالفعل الواجب، لا بالوجوب، فالأولى التعبير بالواجب التوصلي والتعبدي بدلاً عن الوجوب التوصلي والتعبدي.

[1] أي: يسقط الواجب، «وجوده» أي: وجود الواجب - وهو الفعل - أي: يحصل الغرض فيسقط التكليف.

[2] أي: بمجرد وجود الفعل في الخارج، «سقوطه» أي: سقوط الواجب، وكذا ضمائر «غرضه» و«به».

المقدمة الثانية: في امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر
اشارة

[3] وحاصلها: هو استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة، بل دخالتها في العبادة إنما هو بحكم العقل؛ وذلك لأن معنى (قصد القربة) أحد أشياء: منها: قصد امتثال الأمر، ومنها: الإتيان بالفعل بداعي حسنه، ومنها: الإتيان به لكونه ذا مصلحة، ومنها: الإتيان به لله تعالى.

أما الأول: فيستحيل أخذه في متعلق الأمر، لمحذورين.

ص: 315

إن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال[1] والإتيان بالواجب بداعي أمره، كان[2] مما يعتبر في الطاعة عقلاً، لا مما أخذ[3] في نفس العبادة شرعاً. وذلك[4]

-------------------------

وأما الأخريات: فلا استحالة في أخذها في متعلقة، لكن من المقطوع به عدم اشتراطها في قصد القربة.

[1] أي: الإتيان بالعمل لأنّ المولى أمر به، لا لغرض آخر من رياء أو سمعة أو منفعة مالية ونحو ذلك من الأغراض، وقوله: (والإتيان به...) عطف تفسيري.

[2] «كان» جزاء الشرط في قوله: (إن كان بمعنى قصد...)، أي: اشتراط قصد القربة بهذا المعنى بحكم العقل، لا بحكم الشرع، «في الطاعة» أي: إطاعة المولى وتحقيق ما أراده، وبعبارة أخرى: هو دخيل في غرض المولى.

[3] شرطاً أو جزءاً، أي: ليس مأخوذاً بحكم الشرع في العبادة بنحو الشرط أو الجزء.

1- استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة

[4] هذا هو المحذور الأول، وحاصله: لزوم الدور؛ وذلك لأن التكليف متأخر رتبة عن متعلّقه الذي هو الموضوع؛ لأن التكليف عارض، مثلاً: وجوب الصلاة متأخر عن نفس الصلاة - التي هي الأجزاء والشرائط المعلومة - وبعد صدور التكليف يمكن الامتثال؛ لأن الامتثال فرع صدور الحكم من المولى؛ إذ لو لم يكن هناك حكم لا يكون امتثال قطعاً.

إذا اتضح ذلك قلنا: إن اشتراط قصد الامتثال في العبادات يستلزم تأخره وتقدمه، وهو واضح البطلان:

1- أما تقدمه، فلأنّ قصد امتثال الأمر شرط أو جزء في الصلاة، فيكون متعلقاً للأمر، فلابد أن يكون متقدماً.

2- وأما تأخره، فلأنه لا يمكن قصد امتثال الأمر إلاّ بعد صدور الأمر، فلابد من تأخره عن الأمر ليمكن قصد امتثاله.

ص: 316

لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى[1] إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر[2] مطلقاً - شرطاً أو شطرا - . فما لم تكن[3] نفس الصلاة[4] متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

-------------------------

فتحصّل: أن (قصد الامتثال) متقدم؛ لأنه متعلق للأمر، ومتأخر؛ لأن قصد الامتثال لا يكون إلاّ بعد صدور الأمر.

[1] أي: لا يمكن الإتيان به إلاّ بعد صدور الأمر، «ما لا يكاد...» وهو قصد الامتثال؛ إذ لو لم يوجد أمرٌ لما أمكن قصد امتثاله.

[2] «في» متعلق ب- (أخذ)، أي: لا يمكن أخذه في موضوع ذلك الحكم، (مطلقاً) فسّره بقوله : (شرطاً أو شطراً).

[3] هذا هو المحذور الثاني، وحاصله: عدم إمكان امتثال المكلّف لهذا الأمر؛ وذلك لأنه يجب على المكلّف الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط ليكون ممتثلاً لأمر المولى، فلو أخلّ بأحدها لم يكن ممتثلاً.

وفي ما نحن فيه لابد من قصد القربة بإتيان المتعلّق، وحيث إن قصد الامتثال مأخوذ في المتعلق، فيدور المكلّف بين أمرين:

1- إما أن يقصد هكذا: (الصلاة التي منها قصد القربة آتي بها بقصد القربة) وهذا واضح البطلان؛ لأنه قصد للقربة مرتين، ومن الواضح عدم لزوم التكرار في قصد القربة.

2- وإما أن يقصد هكذا: (الصلاة - بكل أجزائها وشرائطها سوى قصد القربة - آتي بها بقصد القربة)، فمعنى ذلك عدم إتيانه بالمتعلّق، بل أتى ببعض المتعلّق، فلابد من الحكم بعدم صحة صلاته، وهذا أيضاً واضح البطلان.

فتحصّل: أن أخذ قصد القربة في المتعلّق يلزم منه أحد أمرين واضحي البطلان.

[4] أي: ذاتها من غير أخذ قصد القربة في متعلقها، والمعنى أنه لو كان المتعلّق

ص: 317

وتوهم[1] إمكان[2] تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر، وإمكان الإتيان[3] بها بهذا الداعي - ضرورة[4] إمكان تصور الآمر لها مقيدةً، والتمكن من إتيانها كذلك

-------------------------

هو ذات الصلاة من غير أخذ قصد القربة فيه فحينئذٍ يمكن الامتثال، أما لو كان قصد القربة جزءاً من المتعلّق لم يمكن الإتيان بهذه الصلاة بقصد القربة.

2- إشكالان على الاستحالة

[1] غرض المتوهم هو الإشكال على كلا المحذورين:

أما الأول: - وهو الدور - فأشكل عليه: بأن السابق على الأمر ومتعلّقه هو (قصد الامتثال تصوّراً)، فكما أن المولى يتصوّر سائر الأجزاء والشرائط كذلك يتصور قصد الامتثال أيضاً، وأما المتأخر عن الأمر فهو (قصد الامتثال خارجاً).

مثلاً: المولى يلاحظ الركوع فيأمر به فيأتي به العبد خارجاً، فالركوع المتصوَّر متعلّق للأمر وسابق عليه، وأما الركوع الخارجي فهو متأخر عن الأمر، بل لا يمكن أن يكون الركوع الخارجي متعلقاً للأمر؛ لأن الغرض من الأمر هو إيجاد الشيء في الخارج، فلو كان الشيء موجوداً في الخارج كان طلبه لغواً؛ لأنه من طلب الحاصل.

وأما الثاني: - وهو عدم القدرة على الامتثال - فأشكل عليه: بأنه بعد صدور أمر المولى يمكن للعبد الإتيان بالعمل بقصد امتثال ذلك الأمر، فحين العمل العبد قادر، والمهم في صحة التكليف هو قدرة العبد حين العمل لا قبله.

والحاصل: إن العبد قبل أمر المولى لم يكن قادراً على الإتيان بالعمل بقصد الامتثال، لكن هذا لا يضرّ بصحة التكليف وإمكان امتثاله؛ وذلك لأن العبد قادر على ذلك حين العمل.

[2] خلافاً لما ذكر في المحذور الأول من عدم إمكانه للدور.

[3] خلافاً لما ذكر في المحذور الثاني من عدم القدرة عليه.

[4] هذا إشكال على المحذورين، «إمكان تصور الأمر...» بيان دفع المحذور

ص: 318

بعد تعلق الأمر بها،والمعتبر[1] من القدرة المعتبرة عقلاً في صحة الأمر[2] إنما هو في حال الامتثال لا حال الأمر - واضح الفساد[3]، ضرورة أنه[4] وإن كان تصورها كذلك بمكان من الإمكان، إلاّ أنه[5] لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، لعدم الأمر بها[6]، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الأمر،

-------------------------

الأول، «لها» للصلاة، «مقيّدة» بقصد امتثالها، «والتمكن من...» بيان دفع المحذور الثاني، «إتيانها» أي: الصلاة، «كذلك» أي: مقيّدة، «بها» بالصلاة.

[1] بيان لعدم ورود المحذور الثاني، وحاصله: صحيح أن العبد لا يقدر على الامتثال قبل تعلق الأمر، لكن بعد تعلق الأمر هو قادر عليه، والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة حين العمل.

[2] إذ لا يصح أمر غير القادر، بل هو قبيح، وإنما يصح ويحسن أمر القادر.

3- دفع الإشكال الثاني

[3] أما الإشكال على الأول فلم يتعرض المصنف للجواب عنه، وكأنّه سلَّم به.

وأما الإشكال على الثاني، فأجاب عنه، وحاصل الجواب: هو استمرار المحذور إلى حال الامتثال أيضاً؛ وذلك لأن متعلّق الأمر ليست هي ذات الصلاة، بل المتعلّق هو الصلاة مع قصد القربة، فلابد أن يأتي بهذا المتعلّق بقصد القربة، فيلزم إما اشتراط قصد القربة مرتين وهو واضح الفساد، وإما عدم إمكان الإتيان بالمتعلق، فإن ذات الصلاة ليست هي المتعلّق، فلو أتى بذات الصلاة قاصداً القربة لم يكن قد أتى بالمتعلّق.

[4] الضمير للشأن، «تصورها» أي: الصلاة، «كذلك» أي: مقيّدة بداعي الأمر، «بمكان من الإمكان» فلا يرد المحذور الأول.

[5] الضمير للشأن، أي: إلاّ أنه يبقى المحذور الثاني بحاله، «بها» بالصلاة.

[6] أي: ذات الصلاة غير مأمور بها، بل المأمور به إنما هو الصلاة المقيدة، «بها» بالصلاة.

ص: 319

ولا يكاد[1] يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

إن قلت[2]: نعم[3]، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأمورا بها بالأمر[4] بها مقيدة.

-------------------------

[1] بيان لعدم إمكان الامتثال «إلاّ إلى ما تعلق به» وهو الصلاة المقيدة، «غيره» وهو ذات الصلاة.

نعم، يمكن ذلك إذا قلنا باشتراط قصد القربة مرتين، مرّة في المتعلق ومرّة أخرى في الامتثال، وهو بديهي البطلان كما عرفت.

4- وجوه ثلاثة انتصارا للإشكال الثاني
الوجه الأول: الأمر الضمني بالشرط

[2] لما بيّن المصنف عدم إمكان إتيان المتعلّق بداعي أمره، أورد على ذلك ثلاثة إيرادات:

الوجه الأول: هو أن ذات الصلاة وإن لم تكن مأموراً بها بأمر استقلالي، لكنها مأمور بها بأمر ضمني، فإن المولى إذا أمر بشيء مقيّد فالمأمور به ينحل إلى شيئين: المقيّد، والقيد، وكذلك الأمر ينحل إلى أمرين.

مثلاً: يأمر المولى بالصلاة مقيدة بالوضوء، فالمأمور به ينحل إلى شيئين، وكذلك الأمر ينحل إلى أمرين.

وفي ما نحن فيه: المأمور به هو الصلاة المقيدة بقصد امتثال أمرها، فينحل إلى ذات وإلى قيد، فالأمر بها أيضاً ينحل إلى أمر بذات الصلاة، وأمر بالقيد الذي هو قصد امتثالها، فأمكن الإتيان بذات الصلاة بداعي أمرها!!

[3] أي: نسلّم عدم الأمر بذات الصلاة بأمر استقلالي، لكنها مأمور بها بأمر ضمني، «أيضاً» كالصلاة المقيّدة، «مأمورة بها» أي: بأمر ضمني.

[4] أي: سبب الأمر الضمني لذات الصلاة هو الأمر بالصلاة المقيّدة.

ص: 320

قلت[1]: كلا[2]، لأن ذات المقيد لا تكون مأموراً بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً، فإنه[3] ليس إلاّ وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة[4].

-------------------------

[1] جواب عن هذا الوجه، وحاصله: إن الأمر لا ينحل إلى أمرين - أحدهما استقلالي والآخر ضمني -؛ وذلك لأن الأجزاء قد تكون خارجية، وقد تكون تحليلية... .

أما الأجزاء الخارجية - كالركوع والسجود - فإن تركيبها انضمامي، بمعنى أنها وجودات متعددة، فالأمر بالمركب أمر بها؛ لأنها حينما تنضم تشكّل المجموع المسمى بالصلاة، فيمكن القول: إنّ الأمر بالصلاة أمرٌ بكل واحد من هذه الأجزاء ضمناً.

وأما الأجزاء التحليلية، فإنها لا وجود لها خارجاً، بل بالتحليل العقلي يتجزأ الشيء إليها، مثلاً قولنا: (رقبة مؤمنة) ليس هناك وجودان أحدهما ذات الرقبة والآخر المؤمنة، بحيث ينحل الأمر إلى أمرين: ذات الرقبة والمؤمنة، بحيث لو أعتق رقبة غير مؤمنة قلنا: إنها كانت جزء المأمور به.

وما نحن فيه - قصد الامتثال - قيدٌ وهو جزء بالتحليل العقلي لا بالوجود الخارجي، فلا ينحل الأمر إلى أمرين أحدهما بالصلاة والآخر بقصد الامتثال.

[2] أي: لا يمكن أن تتصف (ذات الصلاة) بالوجوب، «مأمور بها» أي: بالوجوب الضمني.

[3] أي: فإن المأمور به، «وجود واحد» حيث إن التركيب ليس انضمامياً حتى تكون وجودات متعددة بتعدد الأجزاء، كي يقال بوجوب كل وجود بنحو الوجوب الانضمامي.

[4] حيث توهم البعض أن الأجزاء مقدمة للكل، فلها وجوب مقدميّ، وسيأتي الإشكال فيه.

ص: 321

إن قلت[1]: نعم[2]، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً[3]، وأما إذا أخذ شطراً[4] فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوبُ به مع هذا القصد يكون متعلقاً للوجوب[5]، إذ المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلقه[6] بكلٍّ بعين تعلقه بالكلّ، ويصح أن يؤتى به[7] بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة[8] الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت[9]:

-------------------------

الوجه الثاني: الأمر الضمني بالجزء

[1] حاصله: إن الإشكال يرد لو أخذنا قصد القربة شرطاً، أما لو أخذناه جزءاً فلا يرد الإشكال؛ وذلك لأن الأمر بالكل ينحل إلى أوامر بالأجزاء، فكل جزء من أجزاء الصلاة مأمور به بأمر ضمني.

[2] أي: نسلّم عدم انحلال الأمر إلى أمرين، «لكنه» أي: لكن عدم الانحلال.

[3] فيكون التقيّد به جزءاً تحليلياً عقلياً، فيرد الإشكال.

[4] أي: جزءاً، «نفس الفعل» أي: سائر أجزاء الصلاة من الركوع والسجود... الخ، وبعبارة أخرى: ذات الصلاة من غير قصد القربة.

[5] أي: الوجوب الضمني، «إذ...» دليل تعلّق الوجوب الضمني بالأجزاء، «بالأسر» أي: كلّها.

[6] تعلّق الوجوب «بكلٍّ» أي: بكل جزءٍ جزءٍ «بالكل» أي: بالمركب.

[7] أي: بكل جزءٍ، «ذلك الوجوب» المتعلّق بالكل.

[8] مثلاً: يأتي بالركوع بداعي أمر المولى بالصلاة، فإن وجوب الكل يصحِّح الإتيان بالأجزاء بداعي ذلك الوجوب.

[9] يُجيب المصنف عن الوجه الثاني بجوابين - صغروي وكبروي - :

الأول: الجواب الصغروي، وحاصله: عدم إمكان جزئية قصد القربة؛ وذلك

ص: 322

مع امتناع اعتباره كذلك[1]، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر[2] غير اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة[3] اختيارياً إلاّ أن إرادته[4] - حيث لا تكون بإرادة أخرى

-------------------------

لأنه لابد في الأجزاء من كونها اختيارية، فلا يصح كون بعض أجزاء الواجب غير اختيارية، و(القصد) هو(إرادة الفعل)، والإرادة غير اختيارية؛ لأنها لو كانت اختيارية فتكون اختياريّتها بإرادة أخرى، فننقل الكلام إلى تلك الإرادة الأخرى، فحيث إنها اختيارية فلابد لها من إرادة ثالثة، وهكذا، فيتسلسل، فإذن (قصد القربة) أمر غير اختياري فلا يصح كونه جزءاً من الواجب!!

[1] أي: اعتبار قصد الامتثال، «كذلك» جزءاً، «فإنه» أي: فإن هذا الاعتبار، وهذا دليل عدم جزئيته.

[2] أي: بشيء غير اختياري - وهو القصد - .

[3] أي: كون الاعمال اختيارية إنما هو بسبب أن الإنسان يريدها أو لا يريدها، فإن أرادها تحققت، وإن لم يردها لم تتحقق، فالفعل يكون اختيارياً بسبب الإرادة، لكن الإرادة ليست اختيارية لعدم تعلق إرادة أخرى بها.

وبعبارة أخرى: اختيارية كل شيء بالإرادة، ونفس الإرادة لا تكون اختيارية، وإلاّ لاحتاجت إلى إرادة أخرى، فيتسلسل.

[4] أي: نفس الإرادة المتعلّقة بالفعل، «ليست» خبر (أنّ).

أقول: في كلام المصنف مواقع للنظر تعرف بمراجعة المفصلات، ونشير مختصراً إلى بعضها:

منها: إن هذا الوجه - لوصح - فكما يمنع عن جزئية قصد القربة، كذلك يمنع عن شرطيتها؛ لعدم تعلق الوجوب بالشرط غير المقدور.

ومنها: إن الإرادة اختيارية، لكن لا بإرادة أخرى ليلزم منه التسلسل، بل بنفسها، فإن اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بنفسها.

ص: 323

وإلاّ لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى؛ إنما[1] يصح الإتيانُ بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن[2] إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد[3] يمكن الإتيانُ بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

-------------------------

[1] الجواب الثاني - وهو الجواب الكبروي - وحاصله: إن تعلّق الوجوب بالأجزاء إنما هو لو كانت في ضمن الكل، بأن يأتي بالكل فيكون لكل جزء منه وجوب ضمني، لكن لو لم يأت بالكل فحينئذ لا وجوب ضمني لباقي الأجزاء، مثلاً: من يأتي بالصلاة كاملة فيقال: إن ركوعه كان واجباً ضمناً، لكن من أتى بها ناقصة فحيث لم يتعلق الوجوب بالناقص فلا يتعلق بأجزائه، فمن صلّى الظهر ثلاث ركعات مثلاً، لا يكون ركوعه واجباً بالوجوب الضمني، كما هو واضح.

وفي ما نحن فيه: إذا كان متعلّق الوجوب هو (ذات الصلاة مع قصد القربة)، فذات الصلاة لوحدها لا أمر لها، لا أمراً استقلالياً ولا أمراً ضمنياً، فعاد المحذور.

[2] «في» متعلقة ب- (الإتيان)، «وجوبه» وجوب الواجب - الذي هو الكل - ، «إتيانه» أي: إتيان الواجب، «بهذا الداعي» أي: قصد امتثال الكل.

[3] أي: فيرجع المحذور السابق، وهو أن يأتي الإنسان بالصلاة - المركبة من الأجزاء مع قصد القربة - بقصد القربة، بأن يكرّر قصد القربة مرتين، أو يأتي بجزء المتعلق بقصد القربة، فرجع الأشكال كما مرّ تفصيله.

وقد تفسر العبارة: بأن الأمر لا يدعو إلى داعوية نفسه؛ وذلك لأن الأمر يدعو إلى الإتيان بالمتعلّق، فإذا كان (قصد الامتثال) جزءاً من المتعلّق كان معناه أن الأمر يدعو إلى قصد الامتثال؛ وهذا محال، فإن الأمر بالصلاة يدعو إلى إيجاد الصلاة، ولا يدعو إلى قصد امتثالها، فراجع المفصّلات.

ص: 324

إن قلت[1]: نعم[2]، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمرٍ واحد، وأما إذا كان بأمرين[3] تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلاً كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك[4] في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت[5]: - مضافاً إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد،

-------------------------

الوجه الثالث: رفع المحذور بالتزام أمرين

[1] الوجه الثالث في تصحيح أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر هو: التوسل إلى ذلك بأمرين، فالأمر الأول يتعلق بذات الفعل، والأمر الثاني يتعلق بذاته مع قصد امتثال الأمر الأول، فحينئذٍ لا يلزم أي محذور من المحاذير المتقدمة، لا الدور؛ وذلك لفرض تعدد الأمر، فأحدهما المقدّم والآخر المؤخّر، ولا عدم إمكان الإمتثال؛ وذلك لأنه بعد الأمر الثاني يتمكن من الإتيان بالصلاة بداعي أمرها الأول، أي: بقصد امتثال الأمر الأول.

[2] أي: نسلم المحذورات في أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر، لكنها إنما ترد لو كان الأمر واحداً، «اعتباره» اعتبار قصد الامتثال، «المأمور به» أي: متعلّق الأمر.

[3] بأن يقال: إن الأوامر العبادية تعلّقت بذات الأجزاء والشرائط، ثم يستفاد وجوب قصد القربة من الإجماع أو الآيات والروايات.

[4] أي: بتعدد الأمر، «الوصلة» أي: الوصول، «تمام غرضه» وهو الإتيان بالأجزاء والشرائط مع قصد القربة، و«مَنَعة» مصدر بمعنى الفاعل، أي: بلا مانع.

[5] أي: يرد على تعدد الأمر إشكالان:

الإشكال الأول: إننا نعلم جزماً بأنه ليس في العبادات أمران: أحدهما تعلق بذات الفعل، والآخر تعلّق بالفعل مع قصد الامتثال. فلا فرق بين التعبديات والتوصليات من هذه الجهة، فكما لا يوجد في التوصليات إلاّ أمر واحد، كذلك في التعبديات.

ص: 325

كغيرها[1] من الواجبات والمستحبات، غاية الأمر يدور مدار[2] الامتثال وجوداً وعدماً فيها المثوبات والعقوبات[3]، بخلاف ما عداها[4]، فيدور فيه خصوص

-------------------------

وإنما الفرق بينهما، أنه في التوصليات يحصل الامتثال بالإتيان بالعمل مطلقاً - سواء قصد الامتثال أم لم يقصد - لكن الثواب يتوقف على قصد الامتثال، فإن أتى بالعمل بقصد الامتثال اُثيب، وإن أتى به لا بقصد الامتثال حصل الامتثال ولكن لا ثواب.

وأما في التعبديات، فلا يحصل الامتثال إلاّ بقصد الامتثال، فإن قَصَده حصل الامتثال واُثيب، وإن لم يقصده لم يحصل الامتثال، بل ويعاقب لعدم إتيانه بالمأمور به - إن كانت عبادة واجبة - .

وبعبارة أخرى: في التوصليات يدور الثواب مدار قصد الامتثال، ولا يدور العقاب مدار عدم قصده، بل حصول الامتثال يتوقف على الإتيان بالفعل فقط، وأما في التعبديات فيدور الثواب مدار قصد الامتثال، ويدور العقاب مدار عدم قصد الامتثال - في الواجبات - فلا يمكن امتثاله إلاّ بقصد الامتثال.

[1] كغير العبادات، أي: التوصليات، «غاية الأمر» أي: في الفرق بين التوصليات والتعبديات.

[2] أي: في العبادات يدور الثواب مدار الامتثال بأن يقصد الامتثال، كما يدور العقاب مدار عدم الامتثال، و«مدار» مفعول (يدور)، و«المثوبات والعقوبات» فاعل (يدور)، «فيها» في العبادات.

[3] هذا في خصوص العبادة الواجبة، دون المستحبة حيث لا عقاب فيها.

[4] أي: ما عدا العبادات، وهي التوصليات، «فيه» في ما عداها، أي: في التوصليات، والمعنى أن الثواب يدور مدار الامتثال - بأن يأتي بالواجب بقصد الامتثال - وأما سقوط الأمر فلا يدور مدار الامتثال، بل لو أتى بالعمل ولو رياءً

ص: 326

المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة[1] ومطلق الموافقة - إنّ الأمر الأول[2]

-------------------------

أو لغرض آخر سقط الأمر، كمن يغسل الثوب النجس لا بقصد امتثال أمر طهارة لباس المصلي، فهذا لم يمتثل الأمر - حيث لم يقصده - ولكن يسقط الأمر بوجوب الغَسل.

[1] أي: عدم الإتيان بالفعل، وقوله: (ومطلق الموافقة) عطف تفسيري.

[2] حاصله: إن الأمر الأول المتعلق بذات الصلاة - مثلاً - حيث لم يشترط فيه قصد القربة يكون توصلياً، والتوصلي يسقط بالإتيان به بأيّ نحو كان.

فنقول: لو أتى بذات الصلاة من غير قصد القربة فلابد من سقوط الأمر الأول - لأنه كان توصلياً - وحينئذٍ لا يبقى مجال للأمر الثاني؛ وذلك لانتفاء موضوعه، حيث إن الأمر الثاني تعلّق (بذات الصلاة مع قصد امتثال الأمر الأول)، لكن الأمر الأول قد سقط، فلا يمكن الإتيان بالصلاة بداعي أمرها الأول - لعدم بقاء الأمر الأول - .

وأما لو قلتم: إنّ الأمر الأول لا يسقط بمجرد الإتيان به، قلنا: إنّ عدم سقوطه إنما هو لأجل عدم تحقق غرض المولى؛ إذ لا غرض له بذات الصلاة، بل غرضه متعلق (بذاتها مع قصد القربة)، فإذا كان كذلك فلا داعى لتطويل المسافة، بل من الأول نقول: ان هناك أمراً واحداً لكن حيث لا يتحقق الغرض إلاّ بقصد القربة فلذا يحكم العقل بلزوم هذا القصد.

وبعبارة أخرى: هل يسقط الأمر الأول بمجرد الإتيان به أم لا يسقط؟

والأول: يلزم منه سقوط الأمر الثاني، فالنتيجة هي تحقق العبادة بدون قصد القربة، وهذا واضح البطلان.

والثاني: يلزم منه كون الأمر الأول عبادياً، ودخل قصد القربة فيه يكون بحكم العقل، وحيث اضطررتم إلى اشتراط قصد القربة بحكم العقل فلماذا تطويل المسافة عبر الالتزام بأمرين؟ بل قولوا: إنّ هناك أمراً واحداً واشتراط قصد القربة فيه بحكم العقل.

ص: 327

إن كان يسقط بمجرد موافقته[1] ولو لم يقصد به الامتثال - كما هو[2] قضية الأمر الثاني - فلا يبقى مجال[3] لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل[4] الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة؛ وإن لم يكد يسقط[5] بذلك، فلا يكاد يكون له وجهٌ إلاّ عدم حُصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة[6] سقوطه

-------------------------

[1] أي: موافقة الأمر الأول، بمعنى أن الأمر الأول كان توصلياً لا يحتاج إلى قصد القربة، «به» أي: بفعله التي أتى به.

[2] أي: كما أن السقوط إنما يكون بقصد الامتثال في الأمر الثاني؛ لأن المفروض في الأمر الثاني هو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الأمر الأول.

[3] لما عرفت من سقوط الأمر الأول، فكيف يأتي بالأمر الثاني الذي تعلق بالإتيان بالفعل بقصد الأمر الأول؟

[4] أي: حيث إن المولى يريد إيجاد العبد للعمل بقصد القربة لا يمكنه التوسل بهذه الطريقة للوصول إلى غرضه؛ لأن الأمر الأول لا يشترط فيه قصد القربة، والأمر الثاني يسقط لو أتى بالأول من غير قصد القربة، فلم يتحقق غرض المولى من إيجاد العمل بقصد القربة.

[5] أي: إذا كان الأمر الأول يشترط فيه قصد القربة فلا يسقط بالإتيان به مجرداً عن قصدها، «بذلك» أي: بمجرد الموافقة، «له» لعدم السقوط، «غرضه» غرض الآمر، «بذلك» بمجرد الموافقة.

[6] أي: إن سبب صدور الأمر إنما هو لغرض المولى، فإذا لم يتحقق الغرض يستحيل سقوط الأمر، ولو سقط الأمر من غير تحقق غرض المولى كان معناه أن ذلك الأمر لم يكن له غرض، وهذا عبث، وهو مستحيل على المولى جلّ وعلا، «سقوطه» سقوط الأمر، «حصوله» حصول الغرض، و«إلاّ» أي: وإن سقط الأمر مع عدم حصول الغرض، «لحدوثه» أي: لحدوث الأمر.

ص: 328

مع عدم حصوله، وإلاّ لما كان موجباً لحدوثه، وعليه[1] فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل[2] - مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر - بوجوب الموافقة على نحوٍ يحصل به غرضه فيسقط أمره.

هذا كله[3] إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأما إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة، فاعتباره[4] في متعلق الأمر[5]

-------------------------

[1] أي: لو قلنا بعدم سقوط الأمر الأول بالإتيان به؛ وذلك لعدم تحقق غرض المولى.

[2] أي: عدم سقوط الأمر الأول إنما هو لحكم العقل بعدم تحقق الغرض، فلماذا التطويل والتمسك بأمرين، بل من أول المطاف نقول: إنّ هناك أمراً واحداً، وإن العقل يحكم بعدم سقوطه إلاّ لو أتى بالعمل بقصد القربة، «بوجوب» متعلق ب- (استقلال) أي: يستقل العقل بوجوب... الخ، «يحصل به» أي: يحصل بذلك النحو، «غرضه» أي: غرض الآمر.

سائر معاني قصد القربة

[3] قال المصنف في أول المقدمة الثانية: (إن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال... الخ)، ثمَّ بيّن الإشكال على أخذه في العبادات شرعاً، وإنما هو شرط بحكم العقل، وبعد الانتهاء من ذلك يذكر المصنّف أن قصد القربة بسائر معانيه أيضاً لا يدفع المحذور، فلا يصح أخذها شرعاً في العبادة.

[4] أي: اعتبار قصد القربة بهذه المعاني.

[5] حاصله: إن سائر المعاني لقصد القربة: إما تشترط على نحو التعيين بأن لا يجوز (قصد الامتثال) في القربة، وإما تشترط بنحو التخيير بين تلك المعاني وبين قصد الامتثال، وكلاهما باطل.

ص: 329

وإن كان بمكان من الإمكان[1] إلاّ أنه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية[2] الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت[3] عدم إمكان أخذه فيه بداهة.

تأمل في ما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع في ما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام.

ثالثها[4]: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في

-------------------------

أما الأول: فلأنّه لم يذهب فقيه إلى عدم كفاية (قصد الامتثال)، بل أطبق الجميع على أن المكلّف لو أتى بالعبادة بقصد الامتثال صحّت عبادته.

وأما الثاني: فلا يدفع المحذور؛ إذ لا فرق - بناءً على الاستحالة - بين أخذ الشيء على نحو التعيين أو على نحو التخيير؛ لأنه يستحيل التخيير بين الممكن والمستحيل، فإذا استحال أخذ (قصد الامتثال) في العبادة شرعاً، فلا فرق في ذلك بين تعيينه أو التخيير بينه وبين سائر المعاني.

[1] لعدم لزوم المحاذير المذكورة، «فيه» في متعلّق الأمر.

[2] هذا ردّ التعيين، أي: لا إشكال في تحقق قصد القربة ب- (قصد الامتثال).

[3] هذا ردّ للتخيير، «أخذه» أي: أخذ قصد الامتثال، «فيه» في متعلق الأمر، «بداهة» للزوم الدور وعدم إمكان الامتثال، كما مرّ مفصلاً.

المقدمة الثالثة: امتناع الإطلاق لو امتنع التقييد
اشارة

[4] حاصل هذه المقدمة: إنه لو امتنع الإطلاق امتنع التقييد؛ لأن الإطلاق والتقييد على نحو العدم والملكة، وعليه: فلا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات التوصلية.

بيان ذلك: إن النسبة بين المتخالفين قد تكون عدم الملكة، بمعنى أنهما يحتاجان إلى المحل القابل، فلا يصح (العمى) إلاّ على المحل القابل للبصر؛ فلذا لا يطلق العمى على الجدار مثلاً.

ص: 330

المأمور به[1] أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه[2] - ولو كان مسوقاً في مقام البيان - على عدم اعتباره[3] ،كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به[4]

-------------------------

والإطلاق هو عدم القيد في المحلّ القابل، ومعنى الإطلاق هو شمول الحكم لجميع الأفراد، فلو قال: (أكرم العالم) ولم يقيّده بالعادل، فالإطلاق يقتضي أن حكم الإكرام شامل لكل أفراد العلماء حتى غير العدول منهم.

ولكن لو امتنع شمول الحكم لفرد من الأفراد فلا يعقل الإطلاق فيه؛ إذ معنى الإطلاق هو شمول الحكم لذلك الفرد ولغيره من الأفراد.

وحيث قرّرنا في المقدمة الثانية أن (قصد الامتثال) لا يمكن أخذه في متعلق الأمر، اتضح أن متعلق الأمر ليس له إطلاق أيضاً من جهة قصد الامتثال؛ لأنه لو امتنع التقييد امتنع الإطلاق.

[1] أي: في متعلّق الأمر، «أصلاً» لا بنحو الشرط، ولا بنحو الجزء.

[2] أي: بإطلاق المأمور به، والمراد الإطلاق اللفظي.

[3] أي: الاستدلال على عدم اعتبار قصد الامتثال، والحاصل: إ نّه لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار قصد القربة، كما نتمسك بالإطلاق لنفي كل جزء مشكوك جزئيته، وكذا نفي كل شرط مشكوك شرطيته. وإنما يكون التمسك في ما لو أمكن الإطلاق، وكان المولى في مقام البيان بأن تمت مقدمات الحكمة، ولم يكن في مقام الإهمال أو الإجمال.

[4] أي: بالإطلاق، «في ما» في الأجزاء أو الشرائط التي...، «اعتباره» مرجع الضمير إلى الموصول، «فيه» في المأمور به، أي: المتعلَّق.

إلى هنا تنتهي المقدمات الثلاث، وبعد ذلك يبدأ المصنف ببيان أصل المطلب، وهو أنه لا يوجد أصل لفظي أو عملي يثبت التوصلية أو التعبدية في ما لو شككنا في كون المأمور به عبادياً أو توصلياً، كالعتق.

ص: 331

إلاّ في ما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك[1] أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها[2]، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه[3]

-------------------------

فالكلام في مقامات ثلاثة: الأصل اللفظي، والإطلاق المقامي، والأصل العملي.

المقام الأول: في الأصل اللفظي

[1] أي: بما مهّدناه في المقدمة الثانية والثالثة اتضح أنه لا يوجد أصل لفظي - أي: إطلاق مستفاد من اللفظ - لإثبات التوصلية، بأن يقال: إن المولى كان في مقام البيان، فلم يُبيِّن جزئية أو شرطية قصد القربة، وعدم بيانه دليل على عدم أخذه قصد القربة في متعلّق الأمر؛ وذلك لاستحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر - كما اتضح في المقدمة الثانية - وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق - كما اتضح في المقدمة الثالثة - .

[2] فإن لصيغة (افعل) هيئة ومادة، أما الهيئة فهي وزنها الصرفي، وهو يدل على الوجوب، وأما المادة فهي الفعل الذي تعلق به الوجوب كالصلاة.

ومن المعلوم أن شرط قصد القربة لا يرتبط بمفاد الهيئة - الذي هو الوجوب - بأن يكون كالاستطاعة إن حصلت وجب الحج، وإن لم تحصل لم يجب الحج، بل قصد القربة يرتبط بالصلاة - التي هي المادة - أي: الصلاة التي تعلّق بها الوجوب مركبّة من كذا وكذا وقصد القربة.

[3] أي: ما ذكرناه من عدم إمكان التمسك بالإطلاق لا يختص بقصد القربة، بل هو يجري في جميع القيود المتأخرة عن الأمر؛ لوجود جميع المحاذير المتقدمة في هذه القيود أيضاً، مثلاً: هل يشترط في العبادات (قصد الوجه)؟ أي: تعيين الوجوب والاستحباب، بأن يقصد الإنسان في صلاة الظهر مثلاً: (آتي بها لوجوبها)، ويقصد في النافلة: (آتي بها لاستحبابها).

ص: 332

مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق[1] المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها[2].

نعم[3]، إذا كان الآمر في مقامٍ بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه

-------------------------

ومن المعلوم أن قصد الوجوب أو الاستحباب متأخر عن الأمر؛ إذ لو لا الأمر لم يكن وجوب واستحباب، فحكمه كحكم قصد القربة في عدم إمكان أخذه في متعلق الأمر. فلا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي قصد الوجه أيضاً.

[1] «من» متعلق ب- (لاستظهار)، ثم لا يخفى أن (قصد الوجه) أخص من (قصد الامتثال)، فقد يقصد الإنسان امتثال أمر المولى وهو لا يدري أنه على نحو الوجوب أم على نحو الاستحباب، وقد يقصد امتثاله وهو يعلم على أيِّ نحوٍ هو فيقصد ذلك النحو. و(قصد الوجه) خاص بالعبادة؛ ولذا قيّده المصنف بقوله: (في العبادة).

[2] «اعتباره» اعتبار مثل قصد الوجه، «فيها» في العبادة.

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي

[3] أي: مع عدم إمكان الإطلاق اللفظي يمكن الاستناد إلى الإطلاق المقامي لإثبات عدم اشتراط قصد القربة في المأمور به، والفرق بين الإطلاقين هو أن...

1- الإطلاق اللفظي يكون باستفادة الشمول من اللفظ، كأن يقول: (أعتق رقبة) ولم يقيّدها بالمؤمنة، فللرقبة شمول، وحيث كان المولى في مقام البيان ولم يذكر القيد علمنا بأنه لا يريد القيد.

2- والإطلاق المقامي يكون باستفادة الشمول من القرائن الحالية، بأن يكون المولى بصدد بيان كل ما يرتبط بغرضه، وكان الناس يغفلون عن دخالة قيد من القيود في الغرض، فلو لم يبيّن المولى اشتراط ذلك القيد علمنا بعدم اشتراطه؛ إذ لو كان شرطاً لوجب على المولى بيانه؛ لأن عدم بيانه إخلال بالغرض - حيث إن المفروض غفلة عامة الناس عنه - .

ص: 333

وإن لم يكن[1] له دخل في متعلق أمره، ومعه[2] سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله[3]، كان هذا قرينةً[4] على عدم دخله في غرضه، وإلاّ[5] لكان سكوته نقضاً له وخلاف الحكمة.

فلابد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام[6] من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل، ويستقل به العقل.

فاعلم[7]:

-------------------------

وفي ما نحن فيه: لو أمر المولى بشيء، وكان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه، ولم يُبيّن اشتراط قصد القربة، اكتشفنا عدم اشتراطها؛ لأنها لو كانت دخيلة في الغرض كان عدم بيانها إخلالاً به.

[1] أي: والمفروض عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر.

[2] أي: مع كونه في صدد بيان تمام ما له دخل في الغرض.

[3] أي: في حصول الغرض، وقوله: (كان هذا...) جزاء قوله: (إذا كان الآمر...)، «هذا» أي: سكوته.

[4] أي: قرينة حالية بحكم العقل: بأن المولى حكيم ولا يمكن أن يُخِلّ بغرضه، «دخله» دخل قصد الامتثال، «غرضه» غرض الآمر.

[5] أي: وإن كان قصد الامتثال دخيلاً في الغرض ومع ذلك سكت، «له» للغرض.

المقام الثالث: الأصل العملي
أولاً: الأصل العقلي بالاشتغال

[6] أي: مقام كون الآمر بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه.

[7] حاصل الكلام: إن الشك قد يكون في (أصل التكليف) فتجري البراءة العقلية؛ لقبح العقاب بلا بيان، وقد يكون الشك في (المكلّف به) بأن يعلم التكليف

ص: 334

-------------------------

لكن يشك في امتثاله فيجري الاشتغال العقلي، ويجب الاحتياط عقلاً؛ لأنه قد بيّن المولى، ولا يقبح العقاب حينئذٍ، مثال الأول: لو شك في وجوب غسل الجمعة، ومثال الثاني: لو شك في أداء الدين بعد علمه بأنه مديون.

ثم قد يكون الشك في الأقل والأكثر، بمعنى أنه يعلم بتكليفه بالأقل ويشك في تكليفه بالأكثر، فهنا صورتان:

الأولى: الأقل والأكثر الاستقلاليين، بأن يكون كل تكليف مستقل، وامتثال كل واحد منهما لا يرتبط بامتثال الآخر، بمعنى أنه يمكن امتثال كل واحد على حدة، مثلاً: لو شك في أنه مديون بدينار أو بدينارين، فلو دفع ديناراً فقد أدى التكليف بدفعه، وحينئذٍ يكون التكليف بالأقل معلوماً، وأما التكليف بالأكثر فهو مشكوك، فيكون من مصاديق الشك في أصل التكليف، فتجري البراءة.

الثانية: الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو في مورد الشك في الأجزاء والشرائط، بأن يكون هناك تكليف واحد تعلّق بكل الأجزاء والشرائط، ثم شككنا في جزئية شيء أو شرطيته، وهنا لا يكون امتثالات متعددة بل امتثال واحد، كما لو شككنا في وجوب القنوت في الصلاة، فلو كان القنوت جزءاً وأتى المكلّف بكل الأجزاء والشرائط ولم يأت بالقنوت لم يكن ممتثلاً أصلاً.

وفي الأقل والأكثر الارتباطيين قد اختلف الأصوليون(1)

بين جريان البراءة أو جريان الاشتغال، وسيأتي تفصيله في بحث الاحتياط.

إذا اتضح ذلك نقول: إن الشك في شرطية قصد القربة في واجب من الواجبات هو مجرى الاشتغال، فيجب الاحتياط، حتى لو قلنا بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين؛ وذلك لخصوصية في (قصد القربة) وأمثالها. وتلك الخصوصية هي:

ص: 335


1- بدائع الأفكار: 141؛ إيضاح كفاية الأصول 4: 253.

أنه لا مجال هاهنا[1] إلاّ لأصالة الاشتغال - ولو قيل بأصالة البراءة في ما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين - . وذلك لأن الشك[2] هاهنا[3] في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل[4] بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب[5]

-------------------------

علمنا بعدم وجوب قصد القربة بالوجوب الشرعي، بل اشتراطها بحكم العقل؛ لدخالتها في الغرض - في العبادات - فلا يوجد شك في التكليف الشرعي كي نجري أصالة البراءة عن الأكثر، بل نعلم بعدم اشتراطها شرعاً، ومع العلم لا معنى لإجراء الأصول العملية.

وحينئذٍ: فلا أصل إلاّ أصالة الاشتغال؛ لأنا نعلم باشتغال الذمة بالعتق مثلاً، ولا نعلم هل تبرأ ذمتنا من هذا التكليف المعلوم بالعتق من غير قصد القربة، أم تبرأ بالعتق مع قصد القربة؟ وحيث كان التكليف معلوماً والشك في (المكلّف به) فلابد من الاحتياط بإتيان العتق بقصد القربة.

وهكذا الشك في كل شرط لا يمكن أخذه في متعلّق التكليف، كقصد الوجه والتمييز.

[1] أي: في اعتبار قصد القربة، «لأصالة الاشتغال» فيجب الاحتياط بإتيان العمل بقصد القربة، فيكون نتيجة الأصل العباديّة لا التوصلية.

[2] أي: سبب جريان أصالة الاشتغال.

[3] في كل مورد شك في اشتراط قصد القربة، كمن وجب عليه العتق - لكفارةٍ أو نذرٍ - فقد اشتغلت ذمته بتكليف معلوم، ويشك في أن العتق بلا قصد القربة يوجب فراغ ذمته من ذلك التكليف أم أن التكليف يبقى.

[4] لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وهذا حكم عقلي قطعي، «عنها» أي: عن عهدة التكليف.

[5] أي: فلا تجري البراءة العقلية، المستندة إلى قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛

ص: 336

مع الشك وعدم إحراز الخروج[1] عقاباً بلا بيان والمؤاخذة[2] عليه بلا برهان، ضرورة[3] أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتفق[4] عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة. وهكذا الحال[5] في كل ما شك دخله في الطاعة[6] والخروج به عن العهدة مما لا يمكن اعتباره[7]

-------------------------

لأن معلومية التكليف ووجوب الخروج القطعي عن عهدته هو بيان، ولا يقبح العقاب مع البيان.

[1] أي: مع الشك في اشتراط قصد القربة، وعدم معلومية الخروج عن عهدة التكليف لو أتى بالأقل.

[2] عطف تفسيري على (العقاب...)؛ وذلك لأن المصحح للعقوبة هو البيان، وذلك البيان موجود هاهنا.

[3] دليل عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، «أنه» للشأن، «وعدم...» عطف على المخالفة، أي: وتصح المؤاخذة على عدم الخروج... الخ.

[4] أي: لو كان قصد القربة شرطاً واقعاً فلم يأت بالعمل بقصد القربة، فحينئذٍ لم يُؤدِّ التكليف، وصحّت مؤاخذته؛ لأنه أخلّ بالتكليف من غير عذر.

أما لو لم تكن قصد القربة شرطاً واقعاً فإنه قد أدّى التكليف، فلا تصح مؤاخذته على ترك التكليف. نعم، هو قد تجرّى، وقد يقال بصحة مؤاخذته على التجري، «عنها» عن عهدة التكليف، «بمجرد الموافقة» أي: بمجرد الإتيان بالعمل، لفرض كونه توصلياً واقعاً.

[5] من جريان الاشتغال ووجوب الاحتياط في كل شرط لم يمكن أخذه في (متعلق الأمر) شرعاً.

[6] أي: في امتثال أمر المولى، وضميرا «دخله» و«به» للموصول.

[7] أي: من شرط لا يمكن اعتبار ذلك الشرط في متعلّق الأمر.

ص: 337

في المأمور به، كالوجه والتمييز[1].

نعم[2]، يمكن أن يقال: إن كل ما ربما يحتمل بدواً[3] دخله في الامتثال أمراً كان مما يغفل عنه غالباً العامة، كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعاً[4]، وإلاّ لأخل بما هو همّه وغرضه. أما إذا لم ينصب[5] دلالة على دخله كشف عن

-------------------------

[1] «قصد الوجه» هو الإتيان بالعبادة بقصد وجوبها أو استحبابها، و«التمييز» هو تمييز الأجزاء والشرائط الواجبة عن المستحبة، فيأتي بكل جزء بقصد وجوبه أو استحبابه.

وهذان أيضاً - كقصد القربة - يرتبطان بالامتثال، فهما متأخران عن الأمر، فلا يمكن أخذهما في (متعلق الأمر).

[2] بعد أن ذكر المصنف أن الأصل العملي العقلي هو (الاشتغال)، يعود فيقول: إنّه لا تصل النوبة إلى هذا الأصل؛ وذلك لوجود (الإطلاق المقامي)، وهذا الإطلاق هو بيان عقلي على عدم اشتراط قصد الوجه والتمييز، كما مرّ نظيره في عدم اشتراط قصد القربة أيضاً.

ثم إن المصنف يبيّن أن للإطلاق المقامي شروطاً ثلاثة:

1- كون الآمر في صدد بيان كل ما له دخل في غرضه.

2- كون ذلك الشرط مما يغفل عنه عامة الناس.

3- عدم الإشارة إلى ذلك الشرط في الروايات.

[3] أي: بالنظر البدوي الابتدائي، «في الامتثال» المقصود في حصول غرض المولى، وقوله: «كان على الآمر...» خبر (إنّ).

[4] أي: دخله في غرضه؛ لأنه لا يمكن دخله في المأمور به، للمحاذير السابقة، «وإلاّ» أي: لو لم يبيّنه.

[5] أي: لم ينصب الآمر، «على دخله» في غرضه، «كشف» جزاء (أما)،

ص: 338

عدم دخله. وبذلك[1] يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر[2] في الأخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه[3] العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة(1)، فتدبر جيداً.

ثم إنه لا أظنك[4] أن تتوهم وتقول: «إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار[5] وإن كان قضية الاشتغال عقلاً هو الاعتبار»؛

-------------------------

أي: عدم نصب القرينة كاشف عن عدم دخالة ذلك الشيء في غرضه؛ لأن المولى حكيم فلا يُخلّ بغرضه.

[1] أي: بهذا الإطلاق المقامي.

[2] هذا مثل معروف، و«عين» بالدلالة المطابقية، و«أثر» بالدلالة الالتزامية.

[3] «عنه» عن قصد الوجه والتمييز، وكذا ضمير (اعتباره).

ثانياً: الأصل الشرعي بالبراءة

[4] بعد أن أثبت المصنف عدم جريان البراءة العقلية لنفي شرطية قصد القربة، يذكر هنا عدم جريان البراءة الشرعية أيضاً؛ وذلك لأن البراءة الشرعية إنما تجري في كلّ شيء كان قابلاً للوضع والرفع شرعاً، وأما ما لا يقبل الوضع شرعاً فلا يقبل الرفع أيضاً، وفي ما نحن فيه (المرفوع) إما دخل قصد القربة في الغرض، وإما اشتراط قصد القربة في التكليف:

والأول: لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن الدخل في الغرض أمر تكويني، والشارع - بما هو شارع - لا يرفع إلاّ الأحكام الشرعية.

والثاني: أيضاً لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن الاشتراط لم يكن بحكم الشارع حتى يكون رفعه بيده، بل كان بحكم العقل.

[5] أي: عدم اعتبار قصد القربة في كل ما شك في كونه عباديّاً أو توصلياً؛

ص: 339


1- مفتاح الكرامة 2: 314، نسبت اعتبار قصدهما إلى جماعة من الفقهاء منهم: الراوندي وابن البرّاج وأبي الصلاح والمحقق في الشرائع والشهيدين والمحقق الثاني... .

لوضوح[1] أنه لابد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعاً، وليس هاهنا[2]، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي[3]. ودخل[4]

-------------------------

وذلك لأن الأصل العقلي بالاشتغال إنما كان لأجل حفظ حكم المولى، فإذا لم يُرِد المولى ذلك الحكم وأجرى البراءة حين الشك فحينئذٍ لا يحكم العقل بالاشتغال.

فلا يستشكل أحد بأنه كيف يخالف الحكم الشرعي الحكم العقلي؟ فإنه قد اتضح أن حكم العقل كان معلقاً على عدم إجراء الشارع للبراءة، فإذا أجرى الشارع البراءة فلا معنى لبقاء حكم العقل بالاشتغال.

[1] دليل عدم جريان البراءة الشرعية، «أنه» للشأن، «عمومها» شمول أدلة البراءة الشرعية «من شيءٍ...» أي: من كون الشيء المشكوك فيه قابلاً للرفع والوضع شرعاً.

[2] أي: لا يوجد في ما نحن فيه شيءٌ قابل للرفع والوضع، «نحوها» كقصد الوجه والتمييز.

[3] أي: تكويني؛ ولذا يحكم العقل بلزوم الإتيان به.

[4] هذا إشكال، وحاصله: إن دخل الجزء والشرط في الغرض واقعي تكويني أيضاً، فكيف تجري البراءة الشرعية فيهما؟

والجواب: بالفرق بين قصد القربة وبين الأجزاء والشرائط؛ وذلك لأن قصد القربة لا يمكن تعلق الأمر به، وأما الأجزاء والشرائط فيمكن تعلق الأمر بهما، وحيث أمكن التكليف الشرعي بهما لذا يمكن الرفع الشرعي فيهما.

وبعبارة أخرى: إننا لا نجري في الأجزاء والشرائط البراءة عن الدخل في الغرض، بل نجري البراءة عن تعلق التكليف بهما، وهذا لا يمكن في (قصد القربة)؛ لعدم إمكان تعلق التكليف به، فلا يكون قابلاً للوضع فلا يكون قابلاً للرفع الشرعي.

الجزء والشرط فيه[1] وإن كان كذلك إلاّ أنهما قابلان للوضع والرفع[2] شرعاً. فبدليل الرفع[3] - ولو كان أصلاً - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي[4] بما يعتبر[5] فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلاً[6]، بخلاف المقام[7]، فإنه علم بثبوت الأمر الفعلي، كما عرفت، فافهم[8].

ص: 340

-------------------------

[1] «فيه» في الغرض، «كذلك» واقعي تكويني، «أنهما» الجزء والشرط.

[2] باعتبار منشأ انتزاعهما - وهو التكليف - فإذا تعلق الوجوب بالركوع مثلاً انتزعنا من هذا الوجوب جزئية الركوع، كما أن تعلق الوجوب بالقبلة ينتزع منه شرطيتها، فوضع ورفع منشأ الانتزاع - الذي هو الوجوب - بيد الشارع بما هو شارع.

[3] هذا تلخيص للعبارات السابقة، فبدليل الرفع الذي هو من أدلة البراءة حيث قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: (رفع عن أمتي تسع... وما لا يعلمون)(1)،

«ولو كان أصلاً» أي: أصلاً عملياً، فإنه لا يشترط في الرفع الدليل الاجتهادي، بل يكفي الأصل العملي، «يُكشف» بصيغة المجهول، «أنه» للشأن.

[4] لأن الأصل العملي لا ينفي الحكم الواقعي، بل يدل على عدم تنجزّ الحكم - حتى لو كان في الواقع حكم شرعي - .

[5] أي: بالمركب الذي يعتبر فيه ذلك الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك، وبعبارة أخرى: لا نعلم بأنه هل التكليف تعلق بالصلاة مع القنوت، أم تعلّق بها من غير قنوت؟ فنجري أصل البراءة عن الأول.

[6] فلا نعلم بالتكليف لكي يكون مجرى أصالة الاشتغال عقلاً.

[7] وهو الشك في اشتراط قصد القربة.

[8] لعلّه إشارة إلى إمكان جريان البراءة العقلية؛ وذلك لأن المولى يتمكن من بيان عدم دخالة قصد القربة في الغرض، فعدم هذا البيان مسرح للبراءة العقلية بقبح العقاب بلا بيان.

ص: 341


1- تحف العقول: 50؛ وراجع التوحيد: 353.

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة[1] كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً، لكون كل واحد مما يقابلها[2] يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته. فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً عليه[3]، فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً، وجب هناك

-------------------------

أو إشارة إلى إمكان جريان البراءة الشرعية؛ لأن وضع التكليف ورفعه ليس بيد الشارع، أما وضع ورفع العقاب فهو بيده، فقصد القربة وإن لم يكن جعله بيد الشارع إلاّ أن وضع ورفع العقاب على عدم الإتيان به بيد الشارع!!

المبحث السادس: أصالة النفسيّة العينيّة التعيينية

[1] إذا شك في أن الوجوب هل هو غيري - بمعنى أن الوجوب مقدمة فلا يجب إلاّ لو وجب الغير - أم أن الوجوب نفسي - بمعنى أن وجوبه لا يتوقف على وجوب الغير - . وكذا لو شك في أن الوجوب تعييني فلا بديل له، أم أنه تخييري فالمكلّف مخيّر بينه وبين غيره. وكذلك لو شك في أن الوجوب عيني فلا يسقط إذا قام به الغير، أم أنه كفائي فيسقط إذا قام به من به الكفاية.

فإطلاق الصيغة حينئذٍ يقتضي النفسية العينيية التعيينية؛ وذلك لأن الغيري يحتاج إلى قيد زائد وهو وجوب الغير - الذي هو ذو المقدمة - والتخييري أيضاً يحتاج إلى قيد زائد هو العِدل الآخر، وكذا الكفائي يحتاج إلى قيد زائد هو بيان كفاية قيام الآخر به، فإطلاق الصيغة ينفي كل هذه القيود الزائدة، فيثبت الوجوب النفسي التعييني العيني.

ولا يخفى أن المراد إطلاق الهيئة؛ لأن الوجوب لا يرتبط بالمادة وإنما يرتبط بالهيئة، ولا مانع من الإطلاق والتقييد في الهيئة؛ لأنها معنى حرفي وهو عام - على ما مرّ من المصنف - .

[2] أي: يقابل النفسي التعييني العيني، وهي الغيري التخييري الكفائي.

[3] أي: على التقييد، «كونه» كون الوجوب.

ص: 342

شيء آخر[1] أو لا، أتى بشيءٍ آخر[2] أو لا، أتى به آخر[3] أو لا، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب - وضعاً أو إطلاقاً[4] - في ما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه[5] على أقوال[6].

-------------------------

[1] كما في الوجوب الغيري؛ إذ لا تجب المقدمة إلاّ مع وجوب ذي المقدمة، كوجوب طيّ الطريق للحج.

[2] كما في الوجوب التخييري، كخصال الكفارة.

[3] كما في الوجوب الكفائي، كردّ السلام.

المبحث السابع: الأمر عقيب الحظر

[4] وقد مرّ تفصيل ذلك في المبحث الثاني والرابع، حيث إن القائلين بدلالة الصيغة على الوجوب اختلفوا في أن منشأ هذه الدلالة هل هو الوضع أم الإطلاق؟ فراجع.

[5] «الحظر» أي: المنع، والأمر عقيب الحظر كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ}(1)، وعقيب توهمه كما لو زعم المريض ضرر أكل شيء عليه فقال له الطبيب: كُلْهُ.

[6] يذكر المصنف هنا ثلاثة منها، وهي:

1- ظهور الصيغة في الإباحة، إما بمعناها الخاص، أو بمعناها العام، أي: رفع المنع الجامع للوجوب والاستحباب والإباحة، وقد استدل هؤلاء بمثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ} حيث إن الصيد بعد الإحلال من الإحرام مباح.

2- ظهور الصيغة في الوجوب، وقد استدلوا بمثل قوله تعالى: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ}(2) الآية، حيث يجب قتالهم بعد حظره في الأشهر الحُرُم.

ص: 343


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة التوبة، الآية: 5.

نسب إلى المشهور ظهورها[1] في الإباحة(1)، وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب(2)،

وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي إن علق الأمر بزوال علة النهي... إلى غير ذلك.

والتحقيق[2]: إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قلَّ مورد منها يكون خالياً عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعية. ومع فرض التجريد عنها[3]

-------------------------

3- إن ظهور الصيغة تابع للحكم قبل الحظر، فإذا كان الأمر بسبب زوال علة النهي رجع الحكم السابق، فحرمة الصيد كانت بسبب الإحرام فحيث أحلّ زال سبب التحريم. وأما لو لم يعلّق الأمر على زوال علة النهي كانت الصيغة ظاهرة في الوجوب.

والمصنف يشكل على الكل كما سيأتي.

[1] أي: ظهور الصيغة، «تبعيتها» أي: الصيغة في ظهورها.

[2] حاصله: إن هؤلاء استدلوا بموارد الاستعمال، ومن الواضح أن موارد الاستعمال لا تخلو من قرينة، ولا ينفع الظهور الناشئ عن القرينة في الدلالة على حال اللفظ عند الخلو عن القرينة.

وعليه: فإنه يمكن القول: إنّه لو لم تكن هناك قرينة على تعيين المراد فلا يبعد القول بأن الصيغة ظاهرة في نفس معناها - أي: في الوجوب - .

نعم، يمكن ادعاء أن (الوقوع عقيب الحظر) قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، ولا تعيّن أحد المعاني، فيكون (الأمر) حينئذٍ مجملاً، لا يدل على شيء من الوجوب أو الإباحة، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.

[3] أي: خلو المورد عن القرينة، «لظهورها» أي: الصيغة، «غير ما» أي: غير الوجوب الذي، «فيه» الضمير يرجع إلى الموصول.

ص: 344


1- العدة في أصول الفقه 1: 183.
2- المحصول 2: 96.

لم يظهر بعدُ كون عقيب الحظر موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه، غاية الأمر يكون[1] موجباً لإجمالها، غير ظاهرةٍ في واحد منها إلاّ بقرينة أخرى[2] كما أشرنا[3].

المبحث الثامن[4]: الحق أن الصيغة مطلقاً[5] لا دلالة لها على المرة ولا التكرار،

-------------------------

[1] أي: يكون وقوع الصيغة عقيب الحظر، «لإجمالها» أي: إجمال الصيغة؛ وذلك لأنه لا ظهور في أيٍّ من المعاني، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم القرينة؛ لأنها إنما تجري مع الشك في أصل وجود القرينة، لا مع الشك في قرينيّة الموجود، وقوله: «غيرَ ظاهرةٍ...» حال، أي: حال كونها غير ظاهرة... الخ.

[2] أي: غير الوقوع عقيب الحظر، فإنه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فقط، فلابد من قرينة أخرى معيّنة لأحد المعاني.

[3] في قوله: (فإنه قلّ مورد منها... الخ).

المبحث الثامن: في المرة والتكرار

اشارة

[4] اختلفوا في أن صيغة الأمر تدل على المرة أو التكرار أو على الطبيعة على أقوال متعددة.

ولكن الصحيح هو عدم الدلالة لا على المرة ولا على التكرار؛ وذلك لأن الصيغة مركبة من مادة وهيئة، أما المادة فهي تدل على الماهية من غير قيد، وأما الهيئة فتدل على الطلب - أي: النسبة الطلبيّة - ، فمن أين الدلالة على المرة أو على التكرار؟

بل التبادر يدل على مجرد طلب الماهية، فمثل: (صلّ) لا يدل على الصلاة مكرراً أو مرةً واحدة، ولا على الوجوب مكرراً أو مرة واحدة، بل يدل على (طلب ماهية الصلاة فقط).

[5] أي: بمادتها وهيئتها.

ص: 345

فإن المنصرف عنها[1] ليس إلاّ طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها.

والاكتفاء[2] بالمرة فإنما[3] هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك[4]

-------------------------

[1] هذا دليل عدم دلالتها لا على المرة ولا على التكرار، وهو استدلال بالانصراف - ويراد منه التبادر - ، «عنها» عن الصيغة، «لها» للصيغة، «أحدهما» المرة والتكرار.

[2] هذا دليل القائلين بالمرّة، وحاصله: إن المولى لو أمر عبده بشيء، فأتى به العبد مرّة واحدة، سقط عنه التكليف وكان ممتثلاً للأمر.

والجواب: إن حصول الامتثال وسقوط الأمر إنما هو لأجل تحقق الطبيعة المأمور بها.

وبعبارة أخرى: إن هذا الدليل أعم من المدعى؛ لأن سقوط الأمر بالإتيان به مرة واحدة كما يمكن أن يكون لأجل دلالة الأمر على المرة، كذلك يمكن أن يكون لأجل دلالته على الطبيعة، ومن المعلوم أنه بالإتيان مرة واحدة تتحقق الطبيعة.

[3] هذا ردّ الاستدلال، «بها» بالمرة.

عموم النزاع للمادة والهيئة

[4] ذهب صاحب الفصول(1)

إلى أن النزاع إنما هو في دلالة الهيئة، فهل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة، وأما المادة فلا نزاع فيها، بل الكل متفق على دلالتها على الطبيعة.

واستدل لذلك بأمور، منها: دعوى الاتفاق على أن المصدر المجرد من الألف واللام والتنوين يدل على الماهية - وهي الطبيعة - وحيث إن المصدر هو المادة في

ص: 346


1- الفصول الغروية: 71.

أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين[1] لا يدل إلاّ على الماهية[2] - على ما حكاه السكاكي(1) - لا يوجب[3] كون النزاع هاهنا في الهيئة - كما في الفصول(2) - فإنه غفلةٌ وذهولٌ عن كون المصدر كذلك[4] لا يوجب الاتفاق على

-------------------------

صيغة الأمر فهذا الاتفاق يدل على أن المادة دالة على الطبيعة ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في دلالة هيئة الأمر - مثل صيغة افعل - على المرة أو التكرار أو الطبيعة.

وأشكل عليه المصنف بأن المصدر ليس مادة المشتقات لجهتين:

الأولى: إن المصدر مركب من مادة وهيئة كسائر المشتقات، فكيف صار مادة لها؟ بل قد ذهب الكوفيون إلى العكس فقالوا: إن الفعل الماضي هو الأصل واشتق منه المصدر وسائر المشتقات.

الثانية: إن معنى المصدر يباين معنى المشتقات، فكيف يكون مادة لها؛ إذ المصدر يدل على المادة بشرط لا عن الحمل، والمشتقات تدل على المادة لا بشرط عن الحمل، كما مرّ تفصيله في بحث المشتق.

[1] لأن المصدر مع اللام يدل على الجنس أو العهد ونحو ذلك، وكذا المصدر مع التنوين يدل على التنكير أو الوحدة ونحو ذلك، فلا يكون حينئذٍ مادة لسائر المشتقات؛ إذ لابدّ من حفظ معنى المصدر في كل المشتقات، مع وضوح أن العهد والجنس والتنكير والوحدة... الخ لا توجد في المشتقات.

[2] وهي الطبيعة المهملة - من اللابشرط المقسمي - .

[3] هذا إشكال المصنف على كلام الفصول، «في الهيئة» أي: في خصوص الهيئة دون المادة.

[4] أي: عدم دلالته إلاّ على الماهية.

ص: 347


1- مفتاح العلوم: 93.
2- الفصول الغروية: 71.

أن مادة الصيغة[1] لا تدل إلاّ على الماهية، ضرورة[2] أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو[3] صيغة مثلها. كيف[4]! وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى[5]، فكيف[6] بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه[7] يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها[8]، كما لا يخفى.

-------------------------

[1] أي: المادة الموجودة في صيغة الأمر، والمعنى: إنهم مع اتفاقهم على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين يدل على الماهية، مع ذلك يمكن اختلافهم في مادة الصيغة، وأنها هل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة؟

[2] حاصله: إن المصدر ليس هو مادة الصيغة، فلا يجري فيها ما جرى فيه.

[3] إشارة إلى الإشكال الأول، «هو» المصدر، «مثلها» مثل سائر المشتقات؛ وذلك لأنه مركب من مادة هي (ض ر ب) مثلاً، وهيئة هي (فَعْل) مثلاً.

[4] إشارة إلى الإشكال الثاني، أي: كيف يمكن أن يكون المصدر مادة للمشتقات؟ وقد مرّ في الأمر الثاني من الأمور التي ذكرت في بحث المشتق... الخ.

[5] حيث ذكرنا أن الفرق بينهما أن المصدر آبٍ عن الحمل فهو (بشرط لا) عن الحمل، والمشتق غير آبٍ عنه فهو (لا بشرط) عن الحمل.

[6] لأن المباين لا يكون مادة للمباين الآخر، بل لابد من حفظ المادة بخصوصياتها في كل المشتقات، «بمعناه» أي: مع حفظه لمعناه الآبي عن الحمل.

وقد مرّ أن المادة هي الحروف مجردة عن الهيئة فلا يمكن النطق بها، مثلاً: مادة (ناصر) و(منصور...) هي (ن ص ر) من غير هيئة معينة، ثم تعرض عليها الهيئات المختلفة في المشتقات.

[7] أي: بناءً على عدم كون المصدر مادة للمشتقات.

[8] المقصود إمكان جريان النزاع في أن مادة المشتقات هل تدل على المرة أو التكرار أو الطبيعة: «مادتها» أي: مادة الصيغة.

ص: 348

إن قلت[1]: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلاً في الكلام؟

قلت - مع أنه محل الخلاف - : معناه أن الذي وُضع أولاً بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وُضع نوعياً أو شخصياً سائر الصيغ التي تناسبه[2] - مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة[3]،

-------------------------

[1] حاصله: إن ما ذكرتم - من أن المصدر ليس أصلاً للكلام - يخالف ما اشتهر من أنه الأصل!

والجواب: أولاً: إن الكوفيين خالفوا في ذلك، فاعتبروا الفعل الماضي هو الأصل في الكلام، فليس هناك اتفاق، مضافاً إلى عدم حجية هذا الاتفاق.

وثانياً: إن مراد من ذهب إلى أن المصدر أصل الكلام هو سبق وضع المصدر، بمعنى أن الواضع وضع المصدر أولاً، ثم بملاحظته وضع سائر الصيغ؛ لا أنه اشتق تلك الصيغ من المصدر، مثلاً: وضع (نَصْر) أولاً، ثم وضع (ناصر) (منصور)... الخ، والوضع في سائر الصيغ على قسمين:

1- وضع نوعي - وهذا يرتبط بالهيئة - مثلاً وضع (ناصر) على هيئة (فاعل)، وهذه الهيئة لا تختص بهذه الكلمة، بل هناك وضع نوعي لها للدلالة على من صدر منه أو قام به الفعل.

2- وضع شخصي - وهذا يرتبط بالمادة - فمادة ناصر هي (ن ص ر) وهي وضعت وضعاً شخصياً للدلالة على معنى معيّن.

[2] أي: التي تناسب المصدر، «مما» من الصيغ التي، «جَمَعه» الضمير للموصول، «معه» مع المصدر، «مادة» فاعل جَمَعه، والمعنى: ثم بملاحظة المصدر وضع سائر الصيغ، التي تناسب المصدر من الصيغ التي جمعها مع المصدر مادةٌ واحدة، لكن الصورة - أي الهيئة - تختلف فوزن المصدر يختلف عن وزن المشتقات.

[3] أي: من الصيغ ومن المصدر بصورة مختلفة عن الأخرى.

ص: 349

ومعنى كذلك[1] - هو المصدر[2] أو الفعل، فافهم[3].

ثم المراد بالمرة والتكرار[4] هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد؟

-------------------------

[1] و«معنى» عطف على (مادة لفظ)، «كذلك» أي: متصورة، والمعنى: كما أن الجامع هو مادة اللفظ كذلك الجامع معنى اللفظ، مثلاً: نَصْر وناصر يجمعهما (ن ص ر)، كذلك المعنى الحدثي في كليهما واحد.

[2] قوله: «هو المصدر...» خبر (أن) في قوله: (أن الذي وضع أولاً... الخ).

[3] لعله إشارة إلى أن هذا التوجيه لكلامهم غير مراد لهم قطعاً، بل يريدون أن سائر الصيغ اشتقت من المصدر، فالأولى حينئذٍ الإشكال على مبناهم، لا توجيهه.

معنى المرة والتكرار

[4] للمرة والتكرار معنيان، ويمكن البحث عن دلالة الصيغة عليهما بكلا المعنيين...

الأول: الدفعة والدفعات، وهذا هو الظاهر من لفظ المرة والمرات.

الثاني: الفرد والأفراد.

كما لو أمره المولى بالعتق، فأعتق العبيد دفعة واحدة، فهنا أفراد ودفعة واحدة، ولو أعتقهم بالتدريج فهنا أفراد ودفعات، ولو أعتق عبداً واحداً فقط فهنا فرد ودفعة.

فاتضح أن النسبة بينهما هي العموم من وجه؛ وذلك لعدم إمكان الفرد مع الدفعات؛ لأن كل دفعة يكون فرداً، فلو كرر كان فرداً آخر لا نفس الفرد السابق.

وتظهر الثمرة: في ما لو كان الأمر يدل على الدفعات فأعتق العبيد معاً، فليس امتثاله بكاملٍ؛ لعدم امتثاله بالدفعات.

ولو كان الأمر يدل على الدفعة فأعتق العبيد معاً تحقق الامتثال، وكذا لو أعتق عبداً واحداً أيضاً تحقق الامتثال؛ لأن المطلوب كان الدفعة، وقد تحققت في كلا الصورتين.

ص: 350

التحقيق: أن يقعا[1] بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأول.

وتوهم[2] أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الأنسبُ، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمةً للمبحث الآتي من[3] أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك: «وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد، أو لا يقتضي شيئاً منهما؟». ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها[4]

-------------------------

ولو كان الأمر يدل على الفرد فالزائد على العبد الواحد ليس امتثالاً، بل هو غير مأمور به، سواء أعتقهم معاً أم بالتدريج.

[1] أي: يقع المرة والتكرار، «المعنيين» الفرد والأفراد، والدفعة والدفعات، «المعنى الأول» الدفعة والدفعات.

[2] هذا ما ذهب إليه صاحب الفصول(1)،

وحاصله: إنه لو أريد من المرة والمرات هنا الفرد والأفراد لكان المناسب أن يكون هذا المبحث من تتمة المبحث الآتي، حيث يبحث هناك عن أن الأمر هل يدل على الطبيعة أم على الفرد؟ فلابد من إدماج هذا البحث بذلك البحث بأن يقال: بناءً على دلالته على الفرد فهل يدل على الفرد الواحد أم الأفراد المتعددة؟

وحيث إن العلماء أفردوا هذا البحث عن ذاك علمنا أن أحد البحثين لا يتوقف على الآخر، ولا يكون تتمة له، فسواء قلنا: إنّ الأمر يدل على الطبيعة أم على الفرد يجري النزاع في أن الأمر يدل على المرة أو التكرار، فيمكن أن نقول هناك: إنّ الأمر يدل الطبيعة ونقول هنا: إنّه يدل على المرة بمعنى الفرد، أو المرات بمعنى الأفراد.

[3] هذا بيان للبحث الآتي، «ذاك» أي: في تتمة ذلك المبحث.

[4] أي: لو كان معنى المرة والتكرار هو الدفعة والدفعات فلا يكون هذا البحث تتمة لذلك البحث، بل يمكن هناك اختيار الدلالة على الأفراد مع الاختيار هنا بأنه

ص: 351


1- الفصول الغروية: 71.

الدفعة فلا عُلقة بين المسألتين كما لا يخفى؛ فاسدٌ[1]، لعدم العلقة بينهما[2] لو أريد بها الفردُ أيضاً، فإن الطلب[3] - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها

-------------------------

لابد من الإتيان بالأفراد دفعة واحدة أو في دفعات متعددة، أو اختيار الدلالة على الطبيعة هناك مع اختيار الدفعة أو الدفعات هنا.

[1] إشكال على كلام الفصول، وحاصله: إن (الفرد) في المسألتين بمعنيين، لا بمعنى واحد كما توهمه الفصول. وهما:

1- الوجود الواحد، والوجودات المتعددة، وهذا هو المراد في مسألة المرة والتكرار.

2- الوجود بما له من مشخصات فردية، وهذا هو المراد في مسألة الطبيعة والفرد.

وعليه فيمكن أن نقول هناك: إنّ الأمر يدل على الطبيعة، ومع ذلك نقول هنا بدلالته على الفرد أو الأفراد، بمعنى وجود واحد أو وجودات متعددة من الطبيعة، فلا يلزم من القول بالطبيعة هناك عدم القول بالفرد هنا.

وبعبارة أخرى: إن اختيار أيٍّ من القولين هناك لا يلازم اختيار قول معيّن هنا، فلذا يمكن هناك أن نختار الدلالة على الفرد وهنا نختار الدلالة على الطبيعة، وذلك لأن المراد بالفرد هناك ليس الفرد بمشخصاته الخارجية حتى يتنافى مع الدلالة على الطبيعة، بل المراد الوجود، وهذا كما ينسجم مع الدلالة على الفرد بمشخصاته الخارجية كذلك ينسجم مع الدلالة على الطبيعة.

[2] أي: عدم توقف إحدى المسألتين على الأخرى، «بها» بالمرة، «أيضاً» كما لا علقة بينهما لو أريد بها الدفعة.

[3] بيان معنى (الفرد) هنا، وهو الوجود الخارجي، وحاصله: إنه حينما نقول: الأمر يدل على الطبيعة لا نريد دلالته على الطبيعة الصِرفة المهملة - وهي اللابشرط المقسمي - بل نريد الطبيعة باعتبار اتصافها بالوجود الخارجي، «بها» بالطبيعة.

ص: 352

في الخارج، ضرورة[1] أن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة. وبهذا الاعتبار[2] كانت مرددةً بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح[3] النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها؛ أما بالمعنى الأول فواضح[4]؛ وأما بالمعنى الثاني فلوضوح[5] أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لأنّ وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر[6] خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الأمر بالطبائع - يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد، فإنه مما يقومه.

-------------------------

[1] دليل أن متعلق الأمر هو الطبيعة باعتبار وجودها، وحاصله: إن الطبيعة المهملة هي مَقْسَم، فنقول: الطبيعة إما موجودة أو معدومة، ولو كانت الطبيعةُ موجودةً لم يصح جعلها مقسماً؛ لأنه من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

[2] أي: الطبيعة باعتبار وجودها هي مرددة بين الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد، وإلاّ فالطبيعة المهملة لا ترديد فيها؛ لأنها ليست إلاّ هي.

[3] هذا محصّل الكلام: بأن النزاع هنا لا يتوقف على النزاع هناك، «بالمعنيين» الدفعة والدفعات، والفرد والأفراد، «عدمها» أي: عدم الدلالة.

[4] لصحة أن يقال: إن الطبيعة هل يجب الإتيان بها دفعة واحدة أم دفعات متعددة؟

[5] لصحة أن يكون المطلوب إيجاد الطبيعة في ضمن وجود واحد أم وجودات متعددة، «المراد» في بحث المرة والتكرار.

[6] هذا بيان للفرق بين معنى الفرد هنا ومعنى الفرد هناك، وحاصله: إن الفرد هنا هو الوجود بدون ملاحظة المشخصات الفردية، والفرد هناك هو الوجود مع ملاحظتها «خصوصيته» أي: خصوصية الفرد، «عنه» عن المطلوب، «بتعلقه» بتعلّق الأمر، «فإنه» فإن الخصوصية والتشخص، «يقوّمه» أي: يقوّم المطلوب.

ص: 353

تنبيه: لا إشكال[1] بناء على القول بالمرة في الامتثال[2]، وأنه لا مجال للإتيان

-------------------------

تنبيه: في ثمرة البحث، وهي في الامتثال

[1] 1- بناء على القول بالتكرار لا يكفي الإتيان مرّة واحدة، بل لابد من تكرار الامتثال.

2- وبناء على القول بالمرة - سواء بمعنى الدفعة أم الفرد - يكفي الإتيان مرّة واحدة، فيتحقق غرض المولى، فيسقط الأمر، فلا يبقى مجال لتكرار الامتثال.

3- وبناء على المختار من دلالة الأمر على الطبيعة... .

فتارة: لا يكون المولى في مقام البيان، فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية، وهي تدل على البراءة عن الزائد.

وتارة يكون المولى في مقام البيان، فالكلام في مقامين:

الأول: في جواز الاكتفاء بالمرّة؛ وذلك لإطلاق الأمر - أي: المادة في الصيغة - ، فلو كان المولى يريد التكرار كان عليه البيان بأن يقيّد الأمر بالتكرار، فيقول: (صلّ مرتين أو ثلاث مرات) مثلاً.

الثاني: في عدم إمكان التكرار بدفعات؛ وذلك لأن الأمر تابع للغرض، فإذا تحقق الغرض سقط الأمر، ومع سقوطه لا مجال للامتثال مرّة أخرى في ضمن فرد ثانٍ وثالث وهكذا، إلاّ إذا أمكن تبديل الامتثال، وسيأتي توضيحه.

نعم، لو أتى بعدة أفراد دفعة واحدة تحقق الامتثال بمجموعها؛ لأن إطلاق الأمر يدل على جواز الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة في ضمن فرد واحد أم أفراد متعددة، فلو أتى بالطبيعة - سواء في ضمن فرد أم أفراد - سقط الأمر، فلا مجال لامتثالٍ آخر.

[2] بمعنى أنه لو أتى مرّة واحدة حصل الامتثال، وأن المّرات الأخرى ليست بامتثال قطعاً؛ لعدم الأمر بها أصلاً.

ص: 354

بالمأمور به ثانياً على[1] أن يكون أيضاً به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال[2]. وأما على المختار - من دلالته[3] على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار - فلا يخلو الحالُ: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان - بل في مقام الإهمال أو الإجمال[4] - فالمرجع هو الأصل[5]؛ وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام[6] فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال[7]. وإنما الإشكال[8] في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم[9] إطلاق الطبيعة المأمور بها

-------------------------

[1] أي: لا يمكن اتصاف المرة الثانية بأنها امتثال للأمر؛ وذلك لعدم الأمر بها أصلاً، فلا تكون امتثالاً، فلو كرّر الفعل لم يكن الفعل الثاني متصفاً بصفة الامتثال.

[2] وهو محال؛ إذ بالامتثال الأول يسقط الأمر، فلا يبقى مجال للامتثال الثاني.

[3] أي: دلالة الأمر.

[4] المراد من «الإهمال» هو تعمّد عدم البيان بأن يكون للمولى غرض في عدم البيان، ومن «الإجمال» هو أن يكون المولى قد بيّن لكن اللفظ صار مجملاً عندنا لاختفاء؛ القرائن مثلاً.

[5] أي: البراءة عن وجوب التكرار.

[6] أي: في مقام البيان.

[7] هذا هو المقام الأول، وإنما يكتفي بالمرة لإطلاق الصيغة؛ لأن المولى في مقام البيان، فإذا كان غرضه في التكرار كان عليه البيان، فالإطلاق ينفي هذا القيد الزائد - وهو التكرار - .

[8] شروع في المقام الثاني، «لا يقتصر» أي: لا يكتفي، «عليها» على المرة، فقد يتوهم إمكان تحقق الامتثال بالمرة الثانية؛ وذلك لأن للصيغة إطلاقاً من هذه الجهة، فقوله: (انصر) مثلاً مطلق يشمل النصر الأول والثاني والثالث... وهكذا، أي: كما تشمل الطبيعة الأفراد العرضية كذلك تشمل الأفراد الطولية.

[9] هذا بيان التوهم.

ص: 355

هو الإتيان بها مرةً أو مراراً، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى.

والتحقيق[1]: إنّ قضية الإطلاق إنما هو جواز الإتيان بها مرةً في ضمن فرد أو أفراد[2]، فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد، لا[3] جواز الإتيان بها مرةً ومرات، فإنه[4] مع الإتيان بها مرةً لا محالة يحصل الامتثال، ويسقط به الأمر في ما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى[5] بحيث

-------------------------

[1] هذا دفع التوهم، وحاصله: إن هناك مانعاً عن شمول الأمر للأفراد الطولية، ومع وجود المانع لا يتحقق الإطلاق من هذه الجهة، فإن من مقدمات الإطلاق أن لا تكون هناك قرينة على خلاف الإطلاق، ولكن في ما نحن فيه توجد القرينة العقلية في المرة الثانية والثالثة وهكذا.

[2] ولكن في دفعة واحدة، فلو قال: (اعتق)، فأعتق مجموعة من العبيد دفعة واحدة كان المجموع امتثالاً، «إيجادها» أي: الطبيعة، «ضمنها» أي: في ضمن الأفراد دفعة، «نحواً من الامتثال» أي: نوعاً منه، كما أن إيجاد الطبيعة في ضمن فرد واحد نوع آخر من الامتثال.

[3] عطف على (هو جواز الإتيان بها مرة...)، «بها» بالطبيعة، أي: ليس مقتضي الإطلاق هو جواز الدفعة والدفعات.

[4] بيان القرينة العقلية المانعة عن انعقاد الإطلاق من جهة الأفراد الطولية، «فإنه» للشأن، «بها» بالطبيعة.

[5] حاصل كلام المصنف هو أنه يمكن تبديل الامتثال في ما لو لم يتحقق غرض المولى الأقصى، بيان ذلك: إن المأمور به على قسمين:

1- أن لا يكون مقدمة لشيء آخر، بل هو الغرض الأساسي، كما لو أمره بسقي المزرعة، فمع سقيها يتحقق ما أراده المولى، ولا شيء آخر يريده المولى بعد ذلك.

2- أن يكون مقدمة لشيء آخر، كما لو أمره بالإتيان بالماء، فإن ذلك مقدمة

ص: 356

يحصل بمجرده[1]، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر[2]، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها[3]، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً. وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض[4]، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ، فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه[5]، بل مطلقاً[6]، كما كان له ذلك[7] قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

-------------------------

لشربه للماء، فمع إتيان العبد بالماء لا يتحقق ما أراده المولى من رفع العطش، وإنما تحقق مقدمة ذلك، وحينئذٍ يمكن للعبد تبديل الامتثال بأن يأتي بماء آخر مرّة أخرى.

ولا يخفى أنه بالمرة الأولى يسقط الأمر لكن يبقى ملاكه، فلذا أمكن تبديل الامتثال؛ وذلك لبقاء الملاك لا لبقاء الأمر.

[1] أي: يحصل الغرض الأقصى بمجرد الامتثال، «معه» مع حصول الغرض الأقصى، «لإتيانه» أي: إتيان متعلق الأمر.

[2] أي: يكون امتثال ثانٍ مستقل عن الامتثال الأول، «امتثالاً واحداً» بأن يكون المجموع امتثالاً واحداً.

[3] أي: يحصل الامتثال بإتيان الطبيعة في المرة الأولى، «معها» مع الموافقة، «بسقوطه» أي: بسقوط الغرض، «لامتثاله» مرة أخرى.

[4] أي: الغرض الأقصى، بأن كان الامتثال مقدمة لحصوله.

[5] وقد يمثّل له بإعادة الصلاة جماعة، فإن الجماعة أحسن من الفرادى، فتأمل.

[6] أي: حتى لو لم يكن الثاني أحسن من الأول، بأن كان مساوياً له أو أدون.

[7] «له» للمكلّف، «ذلك» أي: الإتيان بالفرد الأحسن أو المساوي أو الأدون، «قبله» قبل الإتيان بالفرد الأول؛ وذلك لأن المكلف مخيّر بين الأفراد، فكما يتمكن من اختيار أيّ واحدٍ منها قبل الامتثال، كذلك بعد الامتثال يمكنه تبديله إلى أيِّ فردٍ منها.

ص: 357

المبحث التاسع: الحق[1] أنه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي. نعم[2]، قضية إطلاقها جواز التراخي.

والدليل عليه[3] تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما. فلابد في التقييد من دلالة أخرى[4]، كما أدعي دلالة[5] غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه[6] منع،

-------------------------

المبحث التاسع: في الفور والتراخي

اشارة

[1] وذلك لأن المادة في صيغة الأمر لا تدل إلاّ على الطبيعة المجردة، ولا تدل الهيئة إلاّ على النسبة الطلبية، كما مرّ تفصيله في بحث المرة والتكرار.

[2] أي: يجوز التراخي، لا لدلالة الصيغة عليه، بل لأن مقتضى الإطلاق هو عدم التقييد لا بالفور ولا بالتراخي، فيجوز للمكلّف الإتيان به كيف يشاء بالفور أو بالتراخي، «إطلاقها» أي: إطلاق الصيغة.

[3] أي: على عدم دلالة الصيغة لا على الفور ولا على التراخي، «منها» من الصيغة، «بأحدهما» الفور أو التراخي.

[4] غير الصيغة، كأن يصرّح المولى بأنه يريده فوراً، أو يريده في وقت لاحق.

أدلة القائلين بالفور والإشكال عليها

[5] استدلوا(1)

بقوله تعالى: {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ}(2)، وقوله سبحانه {وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(3)، حيث إن (استبقوا) و(سارعوا) صيغة أمر، فتدل على وجوب الاستباق والمسارعة، وذلك معنى الفور.

[6] والإشكال على الاستدلال من وجوه ثلاثة:

الإشكال الأول: إن في الآيتين قرينة تدل على عدم إرادة الوجوب من (استبقوا)

ص: 358


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 134؛ العدة في أصول الفقه 1: 229؛ معارج الأصول: 66.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.
3- سورة آل عمران، الآية: 133.

ضرورة أن سياق[1] آية {وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}(1)، وكذا آية {فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ}(2) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر[2]، ضرورة[3] أن تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشر كان البعث بالتحذير[4] عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم[5].

-------------------------

و(سارعوا)، بل يراد منهما الاستحباب؛ وتلك القرينة هي أنه لو كان المراد الوجوب لكان التحذير عن ترك الاستباق والمسارعة أنسب - وهي قرينة تستفاد من سياق الكلام - .

وبعبارة أخرى: إنهما لو كانا دالّين على الوجوب لكان تركهما موجباً لغضب الله وعقابه، فكان الأنسب حينئذٍ بيان العقاب على تركهما لا بيان الثواب عليهما؛ لأن الخوف من العقاب أكثر تأثيراً وتحريكاً للإنسان من الشوق إلى الثواب.

وفي هذا الجواب إشكال سيأتي بيانه في قول المصنف: (فافهم).

[1] هذا بيان للقرينة الصارفة عن الوجوب.

[2] وهذا هو الاستحباب، «تركهما» أي: ترك المسارعة والاستباق، وعطف (الشر) على (الغضب) تفسيري؛ لأن غضبه تعالى هو العقاب؛ إذ إنه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية.

[3] بيان وجه عدم استتباع تركهما للغضب والشر، «تركهما» ترك المسارعة والاستباق.

[4] أي: البعث نحو المسارعة والاستباق عبر التحذير، بأن يقول: احذروا عن مخالفة المسارعة، أو لو لم تستبقوا فعليكم غضب وعقاب، وأمثال ذلك، «عنهما» أي: عن الغضب والشر، والمراد عن سبب الغضب والشر الذي هو المخالفة.

[5] إشارة إلى عدم صحة هذا الإشكال؛ وذلك لأن الحال في جميع الواجبات

ص: 359


1- سورة آل عمران، الآية: 133.
2- سورة البقرة، الآية: 148؛ سورة المائدة، الآية: 48.

مع لزوم كثرة تخصيصه[1] في المستحبات[2] وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلابد[3] من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب.

ولا يبعد[4] دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من

-------------------------

كذلك، حيث إن المولى بيّن وجوبها بصيغة الأمر عادة دون التحذير عن المخالفة، فهل يلتزم أحد بعدم وجوبها؟!!

[1] هذا هو الإشكال الثاني، وحاصله: إنه قد قام الدليل على عدم وجوب الفور في جميع المستحبات وأكثر الواجبات، فلو كانت الصيغة دالّة على الفور للزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن، «تخصيصه» أي: تخصيص وجوب الفور.

[2] أي: في جميعها؛ لأنها داخلة في الآيتين، حيث إن المستحبات سبب المغفرة، كما أنها من الخيرات، ومن الواضح عدم وجوب المسارعة والاستباق إليها.

[3] أي: استهجان تخصيص الأكثر قرينة عقلية على أن المراد في الآيتين هو استحباب الفور لا وجوبه، أو أن المراد «مطلق الطلب» الشامل للوجوب والاستحباب.

[4] هذا هو الإشكال الثالث، وحاصله: إن الأوامر الشرعية على قسمين:

1- الأمر المولوي: وهو بعث المولى عبده نحو الشيء، بحيث يكون في موافقته الثواب، وفي مخالفته العقاب.

2- الأمر الإرشادي: وهو مجرد إلفات العبد على منافع الشيء أو مضارّه، من غير أن يترتب قُرب ولا ثواب ولا عقاب، مثل أوامر الطبيب للمريض.

وكلّ ما لا يُدرك العقل حُسنه يكون الأمر به مولوياً، وأمّا ما يُدرك العقل حسنه يكون الأمر به للإلفات إلى وجود المصلحة فيه.

إذا اتضح ذلك نقول: إن العقل يُدرك حسن المسارعة والاستباق، فلا يكون أمر الشارع بهما مولوياً، بل أمره إرشاد إلى ما يُدركه العقل.

ص: 360

الآيات والروايات في مقام البعث[1] نحوه إرشاداً إلى ذلك - كالآيات والروايات الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة[2] -، فيكون الأمر فيها[3] لما يترتب على المادة بنفسها[4] ولو لم يكن هناك أمرٌ بها، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية، فافهم[5].

-------------------------

[1] أي: ما ورد لأجل التحريك نحو المسارعة والاستباق، «إرشاداً» خبر (كان)، «ذلك» إلى ما استقل به العقل.

[2] كقوله تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(1)، فقد قالوا: إن هذه الأوامر إرشادية؛ لعدم ترتب ثواب أو عقاب مستقل عليها، وإلاّ لزم ترتب ثوابين على امتثال كل واجب، أحدهما على امتثال أمر ذلك الواجب، والآخر على امتثال الأمر بالطاعة، وكذلك لزم ترتب عقابين على مخالفة كل واجب، أحدهما على مخالفة أمره، والآخر على مخالفة أمر الطاعة.

[3] في آيات وروايات المسارعة.

[4] أي: للفائدة التي تترتب على نفس الفعل مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، مثلاً: شرب المريض للدواء فيه مصلحة مع قطع النظر عن أمر الطبيب، فإذا قال الطبيب: (اشرب الدواء) كان غرضه بيان فائدته، وأن في شرب الدواء المصلحة للمريض سواء أمر به الطبيب أم لم يأمر.

[5] لعلّه إشارة إلى أن مجرد إدراك العقل للمصلحة لا يكون سبباً لكون الأمر إرشادياً، فالعقل يدرك حسن الصلاة، فهل الأمر المتعلق بالصلاة إرشادي لا ثواب فيه؟! وكذلك في النواهي، فالعقل يدرك قبح الظلم، فهل النهي عنه إرشاد إلى ضرره ولا عقاب فيه؟! بل كثير من الأوامر والنواهي المولوية يدرك العقل المصلحة أو المفسدة فيها، فليس الملاك في المولوية والإرشادية ذلك.

ص: 361


1- سورة النساء، الآية: 59.

تتمة[1]: بناءً على القول بالفور، فهل قضية الأمر الإتيان فوراً ففوراً - بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به[2]

-------------------------

تتمة: في الإتيان فوراً ففوراً

[1] حيث إن هذا البحث يرتبط بأحد القولين في مسألة الفور والتراخي، لذلك كان تتمة للبحث السابق.

وحاصله: إنه بناءً على القول بالفور لو عصى المكلف ولم يمتثل فوراً، فما هو تكليفه بعد ذلك؟ فهل يسقط التكليف رأساً، أم إنه يسقط الفور دون أصل التكليف، أم أنه لا يسقط شيئاً منهما، بل يجب الإتيان فوراً ففوراً؟ احتمالات ثلاثة في مرحلة الثبوت.

وهذه الاحتمالات تبتني على مسألة تعدد المطلوب أو وحدته:

1- فلو قلنا بوحدة المطلوب - أي: إنّ المولى يريد شيئاً واحداً هو (الفعل الفوري) بحيث لا توجد مصلحة لو أخّر - فحينئذٍ يسقط أصل التكليف، كما لو أمر بتحضير الطعام لضيف يريد السفر بعدد قائق، بحيث لو أخّر الطعام لسافر الضيف.

2- ولو قلنا بتعدد المطلوب، بأن يكون لأصل العمل مصلحة مطلقاً، وللفور مصلحة ثانية، ولم تكن مصلحة الفور بنحو تشكيكي، فحينئذٍ لا يسقط أصل التكليف مع سقوط مصلحة الفور، فيجوز له الإتيان بالعمل متى ما شاء.

3- ولو قلنا بتعدد المطلوب، بأن يكون لأصل العمل مصلحة، وللفور مصلحة ثانية ولكن بنحو مشكِّك، بأن يكون الإتيان به في الزمان الأول أولى من الزمان الثاني، والزمان الثاني أولى من الثالث، وهكذا، فحينئذٍ يجب الإتيان به فوراً ففوراً، كما لو أمره بإزالة النجاسة عن المسجد، فيجب عليه فوراً ففوراً.

هذا كلّه في مرحلة الثبوت، أما مرحلة الإثبات فسيأتي البحث عنها.

[2] أي: بمتعلّق الأمر، «أيضاً» كوجوبه في الزمان الأول، وهذا هو الاحتمال الثالث.

ص: 362

فوراً أيضاً في الزمان الثاني - أو لا[1]؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول[2] - هو وحدة المطلوب[3] أو تعدده[4].

ولا يخفى[5]: أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالةٌ على نحو المطلوب[6] من وحدته أو تعدده، فتدبر جيداً.

الفصل الثالث الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء

-------------------------

[1] أي: أو لا يجب الإتيان به في الزمان الثاني، وهذا هو الاحتمال الأول والثاني؛ لأن عدم وجوب الإتيان في الزمان الثاني إما لأجل سقوط أصل الأمر، أو لأجل سقوط الفورية مع بقاء أصل الأمر.

[2] أي: القول بدلالة صيغة الأمر على الفور.

[3] فيسقط الأمر رأساً كما هو مقتضى الاحتمال الأول.

[4] فيبقى أصل الأمر، لكن المطلوب الثاني وهو الفور إن قلنا: إنه غير مشكّك سقط الفور ويجوز التراخي، وإن قلنا: إنّه مشكِّك بقي الأمر بالفور فيجب الإتيان فوراً ففوراً.

[5] هنا شروع في بحث مرحلة الإثبات، فقد ذكرنا أن المحتملات ثلاثة ثبوتاً، فأيٌّ منها هو مقتضى الدليل؟

والجواب: هو عدم دلالة الصيغة لا على وحدة المطلوب ولا على تعدده؛ وذلك لأن الأمر يدل على الطبيعة، ولا دلالة له على كيفية المصلحة، فلابد حينئذٍ من الرجوع إلى الأصل العملي، وهو أصل البراءة عن التكليف في الزمان الثاني، فيسقط التكليف رأساً، فتأمل.

[6] أي: كيفيته.

الفصل الثالث في الإجزاء

اشارة

أي: لو امتثل المكلّفُ الأمر فهل يكتفي بذلك من غير حاجة إلى الإتيان بالعمل مرة أخرى، أم لا يكتفي بذلك؟

ص: 363

في الجملة[1] بلا شبهة. وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والإبرام ينبغي تقديم أمور[2]:

أحدها[3]: الظاهر أن المراد

-------------------------

ولا يخفى أن الأوامر على ثلاثة أقسام:

1- الأمر الواقعي الأولي، كالوضوء للصلاة.

2- الأمر الواقعي الثانوي، كالتيمم لها.

3- الأمر الظاهري، كالصلاة باستصحاب الوضوء.

ومن الواضح أنه مع الإتيان بالمأمور به في كل واحد من هذه الأقسام يسقط أمر نفسه، وإنما البحث في أنه يسقط الأمر الآخر أم لا.

مثلاً: من صلّى باستصحاب الوضوء فهل يسقط الأمر بالصلاة واقعاً أم لا بحيث لو تبيّن له أنه لم يكن متوضئاً واقعاً، فهل تلك الصلاة صحيحة أم بحاجة إلى إعادة أو قضاء؟

[1] أي: يكفي عن أمر نفسه قطعاً؛ إذ لا معنى لبقاء الأمر مع تحقق متعلقه، وإنما الكلام في إجزائه عن الأمر الآخر.

[2] أمور أربعة، ثلاثة منها ترتبط بتفسير كلمات العنوان، وهي (وجهه) و(يقتضي) و(الإجزاء)، والرابع في الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار، والفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء.

[3] في معنى (وجهه)، وفيه احتمالات ثلاثة:

الأول: كيفيته شرعاً وعقلاً.

الثاني: كيفيته شرعاً.

الثالث: قصد الوجه - أي: تعيين الوجوب أو الاستحباب - .

والصحيح هو الأول؛ لأن الإنسان إذا لم يأت بأجزاء أو شروط المأمور به - سواء كانت عقلية أم شرعية - كان عمله باطلاً، فلا إجزاء قطعاً، فلا معنى للبحث

ص: 364

من «وجهه» في العنوان هو النهج[1] الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة. لا خصوص[2] الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنه عليه يكون «على وجهه» قيداً توضيحياً[3]، وهو بعيد[4]؛

-------------------------

عن الإجزاء وعدمه.

أما الثاني فيرد عليه إشكالان:

1- إنه يلزم منه كون (على وجه) قيداً توضيحياً؛ لأن قوله: (الإتيان بالمأمور به) معناه هو الإتيان بالوجه الشرعي؛ لأنّ الفاقد لشرط أو لجزء شرعي ليس مأموراً به، مثلاً: الصلاة بلا ركوع ليس مأموراً بها، بل المأمور به هي الصلاة بكل أجزائها وشرائطها الشرعية، فقولنا: (المأمور به) يساوي (على وجهه) أي: بجميع الأجزاء والشرائط، فصار قيداً توضيحياً، والمناسب في العناوين عدم كون القيود توضيحية.

2- إن المكلّف لو أخلّ بقصد القربة في العبادات كان عمله باطلاً قطعاً وغير مجزٍ، حتى لو أتى بكل الأجزاء والشرائط الشرعية، مع أن (على وجهه) لو كان بمعنى الكيفية الشرعية لدخلت العبادة بلا قصد القربة في البحث؛ لأن قصدها ليس بشرط شرعي، بل هو لدلالة العقل، كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي.

فلذا لابد من تعميم (على وجهه) ليشمل الكيفية العقلية أيضاً.

وأما الثالث فيرد عليه ثلاثة إشكالات، سيأتي توضيحها.

[1] أي: الكيفية والطريقة، «شرعاً» بكل الأجزاء والشرائط التي كانت متعلقة للأمر، «عقلاً» بما يدل العقل على لزومه مما كان متأخراً عن الأمر كقصد القربة.

[2] إشارة إلى الاحتمال الثاني في معنى (وجهه)، ثم الإشكال عليه، «فإنه» للشأن، «عليه» أي: بناءً على كون معنى (وجهه) هو الكيفية الشرعية.

[3] أي: توضيح عبارة (المأمور به)، كما عرفت.

[4] لأنهم التزموا بعدم زيادة القيود في العناوين، وإنما يوضّحون العنوان في البحث لا في نفس العنوان.

ص: 365

مع أنه[1] يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناءً على المختار - كما تقدم - من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة[2] عقلاً، لا من قيود المأمور به شرعاً[3]. ولا الوجه[4] المعتبر عند بعض الأصحاب(1)،

فإنه[5] - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره[6] عند من اعتبره إلاّ في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات -

-------------------------

[1] هذا هو الإشكال الثاني، «أنه» للشأن، «المختار» من أن اشتراط قصد القربة بحكم العقل لا بأمر الشرع، «تقدم» في بحث التوصلي والتعبدي.

[2] أي: لاحقة للأمر، وليست مأخوذة في متعلّق الأمر، وإنما كانت من كيفيات الإطاعة عقلاً لأن الغرض يتوقف عليها؛ فلذا يستقل العقل بلزومها.

[3] فلو كان المقصود من (وجهه) الكيفية الشرعية، للزم خروج العبادات عن بحث الإجزاء.

[4] هذا هو الاحتمال الثالث، بأن يراد من (وجهه) في العنوان (قصد الوجه) أي: الوجوب أو الاستحباب، ويرد عليه ثلاثة إشكالات:

1- عدم اعتبار (قصد الوجه) عند معظم العلماء، ومع ذلك جعل هؤلاء (وجهه) في عنوان بحثهم في الإجزاء، فيدل على أنهم لم يقصدوه هنا.

2- لو تنزلنا وقلنا باشتراط قصد الوجه، لكن نقول: إن (قصد الوجه) - عند من اشترطه - خاصٌ بالعبادات، وبحث الإجزاء عام للعبادات وللتوصليات، فجعل هذا القيد في عنوان البحث مما لا وجه له؛ إذ مع عمومية البحث لا وجه لتخصيصه ببعض الأوامر.

3- ولو تنزلنا عن الإشكال السابق فنقول: إن (قصد الوجه) أحد شروط العبادات، فلماذا ذكر هذا الشرط دون سائر الشروط كالقبلة والطهارة... الخ؟!!

[5] أي: فإن قصد الوجه، وهذا إشارة إلى الإشكال الأول.

[6] إشارة إلى الإشكال الثاني، «اعتبره» أي: اشترط قصد الوجه، «لا مطلق

ص: 366


1- مفتاح الكرامة 2: 314 حيث نسب ذلك إلى جمع كثير من الفقهاء، كابن البرّاج والشهيد والمحقق والعلامة... .

لا وجه[1] لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار. فلابد[2] من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.

ثانيها[3]:

-------------------------

الواجبات» فلم يشترطوه في التوصليات قطعاً.

[1] إشارة إلى الإشكال الثالث، «لا وجه» أي: لا داعي، «لاختصاصه» أي: قصد الوجه.

[2] هذا من تتمة الإشكال الثالث، أي: فلابد أن يراد من كلمة (وجهه) معنىً أعم يشمل قصد الوجه، كما يشمل سائر الشرائط والأجزاء، «ما» أي: معنىً عام، «فيه» الضمير للموصول، «من المعنى» بيان للموصول، و«هو» أي: ذلك المعنى، «ما ذكرناه» في الاحتمال الأول.

[3] في معنى كلمة (الاقتضاء) في العنوان، فاعلم أن للاقتضاء معنيين:

الأول: العِليّة، كقولنا: النار تقتضي الإحراق، أي: هي عِلّة له.

الثاني: الكاشفيّة، كقولنا: الدخان يقتضي النار، أي: كاشف عنها.

فأيّ واحدٍ من المعنيين هو المراد هنا؟

يقول المصنف: إن المراد هو المعنى الأول؛ لأن البحث في الإجزاء عقليّ، وليس في دلالة اللفظ؛ ولذا كان العنوان هو (الإتيان بالمأمور به على وجهه...)، ولم يكن العنوان (هل الأمر يقتضي الإجزاء أم لا).

وبعبارة أخرى: إن (الإتيان) ليس كاشفاً عن السقوط، بل هو علة له؛ لأن الإتيان سبب لحصول غرض المولى، ومعه لا معنى لبقاء الأمر، وهذه دلالة عقلية، وليست لفظية حتى تكون كاشفة.

نعم، الألفاظ لها دلالة، فهي كاشفة عن المعاني، ولكن ليس كلامنا في الإجزاء في دلالة الصيغة.

ص: 367

الظاهر أن المراد من «الاقتضاء» هاهنا[1] الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نُسب[2] إلى الإتيان، لا إلى الصيغة.

إن قلت[3]: هذا[4] إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر

-------------------------

[1] في بحث الإجزاء، عكس كلمة (الاقتضاء) في بحوث أخرى كقولنا: هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي؟ أو هل الصيغة تقتضي المرة والتكرار؟ ونحو ذلك، ففي تلك الموارد يراد الكشف؛ لأن الكلام في دلالة الصيغة، وهي دلالة لفظية، فهي تكون كاشفة عن مراد المولى.

[2] أي: أسند الاقتضاء في العنوان إلى الإتيان، فقلنا: هل الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أم لا؟

[3] حاصل الإشكال: إن لنا مقامين:

الأول: في الإتيان مطابقاً لأمر نفسه، مثلاً: يأتي بالمأمور به بالأمر الاضطراري، فهنا يكون هذا الإتيان علة لسقوط الأمر الاضطراري، وهكذا في الأمرين الآخرين - الواقعي والظاهري - .

الثاني: في إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري، فهل يسقط به الأمر الواقعي أم لا؛ كمن يتيمم ويصلي؟ فهل يسقط الإمر الواقعي بالوضوء؟ فهنا يكون النزاع في الحقيقة في دلالة دليل الاضطراري والظاهري، فهل لدليل التيمم دلالة على سقوط الأمر بالوضوء بعد ارتفاع الاضطرار أم لا؟ وهل لدليل الاستصحاب دلالة على سقوط الأمر الواقعي أم لا؟

فتحصل أنه في المقام الأول يكون البحث عقلياً، أي: في العِلية، وأما في المقام الثاني فالبحث لفظي، أي: في الدلالة والكشف.

[4] «هذا» الاقتضاء، «كذلك» بمعنى العلية، «أمره» أي: أمر المأتي به، مثلاً: أتى بالاضطراري فيكون علة للإجزاء عن الأمر الاضطراري.

ص: 368

- كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي - فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما[1] على اعتباره بنحوٍ يفيد الإجزاء أو بنحوٍ آخر لا يفيده.

قلت[2]: نعم[3]، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته[4] أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما - هل

-------------------------

[1] أي: دليل الأمر الاضطراري والظاهري، «اعتباره» أي: اعتبار المتعلّق - وهو المأمور به - «بنحو» أي: أخذ في الدليل بكيفية له دلالة على وفائه بالغرض الواقعي فيسقط الأمر الواقعي، أو بكيفية لا دلالة له على الوفاء بالغرض فلا يسقط.

[2] حاصله: إنه في الأمر الاضطراري والظاهري يوجد نزاعان:

1- يرتبط بالكبرى، وهي أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ بمعنى هل إنه علّة للإجزاء أم لا؟

2- يرتبط بالصغرى، وهي في منشأ النزاع الأول، حيث إن سبب النزاع في الإجزاء هو دلالة الدليل، فهل يدل الدليل على وفاء الاضطراري والظاهري بتمام الغرض من الأمر الواقعي أم لا يفي؟

وصورة القياس هكذا:

الصغرى: الأمر الاضطراري أو الظاهري يكشف عن كون متعلّقه وافياً بالمصلحة - إما بتمامها أو بالمقدار المُلزم منها - .

الكبرى: كل شيء وفى بالمصلحة فهو علة للإجزاء واقعاً.

[3] أي: نسلّم أن هناك نزاعاً في مقدار دلالة دليل الاضطراري والظاهري، وهذا هو النزاع الثاني، «لكنه» أي: لكن النزاع في دلالة الدليل، «فيهما» في الاضطراري والظاهري، «المعنى المتقدم» أي: العِلية.

[4] أي: غاية الأمر أن سبب النزاع في الاضطراري والظاهري - وأنه هل يجزيان عن الواقعي أم لا؟ - هو النزاع في دلالة الدليل.

ص: 369

أنه[1] على نحوٍ يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه[2] - وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه[3] صغروياً أيضاً[4]. بخلافه[5] في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض[6]، فافهم[7].

-------------------------

[1] «أنه» أن دليلهما، «على نحو» أي: بكيفية يدل على الوفاء بالغرض، وحينئذٍ يستقل العقل بالإجزاء، «به» بمتعلّق الأمر.

[2] عطف تفسيري على (موجب للإجزاء)، أي: هل هو عِلة له أم لا؟ لأن العِلة هي التي تؤثر، أما الكاشف فلا تأثير له.

[3] أي: في إجزاء الاضطراري والظاهري عن الواقعي.

[4] أي: كما يجري فيه النزاع الكبروي - وهو النزاع الأول - .

[5] أي: بخلاف النزاع في الإجزاء عن أمر نفسه، فإنه لا نزاع صغروي فيه؛ لأن متعلّق كل أمرٍ يكشف عن وفائه بتمام مصلحة ذلك الأمر.

ولو فرض أن هناك نزاعاً فإنما هو نزاع في الكبرى، أي: هذا الاضطراري أو الظاهري إذا وفى بمصلحة الواقع فهل يسقط بذلك الأمر الواقعي أم لا؟

[6] من العامة(1)،

لكنه كلام ضعيف جداً.

[7] لعله إشارة إلى أن المشهور عنونوا المسألة بأن (الأمر هل يقتضي الإجزاء؟) وحيث ربطوا المسألة بصيغة الأمر فلابد من أن تكون كلمة الاقتضاء في عنوانهم بمعنى الدلالة والكشف.

أو إشارة إلى أن عمدة النزاع في الاضطراري والظاهري هو في دلالة الدليل - وهو النزاع الصغروي - فلا وجه لتخصيص العنوان بالنزاع الكبروي الذي لا بحث فيه.

ص: 370


1- مفاتيح الأصول: 126.

ثالثها[1]: الظاهر أن «الإجزاء» هاهنا[2] بمعناه لغةً، وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما يكفي عنه[3]، فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي فيسقط به التعبد[4] به ثانياً، وبالأمر[5] الاضطراري أو الظاهري الجعلي[6]، فيسقط به[7] القضاء،

-------------------------

[1] في معنى كلمة (الإجزاء) في العنوان، يقول المصنف: إن الإجزاء هنا هو بنفس معناه اللغوي وهو الكفاية، أي: هل يكفي أم لا؟ وليس للأصوليين اصطلاح خاص بأن يكون مرادهم من الإجزاء: عدم الإعادة وعدم القضاء.

نعم، مصاديق الكفاية تختلف... .

1- فيكفي الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن التعبد به ثانياً.

2- ويكفي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري عن الإعادة والقضاء.

[2] أي: في عنوان البحث.

[3] أي: قد يكفي عن التعبد ثانياً، وقد يكفي عن الإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى: الاختلاف في متعلّق الكفاية ومصداقها، لا في نفس الكفاية، فهي معنى الإجزاء في كل الصور هنا.

[4] أي: فيسقط بالإتيان بالمأمور به الواقعي التعبد بالمأمور به مرّة أخرى.

والمقصود ب- «التعبد» هو امتثال الأمر، فإنه مع امتثاله في المرة الأولى يحصل غرض المولى، فيسقط الأمر لا محالة.

ولا يخفى أنه كما يسقط التعبد بالأمر الواقعي بالإتيان به، كذلك بالإتيان بالأمر الاضطراري والظاهري يسقط التعبد بهما.

[5] أي: والإتيان بالأمر الاضطراري والظاهري يكفي فتسقط الإعادة والقضاء.

[6] أي: المجعول بدلاً عن المأمور به بالأمر الواقعي.

[7] أي: بالإتيان، وقوله: «القضاء» يشمل الإعادة أيضاً؛ لأن سقوط القضاء لازم لسقوط الإعادة، إلاّ لو دلّ دليل خاص على عدم سقوط الإعادة مع سقوط القضاء.

ص: 371

لا أنه[1] يكون هاهنا اصطلاحاً - بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء - فإنه بعيدٌ جداً[2].

رابعها[3]: الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فإن البحث هاهنا[4] في أن الإتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلاً؟ بخلافه في تلك المسألة،

-------------------------

[1] معطوف على صدر الكلام، أي: الظاهر أن الإجزاء هاهنا بمعناه لغة، لا أنّ للأصوليين اصطلاح خاص بأن يكون الإجزاء بمعنى سقوط التعبد أو القضاء.

«أنه» أن الإجزاء، «يكون» تامة بمعنى يوجد، «هاهنا» في العنوان، «اصطلاحاً» النصب بالحالية، فالمعنى: لا أن الإجزاء يوجد حال كونه اصطلاحاً بمعنى... الخ.

[2] لعدم الحاجة إلى هذا الاصطلاح مع وفاء المعنى اللغوي بالمقصود كاملاً.

[3] عقد هذا الأمر لدفع توهمين.

التوهم الأول: عدم الفرق بين مسألة الإجزاء، ومسألة المرة والتكرار، فإن المرة تساوق الإجزاء، والتكرار يساوق عدم الإجزاء.

ويرد عليه: وضوح الفرق بين المسألتين، فإن مسألة المرة والتكرار في تعيين المأمور به، وإن المولى أمر بأيِّ شيءٍ، فهل أمر بفعل الشيء مرّة واحدة أم مرات متعددة؟ فالبحث صغروي. وأما مسألة الإجزاء فهي في أن الإتيان بالمأمور به المعلوم هل يُجزي أم لا؟ فالبحث كبروي.

مضافاً إلى أن تلك المسألة لفظية في دلالة الصيغة على المرة أو التكرار، وهذه المسألة عقلية، كما مرّ بيانه.

[4] في مسألة الإجزاء وقد دمج المصنف الفرقين معاً، ففي الإجزاء (الإتيان بالمأمور به) أي: المعيَّن، (عقلاً) فالمسألة عقلية، وفي تلك المسألة (ما هو المأمور به) فهو غير معيّن ويراد تعيينه، و(بحسب دلالة الصيغة) فالمسألة لفظية.

«بخلافه» أي: بخلاف البحث، «تلك المسألة» المرة والتكرار، «فإنه» إن البحث.

ص: 372

فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة أخرى[1]. نعم[2]، كان التكرار عملاً موافقاً بعدم الإجزاء، لكنه لا بملاكه.

وهكذا[3]

-------------------------

[1] أي: بقرينة عامة، ولا يخفى أن الدلالة الأخرى لم تبحث في مسألة المرة والتكرار، بل بحثت في مسألة الفور والتراخي، فلا ارتباط لها بموضوع البحث هنا.

[2] الغرض بيان أن التكرار قد يوافق عدم الإجزاء عملاً؛ إذ عدم الإجزاء بمعنى لزوم الإتيان بالعمل مرّة أخرى، وهذا يتطابق مع لزوم التكرار، لكن هذا التوافق المصداقي لا يجعل المسألتين مسألةً واحدة؛ لأن الملاك فيهما مختلف؛ إذ الملاك في عدم الإجزاء عدم سقوط الغرض الداعي للأمر فلا يمكن الاكتفاء به، وملاك التكرار هو أن المأمور به كان متعدداً.

«عملاً» أي: في المصداق الخارجي، «لكنه» لكن التكرار، «لا بملاكه» أي: لا بملاك عدم الإجزاء.

[3] التوهم الثاني: إن مسألة الإجزاء هي نفس مسألة تبعية القضاء للأداء؛ وذلك لأن معنى تلك المسألة: أن من لم يأت بالمأمور به في الوقت، هل يجب عليه القضاء في خارج الوقت بنفس الأمر الأول، أم لا يجب عليه القضاء بالأمر الأول، بل بأمر جديد؟ وعليه: فإن دلالة الأمر الأول على وجوب القضاء يساوق عدم الإجزاء، وعدم دلالته على القضاء يساوق الإجزاء.

ويرد عليه أولاً: إن مسألة التبعية لفظية، أي: هل صيغة الأمر تدل على التبعية أم لا؟ ومسألة الإجزاء عقلية.

وثانياً: إن تلك المسألة في خصوص القضاء، وهذه تشمل الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

وثالثاً: - وهو العمدة ولم يذكره المصنف - إن تلك المسألة إنما هي فيمن لم يأت بالعمل أصلاً، وهذه المسألة فيمن أتى بالعمل.

ص: 373

الفرق بينها[1] وبين مسألة تبعية القضاء للأداء[2]، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة[3] على التبعية وعدمها. بخلاف هذه المسألة، فإنه - كما عرفت - في أن الإتيان بالمأمور به يجزئ عقلاً عن إتيانه ثانياً - أداءً أو قضاءً[4] - أو لا يجزئ؟ فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلاً.

إذا عرفت هذه الأمور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين:

الموضع الأول[5]: إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، بل بالأمر الاضطراري

-------------------------

[1] أي: بين مسألة الإجزاء.

[2] وحاصل تلك المسألة: إن الواجب الموقّت إذا انقضى وقته ولم يأت به المكلّف في الوقت، فهل يجب عليه القضاء بدلالة نفس دليل الوجوب، أم أنه لا دلالة لذلك الدليل على وجوب القضاء، بل لابد من قيام دليل آخر على القضاء؟

وسبب الخلاف هو أن دليل الوجوب هل يدل على وحدة المطلوب، أي: إن المطلوب هو المتعلَّق في الوقت، أم يدل على تعدّد المطلوب، أي: إن هناك مطلوبين أحدهما الإتيان بالعمل، والآخر مراعاة الوقت، فإذا سقط الثاني بقي الأول؟

[3] هذا هو الفرق الأول، «عدمها» أي: عدم الدلالة، «فإنه» فإن البحث.

[4] إشارة إلى الفرق الثاني، «المسألة» أي: مسألة الإجزاء، «المسألتين» مسألة المرة والتكرار، ومسألة تبعية القضاء للأداء.

الموضع الأول: الإجزاء عن أمر نفسه

[5] حاصله: إن أمر المولى إنما هو لغرض يدعو لذلك الأمر، فإذا أتى بمتعلق الأمر فقد تحقق الغرض، وبتحقق الغرض يسقط الأمر، وهذا هو معنى الإجزاء.

فلو أتى بالمأمور به بالأمر الواقعي - كما لو صلّى بوضوء - سقط الأمر الواقعي؛ لتحقق متعلّقه، فتحقق الغرض من الأمر.

ص: 374

أو الظاهري أيضاً يجزئ عن التعبد به[1] ثانياً، لاستقلال العقل[2] بأنه لا مجال مع موافقة الأمر[3] بإتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانياً.

نعم[4]، لا يبعد أن يقال بأنه يكون للعبد[5] تبديل الامتثال، والتعبد به ثانياً بدلاً عن التعبد به أولاً، لا منضماً إليه[6]

-------------------------

وكذا لو أتى بالمأمور به بالأمر الاضطراري، كما لو صلّى بتيمم، فإن الأمر الاضطراري يسقط؛ لتحقق متعلقه أيضاً، فلا مجال للصلاة بالتيمم مرّة أخرى.

وكذلك في المأمور به بالأمر الظاهري، كما لو صلّى باستصحاب الوضوء، فإن الأمر الظاهري يسقط، فلا مجال لتكرار الصلاة باستصحاب الوضوء.

نعم، يمكن تبديل الامتثال لو لم يتحقق الغرض الأقصى، كما مرّ في بحث المرة والتكرار، ويعيد المصنف بيانه هنا بتفصيل أكثر.

[1] أي: امتثال أمر المولى، «به» بذلك الأمر.

[2] فإن العقل يدلّ على أن عِلّة التكليف هي الغرض، وأنه بتحقق الغرض يسقط التكليف؛ لأن المعلول يدور مدار العلة ثبوتاً وسقوطاً، «بأنه» للشأن.

[3] أي: امتثاله، بأن أتى بمتعلقه كاملاً، «بإتيان» متعلق بالموافقة، «لاقتضائه» متعلق ب- (لا مجال)، «به» بالمأمور به.

[4] أي: نعم، يمكن التعبد ثانياً في صورة عدم تحقق الغرض الأقصى، وذلك عبر تبديل الامتثال.

[5] أي: يجوز له، وقوله: «والتعبّد به» عطف تفسيري على (الامتثال)، «التعبد به» أي: بالمأمور به، وهو متعلّق التكليف.

[6] بحيث يكون كلاهما امتثالاً؛ وذلك لما عرفت من أن الغرض إنما تعلّق بوجود واحد لا بأكثر، فلا يكون كلاهما تعبداً، بل أحدهما، «إليه» أي: إلى التعبد أولاً.

ص: 375

- كما أشرنا إليه في المسألة السابقة[1] - وذلك[2] في ما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض[3] وإن كان[4] وافياً به لو اكتفى به؛ كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ، فإن الأمر[5] بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد؛ ولذا لو أهريق(1)

الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً[6]، كما إذا لم يأت به

-------------------------

[1] أي: مسألة المرة والتكرار، وهي المسألة السابقة على السابقة.

[2] أي: تبديل الامتثال إنما يجوز.

[3] أي: الغرض الأقصى؛ وذلك لأنه لو كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض الأقصى لاستحال تبديل الامتثال؛ إذ مع تحقق الغرض الأقصى لا يبقى الأمر، فلا يمكن امتثال جديد.

وجه الاستحالة: هو أن الشيء لا ينقلب عما هو عليه، وأن تحصيل الحاصل محال، ويلزم الأول في ما لو قلنا: إنّ الامتثال السابق ينقلب عن الامتثال إلى عدم الامتثال، ويلزم الثاني في ما لو قلنا ببقاء الامتثال السابق.

أما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى فملاك الأمر - الذي هو الغرض الأقصى - باقٍ، فلذا يتمكن من تبديل الامتثال.

[4] أي: وإن كان الامتثال الأول له القابلية لأن يتحقق به الغرض الأقصى، «اكتفى به» بالامتثال الأول فلم يبدّله.

[5] هذا تعليل جواز التبديل، وقوله: (وملاكه) عطف تفسيري على (بحقيقته).

[6] لبقاء ملاك الوجوب وهو عطش المولى - مثلاً - فكما كان يجب الامتثال الأول، كذلك لو لم يتحقق غرض المولى - بأن أريق الماء - يجب تكرار الامتثال لبقاء غرض المولى.

ص: 376


1- هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى: «أهرق».

أولاً، ضرورة بقاء طلبه[1] ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلاّ[2] لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ[3] يكون له الإتيان بماءٍ آخر موافق للأمر، كما كان له[4] قبل إتيانه الأول، بدلاً عنه.

نعم[5]، في ما كان الإتيانُ علةً تامةً لحصول الغرض[6]، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه. بل[7] لو لم يعلم أنه من أي

-------------------------

[1] أي: بقاء إرادته حتى وإن سقط الأمر - للإتيان بمتعلقه - «الداعي» ذلك الغرض، «إليه» إلى طلبه.

[2] أي: إن لم يجب الإتيان به ثانياً مع بقاء الغرض لما كان هناك سبب لحدوث الأمر أصلاً؛ لأن الأمر معلول للسبب.

وبعبارة أخرى: الغرض هو علة للتكليف، فيدور الحكم - بقاءً وحدوثاً - مداره، فكما أن الغرض علة لحدوث الحكم فكذلك هو علة لبقائه، فلو لم يبق الحكم مع بقاء الغرض كشف ذلك عن عدم حدوث الحكم أصلاً، لعدم كونه غرضاً أصلاً.

[3] أي: حين بقاء الغرض الأقصى، «له» للعبد، «موافق للأمر» أي: متطابق مع مواصفات متعلّق الأمر، كما لو كان المولى يريد ماءً حلواً فيبدل الأول بماء حلو ثانٍ.

[4] أي: كان يمكنه من الأول أن يأتي بهذا المصداق الآخر، فكذلك له تبديل الأول بهذا الآخر.

[5] أي: مع حصول الغرض الأقصى لا مجال لتبديل الامتثال أصلاً، لسقوط الغرض، فيسقط الأمر، فلا يمكن امتثال ثانٍ.

[6] أي: الغرض الأقصى، «موقع» أي: مجال.

[7] أي: لو علم بعدم تحقق الغرض الأقصى فله التبديل، ولو علم بتحققه فلا مجال للتبديل، أما لو لم يعلم وشك فله التبديل أيضاً؛ وذلك بقصد الرجاء

ص: 377

القبيل فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل.

ويؤيد ذلك[1]، بل يدل عليه[2] ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة[3] وأن الله تعالى يختارُ أحبَّهما إليه(1).

الموضع الثاني: وفيه مقامان:

المقام الأول: في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزئ عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانياً[4] بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادةً وفي خارجه

-------------------------

واحتمال تحقق الامتثال بالثاني بدلاً عن الأول، «أنه» أن الإتيان، «فله» للعبد، «إليه» إلى التبديل.

[1] أي: جواز تبديل الامتثال، وإنما قال: (يؤيده) لاحتمال أن تكون إعادة الصلاة جماعة ليس بالأمر الأول، وإنما لأجل أمر جديد استحبابي، وهذا خارج عن البحث؛ لأن بحثنا الآن في تبديل امتثال الأمر الأول، لا الامتثال الجديد بأمر آخر.

[2] قيل في وجه الدلالة: إن قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في بعض روايات الباب: (ويجعلها الفريضة) يدل على أن ذلك بيد المكلّف، ومن المعلوم أن الفريضة إنما هي بالأمر الأول لا بأمر جديد.

[3] أي: الإعادة جماعة، ففي صحيحة هشام بن سالم عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (في الرجل يصلّي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة؟ قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء)(2).

الموضع الثاني: الإجزاء عن أمر غيره

المقام الأول: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي
اشارة

[4] متعلّق ب- (الإتيان)، أي: يكفي عن الإتيان به ثانياً، «إعادة» حال أي: حال

ص: 378


1- وسائل الشيعة 8: 401-403.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 384.

قضاءً أو لا يجزئ؟

تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارةً في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم[1]

-------------------------

كونه إعادة، وكذا «قضاءً»، ومثاله ما لو تيمّم فصلّى ثم وجد الماء في الوقت أو خارجه، فهل عليه إعادة الصلاة أو قضاؤها؟

1- الكلام في مرحلة الثبوت
اشارة

[1] أي: في مرحلة الثبوت، والصور أربعة:

1- أن يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، وحينئذٍ لابدّ من الإجزاء؛ وذلك لأن سبب الأمر هو الغرض وقد تحقق هذا الغرض.

ولا يخفى أن وفاء الأمر الاضطراري بتمام المصلحة إنما هو في صورة الاضطرار فقط، وأما في صورة الاختيار فلا يفي؛ إذ لو كان وافياً لوجب التخيير بينهما.

2- أن لا يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، بل على بعضها، مع عدم إمكان تدارك الباقي من المصلحة أصلاً، لا في الوقت ولا في خارجه، وفي هذه الصورة لابد من الإجزاء، وهل يجوز المسارعة إلى امتثال الأمر الاضطراري أم لابد من الانتظار؟ فيه تفصيل سيأتي الإشارة إليه.

3- أن لا يكون الاضطراري مشتملاً على تمام المصلحة، وكان المقدار الباقي من المصلحة لازماً، مع إمكان التدارك، فحينئذٍ تجوز المبادرة مع عدم الإجزاء، فيلزم التكرار لإدراك باقي المصلحة.

4- الصورة السابقة، مع عدم كون المصلحة المتبقية ملزمة، وحنيئذٍ فالإجزاء مع

ص: 379

أنّه يمكن أن يكون[1] التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً[2] في ما هو المهم والغرض؛ ويمكن أن لا يكون وافياً به[3] كذلك، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن؛ وما أمكن[4] كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب.

ولا يخفى: أنه[5] إن كان وافياً به يجزئ[6]. فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاءً ولا إعادةً.

-------------------------

استحباب المبادرة، ولكن تستحب الإعادة لإدراك ما تبقى من المصلحة.

[1] بيان الصورة الأولى، «التكليف» أي: متعلّق التكليف، وقوله: «في حال الاضطرار» لبيان أن وفاءه بتمام المصلحة إنما هو في حال الاضطرار فقط.

[2] العطف تفسيري، لبيان معنى الوفاء بتمام المصلحة.

[3] وهذا إشارة إلى سائر الصور، «به» بالغرض، «كذلك» بتمامه، «منه» من الغرض، «أمكن استيفاؤه» إشارة إلى الصورة الثالثة والرابعة، «لا يمكن» إشارة إلى الصورة الثانية.

[4] أي: الذي أمكن التدارك فيه على قسمين: فتارة يكون المتبقي من المصلحة بمقدار واجب التدارك وهو الصورة الثالثة، وتارة أخرى يكون بمقدار غير واجب التدارك وهو الصورة الرابعة.

الصورة الأولى

[5] «أنه» الاضطراري، «به» بتمام المصلحة.

[6] أي: يُجزي، حيث عقلاً تحقق غرض المولى، فلا مجال لبقاء التكليف أصلاً، فلا يجب التدارك؛ لعدم فوت شيء من الغرض.

وأما المبادرة في هذه الصورة فيسأتي حكمها في ذيل الصورة الثانية.

ص: 380

وكذا[1] لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه. ولا يكاد[2] يسوغ له البدار في هذه الصورة إلاّ لمصلحة كانت فيه[3]، لما[4] فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لو لا مراعاة ما هو فيه[5] من الأهم، فافهم[6].

-------------------------

الصورة الثانية

[1] وهذه الصورة الثانية، أي: وكذا يُجزي مع عدم مجال للتدارك، أما الإجزاء فلتحقق جزء من غرض المولى، وأما عدم التدارك فلعدم إمكانه حسب فرض هذه الصورة.

[2] أي: هذا المكلّف لا يجوز له المبادرة إلى امتثال التكليف الاضطراري في أوّل الوقت؛ لأنه بذلك يفوّت جزءاً من غرض المولى.

[3] أي: لو كان في البدار مصلحة متساوية مع المقدار الذي يفوت من المصلحة أو أكثر منه، حيث إنه قد يكون إدراك الوقت مهماً، فيتعارض مع الجزء المتبقي من المصلحة - الذي يمكن إدراكه خارج الوقت - فإن تساويا كان المكلّف مخيّراً بين الإتيان بالاضطراري في الوقت، أو الإتيان بالاختياري خارج الوقت.

وإن كانت مصلحة الوقت أهم بحدّ الإلزام وجب الإتيان بالاضطراري في الوقت.

[4] هذا دليل عدم جواز البدار في هذه الصورة، «وتفويت مقدار...» عطف تفسيري على (لما فيه من نقض الغرض).

[5] هذا دليل جواز البدار لو كان في البدار مصلحة، «ما» أي: مصلحةٍ، «هو» يعود للموصول، «فيه» في البدار، «من الأهم» بيان للموصول، والمعنى لا يجوز البدار إلاّ لو كانت مصلحة أهم في البدار كمصلحة الوقت.

[6] لعلّه إشارة إلى أن هذه الصورة تنقسم إلى قسمين؛ لأن المقدار الذي لا يمكن إدراكه من الغرض قد يكون ملزماً وقد لا يكون ملزماً، فهذه الصورة في الحقيقة صورتان لا واحدة.

ص: 381

لا يقال[1]: عليه[2] فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار[3]، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنه يقال[4]: هذا كذلك[5] لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت.

وأما تسويغ البدار[6] أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى

-------------------------

[1] حاصله: إنه لو كان الاضطرار لا يفي بتمام المصلحة مع عدم إمكان التدارك، فلماذا تمَّ تشريعه أصلاً؟!، بل على المولى أن يأمر بالصبر إلى زوال الاضطرار ليأتي بالعمل الاختياري فيدرك تمام المصلحة.

[2] أي: بناءً على لزوم نقض الغرض، «لتشريعه» أي: الاضطراري.

[3] أي: الانتظار إلى آخر الوقت، «لإمكان» عِلة عدم المجال لتشريع الاضطراري، «الغرض» أي: بتمامه.

[4] حاصله: إن للوقت مصلحة أيضاً، فالمولى يشرّع العمل الاضطراري في آخر الوقت لإدراك مصلحة الوقت.

[5] أي: هذا الذي ذكرتم صحيح إذا لم تكن للوقت مصلحة، فحينئذٍ تتعارض مصلحة الوقت مع المقدار المتبقي من مصلحة العمل، «هذا» ما ذكرتم من الإشكال «كذلك» أي: صحيح ووارد.

البدار في الصورة الأولى

[6] أي: مع كون المأمور به بالأمر الاضطراري وافياً بتمام الغرض فهل يجوز البدار والمسارعة إلى امتثال الأمر الاضطراري؟

هنا ثلاث حالات:

1- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة مطلقاً، سواء في أوّل الوقت أم في وسطه أو آخره، وسواء كان يائساً عن زوال الاضطرار أم لا، وحينئذٍ فيجوز البدار بلا كلام.

ص: 382

فيدورُ[1] مدار كون العمل بمجرد الاضطرار - مطلقاً[2]، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار - ذا مصلحة ووافياً بالغرض.

وإن لم يكن[3] وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت[4] أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ[5]، بل لابد من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلاّ[6] فيجزئ.

-------------------------

2- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة إنما هو في آخر الوقت فقط، وحينئذٍ ففي جواز البدار وعدمه، وكذا في الإجزاء وعدمه حالات مختلفة.

3- أن يكون الوفاء بتمام المصلحة حين اليأس عن زوال الاضطرار في الوقت، كمن يعلم من أول الوقت بأنه لا يتمكن من الوضوء أصلاً إلى نهاية الوقت، فحينئذٍ يجوز البدار ويُجزئ.

[1] أي: تسويغ البدار يرتبط بكيفية إدراك تمام المصلحة، والحالات ثلاث كما عرفت.

[2] أي: من غير تقييد بآخر الوقت أو باليأس، «بشرط الانتظار» أي: إلى آخر الوقت، و«ذا مصلحة» خبر (كون)، وقوله: «وافياً بالغرض» بيان للمراد من المصلحة، أي: المصلحة كاملةً.

الصورة الثالثة والرابعة

[3] أي: لم يكن الاضطراري وافياً بتمام المصلحة، بل كان يفي ببعضها، وهذا صورتان.

[4] بزوال الاضطرار قبل خروج الوقت، «أو مطلقاً» أي: يمكن التدارك في الوقت أو في خارج الوقت.

[5] لأن المفروض أن المقدار المتبقي من المصلحة ممكن التدارك مع لزومه، وهذا هو الصورة الثالثة.

[6] أي: لم يكن المقدار المتبقي مما يجب تداركه، وهذا هو الصورة الرابعة.

ص: 383

ولا مانع عن البدار في الصورتين[1]، غاية الأمر يتخير في الصورة الأولى[2] بين البدار والإتيان بعملين - العمل الاضطراري في هذا الحال[3]، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار - أو الانتظار[4] والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار؛ وفي الصورة الثانية[5] يتعين عليه استحباب البدار ويستحب إعادته بعد طرو الاختيار[6].

هذا كله في ما يمكن[7] أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء.

وأما ما وقع عليه[8]:

-------------------------

[1] وذلك لعدم تفويت شيء من الغرض الملزم، أما في الصورة الثالثة فلإمكان الإعادة أو القضاء، وأما في الصورة الرابعة فلعدم كون الفائت ملزماً مع إمكان تداركه استحباباً.

[2] من هاتين الصورتين، والمقصود الصورة الثالثة من مجموع الصور.

[3] أي: حال الاضطرار؛ لأنه بذلك يدرك جزءاً من غرض المولى، ولا مانع عقلاً من ذلك.

[4] حتى يرتفع الاضطرار، «الاقتصار» الاكتفاء.

[5] من الصورتين، والمقصود الصورة الرابعة من مجموع الصور.

[6] أما استحباب البدار: فلإدراك فضيلة أول الوقت، أو للعمل بآية الاستباق والمسارعة.

وأما استحباب الإعادة، فلإدراك ما تبقى من الغرض - الذي لم يكن تداركه واجباً - .

وفي بعض نسخ الكفاية (يتعين عليه البدار ويستحب إعادته... الخ) وفي بعضها (يتعين البدار ويستحب الإعادة).

[7] أي: هذه الصور إنما هي في عالم الواقع والثبوت.

2 - الكلام في مرحلة الإثبات

[8] أي: ما دلّ عليه الدليل في مرحلة الإثبات، والدليل إما الإطلاق اللفظي

ص: 384

فظاهر إطلاق دليله[1] - مثل قوله تعالى: {فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا}(1)، وقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الترابُ أحد الطهورين»(2)، و«يكفيك عشر سنين»(3) - هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء. ولابد[2] في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص.

-------------------------

أو الأصل العملي، وهما يتطابقان مع الصورة الأولى أو الرابعة.

أما الإطلاق اللفظي، فهو في ما كان المولى في مقام البيان، ولم يُبيّن وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار، كما أن الدليل مطلق من جهة الوقت، أي: لم يُقيّد باليأس عن رفع الاضطرار، ولا قُيّد بالانتظار، فيجوز البدار، ويجزي حسب هذا الإطلاق.

وأما الأصل العملي، فهو في ما لم يكن هناك إطلاق لفظي، ومقتضى الأصل هو البراءة عن الإعادة أو القضاء؛ لأنهما شك في أصل التكليف الزائد.

[1] دليل الاضطراري، فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ} مطلق، حيث بينت الآية أن الوظيفة هي التيمم مطلقاً بدون بيان الإعادة أو القضاء، وبدون بيان أن الحكم مقيّد باليأس أو بالانتظار.

وكذا قوله: (التراب أحد الطهورين) حيث أطلق البدلية، ومن المعلوم ثبوت جميع أحكام (المُبْدَل منه) للبدل، وكذا قوله: (يكفيك عشر سنين) حيث أطلق الكفاية من كل الجهات، ومنها الكفاية حتى بعد رفع الاضطرار، وحتى لو بادر.

[2] أي: حيث إن الدليل مطلق فلا يمكن التقييد إلاّ بدليل آخر يدل على التقييد، كحال كل مطلق ومقيّد.

ص: 385


1- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.
2- الكافي 3: 64، وفيه: إن التيمّم... .
3- من لا يحضره الفقيه 1: 108، وفيه: يكفيك الصعيد... .

وبالجملة: فالمتبع هو الإطلاق لو كان، وإلاّ[1] فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكّاً في أصل التكليف[2]؛ وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى[3]. نعم[4]، لو دلّ دليله[5] على أن سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجباً عليه لتحقق سببه[6] وإن أتى بالفرض[7]،

-------------------------

[1] أي: إن لم يكن هناك إطلاق لفظي، كما لو دلّ الإجماع على الوجوب، أو لم تتم مقدمات الحكمة، «وهو» أي: الأصل العملي.

[2] وذلك لأن التكليف الواقعي قد سقط في حال الاضطرار، وبعد الإتيان بالتكليف الاضطراري وارتفاع الاضطرار هل هناك تكليف بالإعادة أو القضاء مطابقاً للتكليف الاختياري؟ فهنا شك في أصل التكليف.

[3] لأنه لو لم يجب التكرار والوقت موجود فعدم وجوبه والوقت قد خرج بطريق أولى، وبعبارة أخرى: إذا لم يكن هناك غرض في الفعل مع حفظ مصلحة الوقت فعدم وجود الغرض في خارج الوقت بطريق أولى.

[4] هذا دفع لإشكال، وحاصل الإشكال هو: إن (القضاء) إنما هو لفوت الواقع حتى لو لم يكن ذلك الواقع فريضة في حال فوته، فمن كان فاقد الماء قد فاته الأمر الواقعي بالوضوء، حتى لو لم يكن الوضوء تكليفه في ذلك الحين.

والجواب: إن سبب وجوب القضاء ليس هو فوت الواقع، بل فوته حال كونه فريضة، وفي ما نحن فيه لم يتحقق شرط القضاء؛ إذ لم يفت حال كونه فريضة، بل فات الواقع حال كون الفريضة شيئاً آخر.

[5] أي: دليل إيجاب القضاء، «سببه» سبب إيجاب القضاء، «لم يكن هو فريضة» في حال فوته، «عليه» على المكلّف.

[6] أي: سبب القضاء حينئذٍ وهو فوت الواقع الذي لم يكن فريضة.

[7] أي: بواسطة الإتيان بالاضطراري، فيكون الأمر بالقضاء أمراً جديداً، وبغرض آخر غير غرض أصل التكليف.

ص: 386

لكنه[1] مجرد الفرض.

المقام الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري[2] وعدمه[3].

والتحقيق: إنّ ما كان منه[4] يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق[5]

-------------------------

[1] هذا الجواب، وحاصله: إن هذا الفرض غير واقع خارجاً، بل ظاهر دليل القضاء هو فوت الفريضة الفعلية فقط.

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
اشارة

[2] ويراد به الأعم من الأمارات والأصول العملية.

[3] أي: عدم الأجزاء، والكلام في أمرين:

الأمر الأول: في ما لو كان الأمر الظاهري بالنسبة إلى الجزء أو الشرط، كما لو قامت بينة على طهارة ثوت المصلي، أو أجرى أصالة الطهارة بالنسبة إلى ثوبه.

الأمر الثاني: في ما لو كان الأمر الظاهري بالنسبة إلى أصل التكليف، كما لو قام الدليل على وجوب الجمعة في زمان الغيبة، ثم تبين وجوب الظهر.

الأمر الأول: في الأمر الظاهري المتعلق بالجزء أو الشرط
اشارة

[4] أي: من الأمر الظاهري، «تنقيح» أي: إثبات، والعطف في (وتحقيق متعلقه) تفسيري، فإن موضوع التكليف هو نفس متعلقه، وقيل: موضوعه بمعنى شرطه، ومتعلقه بمعنى جزءه.

وحاصل كلام المصنف: إنّ لسان الدليل الظاهري على نحوين:

أ: ما كان بلسان الحكومة، أي: توسيع أو تضييق الشرط والجزء، فحينئذٍ نقول بالإجزاء.

ب: ما كان بلسان الكشف عن الواقع فلا إجزاء.

أ- ما كان بلسان الحكومة

[5] اعلم أن الحكومة هي بمعنى أن يكون الدليل الثاني ناظراً إلى الدليل الأول،

ص: 387

-------------------------

فيوسّع موضوعه أو يضيّقه تعبداً، مثلاً: لو قال المولى (أكرم العلماء) ثم قال: (زيد عالم) مع كونه جاهلاً، فمعنى ذلك أنه وسّع دائرة العلماء بحيث شملت زيداً أيضاً، أو قال: (عمرو ليس بعالم) مع كونه عالماً فمعنى ذلك أنه ضيّق دائرة العلماء بحيث خرج منها عمرو.

ومثاله الشرعي قوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: (لا شك لكثير الشك)(1)

فإن هذا الدليل ناظر إلى أدلة الشكيّات، فضيّق (الشاكّ) بحيث أخرج منه (كثير الشك).

إذا اتضح ذلك، قلنا: إن دليل الأمر الظاهري قد يكون بلسان الحكومة، مثلاً: يشترط في الصلاة طهارة الثوب، فلو صلّى في ثوب لا يعلم بطهارته استناداً على أصالة الطهارة، ثم تبيّن أن الثوب كان نجساً واقعاً، فصلاته صحيحة ومجزية؛ لأن (أصالة الطهارة) حاكمة على دليل (اشتراط طهارة الثوب)، أي: توسّع دائرة الشرط، فيكون الشرط الطهارة، سواء كانت واقعية أم ظاهرية.

وبعبارة أخرى: إن الحكم تابع للموضوع، فإذا تبدل الموضوع يتبدل الحكم، فيكون ما أتى به حسب الموضوع الأول مُجزياً، مثلاً: من كان مسافراً فوظيفته القصر، فلو صلّى قصراً ثم رجع إلى بلده والوقت باقٍ فليس عليه الإعادة؛ لأنه قد أدّى وظيفته حسب ما كان عليه من الموضوع.

وهكذا الذي صلّى في ثوب أحرز طهارته بأصالة الطهارة، فإن شرط الصلاة - وهو طهارة الثوب - كان متحققاً - حيث إن أصالة الطهارة وسعت في الشرط - وبعد ذلك لو علم بالنجاسة فإن الموضوع يتبدّل فلا تصحّ الصلوات الآتية بهذا الثوب، لكن صلاته السابقة صحيحة؛ لأنها كانت مع شرطها.

ص: 388


1- وسائل الشيعة 8: 227.

ما هو شرطه أو شطره[1]، كقاعدة الطهارة أو الحلية - بل واستصحابهما[2] في وجهٍ قويٍ[3] - ونحوها[4] بالنسبة[5] إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية، يجزئ[6]، فإن[7] دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط، ومبيناً[8] لدائرة الشرط، وأنه[9] أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه[10] لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه[11] يكون من قبيل ارتفاعه[12] من حين ارتفاع الجهل.

-------------------------

[1] أي: شرط التكليف أو جزء التكليف، والمراد شرط أو جزء متعلّق التكليف.

[2] الفرق أن قاعدة الطهارة والحلية في ما لم يعلم الحالة السابقة، وأما استصحابهما ففي ما كانت الحالة السابقة هي الطهارة والحلية.

[3] وهو كون الاستصحاب أصلاً عملياً، لا أمارة كاشفة عن الواقع، وأما لو قلنا: إنّه أمارة فيدخل في النحو التالي.

[4] أي: نحو قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما، كقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة الصحة، وسائر الأصول العملية التي لها نظر إلى الواقع.

[5] متعلق بقاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما.

[6] قوله: «يجزي» خبر (أن) في قوله: (أن ما كان منه في تنقيح... الخ).

[7] هذا عِلة الإجزاء، «دليله» أي: دليل الأمر الظاهري.

[8] عطف تفسيري لتوضيح الحكومة، أي: الدليل الظاهري ناظر إلى دليل اشتراط الطهارة مثلاً فيوسّعه.

[9] أيضاً عطف تفسيري، «أنه» أن الشرط.

[10] أي: في الشرط، بأن صلّى بذلك الثوب ثم تبيّن عدم طهارته واقعاً - مثلاً - .

[11] أي: بل انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط.

[12] أي: ارتفاع الشرط؛ وذلك لتبدل الموضوع، كما مر في مثال المسافر

ص: 389

وهذا بخلاف ما كان منها[1] بلسان أنه[2] ما هو الشرط واقعاً - كما هو لسان

-------------------------

والحاضر، فلو حضر المسافر لا تبطل صلاته التي صلاّها في السفر قصراً؛ لأنه قد أداها بشرطها، لكن من حين حضوره يجب عليه التمام في الصلوات الآتية.

وكذلك من صلّى بأصالة الطهارة، فلو تبيّن نجاسة الثوب لا تبطل تلك الصلاة، بل هي صحيحة؛ لأنه أداها بشرطها - وهي الطهارة الظاهرية - لكن من حين العلم يتبدل الموضوع، ففي الصلوات الآتية لا يتمكن من الصلاة بنفس ذلك الثوب، بل لابد من تطهيره.

ب - ما كان بلسان الكشف عن الواقع

كالأمارات، فتارة نقول بطريقيّتها فلا إجزاء.

وتارة أخرى نقول بسببيّتها ففي مرحلة الثبوت تكون الصور أربعة، كالصور التي مرت في إجزاء الأمر الاضطراري، وأما إثباتاً فالإطلاق المقامي يدل على الإجزاء.

وتارة ثالثة نشك فنتيجة الأصل عدم الإجزاء.

1 - بناءً على الطريقيّة

[1] أي: من الأوامر الظاهرية، كالأمارات والطرق التي هي كاشفة عن الواقع، فإن الشارع لم يجعل في موردها حكماً ظاهرياً، فلو قامت البينة على طهارة الثوب مثلاً فبناءً على الطريقيّة لا إجزاء؛ لعدم جعل حكم ظاهري كي يتوسع الشرط بهذا الجعل، وحينئذٍ يبقى الشرط كما هو، أي: إن الشرط هو الطهارة الواقعية فقط، فمع انكشاف الخلاف يتبيّن أن الصلاة كانت فاقدة للشرط فتكون باطلة؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه.

[2] «أنه» أي: الموضوع - وهو الشرط أو الجزء - «ما» موصولة، والمعنى بخلاف الأوامر الظاهرية التي تكون كاشفة عن الواقع، ولا تجعل حكماً ظاهرياً.

ص: 390

الأمارات، فلا يجزئ، فإن[1] دليل حجيته حيث كان بلسان أنه[2] واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً.

هذا[3] على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات[4] من أن حجيتها ليست بنحو السببية[5].

وأما بناءً عليها[6] -

-------------------------

[1] هذا دليل عدم الاجزاء، وحاصله: إن الأمارة لا توسّع الشرط، بل لسانها هو أن هذا الذي دلّت عليه الأمارة هو الواقع، وحينئذٍ فيبقى الشرط هو نفس الشرط الواقعي، ثم بعد انكشاف خطأ الأمارة يتبيّن أن العمل كان فاقداً لشرطه، فيكون باطلاً، «حجيته» الضمير يرجع إلى الموصول في (ما كان منها...).

[2] «أنّه» أن الفعل الذي أتي به المكلّف، «شرطه» شرط الفعل، «أنه» أن الفعل، «كذلك» واجداً للشرط.

[3] عدم الإجزاء في الأمارات والطرق.

[4] الفرق بينهما اصطلاحاً هو أن (الطرق) في الأحكام الشرعية كخبر الواحد، و(الأمارات) في موضوعاتها كالبينة.

[5] بل على نحو الطريقيّة، بأن لا تُوجِد الأمارة مصلحة أخرى في متعلّق التكليف، وسيأتي تفصيل بحث الطريقية والسببيّة في المقصد السادس من مقاصد الكتاب - في الجزء الثالث من هذا الشرح - .

2 - بناءً على السببيّة

[6] أي: بناء على السببيّة، فهنا تارة يكون البحث في مقام الثبوت، وأخرى في مقام الإثبات.

أما مقام الثبوت فالصور أربعة، نظير الصور التي مرت في الأمر الاضطراري، فالمصلحة التي حدثت بسبب قيام الطريق إما تكون وافية بتمام مصلحة الواقع، فلا إشكال في الإجزاء.

ص: 391

وأن العمل[1] بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقةً صحيحاً كأنه[2] واجد له مع كونه فاقده - فيجزئ لو كان الفاقد معه[3] في هذا الحال كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض؛ ولا يجزئ[4] لو لم يكن كذلك، ويجب الإتيان بالواجد[5]

-------------------------

وإما أن تفي ببعض مصلحة الواقع مع كون ما تبقى ملزماً مع إمكان استيفائه فلا إجزاء.

وإما أن تفي ببعضها مع عدم كون ما تبقى ملزماً، فلا إشكال في الإجزاء مع استحباب الإعادة أو القضاء.

وإما أن تفي بالبعض مع كون ما تبقي ملزماً ولا يمكن استيفاؤه، فلا إشكال في الإجزاء مع عدم جواز البدار.

وقد مرّ تفصيل الصور في بحث الاضطراري، فراجع.

[1] عطف تفسيري لبيان معنى السببيّة، والمعنى أنه بسبب قيام الأمارة تحدث مصلحة في ذلك العمل، «إلى» متعلق ب- (أداء) «يصير...» خبر (أنّ)، «حقيقة» أي: في الواقع.

[2] أي: كأن العمل واجد لذلك الشرط أو الجزء مع أنه فاقده؛ وذلك بسبب حدوث مصلحة في المؤدّى.

[3] هذا إشارة إلى الصورة الأولى، «له» للشرط أو الجزء، «هذا الحال» أي: حال قيام الأمارة أو الطريق.

[4] عدم الإجزاء في الصورة الثانية فقط، «كذلك» أي: لم يكن وافياً بتمام الغرض.

[5] هذا نتيجة عدم الإجزاء، «الواجد» للشرط أو الجزء، «الباقي» من غرض المولى، «إن وجب» أي: كان الباقي بمقدار واجب الاستيفاء.

ص: 392

لاستيفاء الباقي إن وجب،وإلاّ[1] لاستحب. هذا[2] مع إمكان استيفائه، وإلاّ[3] فلا مجال لإتيانه - كما عرفت في الأمر الاضطراري - .ولا يخفى[4] أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا[5] هو الاجتزاء بموافقته أيضاً.

هذا في ما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية أو بنحو الموضوعية والسببية.

وأما إذا شك[6]

-------------------------

[1] هذه الصورة الثالثة، أي: وإن لم يجب استيفاء الباقي، «لاستحب» أي: استحب الإتيان بالواجد مرة أخرى.

[2] أي: وجوب أو استحباب الاستيفاء، «استيفائه» أي: استيفاء ما تبقى من الغرض.

[3] هذه الصورة الرابعة، أي: وإن لم يكن مجال لاستيفاء الباقي، «لإتيانه» أي: الإتيان بالواجد للشرط والجزء. هذا كله في مقام الإثبات.

[4] هذا في مقام الإثبات بناء على السببيّة، وحاصله: إن لأدلة حجية الأمارات إطلاقاً، فإنه لو وجبت الإعادة أو القضاء كان من اللازم بيانهما، فعدم بيانهما دليل على عدم الحاجة إليهما، وهو معنى الإجزاء.

[5] بناء على السببيّة، «بموافقته» أي: موافقة الأمر الظاهري، «أيضاً» كإطلاق دليل الأمر الاضطراري.

3 - لو شك في الطريقية والسببيّة

[6] أي: لو شككنا بأن الأمارة طريقية كي لا تُجزي عند انكشاف الخلاف، أم أنها سببيّة كي تجزي، فحينئذٍ نتكلم تارة في الإعادة، وأخرى في القضاء.

أما بالنسبة إلى الإعادة: فأصالة اشتغال الذمة بالتكليف جارية، بمعنى أن المكلّف علم بثبوت التكليف الواقعي في ذمته، ولم يعلم بسقوطه حينما عمل بمقتضى الأمارة، فاستصحاب بقاء التكليف مُحَكَّم.

ص: 393

ولم يحرز أنها على أي الوجهين[1]، فأصالةُ[2] عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضيةٌ للإعادة في الوقت.

واستصحاب[3]

-------------------------

[1] أي: لم يحرز أن الأمارة طريقية أم سببيّة.

[2] وهذا هو استصحاب بقاء التكليف في الذمة، «بما» أي: بفعل، «معه» الضمير للموصول، أي: مع ذلك الفعل.

[3] هذا دفع لتوهم أن (أصالة عدم الإتيان بالمسقط) معارضة باستصحاب آخر، وهو: إن التكليف الواقعي لم يكن فعلياً حين قيام الأمارة على خلافه، فنستصحب عدم فعليته حين انكشاف خطأ الأمارة، ومقتضى ذلك الإجزاء؛ إذ لا يجب امتثال التكليف غير الفعلي.

ويرد عليه: أن هذا أصل مثبت، والأصل المثبت ليس بحجة.

أما الكبرى - وهي عدم حجية الأصل المثبت - فسيأتي دليلها مفصلاً في تنبيهات الاستصحاب.

وأما معنى الأصل المثبت: فهو الأصل العملي الذي يُراد به إثبات اللوازم العقلية والعادية، كما لو استصحبنا حياة زيد فأردنا بذلك إثبات نبات اللحية في وجهه، أو استصحبنا بقاء أحد الضدين لإثبات عدم ترتب آثار الضد الآخر.

وأما الصغرى - وهي كون الاستصحاب المعارض هنا من الأصل المثبت - فلأن استصحاب عدم فعلية التكليف لازمه العقلي إجزاء ما أتى به مطابقاً للأمارة.

وبعبارة أخرى: إن إجزاء الصلاة في الثوب النجس، الذي قامت البينة على طهارته عن الصلاة في الثوب الطاهر، ليس هذا الإجزاء بحكم الشارع؛ إذ لا يوجد دليل شرعي على ذلك، بل هذا الإجزاء بحكم العقل؛ لأن التكليف بالصلاة في الثوب الطاهر إذا لم يكن فعلياً كان لازمه عقلاً عدم لزوم الإتيان به؛ لأن العقل يستقل بعدم لزوم الإتيان بالتكليف غير الفعلي.

ص: 394

عدم كون التكليف بالواقع فعلياً في الوقت[1] لا يجدي[2]، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً، إلاّ على القول بالأصل المثبت، وقد علم[3] اشتغال ذمته بما يشك[4] في فراغها عنه بذلك المأتي.

وهذا بخلاف[5]

-------------------------

وعليه فإن استصحاب عدم فعلية التكليف لازمه العقلي هو الإجزاء، وهذا أصل مثبت.

[1] لأن كلامنا الآن حول الإعادة، وأما القضاء فسيأتي الحديث عنه.

[2] هذا ردّ للاستصحاب المذكور، وقوله: (ولا يثبت...) بيان سبب عدم فائدة هذا الاستصحاب، «مسقطاً» للتكليف الواقعي وهذا هو الإجزاء.

[3] أي: مع عدم جريان الاستصحاب الثاني، لأجل كونه أصلاً مثبتاً، يبقى الاستصحاب الأول سليماً عن المعارض، وهو يقتضي بقاء الذمة مشغولة بالتكليف الواقعي.

[4] «بما» أي: بتكليفٍ - هو التكليف الواقعي - ، «فراغها» أي: الذمة، «عنه» الضمير للموصول، أي: عن ذلك التكليف الواقعي، «بذلك المأتي» الذي أتى به طبقاً للأمارة.

[5] هذا بيان للفارق بين ما نحن فيه حيث يجري اشتغال الذمة، وبين الأمر الاضطراري وكذا الأمر الظاهري بناء على السببيّة حيث تجري براءة الذمة في الشرط أو الجزء.

وبعبارة أخرى: لو قامت أمارة - لا نعلم بطريقيتها أو سببيّتها - على شرط أو جزء، وعمل المكلف بحسبها، ثم انكشف الخلاف في الوقت، فحينئذٍ تجب الإعادة؛ للعلم باشتغال الذمة وأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف.

وأما في المأمور به بالأمر الاضطراري أو الأمر الظاهري بناء على السببية،

ص: 395

ما إذا علم أنه[1] مأمور به واقعاً، وشك في أنه يجزئ عما هو المأمور به الواقعي الأولي - كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناءً[2] على أن يكون الحجية على نحو السببية - فقضيةُ الأصل فيها[3] - كما أشرنا إليه[4] - عدم وجوب الإعادة، للإتيان[5] بما اشتغلت به الذمة يقيناً،

-------------------------

فحينئذٍ لا تجب الإعادة؛ لأصالة براءة الذمة عن الوجوب.

والسؤال: ما هو الفرق بين الموردين؟

والجواب: هو أن ما نحن فيه تعلّق التكليف بالواقع، فبانكشاف الخلاف نشك في سقوطه، فالاستصحاب يقتضي بقاءه.

وأما في الاضطراري والظاهري السببي فقد تعلّق التكليف بهما واقعاً لا بالاختياري، وبعد ارتفاع الاضطرار أو كشف الخلاف نشك في تعلّق التكليف بالاختياري لتجب الإعادة في الوقت، فأصل البراءة عن التكليف الجديد بالاختياري.

[1] «أنه» أن ما قامت عليه الأمارة، «واقعاً» أي: حكم واقعي ثانوي، كما لو شك في إجزاء الصلاة مع التيمم عن الصلاة بالوضوء.

[2] «بناءً» قيد للظاهرية، أي: الأوامر الظاهرية بناءً على القول بالسببيّة.

[3] أي: في الاضطرارية والظاهرية بناءً على السببيّة.

[4] في بحث الأمر الاضطراري حيث قال المصنف: وإلاّ فالأصل وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة.

[5] علة عدم وجوب الإعادة؛ لأن الذمة لم تشتغل بالصلاة مع الوضوء مثلاً، بل اشتغلت بالصلاة مع التيمم، وقد أدّى هذا التكليف قطعاً، ثم بعد رفع الاضطرار هل اشتغلت الذمة بإعادة الصلاة بالوضوء؟ لا يقين بذلك، فالأصل البراءة.

ص: 396

وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي[1] بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأما القضاء[2] فلا يجب، بناءً على أنه فرض جديد، وكان الفوتُ المعلّق عليه

-------------------------

وهكذا الكلام في الأمر الظاهري بناءً على السببيّة.

والحاصل: إنه قد أدّى التكليف الذي اشتغلت به الذمة، وأما التكليف الواقعي الأوّلي فلا يقين باشتغال الذمة به، فالأصل البراءة عنه.

وبعبارة أخرى: إن ما اشتغلت به الذمة قد أدّاه قطعاً، وما لم يؤدّه لم يُعلم اشتغال الذمة به.

[1] أي: الواقعي الأولي، كالصلاة بالوضوء.

[2] كان كلامنا في الأمارة مع انكشاف خطئها، وقد ذكرنا أنه على الطريقيّة لا إجزاء، وعلى السببيّة يثبت الإجزاء، ولو شك في أنها طريقيّة أو سببيّة فالأصل يقتضي وجوب الإعادة في الوقت، وهذا كلّه قد مرّ الحديث عنه.

و الآن يتم البحث عن القضاء في خارج الوقت - مع الشك في السببيّة أو الطريقيّة - .

وحاصل الكلام المصنف: إن القضاء منوط بأمور ثلاثة، إذا اجتمعت لم يجب القضاء، وإن لم يتحقق واحد منها وجب القضاء:

1- كون القضاء بأمر جديد، بمعنى أن الأمر بالصلاة في الوقت يسقط بخروج الوقت، وأما قضاؤها فلقيام دليل آخر عليه؛ فلذا لا يجب قضاء الفرائض الموقتة إذا فات وقتها، إلاّ إذا دلّ دليل على وجوب القضاء.

أمّا لو كان القضاء بنفس الأمر السابق، فنفس الأمر السابق يدل على وجوب القضاء حيث لم يأت بمتعلقه.

2- أن يكون الأمر الجديد بالقضاء معلّقاً على عنوان (الفوت) لا على (عدم الإتيان)، لأنه لو كان معلقاً على عدم الإتيان لوجب استصحابه، أي: نستصحب عدم الإتيان، فيجب القضاء، أما لو كان معلّقاً على الفوت فلا يمكن الاستصحاب؛

ص: 397

وجوبه[1] لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلاّ على القول بالأصل المثبت، وإلاّ[2] فهو واجب[3]، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيداً.

-------------------------

لأنه أصل مثبت؛ لأن الفوت ليس له حالة سابقة، بل الحالة السابقة هي عدم الإتيان، فاستصحاب عدم الإتيان لازمه العقلي الفوت، فلا يجري هذا الاستصحاب.

3- أن يكون (الفوت) أمراً وجودياً؛ لأنه لو كان أمراً عدمياً لكان نفس (عدم الإتيان).

والحاصل: إنه لو قلنا: إنّ القضاء بأمر جديد وإنه معلّق على الفوت وإن الفوت أمر وجودي فحينئذٍ لا يجب القضاء.

وأما لو قلنا: إنّ القضاء بنفس الأمر الأول، أو قلنا: إنه معلّق على عدم الإتيان، أو قلنا: إنه معلّق على الفوت لكن الفوت أمر عدمي، فحينئذٍ يجب القضاء.

[1] «عليه» على الفوت، «وجوبه» وجوب القضاء.

[2] أي: إن لم يكن القضاء بفرض جديد، وكان القضاء معلقاً على عدم الإتيان، أو كان معلقاً على الفوت مع كونه أمراً وجودياً.

[3] أي: فالقضاء واجب.

الأمر الثاني: الأمر الظاهري المتعلق بأصل التكليف

كل ما مرّ من كون الدليل بلسان الحكومة، أو بلسان الكشف عن الواقع، سواء على الطريقية أم السببية أم مع الشك فيهما، كل ذلك كان يرتبط بالبحث في الأمر الأول، وهو الأمر الظاهري الذي تعلّق بالجزء أو الشرط.

وكلامنا الآن في ما لو تعلق الأمر الظاهري بنفس التكليف، كما لو قام الدليل على وجوب الجمعة في عصر الغيبة، ثم انكشف خطؤه وأن الواجب الظهر مثلاً.

وحينئذٍ فلا إجزاء إن قلنا بالطريقيّة؛ وذلك لعدم تحقق غرض المولى، كما مرّ

ص: 398

ثم إن هذا كله في ما يجري في متعلق التكاليف[1] من الأمارات الشرعية والأصول العملية.

وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف - كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها[2] - فلا وجه لإجزائها مطلقاً[3]؛ غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذاتَ مصلحة لذلك[4]؛ ولا ينافي هذا[5] بقاء صلاة الظهر على ما هي

-------------------------

نظيره في الأمر الأول.

وكذلك لا إجزاء إن قلنا بالسببيّة؛ وذلك لأن قيام الأمارة يُحدث مصلحة في متعلقها، وهذا لا ينافي بقاء مصلحة الواقع على حالها، والوصول إلى إحدى المصلحتين لا يلازم سقوط المصلحة الأخرى، ففي مثال صلاة الجمعة فإن قيام الدليل الظاهري على وجوبها في عصر الغيبة يكون سبباً لحدوث مصلحة فيها، ولكن مع بقاء مصلحة الواقع في الظهر، فلذا مع تبيّن خطأ الأمارة يجب عليه إعادة الصلاة ظهراً أو قضاؤها، وهذا معنى عدم الإجزاء.

نعم، يستثنى من ذلك ما لو قام الدليل على عدم وجوب الجمع بينهما، كأن يقوم الدليل على عدم وجوب صلاتين لوقت واحد، فمع صحة الجمعة - في المثال - تسقط الظهر، لأجل هذا الدليل الخاص.

[1] أي: الجزء أو الشرط، «من الأمارات...» بيان للموصول في قوله: (في ما يجري).

[2] زمان الغيبة، «لإجزائها» أي: صلاة الجمعة.

[3] أي: سواء قلنا بالطريقية أم بالسببية، «غاية الأمر» بناءً على السببيّة، «فيها» في زمان الغيبة، «أيضاً» كصلاة الظهر.

[4] أي: لأجل قيام الطريق أو الأصل العملي.

[5] أي: حدوث مصلحة في صلاة الجمعة لا ينافي بقاء مصلحة الواقع في صلاة الظهر، «من المصلحة» بيان للموصول في (على ما هي عليه).

ص: 399

عليه من المصلحة كما لا يخفى، إلاّ[1] أن يقوم دليلٌ بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

تذنيبان الأول[2]: لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ[3]،

-------------------------

[1] استثناء من عدم المنافاة، والمعنى قد يدل الدليل الخاص على المنافاة، وبالنتيجة فحيث كانت صلاة الجمعة - في المثال - صحيحة وذات مصلحة فلا يبقى مجال لصلاة الظهر.

التذنيب الأول: عدم الإجزاء مع القطع

[2] حاصله: إن المكلّف لو قطع بتكليف أو قطع بجزء أو شرط ثم تبيّن خطأ قطعه، فلا إجزاء عن الواقع؛ وذلك لأنه لا يوجد أمر ظاهري في حالة القطع، بل مجرد تنجيز إن أصاب، وتعذير إن أخطأ، كما أن المكلّف لم يمتثل الأمر الواقعي، فلا وجه حينئذٍ للإجزاء.

وبعبارة أخرى: إن الإجزاء إنما هو لموافقة الأمر الظاهري أو موافقة الأمر الواقعي، وفي حالة القطع لا يوجد أمر أصلاً - لا واقعي، ولا ظاهري - كما أنه لم يمتثل الأمر الواقعي.

نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان (المقطوع به) في حالة القطع مشتملاً على مصلحة الواقع، أو مشتملاً على مقدار من مصلحة الواقع مع عدم إمكان تدارك الباقي، وقد مرّ تفصيل هذه الصور في إجزاء الأمر الاضطراري، ومثاله: ما لو صلّى المسافر تماماً وهو جاهل بحكم القصر، أو جهر في موضع الإخفات أو العكس جهلاً أو نسياناً، فحيث قام الدليل الخاص على صحة الصلاة في هذه الصور الثلاث اكتشفنا قيام المصلحة في (المقطوع به) - كلّها أو جزء منها مع عدم إمكان تدارك الباقي - .

[3] أما في صورة الصواب فلا إشكال في الإجزاء؛ لأنه امتثل الأمر الواقعي.

ص: 400

فإنه[1] لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر[2] بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى.

نعم[3]، ربما يكونُ ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال[4]، أو على مقدارٍ منها[5] ولو في غير الحال[6] غير[7]

-------------------------

[1] فإن الإجزاء «للأمر» لا الظاهري ولا الواقعي، وعِلة الإجزاء هي موافقة الأمر، «فيها» في صورة الخطأ.

[2] أي: الأمر الواقعي، «أصلاً» لا موافقة حقيقية، ولا موافقة ظاهرية.

[3] بيان لحالة الاستثناء، «ما قطع» بالخطأ «بكونه» الضمير للموصول «على المصلحة» أي: تمامها.

[4] أي: في حال القطع، والمعنى أن المصلحة في المقطوع به خاصة بحالة القطع؛ لأنه لو كانت المصلحة على كل حال للزم التخيير بين هذا وبين متعلق الأمر الواقعي، ففي مثال تمام المسافر لو كانت مصلحة التمام مطلقة حتى في غير حالة القطع لكان اللازم تخيير المسافر بين التمام والقصر مطلقاً، لكن من الواضح أن مصلحة التمام منحصرة في حالة القطع بكونه الوظيفة.

[5] أي: إن (المقطوع به) مشتمل على جزء من المصلحة في كل الحالات، لكن مع عدم إمكان استيفاء باقي المصلحة، ولم يكن تخيير بينهما؛ لأن ما تبقى من المصلحة لازمة.

وحينئذٍ ففي حالة القطع قد أتى بالمقطوع به، وحصل على جزء من المصلحة مع عدم إمكان استيفاء الباقي، فلابد من الإجزاء عقلاً.

[6] أي: ولو في غير حالة القطع.

[7] «غير» مبتدأ، و«استيفاء الباقي...» خبره، والجملة وصف ل- (المقدار)، والمعنى أو على مقدار من المصلحة ذلك المقدار موصوف بأنه مع استيفائه لا يمكن استيفاء الباقي.

ص: 401

ممكن مع استيفائه[1] استيفاء الباقي منها، ومعه[2] لا يبقى مجال[3] لامتثال الأمر الواقعي، وهكذا الحال[4] في الطرق. فالإجزاء[5] ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطريقي للإجزاء، بل إنما هو[6] لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الإتمام والقصر[7] والإخفات والجهر[8].

الثاني[9]: لا يذهب عليك أن الإجزاء في بعض موارد الأصول والطرق

-------------------------

[1] أي: مع استيفاء ذلك المقدار من المصلحة، «منه» من المصلحة.

[2] أي: مع اشتمال (المقطوع به) على تمام المصلحة أو على جزء منها.

[3] لتحقق الغرض منه، ومع تحقق الغرض يسقط الأمر، أو لتحقق جزء من الغرض مع عدم إمكان تحقق ما تبقى منه، فالتكليف يسقط أيضاً.

[4] أي: عدم الإجزاء مع خطأ الطريق كخبر الواحد، إلاّ لو كان متعلق الطريق مشتملاً على تمام مصلحة الواقع - في حال قيام الطريق - أو كان مشتملاً على جزء منه مع عدم إمكان استيفاء الباقي.

[5] أي: لو دلّ الدليل على الإجزاء فليس لأجل أن العمل بالقطع أو الطريق سبب للإجزاء، بل لأجل الاشتمال على المصلحة أو على جزء، منها مع عدم إمكان تدارك الباقي، «للإجزاء» متعلق ب- (اقتضاء).

[6] أي: الإجزاء، «متعلقهما» متعلق القطع أو الطريق.

[7] المراد كما لو أتمّ المسافر بدلاً عن القصر جهلاً بالحكم، أما في صورة العكس فلا إجزاء، وكذا لا إجزاء في صورة النسيان والغفلة.

[8] أي: الإخفات في موضع الجهر أو العكس، سواء كان جهلاً أم نسياناً أم غفلة، للنص الخاص الكاشف عن اشتماله على تمام مصلحة الواقع أو جزء منها، مع عدم إمكان تدارك الباقي.

التذنيب الثاني: الفرق بين الإجزاء والتصويب

[9] حاصله: إن قد يتوهم أن الإجزاء هو التصويب الباطل، وعدم الإجزاء

ص: 402

والأمارات[1] - على ما عرفت تفصيله - لا يوجبُ التصويب المجمع على بطلانه[2] في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته[3]

-------------------------

هو التخطئة، فإن عدم الإجزاء هو مقتضى بقاء الواقع، وأما الإجزاء فهو مقتضى عدم بقاء الواقع.

والإشكال عليه: إن التصويب الباطل هو خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي، وأن ما أدّى إليه رأي المجتهد يصير حكماً واقعياً. وهذا يخالف الإجزاء الذي معناه وجود الحكم الواقعي، لكنه يسقط مع تحقق الغرض منه عبر امتثال الحكم الظاهري أو الاضطراري.

وبعبارة أخرى: إن الحكم الواقعي موجود بناء على الإجزاء، لكنه يسقط بالعمل طبقاً للأصل أو الإمارة، وهذا غير التصويب الذي معناه عدم وجود الحكم الواقعي أصلاً.

[1] «الأصول» العملية، و«الطرق» الأدلة على الأحكام الشرعية، و«الأمارات» الأدلة على الموضوعات.

[2] لأن للتصويب معاني متعددة، والمعنى الذي أجمعت الشيعة على بطلانه هو (خلوّ الواقعة عن الحكم) بأن يصير ما أفتى به المجتهد حكماً واقعياً، فلو اختلف المجتهدون صارت جميع فتاواهم المتناقضة أحكاماً واقعية!!

[3] وهي المرتبة الإنشائية، وهذا دفع للتوهم، وبيانه: إنه على الإجزاء لا تخلو الواقعة عن الحكم، بل الحكم بمرتبة الإنشاء موجود، لكن لا يصل الحكم إلى مرتبة الفعلية؛ لعدم قيام دليل عليه؛ وذلك لأن للحكم مراحل: الاقتضاء، أي: وجود الملاك فيه، ثم الإنشاء، أي: صدور الحكم من المولى، ثم الفعلية، أي: تحقق شرائطه ورفع موانعه، ثم التنجز، أي: وصوله إلى العبد بحيث يجب العمل على طبقه ويعاقب على تركه.

ص: 403

محفوظٌ فيها[1]، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلاّ الحكم الإنشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأولية بحسب[2] ما يكون فيها من المقتضيات، وهو[3] ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات[4].

-------------------------

وغير خفيّ أنه مع قيام الأمارات والطرق على خلاف الواقع لا يكون التكليف الواقعي فعلياً، سواء انكشف الخلاف بعد ذلك أم لم ينكشف.

والقائل بالإجزاء لا ينكر وجود الحكم الإنشائي الواقعي، بل يقول بعدم فعليته حين قيام الأمارة أو الطريق، ويقول بسقوطه حين تحقق غرضه، أو جزء من غرضه مع عدم إمكان تدارك الباقي، فالحاصل أن القائل بالإجزاء يعترف بوجود الحكم الإنشائي في مورد الإجزاء، منتهى الأمر يقول بعدم فعليته وسقوطه بعد العمل طبقاً للأمارة أو الأصل، وهذا يفترق بوضوح عن التصويب، الذي هو عدم وجود الحكم - حتى الإنشائي منه - .

[1] في موارد الأصول والطرق والأمارات، «فإن الحكم» أي: الواقعي، والمعنى أن الحكم الواقعي على الجميع ليس الحكم بمرتبته الفعلية، بل الحكم بمرتبته الإنشائية.

[2] أي: بيان الأحكام للموضوعات لأجل وجود الملاك في ذلك الحكم؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، «فيها» في الموضوعات، «المقتضيات» وهي ملاكات الأحكام.

[3] أي: الحكم الإنشائي، «تلك الموارد» التي أخطأت فيها الأصول أو الطرق أو الأمارات.

[4] التي أصابت الواقع، والمراد أن الحكم الإنشائي موجود على كل حال، سواء أصابت تلك الأدلة الواقع أم أخطأت.

ص: 404

وإنما المنفي فيها[1] ليس إلاّ الحكم الفعلي البعثي، وهو منفي في غير موارد الإصابة وإن لم نقل بالإجزاء. فلا فرق[2] بين الإجزاء وعدمه إلاّ في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهري وعدم سقوطه بعد انكشاف[3] عدم الإصابة. وسقوط[4] التكليف بحصول غرضه أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه - وهو[5] خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه

-------------------------

[1] أي: في موارد الإجزاء، «الفعلي البعثي» أي: الحكم بمرتبته الفعلية، «وهو» الحكم الفعلي، ومراده أن الحكم الفعلي غير موجود، سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدم الإجزاء؛ لأنه لا وجه لفعلية الحكم مع عدم قيام دليل شرعي عليه، بل مع قيام الدليل الشرعي على خلافه؛ لأن معنى فعلية الحكم هو وجوب العمل على طبقه، ومن لا يعلم بالحكم أو قام دليل شرعي على خلافه فهو معذور، ولا يجب عليه العمل طبقاً للواقع.

[2] بعد أن تبين أن الحكم الإنشائي موجود مطلقاً، سواء قلنا بالإجزاء أم بعدمه، وأنه مع خطأ الدليل لا يوجد الحكم الفعلي مطلقاً أيضاً. بعد ذلك يتبيّن أن الإجزاء لا يساوي التصويب، وإنما الفرق بين الإجزاء وعدمه أنه على الإجزاء يسقط ذلك الحكم الإنشائي؛ لتحقق غرضه أو جزء منه، مع عدم إمكان تدارك الباقي، وأنه على عدم الإجزاء لا يسقط ذلك الحكم الإنشائي.

[3] أي: السقوط وعدم السقوط إنما هو بعد هذا الانكشاف.

[4] «سقوط» مبتدأ، و«غير التصويب» خبره، «غرضه» أي: تمام الغرض من التكليف، «أو لعدم...» أي: السقوط بسبب حصول جزء من الغرض مع عدم إمكان تحصيل الباقي.

[5] بيان للتصويب المجمع على بطلانه، حيث قالوا: إنه لا حكم واقعي، وأنه حينما تقوم الأمارة يصير متعلقها هو الحكم الواقعي.

ص: 405

الأمارة -. كيف[1]! وكان الجهل بها بخصوصيتها[2] أو بحكمها[3] مأخوذاً في موضوعها[4]، فلابد من أن يكون الحكمُ الواقعي بمرتبته[5] محفوظاً فيها، كما لا يخفى.

فصل في مقدمة الواجب. وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور:

الأمر الأول[6]: الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة

-------------------------

[1] هذا توضيح لما سبق ببيان آخر، وحاصله: إن موضوع الدليل الشرعي أو ظرفه هو الجهل بالحكم الواقعي، فلابد أن يكون هناك حكم شرعي واقعي حتى يجهل به الإنسان، وهذا بخلاف التصويب الذي معناه عدم وجود الحكم الواقعي أصلاً، «كيف» أي: كيف يكون الإجزاء هو التصويب؟

[2] بخصوصية الواقعة، وهذا في الشبهة الموضوعية، أي: مع العلم بالحكم ولكن مع الشك في الموضوع، كما لو تردد المائع بين كونه خمراً أو خلاّ، مع العلم بحرمة الخمر وحليّة الخلّ.

[3] هذا في الشبهة الحكمية، أي: مع الجهل بالحكم حتى لو علم بالموضوع، كما لو تردد في طهارة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، فالموضوع معلوم لكن الحكم مجهول.

[4] في موضوع الأصول والطرق والأمارات، ففي الأصول كان الجهل جزءاً من الموضوع، وفي الطرق والأمارات كان الجهل ظرفاً لها.

[5] وهي مرتبة الإنشاء، «فيها» في الأصول والطرق والأمارات.

فصل في مقدمة الواجب

المقصد الأول في الأوامر، فصل في مقدمة الواجب

اشارة

[6] يتضمن هذا الأمر بحثان: الأول: في كون هذه المسألة أصولية، والثاني: في كونها عقلية.

ص: 406

بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية. لا عن نفس وجوبها[1] - كما هو المتوهم من بعض العناوين(1) - كي تكون فرعية. وذلك لوضوح أن البحث كذلك[2] لا يناسب الأصولي؛ والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجهٍ تكون من المسائل الأصولية.

ثم الظاهر أيضاً[3] أن المسألة عقلية، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه[4]. لا لفظية - كما ربما يظهر من صاحب المعالم[5] حيث استدل على النفي

-------------------------

أما كونها أصولية فلأن ضابط المسألة الأصولية هو (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام... الخ)، كما مرّ عن المصنف في أول الكتاب، في تعريف علم الأصول.

وهذا الضابط ينطبق على مسألة مقدمة الواجب؛ لأن البحث فيها عن (الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته)، وهذه الملازمة تقع في طريق الاستنباط، فنقول: هذه مقدمة الواجب، وهناك تلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمة، فهذه المقدمة واجبة.

[1] أي: ليس البحث عن وجوب المقدمة لتكون مسألة فقهية؛ لأن ضابط المسألة الفقهية هو ما كان من عوارض فعل المكلّف، والوجوب يعرض على فعله؛ وذلك لأنه مع إمكان بحثها أصولية لا وجه لجعل البحث فقهياً.

[2] أي: عن نفس الوجوب.

[3] أي: كما أنها أصولية لا فقهية، كذلك هي بحث عقلي لا لفظي، وقوله: (والكلام في...) عطف تفسيري لبيان كيفية كونها عقلية.

[4] أي: أو عدم استقلاله بالملازمة.

[5] أي: كما ربما يظهر كونها لفظية من استدلال صاحب المعالم(2)، ومن جعل

ص: 407


1- كما في تعليقة السيد القزويني على القوانين: 99.
2- معالم الدين: 60.

بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً[1] إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ -، ضرورة أنه[2]

-------------------------

المسألة في مباحث الألفاظ.

أما استدلاله: فإنه استدل على عدم وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث - المطابقيّة، والتضمينة، والالتزامية - مثلاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ}(1) لا يدل على وجوب مقدمة الحج - كالزاد والراحلة - فليس معنى الآية وجوبها، ولا هذا الوجوب جزء المعنى، ولا أنّه لازم أو ملازم للمعنى.

ثم لا يخفى أن الفرق بين الملازمة اللفظية والملازمة العقلية هي أن الملازمة اللفظية ما كانت من (البين بالمعنى الأخص) أي: تصوّر أحد الطرفين يكفي في انتقال الذهن إلى ملازمته مع الآخر، إما عقلاً كالعمى والبصر، وإما عرفاً كالجود وحاتم.

وأما لو كان من (البين بالمعنى الأعم) وهو ما احتاج إلى تصور الطرفين لكي ينتقل الذهن إلى الملازمة، أو كان من (غير البيّن) وهو أن لا ينتقل الذهن إلى الملازمة حتى لو تصوّر الطرفين، بل يحتاج إلى فكر، فحينئذٍ لا تكون الملازمة لفظية، بل عقلية.

ومن الواضح أنه من تصور دليل وجوب الحج - مثلاً - لا ينتقل الذهن إلى وجوب مقدماته.

[1] هذا وجه آخر يُعلم منه أن صاحب المعالم كان يرى أن المسألة لفظية، وهو أنه بحثها في مباحث الألفاظ.

[2] «أنه» للشأن، وهذا دليل عدم كون المسألة لفظية، وحاصله: إن هناك إشكالاً في أصل الملازمة ثبوتاً، ومع الإشكال في مرحلة الثبوت لا مجال للبحث في مرحلة الإثبات.

ص: 408


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتاً محل الإشكال فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات والدلالة عليها[1] بإحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:

منها[2]: تقسيمها إلى الداخلية - وهي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها - والخارجية وهي الأمور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد[3] يوجد بدونه.

-------------------------

مثلاً: لو كان هناك إشكال في إمكان الشيء فلابد من البحث في الإمكان وعدمه، ولا معنى للبحث في أن اللفظ هل يدل على ذلك الشيء أم لا؟

[1] أي: الدلالة اللفظية على الملازمة.

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدمة
1 - المقدمة الداخلية والخارجية
اشارة

[2] أما المقدمة الداخلية: فهي الأجزاء التي تكون داخلة في ماهية المركب، كالركوع والسجود في الصلاة.

وأما المقدمة الخارجية: فهي ما كانت خارجة عن ماهية المركب، ولكن يتوقف وجود المركب عليها، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

ولا يخفى أن هذا التقسيم باعتبار كيفية دخل المقدمة في ذي المقدمة.

[3] أي: لا يمكن وجود ذلك المركب إلاّ إذا وجدت تلك المقدمات، كالشرط والمقتضي ونحوهما، «يوجد» المركب، «بدونه» أي: بدون تلك الأمور، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى الموصول.

ثم إن هاهنا بحثين:

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية وعدم إمكانها.

والبحث الثاني: بعد فرض إمكانها فهل يمكن تعلق الوجوب المقدّمي بها أم لا؟

ص: 409

وربما يشكل(1)[1]

في كون الأجزاء مقدمة له[2] وسابقة عليه بأن المركب ليس إلاّ نفس الأجزاء بأسرها.

والحل[3]: إنّ المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر[4]، وذا المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة[5] بينهما.

-------------------------

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية

[1] على المقدمة الداخلية، وحاصله: إن لازم كون الأجزاء مقدمة هو تقدم الشيء على نفسه؛ وذلك لأن المركب هو نفس الأجزاء، فكيف تكون الأجزاء مقدمة له، مع وضوح أن المقدمة سابقة على ذي المقدمة؟ مضافاً إلى أن الأجزاء كيف يتعلق بها وجوبان، أحدهما نفسي حيث إنها المركب، والآخر غيري لأنها مقدمة؟

[2] «له» للواجب، وقوله: (وسابقة عليه) عطف تفسيري؛ إذ كل مقدمة سابقة على ذي المقدمة، «بأن المركب...» بيان للإشكال.

[3] جواب الإشكال: هو أن للأجزاء اعتبارين، فبأحدهما كانت ذي المقدمة، وبالاعتبار الآخر كانت مقدمة.

بيانه: إن الجزء قد يلاحظ (لا بشرط عن الاجتماع) فيكون مقدمة، وقد يلاحظ (بشرط الاجتماع) فيكون ذا المقدمة، فتكون المقدمة سابقة على ذي المقدمة رتبة.

وبعبارة أخرى: إن هنا جهتين: إحداهما سابقة على الأخرى في الرتبة. فقد عرض الاجتماع على الإجزاء، فالأجزاء بذاتها متقدمة على الأجزاء بصفة اجتماعها.

[4] أي: كلها، حال كونها (لا بشرط) عن الاجتماع.

[5] في الرتبة، وهي مغايرة اعتبارية، وذلك كافٍ لمقدميّة الأجزاء.

ص: 410


1- هداية المسترشدين 2: 164.

وبذلك[1] ظهر أنه لابد في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط، كما لابد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكونُ[2] الأجزاء الخارجية - كالهيولى والصورة[3] - هي الماهية المأخوذة بشرط لا، لاينافي ذلك[4]، فإنه إنما يكون في مقام الفرق[5] بين نفس الأجزاء الخارجية والتحليلية - من الجنس والفصل - وأن الماهية[6] إذا أخذت بشرط لا، تكون هيولى

-------------------------

[1] أي: بما ذكرناه من وجه التغاير بين المقدمة الداخلية وبين ذيها ظهر الفرق بين الجزء والكل، فالجزء هو لا بشرط عن الاجتماع، والكل هو بشرط الاجتماع.

[2] هذا إشكال، وحاصله: إن أهل المعقول ذكروا أن الأجزاء الخارجية أخذت (بشرط لا)، فكيف تقولون بأن الأجزاء أخذت (لا بشرط)؟

والجواب: إن قولهم هو (بشرط لا عن الحمل)، وقولنا هو (لا بشرط عن الاجتماع)، فلا تنافي بين القولين، بل كل واحد من جهة غير جهة الآخر.

[3] «الهيولى» هي المادة الجسميّة، و«الصورة» حالة تلك المادة.

[4] أي: لا ينافي ما ذكرناه من أن الأجزاء أخدت (لا بشرط)، «فإنه» أي: فإن كلام أهل المعقول.

[5] فهناك أجزاء خارجية هي المادة والصورة، وأجزاء تحليلية عقلية هي الجنس والفصل، فما هو الفرق بينهما؟

مثلاً: الإنسان خارجاً مركب من جسم وصورة، وعقلاً مركب من الحيوان والناطق، فالفرق هو عدم صحة الحمل في الأجزاء الخارجية، فلا يصح أن نقول: الإنسان صورة أو الإنسان مادة، وصحة الحمل في الأجزاء التحليلية العقلية بأن نقول: الإنسان حيوان أو الإنسان ناطق.

[6] بيان للفرق، «بشرط لا» عن الحمل، «أخذت» الماهية.

ص: 411

أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنساً أو فصلاً، لا بالإضافة[1] إلى المركب، فافهم[2].

ثم لا يخفى[3] أنه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع[4] - كما صرح به بعض(1) -. وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، وإنما كانت

-------------------------

[1] أي: فليس كلام أهل المعقول في جهة الاجتماع، أي: (لا بشرط عن الاجتماع) و(بشرط لا عن الاجتماع).

[2] لعله إشارة إلى ضعف الجواب حيث قال: (والحلّ أن المقدمة هى... الخ)؛ وذلك لأن المقدميّة أمر خارجي وليس أمراً اعتبارياً، فلا يرتبط باللحاظ بأن نلاحظ الأجزاء بشرط لا أو لا بشرط، ومن المعلوم أن قيد الاجتماع ليس أمراً خارجياً، بل هو أمر انتزاعي.

البحث الثاني: في عدم وجوب المقدمة الداخلية
اشارة

[3] بعد أن أثبت المصنف إمكان المقدمة الداخلية، يأتي الكلام في أنه هل يمكن تعلّق الوجوب المقدّمي بها أم لا؟

يقول: إنه لا يمكن تعلّق الوجوب المقدّمي الغيري بالمقدمة الداخلية؛ لاستلزامه اجتماع وجوبين وهو محال؛ لأنه من اجتماع المثلين.

بيانه: إن الوجوب المتعلّق بالكل هو وجوب نفسي، وحيث إن الكل هو نفس الأجزاء فإن هذا الوجوب يتعلق بكل الأجزاء، فهي واجبة بوجوب نفسي ضمني، فالوجوب المتعلق بالصلاة هو وجوب كل جزء من الأجزاء ضمناً، فإذن كل جزء هو واجب بوجوب نفسي ضمني، فلا يعقل تعلّق الوجوب المقدّمي الغيري به، فإنه من اجتماع المثلين.

[4] النزاع في ملازمة وجوب ذي المقدمة مع وجوب نفس المقدمة أو عدم الملازمة، «وذلك» خروجها عن محل النزاع.

ص: 412


1- هداية المسترشدين 2: 165.

المغايرة بينهما اعتباراً[1]، فتكون[2] واجبة بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها[3] بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر[4]، لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل[5]

-------------------------

[1] وهو ملاحظة قيد الانضمام أو عدم الانضمام.

[2] أي: فتكون الأجزاء واجبة بنفس وجوب الكل، وبعبارة أخرى: الوجوب النفسي الذي تعلّق بالصلاة ينبسط على الأجزاء، فتكون واجبة بوجوب ضمني.

[3] العطف تفسيري، «إليها» إلى الأجزاء، «إليه» إلى المأمور به وهو الكل.

[4] وهو الوجوب المقدمي، وسبب ذلك امتناع اجتماع وجوبين - نفسي وغيري - على متعلّق واحد؛ لأنه من اجتماع المثلين، وهو محال.

[5] وحاصل الإشكال: إنه في بحث اجتماع الأمر والنهي لو قلنا بكفاية تعدد الجهة في رفع اجتماع الضدين، نقول مثل ذلك في ما نحن فيه بأن تعدد الجهة يرفع اجتماع المثلين.

بيانه: إنهم اختلفوا في إمكان اجتماع الأمر والنهي، مثلاً: لو صلّى في المغصوب، فعمله مأمور به لأنه صلاة، ومنهي عنه لأنه غصب، فقال جمع: إنه محال؛ لأنه اجتماع الضدين في محلّ واحد، وقال آخرون: بإمكانه وأنه ليس من اجتماع الضدين لتعدد الجهة، فالعمل من جهة كونه صلاة مأمور به، ومن جهة كونه غصباً منهي عنه.

وعلى مبنى هؤلاء يمكن أن نقول في ما نحن فيه: إنّ الأجزاء من جهة كونها نفس الكل فهي واجبة بوجوب نفسي، ومن جهة كونها مقدمة للكل فهي واجبة بوجوب غيري.

وحاصل الجواب: إن المسوّغ لاجتماع الأمر والنهي هو تعدد العنوان، وهذا التعدد غير موجود في ما نحن فيه؛ لأن الواجب هناك هو عنوان الصلاة، والحرام هو عنوان الغصب، فاجتمع العنوانان في محل واحد، وأما الواجب الغيري هنا فليس

ص: 413

بكفاية تعدد الجهة وجواز اجتماع الأمر والنهي معه[1]، لعدم[2] تعددها هاهنا، لأن الواجب بالوجوب الغيري - لو كان - إنما هو نفس الأجزاء، لا عنوان مقدميتها[3] والتوسل[4] بها إلى المركب المأمور به، ضرورة[5] أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمةً[6]، لأنه[7] المتوقف عليه، لا عنوانها.

-------------------------

عنوان المقدمة، بل هو ذات المقدمة وهي نفس الأجزاء، فليس لنا إلاّ عنوان واحد وهو الصلاة، فلم يتعدد العنوان كي نقول بإمكان اجتماع وجوبين.

[1] أي: إمكان اجتماعهما مع تعدد الجهة.

[2] هذا جواب الإشكال، «تعددها» الجهة، «هنا» في الأجزاء.

[3] لأن وجوب ذي المقدمة يترشح على الوجود الخارجي للمقدمة، لا لعنوان مقدميتها، مثلاً: بعد وجوب الحج فإن توقفه على الزاد والراحلة يكون سبباً لترشح هذا الوجوب عليهما بما هما وجودان يتوقف عليهما الحج، لا على عنوانهما المنتزع عنهما؛ لأن الحج لا يتوقف على العنوان، بل على نفس الوجود الخارجي للزاد والراحلة.

[4] عطف تفسيري على (عنوان مقدميتها).

[5] هذا دليل أن الواجب الغيري ليس عنوان المقدمية، «بهذا الوجوب» الوجوب الغيري المقدمي.

[6] أي: مصداق المقدمة، لا مفهومها، مثلاً: نقول: زيد بالحمل الشائع إنسان، أي: زيد مصداق الإنسان مع اختلاف مفهوم الكلمتين، والحاصل: إن المقدمة بالمعنى الشائع هي مصداق المقدمة، والمقدمة بالحمل الأولى الذاتي هي مفهوم المقدمة.

[7] أي: لأن ما كان بالحمل الشائع مقدمة - أي: مصداق المقدمة - هو الذي يتوقف عليه وجود ذي المقدمة، لا على عنوان المقدمية.

ص: 414

نعم[1]، يكون هذا العنوان علة لترشّح الوجوب على المعنون.

فانقدح بذلك[2] فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري.

اللهم إلاّ أن يريد[3] أن فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجباً بوجوب واحد[4] نفسي، لسبقه، فتأمل[5].

-------------------------

[1] أي: عنوان المقدميّة (حيثٌ تعليلي) لا(حيثٌ تقيدي) بمعنى أن سبب وجوب المصداق هو كونه مقدمة، لكن الوجوب لم يتعلق بهذا العنوان، مثلاً: سبب وجوب الزاد والراحلة هو كونهما مقدمة للحج، ولم ينصبّ الوجوب الغيري على عنوان مقدميّة الزاد والراحلة، بل على نفسهما.

[2] أي: بما ذكرناه من امتناع اجتماع المثلين، وأن العنوان غير متعدد.

[3] أي: يريد القائل باتّصاف الأجزاء بوجوبين، والمعنى أنه يرى وجود ملاك الوجوبين مع إنشاء أحدهما فقط؛ إذ لا تنافي بين الملاكات، فيمكن أن يكون لشيء ملاكات وجوبات متعددة لكن لا يمكن إلاّ إنشاء وجوب واحد، «فيه» في الجزء.

[4] أي: ما صدر من المولى وجوب واحد وهو الوجوب النفسي، مثلاً: لمّا أمر المولى بالصلاة فهذا الوجوب ينبسط على كل الأجزاء، فلكل جزء وجوب نفسي ضمني.

[5] قال المصنف في الهامش: (وجهه أنه لا يكون فيه أيضاً ملاك الوجوب الغيري، حيث إنه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده، وبدونه لا وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلاً، كما لا يخفى. وبالجملة: لا يكاد يُجدي تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكل في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيري المترشح من وجوب ذي المقدمة عليها لو قيل

ص: 415

هذا كله في المقدمة الداخلية.

وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجاً عن المأمور به[1] وكان له[2] دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه. وقد ذكر لها[3] أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها[4]

-------------------------

بوجوبها، فافهم)(1)،

انتهى.

وحاصل كلامه: هو الإشكال على هذا التوجيه، فإنه لابد من تعدد وجود المقدمة وذي المقدمة حتى يتوقف أحدهما على الآخر، ومن المعلوم أن الأجزاء ليس لها إلاّ وجود واحد، وتعدد الاعتبار أمر ذهني يرتبط بالانتزاع عن هذا الوجود الواحد، فلا يكون سبباً لتعدد الوجود.

المقدمة الخارجية

[1] أي: عن حقيقته وماهيته، فالزاد والراحلة - مثلاً - ليسا من ماهية الحج، وإنما يتوقف تحقق الحج خارجاً عليهما.

[2] الضمير يرجع إلى الموصول في (ما كان خارجاً...)، «تحققه» أي: تحقق المأمور به، فلا يمكن تحقق المأمور به بدون ذلك الأمر الخارج عن الماهية.

[3] الضمير للموصول المراد به المقدمة الخارجية، «أقسام» كالمقتضي، والمُعدّ، والشرط، وعدم المانع، والعلة التامة.

[4] ففسروا (المقتضي) بأنه هو السبب الذي يؤثر في تحقق الشيء إن لم يكن مانع، كالنار في الإحراق.

و(المعدّ) بأنه ما يوجب التهيّؤ من غير أن يكون سبباً للشيء، كالزاد والراحلة في الحج.

و(الشرط) بأنه ما له تأثير في تحقق الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم، ولكن لا يلزم من وجوده الوجود، كالوضوء للصلاة.

ص: 416


1- كفاية الأصول، مع حواشي المشكيني 1: 456.

بالنقض والإبرام، إلاّ أنه غير مهم في المقام[1].

ومنها[2]: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية.

فالعقلية: هي ما استحيل واقعاً[3] وجود ذي المقدمة بدونه.

والشرعية - على ما قيل(1) - : ما استحيل وجوده بدونه شرعاً[4]. ولكنه

-------------------------

و(عدم المانع) أي: عدم ما يمنع من تأثير المقتضي، كالرطوبة المانعة عن الإحراق.

و(العلة التامة) أي: اجتماع المقتضي والشرط والمعدّ وعدم المانع، فحينئذٍ يتحقق المعلول قهراً، بلا تأخر زماني، وإنما التأخر في الرتبة.

[1] لأن المهم هو ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو عدم الملازمة، ومن المعلوم أن جميع هذه الأقسام داخلة في محل الكلام، فإن قلنا بالملازمة ثبت وجوبها أجمع لتوقف الواجب عليها، وإن قلنا بعدم الملازمة ثبت عدم وجوبها أجمع.

2 - المقدمة العقلية والشرعية والعادية

[2] وهذا تقسيم باعتبار الحاكم بالمقدميّة، فقد يكون العقل، وقد يكون الشرع، وقد يكون العادة.

[3] أي: تكويناً، سواء كانت الاستحالة ذاتية أم وقوعية، ومثاله: توقف الكون في مكان بعيد على طيّ المسافة، فإن طيّها مقدمة عقلية؛ وذلك لاستحالة الطفرة، «بدونه» أي: بدون المقدمة، وتذكير الضمير باعتبار رجوعه للموصول.

[4] أي: يستحيل وجود ذي المقدمة بدون وجود المقدمة، لكن بحكم الشرع، حيث قيّد الشارع الواجب بتلك المقدمة، كتوقف الصلاة على الطهارة.

ص: 417


1- مطارح الأنظار 1: 214.

لا يخفى[1] رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة[2] أنه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً إلاّ إذا أخذ فيه[3] شرطاً وقيداً، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده يكون عقلياً.

وأما العادية[4]: فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة - بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها إلاّ أن العادة جرت على الإتيان به بواسطتها[5] - فهي وإن

-------------------------

[1] هذا إشكال على اعتبار هذه المقدمة شرعية، بل هي عقلية؛ وذلك لأن العقل يستقلّ بامتناع تحقق المقيد بدون قيده، فبعد أن حكم الشارع بشرطية الوضوء للصلاة يستقلّ العقل بالمقدميّة، من ثَمَّ وجوب المقدمة بناءً على الملازمة.

[2] بيان وجه رجوع الشرعية إلى العقلية، «أنه» للشأن، «مستحيلاً» خبر (يكون)، «ذلك» اسم (يكون)، أي: وجود ذي المقدمة بدون المقدمة.

[3] أي: أخذ وجود المقدمة في وجود ذي المقدمة، والعطف في (شرطاً وقيداً) تفسيري.

[4] أي: ما كان التوقف بحكم العادة، فما هو المراد من العادة؟

1- إن كان المراد ما جرت عادة الناس عليه من غير توقف وجود ذي المقدمة عليه، كتوقف الخروج من الدار على لبس النعل وارتداء الثوب، فهذا ليس توقفاً حقيقياً كي يتوهم ترشح وجوب ذي المقدمة على هذه الأمور.

2- وإن كان المراد ما يقابل الاستحالة الذاتية، كتوقف الصعود على السطح على نصب السُلّم ونحوه، فإن الكون على السطح من غير نصب سلم ليس محالاً ذاتياً؛ لعدم استلزامه اجتماع النقيضين، وإنما هو محال عادي، أي: لوجود قوانين الجاذبية وثقل الجسم لا يمكن الطيران، فحينئذٍ ترجع المقدمة العادية إلى المقدمة العقلية.

[5] أي: الإتيان بذي المقدمة بواسطة تلك المقدمات العادية، «فهي» فالمقدمة العادية بهذا المعنى.

ص: 418

كانت غير راجعة إلى العقلية[1] إلاّ أنه[2] لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع.

وإن كانت[3] بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلاً واقعياً - كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح - إلاّ أنه[4] لأجل عدم التمكن عادةً من الطيران الممكن عقلاً، فهي أيضاً راجعة إلى العقلية، ضرورة[5] استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغير الطائر فعلاً[6]، وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً، فافهم[7].

-------------------------

[1] لاستقلال العقل بعدم التوقف.

[2] هذا إشكال على المقدمة العادية بالمعنى الأول، «أنه» للشأن.

[3] إن كانت المقدمة العادية بالمعنى الثاني، «عليها» على هذه المقدمة، و«فعلاً» كلمة معترضة، أي: في ظرف عدم القدرة على غيرها، و«واقعياً» خبر (كان).

وحاصل المعنى: إنه إن كان معنى العادية هو أن التوقف عليها واقعي تكويني لكن ذلك التوقف لأجل عدم القدرة على غيرها، كتوقف الصعود على السطح على نصب السُلَّم لأجل عدم القدرة على الطيران، فهذا يرجع إلى العقلية.

[4] أن التوقف التكويني، «الممكن» ذلك الطيران، «عقلاً» بالذات لعدم استلزامه اجتماع النقيضين. نعم، هو غير ممكن وقوعاً.

[5] بيان كيفية رجوعها إلى العقلية، وحاصله: إن الاستحالة العقلية قد تكون استحالة ذاتية، وقد تكون استحالة وقوعية.

[6] حتى لو كان طائراً شأناً، أي: يمكن تغيّر قوانين الجاذبية وثقل الجسم؛ فحينئذٍ يمكن طيران الإنسان بغير آلة.

[7] لعلّه إشارة إلى أن المقصود من هذا التقسيم ليس مرحلة الثبوت حيث ترجع الشرعية وكذا العادية بالمعنى الثاني إلى العقلية، بل المقصود هو مرحلة الإثبات، فقد يدرك العقل الاستحالة الذاتية - أي: يستحيل ذاتاً وجود ذي المقدمة بدون وجود المقدمة - فهذه هي المقدمة العقلية، وقد يدرك العقل الاستحالة الوقوعية

ص: 419

ومنها[1]: تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم.

لا يخفى[2] رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود - ولو على القول بكون الأسامي

-------------------------

فهذه هي العادية، وقد لا يدرك العقل التوقف وإنما يكشف عنه الشرع فهذه هي الشرعية.

3- مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم

[1] (مقدمة الوجود) هي ما يتوقف عليها وجود الواجب خارجاً، كطي المسافة للحج، وهذه قد تُسمّى مقدمة الواجب أيضاً.

و(مقدمة الصحة) هي ما يتوقف عليها صحة الواجب، كالوضوء للصلاة.

و(مقدمة الوجوب) هي ما يتوقف عليها وجوب الواجب، ولولاها لما كان واجباً، كالاستطاعة للحج.

و(مقدمة العلم) هي ما يتوقف عليها العلم بوجود الواجب خارجاً، كالصلاة إلى الجهات الأربع حين اشتباه القبلة.

ولا يخفى أن محل البحث هو الأول - أي: مقدمة الوجود - فقط، وسائر الأقسام خارجة عن محل البحث، كما سيتضح.

[2] بيان لخروج مقدمة الصحة عن محل البحث، فإنه:

1- إن قلنا بوضع الألفاظ للصحيح فلا وجود للشيء إلاّ إذا كان صحيحاً، مثلاً: إن وُجدت الطهارة تحققت الصلاة الصحيحة، فتحقق الوجود والصحة، وإن لم توجد الطهارة فلا وجود ولا صحة للصلاة، إذن فمقدمة الصحة هي مقدمة للوجود دائماً.

2- وإن قلنا بوضع الألفاظ للأعم فالواجب هو الصلاة الصحيحة، لا المسمّى بالصلاة، وكلامنا هنا في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة، فمُسمّى

ص: 420

موضوعة للأعم - ، ضرورة[1] أن الكلام في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب[2] عن محل النزاع، وبداهة[3] عدم اتصافها بالوجوب من قِبَل الوجوب المشروط بها.

وكذلك[4] المقدمة العلمية وإن استقل العقل بوجوبها إلاّ

-------------------------

الصلاة ليس بواجب كي تجب مقدمته، وإنما الواجب خصوص الصلاة الصحيحة، وعليه فصارت مقدمة الصحة هي مقدمة لوجود الصلاة الصحيحة؛ التي انصبّ الوجوب عليها.

وبعبارة أخرى: الطهارة وإن لم تكن مقدمة لوجود مسمى الصلاة لكنها مقدمة لوجود الصلاة الصحيحة، ومن المعلوم أن الصلاة الصحيحة هي الواجبة، فنبحث حينئذٍ عن ترشح الوجوب إلى مقدمتها.

والحاصل: إنه يرجع شرط الصحة إلى شرط الوجود أيضاً.

[1] بيان وجه رجوع شرط الصحة إلى شرط الوجود حتى على القول بالأعم.

[2] كالاستطاعة للحج، فإنه قبل تحقق الاستطاعة لا وجوب للحج كي يترشح الوجوب منه إلى مقدمته. وبعد تحقق الاستطاعة يجب الحج، لكن لا يترشح منه وجوب إلى الاستطاعة؛ لأنه من طلب الحاصل.

[3] عطف على (خروج مقدمة...) أي: ولا إشكال في بداهة عدم...، «اتصافها» أي: المقدمة، «من قِبَل» أي: بالوجوب الغيري الناشئ عن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة «بها» بتلك المقدمة كالاستطاعة.

[4] أي: في خروجها عن محل البحث؛ وذلك لأن كلامنا هنا في ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة، وهو وجوب مولوي، وليس هذا سبباً في وجوب المقدمة العلمية، وإنما لوجوبها سبب آخر، وهو أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، وهذا وجوب إرشادي.

ص: 421

أنه[1] من باب وجوب الإطاعة إرشاداً ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز، لا مولوياً من باب الملازمة وترشّح[2] الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

ومنها[3]: تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر بحسب الوجود[4] بالإضافة إلى ذي المقدمة[5].

وحيث[6]

-------------------------

وبعبارة أخرى: إن وجوب المقدمة العلمية ليس لأجل الملازمة، وترشح الوجوب عليها من وجوب ذي المقدمة، بل وجوبها لاستقلال العقل بوجوب إفراغ الذمة من التكليف اليقيني.

[1] «أنّه» أن استقلال العقل بوجوبها، «وجوب الإطاعة» أي: وجوب امتثال أمر المولى يقيناً، «إرشادا» بيان أن هذا الوجوب إنما هو إرشادي لا مولوي، «ليؤمن» وجه كونه إرشادياً.

[2] «وترشح» عطف تفسيري على (الملازمة)، «عليها» على المقدمة.

4- المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة
اشارة

[3] وهذا تقسيم باعتبار الزمان، أي: زمان تحقق المقدمة وزمان تحقق ذي المقدمة، فالمتقدمة: كالوضوء للصلاة - بناءً على أن الوضوء هو الغسلتان والمسحتان - والمتقارنة: كالستر والاستقبال في الصلاة، والمتأخرة: كأغسال المستحاضة ليلاً، حيث إنها شرط صحة صوم اليوم السابق عند بعض الفقهاء.

[4] لا بالمرتبة ونحوها، فالكلام في التقدم والتأخر والتقارن الزماني، بأن يكون وجود أحدهما أسبق زمانا من الآخر، أو متقارناً معه، أو متأخرا عنه.

[5] أي: وجود المقدمة بالنسبة إلى وجود ذيها، والحاصل: إن هذا التقسيم إنما هو باعتبار زمان وجود المقدمة، وزمان وجود ذي المقدمة.

إشكال على الشرط المتأخر والمتقدم

[6] هذا بيان لإشكال معروف على الشرط المتأخر، ثم يُعمّم المصنف الإشكال

ص: 422

إنّها كانت من أجزاء العلة - ولابد من تقدمها[1] بجميع أجزائها على المعلول - أشكل الأمر[2] في المقدمة المتأخرة، كالأغسال الليلية[3] المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض(1)، والإجازة في صحة العقد على الكشف كذلك(2)[4]؛

-------------------------

إلى الشرط المتأخر أيضاً، وحاصله: إنه لابد من تقارن العلة والمعلول زماناً؛ وذلك لأن العلة لو كانت سابقة زماناً أو متأخرة، فإمّا تؤثر في المعلول، أو لا تؤثر، ولازم الأول تأثير المعدوم وهو محال، ولازم الثاني عدم تأثير العلة وهو خلف.

وعليه فلابد من تقارن العلة - بكلّ أجزائها - مع المعلول، ومن أجزاء العِلة الشرط، فكيف يمكن تصور الشرط المتأخر؟

[1] أي: حيث إن المقدمة من أجزاء العلة - وتلك الأجزاء هي وجود المقتضي والشرط وعدم المانع - فلابد من تقدمها رتبة وتقارنها زماناً، أما تقدمها رتبة فلأنه لو لا التقدم الرتبي لما كانت العلة أولى من المعلول في التأثير فيه، وأما تقارنها زماناً فلما عرفت من أنه يستحيل تأثير المعدوم في الموجود.

[2] شروع في بيان الإشكال.

[3] فإن وظيفة المستحاضة الكثيرة هو الغسل كل يوم ثلاث مرات قبل الصلوات، فمرة قبل صلاة الفجر، وأخرى قبل الظهرين، وثالثة قبل العشاءين، هذا إذا جمعت بين الظهرين والعشاءين، ولو فرّقت وجب عليها خمسة أغسال.

ثم إن هذه الأغسال شرط في صحة صومها أيضاً، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الغسل ليلاً شرط صحة صومها في اليوم الماضي، فلو صامت إلى الليل ثم لم تغتسل الغسل الليلي بطل صومها السابق.

[4] أي: عند بعض الفقهاء، فالأقوال ثلاثة في ما لو باع الفضولي شيئاً ثم أجاز المالك، وهي:

ص: 423


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.
2- كتاب المكاسب 3: 408.

بل[1] في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زماناً المتصرّم حينه[2]، كالعقد[3] في الوصية والصرف والسلم؛ بل في كل عقد[4] بالنسبة إلى غالب أجزائه، لتصرّمها

-------------------------

1- إن الإجازة ناقلة، بمعنى أن ملك المشتري يحدث من حين إجازة المالك.

2- إن الإجازة كاشفة حكماً.

3- إن الإجازة كاشفة كشفاً حقيقياً، ومعنى ذلك أن الملكية تحدث من حين البيع الفضولي، لكن بشرط أن يجيز المالك بعد ذلك، وهذا هو الشرط المتأخر، فإنه حين العقد لم يكن هذا الشرط - وهو الإجازة - موجوداً ومع ذلك أثّر في صحة العقد، فكيف يؤثر المعدوم في الموجود؟

[1] غرض المصنف تعميم الإشكال إلى الشرط المتقدم أيضاً، وكذا المقتضي المتقدم، فإنهما غير موجودين حين تحقق المعلول، فلزم تأثير المعدوم في الموجود أيضاً.

[2] أي: الزائل حين تحقق المشروط؛ لأن المتقدم إذا استمر إلى حين وجود المشروط فهو شرط مقارن لا متقدم، مثلاً: بناءً على أن الطهارة هي حالة نفسانية، فإن المتوضّي يحصل فيه ذلك النور المعنوي، وهو شرط في صحة الصلاة، وهذا النور المعنوي مستمر إلى حين الصلاة فهو متقارن معها. نعم، لو قلنا: إنّ الطهارة هي الغسلتان والمسحتان كانت شرطاً متقدماً.

[3] لأنه حين الوصية لا يتحقق الملك، بل تحصل ملكية المُوصى له بالموت، وكذا حين بيع الصرف والسلم لا تحصل الملكية، بل بالقبض، فالعقد غير متقارن مع الملكية، بل هو متقدم، و(بيع الصرف) هو بيع الدينار والدرهم، و(بيع السَلَم) هو أن يكون تسليم الثمن نقداً وتسليم البضاعة بعد ذلك بأجل، عكس النسيئة.

[4] غرضه تعميم الإشكال في جميع العقود؛ لأن الملكية لا تحصل إلاّ بإكمال الإيجاب والقبول، فلو قال البائع: (بعت) لم يحصل شيء، ثم لو قال المشتري:

ص: 424

حين تأثيره مع ضرورة[1] اعتبار مقارنتها معه زماناً. فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصاً بالشرط المتأخر في الشرعيات - كما اشتهر في الألسنة -، بل يعمّ الشرط والمقتضي[2] المتقدمين المتصرّمين حين الأثر.

والتحقيق[3] في رفع هذا الإشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو: إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتكليف أو الوضع، أو المأمور به.

-------------------------

(قبلت) فعند نطقه بالحروف الثلاثة الأولى - ق ب ل - لم يحصل شيء أيضاً، وإنما تحصل الملكية حين نطقه بالتاء.

فالإشكال أن كل الحروف الأولى شرط متقدم لحصول الملكية، وهي معدومة حين حصولها، فكيف أثّر المعدوم في الموجود؟

«غالب أجزائه» أي: جميع الحروف إلاّ الحرف الأخير - وهو تاء قبلتُ في المثال - «لتصرّمها» أي: انعدام تلك الأجزاء، «تأثيره» أي: تأثير العقد.

[1] أي: مع أن القاعدة العقلية المعروفة بديهيّة، وهي لزوم تقارن العلة والمعلول زماناً، «مقارنتها» مقارنة العِلة بكلّ أجزائها، «معه» مع الأثر الذي هو المعلول.

[2] قد مرّ في آخر التقسيم الأول الفرق بينهما، فالمقتضي هو السبب الذي يؤثر في تحقق الشيء إن لم يكن مانع، والشرط ماله التأثير في تحقق الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.

الجواب عن الإشكال

[3] حاصل جواب المصنف، هو أن الشرط - باعتبار المشروط - على أقسام ثلاثة:

1- أن يكون شرطاً للتكليف.

فالمتقدم: كالاستطاعة للحج، فلا تكليف بالحج قبل الاستطاعة.

والمتأخر: كاشتراط وجوب الصوم في أول النهار بعدم السفر قبل الظهر، فلو سافر قبل الظهر كان صومه في أول النهار غير واجب.

ص: 425

أما الأول[1]: فكونُ أحدهما[2] شرطاً له[3] ليس إلاّ أن للحاظه دخلاً في تكليف الآمر، كالشرط المقارن بعينه[4]، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلاّ أن

-------------------------

2- أن يكون شرطا للوضع - أي: للحكم الوضعي - :

فالمتقدم: كالعقد في بيع الصرف والسَلَم.

والمتأخر: كإجازة المالك في العقد الفضولي بناء على الكشف الحقيقي.

3- أن يكون شرطاً لمتعلّق التكليف - وهو المأمور به - .

فالمتقدم: كالغسل الليلي للمستحاضة بالنسبة إلى اليوم اللاحق.

والمتأخر: كغسلها ليلاً بالنسبة إلى اليوم الماضي - بناءً على رأي بعض الفقهاء(1)

- .

الأول: شرط الحكم
اشارة

[1] أي: شرط الحكم يعني حينما يشرّع المولى تكليفاً يشرّع شرطا لذلك التكليف.

وهذا الحكم تارة حكم تكليفي، وأخرى حكم وضعي، والشرط في كليهما ليس الوجود الخارجي، بل اللحاظ، وهو مقارن دائماً مع تشريع الحكم.

أ- شرط التكليف

[2] أي: المتقدم أو المتقارن.

[3] أي: للتكليف؛ وذلك لأن التكليف من الأفعال الاختيارية للمولى، فهو يحكم بوجوب شيء وبحرمة آخر وهكذا، والمولى يلاحظ (المتعلّق) بكل أجزائه وشرائطه فيشرع الحكم، فكان لحاظ ذلك الشيء شرطاً، وهذا اللحاظ متقارن لتشريع الحكم.

[4] أي: كما أن الشرط المقارن للتكليف ليس هو الوجود الخارجي للشيء، بل لحاظ ذلك الشيء، «اشتراطه» أي: اشتراط التكليف، «يقارنه» يقارن التكليف، «لتصوره» تصور ذلك المقارن، «أمره» أمر المولى الآمر.

ص: 426


1- السرائر 1: 407؛ شرائع الإسلام 1: 197.

لتصوره دخلاً في أمره بحيث لولاه[1] لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك[2] المتقدم أو المتأخر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية، كان من مبادئه - بما هو كذلك[3] - تصور الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به، بحيث لولاه[4] لما رغب فيه، ولما أراده واختاره، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف - التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته[5] -: «شرطاً» لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان[6] مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدماً أو متأخراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما[7] كذلك، فلا إشكال[8].

-------------------------

[1] أي: لو لا تصوره.

[2] أي: كالمقارن في أن الشرط هو تصوّره.

[3] أي: بما هو فعل اختياري.

[4] أي: لو لا تصور الشيء بأطرافه، وقوله: «واختاره» عطف على المنفيّ، أي: ولما اختاره.

[5] «ارادته» عطف تفسيري على (حصول الرغبة)، و«شرطاً» مفعول يُسمّى، و«لأجل» وجه تسميته بالشرط، «لحاظه» لحاظ كل واحد من الأطراف، «حصوله» حصول الرغبة وإرادة الشيء.

[6] أي: سواء كان خارجاً مقارناً أم متقدماً أم متأخراً، فليس الوجود الخارجي شرطاً للتكليف، بل شرطه هو لحاظ الآمر، «كذلك» أي: مقارناً.

[7] أي: في المتقدم والمتأخر، «كذلك» أي: اللحاظ شرط.

[8] لأن اللحاظ متقارن دائماً مع تشريع الحكم، فلا يرد إشكال تأثير المعدوم، كما عرفت تفصيله.

ولا يخفى الخلط هنا بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية، وبين شرائط الجعل والمجعول، فراجع المفصلات.

ص: 427

وكذا الحال في شرائط الوضع[1]، مطلقاً[2]، ولو كان مقارناً، فإن دخل شيء[3] في الحكم به[4] وصحة[5] انتزاعه لدى الحاكم به[6] ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصح انتزاعه[7]، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره

-------------------------

ب - شرط الحكم الوضعي

[1] أي: كذلك في الأحكام الوضعية ليس الشرط هو المتقدم أو المتأخر زماناً، بل الشرط هو اللحاظ، وهو متقارن دائماً، مثلاً: الحكم بالملكية في العقد الفضولي مشترط بلحاظ المولى الإجازة اللاحقة، فيقول: شرّعت الملكية بهذا العقد.

[2] شرح (مطلقاً) بقوله: (ولو كان مقارناً...) أي: سواء كان الشيء متقدماً أم متأخرا أم متقارناً فليس هو الشرط، بل الشرط هو لحاظ المولى، وهذا اللحاظ مقارن دائماً.

[3] أي: إن دخل شيء في الحكم الوضعي ليس بمعنى دخل وجوده الخارجي - الذي قد يكون متقدماً أو متأخراً أو متقارناً - بل بمعنى دخل لحاظه وهو متقارن دائماً.

[4] أي: الحكم بالوضع.

[5] عطف تفسيري على (الحكم به)، ومقصوده بيان معنى الحكم الوضعي، مثلاً: لا يوجد شيء بإزاء الملكية في الخارج، وإنما الحاكم يلاحظ الشيء ويلاحظ المالك، ثم ينتزع من ذلك الشيء الملكية.

ثم اعلم أن هناك فرقاً بين الانتزاع والاعتبار، فالأمر الانتزاعي كزوجية الأربعة، والأمر الاعتباري كالملكية، ولكن حيث إنهما أمران غير متأصلين لذا يعبّر المصنف عنهما بتعبير واحد عادة.

[6] أي: بالوضع، و«ليس...» خبر (فإنّ)، و«الحاكم» هو الشارع أو العقلاء.

[7] «ما» أي: الشرط الذي، «بلحاظه» بلحاظ ذلك الشرط، «انتزاعه» انتزاع ذلك الوضع، و«بدونه» أي: بدون ذلك اللحاظ، «عنده» عند الحاكم.

ص: 428

بتصوره ولحاظه[1]، وهو مقارن. فأين انخرام القاعدة العقلية[2] في غير المقارن؟ فتأمل تعرف.

وأما الثاني[3]:

-------------------------

[1] أي: الدخل ليس بالوجود الخارجي، بل باللحاظ، والعطف بين التصور واللحاظ تفسيري.

ولكن قد ذهب البعض إلى أن التصور هو حضور صورة الشيء لدى النفس، وأما اللحاظ فهو توجه النفس إليه مضافاً إلى حضور الصورة.

ثم اعلم أن التصور إنما هو في المولى العرفي، وأما الله سبحانه فلا يعقل التصور فيه، بل هو علمه بالتوقف ثم إرادته لذلك.

[2] وهو وجوب تقارن المعلول مع جميع أجزاء العلة.

الثاني: شرط المأمور به

[3] وهو شرط (متعلَّق التكليف)، أما الأول فكان نفس الحكم، سواء كان تكليفياً أم وضعياً.

وحاصل الجواب: إن الشرط قد يكون دخيلاً في تحقق ذات المشروط، كاشتراط الاحتراق بمحاذاة النار للورق مثلاً، فهنا لابد من التقارن في وجود الشرط والمشروط خارجاً.

وقد يكون الشرط الحقيقي هو عنوان منتزع عن (إضافة خاصة)، فهذا العنوان لابدّ من أن يتقارن مع المشروط، لكن طرف الإضافة لا يشترط تقارنه، بل يمكن تقدمه أو تأخره.

مثلاً: آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ سابق على ذريته، والذرية لاحقة له، فيوم خلق الله آدماً لم تكن الذرية موجودة، لكن كان يصح وصف آدم بالسبق، والآن آدم غير موجود لكن يصح وصف الذرية باللحوق، وسبب ذلك أنه في تحقق الإضافة لا يشترط وجود كلا طرفي الإضافة.

فكون شيء شرطاً للمأمور به ليس إلاّ ما يحصل[1] لذات المأمور به بالإضافة إليه[2] وجهٌ وعنوانٌ به يكون حسناً[3] أو متعلقاً للغرض[4]

-------------------------

إذا اتضح ذلك يتبيّن أن (المتقدم) أو (المتأخر) ليس شرطاً حقيقة، وإنما هما طرف الإضافة، والشرط الحقيقي هو العنوان المنتزع عن

ص: 429

تلك الإضافة، وذلك العنوان مقارن دائماً.

إن قلت: إن الإضافة أمر انتزاعي، فقد يتحقق طرفها فتتحقق تلك الإضافة، وقد لا يتحقق طرفها فلا تتحقق، فكيف يرتبط (المأمور به) بتلك الإضافة؟

قلت: إن الشيء قد يكون حسناً أو قبيحاً بالوجوه والاعتبارات، و أحد تلك الوجوه والاعتبارات العنوان المنتزع عن (الإضافة الخاصة).

مثلاً: الخروج إلى خارج المدينة لا يتصف بالحسن أو بالقبح بذاته، لكن إن كان سابقاً على قدوم الحاجّ مثلاً، فإن هذه الإضافة كانت سبباً لتحقق عنوان الاحترام، وهو سبب في حُسن ذلك الخروج، أو إذا كان الخروج لاحقاً على تفشي الوباء فإنه يتصف بالحسن؛ لأن هذه الإضافة أوجبت تحقق عنوان موجب لحسنه.

ومثاله الشرعي: إن الصوم السابق على الغسل الليلي للمستحاضة يتصف بعنوان السَبق، وهذا العنوان يوجب حُسن ذلك الصوم، وهو عنوان متقارن، مع أن طرف الإضافة - أي: الغسل - متأخر.

[1] في بعض النسخ، (يُحصِّل) من باب التفعيل، وقوله: (وجهاً وعنواناً) مفعوله، وفي بعض النسخ (يَحصَل) من المجرد، و(وجهٌ وعنوانٌ) فاعله.

[2] أي: بالنسبة إلى ذلك الشيء، «به» أي: لأجل ذلك العنوان.

[3] بناء على مذهب العدلية، من أن الحسن يرتبط بالأفعال، سواء بذاتها أم لأجل الوجوه والاعتبارات.

[4] بناء على ما نُسِب إلى الاشاعرة، من عدم تبعية الأحكام للحسن والقبح، بل تبعيتها لغرض المولى، هكذا قيل.

ص: 430

بحيث لولاها[1] لما كان كذلك، واختلاف[2] الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات[3] مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه. والإضافة[4] كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوتٍ أصلاً، كما لا يخفى على المتأمل. فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له[5] موجباً لكونه

-------------------------

[1] أي: لو لا الإضافة، «كذلك» حسناً أو متعلقاً للغرض.

[2] دفع لتوهم أن الحسن والقبح ذاتيان.

وجوابه: إنه قد ثبت في علم الكلام أن اتصاف الفعل بالحسن والقبح على أقسام:

منها: الحسن والقبح الذاتي، بحيث يكون ذلك الفعل علة تامة، كقبح الظلم وحسن العدل.

ومنها: الحسن والقبح بنحو الاقتضاء، بحيث يمكن أن يمنع مانع عن تحققهما، كالصدق والكذب الذي لهما اقتضاء الحسن أو القبح، لكن قد يجب الكذب انقاذاً لنفس مؤمن، أو يحرم الصدق الموجب لهلاكه.

ومنها: أن لا يكون اتصاف الشيء بهما لا بالذات ولا بنحو المقتضي، بل يرتبط بالوجوه والاعتبارات. كالنوم إن كان لحاجة البدن فهو حسن، وإن كان فراراً عن طاعة فهو قبيح.

[3] أي: من نسبة ذلك الشيء إلى أمور أخرى.

[4] أي: لا يشترط في (الإضافة) تحقق أطرافها في زمان واحد، بل يمكن تقدم أحد الأطراف وتأخر الطرف الآخر؛ وذلك لأن الإضافة أمر انتزاعي، وهو يرتبط بلحاظ نسبة الأشياء بعضها إلى البعض.

[5] كالقيام مقارناً مع قدوم زيد، حيث يتصف القيام بعنوان التعظيم، فبهذا الاعتبار - أي: باعتبار اتصافه بعنوان التعظيم - صار هذا القيام حسناً، «شيء»

ص: 431

معنوناً بعنوان يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلقاً للغرض، كذلك إضافته[1] إلى متأخر أو متقدم، بداهة أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضاً، فلو لا[2] حدوث المتأخر في محله[3] لما كانت للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه[4] والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك[5] أطلق عليه الشرط مثله بلا انخرام للقاعدة[6] أصلاً، لأن[7] المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلاّ طرف الإضافة[8] الموجبة

-------------------------

كالقيام في المثال، «مقارن له» كقدوم زيد، «لكونه» لكون الشيء - وهو القيام - «معنوناً» أي: متصفاً، «بعنوان» كالتعظيم، «يكون» الشيء كالقيام.

[1] أي: إضافة الشيء إلى متقدم أو متأخر قد توجب اتصافه بالحسن، «أحدهما» المتأخر أو المتقدم، «ذلك» أي: الإتصاف بالعنوان الحسن، «أيضاً» كالمتقارن.

[2] هنا يذكر المصنف خصوص الشرط المتأخر، ثم بعد ذلك يعمّم الكلام للمتقدم أيضاً.

[3] أي: في زمانه، مثلاً: لو لا الغسل الليلي لم يكن صوم اليوم السابق حسناً؛ لعدم وجود الإضافة الخاصة، وهي لحوق الصوم بالغُسل مثلاً.

[4] أي: ذلك الحسن يوجب أمر المولى بالمتقدّم؛ وذلك لتبعية الأحكام للحسن والقبح، كما هو مذهب العدلية، «طلبه» أي: طلب المتقدم.

[5] أي: لأجل أن هذه الإضافة قد توجب اتصاف الشيء بالحسن، «عليه» على المتأخر، «مثله» مثل المقارن.

[6] العقلية من استحالة تأثير المعدوم في الموجود؛ فلذا يستحيل انفكاك المعلول عن العلة.

[7] بيان وجه عدم انخرام القاعدة العقليه.

[8] فليس هو الشرط حقيقة، بل الشرط هو العنوان المنتزع من الإضافة.

ص: 432

للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حُقّق في محلّه[1] أنه بالوجوه(1)

والاعتبارات[2]، ومن الواضح أنها[3] تكون بالإضافات. فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر؛ وقد عرفت[4] أن إطلاقه عليه فيه كإطلاقه على المقارن إنما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه[5] الذي يكون بذاك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان[6] في الحكم لأجل دخل تصوره فيه[7] كدخل تصور سائر الأطراف والحدود التي لو لا لحاظُها[8] لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا(2)،

ولم يسبقني إليه أحد في ما أعلم، فافهم واغتنم.

-------------------------

[1] في علم الكلام «أنه» أي: الحسن.

[2] غالباً. نعم، قد يكون حسنه ذاتياً في موارد قليلة كحسن العدل.

[3] أي: إن الوجوه والاعتبارات، «بالإضافات» أي: بملاحظة النسبة إلى أمور أخرى، فضرب اليتيم تأديباً حسن، وضربه بلا وجه قبيح - مثلاً - .

[4] بأن المتأخر ليس شرطاً في الحقيقة، «إطلاقه» أي: إطلاق الشرط، «عليه» على المتأخر، «فيه» في المأمور به، «كإطلاقه» أي: الشرط، و«إنما يكون...» خبر (أن إطلاقه...)، «كونه» كون المتأخر.

[5] أي: تكون سبباً لتحقق عنوان، «الذي يكون» الفعلُ.

[6] أي: كما أن شرط الحكم التكليفي أو الوضعي لم يكن الوجود الخارجي للشرط، بل لحاظه وتصوره، كذلك في شرط المأمور به ليس الشرط هو الوجود الخارجي للمتأخر أو المتقدم، بل الشرط هو العنوان المنتزع عن الإضافة الخاصة.

[7] أي: تصور ذلك الشيء في الحكم - تكليفياً أو وضعياً - .

[8] أي: لو لا لحاظ سائر الأطراف والحدود.

ص: 433


1- أصول الفقه 1: 229.
2- فوائد الأصول: 59-60.

ولا يخفى: أنها[1] بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناءً على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه[2] لا يكاد تحصل الموافقة، ويكون[3] سقوط الأمر بإتيان المشروط به[4]

-------------------------

[1] بعد أن ذكر إمكان المقدمة المتأخرة والمتقدمة شرع في بيان دخولها - بكل أقسامها - في محل البحث، فإن قلنا بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة كانت المقدمة - سواء متقدمة أم متأخرة أم مقارنة - واجبة، وإن لم نقل بالملازمة لم تكن المقدمة واجبة.

ثم اعلم أن الكلام إنما هو في المقدمة المرتبطة بالمأمور به، وأما المقدمة المرتبطة بالتكليف أو بالوضع فخارجة عن محل البحث... .

أما مقدمة التكليف، كالاستطاعة للحج، فلما مرّ من أنه لا وجوب للحج قبل الاستطاعة، فلا يترشح الوجوب إلى المقدمة، وبعد الاستطاعة يجب الحج لكن لا معنى لوجوب الاستطاعة حينئذٍ؛ لأنه من طلب الحاصل.

وأما مقدمة الوضع فلأن الأحكام الوضعية غير واجبة عادة، فالملكية غير واجبة حتى يترشح وجوبها إلى الإجازة التي هي مقدمتها - مثلاً - نعم، لو وجبت جرى البحث فيها أيضاً.

[2] بدون اللاحق؛ لأن اللاحق طرف الإضافة، فبدونه لا تتحقق تلك الإضافة، التي هي سبب لاتصاف الفعل بعنوان حسن، فلا يكون الفعل مصداقاً للمأمور به حينئذٍ.

[3] عطف على (يتصف اللاحق...)، أي: وبناءً على الملازمة يكون سقوط الأمر... الخ.

[4] لأن الأمر يسقط بأشياء، ومنها: الإتيان بمتعلّق الأمر، فيتحقق الغرض، فلا يعقل بقاء الأمر، كما مرّ تفصيله في بحث المرة والتكرار.

ص: 434

مراعى بإتيانه[1]، فلو لا اغتسالها في الليل - على القول بالاشتراط[2] - لما صحّ الصوم في اليوم.

-------------------------

[1] أي: بإتيان اللاحق، وقوله: (فلو لا...) مثال لما ذكره.

[2] أي: اشتراط صحة صومها في اليوم باغتسالها في الليل، «لما صحّ» لعدم كون ذلك الصوم مصداقاً للمأمور به؛ لأن المأمور به هو الصوم الذي كان طرفاً للإضافة، وهذا الصوم لم يكن طرفاً، فلم يكن مصداقاً للمأمور به.

انتهى الجزء الأوّل ويليه الجزء الثاني في بحث:

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب

ص: 435

ص: 436

فهرست الموضوعات

المقدمة

الأمر الأول: موضوع علم الأصول وتعريفه... 9

1- موضوع العلوم... 10

2 - مسائل العلوم... 13

3 - تمايز العلوم... 15

4 - موضوع علم الأصول... 17

أولاً: القول بأن السنة لاتشمل الخبر... 20

دفاع الشيخ الأعظم... 20

الإشكال على دفاع الشيخ... 21

إشكال وجوابه... 22

ثانياً: القول بأن السنة تشمل الخبر... 23

5 - تعريف علم الأصول... 24

الأمر الثاني: في الوضع... 27

أقسام الوضع... 28

ص: 437

1 - مرحلة التصور... 29

2 - مرحلة الإمكان... 30

استحالة الوضع الخاص والموضوع له العام... 30

3 - مرحلة الوقوع... 33

المعنى الحرفي... 33

الخبر والإنشاء... 41

أسماء الإشارة والضمائر... 42

خلاصة البحث... 43

الأمر الثالث: الاستعمال بالطبع... 45

الأمر الرابع: استعمال اللفظ وإرادة نوعه وصنفه... 46

إرادة الشخص... 48

احتمال في النوع والصنف... 51

إشكالات على هذا الاحتمال... 52

الأمر الخامس: معنى تبعية الدلالة للإرادة... 54

كلام ابن سينا والطوسي... 57

الأمر السادس: وضع المركبات... 60

الأمر السابع: علائم الحقيقة والمجاز... 63

1 - التبادر... 63

شرط التبادر... 65

2 - عدم صحة السلب... 66

3 - الاطراد... 71

الأمر الثامن: أحوال اللفظ... 73

ص: 438

الأمر التاسع: الحقيقة الشرعية... 76

الثمرة... 82

الأمر العاشر: الصحيح والأعم... 85

المقدمة الأولى: تحرير محل النزاع... 85

المقدمة الثانية: في معنى الصحة والفساد... 89

المقدمة الثالثة: في الجامع بين الأفراد... 91

الجامع على الصحيح... 91

إشكال الشيخ الأعظم... 92

الجواب عن الإشكال... 95

الجامع على الأعم... 97

الوجه الأول... 97

الوجه الثاني... 99

الوجه الثالث... 100

الوجه الرابع... 102

الوجه الخامس... 105

المقدمة الرابعة: ضرورة تصوير الجامع على الأعم... 106

المقدمة الخامسة: ثمرة بحث الصحيح والأعم... 108

الثمرة الأولى... 108

الثمرة الثانية... 111

الثمرة الثالثة... 112

أدلة القول بالصحيح... 113

ص: 439

الدليل الأول: التبادر... 113

الدليل الثاني: صحة السلب... 114

الدليل الثالث: إثبات الآثار أو نفيها 115

الدليل الرابع: طريقة الواضعين... 118

أدلة القول بالأعم... 119

الأول: التبادر... 119

الثاني: عدم صحة السلب... 120

الثالث: صحة التقسيم... 120

الرابع: الإطلاق في الأخبار... 121

الخامس: تعلق النذر... 124

بقي أمور... 128

الأمر الأول: في أسامي المعاملات... 128

الأمر الثاني: عدم الإجمال في ألفاظ المعاملات... 130

الأمر الثالث: الأجزاء والشرائط الدخيلة في المُسمّى... 133

الأمر الحادي عشر: الاشتراك اللفظي... 139

1 - وقوع الاشتراك في اللغة... 140

2 - رد القول بالاستحالة... 140

3 - وقوع الاشتراك في القرآن... 141

4 - ردّ القول بوجوب الاشتراك... 143

الأمر الثاني عشر: في استعمال اللفظ في أكثر من معنى... 144

وهم ودفع... 154

الأمر الثالث عشر: بحث المشتق... 155

الأمر الأول: معنى المشتق... 156

ص: 440

الأمر الثاني: في اسم الزمان... 164

الأمر الثالث: في الأفعال والمصادر... 166

عدم دلالة الفعل على الزمان... 168

الفرق بين الاسم والحرف... 174

الأمر الرابع: اختلاف مبادئ المشتقات... 180

الأمر الخامس: معنى «الحال» في العنوان... 182

الأمر السادس: في تأسيس الأصل... 187

الأول: الأصل اللفظي... 188

الثاني: الأصل العملي... 189

الأقوال في المشتق... 190

أدلة القول بالوضع لخصوص المتلبس... 191

الدليل الأول: التبادر في خصوص المتلبس... 192

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي... 192

الدليل الثالث: المضادة بين الصفات... 193

إشكال وجوابه... 195

إشكال آخر... 196

الجواب عن الإشكال... 197

الإشكال على الاستدلال بصحة السلب... 201

الجواب عن الإشكال... 202

عموم صحة السلب... 204

1 - التفصيل بين اللازم والمتعدي... 205

2 - التفصيل بين التلبس بالضد وعدمه... 206

ص: 441

أدلة القول للأعم... 207

الدليل الأول: التبادر... 207

الدليل الثاني: عدم صحة السلب... 208

الدليل الثالث: استدلال الإمام... 209

دليل التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به... 216

أمور ترتبط ببحث المشتق... 218

الأمر الأول: في بساطة المشتق... 218

الدليل الأول لبساطة المشتق... 219

1 - إيراد الفصول على الشِق الأول... 220

إشكال المصنف على الفصول... 221

2 - إيراد الفصول على الشق الثاني... 223

أ- إشكال المصنف على إيراد الفصول... 224

ب - إشكال الفصول على إيراده... 228

ج - ردّ إشكال الفصول... 229

3 - إيراد آخر للفصول على الشق الأول... 230

4 - تعديل الشق الثاني من البرهان... 232

الدليل الثاني على بساطة المشتق... 233

إرشاد: في معنى البساطة... 233

الأمر الثاني: الفرق بين المشتق والمبدأ 235

الأمر الثالث: ملاك الحمل... 238

الأمر الرابع: في صفات الله تعالى... 241

الأمر الخامس: في عدم النقل في صفاته تعالى... 244

ص: 442

إشكال وجوابه... 247

الأمر السادس: في الإسناد المجازي للمشتق... 251

المقصد الأول في الأوامر

الفصل الأول في مادة الأمر... 257

الجهة الأولى: معنى مادة الأمر... 257

1 - المعنى اللغوي لمادة الأمر... 258

2 - المعنى الاصطلاحي لمادة الأمر... 259

3 - مادة الأمر في الكتاب والسنة... 262

الجهة الثانية: في اشتراط العُلوّ... 264

الجهة الثالثة: الأمر حقيقة في الوجوب... 266

أدلة كون الأمر للطلب المطلق... 269

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة... 271

المقام الأول: معنى الطلب في مادة الأمر... 271

المقام الثاني: في اتحاد الطلب والإرادة... 273

المقام الثالث: أدلة تغاير الطلب والإرادة وردّها 278

الدليل الأول: الأوامر الامتحانية والتعذيرية... 279

الدليل الثاني: معاني الكلمات... 281

الدليل الثالث: عدم تخلف الإرادة عن المراد... 285

المقام الرابع: في شبهة الجبر والجواب عنها... 288

دليل رابع: على تغاير الطلب والإرادة، وردّه... 294

الفصل الثاني في صيغة الأمر... 296

ص: 443

المبحث الأول: في معنى صيغة الأمر... 296

المبحث الثاني: هل الصيغة تدل على الوجوب وضعاً... 302

المبحث الثالث: في دلالة الجمل الخبرية على الوجوب... 305

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب... 305

المقام الثاني: في أن استعمالها في معناها 306

المبحث الرابع: هل الصيغة تدل على الوجوب بالإطلاق؟... 311

أ- الانصراف إلى الوجوب... 311

ب - دلالة الإطلاق على الوجوب... 312

المبحث الخامس: في التوصلي والتعبدي... 314

المقدمة الأولى: في معنى التوصلي والتعبدي... 314

المقدمة الثانية: في امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر... 315

1 - استحالة تعلق الأمر الشرعي بقصد القربة... 316

2 - إشكالان على الاستحالة... 318

3 - دفع الإشكال الثاني... 319

4 - وجوه ثلاثة انتصارا للإشكال الثاني... 320

الوجه الأول: الأمر الضمني بالشرط... 320

الوجه الثاني: الأمر الضمني بالجزء... 322

الوجه الثالث: رفع المحذور بالتزام أمرين... 325

سائر معاني قصد القربة... 329

المقدمة الثالثة: امتناع الإطلاق لو امتنع التقييد... 330

المقام الأول: في الأصل اللفظي... 332

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي... 333

ص: 444

المقام الثالث: الأصل العملي... 334

أولاً: الأصل العقلي بالاشتغال... 334

ثانياً: الأصل الشرعي بالبراءة... 339

المبحث السادس: أصالة النفسيّة العينيّة التعيينية... 342

المبحث السابع: الأمر عقيب الحظر... 343

المبحث الثامن: في المرة والتكرار... 345

عموم النزاع للمادة والهيئة... 346

معنى المرة والتكرار... 350

تنبيه: في ثمرة البحث، وهي في الامتثال... 354

المبحث التاسع: في الفور والتراخي... 358

أدلة القائلين بالفور والإشكال عليها 358

تتمة: في الإتيان فوراً ففوراً 362

الفصل الثالث في الإجزاء... 363

الموضع الأول: الإجزاء عن أمر نفسه... 374

الموضع الثاني: الإجزاء عن أمر غيره... 378

المقام الأول: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي... 378

1 - الكلام في مرحلة الثبوت... 379

الصورة الأولى... 380

الصورة الثانية... 381

البدار في الصورة الأولى... 382

الصورة الثالثة والرابعة... 383

2 - الكلام في مرحلة الإثبات... 384

ص: 445

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي... 387

الأمر الأول: في الأمر الظاهري المتعلق بالجزء أو الشرط... 387

أ- ما كان بلسان الحكومة... 387

ب - ما كان بلسان الكشف عن الواقع... 390

1 - بناءً على الطريقيّة... 390

2 - بناءً على السببيّة... 391

3 - لو شك في الطريقية والسببيّة... 393

الأمر الثاني: الأمر الظاهري المتعلق بأصل التكليف... 398

التذنيب الأول: عدم الإجزاء مع القطع... 400

التذنيب الثاني: الفرق بين الإجزاء والتصويب... 402

فصل في مقدمة الواجب... 406

الأمر الأول: في أصولية المسألة وعقليتها 406

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدمة... 409

1 - المقدمة الداخلية والخارجية... 409

البحث الأول: في إمكان المقدمة الداخلية... 410

البحث الثاني: في عدم وجوب المقدمة الداخلية... 412

المقدمة الخارجية... 416

2 - المقدمة العقلية والشرعية والعادية... 417

3 - مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم... 420

4 - المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة... 422

إشكال على الشرط المتأخر والمتقدم... 422

الجواب عن الإشكال... 425

ص: 446

الأول: شرط الحكم... 426

أ- شرط التكليف... 426

ب - شرط الحكم الوضعي... 428

الثاني: شرط المأمور به... 429

فهرست الموضوعات... 437

ص: 447

ص: 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.