خطابُ المرحلة المجلد 1

هویة الکتاب

اسم الكتاب: خطابُ المرحلة / الجزء الاول

تأليف: توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

الطبعة : الثانية

السنة : 1437 ه_ - 2016م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول ص 07808289364

المطبعة:..........

ص: 1

اشارة

خطابُ المرحلة توثيق لخطابات وبيانات سماحة

آية الله العظمى المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي

ومواقفه وتوجيهاته منذ تصديه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد استاذه

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999

الجزء الأول

1999-2003 القسم الأول

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الجزئين الأول والثاني

الحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على أشرف خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

(خطاب المرحلة) عنوان للخطابات التي كان يوجهها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله الشريف) إلى الأمة عموماً أو إلى شرائح محددة منها منذ توليه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق بعد استشهاد أستاذه السيد محمد الصدر (قدس سره).

لكن هذا العنوان وتسلسل تلك الخطابات لم يطرحه سماحته إلا بعد سقوط الصنم؛ لأن أي عمل منظم مرتب يراد منه تحقيق نتائج على صعيد وعي الأمة وإصلاحها يعتبر عند السلطة تنظيماً حزبياً يحرّمه القانون وعقوبته الإعدام.

والمرحلية عند سماحة الشيخ لا تعني أن الخطاب مؤقت بزمنه وينتهي تأثيره بانتهاء وقته، بل تعني مراعاة المرحلة في موضوع الخطاب بما تتضمنه من ظروف واستعداد وتحديات وحاجة الأمة في تلك المرحلة ويكون حلقة من حلقات العمل الدؤوب الطويل السائر نحو الهدف وهو بناء المجتمع الرباني من خلال الأخذ بيده برفق ورفعه بحسب تحمله.

وقد استفاد سماحته في قوله وعمله ومنهجه كثيراً من القرآن الكريم، ومنها هذا المنهج، حيث يستشهد سماحته بقوله تعالى: [اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] (آل عمران:102) وقوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن:16) فيقول إن

ص: 5

الآية الأولى تمثل الهدف الاستراتيجي الذي ينبغي الوصول إليه، أما الثانية فتمثل الآلية المرحلية التكتيكية، حيث تثمر كل خطوة ما هو أرقى منها في المرحلة التي تليها وهكذا تتكامل الخطوات للوصول إلى الهدف النهائي بإذن الله تعالى.وبين أيدينا مجموعة من الخطب والبيانات والتوجيهات والتعليقات والمواقف التي أصدرها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي إزاء جملة من القضايا والأحداث التي مرّت بالشعب العراقي خلال فترة عصيبة من تأريخه وهي التي تلت استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999 بما سادها من اليأس والإحباط الممزوجين بالخوف والقلق، حتى بدء الاحتلال الغربي بقيادة الولايات المتحدة للعراق في آذار 2003.

وقد تحمل سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) –الذي وصفه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بأنه المرشح الوحيد من بعدي لقيادة الحوزة(1)، والتي تعني قيادة المجتمع بأسره- تحمل مسؤولية إدامة المشروع الإصلاحي للسيد الشهيد (قدس سره) بحكمة وصبر وشجاعة، واختار الآليات المناسبة للعمل في تلك الظروف التي عجز فيها الآخرون عن التفوه بكلمة فضلاً عن اتخاذ موقف.ي.

ص: 6


1- في لقائه (قدس سره) مع طلبة جامعة الصدر الدينية يوم 5/جمادى الثانية/1419 ه_ الموافق 27/ 9/ 1998 م أي قبل استشهاده (قدس سره) بحوالي خمسة أشهر، ويوجد هذا النص وغيره من النصوص المشيرة إلى وصية السيد الشهيد (قدس سره) باتباع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) من بعده في كتب (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) و (قناديل العارفين) والفصل الرابع من مذكرات الشيخ اليعقوبي.

ومن يتأمل في هذه المجموعة سيجد فيها الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة وغيرها، ولكن من دون أن يحوّل خطابه إلى شيء من هذه العلوم بل يوظفها في سبيل تحقيق الهدف وهو الهداية والصلاح على طريقة القرآن الكريم، الذي ليس هو كتاب فلك ولا طب ولا اقتصاد ولا فلسفة ولا غيرها، لكنه أصَّلَ لكثير من الحقائق في هذه العلوم ووظفها لغرضه الإلهي.ولفهم أجواء صدور هذه النصوص لا بد من الإلمام بفكرة عن أحداث تلك الفترة وظروفها، وإلا ستصبح بعض النصوص مبتورة وغير مفهومة، كما تعسّر فهم كثير من نصوص المعصومين (علیهم السلام)؛ لأن الأصحاب لم ينقلوا معها ظروفها وأجواء صدورها.

وخير من يحدثنا عن تلك الفترة سماحة الشيخ نفسه حيث عاشها من موقع المسؤولية والقيادة التي تكلل عملها بالنجاح والتوفيق بفضل الله سبحانه، فكان في قلب الأحداث وليس على هامشها، وننقل هنا نصوصاً من مذكراته، حيث خصص الفصل السادس منها لمرحلة ما بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) حتى سقوط الصنم الصدامي، وسوف ننقل المقدار المرتبط بصدور هذه الخطابات والتوجيهات والبيانات.

قال دام ظله:

((رحل(1) عنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وترك وراءه فراغاًلة

ص: 7


1- استشهد السيد الصدر (قدس سره) مساء الجمعة 3/ ذو القعدة / 1419ه_ المصادف 19/ 2/ 1999م كما هو معلوم. وقد خصَّص سماحته الفصل الخامس من مذكراته لشرح تفاصيل ليلة الاستشهاد حتى تولى الصلاة على جثمانه الطاهر، ونُشرت ضمن كتاب (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

كبيراً، وهالنا وقع المفاجأة، فقد كان المرجع والقائد والأستاذ والأب والمربي والرمز والأمل، وكان الركن الشديد الذي نأوي إليه إذا أحزبنا أمر، أو داهمتنا الخطوب، أو استعصت علينا مسألة، أو أشكلت علينا معضلة، وقد كانت مصيبة كل واحد منا بقدر معرفته به (قدس سره) وبمقدار ما نهل من علومه ومعارفه وأخلاقه، وبمقدار ما علق عليه (قدس سره) من آمال، فسكبنا ما شاء الله تعالى من الدموع، وانطوت جوانحنا على ما يعلمه الله تعالى من الآلام والهموم. وتحول مرقد السيد الشهيد (قدس سره) إلى محل يجتمع فيه يومياً آلاف المفجوعين من أتباعه، وآخرون أحسوا بالندم؛ لأنهم لم ينصروه، ولم يشاركوا في حركته، وسمعوا فيه كلام الباغين والحاسدين، ويُلقي الشعراء المراثي ويقابلهم الحضور بالبكاء واللطم على الصدور، والسلطة تراقب عن كثب، ولا تتدخل لامتصاص زخم الجماهير الغاضبة، ولسان حالهم: (فلقد قضيت من الحسين ديوني)، وأخذت الأعداد تتزايد عندما رفع الحصار عن النجف بعد أسبوعين تقريباً، وبدأت أعداد كبيرة تفد من المحافظات، واستمر هذا الحال إلى الأربعين، الذي صادف قرب زيارة الغدير، وهي زيارة ضخمة إلى مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام)، ومن ثمّ انتشر جلاوزة السلطة حول المرقد الشريف، ونشروا سيطرات عسكرية لمنع وصول الناس إليه.

وبإزاء هذه المشاعر العامة كان عندي إحساس من نوع خاص، إنه الشعور بالمسؤولية تجاه المشروع الإصلاحي الذي اختطه السيد الشهيد (قدس سره)

ص: 8

وتوجيه الحركة الإسلامية المتنامية في العراق، وكنت أرى أن التصدي لهذه المسؤولية منحصراً بي، حيث ارتعدت فرائص الآخرين من الخوف، ولم يجرأوا حتى على فتح أبواب دورهم عندما طرقها ذوو السيد الشهيد (قدس سره) المفجوعون ليلة الاستشهاد، وهم شباب لا تجربة لهم، وطلبوا مساعدتهم والصلاة على جثمانه الطاهر، فحرموا من هذا الفضل العظيم. وقد اقترن هذا الإحساس بتكليفي بحمل هذه الأمانة بقرائن وجدانية، من خلال ما أفاض الله تعالى علي من الطمأنينة وقوة القلب ورباطة الجأش واستصغار الدنيا والطامعين فيها وعبدة الطاغوت - مهما كان جبروتهم - والحكمة في التصرف، مما لم أكن أعهده من قبل، وفهمت بالوجدان ما روي عن الإمام الهادي (علیه السلام) حينما قال لجلسائه يوماً – وهو في المدينة – الآن توفي أبي الجواد (علیه السلام)، قيل: وكيف علمت يا ابن رسول الله وأبوك في بغداد؟ فقال (علیه السلام): لقد داخلني من الهيبة لله تبارك وتعالى ما لم أكن أحسه من قبل، فعلمت أنني أصبحت الإمام الفعلي(1) الإمام بعد وفاة أبي (ع).

فانضم هذا الإحساس الوجداني إلى ما أعلنه السيد الشهيد(قدس سره) مراراً وفي أكثر من موطن وموقف، وبصيغ متنوعة لحوزته وأتباعه ولعموم الأمة في).

ص: 9


1- أراد الإمام (عليه السلام) بهذا أن فترة إمامته الشريفة قد بدأت، ومثله حديث آخر عن صفوان أنه سأل الإمام الرضا (عليه السلام) (عن الإمام متى يعلم أنه إمام؟ قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه، قلت: بأي شيء؟ قال: يلهمه الله). وحديث آخر عن هارون بن الفضل قال: (رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر عليه السلام فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر عليه السلام، فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذلة لله لم أكن أعرفها) (الكافي:1/ 381، باب: في أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه، ح4،5).

تعيين القائد البديل – كما كان يكرر (قدس سره)، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفصل الرابع من هذه المذكرات، حيث كان يدعو باستمرار إلى الرجوع إلى البديل الذي يعده من طلابه قيادةً آنذاك، حتى لو لم يشهد باجتهاده؛ لحاجة الحوزة والمجتمع إلى من يقودهما ويرتب أمورهما والرجوع إلى مجتهد آخر لإبراء الذمة، حتى يشهد باجتهاده فيكون الرجوع إليه تقليداً وقيادةً لأنه الأعلم.وكان هذا الاستخلاف للقيادة النائبة مبنياً على تقييم دقيق لاستحقاقات المرجعية القائدة علمياً وأخلاقياً وفكرياً واجتماعياً امتدّ لفترة خمسة عشرة عاماً(1)، أما المستوى الأخلاقي والفكري والحركي فيكشف عنه كتابا (قناديل العارفين) و(الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) وأما المستوى العلمي فقد كان النبوغ واضحاً منذ البداية وصدر في عامي 1418- 1419ه_ (1998م) كتابان مهمان حظيا بالثناء والإعجاب، أولهما كتاب (المشتق عند الأصوليين) وتضمن تقرير أبحاث السيد الشهيد الصدر(قدس سره) في علم الأصول مع بعض المداخلات، وقد أعجب به السيد الشهيد(قدس سره) وجعله من أجزاء دورته الأصولية (منهج الأصول) مستغنياً به عن كتاباته (قدس سره).

وثانيهما كتاب (الرياضيات للفقيه) وهو فريد في بابه لذا نال إعجاب المراجع والعلماء بما تضمن من تحقيقات فقهية وأصولية ورياضيات معمقة لا يوجد من يجمعها، وناقشت فيه أساتذتي المراجع وقد شهد به السيد الصدر (قدس سره) وأوضح في بحثه الخارج – في صلاة الجمعة – عندما ناقش مسألةة.

ص: 10


1- لاحظ جذور ذلك منذ عام 1985م في كتاب (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه)، وكتاب (قناديل العارفين): المقدمة.

الفرسخ(1) وقال عنه أنه نقل الفقه من الحيض والنفاس إلى الآفاق العلمية العالية، كما أثنى المراجع الآخرون في كلمات نحتفظ بها، فكانت هذه الوثائق الإثباتية مستندة إلى حقائق ثبوتية واقعية بفضل الله تبارك وتعالى، حيث لم يعرف عن السيد الشهيد(قدس سره) المجاملة والمداهنة خصوصاً في مثل هذه الأمور المصيرية التي كان تقييمه للآخرين فيها صريحاً وواضحاً وتحمل بسبب ذلك ما تحمل.وكانت هذه المنزلة المتقدمة للشيخ اليعقوبي معلومة لدى جميع المقربين منه (قدس سره) ولدى كل المطلعين على حركة السيد الشهيد (قدس سره) حتى خصومه، وبرز ذلك بشكل واضح في مجلس تلقي التعازي وقراءة سورة الفاتحة على روحه الطاهرة الذي أقيم في جامع صافي صفا، فقد كان سماحة الشيخ من يتلقى التعازي، ولما حان وقت صلاتي المغرب والعشاء أجمع ذوو السيد الشهيد(قدس سره) والعاملون في مكتبه وأتباعه ومريدوه على تقديم سماحة الشيخ لإمامة الصلاة إعلاناً لكونه المقدم عليهم بعد رحيله (قدس سره).

وكان من بقي من أنجال السيد الشهيد (قدس سره) –بعد استشهاده ومعه ولداه مصطفى ومؤمل - يحفظ لي هذه المنزلة ما دام بعيداً عن المتعصبين والحاسدين والمتملقين، فقد أمر – كما تقدم – بأن أتولى الصلاة على الجثمان الطاهر للسيد الشهيد (قدس سره) والإشراف على تغسيله وتجهيزه ودفنه، كما رغب أن أجلس في المقعد المجاور لموضع جلوس السيد الشهيد في الغرفة الكبيرة، ووضعنا صورته في مكانه، وجلست إلى جانبها لاستقبال المعزّين طيلة أربعين

ص: 11


1- محاضرة بتأريخ 1-2/شعبان/1419ه_ الموافق 21/ 11/ 1998.

يوماً.وفي مساء اليوم الثالث حيث انتهى مجلس العزاء اجتمع كل العاملين في المكتب للمداولة في كيفية الاستمرار بالعمل، وكان الجميع يتعاملون مع سماحة الشيخ على أنه كبيرهم والمقدم عليهم وواجهة العمل في مكتب السيد الشهيد(قدس سره) وكان مما طلبوا: الاستفادة من الزخم العاطفي لحادث الاستشهاد وإقامة صلاة الجمعة في الكوفة ومواصلة الخط الحماسي الذي صنعه(قدس سره) في نفوس الجماهير المؤمنة.

وكان من رأيي أن هذا غير ممكن ولا جدوى منه بعد المنع الذي أبلغه لنا صريحاً في مجلس الفاتحة الوفد الذي بعثه المقبور صدام وضم مسؤولين كبار في نظامه لتقديم التعازي، فليس من الحكمة الاصطدام المباشر مع النظام الطائش المتفرعن الذي لا يتورع عن ارتكاب أية جريمة، وما زالت دماء السيد الشهيد(قدس سره) طرية، وذكرت شاهداً تصرف الإمام السجاد (علیه السلام) لما أستقبله أهل الكوفة بالعويل والبكاء بعد استشهاد أبيه الإمام الحسين (علیه السلام) وعرضوا نصرتهم عليه ضد الطاغية ابن زياد فرفض ذلك، فلا بد إذن من العمل بآليات جديدة تديم الحركة الإسلامية وتنميها تمهيداً لإقامة دولة العدل الإلهي، وتصون أبناءها من بطش الطاغوت إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولم يرُقْ ذلك للبعض، وعادت من جديد الفجوة السابقة بين المعتدلين والمتطرفين التي أشار إليها السيد الشهيد (قدس سره) في لقائه مع العاملين في المكتب قبيل استشهاده، فعزلوا الإدارة المعتدلة التي عينها السيد الشهيد (قدس سره) قبل عدة أشهر، واستبدوا بالأمور.

ص: 12

أما أنا ومن معي فقد مضيت على بصيرة من أمري ووضعت برنامجاً لعملي في مرحلة ما بعد السيد الشهيد (قدس سره)، ودوّنت أفكاري ورؤاي حتى لا تغيب عن بالي فكتبت في ورقة صغيرة – ليمكن إخفاؤها وليتيسّر لي وضعها في جيبي باستمرار– الخطوط العامة لمنهج العمل الذي أسير عليه في المراحل التالية لاستشهاد السيد(قدس سره) متجاوزاً العواطف الملتهبة وردود الفعل الانفعالية ووضعتها في متناول يدي لمراجعتها باستمرار، ويظهر من بعض نقاطها كالمحافظة على صلوات الجمعة المتبقية أنها كتبت في الأيام الأولى من استشهاد سيدنا الأستاذ الصدر الثاني(قدس سره) حيث منعت لاحقاً إقامة كل الصلوات وأحتفظ عندي بنفس الورقة(1).وهذه هي النقاط التي مثلت الخطوط العريضة لبرنامجي المستقبلي ويستطيع المتابع معرفة مقدار ما أنجز منها:

1-تنشئة قاعدة حوزوية واعية مخلصة.

2-توعية المجتمع وتثقيفه بإصدار الكتب والنشرات والكراسات أو إصدار مجلة إن أمكن ونشر المبلغين واحتضان الخطباء المخلصين.

3-معالجة الظواهر الاجتماعية المنحرفة والتصدي لها بالاستفتاء ونحوه.

4-رد الشبهات التي تُوجّه إلى المذهب والدين.

5-استقطاب الطاقات الكفوءة المخلصة الواعية من الشباب إلى الحوزة لتدارك النقص الذي حصل فيها وسد حاجة المجتمع إلى المرشدين والمبلغين.

6-توجيه عمل مكتب السيد الشهيد (قدس سره) والمحافظة على استمرار نشاطهق.

ص: 13


1- راجع ملحق الوثائق.

باعتباره أهم رموز السيد الشهيد(قدس سره) والمركز الذي يلتف حوله المجتمع الناطق وسعة مسؤولياته التي يباشرها وعدم تشتيت مراكز الحوزة الناطقة.7-معالجة النقائص الموروثة في الحوزة على مستوى المناهج الدراسية أو الإدارة أو المالية أو غيرها.

8-النهوض بالمستوى العلمي للحوزة بالمباشرة الفعلية في الدراسة والتدريس وتشجيع الطلبة المتفوقين مادياً ومعنوياً.

9-بثّ روح الأخوّة والألفة وإزالة الخلاف الحاصل بين مراكز الحوزة الرئيسية فان وحدة المجتمع من وحدة الحوزة وتفرّقه من تفرقها.

10-رعاية المجتمع النسوي سواء على مستوى الخطابة أو الحوزة وطلب العلوم الدينية أو إحياء المناسبات الدينية والاجتماعية بشكل هادف.

11-دعم الجمعات المتبقية والسعي إلى إرجاع غيرها ولو في الجملة كالمناطق التي ليس فيها موانع.

12-إحياء المناسبات الدينية داخل الحوزة وخارجها بالاحتفالات واستغلالها لمناقشة أمور الحوزة والمجتمع والاستفادة من المناسبات لتحقيق الأهداف المطلوبة.

13-احتضان وتشجيع الشرائح الاجتماعية النافعة كالشعراء وحملة الأقلام والفنانين وطلبة الجامعات وتوجيههم نحو الهدف الحقيقي.

ص: 14

ثم بدأت بوضع تفصيلات أكثر كلما تمكنت من زمام الأمور، وثبتت لي قدم في الحوزة العلمية والمجتمع، حتى نضجت رؤية تفصيلية كاملة انتهيت من تدوينها في ليلة مباركة هي ذكرى ولادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) يوم 20/ جمادى الثانية / 1420 (1/ 10/ 1999) أي بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) بعدة أشهر، وطبعت الدراسة بعد سقوط صدام بعنوان (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة)، وأشرت في مقدمة الكتاب إلى ظروف وضع هذه الدراسة، والصعوبات التي كانت تحيط بنا، وأنه كتب بلغة حذرة محفوفة بالتقية، لأننا كنا نحتمل مداهمة دورنا في أي لحظة من قبل أزلام النظام، وعثورهم على مثل هذه الأفكار يعني إعطائهم الدليل الكافي ل_ (إدانتنا).وقلت عن تلك الظروف والصعوبات: ((ولكن ذلك كله لا يُقعد العاملين المخلصين بإذن الله تعالى، فبادرت فور استشهاده رغم الزخم العاطفي الذي يملؤنا إلى تسجيل إستراتيجية عملي للفترة المقبلة في نقاط ثم بدأت بتوسيعها وتسجيل تفاصيل أخرى حتى صار هذا الكتيب الذي اعتز به، ولا زالت حلاوة التحدّي الذي حملناه في تلك الفترة نستشعرها بين جوانحنا والفضل لله تبارك وتعالى وحده.

ولإيماني العميق بأن الإصلاح والعلاج لا يكون ناجحاً إلا بعد تشخيص علل الخلل والفساد أما الاكتفاء بمعالجة الظواهر الفاسدة والمنحرفة التي هي معلولات ونتائج لتلك العلل فهذا علاج ناقص ومن هنا فكرت وتأملت ووضعت برنامجاً لعملي من دون أن أعلنه طبعاً لأن الحديث عن مثل هذه

ص: 15

الأفكار يعني تجاوزاً كبيراً للخطوط الحمراء في منظور ذلك النظام المتوحش فكان الأحجى هو التنفيذ العملي لها وتدريجياً بحسب ما تسنح الفرص))(1).وكان التحدي الأول الذي واجهنا في المرحلة الجديدة هو وضع هذه الإستراتيجية لتحديد نوع وكيفية إدامة الحركة الإسلامية وقيادة مفاصلها، وما هي الآليات المناسبة للعمل بعد غياب السيد الشهيد (قدس سره) والقضاء على كل مفاصل حركته، فتوقفت صلاة الجمعة وأغلقت دور القضاء الحوزوي وفروع مكتب السيد الشهيد (قدس سره) في المحافظات، ومن ثم المكتب الرئيسي في النجف وغيرها، والرمز الوحيد الذي بقي شامخاً هو صرح جامعة الصدر الدينية التي عينني سماحته (قدس سره) عميداً لها منذ يوم 21 صفر 1419ه_، فمن غير الممكن الاستمرار بنفس آلياته (قدس سره) التي أشعلت حماس الجماهير وصارت لا ترضى بأحد إلا أن يسير على ذلك المنوال، فكيف يمكن إخراجهم من حالة الإحباط واليأس التي أصيبوا بها، وإقناعهم بأن المشروع الإلهي ماضٍ ومستمر، ولا يتوقف بغياب شخص مهما كان دوره مهماً.

وقد ذكرت الآن ما وضعت من إستراتيجية للعمل، وسيتضح لاحقاً بعض تفاصيلها بإذن الله تعالى.

وكانت نقطة الانطلاق في الحركة الجديدة هي جامعة الصدر التي كانت تضمّ حوالي 30-40 طالباً يدرسون المقدمات لكنهم كانوا يحملون وعياً رسالياً وطاعة لي باعتباري عميد الجامعة وقد أُضيف إليه عنوان آخر وهو

ص: 16


1- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة: 9-12.

قيادة الحوزة والمجتمع بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) الذي اختارهم قبل استشهاده بخمسة أشهر ليعلن وصيته بأن المرشح الوحيد الذي ينبغي أن يمسك الحوزة من بعده هو الشيخ محمد اليعقوبي، ويحتفظون بشريط التسجيل لهذه الكلمات بصوته (قدس سره).فكان نخبة منهم أداة فاعلة في الحركة الرسالية التي قمتُ بها بها، وكانت السلطة تدرك ذلك وتحاول معرفة تفاصيله حيث إن عمل الجامعة كان غامضاً بالنسبة لهم لأن نظام الجامعة يقتضي كون الدراسة مغلقة داخل البناية ولا يخرج الطلبة منها إلا في أوقات محددة ولا يسمح للضيوف والزوار بدخولها.

ويزيد قلقهم أن عميد الجامعة يحمل شهادة في الهندسة المدنية ورصيداً حوزوياً كبيراً، ووضع نظاماً إدارياً مؤسساتياً ليس معروفاً في الحوزة(1) يقتضي وجود عميد ومعاونين له ولجان، وهذا العمل المنظم تعتبره السلطة تنظيماً حزبياً مرعباً، مع ما يصل إلى سمعهم من تدريس مواد غير حوزوية كاللغة الإنكليزية والكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات والنفس والاجتماع والفسلجة، وأن كتب السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في الأصول تدرَّس فيها بدلاً من المناهج التقليدية.

وهذا كله دفعهم إلى الاحتكاك بنا واستفزازنا وإجراء التحقيقات عنا، وفي إحدى استدعاءاتي لمديرية أمن النجف حيث كان يستجوبني المدير نفسه بعد أن يقدّم (قهوة) الضيافة التي فتكت بحياة الكثيرين، وكان من أسئلته:).

ص: 17


1- راجع كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة).

أنه ما معنى تدريسكم للكيمياء والفيزياء والاقتصاد؟ هل تريدون أن تؤسسوا حكومة فيها وزير الكيمياء –حسب تعبيره- والاقتصاد والفلك.وهذه تهمة خطيرة طبعاً فشرحت له وجه تدريس هذه العلوم بأنه من أجل إلمام طالب العلوم ببعض العلوم العصرية التي تعينه على فهم المسائل الفقهية، كاعتماد قضية الهلال والقبلة على الفلك، وارتباط قضية الحيض والاستحاضة عند النساء بعلم الفسلجة ونحوها، فأجاب بتفهمه للأمر، لكن متابعتهم للجامعة وتحركات العميد والنشاطات الجارية فيها لم تتوقف.

والتحدي الثاني كان تحدي الشرعية للاستمرار بالعمل أمام السلطة وأمام الحوزة العلمية وعموم المجتمع، فإن عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية تقضي بوجوب رجوع المكلف في أحكامه الشرعية في زمن الغيبة إلى المجتهد الجامع للشرائط.

وبالرغم من إنني كنت أعتقد بحصول ملكة الاجتهاد عندي في حياة السيد الشهيد (قدس سره)(1)، حيث قمت ببعض الممارسات العملية في الاستنباط، وتدعمني في ذلك الإشارات التي تكررت من السيد الشهيد (قدس سره) بعد مناقشاتي له في بحث الأصول منذ عام 1417 ه_، أقول: بالرغم من ذلك إلا أنهه.

ص: 18


1- ومما يدل على ذلك أن شهادات الاجتهاد التي تطوع بها بعض المراجع الكرام بعد سقوط صدام عام 1424/ 2003 كانت مبتنية على مراجعة بحث (القول الفصل) الاستدلالي الذي كتبته في الأشهر الأولى بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) وكتاب (مسائل في الفقه الاستدلالي المقارن) الذي ضم عدة مسائل بحثت فيها خلال تلك الفترة، فالاجتهاد يعود إلى ذلك الزمان بل قبله.

من غير الممكن إعلان مثل هذا الأمر لأنه سيقابل بالتشكيك والاتهام، بل بالسخرية والاستهزاء كما أنكروا اجتهاد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حتى استشهاده، وبخلوا بالشهادة على اجتهاد السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حتى قبيل استشهاده، ولم نكن نستطيع الرجوع إلى السيد كاظم الحائري المقيم في قم المقدسة الذي أشار السيد الشهيد (قدس سره) إلى أعلميته في مرحلة ما، بالرغم من تبرعه بتجديد وكالات معتمدي السيد الشهيد (قدس سره) جميعاً لمدة عام؛ لأن مثل هذا الارتباط بجهات خارجية مما لا تتسامح فيه السلطة(1) وتنزللة

ص: 19


1- وكان هذا السلاح – أي التهمة بالاتصال بالخارج ويعنون الجمهورية الإسلامية في إيران – يشهرونه في وجوهنا دائماً لتخويفنا والضغط علينا لترك العمل الاجتماعي والاكتفاء بالدرس، فبعد غلق مكتب السيد الشهيد (قدس سره) –الذي ستأتي الإشارة إليه- طلب مدير أمن النجف (الذي عُين بعد حادث الاستشهاد وأُبعد الأول للتمويه بمسؤوليته عن الحادث وتقصيره في حماية السيد!!) زيارة جامعة الصدر واللقاء بطلبتها مساءً لإسداء (النصائح) و(التوجيهات)، وكان مما قال: (إن أي مؤسسة أو جامعة – كجامعة الصدر – لا تستطيع الاستمرار والبقاء إلا== ==بتمويل، وإذا لم يكن تمويل من الداخل فإنه من الخارج، وقد كان تمويلكم من مكتب السيد الشهيد (قدس سره) وقد أغلق)، وفي هذا إشارة واضحة بأن تمويلكم من الخارج فاتخذت إجراءً بمنح الطلبة عطلة يوم الإربعاء مضافاً إلى التعطيل الاعتيادي يومي الخميس والجمعة للتظاهر بأنهم يقضون هذه الأيام الثلاثة بالعمل والكسب لسد احتياجاتهم. والواقع أنني كنت أصرف على الجامعة فعلاً مما يصلني من الحقوق الشرعية والأمانة تقتضي هنا أن أسجل المواقف الشجاعة والمؤازرة المخلصة لأساتذة وطلبة جامعة الصدر معي في تلك الأيام العصيبة وهمتهم في العمل الإسلامي المبارك حتى استشهد اثنان من الأساتذة، أحدهما الشيخ حسين المالكي الذي أصدر في الأيام الأولى بعد استشهاد السيد كراساً لتوعية الجماهير وإلفات نظرها إلى استمرار القيادة المتمثلة بالشيخ اليعقوبي وعنوانه: (الساحة بعد غياب المرجع) كما ألف كتيب (أختي انتبهي) ضمن إصداراتنا وبإشرافنا ومراجعتنا، واعتقل آخرون وحكم على بعضهم بالسجن المؤبد.

بالمتهم به أقسى العقوبات – أعني الإعدام - مضافاً إلى أن السيد الحائري مما (لا يتيسر له النظر في القضية العراقية) كما عبر السيد الشهيد (قدس سره).وكان هذا التحدي يهدد بشلّ العمل وإيقافه، لكننا عملنا لمعالجته بما يبرئ ذمتنا أمام الله تبارك وتعالى، ومما سنذكره عن العلاقة مع الحوزة الأخرى.

والتحدي الثالث المتفرع عن الثاني هو مضاعفة الجهود العلمية لاختصار الزمن في الوصول إلى مقام القناعة (الإثباتية) - أي لدى الآخرين – باجتهادي وقدرتي على الاستقلال باستنباط الأحكام الشرعية والإفتاء، وهو مقام يتأخر سنين عن القناعة (الثبوتية) أي في وجدان الشخص وفي عالم الواقع.

وأتيحت فرصة مناسبة لذلك عندما طلب مني حشد من طلبة السيد الشهيد (قدس سره) إكمال درسه في (كفاية الأصول) – وهو أعلى كتاب دراسي مقرر في علم الأصول – فشرعت بتدريسهم من المبحث الذي انقطع عنده بسبب استشهاده (قدس سره) وهو (دليل الانسداد) إلى نهاية الكتاب، وتحققت بذلك قفزة علمية جيدة، وانتهيت من تدريس الكتاب في 23 – ربيع الثاني- 1421 (27/ 7/ 2000).

وألفت في الأشهر الأولى بعد استشهاده (قدس سره) كتاباً بعنوان (القول الفصل في أحكام الخل) ناقشت فيه ببحث استدلالي فتوى السيد الشهيد (قدس سره)

ص: 20

بحرمة الخل المدبس واستنتجت عدم الحرمة خلافاً لما ذهب إليه (قدس سره)، وكانت محاولة فريدة في توظيف علم الكيمياء في علم الاستنباط الفقهي، وكان بحثاً مبدعاً وإن لم نتعمق فيه كثيراً لأن الهدف كان إيضاح هذه المسألة ورفع الحرج عن الناس في بعض الموارد، مضافاً إلى قلة المصادر عندي يومئذٍ كما هو واضح عند من اطلع عليه، بل لا يوجد مصدر محدد حول هذه المسألة، وشد هذا الكتاب انتباه الحوزة العلمية علماء وفضلاء وأساتذة، وأيقنوا أن علم الشيخ اليعقوبي لا يقاس بعدد سنوات تحصيله في الحوزة العلمية.والتحدي الرابع هو كيفية ردم الهوة السحيقة التي حصلت بين السيد الشهيد (قدس سره) والمراجع الآخرين، وانقسمت الحوزة بسببها إلى حوزة (ناطقة) تتبع السيد الشهيد (قدس سره) وحوزة (ساكتة) تتبع المرجعيات التقليدية بحسب تقسيم السيد الشهيد نفسه، وانقسم تبعاً لذلك المجتمع الشيعي، وأدت إلى التناحر والتقاطع والتفسيق وغيرها، وكنت بعيداً عنه بفضل الله تبارك وتعالى، مع قربي من السيد الشهيد (قدس سره) لذلك كنت أعتقد أنني أستطيع أن أفعل شيئاً على طريق التقارب، ومن الخطوات العملية التي اتخذناها مع من يشاطرونني هذا الهم أنني اتفقت مع عدد من أخواني الأساتذة والفضلاء من المقبولين لدى المراجع الآخرين أن نقيم حفلاً في إحدى المدارس الدينية يشترك فيه الجميع، لتذوب الخلافات ويحصل التقارب، واخترنا ذكرى استشهاد الإمام الحسن السبط (ع) في السابع من صفر الموافق 23/ 5/ 1999م الذي تلا استشهاد السيد الصدر (قدس سره)، وأقمنا مجلس عزاء في مدرسة الصدر الأعظم في مدخل شارع الإمام زين العابدين (ع) مع مأدبة عشاء، وحضرها حشد كبير مع

ص: 21

ممثلي الجهات، واستمررنا على هذا النهج الذي اعترض عليه جمع من المتعصبين والمتطرفين.والتحدي الخامس الذي كان يواجهني هو من داخل أتباع السيد الشهيد (قدس سره)، فقد نشأ خط عاطفي مندفع يسعى لتحويل قضية السيد الشهيد (قدس سره) إلى (حالة صنمية)..

وفي مقابلهم كنت أنا والنخبة من طلبة السيد الشهيد (قدس سره) الذين كنا نرى فيه (قدس سره) مرجعاً وقائداً وحلقة من حلقات العلماء الرساليين الذين [صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب:23) وأن البقاء للمبدأ والرسالة بعيداً عن (الشخصنة) وتذويب (الرسالة) في القائد مهما كان عظيماً في نفسه وفي الدور الذي أداه.

وكان هؤلاء يعارضون خطواتي التقريبية لإعادة لحمة الحوزة ويعززون لغة العداء والتقاطع مع الآخرين)) ... ((وفي الحقيقة فإن هذا التباين في الرؤية والعمل بين الخطين كان منذ حياة السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، كما ذكرنا في الفصل الرابع، وقد تحدث (قدس سره) عنه في لقائه مع مجموعة العاملين في المكتب، وسماهما بالخط المعتدل والخط المتطرف، وبين بوضوح أن الحق مع الأول، ورد على توهم الخط الثاني بأنهم أكثر ولاءً له (قدس سره).

وكان الخط المتطرف يحاول باستمرار إقصائي ومن معي من المعتدلين بالتسقيط والتشويه وإلقاء الشبهات، لكن السيد الصدر (قدس سره) كان يقف سداً أمام هذه التجاوزات، ويحفظ لنا منزلتنا، وسنعود لبيان تداعيات هذا التباين بإذن الله تعالى.

ص: 22

وعلى أي حال فقد بدأنا العمل بفضل الله تبارك وتعالى برغم تلك التحديات وعالجنا كلاً منها بحسب ما اقتضته الحكمة واللطف الإلهي في تطبيق التكليف الشرعي، ووقفنا بإزاء الصعوبات التي كانت بعدة اتجاهات:(الأول): نظام صدام الذي فاق ببطشه وقسوته وجبروته ما سمعناه عن أمثاله عبر التأريخ، وقد كان يتربص بالحوزة العلمية وعلمائها العاملين وكل من له حركة اجتماعية لينتقم منه بألوان العذاب والقتل، وقد كانوا يشعرونني باستمرار أنهم يتابعون كل حركة لي ويعرفون كل صغيرة وكبيرة عني، ويوجهون التهديدات بلسان المشفق الناصح من خلال الاستدعاءات المتكررة لمديرية الأمن حيث يتولى الاستجواب معي مدير أمن النجف نفسه، أو بالحضور إلى مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث كنت أمارس نشاطي العلمي والاجتماعي والتوعوي أو إلى مقر جامعة الصدر الدينية أو إلى الدار، ووصل حالهم إلى درجة من فقدان التوازن والتفكير أن يقتحموا مسجد الرأس الشريف في وقت إلقاء محاضرتي ويطلب مدير أمن النجف التحدث إلى الطلبة في حلقة درسي(1)، ولم تشهد الحوزة

ص: 23


1- وهي من أوسع الحلقات العلمية يومئذٍ، ويصل تعداد الطلبة إلى حوالي المائة، وكنت أدسُّ بين محاضراتي العلمية في الفقه والأصول توجيهاتي الأخلاقية والفكرية والاجتماعية وتعليقاتي على بعض الأحداث وإحياء المناسبات الدينية، وإذا كان العدد أو المناسبة بدرجة من الأهمية فكنت أعطل الدرس ذلك اليوم وألقي محاضرة بالمناسبة حيث يحتشد عدد ضخم من فضلاء وطلبة لحوزة العلمية من خارج درسي حيث كانت تتقوض الدروس في مثل تلك المناسبات ليستمعوا إلى تلك المحاضرة التي أصبحت سنة معتادة في المناسبات ويمتلأ مسجد الرأس الشريف، وكان جلاوزة الأمن يرابطون عند الباب الخارجي ويتابعون بقلق هذه الأجواء، فقد كان منظر خروج الطلبة – وهم بهذه الأعداد الكبيرة – من== ==المسجد بعد انقضاء المحاضرة كمظاهرة ضخمة للحوزة العلمية فيقلقهم هذا المنظر، مضافاً إلى الرقي بالوعي الإسلامي والحركي الذي أثمرته تلك المحاضرات.

تدخلاً سافراً وجرأة كهذه؛ حيث يجلس مدير أمن النجف على كرسي التدريس و(يوجه) الطلبة و(ينصحهم) بترك العمل الاجتماعي والحركي والانشغال بالدراسة فقط أسوة بالحوزة التقليدية ليجنبوا أنفسهم بطش السلطة فإنها لا تتسامح مع المخربين!!، حصل هذا مرة في مسجد الرأس وأخرى في جامعة الصدر الدينية.ولضعفهم وعجزهم وهزيمتهم فقد تحّولوا بالضغط والتهديد إلى أهلي، فكان أحدهم يتصل هاتفياً من دون أن يبيّن هويته، ويأمرونهم بالضغط علي حتى أترك نشاطي الاجتماعي، وإلا فإنكِ – أي أهلي – سوف لا ترينه مرة أخرى.

(الثاني): الحوزة (الأخرى) كما كان يسميها السيد الشهيد (قدس سره) وهي الحوزة التقليدية التي توارثت الوقوف في وجه الحركات الإصلاحية، وشهدت فترة مرجعية السيد الصدر (قدس سره) تصعيداً كبيراً وتبادل اتهامات وتسقيطاً مقززاً، وقضى السيد الصدر (قدس سره) وهم لم يعترفوا باجتهاده فضلاً عن استحقاقه المرجعية، وهذا هو سلاحهم الفتاك الذي يشهرونه في وجه المرجعيات الحركية الواعدة، مستفيدين من رسوخ ذلك الخط المرجعي في الحوزة والمجتمع والأموال التي توظف كثيراً لشراء الضمائر والولاءات.

فكان استشهاد السيد الصدر(قدس سره) يمثل (فرجاً) لهم تخلصوا به من هذا

ص: 24

الكابوس الذي أقلقهم وأقضّ مضاجعهم وحاصر زعاماتهم، فكيف والحال هذه يسمحون ببروز قيادة جديدة فتية من هذا الخط؟.وهذا ما تحسب له السيد الشهيد (قدس سره) عند الإشارة إلي، فأجّل الرجوع بالتقليد إلى أن (يُشهَد) لي بالاجتهاد، وليس إلى أن (أبلغ) الاجتهاد، فقد كان مقتنعاً بحصول الملكة، إلا أن هذا غير كافٍ في أجواء الحوزة العلمية ما لم يقترن بجهد علمي يجذب انتباه الآخرين وينتزع اعترافهم وشهادتهم، أما القيادة فقد حصرها بالمرشح الوحيد وطلب الرجوع إليه في ذلك، إلى أن تجتمع القيادة والتقليد في خليفته، لأن الأعلمية منحصرة به، لأنه كان يتوقع الغياب السريع عن الساحة، والظروف غير مهيئة لطرح المرجعية، فليرجعوا إلى مجتهد مبرئ للذمة في التقليد – وأعلن أن سماحة آية الله الشيخ الفياض مصداق لذلك – وللمرشح الوحيد بالقيادة حتى تصبح الظروف مهيئة لإعلان المرجعية، فيرجعون إليه تقليداً وقيادة.

وهذا ما قد حصل وسرت عليه، فلقد مارست القيادة ميدانياً مع الإعلان عن رجوعي ومن يتبعني إلى سماحة الشيخ الفياض فيما يحتاج فيه إلى الحاكم الشرعي، ولم تكن للشيخ الفياض مرجعية معروفة يومئذٍ، فأسّسنا ومعنا الكثير من المعتمدين والوكلاء وطلبة العلم الذين يتبعونني بذلك للشيخ الفياض مرجعية معلنة، وطبع على أثرها رسالته العملية.

وقد كنت مقتنعاً بهذا المسلك خلال تلك الفترة، لأنني وإن كنت مقتنعاً باجتهادي بدرجة من الدرجات يومئذٍ كما قدمت، إلا أنني أعتقد أن بين الاجتهاد والتصدي للمرجعية مدة من النضج والخبرة والممارسة والتجربة

ص: 25

الاجتماعية، والمعروفية لدى الناس لأن كل ذلك من مقومات العمل والنجاح فيه بإذن الله تعالى، فلا داعي للاستعجال في مثل هذه الأمور الخطيرة التي تتطلب أقصى درجات الاحتياط، ولا أجد حاجة إلى الدعوة لنفسي، أو اتباع الأساليب المعروفة لكسب الأتباع والترويج الإعلامي، وإنما كنت أعتقد أن الله تعالى إذا أرادني لأمرٍ فسيهيئ أسبابه، وإن لم يردني فلا خير فيه.وقد ساهم هذا التوجه بتطمين السلطة الجائرة بمقدار ما، لأنهم يعلمون أننا لا نتصرف إلا بإذن المرجعية، وما دمنا نرجع إلى الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) فلا يتوقعون صدور فعل يقلقهم بدرجة كبيرة. كما أن الأموال أصبحت واضحة المصدر والمصرف من وجهة نظرهم، ولا ارتباط لنا بخارج الحدود، وهو ما كانوا يبحثون عنه باستمرار للتأكد منه.

وساهم هذا التوجه في تخفيف الاحتقان بين الحوزتين بدرجة كبيرة وأصبح التقارب واضحاً بين الخط الصدري المعتدل والحوزة التقليدية. وللتأريخ نقول أن سماحة الشيخ الفياض كان داعماً لحركتنا الرسالية ومشجعاً لنا وأذن لمقلديه بصرف الحقوق الشرعية في طبع الكتيبات والمنشورات وتوزيع أشرطة تسجيل محاضراتي حسبما نقلوا لي.

(الثالث) : من داخل الكيان الصدري))..

((فبدأوا بإقصائي تدريجياً من مكتب السيد (قدس سره)، فبعد انتهاء مدة التعزية وإغلاق الغرفة الكبيرة التي كان السيد الشهيد يستقبل فيها الزوار وجلسنا نحن في موضعه لتلقي التعازي واستقبال المعزّين، توجهت إلى غرفتي الأصلية لممارسة عملي الذي كنت أؤديه في حياة السيد الشهيد (قدس سره)، وفوجئت ذات

ص: 26

يوم وأنا أدخل المكتب بأنهم أجلسوا (فلان الفلاني) في الغرفة التي خصصها لي السيد الصدر (قدس سره) مقابل غرفته لاستقبال المراجعين وإجابة أسئلتهم وقضاء حوائجهم وفض نزاعاتهم ،ولما رأيت ذلك لم أعلق بكلمة وصرت أجلس في فناء الدار (المكتب) لأداء وظيفتي حرصاً على لمّ الشمل لأني كنت أرى في استمرار عمل مكتب السيد الشهيد (قدس سره) بالمنهج الذي سار عليه (قدس سره) استمراراً للحركة الإسلامية وإذكاءً للصحوة الدينية المتنامية التي انطلقت على يدي السيد الشهيد (قدس سره).وبدأت المضايقات لي لإبعادي، وفهمت الرسالة فقللت من حضوري إلا بمقدار (حفظ الظاهر) وعوضت عنه بممارسة نشاطي الاجتماعي ورعايتي للنشاطات الدينية وإطلاق حملة التوعية والإصلاح الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسجد الرأس الشريف حيث كنت ألقي دروسي منذ حياة السيد (قدس سره) وكان يقصدني الواعون من الطلبة والشباب الرساليين وعموم الناس، وبدأ قطبان بالظهور : أحدهما مقر عملي في مسجد الرأس، والآخر مكتب السيد الشهيد (قدس سره).

ثم بدأ دور المكتب بالانحسار إثر اعتزال نجلي السيد الشهيد (قدس سره) في الدار لهول الصدمة، واختفاء الكثير من العاملين فيه وهروبهم وخلعهم الزي الديني إثر فشل انتفاضة 17/ آذار/ 1999م التي خُطط لها من قبل بعض الحوزويين والشباب الثائر من أتباع السيد الشهيد الصدر (قدس سره) ونفخت فيها بعض القيادات الدينية والسياسية خارج العراق مستفيدين من الهياج العاطفي لأتباع السيد الشهيد (قدس سره) المفجوعين والمندفعين نحو الانتقام من الظالمين،

ص: 27

فجعلوهم وقوداً لنار مصالحهم فحرضوهم ووعدوهم بالمال والسلاح واتفقوا معهم على مهاجمة أوكار النظام في ساعة الصفر من يوم 17/ 3/ 1999 في عدة محافظات من وسط وجنوب العراق، وقد كان لبعض العناصر الرئيسية في المكتب دور في التحريض عليها والمشاركة فيها، ونسب أحدهم إلى السيد الصدر (قدس سره) قوله: ((إنهم – أي السلطة – إذا مسّوا شعرة مني فاجعلوا الدماء إلى الركب))، وكانت سيرة السيد الصدر تكذّبهم، ولم يفاتحوني في هذه القضية لعلمهم بأنني أرفض التدخل فيها، ولكنني كنت أعلم بما يدور من كلمات وهمس، وعندما حانت ساعة التنفيذ خذلوهم وتبرؤوا منهم وقالوا إن الموعد أُجِِل، فسقط الكثيرون من المنتفضين المخلصين في نواياهم صيداً سهلاً بيد النظام فأعدم من أعدم وعذّب من عذّب وهدمت دورهم ولا زالت مهدّمة ومصادرة إلى الآن(1)))..((وتصدّى بعد السيد الشهيد (قدس سره) للمرجعية المرحوم السيد حسين بحر العلوم وطبع رسالته العملية، وأعلن دعمه لصلوات الجمعة الموجودة، وأعطى إذناً بالاستمرار بها، كما راجعه جملة من وكلاء السيد الشهيد وأئمة الجمعات، وجدّدوا الوكالات منه، لكنه اعترف بضعفه وعجزه عن السير بنفس خطى السيد الشهيد، ومما نقل عنه قوله: إن موقفاً من مواقف السيد الشهيد في مواجهة النظام كافٍ لإصابتي بالسكتة القلبية. وكان فعلاً يشكو من اعتلال في صحته.ة.

ص: 28


1- صدر كتاب ضخم للكاتب عبد الكريم خليفة –وهو وأسرته وأقرباؤه ممن اعتُقلوا في الحادثة وهُدِّمت دورهم- يؤرخ لهذه الانتفاضة وتفاصيلها خصوصاً في البصرة.

وحاولت السلطة أن تستفيد من تصدّيه للمرجعية لاحتواء الصدريين وكبح جماحهم وتهدئة عواطفهم، لكنه (رحمه الله) لم يستطع أن يحقق رغباتهم (الصدريين)، وأرادوا نقل إدارة المدارس الدينية إليه من مكتب السيد الشهيد (قدس سره) فاعتذر بعدم قدرته على القيام بذلك، وليس له من الأتباع ما يكفي لإدارة العمل، وكان صادقاً مع نفسه ومعهم، ولم يخدعهم كغيره، فانفضَّ كثير منهم عنه، وبقي له وجود محدود جداً حتى توفي في 28/ربيع الأول/1421 ه_. وآل أمر المكتب إلى الاضمحلال تدريجياً لعدم وجود من تقصده الناس فيه، وكان قاصمة الظهر حادث التفجير الذي وقع لموكب المقبور محمد حمزة الزبيدي (الذي كان نائباً لرئيس الوزراء) حوالي منتصف آب 1999 فأمرت السلطة بإغلاق مكتب السيد الشهيد (قدس سره) بحجة أنه من يقف وراء مثل أعمال العنف هذه. وفرَّ أكثر العاملين فيه والمتزلفين له وخلعوا زيّهم الديني، وهرب قسم منهم إلى خارج العراق لأنهم اعتقدوا أن غلق المكتب هو مقدمة لاعتقالهم والتحقيق معهم، خصوصاً من ورد اسمه في ملف انتفاضة 17/ 3/ 1999.

وبعد أيام اتصل بي نجل السيد الشهيد (قدس سره) وأعلمني أن مدير الأمن العام طلب لقاءه في بغداد للتداول في أمر المكتب وأنه يريدني أن أكون معه –ولم أسأله إن كان ذلك برغبة ذاتية منه أو بإيحاء من ذلك المدير-، ولم يسعني الرفض إكراماً للسيد الشهيد (قدس سره) وحباً لأولاده (فإن المرء يكرم في ولده)، وحدد اللقاء يوم 1/ 9/ 1999 في مكتب المدير العام في إحدى ضواحي بغداد الشمالية فخرجنا ومعنا السيد رياض النوري (الذي بدا من خلال الحديث أن له

ص: 29

علاقة حميمية مع هذا المسؤول) والسيد سلطان كلانتر صهر السيد (قدس سره) وأعلمنا مدير أمن النجف أنه سيلتحق بنا عند دخولنا بغداد لمرافقتنا وإيصالنا إلى المكان المقصود، وحصل ذلك فعلاً حيث كان بانتظارنا في مدخل مدينة بغداد.واستمر اللقاء أكثر من ساعتين حضره مع المدير العام معاونه للشؤون السياسية والذي أصبح مديراً عاماً للأمن العام بعد ذلك وانتقل هذا المدير ليكون مديراً لجهاز المخابرات حتى سقوط صدام (أجارنا الله من شياطين الجن والأنس وشرورهم ومكائدهم).

وبعد أن كال (السيد العام) –كما يسمونه- النصائح لنجل السيد (قدس سره) ومن معه باعتبارهم (صغاراً) قليلي الخبرة من وجهة نظره، والقضية خطيرة لأنها تتعلق بمعارضة نظام حكم وأن الأمر أكبر مما يتصورون وأنه مشفق عليهم، على طريقة أزلام النظام من التعالي والغرور وهو يستدير يمنة ويسرة على كرسيه الدوار، وعرض خدماته، وأتذكر أنه أمر بكمية كبيرة (كارتون) من علب السكائر الأجنبية من النوع الذي يدخنه نجل السيد (قدس سره)، بعد أن سأله عن ذلك، محاولاً جعل الجلسة ودّية.

ثم تحدث عن موضوع غلق المكتب وقال عن سبب ذلك أن تقارير كثيرة تصلنا عن تورط بعض أعضائه في أعمال العنف وآخرها القنبلة التي تعرض لها موكب الزبيدي، فأمرنا بإغلاقه، لنرى إن كان المكتب هو المسؤول فعلاً، فسوف تتوقف العمليات بغلقه، وإن استمرت فهذا يعني أن المكتب ليس مسؤولاً عنها.

ص: 30

ولما رأيته يتحدث باستخفاف ويحاول تسويق الأمر ببساطة، بدأت بالحديث فسأل عني –لأنه كان يعرف الاسم ولا يعرف الشخص – فأخبره الوفد بذلك، ولم يكونوا عرّفوه لي عند دخولنا، فرحب بي وتحدثت عن دور المكتب في احتواء أتباع السيد الشهيد (قدس سره) وضبط عواطفهم بما لا يؤدي إلى الإخلال بالنظام الاجتماعي العام باعتبار ذلك وظيفة دينية ووطنية، ولولا هذا الدور لتلاقفت الأيدي الخارجية هؤلاء المندفعين وسخروهم لتخريب العراق والإضرار بشعبه ومؤسساته، فلا بد من السماح للمكتب من الاستمرار بالعمل ليؤدي دوره الايجابي ويحفظ أتباع السيد الصدر من الانزلاق في طريق العنف والمواجهة مع السلطة لو قُدِّر لجهات أجنبية أن تسخّرهم لذلك، وأضفت أن المكتب لا يزال يشرف على المدارس الدينية في الحوزة العلمية وينفق عليها، وهذا يتطلب أموالاً وإدارة، فكيف يستمر فيها مع إغلاقه؟! وهنا عدّل من جلسته وصحا من سكر غروره وتكبره، وأيد أهمية هذا الدور وسمح بمعاودة هذا النشاط –أي تسلّم الحقوق الشرعية وإدارة المدارس الدينية ونحوها-، لكنه أصر على إغلاق مكتب السيد الشهيد (قدس سره) المعروف، وسمح بممارسة العمل في أي مكان نشاء))..((ولما كان نشاطي متواصلاً في مسجد الرأس والناس تراجعني فيه، وفيه ذكريات السيد الشهيد (قدس سره) لذا فقد وقع عليه الاختيار لكي يصبح المقر الجديد لعمل المكتب، والتحق بي عدد يسير ممن كان يعمل في المكتب –حيث هرب الأكثر كما قلنا – لقبض الحقوق الشرعية وتوزيع الرواتب والمساعدات على طلبة العلوم الدينية، والإنفاق على المدارس الدينية وإدارة

ص: 31

شؤونها، هذا بالنسبة للأموال التي تدفع إلى عنوان المكتب، وكان البعض من المتورعين يدفعها إليَّ باعتبار الإذن من سماحة الشيخ الفياض، وكانت الأموال المسلمة إلى المكتب تنقل يومياً إلى نجل السيد (قدس سره) الذي آثر الاعتزال في داره عملاً بالتقية المكثفة –كما وصف- بعد المحن التي مرّت به-، وهو يصرفها على مواردها المقررة، بواسطة هذا العدد اليسير، بعد أن حصل على الإذن في القبض والصرف من سماحة السيد كاظم الحائري –على ما قيل – أما أنا ومن كان يراجعني مباشرة، فكنت أنقل الأموال إلى سماحة الشيخ الفياض وأراجعه في الأمور التي تتطلب إذن الحاكم الشرعي كما أسلفت.وقد ساهمت هذه التغيرات... في بروز عمل المكتب بحلّة جديدة معتدلة وتستند إلى الحركة العلمية الدؤوبة –حيث كان المسجد يغص بالحلقات الدراسية على مختلف المستويات – والمحاضرات الفكرية والأخلاقية، وأصبح المكتب ممثلاً بي ومن معي يمثل قيادة واعية ومتزنة للنشاطات الدينية والحركة الإسلامية وبدأت حركتي تشد الأنظار وتستقطب المثقفين والأكاديميين والشباب الرساليين وفضلاء الحوزة العلمية، حيث كان درسي في الفقه والأصول أوسع الحلقات العلمية حضوراً ومن مختلف التوجهات المرجعية، حيث لم يستطع الاستغناء عن حضور درسي الفضلاء من مقلدي المرجعيات الكبيرة، فشهد مسجد الرأس توافدهم في حالة غير مسبوقة، حيث كانت المقاطعة التامة هي التي تحكم العلاقة بين الحوزتين، ويعد مسجد الرأس عندهم (صدرياً).

كما كانت محاضراتي الأخلاقية والفكرية التي كانت تتصاعد في

ص: 32

عمقها ووعيها كلما ازداد وجودي ثباتاً وشعبيتي قوة إذ لم يكن عندي حرز إلا درع الله الحصينة وقاعدتي الجماهيرية وإيماني بقضيتي.وشكلت محاضرات (شكوى القرآن) العشرة التي افتتحت بها درس (كفاية الأصول) في الدورة الثانية والتي بدأت بعد 19/ محرم/ 1422ه_ (14/ 4/ 2001م) واستمرت أسبوعين: شكّلت نقلة نوعية في مستوى الفكر الذي نتعاطى معه، وأوجدت أجواءً روحية في ظل القرآن الكريم، وكان فيها ما يضاهي أفكار السيد الطباطبائي (قدس سره) صاحب الميزان والشهيد السيد الصدر الأول (قدس سره) في تفسيره الموضوعي وكتاب (في ظلال القرآن)، وقد طبعت في كتاب بنفس العنوان وانتشر في أوساط الشيعة والسنّة وأثَّر في الكثيرين ولا يزال يُعاد طبعه، وكان فيه تحدٍ واضح للسلطة، وتجاوز للخطوط الحمر سواء على صعيد رفع مستوى الوعي الإسلامي، أو على صعيد انتقاد أساليب السلطة ورفع المعنويات في مواجهتها(1).

وكان اللطف الإلهي يسددني في اغتنام بعض المناسبات الدينية والأحداث الاجتماعية لإلقاء كلمات وخطب في الأخلاق والموعظة والفكر والعمل الاجتماعي الذي كان يلامس السياسة بالمعنى الذي نريده، وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت طريقة استغلال المناسبة تثير الإعجاب، فطرحت مثلاً في ذكرى ميلاد الإمام الحسين (علیه السلام) مشروع الفقه الاجتماعي، باعتبار أن هدف الإمام الحسين (علیه السلام) من حركته هو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من تطبيقات الفقه الاجتماعي).

ص: 33


1- راجع فصل (جاهلية اليوم) وفصل (فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت).

فألقيت محاضرة بعنوان (الأسس العامة للفقه الاجتماعي).وفي ذكرى وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) ألقيت محاضرة كان وقعها شديداً على الطغاة بعنوان (ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق) باعتبار اغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي وذكرت فيها جملة من الكوارث المترتبة على ذلك، ولكنني ذكرت فيها أن هذه النتائج السيئة التي تسببت جارية في كل زمان ومكان ما دام الحكام مبتعدين عن الصفات الحقيقية التي يريدها الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وهي بذلك تشمل النظام القائم بأدنى تفكير.

وفي نفس المناسبة حيث يصادف تصدي أمير المؤمنين (علیه السلام) للخلافة والإمامة من بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو شاب في الثالثة والثلاثين ألقيت سلسلة محاضرات بعنوان (الحوزة وقضايا الشباب) تناولت جملة من القضايا المهمة التي تهم الشباب وتوجيه الحوزة العلمية إزائها وحلولها لمشاكلها.

وفي ذكرى زواج أمير المؤمنين (علیه السلام) من فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحدثت عن (الزواج والمشكلة الجنسية) وقدمت عرضاً للمعوقات وكيفية علاجها.

وكنت أعدّ هذه الكلمات –التي قد تصل إلى عشرين صفحة أو أكثر مع ما فيها من أفكار غزيرة وآيات وأحاديث شريفة – في ليلة إلقائها غالباً على شحّة المصادر وعدم توفر الوسائل المساعدة كالكومبيوتر ونحوه، وكانت بعض الكلمات تأتيني ارتجالاً بحسب المستجدات أثناء الدرس، كالذي صادف يوم الاحتفال بما يسمى ب_ (فرحة الزهراء) الذي يُحتفل به يوم 9/ربيع الأول، وشرعت في تحليل أصل هذه الفرحة في بيان دقيق يعجز عنه حتى من يعد للمحاضرة أياماً عديدة، وما ذلك كله إلا بفضل الله تبارك وتعالى وألطافه

ص: 34

الخفية.ومن طرائف هذا الارتجال واستثمار المناسبة ما حصل في بعض الأيام، حينما ضاق بنا المكان الذي نتخذه لإلقاء الدرس على يمين الداخل إلى المسجد فطلب الطلبة الانتقال إلى صدر المسجد لتزداد المساحة المخصصة للحاضرين فوافقتهم، وتحدثنا في هذه المناسبة عن حنين هذا الموضع لتجمعنا ودرسنا حيث سنفارقه ويفارقنا بعد أن كان موضعاً لنزول البركات، لأن حلق العلم روضة من رياض الجنة، وذكرت ما روي عن حنين الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عندما يخطب، ففارقه (صلی الله علیه و آله) بعد أن اتخذوا له منبراً، والعلاقة العاطفية بين النبي (صلی الله علیه و آله) وجبل أُحد الذي استشهد عنده عمّه حمزة وسبعون صحابياً حينما مر به وقال (صلی الله علیه و آله): (إن أحداً جبل يحبنا ونحبه).

ويصادف أحياناً أن تدمج أكثر من مناسبة في حديث واحد لا يستطيع الربط بينها إلا ذو حظ عظيم، مثلاً أقامت جامعة الصدر الدينية احتفالاً خلال شهر جمادى الثانية للاحتفال بيوم الجامعة (وهو 5 جمادى الثانية) الذي يصادف ذكرى زيارة السيد الصدر (قدس سره) لها ولقاءه بالطلبة وإعلانه للمرشح الوحيد وبذكرى ولادة الزهراء (ع) (20 جمادى الثانية) التي شهدت عام 1418ه_ انطلاق صلاة الجمعة المباركة، فارتجلت كلمة تربط بين هذه المناسبات (ولادة الزهراء، إقامة صلاة الجمعة، جامعة الصدر، استخلاف القيادة النائبة) بانسجام عجيب، ثم لما رأيت فكرتها عميقة، نقحتها وألقيتها في مسجد الرأس الشريف في ذكرى عيد الغدير بعنوان (كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخلافة من بعده) وحذفت منها خصوصيات جامعة الصدر وما يتعلق بخلافة

ص: 35

السيد الصدر(قدس سره) لتكون عامة ولأنني كنت أخفي قضية وصية السيد الصدر للمرشح الوحيد وشريط التسجيل لحديثه (قدس سره).وأخذت هذه المحاضرات تأخذ صداها في الحوزة والمجتمع، وراحوا يترقبون مناسباتها فيمتلئ مسجد الرأس على سعته بالحضور وتسجل وتنتشر أشرطة التسجيل في المحافظات، بل انتقلت إلى خارج العراق وكان لها صدى وتأثير على العراقيين المهاجرين من بطش النظام في إيران وسوريا وغيرهما، وبعث الأمل من جديد ببروز قيادة واعية حكيمة للحركة الإسلامية في العراق الدامي، ويقول بعض أصحاب مكاتب التسجيل وبيع أشرطة التسجيل في كربلاء(1) أنه يبيع حوالي 3000 شريط في كل ليلة جمعة، حيث يفد الزوار إلى ضريح أبي عبد الله الحسين (علیه السلام).

وكانت هذه المحاضرات تطبع وتنشر مضافاً إلى كتب متنوعة بحسب ما تقتضيه حاجة العمل الإسلامي والإصلاح الاجتماعي وقضايا الأمة. وقد أحدثت بعض هذه الكتب منعطفات في حياة الشباب والمثقفين والمهتمين بالوعي الإسلامي، ككتاب (شكوى القرآن) و (فقه طلبة الجامعات) و (فقه المرأة المسلمة) حيث طبعت منها آلاف النسخ عدة مرات إلى الآن، وكانت توزّع على مدى واسع في الجامعات والمساجد وسائر التجمعات.

واقترن مع هذه الحركة نشاط من نوع آخر، وهي المنشورات بأشكالها من البيان والاستفتاء والمقالة والكتيب والكتاب التي كنت أكتبها بنفسي أو أكلّف أحد بتحريرها بعد أن أعطيه الخطوط العامة والأفكار، ثم أراجع ما).

ص: 36


1- صاحب تسجيلات (السفينة).

يكتب وأنقّح وأصحح حتى تبلغ الشكل المقبول، وقد آزرني في هذه الحركة ثلة من الطلبة العاملين خصوصاً من جامعة الصدر الدينية، لكني لم أكن أكتب الاسم الصريح لأي واحد على الكتب والمنشورات حرصاً على سلامتهم، وأكتفي بذكر أسماء حركية، وقلت لهم: (اعصبوها برأسي).وكانت هذه الكتب والنشرات تنتشر بسرعة وبكثافة حيث تطوع العديد من الشباب الرساليين لاستنساخها وتوزيعها مع ما كان يمثل هذا من تحدٍّ للسلطات الأمنية، وأعتقل بسبب ذلك عدد منهم، كما تطوع آخرون لإيصالها إلى المعتقلين في سجن أبي غريب، الذي ضمّ الكثير من الشباب وطلبة الحوزة العلمية ممن اعتقلوا في أيام تصاعد الحركة الثورية للشهيد الصدر (قدس سره) وبعد استشهاده، وكانت تصل إليهم خلال ما يعرف (بالمواجهة) بين السجناء وزائريهم في مواعيد محددة وعبر آليات متنوعة لئلا تقع بأيدي الجلاوزة.

فمثلّت هذه الكتب والنشرات لهم سلوة وأملاً بتواصل النهج الذي سلكه السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وقد تنوعت هذه المنشورات لتغطي ساحة المواجهة إزاء كل التحديات، وتلبي الحاجة في مختلف الحقول، فعلى صعيد تبليغ الأحكام ونشر الفقه لدى الناس جميعاً وتقنين أفعالهم وفق الشريعة الإسلامية بدأنا بتطبيق الفقه الاجتماعي بلحاظ الشرائح الاجتماعية ومخاطبة كل شريحة بفقهها الخاص، فصدر (فقه العمال والموظفين والصيادين والحلاقين والخياطين والأطباء والصيادلة والمرأة والمعلمين والأسرة والتعامل بالدولار والشعائر الحسينية والزيارات ونحوها كثير.. حتى فقه تجارة العتيق التي كثرت يومئذٍ بسبب

ص: 37

حرمان الناس وعوزهم)؛ ومن الطريف أن بعض باعة العتيق تفاعلوا مع الكتاب المختص بهم، فتبرع أحدهم بطبع ونشر مائتي نسخة على نفقته.ولتحذير المجتمع من بعض الدعاوى الدينية والطرق المضللة المبنية على الدجل كتبنا في أدعياء السفارة المهدوية والسلوكية وما يسمى بالطريحة وأصحاب النور والمزارات المنسوبة إلى أولاد الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وبعض الطرق الصوفية.

كما كرسنا نشرات عديدة لموجات الإفساد الأخلاقي التي كانت تنشر الخلاعة والانحلال بطرق عديدة؛ كنشر الصور الفاضحة مع الألبسة النسائية أو مع علب المنظفات أو في الحلويات ونحوها. وتارة باسم الرياضة وأخرى باسم الفن والثقافة وحذّرنا خصوصاً من القناة التلفزيونية التي أحدثها المقبور عدي صدام باسم (تلفزيون الشباب) تجاوز فيه على الآداب والأخلاق الاجتماعية فأصدرنا كتيب (أحذر في بيتك شيطان) وبعض المنشورات الأخرى وحصل ضغط على القناة مما اضطر عدي إلى تحميل مديرها المسؤولية فعزله وخفّف من مجون القناة.

وكنا ننبه إلى التيارات الفكرية التي تريد حرف المجتمع خصوصاً الشباب عن الطريق المستقيم، وقد كان من أكثرها تأثيراً ما كتبه المهندس عالم سبيط النيلي الذي ألّف أولاً كتباً استهوت المثقفين كالطور المهدوي وغيره، ثم لما رأى الإقبال على كتبه قدّم نظرية اللغة الموحّدة التي ادعى عند طرحها أن فهمها يؤهل معرفة معاني القرآن والروايات وتنتفي الحاجة إلى المجتهدين ومراجع الدين، وقد تأثر به جمع وتركوا التقليد، فكتبت كرّاساً بعنوان (نظرية

ص: 38

اللغة الموحدة في الميزان) أوردت فيه على النظرية أكثر من ثلاثين نقضاً، وأثار الكراس حفيظة المتأثرين به وغيظهم؛ لأنه أحبط حركتهم، وما لبث الرجل أن مات بعد ذلك.وخصصنا جزءاً مهماً من نشراتنا لبيان أبعاد شخصية المسلم وإثارة غيرته على هويته وخصوصياته وإلفات نظره إلى محاولات تذويب هذه الشخصية في النموذج الغربي وتمييعها وإفراغها من محتواها.

وكنّا نشخص بدقة المشاكل التي تعاني منها الأمة ونبيّنها ونوقظ الناس من الغفلة عن خطورتها، ونقدّم أفكاراً لمعالجتها، كمشكلة العنوسة والفقر والأيتام والأرامل وبعض التقاليد الاجتماعية البالية والظواهر المنحرفة والإشاعات الهدامة المخرّبة لثقافة المجتمع وعقائده، وصدرت كتيبات وبيانات في كل هذه القضايا.

وهكذا أخذت الحركة الإسلامية زمام المبادرة في المواجهة مع النظام ومع كل تحديات الفساد والانحراف والخواء الروحي وانهيار القيم، ونفضت غبار الكسل والإحباط واليأس الذي ساد بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره).

وكان النظام يعتبر كل هذه الحركة موجهة له، لأنه لا يريد للشعب أن يستيقظ ويكون واعياً؛ لأنه سيدرك أن السبب الرئيسي لما يحل به هي حماقات النظام وسياساته الخرقاء.

وقد وجد بعض الإخوة في إحدى وثائق مديرية الأمن العامة بعد سقوط النظام وأوكاره بيد الشعب رسالة موجهة من مدير أمن بغداد المدعو اللواء عباس إلى مدير الأمن العام يذكر فيها أن له شرف السبق إلى التنبيه على

ص: 39

خطورة حركة الشيخ محمد اليعقوبي وأنها تشابه حركة السيد محمد باقر الصدر نحو الشباب والمثقفين في السبعينيات.وبتنامي هذه الحركة المباركة فقد أخذت معالم الخط الصدري الحقيقي –باعتباره طليعة الحركة الإسلامية – تبرز بوضوح ويستعيد ثقته بنفسه، وبدأ باجتذاب المثقفين الأكاديميين والشباب، وابتعد عن العنف والصِدام والتسقيط الذي كان من المخلّفات السيئة التي تحمّلت وزرها بسبب تصرفات بعض المحسوبين على السيد الصدر (قدس سره)، وغَيَّر الكثيرون تقليدهم إلى السيد الصدر (قدس سره) مستندين إلى فتوى بجواز تقليد الميت ابتداءً إذا كان هو الأعلم، وازدادت القاعدة الصدرية وتميزت بحركتها ونشاطها وأهدافها.

وبدأ القلق يساور السلطة، وأخذت تتابع هذه الحركة وتراقبها وتعتقل من تشتبه بهم وتحقق معهم لمعرفة كيفية إدارتها بهذه السعة والانتشار وأسماء العاملين فيها وأبلغوني أكثر من مرة أن هذه الإصدارات غير مجازة وتعتبر مخالفة، وكنت أناور معهم بما يخفف الاحتقان فتارةً أُوضِّحُ لهم أن مضامين المنشورات خالية من السياسة، وأن الهدف منها إصلاح المفاسد والانحرافات الأخلاقية، وهو من صميم عملنا كحوزة علمية، والمفروض أنه عمل يصب في مصلحة الدولة التي هدفها إصلاح حال الناس وإسعادهم.

وتارةً أنفي مسؤوليتي عن تأليف بعض الإصدارات وهو حقٌّ؛ لأن بعضها يكتبها غيري بإشرافي وتوجيهي ومراجعتي.

ومما يذكر في هذا المجال أنه طُرِق باب الدار عليَّ بعد عودتي من صلاة المغرب والعشاء فخرجتُ، وإذا بأربعة من الرجال بزيٍّ أنيق قد ترجّلوا

ص: 40

من سيارة ذات دفع رباعي تستعملها الحكومة، وتقدّم أحدهم وعرّف نفسه بأنه نائب شيخ الطريقة الكسنزانية –التي ينتمي إليها ويرعاها عزة الدوري نائب صدام وآخرون ويحضرون جلساتها وطقوسها – الدكتور فلان وأن مجيء هذا الوفد لإيصال رسالة عتب من شيخ الطريقة لما ورد في كتيب صدر بإشرافنا ضمن سلسلة نحو مجتمع نظيف عن أدعياء السفارة وأصحاب النور والطرق المضللة للسذج وذكر اسم شيخ الطريقة فيه، وحدّدوا لي الصفحة ولا زلت أتذكر أنهم قالوا ص92، وأظهرت لهم عدم علمي بالتفاصيل، فأبرزوا لي الصفحة من الكتاب، وهنا قلت لهم: هل الكتاب من تأليفي؟ قالوا: كتب عليه أنه بإشرافكم، قلت: هذه كتابات لبعض طلبة العلم يرغبون بنشرها وأكتب اسمي كمشرف عليها لترويجها، ومن وظائفي رعاية الأقلام الناشئة وتشجيعها ولا أعرف كلَّ الذين يراجعونني، فرضوا بهذا العذر وبدأوا يتحدثون عن طريقتهم، وأنها متصلة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهما السلام). هذا كله جرى في باب الدار ولم أدعهم للدخول لأنهم أربعة وأنا واحد، فأردت أن أكون أمام الناس؛ لأن الشارع لا زال سالكاً والليل في أوله.ولتحجيم هذه الحركة والسيطرة عليها فقد عرضوا(1) – مكراً – أن تقدم المطبوعات عبر الطرق القانونية –أي الدائرة المختصة في وزارة الإعلام مع لجنة خاصة من وزارة الأوقاف- لمراجعتها وسيجيزونها ليكون نشرها قانونياً، وكان الهدف تعويق هذه الحركة وتحجيمها ووضع هذا النشاط تحتف.

ص: 41


1- بواسطة العميد مدير السياسية والدينية في مديرية الأمن العامة، والعميد مدير أمن محافظة النجف.

سيطرتهم، وكنت أعلم أنهم لا يجيزونها فقد كنت قدمت قبل ذلك كتاب (الرياضيات للفقيه) لمنح إجازة الطبع فمنعته الرقابة على المطبوعات مع أنه كتاب علمي خالص، ولكنني أبديت موافقتي على العرض وقدمت لهم كتاب (من وحي الغدير) وواصلت طباعة الإصدارات الأخرى لتبدو وكأنها صدرت قبل هذا الوقت، وإنني ملتزم بهذا الأمر، وفشلت خطتهم ولم يجيزوا هذا الكتاب أيضاً.ومما زاد قلق النظام صدور مواقف وبيانات سياسية تشعر بأنها تستهدفه بشكل مباشر، وهو الذي لا يرضى بأقل من ذلك، بل يرفض بشدّة أي توجه توعوي حركي أو سياسي للحوزة العلمية، فقد ندّدت في أكثر من بيان وكتيب بالتوجه الإفسادي للرياضة، حيث كان يرأس المقبور ابن المقبور عدي صدام حسين اللجنة الأولمبية، ونشرنا بياناً وكتيباً بعنوان (احذر في بيتك شيطان) لفضح البرامج الرذيلة التي كان يعرضها تلفزيون الشباب الذي كان يديره عدي، مضافاً إلى موقفنا الصريح والواضح برفض قرار الحكومة بإلزام الطالبات بالتقاط صور بدون غطاء الرأس في هويات المشاركة في الامتحانات العامة، فعطّلت درسي فور علمي بالقرار وألقيت محاضرة لبيان خطورة هذا القرار ومخالفته للشريعة، والمطالبة بإلغائه، وطبعت المحاضرة في منشور ووزِّع بكثافة ووصل إلى مسؤولي النظام، فألغوا على الفور قرارهم السابق، وحاولوا تأويله بأنهم ما أرادوا خلع الحجاب وإنما أرادوا عدم المبالغة فيه بحيث تغطي البنت أجزاءً من وجهها.

ونشر لي في مجلة الكوثر تعليق عن العمليات الاستشهادية التي

ص: 42

استهدفت الصهاينة الغاصبين في فلسطين، وقلت فيه أن أول من سنَّ العمليات الاستشهادية هم الفتية الذين نصروا الحسين (علیه السلام)، حيث كان أحدهم يلقي نفسه وسط جموع العدو التي فاقت سبعين ألفاً، ومثل هذه الروحية ترعب النظام وتقلقه ويخشى من سريانها إلى الشعب.كما كانت ترعبهم الخطوات العملية التي تؤدي إلى تدريب الناس على الطاعة والانقياد لأوامر القيادة الدينية، كالذي حصل عندما ألزمت بمقاطعة السيكاير الأمريكية والبريطانية والفرنسية رداً على إعلانهم العداء للإسلام ووصف المسلمين بالإرهابيين، وأن صراعهم الحضاري القادم هو مع الإسلام، وأن الإسلام هو عدو الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واخترت تحريم السيكاير لضررها أصلاً على الإنسان، وأصدرنا كتيباً بعنوان (حتى متى التدخين) لبيان تلك الأضرار صحياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، وكانت تجارة السيكاير بيد أولاد صدام ومقربيه، فاستجاب المؤمنون للمقاطعة، وأثَّرت بشكل واضح على هذه التجارة، مما دعا الشركة الرئيسية التي كانت تسيطر على السوق العراقية إلى أن تبعث مندوبها من الأردن لمقابلتي(1) في مسجد الرأس، وعرّف نفسه بأنه (الشيعي) الوحيد بينهم، وكأنه لاستدرار عواطفي، وحاول بخبث أن يعزل بيني وبين القواعد التي نفذّت الأمر، وقال: إن بعض الجهلة نسبوا إلى حضرتكم هكذا قرار، فرددت عليه بحزم وقلت له: إن القرار صادر مني فعلاً، ولا يحق لك أن تسمي المؤمنين الملتزمين بالأوامر الصادرة من الحوزة (جهلة) وأنت تصف نفسك بأنك شيعي._.

ص: 43


1- كان اللقاء يوم 10/ 6/ 2002 م الموافق 29/ربيع أول/1423 ه_.

ثم قال بلغةٍ لا تخلو من إغراء بأن القرار تسبب في تعطيل آلاف (الكارتونات)(1) من السيكاير في المخازن، وكل (كارتون) تكلفنا رسومه (9) دولارات، قلت له: هذا شأنكم وعليكم أن تلتزموا بهذا القرار كأبسط إجراء لمواجهة عدوان الغرب ولحماية صحة الناس من هذا الداء، وهنا انتقل إلى التلويح بالتهديد، فقال: للعلم فإن للشركة فرع وحيد في العراق ومقره في تكريت (وهي أصل صدام وأزلامه)، ولم ألتفت إليه وانتهى اللقاء. وحينما وقع الهجوم بالطائرات على برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11/ سبتمبر 2001 وأعلنت الولايات المتحدة عداءها للعالم الإسلامي وصعَّدت من لهجتها ضد العراق بحجة الحرب على الإرهاب، جعلت هذه المواجهة ذريعة لتصعيد مستوى الخطاب الديني وإبراز الجوانب الحضارية للإسلام وإذكاء روح العمل الإسلامي وحث الأمة على إقامة دولة العدل الإلهي وبناء الإنسان الصالح لتعبئة الأمة أخلاقياً وفكرياً وثقافياً وعقائدياً؛ لتستطيع استيعاب التحديات التي ستواجهها عند حصول الاحتلال الغربي الذي كان يجري الحديث عنه ونتابعه من الإذاعات (حيث لم يكن جهاز الستلايت متاحاً ولا يعرض التلفزيون الرسمي إلا أخبار النظام).

ففي مناسبة قرب شهر محرم الحرام / 1423ه_ حيث تتعطل الدراسة في الحوزة العلمية وينطلق الطلبة والخطباء للتبليغ الإسلامي، ألقيت محاضرة بعنوان (ما هو تكليفنا في الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب)(2) شكلت نقلة نوعيةم.

ص: 44


1- الكارتون يضم (50) مجموعة المعروفة بالكروص التي تضم الواحدة 10 علب.
2- ألقيت بتأريخ 27/ذي الحجة/1422 ه_ الموافق 12/ 3/ 2002م.

في مستوى الفكر ثم أعقبتها عدة محاضرات في مناسبات مختلفة وجمعت في كتاب (نحن والغرب) الذي طبع قبل سقوط النظام ولاقى انتشاراً واسعاً، وكانت هذه الكتب التي تطبع سراً في النجف الأشرف تصل إلى خارج العراق وتعاد طباعتها فيما بعد في قم المقدسة من قبل مركز الإمام المهدي (علیه السلام) للدراسات الإسلامية الذي أسسه بعض الصدريين المهاجرين إلى إيران من بطش النظام ويعنى بنشر فكر الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والشيخ اليعقوبي، فأصبح صداها وتأثيرها يتردد خارج العراق. وهذا السبب مضافاً إلى غزارة الإنتاج وتنوع الفكر والعمل بمديات واسعة وبآليات جديدة لم يكن يتوقعونها وظنهم بأنهم قضوا على السيد الصدر (قدس سره) وحركته، فلا يوجد من يواصل رسالته: ولّد تصوراً عند السلطة أن هذه الكتب تؤلف من قبل علماء خارج العراق وتطبع وتسوق داخل العراق بالتنسيق مع الشيخ اليعقوبي حيث يوضع اسمه على الغلاف للتمويه، وكانوا يضغطون على المعتقلين أثناء استجوابهم لانتزاع اعتراف من هذا القبيل.

وكان صيف عام 2002 (جمادى الأولى وجمادى الثانية ورجب 1423) متألقاً حيث لم أكن أعطل دروسي في الصيف، كما اعتادت الحوزة التقليدية في السنوات الأخيرة، بل كنت أستمر بالتدريس وكان ذلك كفيلا بتنشيط الحوزة العلمية بصورة عامة؛ لأن درسي في (كفاية الأصول) – وهو أعلى كتاب مقرر لعلم الأصول في الحوزة العلمية – كان يحضره الأساتذة والفضلاء ومن مختلف التوجهات فإذا استمروا معي في الدرس فأنهم سيستمرون مع طلبتهم في التدريس وهكذا تتوسع قاعدة الاشتغال بالدرس لتشمل قطاعاً واسعاً

ص: 45

في الحوزة بحيث لا يظهر معها تعطيل بعض العلماء الآخرين مؤثراً على حركة الحوزة العلمية في موسم الصيف.وكان من أهدافي من استمرار الدرس في الصيف(1) مضافاً إلى إدامة نشاط الحوزة العلمية وتأثيرها في المجتمع، لأنها كانت تتلاشى في العطلة: هو إطلاق مشروع الدورات الصيفية لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية ليلتحقوا بالحوزة خلال أشهر العطلة وتنظم لهم حلقات درس في الفقه والعقائد والأخلاق والمنطق والسيرة، وتكون بشكل مكثف لإنشاء جيل من الجامعيين الحوزويين الذين يصبحون مبلغين رساليين في ساحاتهم سواء كانوا في الجامعة أو المجتمع أو الدوائر التي سيعملون فيها.

وقد نجح المشروع في انطلاقته الأولى صيف عام 2002 والتحق أكثر من مائتي طالب من الجامعيين وشكلت لجنة من الفضلاء لتنظيم دروسهم وتهيئة السكن لهم في الفنادق والبيوت التي استأجرناها لهم وإطعامهم وسائر الأمور الخدمية الأخرى ويسر الله تعالى ذلك بشكل عجيب، مع أن الذي يلتحق بالحوزة يعلم صعوبة ترتيب ذلك فلا يستطيع الطالب الملتحق حديثاً من تهيئة).

ص: 46


1- مع شدة الحر في مدينة النجف المطلة على الصحراء وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة مع إصابتي بتهيج الحساسية في الجيوب الأنفية في هذه الأشهر مما يسبب رشحاً مستمراً فكنت أجلس على كرسي التدريس وبيدي الكتاب المقرر ودفتر الشرح الذي أمليه على الطلبة وفي حجري منديلان أحدهما لمسح العرق والآخر للرشح، ولا زال الطلبة يتذكرون ذلك المنظر مشفقين لحالي، ومع ذلك فقد كنا في أحلى اللحظات وأسماها لأننا نشعر أننا في مرحلة مفصلية في حياة الأمة وعلينا أن نبذل أقصى طاقاتنا مع ما نلمسه من اللطف والرعاية الغامرة من لدن الله تبارك وتعالى وإمام العصر (أرواحنا له الفداء).

سكنه وتنظيم دروسه إلا بعد مدة طويلة، فضلاً عن كون العدد كبيراً بهذا المقدار، كما خصصنا مبلغاً شهرياً لكل منهم لتغطية أجور نقلهم وانتهت الدورة مع نهاية العطلة الصيفية، وشهد اليوم الأخير (وهو 27/ 8/ 2002) احتفال الأساتذة والطلبة بإتمام هذا الإنجاز الرائع، وكتبت لهم كلمة بهذه المناسبة قرأها المشرفون على الحلقات العلمية وسجلت فيها مآثر الطلبة والمشرفين والمساهمين في دعم المشروع.ولقد أغاض هذا التألق السلطة ودهموا بما لم يحتسبوا واستدعوا بعض المشرفين على الحلقات للتحقيق في الأمر، وكشفت الوثائق التي عثر عليها في أوكارهم بعد سقوط صنمهم عن متابعتهم التفصيلية لها.

وكنت إلى جانب هذه الألوان من العمل الإسلامي مواصلاً لنشاطي في جامع حي الكرامة في النجف(1) حيث أقيم صلاة الجماعة فيه منذ عام 1995 وألتقي بالناس وأجيب على أسئلتهم وألقي خطبة أسبوعية ظهر يوم الجمعة وأقيم صلاة العيدين حيث يتوافد المصلون من المناطق الأخرى ويمتلئ المسجد والساحة وينقطع الشارع المجاور وألقي خطبة العيد، حتى منعت من ذلك بسبب ما اعتبره مسؤول حزب البعث المقبور في المنطقة أنه تعريض بصدام وابنه عدي والسلطة في بعض الأمور، فاستعضت عنه بمجلس حسيني مساء كل أربعاء أدعو فيه أحد الخطباء الواعين، إلى أن أصبحت حركتي في هذا المسجد مقيدة بدرجة كبيرة، فانتقلت إلى مسجد حي الغدير وهناك كان المجال أوسع للعمل وعُدت إلى إلقاء المحاضرات يوم الجمعة، وبدأت أعدادات

ص: 47


1- راجع الفصل الرابع من المذكرات

الحضور بالتزايد ومن مختلف المدن العراقية خصوصاً في المناسبات الدينية ويستمعون إلى الخطب ويتفاعلون معها، حتى كانت مناسبة المولد النبوي الشريف في 17/ربيع الأول/1423ه_ (30/ 5/ 2002) حيث كان الحضور حاشداً والتفاعل كبيراً ففقد أزلام النظام صبرهم وجاؤوا إلى المسجد حتى انتهيت من صلاة المغرب والعشاء وخرجت ولا زال الكثير من الناس موجودين خارج المسجد وطلب مني أحدهم أن أرافقه إلى مقر الحزب فأمسكت بيده وتنحيت جانباً وقلت له: إن الحديث الشريف يقول: إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك، وأريد لنفسي ولك أن نكون نعم العلماء ونعم الملوك ونتجنب ردود الأفعال الغاضبة، فرفع صوته بالاستهزاء بهذا الكلام وحصلت مشادة بيننا فتدخل أحد المصلين ووجه إلى رأسه ضربة قوية بيده فأخذ يهدد ويتوعد وأصر على استدعائنا –أنا ومعي القائم بشؤون المسجد وصلاة الجماعة – وبعد حديث طويل وتهديد أبلغني بمنعي من الوصول إلى المسجد نهائياً، فانقطعت.وهكذا بدأت الاحتكاكات مع السلطة تتزايد، وفي خطة منسجمة مع هذا التصعيد ومن باب تلاقي المصالح واشتراكها وبقدرة قادر، وصفقات لا نعرف تفاصيلها والوسطاء فيها، فقد بدأ بعض الذين اختفوا من العاملين في المكتب من الحاسدين والحاقدين الذين لا يرون لهم حظوظاً بالعودة والظهور والالتفاف حول نجل السيد الشهيد (قدس سره) وإقناعه بالخروج وممارسة دوره في الإدارة المباشرة للمكتب)). ((ودعمت السلطة هذا الاستقطاب المقابل ودفعت بعضهم إلى أن يؤججوا الخلاف بيننا ويوغروا صدر السيد عليَّ

ص: 48

وينبّهونه إلى خطورة صعود نجم الشيخ اليعقوبي وانتشار اسمه لأنه يؤدي تدريجياً إلى نسيان اسم السيد الشهيد (قدس سره) وذكروا لذلك دليلاً وهو شدة الإقبال على أشرطة تسجيل محاضرات الشيخ اليعقوبي وانحسار الطلب على أشرطة تسجيل خطب السيد الشهيد (قدس سره) ولقاءاته، وآتت هذه الخطة ثمارها فقد وقع شرخ في العلاقة بيننا خصوصاً وإنني كنت أنتقد بشدة بعض التصرفات المالية، وكانت حركتهم ضدي تزداد كلما نمت القاعدة الجماهيرية وازداد التفاف الحوزة والمجتمع حولي، حيث بدأ مسجد الرأس يغصّ بالحضور في محاضراتي التي ألقيها في المناسبات، وبلغت الذروة في محاضرة (عناصر شخصية المسلم في مدرسة أهل البيت ع) التي ألقيتها(1) في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) في 13/رجب/1423 (21/ 9/ 2002م))) ... ((ومن ثمّ اتجهوا إلى زيادة الضغط لإخراجي من مسجد الرأس وبذلك يحققون أكثر من هدف:إضعافي وتحجيمي لأنهم كانوا يعتقدون أن قوتي في وجودي في مسجد الرأس، وهو ما كانت تعتقده السلطة وتريد إبعادي أيضاً.

حتى يشيعوا لدى أتباع السيد الصدر (قدس سره) أن الشيخ اليعقوبي خرج من خط السيد الشهيد وخذل مكتبه ونحوها.

ولم أعطهم مرادهم وبقيت مستمراً على تدريسي ووجودي ولم أخرج اختياراً ليكون أبلغ بالحجة عليهم، ولئلا أتخلى عن مسؤوليتي في رعايةر.

ص: 49


1- كانت المحاضرة الأطول حيث استمرت ساعة و (26) دقيقة والجميع منصتون كأن على رؤوسهم الطير.

الصدريين عموماً، الذين يجدون عزّتهم ومعقلهم في هذا المسجد الشريف))...((وكان جلاوزة السلطة تتابع هذه التحركات وترفعها إلى الجهات العليا، كما كشفت تقاريرهم(1) التي استولى عليها الشعب بعد سقوط النظام، واستمر التصعيد والضغط خصوصاً ما حصل في شهر رمضان في مبنى جامعة الصدر الدينية في مدرسة البغدادي، ولم تنجح محاولات التهدئة والتقريب التي قام بها بعض الفضلاء بعد انتهاء عطلة عيد الفطر)).

((إلى أن حلّ يوم 23/ذو القعدة/1423 (27/ 1/ 2003م) وهو اليوم الذي حدده فريق قناة الجزيرة الفضائية للحضور إلى مسجد الرأس وتصوير درسي –باعتباره أكبر درس في الحوزة- وإجراء حوار معي ضمن برنامج عن الحوزة العلمية في النجف الأشرف... فأمر المكتب بإغلاق المسجد ثلاثة أيام، وحولت محل اللقاء إلى جامعة الصدر الدينية مساءً؛ حيث حضر الفريق إلى مدرسة البغدادي ومعهم ضباط الأمن والمخابرات وتحدّثنا بما يليق بمدرسة النجف العلمية.

وبعد هذا الحادث أبلغت بمنع المكتب إياي من دخول مسجد الرأس الذي قضيت فيه عشر سنوات تقريباً، وكان مصدر إشعاع في حياة السيد الشهيد (قدس سره) وبعده))...

((واحتفلت السلطة وفرحت كما فرح الحسّاد لظنهم أنهم قد قضوا على هذه الشعلة الوهّاجة المليئة بالحيوية، وأن الشيخ اليعقوبي سوف لا يكون أكثر من مدرّس في الحوزة يلقي دروسه في أي مكان ويعود إلى داره وأن قيادتهر.

ص: 50


1- راجع قسم الوثائق والصور.

وتوجيهه للحوزة العلمية سيضمحل.لكن ظنهم خاب سريعاً فقد انتقلت إلى مسجد كاشف الغطاء – بعد أن استأذنت الأسرة – لإلقاء دروسي واستقبال المراجعين، وازدهر المسجد بالحلقات العلمية وانتقل معي طلابي كما تحوّل الصدريون الواعون والمثقفون وأصحاب الدين إلى هذا المسجد لمراجعتي والاستفادة من توجيهاتي، لكنني أوقفت بعض النشاطات التي أخشى من ممارستها إلحاق الأذى بالمتولين على المسجد إلى أن يستقر وجودي في المسجد، فلم نأذن بتوزيع المنشورات إلا بشكل خاص جداً، وتوقّفت عن إلقاء المحاضرات الفكرية العامة؛ حرصاً على سلامة المشرفين على المسجد ولئلا أحملهم ما لا يطيقون))...

((ونقلت محاضراتي إلى جامعة الصدر، حيث تحدثت في الأول من ذي الحجة ذكرى زواج أمير المؤمنين (علیه السلام) من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عن (الزواج والمشكلة الجنسية) وحلّلت أسباب ومعوقات هذه السنة الإلهية المباركة وكيفية معالجتها وأطلقت مشروعاً لتشجيع الزواج.

وفوجئ أزلام النظام مرة أخرى بهذه الحركة الفاعلة، فأخذوا يضغطون على أسرة آل كاشف الغطاء التي تتولى أمور المسجد وخدّامه، لتحصيل المعلومات التفصيلية عن نشاطاتي، مضافاً إلى تواجدهم غير المعلن داخل وخارج المسجد، واستدعيت مرة أخرى للاستجواب من قبل مدير أمن النجف في المديرية، هذا كله مع أنني لم أمكث أكثر من شهر في هذا المسجد، إذ جرت العادة على تعطيل الدروس في الحوزة في نهاية شهر ذي الحجة استعداداً للتبليغ في شهر محرم، ولم نعد للدراسة؛ إذ بدأ الغزو الأمريكي في

ص: 51

محرم فاستمر التعطيل.وعلى صعيد آخر فقد كانت إرهاصات هجوم الأمريكان وحلفائهم على العراق تتكثف في الأشهر التي سبقت الهجوم، وكنت أتابع أخبار تحركات الحلفاء الغربيين والمعارضة العراقية والمؤتمرات المشتركة التي عقدوها في لندن وصلاح الدين وغيرها من الإذاعات العالمية، وتعليقات المحللين السياسيين وآراءهم، وأراقب تداعيات ذلك على الشارع العراقي الذي انتابه الخوف والقلق من المستقبل المجهول، ولا زلنا نتذكر مرارة هجوم الحلفاء السابق عام 1991م وما تلاه من أحداث مريعة، فأصدرت بياناً قبل الغزو بشهرين أو أكثر بعنوان (الاستماع إلى نشرات الأخبار أوقات الأزمة) لضبط إيقاع الشارع وتوجيهه في ظل الإشاعات والمخاوف.

وطلب النظام من المراجع والحوزة العلمية إصدار بيان لإعلان الجهاد ضد الغزو الأجنبي، وعقدوا مؤتمراً لعلماء الدين في إحدى القاعات الملحقة بالصحن الشريف، وألقى ممثلو مراجع الدين بيانات المرجعية بالمضمون الذي أرادته السلطة ونشر بشكل واسع بهذا المضمون، وحضرت أنا متأخراً إلى الاجتماع، وجلست في مكان متواضع بعيداً عن صدر المجلس! ولم أشارك بشيء.

وفيما عدا هذه البيانات –التي صدّق بها البعض واعتقد بوجوب مقاتلة الغزاة – فلم يترشح من المرجعية – كما هي عادتها في إهمال أمر الأمة - أي موقف إزاء هذه القضية الخطيرة المحدقة بالأمة، ليبين حقيقة ما يجب على الأمة فعله مع التناقض الحاصل في المواقف بين المعارضة الإسلامية الشيعية

ص: 52

التي تواطأت مع المحتل وجلست معه تتقاسم الكعكة، وبين ما نسب إلى بعض المرجعيات في الخارج (الجمهورية الإسلامية) التي تدعو إلى الجهاد والمقاومة، أما أنا فكان موقفي الذي بينته للناس من دون أن أخشى الظالمين هو الوقوف على الحياد في هذه المواجهة، وعدم صحة الوقوف في وجه المحتلين بعنوان مقاومة الاحتلال؛ لأن في ذلك نصرة للظالم صدام وإدامة لبطشه، ولا الوقوف مع المحتلين بعنوان جواز دفع الأفسد بالفاسد –كما كانت تروّج المعارضة - لأن في ذلك تسليطاً للكفار على المسلمين وإدخال البلد في دوامة لا يمكن التكهن بنهاياتها، ومادامت الحرب بين طرفين ظالمين فلا يجوز للمؤمنين الدخول فيها، وأن يكونوا وقوداً لنارها.وانتشر هذا الموقف في أوساط الجماهير المؤمنة؛ لأنهم كانوا - بغض النظر عن المرجعية التي يقلدونها - يأخذون مواقفهم إزاء القضايا الاجتماعية مني بفضل الله تبارك وتعالى، وتعمقت ثقتهم بحركتنا ومواقفنا الجريئة والصريحة خلال السنوات الماضية، وبذلك أنقذ الله تبارك وتعالى الشعب من محرقة، وعجّل بسقوط الصنم، فلله الحمد أولاً وآخراً.

ونقل بعض الأخوة الذين مكثوا في جامعة الصدر طيلة أيام الغزو الأمريكي لحراستها من العابثين(1) أنهم حينما دخلوا مدينة النجف ووصلوا إلىية

ص: 53


1- اتخذت مجاميع من أزلام النظام وقوات الجيش مبنى الجامعة –أي مدرسة البغدادي- مقراً لهم عند اندلاع العمليات الحربية لموقعها الاستراتيجي المطل على المدينة، وقلعوا شبابيكها ووضعوا متاريسهم عندها حتى أخزاهم الله تبارك وتعالى فقتل من قتل وهرب من هرب، ولحماية المدرسة من العبث والسرقة فقد مكث عددٌ قليل من الطلبة فيها رغم التعطيل ووجود هؤلاء الأشرار، ونسجل هذا الموقف الشجاع النبيل للتأريخ.

المدرسة، سألوا الطلبة فيها عمّن يقف وراء هذا الموقف الموحد للشعب العراقي الذي اختلف تماماً عن الموقف أيام الغزو عام 1991 بعد حرب الخليج.وكنت دقيقاً في تصرفاتي إزاء النظام خلال هذه الفترة؛ لأنني أعلم أنه يصاب بهستيريا عندما يشعر بخطر يهدد وجوده ويخشى من تجربة مماثلة كادت تنهيه عندما اندلعت الانتفاضة الشعبانية بعد غزو الحلفاء عام 1991م، فمن المؤكّد أنه سيقوم باعتقال كل الرموز التي يتوقع منها التأثير على الجماهير.

فمثلاً جاءني أحد الإخوة الفضلاء في إحدى ليالي الشتاء الذي سبق الغزو ونقل تحيات المعارضة الإسلامية في الخارج –وكنت أعرف أسماءهم من خلال نشرات الأخبار- وأخرج جهاز هاتف محمول زودوه به وعرض رغبتهم في التحدث معي عن الوضع الراهن في العراق فرفضت بشدة وعنفته على القيام بمثل هذه الأعمال وعيون النظام تترصدنا بشدة، وعجبت لعقلية المعارضة الأنانية التي لا يهمّها ما يحصل لنا ما دامت هي آمنة مطمئنة في الخارج، ويأتيها رزقها من كل (مكان).

وفي نفس الأيام جاءني أحد طلبة العلم المعروفين بالعمل الحركي وعلاقاته بالمعارضة المسلحة في أهوار الجنوب، وأحد الأخوة المحامين من العمارة، وقدّموا عرضاً من الجنرال قائد القوات الأمريكية في المنطقة الوسطى

ص: 54

(ولم أكن أعرف معنى هذه العناوين في حينها) بواسطة أحد زعماء المعارضة الذي أصبح بعد الاحتلال عضواً في مجلس الحكم، ورغبته في التعاون لتحرير العراق !! وتخليصه من صدام وجلاوزته، فرفضت أيضاً لأنني لا أرى أن الحل يكون بالغزو الأمريكي، مع خطورة مثل هذه الاتصالات تحت أنظار النظام الصدامي الذي يعتبر مجرد التداول في هذا الكلام خيانة عظمى توجب الإعدام؛ لأن (الواجب الوطني)!! من وجهة نظره –أي النظام – يحتم على من يسمع مثل هذه الأحاديث أن يبلغ عنها السلطات الأمنية، أما التستر عليها وعدم الإخبار فهو اشتراك في (الجريمة) بحسب قوانينه الجائرة .ولكن هذا الحذر لا يعني النكوص عن أداء وظائفي وتحمل مسؤولياتي، فقد قمت خلال السنتين الأخيرتين من عمر النظام بحركة جريئة فيها الكثير من المجازفة وذلك حينما شعرت بالحاجة إلى تشكيل حزب سياسي، لأنني توقعت أحد أمرين في ظل التصعيد بين صدام والحلفاء الغربيين:

(أحدهما) تنفيذ الحلفاء لتهديداتهم وبدء عمليات عسكرية تنتهي بسقوط صدام ونظامه وإقامة عملية سياسية تعددية كما كانوا يعدون.

(ثانيهما) سعي صدام لفك عزلته الخارجية بالانفتاح على الشعب وكسبه إلى جانبه، فيسمح بتعددية سياسية ويعطي فرصة بدرجة من المقبولية للشعب ليعبر عن إرادته، ويحقق شراكة في إدارة البلاد لكل القوميات والطوائف.

وعلى كلا التقديرين فإن من الضروري وجود كيان سياسي يمثل الشريحة الواسعة التي تنتمي إلى الخط الرسالي.

وكان مجرد التفكير بمثل هذا المشروع فضلاً عن البوح به والسعي

ص: 55

لتنفيذه يعتبر جريمة كبرى من وجهة نظر النظام، ولا بد من الانتقاء الدقيق لمن نكلفهم بالأمر، وقررت أن يكونوا من التكنوقراط وأساتذة الجامعات والذين أعرف جملة منهم.واخترت ليكون على رأس هذا التشكيل أستاذاً جامعياً من بغداد متخصصاً في العلوم السياسية، وكان ممن والى السيد الشهيد (قدس سره) في حياته وانخرط في حركته، وألّف –في ذروة حركة السيد الشهيد (قدس سره) في شباط 1998 – كراساً عن أبعاد ولاية الفقيه وقيادة الأمر عند السيد الصدر (قدس سره) وعرضه بواسطة أحد الفضلاء على السيد (قدس سره) الذي اعترض أول ما اعترض على عنوان الإمام لأنه يراه مختصاً بالأئمة المعصومين (علیهم السلام).

وبعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) عرّفه لي بعض الفضلاء من طلبة جامعة الصدر، والتقينا به عدة مرات وتبادلنا أحاديث متنوعة لاختبار شخصيته، وكنت ألامس الموضوع من بعيد لأكتشف استعداده وقناعته بالأمر والظروف المناسبة، حتى فاتحته بالمشروع واقتنع به، ولم نتحرك أبعد من ذلك (الأستاذ المذكور ومعرفيه من الفضلاء) ثم بدأت عمليات المحتلين يوم الخميس 16/محرم/1424ه_ (20/ 3/ 2003م) وانتهت بسقوط صنم صدام يوم الأربعاء 6/صفر/1424ه_ المصادف 9/ 4/ 2003م، وسقط النظام، فسافرت إلى بغداد لمتابعة ما بدأنا به)).

ص: 56

ملاحظات حول جمع الكتاب

1.لم نُراع في ترتيب المحاضرات والتوجيهات تسلسلها الزمني، وإنما راعينا وجودها في الكتب والإصدارات التي تضمنتها، فوضعنا عنوان الكتاب وأدرجنا تحته ما تضمنه من تلك المحاضرات، حفاظاً على وحدة الموضوع، وليتعرّف القارئ على تلك الكتب والإصدارات حينما صدرت مستقلة. وقد وضعنا هامشاً عند كل محاضرة يبين تأريخ إلقائها.

2.توجد هوامش للإيضاح على بعض الفقرات كتبها بعض الفضلاء الذين قاموا بطبع تلك الإصدارات وتحقيقها وقد كانت لها حاجة في تلك الإصدارات المستقلة، أما حين جُمعت في هذا الكتاب فلم يعد وجودها التفصيلي مناسباً، لذا حذفنا بعضها واختصرنا بعضاً.

3.وردت جملة من الروايات في محاضرات سماحة الشيخ بالمضمون؛ لأنه كان ينقل عن ذاكرته لشحة المصادر، وعدم توفّر بل منع وجود الكومبيوتر حينئذٍ للاستفادة من بعض الجوامع العلمية، وقد حاولنا تحرير تلك النصوص من أصولها، ولكننا لم نوفق لاستيعابها جميعاً، وكان المهم عند سماحته إيصال الفكرة بلطف الله تبارك وتعالى.

4.ألحقنا بالكتاب بعض الصور والوثائق لأهميتها في مثل هذه الكتب التي تؤرخ لحوادث وقضايا لا ترتبط بشخص أو جهة بل بالحركة الرسالية الربانية عبر التأريخ.

5.لم نثبت كل الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية التي صدرت في تلك الفترة لغزارتها، فأثبتنا بعضها مما يرتبط بمضامين المحاضرات، أو وردت

ص: 57

الإشارة إليها في تلك الخطب، وقد جمعت البقية في كتاب (فصول في الفقه الاجتماعي).

ص: 58

وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة

اشارة

وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الخلق أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أغتنم هذه الفرصة وهي قرب حلول شهر محرم الحرام حيث ينطلق الخطباء والمبلغون (أيدهم الله تعالى) إلى أصقاع الأرض؛ ليرشدوا الناس ويعظوهم ويعلموهم شريعة سيد المرسلين، مستفيدين من العاطفة الجياشة والروح الإيمانية الوثابة التي زرعتها في النفوس ذكرى أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، وما زالت وستبقى ان شاء الله تعالى تمد البشر على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم بالهمة الكبيرة والإخلاص والتضحية من أجل المبدأ الحق.

أغتنم هذه الفرصة لأن إضاعة الفرصة غصة، وفي الحديث: (الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير) فلنجعل هذه الفرصة نقطة انطلاق للحديث عن دور الخطباء والمبلغين ومقومات شخصيتهم، وما ينبغي أن تتوفر فيهم من

ص: 59


1- تضمن نص الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ محمد اليعقوبي جواباً على سؤال وجهه إليه أحد الخطباء المخلصين طالباً منه التوجيه والنصح والنقد بتأريخ (12-14 ذي الحجة/1420 ه_ الموافق 19-21/ 3/ 2000).

مؤهلات وقابليات وإسداء بعض الوصايا والنصائح والتوجيهات مما خبر هذا العبد القاصر، لتتحد جهودنا وتتكامل في إعلاء كلمة الله سبحانه، وإرساء توحيده، ولدحض كلمة الكفر والنفاق وإزهاقها، ولا أقصد بالخطيب خطيب المنبر الحسيني فقط، وإن كان هو أبرز المصاديق، وإنما أقصد كل من يتصدى لإيصال رأي الشريعة وصوت الحوزة شفاهة ومباشرة إلى المجتمع، سواء كان خطيب جماعة أو جمعة أو من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات، فكل هذه قنوات مهمة للاتصال بالأمة. والمنبر الذي يرتقيه أي واحد من هؤلاء والجمهور الذي يستمع إليه أمانة عنده وهو مسؤول عن رعايتها وأداء حقها، ف_(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، فيحرم تصدي غير أهله إليه، وإذا لم يكن كفؤاً قادراً على أداء الأمانة، فإنه خائن لها وسارق لوقت هؤلاء الجالسين وجهد القائمين بالمجلس وأموال الباذلين.

والمنبر الحسيني من مختصات الشيعة، سنّه لهم الأئمة الأطهار (ع)، وكان له الدور المهم في حفظ كيان المذهب، ويحمل مقومات نجاحه في نفسه بضم الفكر إلى العاطفة والولاء، ويلبي كل حاجة إذ ليس له نمط معين ولا اختصاص واحد حتى يتحدد به، وما يزيده نجاحاً أن الجماهير هي التي تختار خطيبها، وليس يفرض عليها فرضاً، فيكون صوتهم المعبر عن رأيهم وآمالهم وآلامهم، فلا عجب أن أقبلت الجماهير بكلها على المجالس وبذلت الغالي والنفيس من أجل إقامتها وإنجاحها، وإنك لتكبر هذه المهمة فيهم حيث يجتمع الآلاف بل مئات الآلاف من دون سابق إعداد ولا إعلام، بينما تجهد

ص: 60

الدول على أن تقيم مؤتمراً يضم العشرات فقط ولا تنجح فيها مع سعة البذل والإعداد لإنجاحه. من هنا ينبغي أن ندرك أهمية دور الخطباء في المجتمع وعظيم مسؤوليتهم، فليس دورهم إبكاء الناس واستدرار دموعهم، وإن كان هذا مهماً، ولكن الأهم إيصال الفكر إليهم؛ لأن مشكلتنا الرئيسية وعدونا الأول هو الجهل، الجهل بعقائدنا ومبادئنا وأخلاقنا وشرائعنا.

ولا ينفك الحديث عن شخصية الخطيب والمبلغ عن الحديث عن طالب العلوم الدينية؛ لأن الخطيب لا يكون ناجحاً ومتمكناً من أداء دوره في المجتمع إلا إذا تربى في أحضان الحوزة العلمية ونهل من نهر علومها الصافي، كما أن الحوزوي لا يتمكن من أداء رسالته كما ينبغي له إلا حينما يكون خطيباً ويواجه الجمهور بشكل مباشر، فكما أنه من النقص في الخطيب ألاّ يكون حوزوياً فكذلك نقص في الحوزوي ألاّ يكون خطيباً، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة إن شاء الله تعالى.

وقد جعلت الكلام من خلال نقاط تمثل كل نقطة جهة من جهات البحث:

مقومات شخصية الخطباء وطلبة العلوم الدينية:

النقطة الأولى: وأول نقطة في هذا المجال هو: الحديث عن مقومات الخطيب و الحوزوي عموماً؛ إذ يجب أن تشمل التربية الحوزوية ثلاثة اتجاهات متوازية وتسير في عرض واحد، وأي تقدم في أحدها على حساب الأخرى يؤدي إلى خللٍ في توازن الشخصية وتقصير في السعي لتحقيق الهدف

ص: 61

المنشود الذي هو رضا الله سبحانه والعمل على نشر شريعة سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله) والمساعدة على هداية المجتمع وصلاحه، وأية غفلة عن الهدف أو عدم الوضوح فيه تعني الانحراف والابتعاد عن الحق، فلا بد من ملاحظة الهدف دائماً (وهو المعبر عنه بذكر الله تعالى على كل حال) وتدقيق العمل مع موازينه، فما كان من العمل يصبّ فيه فاستمر فيه وازدد منه، وما ليس كذلك فاجتنبه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا) والاتجاهات الثلاثة هي: الأول: الاتجاه العلمي: ونعني به التزود من العلوم والمعارف الإسلامية وعدم الاقتصار على ما اعتادت الحوزة في الأعصار المتأخرة في التركيز عليه كالفقه والأصول ومقدماتهما من المنطق وعلوم العربية، بل لا بد من إضافة العلوم الأخرى التي لا تقل أهمية عنها، كالفلسفة والعقائد والتاريخ والرجال والتفسير وعلوم القرآن، ويكون الحال أكمل لو أضاف إليها ثقافة عامة من العلوم العصرية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك وعلوم الحياة، فإنها كلها يمكن تسخيرها لخدمة الهدف [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ](فصلت:53).

وأقل ما يشترط في الخطيب والمبلغ إكمال دورة فقهية كالشرائع بإتقان، ومعرفة بالقواعد المبتنية عليها، ليستطيع التمييز بين فروع المسائل وتطبيق بعضها على بعضها، ويتطلب ذلك إكمال دورة أصولية مبسطة كأصول المظفر أو الحلقة الثانية وقس على هذا المستوى من الكتب في المجالات الأخرى، ويمكن طلب التوجيه من الفضلاء في هذا المجال، ولا يجب التعبد بالمناهج

ص: 62

القديمة، فقد استحدثت كتب أعمق من حيث المادة وأوضح في العبارة ومحتوية على مطالب الكتب القديمة مع ما أضيف إليها من تراكمات علمية في الأجيال المتأخرة عنها، وتفصيل ذلك في موضع آخر. الثاني: الاتجاه الأخلاقي: فلا بدّ من تهذيب النفس والسعي إلى تكميلها بالفضائل وتطهيرها من الرذائل وتوطيد الصلة بالله تعالى ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة، ويكون ذلك قبل التصدي لأية مسؤولية اجتماعية؛ لأن المنصب والجاه والامتيازات الأخرى التي يتمتع بها علماء الدين من أقوى فخوخ الشيطان وأصعب شراكه، وإن النفس الأمارة بالسوء قد تكون كامنة وخامدة باتجاه ما، فإذا حصل ما يثيرها هاجت وأودت بصاحبها، لذا تجد الإنسان عندما يدخل إلى الحوزة الشريفة تنفتح للنفس مزالق جديدة منها العمامة واللحية والعنوان الذي يكتسبه، فيحتاج إلى جهد أكبر لمقاومتها، فالنفس كالاخطبوط الذي يروى عنه أنه كلما تقطع منه ذراعاً تولّد له أكثر من ذراع إلا من عصم الله سبحانه، ولا تغترّ بأي عمل قبل أن تذيب الأنانية وتميت الأهداف مما سوى الله سبحانه، فإنه لا قيمة لأي عمل مهما كان عظيماً في نفسه إذا لم يكن مخلصاً لله سبحانه ومقبولاً(1) ولنا في رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسوة حسنة وهو أكمل الخلق، فقد جاهد نفسه وتعبد لله سبحانه ردحاً طويلاً برعاية الله سبحانه حتى بعث بالنبوة، ففي الحديث عن الصادق (علیه السلام): (إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيه فأحسن بأدبه، فلما أكمل له الأدب قال: [إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم:4)، ثم فوّضه.

ص: 63


1- وفي الحديث يؤتى يوم القيامة برجال أعمالهم كالجبال فترمى في وجوههم ويقال لهم إنكم أردتم بها غير الله سبحانه، والعياذ بالله.

إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر:7).وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق)(1)، وقال (علیه السلام) في حديث آخر: (فما فوض الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) فقد فوضه إلينا)(2).

واعلم أن الخروج إلى المجتمع قبل تحصيل السيطرة على النفس الأمارة بالسوء والأخذ بعنانها بما يتضمنه هذا الظهور من مزالق كحب الجاه والتعالي على الآخرين والعجب والرياء والكبر والحسد والمكر سيجعل الإنسان فريسة سهلة للشيطان وللنفس الأمّارة بالسوء، وعندئذ يخسر المبطلون وإن صور له أنه يعمل لله سبحانه وسيقع أجره على الله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ] (الأنفال: 48) بل ربّما منّ عليه سبحانه بأعماله [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً](الكهف:103-104).

إن تكميل النفوس وتحليتها بالفضائل الأخلاقية وتنزيهها عن الرذائل [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا](الشمس: 9-10) جانبٌ مهم في شخصية الإنسان المسلم، لذا أولته الشريعة كل اهتمام، بل جاء في الحديث: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقد سمى العمل على تطهير النفس من أدرانها ب_(الجهاد الأكبر) في النصوص الشريفة، وهو واجب عيني إن كان طلب العلوم1.

ص: 64


1- أصول الكافي، كتاب الحجة، باب 59، حديث5.
2- المصدر السابق، في نفس الباب، حديث 11.

الأخرى – بما فيها الفقه - كفائياً، ولا بدّ أن يقترن العلم بالعمل (وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ ِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ) وفي حديث آخر: (العلماء رجلان: رجل عالم بعلمه فهو ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهو هالك)، وطالب العلم أولى من غيره بهذه التربية، لأنه متصدٍّ لتغيير المجتمع وقائم على إصلاحه، فكيف ينجح وهو بعدُ لم يفلح في تكميل نفسه، فإن (فاقد الشيء لا يعطيه). وما هذه المفاسد التي نعاني منها كالخلاف والبغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الأمارة بالسوء وعدم الإمساك بقيادها، وإلاّ لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه: لتآخوا ولتحابّوا ولشكر بعضهم بعضاً على معاونته إياه في هذا الطريق، أترى لو أن جميع الأنبياء – وهم مائة وأربعة وعشرون ألفاً - جُمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم؟ هل الشجار والخلاف كما يحصل بيننا ونحن شرذمة قليلون؟!

الجواب: لا طبعاً؛ لأنهم مخلصون ومتآخون فيه، فما اختلافنا إذن إلاّ من أجل دنيا زائلة أو عناوين زائفة كحب الجاه أو حفنة من الأموال تذهب لذتها وتبقى تبعتها، وقد يتدخل الشيطان بمكره فيوهم كل طرف أنه على الحق، ويصور له من واهمته مبررات مشروعة (كالمصلحة الدينية) يُقنع بها نفسه ويسير وراءها، ولا يزداد عن الحق إلاّ بعداً، ولو أنصف من نفسه ونظر بعينين مفتوحتين لا بعين واحدة هي عين أهوائه لرأى الحق واضحاً.

وتجد أهم شرط بيّنه المعصومون (علیهم السلام) في العالم الواجب اتباعه أنه مطيع لأمر مولاه وصائن لنفسه عن الهوى، وإلاّ كيف يهدي غيره ويصلح غيره وهو

ص: 65

بعدُ لم يحققهما في نفسه [أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس:35)، وينبغي الالتفات إلى أن الشخص كلما تعاظمت مسؤوليته وجب أن تكون درجة تكامله بمقدارها، ومن هنا يجب أن نفسر مصطلح (العدالة) الذي يشترط في الشاهد وإمام الجماعة ومرجع التقليد بدرجات متفاوتة، فالمستوى المطلوب منها في الشاهد ليس كإمام الجماعة، وعند هذا ليست كما في مرجع التقليد الذي بيده مصير ملايين المسلمين نفوساً وأموالاً وأعراضاً، وقد ورد في الحديث ما مضمونه: (إن الإسلام عشر درجات أعلاها الإيمان، والإيمان عشر درجات أعلاها الورع، والورع عشر درجات أعلاها اليقين)، فقد يحل لشخص ما يحرم على غيره بحسب موقعه الاجتماعي، ولنعتبر بما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام)، وليطبقها كل منا على موقعه: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ – وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْ_يَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ – أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إلى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ).

وعلم الأخلاق كغيره من العلوم- إن لم يكن أولى - باحتياجه إلى المعلم العارف بأمراض النفس ومسالك انحرافها وعلاج كل منها ويعرف العلامات والاختبارات لتشخيص الداء، فيصف الدواء لكل أحد بما يناسبه من غير إفراط ولا تفريط، وكان العلماء السابقون لا يستنكفون من الحضور في دروس

ص: 66

الأخلاقيين الناجحين في تربيتهم للآخرين رغم سمو مرتبتهم العلمية؛ فقد كان للشيخ الأنصاري مُعلمٌ خاص لتهذيب النفس، وكان المجتهدون يحضرون دروس الشيخ جعفر الشوشتري والشيخ حسين قلي الهمداني (قدس الله أسرارهم جميعاً) للوعظ والإرشاد وإحياء القلوب وتهذيب النفوس وتكميلها. وإذا تعذر المربي الذي من أهم شروطه الصدق والإخلاص فيوجد البديل في الكتب المعبرة عن سمو مرتبة مؤلفيها، ويمكن للمؤمن أن يتربى على يديها، ومن هذه الكتب (جامع السعادات) و(القلب السليم) وغيرها كثير مما كتب في تهذيب النفس وتكاملها في طريق الوصول إلى الله سبحانه، وهي بمستويات مختلفة يمكن التدرج في الاستفادة منها وتطبيق ما فيها، وروح الكتب وخلاصتها أحاديث المعصومين وكلماتهم، حيث تعدّ الكلمة ذات السطر الواحد دستور حياة، فراجع (نهج البلاغة، وتحف العقول، والمحاسن والخصال، وإرشاد القلوب، ووسائل الشيعة/ج11)، وكذا أدعية المعصومين كالصحيفة السجادية ودعاء أبي حمزة ودعاء الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عرفة خصوصاً ملحقه ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية.

إن صلاح المجتمع بصلاح علمائه وفساده بفسادهم والعياذ بالله، فقد روي في الخصال(1) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله) : الفقهاء والأمراء.

والذي أفهمه أن علاقة هذين الصنفين بفساد المجتمع وصلاحه ليست2.

ص: 67


1- باب الاثنين، حديث 12.

بمرتبة واحدة من حيث العلية والمعلولية، ففساد العلماء علة لفساد المجتمع، وفساد الأمراء معلول لفساد المجتمع، فيكون فساد العلماء متقدماً برتبتين على فساد الأمراء وكذا صلاحهم طبعاً.

إن فساد العلماء يمكن تصوره على مستويين:

الأول: التقصير في أداء المسؤوليات من إرشاد الأمة وتوجيهها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو الضامن لسلامة الأمة من الانحراف [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ](آل عمران:110) [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (آل عمران:104)، وقد أنّب الله سبحانه العلماء على هذا التقصير بقوله: [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ] (المائدة:63)، وقد حذر القرآن الكريم والسنة الشريفة من خطر ترك هذه الفريضة المهمة في مواضع عديدة، وورد أنه من الذنوب التي تديل الأعداء وتمنع من استجابة الدعاء، وكفى بذلك شرّاً ووبالاً.

الثاني: انحراف رجال الدين المتصدين للمجتمع وتغير نواياهم وأهدافهم من ربانية مخلصة إلى دنيوية محضة، وحبُّ الدنيا رأس كل خطيئة وباب الفساد والشرور، فيستشري الطمع والأثرة والحسد والبغضاء والخلاف والقطيعة والكيد والمكر، وتنشأ هوَّة بعيدة بينهم وبين الأمة، فتضل الأمة بضلالهم، وقد قيل: (إذا فسد العالِم فسد العالَم)، وهذه هي الطامة الكبرى حيث ينعدم

ص: 68

الإخلاص فتنفصم العروة الوثقى وهي حبل الإمداد والتوفيق الإلهي، وقد أكد الأئمة (علیهم السلام) على اجتناب مثل هؤلاء ونبذهم وعزلهم؛ فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياكم فاتهموه على دينكم، فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب)، فلنبدأ إذن بإحياء القلوب والموعظة وتلاوة القرآن: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16). إنه من المؤسف حقاً استهداف ما سوى الله سبحانه من مال أو جاه أو تسلط، وقد علمنا علم اليقين حقارة ذلك مقابل ما أعدّ الله للمخلصين من عباده خصوصاً لطلبة العلم والعلماء والمرشدين، ويكفي حديث واحد مضمونه (لا ينبغي لحامل القرآن أن يرى أن أحداً قد حصل على خير مما حصل عليه)(1).

الاتجاه الثالث: في الوعي الاجتماعي؛ فلا بدّ من اتصاف الحوزوي بالوعي والحس المرهف لما يجري حوله، والبصيرة فيما يدور في المجتمع من مشاكل وفتن وشبهات تعصف به وتبلبل أفكاره تحت شتى العناوين مستفيدة من الجهل المتفشي بين أبناء الأمة، وأن يكون عارفاً بأسلوب مواجهتها وتحصين الأمة من الوقوع فيها، وتنبيهه إلى الأخطار المحدقة به التي تريد أن تسلب أعز ما عنده دينه وكرامته وعزّته ومبادئه [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة:120).م.

ص: 69


1- راجع للمزيد كتاب أصول الكافي، فضل العلم.

ولا بدّ أن يتحرك نحو المجتمع فيستثمر الفرصة المتاحة ويهيئ الظرف بلطف الله تعالى لما هو أوسع منها، أما المغامرة بما هو أزيد من المتاح فهو إفراط وإلقاء للنفس في التهلكة وتهور، أما العمل بأقل ما هو متاح فإنه تفريط في الواجب وتقصير ولا مبالاة، وقد (أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم) وألاّ يسكتوا على ذلك كما ورد في الخطبة الشقشقية لأمير المؤمنين (علیه السلام)، ولا ينتظر أن يتحرك المجتمع إليه ويقصده، ولربما يشعر بذلك قوله سبحانه: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ](التوبة:122)، فهم الذين يبدأون قومهم بالإنذار وتبليغ الرسالة، ولا ينتظرون من المجتمع أن يبتدأهم فضلاً عن الانعزال عنه وترك حبله على غاربه.وإذا وردت أحاديث تحبب العزلة عن الناس فليست بمعنى التقوقع داخل البيوت، وإنما بمعنى مباينة المجتمع الفاسد في تصرفاته وعدم الانصياع إلى تصرفاته وعدم الانسياق معهم، وإعلان البراءة من انحرافهم، وهذه سنة إلهية أكد عليها القرآن الكريم [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] (الكافرون:6)، ولا ينزل النصر على عباده المؤمنين إلا بعد التجرد عن موالاة الكافرين والمنحرفين [وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ] (يونس:41).

إن المجتمع قد أعطانا كل ما عنده من الجاه والمال والتقديس والتفاني في الخدمة، فيجب أن نعطيه كل ما عندنا، وإذا كنا نأخذ أكثر من حقنا ونعطي الآخرين أقل من حقوقهم فنحن مصداق واضح للمطفّفين [الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ

ص: 70

عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] (المطففين: 2-6) فويل لنا عندئذٍ. إن من ثمرات الوعي الاجتماعي معرفة وطرح الأساليب المناسبة للتعامل مع الواقع المعاش، ورفعه إلى مستوى التطبيق الكامل للشريعة، لا الهبوط بالشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها وفق متطلباته. ويمكن الاستفادة من عدة كتب في هذا المجال، منها التي تحدثت عن الأدوار المشتركة للأئمة (علیهم السلام) التي عاشوها في حياة الأمة الإسلامية.

إن العلماء هم حرّاس الأمة، وبتعبير الحديث: (أمناء الرسل وحفاظ الشريعة)، فبقدر ما يكونون يقظين ملتفتين إلى ما يوجه إلى الدين والمذهب من شبهات وفتن مضلة فكرية واجتماعية على يد أعدائه، تكون الأمة في أمان وعقيدتها في حصن منيع، وإذا غفلوا وناموا احتوشها الأعداء وعاثوا فيها فساداً وسرقوا منها الأهم من المال، أعني دينها وعقيدتها وشرفها وعزّتها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.

إذا عرفت معي أهمية هذه الاتجاهات الثلاثة في تكوين شخصية المرشد الديني في أي موقع فكأنما شاركتني الأسى والألم لتقصير حوزتنا في بناء هذه المقومات لدى طالب العلوم الدينية، فالاتجاه الثاني والثالث غائبان، والأول قاصر من حيث المادة المعطاة، فلا زلنا نجتر معلومات قديمة، ومن حيث الأسلوب فكذلك، وغابت دروس مهمة كالفلسفة والرجال والحديث والتاريخ والعقائد والعلوم العصرية التي ذكرنا في موقع آخر مدخليتها في تكوين

ص: 71

الشخصية العلمية للمرشدين، والمنهجة مفقودة والدراسة بلا ضوابط والحديث ذو شجون، لكن يجب أن لا نقتصر على تجرّع المرارة والأسى، بل نعمل لتلافي هذا النقص وتداركه، وليشد بعضنا أزر بعض، والله ولي المؤمنين.

الاهتمام بالقرآن الكريم:

النقطة الثانية: الاهتمام بالقرآن الكريم، فمن المؤسف حقاً غيابه عن الدروس الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته، ولا يمر به إلا لماماً، وربما يبلغ مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لا يحسن قراءة القرآن الكريم بشكل مضبوط، مما أدى إلى إهماله وقلة الاهتمام به، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت به واستضاءت بنوره، وهو حبل الله المدود إلى عباده، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وثقل الله الأكبر مع أهل البيت (علیهم السلام) ثقل الله الأصغر ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، فتقع المسؤولية على الحوزة أولاً لإخراج القرآن من عزلته وإعادته إلى الحياة إماماً وهادياً ورائداً للتغيير والإصلاح في النفس والمجتمع.

إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية؛ إذ ليست هي فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام، بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله

ص: 72

سبحانه [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ](المائدة:50)، وقد نبّه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال: [وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى](الأحزاب:33)، وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية، هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها، بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة جميعاً، فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسند بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحلّ الله ويحلّون ما حرّم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعدّدت، وما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد، وشياطين الجن والأنس تصدّ عن صراط الله المستقيم [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ](الأعراف:16-17) [وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً](الأعراف:86).كل هذه من سمات وعلامات الجاهلية في كل زمان ومكان، فما أحوجنا إلى القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام، وقد جاء في الحديث ما مضمونه: (إن أواخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أوائلها)، وقد صلحت أوائلنا بالقرآن، فلنأخذ به فإنه شفاء ونور وهدى ويصدّ عن العمى والضلالة، ولنكرس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء

ص: 73

إلى يوم القيامة، ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع في كل زمان ومكان، ومن خطل تفكير هذه البشرية الضالة أنها إذا عطل عندها أبسط جهاز أو أصابه خلل فإنهم يراجعون في إصلاحه صانع الجهاز، وعندما تصاب هذه البشرية التي هي أعظم المخلوقات وأشدّها تعقيداً بالانحراف يلتمسون العلاج من نفس المريض ولا يأخذون وصفة العلاج من خالق الإنسان العظيم، وهو هذا القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيرة أهل بيته العظام (ع). وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا، فإذا أصيب المجتمع بالتمزق والتشتت فاقرأوا عليهم قوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران:103)، وإذا أصيبوا بالجبن والخور فعلاجهم: [أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ](النساء:78) [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ](الجمعة:8)، وإذا شكونا من سوء الإدارة والتصرفات في الحوزة فاقرأوا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ - وهي حواشي المراجع - لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً](آل عمران:118)، وإذا مررنا بصعوبات في الحياة ومصائب ومشاقّ فالتمس الطمأنينة والسكينة والتسلية في قوله تعالى: [ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ](العنكبوت:1-2) و[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ

ص: 74

يَعْمَلُونَ](التوبة:120-121).واقرأ: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ](البقرة:214)، وإذا شعرت الأمة بالإحباط واليأس فعلاجه قوله تعالى: [وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ](يونس:87) و[وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ](الحجر:56)، وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فاقرأ: [وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ](النساء:79) [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](الرعد:11) [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَ_كِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ](المائدة:117)، وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة مما يسمى اليوم بالسلوك الجمعي أو الشياع أجابهم القرآن: [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ](يونس:103) [وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ](الأنعام:116) [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ](يونس:106).

حفظ الوحدة الإسلامية:

النقطة الثالثة: ومن الأهداف المهمة التي يجب على الخطباء (سدّدهم الله تعالى) تكريس أنفسهم لها: صيانة وحدة الحوزة والمجتمع والعمل على تحقيقها، والوقوف بوجه كل المحاولات التي تؤدي إلى تمزيق شمل الأمة.

إن الاختلاف بوجهات النظر لا يستلزم التناحر والتشاجر، ومن ثم التكفير،

ص: 75

وربما الحكم باستحقاق القتل، إن الاختلاف بالرأي سنة جارية بين أبناء البشر، ولا نجد اثنين متفقين في جميع آرائهما وتصرفاتهما، فهل يعني هذا القطيعة بين البشر، وقد قصّ القرآن شواهد على ذلك حتى بين الأنبياء وهم معصومون من الخطأ، فعندما عبد بنو إسرائيل العجل، وكان موسى (علیه السلام) غائباً، فلم يتخذ أخوه هارون (ع) إجراءً حاسماً خشية تفرق بني إسرائيل [وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](الأعراف:150)، وفي موقع آخر [قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي](طه:93) فنفى السامري وأحرق العجل. إن أساس أية وحدة يقوم على أمرين:

1- احترام كل من الطرفين وجهة نظر الآخر، ما دام الطرف الآخر مقتنعاً بها بالحجة المعتبرة عنده [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ](البقرة:256)، وحساب كل طائفة على الله سبحانه، ولسنا نحن أولياء أمور الآخرة [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ](التوبة:106)، و[لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ](آل عمران:128)، وإذا لم يكن هذا الأمر لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فكيف يكون لنا تكفير من يخالفنا الرأي ولا يشاركنا في قناعاتنا، قال تعالى: [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ] (الحاقة:44-47).

ص: 76

2- التركيز على نقاط الالتقاء واحتفاظ كل طائفة أو فريق لنفسه بمعتقداته وأحكامه الخاصة به، ولا شكّ أن نقاط الالتقاء كثيرة، وتجمعنا أواصر عديدة هي أهم بكثير من المسائل الفرعية التي نختلف فيها.

وقد نهى الإسلام عن التنابز بالألقاب وقذف الآخرين بالصفات المشينة، وهي توجب للقاذف ثلاثة آثار:

1- الجلد ثمانين.

2- الحكم عليه بالفسق.

3- عدم قبول شهادته.

فلنتق الله، وليصُن بعضنا سمعة بعض وعرضه وشرفه وكرامته، خصوصاً المتصدين للمنابر؛ حيث تتلقف الجماهير منهم الكلمات بسرعة، فمن اتقى وأحسن فسييسره الله للحسنى، ومن أساء فإن له معيشة ضنكاً ويحشره الله يوم القيامة أعمى، وعليه وزره ووزر من تسبب هو في ضلاله، وليعلم الجميع أن وحدة المجتمع من وحدة الحوزة وتفرقه من تفرقها، ولنتأدّب بأدب أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما سمع اثنين من أصحابه يشتمان معاوية وأصحابه، فنهاهما عن ذلك. فقالا: أولسنا على الحق؟ قال: بلى، ولكن أكره أن يكون أصحابي سبابين شتامين، قالا: إذن أدبنا بأدبك يا أمير المؤمنين، قال ما مضمونه: بيّنوا لهم وجه الحق؛ ليعرفوا أهله، والباطل؛ ليعرفوا أهله.

إن من أسباب الفرقة والتشاق: التعصب لشخص أو اتجاه معين، وهو سلوك باطل؛ لأن التعصب يجب أن يكون للحق، ولنتأمل طويلا في قولهم (ع): (لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)، فليس الرجال معياراً لمعرفة

ص: 77

الحق، بل الحق معيار لتقييم الرجال؛ إن تقديس الذات شكل من أشكال العبادة والشرك، والمبتلى بها يعمى عن رؤية الحق، لأن هذا التقديس يحجبه عن الرؤية الصحيحة. والداهية العظمى سريان هذا الداء إلى أبناء المذهب الواحد، بل إلى أفراد الحوزة نفسها التي يفترض أن هدفها واحد ومصيرها واحد وولاءها واحد، لكن هذه الوحدة التي كان لها مركز هو ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) تشرذمت إلى ولاءات شخصية متعددة، ولم يعُد أحد يفكّر بولائه الأصلي لله ورسوله ولأمير المؤمنين، بل لفلان وفلان، ونشأت الفرق والأحزاب و[كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](الروم:32)، وتراهم يدعون إلى الوحدة مع بقية مذاهب المسلمين بل مع البشرية جميعاً، وهو شيء حسن دعانا إليه الإسلام، فالناس (صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ] - على تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام) - لكن لماذا ننسى هذا الشيء فيما بيننا نحن أبناء الحوزة والمذهب الواحد، إنه للعجب العجاب!! أيكفي مبرراً لذلك أن فلاناً رأى تكليفه أن يفعل كذا مما يراه الآخر تهوراً، وأن فلاناً رأى تكليفه أن يفعل كذا مما يراه الآخر تقصيراً وتخاذلاً.

إن جعل الهدف هو الأشخاص ينافي الإخلاص أولاً، ويشوش الرؤية ثانياً، وهو الخلط الذي وقع فيه المسلمون في صدر الإسلام عندما قارنوا علياً (ع) بغيره، فقالوا كلّهم من السابقين للإسلام وبدريون وأحديون وغيرها من الصفات، ولئن تفوّق علي (علیه السلام) ببعضها فلم يجدوه فرقاً كبيرا، فضاعت الحقيقة في ضبابية هذه الرؤية، ولكنهم لو قارنوا بين فكرتين ومبدأين: أحدهما

ص: 78

يقول إن الإمامة منصب إلهي لا يعرف مستحقه إلا العالم بالسرائر الذي يحول بين المرء وقلبه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وبين يديه قوله تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](النحل: 68)، ومقتضاه أن تكون الإمامة لعلي (علیه السلام) وبنيه المنصوص عليهم. وثاني المبدأين يقول إنها بالاختيار، فهي متروكة للبشر يغلب القوي منهم الضعيف، حتى آلت إلى من اشتهر فسقهم وكفرهم، ولا أعتقد أن أحداً يتردد في اختيار أحد الطرفين، بينما عندما كان النزاع بين شخصين لم تكن النتيجة بهذا الوضوح. فليكن حوارنا مبنياً على أسس وموازين علمية بعيداً عن التحزيات والأهواء والولاءات الشخصية، لكن لا نفقد الرؤية الصحيحة (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتّباعه، والباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله عليّ متشابهاً، فاتبع هواي بغير هدًى منك).

إن هذه الدعوة للمّ الشمل لا تعني المداهنة في أمر الله سبحانه، وإنما الذي أقوله هو نبذ العنف والتفسيق والتكفير والسب والشتم وتبادل التهم، والتعويض عنه بلغة الحوار والإدلاء بالحجة [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](الأنفال:42)، وقد دعانا القرآن لذلك مع الكفار فضلاً عن الأخوة المؤمنين [قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ](البقرة:111) [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ](هود:28) [ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ](النحل:125)، وإن الذي يلجأ إلى العنف هو من لا حجة له، فيصمّ أذنه عن سماع الحق، كما كان يفعل المشركون والكفار عند مواجهة الأنبياء والرسل لهم بالهدى والبينات، أما المؤمن فهو قوي بحجته

ص: 79

وإيمانه لا يتزلزل، والقرآن الكريم حافل بالحوارات بين المؤمنين والكافرين فلنتأدب بأدبه. ثم ماذا ينتظر الخائضون في هذه الفتن غير سقوطهم جميعاً بسبب ما يكشف بعضهم من زيف البعض الآخر، وما يلقي عليه من اتهامات وشكوك، ولك أن تتصور النتيجة عندما يسقط جميع العلماء من أعين المجتمع، فتبقى الأمة بلا قيّم عليها تسير بغير هدى؛ ففي خطبة الزهراء (علیها السلام) عندما ذكرت بعضاً من أسرار التشريع قالت (علیها السلام) ما مضمونه: فجعل طاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناً للفرقة(1)، إن هذه المؤامرة خطرة وقذرة لا يشعل أوارها إلا جاهل أو مرتزق.

إن المؤمن الحقيقي إذا بلغه نقد أو توبيخ نظر؛ فإن كان الذي قيل موجوداً فيه حمد الله تعالى على هذه النصيحة والهدية الثمينة وسعى في تجاوز هذا الخطأ وعلاجه، خصوصاً إذا كان صادراً من مؤمن، وإن لم يكن فيه حمد الله على السلامة ولا يرد الصاع صاعين، كان أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يغضب لنفسه ولا يتأثر لها وإنما يغضب لله وللحق، وله كلمة في ذلك: إني أسكت ما دام الظلم محدقاً بنفسي فقط ولا يتعداها إلى الحق، وموقفه من عمرو بن عبد ود في معركة الخندق في الرواية المشهورة.

إن أهم مشاكلنا عدم التمييز بين الأعداء والأصدقاء، فهذه النفس الأمارة بالسوء هي أعدى أعدائنا – كما في الحديث - وهي في داخلنا وبين جنبينا، فهل انتهينا من قهرها حتى نتفرغ لمعاداة الآخرين.4.

ص: 80


1- الاحتجاج: 1/ 134.

يجب أن نلتفت أن المخالفين لنا في الرأي على صنفين: الأول: وهو مجرد مخالف لنا في الرأي، فهذا الذي ننظر إلى نقاط الالتقاء معه، ونغض النظر عن نقاط الخلاف، وما لم نعاديه فإنه لا يعادينا.

الثاني: الذي لا يكتفي بمجرد المخالفة، وإنما يتربّص بنا الدوائر، ويقف حجر عثرة في طريق الإصلاح، ومهما حاولنا ثنيه عن ذلك لا ينثني، فهذا الذي نعاديه إذا استنفدنا كل الطرق للتقارب معه.

وبهذا التصنيف نستطيع أن نفهم طائفتين من الآيات الشريفة:

الأولى: مثل قوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ](البقرة:256).

والثانية: [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ](البقرة:195) [قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ](التوبة:122).

والتمييز بينهما من وظيفة ولي الأمر والقائد الحق للأمة وليس لأدعيائها.

انتماء المنبر للحوزة:

النقطة الرابعة: جعل المنبر عموماً والمنبر الحسيني خصوصاً تحت إشراف المرجعية الدينية والحوزة الشريفة، فإنه أوسع أبواب الاتصال بالمجتمع وأشدّها تأثيراً في النفوس، لأنه يستمدّ قدسيته ومكانته من صاحب المناسبة، وقد فقدت المرجعية الدينية هذه القناة المهمة حين تخلّت عنه وتركته بيد متطفلين همّهم تحصيل الأموال واستدرار الدموع ولو بالروايات المكذوبة التي تسيء إلى أهل البيت (علیهم السلام) وعلّو منزلتهم.

وفقد المنبر هو الآخر أهميته وهيبته في المجتمع بسبب هذه النظرة له،

ص: 81

وعدم توفر غطاء من المرجعية له، فإذا كسبت الحوزة الدينية المنبر الحسيني استطاعت تسخير هذه القناة لإسماع صوتها، وقطعت الطريق أمام المرتزقة والجهلة، وشجعت ذوي الكفاءات في هذا المجال على السير فيه باطمئنان، لأنه سيرى الضمانات التي توفرها له المرجعية الدينية بدلاً من القلق على مستقبله والحرص على تكثير المجالس لتوفير المال، مما يؤثر على جودة عطائه. كما أن المنبر سيمتلك قوة في التأثير يستمدّها من السلطة الروحية للمرجعية الدينية، ومن القابليات العلمية التي ستتصدى له، وهذه من النقاط التي جعلت قوة التأثير لمنبر الجمعة أكثر من المنبر الحسيني.

وإن خطباء المنبر ليستطيعون أكثر من أية وسيلة أخرى شدَّ الناس إلى مرجعيتهم والالتفاف حولها وطاعتها، كما يستطيعون على العكس من ذلك هزّ سمعة المرجعية والتشكيك فيها والنيل منها وتنفير الناس عنها.

وتحصل هذه الرعاية من لدن الحوزة بإنشاء درس لتعليم فن الخطابة ومقوماته ومؤهلات الخطيب وكيفية إعداد الخطبة والمحاور التي ينبغي أن يدور الحديث عنها، ثم تعقد جلسات أسبوعية يرتقي الطلبة فيها المنبر ليتعلموا ويتدربوا، ولتكون فرصة لتوجيههم، وبيان نقاط القوة والضعف فيهم، ويزوّد الخطيب الناجح بشهادة اعتراف وتأييد من قبل الحوزة العلمية، وتقدم له الضمانات المالية كبقية طلبة الحوزة كما تقدم له الدعم المعنوي بالدعوة إلية والترويج لاسمه وتوجيه الوكلاء في مختلف المدن إلى التزامهم والتعامل معهم.

ص: 82

الخطابة النسائية :

النقطة الخامسة: إن إصلاح (الخطابة النسائية) - إذا صحَّ التعبير - وتهذيبها مشمول بما قلناه، بل الحاجة فيه أشدّ، لأنها ما زالت متخلّفة وبعيدة عن الهدف، فتحتاج إلى نهضة قوية، وإذا كان منبر الرجال قد تقدم خطوات بتصدي الحوزة له، فإن عدم وجود حوزة للنساء يجعل المنبر النسائي متأخراً، من هنا تدعو الحاجة إلى حثّ المرأة على التوجه إلى الدراسات الدينية؛ فإن قضايا المرأة عندما تتصدى لبيانها ومعالجتها امرأة تكون أدق وأصوب وأدعى لانفتاح النساء عليها، فليبدأ أخواني الطلبة الذين منهم تكون البداية وعليهم تقع المسؤولية بتثقيف زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم ومن يليهم من النساء حتى إذا اطمأنوا إلى قدرتهن على إيصال العلم إلى غيرهن وفّروا لهن هذه الفرصة من خلال مجالس التعزية أو حفلات الزواج وسائر الشعائر الدينية والمناسبات الاجتماعية.

إن تخلّف المرأة يعني تخلف نصف المجتمع، بل كل المجتمع؛ لأنها المدرسة الأولى التي تحتضن الطفل وترعاه وتربّيه، فإذا كانت متعلمة متدينة سهّلت المسير لأبنائها نحو الكمال.

وعلى الكتّاب والمثقفين وحملة العلم أن يولّوا هذا الجانب من هو جدير به من الاهتمام، فيضعوا المناهج المناسبة التي تأخذ بيد المرأة، وعدم الاكتفاء بما هو موجود، لأن الشعور بالمسؤولية والاندفاع نحو التطبيق تجاه الكتب المخصصة لها ولأية شريحة في المجتمع يكون أكثر بشكل ملحوظ مما لو كان الكتاب عاماً ويخاطب المجتمع، فيتعب الشخص نفسه، وهذا هو أحد

ص: 83

المبررات المهمة التي تدفعنا إلى إنشاء (الفقه المتخصص)، شأنه شأن سائر العلوم التي تعمقت وتوسعت بإنشاء التخصصات فيها.

مكونات مادة الخطبة:

النقطة السادسة:

إن اختيار مادة الخطبة لا ينبغي أن يكون اعتباطياً ووفق ما تشتهيه نفس الخطيب أو ما يشعر أنه يحسنه، أو يتبارى لإظهار القدرات المختلفة حتى يقال عنه أنه ماهر وأنه ناجح، أو أنه وجد ذلك في الكتاب الذي أمامه فنقله إلى الجمهور، فكل هذه أهداف تنافي الإخلاص، وهي بعيدة عن الهدف الحقيقي، وقد يسيء صاحبها أكثر مما يحسن من حيث يشعر أو لا يشعر، وقد ولّى زمان (الترف الفكري) حيث لا تمثل المجالس- في أحسن صورها - إلاّ كمّاً من المعلومات التي تغذي العقل لا الروح، ولا تترك أثراً على السلوك حتى لو دأبت على حضورها سنين طويلة، ولا تنفع إلا كثقافة عامة لا أزيد، ولولا ارتباطها بقضية الحسين (علیه السلام)، لما كان فيها أي منفعة، فلا بدَّ من تحديد المحاور والخطوط العامة التي تندرج فيها الخطب بالأمور العريضة التالية:

1-ترسيخ العقائد الحقة ومحاولة الاستدلال عليها بأمور وجدانية أو برهانية مبسطة، ورد الشبهات الموجهة ضد الدين أو المذهب، و التي علقت في أذهان العامة من دون إثارة شبهات وإشكالات جديدة لا توجد إلا في بطون الكتب وعقول السفسطائيين، فقد تنقدح الشبهة في أذهان الجالسين

ص: 84

ويصعب ردّها وإزالتها، فيتحمل الملقي مسؤوليتها (ومن كسر مؤمناً فعليه جبره).2-نشر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) وبيان حقهم وأدوارهم في حياة المسلمين، وعملهم على ترسيخ دعائم الإسلام الحقيقي، وما عانوه من مصائب وويلات في سبيل الله سبحانه، واستعراض سيرتهم خصوصاً في مناسباتهم (ع) وعدم الاكتفاء بالسرد التأريخي، بل لا بدَّ من استخلاص العبرة واستلهام الدروس.

3-ما ذكرناه من الاستفادة من القرآن، فيبعث الهمة لدى المجتمع وتحفيزه إلى طاعة الله سبحانه ونيل رضاه ومعالجة مشاكله وأدوائه والاهتداء بهديه، واستلهام الدروس منه في إصلاح النفس والمجتمع، ولنأخذ من سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) درساً؛ فإنه طيلة مكثه في مكة وهي ثلاث عشرة سنة كرّس عمله لترسيخ العقائد وتصفية النفوس ووعظ القلوب بما ينزل عليه القرآن من مشاهد يوم القيامة وعاقبة المؤمنين والكافرين، وآيات الله تعالى في مخلوقاته وقصص الأمم السالفة لبيان سنن الله في خلقه، حتى انقادت له (صلی الله علیه و آله) القلوب والنفوس قبل الأبدان، وعلم منهم الصدق والطاعة والتضحية حينها حمّلهم التشريعات فاستسهلوا أمرها رغم ثقلها، وتستطيع أن تخرج بهذه النتيجة عن طريق المقارنة بين القرآن المكي والمدني.

4-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنقد البناء لأي سلوك منحرف؛ فإن هذين الواجبين هما صمام أمان المجتمع المسلم، ولو التزمت الأمة بهذه الفريضة لنالت خيراً كثيراً ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وتركهما

ص: 85

يعني انحدار الأمة وانهيارها، وبالمقابل فإن النتائج المترتبة عليهما لا يحققها أي عمل آخر، كما أن المفاسد والشرور المترتبة على تركهما عظيمة قلما يوجد نظيرها في ترك غيرها، والقرآن والسنة حافلان بالحث عليهما والتحذير من التفريط فيهما، بل جعلا ميزة هذه الأمة [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ](آل عمران:110) عكس الأمم السابقة التي ذاقت وبال تركها [كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَ_كِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ](المائدة:79-81) وهما – كما في الحديث- لا يقرّبان أجلاً ولا ينقصان رزقاً، ولم يخرج الحسين (ع) إلا لهما (إني ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلی الله علیه و آله)، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)، وليكن تطبيقها في ضوء أدب القرآن [ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ](النحل:125)، لا بالتعنيف والزجر واللوم والتقريع، فإن المجتمع كما يضمّ بعض السلبيات، كذلك فإن فيه بعض الإيجابيات، فليكن الخطيب منصفاً في عرضهما على المجتمع [وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ](الأعراف:85).5-التأكيد على ارتباط المجتمع بالمرجعية الدينية، وأن لا يخطو خطوة ولا يفعل أمراً ولا يحلّ عقدة إلا بعد أن يعلم رأي المرجعية؛ لأن العلماء (أمناء

ص: 86

الرسل وحفاظ الشريعة)، وهم (ورثة الأنبياء)، وهم – على تعبير الإمام الصادق (علیه السلام) – (حجّتي عليكم وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا)، إن عامة الناس يقودها الهوى وتسوقها العاطفة وعقلها العلماء المخلصون، فإن قدمّوهم أفلحوا، وإن تخلّفوا عنهم أو أملوا عليهم إرادتهم وأرغموا علماءهم على أن يسيروا وفق أهوائهم ضلوا، فالعلماء عقل الأمة المفكر، والخطباء وطلبة العلم عيونها، والمجتمع هو اليد، واليد تنفّذ وتُدافع وتساعد، وأي اختلال في توزيع الأدوار يؤدي إلى الفشل.

6-الوعظ وتهذيب النفوس وإرشاد القلوب وإحياؤها، ففي وصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): يا بني، (أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ)، وورد الحث الكثير على أن تجعل زادك الموعظة، فإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها في ذكر الموت وتلاوة القرآن، وتوجد كتب نافعة في الموعظة كنهج البلاغة، والكتب التي نقلت مواعظ اهل البيت (علیهم السلام)؛ كإرشاد القلوب للديلمي، وتحف العقول والخصال ومجموعة ورّام، فكم سيكون المجلس نافعاً لو كرسته لتتلو على الجالسين خطبة أمير المؤمنين في وصف المتقين، وتطلب منهم أن يطبق كل واحد منهم فقرات الخطبة على نفسه، ليرى كم من تلك الصفات متحققة فيه.

إن هذا الجانب من الجوانب المهمة التي خلت منها مجالس (الترف الفكري)، وقد كان السلف يهتمون بها، لذلك تجد القلوب عامرة بالإيمان، والأرواح تسمو في أفق الكمال، حتى ضاعت في المدارس الحديثة للخطابة، وصرت لا تسمع إلا آية فيها عدة بحوث، وفي كل بحث عدة أقوال، فيخرج

ص: 87

المستمع خالي الوفاض من أية فائدة روحية يفترض أن المنبر قد أسس لها إلا من ذكر أبي عبد الله (علیه السلام) الذي هو سر النجاح والبقاء والديمومة. 7-بيان الأحكام الشرعية والمسائل التي يكثر الابتلاء بها، وتصحيح العبادات والمعاملات التي لا توافق الشريعة، وتهذيب الواقع المعاش وفق القانون الإلهي.

8-الاستفادة من المادة التأريخية خصوصاً تاريخ صدر الإسلام، لأنه الأساس الذي نشأت من اختلاف أحداثه الفرق والمذاهب المتعددة، فلا بدَّ من دراسته وفحصه بعمق وتحقيق حتى يتبين الرشد من الغي ويعرف الحق لأهله ولإبراز الجوانب المشرقة فيه، والتحذير من اتباع الأمثلة السيئة.

ص: 88

الملكات النفسية والعقلية للخطيب:

النقطة السابعة: ومن مقومات شخصية الخطيب بعض الملكات النفسية والعقلية ومنها:

1-الثقافة الواسعة والاطلاع العريض على مختلف حقول المعرفة من تاريخ وأدب وعلوم عصرية وتفسير وسِيَر، إضافة إلى العلوم الحوزوية وسائر ما يتربط بمهمته، وأن تكون معلوماته دقيقة ومأخوذة من المصادر الموثوقة، ولو بأن يتعب نفسه في تحقيقها، وأن يكون مستحضراً لمعلوماته حتى لا تخونه الذاكرة.

2-الإحساس المرهف والنظرة الصائبة لما يدور في المجتمع وتعانيه الأمة، وتشخيص مشكلاتها وتلمّس العلاج لها.

3-الشجاعة والجرأة والحزم حتى لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يخشى في الحق شيئاً.

4-سعة الصدر فإنه آلة الرئاسة، ليستطيع استيعاب الناس بمختلف مستوياتهم واتجاهاتهم، وقد أُمرنا بمداراة الناس، وينبغي أن يتنازل عن أنانيته ويتمتع بنفس كبيرة فيتقبل النقد والتوجيه.

5-الإخلاص والصدق فيما يلقيه، فإن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلوب ويؤثر في المستمعين، وما يخرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، ولأمير المؤمنين (علیه السلام) قول في نهج البلاغة بهذا المضمون: (إني ما دعوتكم إلى طاعة إلا كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية إلا وكنت أول من يجتنبها)، فعلى الخطباء أن يكونوا أمثلة تطبيق لما يقولون [يَا أَيُّهَا

ص: 89

الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ](الصف:2-3).6-جودة الحفظ؛ فإن المجلس أو الخطبة التي يلقيها تتطلب تعزيز الأفكار بالشواهد من الآيات الشريفة والأحاديث والشعر النافع المؤثر.

7-حسن الصوت وفصاحة اللسان وعذوبة البيان، ويمكن تحسينها كسائر الملكات بالممارسة المستمرة والاطلاع على النصوص الكثيرة وحفظها والتطبع بها.

8-معرفة ما يناسب الحال وعدم تجاوزه، فلكل مقام مقال، وأن تكون له المهارة في التقلّب بين التصريح والتلميح، ويتطلب ذلك ذكاءً شديداً وفراسة صائبة وبديهية سريعة يعالج بها المواقف المفاجئة.

9-التنزه عن متاع الدنيا الرخيص، وعلو الهمّة والرغبة بما عند الله سبحانه؛ فإن النظر إلى ما في أيدي الناس والسعي إلى تحصيل المال ينافي الإخلاص أولاً، ويضعف من تأثير الخطباء في النفوس.

10-إجادة طرق الرثاء وحفظ المرثيات المشهورة حتى يتفاعل الجمهور معها، وتؤثر فيه مباشرة، لذا تجد تجاوب المستمعين ضعيفاً مع ما لم تألفه أذهانهم.

11-المحافظة على وحدة الموضوع مهما جرّته بعيداً التفريعات والاستطرادات، ويستعين على ذلك بإعداد الموضوع مسبقاً، وتثبيت رؤوس أفكاره وخطوطه العامة في ورقة صغيرة يراجعها ويستحضر بها تفاصيل مجلسه.

ص: 90

12-ضبط قواعد اللغة العربية؛ فان الإساءة في تطبيقها يؤدي إلى اشمئزاز المستمعين ونفور نفوسهم عن الاستماع، مما يضيع جهده.

13-تدقيق الآيات الكريمة وضبط نصوصها قبل الاستشهاد بها، فإن الخطأ فيها يعدُّ ذنباً كبيراً.

تحييد المنبر:

النقطة الثامنة: (تحييد المنبر) وعدم اتخاذه واجهة لأية جهة دينية أو اجتماعية، ابتداءً من أعلى جهة وهي المرجعية، وانتهاءً بما دونها، وجعله معبراً عن المذهب كله وموصلاً لصوت الحوزة جميعاً، فإن من شأن انحيازه إلى شخص ما أو جهة أن يحّجم دوره فيصبح مقتصراً على فئة معينة مضافاً إلى ما يحدثه من تذويب للأهداف الرئيسية العامة في مصالح شخصية خاصة، بل يؤدي إلى التشتت وجرّ الفئات الأخرى إلى معارضته والعمل على إفشاله لانه يرى انه يصبّ في مصلحة غيره، فالنجاة من هذه السلبيات بالارتقاء بأهدافه فوق الأنانية والأهواء الشخصية والولاءات الهامشية.

عدم التعرض إلى ما يؤدي إلى القضاء على المنبر:

النقطة التاسعة: تجنيب وإبعاد –ليس المنبر فقط- وإنما الحوزة كلها عن كل ما يؤدي إلى الإضرار به أو القضاء عليه وتحجيم دوره وعدم إعطاء الذريعة والمبرر لتعطيله كالتعرض التفصيلي إلى السياسة فإن مثل هذه التصرفات تكون تهوّراً وإضراراً بلا نفع ويتحمل تبعتها من يشعل فتيلها ولا ينبغي لعاقل أن تقوده العاطفة وتسيّره الأهواء ولا يفعل إلا ما يراه حجة بينه

ص: 91

وبين ربّه.

كيفية إعداد الخطبة:

النقطة العاشرة: إن إعداد الخطبة لا يقلّ أهمية عن كتابة أي بحث يتناول موضوعاً معيناً أو يعالج مشكلة، فلا بدّ أن تتوفر في الخطيب القدرة على الكتابة والتأليف وعرض الأفكار بشكل متكامل، ويتطلب ذلك ممارسة طويلة وجهداً مضنياً وبحثاً واسعاً.

وأول خطوة تكون بتحضير عنوان الموضوع الذي يريد أن يتناوله، ولا بدَّ أن يندرج ضمن المحاور التي تقدم ذكرها، وأن يكون من الواقع المعاش، ثم يفحص عمّا يخصه في كتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته، ثم يجمع آراء المفسرين والكتاب والعلماء في هذا الموضوع، ويستخلص من الجميع مادة الخطبة كأي بحث يكتب، ويعزّزه بالشواهد والأحداث التأريخية والأدب العربي والقصص الهادفة، ومن خلال ذلك يتلّمس آية كريمة يجعلها عنوان بحثه ومفتتح مجلسه، وبقصيدة من الأدب الرفيع الذي يتذوقه الجمهور إن كانت المناسبة تخص ذكريات أهل البيت (علیهم السلام) أو خطبة مناسبة من نهج البلاغة أو كلمة مأثورة، ثم يبدأ بإلقاء البحث حتى يخلص إلى مصاب أبي عبد الله (علیه السلام) بحسب ما أوتي من مقدرة وفن.

ومن الغريب ما ذكره بعضهم أن تبدأ حين إعداد الخطبة بتعيين الآية ثم تفتش عن تفسيرها والأقوال فيها إلى آخر ما قال، وكأن المقام درس تفسير حيث اتّخذ الآية غاية وهدفاً، والمفروض جعلها وسيلة لتعزيز الفكرة، إن هذا

ص: 92

كلام مَن يسير على غير هدى وليس له وضوح في الهدف.

نصائح عامة:

1-لا ينبغي للخطيب أن يشترط الأجرة لعدة أمور:

أ. إن قصد تحصيل المال ينافي الإخلاص، ومن المؤسف أن يرتضي الإنسان هذا الثمن البخس عوضاً عن العطاء الإلهي الذي لا حدود له.

ب. إن ذلك يصغره في عين المجتمع، فلا يقبل منه، وتنعدم فائدته؛ لأنه في نظرهم أجير يعمل بأجرته، وليس داعياً إلى الله ومرشداً إلى دينه.

ج_. إن الطمع بما في أيدي الناس يصدّه عن بيان الحق ويدفعه إلى مجاملتهم والمداهنة على حساب الحق، فيعمل على إرضاءهم لا رضا الله سبحانه، وكفى بذلك خسراناً مبيناً.

وقد يحرم أخذ الأجرة إذا كان ما يؤديه واجباً، كبيان الأحكام الشرعية وتعليم الجاهل، وإذا أردنا أن نتوسع في الحكم فسنقول بالحرمة مطلقاً، لأن جميع ما يبيّنه يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان، وهذا الحكم على المستوى الأخلاقي أكيد، وإن لم يكن كذلك على المستوى الشرعي.

2-عدم تكثير المجالس، لأنها ستؤثر سلباً على عطائه وتمنعه من تطوير الملكات والقابليات، وتبقيه في دائرة اجترار القديم، وهو نقص طبعاً، وإذا كان عذره سد احتياجاته المادية فقد تقدم بعض الحلول لهذه المشكلة،

ص: 93

وهي رعاية الخطباء من قبل المرجعية باعتبارهم من أفراد الحوزة الشريفة، وتوفر حظوظهم كبقية طلبة العلوم الدينية. 3- عدم تصدّي إمام الجماعة لخطابة بأجرة في المكان الذي يؤمّ الناس فيه، لأن أخذ الأجرة يجعل يده (السفلى)، والمفروض فيه كإمام جماعة أن تكون يده (العليا).

4- الجدّ والاجتهاد ومواصلة الدراسة والبحث سواء على مستوى الدروس الحوزوية أو العلوم المكمّلة لشخصيته، ولا يضيع وقته في أمور غير هادفة.

محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

12-14/ ذو الحجة/1420

ص: 94

شكوى القرآن

اشارة

شكوى القرآن(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسان خَذُولاً، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً.

(سورة الفرقان: 25 - 33)

ص: 95


1- سلسلة محاضرات ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول العام الدراسي الجديد على طلبة الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف بدأت بتأريخ السبت 19/محرم /1422ه_ الموافق 14/ 4/ 2001م.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيرا.

[رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي] (طه:25-28)

الافتتاح

اعتاد الناس افتتاح الندوات والمؤتمرات واللقاءات وبرامج الإذاعة والتلفزيون بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تبركاً بها وتعظيماً لها وقد جرى على ذلك حتى غير المسلمين مما يدلُّ على هيبة هذا الكتاب الكريم حتى في قلوب أعدائه، فما أحرانا نحن طلبة الحوزة الشريفة أن نفتتح دروسنا بالقرآن الكريم وينبغي أن يكون افتتاحاً واعياً متفاعلاً مع روح القرآن ومضامينه ومعانيه وليس افتتاحا شكليا وكأنه مجرد نشيد وترنيمه أو عوذة وتميمة.

شكوى القرآن

وقد اخترت أن أبدأ من الحديث الشريف المروي في الكافي والخصال عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله وعالم بين جهّال ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه)(1)

ص: 96


1- الكافي: كتاب فضل القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، ح3. الخصال: 1/ 142 أبواب الثلاثة.

وأوضح مصاديق العالم هم أهل البيت (علیهم السلام) وخصوصاً الإمام الفعلي القائم بالأمر (أرواحنا له الفداء) فالثلاثة الذين يشكون هم القرآن والعترة والمسجد ويدل عليه ما ورد في حديث آخر عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف يا ربّ حرّفوني ومزقّوني، ويقول المسجد: يا رب عطلّوني وضيعّوني وتقول العترة يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عز وجل لي: أنا أولى بذلك منك)(1).ونستفيد من هذا الحديث أكثر من أمر:

الأول: إن أسس بناء الأمة المسلمة ومقومات كيان المجتمع المسلم هي هذه الأركان الثلاثة، لذا تم التركيز عليها، والحديث على هذا يكون بمعنى حديث الثقلين المشهور: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)(2). والثقلان هما اثنان من هذه الثلاثة، أما الثالث وهو المسجد فهو المحل الذي يمارس الثقلان من خلاله دورهما في المجتمع ويرتبطان في أجوائه المقدسة بالأمة.

الثاني: الإشعار بأن الأمة ستعرض عن هذه الثلاثة وستخلفها وراء ظهورها لذلك أخبر (صلی الله علیه و آله) عن الشكوى كحقيقة واقعة وهو (صلی الله علیه و آله) يحذر الأمة مني.

ص: 97


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 5، حديث2.
2- روي في كتب العامة والخاصة، وللمزيد راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.

هذا التضييع ويبالغ في العقوبة عليه حتى كأنَّ الله تبارك وتعالى هو الخصم المطالب بحقها وهو الحكم العدل.وما دامت هذه الثلاثة هي أسس كيان المسلمين فتضييعها يعني زوال هذا الكيان وفناءَه لذا كان لزاماً علينا أن نفرد كل واحد منها ببحث خاص لبيان أثره في حياة الأمة وعظيم خسارتها بالإعراض عنه، وأساليب تفعيل دوره في حياة المسلمين.

وأرى من واجبي أن أنصب نفسي (مدعياً عاماً) كما يعبرون اليوم لأرفع هذه الشكاوى الثلاث وأبدأ برفع شكوى ثقل الله الأكبر: القرآن الكريم وهو الحبل الممدود من الله تبارك وتعالى إلى عباده، هذه الشكوى التي يرفعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة: [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا] (الفرقان: 30) وحذّر المسلمين من هذا الخطر حين عرض عليهم سبب انحراف الأمم السابقة وهو ترك ما أنزل الله إليهم، قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ](المائدة:8). فمن تمسك به فقد سلك الطريق الموصل إلى الله ومن أعرض عنه هلك وهوى.

ومنشأ هذه الشكوى إعراض مجتمعنا المسلم حتى الملتزمين(1) منهم عنمه

ص: 98


1- استقرأت عدداً من العينات العشوائية وكانوا من الطلبة المتقدّمين للقبول في الحوزة الشريفة لاستبيان علاقتهم بالقرآن والمفروض أنهم يمثلون درجة من الوعي والإيمان الذي دفعهم لاختيار هذا المسلك فوجدت أن بعضهم لم يختم القرآن ولا مرة وآخر -وهو متصدي للمنبر - ختمه

تلاوة القرآن والاهتمام به وتدبر آياته فضلاً عن إعطائه دور الريادة والإمامة في الحياة ليكون هو النبراس والدليل الذي يهتدي به المهتدون في جميع تفاصيل الحياة، حتى عاد منسياً عندهم ولا يذكرونه إلا قليلا في شهر رمضان المبارك، ونحن نحث على زيادة الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر المبارك للعلاقة الحميمة بينهما، حتى ورد في الحديث: (إن لكل شيء ربيعاً وربيع القرآن شهر رمضان)(1) لكن هذا لا يعني إهماله أو قلة التعرض له في غيره من الشهور.

البعد عن القرآن سبب انحطاط المسلمين

إن اختيار الحديث عن هذه الشكوى لم يأت اعتباطاً وليس هو من الترف الفكري بل هو ناشئ عن بصيرة نافذة ونظر ثاقب في تحليل واقع المسلمين وما تردت إليه أوضاعهم حتى صاروا يهدون مقتلهم على طبق من ذهب إلى أعدائهم الذين هم إبليس والنفس الأمارة بالسوء وصنيعتها الغرب الكافر الذي جهد على أن يفصل بين المسلمين وعنوان عزهم وشرفهم وكرامتهم وهو القرآن وها هو غريب بينهم، لذا ثارت في قلبي شجون.

إن أسباب انحطاط الأمة وما آلت إليه من ضعف وانحلال هو إعراضها وعدم تمسكها بحبل الله تبارك وتعالى الذي أمرهم بالاعتصام به فقال عز من قائل:[وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران: 103)، وقد بين رسول

ص: 99


1- معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص228.

الله (صلی الله علیه و آله) هذا الحبل فقال (صلی الله علیه و آله): (وإني مخلف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم . . . الحديث)(1).

ما تمسك بالقرآن مَن أعرض عن العترة الطاهرة

ولكن الأمة تركت كتاب الله وابتعدت عنه منذ أن أقصت العترة الطاهرة عن مكانها الذي اختارهم الله سبحانه له لعدم إمكان الفصل بينهما معرضين عن قوله تعالى:[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](القصص:68).

ومن خطل القول وتسويلات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء أن يقول قائل (حسبنا كتاب الله) التي لا يزال يكررها وينفثها الشيطان على لسان من يريد أن يقوض بناء الإسلام من أسسه بما فيها القرآن الذي يدعي أنه حسبه لأنه يعلم أن القرآن إنما يكتسب فاعليته ويؤدي دوره بالقائم به الواعي لأحكامه ومفاهيمه وهم العترة.

وهذه الفتنة –الفصل بين القرآن والناطق به - قديمة وممن ابتلي بها أمير المؤمنين حينما أجبر على التحكيم وعلى أن يجعل القرآن حكماً، قال (علیه السلام): (هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال)(2) فالكتاب والعترة صنوان لا يفترقان ولا

ص: 100


1- بحار الأنوار: 92/ 102.
2- نهج البلاغة: الخطبة 125.

يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر فإن أهل البيت (علیهم السلام) هم باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وقد أمرنا بإتيان البيوت من أبوابها.فما يزعمه غيرنا من اهتمامه بالقرآن أكثر منا باطل جزماً، نعم، اهتموا بمخارج حروفه وتحسين الصوت إلى حد الغناء بقراءته وضبط قواعد التجويد التي وضعوها هم وبعضها مخالف للحكم الشرعي، وهذه كلها اهتمامات قشرية والمهم هو استيعاب المحتوى والمضمون والعمل به فإن اللفظ هو قشر والمعنى هو اللب والمتكلم لا يلحظ اللفظ بنفسه بل يتخذه وعاءً للمعنى وآلة لإيصاله إلى المخاطب والمعنى هو المراد الحقيقي للمتكلم.

وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم المتشدقين بألفاظ القرآن وحروفه المضيعين لمعاني القرآن وحدوده ففي الحديث المشهور (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)(1) وهو خصمه لأنه غير عامل بما فيه وفي حديث عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فرشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء-أي ينصرهم على الأعداء- وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله هؤلاء قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر)(2). وفي حديث عن2.

ص: 101


1- مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب7، حديث 7.
2- الخصال: 142.

الإمام الحسن (علیه السلام): (وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه)(1).فيبدو من هذا أن خطّة الفصل بين الكتاب والعترة وبالتالي تفريغ الكتاب من محتواه ومضمونه والتشجيع على الاهتمام بألفاظه فقط قديمة، وقد نبه إليها المعصومون (علیهم السلام) فأي اهتمام بالقرآن وهو يقرأ قوله تعالى:[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ] (القصص:68) ثم يعرضون عمن اختارهم الله تبارك وتعالى ويقدمون غيرهم وقد جعل الله تعالى هذا الأمر كله في كفة ورسالة الإسلام كلها في كفة أخرى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](المائدة:67).

وأي اتباع للقرآن الذي يقول برفيع صوته [قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى](الشورى:23) وهم ينصبون العداء لأهل بيت النبوة ويتتبعونهم تحت كل حجر ومدر ولو كان لهم أدنى فهم لكتاب الله لضموا هذه الآية إلى قوله تعالى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً](الفرقان:57) ليحصلوا على حقيقة أن أهل البيت هم السبيل الذي أمر الله تعالى باتباعه بقوله [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](الأنعام:153) وبه فسر الإمام الباقر (علیه السلام) الآية فقال (علیه السلام): (نحن السبيل فمن أبى هذه السبل فقد كفر)(2).

ولا أقول أن كلمة (حسبنا كتاب الله) والأبواق التابعة لها التي ترددها إلىم.

ص: 102


1- إرشاد القلوب: 79.
2- بحار الأنوار: 24/ 13، باب: أنهم عليهم السلام السبيل والصراط وهم وشيعتهم.

الآن وتطلب الدليل من القرآن فقط على أي شيء يقال لهم هي كلمة حق يراد بها باطل بل هي كلمة باطل يراد بها باطل وهؤلاء إنما يريدون بذلك هدم أسس الإسلام لأن الاكتفاء بالقرآن –كما يزعمون - يعني استغناءهم حتى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يعني الجهل بكل تفصيلات الشريعة، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين من آله هم القائمون على أمر الكتاب والمبينون لأحكامه. وهذه العلوم كلها بين يديك هل تستطيع أن تكون طبيباً أو مهندساً من دون أخذه على يد المتخصصين العارفين بأسراره وفك رموزه؟ فكيف بالقرآن الذي هو :[تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ](النحل: 89) و[مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ](الأنعام:38) وفيه صلاح البشرية جميعاً ولكل الأزمنة [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (الصافات:154) وقد نبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى هذا الخطر بقوله: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)(1).

ولكن أعداء الله سبحانه وأتباع الشيطان علموا أن القرآن هو حصن هذه الأمة الحامي لها من الزيغ والانحراف، وأن أهل البيت (علیهم السلام) هم القيّمون عليه فخططوا لإبعادهم عن الأمة فبقيت الأمة بلا راع والحصن بلا حام، وأصبحت فريسة سهلة بيد الأعداء والمتربصين بها السوء، وها أنت تراها تتزعزع لأبسط شبهة وتسقط في أول فتنة وتنهار بأول اختبار ((وهذه أعظم ثلمة انثلم بها علمة.

ص: 103


1- الميزان في تفسير القرآن: ج3 في البحث الروائي للآيات 28-32 من سورة آل عمران، نقله عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان وغيرهم من رواة العامة.

القرآن وطريق التفكر والتفكير الذي يندب إليه، ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (علیهم السلام) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً: أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (علیه السلام) شيئا يذكر وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوه عنه (علیه السلام) -إن أُحصي - مائة رواية في تمام القرآن، وأما الحسن (علیه السلام) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشراً، وأما الحسين (علیه السلام) فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (ذكره السيوطي في الإتقان) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً))(1).فماذا كانت خسارة القرآن بإبعاد أهل البيت (علیهم السلام) عن ممارسة دورهم الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له:

1 - غياب الكثير من العلوم الحقيقية التي لا يفهمها من الكتاب إلا هم (علیهم السلام).

2 - تراجع القرآن عن ممارسة دوره في إصلاح النفس والمجتمع لأنه والعترة صنوان لا يفترقان ولا يستطيع أن يكون فاعلاً في حياة الأمة إلا بأيديهم .

3 - وقوع القرآن فريسة بأيدي المتلاعبين وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية بل والأعداء أيضاً، فترى كلاً منهم يجد دليلاً على معتقده في كتاب الله حتى الخوارج كانوا يستدلون بالقرآن كما حصل بعد التحكيمة.

ص: 104


1- الميزان في تفسير القرآن: ج5/ بحث تأريخي في ذيل الآيات 15-19 من سورة المائدة.

بينهم وبين ابن عباس فنهاه علي (علیه السلام) عن الاحتجاج بالقرآن لأنه (حمّال ذو وجوه)(1) وراحت معانيه الحقيقية ضحية التأويلات التي حذر القرآن من اتباعها: [فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ]، لكن الجواب واضح وأعطاه القرآن مقدماً :[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ] (آل عمران:7)، وأوضح مصاديق الراسخين في العلم هم أهل البيت (علیهم السلام).

4 - تشتت الأمة وضياعها وتمزيقها لأن عصمتها ومحور تجمعها القرآن وأهل البيت بحسب تفسير رسول الله (صلی الله علیه و آله) لقوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران:103)، فقال (صلی الله علیه و آله): إنهم الكتاب والعترة، وقد عبرت الزهراء (علیها السلام) عن هذه العصمة في خطبتها في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله): (وجعل إمامتنا نظاما للملة)(2) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر، فكانت نتيجة ابتعادهم عن أهل البيت فناءهم بيد المتسلطين وعبدة الأهواء الذين استغلوا نفس هذا القرآن ليهلكوا الحرث والنسل وكان من (وعاظ السلاطين) والسائرين في ركابهم من يبرر لهم هذه الأفعال المنكرة، كقوله تعالى: [أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء:59)، فجعلوا أولئك الكفرة الفسقة أولياء لأمور المسلمين.0.

ص: 105


1- بحار الأنوار: 2/ 245.
2- كشف الغمة: 2/ 110.

الوصية بحفظ القرآن

فلا تغرنكم دعوى هؤلاء بأنهم ملتزمون بالقرآن أكثر منا(1) واحفظوا القرآن لأنه أهل للحفظ والعمل به وكونوا كما أوصاكم أمير المؤمنين (علیه السلام) قبيل استشهاده: (الله الله بالقرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)(2)، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين في العمل بأربعين حديثاً قال (صلی الله علیه و آله): (وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه)(3).

القرآن طريق الوصول إلى المعرفة بالله تبارك وتعالى

فمن أراد الله سبحانه وطلب الوصول إليه لأن أول الدين معرفته تبارك وتعالى فعليه بالقرآن فقد (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون)(4)، كما هو مروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) ومن أراد إصلاح نفسه وتهذيبها وتخليصها من أمراضها فعليه بالقرآن، ومن أراد إصلاح مجتمعه وإقامة أمره على السلام والسعادة والطمأنينة فعليه بالقرآن فإنه الدليل لكل هدى والمرشد لكل خير وصلاح.

ومن العجب أنك حين يعطل جهاز تذهب إلى الجهة المصنّعة له لكي تصلحه فإن صانع الشيء خبير به، وإذا مرضت –لا سمح الله - فتذهب إلى

ص: 106


1- وقد أكدت على هذه النقطة لانخداع كثير من السذج بهذه الدعوى وراحوا يصدقونهم بعدم الإيمان بشيء إلا إذا وجد دليل عليه من القرآن وإسقاط الاستدلال بالسنة من الحساب.
2- بحار الأنوار: 42/ 256.
3- الخصال: أبواب الأربعين، حديث 19.
4- عوالي اللآلي: 4/ 116.

الطبيب المختص لكي يعالج المرض، ثم عندما تريد أن تصلح النفس الإنسانية ذات الأسرار الغامضة الخافية عن صاحبها فضلاً عن غيره، أو أن تضع نظاماً يكفل للبشرية سعادتها وإصلاحها تلتمس العلاج عند نفس البشر الناقصين العاجزين القاصرين. ولا تذهب إلى صانع هذا الإنسان وخالقه ومصوره والعارف بالنفس البشرية.وقد صدَّقت ذلك – أي فاعلية القرآن في إصلاح النفس والمجتمع- التجربة العظيمة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن مقارنة بسيطة بين مجتمع ما قبل الإسلام وما بعده والنقلة الضخمة التي حصلت للأمة من أناس همج جهلة متشتتين قد تفشت بينهم الرذائل يتفاخرون بالمنكرات والقبائح إلى أمة متحضرة كريمة الأخلاق ذات نظام لم ولن تعرف البشرية البعيدة عن الله سبحانه مثله وبفترة قصيرة وكل ذلك ببركة هذا الكتاب الكريم وحامله العظيم.

حاجتنا إلى إعادة القرآن إلى الحياة

فنحن إذن بحاجة إلى إعادة فاعلية القرآن في حياة المسلمين وإخراجه من عزلته بحيث اقتصر وجوده على المآتم التي تعقد للموتى والعوذ والأحراز .

وقد ورد في بعض الكلمات (إن آخر هذه الأمة لا ينصلح إلا بما صلح به أولها)، وقد صلح أولها بالقرآن فإذا أرادت الأمة أن تستعيد عافيتها وتعود إلى رشدها فعليها بالقرآن، عن المقداد (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال في حديث: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن

ص: 107

جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض خطبه: (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفعوه من أدوائكم واستعينوا به على لأواءكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله عز وجل به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وماحل ومصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنه ينادي مناد يوم القيامة: (ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن)، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم).

اهتمام النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقرآن

ولقد بلغ اهتمام أهل البيت (علیهم السلام) بالقرآن أقصاه حتى قال الإمام السجاد (علیه السلام): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن

ص: 108

معي)(1).لقد أُمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتلاوة القرآن: [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] (المزمل:4) وأمره تبارك وتعالى بالاستعداد لتحمله بالالتزام بنافلة الليل فقال تعالى: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] (المزمل:5-6) ولم يكتف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتلاوته بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه فيعتذر إليه (صلی الله علیه و آله) ويقول له: (إنه نزل عليك يا رسول الله وتريد أن تسمعه مني. فيقول (صلی الله علیه و آله): أحب أن أسمعه منك. فيقرأ عبد الله وعينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) تفيض من الدمع). يريد بذلك أن يمتع جميع جوارحه بالقرآن عينه وأذنه وقلبه ولسانه وهو يعلم أن لكل جارحة طريقتها في اكتساب المعرفة فأراد - وهو أكمل الخلق - أن تتكامل لديه كل أسبابها، وقد ورد حديث معناه أن من فقد حساً - أي أحد حواسه الخمس - فقد فَقَد علماً، فيريد أن يستفيد من معارف القرآن عن طريق جميع جوارحه، لذا ورد استحباب أن يقرأ القرآن بصوت مسموع. هذا غير ما ورد في فضل وثواب الإنصات إلى القرآن والنظر في المصحف وإن كان يحفظ ما يقرأ حتى لو كان في الصلاة، مما سيأتي إن شاء الله تعالى في مجموعة الأحاديث الشريفة.

وكان (صلی الله علیه و آله) يتفاعل مع القرآن، قرأ (صلی الله علیه و آله) سورة الرحمن على المسلمين وهم منصتون له فقال (صلی الله علیه و آله): لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً منكم، قالوا وكيف يا رسول الله؟ قال (صلی الله علیه و آله): كانوا كلما قرأت: [فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] يقولون هم: لا بشيء من آلائك ربنا نكذّب، وإذا قرأ قوله2.

ص: 109


1- الكافي: 2 /602.

تعالى: [أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى] يقول (صلی الله علیه و آله): بلى سبحانك اللهم، لأنه كان يسمع من الله تبارك وتعالى مباشرة من خلال السطور. وسيأتي أن الإمام الكاظم (علیه السلام) كان يقرأ وكأنه يخاطب إنساناً، قرأ رسول الله (صلی الله علیه و آله) سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة فلما وصل إلى قوله تعالى:[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً](الزمر:71) وقوله تعالى:[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً](الزمر:73) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه، وقرأ (صلی الله علیه و آله) سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة، فهؤلاء ممن وصفتهم الآية الشريفة :[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ](البقرة:121).

دواعي الاهتمام بالقرآن

وقد ظهر مما سبق أكثر من محفز للاهتمام بالقرآن الكريم ألخصها مع نقاط جديدة غير ما سمعته إن شاء الله تعالى في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:

1 - إنه العلاج الناجح والكامل لأمراض البشر النفسية والاجتماعية والروحية بل والجسدية أيضاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الشريفة.

2 - عدم استغناء طالب الكمال والسعادة الأبدية - وهو الهدف الأسمى وغاية الغايات - في الدنيا والآخرة عنه والاهتداء بهديه والأخذ بسبيله، ويزداد سمو الإنسان وتكامله كلما ازدادت استفادته من القرآن.

ص: 110

3 - إن في الاهتمام به تأسياً برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبأهل بيته الكرام وقد أمرنا بذلك في قوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21).

4 - إن القرآن هو رسالة الحبيب المطلق والإنسان لا يمل من إعادة قراءة رسالة حبيبه وملء النظر منها والتدبر في معانيها والله تبارك وتعالى هو المحبوب الحقيقي لاجتماع أسباب المحبة فيه، فإن الحب إما أن يكون لكمال المحبوب وحسنه وقد اجتمعت صفات الكمال والأسماء الحسنى فيه تبارك وتعالى، أو يكون لأجل صدور الفضل والإحسان منه، والله هو المنعم المتفضل المنان ابتداءً من غير استحقاق وحتى للعاصين من عباده [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا](النحل:18)، وهكذا .وبهذا المعنى ورد في الحديث عن الصادق (علیه السلام) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية)(1).

5 - الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي لا حدود له الذي يعطي لقارئ القرآن والمتدبر في آياته مما سنقرأه إن شاء الله تعالى في الأحاديث الشريفة.

6 - إن القرآن لما كان كتاباً حياً خالداً لكل زمان ومكان فإن المواقف التي عالجها والمشاكل التي واجهها لا تختص بزمان دون زمان، فيستفاد من القرآن إذن الحلول الدائمية المستمرة للمواقف المتجددة، وسنعرض الكثير منها في طي البحث كفكرة المقارنة بين الجاهليتين الأولى والحديثة، وفي هذا المعنى ما ورد عن الحارث الأعور قال: (دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناساً9.

ص: 111


1- الكافي: 2/ 609.

يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله ص يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم..)(1).7 - تعلّم المعارف والعلوم وأسرارها المودَعة فيه، بحيث أن مثل أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي يصف علمه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن بأنه: ما علمي وعلم جميع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في علم علي (علیه السلام) إلا كقطرة في بحر، أقول مثل علي (علیه السلام) في علمه (قيل له: هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(2).

ففي هذا الكتاب من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الحكيمة ونكات البلاغة وحسن البيان ما يلبي كل حاجة، وفيه أسرار الخلق وعجائب المخلوقات داخل جسم الإنسان وفي الكون والطبيعة، وفيه ما لم تتوصل إليه عقول المكتشفين. ولا يعني هذا أن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو فلك أو طب حتى تنعكس عليه أخطاؤها ونقائصها، وإنما هون.

ص: 112


1- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.
2- ذكره في الميزان عن بعض المصادر:ج3، في تفسير الآيات 7-9 من آل عمران.

كتاب هداية وإصلاح يوظف كل الأدوات لتحقيق غرضه، وهذه العلوم كلها تصب في هذا الهدف ويأخذ منها مقدار ما يحقق غرضه.8 - براءة الذمة من شكوى القرآن إذا هجر، كما في الحديث الشريف المتقدم (ثلاثة يشكون . . .) وشكوى القرآن لا ترد عند الله تبارك وتعالى، كما في الحديث الشريف في وصفه أنه: (ماحِلٌ مصدَّق) أي أنه خصم مصدَق ويعطى الحق له ويدعم هذه الدعوى شكوى رسول الله (صلی الله علیه و آله) المذكورة في القرآن:[وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً] (الفرقان: 30).

9 - الفوز بشفاعة القرآن، فقد وصفه الحديث بأنه: (شافع مشفّع) وفي صفه شفاعته يقول الحديث: (وكان القرآن حجيزاً عنه - أي حاجزاً وساتراً عن قارئ القرآن - يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطائك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذين قال: فيُعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له: اقرأ آية فاصعد درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم)(1).

وغير هذه الفوائد كثير. وأنت ترى أن بعضها لا يختص بالمسلمين، لذا تجد إقبال المفكرين والعلماء والقادة على الأخذ من هذا القرآن وإن لم يكونوا مسلمين.4.

ص: 113


1- الكافي: 2/ 604.

وإلى هنا يكون ما ذكرت من المحفزات كافياً لأن يثير الإنسان ويحركه ويدفعه نحو احتضان هذا الكتاب الكريم المعطاء والاهتمام به حتى يخالط لحمه ودمه، وإني هنا ألُزم(1) كل من يرى لي حقاً عليه سواء كان أخلاقياً أو شرعياً أن يختم القرآن على الأقل في السنة مرتين. وهذا مقدار يسير جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شهر رمضان وحده يمكن أن يُقرأ فيه نصف هذا المقدار أو أكثر.وأهم مما ذكرت من المحفزات ما ورد في الأحاديث الشريفة التي اخترت لك منها مجموعة تتجاوز الأربعين حديثاً جرياً على سنة السلف الصالح الذين ألفّوا الكثير من كتب (الأربعون حديثاً) في شتى حقول المعرفة عسى أن يكونوا وأكون معهم من أهل هذا الحديث الشريف، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)(2).

القرآن يصف نفسه

ولكن الأهم من ذلك أن أتلو عليكم بعض الآيات التي وصف بها القرآن الكريم نفسه لنتعرف عليه، فإنه أعرف بذلك وهو كلام خير القائلين. ومن هذه الآيات تعرف جلالة قدر هذا الكتاب وعظمة آثاره وبركاته:

1 -[هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 138).

ص: 114


1- شكّل هذا الإلزام حافزاً قوياً لدى الكثيرين للعمل به، جزاهم الله خير جزاء المحسنين.
2- الخصال: 2/ 542 باب (الأربعون).

2 -[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ] (النساء: 105).

3 -[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] (النساء: 174-175).

4 - [قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 15-16).

5 -[وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم] (المائدة: 66).

6 -[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ] (المائدة: 68).

7 -[مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء] (الأنعام: 38).

8 -[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ َ] (الأنعام:92).

9 - [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الأعراف:204).

10 -[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] (يونس: 57).

11 - [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ] (الإسراء: 9).

ص: 115

12 -[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] (الزمر: 23).

13 -[وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] (فصلت: 41 - 42).

14 -[اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانٌَ] (الشورى: 17).

15 -[وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ] (الزخرف: 4).

16 __[وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف:36).

17 - [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] (الزخرف:43-44).

18 -[هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ] (الجاثية: 20).

19 -[أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24).

20 -[ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ] (ق: 1).

21 -[وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 40).

22 -[إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ] (الواقعة:77-79).

23 -[أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد: 16).

ص: 116

24 -[لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21).25 - [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 4 - 5).

26 -[بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ] (البروج: 21 - 22).

27 -[إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ] (الطارق: 13 - 14).

28 -[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ] (الكهف: 1 - 2).

29 -[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (النحل: 89).

30 -[وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124).

هذا بعض ما يتصف به القرآن من صفات وآثار حسنة فهو كتاب مبارك عزيز كريم مجيد وهو بيان وهدى وموعظة ورحمة وشفاء وذكر ونور نزل بالحق ليحكم بين الناس ويدخل المؤمنين في رحمة الله وفضله ويهديهم صراطاً مستقيماً وهو عليّ حكيم وبصائر للناس وقول ثقيل وفصل وما هو بالهزل، لذا فهو - أي حقائقه التي جُعِلت هذه الألفاظ وعاءاً لها وهي كالأمثلة لتقريب تلك الحقائق والمعاني العميقة إلى الأذهان - في كتاب مكنون ولوح محفوظ لا يمسه ولا يصل إلى فهم حقائقه الواقعية بشكل كامل إلا المطهرون من الذنوب والمعاصي والآثام وانجلت مرآة قلوبهم عن كل دنس فصارت تعكس بشكل كامل صفحة اللوح المحفوظ، أما غيرهم فليسوا جديرين بحمله

ص: 117

إلا بمقدار ما أوتوا من الكمال[أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا] (الرعد: 124).أمِرَ الناس بتدبرّه وترتيله والتمسك به والإنصات له ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فإن أقاموه وتمسكوا به أكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم وخشعت قلوبهم ولانت، وكانوا أهلاً للفيوضات الإلهية وإن أعرضوا عنه أصبحوا في عيشة ضنكى واعتورتهم الشياطين حتى تصبح قرناء لهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله وهذه القلوب البعيدة عن القرآن وذكر الله سبحانه صمّ جامدة لا تجري فيها ولا قطرة من أنهار المعرفة [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21).

شرح لبعض أوصاف القرآن

اشارة

ولكن هذا الشرح الإجمالي لصفات القرآن غير كافي، لذا أرى من الضروري تقديم شرح أكثر تفصيلاً لبعض هذه الصفات مما لها آثار اجتماعية أو أخلاقية تاركاً البعض الآخر إلى التفاسير المطولة في موارد الآيات التي ذكرتها، وإنما اذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرف على القرآن بل للتعرف على أهل البيت (علیهم السلام) لأنهم عدل الكتاب وهما صنوان لا يفترقان فإذا كان القرآن ينطق بالحق فإنهم مع الحق والحق معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وإذا كان الكتاب قيّماً ومهيمناً، فلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمتهم وقادتهم وأولى بهم من أنفسهم،

ص: 118

وهكذا:

مبارك

أي كثير البركة وهو كذلك من عدة جهات فهو مبارك في محل صدوره لأنه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضل المنان مفيض النعم التي لا حصر لها ولا عد، ومبارك في محل نزوله وهو قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) الرحيم الكريم الذي أُُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشرية وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة، ومبارك في حجمه فهو كتاب واحد إلا أن جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب فتجد الأصولي والفقيه والنحوي والأديب والمفكر والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلون بآياته ومع ذلك يبقى خالداً معطاءً وهذا دليل نزوله من الله فإن هذا كله مما لا يمكن لكتب عديدة أن تضمه وتحويه، وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنورت قلوبهم وعقولهم ببركته.

عزيز

أي يصعب مناله فإنه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلا أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديات والتي لا تسمو لتنال تلك الحقائق، نعم، يمسها ويصل إليها ويعيها المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم آل محمد (صلی الله علیه و آله) وقد سمعتَ أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: إننا لا نملك علماً أكثر

ص: 119

من فهم لهذا الكتاب، وهو عزيز بمعنى يندر وجود مثله وهو كذلك لأنه كلام من ليس كمثله شيء، وهو عزيز أي ممتنع عن أن ينال بسوء، فيكون بمعنى الآية الشريفة: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر:9)، وهو عزيز بمعنى أنه قاهر وغالب ومتسلط لأنه كلمة الله وكلمة الله هي العليا فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائماً التسلط والحاكمية على العباد والتصرف في شؤونهم، وهو عزيز بمعنى مطلوب كما قيل كل موجود مملول وكل مفقود مطلوب، وهذا الكتاب مطلوب لكل من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

مجيد

قال الراغب في المفردات: المجد: السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مَجدَتْ الإبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى:[إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ] (الواقعة: 77).

لسعة فيضه وكثرة جوده،وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.

قيَّماً

من القيمومة، فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيئ لهم كل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع، ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدم عليها وقائد لها وهي تابعة

ص: 120

وخاضعة ومحكومة له، فالقيمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشرية خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهدت الآية لهذه القيمومة بأن وصفته أنه لاعوج فيه ولا نقص ولا خلل ولا قصور، فقال تعالى:[وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا] (الكهف:1). فمن شروط القيمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملاً في نفسه فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا، ومن ضرورة القيمومة على البشر أن يتصدى لها من لا نقص فيه ولا خلل ولا قصور ولم يتحقق ذلك إلا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوة وكل ما سواهم لاحقّ له في إمامة المجتمع والقيمومة عليه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.[وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] (طه: 124). أي ضيّقة وهذه صفة كل من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيداً عن القرآن الكريم فإنه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حد فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همه وما له في الآخرة من نصيب، ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت، ويعيش التعب لأنه يلهث وراء سراب، فما يحقق شيئا يظن أن فيه سعادته حتى يكتشف أنه متوهم فيسعى إلى غيره،فمثلاً يظن أن سعادته في المال حتى جمع المليارات فما تحققت سعادته، فيظن أنها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقق سعادته، فيظن أنها في النساء فيستمتع بما شاء منهن ثم يجد

ص: 121

نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى: [فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي]، والقمر كناية عن المال فظن أنه ربه وكافل سعادته [فَلَمَّا أَفَلَ] وفشل في تحقيقها له [قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ]، [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً]، وهي كناية عن أمور دنيوية أخرى [قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ] وهذا الذي يحقق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنه [هَذَآ أَكْبَرُ].وأهم وأعظم تأثيراً [فَلَمَّا أَفَلَ] وفشل هذا الرب الجديد في تحقيق السعادة [قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ] وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، وعندئذ إن كان مخلصاً في البحث عن الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين: [قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (الأنعام: 76-79)، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (النور:39).

وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطفه في أية لحظة، وسندان الحرص والطمع [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] (البقرة:96)، وأنت ترى أن أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفهة اقتصادياً والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحي.

[قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]

ص: 122

(المائدة: 15-16)، فهو نور لأنه يشرق أولاً في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعداً لتجليات الحق فيه وهو نور للأمة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.ومن لطيف التعبير القرآني أنه جعل لفظ النور مفرداً والظلمات جمعاً لأن طريق الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت سبله ومصاديقه . قال تعالى:[اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ](الفاتحة:6)، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصد عن الله تبارك وتعالى كثيرة.

ومن آثار القرآن وبركاته أنه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السلام وأول سلام ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن[أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ](الرعد:28)، ثم السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](الروم:21)، ثم السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام [فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً](آل عمران: 103)،[مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ](الفتح:29)،[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ](الحشر:9).

قول ثقيل

والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنما يهذبها ويقومها ويقودها، وهو ثقيل

ص: 123

على العقل لما يتضمنه من أسرار ودقائق يصعب تحملها على العقول الجبارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار (صلی الله علیه و آله) شيبتني هود والواقعة لأن فيها فاستقم كما أمرت وهو (صلی الله علیه و آله) يعرف ثقل هذا الأمر.ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم، لذا تنقل كتب السير حالته (صلی الله علیه و آله) عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله: [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ](الحشر:21).

وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى: [المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ](الأعراف:1-2) لذلك أمر (صلی الله علیه و آله) بقيام الليل والتعلق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعداداً لتلقي هذا القول الثقيل والمسؤولية العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج، قال تعالى:[وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً](الإسراء:79).

موعظة وشفاء وهدى ورحمة

واًختصر هنا ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الآية(1):

ص: 124


1- الميزان: ج10/في تفسير الآيات من 57-70 من سورة يونس، والمقصود في المتن الآية 57 وهو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] .

قال الراغب في المفردات: الوعظ: زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل. هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والآخرة، وإنما عبر بالصدور لان الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.أقول: وتدل الأحاديث على أن القرآن شفاء حتى من الأمراض البدنية بل في بعضها أن سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن ذلك عجباً.

والرحمة تأثر خاص في القلب على مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.

أقول: هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.

وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية - أعني انه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة -، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بياناً جامعاً لعامة أثره الطيب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع

ص: 125

أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم(1) موعظة حسنة ينبههم بها من رقدة الغفلة، ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.

ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد الآخر حتى يأتي على آخرها.

ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.

ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.

فالقرآن واعظ شافٍ لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسطت.

ص: 126


1- وأنت ترى ذلك في السور المكية التي نزلت أولاً كالمدثر والمزمل فإنها ذات إيقاعات سريعة تستعمل حروفاً قوية فيكون تأثيرها بما يشبه الصعقة الكهربائية التي تستعمل لإيقاظ الغافل كما أن مضامينها يتركز على التذكير بالآخرة والموت وأهوال القيامة وعاقبة المكذبين وبيان سنن الله تعالى في الأمم ونحوها من الصعقات.

الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

الحياة في كنف القرآن

وقد جرّبتُ الحياة في كنف القرآن وعشت في رعايته سنين في ريعان الشباب كنت أختمه في السنة عشرين إلى خمس وعشرين مرة حتى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ بإمعان في تفسيرين مهمين أجلّهما وأعترف لهما بالفضل في تكوين شخصيتي العلمية والفكرية هما (الميزان) و (في ظلال القرآن) حتى أكملتهما ولخصت رؤوس أفكارهما حتى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.

فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟ سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته

ص: 127

متصلة بالله فلا يخشى ما سواه [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ](العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)(1).وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى](طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم [فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ](النحل:26-27).

وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن: [مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ](البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا [ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانك قال تعالى: [فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا](الطور: 48)،[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ0.

ص: 128


1- من لا يحضره الفقيه: 4/ 410.

يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] (التوبة: 120).وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.

وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ](الأحقاف: 9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى: [فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ](الحديد: 26)،[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ](المائدة: 105).

وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة

ص: 129

ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً](الإسراء: 70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)(1).وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](القمر: 49)، [وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ](الحجر:21)،[وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ](الأنبياء: 47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة [سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ](النساء: 26)،[وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ](الأنعام: 38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً](فاطر: 43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو [رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَِ](آل عمران: 191)، [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ](الذاريات: 56)،[لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ](الأنبياء: 17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل1.

ص: 130


1- الكافي: 2/ 609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ](فصلت: 30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى: [أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ](الرعد: 28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) .

ضرورة العودة إلى القرآن

أفبعد كل هذا نحتاج إلى ذكر المزيد من المحفزات للعودة إلى القرآن والحياة في كنفه وهل بقى من لا يعي فداحة الخسارة التي حلت بنا بسبب

ص: 131

ابتعادنا عن القرآن. إذن فلنرجع جميعاً إلى القرآن تائبين نادمين ملتمسين إياه أن يعود إلى إمامتنا وهدايتنا إلى الله تبارك وتعالى وعلينا أن نفكر في سبيل إلى إخراج هذا الكتاب الكريم من عزلته التي فرضناها نحن عليه وتفعيل دوره في الحياة المجتمع.وقد تقول: إن مثل هذا حاصل من خلال ما نشاهده من كثرة حلقات تعليم القرآن وحفظه وتجويده وبيان قواعده ورسمه .

وأقول: مع احترامي لهذا كله إلا أن هذا اهتمام بالقشور والمهم هو اللب فإن اللفظ وعاء لإيصال المعنى وقشر لحفظ المعنى الذي هو اللب وآلة لنقل المعنى إلى الذهن فهل يكفي الاهتمام بالقشر وترك اللب؟ فالمطلوب هو إعادة القرآن بروحه ومضامينه ومعانيه وأفكاره ومفاهيمه، ولا شك أن الخطوة الأولى منه هي الاهتمام بتلاوته ومعرفة معاني ألفاظه وتطبيق القواعد العربية على مخارج حروفه.

مسؤولية الحوزة في إعادة القرآن

وأعتقد أن أول شريحة في المجتمع تقع عليها المسؤولية هي الحوزة الشريفة بطلبتها وفضلائها وخطبائها وعلمائها لأن صلاح المجتمع من صلاح الحوزة وفساده بفسادها والعياذ بالله، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومن هم؟ قال (صلی الله علیه و آله): الفقهاء والأمراء)(1).

ص: 132


1- الخصال: أبواب الاثنين، حديث 12.

وقد قلت في بعض كتبي(1) أنه من المؤسف حقاً غياب القرآن عن مناهج الدراسة الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى التعمق في القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به إلا لماماً عند الاستدلال على قاعدة نحوية أو مبحث أصولي أو مسألة فقهية، فأصبح مسرحاً للتدقيقات العقلية ولم يتخذ غذاءً للقلب والروح ودواءً للنفس، وربما يبلغ الحوزوي مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لم يحيَ حياة القرآن ولم يخُض تجربة التفاعل مع القرآن واستيعابه كرسالة إصلاح، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها لعدم وجود صلة روحية عميقة بينه وبين القرآن، ولو وجد فيه زاده وغذاءه الذي يغنيه عن غيره لما استطاع تركه، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، وربما لا يحسن بعضهم قراءته مضبوطةً بالشكل.ولما كانت رسالة الحوزة الشريفة التي تصدت لحملها هي إصلاح المجتمع وتقريبه إلى الله تبارك وتعالى فإن أول مهمة لهم هي فهم القرآن والسعي إلى تطبيقه فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره كما هو نص حديث الثقلين المشهور: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)(2).ه.

ص: 133


1- وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة (وقد تقدم في هذا المجلد).
2- تقدم ذكره.

جاهلية اليوم

إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة - وإن تسمى بعضهم بالإسلام - بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، إذ أنه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله سبحانه [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة:50)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال: [وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] (الأحزاب:33) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها.

بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسن بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وأمراضه الفتاكة كالأيدز ونحوه في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان منتشر بجميع أشكاله ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد إنصاف في العلاقات بين المجتمعات البشرية وهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين)، واتخاذ الأحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحل ويحلون ما حرم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعددت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط، بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً

ص: 134

ويصدون عن صراط الله المستقيم [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ](الأعراف:16-17)،[وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً](الأعراف:86)، وما أكثر هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان، وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.

ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم، وأريد بهذا البيان عدة أهداف:

1 - تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وإزالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن، وإعمال العقول فيه من دون الرجوع إليه.

2 - استيعاب الحاجة إلى القرآن إذا فهمنا أن البشرية عادت إلى جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى أن يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الإسلام الحقيقي.

3 - تعزيز فكرة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العلمي عليها إذ أن البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فإن القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في إنقاذها بل لابد له من حامل يجسده على أرض الواقع

ص: 135

كما رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به (صلی الله علیه و آله) ولا تجتمع هذه الأوصاف إلاّ في الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء)، وها هي إرهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود(1). وتفصيل الكلام في بحث خاص به (علیه السلام) .

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني

وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم (علیهم السلام) في تفسير قوله تعالى: [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) قال (علیه السلام): (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(2) هذه العبادة

ص: 136


1- لذا ورد في الخبر أنه (عليه السلام) يأتي بإسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لأنه (عليه السلام) لا يخرج عن دائرة إسلام وقرآن جده (صلى الله عليه وآله) وإنما يراد به أنه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.
2- الكافي: 1/ 53، باب (التقليد) حديث 1. وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله [كَلا لا تُطِعْهُ](العلق:19)، فكانت الطاعة لآلهة متعددة يومئذ:[مَا نَعْبُدُهُمْ - أي الأصنام - إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى](الزمر:3)، [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ](آل عمران:64)، [إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا](الأحزاب:67)، [فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ](هود:97)،[فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً](مريم:59)، [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ](البقرة:170)،[وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فإنه يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ](الحج: 3-4)، [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ](الفتح: 26). هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الأصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، إبليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](القصص: 50).

فهل اختلف حال الناس اليوم؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمي أنفسها متحضرة فإنها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها، ولكن هلم بنا إلى الخطب الأفضع إلى الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم

ص: 137

يسيرون في ركاب أولئك الكفار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدرون إليه من آلهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة، وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تبارك وتعالى، وما زالت الأعراف والتقاليد وسنن الآباء والأجداد تطاع أكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه الأعراف والتقاليد، ولسان حالهم يقول: (النار ولا العار) خلافا للإسلام الذي مثله الإمام الحسين (علیه السلام) في كربلاء بقوله: الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

وهذا واضح في السنينة العشائرية وغيرها، وهذه المرأة المسكينة تطيع المودة ودور الأزياء وما يقتضيه الأتيكت وما يصدره الغرب من ملابس وأدوات زينة وكماليات حتى لو كانت مخالفة للشريعة فهل. بقى من العبادة والطاعة والولاء شيء؟ هذا على مستوى الشرك الجلي، والقرآن يخبرنا أن هذه الآلهة كلها ستتبرأ من عبادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذ: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ](البقرة: 165-166).

ويصف هذه الآلهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله

ص: 138

تبارك وتعالى قال تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ](العنكبوت:41)، وقال تعالى:[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ](النور:39).وهذا بحث جدير بالاهتمام لأنه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وأنهم بعيدون عن التوحيد الخالص وأن طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الأصنام المتعددة. وليكن البحث بعنوان (أصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات إليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.

أما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة أعظم، وقلما تجد عملاً مخلصاً وإن ظن صاحبه ذلك، فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمنّ بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟

والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي أن الشريعة التي تنظم أمورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ] (المائدة:50)، فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن، ونحن نرى أن أكثر أفراد مجتمعنا منضوون تحت عشائر تحكمها سُنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى، وهذا كمثال ويمكن أن تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية أخرى لترى مصداق ذلك، وها أنت ترى أن دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين

ص: 139

وتشريعات و(آيديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فتراه كل يوم يغير مادة ويضيف فقرة ويلغي أخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق، وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقها جاهلية نحو قوله (علیه السلام): (من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية)(1).ففرعون الذي يقول: [مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى](غافر: 29)، ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون أنفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.

ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها وإليها أُشير بقوله تعالى: [يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ](آل عمران: 154)، فقد كانوا يعتقدون مثلاً أنه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فإنه ينجو من العقاب إذا قرب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسخه خطباء المنبر الحسيني في أذهانهم يعتقدون أنه مهما فعل من منكرات وكبائر فإن دمعة واحدة على الحسين (علیه السلام) تكفيه لدخول الجنة، انطلاقاً من الحديث الشريف: (من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة وجبت له الجنة)(2)، واستدلوا بقول الشاعر:

فإنَّ النار ليس تمس جسماً عليه غبار زوار الحسينِ

ونحن لا ننكر كرامة الحسين (علیه السلام) على الله تبارك وتعالى فهو يستحق هذا التكريم وأزيد: لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد1.

ص: 140


1- الرسائل العشرة: الشيخ الطوسي، صفحة 317.
2- كامل الزيارات: صفحة 201.

من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى](الأنبياء: 28)، وفي حديث الإمام الصادق (علیه السلام): (لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة)(1)، ومنافٍ للآية الشريفة: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](الزلزلة: 7 - 8)، إلا أن يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.وهذا الانحراف في الاعتقاد له أثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلة وعيهم بعد أن خدروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم إليها فتركوا العمل بالقرآن.

ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة، قال تعالى: [وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى](الأحزاب: 33)، والمجتمع اليوم قد فاق تلك الأمم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخر كل إمكانياتها المتطورة لترويجها، وكما كانت الجاهلية تبتكر الأساليب وتضع قوانين لإشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية، فمثلا سنّت قريش قراراً يقتضي حرمة طواف الطائف بالبيت بثيابه لأنه قد عصى الله بها وارتكب المآثم فيها فلا بد أن يطوف بملابس من آهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً.

وأولياء الشيطان اليوم سنّوا أساليب لإشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عما يجري في تلك الملاهي بل6.

ص: 141


1- بحار الأنوار: 76 / 136.

الملاهي أرحم لأنها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحيي صاحبها أن يلصق به عارها، أما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع. أترى أي ألعوبة أصبح هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء. وهكذا العناوين والأسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الأزياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه إلا من عصم الله، والهدف واحد هو أن تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لأنهم يرون أنفسهم فوق الآخرين وهم ما يسمون ب_(الحُمُس)، وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة ولعل أوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنهم لا يزوجون نساءَهم إلا لسيد مثلهم وقد تعنس بناتهم ويفوتهنّ الزواج ويحرمنَ من ممارسة حق مشروع لهنّ في التنعم بتكوين أسرة وليعشنَ سعادة الأمومة. كل ذلك بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فأين هذه التصورات من مبادئ القرآن: [خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء](النساء: 1)، ومن تعاليم رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)(1)، وإذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن شرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) بانتسابه للإسلام ولطاعة الله تعالى، وليس لأنه محمد بن عبد الله قال تعالى: [لَئِنْ أَشرَكتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ](1.

ص: 142


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح: أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، حديث1.

الزمر: 65)، [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ](الحاقة: 44 - 47)، ويقول هو (صلی الله علیه و آله): (ولو عصيت لهويتُ)(1) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (صلی الله علیه و آله) وهم يخالفون شريعته؟ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من إلهية حقيقية إلى شيطانية وهمية، فالقرآن يصرح: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات: 13)،[قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ](يونس: 58) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد[أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ](التكاثر: 1-2)، [وَقَالُوا نَحْنُ أكثر أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ](سبأ: 35)، وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا أحتاج إلى ذكر أمثلة، والآيتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة بين المقاييس: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ](آل عمران: 14 - 15). ويقول تعالى: [وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ] (سبأ: 37).

ومن الخصائص المشتركة للجاهليتين انتشار الرذائل الخلقية وأوضحها7.

ص: 143


1- بحار الأنوار: 22 / 467.

شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط قال تعالى: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ](العنكبوت: 29)،[وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] (الأعراف: 85)،[وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إذا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ](المطففين: 1-3)، بل يستهزئون من الإنسان النظيف [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82)، بحيث أن جعفر بن أبي طالب سجل اسمه في التأريخ على أنه ممن حرَّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية، ومن رذائل أخلاقهم أن القوي يأكل الضعيف وانعدام الأخلاق والمثل الإنسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية. وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً بكاملها وتهلك الحرث والنسل من أجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم، أما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة فهذا تخلف ورجعية، قال تعالى: [وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ] (آل عمران: 154)، فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الأمر من شيء.ومن أهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذر منه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون

ص: 144

ذلك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1). وهذا ما وصلت إليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم، وأوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة. قال تعالى: [وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ] (المائدة: 62 - 63)،[كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ](المائدة: 79-80).وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الإسلام وهي موالاة الذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واعملوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(2).

وبدون القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنين قيمة لا عند الله ولا عند رسوله بل ولا حتى عند أعدائهم، لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الأحناف).

ص: 145


1- الكافي: 5/ 59، باب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
2- نهج البلاغة: الخطبة (27).

الذين نبذوا عبادة الأصنام وتفرغوا لعبادة الله سبحانه، لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لأنهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ](آل عمران: 110)،[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40 - 41)،[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ] (آل عمران: 104)،[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](التوبة: 71)، وغيرهم كثير ولسنا هنا بصدد الاستقصاء فإن هذا البحث مبني على الإشارات فقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه ألف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.

ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والأساطير، فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم، والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرّافون والكهنة وراجت سوقهم، واليوم نرى إقبال الناس على قارئي الكف والرمل والأبراج والطريحة وأصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسذج.

ومن سمات الجاهلية الصد عن القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار

ص: 146

ملوكهم يتعقب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإذا قام (صلی الله علیه و آله) من مجلس جلس إليهم النضر وتحدث لهم ثم يقول: بالله أيّنا أحسن حديثاً قصصاً أنا أو محمد؟ وكانوا يصفون القرآن بأنه أساطير الأولين أو أحاديث اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً أو حديث يفترى، أو يصفقون بصوت عال عند تلاوته (صلی الله علیه و آله) للقرآن ليحولوا دون سماعه، ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ](فصلت: 26)، وقال تعالى: [وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ](القمر: 2)، وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الأوصاف بأنه من كلام محمد ويمثل نبوغاً إنسانياً وليس وحياً إلهياً، وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لما عجزوا واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا - بما أوتوا من خبث ومكر وخداع - إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحوّلوه إلى ما يشبه الأناشيد والأغاني التي يترنم بها المطربون ويعبر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحوّلوه إلى تعويذات يُعلقَّها على صدورهم أو في بيوتهم لا أزيد من ذلك. وهذا الأسلوب كما ترى أخطر من أسلوب النضر بن الحارث وأمثاله وأشد مكراً وأفتك أثراً.ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون: هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وإن قام الدليل والحجة على خلافها. وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار أن الشيء الذي تتوالى عليه أجيال من الآباء والأجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها. وقد كرر القرآن هذا المعنى كثيراً

ص: 147

بحيث نستطيع أن نفهم منه أن هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع الأنبياء. قال تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ] (البقرة: 170)،[إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ] (الصافات: 69 - 70)، [قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (الأعراف: 70)، [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ](الزخرف: 22 - 24)، فالآيتان الأخيرتان تدلان على أن هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد أن يحرر مجتمعه ويسعى لإصلاحه، لقوله تعالى:[وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك](الزخرف: 22-24)، وليست مختصة بالأنبياء وحدهم.وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك، والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبير أحد المفكرين الحوزويين.

ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منا تجاه صاحب العصر (أروحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء9.

ص: 148


1- كمال الدين وتمام النعمة: 409.

المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(1) والضلال عن الدين هو عين الجاهلية.وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الإمام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الإمام (علیه السلام) والإجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الإمام (علیه السلام) مما هو غائب عن ذهن المؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به أصلاً، بينما هم (ع) (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه)(2) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه فماذا بعد الله إلا الضلال المبين.

ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب قال تعالى: [وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] (الأنعام:29)، [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ](الجاثية: 24)، فيأتي القرآن ليؤسس لهم أهدافاً سامية يعيشون من أجلها [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56)، [قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ] (هود:61)، [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ]6.

ص: 149


1- الكافي: 1 /337.
2- الكافي: 1/ 196.

(يونس:14)، فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لآخرته وخالقه يحصى عليه أعماله لينظر كيف يعمل، ويأتي التوبيخ الإلهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات [أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى](القيامة: 36 - 40)، بلى سبحانك اللهم أنت قادر على ذلك وعلى كل شيء، نعم،لكن هذا لا يمنع من أن يأخذ نصيبه من الدنيا من دون أن يجعله هدفا وغاية وإنما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ](القصص: 77)، فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا لذا قيل: (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) وفي حديث آخر: (الدنيا متجر أولياء الله)(2) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق، قال تعالى: [وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](الروم:31-32)، وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب أن يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له، لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلداناً أولاً، حتى وصل عدد3.

ص: 150


1- عوالي اللآلي: 1 / 267.
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15/ 203.

دول العالم اليوم أزيد من (180) دولة ويتمزق أجناساً ويتفرق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم أبناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون آيديولوجيا حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفة تنقسم على نفسها فرقاً وهكذا: [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](المؤمنون: 53)، وقد نبه القرآن إلى أن هذا التفرق هو إحدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الإلهي: قال تعالى:[قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] (الأنعام: 65)، وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن قال تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ](آل عمران: 103)، [وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فإن حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال: 62 - 63).ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير إليه وذلك لأنهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم إشباع شهواتهم وأطماعهم [قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ

ص: 151

لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] (البقرة: 94 - 96)، [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ](الجمعة: 6-7)،[فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ](الأحزاب: 19)، لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (الجمعة: 8)،[قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً] (الأحزاب: 16)،[أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ] (النساء: 78)، [قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ([215])، فالخوف من الموت لا يكون إلا بالاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.واشعر أنني إلى هنا قد قدّمت إشارة كافية وفتحت باب التفكير بمقدار كافٍ في هذا الاتجاه لأن أهم خطوة في معالجة أمراضنا الاجتماعية هي تشخيص الداء بدقة ومن ثم وصف العلاج المناسب.

واتضح لدينا الآن من خلال هذه النقاط العديدة تحقق عنوان الجاهلية في البشرية اليوم وعلمنا أن لطف الله بعباده دائم ولا يختص بقوم دون قوم، فجاهلية الأمس ليست أولى من جاهلية اليوم ولا خصوصية لها حتى ينزل إليها تبارك وتعالى قرآناً ويبعث إليهم رسولاً، ويترك جاهلية اليوم سدىً، فما أحوجها إلى مصلح وهو الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء) وما أحوجنا إلى

ص: 152

القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام.

القرآن علاج لأمراضنا الاجتماعية

فلنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا وأمراضنا الاجتماعية والفردية.

فإذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواءهم قوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](آل عمران: 103)، بعد معرفة أن حبل الله هما القرآن وأهل البيت (علیهم السلام) بحسب الحديث الشريف.

وإذا أصيبت الأمة بالجبن والخور فعلاجهم قوله تعالى: [أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ] (النساء: 78)،[قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ](الجمعة: 8).

وإذا مر المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ](البقرة: 214).

وإذا شعروا بالإحباط واليأس فعلاجهم قوله تعالى: [وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ] (يوسف: 87)، [وَمَن يَقْنَطُ مِن

ص: 153

رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ] (الحجر:56)، [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ](غافر: 51).وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ قوله تعالى:[وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ](النساء: 79) [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](الرعد: 11)، [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ](آل عمران: 117).

وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقل وروية وبصيرة، أجابهم القرآن: [وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] (يوسف: 103)،[وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ](الأنعام: 116) [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] (يوسف: 106).

ومن الأمراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الإشاعة)(1) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل، أفكاره فقال فيها وفي علاجها: [وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء: 83)، وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.).

ص: 154


1- صدر لاحقاً كتيب عن هذا الموضوع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

دروس مستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع وهدايته:

1 - الالتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة وهو شيء مهم وضروري، فعندما يراجع المريض طبيبا ويشرح له الأعراض التي يعاني منها فإن أهم ما يقوم به الطبيب تشخيص العلة وتعيين العلاج لها، أما الاكتفاء بمعالجة الأعراض المرضية كوجع الرأس وألم البطن أو ارتفاع درجة الحرارة من دون أن يشخص العلة فهذا من خطل التفكير، فمثلا إن من يريد أن يعالج ظاهرة التبرّج، أو ميوعة الشباب وتقليدهم للغرب، أو امتناع الناس عن دفع الخمس أو أداء الصلاة، أو ارتكابهم للفواحش كشرب الخمر واللواط، أو قل: عموم ابتعاد الناس عن تطبيق شريعة الله وتعمدهم مخالفتها لا يكتفي بأن يقول لهم هذا واجب فافعلوه وهذا حرام فاتركوه لأنهم مسلمون ويعرفون ذلك، فلا بد من تشخيص العلة لضعف الوازع الديني عندهم الذي هو الدافع للتطبيق ومن ثم علاجه، وضعف الوازع الديني إنما منشأه ضعف الجانب الأخلاقي والعقائدي لدى المجتمع، لذا ركز القرآن في مكة - أي في أوائل نزوله - على هذين الجانبين. بما طرح من عقائد ودافع عنها بالأدلة المختلفة ورد الإشكالات الموجهة إليها، وغالبا ما كان يثير كوامن فطرتهم لأنه دليل وجداني مرتكز في باطن كل إنسان ولا يستطيع أحد إنكاره والتنصل منه، واهتم بعرض مشاهد يوم القيامة وسنن الله في الأمم السالفة وعرض الكثير من مواقف

ص: 155

العظة والعبرة حتى أيقظ عقولهم وطهر قلوبهم وعندئذ كلفهم بالأحكام فاستجابوا لها طواعية، ونحن نعلم ان فترة التربية في مكة كانت أكثر منها في المدينة ومن هذا يعلم الاهتمام المتزايد بجانب العلل أكثر من المعلولات.2 - ومن هنا ينفتح الكلام عن الدرس الثاني المستفاد من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، وقد اعتمد القرآن في هذا البناء على عدة أساليب ذكرتها في دروس (فلنرجع إلى الله) وقلنا هناك: أنه سلك طريق العوالم الثلاثة التي يعيشها الإنسان (العقل، القلب، الروح) فمثلاً يربط بين منع السماء بركاتها والأرض خيراتها وتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء فيجعل علتها ابتعاد الناس عن شريعة الله وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد أن يتخلص من هذه النتائج السيئة فليؤدّ هذه الفريضة. ففي الحديث: (إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنكم البركات ونزلت عليكم البليّات وسلطت عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)(1).

وكان على رأس هذه الأساليب ما أشرنا إليه من عرض مشاهد وأهوال الموت وما بعده ويوم القيامة وحوار الكافرين والفاسقين في النار ومع شياطينهم والتذكير بسنن الله تبارك وتعالى في المعرضين عن طاعته. قال تعالى: [دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا] (محمد: 10)،[فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ6.

ص: 156


1- تهذيب الأحكام: 6 / 176.

الْعِقَابِ] (آل عمران: 11)، وتعداد نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى مع إقرارهم بحقيقة فطرية: [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن: 60)، ثم بيان السعادة التي تعمر قلب الإنسان وحياته ومجتمعه لو طبق شريعة الله. قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ](الأعراف:96). إن العقيدة والأخلاق هما اللذان يرسمان الهدف الذي يعيشه الإنسان وبالتالي فهما يُحدّدان معالم مسيرته، فمثلاً إذا أريد التبرع لمشروع خيري أو مساعدة محتاج فأيهما الذي يبادر إلى المشاركة: المؤمن الذي يبتغي رضا الله سبحانه ويرجو العوض منه أم البعيد عن الدين الذي غاية همّه الاستزادة من الدنيا والذين هم[قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ] (الممتحنة: 13)، فالأول أسرع للمشاركة. فهذا مثال على اثر العقيدة والأخلاق في دفع الإنسان إلى التطبيق،فالمؤمن هدفه الله تبارك وتعالى، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وإنما انحدرت الأمة وضلت لأنها أضاعت الهدف الذي تعيش من أجله فتفرقت بهم السبل. قال تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153).

فما علينا إلا ملء هذا الفراغ في عقول وقلوب المجتمع حتى تصح مسيرته وتنتظم حياته وفق ما أراد الله تبارك وتعالى، وان نأخذ بطريقة القرآن في إحياء القلوب وترقيقها وتهذيب النفوس وتغذيتها بالعقائد الحقة التي هي منشأ الأخلاق الفاضلة. قال تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ

ص: 157

وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد: 16).وهذا باب ينبغي للمفكرين والمربين الولوج فيه وهو أسلوب القرآن في الموعظة وإحياء القلوب وجميع الآيات الشريفة فيه التي لو تأملها العاقل لأعاد النظر في منهج حياته، كقوله تعالى في سورة الدخان:[كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] (الدخان: 25 - 29).

وإني أنصح بقراءة كتاب (القلب السليم) الذي يتألف من جزئين أولهما في العقائد والآخر في الأخلاق وهما صادران من قلب مخلص طاهر.

3 - التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق ومثالهم الرئيسي على ذلك: التدريج في تحريم شرب الخمر - باعتباره عادة راسخة في المجتمع وقد أشربت في قلوبهم وعقولهم - فتدرج في المنع على مراحل، أوّلها:[يَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 158

الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (البقرة: 219)، فقال بعضهم لا نشربها لأنها إثم وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وقال بعضهم نشربها بمقدار المنافع فيها، ثم نزل قوله تعالى: [لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ] (النساء: 43)، فامتنع بعضهم وقالوا لا نتناول شيئا منافياً للصلاة، ثم نزلت آية المائدة التي أفادت المنع المؤكد الجازم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ] (المائدة: 90).ونفس نزول القرآن نجوماً أي مبعضاً على مدى (23) سنة إنما يهدف - فيما يهدف إليه - المعالجات الآنيّة آخذاً بنظر الاعتبار الزمان والمكان والظروف الموضوعية وتباين مستوى الناس واستعدادهم للتلقي والتطبيق.

ويمكن أن يكون التدرج بعدة أشكال فعندما يراد معالجة ظاهرة اجتماعية متأصلة - كالسنينة العشائرية مثلاً - فنبدأ أولاً بإثارة الإشكالات حول مدى صحتها وجدواها والتشكيك فيها ثم طرح البدائل والخيارات الأخرى المقابلة لها فإذا زرع في النفوس هذا التشكيك وبدأ الالتفات إلى البديل الأفضل فستنشأ القناعة بإبدالها، وعندئذ يمكن التصدي لنقضها، أما محاولة نقضها مباشرة ومن دون هذه التهيئة فإنه يعني الفشل الذريع، وما دامت راسخة ومتأصلة وقد جبل الإنسان على احترام ما هو مألوف ومورث عنده والتعبد به فسيكون هؤلاء المتعبدون كلهم ضد اية محاولة لتغيير هذه الظاهرة الاجتماعية.

فعندما بُعث الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنبوة لم يتعرض للأصنام مباشرة بل كان يعبد الله تعالى هو (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) وخديجة (علیها السلام) بمرأى ومسمع من قريش من دون أن تتعرض له بسوء، لكنه (صلی الله علیه و آله) فتح الباب للعديد من التساؤلات: ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة ولمن يعبدون ولماذا تركوا طريقة قومهم وما هذه الشجاعة والإيمان الراسخ في قلوبهم الذي يجعلهم يقفون بكل اطمئنان مقابل الجميع . . . هذه التساؤلات أدت إلى إسلام جماعة - راجع قصة عبد الله بن مسعود في كتب السيرة - ولم تعارضه قريش لأنه لم يستفزها ولم يُثر حفيظتها

ص: 159

فيما لو تعرض للأصنام مباشرة.4 - الاهتمام وإلفات نظر الأمة إلى المرتكزات الأساسية لكيان الأمة الذي لا يحفظ إلا بها خصوصاً تلك التي يعلم إعراض الأمة عنها وإهمالها لأمرها من بعده (صلی الله علیه و آله) فشدد عليها كثيراً، مثلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمامة والولاية للمؤمنين ومشاققة الكافرين ومودة ذوي القربى والاعتصام بالقرآن والعترة والمواظبة على المساجد والجماعات والجمعات، وما أن غاب شخصه (صلی الله علیه و آله) حتى أهملت الأمة هذه الأسس الرصينة لحفظ كيانها فبدأ العد السريع للانحراف فأي عودة للصلاح والإصلاح لابد لتحقيقها من إعادة دور هذه الأمور في حياة الأمة إلى بحوث مستقلة بإذن الله تعالى.

5 - التسلية وتطييب الخاطر والتخفيف عن المصاعب والأتعاب التي تواجه الشخص الذي يسعى إلى إصلاح المجتمع وهدايته أو ما سميناه بحامل القرآن كرسالة إصلاح، قال تعالى: [المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ](الأعراف: 1-2)، و[فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ] (هود: 12)،[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ] (النحل: 127 - 128)،[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فإن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران: 186)، وأرقّ تعبير وألطفه قوله

ص: 160

تعالى: [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] (الطور:48)، عين الرعاية واللطف والرحمة والحراسة والتوجيه والبصيرة وغيرها. وتجد سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورة يوسف التي تحس إنها نزلت في الفترة العصبية التي عاشها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مكة قبل الهجرة حيث فقد الناصر بموت أبي طالب وخديجة (علیهما السلام) ويأس عمليا من إسلام قريش وحاول ان يجد مأوى آخر غير مكة كالطائف فلم يفلح فضاقت الدنيا بالمؤمنين، وفي ذلك الحين نزلت عليهم سورة يوسف تقص عليهم كيف تآمر الأخوة على أخيهم الصغير ورموه في الجب وهو يعني الموت بحسب الأسباب الطبيعة، لكن الله تعالى يرسل قافلة تستنقذه ويباع إلى بيت ملك مصر ثم يقع في محنة امرأة العزيز وباقي النساء فيسجن سنين لكن الله تعالى ينقذه من السجن ويعلمه تأويل الأحاديث، فنال ببركة ذلك موقع أمين خزائن مصر، ثم أصبح ملكا عليها بعد أن ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن تدبيره. وهنا يأتي أولئك الإخوة المتآمرون ذليلين بين يديه فيعفو عنهم بنفسه الكبيرة وقلبه الرحيم ويقول لهم: [لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (يوسف: 92)، ويجمع الله شمله مع أبيه وأخيه. واستعار رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفس الكلمة حين فعلت قريش نفس الفعل حتى نصره الله عليهم ومكنه من رقابهم في عقر دارهم مكة فأعاد عليهم كلمة أخيه الكريم يوسف (علیه السلام) وقال (صلی الله علیه و آله): (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء) بعد أن استنطقهم: ما تروني فاعلاً بكم، قالوا (أخ كريم وابن عم كريم)(1)، وهذا إقرار منهم بسمو ذاته (صلی الله علیه و آله) .0.

ص: 161


1- تفسير نور الثقلين: 2 / 460.

6 - الحث على طلب العلم والتعلم والتفقه بكل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من المعرفة به، وقيل أن في القرآن أكثر من خمسمائة آية تحث على العلم والتفكر وتثني على العلماء وتذمّ الجهل والجهلاء وتصف عاقبتهم، حتى جعل القرآن صفة الفقه والعلم والمعرفة بالله تبارك وتعالى سببا لمضاعفة قوة المؤمنين على أعدائهم عشرة أضعاف بحسب التعليل المستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ] (الأنفال: 65) بينما جعل الصبر الذي هو من الأسباب المهمة للنصر بمثابة زيادة القوة ضعفاً واحداً فقط: قال تعالى: [الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ](الأنفال: 66).

من فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت

وهذا الفقه شامل لكل نواحي الحياة، فماذا ضخ القرآن من أفكار تندرج في ما يمكن تسميته فقه المواجهة مع الكفار؟ قال تعالى: [وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً] (النساء: 104)، فلماذا الفرار من لقائهم ما دامت الأضرار تحل بالطرفين؟ والفرق أنكم ترجون ما عند الله في الآخرة فلا خسارة، بينما هم لا يرجون ما عند الله شيئاً إلا العذاب الأليم.

ص: 162

وقوله تعالى: [وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2). وقوله تعالى: [مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120 - 121) فلماذا التقاعس والتقصير في تقديم ما تقتضيه طاعة الله تبارك وتعالى من جهد ومال ولماذا سوء الظن بالله تعالى هذا الذي يعتري الناس حين يطلب منهم دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية كالخمس والزكاة ونحوهما؟

ومنها قوله تعالى:[ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ] (يونس: 103).

ومنها هذه الآيات المباركة من سورة محمد، وإذا استطعت أن تنتقل بروحك وفكرك وقلبك إلى تلك الفترة الزمنية السعيدة من حياة البشرية وتتصور أنك ضمن الجماعة المؤمنة المحيطة برسول الله (صلی الله علیه و آله) التي واكبته من الزمان الصعب أول الرسالة عندما كانوا قلة مستضعفين تسومهم قريش سوء العذاب حتى هذه الفترة التي دب فيها العجز واليأس لدى المشركين بعد وقعة الأحزاب حيث أصبح زمام المبادرة بيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتوالت انتصاراتهم

ص: 163

من فتح الحديبية إلى فتح خيبر وفتح مكة والطائف ثم اليمن والجزيرة كلها، فتصور انك هناك وينزل عليك هذا الخطاب القرآني العظيم ومن لدن ربك ومدبر أمورك وخالق السموات والأرض يتحدث إليك مباشرة ليقول لك: [بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ(1)، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا).

ص: 164


1- وهذه الآية تمثل الإطار العام لهذه المقابلة ا المؤمنين لهم مولى يرعاهم ويتولى تربيتهم وسعادتهم وصلاحهم وهو الله تبارك وتعالى بينما الكفار لا مولى لهم وإنما مولاهم الشيطان الضعيف الذي يفر عند المواجهة ويخذلهم [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (سورة الأنفال: 48).

الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ] (محمد:1-14)،[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (النور: 55).وهو أثناء ذلك يحذر من محاولات المنافقين الذين يخذلون المؤمنين عن مواجهة الأعداء ويسخرون من ضعف إمكانياتهم متغافلين عن سر قوة المؤمنين وهي اتصالهم بالله تبارك وتعالى، فاسمعه سبحانه يقول: [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](الأنفال: 49).

وتندرج في هذا السياق - أعني فقه المواجهة مع الكفار - كل الوعود الإلهية بالنصر والغلبة ووراثة الأرض، وأن العاقبة لهم، وأن الله معهم، وتنزل الملائكة عليهم بالسكينة من ربهم، ورفع الخوف والحزن عنهم، وعقد صفقة الشراء معهم فيشتري منهم أنفسهم وأموالهم والثمن الجنة، وكذا مضاعفة القرض لله تبارك وتعالى والإنفاق في سبيله. ولا يسع هذا المختصر كل التفاصيل.

والحقيقة الكبرى التي يثبتها القرآن الكريم بهذا الصدد أن النصر والهزيمة أمام العدو الخارجي - الكفار - إنما هي فرع النصر والهزيمة مع العدو داخل

ص: 165

النفس الأمارة بالسوء وهو الشيطان، فتراه عندما يعد المؤمنين بخلافة الأرض ووراثتها ومن عليها فإنه يجعل الخطوة الأولى في ذلك إصلاح الذات وتطبيق المنهج الإلهي على النفس أولا، قال تعالى: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ](القصص: 5 - 6)، فأولاً جعلهم أئمة وهو يعني تطهير ذواتهم وتنزيهها، ويؤكد أن لا قيمة للنصر على الكفار إذا لم يكن مقترناً بالنصر على الشيطان وإخلاص العمل لله سبحانه لأن العمل أن لم يكن ابتغاء مرضاة الله فهم والكفار على حد سواء وكلاهما أهل دنيا وما لهما في الآخرة من نصيب.فمثلاً في خضم هزيمة المسلمين في معركة أحد والخسارة الأليمة التي حلت بهم يخاطبهم سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ](آل عمران: 155) فهزيمتهم وإدبارهم كان بسبب ما اكتسبوا من السيئات، وبالمقابل يقول تعالى: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ](محمد: 7)، ونصر الله يكون بطاعته تبارك وتعالى وإلا فإنه غني عن العالمين، والآية المتقدمة [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ]، ومن هنا خاطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرية مجاهدين عادت من القتال: (مرحبا بكم، قضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس)(1).د.

ص: 166


1- الكافي: 5/ 12 ، باب: وجوه الجهاد.

الكيان الصهيوني من الأعراض المرضية فعالجوا أصل المرض

فعندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية اللقيطة ويسعونَ إلى إزالتها، عليهم أن يلتفتوا إلى أن هذه الدولة ما هي إلا أحد الأعراض المرضية التي تظهر على جسد الأمة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الأعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإِلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الأعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران - على تشبيه احد المفكرين(1) - فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال ذلك الثور؟! وأنت ترى أن الأمة تقترب من النصر على أعدائها كلما اقتربت من النصر على أنفسها وبمقدار ما تعود وترجع إلى الله تبارك وتعالى.

فائدة تكرار القصص في القرآن

7 - تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بعرض العلاج لمرة واحدة عند التصدي لتصحيح حالة منحرفة أو سد نقص أو علاج خلل موجود في فكر الأمة أو عقيدتها أو سلوكها، فمثلاً تجد قصص بعض الأنبياء قد تكررت أكثر من عشر مرات وكل طرح له ذوقه وأثره ودوره في تحقيق

ص: 167


1- وهو: الشيخ جودة سعيد.

الغرض ويترك انطباعا غير الذي يتركه الآخر وان كان الجميع بنفس المضمون.فعندما نريد أن تناول قضية تبرّج المرأة أمام الرجل وخلاعتها ونصب نفسها شيطاناً يصد عن ذكر الله تعالى وطاعته لتجسيد قول إبليس عملياً: [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16 - 17)، وهذه الفاسقات يستعملنَ شتى الأساليب لغواية الرجال وإيقاعهم في المعصية من السفور المتبرج في الشارع إلى الحركات المتميعة في الجامعات إلى إبداء مفاتن الجسد إلى الرياضة إلى المشاهد الخليعة في الفن.

فعندما نريد أن نتصدى لمواجهة هذا الداء الفتاك في المجتمع فيمكن معالجته في كتاب عن الظواهر الاجتماعية المنحرفة وكتاب عن قضايا المرأة وكتاب عن اثر الرياضة والفن في تدمير أخلاقيات المجتمع وكتاب عن مشاكل طلبة الجامعات وهمومهم وتطلعاتهم وكتاب بنفس المضامين عن الشباب وكتاب عن فقه العائلة ويتضمن الروابط الأسرية والاجتماعية وفق تعاليم الشريعة وهكذا لان هذه المشكلة الخطيرة تدخل في جميع هذه المحاور، وتناولها في كل المحاور يعطيها صورة ونمطا غير الذي يعطى عند عرضها في محور آخر، ولا اقل من ازدياد عدد الشرائح التي تخاطبها هذه الكتب وبالنتيجة تكون الصورة متكاملة عندما تُتناول من جميع الاتجاهات(1).ى.

ص: 168


1- تم إصدار كتيبات ونشرات تغطي كل هذه المحاور المذكورة بفضل الله تبارك وتعالى.

8 - سلوك مختلف الطرق لهداية الإنسان ولما كان له عوالم ثلاثة هي النفس والعقل والقلب فتجده قد سخرها جميعا ووظفها لاستمالة البشر إلى طاعة الله تبارك وتعالى وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في دروس (فلنرجع إلى القرآن).

وتجده كثيراً ما يستنطق الفطرة ويستثيرها وقد وصف علة إنزال القرآن في بعض الأحاديث أنه: (ليستثير كوامن فطرتهم) فإن الوجدان أوضح دليل وأصدقه لا يناقش فيه أحد، فاستمع إليه تعالى وهو يخاطب الفطرة في إثبات الصانع: [أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ]،[أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ]،[أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ]،[أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ](الواقعة: 58 - 72)، أو يقول تعالى وهو في مقام عتاب الإنسان العاصي: [هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ] (الرحمن: 60)، وأنت ترفل في نعم الله تبارك وتعالى: [وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34).

كيف السبيل إلى إعادة تفعيل دور القرآن؟

وأعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه وهو كيف السبيل إلى إعادة القرآن إلى الحياة والاستفادة منه، ويتحمل مسؤولية ذلك طرفان: المجتمع والحوزة الشريفة التي هي عنوان ورمز وعي الأمة وفكرها ومستواها الديني فقد قلنا إن أهم وظيفة تقوم بها الحوزة في المجتمع هي طرح مفاهيم القرآن ورؤاه

ص: 169

وتصوراته وأخلاقه وعقائده - التي أشرنا إلى بعضها - إلى المجتمع بالفهم الصحيح النقي كما يريده القرآن وبالشكل المناسب ليكون دوره فاعلا في حياة الأمة ويكون ذلك بعدة قنوات كالمنبر الحسيني والمحاضرات والندوات وخطب الجمعة والجماعة والكتب والمجلات والنشرات ونحوها.ولكن قبل ذلك يجب إعادة القرآن إلى مناهج الدراسة الحوزوية ويتم ذلك على مستويين:

الأول: الدراسات الأولية أي مستوى المقدمات والسطوح الابتدائية فيعطون المناهج التالية(1):

1 - حفظ وتلاوة القرآن الكريم وضبطه بالشكل وفق قواعد اللغة العربية وإتقان قواعد تجويده ضمن الإطار الشرعي.

2 - تفسير إجمالي للألفاظ ولو على نحو شرح المفردات كما في تفسير شبر ونحوه،ليأخذ الطالب أفكاراً عامة عن معاني القرآن .

3 - دراسة علوم القرآن، وأفضل كتاب في ذلك (البيان) أو مقدمة كتاب آلاء الرحمن المطبوعة في أول تفسير شبر.

4 - إقامة المسابقات في العلوم المختلفة عن القرآن وتخصيص جوائز للفائزين والمتفوقين.

الثاني: الدراسات العالية ويكون على شكل عدة خطوات:ا.

ص: 170


1- أدخل سماحة الشيخ هذه المفردات كلها في برامج الدراسة في جامعة الصدر الدينية التي يشرف عليها.

1 - فتح باب التخصص في الدراسات القرآنية، وأفضل وقت له هو بعد إكمال السطوح العالية حيث يعد الطالب المتخصص منهجاً خاصاً به ويمكن أن يسُتفاد من بعض الكتب الموجودة بعد أن يجرى اختبار معين لاكتشاف أهلية الطالب الذي يريد التخصص في هذا المجال ويفرغ لهذه الدراسة مع توفير المصادر ذات الصلة ليكون مدرساً أو مفسراً أو باحثاً قرآنياً.

2 - دراسة تفسير القرآن بشكل معمق أما كل القرآن أو آيات ومقاطع منتقاة منه تخدم هدفا معينا، ويمكن ان يتخذ احد التفاسير متناً يتولى المدرس شرحه والتعليق عليه وإضافة ما يمكن إضافته من المعلومات النافعة المستفادة من التفاسير والمصادر الأخرى، وفي رأيي القاصر إن أفضل مصدرين هما الميزان وفي ظلال القرآن لأن لكل منهما اتجاهاً خاصاً في التفسير غير الآخر يعلمه من نهل من معارفهما.

3 - وضع مناهج للدروس في مفاهيم القرآن وتصوراته ونظرياته وأطروحاته وفلسفته في الكون والحياة بعد أن يكون الطالب قد أخذ تفسيراً اجمالياً لألفاظ القرآن في دراسته السابقة، وتحصل هذه الأمور بدراسة آيات القرآن دراسة موضوعية وليس بالطريقة التجزيئية المتعارفة وإن كانت هذه الطريقة هي الأساس لتلك، وقد قارنت بين المنهجين في كتابي المخطوط (مدخل إلى تفسير القرآن) الذي يعد هذا البحث مقدمة له.

ويركز على المواضيع العلمية أي التي لها واقع معاش سواء على صعيد العقائد أو الأخلاق أو الفكر، فتتناول مثلاً: التقوى، الصبر، الفقه، التوحيد، الإمامة، الولاية، الشيطان، المعاد، المجتمع المسلم مقومات بنائه وعوامل

ص: 171

انهياره، الرجاء والأمل، الموعظة والعبرة، سنن الله في الأمم والمجتمعات، وهكذا، وعندئذ ستتغير الكثير من أفكارنا لأن المعاني المتداولة الآن للألفاظ القرآنية لا تنطبق بالضبط على الفهم القرآني لها بحسب استقراء موردها في القرآن بسبب ما تراكم من غبار التأويلات والتفسير بالرأي وتحكيم الأهواء والتعصبات وحملات المغرضين وغيرها.

الفقه والفقيه في المصطلح القرآني

وقد عرضنا قبل قليل مفهوم الجاهلية في المصطلح القرآني وصفات وخصائص المجتمع الجاهلي والبدائل الإلهية التي يقدمها القرآن وهكذا كنموذج لمفهوم اجتماعي.

وأقدم الآن الفهم القرآني للفظ حوزوي وهو (الفقه) كمثال آخر، فالفقه يتداول عندنا على انه العلم بالأحكام الشرعية رغم أنه في المصطلح القرآني بمعنى المعرفة بالله تبارك وتعالى ولا ملازمة بينهما كما هو واضح بل النسبة بينهما العموم من وجه.

ففي الآية الشريفة: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ([269]) ونحن نعلم ان الحذر والتقوى لا ينشآن من المعرفة بالأحكام الشرعية بل للحذر مناشئه الروحية والنفسية والعقلية وبعد حصول التقوى والمعرفة في القلب يندفع إلى تعلم الأحكام الشرعية وتطبيقها وتستطيع أن تجرب ذلك بنفسك فاقرأ كتب الفقه وتعمق فيها من أولها إلى آخرها هل تراها غذت قلبك بشيء أو زادت فيه

ص: 172

الحذر والتقوى؟ وكم رأينا فقيها بالمعنى الاصطلاحي وهو مكب على الدنيا وبعيد كل البعد عن الله تبارك وتعالى. والقرآن يقص علينا خبر مثل هذا الفقيه: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الأعراف: 175 - 176).

ومن الشواهد على أن معنى الفقه هو المعرفة بالله تعالى جعل محله القلب في الآيات الشريفة وهو محل المعرفة الحقيقية بالله تعالى، بينما الأحكام الشرعية محلها العقل، قال تعالى: [رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ] (التوبة: 87)، وقال تعالى: [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا] (الأعراف: 179).

لذا جعلت الآية هذا الفقه أي المعرفة الراسخة بالله والمبدأ والمعاد سببا لمضاعفة القوة عشرة اضعاف. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ] (الأنفال: 65).

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في

ص: 173

قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه)(1) هذا في كتاب الوسائل. وللحديث بقية في مصدر آخر(2) كالتالي: (فإنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا أيها الناس إن أقربكم من الله تعالى مجلساً أشدكم له خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله نصيباً أعظمكم فيما عنده رغبة، ثم يقول عز وجل: لا أجمع لكم اليوم خزي الدنيا وخزي الآخرة، فيأمر لهم بكراسي فيجلسون عليها، وأقبل عليهم الجبار بوجهه وهو راض عنهم وقد أحسن ثوابهم).فترى أن صفات الفقيه كل ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً كتبوا ثلاثاً ليس معهن رابعة: من كانت الآخرة همته كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله فيما بينه وبين الناس)(3).

وفي حديث عن أبي الحسن (علیه السلام): (من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة وإن الصمت يكسب المحبة وإنه دليل على كل خير)(4).

ويمكن استفادة هذا المعنى بالجمع بين حديثين ففي الخصال عن رسول الله2.

ص: 174


1- بحار الأنوار: 2/ 49، باب: صفات العلماء وأصنافهم، حديث 8.
2- مدينة البلاغة: صفحة 98، عن كتاب الجعفريات.
3- الخصال: صفحة 129 باب الثلاثة.
4- الاختصاص: 232.

(صلی الله علیه و آله): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي: الأمراء والفقهاء)(1) وفي الوسائل عن الأمالي. بدل العلماء القراء فإذا ضممنا إليه الحديث الآتي في صفة القراء نحصل على المعنى المذكور.فبين الفقيه بالمصطلح القرآني والفقيه بالمعنى الحوزوي عموم من وجه إذ قد يكون فقيها بالمعنى القرآني وهو ليس كذلك بالمعنى الحوزوي إذ يوجد الكثير من أولياء الله العارفين ولهم الكرامات المشهودة مع أنهم لم يبلغوا درجة عالية في العلوم الحوزوية وقد يكون العكس فتجد شخصاً امتلأ ذهنه بالنظريات والأفكار الأصولية والعقلية والمسائل الفقهية بحيث تجده ملماً حتى بدقائق المسائل لكن قلبه غير معمور بذكر الله تعالى ولو سألته عن أبسط مسألة في تهذيب النفس والسلوك الصالح إلى الله تبارك وتعالى وتصفية الباطن وتطهير القلب لبقي متحيراً، فمثل هذا ليس فقيها بالمعنى القرآني، والكامل هو من جمع المعنيين كما هو شأن علمائنا المقدسين الذين بلغوا مقاماً عالياً في الفقه والأصول وشامخا في العرفان،وهم المقصودون في الحديث الشريف: (الفقهاء أمناء الرسل)(2) ، وبمثل هذا المنظار القرآني يجب أن نفهم الأحاديث الشريفة لئلا تضيع علينا معانيه السامية.

مسؤولية الحوزة عن تفعيل دور القرآن

وإني هنا أذكر حديثاً واحداً فقط يبين مسؤولية الحوزة الشريفة عن توعية

ص: 175


1- تقدم مصدره في بداية الكتاب.
2- بحار الأنوار: 2/ 36 حديث 38.

المجتمع وهدايته وإصلاحه فقد روي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم، ثم قال: ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته،فقال أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): من يعني بها الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ولهم جيران جفاة جهلة.فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتعلمن جيرانكم ولتفقهنم ولتأمرنهم ولتنهنّهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صلی الله علیه و آله): [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ])(1).

هذه هي بعض المقترحات التي أقدمها بين يدي الحوزة الشريفة في هذا المجال والوظيفة المشتركة للجميع هي المواظبة على تلاوة القرآن والاستفادة منه آناء الليل وأطراف النهار وستعرف الكثير عن هذا من خلال الأحاديث الشريفة الآتية.

وهذه الوظيفة للحوزة لا تخصهم وإنما خاطبناهم بها لوجوبها عليهم أكثر من غيرهم، وإلا فالمجتمع كله مسؤول عن اتباع هذه الخطوات بحسب مار.

ص: 176


1- الميزان في تفسير القرآن: 6 / 84 في تفسير الآية، عن كتاب الدر المنثور.

يناسب كل فرد،فذوو المعرفة القليلة يبدأون بقراءة التفاسير المبسطة كتفسير شبر.وإني أنصح كل مسلم - وهو ما جربته أنا - أن يبدأ حياته مع القرآن بأن يتلوه في مصحف مفسر كالذي ذكرناه ليتسنى له فهم مفردات الآيات خلال تلاوتها، ويستمر على هذا الحال عدة ختمات إلى أن يمتلك معرفة إجمالية بالقرآن، ثم يعود إلى نسخة المصحف يتلو فيها مع تطوير قابليته بقراءة كتب التفسير المتقدمة كالميزان وفي ظلال القرآن ويقرأ الكتب التي شرحت مفاهيم القرآن أو تناولت القرآن بحسب الموضوعات، حيث يتخذ احدها عنوانا للبحث ثم يستقرئ القرآن فتجتمع كل الآيات المتعلقة بذلك العنوان ثم يستنتج من المجموع تصور القرآن ونظريته - وأنا هنا استعير هذه المصطلحات الفكرية لأجل استئناس الأذهان بها مع بعض التحفظات - لهذا الموضوع الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلة واقعية يعيشها المجتمع سواء كانت عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو غيرها.

وقد يكون من الأفضل متابعة ذلك مع بعض فضلاء الحوزة الشريفة ليوجهوهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم ويرشدوهم لما ينفعهم فإن المجتمع والحوزة احدهما يكمل الآخر، فالحوزة توجه المجتمع والمجتمع يضغط على الحوزة لتكون بمستوى المسؤولية وبمستوى حاجة الأمة وطموحاتها ومواكبة للزمان الذي تعيشه وعندئذ ستنفرز العناصر الكفوءة من الحوزة عن غيرها وستعرف الأمة من هو الأصلح لها.

إن القرآن لا يفهم حق فهمه إلا عندما يحمله الإنسان كرسالة يصلح بها

ص: 177

نفسه والذين من حوله ويواجه بها الخطأ والانحراف الذي يضرب بأطنابه على البشرية، عندئذ يعيش في مثل الأجواء التي نزل فيها وعندئذ تنفتح له أسراره، ولا تكفي قراءته لمجرد التبرك وإن كان في ذلك فضل لا ينكر.ومن الضروري أن تتناول إحدى الدراسات القرآن بحسب تأريخ نزول آياته وإن كان الإلمام بذلك تفصيلاً أمراً متعسَّراً لعدم وجود دليل قطعي عليه إلا أنه يمكن اقتناص بعض موارده ويستفاد من هذا البحث فوائد كثيرة في مجال معرفة خطوات القرآن في إصلاح المجتمع باعتباره نزل تدريجياً بحسب الوقائع والحوادث.

إن هذا التنزيل المتدرج للقرآن بدلاً من النزول دفعة واحدة له وقعه المباشر وتأثيره الفعال في الحالات التي عالجها، قال تعالى: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] (الإسراء: 106)، وما دام هو كتاب تربية وهداية وإحياء فلا بد أن يكون تدريجياً وبلطف فيصف العلاج المناسب في الوقت المناسب وبالجرعة المناسبة لا أقل ولا أكثر ولا قبل الموعد ولا بعده، وهكذا أخذ القرآن بيد هذه الأمة برفق لتجد نفسها بعد عقدين من الزمان في قمة السمو والكمال والرفعة والعزة والمنعة.

بعض الآداب والمستحبات المتعلقة بتلاوة القرآن

وأود هنا أن أذكر بعض الآداب والسنن والمستحبات المتعلقة بقراءة القرآن والمستفادة من الروايات الشريفة:

ص: 178

1 – يستحب ختم القرآن في الشهر مرة، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر أي يختمه في السنة ثلاث مرات غير الزيادات التي ينبغي إضافتها في شهر رمضان المبارك .

2 - أن تكون قراءته على نحو الختمة أي يبدأ من أول القرآن إلى آخره، وليس قراءة سور متفرقة مهما كانت أهميتها، ليمر على القرآن كله وينال كل بركاته وهو المعبر عنه في الحديث الشريف الآتي: (الحالِّ المرتحل)(1).

3 - أن يصادف الختم يوم الجمعة وأن يقرأ عند ختم القرآن الدعاء المختص به وهو موجود في الصحيفة السجادية.

4 - عندما يختم القرآن لا يقف عند نهايته بل يصله مباشرة بافتتاح ختمه جديدة ولو بأن يبدأ بسورة الفاتحة وأول خمس آيات من سورة البقرة.

5 - أن يكون على طهارة وفي مصلاه مستقبلاًً القبلة.

6 - ورد في تفسير قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ] (آل عمران: 200)، إن من المرابطين من يثبت على مصلاه ينتظر حلول وقت الفريضة، فلتحصيل فضل المرابطين يستغل المؤمن هذه الحالة وهي فترة انتظار وقت الصلاة لتلاوة القرآن ويكون الأجر أعظم لو كان ذلك في المسجد منتظراً صلاة الجماعة.

7 - وورد استحباب النوم على طهارة وقراءة القرآن قبل أن يأوي المؤمن إلى فراشه وفي حديث إنه: (من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن توضأ ولم5.

ص: 179


1- الكافي: 2 / 605.

يصل ركعتين فقد جفاني ومن صلى ركعتين ولم يدعني فقد جفاني ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته ولست بربٍ جاف)(1)، وإذا أضيف لها الاستحباب المؤكد لصلاة الليل، واستحباب التخلي قبل النوم، واستحباب السواك، خرجنا من ضم المجموع بوُردٍ مهم وهو أن المؤمن قبل أن يأوي إلى فراشه يتخلى وينظف أسنانه ثم يتوضأ ويصلي صلاة الليل، إما كلها أو بعضها، ويؤد البعض الآخر إلى ما قبل طلوع الفجر ثم يقرأ مقداراً من القرآن الكريم ويدعو الله سبحانه له وللمؤمنين فإنه سيجمع كل هذه المستحبات. أما الإنسان الذي يسهر الليل على البرامج والأفلام الفاسدة التي تتعب أعصابه وترهقه فيعيش في معاناة ونكد.8 - أن تكون تلاوته للقرآن خصوصاً للمبتدئين في تفسير شبر الذي يتضمن أكثر من فائدة ففيه نسخة من المصحف الشريف وفيه تفسير إجمالي لمعاني القرآن، وهو ما قلناه أنه ضمن مناهج الدراسات الأولية للقرآن، وفيه مقدمة في علوم القرآن وهو درس آخر، وفيه ملحق بفهرس الألفاظ القرآنية بحيث أن أي آية تريد معرفة موضعها تستخرج من هذا الدليل وموضع أي كلمة منها، وفيه القراءات المتعددة للكلمة الواحدة إن وجدت في هامشه، وفيه ترتيب نزول السور ففي عنوان كل سورة يقول أنها نزلت بعد كذا سورة،كل هذه الفوائد في هذا الكتاب الجليل.

9 - أن يبدأ بإهداء الختمة الأولى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم الثانية لأمير المؤمنين (علیه السلام) وهكذا لجميع المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام)، فقد وردت فيه2.

ص: 180


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 11، حديث2.

رواية شريفة وهم أكرم الخلق فسيردون الهدية بما يليق بكرمهم يوم القيامة.10 - رفع الصوت بالقرآن عند التلاوة، وان يكون حزينا وان يتدبر معانيه ولا يكن همّ أحدكم نهاية السورة، كما في الحديث.

11 - استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ، ويستحب أن يكون لكل فرد من أفراد العائلة نسخة من المصحف الشريف خاصة به يضع فيه علامة.

12 - الإنصات إلى القرآن وتدبر ما يسمع في أية فرصة تسنح للاستماع.

أسأل الله تعالى أن يحيينا حياة القرآن وينيلنا شفاعته ويجعلنا ممن يهتدي بهداه ويستضيء بنور علمه إنه ولي النعم وهو اللطيف بعباده ومن لطفه بنا أن هدانا إلى دينه القويم وأتحفنا بكتابه الكريم ونبيه العظيم وأهل بيته الميامين الغرر.

(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله) .

محمد اليعقوبي

محرم 1422

ص: 181

الأربعون حديثاً في فضل القرآن وآثاره وآداب تلاوته

اشارة

وسأكتفي هنا بذكر نصوص الأحاديث مع جعل عنوان مناسب لمضمونها، وتصنف الأحاديث بحسب المضامين، أما شرحها وبيان ما فيها من نكات فيمكن أن يكون له محل آخر، وسوف لا أتحدد بالعدد أربعين لأن الأخبار التي حثت على حفظ أربعين حديثاً لا نفهم منها أنها بشرط لا عن الزيادة فالزيادة خير إذن.

1 __ ضرورة تعلّمه

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو أن يكون في تعليمه)(1).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (لا يعذب الله قلباً وعى القرآن)(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة)(4).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (القرآن غنىً لا غنى دونه ولا فقر بعده)(5).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (إذا قال المعلم للصبي: بسم الله الرحمن الرحيم فقال

ص: 182


1- و(2) و(3) و(4) و(5) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب1، الأحاديث 4، 5، 6، 15، 11، 16 بحسب الترتيب.

الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم)(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة)(2).

2 __ تعلم القرآن أعظم نعمة

عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (من قرأ القرآن فظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد حقّر ما عظّم الله، وعظّم ما حقّر الله)(3).

3 - القرآن شافع مشفَّع وخصم مصدق

عن الرسول (صلی الله علیه و آله) أنه قال في حديث: (إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع وماحِلٌ مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان تحصيل - إلى أن قال- لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه،مصابيح الهدى ومنار الحكمة)(4).

4 __ صفة قارئي القرآن

ص: 183


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب1، الأحاديث 4، 5، 6، 15، 11، 16 بحسب الترتيب.
2- المصدر السابق، باب 5، حديث 1.
3- المصدر، باب2، حديث3.
4- المصدر، باب 3، حديث 3.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو ويسأله العافية من النار ومن العذاب) (1).وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن) (2)، ومن خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصف المتقين قال: (أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء الكتاب يرتلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به تهيج أحزانهم، بكاء على ذنوبهم، ووجع كلوم جراحهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم فاقشعرت منها جلودهم ووجلت قلوبهم فظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، وإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، وطنوا أنها نصب أعينهم)(3).

5 __ وجوب إكرام حملة القرآن وحرمة الاستخفاف بهم

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إن آهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً)(4).

ص: 184


1- المصدر، باب 3، حديث 2.
2- المصدر، باب 3، حديث 6.
3- المصدر، نفس الباب، حديث 6.
4- المصدر، باب 4، حديث 1.

6 __ ثواب من يصعب عليه تعلم القرآن وحفظه

عن الصادق (علیه السلام) قال: (من شُدّد عليه القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين)(1).

وعنه (علیه السلام) قال: (إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقة منه وقلة حفظ له أجران)(2).

7 __ وجوب قراءة البسملة قبل السورة

عن الصادق (علیه السلام): (إذا أمّ الرجل القوم جاء شيطان إلى الشيطان الذي هو قرين الإمام فيقول: هل ذكر الله يعني هل قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال نعم هرب وإن قال لا ركب عنق الإمام ودلى رجليه في صدره فلم يزل الشيطان أمام القوم حتى يفرغوا من صلاتهم)(3).

8 __ استحباب قراءة القرآن عند زيارة القبور

في (من لا يحضره الفقيه) عن الإمام الرضا (علیه السلام): (ما عبد مؤمن زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرا ت إلا غفر الله له ولصاحب القبر)(4).

وفي رواية أخرى: (أمن من الفزع الأكبر) وفي معناه روايات عديدة.

ص: 185


1- المصدر، باب 5، ح3.
2- المصدر، حديث2.
3- بحار الأنوار: 82/ 20.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب صلاة الجنائز، باب 57، حديث 5.

وفي أخرى استحباب إضافة سورة الفاتحة والمعوذتين والتوحيد وآية الكرسي كل منها ثلاث مرات، وورد في ثوابها: (إن الله يبعث إليه ملكاً يعبد الله عند قبره ويكتب له وللميت ثواب ما يعمل ذلك الملك فإذا بعثه الله من قبره لم يمر على هول إلا صرفه الله عنه بذلك الملك الموكل حتى يدخله الله به الجنة)(1).

9 __ فضل تعلم القرآن في الشباب وآثاره

عن الصادق (علیه السلام) قال: (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله من السفرة الكرام البررة، وكان القرآن عنه حجيزاً يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلغ به أكرم عطائك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال: فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له اقرأ آية فاصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم) (2).

10 __ ضرورة تعليم الأولاد القرآن

عن الرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث إلى أن قال: (ويكسى أبواه - أي حامل

ص: 186


1- جامع أحاديث الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب زيارة القبور، باب 2 وفيه عشرة أحاديث.
2- الكافي: 2/ 604.

القرآن - حلتين إن كانا مؤمنين ثم يقال لهما هذا لما علّمتماه القرآن)(1)([306]) وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (إن الله ليهمّ بعذاب أهل الأرض جمعياً حتى لا يحاشي منهم أحد إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات والولدان يتعلمون القرآن رحمهم فأخّرَ ذلك عنهم)(2).

11 __ أقسام قرّاء القرآن وصفة القارئ الحق

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده(3) وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عنه فراشه، فبأولئك يدفع الله البلاء وبأولئك يديل الله من الأعداء وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فوالله لهؤلاء في قراء القرآن اعز من الكبريت الأحمر)(4).

ص: 187


1- نهج السعادة: 7 / 223.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، حديث3.
3- وهم هؤلاء الذين يدققون في قواعد التجويد التي وضعوها وغفلوا عن معاني ما يقرأون.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3، 1.

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيُذلك الله، يا حامل القرآن تزيّن به لله يزينك الله به، ولا تزين به للناس فيشينك الله به)(1).

12 __ فهم القرآن مرتبة قريبة من النبوة

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من حديث قال: (من ختم القرآن فإنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه)(2).

13 __ الطريق الأكمل لقراءة القرآن أن تبدأ من أوله إلى آخره وليس بأن تقرأ سوراً متفرقة.

عن الزهري قال: (قلت لعلي بن الحسين (علیه السلام): أي الأعمال أفضل؟ قال: (الحالّ المرتحل) قلت وما الحالّ المرتحل، قال (علیه السلام) : فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره)(3) وفي النهاية سئل: أي الأعمال أفضل فقال: الحال المرتحل، فقيل: وما ذلك، قال: الخاتم المفتح هو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله؛ شبّهه بالمسافر يبلغ بالمنزل فيحل فيه ثم يفتتح السير أي يبدأه وكذلك قراءة أهل مكة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى قوله: [هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ويقفون ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل أي أنه ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان.

وفي هذا المعنى حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (قيل يا ابن رسول الله أي الرجال خير قال (علیه السلام): الحال المرتحل، قيل يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله): وما

ص: 188


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، باب 8، حديث 3، 1.
2- المصدر السابق، باب 11، حديث 18.
3- المصدر السابق، باب 11، حديث 2.

الحال المرتحل؟ قال (علیه السلام): الفاتح الخاتم الذي يقرأ القرآن ويختمه فله عند الله دعوة مستجابة)(1).

14 __ الوصية بكثرة قراءة القرآن

وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) قال: (وعليك بتلاوة القرآن على كل حال)(2).

15 __ ثواب قراءة القرآن

عن الصادق (علیه السلام) في حديث قال: (عليكم بتلاوة القرآن فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: أقرأ وأرق فكلما قرأ آية يرقي درجة)(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار والقنطار خمسة عشر ألف (خمسون ألف) مثقال من ذهب، المثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها

ص: 189


1- المصدر، حديث 8.
2- المصدر، باب 11، حديث 1.
3- المصدر، حديث 10.

ما بين السماء والأرض)(1).

16 __ ضرورة المحافظة على ما تعلم من القرآن ولا يتركه بحيث يؤدي الى نسيانه

عن يعقوب الأحمر قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) إن عليّ ديناً كثيراً وقد دخلني ما كاد القرآن يتفلت مني، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): القرآن القرآن إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فتقول: لو حفظتني لبلغت بك هاهنا)(2).

أقول: مرّ عليك أن الحفظ المعنوي بمعنى مراعاة حدوده ومعانيه والالتزام بأوامره ونواهيه.

17 __ استحباب التلاوة على وضوء

عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: (سألته أقرأ المصحف ثم يأخذني البول فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟ قال: لا حتى تتوضأ للصلاة)(3).

وعنهم (علیهم السلام): (لقارئ القرآن بكل حرف يقرأ في الصلاة قائماً مائة حسنة وقاعداً خمسون حسنة ومتطهراً في غير صلاة خمسة وعشرون حسنة وغير متطهر عشر حسنات، أما إني لا أقول: المر، بل بالألف عشر وباللام عشر

ص: 190


1- المصدر، باب 17، حديث 2.
2- المصدر، باب 12، حديث3.
3- المصدر، باب 13، حديث1.

وبالميم عشر وبالراء عشر)(1).

18 __ استحباب الاستعاذة عند القراءة

عن الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن التعوذ من الشيطان عند كل سورة يفتتحها، قال: نعم، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (والاستعاذة هي ما قد أمر الله به عباده عند قراءتهم القرآن بقوله: [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ومن تأدب بأدب الله أدّاه إلى الفلاح الدائم)(3).

19 __ القرآن عهد الله فكم ينبغي للمسلم أن يقرأ منه يومياً

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)(4).

أقول: وبحساب بسيط تستنتج أن اقل ما ينبغي للمؤمن أن يختم القرآن في السنة ثلاث مرات لأن عدد آيات القران أكثر من ستة آلاف فيختمه على هذا المعدل في (120) يوماً أي أربعة أشهر هذا بغض النظر عن مضاعفة الجهد في شهر رمضان .

ص: 191


1- المصدر، حديث 3.
2- المصدر، باب 14، حديث2.
3- المصدر، حديث 1.
4- المصدر، باب 15، حديث1.

20 __ آيات القرآن خزائن فاستفد منها جميعاّ

عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: (آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)(1).

21 __ استحباب قراءة القرآن في البيوت

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين: (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عز وجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين)(2).

22 __ الكسب وطلب الرزق لا يمنع من المواظبة على قراءة القرآن

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات وتمحي عنه عشر سيئات)(3).

23 __ استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره

ص: 192


1- المصدر، حديث 2.
2- المصدر، باب 16، حديث 2.
3- المصدر، باب 11، حديث 6.

وخفف عن والديه وإن كانا كافرين)(1).وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (ليس شيء أشد على الشيطان من القراءة في المصحف نظراً)(2).

وفي حديث آخر: (النظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة)(3).

أقول: وهذه اقل وظيفة يقوم بها من لا يحسن القراءة وإلا فعليه الاستماع.

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فاقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف،قال فقال لي: بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة)(4).

24 __ استحباب اقتناء نسخة من المصحف في البيت

عن الصادق (علیه السلام) قال: (إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عز وجل به الشياطين)(5).

ص: 193


1- المصدر، باب 19، حديث 1.
2- المصدر، حديث 2.
3- المصدر، حديث 6.
4- المصدر، باب 19، حديث 4.
5- المصدر، باب 20، حديث1.

25 __ استحباب ترتيله وكراهة العجلة فيه

عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل: [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): بيّنه تبياناً ولا تهذّه هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)(1).

وفي تفسير قوله تعالى: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ] روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: (حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الأولى ويستعيذ من الأخرى)(2).

وفي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن القرآن لا يُقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله الجنة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار)(3).

26 __ استحباب قراءته بالحزن كأنه يخاطب إنساناً وحرمة ما يفعل الصوفية من الغشية والصعقة

عن الصادق (علیه السلام) قال: (إن القرآن نزل بالحزن فاقرأه بالحزن)(4).

وعن حفص قال: (ما رأيت أحداً أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (علیه السلام) ولا أرجى للناس منه وكانت قراءته حزناً فإذا قرأ كأنما يخاطب

ص: 194


1- المصدر، باب 21، حديث 1.
2- المصدر، باب 27، ح7.
3- المصدر، حديث 3.
4- المصدر، باب 22، ح1.

إنساناً)(1).وعن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قلت إن قوماً إذا ذكروا شيئاً من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتى يرى أن أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك، فقال: سبحان الله ذلك من الشيطان، ما بهذا نعتوا إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل)(2).

27 __ استحباب رفع الصوت بالقرآن

عن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): الرجل لا يرى أنه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته، فقال: لا بأس، إنَّ علي بن الحسين (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار وإن أبا جعفر (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته)(3).

28 __ حرمة التغني بالقرآن

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم

ص: 195


1- المصدر، حديث 3.
2- المصدر، باب 25، حديث1.
3- المصدر، باب 23، حديث 2.

قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم)(1).

29 __ وجوب الإنصات لقراءة القرآن أخلاقياً واستحبابه شرعياً إلا في الصلاة.

عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له الرجل يقرأ القرآن أيجب على من سمعه الإنصات له والاستماع؟ قال: نعم إذا قرأ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع)(2).

وفي حديث زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (وإذا قرأ القرآن في الفريضة خلف الإمام فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)(3).

30 __ استحباب ختم القرآن في كل شهر مرة

عن محمد بن عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): اقرأ القرآن في ليلة؟ فقال: (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)(4).

31 __ استحباب إهداء ثواب القراءة إلى المعصومين (عليهم السلام) لكي يضاعف الأجر.

عن علي بن المغيرة عن أبي الحسن (علیه السلام): (قلت فإذا كان في يوم الفطر

ص: 196


1- باب 24، حديث 1.
2- المصدر، باب 26، حديث 4.
3- المصدر، حديث 5.
4- المصدر، باب 27، حديث1.

جعلتُ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ختمة(1) ولعلي (علیه السلام) أخرى ولفاطمة (علیها السلام) أخرى ثم الأئمة (علیهم السلام) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في الحال، فأي شيء لي بذلك؟ قال: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت: الله أكبر فلي بذلك؟ قال: نعم ثلاث مرات)(2).

32 __ استحباب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن

عن الصادق (علیه السلام) قال: (إن رسول الله أتى شباباً من الأنصار فقال: إني أريد أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنة فقرأ آخر سورة الزمر [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً] إلى آخر السورة فبكى القوم جميعاً إلا شاباً فقال: يا رسول الله قد تباكيت فما قطرت عيني فقال: إني معيد عليكم فمن تباكى فله الجنة فأعاد عليهم فبكى القوم وتباكى الفتى فدخلوا الجنة جميعاً)(3).

33 __ العلم كله في القرآن

روي عن علي (علیه السلام) أنه قيل له: (هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)(4).

وعن إبراهيم بن العباس قال: (ما رأيت الرضا (علیه السلام) سئل عن شيء قط إلا علمه ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره وكان

ص: 197


1- مما قرأه في شهر رمضان.
2- المصدر، باب 28، حديث1.
3- المصدر، باب 29، حديث1.
4- تفسير الصافي: 1/ 39 وتقدم الطريق إلى مصادره من طريق العامة.

المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن)(1).وفي نهج البلاغة: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه: ألا إنه فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم بينكم)(2).

34 __ القرآن شفاء من كل داء

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجباً)(3).

35 __ القرآن فيه جلاء القلوب

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها قراءة القرآن)(4).

36 __ الإكثار من قراءته في شهر رمضان

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)(5).

وعن علي بن حمزة قال: (دخلت علي أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له أبو بصير:

ص: 198


1- المصدر، باب 27، حديث 6.
2- الخطبة 158 من الجزء الأول.
3- الكافي: 2/ 624.
4- إرشاد القلوب: صفحة 78.
5- ثواب الأعمال : 129/ 1، باب ثواب قراءة القرآن.

جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا، ففي ليلتين؟ فقال: لا، فقال: ففي ثلاث؟ فقال: ها وأشار بيده ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور)(1).وفي خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) في آخر جمعة من شعبان قال: (ومن تلا فيه - أي شهر رمضان - آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)(2).

37 __ تلاوة القرآن حق تلاوته

في تفسير قوله تعالى: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ](البقرة: 121) قال الإمام الصادق (علیه السلام): (يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ويرجون وعده، ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه. حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى:[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ])(3).

38 __ القرآن لا يشبع منه العلماء

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال من حديث في وصف القرآن: (هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا

ص: 199


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن في غير الصلاة، باب 27، ح3.
2- عيون أخبار الرضا: صفحة 162.
3- الميزان في تفسير القرآن: 1 / 260، عن إرشاد القلوب للديلمي.

يشبع منه العلماء ولا تلتبس منه الألسن ولا يخلق من الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم)(1).

39 __ القرآن في نهج البلاغة

(وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص وإن العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم)(2).

40 __ دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) عند ختم القرآن

اللهم إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته وفضلته على كل حديث قصصته وفرقاناً فرقت بين حلالك وحرامك وقرآناً أعربت به عن شرايع أحكامك وكتاباً فصّلته لعبادك تفصيلاً ووحياً أنزلته على نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلاً وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة

ص: 200


1- سنن الدارمي:2/ 435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.
2- نهج البلاغة: الجزء الأول، الخطبة 110.

عصمته، اللهم فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهلت حواسي ألسنتنا بحسن عبارته، فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيّناته، اللهم إنك أنزلته على نبيك محمد ص مجملاً، وألهمته علم عجائبه مكملاً وورثتنا علمه مفسراً وفضلتنا على من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله، اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل على محمد الخطيب به، وعلى آله الخزّان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك، حتى لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه، اللهم صلّ على محمد وآله واجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويسكن في ظل جناحه، ويهتدي بضوء صباحه، ويقتدي بتبلج أسفاره، ويستصبح بمصباحه ولا يلتمس الهدى في غيره، اللهم وكما نصبت به محمداً عَلَماً للدلالة عليك وأنهجت بآله سُبل الرضا إليك، فصلّ على محمد وآله، واجعل القرآن وسيلة لنا إلى اشرف منازل الكرامة، وسُلّماً نعرج فيه إلى محل السلامة وسبباً نجزي به النجاة في عرصة القيامة، وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، اللهم صل على محمد وآله، واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الإبرار، واقف بنا آثار الذين قاموا لك به آناء الليل وأطراف النهار، حتى تطهرنا من كل دنس بتطهيره، وتقفوا بنا آثار الذين استضاؤوا بنوره، ولم يلْههم الأمل عن العمل فيقطعهم بخدع غروره، اللهم صل على محمد وآله، واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولألسنتنا

ص: 201

عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجرَ أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله، اللهم صل على محمد وآله وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا، واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا واغسل به درن قلوبنا، وعلائق أوزارنا، واجمع به منتشر أمورنا وارو به في موقف العرض عليك ظمأ هواجرنا، واكسنا به حلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا، اللهم صل على محمد وآله، واجبر بالقرآن خلتنا من عدم الإملاق، وسق به ألينا رغد العيش خصب سعة الأرزاق وجنبنا به الضرائب المذمومة، ومداني الأخلاق، واعصمنا به من هوة الكفر ودواعي النفاق، حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدي حدودك ذائداً، ولما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهداً، اللهم صل على محمد وآله، وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين، وترادف الحشارج، إذا بلغت النفوس التراقي[وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ]، وتجلّى ملك الموت لقبضها من حجب الغيوب ورماها عن قوس المنايا بأسهم وحشة الفراق، وداف لها من دعاف مرارة الموت كأساً مسمومة المذاق، ودنا منا إلى الآخرة رحيل وانطلاق، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق، اللهم صل على محمد وآله، وبارك لنا في حلول دار البلى، وطول المقامة بين أطباق الثرى، واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، وافسح لنا برحمتك في ضيق ملاحدنا، ولا تفضحنا في حاضر القيامة بموبقات آثامنا، وارحم بالقرآن في

ص: 202

موقف العرض عليك ذلّ مقامنا، وثبت به عند اضطراب جسر جهنم يوم المجاز عليها زلل أقدامنا، ونجنا به من كل كرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة وبيّض وجوهنا يوم تسود وجوه الظلمة في يوم الحسرة والندامة، واجعل لنا في صدور المؤمنين وداً، ولا تجعل الحياة علينا نكداً، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما بلغ رسالتك، وصدع بأمرك ونصح لعبادك اللهم اجعل نبينا صلواتك عليه وعلى آله يوم القيامة أقرب النبيين منك مجلساً، وأمكنهم منك شفاعة، وأجلّهم عندك قدراً، وأوجههم عندك جاهاً، اللهم صل على محمد وآل محمد، وشرّف بنيانه، وعظم برهانه، وثقل ميزانه، وتقبل شفاعته وقرب وسيلته، وبيض وجهه وأتم نوره وارفع درجته، وأحينا على سنته وتوفّنا على ملته، وخذ بنا منهاجه، واسلك بنا سبيله، واجعلنا من أهل طاعته، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه، وصل اللهم على محمد وآله صلاة تبلغه بها أفضل ما يأمل من خيرك وفضلك وكرامتك إنك ذو رحمة واسعة وفضل كريم، اللهم اجزه بما بلّغ من رسالاتك وأدّى من آياتك، ونصح لعبادتك، وجاهد في سبيلك، أفضل ما جزيت أحداً من ملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين المصطفين، والسلام عليه وعلى آله الطاهرين ورحمة الله وبركاته(1).ن.

ص: 203


1- الصحيفة السجادية: دعائه (عليه السلام) عند ختم القرآن.

من وحي الغدير كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله)للخلافة من بعده

اشارة

من وحي الغدير(1)

كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله)للخلافة من بعده(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ضرورة الإمامة:

إن الإمامة وولاية أمر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان، وقد أطبق عليها جميع العقلاء، ولا يمكن لحياة المجتمع المتحضر ونظام معاشه أن يستقيم بدون إمام ورئيس يدير مع جهازه شؤون الأمة ويدبر أمورها. فوجود النظام الحاكم في المجتمع بمنزلة العقل في جسم الإنسان الذي يوجّه بوصلة الحياة، وبدونه تحصل الفوضى والتشتت والصراعات وتضييع مصالح العباد

ص: 204


1- يضم عدة محاضرات لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله)، مع شرح لبعض فقرات المحاضرتين وتخريج رواياتهما قدّمه بعض الفضلاء. على طلبة الحوزة العلمية، في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير يومي (16، 17 ذي الحجة 1421ه_ - 12 ،13/آذار/2001) وقد أضاف إليهما بعض الزيادات الضرورية.
2- محاضرتان ألقاهما سماحة الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)، في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير يومي (16، 17 ذي الحجة 1421ه_ -12 ، 13/آذار/2001) وقد أضاف إليهما بعض الزيادات الضرورية.

والبلاد.ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذلك: (لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبُل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر)(1).

والحكم في الشرع ضروري كذلك فقد أجمع علماء الإسلام على ضرورة وجود إمام، وإذا كان بينهم خلاف ففي التفاصيل ككيفية تعيين الإمام ومؤهلاته وصلاحياته لا في أصل احتياج الأمة، فأبناء العامة يقولون بالشورى(2)، أو أن الأمر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف(3) وتقمّص إمامتها قهراً، ونحن –الإمامية- نقول أنها بالنص(4)، وأنها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً بالأمر أو صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً، كما في الحديث الشريف:).

ص: 205


1- نهج البلاغة: 1/ 87 الخطبة 40.
2- البخاري/باب رجم الحبلى 4/ 120 عن معالم المدرستين، المراجعات المراجعة 80.
3- الأحكام السلطانية ص7-11 لقاضي القضاة أبو يعلي الفراء الحنبلي - عن معالم المدرستين - أقوال مدرسة الخلفاء ص558.
4- أحصى الصافي الكلبايكاني في كتابه (منتخب الأثر) أكثر من خمسين رواية في هذا المجال، وقال بعد ذلك النصوص الواردة في ساداتنا الأئمة الاثنا عشر بلغت في الكثرة حداً لا يسعه مثل هذا الكتاب وكتب أصحابنا في الإمامة وغيرها مشحون بها واستقصاؤها صعب جداً (منتخب الأثر ص145 والرواية الأولى منتخب الأثر ص97 باب 8 فيما يدل على الأئمة الاثنا عشر بأسمائهم (نقلا عن مدخل إلى الإمامة).

(الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)(1) أي قاما بالأمر أو قعدا عنه لأي سبب من الأسباب.وقد اهتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الأمر بدقة، فكان (صلی الله علیه و آله) لا يُخرج سرية إلا عليها أمير مهما قلّ أفرادها، بل في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الإمام الجائر خير من الفتنة)(2) و: إذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا أحدهما(3)، وكان (صلی الله علیه و آله) إذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له(4)، بل روي في حديث: (والٍ ظلومٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم)(5)؛ لأنه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد، لذا تعامل الأئمة (علیهم السلام) بإيجابية مع السلطات الحاكمة في ما فيه مصالح العباد وحفظ النظام الاجتماعي ورقي الدولة الإسلامية وصيانة كرامتها، إلى درجة أنهم جوزّوا في بعض الظروف دفع الزكاة والخراج إلى السلطة وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة إليهم(6).

في ضوء هذه الضرورة المجمع عليها عقلاً وشرعاً كان من مسؤوليات حامل الرسالة - أي رسالة- ووظائفه بل أهمها على الإطلاق تعيين الخليفة0.

ص: 206


1- البحار ج16 باب 11 ص 307.
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: 2/ 103.
3- كتاب المحجة ج4 آداب السفر عن أبو داود ج2 ص34 عن أبي هريرة عن النبي (صلی الله علیه و آله) قوله (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).
4- معالم المدرستين / ج1 / ذكر من استخلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة في غزواته.
5- ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 2367 والغرر والدرر: ح 10109.
6- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20.

والإمام البديل لعدة مصالح مهمة:1-ديمومة الرسالة واستمراريتها في أداء دورها، فإن أية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الإسلام - تموت بموت صاحبها، فإنه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها القيّمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لأسرارها، لذلك فإنها تنتهي بنهاية صاحبها إلا أن يواصل الطريق من هو جدير بحملها، وأنت ترى الرسالات السماوية - وهي أكمل الدعوات - حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب أصحابها(1).

2- قطع الطريق أمام غير المؤهلين لهذا المنصب الإلهي، فإن الإمرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من أهم ما تنزع إليه النفس الأمّارة بالسوء، ففي الحديث: (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه)(2) إذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون إلى تحصيلها أكثر. وقد اعترفوا أنه ما عانت الأمة من شيء كما عانت من مسألة الإمامة والخلافة وأن الويلات التي أصابتها والدماء التي سفكت ترجع في الأصل إلى هذا الأمر، وهذا واضح تأريخياً.

3- صيانة الأمة من التشتت وحمايتها من التمزق، فإن من شأن تعدد المتصدين لهذا المنصب أن تتعدد الأحزاب والفرق الموالية لهم، وكلٌّ7.

ص: 207


1- كمثال على ذلك المسيحية بمجرد أن رفع عيسى (عليه السلام) أصبح الإنجيل الذي هو حاوي على كل ما يتعلق بالرسالة عدة أناجيل مزورة وموضوعة كإنجيل متي ويوحنا ولوقا ومرقس فلم يبق من الدين المسيحي إلا الاسم.
2- المحجة البيضاء ج6 / فصل حب الجاه ص107.

يجرُّ النار إلى قرصه، فيتمزق أمر الأمة وتصبح طرائق قدداً، وها هي الأجيال بعد الأجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل أمرها إلى الانحلال، لذا قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا](آل عمران:103) [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ](الأنفال:46) وحبل الله الممدود إلى الخلق هما الثقلان كتاب الله وأهل بيت نبيه (صلوات الله عليهم أجمعين) كما دلت عليه النصوص الشريفة(1). وقد أشارت الزهراء (سلام الله عليها) إلى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(2) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر.4- إن حامل الرسالة لا يستطيع أن يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل أن يطمئن إلى وجود البديل؛ لأنه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة، فإذا أحرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع أن يتقدم بلا تردد أو خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي أشار إليه نبي الله موسى (علیه السلام)، لذا كان أول دعاء له: [وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] (طه: 29-32) وفي كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام): (لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ)(3).

هذه أمور يدركها كل عاقل، ويزداد الأمر وضوحاً كلما ازدادت أهمية9.

ص: 208


1- راجع كتاب (شكوى القرآن) وقد تقدم في هذا الكتاب.
2- البحار ج6 باب 23 ص 315.
3- نهج البلاغة، خطبة 4 ص39.

الرسالة كدين الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً إلى يوم القيامة، فهو - أي الإسلام - بهذه السعة والشمول طولاً –على مدى الزمان- وعرضاً –لجميع البشر-، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب.وأشرف موقع هو إمامة المسلمين وولاية أمورهم وخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي قدّر لها أن تشمل شرق الأرض وغربها، كما بشر بذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فأضاءتا له(1) ولهم، وأكدها القرآن [وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً](الفتح:20) [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ](الصف:13)، فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الأهواء.

أفمثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجهل هذه الأمور الواضحة، وهو المتصل بسبب إلى الله تبارك وتعالى، [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى](النجم، 3-4) وهو القائل: (من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية)(2) فهل يكون هو (صلی الله علیه و آله) أول من يخرج عن ربقة الإسلام ويموت على الجاهلية [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ](الكهف:5)، أم يقال أن هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم؟ فهل هذه الأمور أهم من الوصية بالأمة وحفظ كيانها من الضياع؟!

أم يقال أنه (صلی الله علیه و آله) فوجئ بأجله قبل أن يفكر بمستقبل الأمة وقبل أن يستعد7.

ص: 209


1- سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني ج1 ص 290.
2- مناقب آل أبي طالب بن شهر آشوب ج1 ص 217.

للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته، وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع، وحينما قال: (إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في السنة مرة، وعارضني في هذه السنة مرتين، وما ذلك إلا لدنو أجلي)(1).أم يقال أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن حريصاً على الأمة ولا مهتماً بأمرها، فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل أمرها إلى الفناء، ولتذهب أتعابه سدى [كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً](النحل:92)، وهذا لا يصدر من أبسط الناس؛ فالراعي لا يترك غنمه إذا خرج لحاجة أو سفر حتى يعين لها راعياً، ولم يفعلها الخلفاء من بعده، فالأول نص على الثاني، وهو يقول: إني أخشى أن ألقى الله وقد تركت أمة محمد (صلی الله علیه و آله) دون أن أولي عليها أحداً(2)، وجعل الثاني الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)(3)، وقد أرسلت إليه أم المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: أن أوصِ من يخلفك، ولا تترك أمة محمد بعدك هملاً وبدون راعٍ.

فكيف برسول الله (صلی الله علیه و آله) أكمل العقلاء وسيد الحكماء، وهو يرى بعينه الأخطار المحدقة بالأمة من الداخل والخارج، ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة - على تعبير القرآن - والقائلون: [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] (المنافقون:8) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالإسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع، ولم يسلموا ولم يقتنعوا4.

ص: 210


1- صحيح البخاري باب عرض جبرائيل القرآن على النبي.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص164 - 165 في شرحه للخطبة الشقشقية.
3- راجع معالم المدرستين ج1 ص544.

بالإسلام و[قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ](الحجرات:14). وكانوا يعارضون تصرفات رسول الله (صلی الله علیه و آله) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة أفعاله، والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية(1) حينما منعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) من التوقيع على وثيقة الصلح، وعندما عارضوا الإحلال من الإحرام في متعة الحج(2)، وحينما منعوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده أبداً في رزية يوم الخميس(3)، وحينما كانوا يصلّون نوافل رمضان جماعة في المسجدوا

ص: 211


1- راجع نظريات الخليفتين: ج1.
2- عن معالم المدرستين ج2 : في رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن بن ماجة ومسند أحمد ومحمد الزوائد قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة، قال: (اجعلوا حجّكم عمرة) فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: (انظروا ما أمركم به فافعلوه) فردوا عليه القول، فغضب فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله ، قال: (ما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع).
3- رزية يوم الخميس: ما أخرجه البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحوموا عني، فكان بن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (وقد تم التصرف في الحديث إذ نقلوا

وقد نهاهم (صلی الله علیه و آله) عن ذلك مراراً(1)، وحينما تخلفوا عن جيش أسامة رغم لعنه (صلی الله علیه و آله) للمتخلفين عنه(2).مضافاً إلى أن الانتشار السريع للإسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها، وهي نقل أمة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها إلى نور الإسلام وسعادته أدّى إلى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل إلى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها، وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع أول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صلی الله علیه و آله)، وقد أخبره بذلك القرآن الكريم: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ](آل عمران:144) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا تلك الثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلّبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)(3).

وقد أشارت أم المؤمنين عائشة إلى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي].

ص: 212


1- الوسائل : كتاب الصلاة باب عدم جواز الجماعة في صلاة النوافل في شهر رمضان، الحديث الأول.
2- راجع في استقصاء هذه الموارد كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.
3- وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة المائدة آية 54: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].

الطبري(1): كانت السيدة عائشة من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله لم يبلَ وقد أبلى عثمان سنته، وقالوا إنها كانت أول من سمّى عثمان نعثلاً (اسم أحد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا ! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمرّ على وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكثر من عقدين من الزمان.وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وللإسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة، لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الأمة بعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، وأسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأصيب المسلمون بالإحباط والضعف والهزيمة أمامهم، وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة بعد غياب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم إبعاده عن القيادة الدنيوية، لكنه كان يرى مصلحة الدين وإعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء، حتى اشتهرت كلمة الخليفة الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2) وما علمنا أنه احتاج إلى أحد سواه(3).ل.

ص: 213


1- تأريخ الطبري 3/ 477 وقد نقلناه عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت)/190.
2- أخرجه سبط بن الجوزي ، أسد الغابة 4/ 22 ، الإصابة القسم 1/ 270 ، تهذيب التهذيب 7/ 327، عن نظريات الخليفتين لنجاح الطائي.
3- جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي ذلك دليلاً على إمامته حينما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين وخلافته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: احتياج الكل إليه وعدم احتياجه للكل.

ومن الخارج كان هناك المتربصون بالإسلام شراً الذين أعيتهم الحيل في القضاء عليه، حيث بدأوا بتعذيب أصحابه (صلی الله علیه و آله) وقتلهم، ثم حاصروه ومن معه في شعب أبي طالب اقتصادياً واجتماعياً، ثم تآمروا على قتله فهاجر إلى المدينة(1) وبات علي في فراشه(2) ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال أمره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صلی الله علیه و آله)(3)، ولم يبق أمامهم إلا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صلی الله علیه و آله)، بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله أكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر، والمحاولة التي جرت أثناء مسيره إلى تبوك حيث حاول بعض المتآمرين تنفير ناقته (صلی الله علیه و آله) ليلقوه من السفح وتتقطع أوصاله، وقد أعلم (صلی الله علیه و آله) الصحابيَّ حذيفة بن اليمان بأسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكان الخليفة الثاني لا يصلي على أحد حتى يصلي حذيفة ليعلم أنه ليس من المنافقين(4).وفي الخارج كانت أيضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران).

ص: 214


1- حياة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاية الفصل السادس والفصل السابع لمحمد حسين هيكل.
2- حياة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفصل العاشر لمحمد حسين هيكل.
3- حياة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفصل الثالث عشر لمحمد حسين هيكل.
4- راجع (المحلى) لابن حزم الأندلسي، (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد عن (نظريات الخليفتين: محاولة اغتيال النبي).

جدياً في أمره (صلی الله علیه و آله) بعد أن غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً إلى تخوم الشام والعراق شمالاً، بل إنه (صلی الله علیه و آله) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة(1) وغزوة تبوك، وأرسل الرسائل إليهم يدعوهم إلى الإسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الأمة بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) كانت نصب عينه (صلی الله علیه و آله) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولإصلاح الإنسانية وإنقاذها من الظلمات إلى النور، وقد وصفه القرآن الكريم: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ](التوبة:128)، فكيف يترك أمر الأمة سدى؟! [فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ](يونس:35) و[فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ](فاطر:3) فهذا الاحتمال –أي ترك الأمة سدىً من دون إرشادها إلى من يتولى أمرها- مرفوض قطعاً.

بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.

عقيدة العامة في الإمامة:

الأول: -وهو الذي التزم به العامة- إيكال الأمر إلى الأمة نفسها فهي تختار من تشاء، وهو مرفوض أيضاً لعدة وجوه:-

1- قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية، وقد عجزت عن أقل من هذا الأمر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى بعد أن نالت تربية إضافية خلال عقود من السنين.

ففي خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما بدأ أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)ة.

ص: 215


1- معركة مؤتة: كانت في سنة ثمان من الهجرة.

يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة، وقد نسب إلى أبي حنيفة قوله: (أنه لولا قتال علي للبغاة من المسلمين لما عرفنا حكم قتالهم إلى يوم القيامة).وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الإسلامية بأزمة مع الدولة الرومية، عندما أرادت أن تسكّ عملة فيها شتم نبي الإسلام وتتداول في بلاد المسلمين، فأنقذ الموقف الإمام الباقر (علیه السلام)(1)، وهكذا ظلّت الأمة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة (علیهم السلام)(2)، حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة، فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد أن رسم الأئمة (علیهم السلام) كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة، وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة.

وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الأول للإسلام لقرب عهدهم بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالة وانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها، كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ألهانا الصفق بالأسواق)(3)، ويقول بعضهم: كنّا نغتنم فرصة مجيء الإعرابي يسأل من رسول).

ص: 216


1- رواه الدميري في حياة الحيوان عن المحاسن والمساوئ للبيهيقي ورواه بهذا المضمون عن شذرات العقود للمقريزي عن سيرة الأئمة الاثني عشر/القسم الثاني/الإمام الخامس محمد الباقر (عليه السلام) لهاشم معروف الحسني.
2- الغيبة الصغرى والكبرى للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره).
3- صحيح مسلم 2 ص234 في كتاب الآداب، صحيح البخاري 3 ص837، مسند أحمد 3 ص19، سنن الدارمي 2 ص274، سنن ابن داود 2 ص320، مشكل الآثار ج1 ص499. (عن كتاب الغدير ج6 ص158).

الله (صلی الله علیه و آله) لنتعلم أحكام ديننا. فمع عجزهم عن هذه الأمور الجزئية، كيف يوكل إليهم أمر الإمامة التي بها قوام الأمة.2- لو كان لهذا الأمر وجود لبيّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تفاصيله إلى الأمة، فيوضح صيغة الاختيار، ومن الذين لهم هذا الحق، وما هي شروط المرشحين للإمامة وضوابط الاختيار، ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف، وهكذا. ونحن نعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يغفل عن أبسط تفاصيل الشريعة، كآداب المائدة وأحكام التخلي، فكيف يغفل عن مسألة الإمامة وهي أصل الشريعة وأساسها ؟! .

3- عدم التزام نفس الخلفاء الذين أعقبوه بمبدأ الاختيار، فالأول نص على الثاني(1)، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين، فهل تراهم أول مخالفين لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)(2)، بل إن الخليفة الثاني يقر ويعترف (أن بيعة أبي بكر فلتة (أو فتنة) وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه كائناً من كان)(3).

4- إن هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها إلا المطلع على الأسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وأولها).

ص: 217


1- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد / ج1 شرح الخطبة الشقشقية، سيرة الأئمة ج1، وسيأتي في الهوامش القادمة مزيد من التفصيل.
3- شرح النهج ج2 ص23، المراجعات / المراجعة 80، مسند أحمد 1/ 55، البخاري 4/ 111، تأريخ الطبري 2/ 446. (عن نظريات الخليفتين).

العصمة؛ لاشمئزاز الناس من الأخذ ممن يتورط في الذنوب، وكما يظهر من الآية الشريفة [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](البقرة:124)، إنها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول إلا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة، وقد ورد في تفسيرها أن الله اتخذ إبراهيم عبداً خالص العبودية، أي معصوماً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الإلهي [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً](1).وأنت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي، كالآية المتقدمة وقوله تعالى: [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ](الأنبياء:73)، وقوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ](القصص:5)، وقوله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة:24)، لذا قال تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](القصص:68) [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ](الأحزاب:36).

5- إن كون الإمامة بالتعيين والنص الإلهي مرتكز في أذهان المسلمين عامة حتى عند من لم يعتقدوا به ظاهراً، لكن كلماتهم وأفعالهم تبرز ذلك، والشاهد على ذلك ما ورد في روايات عديدة أن الناس كانوا يرددون قولهة.

ص: 218


1- سورة البقرة : 124، راجع تفسير الميزان وأصول الكافي/كتاب الحجة.

تعالى: [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ](الأنعام:124) عند ما يطلع أحدهم عن كثب على سيرة أهل البيت (علیهم السلام) ومواقفهم النبيلة السامية، فكأنه مرتكز في أذهانهم جميعاً أن حمل الرسالة أمر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يتدخل فيه.6- إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الأمة، وإنما أوكل الأمر إلى الاختيار الإلهي، ففي سيرة ابن هشام(1) لما دعا الرسول بني عامر للإسلام، وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال النبي (صلی الله علیه و آله): (الأمر لله يضعه حيث يشاء). إذا كان الأمر كذلك فكيف يُدعى إيكاله إلى الأمة.

عقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في الإمامة:

الثاني: ولم يبق إلا الاحتمال الآخر، وقد تبنته مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، وأرسى قواعده رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستوعبه الصفوة من أصحابه ودافعوا عنه وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء.

وهذا موافق لسنة الله التي جرت في أنبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً أوصياء(2)، فلماذا لا يكون لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وصي [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ

ص: 219


1- السيرة النبوية 2/ 424 .
2- وقد سلسل المسعودي في كتاب (إثبات الوصية) اتصال الحجج وأوصياء الأنبياء من لدن آدم حتى خاتم النبيين -صلوات الله عليهم أجمعين- وأوصياءه. عن معالم المدرستين ج1 ص283.

الرُّسُلِ](الأحقاف:9) [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً](فاطر:43)، وقد أُلفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (إثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي(1)، وهذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل وإعداده ليكون مؤهلاً لمواصلة وظائف ومسؤوليات الإمام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.وهذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في أمير المؤمنين(2) الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد أخفى أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفاها أعداؤه حسداً وحقداً، وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين)(3)، وعن أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبيه.

ص: 220


1- المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ينتهي نسبه إلى الصحابي عبد الله بن مسعود توفي سنة 346ه_، وفي ترجمته بطبقات الشافعية 2/ 307 قيل كان معتزلي العقيدة، وأشار إلى هذا الكتاب الكتبي في فوات الوفيات 2/ 45، وياقوت الحموي في معجم الأدباء 13/ 94 وقالا: له كتاب البيان في أسماء الأئمة، وفي الميزان لابن حجر 4/ 224: له كتاب تعيين الخليفة، سماه في الذريعة وغيرها: إثبات الوصية. (معالم المدرستين ج2).
2- وأنا إلى هنا أتكلم بشكل موضوعي ووفق الظروف المنظورة بعيداً عن النصوص وأقيم سلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمؤسس أمة ومنشئ مجتمع مدني جديد وقائد ناجح حكيم.
3- سيرة الأئمة الاثني عشر ج1 علي وبيت المال ص319 … القول للحسن البصري في جواب من سأله عما يحدّث الناس عنه.

طالب)(1). وكان تميزه واضحاً عن بقية أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكل صفات الكمال، وكان التفاف الواعين المخلصين من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) حوله معروفاً في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبعد وفاته (صلی الله علیه و آله)، كسلمان(2)، وأبي ذر(3)، والمقداد(4)، وعمار(5)، وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والإعداد المركز الذي كان يحيطه به (صلی الله علیه و آله) منذ نعومة أظفاره والتي وصفها أميره.

ص: 221


1- مستدرك الحاكم 3/ 107 بحسب كتاب (بنور فاطمة اهتديت) /136.
2- سلمان الفارسي أو المحمدي: كان أكثر أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً وحكمة، وكان والياً على المدائن في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، توفي في المدائن التي كان والياً عليها في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل أول سنة ست وثلاثين وغسله ودفنه أمير المؤمنين (عليه السلام).
3- أبو ذر: جندب بن جنادة: تقدم إسلامه وتأخرت هجرته، فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، توفي منفياً بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة.
4- المقداد بن الأسود الكندي: قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة من أصحابي واخبرني أنه يحبهم، فقيل: من هم ؟ فقال: علي والمقداد وسلمان وأبو ذر) .. توفي سنة 33 هجرية. (الاستيعاب بهامش الإصابة 3/ 451، والإصابة 3/ 433 -434 عن معالم المدرستين ج1).
5- أبو اليقظان عمار بن ياسر: أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وكان المشركون يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم فمر بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب وطعنت أمه بحربة أبي جهل، شهد عمار المشاهد كلها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتل بصفين مع علي (عليه السلام) وقد جاوز التسعين من عمره.

المؤمنين نفسه بقوله: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ -ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ -ص - مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءََ فَأَرَاهُ, وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسلام غَيْرَ رَسُولِ اللهِ -ص - وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِ-ص- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ)(1). وهكذا هو منه (صلی الله علیه و آله) حتى فارقت روحه الدنيا، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): (وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - ص - أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا. وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - ص - وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه - ص - وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ: مَلاٌَ يُهْبِطُ،7.

ص: 222


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص157.

وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ(1) مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟)(2).ولقد أدى (علیه السلام) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحفظ الإسلام من الضياع، وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق أماناً للأمة من الانحراف، بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(3)، فكانت خلافة أمير المؤمنين لمقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإمامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير أعلاه لا يسع أي منصف أن يحيد عنها، ولم يكن النص الذي سنشير إليه - وهو حديث الغدير - هو الذي جعل من علي (علیه السلام) إماماً وخليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه، لا لشيء إلا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كان وبأية طريقة، ولو بإنكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعلي (علیه السلام) هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وإنما جاء النص للإشارة إليه ولتعريفه ولقطع العذر وإتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف - كما يقولون - .

ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقضّ مضجعه، فإنه يخشى ردود الفعل من هذه الأمة وهو خوف محمود كخوف موسى (علیه السلام) الذي ذكره القرآن وأشرنا إليه، ليس).

ص: 223


1- الهينمة: الصوت الخفي.
2- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج2 ص171-172.
3- أشار إلى كلمته المشهورة (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

شخصياً وإنما على مستقبل الأمة التي هي جديدة عهد بالإسلام وما زالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها، ومازال التعصب يتحكم فيها(1)، فكيف يستطيع أن يضمن ولاءها لهذا القرار الهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (علیه السلام) أن تنصاع إليه، كذلك الفهري الذي ما إن سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (علیه السلام) خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومبايعة المسلمين له حتى جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال له: هذا الأمر منك أم من الله؟ فقال (صلی الله علیه و آله): إنه من الله. فقال: إن كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم. فما خرج منه (صلی الله علیه و آله) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء. وقد ورد أنه سبب نزول قوله تعالى: [سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ] (المعارج: 1-2)(2).

ص: 224


1- لاحظ كشاهد على ذلك كيف أن بشير بن سعد وأسيد بن حضير بادرا إلى بيعة أبي بكر خشية أن يفوز بها سعد بن عبادة. عن كتاب النص والاجتهاد المورد الأول يوم السقيفة ص80 .. واجتماع أكثر الأنصار في السقيفة يرشحون سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، لكن ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبه الخزرجي وأسيد بن الخضير سيد الأوس كانا ينافسانه في السيادة، فحسداه على هذا الترشيح وخافا أن يتم له الأمر فأضمرا له الحبكة مجمعين على صرف الأمر عنه بكل ما لديهما من وسيلة وصافقهما على ذلك وعويم بن ساعدة الأوسي، ومعن بن عدي حليف الأنصار .. وكان مع ذلك ذوي بغض وشحناء لسعد بن أبي عبادة…
2- روى الثعلبي الذي هو من قدوة مفسري المخالفين في شأن نزولها -انظر هامش ج8 تفسير الرازي لأبي مسعود ص292 والسيرة الحلبية ج3 ص302 ونور الأبصار ص69- أنه لما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى ... النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله ففعلناه وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا شيء منك أم من الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي لا اله إلا هو من الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء واتنا بعذاب اليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وانزل الله تعالى [سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ] (حق اليقين في معرفة أصول الدين ج1 / الآية الثالثة الدالة على أن الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام).

وبالمقابل كان (صلی الله علیه و آله) لا يستطيع السكوت عن إنفاذ هذا الأمر وهو يرى نهايته تقترب، والأعداء يتربصون بدينه الدوائر، فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل أن تنعقد البيعة لعلي (علیه السلام).حتى أذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ، بل أمره به وطمأنه من مخاوفه هذه بأنه سيعصمه من الناس، وبين أهمية هذا الأمر بأنه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة، فقال عز من قال: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](المائدة:67).

فليس غريباً أن تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ](المائدة:55) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها أن غرضها تأسيس المجتمع المسلم، وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته وأسس كيانه، وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على أساس الإسلام والمجتمع

ص: 225

الذي ليس كذلك كائناً ما كان وإن سمى نفسه مسلماً، فإنه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي)، فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الأحكام (كآيات أوفوا بالعقود وحرمة الكلب والخنزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين)، وفي الشريعة التي تنظم الحياة [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، هُمُ الظَّالِمُونَ، هُمُ الْفَاسِقُونَ](المائدة، 44، 45، 47، 50) وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.ثم جعل يوم الحسم هذا أعظم عيد في الإسلام، ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لأمير المؤمنين (علیه السلام)، وامتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً](المائدة:3).

وجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتقبل التهاني بهذا الإنجاز العظيم ويقول لأصحابه: هنئوني هنئوني بابن عمي أمير المؤمنين. وأفرد له خباءً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين، واستأذنه شاعره حسان بن ثابت أن يقول شعراً في المناسبة، فأذن له فأنشأ:

يناديهمُ يوم الغدير نبيهم *** بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا

وفيها يقول:

فقال له: قم يا عليُّ فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

وأول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب،

ص: 226

أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(1).وقد نظم هذه الحقيقة التأريخية الدامغة أجيال من الشعراء جيلاً بعد جيل(2)، ومنهم عمرو بن العاص الخصم الألدَّ لعلي بن أبي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثها إلى معاوية يذكّره ببعض الحقائق التي تناساها، ومما جاء فيها:

وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصةً في علي

فأنحلَ_ه إمرة المؤمنين *** من الله مستخلف المنحل

وقال: فمن كنت مولىً له *** فهذا له اليوم نعم الولي

فبخبخَ شيخُ_ك لما رأى *** عُرى عقد حيدر لم تُحلل

فقال: وليكم فاحفظوه *** فمدخله فيكم مدخلي

(راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).

وقد جاء هذا البيان - خطبة الغدير - منه (صلی الله علیه و آله) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل).

ص: 227


1- أخرج الإمام الواحدي في تفسير (يا أيها الرسول بلغ …) من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خم بعلي بن أبي طالب، فلما بلغ الرسالة بنصه (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) بالإمام وعهد إليه بالخلافة أنزل الله عز وجل [اليوم أكملت لكم …] وأول من هنأ علي (عليه السلام) في يوم الغدير هما: أبو بكر وعمر بقولهما: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. (أخرجه الدار قطني - الفصل الخامس من الباب الأول من صواعق بن حجر ص26 وأحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب ص281 ج4 من مسنده). (المراجعات 54 وما بعدها).
2- راجع الموسوعة الفريدة (الغدير) للشيخ الأميني (قدس سره).

عنه وضوحاً: (إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(1)، وإن: (علي مع الحق والحق مع علي)(2) وإنه (علیه السلام) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك(3)، وأنهم والقرآن صنوان لا يفترقان، وثقلان ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا(4).. وغيرها كثير.

لماذا كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام:

إن عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:

1-يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد أن انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فيمكن أن تموت بموته، إلى نوع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أي إلى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الإمامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه (صلی الله علیه و آله).

2-وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الأعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح إلا موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لتنتهي دعوته ففقدوا هذا الأمل الشيطاني بتنصيب أمير المؤمنين (علیه السلام) خليفة.

3-وهو يوم حماية الأمة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي إن

ص: 228


1- حديث المنزلة: عن الإمام أحمد في الجزء الأول من مسنده في آخر صفحة 330 والإمام النسائي في خصائصه العلوية ص6 والحاكم في ج3 من صحيحه المستدرك ص123 والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته عن عمرو بن ميمون (المراجعات : 26).
2- البحار ج10 باب 26 ص432.
3- الوسائل : كتاب القضاء، صفات القاضي، باب5، حديث10.
4- الإمام أحمد والترمذي بعدة طرق تجدها في المراجعات : المراجعة 80.

اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر أمرهم وعلت كلمتهم.4-وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد أن نصب لهم العلم والمحور الذي يلتفون حوله.

5-وهو يوم أمان الأرض ومن عليها من الفناء، لما ورد في الحديث: (إن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر أو مستور، ولولاه لساخت الأرض بأهلها)(1).

6-وهو يوم الهداية إلى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك، فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(2).

7-وهو يوم الإمامة التي هي أس الإسلام وسنامه، فهو لا يقل أهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الإسلام.

لأجل هذا كله كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام كما نطقت به الروايات الشريفة، وفي ذلك اليوم تبلورت فكرة (التشيع) ونضجت ثمارها وأينعت بعد أن كان قد زرع بذورها رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مناسبات عديدة، ابتداءً من يوم الدار وإنذار عشيرته الأقربين في أوائل البعثة الشريفة(3).

ص: 229


1- البحار ج36، باب41، ص315.
2- مفاتيح الجنان : الفصل السادس ، دعاء زمن الغيبة.
3- حياة محمد : الفصل الخامس، ص142، لمحمد حسين هيكل، المراجعات: مراجعة 20 قال فيها حين أنزل الله تعالى على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)== ==[وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيد رجلاً أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، والحديث في ذلك من صحاح السنة المأثورة، وفي آخره قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها غير علي -وكان أصغرهم- إذ قام فقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله برقبته وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

ولهج رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) في مناسبات عديدة، أنقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب أبلغ في الحجة:1- في الدر المنثور للسيوطي ج8/ص589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي (صلی الله علیه و آله) فأقبل علي (علیه السلام)، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، فنزل قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ](البينة:7).

2- ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الأول: الآية الحادية عشرة:

عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ]، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (هم أنت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).

ص: 230

3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج2 ص61.

عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة)، ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير الآية الشريفة: تفسير الطبري وروح المعاني وكفاية الكنجي الشافعي وغيرها(1).

كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده:

لقد كان تخطيط رسول الله (صلی الله علیه و آله) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة أشكال:

الأول: النص المباشر والواضح عليه، وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه، وأنصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين(2) للاطلاع على المزيد من الأدلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة، مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.

الثاني: الإشادة بالأشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صلی الله علیه و آله) منهم أنهم ثابتون على الخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ، ولا تأخذهم في

ص: 231


1- نقلاً عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت) للكاتب والمحامي السوداني عبد المنعم حسن/ص49.
2- السيد عبد الحسين بن السيد يوسف بن السيد جواد بن السيد إسماعيل بن محمد جد الأسرتين آل الصدر وآل شرف الدين بن السيد إبراهيم (الملقب بشرف الدين) ولد في الكاظمية سنة 1290 هجرية، كتابه المراجعات: هو مجموعة مراجعات جرت بينه وبين المرحوم علامة مصر الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر، توفي السيد في 8 جماد الثانية 1377 هجرية.

الله لومة لائم، ويقولون كلمة الحق مهما كان الثمن، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة، فكان (صلی الله علیه و آله) يردد: (سلمان منّا أهل البيت)(1) (إن الجنة لتشتاق إلى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار)(2) (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر)(3) (مُلئ عمار إيماناً من قرنه إلى أخمص قدميه)(4) و(أم أيمن امرأة من أهل الجنة)(5) و(بلال من أهل الجنة)(6) وقال لأم سلمة: (لستِ من أهل البيت، لكنك على خير)(7).فكانت هذه الأوسمة تخطيطاً منه (صلی الله علیه و آله) للمستقبل إذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات، فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب، وتدلّهم على شاطئ الإيمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التأريخ(8) لو كان هناك من يسمع، بينما لم نسمع منه (صلی الله علیه و آله) كلمة واحدة في أولئك الذين انحرفوا عن علي (علیه السلام) وخذلوه،ي.

ص: 232


1- البحار ج1، باب8، ص123.
2- وسائل الشيعة: ج22 خاتمة الكتاب، باب10، ص324.
3- الوسائل ج10، باب2، ص23، سنن ابن ماجه المقدمة باب11، وسنن الترمذي كتاب المناقب، مناقب أبي ذر، ومسند أحمد، وطبقات ابن سعد. (عن معالم المدرستين).
4- الوسائل : ج19، باب6، ص35.
5- البحار : ج17، باب4، ص378.
6- البحار : ج22، باب37، ص142.
7- أخرجه الطبراني في الدر المنثور، وروي عن طريق الخاصة.
8- راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي.

رغم أن منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام.الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الأمر وتمييزهم عمّن هم ليسوا أهلاً له، والذين يستخدمون أساليب لم يقم عليها دليل شرعي من أجل تثبيت استحقاقهم، أو تشويه صورة أهل الحق وإزالتهم عن موقعهم، كما كانوا يقولون: (إن قريش نظرت فاختارت، وإنها أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم)(1) و(إن فلان - وهو الأول - أسنّ من عليّ)(2) و(إن علياً فيه دعابة)(3)، والله تبارك وتعالى يخاطبهم [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً](النساء:65)، ويقول تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](الحشر:7)، وقال تعالى [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](القصص:68) [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ](الأحزاب:36) فما قيمة رأي أحد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ](البقرة:90).8.

ص: 233


1- ابن أبي الحديد : ص107 من المجلد الثالث في شرح النهج، ابن الأثير : ص24 ج3 من كامله. (عن المراجعات : مراجعة 84). سيرة الأئمة : ج1 ص332 هاشم معروف الحسني.
2- الغدير : ج2 ص128.
3- شرح النهج : ج1 لابن أبي الحديد عن شيخه أبو عثمان في كتابه السفيانية، سيرة الأئمة : ج1 ص338.

فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تستطيع الأمة أن تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من أساليب الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق، (فمنها) قوله تعالى: [لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](البقرة: 124)، والعهد هو الإمامة؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال إبراهيم (علیه السلام) بعد جعله إماماً، قال: [وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]، وقد فُسّرت في الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما(1)، فإن من فعل ذلك سفيه، ولا يكون السفيه إمام التقي كما في الحديث(2)، ويشهد له قوله تعالى: [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ](لقمان:13).(ومنها) قوله تعالى: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا](الحديد:10).

(ومنها) قوله (صلی الله علیه و آله): (لا يلي أمر هذه الأمة طليق).

(ومنها) قوله (صلی الله علیه و آله): (فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها)(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)(4).

(ومنها) حشدُهُ (صلی الله علیه و آله) المعادين لخط الإمامة، وفيهم شيوخ قريش في1.

ص: 234


1- روى الفقيه ابن المغازي الشافعي مسنداً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انتهت الدعوة إلي وإلى علي (عليه السلام) ولم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبياً واتخذ علي وصياً. (حق اليقين في معرفة أصول الدين - الحادي عشر من الآيات الدالة على إمامة علي (عليه السلام).
2- الكافي : كتاب الحجة، حديث 438، المجلد الثاني.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 1/ 14، أعلام النساء : 3/ 314. (عن نظريات الخليفتين ج1).
4- الكافي: 5/ 11.

جيش أسامة ذي السبعة عشر ربيعاً، ولعنه من تخلف عن جيش أسامة، وأمر بإنفاذه فوراً(1)، وكان ذلك منه (صلی الله علیه و آله) لإخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لإمامة أمير المؤمنين (علیه السلام).وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحصر الأمر بعلي (علیه السلام)، فبعض المتصدين ممن أغضب فاطمة (علیها السلام) وماتت وهي واجدة عليهم، كما أشهدتهم (صلوات الله عليها) على ذلك، فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى، وهل يلي أمر الأمة أحد من المغضوب عليهم، ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للأصنام ردحاً طويلاً من الزمن، فلا ينالهم عهد الله تعالى، فكيف يكون أحدهم إماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك -كما يعترفون- وهم أيضاً ممن تخلفوا عن جيش أسامة فينالهم حكمه.

وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده، وهزائمهم في الحروب معروفة، ومنهم من ولّى منهزماً في معركة أحد لا يلوي على شيء ثلاثة أيام، حتى بلغ تخوم الشام، فقيل له: إن الأمر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سالماً إلى المدينة.

ومعاوية ومروان ممن أسلموا بل استسلموا بعد الفتح، فلا يستوون مع من آمن وأنفق من قبل الفتح وقاتل، وهم من الطلقاء(2) فلا يحق لهم ولاية أمر).

ص: 235


1- الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل. (المراجعات : مراجعة 90، النص والاجتهاد - سرية جيش أسامة).
2- مستدرك نهج البلاغة : الباب الثاني، كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية وقوله: (…واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الإمامة…).

الأمة. وهم من البغاة، لأنهم قتلوا عماراً في صفين، فكيف يلي أمر الأمة باغٍ أثيم(1).فلو كانت الأمة واعية لتلمست طريقها بوضوح، حيث لم يترك لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عذراً، فهل كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام، وهل سمعت بأحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته ؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي يصفه القرآن [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى](النجم:3-4). وإنما المسألة أبعد من ذلك، إنه يريد أن ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم، وإن كان الأمر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالأمة أبت إلا أن يوالي الحجج على هذه الأمة وينصب لها العلامات تلو العلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس(2).

ولأنه (صلی الله علیه و آله) كان يعلم أن أساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص - وهو الشكل الأول من التخطيط - يُؤوَّل ويُحرَّف، وهذه الثلة المخلصة - وهو الشكل الثاني - يُضيَّق عليها وتحبس أنفاسها، فأبو ذر ينفى إلى الربذة حتى يموت غريباً(3)، وعمار وعبد الله بن مسعود(4) يداس بطنهان

ص: 236


1- البحار :ج36، باب41، ص327، النص والاجتهاد :المورد 95 حرب معاوية لعلي(علیه السلام).
2- المراجعات : المراجعة 86.
3- الوسائل : ج22 باب 12 ص395، معالم المدرستين ج1 ص459.
4- ابن مسعود: أسلم قديماً وأجهر قديماً في مكة فضربوه حتى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة، شهد بدراً وما بعدها، وقطع عثمان عطاءه سنتين لإنكاره على الوليد ما ارتكبه زمان

وتوجأُ عنقه، وأم أيمن امرأة أعجمية لا تقبل لها شهادة(1)، والحسن والحسين طفلان صغيران(2)، وعليّ يجر النار إلى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة(3)، والزهراء س تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد أيام وهكذا …، لذا كان الشكل الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الأجيال، تملأ أفواه مزوري الحقائق بالتراب.ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صلی الله علیه و آله) وإذا بالأمر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (علیه السلام)، وهو يعلم أن محل ابن أبي طالب منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير(4).

وانه لعجيب فعلاً، ولو لم يكن حقيقة ثابتة أجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به، وقد أوجدت في عين أمير المؤمنين قذى، وفي الحلق شجى، وفي القلوب جمرة لا تطفأ إلى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعمة.

ص: 237


1- بحار الأنوار: ج28، باب4، ص302، سيرة الأئمة: القسم الأول ص118 لهاشم معروف الحسني.
2- سيرة الأئمة : القسم الأول ص119.
3- سيرة الأئمة : القسم الأول، ص118.
4- من كلمات لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

الحكم الله والخصم محمد (صلی الله علیه و آله)(1)، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) بهذا الصدد: (إن حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكر حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غدير خم)(2).وعلى أية حال، فليست هذه الحالة فريدة في التأريخ، بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية، وما دامت النفس الأمارة بالسوء الميالة لاتباع الهوى وإشباع الشهوات والنزوع إلى التسلط وحب الجاه، وقد عشنا مثلها فإلى الله المشتكى(3).

والذي أريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وإن كان هذا مطلباً مهما، لكني بالإضافة إليه أقول: إن العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الأنبياء(4)، ليس فقط في الحقوق والامتيازات، وإنما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات، خصوصاً وقد أمرنا بالتأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21).

ومن تمام التأسي والوراثة إعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً أو أكثر، وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الإلهي الشريف، وأي تقصير فيه غير مغتفر2.

ص: 238


1- من خطبة الزهراء التي احتجت بها على الصحابة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). (المصنف). راجع شرح النهج لابن ابي الحديد : ج16 ص210.
2- بحار الأنوار: ج37 باب52 ص158.
3- يشير (دام ظله) بذلك إلى ما حصل من حركات (انقلابية) على وصية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) رغم النصوص والإشارات المتكررة.
4- الكافي: 1/ 32.

لا عند الله سبحانه ولا عند رسوله (صلی الله علیه و آله) ولا أوليائه العظام ولا عند المجتمع، وبعد أن يطمئن إلى إكمال إعداد البديل علمياً وفكرياً وأخلاقياً وعقائدياً - وهي المقومات الأربعة لشخصية العالم الديني، بل كل مسلم واعٍ مخلص- يجب أن يشير إليه صريحاً، وهذا هو الشكل الأول من التخطيط.وأما الشكل الثاني فيؤدى بالإشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمئن إلى استقامتهم على الطريقة وإنصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الأمور، حتى يرشدوا المجتمع بإخلاص وبلا لبس وإجمال وغموض إلى المرجع البديل.

وأما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط، فمنها شروط ثابتة، وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العملية، ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة، وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. وهذا الكلام كله على نحو الإشارة والإجمال، وللتفصيل محله المناسب.

هذا بالنسبة لتكليف المرجعية، وفي مقابله توجد مسؤولية على الأمة يجب أن تعيها وتؤديها، وهي سؤال المرجع عن البديل، فإذا عينه كان من واجبهم الالتفاف حوله والإشادة به ودلالة المجتمع عليه، وقد تكاملت هذه التربية عند أصحاب الأئمة (علیهم السلام)، فكانوا يسألونهم: (مَنْ الحجة بعدك)(1) و(إلى منة.

ص: 239


1- أصول الكافي : كتاب الحجة باب الإشارة والنص على الأئمة.

المفزع إذا حدث حادث)(1) وهكذا، وإذا ذهب إمام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الإمامة، بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي إمام(2)، كامتحانهم لجعفر أخي الإمام العسكري (علیه السلام) الذي ادعى الإمامة بعد أخيه (علیه السلام).

ص: 240


1- نفس المصدر.
2- راجع كتاب أصول الكافي/كتاب الحجة.

ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق؟

اشارة

ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

كانت وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور(2)، فتكون رزية يوم الخميس بحسب تسمية عبد الله بن عباس(3) يوم

ص: 241


1- محاضرة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية يوم 25 صفر 1423 ه_ المصادف 8 آيار2002م في مسجد الرأس الشريف مجاور الصحن الحيدري المطهر بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
2- منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل للشيخ عباس القمي ج1 الفصل السابع، تأريخ الطبري المجلد الثاني ص197 ، سيرة بن هشام ج4/ اليوم الذي قبض الله تعالى فيه نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
3- تأريخ الطبري: المجلد الثاني، السنة الحادية عشر. ومصادر أخرى صرّحت بالأسماء والكلمات مما أخفاه البخاري في صحيحه وغيره حفاظاً على حرمة الصحابة، فروى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: ((لما حُضِر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال، فقال النبي: (هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده) فقال بعضهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول:

الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم أمس، وكانت رزية حقاً، إذ انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الأمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الإمام والخليفة من بعده، وأعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين، لذلك قال (صلی الله علیه و آله) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي)(1) ، وأوصى أمته بهم خيراً، ولو كان يعلم أن الأمر يؤول إليهم لما احتاج إلى الوصية بهم، وفي حديث للإمام الصادق (علیه السلام) يعبر فيه عن ألمه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (إن حق الرجل يثبت بشاهدين، وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)(2).ولا أريد أن أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين، فلهذه المناقشة محل آخر، لكننا نريد أن نبيّن أحد هذه الأسباب وهو وهمٌ وقع فيه أغلب الصحابة الذين لم ينصروا الحق وخذلوه من باب حسن الظن بهم عدا قادة الانقلاب –وهم أفراد- ومن كان يدفعهم إلى ذلك ممن وترهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) في الحق. ولا زال هذا الوهم في ذهن العامة مما يهوّن عندهم من خطورة هذا التضييع وهو القصور في فهم النزاع، فقد فهموه على أنه نزاع بين شخصين، هما علي بن أبي

ص: 242


1- منتهى الآمال ج1 ص205.
2- البحار ج37 باب52 ص158.

طالب (علیهما السلام) ومن نازعه الأمر، فهم لا ينكرون فضل علي (علیه السلام) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشجاعته وفناءه في الله، لكنهم يرون أن المقابل أيضاً من السابقين إلى الإسلام وثاني اثنين إذ هما في الغار وصهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبدري وأحدي، بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بأمير المؤمنين أو يقتربوا منه (علیه السلام)، وإزاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق أن ينشق المسلمون إلى طائفتين عظيمتين، ولا جدوى في البحث فيها فقد أكل عليها الدهر وشرب.ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم، ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق، لأن الخلاف ليس بين شخصين –وإن كان بحد ذاته دليلاً كافياً لسمو علي على غيره كسموّ الثريا على الثرى- وإنما بين مبدأين وخطين كان علي (علیه السلام) رمز الأول ومنافسه رمز الثاني:

الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض العالم بخفيات الأمور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون، واختاره للأمة لتصل إلى كمالها المنشود، وبلّغه رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) في يوم الغدير.

يقف في أول الخط علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن بعدهما الأئمة الطاهرون الذين أطبقت الأمة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الإلهية، ومن بعدهم العلماء العارفون الأتقياء الصالحون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الثاني: خطٌّ يصنعه البشر بأهوائهم وأساليبهم الشيطانية من قهر وإذلال أو إغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة، وكان الآخر

ص: 243

رأس هذا الخط، فقد اختارته قريش – كما يقول الخليفة الثاني - وليس الله الذي اختاره، ويتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا، وإنما لأتأمّر عليكم(1)، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي أحرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله)(2)، ومن بعده الآخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض ونشروا الفساد وضلّوا وأضلّوا [كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا](الأعراف:38).وعندما تعرض المقارنة بهذا الشكل، ولو استوعبها الصحابة والأجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الإيمان بصحة الخط الأول والتمسك به، على أنهم غير معذورين من أول الأمر، لأن القرآن صريح [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً](الأحزاب:36)، وقال تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ] (القصص:68)، بل إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر أن يسلموا مقابل أن يجعل لهم الأمر من بعده، فقال (صلی الله علیه و آله): (ليس الأمر لي، وإنما هو بيد الله يختار له من يشاء)(3).ر.

ص: 244


1- منتهى الآمال : الفصل الثالث ص435 عن البحار ج44 ص49.
2- تأريخ الطبري المجلد الثالث، سيرة الأئمة لهاشم معروف الحسني ج2 منتهى الآمال ج1 الباب الخامس ، معالم المدرستين ج5/ يزيد في أفعاله وأقواله (روى صاحب الأغاني: أن يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه…).
3- السيرة النبوية : ج2/ عرض الرسول نفسه على بني عامر.

ومحل الشاهد أني اعتقد أن طرح الموضوع بهذا الشكل يكون أجدى وأوضح، ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً، وهو: ماذا خسرت الأمة بتضييعها وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخليفة من بعده؟ وماذا ترتب على هذا الإهمال من نتائج سلبية؟ وحينما أتناول هذا البحث فإني لا أريد فقط أن أناقشها كقضية تأريخية، وإن كانت من الأهمية بمكان؛ لابتناء أصل من أصول الدين وهو أصل الإمامة عليها.ولكن الذي أريده هو الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة، لأن الإمامة بالحمل الأولي وإن كانت مختصة بالأسماء المعينة إلا أنها بالحمل الشايع أعني النيابة العامة عن الإمام وولاية أمر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة الجامعة لشروط القيادة مستمرة إلى أن يرث الأرض ومن عليها الإمام المنتظر (علیه السلام)، فإذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها بإذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الأمة أمرها إلى من لا يستحق، فيكون من الضروري الالتفات إليها، فنعود إلى أصل السؤال، وهو: ماذا خسرت الأمة عندما ولّت أمرها غير صاحب الحق الشرعي؟ وماذا ترتّب على ذلك من نتائج سلبية؟:

النتيجة الأولى: تصدي أناس غير مؤهلين لإمامة الأمة.

فمن المعلوم أن أية رسالة وأية آيديولوجية - بتعبير اليوم - لا بدَّ أن يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً، بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وأفكاره وعلاقاته، ولم يكن القوم

ص: 245

كذلك، وإنما هم أناس عاديون كبقية أفراد المجتمع، ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسَّدها في حياته خيراً منهم، وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته ويتمردون على أوامره(1)شرح النهج لابن أبي الحديد : ج1 شرح الخطبة الشقشقية.(2) حتى آخر حياته؛ بتخلفهم عن جيش أسامة(3)، وعدم تلبية أمره (صلی الله علیه و آله) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس(4). وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم، حيث قضوا أكثر أعمارهم فيها، وقد كشف عن عدم أهليتهم جهلهم وتخبّطهم في الأمور، ويصف أمير المؤمنين إمرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية: (فَيَا عَجَباً، بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا - فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءََ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا – أي تجرح جرحاً عظيماً-، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ فِيهَا وَالاِعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ - لَعَمْرُ اللهِ - بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ - وهو إباء الفرس عن ركوب ظهره-، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ – أي سير غير مستقيم -)(4).

وكانت أبرز سماتهم الجهل بأحكام الله تعالى مع أنها أوضح شروط القيادة الشرعية حتى قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال)(5) بعد8.

ص: 246


1- راجع هامش
2- ص188، والهوامش ص189.
3- السيرة النبوية لابن هشام : ج4/ أمر الرسول بإيفاد بعث أسامة.
4- راجع هامش (1) ص 189.
5- الغدير : المجلد الأول ص182 والمجلد السادس ص98.

أن نهى عن زيادة المهر عن حد معين، فأجابته امرأة: أما سمعت قوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:20).وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تتكرر في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كالصلاة على الجنائز، ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ألهانا الصَّفْقُ بالأسواق(1)، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعصمته، فيقول له أحدهم وجهاً لوجه: (أنت الذي تزعم أنك رسول الله)، أو يقولون عنه: (إن الرجل ليهجر)(2).

في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع، ذاك هو علي بن أبي طالب (علیهما السلام)، فاستمع إليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إِلى صَدْرِهِ ، وَيَكْنُفُني في فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّني جَسَدَهُ، وَيُشِمُّني عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيه، وَمَا وَجَدَ لي كَذْبَةً في قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً في فِعْلٍ).. إلى أن قال (علیه السلام): (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَ يَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْري وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صع.

ص: 247


1- صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الرابع عشر، ص 134.
2- تأريخ الطبري : المجلد الثاني ج3 السنة الحادية عشر، سيرة الأئمة الاثنى عشر : القسم الأول/ مع النبي في ساعة الوداع.

وَخَديجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسالَةِ، وَأَشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ حينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرى مَا أَرى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلى خَيْرٍ)(1)، وفي نهاية خطبة مماثلة أخرى يسأل (علیه السلام) مستنكراً: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنّي حَيّاً وَ مَيِّتاً ؟)(2).هكذا كان يتم تهيئة الإمامة البديلة، أما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك، لذا فقد أفرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1- تشوّه صورة الإسلام نفسه، لأن كثيراً من الأمم والشعوب دخلت الإسلام بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فهي لم تأخذه من مصدره، وإنما نقل لها عبر كلام وسلوك أصحابه، ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الإسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة أمامهم فَتَبنّوها على أنها الإسلام الحقيقي، وتزايد هذا البعد عن الإسلام بمرور الزمن، حتى صرت ترى أقواماً لا تفقه من الإسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.

2- تجرّي أعداء الإسلام خصوصاً اليهود عليه، وما كانوا يستطيعون أن يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لعدم وجود ثغرة يمكن أن يدخلوا منها، أما وقد تصدّى لقيادة هذه الأمة ناس غير مؤهلين لهذا الموقع العظيم، ويمكن التغلب عليهم وإحراجهم، فمن السهولة إذن هزّ ثقة المسلمين

ص: 248


1- نهج البلاغة : شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص157.
2- نهج البلاغة : شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص171-172.

بدينهم بتكرر الفشل من قادتهم، وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين، فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة التي أحرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالإحباط، وكادوا يرتدون لولا وجود أمير المؤمنين (علیه السلام) بالمرصاد، الذي كان يجيبهم على كل أسئلتهم ويردّ كيدهم إلى نحورهم(1).3- انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى، بعد أن أصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة، وإنما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف، حتى أصبح مستساغاً أن يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص.

أي الحكم والتشريع بالآراء الشخصية خلافاً للنص الإلهي الحكيم، وهو يعني أن الإنسان ينصّب نفسه مشرعاً وإلهاً يطاع في مقابل ألوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية، وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى رفضاً قاطعاً، وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً إلى الشريعة المقدسة جاهلية، فقال تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]، وفي آية أخرى [الظَّالِمُونَ]، وفي ثالثة [الْفَاسِقُونَ] (المائدة:44 ،45 ،47)، وكان من شروط الإيمان الكامل: التسليم والإذعان لحكم الله تعالى [فَلا

ص: 249


1- الغدير : المجلد السابع ص177 – 179.

وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً](النساء:65)، لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً، ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة أسباب:1- جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على أحكام الشريعة، فراحوا يستنبطون من أنفسهم ما يسدّ نقصهم.

2- لأجل المحافظة على الأغراض والمصالح التي أرادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه، وتبرير الأفعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3- تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التي كانت مصدر خير للأمة، ومنها الزواج المؤقت الذي قال عنه أمير المؤمنين (علیه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي)(1)، وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات، فمثل مالك بن نويرة(2) الذي شهد له رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجنة يُقتل، ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة، ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأوّل خالد فأخطأ(3).6.

ص: 250


1- الكافي:5/ 448.
2- مالك بن نويرة الحنفي اليربوعي من أرادف الملوك ومن شجعان عصره وفصحائهم وكان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلّص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، انتظر بقومه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يتبين موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فغدر بهم وقت الصلاة وأمر بقتل مالك حين رأى جمال امرأته.
3- راجع كتاب السقيفة للشيخ المظفر: 26.

ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل(1) وصفين(2)، وكله اجتهاد يؤجرون عليه وإن أخطأوا فلهم أجر واحد.وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق، ووضعوا له أصولاً وقوانين، وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها.

فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تنقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية النكدة إلى سمو التوحيد وطهارة الإيمان وسعادة الدارين، وقد أُريد لهذه المسيرة أن تتكامل لتنشأ أمة متكاملة على يد رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين من آله، لكن إبعاد الأئمة (علیهم السلام) عن موقع قيادة المجتمع أدى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:

1- إن من العناصر المهمة في التربية هي القدوة والأسوة الحسنة على تعبير القرآن، لأنه يمثل التطبيق والمثال العملي المجسِّد للأفكار التربوية، فإذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر، ويبقى مجرد حبر على ورق، والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة، ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الإسلامي، بل إنه على مرور الأيام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الإسلام، فكيف نتوقع منه أن يربي الأمة ويقودها نحو التكامل؟ ففي حين يقرأ المسلم في أخلاق الإسلام (لا فضل

ص: 251


1- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
2- نفس المصدر.

لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم الذين يسمونهم الموالي، ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبينما يقرأ في القرآن [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى](الشورى:23) يجد السلطة تلاحق أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد حاكم المسلمين يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محرابهم.2- فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة، والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الأمة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ](آل عمران: 104) وقد بدأت هذه النفوس الأمارة بالسوء تظهر في أيام الخلافة الأولى في وقت مبكر، وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم، وأصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره، بحيث أن عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في أمر تعيين الخليفة من بين الستة أهل الشورى يشترط على علي (علیه السلام) أن يبايعه بشرط أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) وسيرة الشيخين(1)، فما هي سيرة الشيخين التي يضمّها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله)؟ إنها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الأولى، بحيث أن عبد الرحمن هذا وأمثاله تركوا من الذهب ما يُكسّر بالفؤوس – حسب ما ينقل التأريخ - ولم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام)9.

ص: 252


1- بحار الأنوار: 31/ 399.

ليوافق على هذا الشرط فيكون منه إمضاءً واعترافاً بهذه السيرة، لأن هذه السيرة إن كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها واشتراطها، وإن كانت مخالفة فارمِ بها عرض الجدار، فما الوجه لضمِّها إلى أصلَي التشريع.3- الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للأمة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعين بما في أيديهم، فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يطلع على مواقف علي (علیه السلام) مباشرة أن يوالي علياً ويتبعه، وهو يسمع صحابياً يروي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن الآية الشريفة: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] (البقرة: 204-205) نزلت في علي بن أبي طالب.

فلا نتوقع من أغلب المسلمين في الأرض إلا أن يحملوا هذه الصورة المشوهة للإسلام، لأنهم لم يسمعوا غيرها، ولم يشاهدوا غيرها، فكان طبيعياً أن يعتقدوا جازمين أن هذا هو الإسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية أن تغيّب الإمام الثاني عشر (علیه السلام) هذه المدة الطويلة إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور، كل ذلك لتستمر تربية الأمة مدة أطول، ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات أكثر، حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الإمام المهدي (علیه السلام)، بينما لو قدر لهذه الأمة أن تتربى في أحضان الأئمة المعصومين (علیهم السلام) لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التأريخ بكثير.

ص: 253

النتيجة الرابعة: تمزق الأمة وتشتتها وتفرقها شيعاً وأحزاباً [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](الروم:23).

وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الإمامة الحقيقية، لأن سر تشريع الإمامة هو تحصين الأمة من التمزق والانحراف، كما قالت الزهراء (علیها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة أبيها (صلی الله علیه و آله): (وَجَعَلَ إمَامَتَنَا نِظَاماً للمِلَّةِ)(1) أي تنتظم بها أمورهم وتستقر، وقال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا](آل عمران:103) [ولا تَنَازَعوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ](الأنفال:46)، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله (صلی الله علیه و آله) - كما بينتُ في شكوى القرآن(2) -.

مضافاً إلى أن هذا الموقع بعد أن خرج عن مستقره وأبعد عنه أهله أصبح مطمعاً لكل حالم به، وشهوة التسلط أقوى الشهوات، وفيها استجابة للأنانية واستكبار النفس، فمن الطبيعي أيضاً أن تكثر الصراعات حول هذا المنصب، وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والأخلاق.

وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتأريخ لنقرأ بكل أسف وألم يفتت القلوب المآسي التي جرَّها التنازع على السلطان، والخسائر الفادحة في الأنفس والأعراض والأموال التي هدرت في هذا الصراع، فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية؟ ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين؟ وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في أمة الإسلام؟

ص: 254


1- البحار : ج6 باب 23 ص315.
2- راجع صفحة 91 من هذا المجلد.

وخير معبر عن هذه الآلام وهذه الخسائر أحد الأدعية الواردة في لعن أعداء آل محمد (صلی الله علیه و آله) والبراءة منهم إلى أن يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومؤمن أرجوه، ومنافق ولّوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيروه، وأثر أنكروه، وشر آثروه، ودم أراقوه، وخير بدلوه، وكفر نصبوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، ونفاق أسرّوه، وغدر أضمروه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وأمان خانوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام أحلوه، وبطن فتقوه، وجنين أسقطوه، وضلع دقوه، وصك مزقوه، وشمل بددوه، وعزيز أذلوه، وذليل أعزوه، وحق منعوه، وكذب دلسوه، وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروها، ورسوم منعوها، وأحكام عطلوها، وبيعة نكثوها، ودعوة أبطلوها، وبينةٍ أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة ارتقوها، وشهادات كتموها، ووصية صنعوها)(1).ولو شئنا لذكرنا أمثلة وشواهد على كل فقرة، لكنها مما لا تخفى على المطلع على التأريخ، فأي قلب لا يذوب أسىً على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح؟!.1.

ص: 255


1- البحار : 82/ 261.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها.

واقتصاره على الطقوس التعبدية والشؤون الفردية فقط، فإن القوم وإن استطاعوا بالترغيب والترهيب أن يسلبوا السلطة الدنيوية من الإمام (علیه السلام)، إلا إنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يسلبوا مكانته من القلوب وهيبته في النفوس، ورجوع الناس إليه في شؤونهم الدينية، هذا الانفصال الذي عبر عنه هارون الرشيد – كما يسمونه - لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للإمام الكاظم (علیه السلام) بما لا نظير له، فقال: (ويلك، هذا إمام القلوب وأنا إمام الأبدان)(1)، والإمام وإن سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية من أجل حفظ الإسلام وكيان المسلمين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال التنازل لهم عن الإمامة الدينية أو الاعتراف بهم وإمضاؤهم كممثلين لهذه السلطة، فإن في ذلك خيانة لله ولرسوله وللإسلام، على أن هذا الحق لا يتصور التنازل عنه، فإنه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل قدرة وقابلية على تلبية احتياجات الأمة، فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الأمة حاجتها وآمالها وطموحاتها عنده أصبح إماماً، وهكذا كان علي (علیه السلام) فما سمعنا انه احتاج إلى أحد في شيء، بل على العكس كانوا يرجعون إليهم في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم، حتى اشتهر قول الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2)، ولذا استدل بعضهم على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) باحتياج الناس إليه واستغنائه عن

ص: 256


1- سيرة الأئمة الاثني عشر : القسم الثاني : ص390.
2- سيرة الأئمة الاثني عشر : القسم الأول : ص304.

الناس(1).وهذا الفصل بين السلطتين ترسخ وتعمق وانعكس على الدين نفسه، فأصبح مرتكزاً في الأذهان أن إدارة شؤون الحياة ليس من شؤون الإمامة الدينية، وأن دورها يقتصر على العبادات وبعض الأحكام الشخصية، والتقوا بذلك مع نظرة الجاهلية: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهذا هو الشرك بعينه، فإن الملك كله لله وحده والحكم كله لله وحده، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم، أترى أن الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم أبسط التصرفات الحياتية، كالتخلي والنوم والاكل والجماع ووضعت لها أحكاماً وآداباً، فهل تغفل عن وضع أنظمة وقوانين تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك، إلا أنهم لا يذعنون لها لعدة أمور:

1- إن الشريعة لا تنسجم مع أهوائهم وأنانيتهم وحبهم للاستئثار بالفيء وسائر الامتيازات وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2- إن تحكيم الشريعة فيه إظهار لجهلهم وقصورهم وتقصيرهم، وهو ما تأباه نفوسهم الأمارة بالسوء.

3- إن ذلك أيضاً يعني احتياجهم للإمامة الدينية، وبالتالي يعني تفوق أولئك عليهم واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.).

ص: 257


1- نسب الاستدلال بهذا الوجه على إمامة علي بن أبي طالب وبنيه عليهم السلام إلى الخليل الفراهيدي (رحمه الله)، وروي عن الحارث بن المغيرة قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بأي شيء يُعرف الإمام؟ قال بالسكينة والوقار، وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد) (بحار الأنوار: 25/ 156).

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الأمة والخلافة. لأن الأمر لم يعد في نظر المتصدين أمر إصلاح وهداية وتكميل النفوس ونيل رضا الله تبارك وتعالى حتى تتعلق بهم الأمة وتهفو إليهم القلوب، بل زعامة وملك ومصالح واستئثار واستعلاء، وقد عبر عنه القوم من أول يوم وهم بعد في السقيفة فكان لسانهم: إنما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه أحد(1)، وكانت المسألة أوضح بالنسبة للأقوام الأخرى التي دخلت الإسلام، وقد أشعروهم بأن الخلافة ملك للعرب، فإذا كان ملكاً عضوضاً وهم المستفيدون منه فما الذي يشد سائر قطاعات الأمة إليهم؟ وما الذي يحثهم على الدفاع عنهم؟ وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟ بل على العكس سادت روح الكراهية والحقد والانتقام كما حصل لأبي لؤلؤة الفارسي غلام المغيرة بن شعبة الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس والاستهزاء بهم، فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية(2).

وبالمقابل كان هناك علي (علیه السلام) وبنوه الذين ملكوا القلوب، فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم إبراهيم [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ](3) والذي لم تستطع الخلافة بكل جبروتها أن تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك واضحة في أذهانكم عندما عجز عن الوصول إلى الحجر لازدحام الناس، فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام، وما أن قدم الإمام السجاد (علیه السلام) حتى7.

ص: 258


1- سيرة الأئمة : القسم الأول ، السقيفة.
2- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
3- إبراهيم : 37.

انفرج عنه الناس سماطين، فمشى بكل وقار وهيبة حتى وصل إلى الحجر الأسود، وهشام ينظر(1)، مع أن أغلب الحجيج هم ليسوا من شيعة أهل البيت (علیهم السلام) كما هو معروف. وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) رغم تواضعه بين أصحابه حتى كأنه أحدهم إلا أن له هيبة عظيمة في نفوسهم كما وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية(2).

وذاب أصحابهم في حبهم قربة إلى الله تعالى ووفاء لجدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعرفاناً لحقهم عليهم، وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الأبدان، فهذا ميثم بن يحيى التمار تقطع يداه ورجلاه ويصلب على جذع نخلة، فيطلب من الناس الاجتماع حتى يحدثهم بفضائل أمير المؤمنين (علیه السلام)، فلم يمهله …

ص: 259


1- رواها السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت وحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلاً من كثرة الزحام .. وفي ما هو ينظر إلى الناس إذ أقبل الإمام زين العابدين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرَجاً .. فانفرج له الناس عنه ووقفوا له إجلالاً وتعظيماً حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس وُقّفٌ ينظرون إليه وكأنما على رؤوسهم الطير فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم، هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد.، وفي هذه الحادثة ارتجل الشاعر الفرزدق أبياته المشهورة والتي مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفهُ والحِ_لُّ والحرمً هذا ابن خيرِ عبادِ اللهِ كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
2- نقل الرواة عن ضرار بن ضمرة أنه دخل على معاوية يوماً فقال له يا ضرار صف لي علياً، فقال له: اعفني يا معاوية، فقال له: لا أعفيك، فقال له ضرار: أما إذا كان ولا بد من ذلك، فقد كان والله بعيد المدى شديد القوى … إلى أن قال … ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبة له ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا …

الفسقة حتى قطعوا لسانه(1)، وهذا حجر بن عدي يؤخذ مقيداً إلى الشام ويحفر له القبر ويفرش له النطع ويؤمر بسب أمير المؤمنين وإلا فالقتل ومعه ابنه، فيختار ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، ويقدم ابنه ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى ولئلا يعظم على الابن قتل أبيه فيتراجع، ثم قدم فقتل صابراً محتسباً(2). وهذا عمار بن ياسر يقاتل في صفين على كبر سنه ويقول: (والله لو ضربونا بأسيافهم حتى أبلغونا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل)(3).4.

ص: 260


1- إن عبيد الله بن زياد قال لميثم التمار بعد أن قبض عليه: تبرأ من علي بن أبي طالب، فقال له: فإن أنا لم افعل؟ قال: إذن والله لأقتلك، قال: لقد أخبرني مولاي أنك ستقتلني مع تسعة أخر على باب عمرو بن حريث، قال ابن زياد: لنخالفنه كي يظهر كذبه، قال ميثم: كيف تخالفه، فوالله ما أخبر إلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه وأين هو من الكوفة وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول إني مجاورك، فأمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومثالب بني أمية وما سيصيبهم== ==من القتل والانقراض، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجموه كي لا يتكلم فجاءه في اليوم الثالث لعين بيده حربتين وهو يقول: أما والله لقد كنت ما علمتك إلا قوّاماً صوّاماً، ثم طعنه في خاصرته فأجافه (أي حصل جوف في خاصرته من الطعنة) ثم انبعث منخراه دماً في آخر النهار فخضب لحيته بالدماء واستشهد قبل قدوم الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العراق بعشرة أيام.
2- حجر بن عدي الكندي الكوفي من أصحاب أمير المؤمنين ومن الإبدال كان أميراً على بني كنده من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفين وكان أمير الجيش يوم النهروان، وقد استشهد حجر وجمع من أصحابه بسعاية زياد بن أبيه وبحكم معاوية بن أبي سفيان سنة إحدى وخمسين للهجرة.
3- سيرة الأئمة : القسم الأول ص474.

وأصحاب الحسين (علیه السلام)، وما أدراك ما أصحاب الحسين (علیه السلام)، الذين لم ير لهم نظير في الولاء والصدق والإخلاص والتضحية، يقدم أحدهم على الموت وهو مبتسم، فيقال له: ما عهدناك هازلاً قبل اليوم؛ قال: وكيف لا أبتسم وما بيني وبين معانقة الحور العين إلا أن يميل عليَّ هؤلاء بأسيافهم فألتحق بالأحبة محمد وصحبه(1).

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الإنسانية.

بحيث احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لكي نصنع الطائرة والكومبيوتر ونغزو الفضاء، وكان يمكن لهذه الأمور وغيرها مما لم يصل إليه العقل الإنساني إلى الآن أن تتحقق قبل مدة طويلة، لأن اليد الإلهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية بفضل ما بثه الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) من علوم، أو من خلال الإلهام والإيحاء، ولولا الرعاية الإلهية لما استطاع الإنسان أن يهتدي إلى أبسط الأمور، حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه، حتى بعث الله له غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه(2).

وإن القرآن الكريم ليضم أسرار ومفاتيح العلوم كلها فيه [تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ](النحل:89)، فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية: [يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ

ص: 261


1- برير بن خضير الهمداني كان زاهداً عابداً سيد القراء ومن أشراف الكوفة. منتهى الآمال : ج1/ ليلة العاشر من محرم. ونفس الموقف لحبيب بن مظاهر رحمة الله عليه.
2- إشارة إلى قصة ابني آدم (عليه السلام) هابيل وقابيل، وذلك عندما قتل قابيل هابيل ولم يكن يعرف عملية الدفن لولا أن بعث الله غراباً يبحث في الأرض فعرف قابيل ذلك، في الآيات من سورة المائدة: 27 – 31.

وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ](الرحمن:33)، وهو سلطان العلم والتكنولوجيا، كل هذه الأسرار ومفاتيح العلوم كانت عند أمير المؤمنين (علیه السلام) علّمه إياه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألف باب من العلم، ينفتح لي من كل باب ألف باب من العلم)(1).وإن شئت الاطلاع على ما كان يمكن أن يقدمه علي وبنوه (ع) ليقدموا ركب الحضارة الإنسانية وليوفروا لها السعادة والحياة الطيبة فراجع عدة كتب ألفت في هذا المجال، ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات وقوانين احتمالية أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الحقيقة، بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه، يراها بالبصيرة والوجدان رأي العين، فحفر الكثير من الآبار والعيون وأوقفها للمسلمين في وقت كان الآخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء، فأين علم الجيولوجيا من هذه المعرفة الدقيقة بطبقات الأرض وما تحتها من كنوز ومعادن، وكان يقول: (لو شئت لاتخذت لكم من هذا الماء نوراً) يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير في مختلف حقول العلم والمعرفة، ثم جاء أولاده من بعده ليبثوا ما تسمح به الحال من علوم الكيمياء والرياضيات والفلك والفيزياء والنبات والحيوان وغيرها.

فإن قلتَ: إذن ما الذي حبسهم عن إعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية، وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والإمامة وعدمها؟.).

ص: 262


1- منتهى الآمال : ج1 في علم أمير المؤمنين (عليه السلام).

قلتُ: إن التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي من خلال البناء الصحيح للعقيدة، ولا بد أن يتقدّما معاً، وإن الأول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار، كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون أنفسهم بالقوى العظمى والدول الكبرى، ولما كانت البشرية قد تخلفت وتدنت في الجانب الثاني وهو العقائدي والأخلاقي فلا يمكن إعطاؤها من الجانب الأول إلا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها، هكذا اقتضت الإرادة الإلهية أن يلهم الإنسان بعض الأفكار التي طورت حضارة البشر ودلته على اكتشافات وحقائق علمية مهمة في أوقاتها المناسبة، وبالشكل الذي يحفظ توازن المجتمع الإنساني [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](القمر:49)، ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الإلهية لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء، فلا يغتر الإنسان ويظن أنه هو الذي يحقق ذلك، بل هو من إلهام الله تبارك وتعالى وإيحائه، وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك، ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.هذه بعض النتائج التي أفرزها عدم التزام الأمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) والتي أوضحها بجلاء يوم الغدير، لذا تستحضر كل هذه الآلام والكوارث التي حلّت بالدين والأمة الإسلامية في يوم وفاته (صلی الله علیه و آله)، وكانت أعظم مصيبة حلّت بالناس حتى أصبحت مثلاً فإذا أرادوا أن يصفوا يوماً حزيناً على الأمة جمعاء قالوا: ((كان كيوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)))، ووصف الإمام الصادق (علیه السلام) حال أهل بيت النبوة في ذلك اليوم بقوله: (لما مات النبي (صلی الله علیه و آله) بات أهل بيته كأن لا سماء تُظلّهم، ولا أرض تُقِلُّهم؛ لأنه وتر الأقرب

ص: 263

والأبعد)(1).وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها كما قالوا، فيمكن أن نعرف سمو المعاني والآثار التي نالها الملتزمون بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) لأمر الأمة من بعده، فحق لهم أن يحتفلوا بعيد الغدير الأغرّ أعظم عيد في الإسلام، سئل الإمام الصادق (علیه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم، أعظمها حرمة، قال الراوي: وأي عيد هو؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقال: من كنت من مولاه فعلي مولاه)(2). وفي حديث أبي نصر عن الرضا (صلوات الله عليه) قال: (يا ابن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (علیه السلام)، فإن الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، ولدرهمٌ فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(3).

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها، وإن كان هذا في نفسه نفيساً، إلا أنه مما لا يقل عنه أهمية أخذ الدروس والعبر منه، وهنا تكمن روح العلم والمعرفة، فالعلم بلا9.

ص: 264


1- موسوعة أمير المؤمنين (عليه السلام) للشيخ القرشي: 2/ 96.
2- بحار الأنوار: 37/ 169.
3- بحار الأنوار: 94/ 119.

عمل وبلا استفادة منه في الحياة لا قيمة له.ونحن إذا توسعنا في فهم هذا الموضوع فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة إصلاحية تعمل على هداية الناس وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية التي يقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي من دون العمل على سيادة شريعة الله تعالى في الأرض، ودفع المجتمع إلى الالتزام بها، فيتركون الأمر إلى المكلف إن شاء طبق أو لا، ولا تتدخل إلا في حدود الشؤون الفردية وما يبرئ ذمم المكلفين كأفراد، وهو عمل ليس بالهين، وقد قاموا بجهود مضنية حفظت لنا فقه آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا، لانحسار دورها عن الإمامة الاجتماعية أصلاً.

الثاني: المرجعية الاجتماعية التي لا تكتفي بمستوى النظرية، أي مجرد التقنين والتشريع، وإنما تعمل على تهيئة كل الفرص واتخاذ مختلف الأساليب لإقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم، وإذا لم تنفع وسيلة جربت أخرى، وقد شبهت الأولى بالأمّ التي تهيئ الطعام والدواء لولدها المريض وتترك الباقي عليه، إن شاء أكل وتناول الدواء وإن شاء لم يفعل، وهو غالباً لا يعرف مصلحته فيموت من المرض والجوع. والثانية تشبه الأمّ التي لا تكتفي بإعداد الطعام، بل تطيبه وتعمل كل المرغبات والمحفزات لولدها كي يأكل ويحفظ حياته ويستعيد عافيته، ولا شك أن الثانية أرحم وأرأف وأكرم وأصبر من الأولى، أو قل إنها أكثر اتصافاً بالأسماء الحسنى التي ورد الحث

ص: 265

على التخلّق بها.وهذه المرجعية الثانية هي الأكثر التصاقاً بالناس وأعمق تأثيراً فيهم والأكثر تعلقاً بهم، وهي الأجدر بتمثيل دور المعصومين (علیهم السلام)، فلا غرو أن تكون عرضة لطمع المتنافسين، فإذا تصدى لها غير المؤهل لها وصنع (سقيفة) ثانية لإبعاد مستحقيها، ترتبت كل أو بعض الآثار التي ذكرناها، ولا بدَّ أن نستفيد من تلك التجربة لنكون واعين وحذرين من تكرارها.

وقد ذكرنا في محاضرتين(1) بمناسبة عيد الغدير عام 1421 - وطبعت كمقدمة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء - الأشكال الثلاثة التي خطط بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) للخليفة من بعده، وكيفية تأسي المرجعية به (صلی الله علیه و آله) في هذا المجال، ومسؤولية الأمة في صيانة هذا الموقع الشريف والتمسك بأهله، فيكون هذا البحث مكملاً له، ومما ذكرنا هناك أن لهذا الموقع شروطاً صنفتها إلى ثابتة ومتحركة، والأولى هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية، أما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية.

اللهم إنا نشهدك أنا ندين بما دان به محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم)، وقولنا ما قالوا وديننا ما دانوا به، ما قالوا به قلنا وما دانوا به دنا وما أنكروا أنكرنا ومن والوا والينا ومن عادوا عادينا ومن لعنوا لعنّا ومن تبرأوا منه تبرأنا منه ومن ترحموا عليه ترحمنا عليه، آمنا وسلمنا ورضينا واتبعنا موالينا صلوات الله عليهم، اللهم فتمم لنا ذلك ولا تسلبناه واجعله مستقراً ثابتاً عندنا ولا تجعله مستعاراً، وأحينا ما أحييتنا عليه وأمتنا إذا أمتنا عليه، آل محمد أئمتنا فبهمه.

ص: 266


1- تقدمتا هنا بعنوان (كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله) للخلافة من بعده.

نأتم وإياهم نوالي وعدوهم وعدو الله نعادي، فاجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإنا بذلك راضون، يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 267

نحن والغرب : ما هو تكليفنا في الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب؟

اشارة

نحن والغرب(1)

ما هو تكليفنا في الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب؟(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، وصلّى الله تعالى على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 268


1- سلسلة محاضرات ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) في عدة مناسبات دينية، وقد انطلق سماحته بهذه الحركة إثر إعلان الغرب بزعامة الولايات المتحدة الحرب على الإٍسلام بعنوان الحرب على الإرهاب، بعد تفجير برجي التجارة العالمية بنيويورك بطائرتين مختطفتين، ومقر البنتاغون في واشنطن في 11/أيلول/2001 وراح ضحيته أكثر من ثلاثة آلاف أمريكي. وقد طُبع على شكل كتاب ونشر بشكل واسع وأحدث حركة واعية لدى المجتمع، وجعله سماحته عنواناً لسلسلة من الكتب التي طبعت بدعمه وإشرافه
2- محاضرة ألقيت على حشد كبير من أساتذة وطلبة الحوزة العلمية في نهاية العام الدراسي بمناسبة حلول شهر محرم الحرام وتوجّه الخطباء للتبليغ، وكانت بتأريخ 27/ذي الحجة/1422 ه_ الموافق 12/ 3/ 2002. وهي أول محاضرة عامة من سلسلة محاضرات بعنوان (نحن والغرب) رد بها سماحة الشيخ اليعقوبي على ما أعلنه الغرب وزعيمته الولايات المتحدة من حرب على الإسلام بعنوان الحرب على الإرهاب بعد حادث تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك بطائرتين ومهاجمة مقر البنتاغون بطائرة ثالثة يوم 11/أيلول/2001 وراح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف أمريكي.

الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب:

يشترك المجتمع والحوزة في التقصير تجاه الآية الشريفة: [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة:122)، والفرق أنّ المجتمع مقصر في تطبيق الشق الأول منها وهو قوله تعالى: [فَلَوْلا نَفَرَ...] والحوزة مقصرة في أداء التكليف الثاني: [وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]، إذ تتضمن الآية واجبين اجتماعيين(1).

الأول: وجوب النفر(2) على طائفة وأقلها ثلاثة من كلّ فرقة، والفرقة لها مصاديق عديدة كالمدينة والحي والقرية والعشيرة وبعضها كالمدن الكبيرة تمثل عدداً من الفرق.

فهل يا ترى نفر من كلّ عشيرة أو مدينة طائفة؟ وأنت ترى إنّ مدناً كثيرة وعشائر واسعة لم ترسل ولا واحداً من أبنائها إلى الحوزة الشريفة ليتفقهوا في الدين، لذلك وقعوا في التيه والضلال كما وقع فيه بنو إسرائيل من قبل حذو النعل بالنعل كما في الحديث الشريف.

الثاني: وجوب التبليغ والإنذار والتوجيه على الذين نفروا إلى معاهد العلم

ص: 269


1- بحسب المصطلح الذي بيناه في مناسبة سابقة بعنوان (الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية).
2- جاء في الكافي في باب فرض العلم و وجوب طلبه و الحث عليه: عن أبي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: (تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]. وجاء في البحار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً). تحف العقول.

ونهلوا العلوم الشريفة(1)، أمّا أن يتلقى الحوزوي أنواع العلوم من دون عطاء وإيصال إلى المجتمع فهذا خلل في تطبيق الآية الشريفة.ونتيجة لهذا التقصير المشترك بين الحوزة والمجتمع انفصمت العروة الوثقى بين الحوزة التي هي بمثابة الرأس والمجتمع الذي هو بمثابة الجسد، وراح الناس يتخبطون بالفتن والضلالات، وتلقفتهم الفئات الضالة والمنحرفة والمعادية للإسلام بعد أن تخلت الحوزة عن احتضانهم ولم تكن بمستوى طموحاتهم وآمالهم، ونحن نعلم أنّ أغلب الناس ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع الريح، فلماذا لا تكون ريح الحوزة قوية وفاعلة ومؤثرة حتى تكون هي الريح التي يميلون معها؟ ولماذا ريح الحوزة ضعيفة وربما معدومة؟).

ص: 270


1- عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ في كَلامٍ لَهُ: (الْعُلَمَاءُ رَجُلانِ رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ فَهَذَا نَاجٍ وَ عَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ فَهَذَا هَالِكٌ وَ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ وَ إِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَ حَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْداً إلى اللَّهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَ قَبِلَ مِنْهُ فَأَطَاعَ اللَّهَ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَ أَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَهُ وَاتِّبَاعِهِ الْهَوَى وَ طُولِ الامَلِ أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ طُولُ الأمل يُنْسِي الآخرة) الكافي. وعَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعِلْمُ قَالَ: الإنصات، قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الاسْتِمَاعُ قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الْحِفْظُ قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَشْرُهُ). الكافي عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا قُلْتُ كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ قَالَ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ فإن النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا).

الحوزة وأصناف طلابها:

وأُقدم لك مثالاً لشكلين من الحوزة: أحدهما يؤلف الرسالة العملية ويقعد في بيته وينتظر من يطرق بابه ويسأله، والآخر يتوسل بمختلف الأساليب لإيصال الوعي الديني إلى المجتمع، فإذا فشلت وسيلة جرّب غيرها، فمثالهما كأمّين، إحداهما تطبخ الطعام وتتركه إلى جانب ولدها المريض الضعيف المحتاج إلى الطعام، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وهو لا يعرف ما يصلح حاله، فينتهي أمره إلى الهلاك، وأخرى لا تكتفي بتهيئة الطعام، بل تتفنن في إقناع الطفل بالأكل، وكلما فشلت وسيلة أو لم يرغب بالطعام أعدت غيره وبوسيلة أخرى حتى يأكل ويسترد عافيته.

إن المجتمع كالطفل المريض؛ أما أنه كالطفل فلأنه قاصر ويحتاج إلى من يرعاه ويربيه ويحتضنه، ومريض لأنه مليء بالأمراض الاجتماعية ويعمّه الفساد والانحراف وهو لا يعرف من أين وكيف يأخذ طعام المعرفة والإيمان ليعالج أمراضه، والحوزة هي الأم الحنونة الرحيمة الرؤوفة الشفيقة الحريصة، فأي الأُمَّين في المثالين أجمع لهذه الصفات الكريمة التي هي مشتقة من الأسماء الحسنى، وقد أمرنا بالتحلي بها كما في الحديث الشريف: (تخلقوا بأخلاق الله تبارك وتعالى) فأي الأُمَّين حنونة رحيمة رؤوفة شفيقة حريصة؟ الثانية طبعاً.

وأمامي صنفان من طلاب الحوزة الشريفة:

1-صنف جاء إلى النجف الأشرف لطلب العلم واستقر فيها ونسي عشيرته وأهله الذين ينتظرونه ليفيض عليهم مما رزقه الله تعالى، فصار يطلب العلم للعلم لا للعمل.

ص: 271

2-صنف بقي شعوره بالمسؤولية بين جوانحه، وبقي الحس الاجتماعي في أعماقه، كلما وجد فسحة في الدرس أو عطلة عن التحصيل عاد إلى أهله ووطنه يرشدهم ويدعوهم إلى الله تبارك وتعالى.

لاشك أن الثاني هو مصداق الآية الشريفة، فإنّه قد جسد العلم بالعمل، فيكون محلاً لإفاضات جديدة لأن (العلم يزكو بالإنفاق)(1)، و(بذله لمن لا يعلمه صدقة)(2)، والصدقة بسبعمائة ضعف وأزيد، بل لا قيمة للعلم بلا عمل سواء على صعيد النفس أو المجتمع، وفي الحديث: (العلم مقرون بالعمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل)(3)، ولنتأمل في المثال القرآني: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً](الجمعة:5) أعيذكم بالله تعالى أن تكونوا ممن عنتهم الآية.

وبصراحة أقول لكم: (إنّ طالب العلم الذي أجده ماكثاً في النجف في مواسم التبليغ والإرشاد ولا ينتشر في الأرض ليؤدي رسالته ينقص في عيني إلاّ أن يكون ممن يمارس ذلك في النجف نفسها، ولا أجد أي مرجح على ذلك كالتأليف ومراجعة الدروس ونحوها، فإنها مما يمكن إتيانها في غير هذه المواسم)(4)، وإذا كان هذا مما يزعجكم فاعلموا إنّ هذا مما ينقصكم في عينا.

ص: 272


1- بحار الأنوار: 75 / 76.
2- المصدر السابق: 1 / 166.
3- نهج البلاغة: 4 / 85.
4- كانت هذه الكلمة مؤثرة على طلبة العلوم الدينية حيث انطلقوا بهمّة وحماس إلى التبليغ والوعظ والإرشاد ولم يبقَ في النجف الأشرف خلال التعطيل إلا القلة من كبار العلماء والمستوطنين فيها.

الله ورسوله وأمير المؤمنين والإمام الحجة أرواحنا له الفداء.

لماذا تضاعفت مسؤولياتنا في الوقت الحاضر:

وقد تضاعفت هذه المسؤولية في الزمان الحاضر لابتلائنا بقضيتين مرتبطتين ببعضهما هما:

1-الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المسلمون في العالم تحت عناوين مظللة ومموهة يستطيعون بها تمرير خططهم و تحشيد أكبر عدد من المؤيدين، واختاروا لذلك عنوان الإرهاب، ولم يضعوا تعريفاً واضحاً محدداً له ليمكن تمييز الأفراد الداخلة عن غيرها، فبقي مبهماً ومفتوحاً لشمول كلّ من يقف في طريقهم ولا يخضع لهم، وبهذا العنوان المبهم المثير للاشمئزاز جندوا الكثير في حربهم القذرة رغباً ورهباً.

وهذا الأسلوب من الخداع والتضليل ليس جديداً، فهم أبناء أولئك الذين جندوا جيوشهم لحرب الرسول (صلی الله علیه و آله) ووضعوا عناوين مظللة له بأنه ساحر كذاب، سفه آلهتنا، وكذلك لحرب أمير المؤمنين (علیه السلام) لأنّه قتل عثمان، ولحرب الحسين (علیه السلام) لأنّه خارجي خرج على إمام زمانه، وللحرب الصليبية لنصرة الصليب المقدس، والحقيقة غير هذا كله، فلا شيء وراء كلّ هذه الحروب إلاّ المحافظة على المصالح والامتيازات وجلب المزيد منها.

والذي يتابع تصريحات الساسة الغربيين يكتشف هذه الحقيقة كما جرت على لسان الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء إيطاليا ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة، لأنّهم يشعرون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كقطب عالمي مقابل لهم،

ص: 273

أن العدو المقبل والوحيد هو الإسلام، فقد أكّد صموئيل هانتنج تون(1) صاحب نظرية صدام الحضارات التي نشرها أول مرة في مجلة شؤون خارجية في عددها سنة 1993 يقول: (إن الصراع القادم سوف لن يكون آيديولوجياً مثلما كان إبان الحرب الباردة بقدر ما سيكون صراعاً بين الحضارات، لا سيّما الحضارة الإسلامية والغربية) وقال ما نصه: (أن التفاعل العسكري الذي يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام ليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطراً)(2)، وقد جاءت هذه النظرية بشكل مستعجل ومضطرب وفاقدة للأدلة والشواهد العلمية الدقيقة __ كما هو شأن الحقائق العلمية – مباشرة بعد أطروحة (نهاية التأريخ) لفرانسيس فوكا ياما الأمريكي من أصل ياباني، فلماذا حصل هذا رغم أنهما يشتركان في أصل الفكرة، وهو (إن النموذج الغربي هو الأمثل، ولابد أن يخضع له العالم أجمع، ففوكا ياما أكد في نظريته أنّ الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التأريخ في ضوء انتصارها على الشيوعية، بل أنهّ لم يتوانَ عن5.

ص: 274


1- صموئيل هانتنج تون: بروفيسور أمريكي من أصل يهودي متخصص في الإدارة العامة ومدير لمعهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد وقد كرس حياته المهنية لموضوع الاستراتيجية العسكرية بحثاً وتدريساً واهتم بصورة مباشرة بالدراسة المقارنة في مجال السياسة الأمريكية وسياسات دول العالم الثالث وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977 __ 1978 مسؤولية قسم التحليل والاستشراف بمجلس الأمن القومي الأمريكي) عن كتاب قضايا في الفكر المعاصر/ محمد عابد الجابري. صفحة 93.
2- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة/سناء كاظم كاطع عن صِدام الحضارات: صموئيل هانتنج تون وآخرون من مركز الدراسات والبحوث والتوثيق، بيروت 1995 صفحة 25.

دعوته إلى فرض النموذج الغربي على كلّ دولة في العالم، بحجة أنهّ(1) من أجل رقي مجتمع ما يجب على الدولة أن تكون ديمقراطية وأن تكون على اتصال بنظام السوق العولمي)(2).وما دامت النظريتان تشتركان في أصل الفكرة، فلماذا تنال نظرية صدام الحضارات ترويجاً، وتُهمل نظرية نهاية التأريخ؟!!

والسر في ذلك يرجع إلى الوظيفة التي تؤديها الفكرة، إنّ فكرة (نهاية التأريخ) تتحدث عن الماضي، وبالتالي تبعث على الاطمئنان على مستقبل أمريكا وتؤكد على الانتصار النهائي لليبرالية، الشيء الذي يجعل مثلاً التساؤل عن جدوى تخصيص مبالغ هائلة للدفاع في ميزانية الولايات المتحدة تساؤلاً مشروعاً(3)، أما نظرية صدام الحضارات فتتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب، وتدعو إلى الاستعداد للدفاع عن النموذج الأمريكي وعن المصالح التي يقوم عليها، وبالتالي تخصيص أموال لذلك(4).

قد سمعنا(5) أن ميزانية هذا العام (2002م) تضمنت زيادة 48 مليار دولار على الشؤون العسكرية، وما كانوا يستطيعون إقناع شعبهم بهذه الزيادة إلاّ منا.

ص: 275


1- المصدر السابق: ص25.
2- المصدر السابق: ص2.
3- إذا انتهى التأريخ وانتصرت أمريكا وسيطرت الحضارة الغربية، فلماذا هذه المليارات للتسلح والاحتياطات الأمنية وحرب النجوم وغيرها من المشاريع لوزارة الدفاع؟!!.
4- قضايا في الفكر المعاصر: ص84.
5- كان سماحة الشيخ يتابع نشرات الأخبار ويدوّن في سجلّ أهم الأحداث، ومنه ينقل بعض الشواهد التي يحتاجها في حديثه، وقد تضمنت محاضراته وبياناته الإشارة إلى جملة منها.

خلال هذه الحرب الحضارية، وتقول تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا عام 1991م: لقد قضينا على الشيوعية وبقي علينا أن نقضي على الإسلام(1).وحربهم هذه على الإسلام ليست جديدة وإن تركزت اليوم وتوسعت، فمن قبل قال رئيس الوزراء البريطاني تشرشل بعدما رفع المصحف لجنوده: (انزعوا هذا الكتاب من حياة المسلمين أضمن لكم السيطرة عليهم)، وقال لويس التاسع ملك فرنسا عند هزيمته في الحملة الصليبية وإطلاق سراحه عام 1250 مخاطبا جنده: (إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) وقال المبشر وليم جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه)(2)، فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها(3).

وماذا يريدون من حربهم الحالية ضد الإسلام والمسلمين؟ يقول البروفسور ريتشارد كروسمان المسؤول السابق لقسم الحرب النفسية في بريطانيا: (هدف هذه الحرب تحطيم أخلاق العدو وإرباك نظرته السياسية، ودفن جميع معتقداته ومثله التي يؤمن بها، والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نود إعطاءَها له1.

ص: 276


1- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة: ص169.
2- فركز على القرآن لأنه رمز قيمهم ومبادئهم وأخلاقهم وعلى مكة لأنها رمز وحدتهم ولم صفوفهم.
3- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة: ص161.

ليصار بالتالي إلى أن يعتقد بما نعتقد به نحن)، فانظر إلى الكلمات المرعبة التي اختارها: (حرب – تحطيم – عدو – إرباك - دفن) فهل نحن في مرحلة الحرب أم الإرباك أم الدفن والعياذ بالله؟.2-إن اليوم الموعود للظهور المبارك قد قرب بشكل ملحوظ وقد يقال بتحقق جملة من علاماته، والأهم من ذلك توفر شروطه(1)، فإن العلامات قد يحصل فيها البداء كما إنها واردة بألفاظ مجملة ورمزية وقابلة للانطباق على كثيرين، فالمهم مراعاة الشروط، لأن الشرط جزء من أجزاء العلة التامة، فلا بدَّ من اكتمالها، ولا أريد الدخول في بيان التفاصيل فإنها موكولة إلى كتاب شكوى الإمام (علیه السلام):

ظروف ظهور الإمام (عليه السلام) بنحو الإجمال.

أذكر باختصار بعض ما يتعلق بالمقام فإننا نجد اليوم ظروفاً ممهدة لقيام الإمام الحجة (علیه السلام) بالأمر، منها:

1- امتلاء الأرض بالظلم والجور والتعسف والعدوان، وهو ما بدا واضحاً بعد انفراد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، وازداد وضوحا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام (2001م) حيث أظهرت أمريكا ومن ورائها الصهيونية من الظلم ما لم يسبق له مثيل، ولم يسلم من قنابلهم لا المسجد(2) ولا المستشفى ولا سيارات الإسعاف ولا السجون ولا النساء ولا

ص: 277


1- ستأتي المحاضرة التي خصصت لهذا العنوان.
2- إشارة إلى جملة من جرائم الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني خلال تلك الأيام.

الشيوخ، وقتل الأطفال وهم في أحضان آبائهم، ودمرت البيوت واقتلعت الأشجار وحوصر الأبرياء، ونشروا المواد التي تسبب الأمراض الخبيثة، وأعتقد أنّ الشواهد الكثيرة على كلّ ذلك حاضرة في أذهانكم، ولازالوا مكشرين عن أنيابهم لافتراس كلّ من ليس معهم ولا يخضع لإرادتهم ولا يركع لهم.2- وصول الإسلام والمذهب الحق إلى كلّ بقعة من بقاع الأرض، وآخر معقل اقتحمه الإسلام هو الولايات المتحدة نفسها، فقد أجري فيها استطلاع للرأي العام قبل مدة للإجابة عن سؤال: ماذا تعرف عن الإسلام؟ فأجابت الأغلبية: لا نعرف شيئاً.

أما الآن فقد حصل إقبال على الإسلام بشكل لا نظير له، ونفدت الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالإيجاب أو السلب - أي كتاب فيه بحث عن الإسلام اقتناه الأمريكيون - وازداد عدد المسلمين في أمريكا بعد أحداث 11/ 9 /2001م إلى أربعة أضعاف وفق ما أعلنته إحدى المؤسسات المتخصصة في الموضوع، واضطر الرئيس الأمريكي نفسه أن يبين محاسن الإسلام وفضائله وارتباطه بالله، بعد أن كانوا يشوهون صورته ويظهرونه وكأنه دين بداوة وتخلف.

وكل هذا الانتشار للإسلام ليس بفضل جهود المسلمين مع الأسف، وإنمّا لعظمة مبادئ الإسلام وأحكامه، فهو بنفسه ينتشر، فبالرغم من حاجته لأبنائه إلاّ أنهّ إذا قصر المسلمون فإنهّ يمشي بنفسه، أما المسلمون فهم ثمانية ملايين في أمريكا لم يحملوا همّ الإسلام مع الأسف، وعاشوا أنانيتهم ولم يعملوا لإيصال

ص: 278

صوته إلاّ بمقدار بعض المظاهر الدينية البسيطة، يصلون ويصومون وغير ذلك، أما اليهود فهم ستة ملايين، وهم أقل عدداً من المسلمين، ولكنهم مسيطرون على السياسة والاقتصاد والإعلام وكل شيء في حياة الأمريكيين.3- وصول عدد معتد به من المسلمين إلى درجة التضحية الكاملة في سبيل الإسلام، وهو ما لم يكن معهوداً من قبل، وأوضح دليل على ذلك الاستشهاديون اللبنانيون والفلسطينيون الذين أذاقوا الصهاينة الرعب، وهم بذلك يعيدون ذكرى أعظم استشهاديين في التأريخ، وهم أصحاب الحسين (علیه السلام)، حيث كان الواحد منهم يقذف نفسه وسط سبعين ألفاً ويريهم العجائب من الشجاعة حتى يقضي شهيداً، وهذا المستوى من التضحية والإقدام على الموت بشكل اختياري وبكل سرور ينتظره الإمام من أنصاره ليستطيع بهم فتح العالم.

4- انتشار الوعي الديني في المجتمع وعودة الناس إلى ربهم ودينهم، والتفاتهم إلى تطبيق الحكم الشرعي في كل تفاصيل الحياة، وما كان مثل هذا من قبل، بل كان المتدينون قلة قليلة ويتحاشون إظهار ذلك، لأن المتدين يوصف بالرجعية والتخلف.

5- مرور المجتمع بألوان من الابتلاءات التي يعجز عن تحملها الكثير وخصوصا المجتمع العراقي بعد الحصار الجائر والعدوان الغربي المستمر، وخروجه من جميع هذه الامتحانات ناجحاً من خلال التمسك بدينه والولاء لأئمته (علیهم السلام)، ولعمري إنّ العراق يثبت جدارته لاحتضان الإمام الموعود (علیه السلام) واستعداده الكامل لتحمل كلّ أنواع الصعوبات معه، وهذا سر .

ص: 279

المعاناة التي يمر بها مجتمعنا؛ لأنهّ المجتمع الذي يحتضن الإمام، لا ما يشاع من أنّ العراقي مستحق للعذاب لخبث أفعاله وسوء معدنه، فهذه فكرة أنشأها فينا أعداؤنا ليفقدونا الثقة بأنفسنا، وإلاّ فقد جرب الذين اختلطوا بمختلف الشعوب أنّ العراقيين هم أطيب قلباً وأكرم أخلاقاً وأكثر استجابة لداعي الدين والتمسك به. فهذه الظروف الخمسة التي اختصرناها لكم، والباقي في كتاب (شكوى الإمام (علیه السلام).

المحاور التي يجب أن نكرس لها جهدنا:

بعد الالتفات إلى هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقنا كمسلمين، علينا - خصوصا كحوزة في هذا البلد المستهدف الأول اليوم وغداً - مسؤوليات، فماذا أعددنا لهذا الصراع الحضاري الذي أعلنوه علينا؟ أنواجهه بالإهمال والتسكع؟ أم بالتمزق أم بتضييع الوقت بأمور تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ أم بالخلاعة والمجون ونشر الفساد والانحلال الخلقي(1)؟ فنعينهم على أنفسنا ونحقق لهم مرادهم مجاناً وبلا ثمن؟ فما أخسرها من صفقة!

فلنتعاون معا لاستخلاص المحاور التي يجب أن نكرس لها جهدنا وعملنا في مثل هذه المواسم، وهذه المحاور هي:

1-بيان العقائد الحقة وترسيخها بالأدلة المبسطة، خصوصاً الوجدانية منها تأسياً بالقرآن الكريم من دون إشغال الفكر بالبراهين العقلية الدقيقة، فأنها خاصة

ص: 280


1- بمثل هذه الإشارات كان سماحته يعرّض بأفعال السلطة ويندّد بها.

بأهلها، ومن مصادر ذلك كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ كاشف الغطاء بالمقدمة التي كتبتها فإن فيها فائدة.2-نشر الأخلاق الفاضلة والتذكير بسيرة من جسّدوا تلك الأخلاق في حياتهم العملية، وهم الأسوة الحسنة محمد وآله، وتوجد عدة كتب نافعة في هذا المجال(1).

3-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتنبيه إلى الظواهر الاجتماعية المنحرفة، وقد صدرت كتب عديدة في هذا المجال، وخصوصاً محاضرتي التي صدرت في ذكرى مولد الإمام الحسين (علیه السلام).

4-الاهتمام بالقرآن الكريم وتفعيل دوره في المجتمع من خلال عدة جهات، خصوصاً الاستفادة من طريقته في إصلاح النفس والمجتمع وقد شرحت ذلك في كتاب (شكوى القرآن).

5-الارتباط بالحوزة الشريفة و أطاعتها ومراجعتها في كل شؤون الحياة التزاماً بقول الإمام (علیه السلام): (فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله والراد عليهم كالراد علينا).

6-بث الموعظة وإحياء القلوب بها وتهذيب النفوس، وهي وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام): (أَيْ بُنيَّ... أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ)، وجاء في الحديث: (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها ذكر الموت وتلاوة القران)، وتوجد كتب عديدة في هذا المجال).

ص: 281


1- تأتي محاضرات في هذا المجال ونُشر عدد منها في كتابي (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) و (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

منها: نهج البلاغة، إرشاد القلوب، مجموعة ورام.7-شرح الأحكام الفقهية، خصوصاً الابتلائية منها، لتصحيح أفعال الناس وفق الشريعة المقدسة.

8-الاستفادة من التأريخ لتلمس المواقف الصحيحة من الحوادث، وإن أمة تمتلك مثل تأريخنا الزاهر يفترض أنهّا لا تتيه ولا تضلّ، لأنّ فيه حلولاً لكلّ المشاكل.

9-شرح محاسن الإسلام وتكامل تشريعاته وشموليتها لكلّ نواحي الحياة، وقدرته على تلبية حياة البشرية على مدى العصور، وتكفله بتوفير السعادة لها، وعرض نظرياته ونظمه على أنه النظام الوحيد الصالح لقيادة البشرية.

10-فضح النموذج الغربي على مستوى النظرية والتطبيق، أي بمناقشة أصل مرتكزات حضارته(1)، أما على مستوى التطبيق ففضحه بتوعية المجتمع وإلفات نظره إلى جرائم المثل الغربي الأعلى (أمريكا)، ولا يحتاج ذلك إلى مؤونة كبيرة بعد أن ارتكبوا ما لا يصدق من الأفعال المنكرة وعلى رؤوس الأشهاد، حتى أنيّ سمعت من كاتب في رأس السنة الميلادية الحالية - وهم بصدد تقييم أحداث العام الماضي – فقال: أثبتت الأحداث أنا لسنا بحاجة إلى التقدم التكنولوجي، وإنمّا بحاجة إلى أخلاق وقيم روحية لتوفير السعادة والاطمئنان، فهم إذن بدأوا يناقشون حضارتهم، فعليكم أن تعمقوا هذاا.

ص: 282


1- مثلا هم يقولون نحن نعرف المصالح !!! ونحن نقول: (كيف ذلك؟ فيوجد مُثُل وأخلاق ومبادئ، فالمصالح ليست مقياساً بشرياً) فهذا على مستوى النظرية أي كشف المرتكزات وبيان الخلل فيها.

الإحساس الموجود وتظهروه.11-الاعتزاز بالشخصية الإسلامية وبيان مقوماتها وتجسيدها في سلوكنا وأفكارنا، ونفي التبعية للغرب في كل شيء، سواء في الملابس أو قصّات الشعر أو الأفكار والمعتقدات أو الأعراف والتقاليد، فإن هذه التبعية تؤدي إلى ذوبان القيم والأخلاق والعقائد(1)، فنحن اليوم نقلدهم بقصّات الشعر، وبعده بالأتكيت والعرف، وبعده نقلدهم بالأفكار، وبعده نقلدهم بالمعتقدات، فنضيع في جاهليتهم الحمقاء.

وهم من هذه الناحية لا أقول أذكياء، بل خبثاء ماكرون، فقد صدّروا لنا حضارتهم من خلال نماذج حسية كالرياضيين أو الممثلين، فنعجب بالرياضي أو الممثل فنقلد حركاته وقصة شعره ونتطبع بشخصيته، فتضيع شخصية المسلم، لعلمهم باستئناس البشر بالحسيات، فتغير شبابنا وراء هذه النماذج وأضاعوا قدراتهم الكامنة التي يزخر بها تأريخهم وحاضرهم، فالمسؤولية عليكم مضاعفة أن تعوضوا المجتمع بقدوات حسنة ونماذج كاملة(2).

12-الحث على الحضور في المساجد وتأدية الشعائر الدينية فيها كصلاة الجماعة أو المجالس الحسينية أو قراءة الأدعية بشكل جماعي، كدعاء كميل ليلة الجمعة، ودعاء الندبة ضحى الجمعة.م.

ص: 283


1- صدرت استفتاءات وبيانات عديدة لسماحة الشيخ لبيان هذا التكليف، تجد بعضها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
2- تجعلون المجتمع مقتنعاً بكم، بدل أن يقتنع بالرياضي الفلاني والفنان الفلاني اجعلوه يقتدي بكم ويقتنع بكم.

13-المحافظة على وحدة الحوزة والمجتمع وعدم التركيز على نقاط الخلاف، فإنها مهما تكن لا تصل إلى أهمية القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعنا، فهل من المعقول أن نفترق بسبب نقطة واحدة وبيننا (99) نقطة مشتركة، وهم يجتمعون على نقطة واحدة وبينهم (99) نقطة اختلاف، فبأي مقياس نقبل هذا، إنهّا معادلة مؤلمة ومقرحة للقلوب.

14-إثارة قضية الإمام المهدي (علیه السلام) والدفاع عنها وتثبيتها، وبيان تكليف المجتمع تجاهها ونشر ذكره والتوسل به واستدرار ألطافه.

الإسلام محتاج إلى جميع أبنائه:

ولا أخص بكلامي الرجال فقط، بل النساء أيضا، بل النساء مسؤوليتهن أعظم بهذا الاتجاه، لان الخلل في شريحتهن أكثر والغفلة عنهن أكثر وقلة المهيئات منهن للقيام بالمسؤولية.

في يوم كنت أكتب استفتاءً، فضمن الجواب كتبت كلمة (إنّ الإسلام محتاجٌ إلى جميع أبنائه)، كلمة واضحة، ولكني شعرت في حينها أنها من ألطاف الإمام (علیه السلام) ومن إيحاءاته، وخرجت منها بدروس كثيرة، ومن هذه الدروس أن الذين يعادونني ويحاولون تسقيطي وتشويه صورتي(1) لا أرد عليهم بالمثل، وأبقى محتضناً لهم، لأنهم – مهما يكن – أبناء الإسلام، والإسلام محتاج إلى كل أبنائه، فمهما أساؤوا لي فصدري واسع لهم، ومهما حاولوا من تشويه صورتي والنيل مني فإني أبقى محتضناً لهم وأحبهم.

ص: 284


1- بعضهم كان حاضراً.

ما هي الفائدة من القيام بهذه المحاور؟

وليعلم إخواننا المؤمنون أن القيام بهذه المسؤوليات يتضمن فائدة مزدوجة:

1-مواجهة التحديات الغربية وإفشال مؤامراتهم التي تستهدف فصلنا عن ديننا وسلخنا عن مبادئنا، قال تعالى: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً](النساء:89)، وقوله: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم](البقرة:120)، فكلما حافظنا على إسلامنا كنّا أكثر نجاحاً في مواجهتهم، وكلّما تخلينا عن إسلامنا كنّا أقرب إلى تحقيق ما يريدون، فهذه المرأة السافرة وهذا الشاب الفارغ والتارك للصلاة والعاكف على شرب الخمر والمهمل لتعاليم القران، والذي يثير الفتن والضلالة في المجتمع، كلّ هؤلاء يساهمون من حيث يعلمون أو لا يعلمون في إنجاح خطط الأعداء [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ](المزمل:19).

2-التعجيل بظهور صاحب الزمان (علیه السلام) من خلال توفير شروط الظهور(1)، ففي الحديث: (ما من قوم إلاّ ويلون أمر الناس قبل ظهور القائم؛ لئّلا يقول أحدهم: إننا لو ولينا لصرنا مثل هذا الرجل)(2)، ولعل آخر نموذج تجرّبه البشرية –من غير المسلمين- قبل اليوم الموعود هو النموذج المادي الغربي بحسب الظاهر، فكلما عجلنا بفضحه وتنفير البشرية منه فإننا نعجّل بظهور الإمام (علیه السلام)، فلا تبقى قناعة إلاّ بالإسلام وحده، ويبقى معه بخط موازٍ

ص: 285


1- كلما تعجلت بطرح النموذج الإسلامي النقي أمام العالم وبنفس الوقت كلما تعجلت ببيان الخلل في النموذج الغربي، فإنك تعجل بظهور الإمام (عليه السلام).
2- كتاب الغيبة: محمد بن ابراهيم النعماني، ص274.

(خط فضح النموذج الغربي).

أدوات رسالة التبليغ والإصلاح:

قلنا: إنّ فضح النموذج الغربي يمشي بخط موازٍ لخط عرض الإسلام الأصيل الناصع السليم على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق(1)، بمعنى تجسيدها عملياً في حياتنا، ومن هنا نعلم إنّ ممارسة الشعائر الدينية بشكل واسع له تأثير رئيسي لمواجهة العدوان الأمريكي على بلدنا.

ولأداء هذه الرسالة (رسالة التوجيه والإصلاح) أدوات كثيرة كالندوات والمسابقات والحوارات والإصدارات المختلفة، إلاّ إنّ الوسيلة الأهم هي الخطابة بكل أشكالها، خصوصاً خطابة المنبر الحسيني الذي يمزج العاطفة بالوعي، فإذا انضم إليها الولاء والإخلاص والإيمان فقد تكاملت لديه أسباب النجاح، وقد قلت في بعض الكلمات: إنّ من النقص في الحوزوي أن لا يكون خطيباً، ومن النقص في الخطيب أن لا يكون حوزوياً؛ فإن الحوزة لا تستطيع أن تؤدي واجبها كاملاً إلاّ من خلال الخطابة، والخطيب لا يكون ناجحاً ومفيداً إلاّ إذا تربى في الحوزة الشريفة، وهو ما نستفيده من الآيات الكريمة التي أناطت هذه المسؤولية بثلة خاصة أُعدّوا إعداداً كافياً: [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ..] طائفة تتميز وتعد إعداداً كاملاً وأخرى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف](آل عمران:104) إشارة إلى القلة التي تتوفر فيها هذه

ص: 286


1- نعم الفقه الفردي (الرسالة العملية) هو المتبع إلا أنّه يحتاج إلى صياغة جديدة لمواجهة هؤلاء، فيحتاج إلى طرح على مستوى النظرية والتطبيق.

الصفات.

أهمية العاطفة في المجالس الحسينية:

ومن الإساءة لهذا الموقع الشريف أن يتصدى له إنسان فارغ لا يجيد إلاّ التغني بالمراثي، وما عدا ذلك فانه لا يملك إلاّ أساطير وخرافات ودعاوى مكذوبة، فيوقع المجتمع في ضلالات وشبهات، فيورط نفسه في نار جهنم.

وأنا لا أريد أن أحرم الناس من جانب الإثارة والعاطفة، فأنا شخصياً حريص عليها، وكان المعصومون (علیهم السلام) يتحرونها، فعندما ينشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ *** ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ

يقول له الإمام الرضا (علیه السلام): (يا دعبل عرّج بنا على كربلاء)، فيقول:

أفاطمُ، لو خلت الحسين مجدّلاً *** وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

فالعاطفة أمر ضروري وتعطي دفعة كبيرة نحو التكامل، ولكن لا نقتصر عليها.

الدروس المستفادة من الإمام الحسين (عليه السلام):

ونتعلم من الحسين (علیه السلام) دروساً، منها:

1-غيرته على الدين، فعندما رأى معالمه تنطمس في أيدي الأمويين، هب لنصرته وقدم الغالي والنفيس.

2-الإباء والشمم والعزة، فقد حاولوا إذلاله وإخضاعه لإرادتهم، وقد كانوا

ص: 287

يستطيعون قتله من أول الأمر، فلماذا لم يقتلوه؟(1) فأبى إلاّ أن يموت عزيزاً كريماً ولو كلفه ذلك الكثير، فهو يقول: (ألا إنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة و الذلة - أي سلّ السيف أو البيعة - وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت ونفوس طهرت وأنوف حمية)(2)، ويقول أثناء القتال في رجزه:الموت أولى من ركوب العارِ *** والعارُ أولى من دخول النارِ

3-الإخلاص لله سبحانه والتمحض له، فلا يبقى شيء يبخل به على الله لا نفسه ولا أمواله ولا أصحابه ولا موقعه الاجتماعي، وحتى نساؤه وهن بنات الوحي تسبى من بلد إلى بلد، كل هذا وهو يقول: (إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).

4-القلب الواسع الرحيم الذي يريد الخير لجميع الناس، حتى أعدائه يبكي عليهم يوم عاشوراء، لأنهم يدخلون النار بسببه.

5-الجد في الحياة والهدفية، لا العيش من أجل أمور زائلة تافهة، لهذا يقول: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً)(3).

أن لا نقصر بإصلاح المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال: (ع):(إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلی الله علیه و آله) لآمر8.

ص: 288


1- ضربوا الطفل الرضيع وكان بمقدورهم أن يضربوا الإمام (عليه السلام) بدلاً عنه، لكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهّم أرادوا إخضاعه وإذلاله والضغط عليه وتحطيم قواه.
2- الاحتجاج: 2 / 24.
3- حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، باقر شريف القرشي: 2 / 288.

بالمعروف وأنهى عن المنكر).هذا وما زال للكلام بقية، وتوجد تساؤلات تستحق الإجابة عنها: ما هي مقومات شخصية الخطيب؟ وكيف يكون ناجحاً؟ وأمور كثيرة غيرها أُحيل بعضها إلى كتابي (وصايا ونصائح عامة للخطباء) الذي كتبته في مثل هذه المناسبة قبل سنتين، وإلى فرص أخرى لعل الله تعالى يمن بها علينا.

اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ وعلى أنصار الحسين، اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) وأمتنا مماتهم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على محمد وآله الطاهرين.

ص: 289

حاجتنا إلى الأسوة الحسنة

اشارة

حاجتنا إلى الأسوة الحسنة(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، السلام على خيرة الله، السلام على البشير النذير السراج المنير ورحمة الله وبركاته، السلام على الطهر الطاهر، السلام على العلم الزاهر، السلام على المنصور المؤيد، السلام على أبي القاسم محمد ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله المرسلين وعباد الله الصالحين، السلام على ملائكة الله الحافين بهذا الحرم وبهذا الضريح اللائذين به.

مقومات نجاح رسالة الإسلام:

قلنا في مناسبة سابقة(2) أن أي رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام، لابد لها لكي تنجح في بناء أمة من شكلين من المقومات سميناهما الذاتية والموضوعية، وقلنا إن الذاتية منهما لها دعامتان:

الأولى: ما يرجع إلى ذات الرسالة، أعني شريعة الإسلام التي توفرت فيها كلّ عناصر الكمال من الاستيعاب لكلّ شيء، كما قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي

ص: 290


1- محاضرة ألقيت على حشد من طلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف يوم 16/ربيع الأول/1423ه_ المصادف 28/ 5/ 2002 في ذكرى المولد النبوي الشريف.
2- في ميلاد الزهراء (عليها السلام) عندما تحدثنا عن الوالدة خديجة بنت خويلد، وسيأتي ذكرها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](الأنعام:38)، ومن خطابها للجميع في قوله تعالى: [هُدىً لِلْعَالَمِينَ](آل عمران:96)، ومن خلودها قوله (صلی الله علیه و آله): (حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة)، ومن صيانتها من الانحراف والتغيير، قوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](الحجر:9) وغيرها مما لا يحتاج إلى بيان، لأنها صنعة الله تبارك وتعالى الذي له الأسماء الحسنى.الثانية: ما يرجع إلى ذات الرسول وهو النبي محمد (صلی الله علیه و آله) وهو أكمل الخلق، ربًته يد الرعاية الإلهية، لعدم وجود من هو أكمل منه حتى يٌربيه ويأخذ بيده في مدارج الكمال، وعن ذلك قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(1).

ولا تكون الرسالة فاعلة ومؤثرة وتؤدي دورها في حياة الأمة إذا لم يكن حاملها مستوعباً لها قد أٌشرب بها وتمثلها في حياته وجسدًها في سلوكه وواقعه، حتى عاد صورة خارجية لها وعادت صورة نظرية له، لذا لما سُئِلت إحدى أمهات المؤمنين عن سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخلاقه قالت باختصار: (كان خلُقه القرآن)(2).

ولعدم إمكان التفكيك بين النظرية __ ولا أقصد بالنظرية ما يراد منها في المصطلح أعني المعلومة القابلة للصحة والخطأ، وإنما أعني مجموع ما احتوت عليه الرسالة من أصول وفروع وأخلاق التي أسسها القرآن الكريم __ والتطبيق، أي بين الرسالة وسلوك القائمين عليها، صار الناس لا يقتنعون بأي رسالة مهما1.

ص: 291


1- كنز العمال: 11 / 406.
2- مسند أحمد: 6 / 91.

كانت ترفع من مبادئ ومثل وأخلاق عالية ونبيلة إذا كان حاملوها والقائمون عليها أول من يخالفها.وهذا أحد أسباب انحطاط المسلمين وتشوه صورة الإسلام، فكيف يقتنع الناس بحرمة شرب الخمر إذا كان حاكم المسلمين أو ولاته يشربونها على منابر المسلمين؟ وكيف يقتنعون بحرمة الغناء أو السفور أو ممارسة الفاحشة إذا كان الخليفة يعقد الليالي الحمراء لإقامتها؟

ونحن __ الحوزة العلمية وكل مؤمن رسالي __ حملة رسالة إصلاحية كيف نستطيع أن نردع الناس عن الغيبة وإهانة المؤمن إذا كنا نلوكها بألسنتنا؟ وكيف نمنعهم من مشاهدة الأفلام والمسلسلات إذا كان هذا الجهاز اللعين في بيوتنا؟ وكيف نأمرهم بالصلاة في أوقاتها إذا كنا ننام عن صلاة الصبح؟ وكيف نحثهم على صلاة الليل ونحن لا نؤديها؟ أو نحثهم على إفشاء السلام ونحن لا نرد التحية بمثلها؟ فضلاً عما هو أحسن منها، وكيف نقنعهم بترك التدخين ونحن نزاوله ونصرف الأموال في سبيله بدلاً من أن ننفقها في قضاء حوائج المؤمنين وما أكثرهم اليوم.

هذا الترابط الوثيق بين الرسالة وسلوك حاملها عبّر عنه أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما أمرتكم بطاعة إلاّ كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية إلاّ كنت أول من يجتنبها)(1)، ولذا قالوا: إنّ الواعظ إذا لم يكن متعظاً لم يؤثر في القلوب ولم يهذب في النفوس.4.

ص: 292


1- تفسير كنز الدقائق: 2 / 194.

لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل:

ومن هنا أكدت أحاديث المعصومين (علیهم السلام) ضرورة اقتران العلم بالعمل، وأنهّ لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عز وجل: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ](فاطر:28) قال: (يعني بالعلماء من صدَق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم)(1)، وعن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السلام) يحدًث عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال في كلام له: (العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ أرتحل عنه)(3)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير

ص: 293


1- الكافي: 1 / 36، ح2.
2- الكافي: 1 / 44، ح1.
3- الكافي: ح2.

في جهله، وكلاهما حاير باير)(1)، وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله عز وجل: [فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ](الشعراء:94) قال (علیه السلام): (هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره)(2).

نتائج تطبيق الرسالة الإسلامية:

حينما نحتفل بذكريات المعصومين (علیهم السلام) وأولهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنما نستعيد بها ذكرى التطبيقات الكاملة للشريعة، كما نحتفل بذكريات الشريعة نفسها كيوم المبعث الذي هو يوم ولادة الرسالة وانطلاقها، أو يوم الغدير الذي هو يوم تمام الشريعة وكمالها بحسب ما نطقت به الآية الشريفة، هذه الوشيجة بين النظرية والتطبيق أو قل بين الرسالة وسلوك حاملها نخرج منها بعدة نتائج:

1 __ إن الشريعة كلما كانت أكمل فحاملها يكون أكمل، ولما كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع الإلهية فيكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكمل الخلق وأشرفهم.

2 __ إن شريعة الإسلام خالدة ودائمة، فيكون وجود المعصوم (علیهم السلام) دائمياً ومستمراً، وهو ما نعتقد به ودلت عليه الأحاديث الشريفة التي مضمونها: (لا تخلو الأرض من حجة قائم مشهور أو خفي مستور)، وما جاء في حديث الثقلين: (إنيّ تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي).

ص: 294


1- الكافي: ح6.
2- الكافي: 1 / 47، ح4.

3 __ إن الاعتداء على حامل الرسالة وممثليها من أنبياء أو أئمة إنما هو اعتداء على الشريعة نفسها، وبالعكس فإن أي اعتداء على الشريعة بتحريفها أو تمييعها أو مخالفتها إنما هو اعتداء على حامل الرسالة نفسه، لذا ورد في تفسير قوله تعالى: [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ](البقرة:61) أي بتحريف تعاليمهم ومخالفتها وتشويهها، فليعلم هؤلاء الذين يعصون الله تبارك وتعالى بترك الصلاة أو الخمس أو السفور أو التبرج أو ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم بنشر الصور الخلاعية وفتح محلات الفسق والفجور إنما يقتلون بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (علیهم السلام).

4 __ إن الإسلام إنما يتقدم وينتشر وتحصل القناعة به بتقدم أبنائه __ خصوصاً العلماء والحوزة الشريفة والمؤمنين الرساليين __ وتكاملهم وحسن تجسيدهم له، فحينما يقول الحديث: (العلماء أمناء الرسل، وحصون الإسلام) إنما يشير إلى هذه المسؤولية المزدوجة (أعني المسؤولية النظرية أو قل العلمية، ببيان محاسن الإسلام وعظمة تشريعاته وتكاملها وقدرتها على قيادة البشرية نحو السعادة والصلاح، والمسؤولية العملية بتمثيل الإسلام في سلوكهم وتفاصيل حياتهم) فهاتان مسؤوليتان لا تنفكان عن بعضهما.

وقد وعدت الأحاديث الشريفة بأنّ الله تعالى يقيًض لهذا الدين في كلّ زمان من يمثله هذا التمثيل، ليكون حصناً حقيقياً للإسلام، قال (علیه السلام): (فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين

ص: 295

وتأويل الجاهلين)(1) فكونوا من هذا الخلف، فإنها فرصة متاحة لأي أحد يعمل بجد واجتهاد لتأهيل نفسه لهذا الموقع، والله تعالى لا يبخل بإعطاء المستحق حقه وهو القائل: [وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](الأعراف:85).

أهمية الأسوة الحسنة:

لأجل هذه النقاط ركز القرآن الكريم على أهمية الأسوة الحسنة في تربية البشر وهدايتهم وإصلاحهم، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً](الأحزاب:21) فقد يؤثر الأسوة الحسنة في حياة الناس أكثر مما تؤثر فيهم كتب كثيرة، وأكدته الأحاديث الشريفة كما في قوله (علیه السلام): (كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)(2).

وبمقدار ذلك تكون خطورة القدوة السيئة(3) والعياذ بالله، لذا ورد التهديد الكبير للعلماء إذا نكبوا عن الصواب وفارقوا الطريقة المثلى، لأن هذا يؤدي إلى إعراض الناس عن الشريعة، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كلّ محب لشيء يحوط ما أحب، وقال (صلی الله علیه و آله): أوحى الله إلى داود (علیه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما

ص: 296


1- الكافي: 1 / 32، ح2.
2- مستدرك الوسائل: 1 / 116.
3- كالمطرب والممثل والرياضي.

أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم)(1)، وعن حفص بن غياث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (يا حفص؛ يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)(2)، وعنه إنّه قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): قال عيسى بن مريم (علیه السلام): (ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار)(3) وقد اشتهرت كلمة بعضهم: (إذا فسد العالِم فسد العالَم).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خير أسوة:

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى عرض صورة الأسوة الحسنة في حياتنا، فنحن مسؤولون أكثر من أي وقت مضى عن دراسة حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيرته دراسة تحليلية، لكي نتمثلها في حياتنا وتكون نبراساً لنا، ليس فقط في حياته الشخصية الخاصة لكونه أكمل المخلوقات وأشرفها وأحقها بالإقتداء في حياته العامة، بل لكونه أعظم مصلح اجتماعي عرفته البشرية، ولكونه مؤسس خير أمة أخرجت للناس من العدم، ولكون قيادته المباركة وفرت للبشرية أسعد عصر من عصورها، هذه الأبعاد المتعددة في شخصيته (صلی الله علیه و آله) جعلته أولى الناس بالتأسي والاقتداء لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وأراد السعادة لنفسه ولأمته.

وقد ذكرت في بعض المناسبات وجهاً لمعنى الكلمة العامية: (إن سفرة

ص: 297


1- الكافي: 1 / 46، ح4.
2- الكافي: 1 / 47، ح1.
3- الكافي: ح2.

الحسين واسعة)، ويمكن أن يراد بها عدة معانٍ بحسب ما أراد بها قائلوها، لكنني أفهم لها معنى واقعياً غير ما ذكروه، وهو أن حياة الحسين (علیه السلام) سِفرٌ مبارك يتسع كل ما يريده الطامحون إلى الكمال التواقون إلى السعادة الفارون من الحضيض، وجدُّه (صلی الله علیه و آله) أولى بهذه السعة منه (علیه السلام)، فلنأخذ من هذا السِفر المبارك ما يعيننا على مسؤولياتنا التي قلنا إنها أضخم من إي يوم مضى من أكثر من جهة:

مسؤوليتنا اليوم أضخم من الماضي:

1-إننا نواجه جاهلية عاتية تضرب بإطنابها أرجاء الأرض في أفكارها واعتقاداتها وفي سلوكياتها وأهوائها ونزعاتها(1)، بل إن جاهلية اليوم جمعت كل مساوئ جاهليات الأمس القريب والبعيد، وقد عقدت فصلاً طويلاً في كتاب (شكوى القرآن) لبيان مفهوم الجاهلية بحسب ما يستفاد من القرآن، وذكرت خمس عشرة نقطة التقاء بين الجاهليتين(2) وخرجنا بنتيجة أن الجاهلية ليست فترة زمنية ومرحلة تأريخية انتهت بظهور الإسلام، وإنما هي نمط من أنماط الحياة تتردى إليه البشرية وتسقط فيه كلما ابتعدت عن شريعة الله تبارك وتعالى.

ص: 298


1- من فاسقات نصبن فخاخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية، إلى قوانين وضعية تبيح اللواط وتجيز الزواج بين الذكور، إلى الزنا الذي يفوح برائحته الكريهة وأمراضه الفتاكة كالإيدز.
2- تجدها في كتاب (شكوى القرآن)، وقد تقدم في هذا الكتاب، طبعة مركز الإمام المهدي (عليه السلام) للدراسات الإسلامية.

فما أحوجنا إلى أن نستلهم من سيرته (صلی الله علیه و آله) كيفية مواجهة هذه الجاهلية بحيث استطاع أن ينقلهم (صلی الله علیه و آله) في مدة ضئيلة من عمر الزمن هي ثلاثة وعشرون عاماً، من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام السامقة(1)، وقد ذكرت في نفس الكتاب عدة دروس مستفادة من هذه التجربة(2).2 __ إننا نقترب بسرعة من يوم الظهور المبارك لبقية الله الأعظم، ومن شروطه وصول البشرية إلى قناعة كاملة بالإسلام، وقد قلنا قبل قليل: إن القناعة بالإسلام كنظام ورؤية للحياة لا تنفك عن القناعة بسلوك حامليه ومعتنقيه، فكلما كان التطبيق أكثر صدقاً كان أسرع في حصول هذه القناعة، وقد وردت التطمينات بأن الإسلام لا يحتاج إلى جهد كبير من أبنائه لتحصل قناعة الآخرين به، لأنه يغلب العقول ويفتح القلوب بلا عناء كثير، بخلاف المبادئ الأرضية التي لا تستطيع أن تُحَصّل هذه النتيجة بكل أساليب الإغراء أو البطش والتهديد، وقد ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام): (إن الناس لو علموا محاسن كلانا لاتبعونا)(3)، و(كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(4).

والتأريخ شاهد على ذلك، فإن المغول –وهم أكثر الشعوب وحشية- ما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد أن اكتسحوا بلاده قتلاً ونهباً وتدميراً، وها هو ذا الغرب1.

ص: 299


1- فحاشا لله تعالى أن يترك جاهلية اليوم سدى ولا يبعث لها مصلحاً معصوماً هو الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء.
2- تجدها في كتاب (شكوى القرآن): وقد تقدم.
3- بحار الأنوار: 2/ 30.
4- بحار الأنوار:65/ 261.

ينتابه القلق من إقبال أبنائه على الإسلام، فتقول إحصائية في بريطانيا: إن عشرين ألف امرأة بريطانية اعتنقت الإسلام إحداهن أستاذة جامعية أعلنت إسلامها في كلمة ألقتها في تجمع في حدائق هايد بارك الشهيرة في قلب لندن، وسوف ترى عن قريب كيف أن الإسلام يفتح قلوب أعدائه إلاّ من ضرب عليها إبليس بالأغلال كالصهاينة.ألسنا ندعو الله تبارك وتعالى أن ينتصر بنا لدينه وأن يجعلنا من أنصار وليه الأعظم؟ بل نقرأ في دعاء الافتتاح أن نكون من الدعاة إلى طاعته تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله في دولته الكريمة؟ فها هي الخطوة الأولى والمهمة التي رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب:21)، وشرحها أمير المؤمنين نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقولة (ع): (ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد)(1).

الحرب التي يعيشها الإسلام اليوم:

3- إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب، وقد اتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداوات الأمس ليكونوا يداً واحدةً في هذه الحرب، وقد أعلنت الأخبار اليوم (28/ 5/ 2002) __ وأنا أكتب هذه السطور __ أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بالاشتراك في اتخاذ القرار

ص: 300


1- نهج البلاغة: 3 / 70.

بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.وهذا الشكل من الحرب واضح وملتفت إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام وتمييع أحكامه وإفراغه من مضامينه والاكتفاء بالشكليات، فيسوّقوا لنا أنه لا مانع من أن تتحجب المرأة ولكن على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية، ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم مادام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره، وأن يكون اهتمام الناس منصباً على الازدياد من المظاهر الدنيوية فلا يستقر في دار حتى يطمح إلى أحسن منها، وسرعان ما يبدل سيارته إلى أحدث موديل أو أثاثه، أو يتفاخر بكثرة أمواله، هذا غير ضياعه في المتع المتنوعة من رياضة وفن، فلا يلبث أن يمل من متعة حتى يأتوه بغيرها؛ ليبقى في هذه الدوامة والدائرة المفرغة، ولا يلتفت إلى أهدافه الحقيقية رغم أن القرآن صريح وواضح: [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ](التوبة:24).

ومحل الشاهد إننا لو درسنا أسباب هذا الضياع لوجدنا أن أهمها غياب القدوة الحسنة التي تبهر العقول وتدخل القلوب وتقنعهم بالاتباع والتأسي وتلغي كل ما سواها، وقد دأب الإنسان على المتابعة والمشاكلة للشخصيات التي ينبهر بها حتى في الأشياء التي لا علاقة لها بسبب انبهاره، فمثلاً هو يعجب به كبطل أفلام أو رياضي إلا أنه يقلده في ملبسه وحركاته ومظهره، بل حتى أفكاره ومعتقداته أحياناً، فإذا غابت عن حياته الأسوة والقدوة الحسنة، فإنه

ص: 301

سينجذب إلى الأسوة السيئة من رياضي أو فنان أو بطل فلم وهمي ونحوه.

علينا ألاَّ نتبوّأ موقعاً إلا بجدارة:

لذا تجد من أهم العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام الانبهار والذوبان في شخصية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، التي ظلت مؤثرة في نفوس أصحابه حتى بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) بل إلى اليوم، فإن الكثير ممن اعتنقوا الإسلام إنما اعتنقوه إعجاباً بسيرة رجاله، كرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين (علیه السلام).

وهذا __ أي تأثير شخصية النبي (صلی الله علیه و آله) في نفوس أصحابه __ مما شهد به الأعداء وجعل الرعب يتملكهم ويملؤهم الشعور بالإحباط واليأس من المواجهة، وعندما خرج وفد من قريش لاستطلاع أخبار النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه فوجدهم محدقين به يتبركون بتراب أقدامه، ولا يدعون ماء وضوئه يسقط إلى الأرض بل يتقاسمون قطراته.

وقد اقتضت المشيئة الإلهية أن لا يتبوأ النبي (صلی الله علیه و آله) هذا المقام الرفيع إلاّ بعد أن ملك القلوب وخطف الألباب بأخلاقه وحسن سيرته، حتى سمّوه (صلی الله علیه و آله) في الجاهلية بالصادق الأمين، وما وجدوا له خطلة في قول ولا زلة في فعل، وألقى عليهم الحجة بذلك حين أعلن (صلی الله علیه و آله) دعوته قائلاً: (لو قلت لكم أن وراء هذه الأكمة جيش جاءوا للإغارة عليكم أتصدقونني؟ قالوا بأجمعهم: نعم؛ لأنك الصادق الأمين، قال: فإني رسول الله إليكم ونذير لكم من بين يدي عذاب أليم، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).

ص: 302

وهذا درس يمكن أن نستفيده من سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) غير ما ستأتي الإشارة إليه أن لا نتبوأ موقعاً اجتماعياً إلاّ حينما نكون أهلاً له، بحيث تتوفر القناعة الكاملة لدى الأمة باستحقاق هذا الموقع.وحياته (صلی الله علیه و آله) حافلة بالكثير مما يتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو [تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ](النحل:89) و[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](الأنعام:38) وهو (صلی الله علیه و آله) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم وهو (صلی الله علیه و آله) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب (شكوى القرآن).

ما هي الأمور التي يمكن أن نتأسى بها؟

ولكي نختصر الوقت ونخفف عنكم المؤونة نلفت أنظاركم إلى بعض ما يمكن أن نتأسى به من حياته (صلی الله علیه و آله) ويعيننا على أداء مسؤولياتنا، وسنجعله على شكل نقاط، وهي عبارة عن سلسلة محاضرات بعنوان (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع)(1) لكني أختصرها لكم بذكر عناوينها وقد ذكرت بعضها في مناسبات متعددة، لكن تذكرها ضروري، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ومنها:

1 __ المعرفة بالله تعالى والإخلاص له، فما من كلمة يقولها أو فعل يفعله أو ترك يتركه إلا لله تبارك وتعالى، ولو خيًر بين أمرين اختار أرضاهما لله،

ص: 303


1- طبعت لاحقاً في كتاب بعنوان (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) وهو مدرج في هذا الكتاب كما سيأتي بإذن الله تبارك وتعالى.

وكان على ذكر دائم لله دلً عليه ما روى من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم دعاء، وللتخلي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، فكانت حياته (صلی الله علیه و آله) كلها عبادة وفناء تام في الله سبحانه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من النوم والأكل ونحوهما مما يراه (صلی الله علیه و آله) غفلة عن الله تبارك وتعالى وتقصيراً في وظائف العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك وتعالى: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] (الفتح:1-2) وإن كان الاعتقاد أنهم (ع) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم (علیهم السلام).وقد ربًى أصحابه المخلصين على هذه العبودية الكاملة، فيوصي أبا ذر (رضي الله عنه): (يا أبا ذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ويقول له ما معناه: يا أبا ذر إنك تستطيع أن تجعل كل حياتك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أكثر الأمور ارتباطاً بشهوات النفس كإتيانك امرأتك، فقال أبو ذر (رضي الله عنه): وكيف يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ -فبينها (صلی الله علیه و آله) له-: أليس في هذا العمل إدخال السرور على أهلك وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام وزيادة عدد النسمات الموحًدة لله، وكل تلك النيات وغيرها طاعات وقربات إلى الله تعالى).

ص: 304

ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها(1)، وقد قال (صلی الله علیه و آله): (قرًة عيني الصلاة) لأنها معراجه (صلی الله علیه و آله) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه فيقف على واحدة ويرفع الأخرى لتستريح قليلاً فأشفق الله عليه بقوله: [طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى](طه:1-2).

الإعراض عن الدنيا المحللة:

2 - الإعراض عن الدنيا وعدم الاغترار بها، وطبعاً نقصد بالدنيا المحللة منها لا المحرمة، لأن اجتناب المحرمات من أول شروط العصمة المتحققة فيه (صلی الله علیه و آله) والاهتمام بالأعمال الصالحة، يوصي قيس بن عاصم المنقري: (يا قيس؛ إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكلّ شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإن لكلّ أجل كتاباً، وإنه يا قيس لا بدَّ لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، ولا تبعث إلاّ معه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ عنه، وهو عملك)(2).

ص: 305


1- واعلم أن باب الله تعالى مفتوح للجميع حيث لا بخل في ساحته تعالى ولكن الأمر يحتاج شيئاً من الالتفات والهمة والمواظبة على العبادة وخصوصاً قراءة القرآن وأدعية المعصومين (عليهم السلام) فإنها تؤثر تأثيراً نورانياً في النفس وإن لم تقرأ بخشوع.
2- الخصال: ص114.

نزل جبرائيل الأمين (ع) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً وقال له: (إنّ العلي الأعلى يُقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام وهو يقول لك أن لو شئت صيرت لك تهامة ذهباً وفضةً وأنت على ما أنت عليه من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): حبيبي جبرائيل ثم ماذا؟ قال: الموت، قال (صلی الله علیه و آله): إذن دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، أما اليوم الذي أجوع فيه فأسأل ربي وأصبر، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأشكر ربي)(1)، فما الذي يضرنا لو قللنا إقبالنا على الدنيا واكتفينا منها بالضروري لنكون من المخفًين الذين يقال لهم جوزوا، لا المثقلين الذين يقال لهم حطوا.3 __ قوة الإرادة والثبات على الحق، فلا يحيد عنه مهما كانت المغريات أو الضغوط، وهو (صلی الله علیه و آله) القائل لعمه أبي طالب (علیهما السلام) لما جاءته قريش وعرضت عليه عروضاً مقابل تخليه عن الدعوة إلى الله، إن شاء ملكاً ملّكناه أو مالاً جمعنا له أو امرأة زوجناه أجمل نسائنا، قال (صلی الله علیه و آله): (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه).

ويقول (صلی الله علیه و آله) عن إيمان المؤمن بأنه (أقوى من الجبل. قيل: و كيف يا رسول الله؟ قال (صلی الله علیه و آله): لأن الجبل يُستقل منه بالمعاول ولا يُستقل من إيمان المؤمن شيء)، لم يثنه الأذى الجسدي ولا المعنوي عن مواصلة رسالته، فقد وصفوه بأسوء الصفات: ساحر، كذاب، مجنون، واتهموه بأشنع التهم حتى لم يسلم من الطعن في شرفه كما في حديث الإفك الذي تقصًه سورة النور.6.

ص: 306


1- بحار الأنوار: 42 / 276.

4 __ الاهتمام بأمور المسلمين وهو (صلی الله علیه و آله) القائل: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع منادياً ينادي بالمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)، أين نحن من هذا الشعور بالمسؤولية وتذويب الأنانية لمصلحة الأمة، وهل يسوغ لنا أن نهتم بأنفسنا ونعتني بمصالحنا الخاصة ونترك حبل المجتمع على غاربه ولا تتحرك مشاعرنا لما يُعانيه فنعمل على مساعدته بما نستطيع، حتى إنه (صلی الله علیه و آله) كان يسعى بمشاريع الزواج والتوسط للتوفيق بين الرجال والنساء على سنة رسوله (صلی الله علیه و آله)، فيبعث جويبر إلى أشرف نساء قومها لتزوجه بوساطته (صلی الله علیه و آله).

5 __ الاهتمام بالقرآن الكريم شغفاً به، لأنه رسالة الحبيب وهل تُمَل رسالة الحبيب؟ وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل:1-5).

وكان (صلی الله علیه و آله) يطلب من ابن مسعود أن يتلو القرآن عليه، فيقول ابن مسعود: اقرأه عليك وقد نزل عليك، فيقول (صلی الله علیه و آله): (أحب أن أسمعه منك)، يريد أن يمتع جميع جوارحه بكلام الله تعالى، فيقرأ ابن مسعود وعين رسول الله (صلی الله علیه و آله) تفيض من الدمع.

وكان (صلی الله علیه و آله) لا ينام حتى يقرأ سور المسبّحات، أي التي تبدأ بكلمات التسبيح، ويوصي (صلی الله علیه و آله) بتلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل به، ويبين الثواب العظيم لذلك، وقد بينا بعضاً منه في كتاب (شكوى القرآن).

وإنك لتشعر أنّ أي مصلح اجتماعي أو قائد عظيم لا يكون ناجحاً إلا إذا

ص: 307

عاش في ظل القرآن وتربى في أحضانه وتفاعل مع آياته.6 __ التواضع(1) بحيث كان الأعرابي يدخل إلى المسجد فيقول: أيكم محمد؟ لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يتميز عن أصحابه بمجلس أو ملبس أو أي شيء آخر، يواسي في حياته أدناهم، وهو يفعل ذلك أدباً مع الله تعالى واستشعارا للحقارة في حضرة الربوبية.

7 __ عدم الاستماع إلى النميمة ونقل الكلام السيئ عن أصحابه خصوصاً من المتزلفين وضعيفي النفوس، فكان إذا أراد أحد أصحابه أن ينقل كلاماً سيئاً عن أحد منعه، وقال له (صلی الله علیه و آله): (أحب أن أمضي عنكم وأنا سليم الصدر).

8 __ عدم اتخاذ بطانة وحاشية غير مخلصة لله تعالى، أو تفكر في الانتفاع من مواقعها وجني مكاسب شخصية ولو على حساب الدين والأمة كما في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ](آل عمران:118).

9 __ الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وقد امتدحه الله تبارك وتعالى عليها قائلاً: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ](القلم:4)، وفي وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام):ب.

ص: 308


1- روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب غرر الحكم هذه الروايات: 1 __ لو رخص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلق لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع. 2 __ ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق و حسن الرفق و التواضع. 3 __ أشرف الخلائق التواضع و الحلم و لين الجانب.

(عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنًّ إلا نفسك)، وقد جعلها (صلی الله علیه و آله) محور رسالته قائلاً: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهذه النقطة وحدها تستوعب مجلدات من الكلام والمصادر حافلة بالشواهد التفصيلية(1).10 __ التركيز على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير الشديد من التقاعس عن أدائها، فقد قال (صلی الله علیه و آله): (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(2) وهذه المراحل الثلاث كلها وصلتها الأمة كما هو واضح، وعنه (صلی الله علیه و آله): (إنّ الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له، قال: الذي لا ينهى عن المنكر)، وكان (صلی الله علیه و آله) يقول: (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)، فاحذروا أيها الأخوة من التواكل والتخاذل والتقاعس عن أداء هذه9.

ص: 309


1- جاء في كتاب أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) تعريف حسن الخلق: هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول، وكما عرّفه الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن حده فقال: (تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن). وقال (عليه السلام): (إن شئت أن تُكرَم فَلِن وإن شئت أن تُهان فأخشن) تحف العقول. وقال (عليه السلام): (إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم). من لا يحضره الفقيه.
2- الكافي:5/ 59.

الوظيفة الإلهية العظيمة.11 __ الاهتمام بنشر العلم والمعرفة في جميع الحقول، وكان يوصي أمته قائلاً: (اطلبوا العلم ولو في الصين) باعتبارها أبعد نقطة مقصودة يومئذ، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله؛ فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنهّ معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخِلاّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم ويهتدي بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم...) إلى آخر الحديث، وفي معركة بدر جعل مما يفدي الأسير نفسه أن يعلم عشرة من المسلمين. فأين أدعياء الحضارة اليوم من هذا التفكير الواعي في ذلك الزمان البعيد؟

12 __ احتضان الشباب ورعايتهم فقد أوصى (صلی الله علیه و آله): (أوصيكم بالشباب خيراً فأنهم أرق أفئدة)؛ لأنّ قلوبهم ما زالت نقية وقريبة العهد بالفطرة، ولم تتكدر بالذنوب فتحرم من نور المعرفة، فلا عجب أن يكون أسبق الناس إلى اتًباعه هم الشباب، وفي رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) يسأل أحد أصحابه: كيف حال دعوتكم في الكوفة؟ فأخبره بأنها تواجه صعوبات كثيرة وقلّة استجابة، فقال (علیه السلام) ما معناه: (عليكم بالأحداث، فإن قلب الحدث كالأرض

ص: 310

الطيبة)، وقد بسطت الكلام نسبياً عن ذلك في محاضرات (الحوزة ومشاكل الشباب).13 __ محاربة العادات الاجتماعية السيّئة والقضاء عليها، فمثلاً كانت قريش لا تزوج نساءها لغيرها، فزوًج ضباعة بنت عمه الزبير بن عبد المطلب وهي من أشرف بيوتات قريش إلى المقداد بن الأسود، وزوج زينب ابنة عمته من متبناه زيد بن حارثة، ثم تزوجها بعده، وقد كان العرب لا يتزوجون زوجات متبنيهم، ويوصي بالبنات ويقول: إنهن حسنات، ويبين عظمة ابنته الزهراء وشرفها في قوم كانوا يئدون البنات ويعتبرونهن عاراً، بل إن الله سمّى ابنته الكوثر وجعل نسله منها، والأبتر هو من عيّره بعدم الولد.

14 __ الحث على الحضور في المساجد وصلاة الجماعة والشعائر الدينية، فعن الصادق (علیه السلام) قال: (اشترط رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جيران المسجد شهود الصلاة)، وقال (صلی الله علیه و آله): (لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم أأمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي (علیه السلام) فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب، لأنهم لا يأتون الصلاة).

ويحذر الأمة من أن يشكوهم المسجد والقرآن والعترة يوم القيامة، فعن جابر قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: (يجيء يوم القيامة ثلاث يشكون لله عز وجل: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فاجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:

ص: 311

أنا أولى بذلك).وقد حررنا شكويين(1) منها بعنوان (شكوى المسجد) و(شكوى القرآن)، ويصل الاهتمام إلى درجة أنّ رجلاً أعمى يأتيه (صلی الله علیه و آله) فيقول له: أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): (شُدً من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة).

15 __ التشديد على الوحدة بين المسلمين وعدم إعطاء أية فرصة لإيقاع الفرقة بينهم، قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً](آل عمران:103) وفسر النبي (صلی الله علیه و آله) حبل الله الذي بالاعتصام به تحفظ وحدة المسلمين فقال (صلی الله علیه و آله): (وإني تارك __ مخلّف __ فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القران والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم).

وذات يوم عمل بعض اليهود على الوقيعة بين الأوس والخزرج، وذكرهم بعداواتهم في الجاهلية ومن قتل من أشرافهم، حتى ثارت عصبيتهم فتواعدوا القتال كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك، فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى وافى القوم قبل أن يقع السيف بينهم، فوعظهم وذكرهم، فتابوا وعادوا إلى رشدهم. فاحفظوا وحدتكم أيها الأحبة ولا تعطوا فرصة للأعداء ليوقعوا بينكم فلا يوجد شيء يستحق الاختلاف بيننا.).

ص: 312


1- ثم حررت الثالثة بعنوان: (شكوى الإمام (عليه السلام)).

16 __ الإكثار من ذكر الموت(1)، وكان (صلی الله علیه و آله) يسميه هادم اللذات، ويقول (صلی الله علیه و آله): (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: وما جلاؤها يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن)، وكان يقول (صلی الله علیه و آله): (إنّي ما أطبقت عينيَّ إلاّ وظننت إنّي لا أفتحهما، ولا فتحتهما إلاّ وظننت إني لا أطبقهما)، ولذكر الموت فوائد عديدة: العظة والاعتبار وتحقير الدنيا وعدم الإكتراث بها، ترقيق القلوب، استباق الخيرات، والإكثار من الأعمال الصالحة، وغيرها.

17 __ الاهتمام بالمرأة من حيث تثقيفها وتعليمها وإعطاؤها حقوقها وهو بذلك يرد على الأفكار والمعتقدات الجاهلية التي تمتهنها وتجعلها سلعة بيد الرجل

ص: 313


1- إتماماً للفائدة نورد هذه الرواية من كتاب مصباح الشريعة ص171: قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): (ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ وَيُرِقُّ الطَّبْعَ وَيَكْسِرُ أَعْلامَ الْهَوَى وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا وَ هُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ مَا يَحُلُّ أَطْنَابَ خِيَامِ الدُّنْيَا وَيَشُدُّهَا فِي الآخرة وَلا تَسْكُنْ بِزَوَالِ الرَّحْمَة عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ لا يَعْتَبِرْ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ فِي الْقَبْرِ وَتَحَيُّرِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَلا خَيْرَ فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْمَوْتُ فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي سَعَةٍ إِلا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلا فِي شِدَّةٍ إِلا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَالْمَوْتُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا فَطُوبَى لِمَنْ أُكْرِمَ عِنْدَ النُّزُولِ بِأَوَّلِهَا وَطُوبَى لِمَنْ أُحْسِنَ مُشَايَعَتُهُ فِي آخِرِهَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ الأشْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ يَعُدُّهُ أَبْعَدَ فَمَا أَجْرَأَ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَضْعَفَهُ مِنْ خَلْقٍ وَفِي الْمَوْتِ نَجَاةُ الْمُخْلِصِينَ وَهَلاكُ الْمُجْرِمِينَ وَلِذَلِكَ اشْتَاقَ مَنِ اشْتَاقَ الْمَوْتَ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ).

يقضي بها حاجته ثم يرميها في سلة المهملات، فبيّن تعالى أن المرأة كالرجل في المسؤولية وتحمل التكليف في قوله تعالى: [أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى](آل عمران:195). وربّى (صلی الله علیه و آله) ابنته الزهراء (علیها السلام) لتكون سيدة نساء العالمين، وكان يبيّن لها تفاصيل رسالته العظيمة كما كانت هي تلتقط أخبار أبيها (صلی الله علیه و آله) أولاً بأول من خلال ولديها الحسنين (ع)، وكان (صلی الله علیه و آله) يستقبل النساء ويجيبهن عن أسئلتهن وقد صدرت منه كلمات ثناء وإطراء على عدد منهن كأم سلمة وأم أيمن وأسماء بنت عميس وهند أخت عبد الله والد جابر الأنصاري وغيرهن، وبذلك أعطاهن دورهن الكامل في الحياة بشكل لم تعطيه لهن أي شريعة أو نظام، حتى المتشدقين بحقوق المرأة اليوم وهم يريدونها بذلك أن تكون وسيلة لإشباع شهواتهم وغرائزهم ويمتهنون بذلك كرامتها.

اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) وأمتنا مماتهم، رب أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صلی الله علیه و آله) وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 314

الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية

اشارة

الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين(2).

لمحات من دعاء عرفة:

اللّهُمَّ اجْعَلْنِي أَخْشاكَ كَأَنِّي أَراكَ(3)، وَأسْعِدْنِي بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لِي فِي قَضائِكَ، وَبارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ ما أَخَّرْتَ وَلا تَأْخِيرَ ما عَجَّلْتَ،... إِلهِي وَسَيِّدِي أَمَرْتَنِي فَعَصَيْتُكَ، وَنَهَيْتَنِي فَارْتَكَبْتُ نَهْيَكَ، فَأَصْبَحْتُ لا ذا بَراءَةٍ لِي فَأَعْتَذِرُ، وَلا ذا قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرُ، فَبِأَيِّ شَيٍْ

ص: 315


1- محاضرة ألقيت بتأريخ 3/شعبان/1422 ه_ الموافق 21/ 10/ 2001 م ، بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسين (عليه السلام).
2- اعتدنا في خطبنا كخطباء وفي دروسنا كمدرسين أن لا نعطي لله سبحانه وتعالى أكثر من هذا السطر (الحمد لله...) ومن ثم ندخل في معمعة الكلام ولكن يجب أن يكون لله نصيب في كلامنا أكثر من هذا، وهذا تقصير، كان السيد (قدس سره) في خطب الجمعة وكلكم سمعتموه يعطي حيزاً كبيراً في خطبه لله وأهل البيت (عليهم السلام) ومن الممكن أن نقتطع بهذه المناسبة بعض الفقرات من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة الذي يعتبر من مفاخر أهل البيت (عليهم السلام).
3- كما في وصيته (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: (فإن لم تكن تراه فهو يراك).

أَسْتَقْبِلُكَ يا مَوْلايَ؟ أَبِسَمْعِي أَمْ بِبَصَرِي أَمْ بِلِسانِي أَمْ بِيَدِي أَمْ بِرِجْلِي؟ أَلَيْسَ كُلُّها نِعَمَكَ عِنْدِي؟ وَبِكُلِّها عَصَيْتُكَ يا مَوْلايَ؟ فَلَكَ الحُجَّةُ وَالسَّبِيلُ عَلَيَّ،... اللّهُمَّ إِنَّكَ أَقْرَبُ مَنْ دُعِيَ، وَأَسْرَعُ مَنْ أَجابَ، وَأَكْرَمُ مَنْ عَفى، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطى، وَأَسْمَعُ مَنْ سُئِلْ، يا رَحْمنَ الدُّنْيا وَالآخرةِ وَرَحِيمَهُما، لَيْسَ كَمِثْلِكَ مَسْؤولٌ، وَلا سِواكَ مَأْمُولٌ، دَعَوْتُكَ فَأَجَبْتَنِي، وَسَأَلْتُكَ فَأَعْطَيْتَنِي، وَرَغِبْتُ إِلَيْكَ فَرَحِمْتَنِي، وَوَثِقْت بِكَ فَنَجَّيْتَنِي، وَفَزِعْتُ إِلَيْكَ فَكَفَيْتَنِي(1)،... ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ؟(2) وَما الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟! لَقَدْ خابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلاً، وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغى عَنْكَ مُتَحَوَّلاً، كَيْفَ يُرْجى سِواكَ وَأَنْتَ ما قَطَعْتَ الإحْسانَ؟ وَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَأَنْتَ مابَدَّلْتَ عادَةَ الاِمْتِنانِ؟ يا مَنْ أَذاقَ أَحِبَّاءَهُ حَلاوَةَ المُؤانَسَةِ فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَلِّقِينَ، وَيا مَنْ أَلْبَسَ أَوْلِيائهُ مَلابِسَ هَيْبَتِهِ فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُسْتَغْفِرِينَ، فصلِّ على محمد عبدك ورسولك وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

كيان الأمة الإسلامية:

يستفاد من النصوص الشرعية كتاباً وسُنة أن للأمة كياناً وماهية وحقيقة ووجوداً لا مجرد كونه تجمع أفراد، وبلحاظ هذا الكيان توجه إليه التكاليف الشرعية:

ص: 316


1- وهذا الدعاء يحتوي الكثير من بيان هذه المفارقة بيني أنا مع الله، والله معي، فمن جهته تبارك وتعالى كلّه نعم وكلّه تفضل، وأنا معه كلّي عصيان وغفلة وتقصير.
2- فليسمع هؤلاء المتشبثون بالدنيا.

1 __ من الكتاب العزيز: فقوله تعالى: [مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ](الحجر:5) وقوله تعالى: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون](الأعراف:34) فللأمة أجلٌ بغض النظر عن آجال أفرادها.

2 __ من السنة الشريفة: فقوله (صلی الله علیه و آله): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(1).

وفي حديث آخر شبّه أفراد المجتمع بركاب السفينة الذين يملك كل منهم جزءاً منها لا يستطيع أحدهم أن يقلع جزءه ويقول: هذا لي وأنا حرٌ في أخذه، لأن نتيجة ذلك غرق السفينة كلها بمن فيها.

((فلو كانت الأمة مجرد عدد رقمي للأفراد لما نّبه (صلی الله علیه و آله) إلى هذه الرابطة، فإن الجسد ليس مجرد مجموع عدد من الأجزاء، بل هو مركب له وجود وحقيقة وماهية، وكذا السفينة، وهما مثالان واضحان يُقرّبان فكرة أن الأمة أيضاً كيان مركب من عدد من الأفراد، وكما إن للفرد خصائص ومميزات تُكسبه الصورة الخاصة به، كذلك المجتمع.

وكما إن الفرد يُولد ويموت ويمتلك مقومات القوة والبقاء ثم يضعف ويموت، كذلك الأمم تولد وتنمو وتحصل لها عناصر الديمومة والبقاء، أو تنخر في جسدها آفات العلل والأمراض فتموت، وهي كما أشارت إليه الآية المتقدمة، والتأريخ أمامنا يشهد على حصول ذلك قديماً وحديثاً، فكم من أمة0.

ص: 317


1- بحار الأنوار: 58 / 150.

أو حضارة ولدت وازدهرت ثم نخرت في جسدها الآفات والأدران الاجتماعية حتى فتكت بها واندثرت.وكما إن للفرد مصالحه وملاكاته __ بحسب التعبير العلمي __ التي أوجبت أن يُكلف بأحكام شرعية، فأوجب المولى تبارك وتعالى عليه الصلاة لتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وأوجب عليه الصوم ليقوي إرادته ويتدرب على أن يملك زمام نفسه مثلا، فكذلك الأمة لها مصالح وملاكات توجب أن يكون لها أحكام من نوع آخر متوجهة إليها كأمة مجتمعة لا كأفراد، غير ما ألفناه في الأحكام الفردية، والفرد مسؤول عن التكليفين معاً، ولكنه في أحدهما مسؤول عنه شخصياً بغض النظر عن قيام غيره به وعدمه كالصلاة والصوم، أما الآخر __ أعني تكليف الأمة __ فهو مسؤول عنه بما هو جزءٌ من هذا الكل المركب الذي سميناه الأمة أو المجتمع)).

التكاليف الاجتماعية:

هي تلك التكاليف المتوجهة إلى المجتمع كمركب مترابط الأجزاء.

والتكاليف الاجتماعية كثيرة في المجتمع وفي أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) سواء على المستوى الشرعي أو الأخلاقي، لكنها مشتتة ومتفرقة ومبثوثة في أبواب متعددة وتحت عناوين التكاليف الفردية، وهذا ناشئ من النظرة الفردية التي حكمت أذهان الفقهاء، وأعني بالنظرة الفردية أن الفقيه حينما يفكر ويستنبط فإنه يتصور أمامه فرداً مسلماً يُريد أن يبرئ ذمته أمام الله تعالى ويُنجي نفسه من عقوبته، ولا يتصور أمامه مجتمعاً مسلماً يريد أن يجسّد الشريعة الإلهية

ص: 318

في حياته.ولا شك أن تحديد الهدف وتصوره سواء كان فرداً أو مجتمعاً هو الذي يرسم منهج العمل والسلوك ويحدد معالم التفكير.. فأنت كطالب بالحوزة الشريفة قد يكون هدفك الاجتهاد أو خدمة المنبر أو تأليف الكتب أو أن تصبح مفكراً أو وكيلاً للمرجعية في جهة ما، فإن اختلاف الأهداف يؤدي إلى اختلاف المنهج الدراسي الذي ترسمه لحياتك، فمنهجك الدراسي وأنت تستهدف الاجتهاد غيره وأنت تريد أن تصبح خطيباً منبرياً في مدينة ما.

ومن هنا كان لغياب الهدف الاجتماعي عن أذهان الفقهاء بغض النظر عن أسبابه ومبرراته الأثر الكبير في تباطؤ بل تجميد الفقه الاجتماعي الذي هو ليس غريباً ولا مبايناً للفقه الفردي الموجود، بل إنه يولد في أحضانه، بل نستطيع أن نقول: أنّهما يشتركان في أكثر المسائل سوى تصنيفها وترتيبها، فيستنبط الفقيه أولاً ما يراه حجة ما بينه وبين الله تعالى من المسائل في أبواب الفقه المتعددة، ثم يحاول إعادة صياغة المسائل ولمّ شتاتها في قوالب جديدة وتحت عناوين جديدة لنصطلح على تسميتها (نظريات) مع التحفظ على استعمال هذا العنوان، ولكنه أقرب المصطلحات إلى أذهاننا، فهذا إذن فرق جديد بين التكاليف الفردية والاجتماعية.

الفرق بين التكاليف الفردية والاجتماعية:

التكاليف الفردية تكون على هيئة مسائل، بينما التكاليف الاجتماعية تكون على شكل نظريات ونظم وقوانين، فإذا أردت أن أدرس النظام الاجتماعي في

ص: 319

الإسلام فإن مسائله مشتتة في كتب عديدة كالنكاح والطلاق والميراث، وهذا التبويب فردي(1) أو أردت أن أضع قانون الأحكام الجنائية مثلاً فأستخرجه من كتب الحدود والديات والترافع والقضاء وهكذا.وقد جربنا ذلك في (فقه طلبة الجامعات) مثلاً أو (فقه الموظفين) أو (فقه سائقي السيارات) أو (فقه السوق) أو (فقه الحلاقين) أو (فقه العشائر) وغيرها وهي لم تضم أكثر من هذه المسائل الفقهية المتعارفة، إلا إنّ الجديد فيها الذي أوجب تفاعل المجتمع معها هو الصياغة والطرح وشكل الخطاب، فبدلاً من أن يكون الخطاب عاماً ومشتتاً يصعب على الفرد أن يجد ضالته فيه، أصبح الخطاب في مثل هذه الكتب مباشراً، فشعور السائق مثلا بالمسؤولية الذي يدفعه نحو التطبيق تجاه كتاب (فقه السياقة) أشد وآكد من شعوره تجاه مسائل متفرقة متوزعة في أبواب عديدة في الرسائل العملية.

ما هو المقصود من التكاليف الاجتماعية؟

وهذه الأمثلة ليست هي ما أعنيه بالتكاليف الاجتماعية، وإنما هي تقترب منها من حيث تأثيرها بالمجتمع، وإنما اقصد بالتكاليف الاجتماعية تلك التكاليف المتوجهة إلى المجتمع بما هو مركب مترابط الأجزاء، ولا يكفي في التمييز بينهما أن يكون الأول (الفردي) بلسان المفرد والثاني (الاجتماعي) بلسان الجمع، فإن خطاب: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ](البقرة:183) بلسان الجمع وهو

ص: 320


1- أما إذا أردت أن تستخرج منها نظرية اجتماعية للإسلام فهذا هو التفكير الاجتماعي فإنه يولد في أحضان التكليف الفردي لكن بصياغة وطرح جديد.

من التكاليف الفردية، بينما خطاب قوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ](آل عمران:104) وخطاب [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة:122) هي تكاليف اجتماعية فكيف نميز بينهما؟.

كيفية التمييز بين التكاليف الاجتماعية والفردية:

أولاً: بالملاكات والمبادئ كما يعبرون، أي العلل التي وراء صدور هذه التشريعات والأغراض التي شرعت الأحكام لتحقيقها، فإن المصالح والأغراض في (التكاليف الفردية) تعود للفرد نفسه، وأما الثاني (التكاليف الاجتماعية) تعود المصلحة للمجتمع...

الثاني: بالآثار، فإن قيام الشخص بالتكليف الفردي يؤتيه ثماره سواء قام به غيره أم لا، كالصلاة مثلاً فإن الآية أشارت إليه بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم(1)](المائدة:105)، بينما الثاني

ص: 321


1- يتصور البعض إن هذه الآية دليل على عدم وجوب هداية الآخرين وهذا تفكير خطير يحاول أعداء الدين إفشائه في مجتمعنا والصحيح إننا يجب أن لا ننظر إلى آيات القرآن الكريم من جهة ونترك الجهات الأخرى أو قل إن نظرتنا للقرآن يجب أن تكون شمولية مستوعبة لجميع أحكام الكتاب فالقرآن بعضه يكمل بعضا== ==وبعضه يفسر بعضا وقد ذم القرآن الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض](البقرة: 85) فنلاحظ تركيز الكتاب الكريم في كثير من المواضع على هداية الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل نلاحظ ان معيار تفضيل القرآن لامتنا على سائر الأمم هو التزامها بهذه الفريضة الشريفة.

تحصل آثاره الإيجابية إلا إذا قام به المجتمع ككل، كما إن الآثار السلبية لعدم امتثال المجتمع له تعم حتى الذي قام به وأبرأ ذمته كفرد أمام الله تعالى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي أشارت إليه الآية: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً](الأنفال:25) وهذا أحد وجوه الجمع بين الآيتين، وبدون الجمع يبدو التهافت بين الآيتين.الثالث: ويختلفان بطبيعة التفكير واتجاهه، فبينما يعمل التفكير الفردي على التوفيق بين الواقع وإن كان فاسداً كما هو الغالب وأحكام الشريعة، فيجدون الحلول والتبريرات للتعايش مع هذا الواقع مما يسمى أحياناً ب_(الحيل الشرعية)، وهي لها ما يصححها في قواعد الشريعة وأصولها، وأوضح مصاديق ذلك التعامل مع المصارف الربوية.

أما التفكير الاجتماعي فإنه يطرح واقعاً جديداً تصنعه الشريعة كبديل صالح لذلك الواقع الفاسد، والثاني أقرب كما هو واضح لذوق الشريعة الإلهية ومناسب لما تتضمنه من عقائد، وحسب تعبير سيدنا الأستاذ (قدس سره): إنّ الصحيح هو رفع الواقع إلى مستوى الشريعة لا إنزال الشريعة إلى مستوى الواقع، وفي ضوء هذا الفهم ستجد كلاماً غريباً يقوله الفقهاء (قدس الله أرواحهم) كقولهم في مباحث قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أنّ هذا الحديث منقوض بأحكام ضررية كثيرة موجودة في الشريعة كالجهاد والخمس، فإن في الأول إزهاقاً للنفوس وإن في الثاني إتلافاً للأموال.

ص: 322

الرابع: بصيغة الطرح وشكل الخطاب، فإن الأول (الفردية) عبارة عن مسائل متفرقة، بينما الثاني (الاجتماعية) يكون بشكل نظريات ونظم وقوانين كما في مصطلح اليوم.الخامس: بالأصول والقواعد التي يستند إليها، فقد يجري أصل البراءة في موضوع معين من حيث التكليف الفردي، ولا يجري فيه من حيث التكليف الاجتماعي، وينتج أن موضوعاً واحداً له حكم معين إذا لوحظ على صعيد التكليف الفردي، يتغير حكمه إذا لوحظ على الصعيد الاجتماعي، كالرياضة مثلاً أو التكسب بفتح صالات الأتاري مع عدم الرهن أو التدخين أو تجارة المخدرات أو عصير الشعير الخالي من الكحول مما يسمى ب_(البيرة الإسلامية)، وقد عالجناها في استفتاءات تفصيلية صدرت في مناسبات متفرقة.

إنّ اختلاف الأحكام تبعاً لاختلاف النظر بحيث تجد الحكم على المستوى الفردي غيره على المستوى الاجتماعي ليس تلاعباً بالأحكام الشرعية، بل هو من باب تبدل الأحكام بتبدل العناوين، فالاحكام بالعناوين الأولية غيرها بالعناوين الثانوية، فمن الخطأ أن نجري قواعد أحد التكليفين في الآخر.

فلعبة كرة القدم ليست منكراً لذا لم يفتِ أحد بحرمتها، لكن عندما تستحوذ الكرة على مشاعر الناس وعواطفهم ويتركز الاهتمام عليها بشكل كبير حتى تصبح إلهاً يطاع، وتتوجه إليه الأفئدة والعقول، وتصرف عليه المليارات، وتذبح له القرابين البشرية وليس فقط الحيوانية، كما سمعنا بحوادث كثيرة ذهب ضحيتها البشر، بل تقاتلت من أجلها دول كما حصل بين السلفادور والهندوراس، فإذا أصبحت الكرة هكذا إلهاً يعبد من دون الله، بالمعنى الذي

ص: 323

يستفاد من القرآن الكريم للعبادة الذي ذكرناه آنفا، يصبح منكراً اجتماعياً يحتاج إلى معالجة، بحيث إنهم أنفسهم يسمونها (الكرة معبودة الجماهير)، فهم يقرّون بالعبادة لها، ونحن نردد هذا العنوان بسذاجة وبلا وعي، ولا ندرك ما يحوكون لنا من خطط لصرفنا عن معبودنا الحقيقي، فصنعوا لنا أهدافاً وهمية من شباك نتنافس على إدخال الكرة فيها، ليشغلونا عن الأهداف الحقيقية التي هي نيل رضا الله تبارك وتعالى وإعمار الحياة وفق ما رسم لنا من منهج.وإنه لمما يثير السخرية والاستهزاء ما يتشدق به هؤلاء من أنهم استغنوا عن نظام الأضوية المرورية عند تقاطعات الشوارع، لأن فيه تأخيراً مدة دقيقة، وأبدلوها بالإنفاق والجسور، وهم يضيعون الساعات يومياً في هذه الأمور العبثية التافهة، وهكذا نستطيع أن نشخص منكرات اجتماعية كثيرة لا تفهم كذلك فيما لو نظر إليها على المستوى الفردي المتعارف.

السادس: بالرتبة، فإن صياغة التكليف الاجتماعي يكون بعد استنباط الأحكام الفردية كمرحلة أولى، ثم لمّ شتات هذه المسائل وتصنيفها، ثم استخلاص النظرية الاجتماعية في المجال المحدد، كالاقتصاد مثلاً أو حقوق الإنسان أو قانون العقوبات أو الأحوال الشخصية...

أغراض تأسيس النظرية الاجتماعية:

إن التفكير الاجتماعي في الاستنباط الفقهي وتكوين نظريات إسلامية للمجتمع سواء على صعيده العام أي المجتمع عموماً، أو على شكل خطابات لشرائحه المتنوعة المهنية (كفقه الحلاقة وفقه سياقة السيارات) أو الاجتماعية

ص: 324

(كفقه العشائر أو فقه طلبة الجامعات) أو الثقافية.. لمن أوضح (الحوادث الواقعة) التي ذكرها الإمام (علیه السلام) في مكاتبة إسحاق بن يعقوب: (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)، وإنّه ليستحق أن يُبذل الجهد الكبير من أجل إنجازه لأكثر من غرض:الغرض الأول: إن اهتمام الشريعة بالمصلحة العامة أكثر من المصلحة الشخصية، بحيث إنّه يضحي بالثانية __ المصلحة الشخصية __ عند معارضتها للأولى ... وتجد أنّ دليل حفظ النظام من أوضح مستندات الأحكام الاجتماعية، وكذا ولاية الفقيه حاكمة على جميع الأدلة الأخرى(1).

الغرض الثاني: إننا نعيش في عالم تتصارع فيه الحضارات والثقافات والأفكار(2)، ونواجه فيه تحديات كثيرة، ولا تواجه النظريات إلاّ بنظريات، مثلها، وأما المسائل المتفرقة التي لا تصاغ بشكل نظرية تنظم الحياة، فانها لا تستطيع الصمود أمام هذه التحديات، ويقف صاحبها عاجزاً وإن كانت تحتوي في نفسها أكبر النظريات، فالمشكلة في الطرح والصياغة، وجرب بنفسك أن تلم بجميع مسائل الفقه بشكلها المتداول، هل يكفي ذلك للخروج بنظام اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ونحوها إن لم تُعد صياغتها من جديد وتجمع جزئياتها من الأبواب المختلفة، ثم تنظر لها نظرة كلية لتحصل على المطلوب...

الغرض الثالث: إنّ كثيراً من المشاكل التي تواجه أبناء المجتمع اليوم لا يمكن حلها و مواجهتها إلاّ بالانطلاق من نظرية متكاملة، فمثلاً عندما تعاني منت.

ص: 325


1- فإن الأحكام الفردية تضمحل وتذوب إذا عرض عليها حكم من هذين الدليلين.
2- هو ما يسمى بصراع الحضارات الذي ما زال يشغل الغرب الذي طرح في بداية التسعينيات.

الانحراف الجنسي والفساد الأخلاقي لا تحلّ هذه المشكلة بإصدار فتوى بالحرمة، بل لا بد من وضع نظرية كاملة للحل، تستند للشريعة المقدسة وتعالج المشكلة من جميع جوانبها، وعندما نريد أن نواجه معاملات مصرفية مخالفة للشريعة، لابد أن تستند الحلول إلى نظرية إسلامية للنظام المصرفي، فالمسائل الفردية تعجز عن حلّ بعض المشكلات، بينما النظرية الاجتماعية عند تقديمها تعطيك حلاً متكاملاً. الغرض الرابع: إنها تثري الفكر البشري بعطاء لا حدود له (أي هذه الشريعة بالمنظور الاجتماعي)، لأنها صادرة من اللامتناهي، وفيها قابلية الاستمرار على الحياة والخلود واستيعاب كل الوقائع (ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم)(1)، بينما تلك النظريات أرضية، لا تملك مقومات النجاح والصمود(2).

مصطلح (الفقه الاجتماعي) له تأصيل علمي

ويمكن أن نقول: إنّ أغلب الواجبات التي اصطلح عليها الفقهاء بالوجوب الكفائي تندرج ضمن التكاليف الاجتماعية...

فالمقترح إذن إعطاء عنوان (التكاليف الاجتماعية) لهذه الواجبات التي تسمى بالواجبات الكفائية، في حين أنها تضم المميزات السابقة للتكاليف

ص: 326


1- ونحن أمام واقعة اسمها صدام الحضارات، والغرب مشغول بها والدنيا قامت ولم تقعد وهي واقعة وأهم من الأحكام الفردية فما حكم الشريعة بهذه المسالة الاجتماعية بل هي أوضح الحوادث الواقعة كما في مكاتبة إسحاق ابن يعقوب: (وأما الحوادث الواقعة...) أليست هذه أهم الحوادث الواقعة لأنها تمثل مشكلة بشرية وليست على مستوى مجتمع محدود.
2- إلى هنا كانت مقدمة فكرية وندخل الآن إلى الفكر الأصولي.

الاجتماعية، وتبقى بعض الواجبات الكفائية التي لا يتوفر فيها مناط الواجبات الاجتماعية على عنوانها.

التبريرات المساعدة لوضع البديل:

الذي يساعد على هذا التبديل ويُ_برّره أُمور:

الأمر الأول: إنّ مصطلح الوجوب الكفائي مصطلح متأخر لم يكن على عهد المعصومين (علیهم السلام) لكي نتعبد به، وإنما هو عنوان أُنتزع من معناه ومفهومه، فلا مانع من تغييره.

الأمر الثاني: إنّ الوجوبات الكفائية هي فعلاً تكاليف موجهة إلى المجتمع، وقد أمر بها ككل أن يؤديها بغض النظر عمن يقوم بها، إنما المهم تحققها بالخارج، حتى أوضح الوجوبات الكفائية فردية كوجوب تغسيل الميت ودفنه هو وجوب اجتماعي وتعود مصلحته للمجتمع كما هو واضح.

الأمر الثالث: إنّ تسميتها بالكفائية (هذه الواجبات) ولّد شعوراً بالاتكالية وعدم المسؤولية الكاملة تجاهه، باعتبار سقوطه عنه إذا قام به غيره، وإنه لا يجب عليه إذا أحتمل إنجاز العمل بمفرده، بينما تسميتها بالاجتماعية يجعل الجميع أمام مسؤولية القيام بها وأدائه...

الأمر الرابع: إنّ هذا المعنى (الوجوب الاجتماعي) موجود في أذهان بعض الأصوليين، ففي كتاب (محاضرات في أصول الفقه مجلد2 ص202) بيان للوجوه التي قيلت في تصوير الوجوب الكفائي وهي أربعة، أحدها يقترب من

ص: 327

هذه الفكرة، لكن المصنف لم يأخذ به، فقد قال في تفسير الوجه الثاني: (أن يقال: إنّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع بدعوى أنهّ كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الأمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة مثلاً إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً، كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي).الأمر الخامس: إنّ هذا الفهم لما يسمى بالوجوبات الكفائية يحل لنا معضلة علمية عويصة، أتعب الأصوليون أنفسهم في حلها، وهي: كيف إنّ الوجوب متوجه إلى واحد واقعاً بينما يؤثم الجميع في حالة عدم الامتثال، فعلى ما طرحناه يكون عقاب الجميع على القاعدة، لأنهم قصروا في امتثال أمر متوجه إلى الجميع.

الفريضة المظلومة:

ومن الواجبات الاجتماعية التي ظلمت بتسميتها كفائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الفريضة مظلومة من الطرفين ظلمها إفتاءً وامتثالاً.

أما ظلمها إفتاءً، فحين عدّوها من الواجبات الكفائية وجعلوا لوجوبها شروطاً قل ما تتوفر وتفتح الباب واسعاً لتركها والتقاعس عنها، كاحتمال التأثير في المقابل فمع عدم الاحتمال لا تجب. و الطرف الآخر كونه عالماً بأن هذا منكر، أما إذا كان جاهلاً أيضاً فلا، وكذلك عدم الخوف من الضرر وغيرها من الشروط مما يمكن أن نجد له وجهاً ودليلاً على صعيد التكاليف الفردية وعلى

ص: 328

مستوى التفكير الفردي. وأما إذا نظرنا إليها على مستوى التكاليف الاجتماعية ومنها هذه الفريضة الإلهية العظيمة فلا يمكن تطبيقها عليها، وإلاّ أدت إلى تضييع الدين، وهو ما وقع فعلاً.

وبسبب هذا التضييع في التشريع جاء التقاعس والظلم في الامتثال والتطبيق، فقلما تجد مسلماً تتحرك غيرته الدينية لمنكر يحصل هنا أو ظلم يقع هناك الإّ بمقدار ما تتأثر به مصالحه الشخصية، فأين نحن من قوله (صلی الله علیه و آله): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1)، وفي رواية أخرى عنه (صلی الله علیه و آله): (إنّه يؤتى بعبد له أعمال صالحة كثيرة مثل الجبال تزفه ملائكة حتى يصل إلى الجليل تبارك وتعالى، فيقول لهم: اضربوا بها وجهه، لا شيء له عندي، لأنه كان لا يغضب لي إذا عُصيت).

قصة المعتصم العباسي:

فهل المعتصم العباسي أكثر غيرةً منّا على دين الله وعلى المسلمين؟ إذ خرج بنفسه على رأس جيش عظيم وكان يمكنه أن يبعث واحداً من قواده إلى بلاد عمورية، وهي بلدة في أرض الروم، لما بلغه أن امرأةً نادت (وامعتصماه) حين أغار على بلدتها بعض الروم، فأدَّب الروم وأعاد للإسلام والمسلمين هيبتهم.

ص: 329


1- الكافي:2/ 163.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد:

إن هذه الفريضة شرعت لتكون صمام أمان للمجتمع من الانحراف والفتن ولتحصينه من نخر الأعداء الداخليين الذين ينشرون البدع والضلالات والانحراف في مجتمع المسلمين والذين وقعوا في شراكهم عن جهل وسذاجة. فهي كالجهاد في الأهمية الذي شرع ليحمي بلاد المسلمين من الخارج. فإن الله تبارك وتعالى لما بنى أمة الإسلام وجعل لها ملامح وأُطرُاً وسُمات وأحكاماً تتميز بها عن غيرها، وهو يعلم بأن هذا البناء يحتاج إلى تشريع يحميه ويحُصنّه، فوضع الجهاد لحماية حدوده الخارجية من الاعتداء، ووضع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحمايته من الداخل ضد الآفات والأمراض الاجتماعية التي تفتك ببنيانه وتجعله يتآكل بنفسه.

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجهة للمجتمع:

وهي بذلك من الوظائف الموجهة إلى المجتمع ككل، وليس تكليفاً للأفراد مستقلين ويحاسب الجميع عن أي تقصير يقع.

وإذا أُديت الفريضة كما ينبغي تنعم الجميع ببركتها، وإن لم يؤدها كما ينبغي عانى الجميع من ويلات تركها وإن قام بها بعضهم، وهذا واضح من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، والحوادث التأريخية شاهدة على ذلك؛ فالإمام الحُسين (ع) وإن أدى هذه الوظيفة أًحسن أداء إلاّ إنه أيضاً ذهب ضحية تضييع المجتمع لها.

ص: 330

اهتمام الكتاب والسنة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وقل ما تجد واجباً نال اهتماماً بالكتاب والسنة مثلما نالته هذه الفريضة الغائبة عن التطبيق عند المتدينين فضلاً عن غيرهم، وكيف نشترط احتمال التأثير لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وها هو ذا القرآن يصرح: [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ](الأعراف:164-165).

قصة أصحاب الكهف:

وفي قصة أصحاب الكهف درس لأولئك الذين لا يقولون بالوجوب إلاّ عند احتمال التأثير في المقابل، فإن الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدىً حاولوا جهدهم أن يصلحوا قومهم فلم يفلحوا، وكان تيار الشرك والإلحاد قوياً فلم يحتملوا ذلك واعتزلوا قومهم، وأوَوا إلى الكهف، فأماتهم الله (309) عاماً، ثم بعثهم ليريهم التغيير الذي حصل في قومهم نتيجة البذرة التي زرعوها هم، وكيف انقلب حالهم إلى الهداية والصلاح وأصبحوا أُمة موحِّدة، وليعطيهم ولنا درساً: أن عليك أن تؤدي واجبك، أما النتائج والآثار فقد لا تجنيها أنت فربما آتت أُكلها بعد هذه السنين الطويلة، أما أنت فجزاءك عند ربك.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنة:

ولو تصفحت القرآن الكريم لوجدت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 331

المنكر من الخصائص البارزة للمجتمع المسلم في آيات عديدة: (آل عمران: آية 104و110، الأعراف: آية 157، التوبة: آية 71 و112، لقمان: آية 19، الحج: آية 41) وفي المقابل يستنكر الله تبارك وتعالى فعل المتقاعسين عن أداء هذه الفريضة في قوله تعالى: [كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ](المائدة:79)، وقوله تعالى: [لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ](المائدة:63)، وأنتم الحوزة العلمية أوضح مصاديق الربانيين.أما لو استقرأنا السنّة الشريفة لوجدنا عجباً تقشعر منه الأبدان وتجعلنا يائسين من النجاة يوم القيامة إلاّ ما رحم ربي. وأحد مصادرها ما جاء في الجزء 11 من كتاب وسائل الشيعة. فعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): (إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء وفريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(1).

وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: (أما بعد فإنه هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)(2)..7.

ص: 332


1- الكافي:5/ 56.
2- الكافي: 5 /57.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له. قيل: من هو المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال (صلی الله علیه و آله): الذي لا ينهى عن المنكر)(1)، وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (ما تزال أمتي بخير ما أمَروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(2).وعن الحارث بن المغيرة قال: لقيني أبو عبد الله (علیه السلام) في طريق المدينة، وقال: من ذا؟ أحارثٌ؟ قلت: نعم، قال (علیه السلام): لأُحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم ثم مضى. فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت، قُلت: لقيتني فقلت: لأُحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، فدخلني من ذلك أمرٌ عظيم؟ فقال (علیه السلام): نعم ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ما تكرهون وما يُدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه، وتقولوا له قولاً بليغاً. فقلت له: جُعلت فداك، إذاً لا يُطيعونا ولا يقبلوا منا؟ فقال (علیه السلام): اهجروهم واجتنبوا مجالسهم)(3).

الإمام الحُسين (عليه السلام) يجسد الأطروحة الاجتماعية:

فمن أجل هذه الفريضة الإلهية وتجسيدها عملياً خرج الإمام الحُسين

ص: 333


1- الكافي:5/ 59 .
2- المهذب البارع لابن فهد الحلي:2/ 322.
3- روضة الكافي: ص143.

علیه السلام (1)، تاركاً مدينة جده (صلی الله علیه و آله)، وقد أعلن (ع) ذلك في مناسبات كثيرة، فمن كلماته (ع): (ألا ترون إنّ الحق لا يُعمل به وإن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فأني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً، إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون)(2).وورد في وصيته (ع) التي كتبها لمحمد بن الحنفية بعد أن عزم على الخروج من المدينة إلى مكة: (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسدا ولا ظالماً، وإنمّا خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي محمد (صلی الله علیه و آله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيرَ بسيرة جدي محمد (صلی الله علیه و آله) وأبي عليَّ بن أبي طالب (علیهما السلام)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)(3).

وقد مارس الحُسين (ع) هذه الفريضة بأوسع وأعلى أشكالها، فقد بعث برسالة إلى معاوية بن أبي سفيان جواباً على رسالة بعثها إليه يتوعده ويحذره، فأجابه (علیه السلام): (ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لوم لائم، ثم قتلتهم ظُلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة، لم تأخذهم بحد كان بينكب.

ص: 334


1- الذي نحتفل اليوم بذكرى مولده المبارك.
2- تحف العقول: ص176.
3- مقتل الحسين: السيد بحر العلوم، ص170. عن مناقب أبن شهر آشوب.

وبينهم، جرأة على الله واستخفافاً بعهده، أولست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وأخضرّ لونه، فقتلته بعدما آمنته وأعطيته العهود والمواثيق.أولست المدعي زياد بن سُمية المولود على فراش عُبيد بن ثقيف، فزعمت إنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعمداً، واتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين عَلي (ع)، فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين عَلي، فقتلهم ومثّل فيهم بأمرك، وَدين علي (علیه السلام) هو دين ابن عمه محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك لترجعا عن ضلالكما، وبهذا الدين جلست مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف)(1).

أسأل الله تعالى أن يحينا حياة محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله) وأن يحشرنا في مراتبهم ويُرينا شفاعتهم ببركة هذا المولود بهذا اليوم، والحمد لله رب العالمين، وصلىّ الله على محمد وآله الطاهرين.ة.

ص: 335


1- الاحتجاج للطبرسي: 2 / 20. ومصادر أخرى كثيرة.

عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (عليهم السلام)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربي، وأعوذ به من شر الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي، واحترز به من كلّ جبّار فاجر وسلطان جائر وعدوٍ قاهر، اللهم أصلح لي ديني فإنّه عصمة أمري، وأصلح لي آخرتي فإنّها دار مقري، وإليها من مجاورة اللئام مفرّي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، والوفاة راحة لي من كل شر. اللهم صلّ على محمدٍ خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

الإمام (عليه السلام) يستعرض أعمالنا كل يوم:

للإمام المهدي (علیه السلام) شكاوى(2) عديدة من شيعته، جعلها (ع) هي

ص: 336


1- محاضرة ألقيت في مسجد الرأس الشريف على حشد كبير من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية والزوار الذين وفدوا إلى النجف الأشرف بتأريخ 13/رجب/1423 ه_ الموافق 20/ 9/ 2002م بمناسبة ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي المحاضرة الأطول حيث استغرقت ساعة و(26) دقيقة.
2- عرض سماحة الشيخ (دام ظله) عدة منها في محاضرات عديدة ثم جمعت في كتاب بعنوان (شكوى الإمام (عليه السلام)).

المانعة عن التشرف بلقائه ونيل بركات ظهوره، ولا يعني شكواه من شيعته عدم وجود شكوى من غيرهم، بل الخطبُ عند أولئك أفضع، ولكنّه باعتبار المسؤولية الخاصة عن شيعته وأحاطتهم برعاية إضافية باعتبارهم الشريحة المؤمنة بإمامته (علیهم السلام) والموالية له والمبادرة إلى نصرته، كالأب الذي إذا أساء ولده يزجره ويوبخه، وربما يعاقبه، بينما لا يهتم بنفس الدرجة فيما لو أخطأ الغريب عنه، وما ذلك إلاّ لشعوره الخاص بالمسؤولية عن تربية ولده، وهكذا الإمام (علیه السلام) يحيط شيعته بتربية خاصة وعناية إضافية، وانطلاقاً من هذه المسؤولية ينبّههم إلى ما في سيرة بعضهم من أخطاء وانحرافات، فإنه (علیه السلام) يستعرض أعمالنا كل يوم أو كل أسبوع، فعن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل: [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ](التوبة:105)؟ قال: هم الأئمة(1)، وفي بعض الروايات: إن أعمال العباد تعرض على نبيّكم كل عشية خميس وعلى الأئمة (علیهم السلام)، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح، فلا تسوؤا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسرّوه(2)، وقال أحدهم للإمام الرضا (علیه السلام): إن قوماً من مواليك سألوني أن تدعو الله لهم، فقال (علیه السلام): (والله إني لأعرض أعمالهم على الله في كل يوم)(3)، والإمام المهدي (علیه السلام) هو الإمام الفعلي لهذا العصر فتعرض عليه جميع أعمالنا.8.

ص: 337


1- مستدرك سفينة البحار: 7/ 165.
2- ميزان الحكمة: 3/ 2134.
3- بحار الأنوار:23/ 348.

الإمام (عليه السلام) يشكو ابتعادنا عن الصفات الحقيقية التي كان عليها السلف الصالح:

وأول هذه الشكاوى ما يناسب عرضها اليوم في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي هو يوم فرح وسرور ليس للشيعة فقط، بل لكل المسلمين، بل لكلّ الإنسانية التي تنشد العدالة والسمو والطهارة المتمثلة بعلي (علیه السلام)، ولكن الشيعة أولى الناس به (علیه السلام)، فنرفع نيابة عن الإمام المهدي (علیه السلام) هذه الشكوى التي ذكرها في رسالته الشريفة إلى الشيخ المفيد (قدس سره) الأولى والثانية.

فقال في الرسالة الثانية: (ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل)(1) وقال (علیه السلام) في رسالته الأولى: (فأنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يُعزبُ عنا شيءٌ من أخباركم ومعرفتنا بالذل الذي أصابكُم مُذ جنح كثيرٌ منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)(2). وقد تحقق مثل ذلك لبائع الأقفال(3).

ص: 338


1- الاحتجاج: 2 / 325.
2- الاحتجاج: 2 / 323.
3- خلاصة هذه القصة: (أن عابداً كان يتمنى لقاء إمام الزمان (عليه السلام) وبعد فترة من الرياضات الروحية والتعب والمشقة لم يصل إلى شيء واخذ اليأس يدب إلى قلبه، وفي ليلة من الليالي بينما كان قائما يتعبد إذا بهاتف يناديه: (الوصول إلى المولى يعني شد الرحال إلى ديار الحبيب) فشدَّ الرحال من جديد واخذ يزيد من الصلاة والتعبد حتى انتهى الأمر به إلى المكوث في المسجد أربعين يوماً فأتاه نداء آخر يقول: (إانّ سيدك تجده في سوق الحدادين يجلس في باب رجل عجوز يصنع الأقفال) فذهب مسرعا فوجد الإمام (عليه السلام) يشع نوراً فارتعدت فرائص العابد إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) طلب منه أن ينظر ما سيحصل، فجاءت عجوز منحنية الظهر بيدها قفل عاطل وقالت للبائع: أرجوك اشترِ هذا القفل بثلاثة دنانير فقال البائع: إن هذا القفل بثمانية دنانير وإذا أصلحته (يصبح بعشرة فتصورت العجوز إنهّ يسخر منها إلاّ أنه بادر بإعطائها سبعة دنانير وقال لها: لاني أبيع) واشتري أخذته بسبعة دنانير لأربح ديناراً فذهبت العجوز مسرورة فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى العابد وقال: (كونوا هكذا كهذا العجوز كي نأتيكم نحن بأنفسنا لا حاجة إلى التعبد أربعين يوماً ولا فائدة من الجفر والحروف فقط أصلحوا أعمالكم).

فما هي صفات الشيعي الحقيقي التي يشكو الإمام (علیه السلام) من ابتعادنا عنها ويجعل هذا الابتعاد سبب حرماننا من ألطاف اللقاء به وبركات ظهوره (ع)؟ هذه الصفات التي استحق بها الشيعي ما سنسمع من الأحاديث في فضله وعلو منزلته عند الله تعالى، وما مدى مصداقيتنا لهذا العنوان العظيم؟ الظاهر إنهم قليلون أولئك الذين ينطبق عليهم العنوان كما قال تعالى: [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الأخِرِينَ](الواقعة:10-14)، ولكن لا تضجروا ولا تقنطوا؛ فإن الكمال يُنال بالتدريج، فعندما نزل قوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ](آل عمران:102) قعد الصحابة يبكون وأصيبوا بالإحباط؛ فمن الذي يستطيع أن يتقي الله حق تُقاته؟ فكان جوابهم في قوله تبارك وتعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ](التغابن:16)، فإذا اتقيتم وعملتم بما تستطيعون تأهلّ_تم للدرجة الأعلى، فتتقون ما تستطيعون وفق هذه الدرجة الجديدة فتتأهلون للأعلى،

ص: 339

وهكذا حتى تبلغوا حق تقاته.

الخطاب ليس للشيعة فقط:

وحينما نذكر صفات الشيعي الحقيقي فإنما نخاطب بهذا الكلام جميع الناس: الشيعة والمسلمين من غير الشيعة وغير المسلمين، فهذه فئات ثلاث يترتب على مخاطبتها ثلاثة أغراض:

أما الشيعة فلكي يراقبوا أنفسهم، ويعرضوا أعمالهم على هذا الميزان الدقيق، وليحكموا على أنفسهم: هل أنهم شيعة حقاً يستحقون تلك المقامات العالية والدرجات الرفيعة أم لا؟.

وأما المسلمين من غير الشيعة فلكي يعرفوا من هم الشيعة، وليحكموا حينئذٍ: هل يحلّ خلافهم وسبّهم والقطيعة معهم وربما الحكم بكفرهم ومنابذتهم؟.

وأما غير المسلمين فلأنهم بدؤوا صراعاً حضارياً مع المسلمين جعلوا أهم أدواته تشويه صورة المسلمين، فكان من أهم وظائفنا في هذا الصراع بيان مقومات وعناصر شخصية المسلم التي بيّنها بوضوح أهل البيت (علیهم السلام) وجسّدوها عملياً في حياتهم، وكان على رأسهم أمير المؤمنين (علیه السلام).

لذلك كان التشيع روح الإسلام وجوهره بحسب ما بيّنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما ستسمعه بعد قليل بإذن الله تعالى، وفهمه كبار الصحابة كسلمان المحمدي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وغيرهم، حتى استشهد الكثير منهم من أجله.

ص: 340

ما ورد في فضل شيعة علي (عليه السلام):

وقبل الإجابة عن السؤال: (ما هي صفات الشيعي؟) يحسن أن نذكر بعض ما ورد في فضل شيعة علي (علیه السلام) وعلو مقامهم في كتب الفريقين.

فقد ُنقل في الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى في نهاية سورة البينة: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ](البينة:7-8): عن أبي هريرة قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من الله؟ والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك، واقرؤا إن شئتم: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة].

وعن جابر بن عبد الله قال: (كنّا عند النبي (صلی الله علیه و آله) فأقبل علي (علیه السلام)، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، ونزلت: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة]، فكان أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) إذا أقبل علي (علیه السلام) قالوا: جاء خير البرية(1).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة]، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): هم أنت وشيعتك تأتون

ص: 341


1- زبدة الأفكار: ص209 __ 210. عن الدر المنثور 8: 588 __ 589 تذكرة الخواص: 18 وقال أوردها الطبري في تفسيره والآلوسي والشوكاني في فتح القدير والمناوي في كنوز الحقائق والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل.

يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مُقمحين)(1)، وفي الصواعق المحرقة لابن حجر وغيره: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (أما ترضى أنّك معي في الجنة والحسن والحسين، وذريتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريتنا، وشيعتنا عن إيماننا وعن شمائلنا)(2).وإذا أردنا معرفة صفات الشيعي فإنهّ يجب علينا أن نذكر كل ما أراد الله تعالى وأحبّ من فضائل ونبذ كل ما كره من رذائل، فلا يمكن اختصاره بمحاضرة واحدة، ولكني سأحيل على بعض المصادر ككتاب (صفات الشيعة)، و(ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) للشيخ الصدوق والجزء الحادي عشر من كتاب وسائل الشيعة تحت أبواب (جهاد النفس) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والجزء الثامن من الوسائل تحت عنوان (آداب العشرة) وكتاب (تحف العقول).

ويكفي أن تقرأ خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصف المتقين لتعرف منها أوصاف شيعة علي (علیه السلام)، وغيرها كثير، وتوجد رسالة مهمة __ رغم أن الكثير غافل عنها __ وطويلة وجهّها الإمام الصادق (علیه السلام) إلى شيعته وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها(3)، فكانوا __ السلف الصالح __).

ص: 342


1- بنور فاطمة اهتديت: ص49، عن الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الأول الآية الحادية عشر.
2- زبدة الأفكار: ص211 عن الصواعق المحرقة لابن حجر: 161.
3- فلنسأل أنفسنا نحن النخبة المؤمنة أولاً كم منا تدارس هذه الرسالة وتعاهدها وعمل بها؟ أعتقد أن الجواب هو إن القلة القليلة منا قد عمل بها! فكيف إذن نقود المجتمع على طريق الإمام الصادق (عليه السلام) ونحن لم نعمل: (شيعتنا من عمل عملنا).

يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.هكذا كان السلف الصالح يراقب نفسه ويزن أعماله في ضوء المنهج الذي رسمه لهم أهل البيت (علیهم السلام) وتجد الرسالة بطولها في كتاب روضة الكافي للكليني ص325 __ 336.

محاور صفات المؤمن:

اشارة

ويمكن باستقراء المصادر أن نصنّف الصفات ضمن ثلاثة محاور:

الأول: مع الله تبارك وتعالى.

الثاني: مع نفسه.

الثالث: مع الآخرين.

والتصنيف من ناحية فنية فقط، وإلاّ فإن المؤمن الحقيقي ينظّم كلّ علاقاته وتصرفاته وفق ما يريده الله تبارك وتعالى فهو مع الله في كلّ شيء(1).

المحور الأول: مع الله تبارك وتعالى

معرفة الله تعالى أساس الدين:

1 __ المعرفة بالله تبارك وتعالى: وهي أساس الدين وأصله(2)، كما قال أمير

ص: 343


1- فالمؤمن الحقيقي مع نفسه يلاحظ الله ومع الآخرين يلاحظ الله تعالى ويعيش مع الله تعالى دائما {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201).
2- وهي الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجل السير نحوها فقد سُئٍل الإمام الحسين (عليه السلام) كما في مضمون الرواية عن معنى قوله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ]. (الذاريات: 56). فقال (عليه السلام): يعني إلا ليعرفونِ.

المؤمنين (علیه السلام): (أوّل الدين معرفته)، ويمكن أن يكون منشأها عقلي مستفاد من البراهين(1)، وهذه لابدّ منها ولو ببراهين مبسطة تخاطب الفطرة(2)، لأنّ العقائد يجب أن تؤخذ عن دليل ويمكن أن تكون قلبية بالوجدان، والثانية خيرٌ من الأولى، كما في الحديث: (المعرفة الأنفسية خير من المعرفة الآفاقية)(3) إشارة إلى قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ](فصلت:53).وخير مصدر للمعرفة القلبية: التدبر، والتفكر في القرآن الكريم، والأدعية، والأحاديث الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) خصوصاً دعاء الصباح ودعاء كميل ودعاء الإمام الحسين (علیه السلام) __ يوم عرفة __ ودعاء أبي حمزة الثمالي ومناجاة العارفين، بل عموم المناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد (علیه السلام)، وتكون الفائدة أكمل إذا انضمّ إليها بعض أفكار وشروح العلماء المخلصين.).

ص: 344


1- الموجودة في كتب العقائد والكلام.
2- فمثلا الدليل على التوحيد قوله تعالى: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] (الأنبياء: 22).
3- روي عن أهل البيت (عليهم السلام): (من عرف نفسه عرف ربه)، (معرفة النفس أنفع المعارف)، (من جهل نفسه كان بغير نفسه أجهل)، (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه)، (أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه).
فضل معرفة الله تعالى:

وفي فضل معرفة الله تعالى(1) قال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزّ وجلّ ما مدّوا أعينهم إلى ما منح الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة الله جلّ وعزّ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إنّ معرفة الله عز وجل آنَس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدة، ونور من كلّ ظلمة، وقوة من كلّ ضعف، وشفاء من كل سقم). ثم قال (علیه السلام): (وقد كان قبلكم قوم يُقتلون، ويُحرقون ويُنشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم، ولا أذى بل ما نقموا منه إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز

ص: 345


1- عن أبى جَعْفَر (عليه السلام): (إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ فَأَمَّا مَنْ لا يَعْرِفُ اللَّهَ فَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ هَكَذَا ضَلالا قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ قَالَ:تَصْدِيقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقُ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمُوَالاةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَالإئْتِمَامُ بِهِ وَبِأَئِمَّةِ الْهُدَى (عليهم السلام) وَالْبَرَاءةُ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدُوِّهِمْ هَكَذَا يُعْرَفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) الكافي، (جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ما رأس العلم قال: معرفة الله حق معرفته قال وما حق معرفته قال أن تعرفه بلا مثال و لا شبه و تعرفه إلها واحدا خالقا قادرا أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا لا كفو له و لا مثل له فذاك معرفة الله حق معرفته) بحار الأنوار، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خرج الحسين بن علي (عليه السلام) على أصحابه فقال أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه فقال له رجل يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته). بحار الأنوار:3/ 14.

الحميد، فاسألوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم).

قبول الأعمال مقرون بولاية أهل البيت (عليهم السلام):

2 __ ولاية أهل البيت (علیهم السلام) ومحبتهم ومعرفة حقهم حيث جعل الله تبارك وتعالى مودتهم وولايتهم أجر الرسالة: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(1)، فبهم تقبل الأعمال؛ لأنهم واسطة الفيض والعطاء الإلهي.

وإن لم تستوعب ذلك(2) وقلتَ إن عطاء الله لا يحتاج إلى واسطة فقسه على التشريع، فإنهم واسطة لتبليغ الأحكام إلى المخلوقين، والله قادر على أن يوصل تشريعاته بلا واسطة، فالأمر في العطاء التكويني كذلك، وللتعرف على حقيقة أهل البيت (علیهم السلام) ومنزلتهم الرفيعة اقرأ بتدبر الزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي (علیه السلام)، وهي من أقوى الزيارات متناً وسنداً(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (من أحبنا كان معنا أو جاء معنا يوم القيامة، ثم

ص: 346


1- سورة الشورى: 23.
2- وكيف نستكثر ذلك على أهل البيت ويوجد من هو أقل مرتبة منهم له عطاء تكويني كعزرائيل (عليه السلام) حيث يروى أن الدنيا كالدرهم بيده يقلبه كيف يشاء وأنه ينظر في وجه كل إنسان في اليوم خمس مرات بعدد الصلوات اليومية، وكذلك عيسى (عليه السلام) حيث أعطاه الله تعالى إحياء الموتى وخلق الطير وغيرها.
3- وقد أوصى بها الإمام الحجة (عليه السلام) ثلاث مرات للرجل الذي ضل الطريق في الحج وفيها إشارات واضحة عن الولاية التكوينية كما في المقطع (بِكُمْ فَتَحَ اللَّهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ).

قال (علیه السلام): والله لو أنّ رجلاً صام النهار وقام الليل ثم لقي الله عز وجل بغير ولايتنا أهل البيت لَلَقِيه وهو عنه غير راض أو ساخط عليه)(1)، وقال الصادق (علیه السلام): (إن أمير المؤمنين(ع) كان يقول: لا خير في الدنيا إلاّ لأحد رجلين: رجل يزداد فيها كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك منيَّته بالتوبة، وأنى له بالتوبة؟ فوالله أن لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله عزّ وجلّ منه عملاً إلاّ بولايتنا أهل البيت)(2).ولا أحتاج أن أذكّر أن المحبة العاطفية(3) وحدها لا تكفي، بل لا بدَّ من المحبة الحقيقية التي تستلزم التأسي والاتباع والطاعة، كما أنشد الإمام الصادق (علیه السلام):

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كانَ حبُّك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحبّ مطيع

وقال (علیه السلام): (والله ما أنا إمام إلا من أطاعني، فأما من عصاني فلستُ لهم إماماً، فو الله لا يجمعني الله وإياهم في دار)(4).

الإيمان لا يكون إلا بعقيدة وعمل:

3 __ الإيمان بالعقائد الحقة: والتي جمعها القرآن تحت عنوان [يُؤْمِنُونَ..

ص: 347


1- الكافي، الروضة: 8/ 92.
2- المصدر السابق: ص111.
3- فاللطم في وفيات المعصومين والمواليد في ولاداتهم (عليهم السلام) لا يكفي وحده ونحن نخالف أعمالهم.
4- الكافي، الروضة: 8/ 374..

بِالْغَيْب](البقرة:3) ومدح أصحابها وأثنى عليهم، فيؤمن بالله وملائكته وأنبيائه ورسله وأن الموت حق ومسائلة القبر حق والبعث والنشور والحساب كله حق، وهذا الإيمان سيحفزه على العمل الصالح ويدفعه له: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ](فاطر:10)، إذ من غير المعقول أن يؤمن الإنسان بذلك كله ولا يعمل له، فالذي يعلم بل يظن أن خطراً في جهة ما فإنه يحترز منه ويتخذ التدابير اللازمة للنجاة منه، وإلا فلا معنى لإيمانه وعلمه، لذا جاء في الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل، والعمل منه)(1) والإيمان بالغيب من الفروق الأساسية بيننا وبين الغرب؛ فهم يؤمنون بالحسيّات ويسعون لتحقيق لذائذهم الحسيّة، فنشأ بسبب ذلك الاستئثار والاستكبار والظلم والحرص والحسد والطمع وغيرها من الرذائل التي انعكست على علاقتهم مع غيرهم من الشعوب.

حديث جامع لكل العقائد:

ومن الأحاديث التي جمعت العقائد الحديث المعروف عن السيد عبد العظيم الحسني قال: (دخلتُ على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق (علیه السلام) فلما أبصرني قال لي: (مرحباً بك يا أبا القاسم، أنت وليُّنا حقاً). قال: فقلت: يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل، فقال: هات يا أبا القاسم، فذكر عقيدته في توحيد الله تعالى ونفي الصفات عنه ونبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنه

ص: 348


1- بحار الأنوار:66/ 23.

خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع، ثم ذكر الأئمة (علیهم السلام) واحداً بعد واحد حتى وصل إلى الإمام الهادي (علیه السلام) فقال: ثم أنت يا مولاي، فقال (علیه السلام): ومن بعدي الحسن ابني، وكيف الناس بالخلف من بعده؟. فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟ قال (علیه السلام): (لأنه لا يرى شخصه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، قال: فقلت: أقررت، وأقول: إنّ وليهم ولي الله وعدوهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، وأقول: إنّ المعراج حق والمساءلة في القبر حق وإنّ الجنة والنار حق والصراط حق والميزان حق وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها وإنّ الله يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحقوق الوالدين، فقلت: هذا ديني ومذهبي وعقيدتي ويقيني قد أخبرتك به، فقال علي بن محمد (ع): يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتّك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)(1).4 __ أداء الواجبات الشرعية: كالصلاة والصوم والخمس والزكاة والحج مع الاستطاعة، فعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: (شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجّون البيت الحرام ويصومون شهر رمضان ويوالون أهل البيت ويتبرؤون من أعدائهم)(2)، وعن جابر الجعفي قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (يا جابر يكتفي من اتخذ التشيع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فو الله ما5.

ص: 349


1- صفات الشيعة: ح68.
2- المصدر السابق: ح5.

شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخّشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء(1)، قال جابر: يا ابن رسول الله، ما نعرف أحداً بهذه الصفة، فقال لي: يا جابر، لا تذهبّن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه، فلو قال: إني أحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له وأعملهم بطاعته، يا جابر، ما يتقرب العبد إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، ما معنا براءة من النار(2)، ولا على الله لأحدٍ منكم حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، ولا تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع)(3).ولما فتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) مكة قام على الصفا فقال: (يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، لا تقولوا إنّ محمداً منا،2.

ص: 350


1- تأمل وتدبر جيدا بقول الإمام (عليه السلام) فلعمري إن كل فقرة من هذه الفقرات تحتاج إلى عمل كثير فلا يكفي أن تقرأها فقط.
2- كما هو موجود عند بعض الأديان حيث يعطون قومهم صكوك الغفران بالرغم من أعمالهم السيئة.
3- صفات الشيعة: ح22.

فو الله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتقون)(1)، وهو أدب قرآني، فعندما طلب نوح (ع) نجاة ابنه أتاه الجواب: [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ](هود:46)، وقال إبراهيم (علیه السلام): [فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي](إبراهيم:36).5 __ اجتناب المحرمات(2) والذنوب، سواء كانت من الكبائر وهي التي وعد الله عليها النار كالزنا واللواط وشرب الخمر وأكل مال اليتيم وشهادة الزور وأكل الربا وقتل النفس المحترمة(3) أو البخس في المكيال(4)، وحتى الصغائر، وإن كان الوارد في الحديث الشريف: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)، فعن الصادق (علیه السلام): (من زنى خرج من الإيمان، ومن شرب الخمر خرج من الإيمان، ومن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً خرج من الإيمان(5))(6).7.

ص: 351


1- المصدر السابق: ح8.
2- روي أنه: (روح الإيمان يلازم الجسد ما لم يعمل كبيرة فإذا عمل بكبيرة فارق الروح).
3- كما يحصل عند بعض العشائر فإنهم يتقاتلون وتذهب نفوس محترمة من اجل أسباب تافهة.
4- كما يتفنن البعض اليوم بالبخس في الميزان بطرق عديدة كوضع المغناطيس في إحدى الكفتين أو حفر جوف العيار أو اللعب بإحدى العتلتين وغيرها ولا يعلمون أن هذا من الكبائر التي وعد الله تعالى عليها في كتابه العزيز أقصى العقاب فلماذا تلقون بأنفسكم في هذه المهالك من اجل بضعة دنانير والتي لو اتقيتم الله تعالى لرزقكم أضعافها [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] (الطلاق: 2 __ 3).
5- كما يحدث ذلك وللأسف الشديد من قبل بعض شبابنا وتجده يتباهى بذلك ولا يعلم أنه بعمله هذا قد خرج من الإيمان وأُلحِقَ بالأعراب [قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا===
6- بحار الأنوار: 66/ 197.

ومن الكبائر قذف المحصنة(1) وعقوق الوالدين والتعّرب بعد الهجرة(2) ومعونة الظالمين وحبس الحقوق من غير عسر والسحر واليمين الغموس، بل ورد التحذير من كل الذنوب، فعن الباقر (علیه السلام): (الذنوب كلها شديدة)(3)، ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر، قلت: وما المحقّرات قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك(4))(5).ويضرب لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) مثالاً من الواقع، فقد نزل (صلی الله علیه و آله) بأرض قرعاء فقال لأصحابه: (ايتوا بحطب. فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما7.

ص: 352


1- وعشائرنا أيضاً مبتلية بهذه الكبيرة فببساطة شديدة يقذفون المحصنة ويقتلونها غسلاً للعار ولا يعلمون إنّ القذف وحده يعاقب عليه الشرع بالجلد ثمانين سوطاً وهو من الكبائر ولا يحقّ لأحد ذلك إلاّ بعد حضور أربعة شهود فاتقوا الله ولا تسخطوه.
2- كما يحدث اليوم فبمجرد ما يحصل الشاب على فرصة للسفر غادر بلده المسلمة إلى أي بلد كافر يضيع فيه دينه، ولا يعلم أنّ هذا من مصاديق التعرب بعد الهجرة أي يصبح أعرابياً فالأعراب ليس الذين يسكنون البدو وإنما غير المتفقه في دين الله.
3- الكافي:2/ 270.
4- أي أن ذنوبي هينة ولا تساوي شيئاً أو يقارن نفسه بالذي اقترف ذنوباً أكبر من ذنوبه فيقول: (مهما فعلت فأنا لست كفلان) وهذا المسكين قد خدعه الشيطان بهذا العذر الذي سيعاقب عليه أقسى عقاب لاستهانته بالذنب المقترَف بحق الله مالك الملك الجبار المتعال!!!.
5- الكافي:2/ 287.

بها من حطب، فقال (صلی الله علیه و آله): فليأتِ كل إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب؛ فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(1).ويحذرّون شيعتهم إن كل ما يحصل لهم من مصائب هو بسبب الذنوب، فعن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (يا مفضّل، إياك والذنوب وحذّرها شيعتنا، فو الله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان وما ذلك إلاّ بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذلك إلا بذنوبه، وإنه ليُحبس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنهّ ليُشدَّد عليه عند الموت وما ذاك إلاّ بذنوبه حتى يقول من حضره: لقد غم بالموت. فلما رأى ما قد دخلني(2) قال: أتدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: ذاك والله إنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة وعُجّلت لكم في الدنيا(3))، فمن أراد أن يقي نفسه هذه الصعوبات فليجتنب الذنوب.

6 __ التقوى والورع: أحد وجوه التفريق بينها ما قاله سيدنا الأستاذ (قدس سره): إن الورع اجتناب المحارم وفعل الواجبات، أمّا التقوى فتضاف لها اجتناب الشبهات وعدم ترك المستحبات(4)، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إنماً.

ص: 353


1- الكافي:2/ 288.
2- أي لماذا تسرع الذنوب إلى الموالين للأئمة والمفروض إنهم أقرب إلى الله تعالى من غيرهم.
3- بحار الأنوار:6/ 157.
4- عدم ترك المستحبات كلياً وليس بعضها فقد يترك بعضها أحياناً.

أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي)(1)، وفي وصيّة للإمام الصادق (علیه السلام) لأحد أصحابه: (أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم إنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)(2)، ووعظ (ع) شيعته فقال: (عليكم بالورع؛ فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بالورع)، (ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)، وقوله (علیه السلام): (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية)(3)، وأيضاً: (عليكم بالورع؛ فإنه الدين الذي نلازمه وندين الله تعالى به ونريده ممن يوالينا)(4).وفي التقوى كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: (لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقلُّ ما يُتقِّبل؟!) إشارة إلى قوله تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من أخرجه الله عزّ وجلّ من ذلّ المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بلا مال وأعزّه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس، ومن خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل6.

ص: 354


1- بحار الأنوار:65/ 166.
2- بحار الأنوار:67/ 296.
3- ولتقريب هذه الفكرة إلى الذهن تصور أنّ رجلاً عالماً معروفاً بالصلاح والتقوى قد مرَّ من أمامك ولم يتكلم معك بحرف ألا تذكرك رؤيته بالله تعالى ويخفق قلبك له؟ فهذا الرجل إذن داعية لله تعالى ولكن بغير لسانه وهكذا أرادنا المعصومون (عليهم السلام).
4- بحار الأنوار:67/ 306.

شيء(1)، ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل)(2)، ولأمير المؤمنين (علیه السلام) خطبة في وصف المتقين صعق من سماعها صاحبه الوفي همّام فمات من ساعته(3).7 __ الموازنة بين الخوف والرجاء: عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: (كان أبي (ع) يقول: ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وُزِن هذا لم يزد على هذا، ولو وزِن هذا لم يزِد على هذا)(4). ويقول (ع): (كان فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: يا بني خف الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين خفتَ أن يعذَّبك الله، وارجُ الله رجاءًَ لو جئته بذنوب الثقلين رجوتَ أن يغفر الله لك(5))(6)، ويقول بعض شيعته قلت له: قومٌي.

ص: 355


1- عندما تأملت كثيراً في هذه المعاني العظيمة حاولت أن أفهمها من خلال ربطها بصفات الله تعالى فكلّما اقترب الإنسان من الله تعالى تخلق بأخلاقه وصفاته كما في مضمون الرواية: (تخلقوا بأخلاق الله) فالله تعالى العزيز وهو يهب العزة لمن يشاء إن قال تعالى: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً] (فاطر: 10). [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] (المنافقون: 8). والله تعالى القوي ويهب القوة لمن يشاء وهكذا تستطيع فهم المعاني الأخرى (وكذلك تستطيع أن تربط ذلك بأهل البيت عليهم السلام فهم الأسماء الحسنى).
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب20، ح5.
3- راجع نهج البلاغة: ص303، لصبحي الصالح.
4- وسائل الشيعة: كتاب جهاد النفس، أبواب جهاد النفس، باب 13، ح1 وح4.
5- المصدر السابق: ح6.
6- نقل الإمام (عليه السلام) كلام لقمان لتوضيح الموازنة بين الخيفة والرجاء وهي معادلة دقيقة حيث لا ينبغي للخوف أن يزيد بحيث لا رجاء لرحمة الله بعده وهو المسمى بالقنوط الذي هو من الكبائر كما يقول البعض ان ذنوبي كثيرة ولا يغفرها الله لي.

يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجحون(1) في الأماني، كذبوا ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه(2)، وقال (علیه السلام) عنهم: ليسوا لنا بموالٍ)(3)، وهو (ع) به يستقي ذلك من قوله تعالى: [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ](الأعراف: 56)،[وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى] (الأنبياء:28).8 - تقديم رضا الله تعالى على هوى النفس ورضا المخلوقين: عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (يقول الله عز وجل: وعزّتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلّوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي إلا شتّتُ عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم آتِه منها إلا ما قدّرتُ له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرضين رزقه، وكنتُ له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)(4)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله عز وجل كان حامده من الناس ذامّاً، ومن آثر طاعة الله عزّ وجلّ بما يغضب الناس كفاه الله عزّ وجلّ عداوة كل3.

ص: 356


1- رجح الميزان: يرجح رجحاناً أي مال، وترجحت الأرجوحة بالغلام أي مالت، الصحاح: 1 / 364، مادة (رجح).
2- وسائل الشيعة: نفس الباب، ح2.
3- المصدر السابق: ح3.
4- المصدر السابق: باب32، ح3.

عدو(1) وحسد كل حاسد، وبغي كل باغٍ وكان الله له ناصراً وظهيراً)(2).وصفات أخرى لا يتسع المقام لذكرها كاليقين بالله في الرزق والعمر والنفع والضرّ، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كان علي بن أبي طالب (علیهما السلام) يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإنّ الضار النافع هو الله عز وجل)(3)، والاعتصام بالله والتوكل على الله وقطع الأمل عن غير الله تعالى، قال تعالى: [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ](الطلاق:3)، والبكاء لله تعالى، كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كلّ عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله)(4)، ومن صفاتهم حسن الظن بالله تعالى، فإن الله عند حسن ظن عبده.

المحور الثاني: صفاته في نفسه.

1 __ أن يجعل أهواءه النفسية عدواً له لا يغفل عن مجاهدته؛ للحديث: (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)، ولا يجعلها إلهاً يطيعه ويسير وفق رغبات نفسه، قال تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ

ص: 357


1- تأمل جيداً في هذه العبارة وما يشابهها واجعلها دوماً نصب عينيك ومنهاجاً لك في حياتك، فبعد هذا الضمان الإلهي، لا ينبغي للمرء أن تقف بوجهه كل الاعتبارات، بل يؤدي ما فيه رضا الله تعالى ولا تأخذه في الله تعالى لومة لائم.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب الأمر والنهي، باب7، باب 11، ح2.
3- وسائل الشيعة: كتاب جهاد النفس، أبواب جهاد النفس، باب، 7، ح1.
4- المصدر السابق، باب 15، ح8.

وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] (الجاثية:23)، وبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) سرية فلما رجعوا قال: (مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس)(1).2 __ أن يشتغل بإصلاح عيوب نفسه بدل التفتيش عن عيوب الناس، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (ثلاث خصال من كُنَّ فيه أو واحدة منهنّ كان في ظل عرش الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم، ورجلٌ لم يقَدّم رجلاً ولم يؤخر رجلاً حتى يعلم أنّ ذلك لله رضا، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه فإنّه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس)(2).

3 __ أن ينصف الناس من نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، ويقول الحق ولو على نفسه. قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (ألا إنّه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزاً)(3).

4 __ أن لا يتعصّب لنفسه، أو لعشيرته، أو قوميته، أو أي شيء آخر سوى الله تبارك وتعالى. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من تعصّب أو تُعصِبَ له فقد3.

ص: 358


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب1، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 36، ح1. فإن العمر سينتهي لا محالة وأنت لم تنته من إصلاح عيوب نفسك فلا مجال إذن للاشتغال بعيوب الآخرين.
3- المصدر السابق، باب 24، ح3.

خلع ربقة الإيمان من عنقه)(1).5 __ أن ينتهز فرص الخير. قال تعالى: [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات] (البقرة: 148)، وقال تعالى: [وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ](آل عمران:133)، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): (يا عليّ، بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)(2)، وأن يجعل حياته زيادة في كلّ خير، قال الصادق (علیه السلام): (من استوى يوماه فهو مغبون(3)، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة)(4).

6 __ أن يحاسب نفسه. عن موسى الكاظم (علیه السلام)، قال: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب عليه)، وفي وصيّة النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلالٍ أو من5.

ص: 359


1- المصدر السابق: باب 36، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب91، ح1.
3- لأن الله تعالى لم يخلقنا لحياة لا تكامل فيها، بل خلقنا من أجل أن نتكامل ونرتقي.
4- المصدر السابق: باب 95، ح5.

حرام(1)، يا أبا ذر، من لم يبالِ من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين ادخله النار)(2).7 __ أن يتحلى بالصدق، ومطابقة قوله لفعله، وسره لعلانيته. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (أبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم يخالفه إلى غيره(3))(4)، وقال (علیه السلام): (ليس من شيعتنا من قال بلسانه، وخالفنا في أعمالنا وآثارنا، ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه واتّبع آثارنا وعمل بأعمالنا، أولئك شيعتنا)(5). وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر: (يا أبا ذر، يطلع قوم من أهل الجنّة إلى قومٍ من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار، وإنمّا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟! فيقولون: إنّا كنّا نأمركم بالخير ولا نفعله)(6)، قال تعالى: [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] (الصف:3).

8 __ أن يتصفوا بالصبر. فمن وصية للإمام الصادق (علیه السلام): (اصبروا على الدنيا فإنّما هي ساعة، فإن ما مضى منه لا تجد له ألماً ولا سروراً، وما لم يجئ فلا تدري ما هو، وإنّما هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة الله،2.

ص: 360


1- البعض ممن وفقه الله تعالى لطاعته أعد لنفسه دفتراً صغيراً يضعه في جيبه يكتب فيه ما أقترفه من ذنوب في النهار، وقبل أن ينام يفتح هذا الدفتر ليحاسب نفسه.
2- المصدر السابق: باب 96، ح7.
3- والوصية علينا نحن الحوزويون آكد.
4- المصدر السابق: باب 38، ح1.
5- المصدر السابق: باب 21، ح19.
6- المصدر السابق: باب 9، ح12.

واصبر فيها عن معصية الله)(1). وقال الإمام الباقر (علیه السلام): (لما حضرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مراً تُوفَّ أجرك بغير حساب)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا ومن أهلي على ما هو أمرّ من الحنظل؛ إنّه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدّام محمد (صلی الله علیه و آله)(3).9 __ يقدّمون الآخرة على الدنيا(4). فمن خطبة النبي (صلی الله علیه و آله): (ومن عرضت له دنيا وآخرة فاختار الدنيا وترك الآخرة لقي الله وليست له حسنة يتقي بها النار، ومن أخذ الآخرة وترك الدنيا لقي الله يوم القيامة وهو عنه راضٍ)(5)، فهم يحقرّون الدنيا لأنهّا تشغل عن الآخرة، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته)(6)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة)(7)، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي: (يا علي، إنّ الله أوحى إلى4.

ص: 361


1- المصدر السابق: باب 19، ح5.
2- المصدر السابق: ح8.
3- المصدر السابق: باب 25، ح4.
4- لا بد أن نعرف إن الدنيا الممقوتة في الروايات ليست كل دنيا، وإنّما التي يجعلها الإنسان غاية وهدفاً له، أما إذا كانت الدنيا وسيلة وطريقاً للآخرة فلا تكون ممقوتة لأنهّا ستكون رأس مال الإنسان يتاجر فيه مع الله تعالى.
5- المصدر السابق: باب 52، ح2.
6- المصدر السابق: باب 61، ح5.
7- المصدر السابق: ح4.

الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك(1)، يا علي، إنّ الدنيا لو عدلت عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة من ماء، يا علي، ما أحدٌ من الأولين والآخرين إلا وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يُعطَ من الدنيا إلا قوتاً)(2)، وشبّه الإمام الباقر (علیه السلام) قائلا: (مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز(3)؛ كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً)(4)؛ لذلك رغّبوا شيعتهم في الزهد بالدنيا، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من زهد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)(5).10 __ والشيعي لا يكون كلامه بذيئاً ولا فاحشاً ولا لعّاناً أو سبّاباً. فقد بلغ الإمام الصادق (علیه السلام) أنّ أحد أصحابه قال مثل هذه الكلمات لرجل ظلمه، فقال (علیه السلام): (إنّ هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي، استغفر ربّك ولا تعد)(6)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له فهو شرك الشيطان)(7)، ولا يبغي الشيعي على أحد؛ ففي وصية الإمام الصادق5.

ص: 362


1- فتجد أن طلاب الدنيا لا يجدون طعم الراحة فكلما ملكوا شيئاً أرادوا الآخر كما في الرواية: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا) بحار الأنوار:1/ 182.
2- وسائل الشيعة: باب 63، ح4.
3- قال الشاعر: كدودة القز ما تبنيه يهلكها *** وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
4- المصدر السابق: باب 64، ح1.
5- المصدر السابق: باب 62، ح1.
6- المصدر السابق: باب 71، ح7.
7- المصدر السابق: باب 49، ح15.

(ع) لأصحابه: (وإيّاكم أن يبغي بعضكم على بعض؛ فإنهّا ليست من خصال الصالحين، فإنّه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بُغي عليه، ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله)(1)، ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لو بغى جبل على جبل لجعله الله دكاً، اعجل الشر عقوبة البغي، وأسرع الخير ثواباً البر).11 __ وإذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم، أو مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا والتفتوا إلى خطأهم الكبير في حق ربهم الكريم، فتداركوا أمرهم بالتوبة، واستغفروا الله تعالى. ففي حديث: إنّ الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطي خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها، قوله عزّ وجلّ: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ](البقرة:222)، فمن أحبّه الله لم يعذّبه، وقوله: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] (غافر:7)، وذكر الآيات، وقوله: [إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً](الفرقان:70). ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): (إنّ الله تبارك وتعالى أشّد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها)(2).

ويتخوفون الاستدراج والإملاء فقد سُئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن الاستدراج؟ فقال: (هو العبد يذنب الذنب فيُملي له، ويجدّد له عندها النعم6.

ص: 363


1- المصدر السابق: باب 74، ح6.
2- المصدر السابق: باب 86، ح6.

فيلهيه عن الاستغفار؛ فهو مستدرج من حيث لا يعلم)(1).12 __ عفيف البطن عفيف الفرج(2). قال الإمام الصادق (علیه السلام): (والله ما شيعة علي إلا من عفّ بطنه وفرجه وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)(3)، وروي أنّ قوماً تبعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) فالتفت إليهم فقال: ما أنتم عليه؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين. قال: مالي لا أرى عليكم سيماء الشيعة. قالوا: وما سيماء الشيعة؟. قال (علیه السلام): (صفر الوجوه من السهر، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين).

13 __ التفقه في الدين ولا أقل من المسائل الابتلائية كما يسميها الفقهاء. أي تلك التي يتعرض لها كثيراً في عباداته، أو في معاملاته. وسئل أبو الحسن (علیه السلام): هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا(4)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم)(5)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(6)، وخاطب (ع) أصحابه: (عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً، فإنهّ من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة6.

ص: 364


1- المصدر السابق: باب 90، ح4.
2- أي لا يدخل بطنه إلا الطعام الحلال ويحفظ فرجه إلا فيما أحل الله تعالى له.
3- صفات الشيعة: 7، ح12.
4- أصول الكافي: كتاب فضل العلم، الباب1، ح3.
5- المصدر السابق: ح5.
6- المصدر السابق: ح6.

ولم يزكِّ له عملاً)(1)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لبشير الدهان: (لا خير فيمن لا يتفقهّ من أصحابنا، يا بشير، إنّ الرجل منهم إذا لم يستغنِ بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم)(2)، ونقل الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) انزعاجه ممن لا يتفقه في دينه، فقال (صلی الله علیه و آله): (أُفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(3).وتوجد صفات كثيرة أخرى وردت في النصوص، ومنها كونه: (ليّناً قوله، غائباً منكره، قريباً معروفه، صادقاً قوله، حسناً فعلُه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، فهو في الهزاهر وقور، وفي المكروه صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم على من لا يحب، لا يدّعي ما ليس له، ولا يجحد حقّاً هو عليه، يعترف بالحق قبل أن يُشهد عليه، ولا يضيّع ما استُحفظ، ولا ينابز بالألقاب، ولا يبغي على أحد، ولا يهمّ بالحسد، ولا يضرّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب)(4).

المحور الثالث: العلاقة مع الآخرين:

1 __ يصنع المعروف إلى كلّ أحد. فقد أوصى الإمام السجاد (علیه السلام) ولده

ص: 365


1- المصدر السابق: ح7.
2- المصدر السابق: باب 2، ح6.
3- المصدر السابق: باب 9، ح6.
4- صفات الشيعة: ح35.

الباقر (علیه السلام): (يا بني، افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثمّ تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره)(1)، وأصله في القرآن الكريم في قوله تعالى: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ](المؤمنون:96).2 __ ويتجنبون الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق. فأمير المؤمنين (علیه السلام) يعلم أنّ قاتله عبد الرحمن بن ملجم يريد به الشر، فقيل له: لِمَ لا تقتله أو تسجنه دفعاً لشره؟ قال (علیه السلام): (لا يجوز القصاص قبل الجناية)، وفي المقابل ترى الولايات المتحدة نموذج الغرب المتحضر تتوعد البشرية بالدمار والويل والثبور تحت عنوان (الضربات الوقائية والاستباقية) دفعاً للأخطار المحتملة، فأين هم من أدب الإسلام وأهل البيت (علیهم السلام)؟!.

وقد حذّر الأئمة (علیهم السلام) بشدة من الظلم مهما كان بسيطاً، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): (قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة)، وفي حديث للإمام السجاد (علیه السلام): (ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم)(2)، وعدّ حديث للإمام الباقر (علیه السلام) ظلم الناس من الذنوب التي لا يدعها الله تبارك وتعالى: لذا فهم يأمرون بردّ المظالم إلى أهلها قبل أن يفاجئهم الموت، وحذّروا من معونة الظالمين. قال الإمام الصادق2.

ص: 366


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب3، ح3.
2- عقاب الأعمال: ص272.

(ع): (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)(1)، ويقول (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) في هؤلاء: (يا علي، شرّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرّ منه من باع آخرته بدنيا غيره)(2).3 __ يوالون في الله ويعادون في الله. وهو مبدأ قرآني مهم أكّد عليه الله تعالى كثيراً، وإذا ضاع هذا المقياس مُحق الدين. قال تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ](المجادلة:22).

فأين من هذه الحقيقة القرآنية هؤلاء الذين يلهثون وراء الغرب وقوى الاستكبار الذين آخر ما أمروهم به أن يغيروا مناهج التعليم الديني(3) وعلى رأسها القرآن الكريم لأنهّا تشجّع على الإرهاب كما يزعمون، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (كذب من زعم أنّه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا)، ويقول الإمام أبو الحسن الرضا (علیه السلام): (من والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله تبارك وتعالى، وحقّ على الله عزّ وجلّ1.

ص: 367


1- المصدر السابق: باب 80، ح1.
2- المصدر السابق: باب 68، ح11.
3- كان هذا أحد أوامر الولايات المتحدة للدول الإسلامية السائرة في ركابها بعد أحداث أيلول/2001.

أن يدخله في نار جهنم)(1)، وعن الإمام الرضا (علیه السلام) أيضاً قال: (إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت لمن هو أشّد لعنة على شيعتنا من الدجال، فقلتُ له: يا ابن رسول الله، بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا، إنه إذا كان كذلك اختلط الحقّ بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق)(2)، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله)(3).4 __ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهي من أهم صفات خير أمة أخرجت للناس كما نطق القرآن الكريم، روي عن النبي (ع) أنَّهُ قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(4)، وكتب الإمام الصادق (علیه السلام) إلى الشيعة: (ليعطفنَّ ذوو السنِّ منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنَّكم لعنتي أجمعين)(5)، وأقل مراتبه الإنكار القلبي، فعن الإمام علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)(6)، وقال الإمام علي2.

ص: 368


1- صفات الشيعة: 1124.
2- صفات الشيعة: 8، ح14.
3- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 15، ح3.
4- المصدر السابق: باب 1، ح18.
5- المصدر السابق: ح8.
6- المصدر السابق: باب 5، ح2.

(ع): (أدنى الإنكار(1) أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة)(2)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لأصحابه: (إنه قد حقَّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقُّ لي ذلك وأنتم يبلّغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك)(3)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى الله فيه، ولا يقدر على تغييره)(4).5 __ الاهتمام بأمور المسلمين في شرق الأرض وغربها. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(5)، وعن الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السلام): (إنّ المؤمن لتردّ عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده، فيهتّم بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى بهمّه الجنة)(6).

6 __ أمروهم بالتزاور بينهم وتكثير اللقاءات الهادفة الواعية التي يستغلّونها للتذاكر بأمور مفيدة. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (تزاوروا فإن في زيارتكم4.

ص: 369


1- ولكن يجب فهم ذلك بشكل صحيح وليس كما يفعله بعض شبابنا سامحهم الله تعالى فإنهم أول ما يبدأون في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستعملون الغلظة والشدة والوجوه المكفهرة، وهذا غير صحيح، بل لا بد أن نبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة ونقابلهم بأخلاق طيبة لكي يتأثروا بنا وبكلامنا وبالتدريج نحاول معهم بطرق الإصلاح المختلفة.
2- المصدر السابق: باب6، ح1.
3- المصدر السابق: باب7، ح4.
4- المصدر السابق: باب38، ح4.
5- المصدر السابق: باب18، ح1.
6- المصدر السابق: باب 18، ح4.

إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم)(1)، ويقول (ع): (أما والله لوددتُ أني معكم في بعض تلك المواطن)(2).7 __ وأعطى الأئمة أهمية كبرى لقضاء حوائج المؤمنين. قال الإمام الصادق (علیه السلام): (ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة)(3)، وقال الإمام أبو الحسن (علیه السلام): (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً)(4) وجعلوا هذه القضيّة أفضل من سائر القربات كالحج والعمرة والاعتكاف والطواف المندوبات، بحيث إن الإمام (علیه السلام) يقطع طوافه بالبيت الحرام ويخرج ليقضي حاجة المؤمن، ويهددّون شيعتهم إن قصروا في ذلك أنواع التهديد؛ يقول الإمام الصادق (علیه السلام): (أيّما رجل من شيعتنا أتى رجلاً من إخوانه فاستعان به في حاجته، فلم يعنه وهو يقدر، إلا ابتلاه الله بأن يقضي حوائج عدة من أعدائنا، يعذبّه الله عليها يوم5.

ص: 370


1- المصدر السابق: باب 23، ح3.
2- المصدر السابق: ح5.
3- المصدر السابق: باب 25، ح4.
4- المصدر السابق: 16ح5.

القيامة)(1) وهي حالة مجرّبة.8 __ ومن الحوائج التي اهتموا بها مساعدة الفقراء وإقراض المحتاجين وإنظار المعسرين. فعن أبي بصير قال: ذكرنا عند أبي عبد الله (علیه السلام) الأغنياء من الشيعة فكأنّه كره ما سمع منّها فيهم، فقال: (يا أبا محمد، إذا كان المؤمن غنياً وصولاً رحيماً له معروف إلى أصحابه أعطاه الله أجر ما ينفق من البر مرتين ضعفين، لأنّ الله يقول في كتابه: [وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ](سبأ:37))(2)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر، وصلة الإخوان بعشرين، وصلة الرحم بأربعة وعشرين)(3).

9 __ وأمور أخرى كثيرة؛ كإدخال السرور على المؤمن حيث جعلوه إدخالاً للسرور على النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين(4)، والستر على المؤمن وحفظ كرامته وسمعته، والمنع من تشويه صورته لدى الناس(5)، والنصيحة للمؤمنين وعدم الغش(6)، والرفق بالمؤمنين وعدم تحميلهم ما لا يطيقون(7)،4.

ص: 371


1- المصدر السابق:باب 37، ح3.
2- وسائل الشيعة: باب1، ح13.
3- المصدر السابق: باب 11، ح4.
4- مستدرك الوسائل: 21 / 395، ح5.
5- وسائل الشيعة: 12 / 294، ح2.
6- المصدر السابق: 17 / 466، ح1.
7- المصدر السابق: 23 / 237، ح4.

واستشعار الرحمة لجميع الناس كما في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر: (وأشعِرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلَهم؛ فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبُّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)، فأين أدعياء حقوق الإنسان الذين تتبرأ حتى وحوش الغاب من أفعالهم من هذه التعاليم؟!.هذا غيض من فيض ممّا أدّب به الأئمة (علیهم السلام) شيعتهم وأرادوهم أن يكونوا كذلك، لذلك أحبوهم ومنحوهم المقامات الرفيعة. يقول الإمام الصادق (علیه السلام) لشيعته: (أما والله إنيّ لأحبُّ ريحكم وأرواحكم)(1)، ويقول الإمام الرضا (علیه السلام): (شيعتنا ينظرون بنور الله، ويتقلّبون في رحمة الله، ويفوزون بكرامة الله؛ ما من أحدٍ من شيعتنا يمرض إلا مرضنا لمرضه، ولا اغتمّ إلا اغتممنا لغمَّه، ولا يفرح إلا فرحنا لفرحه، ولا يغيب عنّا أحدٌ من شيعتنا أين كان في شرق الأرض أو غربها)(2) وقال شخص: (دخلنا على أبي عبد الله (علیه السلام) في زمن مروان __ وهو الملقب بالحمار آخر ملوك بني أمية __ فقال (علیه السلام): من أنتم؟ فقلنا: من أهل الكوفة؟ فقال: ما من بلدةٍ من البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة، ولاسيّما هذه العصابة، إنّ الله جلّ ذكره هداكم لأمر جهله الناس، وأحببتمونا وأبغضنا الناس، واتبّعتمونا وخالفنا الناس، وصدَّقتمونا وكذَّبنا الناس، فأحياكم الله محيانا وأماتكم الله مماتنا، فأشهد على أبي إنهّ كان يقول: ما بين أحدكم5.

ص: 372


1- المصدر السابق: 1 / 88، ح11.
2- صفات الشيعة: ح5.

وبين أن يرى ما يقرّ الله به عينه وأن يغتبط إلا أن تبلغ نفسه هذه __ وأهوى بيده إلى حلقه __)(1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (خرجت أنا وأبي حتّى إذا كنّا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة، فسلّم عليهم ثم قال: أنتم شيعة الله، وأنتم أنصار الله، وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا والسابقون في الآخرة إلى الجنة، قد ضمنّا لكم الجنّة بضمان الله عزّ وجلّ وضمان رسول الله (صلی الله علیه و آله).. في حديث طويل لكنّه (ع) قال: (واعلموا أنّ ولايتنا لا تُنال إلا بالورع والاجتهاد، من ائتمّ منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)(2).اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صلی الله علیه و آله)، وأمتنا مماتهم واحشرنا معهم ولا تفرّق بيننا وبينّهم يا أرحم الراحمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.9.

ص: 373


1- الكافي، الروضة: 8/ 81، ح38.
2- المصدر السابق: ح259.

الاهتمام بشروط الظهور أولى من علاماته والتحذير من فتنة الغرب المادي

اشارة

الاهتمام بشروط الظهور أولى من علاماته والتحذير من فتنة الغرب المادي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يستحقه(2) حمداً كثيراً وصلى الله على النبي وآله وسلّم تسليماً.

علامة الكسوف والخسوف في شهر رمضان:

أخبرت الحسابات الفلكية أنّ خسوفاً يحصل في وسط شهر رمضان، وكسوفاً في آخره، وقد أهتم الناس بهذه الظاهرة الفلكية لما ورد في علامات الظهور مما يشبه ذلك؛ فعن الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (ع) إلى الأرض: تنكسف الشمس في

ص: 374


1- محاضرة ألقيت في مسجد الرأس الشريف على حشد من الفضلاء والمبلغين وطلبة العلوم الدينية بتأريخ 9/شوال/1423 ه_ الموافق 31/ 10/ 2001 بمناسبة افتتاح الدراسة بعد تعطيل شهر رمضان وعيد الفطر.
2- وقد علق سماحة الشيخ (دام ظله) على البدء بهذا المقطع بأنّنا لا نستطيع أن نحمد الله تعالى حقّ حمده، فإن قلنا الحمد لله زنة السماوات والأرض فهو قليل، وإن قلنا الحمد لله بعدد قطرات الماء فهو قليل، وأيّ شيء نقوله فهو قليل بحق الله تعالى فإذاً نقول الحمد لله كما يستحقه وكما هو أهله.

النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره)(1). وأنتَ ترى أنّ الظاهرة الفلكية التي أُعلن عنها لا تطابق العلامة التي ذكرتها الروايات من حيث توقيت الخسوف والكسوف، ومع ذلك تشبث بها الناس كعلامة لقرب الظهور باعتبار اشتراك الخبر والظاهرة بحصول الكسوف والخسوف في شهر رمضان وإن اختلفا في موعديهما، مهملين هذا الاختلاف لعدم أهميته في نظرهم، وإنّ المهم اجتماع الخسوف والكسوف في شهر رمضان، وما علموا أنّ الآية ليست في اجتماعهما في شهر رمضان، وإنما في تأريخ حصولها؛ لأن المعروف أن الخسوف يحصل في منتصف الشهر والكسوف في آخره، وبذلك استشكل رجل على الإمام في الرواية السابقة، فقال الإمام أبو جعفر (علیه السلام): (إني لأعلم بما تقول، ولكنهّما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع))، والإشكال الرئيسي الذي أريد أن أوجهّه ليس عدم التطابق هذا بين الحالة الواقعة هذه وما أخبرت عنه الروايات، بل إنّ الحالة لم تقع في بلادنا أصلاً(2)، فقد مرّ علينا منتصف شهر رمضان ولم يحصل فيه خسوف ولا كسوف في آخره.

الصحيح هو الاهتمام بالشروط لا بالعلامات:

ولكن الذي أريد أن أنبه عليه هو إنّ الصحيح الاهتمام بشروط الظهور الميمون لا علاماته، فحصول العكس من قبل شيعة الإمام (علیه السلام) هي الشكوى

ص: 375


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص478. طبعة دار التعارف، 1412/ 1992.
2- راجع الغيبة الكبرى للشهيد السيد محمد الصدر لماذا يفترض في العلامات أنها في بلادنا.

الأخرى التي أريد أن أرفعها بالنيابة عنه (علیه السلام)، ويتّضح هذا التنبيه من خلال معرفة معنى الشرط والعلامة والفرق بينهما، وتوجد في كتاب الغيبة الكبرى(1) لسيدنا الأستاذ (قدس سره) أفكار نافعة في هذا المجال سيتضمن الكلام بعضها بإذن الله تعالى.فإنّهما يشتركان في كونهما مما يتحقق قبل الظهور أو مزامناً له، وإلا فإن تحقق الظهور قبل اجتماع أسباب نجاحه في تحقيق التخطيط الإلهي __ وهو ما نسميه بشرط الظهور __ يستلزم تحقق المشروط قبل شرطه، أو فشل الإمام (علیه السلام) في مهمته، وتحققه قبل العلامة يعنى تكذيب إخبار المعصوم (علیهم السلام) عنها على فرض صحة أخبار العلامات كلاً أو بعضاً، وكلّها مستحيلة. لكنهما يفترقان من عدة جهات يظهر من خلالها وجوب الاهتمام بالشرط أكثر من العلامة.

الفرق بين الشرط والعلامة:

وأول وأهم فرق يستفاد من تعريفهما، فإن الشرط ما كان له مدخلية في تحقيق المشروط على نحو العلّية. فإن وجود النار وحده غير كافٍ لإحراق الأشياء من دون شرط الإحراق، وهي المماسة والمحاذاة، ويستحيل وجود المشروط وهو الظهور من دون شرطه، وإذا تحقّق الظهور من دونه فإنه يستلزم فشله.

أمّا العلامة فليس لها دخل عِلّي وسببي في تحقّق الشيء، ولكنها تفيد

ص: 376


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص395 وما بعدها.

الكشف والدلالة على حصوله، كوجود الدخان الدال على النار، فإنّه يمكن أن توجد النار بلا دخان، ولكن وجود الدخان كاشف عن وجود النار، فلا ضرورة لحصول العلامات من هذه الجهة، وإنّما يجب تحققها قبل الظهور من جهة أخرى هي لكيلا يستلزم كذب إخبار الإمام (علیه السلام)، والنتيجة إنّ ارتباط الظهور بالشرائط ارتباط واقعي لأنهّا تدخل ضمن العلّة والسبب له، أمّا ارتباطه بالعلامات فهو ارتباط ظاهري بمعنى الكشف والإعلام.وقد ذُكِرت فروق أخرى ليست ذات قيمة، ومما يقلل أهمية العلامات:

1 __ ضعف الروايات الدالّة عليها وإن أمكن قبول بعضها باعتبار تأييد بعضها لبعض(1).

2 __ اختلافها في التفاصيل.

3 __ قابليتها للانطباق على أمور كثيرة كمقتل السيد الحسني، فإن العشرات من ذرية الإمام الحسن (علیه السلام) ثاروا في أيام الدولة الأموية والعباسية وانتهوا إلى الشهادة، وقتل كثير غيرهم من بني الحسن (علیه السلام)، أو علامة نزول الترك الجزيرة(2)، وقد نزلوها كثيراً خصوصاً أيام الاحتلال العثماني، وكذا خروج الرايات السود من الشرق التي طبقت على أحداث كثيرة عبر التأريخ.

4 __ إنّ العلامات غير اختيارية لنا، أمّا الشروط ونقصد بالذات الشرط الرئيسي وهو إعداد النفس لتتأهل لنصرة الإمام (علیه السلام) فهي اختيارية، فالأولى غير واقعة ضمن التكليف عكس الثانية، ونحن يهمّنا معرفة تكليفنا وما يجبق.

ص: 377


1- إذا تجمعت وكثرت عدة روايات على علامة واحدة فانه يحصل الاطمئنان بها.
2- أي ما بين النهرين من العراق.

علينا فعله.5 __ إنّ تحقيق العلامات(1) بل الظهور نفسه لا ينفعنا إن لم نكن من أهل التقى والإيمان والإخلاص والعمل الصالح لنحظى بنصرة الإمام (علیه السلام)، فعلينا أن نفكر في كيفية وصولنا إلى هذه المرتبة ولنساهم في تحقيق شرط الظهور، وإلا سيكون ظهور الإمام (علیه السلام) قاصماً لظهورنا، فاستمعوا بتدبر لقوله تعالى: [وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ](السجدة: 28-30)، وقال تعالى: [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ](الأنعام:158)، فأحد مصاديق الفتح هو يوم الظهور المبارك وحينئذ لا ينتفع به إلا من هذّب نفسه وآمن وعمل صالحاً وهو المعنى الحقيقي للانتظار.

الأعور الدجال ليس إنساناً:

6 __ التزامها أسلوب الكناية والرمزية، وحينئذٍ تختلف التفسيرات ولا يمكن الجزم بأحدها، ومنها أخبار الأعور الدّجال الذي هو من العلامات الرئيسية قبل الظهور، وقد ذُكرت له أوصاف عديدة إذا حاولنا تطبيقها على إنسان واحد فإنّه سيكون معجزة، فإمّا أن ننكر هذا الشيء ونقول: إنّ المعصومين (علیهم السلام) كانوا يروون عن ما يشبه قصص ألف ليلة وليلة، وهذا عمل البطّالين

ص: 378


1- والخطاب إلى كل من يهتم بالعلامات أكثر من الشروط.

والعابثين، لا الهداة إلى الله والأدلاء على طاعته، والقوّامين بأمره، وأما أن نفسرها بوجه معقول يستوعب هذه الأوصاف.وبمناسبة الصراع الذي بدأه الغرب مع الإسلام وأهله أنقل هذا التفسير لسيّدنا الأستاذ (قدس سره)(1) الذي ينسجم مع هذا الصراع، مع شيء من التبصر والتلخيص والبيان والتطبيق على الواقع المعاصر، حيث يمثل الدّجال الحركة أو الحركات المعادية للإسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف بادئاً بالأسباب الرئيسية، وهي الحضارة الغربية بما فيها من بهارج و هيبة وهيمنة على الرأي العام العالمي، ومخططات واسعة ومنتهياً إلى النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام عملياً وإن تسمّوا بالإسلام(2) واعتناقهم المذاهب المنحرفة، وما يعم الأفراد والمجتمعات من ظلم وفساد.

وإليك أوصاف الأعور الدجال بحسب ما جاء في الروايات من كتب الشيعة والسنة مع تطبيقها على هذه الأطروحة، فليس هناك ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة خلق منحرف أكبر من الدّجال(3) باعتبار هيبة الحضارة الغربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة، وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والإلحاد بالقدرة الإلهية بشكل لم يعهد له مثيل في التأريخ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل. وهذام.

ص: 379


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص532 __ 537.
2- في حركاتهم وطباعهم وتصرفاتهم وملابسهم و قصّات شعرهم.
3- إشارة إلى ما في بعض الروايات أنه: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق __ وفي حديث آخر أمرٌ __ أكبر من الدجال) تأريخ الغيبة الكبرى: ص516 عن صحيح مسلم.

التفسير واضح على الرواية الأخرى: (أمر أكبر من الدّجال) مما يعني أنه ليس رجلاً بعينه وإنمّا هو اتجاه حضاري معادٍ للإسلام.(وإنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت)(1)، وكلّ هذا وغيره مما هو أهم منه من أنحاء السيطرة على المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الغربية، ولا تخفى ما في ذلك من الفتنة فإن أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدنية الغربية فإنهّم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها وتكوينها الحضاري بشكل عام، وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة، وهي غير قائمة على أساس صحيح إذ لا ملازمة بين التقدم التكنولوجي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي، يعنى لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع، فقد يكون المجتمع متقدماً إلى درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخرة إلى درجة كبيرة في الجانب الحضاري، وأوضح مصاديقه الكيان الصهيوني؛ فإنّه في طليعة المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً، إلا أنكّ تجد الهمجية والوحشية في سلوكهم المنافي لكل القيم بما فيها تلك التي أجمعوا هم وكلّ أمم العالم على الالتزام بها بما يسمونها بحقوق الإنسان، وكذا الولايات المتحدة التي تمثل النموذج الأرقى لتقدم الغرب إلا إنها في الحضيض من الناحية الأخلاقية، وجرائمها في العراق واليابان وفيتنام وفلسطين والبوسنة وأفغانستان شواهد على ذلك.

(وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحي فيكذّبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإنه.

ص: 380


1- هذا ما ورد في بعض الأخبار عن صفاته.

من فتنته أن يمر في الحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمى ما كانت وأعظم وأمدّه خواصراً وأدره ضروعاً)(1).وهذا يعني –لا على وجه التعيين- أنّ المكذب للمد المادي الأوربي والواقف أمام تياره يُمنى بمصاعب وعقبات، ويكون المال والقوة إلى جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها، والتعبير بالحي يعني النظر إلى المجتمع على العموم، وهذا هو الصحيح بالنسبة إلى المجتمع المؤمن في التيار المادي، إذ لو نظرنا إلى المستوى الفردي فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطاً من القوة والمال.

الدجال ينادي أنا ربكم الأعلى:

والدجال أيضاً يدعي الربوبية، إذ ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين يقول: (إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى وقدّر فهدى، أنا ربكم الأعلى(2))(3)، وكلّ ذلك واضح جداً من سير الحضارة الغربية وأسلوبها، فإنها ملأت الخافقين من خلال وسائل الإعلام الحديثة بمادياتها، وعزلت البشر عن المصدر الإلهي والعالم العلوي، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكفله هذا

ص: 381


1- كتاب الفتن: ص327.
2- وهو لسان حال الولايات المتحدة.
3- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص512، عن سنن ابن ماجة وإكمال الدين للصدوق.

المصدر، وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها على البشرية، وفرضت آيديولوجيتها على الأفكار وقوانينها على المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه، وهذا يعني ادّعائها الربوبية على البشر، أي إنها المالكة لشؤونهم من دون الله تعالى، وهذا ما تريد الولايات المتحدة تسيير العالم عليه بما يسمونه بالعولمة والنظام العالمي الجديد، وسخرت آليات لتنفيذه كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وحتى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وتريد أن تفرض رؤيتها على جميع البشر، ولا مكان في هذا العالم لمن لا يوافقها، وقد سبقها إلى ذلك فرعون الذي ادعى الربوبية وقال: [مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى](غافر:29) وأمريكا تكرر نفس الكلمة.

وضوح عبودية وانقياد أولياء أمريكا:

وأمّا دعوتها لأوليائها من أطراف الأرض فليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها، ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها، وهذا واضح حيث تجدهم يتسابقون بين الحين والآخر لتقديم فروض الولاء والطاعة وكلّ ما تقتضيه واجبات الربوبية، ولا يعتذرون عن أية تكليف يفرض عليهم كموالاة صديقهم(1) ومعاداة عدوهم وإن كان أخاً صادقاً في الله، وتقديم التسهيلات العسكرية، وترويج البضائع وفتح الأسواق، وابتزاز الأموال تحت عناوين شتى.

ص: 382


1- لاحظ تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب.

علة استثناء مكة والمدينة:

(ولا يبقى شيء من الأرض إلا وطأه وظهر عليه إلا مكة والمدينة)(1)، وهو ما حدث فعلاً بالنسبة إلى انتشار الفكر الغربي والتأثر والانبهار به والتقليد الأعمى له في كلّ البسيطة، فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الغربي(2).

وأمّا استثناء مكة والمدينة فهو يعني إنّ الفكرة الإلهية المتمثلة بمكة والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة لا تنحرف بتأثير المد الغربي، بل تبقى صامدة محفوظة في أذهان أهلها وإيمانهم، وهذا يدلّ على انحفاظ الحقّ في الجملة بين البشر، وأن الانحراف لا يشمل البشر أجمعين وإن كانت نسبة أهل الحق إلى غيرهم كنسبة مكة والمدينة إلى سائر مدن العالم كله: [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ](التوبة:32).

وهذا مطابق لما يقتضيه التخطيط الإلهي لليوم الموعود من بقاء قلّة من المخلصين الممحصين المندفعين في طريق الحق، وأكثرية من المنحرفين والكافرين، ويكون لأولئك القلّة المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة، بل إنّ هذه الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً، ولا يزال الغربيون حريصين على انتهاء رموز الإسلام هذه، قال المبشر وليم

ص: 383


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص516 عن سنن ابن ماجه.
2- فالفكر الغربي غزا مجتمعاتنا كلها فكل حركاتها وقوانينها على النمط الغربي.

جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة(1) من بلاد العرب يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه).فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها(2)، وهذا هو معنى ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك بيده سيف مصلت يصده عنها(3) وأن على كل نقب ملائكة يحرسونها(4)، فإن تشبيه العقيدة الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف ما لا يخفى لطفه، وأما كون الملائكة على كل نقب فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بأن في الإسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً على كل شبهة، فلا يمكن لشبهات الآخرين أن تغزو فكره أو تؤثر على ذهنه.

ومن هنا تبرز المسؤولية العظيمة الملقاة على العلماء والفضلاء من أبناء الحوزة العلمية الشريفة في الوقوف بوجه الشبهات وردّها والدفاع عن الإسلام العظيم وسد الثغرات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية وحتى الاقتصادية التي يمكن أن ينفذ العدو من خلالها(5)، أليسوا هم (حصون الإسلام) كما تصفهم الأحاديث؟ فما هو دور الحصن غير حفظ الكيان ومنعا.

ص: 384


1- يريد بالقرآن الفكر والوعي ويريد بمكة وحدة المسلمين وعقيدتهم.
2- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة / 169.
3- يعني في كلّ جيل يوجد خلف يحافظ على الدينّ ويمنع دخول الدجال مكة والمدينة.
4- إشارة إلى حديث رواه مسلم في الصحيح يقول فيه الدجال:(فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلّما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده سيف صلتاً يصدّني عنها).تأريخ الغيبة الكبرى: ص484.
5- فإذا وجد الفرد ضالّته في الحوزة، فإن ارتباطه بها سيكون وثيقاً ولا يغادرها إلى غيرها.

هجمات العدو، أوليسوا هم (أمناء الرسل)؟! فإذن قد ائتمنهم الرسل على كلّ المسؤوليات التي تحملها أولئك الكرام، وبالمقابل على الأمة أن تلتف حول علمائها وتلجأ إليهم في كلّ صغيرة وكبيرة، وإلا ضاعوا وضلّوا ووقعوا في فتنة الدجال من حيث لا يشعرون.

الدجال باقٍ من زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

والدجال طويل العمر باقٍ من زمن النبي (صلی الله علیه و آله) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين، بل ادعى الرسالة دونه(1)، ولا زال على هذه الحالة إلى الآن، فإن الدجال أو المادية تبدأ أسسها الأولى من زمن النبي (صلی الله علیه و آله) حيث كان للمنافقين أثرهم الكبير في إذكاء أوارها ورفع شأنها، فكانوا النواة الأولى التي حددت تدريجياً سير التأريخ على شكله الحاضر بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم وسيطرة المادية والمصلحية عليه.

إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) أولئك الذين كان مسلك الدجل والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير ما يبطنون، هم النواة الأولى للمادية المخادعة التي تظهر غير ما تبطن وتبرقع قضاياها بمفاهيم العدل

ص: 385


1- كما في الخبر الذي أخرجه مسلم عن عبد الله قال: (كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد ففّر الصبيان وجلس ابن صياد فكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كره ذلك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تربت يداك أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا بل تشهد أني رسول الله، فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى أقتله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص515.

والمساواة، فهذا هو الدجال بوجوده الطويل.

معنى ادعاء الدجال الرسالة:

ومن هنا نفهم معنى ادعائه للرسالة، فإن المادية كانت ولا تزال تؤمن بفرض ولايتها على البشر، غير أنّها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً لا تستطيع الارتباط بأي إنسان، ولكن حين أُذن للدجال المادي بالخروج(1) بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) انطلقت النفوس الأمارة بالسوء من قمقمها، وبلغت فتنته الذروة اليوم حين استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها على العالم.

ومن هذا المنطلق تفهم بكلّ وضوح معنى أنهّ عند الدجال ماء ونار، وماؤه في الحقيقة هي نار، وناره هو الماء الزلال، وقال النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديث: (فمن أدرك ذلك فليقع في الذي يراه ناراً؛ فانه ماء عذب طيب)(2)، فإن الماء الذي عند الدجال هي المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن تابعها وتعاون معها، وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف، وتلك المصالح هي النار أو الظلم الحقيقي، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي، ومن الطبيعي أنّ النبي (صلی الله علیه و آله) بصفته الداعية الأكبر

ص: 386


1- إشارة إلى الحديث في صحيح مسلم عن لسان الدجال (وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص514.
2- أخرجه بهذا التفصيل مسلم في صحيحه8 / 196 وروى صدره البخاري 9 / 75 في صحيحه، تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص515.

للإيمان الإلهي ينصح المسلم بأن لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه ناراً ومصاعب فإنهّ ينال بذلك طريق الحق والعدل، والرمزية والكناية واضحة لأنهّ ليس المراد به الماء والنار على وجه الحقيقة، وإلا لزم نسبة المعجزات إلى المبطلين.ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظ في المقام أنّ النبي (صلی الله علیه و آله) لم يقل في الخبر: أنّ الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار يجدونها ماءاً، بل يمكن أن نفهم أن بعض الناس وهم المؤمنون خاصة هم الذين يجدونه ذلك، وإلا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون إلا اللذة وتوفير المصلحة كما أنهّم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلا الضيق والكمد.

لماذا الدجال أعور؟؟

والدجال أعور(1)، وهو كذلك بكلّ تأكيد من حيث إنّ الحضارة المادية تنظر إلى الكون بعين واحدة، تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا، ومن يكن أعور غير مدرك للحقائق فكيف يكون رباً صالحاً للولاية على البشرية، وإنمّا تكون الولاية خاصة بمن ينظر إلى الكون بعينين سليمتين فتكون نظرته متوازنة، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](القمر:49)، ويتعامل مع

ص: 387


1- إشارة إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (9/ 75) عن أنس قال: قال (صلى الله عليه وآله وسلم) (ما بُعِثَ نبي إلا أنذر أمته الأعور والكذاب، ألا إنه أعور وإن ربّكم ليس بأعور) وأخرج مسلم نحوه (8 / 195).

جميع مفرداته بما فيه من مادة وروح ويعطي لكل زاوية حقها الأصيل: (وإنّ ربكم ليس بأعور)، بل إنّ ربي على صراطٍ مستقيم [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](الأنعام:153).والدجال كافر لأنهّ يعبد المادة والمصالح ولا يعبد الله ولا يطيعه ولا يلتفت إليه ويطيع شهوات النفس [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ](الجاثية: 23-24)، وهذا بعينه ما يقوله الغرب، فلا وجود ولا اعتبار للآخرة في حياتهم، وإنمّا خلقنا لنتمتع ولنعبَّ من الشهوات أكبر قدر ممكن ولو على حساب كلّ القيم والمثل التي تليق بالإنسان، لذلك فهم يعادون الإسلام وبعيدون عن الحق والصواب، لانّ الإسلام يحاسبهم ويمنع من ممارساتهم الخاطئة ويدعو إلى مواجهتهم.

معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين:

في الحديث: (مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب)(1)، فإن هذه الكتابة ليست من جنس الكتابة، وإنمّا هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين ونفاقهم، وهذا لا يتوقف عن كون الإنسان قارئاً

ص: 388


1- البخاري (9 / 76) وصحيح مسلم (8 / 195) راجع تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص512.

وكاتباً أولم يكن، ومن المعلوم اختصاص هذه المعرفة بالمؤمنين (يقرأه كلّ مؤمن)؛ لأنهّم يعرفون الميزان الحقيقي العادل لتقييم الناس، وأمّا المنحرفون فهم لا يقرأون هذه الكتابة وإن كانوا على درجة كبيرة من الثقافة؛ لأنهّم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف، ومن الطبيعي ألاَّ يرى الفرد أخاه في العقيدة كافراً. وأنت تجد اليوم كلّ مؤمن بالله والمثل الإنسانية العليا وإن لم يكن مسلماً يشمئز من ظلم أمريكا والكيان الصهيوني ويستهجن استعلائهم وعنجهيتهم واستهتارهم بهذه القيم، حتى إنّ العشرات من مفكري ومثقفي أمريكا وقّعوا وثيقة أرسلوها إلى نظرائهم الأوربيين اعترضوا فيها على وصف الحرب التي أعلنتها أمريكا ضد ما يسمى بالإرهاب بالعادلة، وأنّ من يعادي الولايات المتحدة هو محور الشر، وطالبوهم بعدم الخشية من إعلان مثل هذا الرأي خوفاً من إلصاق تهمة الشر بهم(1).

وفي مقابل ذلك يوجد من أعمته المادة كالمفكر __ حسب ما يصفونه __ البريطاني كوفر الذي يُعد من أشد المساندين لسياسة رئيس الحكومة البريطانية بلير، يقسّم في مقال بثّه عبر الإنترنت العالم المعاصر إلى متحضر ومتخلف، ويدعو إلى تطبيق القانون على الأول فقط، أما الثاني فتطبق بحقه شريعة الغاب والعنف والاستعباد لأنهّم خطر على العالم المتحضر(2)، فأين هذا من مبدأ الإسلام: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](الأنبياء:107) من دون استثناء.ر.

ص: 389


1- من أخبار الإذاعات يوم 10 / 4 / 2002.
2- نفس المصدر.

الحوزة تحذر من الوقوع في فتنة الغرب الكافر:

ومن أجل هذه الخصائص الخطيرة للدجال التي قلّ من ينجو من الوقوع في فخوخها حذّر النبي (صلی الله علیه و آله) أمته منه واستعاذ من فتنته لأجل أن يأخذ المسلمون حذرهم على مدى التأريخ من النفاق والانحراف والمادية، بل قد حذّر كلّ الأنبياء (ع) أممهم من فتنة الدجال لما سبق أن فهمنا أنّ المادية السابقة على الظهور هي من أعقد وأعمق الماديات على مدى التأريخ البشري (ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة)، وتشكل خطراً حقيقياً على كلّ الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين (ع)، ونحن بدورنا نحذّر من الوقوع في شراك الحضارة الزائفة التي يدعيها الغرب، ويخفي في داخلها السم الزعاف.

وأدعو الذين انبهروا بهم فقلدوهم في أفكارهم وسلوكياتهم ونظرتهم للحياة حتى عادوا يتباهون بهذه التبعية ويتبجحون بها، وأخص بالذكر أساتذة الجامعات والمثقفين والشباب، وأطلب منهم أن لا ينخدعوا بالظاهر، بل لينظروا بعين البصيرة؛ فإنهّم نخبة المجتمع والقادرون على توجيهه، وأنا لا أقول بالتقاطع التام مع الغرب لأنّ عندهم ما هو نافع كالعلم والتكنولوجيا، ولكن لا يلزم من ذلك التبعية الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية، فإن عندنا شريعة وضعها خالق البشر والعالم بما يصلحهم والقادر على إسعاد البشرية في كلّ زمان ومكان، فقد جاء الذكر الحكيم: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ](الأعراف:96).

وأذكر لكم مثالاً التقطته من الإذاعات قبل أشهر – للدكتور عبد اللطيف

ص: 390

المر، استشاري الصحة العامة في دولة الكويت في برنامج بتأريخ 20/ 7/ 2002م – بمناسبة إعلان أمريكا حرباً عامة ضد السمنة وقد ظهرت الإحصائيات التالية: (من 90 مليون مصاب أي ثلث عدد السكان، 300 ألف يموتون بسبب مرض القلب الناشئ من السمنة فقط، إن السمنة سبب لسرطان القولون وهو في النساء أكثر من الرجال، وإنه سبب لمرض السكر وهكذا) وكانت نصائحهم: تقنين الغذاء كيفاً (بالاهتمام بالفواكه والخضراوات وتقليل الدهون) وكماً __ زيادة الحركة __ وهذه قد جاء بها القرآن منذ 1400 عام بنصف سطر بقوله تعالى: [كلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا](الأعراف:31)، وفرض حركات رياضية تؤدى (17) مرة يومياً وموزعة بانتظام على الوقت، وهي ركعات الصلاة المفروضة مضافاً إلى المستحبة، وفرض صوم في السنة شهراً لتنظيم عمل المعدة وإصلاح أي خلل حصل في طول العام، هذا غير النصائح الأخرى، ك_(المعدة بيت الداء، والحمية رأس كلّ دواء) وقوله (صلی الله علیه و آله): (فإن كان ولا بد فثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنَفَسِكَ)، وهكذا فلو اتبعنا تعاليم الإسلام لوفرنا الكثير من الجهد والمال والتجارب والإحصاءات.

الدجال حقير أمام الحق:

وهو أي الأعور الدجال رمز الحضارة الغربية بالرغم من ذلك كلّه (أهون على الله من ذلك)(1)، باعتباره حقيراً أمام الحق والعدل مهما كانت هيمنته

ص: 391


1- إشارة إلى ما أخرجه الصحيحان (البخاري 9 / 174، مسلم 8 / 200) عن المغيرة بن شعبة: (ما سأل أحدٌ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: ما يضرّك منه؟ قلت: لأنهم يقولون أن معه جبل خبز ونهر ماء، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): هو أهون على الله من ذلك) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: 490.

الدنيوية وسعة سلطته، وليس وجوده قدراً قهرياً أو أثراً تكوينياً اضطرارياً، وإنمّا وجد من أجل التمحيص والاختبار بالتخطيط الإلهي العام، وسوف يزول عندما يقتضي هذا التخطيط زواله عند الظهور وتطبيق يوم العدل الموعود.ومن هنا نفهم أنهّ لا تعارض بين الخبر الدال على إنّ معه جبل خبز ونهر ماء، والخبر الدال على إنّه أهون على الله من ذلك، فإن هوانه عند الله لا ينافي حصوله على السلطة والإغراء أخذاً بقانون التمحيص والإمهال الإلهي طبقاً لقوله تعالى: [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ](يونس:24)، وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ](الأعراف:94-95)، وقال تعالى: [وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] (آل عمران:178).

أهمية العلامات:

وأعود الآن إلى ما بدأنا منه وهو التقليل من أهمية العلامات، ولا أريد أن يفهم من ذلك إلغاء دورها وإلا لماذا ركز عليها المعصومون (علیهم السلام) بهذه

ص: 392

الكثرة من الأحاديث، فتبقى لها أهميتها من عدد جهات:1 __ إنهّا تشكل محطات لتجديد الأمل وبعث الروح في نفوس المظلومين والمستضعفين وكلّ من ينشد بسط العدل والحرية في جميع الأرض.

2 __ إنهّا تمثل جانباً إعجازياً للمعصومين (علیهم السلام) حيث إنهّا كانت في حين صدورها إخباراً عن الغيب، فتحققها يثبت أنّ مصدرها من الله تعالى(1).

3 __ إنهّا تدفع المؤمنين بالإمام (علیه السلام) والساعين إلى نصرته أن يضاعفوا الهمة في الاستعداد للظهور سواء على صعيد بناء النفس أو إصلاح المجتمع، وتشحذ من عزمهم في هذا الاتجاه، فإنهّ المعنى الحقيقي لانتظار الإمام وترقب ظهوره المبارك.

4 __ إنّ بعض العلامات تدخل في ضمن الشروط كفتنة الدجال، فإنهّا مرحلة مهمة من مراحل التمحيص والغربلة التي وعدت بها الروايات، كقول الإمام الصادق (علیه السلام): (إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس، ولا والله حتى تُمَيزوا، ولا والله لا يأتيكم حتى تُمَحصوا، لا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد)(2).ه.

ص: 393


1- لذا فهي من مصاديق قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة البقرة: 3.
2- المصدر: ص260 ويمكن أن يضاف إن هذه العلامات تكون موضع بحث ودراسة ونقاش من قبل المهتمين بظهور الإمام (عليه السلام) مما يؤدي إلى طرح نظريات كثيرة كلها تسهم بشكل أو بآخر في تسليط الضوء على الإمام (عليه السلام) ودوام ذكره.

الكثير من العلامات مرتبطة بالظلم:

كما إنّ الكثير من العلامات مرتبطة بالظلم والانحراف الذي يسود البشرية قبل الظهور، فكثرة الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية هي بسبب سوء سلوك الناس: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ](الروم:41) لأن الكون خاضع لسنن إلهية ثابتة قائمة على أساس التوحيد ويرتبط بعضها ببعض خيراً وشراً كما مرّ في الآية السابقة: [ولو أن أهل القرى...].

وقد لا تقتنع بهذا الربط فأنقل لك من الوقائع الحالية ما يثبت هذه العلاقة، ففي شهر آب 2002م اجتاحت موجة من الفيضانات بعض دول أوربا (ألمانيا، النمسا، جيكوسلفاكيا) واستمرت أياماً، وفي كلّ يوم كان يتوقع الأسوأ، ففي شرق ألمانيا فقط(1) (15 قتيل، 30 ألف مشرد، ارتفاع منسوب المياه في النهر في درسدن العاصمة الثقافية والتأريخية لشرق ألمانيا إلى (9،5) متراً في حين أن معدله عند الارتفاع 5 إلى 6 متراً).

ولم تشهد أوربا مثل هذه الموجة منذ 150 عاماً، ويلقون باللوم على أمريكا التي لم توقع على معاهدة كيوتو للمحافظة على البيئة لدرء خطر الاحتباس الحراري عند تشغيل المعامل كلّها سوية، وهذا الاحتباس زاد من درجة الحرارة فأدى إلى زيادة ذوبان الجليد وغزارة الأمطار فحدث ما حدث، وهذا شاهد على اختلال التوازن الطبيعي بسوء تصرف الإنسان، وقد وقفت أعتى تكنولوجيتهم عاجزة __ كما يعترفون __ أمام هذه الكوارث الطبيعية.

ص: 394


1- أخبار يوم 17 / 8 / 2002.

فيوجد إذن ارتباط وتسلسل علل ومعلولات، يبدأ الناس بعصيان أوامر الله والخروج عن شريعته ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر وإحدى نتائج ترك هذه الفريضة تسلّط الأشرار(1) الذي لا يعرفون غير أنانيتهم ومصالحهم فيفسدون النظام الجاري في الطبيعة فتحصل الكوارث. وعلى العكس فيما لو ساد البشرية العدل فسيؤدي كلّ عنصر في هذا الكون وظيفته على أتم ما يكون، وتنعم الدنيا كلّها بثماره الطيبة.أما عدّها من العلامات دون الشروط فلوجهين:

1 __ إنّ الروايات نظرت إليها بهذا اللحاظ أي الكشف والدلالة عن الظهور.

2 __ إنّها ليست واقعة في علل الظهور، بل هي من نتائج ومعلولات بعض علل الظهور.

ولا استبعد(2) أن تكون هذه الفتنة التي أطلّت على مجتمعاتنا الإسلامية وبلدنا بالذات هي التي قصدها الإمام المهدي (علیه السلام) في رسالته الأولى إلى الشيخ المفيد (قدس سره)(3) وبيّن خلالها تكليف شيعته إجمالا، فقد جاء فيها: (فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على إنتياشكم __ أي إنقاذكم __ من فتنة قد أنافت __ أي أطلت وارتفعت __ عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله __ أي قرب __ ويُحمى3.

ص: 395


1- بمثل هذه الإشارات والتوجيهات العملية كان سماحة الشيخ ينتقد السلطة الحاكمة وكل الأنظمة الطاغوتية.
2- عقب هذا التوقع بدأت قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكا احتلال العراق عام 2003 وكانت فاتحة فتن وحروب طائفية وصراعات سياسية وتدخلات أجنبية، حرس الله المؤمنين بعينه التي لا تنام.
3- الاحتجاج: 2 / 323.

عنها من أدرك أمله، وهي إمارة لأزوف __ أي اقتراب __ حركتنا ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون. اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية __ إلى أن يقول (ع) __ فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته).

وصية الإمام (عليه السلام) إلى شيعته:

وإذا أردنا أن نترجم هذه الرسالة إلى وصايا وتكاليف من الإمام (علیه السلام) إلى شيعته استخلصنا النقاط التالية:

1 __ تذكر الإمام (علیه السلام) دائماً(1) والدعاء له بالتأييد والنصرة والحفظ والتوسل به في طلب كلّ الحوائج(2) وترقب ظهوره (ع).

2 __ أن يكون المسلم على مستوى ما يريده الإمام (علیه السلام) منه من الالتزام بالشريعة والأخلاق الفاضلة والآداب السامية والعقائد الصحيحة في ضوء ما وردنا عن المعصومين (علیهم السلام) حتى يفخر بكم إمامكم، ويقول: هؤلاء شيعتنا المتأدبون بأدبنا وكما أوصاكم الإمام الصادق (علیه السلام): (كونوا لنا زيناً ولا

ص: 396


1- هل فكرت أثناء زياراتك أن تصلي للإمام (عليه السلام) ركعتين أو تتصدق لحفظ الإمام (عليه السلام)؟ فنحن الذين غيبنا الإمام عن أفكارنا وأذهاننا مع العلم نحن نعيش بحفظه ودعائه.
2- وقد تعلمت أنا شخصياً أني كلما استعصى عليّ أمر اندب الإمام بقول: (يا أبا صالح المهدي أدركني) فيساعدني في قضائها بإذن الله تعالى.

تكونوا علينا شيناً)، وقد خصصنا الشكوى الأولى(1) لبيان صفات المسلم الحق التي هي صفات أنصار الإمام (علیه السلام).3 __ التمسك بالحوزة الشريفة ممثلة بعلمائها وفضلائها الواعين المخلصين الذين لا يصدونكم عن هدى ولا يوردونكم الردى، فإنهّم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل (ع) والأدلاء إلى طاعة الله تعالى، وهم امتداد أهل بيت العصمة (ع) الذين وصفهم الإمام السجاد (علیه السلام) بأنهم (المتقدَّم لهم مارق والمتأخَّر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)، فكونوا ملازمين لهم مطيعين، ولا تعرضوا عنهم وتخلفوهم وراء ظهوركم فتهلكوا، ولا تنساقوا وراء أهوائكم، فتنشغلون بالتفتيش عن عيوبهم ونقائصهم مادام خطهم العام هو حفظ الدين وهداية الناس وإصلاحهم.

4 __ رفض التبعية للغرب والمحافظة على شخصيتنا الأصيلة بكلّ عناصرها، سواء في المظهر، أو في العقيدة، أو في الفكر والثقافة، والنظر إلى ما يأتينا منه بعين البصيرة، والالتفات إلى قبائحه ومساوئه والأمراض النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تعصف بمجتمعاتهم، وستأتي على بنيانهم من القواعد عمّا قريب ما لم يعودوا إلى طريق الصواب، الذي بدأت الدعوات من مثقفيهم ومفكريهم تتصاعد بالمطالبة به إلا أنهّا لا تجد آذاناً صاغية بسبب طغيان المادة وإضلال المضلين واتباع الشهوات.).

ص: 397


1- محاضرة 13 / رجب / 1423ه_ في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام).

5 __ العمل على حفظ وحدة المجتمع(1)، والوقوف في وجه من يشق عصا المسلمين ويلقي بينهم بذور الخلاف، قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ](آل عمران:103).

6 __ الغيرة على الدين، وعلى حرمات الله، وأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد آلمني ما سمعت من إن الإفطار كان علنياً وبوضوح داخل الجامعات في شهر رمضان المنقضي من دون أن يتصدى المؤمنون لردعهم، ولو قاموا جميعاً بوظيفتهم هذه لأوجدوا زخماً اجتماعياً(2) لا يستطيع أولئك الأشقياء معه أن ينتهكوا حرمات الله في هذا الشهر العظيم.

مسؤولية الحوزة:

فهذه بعض وظائف المجتمع وهناك مسؤوليات على الحوزة الشريفة أيضاً منها:

ص: 398


1- بنبذ نقاط الاختلاف التي لا يخلو دين او مذهب منها والتركيز على نقاط الاشتراك فأعدائنا بالرغم من وجود نقاط اختلاف كثيرة فيما بينهم إلا انهم قد اجتمعوا على محاربة الإسلام فلماذا إذن لا نجتمع نحن على محاربتهم؟!
2- فكم هو جميل أن تتظافر الجهود وتتحد القوى في القضاء على المعصية وكم سيكون صوت الحق قويا وكم سيكون الباطل ضعيفا منبوذا، وتستطيع ان تلمس ذلك من خلال المواقف التي مرت بك عندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ويوجد من هو بجانبك ويضم صوته إلى صوتك وعلى العكس فيما لو كان صوتك وحيدا بين عدد كبير من الناس.

أ __ بيان عظمة الإسلام في عقائده وتشريعاته وآدابه، وإبراز نقاط القوة فيه، ونفي الشبهات، والدفاع عنه، وكونوا من أهل هذا الحديث الذي مضمونه: (إنّ لهذا الدين في كلّ خلف رجال ينفون عنه شبهات المبطلين).

ب __ العمل على تربية الأمة وتهذيبها وتثقيفها وتوجيهها نحو طاعة الله بتكثير فرص الطاعة أمامهم، وتقليل فرص المعصية، واتخاذ شتى الأساليب والوسائل في هذا السبيل.

ج __ تجسيد واقع الإسلام في حياتهم حتى يكونوا أسوة حسنة تقتدي الناس بأفعالهم قبل أقوالهم.

ونقاط كثيرة قد أشرت إلى بعضها في محاضرات سابقة، وربما سنحت الفرصة لغيرها في المستقبل بإذن الله تعالى.

أسأل الله جلت آلاءه أن يفيض علينا من ألطافة ما يبلّغنا بها غاية رضاه، وأن يسدّد خطانا جميعاً ببركة سيدنا ومولانا صاحب العصر أرواحنا له الفداء، إنهّ ولي النعم.

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 399

كلمة الحوزة العلمية بمناسبة الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية

اشارة

كلمة الحوزة العلمية بمناسبة الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله تعالى على رسوله وآله الطاهرين.

يحتفل الأخوة المسيحيون وغيرهم في مثل هذه الأيام بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية، ويعبّرون عن فرحهم باحتفالات صاخبة تتضمن الكثير من المعاصي والموبقات الكبيرة والأفعال الجنونية التي لا يجد لها العقلاء مبرراً، ولم يقف أحد وقفة تأمّل ليرى هل أن هذه المظاهر تعبير صحيح عن الفرح في هذه المناسبة؟ وما هي المشاعر الحقيقية التي يجب أن تغمرنا ونحن نعيش هذه الذكريات المرتبطة بواحدٍ من أعظم البشر على الإطلاق، النبي الكريم والرسول العظيم، وأحد أولي العزم الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريم محمداً (صلی الله علیه و آله) أن يتأسى بهم قال تعالى في حقه (ع): [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ](الأحقاف:35).

الأمور التي يجب الالتفات لها:

لذا وجب الالتفات إلى عدة نقاط:

ص: 400


1- محاضرتان ألقيتا بتأريخ 1- 2/ذي القعدة/1423 ه_ المصادف 5- 6 / 1 / 2003م في مسجد الرأس الشريف على حشد كبير من طلبة العلوم الدينية.

النقطة الأولى: إنّ إتيان المعاصي والمنكرات أمر مرفوض دائماً تعاقب عليه الشرائع ويستهجنه العقلاء، فليس جزاء من أحسن إليك وأغدق عليك النعم حتى فاقت حدّ الإحصاء، كما في قوله تعالى: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تحْصُوهَا](النحل:18) ويكفي أن تتخيّل صعوبة فقدان نعمة واحدة(1) من التي حباك الله بها لتحس بعظمتها.أقول: فليس جزاءه أن تعصيه وبنفس النعم التي منّ بها عليك، قال تعالى مؤنّباً ومعاتباً: [هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ](الرحمن:60-61)، فالمرجو من الإنسان العاقل أن يشكر الله على نعمته بطاعته ومحبته، والعمل بما يرضيه وتجنب ما يسخطه، وأولها ديمومة النعم وزيادتها (بالشكر تدوم النعم)، وقال تعالى: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُم](إبراهيم:7)، ويوم رأس السنة من مواطن الشكر حيث أطال الله عمر هذا (المحتفل) وأبقاه إلى سنة جديدة ليعطيه فرصة إضافية للتوبة والعودة للطاعة، وزيادة القرب من الله تعالى، ولم يكن ممن اختطفهم الأجل خلال العام المنقضي وانسدّ عليهم هذا الباب، ففي الحديث: (إذا مات المرء فقد قامت قيامته)؛ لأنّ فرصته للعمل وكسب الحسنات قد انتهت وختم على كتابه قال تعالى: [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ](الجاثية:29)، فهل يكون الجزاء العصيان والتمرد؟ وإلى أمثال هؤلاء يشير القرآن الكريم: [أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ](إبراهيم:28-29).ن.

ص: 401


1- كنعمة الصحة والأمان.

والمعاصي التي تُرتكب في ليلة رأس السنة تفوق كلّ الليالي والأيام ويُعدّ لها منذ مدة إعداداً شيطانياً محكماً لا يُبقي للعقل أي وجود، ويبقى الإنسان المخدوع أسير شهوته وأهوائه لا يستطيع النجاة من فخوخ شياطين الإنس والجن.

كيف يجب أن تكون مشاعرنا:

إنّ مشاعرنا ونحن نستقبل سنة جديدة يجب أن تكون مزيجاً من اتجاهين:

الأول: توجّس وقلق من حساب الله تعالى على ما صدر منّا من أعمال خلال العام الماضي، وقد ذهبت لذّته، وبقيت تبعته وعقابه، وقد نسيه العبد لغفلته، ولكن الله أحصاه وأحاط به، ولن يغفل عنه ويأتي اليوم الذي يحاسبه فيه على كلّ ما قدم.

الثاني: التفاؤل والأمل وحسن الظن بالله تعالى أن يلطف بنا ويوفقنا ويأخذ بأيدينا في العام الجديد ليجعله خيراً من العام الماضي، فيجنّبنا فيه المعاصي ويزيدنا من الطاعات قدر الإمكان انطلاقاً من الحديث الشريف: (من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو ملعون).

فإن كلّ سنة تمثل سجلاً وكتاباً يضم صحائف أعماله، وفي مثل ليلة رأس السنة يطوى سجل ويفتح سجل، يطوى سجل العام الماضي ويختم عليه بما فيه __ وما أدراك ما فيه __ ليعرض يوم النشور ويُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، قال تعالى: [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا

ص: 402

حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً](الكهف:49)، ويفتح سجل للعام اللاحق بصحائف بيضاء؛ فبماذا سيملؤها هذا الإنسان المسكين؟ هل سيعود إلى نفس حياته السابقة أم أنهّ يثوب إلى رشده ويأخذ العبرة من الماضي؟ بالالتفات إلى أن زيادة كلّ ثانية ودقيقة إلى عمره يعني إعطاء فرصة إضافية للطاعة، فإن العمر رأس مال الإنسان يستطيع أن يستثمره في الطاعة، فيكسب رضا الله تبارك وتعالى والمنازل الرفيعة في الجنان، وصحبة خير خلق الله أو يقضيها بالمعاصي فيجرّ إلى نفسه عذاب الجحيم، وهذه الفرصة الإضافية التي تعطى للإنسان كالطالب الذي يُعطى حظاً ثانياً في امتحانات الدور الثاني لعلّه ينجح(1)، فهل يُعقل منه أن يعود إلى نفس التقصير والإهمال وهو يعلم الكارثة التي تترتب على السقوط والفشل؟!.

وأرى من المناسب أن أعظ نفسي وأعظكم بنقل هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة كما يعرضه القرآن الكريم، وهو عبارة عن محكمة إلهية يقف فيها المذنب __ وهم هؤلاء الذين قضوا حياتهم بالمعاصي والموبقات __ وأمامه الشهود وهم نفس أعضائه التي مارس بها تلك المعاصي لكي لا يستكبر وينكر، ثمّ يُصدر عليه الحكم العادل الذي جناه هو على نفسه، قال تعالى: [حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون ،وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْم.

ص: 403


1- أليس هذا فضلاً من إدارة المدرسة ولطفاً منها لتستطيع أن تعوض ما ضيعته في الدور الأول، وهكذا نحن إذا لم نستطيع أن نحصل على درجات رفيعة سنة 2002م، فلنسعَ للحصول عليها سنة 2003م.

أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون ، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فإن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ،وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ](فصلت:20-25).هذه هي المشاعر التي يجب أن نحياها في ليلة رأس السنة، لا ما يفعله هؤلاء الغافلون السادرون في أودية الغي تسوقهم شياطين الإنس والجن أنىّ يشاءون، فيهدوهم إلى عذاب السعير.

المطلوب محاسبة النفس كل ليلة:

وفي الحقيقة فإن المطلوب أن نحاسب أنفسنا في كلّ ليلة(1)؛ حيث نختلي بأنفسنا مع خالقنا ونستعيد ما صدر منا خلال اليوم، فما كان من حسنة استزدنا الله منها وسألناه القبول ومضاعفة الأجر، وما كان من سيئة استغفرناه منها وعاهدناه تبارك وتعالى على عدم العود، وإذا تعلق بمظالم العباد استعنّاه على رد الظلامات إلى أهلها، وما كان من تقصير في عمل صالح سألناه المعونة والتوفيق والتسديد، فلقد جاء عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: (ليس منّا من لم

ص: 404


1- وذلك لأن الإنسان معرض للنسيان فإذا ما أهمل محاسبة نفسه فستفوته فرصة قد تنجيه من عذاب أليم ولهذا حرص أهل البيت (عليهم السلام) على أن يربوّا أصحابهم على محاسبة النفس كلّ يوم.

يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(1)، وأيضاً من وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رضي الله عنه) إنهّ قال: (يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب؛ فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية __ إلى أن قال __ يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشّد من محاسبة الشريك شريكه؛ فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أمن حلالٍ أو من حرام؟ يا أبا ذر، من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع) قال: (ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فافعل فيَّ خيراً واعمل فيَّ خيراً أشهد لك يوم القيامة فإنك لن تراني بعدها أبداً)(3)، وهذه المحاسبة تكون في نهاية السنة أشمل وأوسع كما يفعل الإعلاميون حين يصدرون ملفاً بأهم الأحداث السياسية أو الرياضية أو الاجتماعية التي شهدها العام المنقضي، وعلى كلّ واحد منّا أن يُراجع ملف أعماله في نهاية العام.

الموعظة ليست للمسلمين فقط:

وهذه الموعظة لا أوجهها للمسلمين فقط، بل للاخوة المسيحيين، بل وحتى

ص: 405


1- بحار الأنوار: 68 / 259، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 96، ح7.
3- بحار الأنوار: 7 / 325، 20.

غيرهم، فقد أدّبنا الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) أن نضمر الخير والرحمة ونسعى لتحقيقه لجميع البشر، قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](الأنبياء:107)، فبركته (صلی الله علیه و آله) لجميع الإنسانية، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يوصي مالك الأشتر بجميع رعيته حينما ولاّه مصر: (فالناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) لأنّ البشر جميعاً سيقومون للحساب يوم القيامة، ويُسألون عن أعمالهم، فلقد جاء في الذكر الحكيم: [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً](مريم:71-72)، فنحن نريد لهم النجاة، وقال تعالى: [وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً](النساء:60) فقد غرّر بهم الكثير من أحبارهم ورهبانهم، وزيّنوا لهم المعاصي، وأحلوا لهم الحرام وحرّموا الحلال، وبّدلوا شريعة الله، ثمّ أوهموهم بعقائد فاسدة كفداء السيد المسيح، وصكوك الغفران التي جرأتهم على العصيان، وقد حذّرهم الله تعالى من هذه الطاعة للذين اتخذوا الدين وسيلة لنيل الدنيا التافهة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ](التوبة:34)، وطاعة مثل هؤلاء شرك بالله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه](التوبة:31)، وقد فسّرها الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم(1) من حيث لاى.

ص: 406


1- والعبادة هي الطاعة والإتباع وقد تبعوا الرهبان ولم يتبعوا الله تعالى.

يشعرون)(1). وأعتقد أنّ كلّ مسيحي نقي القلب والسريرة يعرف بوضوح أنّ الكثير مما غضّ عنه رجال دينهم أنظارهم هي معاصي لله تبارك وتعالى، ويتساءل سيدنا الأستاذ (قدس سره) في بعض خطبه: هل كان السيد المسيح يشرب الخمر، أو يزني، أو يستبيح دماء البشر من أجل المصالح الشخصية وحب الأنا؟ أم هل كانت مريم العذراء ترتمي في أحضان الرجال وتمشي وسطهم خليعة متبرجة؟ فالمسيحي الصادق يقتدي بهؤلاء الأنقياء العظماء، ولا يجد دستوراً كاملاً للصفات الكريمة التي تلحق بهم إلا في الإسلام إذا أراد لنفسه النجاة.

علة تركيز الغرب الكافر على التأريخ الميلادي:

النقطة الثانية: لقد عوّدنا الغرب على تعظيم ما عنده وإعطائه هالة مقدسة، والتقليل من شأن ما عندنا ليرسخ فينا التبعية له حتى يسهل سلخنا من ديننا وأخلاقنا ومبادئنا، ومن ذلك تركيزه على التأريخ الميلادي وأنّه دقيق ومضبوط بعكس التأريخ الهجري.

وقد انخدع المسلمون بذلك وتركوا التأريخ الهجري والتزموا بالميلادي، وأضاعوا على أنفسهم الكثير من المناسبات الدينية والليالي والأيام الشريفة التي يتضاعف فيها العطاء الإلهي، وهم وإن لم يستطيعوا محوها فبقي شهر رمضان ويوم عاشوراء ومناسبات أخر ماثلة في الأذهان إلا إنّ الخسارة بهذا الإهمال للتأريخ الهجري __ الذي ما زال راسخاً __ كانت كبيرة رغم إنّ الحقيقة هي

ص: 407


1- الميزان في تفسير القرآن: 9 / 254، عن الكافي.

عكس ما أوهمونا، فإن التأريخ الهجري هو المضبوط الدقيق.فإن بداية اليوم عندهم هي الساعة الثانية عشرة ليلاً وهو لا معنى له، بينما اليوم الشرعي عندنا يبدأ بطلوع الفجر أو الشمس وينتهي بغروبها، وهو شيء له معنى، كما أن بدايات الشهور عندنا مرتبطة بظاهرة فلكية واضحة، وهي ولادة الهلال، أمّا عندهم فغير مرتبطة بشيء وإنمّا هي خاضعة لحسابات واعتبارات؛ لذا وقعت تعديلات كثيرة منها على التأريخ حينما يكتشفون خطأ تأريخهم كما لو لم يصادف يوم الاعتدال الربيعي الحادي والعشرين من آذار (وفي سنة 1263 قام روجر باكون بكتابة رسالة إلى البابا كلمنت الرابع شارحاً فيها الوضع، وعلى كلّ حال لم يتم السيطرة على تلك المشكلة إلا بعد مرور ثلاثة قرون، وكان ذلك في شهر تشرين الأول عام 1582م، فقد تمّ إسقاط عشرة أيام بجعل الخامس منه الخامس عشر منه وسُمِح هذا التغيير للاعتدال الربيعي عام 1582م، أن يصادف الحادي والعشرين من آذار)(1)، (وفي عام 1900م صادف الاعتدال الربيعي اليولياني في الثامن من الشهر، وبقي الحال على ما هو عليه حتّى قيام الحرب العالمية الأولى حينما تبنّى الاتحاد السوفيتي التقويم الكريكوري (بإسقاط 13 يوماً)، ومن المعتقد أن بعض الكنائس الأرثودوكسية بقيت متمسكة بالسنة اليوليانية؛ فبالنسبة لهم يكون عيد ميلاد المسيح في السادس من كانون الثاني، والذي يصادف في الخامس والعشرين من كانون الأول في التقويم اليولياني المعدل)(2).7.

ص: 408


1- المواقيت الإسلامية للدكتور محمد إلياس: 16.
2- المصدر السابق: 17.

ما هي الحقيقة التي يخفونها:

والذي أريد أن أُنبّه عليه إنّهم يخفون حقيقة يؤمنون بها جميعاً لكنّهم تواصوا على إخفائها حفظاً لهيبتهم، فإنّه لم يثبت أنّ السنة التي نحن فيها هي (2003م) منذ ميلاد السيد المسيح وإنمّا حدّد سنة مولد السيد المسيح كاهن سوري يدعى دونيسيس اكسكيوز سنة 532 للميلاد معتمداً على بيانات متفرقة، إذ لا يوجد في الإنجيل تأريخ ميلاد المسيح، ولم تصبح وجهة النظر هذه مقبولة إلا بعد مضي قرنين ونصف القرن، ولسوء الحظ فقد ثبت إن دونسيس كان خاطئاً في حساباته فعند البعض إنّه ولد قبل ذلك بأربع سنين، وعند بعض آخر بسبع عشرة سنة، ويعتقد كذلك أنّ تأريخ الميلاد (يوماً وشهراً) كذلك كان خاطئاً.

هناك شخصين مسميين بالمسيح:

ويذهب بعض المؤرخين - بسبب الحقائق التأريخية المتناقضة - إلى أنّ هناك شخصين مسميين بالمسيح: المسيح غير المصلوب والمسيح المصلوب، وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون، وأنّ التأريخ الميلادي المتداول لا ينطبق على واحد منهما، بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مائتين وخمسين سنة، وقد عاش نحواً من ستين سنة، والمسيح الثاني المصلوب يتأخر عنه بما يزيد على مائتين وتسعين سنة، وقد عاش نحواً من

ص: 409

ثلاث وثلاثين سنة(1)، وفسّر السيد الطباطبائي (قدس سره) قوله تعالى: [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ](النساء:157) بقوله: (وربما ذكر بعض محققي التأريخ إنّ القصص التأريخية المضبوطة فيه (ع) والحوادث المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسمّيين بالمسيح __ وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة __: المتقدَّم منهما محقَّ غير مقتول، والمتأخَّر منهما مبطل مصلوب، وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب)(2).ومن هذا يظهر أن التأريخ المسيحي غير صحيح لا سنة ولا شهراً ولا يوماً، وأنَّ توزيع الليل والنهار لا معنى له مقابل الدقة التي يبتني عليها الحساب الشرعي والمرتبط مباشرة بظواهر فلكية معلومة وواضحة للجميع، وهم لهم عدة تقاويم غير متطابقة، بينما نحن لنا تقويم واحد متّفق عليه ومما يساعد على ثبوته وعدم الاختلاف فيه اعتماده بوقت مبكر من تأريخ الإسلام في عهد الخليفة الثاني.3.

ص: 410


1- الميزان في تفسير القرآن: 3 / 314، وعلق (قدس سره) قائلاً: على أنّ عدم انطباق التأريخ الميلادي على ميلاد السيد المسيح في الجملة ممّا لم يسع النصارى إنكاره، وهو سكتة تأريخية وأرجع القارئ إلى قاموس الكتاب المقدس مادة (مسيح) ويذكر أحد الشواهد على ذلك ما ورد في كتاب في تأريخ البشر: أنّ رسالة كتبت سنة 62 ميلادية جاء فيها أنه سأل شيوخ ومعمري المدينة _ أي أورشليم فلم يعرفوا عنه شيئاً.
2- الميزان في تفسير القرآن 5 / 133.

فناء الأشخاص في شخص القائد:

النقطة الثالثة: إنّ ارتباط التأريخ المسيحي بميلاد السيد المسيح (ع) يعني فكرة حاول قادة الإسلام إزالتها من الأذهان وهي فناء الاتباع في شخص القائد وذاته لا في مبدأه وفكره الذي جاء به، والصحيح هو العكس؛ لأن الارتباط بذات القائد مهما كان القائد عظيماً __ كالرسل (ع) __ يؤدي إلى نتائج سلبية، عديدة، وتكون المشكلة أعظم لو لم يكن هذا القائد من المعصومين.

ومن الأخطاء التي تمخض عنها هذا التقديس للذات: التأليه؛ وهذا تيه عظيم أدىّ إلى الضياع والانحراف لأنهّم ضيّعوا الرسالة التي جاءهم بها الرسول وذابوا في الشخص، لذلك كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) حريصاً على أن لا يقعوا في هذا الخطأ، فعندما دخل عليه رجل فأخذته هيبته (صلی الله علیه و آله) وارتعدت فرائصه قال له (صلی الله علیه و آله): (هوّن عليك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (لا يُعرف الحق بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله).

وقد أسّس القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى: [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (الزمر:65) وقال تعالى: [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](الحاقة:44-46) لذا لم يُسَمِّ أتباع النبي (صلی الله علیه و آله) بالمحمديين، وإنمّا سماهم المسلمين، قال تعالى: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ] (الحج:78). كما لم يذكر أتباع السيد المسيح باسم المسيحيين، بل النصارى في موارد عديدة من القرآن الكريم.

ص: 411

بداية التأريخ الإسلامي:

وكاد صحابة النبي (صلی الله علیه و آله) أن يقعوا في هذا الخطأ حينما اجتمعوا لوضع تأريخ لهم، فاقترح بعضهم أن يبدأوا من سنة ولادة النبي (صلی الله علیه و آله)، إلا أنّ أمير المؤمنين (صلی الله علیه و آله) أقنعهم بأن يبدأوا التأريخ من هجرة النبي (صلی الله علیه و آله)، من أجل أن لا يرتبطوا بشخص النبي (صلی الله علیه و آله) بل بالمبدأ الحق؛ لأن الهجرة بداية حقيقية لتأريخ الإسلام وانتصاره حيث حصلَ فيه المباينة الكاملة بين معسكر الحقّ ومعسكر الباطل الذي هو شرط مهم لتحقيق النصر، وبهذه المحاولة ربط أمير المؤمنين (علیه السلام) المسلمين بعقيدتهم ومبدأهم وصانهم من الوقوع في تأليه الذوات وتقديسها.

يوم الغدير أعظم عيد:

ولذا كان يوم الغدير أعظم عيد في الإسلام وبه تمام الرسالة؛ لأنهَّ يوم انتقال ولاية أمر المسلمين من القائد الشخصي وهو رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى القائد النوعي، أي كلّ من حمل صفات ومؤهّلات حامل الرسالة فحافظ على ديمومة الرسالة وحمايتها من الإنحراف، وكان يمكن أن تندثر لو ارتبطت بالشخص فمات أو قتل، فهذه فكرة مهمة يجب الالتفات إليها(1).

موجبات احتفالنا بذكرى السيد المسيح (عليه السلام):

النقطة الرابعة: اعتاد خطباؤنا __ جزاهم الله خير الجزاء وأيّدهم بتأييده __ أن

ص: 412


1- فأنقذ الناس من الارتباط بالحامل الشخصي وارتبطوا بالحامل النوعي لأنهم إذا ارتبطوا بالشخص فيمكن أن تندرس الرسالة بموت ذلك الشخص.

يحيوا المناسبات الدينية وذكريات المعصومين (علیهم السلام)، ومن يتعلق بهم من ذرّية وأصحاب، وهم بذلك يعظمون شعائر الله، قال تعالى: [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ](الحج:32)، وكلّ هذا صحيح وضروري لكننّي أراهم في غفلة تامة عن إحياء ذكرى السيد المسيح في ميلاده الشريف رغم وجود أكثر من مبرر لذلك غير ما ذكرنا منها:1 __ إنهّ من أعظم الرسل ومن أُولي العزم ومن أكرم خلق الله تعالى، وهو نبي رسول معصوم صاحب رسالة إلهية عظيمة، ومنشئ أمة كبيرة، وقد وصفه الله تعالى بأكرم الأوصاف وأشرفها فقد حبى السيدة مريم بنت عمران: [بكلمةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ]، [وَمِنَ الصَّالِحِينَ]، [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ]، ومؤيداً بروح القدس: [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ] (آل عمران: 45 __ 46 و 48)، [وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً]، (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً] [وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً](مريم 15، 31-32).

2 __ إن يوم مولده الشريف بما تضمن من معاجز وأسرار إلهية بل كلّ حياته (ع) من أيام الله التي أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بتذكير البشر بها، قال تعالى: [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ](إبراهيم:5)، وهي مما لا يمكن إنكارها، وقد ذكر القرآن الكريم عدّة منها كإحياء الموتى وإبراء ألأكمه والأبرص ونفخ الروح في الجمادات ونزول المائدة من السماء مما يوجه صفعة عظيمة إلى المادية التي آمن بها مدعو الانتساب إليه ونفوا كلّ ما وراء المادة(1).).

ص: 413


1- إذن فماذا تقولون بمعاجز نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم).

المواعظ والحكم في حياة المسيح (عليه السلام):

3 __ إنّ حياته الشريفة تضمنت الكثير من المواعظ والحكم والعبر والكلمات التي تحيي القلوب وتطهّر النفوس وتهب للبشرية السعادة والسلام، وقد نقلها لنا أئمتنا (ع) بصدق وأمانة، فمن دروسه (ع) في التواضع أنهّ قال لحوارييه: (لي إليكم حاجة اقضوها لي. قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله! فقام فغسل أقدامهم. فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله، فقال (علیه السلام): إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم؛ إنّما تواضعت هكذا لكي ما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى (ع): بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل)(1)، وقصته في توبيخ المعجب بنفسه حيث: (صحبه رجل في سيحه في البلاد ومشى معه على الماء لما قال: (بسم الله) بيقين، فدخله شيء من العجب وأن لا فرق بينه وبين عيسى (ع)، فرُمِس في الماء، ولما أخرجه عيسى (ع) قال له: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه، فمقتك الله على ما قلت، فتب إلى الله عزّ وجلّ مما قلت. قال الإمام الصادق (علیه السلام): فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتقوا الله ولا يحسدنّ بعضكم بعضاً)(2).

وأمثلته في تحقير الدنيا وفنائها وزوالها وخداعها مؤثرة في القلوب، وأمّا زهده فيصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) نبراس الزاهدين قائلاً: (وإن شئتَ قلتُ في

ص: 414


1- القلب السليم: 2 / 272، عن الكافي، باب صفة العلماء.
2- المصدر السابق: 2 / 155، عن الكافي، باب الحسد.

عيسى بن مريم (علیه السلام)؛ فلقد كان يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشِبْ، وكان إدامة الجوع وسراجه بالليل القمرَ، وظلاله في الشتاء مشارقُ الأرض ومغاربَها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجةٌ تفتنه ولا ولدٌ يَحزُنُه ولا مال يَلفِتُه ولا طَمعٌ يُذلُّه، دابته رجلاه وخادمه يداه)(1).4 __ إنهّ ممّن بشّر بالنبي (ع) وألقى الحجة على اتباعه، قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحمد فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ](الصف:6).

المسيح (عليه السلام) ناصر للإمام المهدي (عليه السلام):

5 __ إنّا نحن الإمامية بالذات نرتبط بالسيد المسيح (ع) برابطة إضافية؛ لكونه الناصر المدخر لليوم الموعود، وهو عنصر مهم في حركة الإمام (علیه السلام)، فالحديث عن السيد المسيح (ع) جزء من قضيتنا المصيرية أعني يوم الظهور المبارك، وهذا مما ذكرته مصادر الفريقين، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)(2)، وأخرج الصدوق في إكمال الدين عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): (القائم منّا منصور بالرعب.. إلى أن قال: وينزل روح الله عيسى بن

ص: 415


1- نهج البلاغة: 227، تحقيق صبحي الصالح.
2- وقد رواه الترمذي وابن ماجة راجع المصادر في تأريخ ما بعد الظهور: ص591.

مريم فيصلّي خلفه)(1).

ومدخليته في قضية الإمام (عليه السلام) من عدّة نواحٍ:

أ __ طول عمره الشريف؛ فإنهّ لم يُقتل ولم يُصلب، بل رفع إلى السماء ويبقى حياً إلى يوم الظهور، فحياته هذه السنين الطويلة حجّة على منكري غيبة الإمام وطول عمره.

ب __ إذعان الأمم المسيحية وتسليمهم للإمام (علیه السلام)، وهم يشكلون نسبة كبيرة من البشر (وذلك حين يثبت لهم بالحجّة الواضحة أنّه هو المسيح يسوع الناصري نفسه، وأنّ الإنجيل والتوراة إنمّا هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً، وأنّ ملكوت الله الذي بشر به هو في حياته الأولى على الأرض قد تحقق فعلاً متمثلاً بدولة العدل العالمية، ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور إلا ويؤمن به) كما هو المستفاد من قوله تعالى: [وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ](النساء:159).

ج_ __ إنهّ نتيجة للأمر الأول سوف يتيسر الفتح العالمي بدون قتال، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له، وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك مفصلاً وعرفنا أن الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري(2)، وهذا ما نرى بوادره اليوم حيث أتاحت شبكات الاتصال العالمية فرصة التعرف على عظمة الإسلام لكلّ البشر بيسر.

ص: 416


1- تأريخ ما بعد الظهور، للشهيد السيد محمد الصدر: ص595.
2- تأريخ ما بعد الظهور، للشهيد السيد محمد الصدر: ص595.

د __ تكفل المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) للقيادة في جانب، أو عدّة جوانب من الدولة العالمية، وتحمله مسؤوليتها كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة، أو تكفّل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض أو الدولة العالمية، فإن المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) وإن كان نبياً مرسلاً وليس الإمام المهدي (علیه السلام) كذلك غير أنّ القيادة العليا تبقى موكولةً إلى المهدي، وقد ذكر سيدنا الأستاذ (قدس سره) لذلك عدة وجوه فراجعها(1).

لماذا ادّخر المسيح (عليه السلام) دون سائر الأنبياء:

واختصاص السيد المسيح بهذا الادخار من دون سائر الأنبياء له سّر؛ إذ إنهّ يكشف عن إن المواجهة الرئيسية المهمة للإمام المهدي (علیه السلام) ستكون مع دول الغرب التي تدين للسيد المسيح (ع)، فيكون ظهوره وصلاته خلف الإمام (علیه السلام) حجّة ضدّهم ويجردهم من كلّ حق في هذه المواجهة، وعندئذٍ سيذعن المؤمنون منهم للإمام (علیه السلام) لوضوح حقّه (ع) وباطلهم وهو يكشف عن درجة من درجات الإيمان لدى المسيحيين، إذ أنهّم سيتبعون الحقّ عند اقتناعهم به.

أمّا اليهود الذين سيكونون المحرضّين لدول الغرب ويدفعون المسيحيين نحو المواجهة فإنهّم متمردون على نبيهم (ع) ولا يطيعونه، فلا ينفع بقاءه لليوم الموعود ويبدو أنهم يومئذ متحكمون في مصائر وشؤون حياة الدول المسيحية، وهذا ما نراه اليوم في تحكم اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية،

ص: 417


1- المصدر السابق: ص605.

قال تعالى في بيان الفرق بين اليهود والمسيحيين: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ،وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ](المائدة:82-86).وأعتقد أنّ كلّ مسيحي غير قاسي القلب يتفاعل مع هذا النص، كما تفاعل النجاشي ملك الحبشة مع المهاجرين الأوائل بقيادة جعفر بن أبي طالب ووفّر لهم الحماية والأمان في أرضه، وقال لهم: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، بعد أن قرأوا عليه سورة مريم.

مشاهد من عبثية الغرب:

النقطة الخامسة: إنّ الاحتفالات التي تجري بمناسبة رأس السنة تتضمن الكثير من التصرفات اللاعقلائية والأفعال الجنونية، وتؤدي إلى إهدار الكثير من الأموال وإلى أضرار كثيرة، كالألعاب النارية وصناعة الدمى الضخمة والزينة المفرطة، والغريب أنهّم يستهزئون بشعائرنا الدينية من صلاة وطواف بالبيت أو رمي الجمرات أو الشعائر الحسينية رغم ما فيها من معاني روحية سامية، وقد انخدع المنبهرون بالصورة الظاهرية اللماعة للغرب، وراحوا

ص: 418

يستنكرون هذه الشعائر، وقد عميت أبصارهم عن أفعال الغرب العابثة المجردة من كلّ معنى.وأذكر لكم نماذج من مهرجاناتهم وقد قلتها في مناسبة سابقة، ففي إيطاليا يقام (مهرجان البرتقال) حيث يتجمع آلاف الناس في الشوارع العامة وتدور عليهم عربة تجرّها الخيول من سنخ عربات العصور الوسطى وتوزع عليهم البرتقال، ثم تعود هذه العربة مرة أخرى وعلى ظهرها أبطال البرتقال وتنشب الحرب بينهم وبين الآلاف المتجمهرة حيث تشق العربة طريقها بينهم بصعوبة، وسلاح الفريقين البرتقال الذي يتراميان به بكلّ همَّة وجدية وكأنهّم يشيّدون بذلك معالم الحضارة التي يتشدقون بها، إنهّ الكفران العظيم بنعم الله تبارك وتعالى وعمّا قريب يخسر المبطلون.

وفي إسبانيا مهرجان سنوي تنطلق فيه الثيران المعدّة للمصارعة من مأواها إلى الملعب الذي يجري فيه السباق، وتخترق شوارع المدينة تعدو بسرعة ويركض بين أيديها وحولها الآلاف من الناس يضربونها وهي ترفسهم وتدوسهم بأرجلها وتمزقّهم بقرونها إلا من يستطيع الهرب والإفلات من بين أيديها، وتصبح شوارع المدينة ساحة حرب وقتال، أية همجية أوضح من هذه؟!

وفي اليابان سباق توضع فيه المئات بل الآلاف من شطائر الطعام على الموائد ويتبارى المتسابقون في ازدراد أكبر عدد ممكن فكانت بطن الفائز قد حصدت (64) شطيرة، فهل هذه الحيوانية من الحضارة؟.

هذا غير ما يفعلون في ملاعب الكرة من جنون وألعاب نارية ومشاجرات لا

ص: 419

تستطيع حتى الشرطة فضها وتزهق فيها النفوس وتتلف فيها الأموال، وألعاب أخرى يبتكرونها لا تجد نَظيرها إلا في شريعة الغاب، أفبعد كلّ هذا يأتي هؤلاء الصنائع للغرب ويتهكمون بشعائر الإسلام؟ لا لشيء إلا تنفيذ رغبات أسيادهم، فيصوّرون لنا بشاعة وهمجية الشعائر الحسينية حتى إذا تركناها شنّعوا على مناسك الحج، وهكذا يسلخوننا من إسلامنا شيئاً فشيئاً، يريدون منّا أن نأخذ ديننا من الأعداء فنفعل ما يريدون هم، وماذا يريدون هم؟ قال تعالى: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ](البقرة:120)، وقال تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ](البقرة: 109).وقبل أيام سمعتم بذلك الكاتب المصري وزوجته الدكتورة الذين يحملان الجنسية الأمريكية وقد استهزأ بمناسك الحج من على صفحات الجرائد، ولما حكم عليه بالسجن قامت قيامة منظمات ما يسمى بحقوق الإنسان للدفاع عنه، فاعتبروا يا أولي الألباب، وافهموا ماذا يراد بكم ومنكم.

خاتمة:

وفي الختام أقول: ليعلم المسلمون أنّ المسيح عيسى (ع) هو نبيّنا قبل أن يكون نبي هؤلاء الذين ينتسبون إليه، وهو منهم ومن أفعالهم براء؛ فإن المسيح (ع) ما عُرِف ولا كُرِّم ولا أعطي المقام الرفيع الذي يستحقه إلا في القرآن

ص: 420

الكريم والأحاديث الشريفة عن المعصومين (علیهم السلام)، أما هؤلاء (المسيحيون) بالاسم فقط فقد خالفوه في كلّ شيء، وهو أوّل خصم لهم يوم القيامة حين يجتمع معهم للحساب فيخاطبهم الله تبارك وتعالى بمحضر منهم: [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (المائدة:116-117)، فأين هؤلاء من أخلاقه وتعاليمه (ع)؟!!!.والحمد لله رب العالمين وصلّى الله تعالى على محمد وآله الطاهرين.

ص: 421

تفعيل دور المسجد في حياة الأمة من أدوات المواجهة مع الغرب

اشارة

تفعيل دور المسجد في حياة الأمة من أدوات المواجهة مع الغرب(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً والصلاة والسلام على النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً.

الأمور التي ينبغي الاهتمام بها ونحن نستقبل شهر رمضان:

كثيرة هي المواضيع التي يمكن أن نتحدث عنها ونحن نستقبل شهر رمضان:

منها: وظائف ومسؤوليات الحوزة الشريفة في هذا الشهر، كالوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام وقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم ومعالجة القضايا الفكرية والأخلاقية والاجتماعية التي تواجههم انطلاقاً من قوله تعالى: [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة:122)، وتوجد أمور وقضايا كثيرة يمكن أن يقدمها الحوزوي إلى المجتمع خلال شهر رمضان نبّهنا إلى خطوطها العريضة في محاضرات سابقة.

ص: 422


1- محاضرة ألقيت على حشد كبير من الفضلاء والمبلغين وطلبة العلوم الدينية في مسجد الرأس الشريف بتأريخ 24 / شعبان / 1423ه_ الموافق 21/ 10/ 2002م بمناسبة نهاية التحصيل الدراسي وقرب حلول شهر رمضان المبارك.

ومنها: بيان عظمة هذا الشهر الشريف وفضله واختصاص هذه الأمة المرحومة بهذه المنّة العظيمة، وما أعدّ الله للعاملين بطاعته بكلّ أشكالها من الكرامات، بل إنّ لكلّ يوم وليلة في شهر رمضان عطايا ومنحاً خاصة لا تعطى في غيره، فعلى المؤمن أن يكون حريصاً على الإتيان بالأعمال الصالحة في جميع أيام الشهر خصوصاً في الليالي الشريفة ومنها العشر الأواخر من الشهر.وتجد في كتاب (وسائل الشيعة: 10 / 243، كتاب الصوم ص:174، (أبواب أحكام شهر رمضان، باب 1، ح9) حديثاً تفصيلياً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ثواب كلّ يوم بخصوصه، ويقول فيه: (لو علمتم مالكم في شهر رمضان لزدتم لله تعالى ذكره شكراً) ثمّ فصّل (صلی الله علیه و آله) الكلام، وتضمنّت خطبته (صلی الله علیه و آله) في آخر جمعة من شعبان التي رواها أمير المؤمنين (علیه السلام) عدداً من المنح الإلهية في هذا الشهر(1).

ومنها: ما ينبغي أن يكون عليه الصائم من سلوك وآداب وصفات، فإن الصوم ليس فقط الامتناع عن الطعام والشراب، و إنمّا هو شعار لتربية متكاملة من جميع الجهات وهو ما يسمى بالصوم المعنوي(2)، وتوجد عدّة كتب في هذا المجال.

لذا حثّ الأئمة (علیهم السلام) أصحابهم على الاستعداد النفسي والروحي لهذا الشهر، روى أبو الصلت الهروي عبد السلام بن صالح قال: (دخلتُ على أبي).

ص: 423


1- الخطبة موجودة في مفاتيح الجنان ووسائل الشيعة: 10 / 243، ح9.
2- طبع كتيبان لاثنين من الفضلاء في الصوم المعنوي، والآداب المعنوية للصوم ضمن الإصدارات التي كان يشرف عليها ويروجها سماحة الشيخ (دام ظله).

الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) في آخر جمعة من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه(1)، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله عليك وأنت مخلص لله عزّ وجلّ، ولا تدعَّن أمانة في عنقك إلا أدّيتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت ترتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكّل عليه في سرائرك وعلانيتك، ومن يتوكل على الله فهو حسبُه إنّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكلّ شيء قدراً، وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر: (اللهّم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه) فإن الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان)(2).ومنها: التنبيه إلى ما يحصل من تصرفات وظواهر سلبية مخالفة لتعاليم الدين ولا تناسب المجتمع المتدين: كإضاعة الوقت الكثير في لعبة المحيبس، وإقامة المباريات، والمراهنات لها، وظاهرة (الماجينة) وما تتخلله من محرمات، وقضاء الليالي الشريفة في متابعة البرامج والمسلسلات التي تهدم الدين والأخلاق، وظاهرة الإفطار العلني في مطاعم المفاطير وغيرها، والخروج بعد الإفطار إلى أماكن التسكّع والاختلاط غير الشرعي وغيرها.

هذه المواضيع وغيرها يتناسب طرحها في مثل هذا اللقاء المبارك على6.

ص: 424


1- بل تقصيرك فيما مضى من السنة كلها ما بين شهر رمضان وشهر رمضان الآخر، فعلنا ما فعلنا فنحتاج إلى تأمل.
2- عيون أخبار الرضا: 1 / 56.

أعتاب شهر رمضان، لكنّي سوف لا أتحدث عنها لأنها مبيّنة بالتفصيل في كتاب (شهر رمضان والعيد بين تقاليد العرف وأحكام الشريعة)، وسأختار لهذا اللقاء موضوعاً هو:

شكوى المسجد:

شكوى المسجد(1): الذي ورد في الحديث الشريف عن الصادق (علیه السلام) قال: (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يقرأ فيه)(2)، ولهذا الاختيار مناشئ:

1 __ محاولة الخروج من عهدة هذه الشكوى وتجنّب خصومة المسجد؛ فإن من كان خصمه المسجد يكون موقفه عصيباً، وقد جربنا فيما سبق أننا حينما عرضنا (شكوى القرآن) تحرّك المجتمع والحوزة لرفع بعض التقصير عنه باتجاه القرآن بأشكال متعددة، كالالتزام بختمه مرتين على الأقل في السنة، وفتح دروس تعليم القرآن قراءة وتفسيراً، وانتشار المسابقات القرآنية، وبيان عظمة القرآن وأسراره وأثره في إصلاح النفس والمجتمع، واليوم نريد أن نحاول رفع بعض التقصير باتجاه المسجد.

ص: 425


1- عنوان كتاب مطبوع وقد لخصنا في هذه المحاضرة كثيراً من أفكاره، والتفصيل هناك فينبغي مراجعته.
2- الخصال: 1 / 142.

لماذا نعود إلى التقصير بعد انتهاء شهر رمضان:

2 __ إن شهر رمضان له تأثير كبير في تحفيز الناس إلى طاعة الله تعالى، ومن أشكال هذه الطاعة الحضور في المساجد وأداء صلاة الجماعة وغيرها من الشعائر الدينية، وتشهد المساجد نشاطاً ملحوظاً بحيث إنّ بعضها تقام فيه حتى صلاة الصبح جماعة، وهذا التوجه إيجابي بالتأكيد، ولكن لماذا نعود إلى التقصير بعد انتهاء شهر رمضان؟ وقد قلنا في محاضرة سابقة: إنّ صلاحنا وهدايتنا لا ينبغي أن تكون موجودة مادام المؤثر __ وهو هنا شهر رمضان __ موجوداً، فإذا زال المؤثر انتهى كلّ شيء، كذاك الشاعر الذي يقول:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ

أو ما نسمع من أن بعض النساء السافرات تتحجب في شهر رمضان فقط، أو شاب يترك العادة السرية في هذا الشهر فقط وغيرها، فمثل هذا التأثر بدواعي وأسباب الطاعة ناقص، ولا يكون ذا قيمة كاملة إلا إذا رسخ وتغير جوهر الإنسان وحقيقته به وأصبح ملكة راسخة، وإلا فإن مثل هذه المرأة التي تؤمن بوجوب الصوم، ولا تؤمن بحرمة السفور ستقع في التبعيض في الإيمان بالله الذي استنكره في القرآن الكريم: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ](البقرة:85). فلنستفد من تربية شهر رمضان لنا على قوة الإرادة وعلو الهمّة والعزم وقهر النفس الميالّة إلى اتباع الهوى والشهوات في غيره من الشهور، ولنحافظ على مكاسب هذا الشهر

ص: 426

العظيم(1).3 __ إنّ بلدنا وأمتنا يتعرضان لهجمة شرسة من أعداء الإنسانية والخير والعدل، وهم الصهاينة والأمريكان وذيولهما، ونحن إذا قايسنا إمكانياتنا المادية معهم فإن صفقتنا خاسرة بالتأكيد، فبماذا نواجههم؟ نواجههم بالإيمان الراسخ بالله والطاعة الكاملة لشريعته، فنحن إنمّا نكون أقوياء بالله تبارك وتعالى، ولا يكون الله معنا إلا إذا كنّا معه، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ](محمد:7).

العلاقة بين النصر على النفس والنصر على الأعداء:

والقرآن حريص على تثبيت هذه العلاقة بين النصر المادي على الأعداء الخارجيين والنصر المعنوي على النفس، وبالمقابل فإنهّ يُرجع سبب الهزيمة الخارجية إلى الهزيمة الداخلية أمام النفس والشيطان، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ](آل عمران:155)، فإنهم بسبب ما ارتكبوا من الذنوب والمعاصي استطاع الشيطان أن يجد منفذاً إليهم ويُضعف قدراتهم على المواجهة فكانت الهزيمة.

وأهم مظهر وشعار للعودة إلى الله تبارك وتعالى إعمار المساجد بصلاة

ص: 427


1- هذا واحد من ثمار شهر رمضان إنّك إن كانت لك القدرة على ترك المباحات وهي الطعام والشراب فمن باب أولى أن تكون منك الإرادة على ترك المحرمات، فلنستفد من هذا الشهر على تقوية الإرادة وتهذيب النفس المّيالة للشهوات.

الجماعة والدعاء والذكر والتوسل إليه تبارك وتعالى وإقامة الشعائر الدينية، فإن من كانت له حاجة عند أحد قصده إلى بيته ليقضيها له، والمساجد بيوت لله تبارك وتعالى، روي إنّ في التوراة مكتوباً: (إنّ بيوتي في الأرض المساجد فطوبى لمن تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي، وحقّ على المزور أن يكرم الزائر)(1)، فاقصدوه تبارك وتعالى ليدفع عنّا العدوان ويرفّع عنّا الحصار الظالم والجور، ولنأخذ درسنا من قوم يونس (ع)؛ فإنهم لما عادوا إلى الله تبارك وتعالى رفع عنهم البلاء [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ](يونس:98)، وقد جرّب المجتمع أنهّ كلمّا يقترب إلى الله تبارك وتعالى فإنه يحظى برحمة منه وبركات لم يكن يتصورها(2).ومما يثير السخرية ما نراه فيما يسمّونه بالمظاهرات التي تخرج للتنديد بالعدوان الأمريكي والصهيوني وهم يلبسون الملابس الأمريكية، ويستعملون البضائع الأمريكية، ويأخذون عاداتهم وتقاليدهم من الأفلام والمسلسلات الأمريكية، وينظّمون حياتهم على نمط الحياة الأمريكية ويسمّون أبنائهم بالأسماء الأمريكية، إنّ هذا من المضحك المبكي، ولا أريد أن أطيل فيه فله محل آخر، لكنّ محل الشاهد إنّ الردّ الحقيقي على العدوان يكون بالعودة إلى الله تبارك وتعالى وإعمار المساجد وحضور الجميع فيها.ً.

ص: 428


1- مستدرك الوسائل: 1 / 298.
2- ومن ثمار هذه الحركة المباركة زوال الطاغية المقبور صدام بعد ذلك بأشهر في نيسان/2003 وهو أمر كان ميئوساً منه في الحسابات الطبيعية إلا أن يشاء ربي شيئاً.

المعنى الحقيقي لأعمار المساجد:

ولو قرأنا حديث الشكوى آنف الذكر لوجدنا أنّ الإعمار المطلوب هو الإعمار المعنوي لها بطاعة الله تعالى بكلّ أشكال الطاعة؛ لأنهّا فسّرت الخراب بعدم صلاة أهله __ أي المنطقة السكنية التي تحيط به فيه __ بل إن نفس استعمال كلمة (خراب) يعني إنهّا مقابل الإعمار المعنوي، ولو أراد ما يقابل الإعمار المادي لاستعمل كلمة (الهدم)، وفي اللغة ما يشهد لذلك فنقول: بيت عامر أي بأهله وساكنيه مقابل بيت خراب أي خلا من ساكنيه وإن كان ماثلاً للعيان وليس منهدماً، لذا أعطى القرآن أوصافاً للذين يعمرون المساجد لا تجدها في الكثير ممن يبنون المساجد، قال تعالى: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ](التوبة:18).

حكم الذين يتسببون في تعطيل المساجد:

وحذّر بشدةٍ الذين يتسببون في تعطيل المساجد ومنعها من دورها الاجتماعي والديني، قال تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ](البقرة: 114). وعن الإمام الصادق (علیه السلام) في شكوى المسجد قال: (شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها فأوحى الله إليها: وعزّتي وجلالي لا قبلتُ لهم صلاة، ولا أظهرتُ لهم

ص: 429

في الناس عدالة، ولا نالتهم رحمتي، ولا جاوروني في جنتّي)(1).وقد وقف الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) موقفاً شديداً ممن كان يقاطع المسجد، أو لا يحضر صلاة الجمعة أو الجماعة، واستنكر ذلك منهم أشدّ الاستنكار، فعن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (ع)، قال: (اشترط رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جيران المسجد شهود الصلاة، وقال: لينتهيَّن أقوامٌ لا يشهدون الصلاة، أو لآمرنَّ مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم آمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي (علیه السلام) فليحرقَّن على أقوامٍ بيوتهم بحزم الحطب لأنهّم لا يأتون الصلاة)(2)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في قومٍ لا يحضرون الصلاة معه في المسجد: (ليحضرنَّ معنا صلاتنا جماعةً أو ليتحولّنَّ عنّا ولا يجاورونا ولا نجاورهم)(3)، ولا يسمح رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأيّ عذر يمكن علاجه عن الحضور إلى المسجد، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (همّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بإحراق قومٍ في منازلهم كانوا يصلّون في منازلهم ولا يصلّون الجماعة، فأتاه رجل أعمى فقال: أنا ضرير البصر، وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله): شُدَّ من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة)(4)، وأنا لا أريد أن أجعل الدافع إلى الحضور في المساجد هو الخوف من هذه التهديدات الإلهية فهذه عبادة العبيد، ونحن نريد أن نرقى بعبادتنا إلى عبادة الأحرار الذين يأتون9.

ص: 430


1- بحار الأنوار:80/ 348.
2- المصدر السابق: 85/ 8.
3- المصدر السابق: 14.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، باب2، ح9.

الأعمال لقناعتهم بأنّها حقّ وخير وكمال ولأنهم يحبون ما يحبه الله تبارك وتعالى، لا طمعاً في ثواب ولا خوفاً من عقاب.

فوائد الحضور إلى المسجد:

اشارة

ولتحصيل هذه القناعة نلفت النظر إلى الفوائد التي يجنيها الفرد والمجتمع من الحضور في المساجد وأعمارها، وهي مستفادة بشكل أو بآخر من الحديث الشريف، عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)(1)، ويمكن تقسيم هذه الفوائد على مستويين نتناولها باختصار:

المستوى الأول: على الصعيد الفردي وتنتظم في عدّة جهات:

1 __ الجهة الأخلاقية والروحية: باعتبار أنّ هذا العمل فيه طاعة لله تبارك وتعالى وذكر له [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ](الرعد:28)، فيوفّر فرصة للعبد المؤمن في التقرب إلى الله سبحانه والرقي في مدارج الكمال، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من أقام في مسجد بعد صلاته انتظاراً للصلاة فهو ضيف الله، وحقّ على الله أن يُكرم ضيفه)، وكلٌ منّا يحس حالة السكينة والطمأنينة وسمو الروح وهو يدخل هذه المشاهد المشرفة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى

ص: 431


1- بحار الأنوار: 85/ 351.

نفسي، والجامع فيه رضى ربي)(1).2 __ الجهة التربوية: فإن المسجد أحد المراكز التي يتلقى الإنسان فيه تربيته كالبيت والمدرسة، بل إنّ ما يناله الفرد من التربية في المسجد أهم وأكمل باعتباره متمحضاً في الخير، ولا يتصور فيه الانحراف والزيغ كالذي يمكن في البيت أو المدرسة، وإنّ الكثير من المؤمنين لم يحصل على تربيته فيهما لخلوهما من الصلاح، وإنمّا نالوا تربيتهم في المسجد، ومهما تراجع دور البيت والمدرسة في تنشئة الجيل نشأة صالحة فإن المسجد باقٍ يؤدي وظيفته، كما أنّ هناك بعض الجرعات المعمقة تعجز عن إعطائها الأسر الاعتيادية لأبنائها فيضطلع بها المسجد الذي ما زال يركّز في نفوس مرتاديه حب الله والتجرد عن الدنيا ونبذ العادات السيئة كالكلام الفاحش والتنابز بالألقاب والمزاح المهين والتغلب على الأمراض النفسية كالبخل والحرص والغرور والغضب والتكبر والعجب والرياء وحب النفس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة كالإيثار والصبر والحلم والشجاعة والكرم والعطف واللين والتسامح والتواضع وحب الخير للآخرين، وبهذا تكتمل شخصية الفرد المؤمن وينعكس ذلك واضحاً منه على علاقاته الاجتماعية وعلى أسرته، بل نراه يرجع إلى أسرته التي لم تعطه ما أعطاه المسجد فيفيض عليها مما رزقه الله من فيوضاته في المسجد، والشواهد على ذلك كثيرة في مجتمعنا.

3 __ الجهة العلمية والثقافية: فإن المسجد سيفتح لمرتاديه فرصاً عديدة للاستزادة من العلم النافع والثقافة المفيدة من خلال الدروس والمحاضرات2.

ص: 432


1- المصدر السابق: 362.

الفقهية والأخلاقية والعلمية التي تعقد في المسجد، أو الاستفادة من إصدارات ونشرات العلماء والمفكرين التي تصل إلى المسجد، أو إجابة الأسئلة المختلفة التي تصل إلى أمام المسجد، أو استعارة الكتب الموجود فيه، أو من خلال اللقاءات والحوارات التي تدور مع المثقفين والواعين من مرتادي المسجد(1).4 __ الجانب الانتمائي والارتباطي: فإن الإنسان بطبعه يميل إلى الانتماء للجماعة ولا يستطيع أن يعيش وحده، فلا يحس بوجوده الكامل إلا من خلال انتمائه للجماعة، فترى أحدهم ينتمي إلى جماعة الرياضيين ومتابعي الكرة، وآخر إلى رواد الفن واللهو، وآخرون إلى الاتجاهات السياسية والفكرية وغيرها، وأيّ انتماء أفضل من ذلك الذي يحقق له وجوده في المسجد فيشعر بأنهّ عضو في هذا الكيان المقدس الذي رأسه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأركانه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرون (ع) من ولده وأفراده المتبعون لسيرتهم من الراضين المرضيين الفائزين، والجمع تحت ظل ورعاية وولاية الله تبارك وتعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ](محمد:11)، فليخسأ الذين لهم أولياء من دون الله تبارك وتعالى.

المستوى الثاني: الفوائد الجماعية

إنّ المجتمع هو مجموع الأفراد، فأيّ صلاح يصيبه الفرد مما ذكرناه فإن

ص: 433


1- فكثير من الشباب هم الذين أثرّوا في آبائهم بسبب المسجد فأصبحت العملية معكوسة فالمسجد هو الذي يربي.

مردوده الإيجابي يعود على الجماعة، ويضاف إلى ذلك عدة فوائد يجنيها المجتمع:1 __ تقوية الأواصر الأخوية الإيمانية بين الأفراد وإحساسهم بقوة الإسلام ووحدة صف المسلمين، وتوحي بهذا صلاة الجماعة والجمعة والعيدين التي هي من أبرز مظاهر قوة الإسلام والمسلمين وتدل على اهتمام الإسلام وتشريعاته بنظام الكيان الموحد والروح الجماعية.

2 __ الترابط الاجتماعي بين المسلمين من خلال تعرّف بعضهم على بعض، وإليه أشار في حديث الثمانية: (أخاً مستفاداً في الله) والتواصل والتزاور بينهم، والمساعدة في قضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم، والتفكر في المشاريع الخيرية ذات المصلحة العامة كبناء المدارس والمستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية وشق الطرق والأنهار.

3 __ حصول الاستقرار والسكون في نفس الإنسان المؤمن عند لقائه بإخوانه في المسجد، ويدلّ عليه قول الإمام الصادق (علیه السلام): (إنّ المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد).

4 __ تحقق الفرصة الواسعة لممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإليها أشار حديث الثمانية: (أو كلمة تردُّه عن ردى أو يسمع كلمة تدلّه على هدى).

5 __ يعتبر المسجد المشخّص الأول لما موجود في المجتمع من سلبيات لأنه ملتقى كلّ الطبقات، وإليه ترد جميع أنواع السلبيات والمشاكل، وبذلك فالتوجيهات بخصوص هذه المشاكل تصدر منه، والمجتمع يكون ميدان

ص: 434

تطبيق ما يأمر به المسجد.6 __ اطلاع المسلمين على القضايا والأحداث الآنية التي تهمهم ومواكبتها خاصة تلك التي تهدد كيان الإسلام ووحدته، لذا فالمسجد يربّي المجتمع على الاهتمام بأمور المسلمين، وقد ورد في الحديث: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1).

7 __ يمثل المسجد دعوة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، قال أحد الغيورين على الإسلام والمسلمين: تربط الأمة الإسلامية ثلاث أواصر (تجتمع في المساجد)(2): إله واحد وكتاب واحد وقبلة واحدة يفدُ إليها المسلمون من أقطار الأرض كلّ عام ليعبدوا هذا الإله الواحد بتلك الشريعة الواحدة على أرض واحدة هي أرض الوطن الروحي، وهكذا تجسدت وحدة العقيدة ووحدة الشريعة ووحدة الوطن الأعلى ليذكر المسلمون إنهّم وإن تفرقت أقطارهم واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم، تجمعهم جامعة الدين والله والوطن، وأنهّ إذا جدَّ الجد وجب أن يضحي كلّ فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل المصلحة المشتركة.

8 __ يمثل المسجد جهة إعلامية مرعبة لأعداء الإسلام، وذلك لأنهّ المبرز لنقاط القوة في الدين الإسلامي، والتي تميزه عن باقي الأديان والاعتقادات والأيديولوجيات، وهو بذلك ليساهم بشكل فعال في تحسين سمعة الدينى.

ص: 435


1- تقدم ذكر مصدره.
2- هذه الأفكار كلها ملخصة من كتاب شكوى المسجد وإنما أخذتها لأني اعلم أن كثيراً منكم لم يقرأه ولم يلتفت إليه بالرغم من أهميته فكتاب (شكوى المسجد) يحتاج إلى شكوى.

الإسلامي، وترغيب أفراد باقي الأديان للدخول فيه، وقد اعتنق كثيرون الإسلام لمّا شاهدوا مساجد المسلمين وشعائرهم ومشاعرهم(1).9 __ المسجد وسيلة مهمة لتقليل الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع، ولعل أوضح مصداق من المساجد في تطبيق هذه الفائدة هو المسجد الحرام وذلك أثناء مراسيم الحج حيث اللباس الواحد والحركة الواحدة.

هذه الفوائد وغيرها أراد أن يصوَّرها لنا الإمام السجاد (علیه السلام) بما رواه حفيده الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إن علي بن الحسين (علیه السلام) استقبله مولى له في ليلة باردة وعليه جبة خزّ ومطرف خزّ وعمامة خزّ وهو متغلف بالغالية، فقال له: جُعِلتُ فداك في مثل هذه الساعة على هذه الهيئة إلى أين؟ قال: إلى مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخطب الحور العين إلى الله عزّ وجلّ).

تكاليف المجتمع تجاه المسجد:

فما هو تكليف المجتمع تجاه هذا المكان المقدس الذي يُنسب إلى الله تبارك وتعالى؟ حيث تستفاد من الكتاب والسنة عدّة تكاليف:

1 __ إعمار المساجد بقلوب طاهرة ونفوس صافية متعلقة بالله تبارك وتعالى، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم

ص: 436


1- تقرأ قصصاً كثيرة عن الذين اعتنقوا الإسلام كما في كتاب (لماذا اخترنا الإسلام؟) للسيد محمد رضا الرضوي، وهناك الكثيرون ممن دخل الإسلام تأثراً بمشاعر المسلمين داخل مساجدهم.

(ع): قل للملأ من بني إسرائيل لا تدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة)، وبهذه الأوصاف والتي ذكرتها الآية السابقة: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ](التوبة:18) استحق عمّار المساجد عدّة كرامات، أحدها: إنّهم بهم يُدفع البلاء عن أهل الأرض، وإذا أردنا أن نفهم الإعمار فهماً معنوياً فإن المسجد هو القلب؛ لأنهّ بيت الله وحرم الله وإعماره بتطهيره وتخليصه مما سوى الله تبارك وتعالى.2 __ الحث على بناء المساجد ولو بأبسط صورة، فعن أبي عبيدة الحذّاء قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد الله (علیه السلام) في طريق مكة وقد سويّتُ بأحجار مسجداً فقلتُ له: جعلت فداك نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)(1)، وفي حديث: (من أحب أن يكون قبره واسعاً فسيحاً فليبنِ المساجد)(2) بشرط أن تكون نيّة البناء خالصة لله تعالى، قال عزّ من قائل: [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (التوبة:108-109)، وهذا الشرط وهو تأسيس المسجد على التقوى هو سرّ الفرق والاختلاف بين المساجد الإسلامية بعضها مع بعض من4.

ص: 437


1- الحدائق الناظرة: 7 / 264.
2- بحار الأنوار:8/ 144.

جهة، وبينها وبين دور العبادة في الأديان الأخرى كالكنائس والأديرة من جهة أخرى.3 __ الحثّ على السعي إلى المساجد، ففي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلا سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)، وفي حديث آخر عنه (علیه السلام): (إن له بكل خطوة حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات).

4 __ التعاون مع المصلين وإمام المسجد في تحقيق الثمرات التي ذكرناها فيما سبق.

5 __ تطبيق الأحكام الشرعية للمساجد وهي على مستويات، فبعضها أحكام إلزامية؛ كحرمة تنجيسه، ووجوب تطهيره إذا تنجس ولو ببذل المال، وحرمة التصرف في موقوفاته ببيع ونحوه إلا في الموارد التي ورد الإذن الشرعي بها، وحرمة دخول الجنب والحائض ونحوهما، وحرمة إخراج أجزائه، وبعضها غير إلزامية إلا إنهّا ملزمة أخلاقياً؛ كالصلاة فيه جماعة، وأن يكون أوّل الداخلين إليه وآخر الخارجين منه، والتطيب ولبس الثياب الجيدة، وأن يكون بدنه نظيفاً ليس فيه ما ينفّر الآخرين، والدخول بالقدم اليمنى والخروج باليسرى، وصلاة ركعتي تحية المسجد عند الدخول، ويكره النوم إلا لضرورة، وتمكين الأطفال والمجانين، والخوض في أمور الدنيا، ويكره رفع الصوت إلا بدعاء أو آذان أو قرآن.

ص: 438

وظائف الحوزة لتفعيل دور المسجد في حياة الأمة:

وفي مقابل ذلك يجب على الحوزة الشريفة أن تؤدي دورها في إحياء المساجد وتفعيل دورها في حياة المجتمع من خلال عدة نقاط:

1 __ إشغال كل مسجد مهما كان بسيطاً ونائياً بإمام يقيم فيه الشعائر، وإذا خلت منطقة أو ناحية من مسجد فيمكن اتخاذ غرفة كبيرة في أحد البيوت مما يعرف بالمضيف أو الديوانية أو غرفة الاستقبال وتتخذ لها باب خارجية تفتح للمصلين في أوقات الصلوات ولإقامة الشعائر الدينية وتجهيزها بمكبر صوت لرفع الآذان، ولا أعتقد أنّ هذا يكلّف شيئاً يذكر في قبال ما أعدّ الله لفاعله من الخيرات والبركات.

2 __ الحرص على إقامة صلاة الجماعة خصوصاً المغرب والعشاء وكلّ الفرائض اليومية وفي العيدين وعند حصول الخسوف والكسوف، ولقد ثبت بالتجربة أنّ المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة يكون أكثر فاعلية واجتذاباً للناس من المسجد الخالي منها، وهم على حق في ذلك من أكثر من جهة:

أ __ الثواب العظيم الذي أعدّ للمصلي جماعة بحيث إذا بلغ عدد المصلين عشرة فلا يحصي ثواب الجماعة إلا الله تبارك وتعالى.

ب __ إنّ وجود إمام الجماعة يلزم منه تحقيق فوائد كثيرة كإجابة الاستفتاءات وقضاء الحوائج الاقتصادية والاجتماعية وإلقاء المحاضرات في الوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام.

3 __ اختيار إمام الجماعة المخلص لله تبارك وتعالى الحريص على المصالح

ص: 439

الاجتماعية أكثر من مصلحة نفسه، وأن يكون ذا فضيلة علمية ليستطيع تلبية احتياجات المجتمع الفكرية والفقهية والثقافية(1)، وأقل ما يجزيه من النشاط هو إلقاء محاضرة في الأسبوع مرة تطبيقاً للحديث الشريف: (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه ولو في كلّ جمعة(2) __ أي أسبوع __ ساعة ليتفقه في الدين)، ولما كانت فرصة القراءة والتفقه ليست متاحة لكلّ أحد لأسباب شتى فعلى إمام المسجد توفير هذه الفرصة للمجتمع، وبذلك فهو يعينهم على امتثال أمر الإمام، فإن دوره في المجتمع، يتمثل بتقريب الناس إلى طاعة الله تبارك وتعالى بتكثير فرصها وفتح المزيد من أبوابها، وتقليل فرص المعصية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.4 __ إحياء الشعائر الدينية ومناسبات أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً، وعدم الاكتفاء بشهر رمضان وشهر محرم، وأؤكد هنا على ضرورة إقامة المجالس في المساجد(3) لا في البيوت لعدّة أمور، فهي أبعد عن الرياء والعجب ويكون الحضور فيها خالصاً لله لا مجاملة لأحد، وفيها إعطاء أهمية للمسجد فيء.

ص: 440


1- لذلك نحن ليس مع كلّ من أخذ قسطاً من العلم وقال أرُيد مسجداً الا بعد أن يصل إلى مستوٍ معتد به ليكون عطائه للمجتمع نافعاً ومثمراً ومن اجل ان لا يكون متورطاً بهذه المسؤولية الكبيرة فهو يحاول إصلاح الناس بفساد نفسه.
2- كان سماحة الشيخ يلقي خطبة أسبوعية بعد صلاة الظهر يوم الجمعة في جامع حي الكرامة في النجف حيث كان يؤم الجماعة.
3- كان سماحة الشيخ يعقد مأتماً أسبوعياً بعد صلاتي المغرب والعشاء مساء الأربعاء، وفي ذكرى شهادة المعصومين (عليهم السلام) والعشرة الأولى من محرم الحرام ويجلب لذلك عدداً من الخطباء.

حياة الناس، ولاقترانها بصلاة الجماعة عادة، ولأنها اعظم أجراً لما ذكرنا من أنّ الجلوس في المسجد عبادة.5 __ إقامة المسابقات الدينية والثقافية خصوصاً في شهر رمضان وليالي وأيام الجمع، وتعيين الجوائز للفائزين، وهذا يحقق أكثر من ثمرة:

أ __ حثّ المؤمنين على قراءة الكتب والازدياد من العلم والمعرفة ليكونوا بمستوى المسابقات.

ب __ حثّهم على الحضور في المساجد لما في جو المسابقات من متعة وفائدة وتسلية.

6 __ وضع لوحة إعلانات يسجل فيها كلّ يوم شيء جديد، كحديث شريف له ثمرة اجتماعية أو أخلاقية أو عقائدية، أو تدوّن فيها بعض الأحكام الابتلائية، أو استفتاءات مستحدثة، أو خبر نافع عن الحوزة، أو عن إصدار جديد، أو إلفات النظر إلى حالة اجتماعية منحرفة، أو معاملة باطلة تجري في السوق وتصحيح ذلك وفق الضوابط الشرعية، وأي شيء آخر يشدّ الناس إليها ويجعلهم في تفاعل مستمر مع المسجد.

7 __ إنشاء حلقات تعليم القرآن الكريم قراءةً وتفسيراً وحلقات دروس في الفقه والعقائد والأخلاق والتأريخ وغيرها من العلوم المفيدة.

8 __ تأسيس مكتبة ولو بسيطة في كلّ مسجد تضم مجموعة من الكتب الدينية والثقافية التي يحسُن بالمسلم الإطلاع عليها.

وأنت ترى إنّ المسؤولية متبادلة بين المجتمع والحوزة فإن بعضهم يكمل بعضاً، فالحوزة ترشد المجتمع وتوجهه إلى طريق الصلاح، والمجتمع يطبّق

ص: 441

ويمتثل ويمارس دور الشاهد على الحوزة ليقيّمها هل أدّت دورها كما ينبغي.

انحسار عدد المصلين في المساجد... الأسباب والعلاج:

وإذا أردنا أن نعالج مشكلة انحسار عدد المصلين في المساجد المؤدي إلى تعطيلها فلا بد أولاً من دراسة وتحليل أسباب هذه الظاهرة، وهي عديدة منها:

1 __ قلّة عدد طلبة الحوزة الشريفة المؤهلين لتمثيل المرجعية في المناطق المختلفة وأداء وظيفتهم الشرعية.

2 __ سوء تصرف بعضهم، أما بالتوسع في المعيشة والترف، أو عدم سعة الصدر، أو ارتكاب أمور يأباها المتدينون مما يوجب نفور الناس وإعراضهم عنهم والتشكيك فيهم.

3 __ المبالغة في فهم (العدالة) المشترطة في إمامة الجماعة بحيث تقرب عند البعض من العصمة، فيشككون في عدالة من يتقدم لإمامة الصلاة؛ لأمور لا تضر بالعدالة خصوصاً مع الاستغفار.

4 __ النفور من تصرفات بعض المؤذنين والخدمة ومتولي المساجد من قبيل كثرة ما يطالب به من تبرعات لشؤون المسجد أو سوء أخلاقهم، لأنّ اغلبهم من الجهّال، ويجد في هذه الوظيفة نحواً من أنحاء التسلط فتنطلق نفسه الأمارة بالسوء.

5 __ خلافات شخصية مع إمام الجماعة أو بعض الموجودين في المسجد.

6 __ نزوع النفس الإنسانية إلى اتباع الهوى واللعب واللهو والترفيه، ولاشك إنّ

ص: 442

فترة الحضور في المسجد تحمل معاني الجد والالتزام والانضباط.7 __ قلّة الوعي الديني لدى المجتمع وعدم التفاته إلى أهمية الحضور في المساجد والفوائد المترتبة عليه.

8 __ تفشي الإشاعات والبحث عن عيوب ونقائص إمام الجماعة ولو كانت وهمية أو كانت قديمة وتاب عنها الرجل.

9 __ تعقيد متطلبات الحياة مما أوجب على الإنسان أن يفرّغ جزءاً كبيراً من وقته للعمل، فقد يرى إن الحضور في المساجد وظيفة (العاطلين) ويكفيه هو الحضور يوم الجمعة فقط أو في شهر رمضان.

معالجة أسباب انحسار عدد المصلين:

وتوجد أسباب أخرى غيرها يدركها المتأمل، كما إنّ بعض المناطق تختص بأسباب دون غيرها، وما دامت معرفة السبب نصف الحل فيمكن التوصل إلى بعض الحلول ومنها:

1 __ زيادة الوعي الديني والالتفات إلى الفوائد والآثار الإيجابية للتردد على المساجد في الدين والدنيا.

2 __ أن يكون سلوك أئمة الجماعة والمتصدين للمسؤوليات الاجتماعية نظيفاً عفيفاً موافقاً للصورة النقيّة المشرقة لأئمة الإسلام، وبين أيدينا سير ناصعة لهم، وما علينا إلا الاقتداء بها وإتعاب النفس في تطبيقها، ولو أدّى إلى حرمان النفس من بعض مشتهياتها فإن ذلك في عين الله سبحانه ورعايته ولطفه، قال تعالى: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فإن

ص: 443

الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى] (النازعات: 40-41)، وهذا النهي شامل حتى للمباحات مادام يؤدي ذلك إلى حزازة في قلوب الناس وامتعاض وسوء ظن.3 __ توجيه الأنظار إلى الآخرة وطلب الكمال فيها وعدم الاقتصار على طلب الدنيا، قال تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ](القصص:77).

4 __ أن يتولى إمام المسجد شؤون المسجد بيده وبإشرافه، ولا يسمح بالتصرفات المنفرّة للخادم والمتولي والمؤذن.

وظائف إمام المسجد:

ولكي يؤدي المسجد دوره لا بد أن يعي إمام المسجد وظائفه ومسؤولياته ويقوم بها خير قيام، ولا تنحصر وظائفه بالدينية فقط كإقامة صلاة الجماعة، والإجابة عن الأسئلة الفقهية، وحل الشبهات العقائدية، وإحياء الشعائر الدينية، وإلقاء المحاضرات فيما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وإنمّا عليه وظائف اجتماعية كمشاركة الناس في أفراحهم وأحزانهم، وحلّ مشاكلهم على المستوى الفردي كالخلافات العائلية، أو اجتماعي كالخلافات بين عشيرتين مثلا، وألاَّ يبخس الناس حقوقهم ويجامل بعضهم على حساب بعض، وأن يسعى لمعالجة الظواهر السلبية التي تسود المجتمع بالطرق الناجحة والمؤثرة، وكلّ ذلك يعتمد على مدى إدراكه ووعيه الاجتماعي، وحسن تطبيقه لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يسعى في المشاريع الخيرية وأهمها

ص: 444

تزويج المؤمنين(1).وعليه وظائف اقتصادية كقبض الحقوق الشرعية وإيصالها إلى الحوزة الشريفة، أو توزيعها على مستحقيها بعد تحصيل الإذن، ورعاية الفقراء والمعوزين ومساعدة العاطلين عن العمل بإيجاد فرص عمل لهم، أو تقديم القروض لتسهيل أمورهم، وعليه وظائف علمية وثقافية اتضحت مما سبق.

ويلاحظ هنا إنّ وظائف إمام المسجد قد تختلف من مجتمع إلى آخر ومن زمان إلى آخر فلا يمكن حصرها أو استقصاؤها جميعاً، فمفرداتها واسعة وهي خاضعة لشخصية الحوزوي ومقوماته الفكرية والإيمانية والاجتماعية.

بعد كلّ هذا لا أحتاج أن أقول إنّ المساجد رمز عزّة الإسلام وقوة المسلمين ومعيار لالتزامهم بدينهم، فكلمّا كانت المساجد أكثر حيوية وفاعلية في ضمير الناس وحياتهم كلّما كان المجتمع قريباً إلى الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا ممن تشكوهم المساجد، بل يجعلنا من عمّارها بالبر والتقوى وينعم علينا ببركاتها ونفحاتها ولا يحرمنا عطائه بفضله وجوده ومنّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.).

ص: 445


1- كما في الحديث: (ما شفاعة خير من أن يشفع في رجل وامرأة فيجمعهم في التزويج).

نظرية اللغة الموحدة في الميزان

اشارة

نظرية اللغة الموحدة في الميزان(1)

الاستفتاء:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وعجل الله تعالى فرج منقذ البشرية من الضلال بقية الله في الأرضين الحجة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام.

سماحة الشيخ العميد محمد اليعقوبي (دامت بركاته).

ص: 446


1- ((حررت بتأريخ 22/ذ.ق./1421 الموافق 16 /2/ 2001م)) في الفترة التي تلت استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999 شهدت الساحة فراغاً في القيادة الدينية فأوجب إحباطاً وتردداً لدى الكثير من القواعد، وكانوا يتشبثون بكل ما يوهمهم أنه البديل، وفي تلك الفترة نشر مفكّر اسمه (عالم سبيط النيلي) عدة كتب فيها أطروحات جديدة استهوت الشباب، وكان أصل هذه الأطروحات نظرية اللغة الموحدة، والحل القصدي للغة، وألقى من خلالها إلى المجتمع فكرة مفادها أن اللغات المتداولة أصلها واحد؛ لأن لكل حرف معنىً ذاتياً يعرف من صوته، ولترتيب هذه الحروف في الكلمات معنى يؤديه هذا الترتيب، فمن فهم ذلك عرف أسرار المعاني واستغنى عن العلماء في كل العلوم لأنه سوف لا يحتاج إلى من يعلمه، وخلص إلى نتيجة عدم الحاجة إلى الفقهاء ومراجع الدين بل إلى المؤسسة الدينية عموماً وأن نظريته هي البديل عنهم جميعاً، ووصف كبار علماء الأمة وأعلامها بالجهل والمكر والخداع، ولاقت أطروحته قبولاً لدى البعض إلى حد الحماس وبدأوا يسقّطون المرجعية والحوزة الدينية ويدعون إلى نبذها. وقد كان لهذا الرد العلمي الرصين وبيان الوهم في هذه الأطروحات الأثر الكبير في تراجع الاقتناع بها والإعراض عنها وعن صاحبها مما أوجب قيامهم بالتشنيع والافتراء حتى اضمحل أمرهم، وتوفي النيلي بعد وقتٍ قصير، وقد طُبع الرد في كتيب مستقل.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.شيخي الكريم، لا بدَّ وأن الحوزة المشرفة قد سمعت بموضوع الكاتب عالم سبيط النيلي ومؤلفاته المطروحة للساحة الآن، والظاهر ومع الأسف الشديد أن مؤلفاته لم تلق من الاهتمام – من قبل الحوزة - ما يجب، على أن مؤلفاته وأفكاره الجديدة والتي يطرحها قد أخذت بعداً واسعاً جداً في أوساط المجتمع الإسلامي، حتى أصبح له الآن مؤيدون كثيرون جداً في أفكاره، وأن بعض الأفراد قد أخذوا بتطبيق أو محاولة تطبيق أفكاره على ما في هذا الأصل من خطورة شديدة (إذ يقول إن المنهج الذي أطرحه يتكون من أربعة خطوط متوازية تبدأ:

1-اللغة الموحدة بأجزائه.

2-الحل القصدي.

3-الحل الفلسفي.

4-النظام القرآني.

وبما أن أمر هذا المنهج الجديد قد أصبح يشكل مسألة مهمة وشغلاً للأذهان وحيرة للكثير من أفراد المجتمع، والذين تتحمل الحوزة الشريفة المسؤولية الكاملة في توجيههم، فإن هؤلاء يمثلون فئة أو قسماً لا يستهان به من الطبقة الواعية في مجتمعنا، ومع ذلك حدث أن قام بعضهم بترك التقليد والعمل وفق المنهج الجديد والمطروح في كتب عالم سبيط النيلي، وبما اقتنعوا هم به من الأمور الصحيحة لديهم، وقد أخذت عليهم في ذلك مأخذاً واحداً وهو أنهم وإن اقتنعوا بأفكار سبيط النيلي ومنهجه الجديد، فإنهم تصرفوا قبل

ص: 447

استشارة الحوزة وقبل أن يصدر من الحوزة المقدسة القول الفصل بشأن هذا الموضوع.شيخي الكريم: إن ديني ودين ثلة طيبة من الشباب المؤمن أمانة في عنقك أنت، فنرجو ألاّ تدخر وسعاً في دراسة هذه الكتب، وإعطائنا الرد الشافي المدعم بالأدلة والبراهين لتطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا؛ فإننا نعيش حالة لا تسرّ الصديق في الإرباك العقائدي والديني من جرّاء ما نواجهه من تيار لا نعلم أين الحق فيه وأين الباطل.. ونحن نرفع إلى الحوزة السؤال عن هذا الكاتب وعن كتبه وأفكاره الجديدة، نرجوها أن تأخذ بعين الاعتبار الأهمية التي تمثلها هذه الكتب بالنسبة للمجتمع، وإعطاء الإجابة الشافية لصدور المهتمين بهذا الأمر الساعين لطلب الحق.

ومن المؤكد أن هذا الأمر سيمثل تمحيصاً جديداً للمجتمع الإسلامي، فندعو الله عزّ وجلّ أن يهدينا وينير بصيرتنا للحق، إنه على كل شيء قدير، هو مولانا ونعم النصير.

إحسان الشديدي وعمار الظالمي.

ص: 448

بسمه تعالى:

الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إن ما تفضلت به من مسؤولية الحوزة الشريفة عن حماية المجتمع من الانحراف وتحصينه ضد الشبهات والفتن المضلة صحيح جداً، فهم ورثة الأنبياء بكل ما تعني الوراثة من مسؤوليات، وهم الحجج المنصوبة على الخلق من قبل المعصومين (علیهم السلام) في زمان الغيبة بالنصوص الشريفة، ومنها قول الإمام الصادق (علیه السلام): (فإنهم – أي العلماء - حجتي عليكم، وأنا حجة الله)، وقد كان الأئمة (علیهم السلام) بالمرصاد لكل شبهة يمكن أن تزلزل عقيدة المسلم أو تدفعه نحو الانحراف، بل إن قضية الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) مع الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي(1) تبين أنهم (ع) كانوا يتصدون للأفكار المريضة قبلة،

ص: 449


1- علم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أن الفيلسوف يعقوب بن إسحاق أخذ في التأليف في متناقضات القرآن وشغل نفسه بذلك فقال لطلابه وبعض أصحابه موبخاً: ألا يتصدى أحد منكم للرد على هذا الرجل؟ فاعتذروا لعدم قدرتهم على مجاراته فقال (عليه السلام): أنا أعلمكم الوسيلة إلى ذلك وانبرى أحدهم لتنفيذها فقال (عليه السلام): تلتحق بطلبته وتقوم بخدمته وملازمته وتتودد إليه حتى إذا استأنس بك وبدا يعرض عليك كتبه وأفكاره فإذا عرض عليك ما توهمه من متناقضات القرآن فقل له: ألا يحتمل أن المراد بالآية غير ما فهمت منها فتوهمت التناقض وفق ما فهمت أنت لا وفق ما أراد المتكلم وأمله الإمام (عليه السلام) بنجاح خطته لأن الكندي كما وصفه الإمام (عليه السلام) (يفهم إذا سمع) وفعل التلميذ ذلك بالضبط ففكر الكندي مع نفسه ورأى أن ذلك ممكن جداً فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلا، ما مثلك من يهتدي إلى هذا ولا ممن بلغ هذه المنزلة،فأخبرني من أين لك هذا، فقال: أخبرني به أبو محمد الحسن (عليه السلام) فقال: الآن== ==جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم إنه دعا بالنار وأحرق ما كان ألّفه. (تأريخ الغيبة الصغرى/195 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب:3/ 526). أقول: الرواية مرسلة أي لم يذكر لها سند فلا يمكن الاستناد إليها في معرفة عقيدة الكندي.

خروجها إلى المجتمع ليقضوا عليها وهي في المهد.وفي الحديث: أن أشد من يتيم الأبوين يتيم انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، فمن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى.

من هنا كان أرقى مصداق لمفهوم (المرابطين) هم العلماء؛ لأنهم مرابطون فعلاً في الثغور والحدود التي تفصل بين نفس الإنسان وعقله، والتي يريد إبليس أن يخترقها ليعبر من النفس الأمّارة بالسوء إلى عقل الإنسان وفطرته السليمة وقلبه النقي، فيسودها ويحرفها، فيقوم العلماء بالتصدي ومنع جند الشيطان من تجاوز هذه الحدود واختراقها ويسلّحون عقل المسلم وقلبه بما يعينه على المقاومة ضد هذا العدو اللعين وجنده، فهم – أي العلماء - أفضل من المجاهدين في ثغور وحدود بلاد المسلمين.

وفي الحديث أنه: لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله تعالى والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس – لعنه الله – ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين الله تعالى، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.

ص: 450

هؤلاء العلماء هم المعنيون بالأحاديث الشريفة والموصوفون بأنهم (أمناء الرسل)، و(حصون الإسلام)، و(ورثة الأنبياء)، وإنه (ليستغفر له ما في السماوات وما في الأرض)، وأن (العالم أفضل من العابد، لأن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها، والعابد مقبل على عبادته).وفي مقابل هذه المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء توجد مسؤولية تتحملها الأمة بأن تلتف حول علمائها ومراجعتهم في كل صغيرة وكبيرة ولا يفعلون شيئاً ولا يقدمون رجلاً ولا يؤخرون إلا بعد أخذ رأيهم، وإلا ضلوا. وقد مرّ عليكم الآن كيف أن الإمام (علیه السلام) جعلهم حجته على الناس، والحجة واجبة الإتباع، وفي الدعاء: (اللهم عرّفني حجتك، فإنّك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني)، وأمروا شيعتهم بملازمة العلماء ومزاحمتهم بالركب، وجعلوا (ع) النظر إلى وجه العالم عبادة، وأمروا بالتفقه في الدين وحثوا عليه لئلا تعود الأمة أعراباً جهلة، وفي الحديث ما مضمونه: (ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين)، وفي آخر (أفٍ لرجل لا يفرغ نفسه ولو كل جمعة ساعة ليتفقه في الدين)، والفقه هنا لا يختص بمعرفة الأحكام الشرعية، بل كل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من طاعته، والأحاديث التي تبين فضل العلم ومنزلة طالبيه وعظيم أجرهم وكرامتهم عند الله سبحانه مما لا يستوعبه هذا الكلام المختصر.

أقول قولي هذا ولعلّه ليس جديداً عليكم لأخلص إلى أمرين:

1-إن هذه المسؤولية المتبادلة وهذه التركيبة المنتظمة التي حفظت الدين منذ ألف وأربعمائة عام وأوصلته لنا غضاً طرياً كأنه نزل اليوم بفضل جهود

ص: 451

وجهاد المخلصين من أبناء الإسلام وعلى رأسهم الأئمة المعصومين، يريد هذا الرجل المدعو (عالم) أن يشطب عليها بجرّة قلم ويلغي المرجعية والتقليد ودور العلماء في حياة الأئمة، ويدعوهم إلى الاكتفاء باتباع نظريته في اللغة الموحدة لفهم النصوص الشرعية وأخذ الأحكام من مصادر التشريع، وما هي إلا أوهام تراءت له فأخذها بلا تمحيص، فصوّر له خياله المغرور أنه أتى بأعظم إنجاز فكري شهدته البشرية – كما يقول في مقدمة كتابه - بحيث لم يستطع الأنبياء ولا الأئمة ولا علماء الأولين والآخرين، بل ولا الرسالات السماوية أن تأتي بمثله؟! أي سخف من القول هذا؟! وأي خدمة يقدمها على طبق من ذهب - كما يمثلون- إلى أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) وأعداء الأمة؟! الذين كل همهم أن يهدموا هذا الكيان المتين وتنفصم هذه العروة الوثقى.أليس من سيرة العقلاء – إن كان هذا الرجل منهم - أنهم يرجعون في كل مجال إلى ذوي الاختصاص فيه، فالمريض يراجع الطبيب لا المهندس مثلاً.. وهكذا، والفقه كأحد العلوم خاضع لهذه السيرة، فلماذا يلي دور الفقهاء من أساس دون غيره من المجالات؟! فالتفتوا إلى ما يريد هذا الرجل.

2-إن هؤلاء الذين تقول عنهم أنهم اقتنعوا بالمنهج الجديد الذي طرحه النيلي هم إما من أنصاف المثقفين الذين تستهويهم فكرة غير ممحصّة فينطلقون بها بكل حماس ويرفضون كل ما عند الآخرين، والجاهل هو الذي لا يفكّر بعقله بشكل سليم وإن حمل أعلى الشهادات، فكم من بروفيسور في أرقى العلوم العصرية وهو يعبد البقرة أو النار أو بوذا ونحوه.

ص: 452

فماذا أعطاهم النيلي؟ وبماذا أبدلهم؟! هل يستطيعون معرفة شيء وفق المنهج الجديد؟ كل ما فعله لهم هو الهدم من دون بديل، هدم كل أسسهم الرصينة ومبادئهم الحقة، واعداً إياهم بالفتح العظيم الذي سيحلّ لهم إغلاق كل خزائن العلوم، لكنه هو لم يستطيع أن يكتشف معاني الحروف جميعاً، بل ترك نصفها، ومنها حرف الألف الذي يقال عنه أكثر الحروف تكراراً في كلام العرب، فكيف سيفهم (عالم) ومن تبعه (النظام القرآني) وغيره من الأسرار إذا لم يجد المفتاح لخزائنها؟! فأين ذهبت ثقافتهم المزعومة وهم يجرون وراء هذا الوهم والسراب الكاذب؟! وأين غابت عنهم هذه التعاليم الشريفة الصادرة من أهل بيت العصمة في حق العلماء ووجوب اتباعهم حتى صفقوا وراء هذا الرجل واستهزؤوا بالعلماء المخلصين وأولياء الله الصالحين؟ألا يكفي هذا الضياع الذي أوصلهم له دليلاً على سخف وتفاهة(1) ما جاء به من نظرية اللغة الموحدة؟! إنه الجهل يا عزيزي وفراغ الفكر، والفارغ هو الذي يكون مستعداً لملئه بكل شيء مهما كان تافهاً وباطلاً، وإذا أردنا أن نعالج هذه المشكلة وغيرها فلا ينبغي أن نتعب أنفسنا كثيراً في معالجة الجزئيات، وإنما يجب بذل الوسع وإفراغ الهمة في توعية الأمة والارتقاء بمستواها الفكري، حتى لا تنطلي عليها الفتن والضلالات الهشة، والتي لا تصمد أمام الدليل، بعد التوكل على الله سبحانه والاعتصام بحبله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها: كتاب الله وسيرة رسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين من آله.ه.

ص: 453


1- ليس من دأب العلماء القسوة في النقد إلا عندما يكون علاجاً لغرور الآخر لكي يصحو من سكرته.

إن الذي يقرأ كتب هذا الرجل لا يلبث أن يكتشف عدة سلبيات في شخصه:1-جهله بما يقوله الآخرون بأفكارهم، وذلك ناشئ من إقحام نفسه في ما لا يعلم، خصوصاً في كتابه الذي يردّ به – كما زعم - على الأصوليين وعلمهم الذي هو عنوان فخر الحوزة الشريفة.

2-تناقض كلامه حيث يضرب بعضه بعضاً.

3-عدم الأمانة العلمية، فينسب أفكار غيره لنفسه، أو ينسب لهم ما لم يقولوه، ومن مصاديق ذلك عدم الدقة في النقل والتحريف فيه والتبديل عن علم وعمد، ليمرّر أفكاره، مستفيداً من عدم الدقة في المصادر المذكورة أو عدم وجودها أصلاً، والظن بعدم مراجعة أغلب القراء وراءه.

4-توسّله بالعبارات المبهمة والغامضة التي لا محصل وراءها ولا يعرف هو معناها.

5-الغرور المتمثل بادعائه دعاوى كبيرة كنسبة جميع الخلافات والنزاعات بين البشر إلى الجهل بنظريته، لا الشهوات والمطامع والأهواء وغيرها، وأن نظريته أرقى ما توصل إليه العقل البشري إلى اليوم، ناسياً أو متناسياً أنها قديمة منذ أزيد من ألف عام، وتوجد أطروحات أكمل وأنضج من أطروحته للغة الموحدّة.

6-الشعور بالنقص أو ما يسمّونه (عقدة الحقارة) تجاه الحوزة الشريفة والمرجعية، مما دفعه إلى توجيه معاول الهدم إلى (المؤسسة الدينية) كما يعبر، رغم أن المفروض بنظريته أنها تقتحم كل العلوم.

ص: 454

وإني أذكر هذه النقاط من دون أمثلة وشواهد من كلامه رعاية للاختصار، محيلاً التفصيل إلى بعض الكتب التي وجّهت بتأليفها للرد عليه.لكني أريد – بتوفيق الله سبحانه - أن أطرح بعض النقوض على نظرية اللغة الموحدة التي تعتبر أساس أفكاره وكتبه الأخرى، وإن ادعى-كما ينقل السائل- أن المنهج الذي يطرحه يكون من أربعة خطوط متوازية، ويظن بذلك أنه يسحب البساط من تحت من يردّ على نظريته المزعومة، فإنه يعلم سلفاً فشلها، وإذا اعترف أنها أساس أطروحاته الأخرى فسوف يخرّ كل بنائه، لكن الكذب حبله قصير، فتراه يعترف في نفس كتاب اللغة الموحدّة (إن الحل القصدي للغة سيكون البديل للاعتباط اللغوي برمته نحواً وصرفاً وبلاغةً ونقداً وتفسيراً وفكراً وفقهاً وأصولاً وعلوماً أخرى متفرعة عن هذا العلم).

1-إننا لا نقول بأن اللغة اعتباطية، فلا يجوز له أن يوجه هجومه إلينا، بل إلى (دي سوسير) وأمثاله من الغربيين القائلين بمبدأ الاعتباط، أما نحن فنقول بأن العلاقة بين اللفظ والمعنى (اعتبارية)، أي أن الواضع يختار كلمة للدلالة على معنى، قاصداً لاعتبار وإنشاء هذه العلقة بينهما، أما لماذا اختار هذا اللفظ لربطه بهذا المعنى، فتختلف المناسبات لذلك، فبعضها العلاقة الطبيعية (كأسماء أصوات الحيوانات والماء)، وأخرى نفسية (كالليونة والقوة)، وأخرى اعتبارية محضة أي بلا سبب واضح (كأسماء الحيوانات والبشر، فيسمى هذا كريماً وقد يكون بخيلاً، أو يسمى جميلاً وهو قبيح).

2-الفرق الواضح بين (الاعتباط) الذي هاجمه النيلي و(الاعتبار)، فإن الاعتبار عملية قصدية من قبل الواضع المعتبر، بالضبط كوضع العلامات الحسابية،

ص: 455

فهذه الإشارة للدلالة على الجمع، وتلك إشارة للدلالة على القسمة، وكالعلامات المرورية فهذه تدل على المنع من الوقوف وتلك على وجود خطر وهكذا، ولو أراد الواضع أن يعتبرها بالعكس لأمكنه ذلك.3-إذا كانت الحروف ذات معاني ثابتة في نفسها يمكن اكتشافها من القيم الصوتية للحروف بغض النظر عن اعتبار الواضع، فلماذا لم تفلح نظريته في اكتشاف معاني الكلمات التي أهمل الأوائل وضع معاني لها ككلمة (ديز) التي يمثلون بها دائماً للمعاني المهملة، وإني أتحدى المؤمنين بهذه النظرية أن يكتشفوا معنى هذه الكلمة بتطبيق نظرية اللغة الموحدة.

4-إننا لا ننكر وجود قيم صوتية متباينة للحروف، باعتبار أن مخارجها مختلفة من ناحية فسيولوجية، فتكون شدتها الصوتية متفاوتة، لكن ذلك لا يعني دلالتها على معاني معينة؛ إذ يستطيع كل شخص وأبناء كل لغة أن يوظفوا هذه القيمة لمعنى معين، بل لا بدَّ من اختلاف القيم الصوتية للتمييز بين الكلمات والحروف.

5-إن نظريته مبنية على استقراء ناقص وبأسوأ صورة، حيث إن الكلمات لا متناهية، بينما هو طبق نظريته أو قل اكتشفها – بزعمه - من أعمال النظر في كلمة أو كلمتين وما أسرع ما تنقض نظريته في الكلمة الثالثة.

6-إنه في الوقت الذي هاجم العلماء السابقين وفي جميع حقول المعرفة ووصفهم كلهم بالجهلة، لأنهم لم يعرفوا نظريته إلاّ إنه لم يخرج عن دائرتهم، فإنه يأخذ الكلمات من المعاجم العربية الموجودة ثم يستنبط منها نظريته، فيكون قد أخذ مسبقاً معاني الكلمات وسلم بصحتها وطبق نظريته

ص: 456

عليها، فأعتمد على المعاجم لإثبات صحة نظريته، ثم أنكر المعاجم ففند بذلك أساس نظريته، ولو كان تفكيره صحيحاً لنظر في الحروف واستنبط معانيها متجرداً عن أية معلومات مسبقة.7-لو أمعنت النظر في كتابه لوجدت أن غاية ما فعله هو إرجاع معاني المفردات ذات الأصل الواحد إلى أصلها، ثم بين وجه تفرع هذه المعاني عن الأصل، وهذا جهد قام به علماء كثيرون، ومنهم الراغب الأصفهاني في المفردات والخليل بن أحمد في كتاب العين، وابن فارس في معجم مقاييس اللغة الذي أعطى معاني الجذور ذي الحرفين، ثم ذي الثلاثة أحرف. أما من أين عرف معنى هذا الأصل فليس من نظريته، وإنما من الكتب الأصلية في هذا المجال كالكتاب المذكور.

8-إننا لو سلمنا بصحة نظريته فهذا لا يوجب الهجوم على العلماء السابقين ولا يعني إلغاء جهودهم أو عدم صحتها، فإنهم فهموا معاني الكلمات من دون التفات إلى القانون أو النظرية التي تنظم العلاقة بين اللفظ والمعنى، وهذا ممكن؛ كالشعراء الذين نظموا أرقى فنون الشعر وهم غير ملتفتين إلى القواعد العروضية التي تنبّه لها الفراهيدي بعد ذلك بقرون وقنن أصولها، ولم يقل أن شعر السابقين باطل وهراء لأنهم لم يلتفتوا إلى قوانينه فاعتبروا يا أوليى الأبصار.

9-إن نظرية هذا النيلي لو تمت فإنها لا تحلّ الخلافات والنزاعات بين الأمم كما يبشر بها هذا المسكين، لأن منشأ هذا الخلاف ليس هو اللغة، وإنما النفس الأمارة بالسوء والشيطان اللذان يستعملان مختلف الأدوات لإضلال

ص: 457

الناس، ومنها التلاعب بمعاني الالفاظ، والذي فعله النيلي أنه حول محور النزاع إلى جهة أخرى وهي معاني الحروف من خلال القيم الصوتية لها، فالعين عنده تدل على (اتضاح معالم الحركة المبهمة)، وعند الشيخ العلايلي الذي له محاولة أنضج وأكمل وأعقل من أطروحته لنظرية اللغة الموحدة تدل على (خلو الباطن أو الخلو المطلق)، وهكذا كلٌ يقول ما يشتهي وبحسب الكلمات التي يضعها أمامه ليستقرأ معنى الحرف، والخلاصة إن إحالة اختلاف المعاني باختلاف الألفاظ على القيم الصوتية إحالة على أمر مجهول، وما الفرق بين (الاعتباط) و(الجهالة)، فأصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار، وأتحدى أي واحد ممن حوله ويؤيدون نظريته أن يستنتج معنى معيناً للفظ نظريته فبماذا يفسر اختلاف كلمات (بِر،بَر،بُر) بالمعنى؟ وهل إن الإجابة باختلاف قيمها الصوتية كافٍ لفهم اختلاف معانيها من دون معرفة أوضاعها اللغوية؟.10-إن الكلمات التي تشترك في الحرف الأول كيف تختلف دلالاتها على المعاني، لأنها غير متطابقة بالمعنى أكيداً؟

إن قلتَ: بحسب الحرف الذي يتعقبها.

قلتُ: فإن تطابقت فيه ستقول إنها تتباين بحسب الحرف الذي يليه وعندئذ:

أ -إن إحالة الأمر على التعاقب يلزم منه إعطاء التأثير لأمر خارج عن القيم الصوتية للحروف بنطقها، وهو عين ما نعنيه بالاعتبار الذي يتكفله الواضع ولم ينشأ من ذات الحروف.

ب -يلزم أن يضع قائمة ليس لمعاني الحروف الثمانية والعشرين فقط، وإنما

ص: 458

لتعاقبات كل حرف في المرتبة الثانية، ثم لتعاقبات الحرف الثالث، وهكذا. فسيدخل في متاهة لم يستطع أن يكمل المرتبة الأولى منها.11-إن غاية ما تفيده هذه النظرية معاني الحروف الأصلية، أي ما يسمى بالمادة، وهي مثلاً الضاد والراء والباء في (ضرب)، فكيف تُفهم معاني مشتقاتها؟ فيُفهم من ضَرَبَ دلالته على الزمان الماضي، ومن (ضارب) وجود ذات فاعله، ومن (مضروب) وجود ذات منفعلة، ومن (ضَرْب) المعنى الحدثي، وكذا المشتقات الأخرى.

12- إن نظريته إنما تفسر معاني الكلمات في أنفسها، أي المفردات بغض النظر عن دخولها في سياقات كلامية، فكيف يفسّر لنا معاني الهيئات الجملية كالحصر المستفاد من تقديم ما حقّه التأخير في مثل قوله تعالى: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] (الفاتحة:5)، أو الإسناد والحمل في مثل المبتدأ والخبر أو الاختصاص، وكذا مفهوم المخالفة فنفهم من جملة (إذا جاءك زيد فأكرمه) أنه إذا لم يجيء زيد فلا تكرمه، وكذا سائر الدلالات الالتزامية.

13-إن كثيراً من وسائل نقل المعاني ليس فيها أصوات، وهي تؤدي وظيفتها في إفادة المعنى، رغم أنه ليس فيها قيم صوتية، كالعلامات المرورية والإشارات الحسابية، وتفسيرها واضح على نظرية الاعتبار كما ذكرنا سابقاً، حيث أن ربطها بالمعاني بعملية قصدية من قبل الواضع، وهو الذي يطرح للآخرين قانون الاعتبار ويطبقه الآخرون.

14-إن نظريته مبنية على كون العلاقة بين اللفظ والمعنى ذاتية، أي أن صدور اللفظ علة لحضور المعنى في الذهن، وإن لم يكن السامع يعلم بمعنى هذا

ص: 459

اللفظ أو يسمع به من قبل، وهذه النظرية مطروحة سابقاً، وقد ردّها الأصوليون بكلمتين لوضوح بطلانها، فقالوا إنها لو كانت ذاتية لفهم الأعجمي اللغة العربية والعربي اللغات الأعجمية كما يفهم الجميع من رؤية الدخان وجود نار، ولما احتجنا لمعاجم وقواميس لمعرفة معاني الكلمات ما دام أن أصواتها تدل على المعاني ذاتاً، ويكذبها نفس صاحب النظرية، لأنه يرجع إلى القواميس لمعرفة معاني الكلمات التي يعرفها، ويكذبها الوجدان إذ لو طرحت كلمات غريبة على عينات عشوائية من الناس وطلبت منهم أن يشرحوا ما يفهمون منها لما توصلوا إلى شيء إلا إذا كان منشأ اعتبارها لدى الواضع هو الطبع كما تقدم ذكره.15- كيف نفسر وفق نظريته الترادف، وهو وجود كلمات متعددة لها معنى واحد، والاشتراك، وهو وجود معاني متعددة لكلمة واحدة، أو ما يسمى في البلاغة بالطباق والجناس وهي حالات موجودة كثيراً في لغتنا، وإذا أجاب بنفي وجودها فإن إنكارها كإنكار الأمر البديهي.

16- بماذا يفسر المجاز في الكلمة كقوله تعالى: [إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً] (يوسف:36) أي عنباً، سمي خمراً بعلاقة الأَوْل والمشارفة حيث أنه يؤول إليه؟ والمجاز في الإسناد كقولنا: (جرى الميزاب) أي الماء الذي في الميزاب؟ والكناية فنفهم من قولنا (زيد كثير الرماد) أي كريم، لأن معنى كثرة الرماد كثرة الطبخ الذي يعني كثرة الضيوف، فهذه كلها معاني تفهم خارج أصوات الحروف، فكيف تستوعبها نظرية (عالم)؟!

17-توجد أحاديث على أن للقرآن سبعين بطناً من المعاني، وقد نهى علي

ص: 460

(ع) ابن عباس عن الاحتجاج بالقرآن لأنه - على تعبيره (ع) - حمال ذو وجوه، فكيف تحصرها اللغة الموحدة في واحد؟ وكيف اهتدى النيلي إلى (النظام القرآني) في حين أن نظريته لو تمّت فإنها تعطي معنى واحداً فقط.18-إن النظرية لا تفرّق بين ما سماه الأصوليون المراد الاستعمالي والمراد الجدي، ويعنون بالأول المعاني المتبادرة من نفس الألفاظ بغض النظر عن كونها مرادة للمتكلم أم لا، ويعنون بالثاني المراد الحقيقي للمتكلم والذي قد يكون مطابقاً للأول أو غير مطابق، وإنما يفهم من خارج الكلمات بحسب التواضع والاعتبار الذي جرى عليه أبناء اللغة، ومن ذلك دلالة الإشارة فتقول لمن تريد إيقاظه لصلاة الصبح: (طلعت الشمس) أي انتهى وقت الصلاة، وقد تكون الدلالة المطابقية أي المراد الاستعمالي كاذباً ومع ذلك يكون المراد الجدي صحيحاً، فنقول: إن جون مولى أبي ذر (وجهه أبيض) رغم أن لون وجهه أسود، لكن المعنى المراد صادق باعتبار جميل صنعه وحسن موقفه في نصرة الإمام الحسين (علیه السلام).

والنظرية إن صحت فإنما تعطي المراد الأول، ولا تتكفل بالثاني، فكيف تغني عن جميع العلوم من بلاغة وتفسير وأصول ونحو وغيرها؟! والذي يزيد الطين بلة أنه ورد في الحديث الشريف: أن القرآن نزل بصيغة (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) أي أن المراد الجدي فيه مختفٍ وراء المراد الاستعمالي، ويؤكد القرآن ذلك كثيراً، حيث عبّر عن هذه الألفاظ بأنها أمثال لتقريب الحقائق والمعاني الواقعية للقرآن: [وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]

ص: 461

(إبراهيم:25)، وفي الحديث الشريف: (لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا)، أي المعاني التي هي وراء المعاني المتبادرة من الألفاظ التي يريد (عالم) أن يكتشفها بنظريته، فكيف سيحل أسرار القرآن ويفهم نظامه.19-إن المعاني التي أعطاها للحروف محدودة، بينما المعاني متكثرة ولا حصر لها، فكيف يمكن للمحدود أن يستوعب اللا محدود بينما عملية الوضع عند القائل بالاعتبار مفتوحة ويستطيع الواضع أن يربط بين أي عدد من الحروف ووفق أي ترتيب ويضعه لمعنى معين.

20-إنه بنظريته جعل دلالة الألفاظ على المعاني (اعتباطية)؛ لأن المسألة عنده ميكانيكية، فهذا اللفظ يجب أن يدلّ على هذا المعنى سواء قصده المتكلم أم لا، فتكون العملية خارجة عن إرادة وقصد المتكلم، وستنشأ فوضى في تبادل الأفكار، فالمتكلم يقصد شيئاً والمخاطب يفهم - وفق نظرية اللغة الموحدة - شيئاً آخر، وإن نظريته قهرية تفرض المعاني على الواضع بينما نحن نعلم أن عملية الوضع اختيارية، إذ ينقدح عندنا معنى معين أو فكرة معينة، فنعبر عنها بما نشاء من الألفاظ ولا نقهر عليها.

21- إن جعل دلالة اللفظ على المعنى ميكانيكية فسيولوجية تضييق لأفق اللغة الرحيب ولوي عنقها داخل قمقم - كما يشبهون - بينما هي ذوقية ذات قيمة جمالية تستوعب كل المعاني خصوصاً اللغة العربية التي اختارها الله تبارك وتعالى لتكون وعاءً لمعاني القرآن اللانهائية، أما هذه النظرية فتجعل معانيها محدودة ضمن القيم الصوتية للحرف فقط وهي محدودة.

22-إن بعض الحروف موجودة في لغة وغير موجودة في أخرى، ففي العربية

ص: 462

(ض، ظ، ق) وفي الانكليزية (H.V.G.P) وهنا أكثر من إشكال:أ -إذا كانت لغة البشر موحدة، فلماذا لم تشترك جميعها في الحروف؟.

ب -إذا كان لكل حرف معنى محدد لا يؤديه غيره، فلماذا لم يترك غياب بعض الحروف في لغة ما فراغاً في تلك اللغة؟.

23-إن القرآن الكريم يثبت وجود لغات متعددة، وقد امتن الله تبارك وتعالى على عباده بهذه النعمة فقال عز من قائل [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ] (الروم:22).

24-إن للغات قيمة اجتماعية بحسب ما تؤديه من وظيفة التفاهم ونقل المعاني والأفكار وتنتج من هذه فكرتان:

الأولى: إن لغتنا قد قامت بهذه الوظيفة وتقوم بها على أحسن أداء من دون الحاجة إلى أفكار عالم سبيط، وما دامت قد أدّت وظيفتها في المجتمع وتعامل معها أهلها على هذا الأساس فكيف يأتي هذا الرجل ويصفهم جميعاً بأنهم مخطئون؟ وما معنى الخطأ عندئذٍ ما دامت قد أدّت الغرض التي وضعت من أجله وهو كونها وسيلة لنقل المعاني والأفكار؟.

الثانية: عدم القيمة لنظرية اللغة الموحدة لعدم استطاعة أي أحد – بما فيهم عالم نفسه - أن يستفيد منها، أما ما طرحه من تقريب معاني بعض الكلمات فهو إما مأخوذ من المعاجم أو هو من الضحك على الذقون كما يقولون.

25-إذا كانت نظريته تغني عن العلوم فلماذا لم تعوضه عن أوضح علوم اللغة وهو النحو والإملاء؟ فجاءت كتاباته مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية

ص: 463

المغايرة لما ورد في القرآن الكريم وكلام العرب، فلم يستطع أن يستفيد من نظريته في تقويم لسانه وكتابته.26-يمكن اختبار صحة النظرية بأخذ عينات عشوائية من المؤمنين بصحتها وإلقاء كلمات غريبة عليهم ومطالبتهم بمعرفة المعاني من الأصوات، وستجد بنفسك حينئذ مدى صدق النظرية وقدرتها على الربط بين اللفظ والمعنى. وستكون المصيبة أعظم لو أخذت عينات من عامة أبناء اللغة الذين نفترض التفاتهم مباشرة إلى أي معنى لو كانت العلاقة ذاتية ولتوصل إليها الشخص بلا تعليم.

27-ويكذبها الوجدان فإننا نحس من أنفسنا وجداناً أننا قادرون على إنشاء لغة جديدة وابتكار ألفاظ لمعاني سواء على الصعيد المحلي أو القبلي، وأحياناً عند الصبيان الذين يبتكرون أصواتاً وكلمات للتعبير عن مراداتهم، وتؤدي وظيفتها من التفهم والتفهيم من دون الالتفات إلى هذه النظرية، فماذا نريد من اللغة أزيد من ذلك؟.

28-إن الألفاظ وإن ارتبطت بمعانٍ إلا أن وراء اللغة فكراً وعلوماً غير معاني الألفاظ، فإذا أفلحت النظرية في اكتشاف معاني الألفاظ فكيف ستهتدي إلى أسرار العلوم حتى تكون بديلاً عنها؟ فلو أمسكت بكتاب طبي أو هندسي أو فيزيائي باللغة العربية فإنك تعرف الكلمات ومعانيها لكنك لا تفهم العلم والفكر الذي تحمله إن لم تكن من أهل الاختصاص واللغة، إنما هي مجرد وعاء لتلك الأفكار ووسيلة لنقلها، فكيف يدعي هذا البائس إغناء نظريته عن تلك العلوم. وهو وإن ركز هجومه على علماء الإسلام

ص: 464

وعلومهم لحاجة في نفس يعقوب إلا أن المفروض تحدي نظريته لكل العلوم إذ لا خصوصية لبعضها عن بعض.29-إن فيها إغفالاً لعناصر أخرى تفيد المعنى غير الصوت كالكتابة، فيمكن أن نستفيد معاني كثيرة من خلال الكلمة المقروءة حتى لمن يفقد حاسة السمع كما أننا – وصاحب النظرية - نتعلم معاني كثيرة لكلمات من خلال قراءة المعاجم من دون الحاجة إلى الأصوات.

30-إنه لو كان فهم معاني اللغة متوقفاً على هذه النظرية فلماذا لم يبينها المعصومون (علیهم السلام) ما دامت اللغة هي الوسيلة لتبليغ الأحكام؟ فهل يعقل منهم (ع) أن يضعوا شريعة الله سبحانه في خزينة ويرمون مفتاحها في البحر ولا يهتدي إليه إلا (عالم سبيط)، وكأن الشريعة نزلت إليه وحده، بل لم يستطيع هو الآخر أن يفك رموزها وهذه البشرية كلها ضالة منحرفة لم تعرف الحقيقة رغم أن الأئمة أقروهم على ما هم عليه واتبعوا نفس أساليبهم في إيصال خطاب الشارع المقدس.

31-توجد في اللغة كلمات ذات أصوات مشتركة تطلق على معاني متباينة وإن حاول (عالم) أن يرجعها إلى أصل واحد، فكيف تميز النظرية بين معانيها، وتوجد كلمات ذات قيمة صوتية مساوية لمجموع قيمتي جزئيها كلفظ (مُحسِنٌ) أي فاعل الإحسان المساوية لمجموع كلمتي (مُحْ) وهو جزء البيضة (وسِنْ) وهو العظم الموجود في الفم، فكيف تهتدي النظرية للتمييز بينها بحسب قيمة الأصوات؟ وكيف تغايرت معانيها وهي ذات صوت واحد؟ أو (كلّما) الظرفية المساوية لمجموع (كل) و (ما) التي هم

ص: 465

اسم موصول، وهكذا.32- إن الدليل الذي استند إليه صاحب النظرية هو وجود تطابق بالمعاني واشتراك بالحروف بين كلمات اللغات المختلفة ليس تفسيره الوحيد هي نظرية اللغة الموحدة بل له تفسير آخر، وهو التزاوج بين اللغات، وعملية نقل المفردات في لغتين لا يعني محاولة إيجاد لغة موحدة للجميع وإجبارهم عليها واعتبار الألفاظ الأخرى خطأ.

وفي الختام أقول: هذه بعض النقوض التي ترد على نظرية اللغة الموحدة، وليس النيلي أول من اعتنقها بل هي سابقة عليه بأكثر من عشرة قرون، وممن قال بها من المتأخرين الشيخ عبد الله العلايلي، وقد قدم أطروحة أنضج وأكمل من أطروحة النيلي ومع ذلك لم يبلغ به الغرور أن يقول إن نظريته هي أعظم ما قدمه العقل البشري على الإطلاق، كما إن الرجل كان مؤدباً مع السلف وجهود العلماء الكبار المضنية، ولم يتحامل عليهم بحقد كما فعل هذا الرجل، ولا أدري كيف خرج بكل هذه النتائج وهدم كل ذلك البناء من أجل فكرة محتملة لم تختمر في ذهنه ولم تكتمل بعد. ولا أدري ما الذي دفعه إلى هذه التجاوزات هل حبه للظهور؟ أم سعيه وراء الجاه والصيت وبريق العناوين الكبيرة؟ أم رواسب إلحادية وعداء للدين(1) بقي في أعماقه رغم ظاهره المتدين؟ أم حقده وحسده للحوزة العلمية الشريفة؟ أم جهله الذي أقحمه في المهالك وجعله يدعي ما ليس عنده؟ أم هؤلاء الضالون المضلون من شياطين الإنس الذين زينوا له فعله وصوروا له أفكاره وكأنها معجزة البشر الأولى.خ.

ص: 466


1- مكث الرجل في الاتحاد السوفيتي مدة لدراسة هندسة الصواريخ.

قد يكون كل هذا أو بعضه أو غيره، لكن الأجود به لو كان ملتزماً بآداب العلم أن تبقى نظريته داخل الأروقة العلمية حتى تختبر صحتها ويعترف بها، من ثم يمكن ترتيب الآثار عليها.وليس هو وحده الذي يتحمل تبعة من ضلوا بسببه، وإنما يتحمل الوزر كل من شجعه وآزره وسانده مادياً ومعنوياً من جهلة ومرتزقة وأعداء للدين رأوا في هذه الأفكار خير ما يحقق مآربهم، لأنه يضرب الدين باسم الدين وباسم القرآن وأهل البيت (علیهم السلام) فنجاحه مضمون. لكن خابت ظنونهم وخسرت صفقتهم بإذن الله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ] (المسد: 1-3).

وينبغي الالتفات إلى أمور:

1-إن هذه النقوض كتبتها بالمستوى المناسب لذهنية الذين اعتنقوا أفكار النيلي والتي هي غير معمقة بدليل تمريرها عليهم وايمانهم بصحتها، فلو وجد منهم من يفهم واستطاع الرد على هذه النقوض فإني سأرد عليهم بمستوى أعمق بإذن الله تعالى.

2-إن هذه الأفكار مختصرة وعلى شكل رؤوس أقلام، وإن تفصيلها يحتاج إلى بسط في البيان ممكن للأخوة الفضلاء التصدي له بالشرح والتوضيح.

3-إنني لم أذكر شواهد تفصيلية(1) على ما قلت، لأن المناقشة في الجزئيات تطول، وقد تضيّع المطلب.ه.

ص: 467


1- قام اثنان من طلبة الحوزة بإشراف سماحة الشيخ (دام ظله) بإصدار كرّاسين لبيان مثل هذه الشواهد والتناقضات في كلامه.

حبس الحقوق الشرعية من الكبائر

اشارة

حبس الحقوق الشرعية من الكبائر(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

الشكوى الثانية للإمام (علیه السلام)(2) ما جاء في الرسالة الثانية التي وجّهها الإمام المهدي (علیه السلام) إلى الشيخ المفيد رحمه الله، والمؤرخة غرة شوّال سنة اثني عشر وأربعمائة(3)، أي قبل أكثر من ألف عام: (ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين(4)، أيّدك الله بنصره الذي أيّدَ به السلف من أوليائك الصالحين إنه من اتقى ربَّه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى

ص: 468


1- محاضرة ألقيت على حشد كبير من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية في مسجد الرأس الشريف في مناسبة دينية بعد ذكرى ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) في 13/رجب/1423 ه_ الموافق 20/ 9/ 2002 م. وأضاف لها أحد الفضلاء ملاحق ذات صلة وبعض التعليقات وطبعت في كتيب بنفس العنوان.
2- بعدما كانت الشكوى الأولى التي هي بمناسبة ولادة أمير المؤمنين عليه السلام والتي دار موضوعها حول صفات المؤمن وصفات الشيعة .
3- تجدها في كتاب الاحتجاج للطبرسي:2/ 324 . والذي يظهر من تأريخ التوقيع الثاني أنه وصل إلى الشيخ قبل وفاته بثمانية أشهر تقريباً حيث كانت وفاته في يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان المبارك سنة 413ه_ وعمره الشريف 75سنة أو 77 سنة وقبره اليوم في الرواق الكاظمي. وجاء في طرائف المقالات الجزء الثاني عن الشيخ يحيى ابن بطريق الحلي (إن الإمام الحجة (عليه السلام) كتب إلى الشيخ المفيد رحمه الله ثلاث كتب في كل سنة كتاباً).
4- لم يجاهد بسيف بل دفع الكثير من الشبهات عن مذهب أهل البيت عليهم السلام.

مستحقيه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته، ولو أن أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل).

أسباب حرمان البشرية من لقاء الحجة :

فالإمام (علیه السلام) يبينُ في هذا المقطع من الرسالة الشريفة أسباب حرمان البشرية وخصوصاً شيعته من طلعته المباركة وألطاف لقائه السنية، ويخصُ شيعته بالتأسف لأنهم مستحقون للفوز بلقائه بما يحملون من ولاء ونصرةٍ واعتقاد راسخ بهم (ع)، إلا إنه يمنعهم من ذلك بعض الموانع، أما غيرهم فهم غير مستحقين أصلاً للتشرف بلقائه، وقد جعل من أهم تلك الأسباب امتناعهم عن أداء الحقوق الشرعية التي فرضها الله تبارك وتعالى في أموالهم وإيصالها إلى مستحقيها.

الأمور المترتبة على عدم دفع الحقوق :

وقد رتب (ع) على ذلك أمرين :

1_ تأخير ظهوره (ع) وبما يعني استمرار معاناة البشرية من الظلم والاضطهاد والتعسف والانحراف والضلال وكثرة مستحقي النار من البشر.

2_ عدم الأمان من الفتن المضلة؛ لأن رايات ضلال عديدة تخرج قبل ظهور

ص: 469

القائم (عجل الله فرجه) وتخلط الأوراق على الناس، فيتيهون ولا يستطيعون التمييز بين راية الحق وراية الباطل، وقد عبّر أحد أصحاب الأئمة (علیهم السلام) عن مخاوفه من مثل تلك الفتنة، وسأل عن كيفية النجاة والإصابة في التمييز بين هذه الدعوات المختلطة، فقال (علیه السلام): (والله إن أمرنا لأبين من الشمس)(1)، ومن مقومات هذا الوضوح - بحسب ما أفادته الرسالة الشريفة - أداء الحقوق الشرعية.

كيف يبخل الناس على الله بما رزقهم؟

كما تشير الرسالة ضمناً إلى أن كل ما بأيدي الناس من أموال إنما هو شيء رزقهم الله تعالى إياه، ولو شاء منعهم، فكيف يبخلون عليه تبارك وتعالى بطاعته وتنفيذ أمره في إنفاق البعض اليسير مما رزقهم(2) لقضاء حوائج المحتاجين

ص: 470


1- إلا إن هذه الأضاليل تمرر على الذين لم يعدوا أنفسهم الإعداد المطلوب لتحمل أمر الإمام (عليه السلام) (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان)، أما المؤمن المخلص لله تعالى فسيكون أمر الإمام (عليه السلام) له أوضح من الشمس، وشواهد ذلك في واقعنا المعاصر كثيرة فكم ممن لهم مكانة علمية مرموقة تخفى عليهم أوضح الواضحات وتمرر عليهم الأباطيل، وكم من البسطاء ذوي القلوب النقية تعرف الحقيقة وتهتدي لها بيسر والمعيار في ذلك كله التقوى جاء في نهج البلاغة (واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن ونوراً من الظلم).
2- قال تعالى [قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ] (إبراهيم: 31) و [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ](البقرة:254) و (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3).

الذين ابتلاهم الله بالمنع والفقر كما ابتلى هؤلاء بالعطاء والغنى [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود: 7).

لماذا نركز حديثنا على الخمس :

وتندرج تحت عنوان الحقوق الشرعية مصاديق عديدة كالزكاة والخمس والكفارات والنذور وردود المظالم، أما الإنفاق المستحب فمجالاته واسعة جداً، ونحن نركّز في حديثنا هذا عن الخمس لأمرين:

1_ إنه من أهم الفرائض المالية، ويشكل اليوم عنصراً مهماً لحفظ التوازن الاقتصادي في المجتمع بعد أن قلّ دور الزكاة عمّا كانت عليه في صدر الإسلام بسبب تغيّر الحياة الاقتصادية، فبعد أن كانت عُمدَة واردات الناس مستندة إلى الزراعة وتربية الحيوانات التي هي موارد وجوب الزكاة أصبحت اليوم مستندة إلى التجارة والصناعة والحرف مما يخرجها عن دائرة وجوب الزكاة، فيشملها الخمس، فيكون تشريعه إلى جنب تشريع الزكاة دليلاً على خلود هذه الرسالة وصلاحيتها لتنظيم حياة البشرية إلى النهاية حيث خطط الشارع المقدس لكل تغيرات الحياة.

2_ توالي هجمات التشكيك في وجوب الخمس وصدّ الناس عن أداء هذه الفريضة بأساليب مختلفة تأتي الإشارة إليها بإذن الله تعالى.

مانع الخمس يستحق النار :

والخمس فريضة واجبة كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج في الموارد التي ذكرها الفقهاء (قده) استناداً إلى القرآن الكريم وسنة النبي العظيم

ص: 471

(صلى الله تعالى عليه وعلى وآله الطاهرين) الذين هم عدلُ الكتاب(1)، فمن أخلَّ بشيء منها فقد ارتكب كبيرة يستحق عليها [ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ](التحريم:6)، [يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ](الحج:2)، وقد عدّت بعض الروايات الشريفة بصراحة حبس الحقوق الشرعية من غير عسر من الكبائر، وقرنها الإمام الرضا (علیه السلام)(2) إلى الزنا وشرب الخمر واللواط والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والربا، وكذا في حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام)(3).

ما هو الدليل على وجوب الخمس؟

وقد نصّ القرآن على وجوب الخمس بقوله تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ](الأنفال:41)، ويراد بالغنيمة مطلق ما يستفيده الإنسان، ولا تختص بغنائم الحرب، قاله الراغب(4)، وأكدته موثقة سماعة، قال سألت أبا الحسن (علیه السلام)

ص: 472


1- راجع كتاب (شكوى القرآن) .
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 46 ح 33.
3- نفس المصدر ح36 .
4- المفردات في غريب القرآن مادة (غنم) . حيث يقول: (والغنم بالضم فالسكون، إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم ومن ذلك يظهر، أن المقصود

عن الخمس، فقال: (في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير)(1)، وغيرها.وقد أجمع علماء الفريقين على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يعمل بها، فيخصّ قرباه من بني هاشم بالخمس حتى وفاته (صلی الله علیه و آله)، ثم منعه القوم على مستحقيه من آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وجعلوهم كغيرهم (راجع الكشاف في تفسير هذه الآية ومسند أحمد وغيرها من الصحاح)(2).

وقد عبّر الأئمة (ع) عن لوعتهم لهذه المخالفة الصريحة للكتاب والسنة، فعن أبي جعفر الأحول قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): (ما تقول قريش في الخمس؟ قال: قلت: تزعم إنه لها؟ قال: ما أنصفونا والله، لو كان مباهلة لتباهُلنّ بنا، ولئن كان مبارزة لتبارُزن بنا، ثم يكون هم وعلي سواء)(3).

هل يُسقط الأئمة (عليه السلام) حقهم بسبب الظروف؟

نعم، قد يُسقط الأئمة) ع) حقّهم في فترةٍ ما بسبب الظروف التي يمرّون بها، كما في رواية يونس بن يعقوب قال: (كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت، وإنا عن ذلك مقصرون؟ فقال أبو عبد الله

ص: 473


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ح6 .
2- النص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص 50 .
3- كتاب الخمس ، أبواب قسمة الخمس ، باب 1 ح14 / 15 .

(ع): ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم)(1)، فالسائل كان يعلم بثبوت حق الإمام (علیه السلام) في ماله، لكن الإمام (علیه السلام) أكّد له أنه قد أسقطه عنه اليوم لا مطلقاً.لكن بعد ثلاثة أجيال يجد الإمام الجواد (علیه السلام) فرصة مناسبة لبيان بعض تشريعات الخمس، فكتب إلى بعض أصحابه: (إن الذي أوجبتُ في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومائتين لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كله خوفاً من الانتشار، وسأفسّر لك بعضه إن شاء الله: إن مواليَّ أسأل الله صلاحهم أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم، فعلمتُ ذلك، فأحببتُ أن أطهرهم وأزكّيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا، قال الله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ](التوبة:103-105) إلى أن قال (علیه السلام): (فأما الغنائم والفوائد فهي واجبةٌ عليهم في كل عام؛ قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ…)(2). ويأمر شيعته في نهاية الكتاب بإيصال الحقوق إلى وكلائه. وحرّموا (ع) التصرف قبل دفع الحقوق الشرعية، فعن أبي جعفر (علیه السلام): (لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً .

ص: 474


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب4، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 8 ، ح5 .

حتى يصل إلينا حقّنا)(1).وكتب رجل من تجار فارس من موالي الإمام أبي الحسن الرضا (علیه السلام) يسأله الإذن في الخمس، فكان مما قال في جوابه: إن (الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا، فلا تزووه عنا ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه؛ فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي الله بما عهد إليه)(2)، وسألهُ جماعة أن يجعلهم في حلٍّ من الخمس، فقال (علیه السلام): (ما أمحل هذا! تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنا حقاً جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس، لا نجعل لا نجعل لا نجعل لأحد منكم في حل)(3)، وفي مكاتبة الإمام صاحب العصر (ع) إلى سفيره محمد بن عثمان العمري (رحمه الله): (لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من استحلّ من مالنا درهماً)(4).

الوعيد بحق مانع الزكاة يشمل الخمس أيضاً :

جميع ما ورد من التهديد والوعيد لتارك الزكاة ينطبق على تارك الخمس بوجهين:

1_ إن كليهما فريضتان ماليتان، والغرض منهما واحد، بل إن أمر الخمس أخطر

ص: 475


1- أبواب ما يجب فيه الخمس ، باب 1 ح4 .
2- وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، باب 3 ح2 .
3- نفس الباب، ح7 .
4- نفس الباب ح7 .

لتعلق حق أهل البيت (علیهم السلام) وذرياتهم فيه بعد أن حُرّمت عليهم الزكاة، قال الصادق (علیه السلام): (إن الله لا إله إلا هو لما حرّم علينا الصدقة أبدل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا فريضة)(1)، وإنما صار الاهتمام بالزكاة في صدر الإسلام لما قلناه من أنّ طبيعة الحياة الاقتصادية يومئذٍ كانت مورداً لوجوب الزكاة.2_ إن كثيراً من موارد ذكر الزكاة أريد بها معناها الأعم، أي مطلق الإنفاق الواجب في سبيل الله تعالى، أي عموم الحقوق الشرعية لا خصوص الزكاة المصطلحة(2)، كما قد يعبّر عن الزكاة الواجبة بالصدقة(3) في مثل قوله تعالى: [إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها...](التوبة:60)، ومما جاء في مانع الزكاة الشاملة لمانع الخمس بالتقريب المتقدم ما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (ما من عبدٍ منع من زكاة ماله شيئاً إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، وهو قول الله عز وجل: [سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] (آل عمران: 180) (يعني ما بخلوا به من الزكاة)(4). .

ص: 476


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب المستحقين للزكاة ، باب 29 ح7.
2- كما انه قد يعبر عن الصدقة بالزكاة كما عبر الله تعالى عن تصدق أمير المؤمنين (عليه السلام) بخاتمه بقوله: [إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ] (المائدة:55) .
3- قال تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](التوبة:103) .
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 3 ح3 .

ويتخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) إجراءً في حق مانعي الزكاة بإخراجهم من المسجد، كما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في المسجد إذ قال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أخرج خمسة نفر، فقال: (اخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون)(1)، وعن أبي عبد الله (علیه السلام): (من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)(2)، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) قال: (يا علي، كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال: يا علي، ثمانية لا يقبل الله منهم الصلاة، وعدَّ منهم مانع الزكاة، ثم قال: يا علي، من منع قيراطاً من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا بمسلم ولا كرامة، يا علي، تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا، وذلك قوله عز وجل: [حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(3)](المؤمنون: 99)(4).

لعدم دفع الخمس آثارٌ وضعية :

وتكون المشكلة أعظم عندما نعلم إن لعدم دفع الخمس آثاراً وضعية؛ فإن

ص: 477


1- نفس الباب ح7 .
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح5 .
3- وتفهم ذلك من خلال قوله تعالى [وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ] (المنافقون:10) إذا تمعنت جيداً في هذه الآية الكريمة تدرك ما للصدقة من أهمية بالغة فأول شيء يأتي على ذهن العبد بعد الموت هو (الصدقة).
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 4 ح7 .

اللقمة غير المُخمّسة تكون حراماً فتترك آثاراً سيئة في الذرية التي تتكون منها، والملبس غير المخمس لا يكون مباحاً فلا تصح الصلاة فيه، والماء إذا لم يكن مباحاً فالوضوء به باطل، وبذلك تتراكم هذه الذنوب والمشاكل على مانع الحقوق الشرعية.

علاج مشكلة عدم دفع الناس للخمس :

ولما كان العلم بالشيء والاقتناع به هي الركيزة الأساسية للاندفاع نحو العمل والتطبيق، وطالما قلنا(1): إن علاج أي مشكلة يجب أن يتوجه أصلاً إلى علل المشكلة وأسبابها ومناشئها، لا معلولاتها وآثارها الظاهرية ونتائجها، فإنه عمل غير حكيم(2).

فالعلاج يكون على مستويين :

المستوى الأول: عام، بمعنى كيف نحفّز الناس على طاعة الله تبارك وتعالى

ص: 478


1- راجع كتاب (شكوى القرآن) فصل : ما هي الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح البشرية.
2- فأكثر مناهج علم الأخلاق تجدها تركز على جانب المعلولات ولا تعالج العلة أو السبب لهذه الرذائل فمثلاً عندما يتكلم عن رذيلة من الرذائل فإنه يتناولها من جميع الجهات من حيث معنى الرذيلة وذمها في الأخبار وعلاجها إلا أنه لا يتطرق إلى بيان مناشئ هذه الرذيلة في النفس الإنسانية والنوازع التي تؤدي إلى ظهورها وكيفية إزالة هذه العلل والأسباب واجتناب المرض من أصله (فقد تجد أن سبب الغيبة مثلاً إما الحسد أو الأنانية أو الاستعلاء وكذلك تجد أن الغفلة وراء جميع المعاصي وهكذا) لذا ينبغي عدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض الظاهرية للمرض كما أشير إليه بوضوح في كتاب (شكوى القرآن).

عموماً وليس في الخمس فقط، ونثير فيهم الاستجابة لداعي الله تبارك وتعالى؟ [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ] (الأنفال:2)، [يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (الأحقاف:31-32). وقد فصّلنا القول في ذلك في فصل (ما هي الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح البشرية) من كتاب (شكوى القرآن)، وفي محاضرات (فلنرجع إلى الله)، وخطبة يوم عيد الأضحى للعام الماضي/ 1422 المنشورة في كتاب (من وحي المناسبات).وقلنا هناك: إن من الفروق بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية أن الشرائع الإلهية تربي الإنسان من الداخل أولاً وتبني ذاته، لذا يندفع إلى التطبيق بلا رقابة من الخارج ولا يحتاج إلى أي ضغط للطاعة والامتثال، بينما القوانين الوضعية تحتاج إلى فرض عقوبات وأجهزة مراقبة وردع، ومع ذلك يحاول الشخص بكل وسيلة التحايل والالتفاف عليها، خذ مثلاً الخمس، فإن المؤمن هو وحده يحاسب نفسه ويخرج ما عليه من حقوق ويأتي بكل سرور ليسلمها إلى الحوزة الشريفة أو يصرفها في مواردها، بينما يتهرب بكل الوسائل من الضرائب التي يفرضها عليه القانون، فهذا هو فرق أساسي بين الإسلام والحضارة المادية.

المحفزات التي تدفع المكلف نحو التطبيق :

وألخصُ لكم بعض هذه المحفزات التي يستثيرها الدين ليدفع المكلف نحو الاستجابة، مع تطبيقها على ما نحن فيه، وقد قسمتها هناك إلى ثلاث محاور

ص: 479

نفسية وعقلية وقلبية باعتبارها مداخل الإنسان المتعددة ومنها: 1- إن نعم الله علينا كثيرة [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها] (النحل:18)، سواء في أبداننا أو حياتنا والطبيعة التي من حولنا عموماً، ومن شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل [هَلْ جَزاءُ الإِْحْسانِ إِلاَّ الإِْحْسانُ] (الرحمن:60)، [وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (القصص:77)، ولما كان الله غنياً عن عباده فيكون رد الجميل إليه بطاعته واستعمال نعمه فيما يرضيه تبارك وتعالى، ومن غير الإنصاف والمروءة أن نعصيه بالنعم التي منّ بها علينا ونبخل عليه بحقه، عن أبي جعفر (علیه السلام): (أن الله تعالى يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيد أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً يقولون: هؤلاء الذين منعوا خيراً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله فمنعوا حق الله في أموالهم)(1).

2- إن كل واحدٍ منا يحب أن تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي، وقد وعدنا سبحانه [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ](إبراهيم:7)، وفي الحديث: (بالشكر تدوم النعم)، ومن أشكال شكر النعمة أن تؤدي حق الله فيها ليزيدها الله تبارك وتعالى، وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث: (واستنزلوا الرزق بالصدقة)(2)، وعموماً فإن طاعة الله تبارك وتعالى سبب لإفاضة البركات: [وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ] (الأعراف:96).1.

ص: 480


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه الزكاة ، باب 6، ح4 .
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.

3- إنه إذا أخبرنا إنسانٌ ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فإننا نهرب بلا تردد في الاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكّد هذا الخبر ثقة آخر ازداد استعدادنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومثلهم من الأوصياء والعلماء وكلهم ثقاة أنه سيكون هناك يوم قيامة، يثاب فيه المطيع على طاعته، ويعاقب العاصي على عصيانه بنارٍ وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا البيان المؤكد الحذر والابتعاد عن كل ما يورّطنا في هذه النار المتأججة ولو احتمالاً؟ وقد وصفها الله تعالى بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أنّ معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأن طاعته تورثنا جنةً عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ] (السجدة:17).

4- أن نسأل أنفسنا سؤالاً: ماذا يخسر الإنسان لو أطاع الله سبحانه واستقام على الشريعة؟ إنه لا يخسر شيئاً، بل على العكس فإنه يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه، وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الإيمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى: [وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ] (النساء:104)، وقال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآْياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف:32)، وقد اتبع هذا الأسلوب الإمام الصادق (علیه السلام) حيث قال لأحدهم: (يا هذا إن كان ما تقول أنت - بأنه لا جنة ولا نار ولا حساب - حقاً فنحن وأنتم سواء، فإننا

ص: 481

نأكل كما تأكلون وننكح كما تنكحون، وإن كان الأمر كما نقول - وهو كما نقول - هلكتم ونجونا)(1)، وهو أسلوب لا يستطيع أن يرفضه أي عاقل، وقد جرّب الكثير ممن بدأوا بإخراج الخمس من أموالهم أن ثروتهم ازدادت، حتى أن بعضاً من غير الملتزمين بطاعة الله يخمّسون من أجل زيادة الثروة، فأين الخسارة إذن؟!.5- أن نلتفت إلى أنّ الله تعالى مطّلع علينا ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد جعل على كل واحدٍ منا ملائكة يحصون الأعمال في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وجعل الشهود على ذلك من أعضائنا التي نمارس بها حياتنا: [حَتَّى إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ] (فصلت: 20-24)، فإذا التفتنا إلى هذه الحقائق فسنكون دقيقين في تصرفاتنا وسنحسب ألف حساب قبل أن نورط أنفسنا في المعصية ومخالفة الشريعة، ومنها حبس الحقوق الشرعية وعدم إخراجها من المال.).

ص: 482


1- قال تعالى: [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء:104).

6- إن الإنسان الذي يمتنع عن إعطاء شيء من نفسه أو ماله لطاعة الله تعالى فإنه سيدفع أكثر منها في معصية الله وهو راغم، وستكون عليه حسرة يوم القيامة: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال:36).

وأنقل لكم الحديث التالي عن الإمام الصادق (علیه السلام) وهو حجة دامغة في وجه كل من يمتنع عن أداء الحقوق الشرعية، قال (علیه السلام) في قول الله عز وجل: [كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ] (البقرة:167)، قال (علیه السلام): (هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً - وقد عرفت البخيل قبل قليل - ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)(1).

وقد وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) مثل هذا الرجل بقوله: (إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)(2)، وهذا الحديث كافٍ [إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق:37)، [وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ] (الحاقة:12)، عن الصادق (علیه السلام) قال: ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير .

ص: 483


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح5 .
2- نهج البلاغة ، باب الحكيم ، رقم 429 .

حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم القيامة)(1)، وعنه (علیه السلام): (من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)(2).7- إن من يطيع الله سبحانه ويتجنب معصيته يعيش لذة الانتصار على أعدى أعدائه، وهي نفسه التي بين جنبيه الأمارة بالسوء، وكلّما كانت شهوة النفس واندفاعها للفعل قوياً كلما كان الترك أشد لذة، وكلما كانت رغبة النفس في الترك قوية كان الفعل أكثر لذة، مثلاً تعرض أمامك امرأة متبرجة قد أظهرت مفاتنها أو طالبة جامعية أو زميلة في دائرة تبرعت بإنشاء علاقة عاطفية غير مشروعة معك فتنتصر أنت على نفسك الطموحة إلى ذلك فتعيش لذة الانتصار بشكل لا يوصف، وهو ما أشار إليه الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها لله تعالى أبدله الله نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه)، والمال من أقوى ما تتعلق به النفس، قال تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] (آل عمران: 14)، وقال تعالى: [الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا] (الكهف:46)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد عليهم من إخراج الدرهم)(3)؛ لذا كانت لذة الانتصار على هذا العدو عظيمة تستحق أن يبذل المال بإزائها بلطف الله تعالى، عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه ع قال: (قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: .

ص: 484


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1 .
2- نفس الباب ، ح2 .
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 2 ح14 .

إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من خزّان الجنة فيمسح صدره ويسخى نفسه بالزكاة)(1).المستوى الثاني : خاص، وذلك بدراسة وتحليل الأسباب التي تؤدي بالناس إلى الامتناع عن دفع الحقوق الشرعية ومن ثمّ وضع العلاج لها.

أسباب عدم دفع الناس الخمس :

ومن تلك الأسباب ما يلي:

1- الجهل بوجوب الخمس، فبعضهم لا يعلم بوجوبه أصلاً، وبعضهم يظن وجوبه على خصوص الموسرين، وقد رسّخت هذا الجهل الأجيال المتعاقبة من المسلمين بإعراضهم عن امتثال هذه الوظيفة وترفّع العلماء عن المطالبة بها خشية سوء الظن بهم(2).

2_ حملات التشكيك التي يمارسها أعداء الدين والمذهب ويروّج لها المرتزقة والجهلة السذّج بكل القنوات المتاحة، كالكتب والنشرات والصحف والمجلات وغيرها، فتارة يقولون بعدم وجوبه أصلاً وإنه لم يذكر في القرآن وإنه خاص بغنائم الحرب(3)، أو إنه خاص بزمان رسول الله (صلی الله علیه و آله)،

ص: 485


1- المصدر السابق، نفس الباب ح16.
2- أضف إلى عدم وضوح لغة الرسائل العملية بحيث يصعب على المكلف فهم ما يجب عليه وما لا يجب.
3- إن الذهاب إلى قصر وجوب إخراج الخمس، على خصوص غنائم دار الحرب، لا ينسجم مع خلود الإسلام وبقائه من ناحية عملية، واستمرار الدولة الإسلامية زمن قيامها، في تحمل الأعباء الضخمة، التي تترتب عليها تجاه الأمة وذلك من وجوه عدة أهمها:أ. إن الحروب قد أغلقت أكثر أبوابها وانحصرت، وانحسر ظلها، فانحسر بذلك ما قد يترتب عليها، في حال انتصار المسلمين من غنائم. ب. إن نتائج هذه الحروب، ليست مضمونة إلى جانب المسلمين في كثير من الأحيان. بل بالعكس فقد تكون نتائجها في غير صالحهم، فتكون الغنائم من نصيب أعداء الإسلام.

وهم قبل غيرهم يعلمون زيف هذه الدعاوى، لكنهم يبتغون بذلك تقويض إحدى الركائز المهمة للدين والمذهب.3_ سوء تصرف بعض الوسطاء والوكلاء في نقل الحقوق الشرعية، مما يقلّل من الثقة بالدفع إليهم؛ إما لتوسّعهم في أمور المعيشة وترفهم، أو لعدم إيصالها إلى المرجعية المقصودة، أو لعدم نزاهتهم.

4_ النفس الأمّارة بالسوء التي تشحّ بإنفاق المال ومطلق عمل الخير؛ فالكثير من الناس يؤدي الفرائض التي لا تكلفه مالاً، أما التي تحتاج إلى بذل المال فيتردد فيها.

5_ الغفلة عن موارد صرف هذا الحق الشرعي، ولو عَلم أنها تصرف في قضاء حوائج المؤمنين وتزويج شبابهم لتحصينهم من الحرام ومعالجة مرضاهم وشؤون الحوزة العلمية الشريفة وحفظ كيانها ومدارسها الدينية التي أنجبت عبر التاريخ آلاف العلماء والمفكرين والكتّاب والخطباء الذين ساهموا في نشر الوعي الديني وحفظ المذهب الشريف والإسلام العظيم طيلة ألف وأربعمائة عام وكأنَّ الدين نزل اليوم، ولو علم الإنسان ذلك لأدّى ما عليه من حقوق بكل سرور، إن كان غيوراً على دينه ومجتمعه ومخلصاً في التزامه.

ص: 486

6_ قلة الثقة بما عند الله، مما يجعله متمسكاً بما عنده من متاع زائل(1).

هذه بعض الأسباب مما خطر في ذهني القاصر.

علاج عدم دفع الناس الخمس :

وإذا عرفت السبب أمكن التفكير في علاجه من خلال نقاط:

1. تصدي الحوزة الشريفة لبيان الأدلة الكافية على وجوب هذه الفريضة العظيمة، وشمولها لكل ما يستفيده المرء من مكسب، فيجعل له يوماً في السنة يحاسب فيه نفسه، فيستثني مؤونته الشخصية من مسكن وملبس ومأكل وأثاث لائق بشأنه وواسطة نقل، ثم يخمّس الزائد إن وجد، وتوجد تفاصيله في الرسائل العملية للفقهاء(2).

2. الرد على الشبهات والشكوك التي يُلقيها المضلّون في أذهان البسطاء والسذج، وإلفات الناس إلى المقصود الأساسي لهؤلاء والذي يموّهون عليه بهذه الشبهات.

3. أن ينتصر المسلم على نفسه الأمَارة بالسوء؛ فإن اتباع الهوى والانسياق وراء النفس من المرديات، فإنها أعدى أعدائك بميلها لاتباع الشهوات وتمردها على الطاعة، فالمؤمن الشجاع من ملك زمام نفسه ليقودها إلى ما فيه النجاة ويستعين على قهر نفسه بما ذكرناه آنفاً من المحفزات.

ص: 487


1- قال تعالى: [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] و [(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً] و[وَلَلآْخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُْولى].
2- التي ينبغي تبسيطها للمكلفين ليسهل فهمها ومعرفة التكليف الشرعي.

4. الالتفات إلى موارد صرف الخمس التي ذكرناها قبل قليل وتسليمه إلى الثقات الذين يضعون الحقوق في مواضعها، وإطلاع المكلف بنفسه أو مباشرته الصرف على المحتاجين بإذن الحوزة الشريفة، وسيرى نفسه مسروراً بمساهمته في هذه المصارف الجليلة التي وعد الله تعالى من ينفق ماله فيها الأجر الجزيل، والله يضاعف لمن يشاء.

5. أن يعلم المكلف أنّ كل ما عنده هو مما رزقه الله تبارك وتعالى، والله غني عن العالمين، وإنما يريد بفرض هذه الواجبات المالية ليبتلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، وليطّهرهم ويزكيهم ويحررَّهم من أسر الشهوات والأهواء، حتى يخلصوا الانقياد والطاعة له تبارك وتعالى، قال عز من قائل: [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](التوبة:103)، قال الإمام الصادق (علیه السلام): (إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا)(1)، وقال (علیه السلام): (إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنَّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له)(2).

ومما يحسن الالتفات إليه أن من العوامل المهمة التي حفظت توازن .

ص: 488


1- وسائل الشيعة: كتاب الخمس ، أبواب ما يجب فيه الخمس باب 1 ، ح3 .
2- كتاب الزكاة ، أبواب ما تجب فيه ، باب 1 ح6 .

مجتمعنا رغم الحصار(1) والضيق الذي يمر به منذ أكثر من عشر سنين هو ما يصرف على المحتاجين من مليارات الدنانير من الحقوق الشرعية.6. أن تتحلى الحوزة الشريفة والوكلاء والوسطاء بالورع والتقوى والثقة والأمانة وحسن مواساة الناس في الملبس والمأكل ومستوى المعيشة، خصوصاً في زمان العوز والفاقة كالذي نعيش فيه ويتأسوا بأمير المؤمنين (علیه السلام) الذي رقَّع مدرعته حتى استحيى من راقعها، فقيل له في ذلك وهو رئيس دولة مترامية الأطراف، قال (علیه السلام): (لكي لا يتبيَّغ بالفقير فقره)(2) أي تضغط عليه الحاجة ولا يجد من يواسيه فيتمرد ويخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى.

7. أن يحسن العبد الظن بالله تبارك وتعالى، فقد وعده أن يخلف عليه، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (من أيقن بالخَلَف جادَ بالعطيّة)(3)، وقال الله عز وجل: [وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] (سبأ:39)، وقال الصادق (علیه السلام): (من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة: انفق ولا تخف فقراً،9.

ص: 489


1- فرض مجلس الأمن الدولي منذ غزو صدام المقبور للكويت عام 1990 قرارات ظالمة على العراق وشعبه ومنها الحصار الذي شمل حتى الغذاء والدواء، وتضرر الشعب العراقي بما لا يوصف ودفع ثمناً باهظاً واضطر لفعل كل شيء من أجل توفير لقمة العيش وإنهاء الاقتصاد، وارتفعت نسبة التضخم إلى أرقام فلكية حتى أصبح الدولار مساوياً ل_ (3000 دينار عراقي بعد أن كان الدينار يُصرَّف بأكثر من ثلاثة دولارات، وبقيت رواتب موظفي الدولة عند 4-5 دولارات شهرياً، ولولا بقية من دين وأخلاق لأكل الناس بعضهم بعضاً.
2- نهج البلاغة ، باب الحكم رقم 138
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 2، ح9.

وأنصف الناس من نفسك، وأفشِ السلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقاً)(1).

الآثار الإيجابية المترتبة على دفع الحقوق :

ويضاف إلى كل ذلك ما ذكر من آثار إيجابية في الدنيا والآخرة تترتب على الإنفاق ودفع الحقوق الشرعية ومن نتائج سلبية تترتب على الترك، وأي أجر ذكر للتصدق فهو شامل بالأولوية لدافع الخمس والزكاة؛ لأن التقرب إلى الله بالفرائض أكثر بما لا يقاس من التقرب بالنوافل والمستحبات، ففي الحديث: (ما عبد الله بشيء كالفرائض) كما إننا ذكرنا أن الصدقة بمعناها العام تشمل الزكاة والخمس وكل إنفاق في سبيل الله.

ومن هذه الآثار الإيجابية قوله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة:261)، قال رسول الله ص (داووا مرضاكم بالصدقة وحصّنوا أموالكم بالزكاة)(2)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بمنع الزكاة)(3)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الشحيح من منع حق الله وأنفق في غير حق الله)(4) وتمّمها بحديث آخر (حرام على

ص: 490


1- المصدر السابق، نفس الباب، ح8 .
2- المصدر السابق، باب 1 ح14 .
3- المصدر السابق، باب 3 ح9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة .
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه ، باب 5 ح12 .

الجنة أن يدخلها شحيح)(1) وعن رسول الله ص: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبدٍ أبداً)(2). وشكى شخص إلى الإمام (علیه السلام) إنه يرى أحلاماً مفزعة في المنام فقال (علیه السلام): (إنك لا تؤدي الزكاة قال بلى أؤديها قال إذن لا تضعها في محلها)(3)، وقال الصادق (علیه السلام): (استنزلوا الرزق بالصدقة)(4) وقال (علیه السلام): (داووا مرضاكم بالصدقة وما على أحدكم أن يتصدق بقوت يومه، إن ملك الموت يدفع إليه الصك بقبض روح العبد فيتصدق فيقال له: رد عليه الصك)(5). وقال (علیه السلام): (الصدقة باليد تقي ميتة السوء وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء)(6)، وعن رسول الله ص: (إن الله ليربّي لأحدكم الصدقة كما يربّي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل أُحد)(7)، وقال رسول الله ص: (صدقة السر تطفئ غضب الرب)(8) وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (البر وصدقة السر ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة سوء)(9). .

ص: 491


1- المصدر السابق، نفس الباب ح1 .
2- المصدر السابق، نفس الباب ح15 .
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة باب 4 ح1 ، 6 .
4- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة ، باب 3 ح1.
5- المصدر السابق، نفس الباب ، ح2 .
6- المصدر السابق، باب 5 ح1 .
7- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 7 ، ح8 .
8- المصدر السابق، أبواب الصدقة باب 13 ح1
9- المصدر السابق، أبواب الصدقة ، باب 13 ح9 .

كيف نفهم فلسفة هذه الأحاديث ؟

ويمكن فهم فلسفة هذه الأحاديث من ناحية اقتصادية واجتماعية ونفسية فحينما يقول (ع) (استنزلوا الرزق بالصدقة) لأن انتشار الفقر يؤدي إلى ضعف القدرة الشرائية وتوقف عجلة الاقتصاد، فبدفع الحقوق الشرعية تتولد قدرة شرائية عند الناس فتتحرك عجلة الاقتصاد وتنمو الثروة .

وحينما يقول (ع): (حصّنوا أموالكم بالزكاة) لأن الحاجة تدفع إلى السرقة وارتكاب الجرائم وابتزاز الأموال، فإذا قضينا على الفقر بدفع الحقوق الشرعية فسنسدّ بابا عظيماً للجريمة.

وحينما يقول (ع): (داووا مرضاكم بالصدقة) لأن الأمراض والعقد النفسية والاضطراب وفقدان السعادة هي من أهم أسباب الأمراض، ومنشأها الرذائل النفسية كالطمع والحسد والاستئثار وحب الدنيا والحقد والجشع والكبر، فإذا طهّر نفسه منها فإنه سيعيش في صحة وسلامة وسيكسب الاطمئنان النفسي الذي هو علاج مهم للأمراض.

كيف يتعامل الوكلاء مع الحقوق ؟

وأريد أن استثمر هذه المناسبة لإيضاح فكرة أسيء فهمها وأسيء تطبيقها، ذلك إن المرجعيات المتأخرة دأبت على إعطاء مقدار من الحق الشرعي الذي يجلبه وكيل المرجعية الشريفة إليه لغرضين:

الأول: سد احتياجات هذا الوكيل لكونه قد كرّس نفسه لتحصيل العلم والقيام على مصالح الدين والمجتمع ولم تبقَ لديه فرصة للكسب وتحصيل

ص: 492

الرزق.الثاني: قضاء حوائج المؤمنين في المنطقة التي فيها الوكيل لأن المرجعية لا تصل إلى كل فقير في المجتمع فيكون هؤلاء الوكلاء عينها التي تراقب وتلاحظ ويدها التي تعطي وتمنح.

فالمال الذي يعطى إلى الناقل إنما هو تخويل له وتفويض في أن يقضي به حاجاته الخاصة بالمعروف، والحاجات العامة، وليست هي ملكاً شخصياً له كما توهم بعضهم باعتبار إنهم من العاملين عليها فيستحقون جزءاً منها رغم إن مصارف الخمس محدّدة بوضوح [فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى] - وهذه تذهب للإمام (علیه السلام) أو لنائبه بالحق – [وَالْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ] (الأنفال:41) - من بني هاشم خاصة وهو المعروف بحق السادة)، وليس منها عنوان العاملين عليها كما إن حق السادة ليس لكل سيد وإن لم يكن محتاجاً(1) بل هو للمحتاجين منهم يصرفونه على أنفسهم بالمعروف. كرامة لهم عن الأخذ من الزكاة التي عُبّر عنها في بعض الأحاديث إنها (أوساخ الناس) فيُفهم اشتراط الحاجة في السيد المنتسب إلى هاشم، إما من نص الآية المتقدمة أو من مقتضى البدلية عن الزكاة .

أما عنوان (العاملين عليها) فقد ورد في الزكاة والمقصود بهم المخمنون وجباة الضرائب الذين كانوا يجوبون البلدان ويحسبون الأراضي والأنعام ليستخرجوا مقدار الزكاة المتعلق بها ثم يعودون بالزكاة التي جمعوها إلى بيت .

ص: 493


1- كما هو المتعارف لدى الناس وكذلك يدعي بعضهم أن السيد لا يجب عليه دفع الخمس فهو يأخذ فقط ولا يعطي وهذا القول باطل فالآية الكريمة لم تستثن أحداً في وجوب الخمس .

المال، وناقل الحقوق الشرعية لا يقوم بمثل هذا العمل حتى يعطى مثلهم.إن سوء فهم هذه الفقرة أدّى إلى الظن بأن هذه الحصة خالصة للوكيل يفعل بها ما يشاء ويتصرف تصرّف الملاك ويتوسع في الإنفاق على حساب حاجات المجتمع ومصالحه، وقد أدى ذلك إلى تضييع حقوق الفقراء وعدم رعايتهم وإهمالهم، وتنافس بعض طلاّب الدنيا على جمع الحقوق.

وقد أثبتت التجارب أن من يتوسع في صرف الحقوق الشرعية ويهتم بأنانيته لا بالناس ذاق ذلاً وهواناً في الدنيا أما في الآخرة فحسابه عند ربه أما من ترفّع عنها ولم يأخذ منها إلا بالمعروف أو بمقدار الضرورة فقد كرّمه الله سبحانه وأعلى ذكره وهو في مقعد صدق عن مليك مقتدر .

فقدان الثقة بالوكيل لا يسوغ عدم دفع الحقوق :

وبسبب هذا التوسع الذي يكون سريعاً أحياناً فقد الناس الثقة بعدد من وكلاء الحوزة الشريفة، وربما استخدمها بعض العصاة ذريعة للامتناع عن دفع الحقوق الشرعية، وهو ليس معذوراً بذلك إذ لا يمكن أن يكون خطأ الآخرين مبرراً لخطأي، إذ يمكن للمكلف أن يوصل الحقوق الشرعية إلى المرجع مباشرة، أو إلى الوكلاء الذين ثبت إخلاصهم وورعهم وحرصهم على المصالح الاجتماعية، أو يستأذن بصرف حقوقه مباشرة إلى المحتاجين لما في ذلك من إيجابيات كثيرة لأنه أحرص على وضع حقوقه في موضعها، ولما ورد من الثواب في تسليم المال إلى الفقير يداً بيد وأن يقّبل المعطي يده بعد العطاء لما ورد من إنها تقع في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد الفقير وهو قوله

ص: 494

تعالى [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] (التوبة:104)، وفيه روايات عديدة(1) ولاستحباب مواساة المؤمنين وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم وإغاثة ملهوفهم(2) عن محمد بن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فدخل رجل فسلّم فسأله كيف من خلفت من إخوانك، قال: (فأحسن الثناء وزكى وأطرأ فقال له: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم فقال: قليلة، قال: فكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ قال: إنك لتذكر أخلاقاً قلّما هي فيمن عندنا، قال: فقال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم شيعة)(3) وعن سعيد بن الحسن قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): أيجيئ أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر (علیه السلام): فلا شيء إذن)(4).

دور الحوزة في توعية المجتمع :

وتقع على الحوزة الشريفة مسؤولية عظيمة بأن تكون أهدافهم سامية، وهو نيل رضا الله سبحانه والقربى منه والزلفى لديه والعمل بكل ما يقرب الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وأن يكونوا قدوةً حسنة للناس بأخلاقهم وأعمالهم وإن لم يتحدثوا بألسنتهم تطبيقاً للحديث الشريف (كونوا لنا دعاة

ص: 495


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 29 .
2- راجع محاضرة 13 رجب 1423 بعنوان (صفات المسلم في منظار أهل البيت عليهم السلام).
3- و (4) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ، باب 27 ، ح3 ، ح5.

صامتين) وفي حديث آخر (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)، فهم ورثة الأنبياء وأولى من يتأسى برسول الله ص وأمير المؤمنين (علیه السلام) الذي يتأوه ويتضرع إلى الله سبحانه من أي تقصير محتمل في أدائه للمسؤولية ويقول (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقمهما)(1). ويأمر أصحابه بمراقبة أفعاله ومحاسبته على تصرفاته وإن كان على رأس دولة واسعة ويقول لهم (إن خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة فأنا خائن) وهكذا مضى (ع) طاهراً نقياً فإذا أردنا الفوز بلقائه (ع) وصحبته فلا بد من التأسي به ولا تخدعنا العناوين البرّاقة والمواقع الاجتماعية الزاهية فإنها دنيا زائلة لا تسوى عند أمير المؤمنين (علیه السلام) شسع نعلٍ بالٍ، ولا نكون شيعته حقاً إلا إذا شاركنا الناس في معاناتهم وبذلنا الوسع في قضاء حوائجهم وتفهّم مشاكلهم خصوصاً في هذا الظرف العصيب.

ولنتذكر دائماً أن هذه المواقع التي نحن فيها أمانة في أعناقنا، فهل أديناها إلى أهلها وهو الإمام المهدي (علیه السلام) ولا يعتبر أحدٌ أن هذه الأموال غنيمة فاز من استكثر منها بل هي مسؤولية يجب الخروج من عهدتها [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ](الصافات:24)، وحينئذٍ يكون في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب فأي هذه النتائج الثلاث تتحملها في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة، وأي تقصير في أداء هذه الأمانة يكون خيانة لله والله لا يحب).

ص: 496


1- بحار الانوار341 - 40 باب 98- زهده و تقواه و ورعه (عليه السلام).

الخائنين قال تعالى [هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (المائدة:119)، وماذا يضرّنا لو كنّا صادقين في أقوالنا وأفعالنا وتخلينا عن كل ما لا يليق بنا حتى من المباحات التي ليس فيها حرمة شرعية إلا إن فيها منقصة أخلاقية.نسأل الله جلّت آلاؤه العصمة والتسديد في القول والعمل وأن يعيننا على طاعته ويجنبنا معصيته إنه ولي النعم.

ص: 497

احذر في بيتك شيطان

اشارة

احذر في بيتك شيطان(1)

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وبعد :

يشهد العالم في يومنا هذا – ونحن على أعتاب ألف ميلادي ثالث - تطوراً عظيماً في جميع ميادين الحياة ، النظرية والعملية .

ولعل أبلغ التطور حصل في نظام المعلومات والاتصالات ، وكل هذا شاهد على أن الإنسان أعظم مخلوق على وجه البسيطة، سخر الله له باقي المخلوقات. ولكن ! – وما أقسى الحسرة في كلمة (لكن) – أهمل الإنسان في غمرة اكتشافاته ونشوة تطوره ذكر الله وشكره، ونسي أن هذا التطور هو جانب ضيق من جوانب نعمة الله عليه، بل ازداد اعتداده بنفسه وقدراته، وهو دائماً يجد

ص: 498


1- كراس صغير من أوائل الإصدارات التي بدأ بها سماحة الشيخ حركة التوعية والإصلاح سنة 1420ه_ /2000م للتحذير من البرامج الفاسدة التي كان يبثّها (تلفزيون الشباب) الذي يشرف عليه عدي صدام حسين. وأصل الكراس بحث صغير كتبته إحدى الفاضلات فأضاف إليه سماحة الشيخ جملة من الملاحظات والتعليقات والإضافات التي أثرت البحث وجعلته بحجم الكراس، ودفعه إلى أحد فضلاء جامعة الصدر الدينية ليدخل الإضافة في الأصل بعد استئذان الكاتبة الفاضلة، فكان هذا الكراس الهام الذي كان له وقع وتأثير كبيران في المجتمع.

الشاهد على محدودية إمكانياته العقلية [يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ](النحل:83).والآثار الوضعية لنكران النعمة سريعة ومباشرة؛ لأن الله يطالبنا بشكر نعمه لا لحاجة منه لشكرنا بل لحاجة منا لشكره على النعم (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلاَهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ لَتَصَرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الإنْسَانِيَّةِ إلَى حَدِّ الْبَهِيمِيَّةِ، فَكَانُوا كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: إنْ هُمْ إلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

فكم تفاحة سقطت أمام نيوتن وغيره قبل أن يتنبه إلى قانون الجاذبية، إنما نبهه إلهام الله وإرادته عز وجل أن تخطو الإنسانية قُدماً بعد أن تتعرف على نواميس الطبيعة الدقيقة التي تكشف عظمة خالقها وحكمته ودقة خلقه، ولكننا غالباً نستخدم ما مَنَّ علينا الله في معصيته والعياذ بالله.

وكل الاكتشافات والاختراعات سلاحٌ ذو حدين يمكن أن توظف في خدمة الإنسان وحثه على طاعة الله، ويمكن أن تستخدم آلة للدعاية للشيطان وأساليبه، ولعل عِظم المحنة أن تفاصيل التطور كانت في غير دول الإسلام، فلقد تفنن أعداء الدين والإنسانية في السعي لإيجاد الوسائل المدمرة والعوامل التي من شأنها أن تجعل الانحطاط يدب في صفوف العالم الإسلامي، وتنخر أعمدة الدين الحبيب ..

ولقد سعوا إلى التركيز على كيفية جعل المسلم يفقد الثقة بنفسه، بحيث ينظر إلى معتقداته وحضارته بعين الاحتقار، وإن الحضارة الغربية مثال التقدم

ص: 499

والارتقاء، وفيها الحياة والهناء، وعملوا وبشكل دؤوب على غرس هذه الفكرة في نفس الشعب المسلم، وهي أنه متخلف – كان ولا يزال وسيبقى – في دور النمو، وأنهم هم أسياده وأسياد العالم، وسعوا إلى سقي ما غرسوا بماء الغواية والدناءة من أجل أن تطرح الثمار، وهي خلق جيل مشبع بل غارق في الرذيلة والانحراف مُطلِق العنان للغرائز تتصرف هي به كيف تشاء، منكب على وجهه لا يقوى على الحراك ولا على ان ينبس ببنت شفة، فيقلبونه كيف شاءوا وأنَّى شاءوا... وكان التلفزيون –ذاك السلاح ذو الحدين – وأحد تلك الأدوات الفعالة والأسلحة الفتاكة للعمل على إنجاز وتحقيق ما خطط ورسم إليه أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله).

ونظراً لما حققه –التلفزيون – من إيجابيات لصالح العدو وسلبيات لجانب المجتمع الذي يحمل هوية الإسلام .. رأينا أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذا البحث المصغر، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم.

إننا نهيب بالعائلة الكريمة وأفرادها الأعزاء .. نهيب بالآباء والأمهات .. الفتى المسلم والفتاة المسلمة أن ينتبهوا من غفلتهم ويكفوا عن أخذ أقراص (الهيروين) التي يضعها العدو وسط غلاف، ظاهره ذو بهجة يشد النظر، وباطنه يحمل السم الزعاف، يرسله إلينا ونحن لا نتوانى في الأخذ منه دون فحص ونظر.. نهيب بالمسلمين كافة في أقطار الأرض أن يَعوا مخططات قوى الاستكبار والصهيونية، وألاَّ يجعلوا من أنفسهم فريسةً ولقمةً سائغة تنهشها الوحوش الضارية .. راجين التوفيق والسداد لمن أراد لقاء الله جل جلاله والفوز

ص: 500

برضاه .. وهو تعالى من وراء القصد ومنه نستمد العون والتوفيق، [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ](الأنبياء:18).

المدخل:

التلفزيون ما هو ؟؟

هو عبارة عن جهاز انطوى على عدة عناصر بث وقوى أخرى مغناطيسية تعمل على جذب الأشعة والترددات التي تبث من الموقع الأصلي أو الإذاعة الأصلية، وعلى أسلاك كهربائية للتوصيل لكي تحرك تلك الشحنات الكامنة في ذلك الجهاز، ويبدأ بالعمل حيث تغلق الدائرة الكهربائية فتظهر الصورة أو الفلم المراد عرضه على الشاشة الصغيرة .. إنها حقاً قدرة إلهية في خلق وإبداع وتصوير تلك الشحن وتلك الأشعة (أشعة x والأشعة السينية) وتلك القوى المغناطيسية العاملة على كل ذلك، فسبحان الله الذي أبدع في خلق تلك القوى [وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ](الرحمن:7-8). ومع كل ذلك التقدم والإبداع الذي وصل إليه الإنسان بفضل جوهرة العقل التي أودعها فيه الله تبارك وتعالى فإنه لم يصل إلا إلى نزر من العلم، وهناك أجزاء أخرى منه لم يعمل على اكتشافها بعد [وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً](الإسراء:85).

أثره في المجتمع :

لقد تعددت الوسائل التي من خلالها يصل الإعلام إلى الناس واتسعت بشكل كبير، ويعتبر التلفزيون أحد تلك الوسائل، وله أهمية ودور كبيران فإنه

ص: 501

قناة لإيصال الفكرة إلى المجتمع لانشداد الناس إليه، ولقد بلغ مبلغه واتسع استعماله على رقعة واسعة من أنحاء العالم، ونحن بصدد الدول الإسلامية.يُعدُّ – التلفزيون – من ضروريات الحياة، فلم يخلو منه بيت إلا نادراً، حيث يشاهده الطفل الصغير والمراهق الشاب والعجوز، وكل فئات الناس، لقد دخل إلى حُجر أدمغة أطفالنا .. استوعبوا ما فيه من نكات ومواقف، تصرفوا إزاء ما عُرِض فيه من حركات وسكنات .. ترى أن البعض يقضي ساعات وهو جالس أمامه، فكذب من ادعى أن التلفزيون لم يكن له أثر في حياتنا، نعم، لقد عُدَّ من أحد الأفراد الذين يعيشون بيننا ويحومون من حولنا..

كثيراً ما تردد على مَسامِع البعض: هل إن مشاهدة التلفزيون حرام؟ ولماذا حرام؟ هل إن مشاهدة التلفزيون حلال؟ لماذا حلال؟!!

لا يوجد في الشريعة نص يحرم هذا الجهاز بالعنوان الأولي ولا يوجب مشاهدته، فالحكم الشرعي المُتعلِّق به يأتي من العنوان الثانوي، أي ما يعرض فيه، فلو عُرِض فيه ما ينفع المسلم في دينه ودنياه لكانت مشاهدته راجحة.

فباختصار إن المضار المذكورة في هذا البحث المصغر ليست في التلفزيون نفسه، بل فيما يبثه من سموم، ولذا فنحن ندعو الأسرة المسلمة أن تكون واعية، وأن تعمل على توظيف هذا السلاح ذي الحدين في خدمة الأهداف العليا لا الهابطة. وسوف نشير هنا بصورة مختصرة لبعض منها تاركين إدراك الأعمق لوعي المؤمنين..

ص: 502

مضار التلفزيون :

1- غسل الدماغ:

من الواضح أن التلفزيون في العصر الحاضر يتبنى النظرية السلوكية التي تزعم أن سلوك الإنسان وصفاته وعاداته لا تخضع لأي تأثير سوى التربية والبيئة، أي إنها تسقط دور الوراثة تماماً. وبما أن الهدف الأول والأخير للإعلام هو خلق جيل بعيد عن الإسلام، يحمل فلسفة وروح وتأريخ أعداء الدين، يحملها له بقلب مفعم بالحب ولسان يلهج بالشكر، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ](آل عمران:149). وبما أن هذا هو الهدف، فإن من الغريب أن يترك الواعي من الناس نفسه تنقاد وراء هذا التيار فيصبح جزءاً من قطيع.. تتحول لغته ولهجته.. حُب.. مسلسلة الموسم.. وتنطبع في ذهنه وعلى لسانه أغنية الموسم. عن الإمام الصادق (علیه السلام): (أدبني أبي بثلاث: من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن لا يقيد ألفاظه يندم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم).

المضحك المبكي أنك ترى في كل فترة بروز اسم تقدمه الشاشة، يصبح حديث الصغار والكبار في الشوارع والبيوت.. في الاجتماعات واللقاءات، دون أن يفكر أحد أن هذه الشخصية قد اقتحمت حياتهم لتشغلهم عن مشاكل مجتمعهم، فهم بدلاً من أن يتعاطفوا مع الأقارب والجيران، يبكون ويسعدون ويتفاعلون مع شخصية الشاشة، وبدلاً من أن يشاركوا مشاركة فعالة في حل عقدة يزخر الواقع بالكثير منها يحملون الفكر على حل عقدة تقدمها مسلسلة

ص: 503

بوليسية.ولعل امتصاص النقمة من الأشياء الخطرة التي يمارسها التلفزيون، فكم من إحساس بالثورة على المعاصي والمفاسد امتصه لهوّ بمسلسلة أو فلم، وكم من تفكير جدي بمشكلة يمتصه عالم لا صلة له بالواقع إلا بالقدر الذي يقيد الذهن ويحده، فهل من تفريغ للفكر وتسيير للعقل اكبر من هذا؟!! [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ، هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ](آل عمران:118-119).

2- الإثارة الجنسية

دأب الإسلام على تهذيب هذه الغريزة، فوضع التشريعات وأكد على المستحبات للحد من شهوة لعلها من أقوى الشهوات، فإذا كانت التربية الإسلامية توجب الحجاب للمرأة، وغض البصر للرجل والمرأة، وتؤكد على التفريق في المضاجع بين الأخوة والأخوات، ويشدد بعض الفقهاء على عدم التبرج والزينة حتى أمام المحارم .. فإذا كان الإسلام يرسم لنا هذا الطريق ليضمن مجتمعاً عفيفاً طاهراً.. فماذا يصنع التلفزيون؟!!

إنهم أرادوا جعل مناظر الفسوق مألوفة لدينا، بل هي مقتضى عرفنا، فإن أخف المناظر خلاعة وأقلها مجوناً مذيعة بأبهى حلة وأزهى مكياج وأعمق

ص: 504

خضوع في القول، وإن من أشرف المواقف التي يقفها الشاب رجل أو امرأة هو أن يصمد بوجه التقاليد ليثبت للأهل أن الاختلاط حرية وأن ممارسة الفساد تقدم، وأن السلوك الديني هو الرجعية، وأن القضية الأساسية في الحياة هي (الحب)، حتى أن المشاهِد صار يستشعر نقصاً في الفلم إن طرح الحب فيه كأمر ثانوي، وبالغوا في هذا الجانب حتى لجأوا إلى تشويه التأريخ الإسلامي في المسلسلات من خلال افتعال قصة حب للشخصية الإسلامية موضوع المسلسلة، كما في فلم (بلال الحبشي) ومسلسل (عمر بن عبد العزيز) وغيرها كثير تبلغ حد التلفيق، كل ذلك لجعل قصة الحب وتفاصيلها من أبجديات حياة الإنسان، ويعكسون كل هذه كمواقف شريفة وقيم راقية تطرحها فضلى الأفلام أما عن المجون فحدِّث ولا حرج، العري صورة طبيعية بل ضرورية في كل يوم، القُبُلات والمداعبات أيسر ما تقدمه الشاشة، صورة الجنس مشهد عادي أدركه حتى الأطفال الصغار، ولا أريد أن أحصر مشاهد الفساد فهي فوق الحصر وفوق التعداد، إذ أن كثيراً من الحركات والضحكات لا تستهدف إلا الإثارة، ولهذا أستطيع أن أقول إن من أهم أهداف التلفزيون – إن لم يكن هو الهدف الأهم – جعل ممارسة الفحش أمراً طبيعياً كما هو الحال في الدول التي يطلق عليها (متقدمة)، [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] (النور:20)، وبالتالي تحويل الشعب وخاصة الشباب إلى حيوانات تحركها الغريزة ولا رأي لها ولا هدف إلا الضياع.

لو ننظر اليوم إلى أطفالنا في السادسة أو السابعة من العمر وأي عمر أقل أو

ص: 505

أكثر، لو ننظر أي إدراك لهم للجنس!! حيث ينقل أحد الأشخاص أنه شاهد بعينه طفلة في الرابعة من العمر يحمرُّ وجهها خجلاً وتغُضّ البصر إذ ترى على الشاشة شاب يتقدم إلى صديقته ويمسك يدها.. إنه الجنون بعينه أن تدرك طفلة في الرابعة أن إمساك الفتى بيد الفتاة شيء يثير الحياء والخجل.. سل أي معلمة في مدرسة ابتدائية مختلطة لتقص الفضائح العجيبة من أطفال أكبرهم في الحادية أو الثانية عشر من العمر. لقد صارت براءة الأطفال شيئاً يكتب على الأوراق، إذ تستعر الرغبات لديهم في وقت غير معقول، وما السبب؟!! يخالف نفسه وعقله من يرفض أن للتلفزيون الدور الأكبر في هذا، أما المراهقين والشباب فنظرة واحدة إلى مختبرات التحليل تعطيك نسبة عن عدد الحوامل غير المحصنات في مجتمعنا المحافظ!! أنظر وتأمل في هذا الكلام: (يجب أن نخلق الجيل الذي لا يخجل من كشف عورته)(1). كم للتلفزيون من دور في إنجاز هذا المخطط يا ترى؟!!

3- إباحة المحرمات

لكي نصنع جيلاً نقياً قادراً على اكتساب درجة من العدالة لا بد أن نوفر له جواً خاصاً يتناسب والروح التي يريد الإسلام بثها فيه، فيما يروى عن عيسى (ع) أن الله تعالى قال له: (أدّب قلبك بالخشية)، والروح التي يبثها هذا الجهاز ليس فيها إلا الجو الذي يريده الاستعمار، وقد روي في الخبر: (إن أعدى

ص: 506


1- الماسونية في العراء ص 89.

عدوك نفسك التي بين جنبيك)(1)؛ لأن النفس تكتسب أي صفة –فاضلة كانت أم سيئة – عن طريق تركيز مفهوم هذه الصفة في الذهن، ومن ثم تجربته مرة أخرى حتى يتحول إلى ملكة تتطبع في النفس ولا تزول إلا بشق الأنفس، والتلفزيون يعرض لنا يومياً أنواع المحرمات التي يلتقطها الذهن وترسخ فيه، فمن السفور إلى العلاقات المحرمة إلى شرب الخمر والغناء وإلى ما لا يحصى من الأمور.إن من الأسباب المهمة التي أكسبت مجتمع الإسلام الأول الروح الخلقية العالية هو التأمين شبه التام من حضارات وعادات الأقوام الأخرى التي كانت إما مشركة أو كافرة، هذا التأمين جعل الأفكار والمشاعر التي يحملها المسلم صافية تعكس صورة عن الشريعة لا تعاكسها صورة، وجعل سمع المسلم وبصره لا يقعان إلا على كل خير، بل أصبح المجتمع المسلم مصدراً لإشعاع روح الطاعة والتسامح والتآلف الاجتماعي، [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ_ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة:71)، ولكي نحتذي بهذا المثال لا بد من توفير جو نقي لأبنائنا على غرار المجتمع الأول، وهذا ما لا سبيل له في قرن يربط أقاصي الأرض ببعضها في لحظات، ولكن على الأقل نتوخى الحيطة والحذر في الاطلاع على الحضارات الأخرى، والتلفزيون لا يعكس الحضارة، بل مصور الحضارة، هذه القشور التي تتكرر كل يوم حتى تألفها العين ثم القلب ثم العقل وتتحول إلى سلوك لا6.

ص: 507


1- بحار الأنوار:67/ 36.

يرضاه الله ولا الرسول ولا المؤمنون.ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ... إلى أن قال: كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً ...؟)(1)، وهو أسوء الاحتمالات أو المراتب، حيث يصد عن رؤية الحق ويلقي غشاوة على العين، لذا ورد في الدعاء: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، والباطل باطلاً وارزقني اجتنابه)، حكمة الإسلام : أن التقوى هي معيار التفضيل [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات:13). وللتلفزيون كلمات ومعايير متعددة في التفضيل إلاَّ التقوى، فمرة يكون المال وأخرى الجمال وثالثة لشهادة راقية أو وظيفة ممتازة .. وهكذا، حينما تسود هذه المفاهيم يصبح من الصعب إكساب صفة التقوى للناس، فإن أول فعل لهذه المعايير هو قتل التقوى وإحلال الباطل محلها. ورد في كلام لوزير يهودي بريطاني أنه قال: (يجب أن نسحب بساط الإسلام من المسلمين، ونمزق القرآن بهدوء) .. فليتأمل أولو البصائر...

إن البرامج والأفلام تتبنى مختلف النظريات، فمنها ما يؤكد أن الجنس هو العامل المحرك لسلوك الإنسان، ومنها ما يثبت أن البقاء للأقوى، ومنها ما يوضح أن للعامل الاقتصادي السيادة على العوامل الأخرى.. وشتى المذاهب والاتجاهات اللا إسلامية، وهذه تنطبع بصورة لا شعورية في الأذهان بشكل قصة مرة وبشكل حوار أخرى)، [اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ](التوبة:31)، وأصحاب النظريات المزعومة هم رهبان العصر وأحباره9.

ص: 508


1- الكافي: 5/ 59.

يريدوننا أن نعبدهم ونطيعهم فيما يزعمون. وقد يكون في هذه الأفلام البقاء للخير والصلاح، ولكن النظر من هو البطل الذي يكون النصر على يديه، بل حتى من يظهر أنه على حق يصور للناس مشروعية فعله في الاقتصاص لنفسه، وإن كانت أساليب هذا الاقتصاص مرفوضة شرعاً كخطوة لخلط أوراق الحق بالباطل، ليضيع أصحاب الحق حقهم، [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ](التوبة:32).

وبالنتيجة من هو الذي استقطب مشاعر الناس وأصبح القدوة والمثل الأعلى؟!! بكل بساطة تجده شخصاً فاسقاً، آخر ما يعكسه في دينه هو تعاليم الدين؟!، بل يزني، ويشرب الخمر، لكنه قد يحارب عصابة لصوص أو فساد اقتصادي.. هذا القدوة سيقلده الكثيرون في سلوكه ومفاهيمه وقيمه، فأي فائدة في انتصاره للحق وهو يسير إليه في طريق معوج ضال.. لقد صار لهذا الانتصار مفسدة كبيرة هي إكساب الجيل عادات إنسان فاسق.

عندما تنطمس سمة الحياء في نفس الإنسان يجترئ على معصية الله تعالى وعلى كبير الأعراف والتقاليد، وتكرار هذه الصورة يجعلها شيئاً عادياً لا يستنكره المشاهد مع أشد أنواع المحرمات، وبالتالي يتحول عدم الاستذكار إلى... فيصبح لدينا جيلٌ آخِر ما يفكر به هو مراعاة تعاليم الدين.

4- التربية اللا إسلامية

للتربية حديث ذو شجون، فبالرغم من كونها عماد المجتمع الصالح، إلا إنها تلقى إهمالاً وتضييعاً شديدين من غالبية الناس، في حين تلقى من جانب آخر

ص: 509

توجيهاً واستغلالاً استعماريين، وأفضل الوسائل المستخدمة في ذلك هو التلفزيون، إن لكل مذهب أو دين طريقته الخاصة في تربية النشئ وتركيز مفاهيمه في أذهان الناس، والإعلام له قيمه التي تكفل جيلاً نقياً خالياً من شوائب الحضارات المختلفة محرراً من ذاته وشهواته متحلياً بأعلى القيم الخلقية. الأخلاق ليست نسبية كما يدعون، بل هي أسس وخطوات ثابتة ومرسومة في طريق واضح وهادف.ولعل أفضل مثال تتجسد فيه هو مجتمع الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله).. لقد قال الإسلام مقولته الخالدة: (من لا حياء له لا إيمان له)، وما أعمق هذه المقولة وأوسع مدلولها!!، وإن أوائل تأثيرات التلفزيون هو طمس الحياء الناتج من تكرار مشاهدة المناظر الخليعة وعلاقات الحب والغرام المحرمة، [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ](التوبة:67).

ولقد تُصوِّر كثير من الأفلام والمسلسلات أردى صور نظريات العلاقات العائلية، والشيء الطبيعي أنها تعتمد على نظريات الغربيين في التربية، والتي يعاكسها الإسلام تمام المعاكسة في كثير من المفاهيم، وغالباً ما تحوي أفضل صورة على كثير من الجفاء والعقوق، فإذا كانت الصورة المثلى مليئة بالأخطاء والقصور، فما بال الصورة الرديئة ؟!!

وكما هو معلوم فإن طريقة استجابة الناس وخاصة المراهقين منهم مختلفة حيال ما يشاهدون، فقد تعجبهم الصورة الرديئة بما تحمل من شموخ وتكبر وحصول على كثير من المكاسب، وبهذا تعلمهم معنى العقوق والصراع مع

ص: 510

أقرب الناس ...أود أن أقول إن ما ذكرت أشياء بارزة في معالم التربية، يستطيع المرء أن يحصيها، إلا أن التلفزيون يرسم حياة لا علاقة لها بالإسلام، يطبعها في قلوب الأجيال من طريقة الأكل، والشرب، والمشي، والكلام والتعامل مع الناس، إلى معاني التضحية والإيثار والحب والبغض والانتقام ... والمؤلم أنهم لا يقدِّمون صورة واحدة لطريقة العيش تخالف الصورة الإسلامية كي نقدر على مناقشتها، بل يرسمون صوراً مختلفة مشوشة لا هدف لها إلا أن يضيع الجيل وأن تصبح اللا قيم هي القيم .

وأخيراً فإن كل ما يكتب عن التربية يقلل من ضخامة الفساد الذي حل بنا من جراء توجيه هذا الجهاز.

5- تحويل الدين إلى تراث والتربية إلى ملل

إن هذا الجهاز موجه بطريقة شيطانية تنفذ إلى أعماق الجيل الغافل فتملأ قلبه بالأوساخ والسموم، والخطة الأولى التي يتبعها هي إقصاء الدين عن مسرح الحياة، وذلك بتحويله إلى تراث لا صلة له بالواقع إلا كذكرى تكون مصدراً للخجل أحياناً كما يريدون، والطريقة المتبعة في الظاهر:

1- حصر الفترة الدينية في مدة قصيرة لا تساوي شيئاً أمام أي فترة أخرى.

2- الأحاديث النبوية منتقاة لغرض خاص، هو توجيه الرأي العام توجيهاً خاصاً يتناسب والأزمة المعاصرة.

3- الأفلام الدينية لا تعرض إلا في مناسبات معينة، وهي تحوي تشويه الحقائق

ص: 511

أكثر من أي شيء آخر، كما أنها ثابتة لا تتغير منذ سنين حتى ملَّها؛ المشاهد .. وهذا هو كل الدين في التلفزيون.4- البرامج الدينية أو ذات النفس التربوي تكون عادة رديئة الإخراج، ثقيلة التقديم بحيث لا تستخدم التقنيات لتشجيع المشاهد على المتابعة، بل يكون مصوَّراً بكاميرا واحدة تواجه الموجودين غالباً.

5- حتى هذه البرامج بمواصفاتها الآنفة توضع في الساعات المهملة في العرض اليومي، بحيث تكون متابعتها متعذرة أو شاقة، وبالمقابل فإن البرامج ذات النفس الهدام تكون متطورة إخراجاً وتقديماً وتصويراً بتكريس أحدث التقنيات في إنتاجها، كما أنها تعرض في ساعات تجمع العائلة إلى شاشة التلفزيون.

6- الإكثار من البرامج المنوعة التي تكون الأغنية عصبها الحي، بحيث تحاصر السامع من حيث يريد أو لا يريد، وموضوع الأغنية الماجنة وأساليب تصويرها وما فيها من مكيدة كبرى تحتاج إلى بحث منفرد، يكفينا قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيها: (لا تستمعوا للمعازف والغناء؛ فإنها تُنبِت في القلب النفاق كما يُنبِت الماء البقل) .

6- الشعور بالحقارة:

لكي يحقق المستعمر أهدافه لا بد وأن يقطع الصلة بين الجيل وبين دينه وقيمه وتاريخه وأهدافه، وليس أفضل من رسم هذه القيم بصورة مشوهة تثير الاشمئزاز. فالأفلام والمسلسلات توضح لنا التطور العلمي الهائل والنمو

ص: 512

الحضاري في الغرب، تصور لنا مفاهيمهم وقيمهم ونظرتهم للحياة على أنها الحق وأن ما سواهم الباطل، كل حركة تصدر عنهم لا بد وأن تعبر عن روح العصر المتقدمة، إن خططهم في هذا السبيل قد نجحت إلى الدرجة التي جعلت من أبنائنا يخجلون حتى من لغتهم، وأصبح خلطها بلهجات ولغات أخرى من علامات التقدم والرقي، وصارت عاداتنا بل وتعاليم ديننا أموراً مثيرة للاستنكار، حيث يخجلون من عزاء الحسين (علیه السلام) مثلاً أو زيارة قبور الأئمة والأولياء (ع) وكثير غيرها .

7- شغل القلب:

تطلق كلمة القلب تارة على :

1- تلك القطعة من اللحم الواقعة على يسار الصدر بشكل صنوبري يتدفق الدم فيه، والذي يولده الكبد وينقيه جهاز التنفس، فيتصاعد منه بخار لطيف، فيجري إلى الدماغ وجميع أعضاء الجسم، وبواسطته يتم الحس والحركة ويسميه العلماء بالروح الحيوانية.

2- عبارة عن مخلوق إبداعي، ونفخة ربانية ليست من سنخ الموجودات، بل هي من عالم الأمر المجرد من المادة والمتعلق بهذا البدن..

القلب بمعنى المتقلب بين العقل والنفس. هناك معنى آخر للقلب، فهو مشتق من التقلب بين العقل والطبع ، أي مرة يطيع العقل وأخرى يطيع النفس حتى يغلب أحدهما الآخر.. حين يغلب العقل ويحكم مملكة الإنسان، يصبح الإنسان سعيداً ويرتقي في مدارج الكمال، وإن غَلَبَ الطبع يكون كالبهائم، وإن

ص: 513

غَلَبَ الغضب يصير كالوحوش، وإن غَلَبَ المكر يصبح كالشيطان.. وتظهر هذه الحالات الأربع بعد انفصال الروح عن البدن، حيث يحشر الناس على صورهم الباطنية [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ](الطارق:9)، إذن القلب هو النفس الناطقة الإنسانية، قال الله تعالى: [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء:88-89)، في الكافي: (السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه)، وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: (هو القلب الذي سَلِمَ من حب الدنيا)(1)، ويؤيده قول النبي (صلی الله علیه و آله): (حب الدنيا رأس كل خطيئة)(2)، وورد في الحديث الشريف عنه (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (القلب حَرَمْ الله فلا تُدْخِلْ حَرَمْ الله أحداً غير الله)(3)، والمحصل أن مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب، والذي يعوق ذلك هو إشغاله وملئه بأمور أخرى تجعله سقيماً وليس سليماً.إن قلب الإنسان كالوعاء تماماً يمتلئ بما يوضع فيه، كما أنه يمتلئ بالهواء إذا ترك فارغاً، إذن فالقلب يتشبع بما يوضع فيه، والتلفزيون ليس مجرد لغو، بل منهاج مخطط له ومرسوم ليشغل القلب عن كل أمر مهم، فبدل أن يخشع ويبكي من خشية الله، يرتجف ويتحرك لقصة حب أو جريمة قتل، ويبقى مشغولاً بها لساعات من الزمن، حتى عند الانشغال لوقت الصلاة والعبادة، فما أسماها من صلاة تواجه بها خالق الأكوان!! قال تعالى: [كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ](المطففين:14)، والرين هو صدأ يعلو الشيء، أي صار ذلك5.

ص: 514


1- بحار الأنوار:7/ 152.
2- بحار الأنوار:67/ 239.
3- بحار الأنوار:67/ 25.

كصدأ على قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، فكون ما كانوا يكسبون وهو الذنوب ريناً على قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم وبين أن يدركوا الحق على ما هو عليه، ومن هنا يظهر أن للأعمال السيئة نقوشاً وصوراً في النفس تنتقش وتتصور بها، وأن هذه النقوش والصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو، وتحول بينها وبينه، وأن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاءً وجلاءً تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور(1)، وللتلفزيون أيها الأخوة دور كبير في اكتساب الرين. أما طرق علاجه ووسائل إزالته فهو كما ورد عن أهل بيت العصمة (ع) عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (تذاكروا وتحدثوا؛ فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاؤه الحديث)(2)، وقال الباقر (علیه السلام): (ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة، إذ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تَغلِب عليه، فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله)(3)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِلَ قلبه منه، وإن ازداد زادت، فذلك الرين الذي ذكره الله تعالى في كتابه: [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ].4.

ص: 515


1- الميزان : 20 / 259-260.
2- بحار الأنوار:2/ 152.
3- بحار الأنوار:67/ 54.

8- لهو ولغو:

قال تعالى: [وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ](المؤمنون:3) وذلك في وصف المؤمنين، والذي يسعى إلى الإيمان والتقوى يعرض عن اللغو واللهو غير الهادف، وإذا كان التلفزيون هادفاً ولكن نحو الفساد والانحراف فماذا يكون الموقف منه؟!!

الإسلام يريد أن يحوِّل الإنسان إلى كتلة من نور لا يستشعر السعادة إلا في عمل الله مهما كان يسيراً ، فهو يرفض وسائل اللهو ويُحرِّم الكثير منها، لأنها تشغل القلب وتهدر الوقت، هذا الوقت الذي هو رأس مال الإنسان وقيمته في هذه الحياة والذي هو عبارة عن أيامه ولياليه، فبهذا الرأسمال يكتسب الصديقون مكان الصديقين، وبهذا الوقت أو (الزمن) يكون الأولياء أولياءَ، والعلماء علماءَ، والعارفون عارفين، إذن الزمن عامل (بناء)، والذي يصعد ويعرج إلى لقاء الله يصعد بهذه الأيام وبهذه الأسابيع.. هذا الذي جعله الله لعباده جميعاً، فأناس يستغلون الوقت للبناء والعروج إلى الله، وآخرون لا يعرفون ولا يعُون قيمة الوقت وأهميته، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (يا ابن آدم إنما أنت أيامك)، وجاء في الحديث أن كل يوم يمر على ابن آدم يحاسبه: (أنا يوم جديد، وغداً عليك شهيد، افعل فيَّ خيراً تجد خيراً، فإنك لن تلقاني بعده أبداً)(1)، فانظروا أيها المؤمنون وكونوا واعين كم يهدر التلفزيون من الوقت؟، وكم هي الساعات الطويلة التي يقضيها الفرد أمام تلك الشاشة؟، وقد تمتد إلى وقت متأخر أو حتى إلى الفجر، فلا استيقاظ حتماً لأداء الصلاة، فأي كارثة

ص: 516


1- بحار الأنوار:7/ 325.

أشد من هذا ؟!!وإن البعض يعللون ذلك بأنهم يتمتعون بالنظر إلى التقدم التكنولوجي الحديث، وإلى الطبيعة الساحرة الخلابة، وإلى الأزياء والديكورات.. فيا له من عسل قد مزج به السم!!

إن ما يدعيه المدمنون عليه – التلفزيون – من فوائد إن هي إلا تبريرات تخالف عقولهم ونفوسهم، والتخلص من العادة القبيحة يستلزم قبل كل شيء العزم على تركها عزماً صادقاً، يحركها الإيمان بالله، ومن ثم الإرادة القوية التي يتحدى الإنسان بها هواه.

الفوائد المزعومة :

أولاً : النقطة التي يُعلِّل بها المشاهد للتلفزيون انجذابهُ إليه هي الاطلاع على مشاكل المجتمع وزواياه المختلفة، ومعرفة عادات وتقاليد المجتمعات الأخرى، وطرق تعاملها.

إن هذه المعرفة لو نظرنا إليها بشكل مجرد لكانت شيئاً حسناً ومفيداً، إلا أنها – المعرفة – لا تأتينا من التلفزيون بشكل خالٍ من الشوائب، كما قلنا من قبل إن التلفزيون يستهدف أموراً كثيرة، منها فصل الناس عن الدين وزرع الإحساس بالتبعية للغرب في نفوسهم.

يستطيع الراغب في الاطلاع على الأقوام الأخرى قراءة كتب عن ذلك أو روايات عالمية تصور لنا واقعهم بصورة أدق عشرات المرات، أو الاختلاط بالمجتمع والتحسس بآلامه وآماله بدل المسلسلات التي لا تظهر واقعنا المُر.

ص: 517

وعلى أية حال فلو اقتصر الإنسان على مشاهدة البرامج النافعة لما اعترضنا عليه، فإننا لا نستنكر أصل التلفزيون، ولكن ما يعرض فيه من الانحرافات المتقدم ذكرها.ثانياً : فترة برامج الأطفال التي يتعلم فيها الطفل بعض القصص والمعلومات عن الحيوانات ومعيشتها.

أول ما أقول: إن الطفل لا يقتصر على مشاهدة الرسوم المتحركة، بل يشاهد أطول الأفلام وأكثرها مجوناً، وقلما يتحكم الآباء فيها، وإذا منعوه فعلاً إلا من مشاهدة الفترة المخصصة للأطفال فلننظر بإنصاف إلى أفلام الكارتون، هل تخلو من الاختلاط، من الحب والقبلات، من الملابس الخليعة، والرقص والغناء؟!!

إن متابعته للتلفزيون في هذا العمر المبكر يكسبه مادة لا يستطيع الإقلاع عنها في الكبر؛ إذ يتحول التلفزيون كله لا فترة منه إلى جزء لا يتجزأ من حياته .

لماذا نفكر أن عدم وجود هذا الجهاز في البيت يولد الشعور بالحرمان؟ إن مسألة إحساسه بالحرمان يمكن تجاوزها بكل سهولة، بل وتحويلها إلى إحساس بالثقة بالنفس، فالطفل صفحة بيضاء مستعد للاستجابة لأي توجيه ويفهم معنى الحرام، ويمكن أن يدعو الآخرين بكل براءة إلى ترك هذا الجهاز.

هناك ظاهرة في البيوت المحافظة التي تدعي أنها تنتقي البرامج للأطفال قد لا تخلو من شخص لا يتحرج في الدين، في مثل هذا البيت، عندما تمنعه – الطفل – من سماع الأغنية لأنها محرمة ستوقعه في تناقض، فمثله الأعلى –

ص: 518

الكبير – غالباً ما يمارس الحرام (يستمع إلى الأغنية ويشاهد الرقص... الخ)، في مثل هذه الحالة ستهتز القيم وتهتز صورة هذا المثل – وهم الكبار– ولن يكون مستعداً لسماع أي توجيه .حالة أخرى: يحاول معظم أصحاب الأطفال التخلص من عبثهم وضوضائهم بالتلفزيون، وأحسب هذا لمطلق الأنانية؛ فلكي تكسب الأم وقتاً للراحة تسقي ولدها سُمَّاً يجعله يعيش في جو موجّهٍ يبعده عن قيم الإسلام وروحه، وتتركه يعاني في الكبر صراعاً وآلاماً، فعند ذلك مهما بالغ الأهل في منعهم فإنهم سيشاهدون أفلاماً ومسلسلات وأغاني...

ثالثاً : يشاهد كتسلية:

من أين تولد مفهوم التسلية؟

طبيعي هو ناتج من الإحساس بالفراغ ومحاولة شغله بأي صورة، الوقت قيمة كبرى – كما سبق أن ذكرنا – يدخل في العمليات الاقتصادية كبعد مهم في المفاهيم الحديثة، لكن الإسلام يعطيه قيمة أجَّل وأهم؛ فالحياة الدنيا قصيرة، لذا نحن في أمس الحاجة لكل دقيقة منها كي نتزود للآخرة [وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى](البقرة:197)، لهذا يرسم لنا الإسلام حياة هادفة بكل دقائقها، صادقة حتى في وسائل التسلية التي قد تكون ضرورية لبعض الناس، ومن الطبيعي أن التلفزيون ليس من هذه الوسائل، فهو كتلة من المفاسد والمآثم، وصدق من شبهه بالخمر والميسر [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا](البقرة:219).

ص: 519

ما هي التسلية؟ أليست الحصول على راحة ولذة في وقت الفراغ، وبذلك ننسى أن هناك إلهاً، بل ونعصيه من أجل لحظات واهية تنزل عشرات المفاسد ورائها، أفَلَسْنَا قادرين على أن نسامر عائلتنا ونسعد معها في هذا الوقت، فنحصل على الراحة وعلى رضا الرب؟ يمكننا أن نخلق أكثر من وسيلة لهؤلاء لا يرفضها الدين، كالحضور في المساجد لأداء الصلوات جماعة، ولقاء الأخوان، وتبادل الأحاديث الهادفة، والزيارات وصلة الرحم، واجتماع العوائل فيما بينها، وقراءة الكتب النافعة، وتلاوة القرآن وحفظه، وإحياء الشعائر الدينية، والقيام بكل ما هو نافع دينياً أو دنيوياً، كالكسب الحلال، والتفكير في مشاريع اقتصادية واجتماعية مثمرة.. علماً أن الإنسان المؤمن لا يجد رغبة ولا حاجة للهو، فهو مشغول، وقته وقلبه وسعادته بالعمل لله وذكره في كل حين، ومن ثم فالتلفزيون ليس وسيلة لهو، بل مجرد وسيلة إرباك للعقيدة وتوجيه نحو أمور أشرنا إليها، [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ](البقرة:109).حلول ممكنة جداًً :

قبل تعداد الحلول التي نراها ممكنة للتخلص من قبضة التلفزيون المستحكمة على نفوسنا الأمارة بالسوء، نحتاج الالتفات إلى أن هذه الحلول تكون فعالة وناجحة إذا أقبلنا عليها بهمة عالية وإرادة قوية مستمدة من طلب رضا الله علينا، فبدون هذه الإرادة لن نتوصل إلى حلول، بل ستكون هذه الحلول عبارة عن مآزق أخرى نوقع فيها أنفسنا لقمة سائغة للشيطان.

وبعبارة أخرى علينا أن نفكر بهذه الحلول وسيلة لا هدف جديد نطلبه

ص: 520

بنفسه، فنَضِلَّ عن خيرنا وصلاحنا، كما كانت عند الجيل السابق لعبة (الدومنة) أو (الشطرنج) أو (الطاولي) هدف بنفسها – رغم حرمتها الشرعية – بعد أن اتخذوه وسيلة للتخلص من الفراغ، وكما يحصل مع الجيل المقبل أو الحالي، بأن اتخذ (الأتاري) وسيلة للترويح وشحذ القدرات العقلية (كمبرر) فأصبح عند الكثير غاية وهدف يتعبد إليه ساعات طويلة، تاركاً الدراسة والتثقيف وطلب الوعي. أما الحلول فيمكن أن تكون :

(1) الاستغناء عن التلفزيون بالجلسات العائلية الناجحة التي تستثمر في توطيد العلاقة بين أفراد الأسرة، وجلي الروابط التي تصدأت من كثرة الإهمال، خصوصاً إذا انتبهنا إلى أن التلفزيون والانقطاع إليه (بدل الانقطاع إلى الله) عامل أساسي أو مساعد في تفكيك الروابط الأسرية، فمع الاستعاضة عنه بها يكون رب الأسرة على بينة من تفاصيل حياة أفرادها، وكل منهم ينتبه إلى أخيه ليمد يد العون له عند احتياجه، فكثرة متابعة التلفزيون جعلت البعض على معرفة دقيقة بأخبار الفنانين تفوق بكثير معرفته بأخبار أسرته.

(2) الاستعاضة بالمذياع (الراديو) لمتابعة تفاصيل أخبار العالم وما يحيط بنا من كوارث أو أحداث، ونحن لم نلتفت إليها لانشغالنا بالمسلسلات والمنوعات، فمع المذياع تكون ناحية الاختيار بيد المستمع يغير الموجة أنَّى شاء حسبما يجد فيه المنفعة والصلاح، وننتبه إلى عدم جعل الجانب السلبي من المذياع هو المسيطر علينا، كما تستعمله بعض ربات البيوت والموظفات لاستماع الأغاني أثناء أداء أعمالهن، وهذه مأساة من نوع آخر.

ص: 521

(3) اقتناء جهاز كاسيت للاستماع إلى كاسيتات القرآن الكريم، والمحاضرات، والقصائد، فيكون المستمع هو المتسلط على اختيار ما يستمع ولا يفرض عليه .

(4) القراءة والمطالعة، لا نقول الكتب، لأنها أصبحت مستحيلة عند البعض، ومتابعة الإصدارات الأخيرة من الجهات الواعية، من مجلات وكتيبات ممكن أن تنفع القارئ في دينه أو دنياه.

(5) تخصيص أوقات لقراءة القرآن والأدعية، بل لتعلم قراءة القرآن؛ لأن عدداً كبيراً من أفراد مجتمعنا المسلم لا يعرف كيف يقرأ القرآن، فضلاً عن فهمه، فعلينا أن نترك كتاب الشيطان – التلفزيون - ونحث الخطى في العلاقة مع القرآن قبل أن ينادى بنا [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً](الفرقان:30).

(6) التدرج في التخلص من قبضة هذا الشيطان، بحيث تكون هناك قناعة بالبدائل المختارة، ويتم ذلك من خلال الاتفاق مع أفراد الأسرة على جعل ساعات قليلة محددة لمشاهدة التلفزيون، ثم تدريجاً يتم الاستغناء عنه كلياً ..وصدقوني أن الحياة لن تتوقف إذا أهملنا هذا الشيطان..!

(7) وهذا الحل قد يبدو غير واقعي للوهلة الأولى، ولكن إذا حاولنا دراسته بموضوعية فهو ليس ببعيد.. وهو محاولة اقتناء جهاز كمبيوتر في البيت، خصوصاً العوائل المتمكنة مادياً من ذلك، فيكون تجربةً جديدة للأحداث والكبار في الأسرة لتطوير معلوماتهم وقدراتهم، واستثمار وقتهم فيما هو نافع لهم دنيا وآخرة، وفرصة للتخلص من سيطرة شيطان البيت..(التلفزيون).

ص: 522

هذا ويجدر الإشارة إلى أن الإخلاص والتصميم على ترك متابعة التلفزيون تجعل الإنسان على اطّلاع ومعرفة بحلول غير التي ذكرنا، تتهيأ له من حيث يعلم أو لا يعلم [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ](الطلاق:3).

كلمة أخيرة :

أود أن أقول كلمة للذين لا يريدون الامتناع :

إن كل إنسان لو عاد إلى ضميره ووجدانه لوجد ما خفي علينا أكثر بكثير من السلبيات والمآثم في التلفزيون .. إنه الشيطان أولاً، هذا المخلوق ذو الكيد الفعال الذي نضعف أمامه، وإن النفس لأمارة بالسوء ثانياً، هي التي تزين لنا معصية الله، إن من يرفض الاعتراف بخطر الجهاز إنما يخالف المنطق والعقل ويتبع الهوى [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ](الجاثية:23).

إنني لم أكتب فكرة نظرية، تحتمل القبول والرفض ولم أكتب عن مجتمع آخر لا نعايشه، إنما كتبت عن واقع ملموس، يدركه كل من تجرد عن هواه وكل من عاد إلى وجدانه، وإن كان من الصعب العودة إلى الوجدان. فلننظر نظرة يسيرة إلى ما يعمنا من فساد وانحلال، ألا يكفي فساد الواقع؟!!

إن من لا يقنع ويجد التبرير تلو التبرير إنما هو إنسان قد وقع في شباك الشيطان فعلاً، لأن الإيمان الحق شيء فوق كل هذا، إنه دليل العقل والقلب، إنه النور الذي يرتفع عن رذائل يندى بها الجبين، إنه الخشوع والارتباط القلبي بالله

ص: 523

الذي يجعلنا نستقبح كل ما يشدنا عن ذكر الله لحظات، الإيمان الحق هو أن نعرف خطأنا ونستغفر الله بدل أن نُصِّرَ مستكبرين على طريق يمهد لجهنم.وأخيراً ندعو لكم ولنا بالتوفيق والسداد من الله، وأن نعرف الحق من الباطل ، وألاَّ يختلط علينا لنكون من الصالحين.

اللهم هل بلغت ... اللهم فاشهد ... والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 524

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.