حدیث الروح مع الشهید الصدر المجلد 2

هویة الکتاب

حدیث الروح مع الشهید الصدر

الذي تجري معه المقابلة: صدر، محمد

المترجم والمنظم: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

جامع:الأسدی، عبدالعظیم

عدد المجلدات:2

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

كلمة الناشر

هذه مجموعة من البحوث كرَّمني باعدادها ونشرها سماحة الشيخ محمد اليعقوبي التي كتبها في فترة الثمانينات فاجابه الشهيد الصدر لكي تعبر عن ثقافة اسلامية اصيلة لا تنحصر قيمتها في كمية معلوماتها بل في كيفية اتخاذها سلاحاً فعّالاً لمواجهة الجاهلية في مختلف ادوارها على مسرح الحياة.

ولهذه البحوث تاريخان: تاريخ التدوين وتاريخ الظهور.

فأما تاريخ كتابتها فهو تلك الفترة المظلمة التي حكم فيها النظام البائد على التديّن وعلى العقل بالحَجْر والالغاء من خلال اجراءاته التي تكفي واحدة منها لزرع روح الاحباط والنكوص والتوجس خيفة من الدين والمتدينين.

وفي هذه الاجواء الرهيبة تمت هذه المراسلات وهي تمثل روح التحدي التي تطالع القارئ بين سطورها.

تأمل ايها القارئ في هذه البحوث جيداً ولكن أثناء القراءة لا تنس تاريخ كتابتها، وفي أي ظروف وساعات حرجة كانت تتبادل فيها. فانك ستجد اللذة الحقيقية من قراءتها.

لا تنس أبداً ان سطراً واحداً كان يكفي للحكم على كاتبه بالاعدام.

تذكّر ذلك جيداً وانت تطالع، عندها سيغمرك شعوراً مفعماً بروح التحدي لذلك النظام الذي بات في مهملات الذاكرة البشرية تصب

ص: 1

عليه الاجيال لعنتها الى يوم يبعثون، وبقيت هذه السطور تثير فينا مشاعر الاعجاب والتقدير والاحترام لكل الشباب الذين جاهدوا الظروف ولم يجرفهم تيار الواقع، الذين اتخذوا الفكر الاسلامي سلاحاً صامتاً في مقارعة الظالمين.

هذا تاريخ كتابتها.

واما تاريخ نشرها ففي هذه الايام التي نعيش فيها وجهاً جديداً للجاهلية الغربية التي جعلت الانسان الغربي مقطوع الصلة عن خالقه بعدما أقنعوه بأن العِلم والدين نقيضان لا يجتمعان.

هذا الانسان الذي تربى في ظل الحضارة الغربية المادية لم يتجاوز محتواه الداخلي مرحلة الحيوان البدائي الذي تقفر نفسه من الرحمة ومن القيم الانسانية، الذي يستمد تصوراته عن الحياة والوجود من افلام الجنس والجريمة والبطولة الزائفة.

وأنظر الى ما سببه الاحتلال تجد أمامك شاهداً ناطقاً على الوحشية ودليلاً على ان الانسان البدائي كان أكثر تهذيباً وكرامة وانسانية من هؤلاء.

وعندما تنشر هذه البحوث هذه الايام فلكي يعرف العالم ثقافتنا الاصيلة التي نستمد مفاهيمها من صفات الخالق العظيم والتي ارتقى الانسان بها الى أرقى درجات الكمال، ولكي يعرف في مقابل ذلك حضارتهم - إن صح ان تسمى حضارة - لكي يقارن بين قيم السماء حيث الرحمة والعدل والمحبة والاخوة الانسانية وبين قيم الغاب حيث الوحشية والدمار والكراهية للجنس البشري.

ص: 2

التعريف بالكتاب لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه والأئمة الميامين من آله وسلم تسليما.

أجدني مرة أخرى مضطراً للعودة بالذكريات الى عام 1986 وهي فترة كتابة هذه الافكار لتعريف القاريء بظروفها واجوائها لأن بعضاً من افكار هذا الكتاب لا يمكن فهمها واستيعابها مجردة عن معايشة ظروف كتابتها فقد كانت بين طرفين:

المجيب: هو عالم بلغ درجة الاجتهاد ومفكر واسع الأفق واخلاقي بصير بادواء النفس ودوائها، نال علمه الوفير من اساتذة عظام في فترة ذهبية من تاريخ النجف الأشرف وعاش قمة نشاط الفكر الحركي والوعي الاسلامي وفترة تأصيله وتأسيسه مضيفاً اليه ما يمتلك هو من ذكاء وهمّة عالية وجِد لا يعرف الكلل ذلك هو الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر قدست روحه الزكية.

والسائل: شاب في العشرينات من عمره تخرّج تواً من دراسته الجامعية ينحدر من أسرة علمية دينية، وفّرت له فرصة للثقافة الدينية ومكتبة تضم عدداً معتداً به من مصادر المعرفة الاسلامية في مختلف حقولها، تفرّغ في تلك الفترة لهذه المطالعات بشغف كبير وعنده

ص: 3

طموح الشباب وجرأته ورغبته في أن ينال كل شيء ولو كان في الثريا.

وكانا على موعد من التلاقي الروحي والفكري والتربوي والعلمي إلا ان المانع كان موجوداً فيهما.

فالأول يعيش اقامة جبرية في داره فرضتها عليه الظروف القاسية التي أحاطت به خاصة وبالأمة عامة بعد استشهاد ابن عمه واستاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره عام 1980 فكان لا يلتقي بأحد ولا يلتقي به أحد إلا نادراً.

والثاني كان حبيس داره لأنه رفض الانخراط في جيش صدام الذي كان يشنُّ عدوانه على الجمهورية الاسلامية في إيران وهذه (جريمة) في نظر الطغاة توجب عقوبات أيسرها الاعدام.

وقد شاع حب الدنيا والنفاق والخوف والرعب حتى قتل الوالد ابنه.

فلم يكن لكل منهما بدٌّ إلا الانزواء في البيت والاشتغال بما ييسره الله تعالى بلطفه وعنايته.

وكان الشاب المذكور قد تولّدت لديه خلال مطالعاته تلك افكار ورؤى يودّ أن يجد من يراه أهلاً لعرضها عليه وتقييمها وتهذيبها وكان أن قدّر الله تعالى فرصة الاتصال بالسيد الشهيد الصدر قدس سره عن طريق المراسلات المكتوبة، وفرح كل منهما بصاحبه فقد وجد

ص: 4

ضالته فيه، وفتح له أبواباً واسعة (راجع بداية إجابة السيد الشهيد قدس سره على بحث - دليل سلوك المؤمن -).

وحينما أقلّب هذه الصفحات الجليلة أجدها غنية بالافكار العميقة والمشاريع الجليلة التي لا زالت بكراً وأجد الأمة بحاجة الى أن تسمو بادراكها لتستوعب هذه الافكار وتعمل بها فإحياء لذكرى سيدي الاستاذ ووفاءاً له، وحباً للأمة وحرصاً عليها كي لا تحرم من هذه المعاني الكبيرة أقدم لهم هذه الابحاث سائلاً الله تبارك وتعالى أن يتلطف بنا جميعاً ويختم لنا بالحسنى ويوفي سيدي الاستاذ أجر المحسنين بما منحني من وقته وصبره ورعايته وحبّه إنه وليّ النِعم.

محمد اليعقوبي

26 ربيع الأول 1425

2004/5/16

ص: 5

ص: 6

البحث الأول دليل سلوك المؤمن

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول تعالى: [وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ] والآية تعمم معنى العبادة لكل الحياة بما فيها الواجبات والفرائض الالهية أي تجعل الحياة كلها عبادة وان الغرض من الخلقة هو لكي يكون الانسان في كل حياته في حالة عبادة.

وليس ادل على ذلك من قيام النبي صلى الله عليه و آله واهل بيته المعصومين عليه السلام بأداء كل متطلبات الحياة - كالأكل والشرب والنوم وسائر المباحات - وهم في كل اوقاتهم يحققون معنى العبادة فكل هذه الافعال يمكن أن تكون من العبادات.

لكن الذي حدث الان ان مفهوم العبادة إنحسر واصبح يشمل الطقوس العبادية فقط كالصلاة والصوم ونحو ذلك ويتبادر الذهن لها اذا ورد هذا المصطلح، وفي الحقيقة فانها مأساة كبرى للإسلام والمسلمين حشدت قوى الاستكبار العالمي وأذنابها والمسلمون المنحرفون - إن صحت التسمية - كالأمويين والعباسيين كل ما اوتيت من قوة لتكريس هذا المفهوم، ويبدو ان جذوره تعود الى ما بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله حيث اقصيت القيادة الشرعية عن تولي امور الأمة وأخذت الحكومات

ص: 7

المنحرفة تبتعد شيئاً فشيئاً عن المنهج الاسلامي القويم وتم إكتمال الانحراف (180 درجة) في عهد الأمويين وما بعدهم.

والذي يحز في قلوبنا ذكره هنا ان علمائنا من حيث لا يشعرون ساهموا في تضييق مفهوم (العبادة) في الأذهان منذ أن بدأوا بتقسيم الفقه الى قسمي (العبادات)(1) و (المعاملات)، وصحيح ان تقسيمهم هذا هو تقسيم فني بحت الا انه اوحى في آذان العامة ان العبادات شيء والمعاملات شيء آخر، وان الفرد يستطيع ان يكون مسلماً ملتزماً في عباداته وبنفس الوقت يتخذ له منهجاً في الحكم غير الاسلام ودستوراً في الاقتصاد وآخر في الاجتماع مما وصلت اليه من غير المسلمين بل وحتى من اعدائهم كل ذلك وهو يعتقد انه ما زال مسلماً ملتزماً بحقيقة (لا اله الا الله، محمد رسول الله) التي تؤكد ان الحاكمية في كل شيء لله وحده وان مبلغ احكامه عز وجل هو محمد رسول الله صلى الله عليه و آله وفي القرآن تأكيدات كثيرة لذلك لا حاجة لذكرها.م.

ص: 8


1- ويظهر من تأريخ الفقه الجعفري ان اول من بدأ هذا التقسيم هو المحقق الحلي (قده) في كتاب شرائع الاسلام قال: الحكم الشرعي: إما ان يقوم بقصد القربة ام لا، والاول العبادات والثاني إما ان يحتاج الى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل او من جانب واحد او لا يحتاج الى اللفظ فالاول العقود والثاني الايقاعات والثالث الاحكام.

وبكل أسف نقول ان علمائنا لم يستشعروا خطورة هذه الحقيقة ولا نريد ان نتجرأ ونقول ان منهم من استوعبها لكنه تقاعس عن تحمل المسؤولية، وحسب علمي فان فقيهاً ربانياً واحداً(1) فقط (إنتقل الى جوار ربه رضي الله عنه وارضاه) فهم هذه الحقيقة وابرزها للواقع فنظر بعينه الالهية الى مستقبل(2) الاجتهاد ووضع ملامحاً لهذا المستقبل حسب تصوره وقد حقق الله تعالى له رجائه فليهنأ وليقر بذلك عيناً، وصدر كتاب فتاواه(3) بمقدمة وافية نظر فيها بمنظار عام الى معنى العبادة - هكذا نقل لي لأني لسوء توفيقي لم اطلع على هذا الكتاب - وانت اعلم بما اقول (فأهل الدار ادرى بالذي فيه).

ويبدو ان فصل القيادتين مدة طويلة ادخل يأساً في اذهان مفكرينا وفرض عليهم إسلوباً من التفكير ينسجم مع هذا اليأس فلم يتطرقوا لأحكام الاراضي وللحدود والتعزيزات وقد المحتم الى).

ص: 9


1- المقصود هو السيد الشهيد الصدر الأول (قده) ولم نكن يومئذ نستطيع التصريح باسمه ونحن نعيش أعلى أشكال البطش والقسوة الصدامية.
2- اشارة الى بحث (المعالم المستقبلية لحركة الاجتهاد) المنشور في آخر عدد من المجلد الثالث من مجلة الايمان النجفية عام 1967.
3- الفتاوى الواضحة للشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده) والملحق بعنوان (نظرة عامة في العبادات).

ذلك، كما إن المرجع(1) السابق ذكره قدس سره اعطى فكرة مفيدة في هذا الموضوع ولكننا تواقون للمزيد.

وهنا اضيف ملاحظة اخرى وهي ان مصطلح الفقه المتداول الآن لا ينسجم مع ما تدعو اليه الاية الكريمة: [وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] فالفقه هذا لا يترتب عليه أي حذر بل هو شيء يتوجه اليه بعد تحقق الحذر من مصادره كمواقف العظة والعبرة وآيات الوعد والوعيد ومشاهد القيامة في القرآن ومناهج البناء الخلقي للإنسان ونحو ذلك، والفقه بالمصطلح الحالي قاصر عن إستيعاب ذلك لذا تجد المكلف لا يرجع الى كتب الفتاوى الا في حالات الحاجة القصوى واذا رجع اليها فلا يجد فيها الا جسماً خالياً من الروح فلا يلبث ان يمله ولا يعود اليها الا على مضض لانها لا تلبي رغبته في الأخذ بيده في سلم الترقي نحو الكمال وهو ما ينشده الجميع من مفهومي (الفقه) و (العبادة) ولا ننسى هنا قول امير المؤمنين عليه السلام في تعريف الفقيه حيث قال: (الفقيه كل الفقيه من لم يقنِّط الناس).

ص: 10


1- المرجع هو الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده).

من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله)(1) فالفقيه هو الفاتح للقلوب بابي الخوف والرجاء.

وبذلك تكون هذه الرسائل الفقهية دليلاً لسلوك المؤمن ليس في الاحكام الشرعية فقط وإنما في جميع شؤون الحياة.

وبمناسبة ذكر فتاوى المراجع - والشيء بالشيء يذكر - هناك إتجاه يلتزم به الفقهاء احياناً وهو إسلوب الحيل الشرعية وبغض النظر عن اصوله الفقهية ومبرراته من الادلة فانه لا يتفق مع الحذر - او التقوى - الذي دعت اليه الاية الكريمة السابقة وعلى سبيل المثال نذكر فتوى للسيد الخوئي بشأن التعامل مع المصارف الربوية وجواز اخذ الفائدة منها بعد إيداع المال فيها لكن لا بنيّة حصول الفائدة وبدون إشتراطها، وبعيداً عن مستندها الاصولي فكيف نأمل ان يعي الناس فساد النظام الاقتصادي الوضعي والاثار السيئة للربا اذا كنا نجد لهم المبررات لكل جديد يأتي به هذا النظام وما الذي تحله هذه الحيلة من المشكلة الربوية والنظام الاقتصادي مخالف لتعاليم الاسلام ولسان حال القوى الشيطانية المستعمرة يقول: لتكن نيتك ما تكون بعد ان وقعت في فخي وعلقت بك شراكي.0.

ص: 11


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبدة - قسم قصار الكلمات رقم - 90.

ومن الغريب ان يصدر مثل ذلك من السيد الخوئي (مد ظله العالي) بعد ان قال ما يجدر بمثله ان يقول(1) ففي معرض حديثه عن موارد صرف الخمس والاتجاهات الباطلة في ذلك ومنها (القول بالقائه في البحر ونحو ذلك مما يستلزم ضياع المال وإتلافه والتفريط فيه ولا سيما بالنسبة الى الاوراق النقدية مما ليست بذهب ولا فضة، اذ كيف يمكن إيداعها والاحتفاظ عليها ولربما تبلغ من الكثرة الملايين الا ان تودع في المصارف الحكومية التي هي تحت الايادي الجائرة فتكون وقتئذ الى الضياع اقرب وبالوبال انسب).

ولله تعالى ولمن شطح القلم فتجرأت عليه ولكم العتبى حتى الرضا فما لمثلي وللخوض في احاديث ليست من ثوبي ولكنه الغرور بقليل من العلم نحصل عليه يدفعنا الى ركوبه سعة حلمك ورحابة صدرك، وختاماً لا تنسوا المفرط في محبتكم من صالح ادعيتكم ولا تحرمنا من إفاضاتك فمن اجدر بالافاضة من البحر الذي لا ينزف ولا تدرك سواحله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.5.

ص: 12


1- مستند العروة الوثقى - كتاب الخمس - ص 325.

دعوة لتطوير الرسائل الفقهية لتشمل جميع نواحي الحياة

وحسب تصوري فان الخطوط العريضة للرسائل العملية تبوب كالآتي:

اولاً: الهيكل الداخلي للمجتمع المسلم

1 - العلاقات الفردية بين الانسان وخالقه وتشمل (الطهارة الباطنية او العقائد، الطهارة الظاهرية، الصلاة، الصوم،...)

2 - النظام الاقتصادي في الاسلام (الزكاة، الخمس، المكاسب المحرمة،...)

3 - النظام الاجتماعي في الاسلام (الزواج، الطلاق، الارث،...)

4 - البناء السلوكي لشخصية المسلم (الجهاد الاكبر، وتدخل ضمنه كل آداب الحياة والتوجيهات السلوكية من اقوال وافعال)

5 - النظام السياسي للإسلام (النظام الداخلي للحكومة)

ثانياً: الهيكل الخارجي للمجتمع المسلم:

1 - علاقات المسلمين كفئة مع الفئات الاخرى كالمعاهدين والمتحالفين والمحاربين.

2 - العلاقات الدولية بين الدولة المسلمة والدول الاخرى.

ص: 13

ثالثاً: وهناك قاضيان عادلان لمراقبة سير بناء الهيكلين وتصحيح أي انحراف وهما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اولاً والجهاد (الأصغر) ثانياً فالأول لضمان سلامة بناء الهيكل الداخلي للمجتمع المسلم والثاني بكل دوافعه واسبابه (نشر الاسلام، رد العدوان، نصرة وانقاذ المستضعفين، ازالة الفتنة، تحطيم الطواغيت الذين يقفون حجر عثرة في طريق تبليغ الاسلام) اقول والثاني أي الجهاد هو الكفيل بسير بناء الهيكل الخارجي على الخط المطلوب.

ولا ريب في شمول الفقه لكل الابواب اعلاه حتى في الرسائل العملية المتداولة لكن مسائله مبعثرة ومشتتة ولم تجمع في مشروع كهذا ولا ننسى ان الصحيفة التي املاها رسول الله صلى الله عليه و آله على امير المؤمنين عليه السلام ضمت كل ابواب الفقه وجزئياته حتى ارش الخدش كما تنص الرواية، والتقسيم الحالي لكتب الفقه لا يسمح باستيعاب كل المسائل.

ويمكن ان تضاف انظمة جديدة لكل من الهيكلين او تهذب هذه حسب ما يقرره اولياء الامور ويمكن اختصار الكلام الى ما قل وافاد في الفروع الخارجة عن الفقه المتداول الان لانها مبادىء ومفاهيم متفق عليها تقريباً ولكن لا يكون هذا مبرراً لتركها فهي تحقق الحذر او التقوى الذي طلبته الاية الكريمة تحقيقها من الفقه وتضع مصطلح (العبادة) مكانه الصحيح وهي ايضاً تشد المسلم

ص: 14

الى اسلامه الحقيقي وبضمنه الاحكام الشرعية وتجعله دائم الاتصال بهذه الكتب لانه يرى فيها منهجاً كاملاً يغطي كل حياته.

ويلاحظ هنا ان بعض الباحثين قد كتبوا في المواضيع اعلاه الا انهم تناولوا الجانب المفهومي فقط دون الدخول في التفصيلات الفقهية بعكس الفقهاء الذين تناولوا الاحكام الشرعية فقط بشكل فتاوى ولم يتصد احد لجمع المنهجين ولكن يجب ان نعترف بانه ليس كل المسلمين يراجعون كتب الفتاوى مع الكتب هذه سوية ففي مسائل الصلاة مثلاً يراجعون كتب الفتاوى التي تدخل في تفصيلات احكام الصلاة و شرائطها وشكوكها ومبطلاتها حتى ليخال للمرء ان صلاة مليئة بالشكوك وعدم حضور القلب - الا في النية - وعدم خشوع الجوارح يمكن ان تكون صحيحة وكلامهم هذا له مستنداته الاصولية لكن الا يجب ان نفهم المكلف هذا في مقدمة كتاب الصلاة اهميتها ودورها في تقويم سلوك الانسان وأثرها على حياته في النشأتين الدنيا والاخرة ودرجات قبولها ونحو ذلك لكي لا تخرج الصلاة عن محلها الاساسي في الاسلام وكذلك بقية الاعمال، ولعل أئمتنا عليهم السلام كانوا يقومون بالمهمتين معاً فعندما يجيبون شيعتهم على اسئلتهم الشرعية لا يغفلون الجانب التكاملي لهذه الاعمال ومن الشواهد على ذلك رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام والعهد الخالد الذي كتبه الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر رضى الله عنه عندما

ص: 15

ولاه مصر، وكمجمل عام فإن القرآن الكريم خير نبراس للمشروع اعلاه فقد عالج جميع الابواب.

فالذي نريده من مراجعنا جعل رسائلهم العملية دستوراً كاملاً للمسلمين - والحمل الثقيل لا يقوم به الا اهله ومن اجدر منهم بمثل ذلك اذ هم القوام على الشريعة - وستكون هذه الكتب مصدراً اصيلاً لفهم الاسلام كوحدة متكاملة ومترابطة الاجزاء وستكون منهلاً لكل وارد.

وانتم بالتأكيد اقدر مني على استيعاب هذا المشروع ودوره المهم في تصحيح خط المجتمع المسلم (فرب حامل فقه الى من هو افقه منه) واعوذ بالله تعالى من استخدام صيغة التفضيل بيني وبينك (فأين الحصى من نجوم السما وأين الحسام من المنجل).

وقد تكون البداية صعبة لعدم وضوح الصورة ولضخامة المسؤولية وجسامة التضحيات ولكن هذه العقبات تزول ويتكامل البناء شيئاً فشيئاً بجهود المخلصين من ابناء الاسلام ويزيد الطين بلة اننا نعلم ان المشروع - لو تم انجازه - يبقى حبراً على ورق الى ان يقيض الله تعالى من يعمل به بين عباده ولكن العمل لا يقل عن كونه لبنة في البناء التراكمي لاراء المفكرين في هذا المجال، ولا بأس ان نتذكر ان المرء اذا مات انقطع عمله الا من ثلاث احدها علم نافع تركه والله الموفق للسداد.

ص: 16

جواب الشهيد الصدر قدس سره

بسم الله الرحمن الرحيم

وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

السلام عليكم وعلى من تحبون ورحمة الله وبركاته.

قبل أي شيء ينبغي ان اؤدي اليك جزيل الشكر للفضل الذي تسديه الى بهذه الكتابات النافعة التي ترسلها الى، وذلك لعدة امور:

منها: انها تملأ قسماً من وقتي الذي جعله (الليل)(1) فارغاً او يكاد:

ومنها: انها جعلتني افكر بما هو منتج ونافع في سبيل الله بعد ان كنت اسقطت ظاهرياً مجرد التفكير في ذلك الى حين طلوع الفجر.

ومنها: انها جعلت لي السرور بالطعوم اللذيذة التي تمر في ذهني والتي كنت قد حرمت منها ردحاً من الزمن.

ص: 17


1- كناية عن سواد الظلم الصدامي وبطشه وما كنا نستطيع الحديث إلا بمثل هذه الاشارات خشية وقوع الرسائل في أيدي جلاوزة الطغاة.

ومنها: انها عرفتني ان العالم لم ولن يخلو من الخير مهما شاءت شهب الليل (وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) * ليس انت فقط بل آخرين وآخرين والحمد لله رب العالمين.

غير ان هذا المقال وملحقاته التي ارسلتها - دمت محروساً - تعرفني شيئاً آخر وهو قصوري وتقصيري وجهلي.. ولعل اوضح ما استطيع الاستدلال به على ذلك ان هذه الكتابات تحتاج في جوابها الى ملأ كل فراغات المجتمع على الاطلاق او قل الى التعريف بالاسلام بكامله وهو يحتاج الى مجلدات بل الى اجيال. (وما انا وما خطري هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي) كل ما في الموضوع لعلي استطيع ان اذكر بعض الملاحظات ليس الا، ولست احسبك تطلب في هذه العجالة اكثر من ذلك، فعذراً وبالطبع سأكون كناقل التمر الى هجر ان قلت: ان التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له، فليلاحظ.

اللهم صل على محمد وآل محمد.

وحين نبدأ بعرض الملاحظات: ينبغي لنا الى ان نتذكر الرواية التي تقول ما مضمونه القريب:

ان الاسلام عشر درجات اعلاها اول درجات الايمان والايمان عشر درجات اعلاها اول درجات التقوى والتقوى عشر درجات اعلاها اول درجات اليقين واليقين عشر درجات، والناس قد تمسكوا بأقل درجات الاسلام.

ص: 18

اقول: بل هم الان عموماً دون ذلك.

كما ينبغي ان نتذكر هذه الرواية مفهومها: ان الناس جميعاً هالكون الا العالمون والعلماء جميعاً هالكون الا العاملون والعاملون كلهم هالكون الا المخلصون، والمخلصون في خطر.

مولاي وابن مولاي: ان هذه الدرجات التي اشارت اليها الرواية الاولى ليست اعتباطاً ولا هزلاً بل هي درجات حقيقية (راجع قوله تعالى: ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا... الخ الايات) وهذه الدرجات تختلف في 1 - المضمون 2 - النتائج 3 - الاسباب 4 - منهج التكامل. وغير ذلك يكفينا ان نعرف انه كلما ازدادت الدرجة: 1 - قلَّت الذنوب 2 - كثُرت الطاعات 3 - زاد اهتمام الفرد برضاء الله 4 - ازدادت مسؤولية الفرد في الدنيا والاخرة وغير ذلك.

ومعه فالأمور التي ذكرتها في المقال وملحقاته حق كلها الا انها تنفع عدة درجات من الناس، ولا يمكن ان تحمل جميع الناس جميع ما نعرف من الحق، بل لكل درجة منهم منهجها الذي ينفعها في التكامل طبقاً لمواصفات الفرد عموماً، ولا يمكن ان نُحمّل الفرد ما لا يطيق اذ قد تحصل من ذلك مضاعفات غير محمودة اما في الدنيا واما في الاخرة، ولعل من اوضح الاحتمالات في ذلك:

ص: 19

احتمال: ان يخطر في باله - نتيجة لبعض كلامنا - شبهة مستعصية عليه قد تزلزل ايمانه، مهما كانت درجته، واذا حصل ذلك او غير ذلك فنحن الذين ورطناه فنكون نحن المسؤولون امام الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في هذا المضمون (انك كسرته وعليك جبره) اعاذنا الله من الزلل.

وهل تستطيع ان تعلِّم (كفاية الاصول) لمن يقرأ الاجرومية او رياضيات التفاضل والتكامل لشخص ضعيف في الرياضيات مثلي.

ان اعطاء (الدواء) الزائد ظلم للمريض كما ان اعطاء (الدواء) الناقص ظلم له ايضاً لانه يقتصر على اقل من استحقاقه وقابلياته، اذن فالأمر مهول جداً امام هذا العدد الضخم من البشر بدرجاته المختلفة دينياً وثقافياً وعقلياً واجتماعياً. وهل الانسان الا أوله من نطفة وآخره جيفة قذرة وما بينهما يحمل العذرة، والتدبير على المدبر الحقيقي جل جلاله.

هذا وارجو ان تكون هذه الكتابة مصونة من غير اهلها طبقاً لنفس هذا المفهوم.. جزاكم الله خير جزاء المحسنين.

ولعل اوضح سؤال يرد هنا: اننا كيف نستطيع ان نوزع حقول المعرفة على درجات الناس؟ ان جواب ذلك بعد الاعتراف ان تحديد الجواب مئة بالمئة متعذر مئة بالمئة، الا ان الجواب يكون من عدة منطلقات.

ص: 20

اولاً: ان المربي سوف يعرف مستويات من يربيه فرداً او جماعة ويشخص تدريجاً، ومن خلال تجاربه المستمرة ما يحتاجون اليه من تربية علمية ونفسية وغير ذلك.

ثانياً: ان الفرد قد يشعر بنقصه من شيء او عدة اشياء، فيركض وراء هدايته اينما يجدها، وسوف يركز وفي الاعم الاغلب على ما يحتاجه بطبيعة الحال وهو اعلم بنفسه من أي فرد آخر.

ثالثاً: انه يمكن النظر الى الحاجة العامة في المجتمع او الى المستوى العام لاغلب الناس، مع الفحص الدقيق عما يناسب تربية ذلك مع عدم المضاعفات الاخرى، وعنده تكون المبادرة الى اعلان قبل هذه الافكار التربوية بأي وسيلة، كتأليف كتاب او غيره مما لا يخفى.

اقول: فهذه المستويات وغيرها يمكن ان تستوعب البشر واذا بقي من هو جاهل، فقد يكون هو معذوراً او نحن معذورون لعدم الوصول إليه، وخاصة خلال الليل الذي تقل فيه المشاهدة ويصعب فيه السير!..

مولاي: ان الفقه الذي افترضته ليس فقهاً فقط بل هو المنهج العام لهداية البشر وليس من طاقة الفرد ولا الكتاب ان يفي بجميع جوانبه.

ص: 21

واذا اقتصرنا على النظرية وغضضنا النظر عن التطبيق امكن وضعه في الحقول الثلاثة التالية: العقائد والشريعة والاخلاق.

الا ان هذه الحقول ليست حقولاً بسيطة كدونم من الارض بل لكل منها درجات وللناس في فهمها بل في امكان فهمها وهضمها درجات، ونذكر على سبيل المثل ثلاث درجات لكل حقل: فالعقائد تشمل:

أ - البراهين الاعتبارية الظاهرية على اصول الدين.

ب - التفكير في آيات الله التي جعل الله سبحانه العذاب الاليم في الكفر بها والاعراض عنها.

ج - انشراح القلب واليقين كقوله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وقوله (إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

والشريعة تشمل:

أ - المنهج العام الظاهري للعبادات.

ب - المنهج العام الظاهري للمعاملات.

ج - المنهج العام الظاهري للأحكام الاجتماعية.

ونقصد بالظاهري ما كان على مستوى الفهم العام بغض النظر عن التربية الذاتية: العقلية والقلبية والنفسية.

والاخلاق تشمل:

أ - علم الاخلاق المشتمل على التحليل النظري لعيوب النفس وملكاتها.

ص: 22

ب - الجهد او الجهاد العملي لتربية النفس وتكاملها في الطريق الحق وهو الجهاد الاكبر.

ج - المعارف العليا والكرامات التي يحصل عليها الاولياء والصالحون مما هو خفي عن غيرهم.

فهذه تسعة مستويات لعل جميعها او اكثرها مطلوب من الفرد وخاصة بعد قناعته بها والتفاته اليها، ولكل منها اسبابه وتفاصيله ونتائجه، وليس شيء منها بمتعذر على من يطلبه.

ولا اعتقد انه يمكن التفكير في ان تكون كل هذه الامور في كتاب واحد او موسوعة واحدة، وخاصة بعد ان تحددت الاختصاصات في العصر الحاضر؟

وهي على حق من هذه الناحية الى حد يروى ان شخصاً سأل طبيباً عن اختصاصه فقال: الانف: فقال له: أي المنخرين؟!

مولاي: اذا اردت ان اعلق على بعض ما ورد في مقالك فلعلي بعونه سبحانه وتعالى استطيع بما يلي:

اولاً: ان مفهوم العبادة - كما تفضلتم - غير خاص بما يسمى العبادات بل هو شامل فعلاً لكل مناحي الحياة بل شامل حتى للحياة العقلية والقلبية والنفسية وعلى العموم فان الحقول التسعة السابقة جميعها تصبح عبادة اذا كان الفرد محتوياً على شيء من الاخلاص وحسن النية وعدم نسيان ذكر الله ورضائه.

ص: 23

ثانياً: اعتقد ان الظالمين خلال التأريخ كله قد قضوا فعلاً على جميع مفهوم العبادة الذي عرفناه - الا من عصم الله - ليس فقط الاحكام الاجتماعية والعامة، بل حتى العبادات بالمعنى التقليدي لان الظالم والمتابع للظالم لا يمكن ان تقبل منه أي عبادة او ان توصله الى شيء من الثواب (سوى الاجزاء اذا كان). كما اعطوا طريقاً واسعاً في السير في العصيان والفساد لكل من يشتهي او يريد.. وما اكثر من يشتهي ويريد مع وجود النفس الامارة بالسوء عند جميع الناس الا من عصم الله.

ثالثاً: من الصحيح في الاعم الاغلب ان فقهاءنا اقتصروا في فقههم على الجانب (الظاهري) واهملوا الجانب الاخلاقي التربوي للقلب والنفس، الا اننا لا نعدم ذلك ففي العروة الوثقى للسيد اليزدي بعض الصفحات في الوعظ في ما ينبغي ان تكون عليه حالة المصلي او كذا وكذا.. وكذلك منهاج الصالحين للسيد الحكيم، الا انه قطرة في بحر بطبيعة الحال.

رابعاً: انه من الصحيح في الاعم الاغلب ان الفقهاء اقتصروا على الجانب الفردي للفقه واهملوا الجانب الاجتماعي او العام، الا اننا لا نعدم ذلك وخاصة بين المتقدمين كما عليه شرائع الاسلام واللمعة الدمشقية.

ص: 24

والذي اجده ان الفقهاء المتأخرين عن عصر السيد مهدي بحر العلوم قد بدأ الجانب الاخلاقي من ناحية والجانب الاجتماعي بالتضاؤل عندهم تدريجياً الى ان وصلنا الى ما وصلنا اليه من النتائج، واما الاقدمون فهم - في الاغلب لم يكونوا كذلك في حدود مستويات عصورهم.

خامساً: ينتج من ذلك يا مولاي ان الاتجاه الى الفقه المتكامل من ناحية وحمل هموم المجتمع من ناحية اخرى كان موجوداً بين علمائنا الاقدمين بوضوح. - ويكفي ان يكون موجوداً عند اكثرهم او اهمهم - وكذلك هو موجود بين علماء الجيل السابق من العامة كالشيخ محمد عبدة والسيد جمال الدين الافغاني ولا زال الاتجاه موجوداً فيهم.

والسيد الذي انتقل الى جوار ربه(1) يعتبر اذكى الناس واعلمهم واعمقهم تفكيراً على الإطلاق، ولكنه ليس هو الوحيد الذي تبنى هذا الاتجاه كما اشرنا.

ومن الظلم لعلمائنا ان نحيطهم جميعاً بهذه الفكرة، وانا شخصياً قلت له: ان بعض علمائنا السابقين كانوا (واعين)(2) كالمحقق الحلي فقال: نعم.ة.

ص: 25


1- يعني به السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قده).
2- أي حركيين، وهذا من الاصطلاحات المستعملة في زمن التقيّة.

سادساً: ان النقص الاساسي في المجتمع ليس هو النقص (الفقهي) - مهما كان شديداً - بل هو النقص العقائدي من ناحية، والاخلاقي من ناحية اخرى، فانه مع وجود هذا النقص كما هو الان لا يرجعون الى الفقه الا قليلاً كما اشرتم في كلامكم، واما لو كان للناس شيء قليل من المستوى المقبول في تلك الحقول لشعروا بالحاجة الى الفقه وقبلوه بتفاصيله احسن قبول.

سابعاً: ان فتوى السيد الخوئي في المصارف وغير ذلك من امثالها يمكن ان تلحظ بعدة ملاحظات:

أ - انها قضاء لحوائج الناس وخاصة اذا كان منهم مؤمنين، فاننا اذا حرمنا ان يطرقوا البنوك فقد اوقعناهم في حرج ومأزق غير قليل، فمن المستحسن للفقيه امام الله تعالى ان يعلمهم الطريقة الصحيحة للإستفادة من هذا المرفق من مرافق المجتمع، وهذا - على المظنون - هو مقصود السيد الخوئي وغيره من اصدار هذه الفتاوى، حملاً لهم على الصحة.

ب - انها تعتبر تنزيلاً للدين الى مستوى الناس بينما ينبغي علينا تصعد الناس الى مستوى الدين، وقد سبق ان قلت هذا المعنى لكم.

ص: 26

ج - انها - بشكل وآخر - تعتبر تنفيذ او اجازة للوضع الظالم المفروض على البلاد الاسلامية من قبل اعدائه.

د - انها - بشكل وآخر - تعتبر سبباً لاستلام اموال مشبوهة ومجهولة المالك وغير ذلك.. الامر الذي يسبب نتائج اخلاقية واجتماعية مؤسفة، منها: قساوة القلب وتعذر الوصول الى (القلب السليم).

ولعل هناك نتائج اخرى وان شاء الله لا يكون فقهاؤنا ملتفتين الى هذه النتائج، وماذا عليهم ان يفعلوا؟ نعم لو كان بعضهم مستطيعاً لغير ذلك كان واجباً عليه والله يساعده..

ثامناً: يحسن اعادة النظر في المنهج العام الملحق بالمقال وجعله مطابقاً - لو صح ذلك للمراحل او الحقول التسعة التي ذكرناها فيما سبق ثم اذا شئتم عرضتموها على هذا الضعيف.

تاسعاً: إننا يمكن ان نلحظ الاعجاز الكبير الذي تكفله القرآن الكريم ومدرسته القرآن المتمثلة في المعصومين عليهم السلام في دمج الحقول التسعة جهد الامكان، فقلما توجد في كلماتهم زاوية فقهية الا وفيها موعظة اخلاقية، وقلما توجد في كلامهم زاوية عقائدية الا وفيها موعظة كونية

ص: 27

وقلما توجد عندهم زاوية اخلاقية الا وفيها إصلاح نفسي وقلبي وهكذا.

وبطبيعة الحال فان القرآن الكريم على رأس القائمة من هذه الناحية ومن كل ناحية ويمكن التأمل في كثير من الايات لفهم ذلك بوضوح، هذا مختصراً.

عاشراً: لعل المفهوم من مقالكم - بشكل وآخر - ان تحثوا هذا الضعيف الجاهل على المبادرة الى الفقه الواسع الذي تريدون، وليتني كنت من القادرين، بل عساني استوعب حقلاً من حقوله فضلاً عن المجموع، وبغض النظر عما يعلمه الله تعالى في سابق علمه وهو بكل شيء عليم، وبغض النظر عن الايمان، المسبق بكل هذا المضمون بعمق كما أوضحنا، الا ان هناك نقاط ضعف عديدة تحول دون هذه المبادرة نذكر ما تيسر منها:

1 - انه لا دليل على بقاء هذا الضعيف حياً الى حين انجاز مثل هذا المشروع فضلاً عن إطلاع الناس عليه، الامر الذي يجعله - بعد موته - ساقطاً عن المنفعة تقريباً لأنه من تقليد الميت!!

2 - انه لا دليل على انحسار الليل وطلوع الفجر بحيث يمكن مجرد التفكير في ذلك ولله في خلقه شؤون.

ص: 28

3 - انه لا دليل على وجود القابلية الكاملة عقلياً ونفسياً لأجل ذلك، فانه مهما كان الفرد فانه ينبغي ان يعترف بالقصور والتقصير فضلاً عن كونها حقول موسعة ومصادرها متفرقة.

4 - إنه كما قلنا ليس كل الناس يمكن ان يتحملوا كل الحقائق، فلعلنا نكتب في شيء قربة الى الله ونقع في الورطة من ناحية اخرى - كما سبق - ولا يطاع الله من حيث يعصى.

الى غير ذلك من المصاعب، ولا يمكن ان يرفعها الا توفيق خاص من قبل العلي العظيم سبحانه وتعالى.

الحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين أصطفى.

ص: 29

البحث الثاني الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

من خلال الموضوع السابق والملاحظات عليه نستطيع ان نحدد النقاط التي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار بما يلي: -

1) التباين الهائل بين مستويات الناس وقابلياتهم (1)(1) والذي هو امر فطري فلا يجوز النظر اليه على انه عائق لمثل هذه المشاريع.

2) المفهوم الشامل للعبادة والفقه وتغطيتهما لكل شؤون ونواحي الحياة.

3) المنهج الملائم الذي يجب سلوكه لارجاع المسلمين الى اسلامهم الحقيقي اذ ان من يحاول ذلك يصطدم بعدم وجود المصادر التي تفيده في هذا المجال عدا القرآن الكريم.

4) إعطاء الأحكام الشرعية مكاناً بارزاً في الفقه الشامل وتيسير الحصول عليها دون تشويش ذهن القارىء بعناوين لا تدل بوضوح عما يندرج فيها كما لو وضعنا الطهارة في قسم

ص: 30


1- هذا التسلسل يشير الى تعليقات السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) على أصل البحث وستأتي مجموعة باذن الله تعالى.

العلاقات الفردية مثلاً والخمس في النظام الاقتصادي وعدم عزلها ككتب وأبواب خصوصاً اذا علمنا ان الاحكام الشرعية هي مدار الحاجة والقاسم المشترك للناس على اختلاف مستوياتهم كما انها تتغير من مجتهد لآخر فيجب مراعاة ذلك لئلا ينعكس أثرها على المشروع ككل (2).

5) إضفاء الروح الحركية على الرسائل العملية التي هي خواء منها الا ما ندر وجعلها اكثر حيوية وتماساً مع حياة الفرد والمجتمع المسلمين.

6) إن في تشريعات الاسلام ما لو طبق في مجالات الحياة المختلفة لكان فيها الطريق السليم لاسعاد البشرية خصوصاً بعد أن فشلت جميع الاطروحات والايديولوجيات في حل المشاكل المعاصرة التي ينوء تحت ثقل آلامها عالمنا المعذب، وتستطيع ان نؤكد ان هذه النظريات والايديولوجيات هي التي زادت من استعصاء هذه المشاكل وإيصال العالم الى طريق مسدود، علماً بأن الفقه الاسلامي بشكله المعروض الان لا يفي بتقديم نظرية الاسلام على شكل نظم تدير حياة المجتمع البشري.

7) وجود احكام شرعية لا تفهم وفق التقسيم الحالي للفقه كما سنشرح ذلك في محله انشاء الله تعالى.

8) القضاء على النظرة الفردية التي ملكت زمام تفكير فقهائنا حتى عاد احدهم - وهو يمارس ملكته الاجتهادية - يرى امامه

ص: 31

الفرد المسلم فقط فيحاول تمكينه من تطبيق نظرية الاسلام ولم يدر في خلده ان كيف ستكون الحالة لو حاول مجتمع مسلم تطبيق نظرية الاسلام في جميع شؤون حياته.

والرسائل العملية المتداولة كافية لبعض النقاط كالنقطة الرابعة ولكنها عاجزة عن استيعاب اكثر النقاط الأخرى، كما لو فكرنا بوضعها على اساس الفقه الشامل فاننا سنصطدم ببعض النقاط كالنقطة الاولى اذ سيدور في خلد العامي ان عليه الالتزام بكل هذا الفقه والا فليس دينه بشيء مما يتسبب في نتائج وخيمة وقد ينهار ويفشل كثير من الناس، ولا يطاع الله من حيث يعصى.

فالحل المقترح هنا هو التفكير في مشروعين يكمل احدهما الاخر يسعى - بتوفيق الله تعالى وعونه - الى تحقيقيهما معاً.

الأول: تطوير الرسائل العملية (3) بما ينسجم مع النقاط اعلاه وذلك بالاحتفاظ بها ككتب فتاوى أي بشكلها الحالي مع ادخال الاضافات والتعديلات الاتية حيث يتم تناولها بشكل مختصر وواف بالغرض بحيث لا يؤثر كثيراً على الهيكل العام للكتاب والغرض منه، والاصلاحات هي: -

1) عرض اصول العقيدة وادلة مناسبة لها (4).

2) شرح المفهوم العام للعبادة (5) والمصطلحات الاساسية الاخرى كالتوحيد والالوهية والربوبية وبيان حدود وشروط تحقق كل منها.

ص: 32

3) تربية ملكة التقوى بالاستفادة مما سنذكره في قسم العقائد إنشاء الله تعالى.

4) امهات الاخلاق الفاضلة التي يجب التحلي بها والرذائل التي ينبغي اجتنابها ومقدمة في مسالك اكتساب الاخلاق.

تضاف كل هذه الأمور في مقدمة الكتاب، ثم:

5) إضافة مقدمة مختصرة قبل كل كتاب من كتب الفقه ككتاب الصلاة مثلاً يتناول فيها اهمية تلك العبادة وأثرها في حياة الفرد (6) في النشأتين ودرجات قبولها وتكاملها.

6) إضافة كلمة (فقه) (7) الى العبادات والمعاملات فتصبح (فقه العبادات) و (فقه المعاملات) او اية خطوة اخرى كمحاولة لتفهيم القارىء تغطية الفقه للعبادات والمعاملات معاً وان في المعاملات عبادة ايضاً وبالتالي تحقيق معنى العبادة الشامل.

7) إضافة قسم ثالث للكتاب باسم (قسم النظم الاجتماعية) يتناول فيه الجانب المفهومي للعبادات والمعاملات ضمن نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها وذلك:

1 - لأن هناك احكاماً شرعية لا يمكن فهمها في ضوء التقسيم الحالي للفقه كوجوب الصوم على غير المسلم، فلأول وهلة يبدو ان هذا تشريعاً عابثاً - والعياذ بالله - إذ ما جدوى فرض واجب ديني على من لم يؤمن بالدين اصلاً ومعروف سلفاً وبالضرورة عدم التزامه به ولكن اذا

ص: 33

فهمناها (8) في ضوء النظام الاجتماعي للإسلام وحرصه على توفير الجو الملائم الذي يمكن المسلمين من أداء واجباتهم بدون منغصات علمنا ان الهدف من الحكم هو قطع الحجة على غير المسلم لو اراد التجاهر بالافطار مطمئناً الى عدل الاسلام وانه لا يظلم احداً فأوجب عليه مجاراة المسلمين ما دام بينهم وليفعل في بيته ما يشاء، وبدون هذا الحكم ستجد ضمن المجتمع المسلم من يتناول المفطرات امام الملأ بحجة ان الصوم غير واجب عليه مما يسبب خلخلة في اداء هذه الفريضة المقدسة وكذا حرم الاسلام التجاهر بكل المحرمات في شرعه - وان لم تكن كذلك في شرع فاعلها - كشرب الخمر واكل لحم الخنزير، وبنفس المنظار نستطيع فهم وجوب الزكاة على المشركين، واشتراط الشهود في الطلاق وعدم اشتراط ذلك في المراجعة.

2 - ولأن فصل المنهجين (10) (المنهج الفردي الاجتماعي) ثبت عجزه عن تطبيق نظرية الاسلام بشكلها السليم في بعض الموارد اذ ان هناك احكاماً لا يمكن الالتزام بها الا في ظل النظام الاجتماعي للإسلام.

3 - ولأن المجال الفردي الضيق الذي سلكه الفقهاء اعطى انطباعاً بأن الشريعة ككل فردية وهي انما جاءت لمعالجة

ص: 34

وضع الفرد المسلم ولا يمكن الاستفادة منها في مجال قيادة المجتمعات البشرية.

8) تجاوز الحيل الشرعية خصوصاً بما يمس النظم الاجتماعية لأنها احدى نتائج تضييق نظرة الفقيه للفرد المسلم دون اخذ الجانب الاجتماعي بنظر الاعتبار عند ممارسة اجتهاده، ولأن فيها قبولاً ضمنياً (11) بالنظم غير الاسلامية القائمة والتفكير بدلاً عنها بكيفية تغيير هذه النظم لا تبرير التعامل معها. مثلاً بالنسبة للبنوك الربوية كان من الممكن التفكير بتأسيس بنك اسلامي (9) اهلي تتبناه المرجعية وتوضع فيه حسابات خاصة بحق الامام والسادة والحقوق الاخرى وحسابات التوفير للناس ويقوم هذا البنك بالمساهمة في مختلف المشاريع الاصلاحية والتجارية والقروض ويدار من قبل خبرات متخصصة وملتزمة ويوضع له دستوره الخاص لعرضه على الزبائن وعندئذ سيعم نفعه على الاسلام والمسلمين ويغني عن النظام الربوي ويحل كثيراً من المشاكل وتصبح المرجعية اكثر تدخلاً في الحياة الاسلامية.

وفي الحقيقة فان هذا المنحى في البحث الفقهي (المنحى الاجتماعي) جدير بأن يعمل العلماء فيه (12) اجتهادهم واستنباطهم خصوصاً بعد ان وصل الاتجاه الآخر في البحث الفقهي ويقصد به عمق المادة قمته منذ عهد الانصاري والاخوند

ص: 35

(قدس الله سريهما) وعلى اية حال فان البحث الفقهي في هذا الاتجاه ليس جديداً تماماً ولا انه غريب على العلماء ولا انه باب مغلوق لم يطرق من قبل فهناك جوامع الحديث الغنية بالاحكام الاجتماعية وعلى رأسها العهد الخالد الذي كتبه امير المؤمنين لمالك الاشتر رضى الله عنه عندما ولاه مصر وهناك بعض التجارب المتفرقة لعلمائنا الاقدمين وتجارب رائعة لبعض علمائنا المتأخرين، ونود التنبيه هنا الى المحاولات المفيدة لعلماء اخواننا اهل السنة في المجال الاجتماعي للفقه الاسلامي ككتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لإبن القيم الجوزية.

والثاني من المشروعين: وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم وذلك بتناول الايات الكريمة كمجاميع تندرج كل مجموعة من الايات تحت عنوان معين وليس بتفسير الايات حسب ترتيبها في المصحف كما هو المتداول في التفاسير مع شرح واف لكل موضوع وبهذا الاقتراح نلتقي مع دعوة السيد(1) قدس سره لوضع مثل هذا التفسير.

والعلاقة بين هذا المشروع وسابقه ظاهره اذ ان القرآن خير نموذج للفقه الشامل وتجد بين دفتيه آيات كثيرة تصحر بالدعوة الى تحقيقل.

ص: 36


1- أي السيد الشهيد الصدر الأول.

معنى العبادة الشامل في كل نواحي الحياة، كما انه الكتاب الوحيد القيم على اصلاح البشرية في كل زمان ومكان.

وبالجمع بين المشروعين نستطيع استيعاب كل النقاط المذكورة في بداية البحث وبنفس الوقت نتلافى ما يمكن ان تكون عيوباً لو نفذنا احد المشروعين وحملناه المشروع الاخر على ان يحال القارىء في كل منهما الى الاخر كلما دعت الحاجة الى التفصيل وباختصار نقول ان المشروع الاول لا يتناول تفصيل أي شيء عدا الاحكام الشرعية، اما الثاني فيتناول تفصيل كل شيء عدا الأحكام الشرعية (13).

وفصل المنهجين بالشكل المقترح انما هو كمحاولة لعرض الاسلام الحقيقي ولكن بالتدريج (14) اذ بسبب:

1) الاختلاف الهائل بين قابليات البشر النفسية والعقلية والقلبية.

2) انتكاسة الجاهلية الحديثة الى الحضيض.

فلابد لأية حركة اصلاحية ان تستفيد من كيفية ظهور الاسلام لأن صاحبه صلى الله عليه و آله واجه نفس المشكلتين أعلاه، وفي الحقيقة فإن هذه المواجهة مستمرة ولا تنحصر بوقت معين وعليه فيجب سلوك نفس طريقه القرآن في هداية الناس ونقلهم من مستنقع الجاهلية الى قمة الكمال السامقة مصداقاً لقوله صلى الله عليه و آله مضموناً: لا تصلح اواخر امتي الا بما صلحت به اوائلها، فالذي تحتاجه الامة لكي تنهض من سباتها هو نفسه الذي احتاجت اليه في بداية

ص: 37

الرسالة، وعمل القرآن الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه و آله على بثه والدعوة اليه ويمكن حصره بشيئين:

1) تقديم نظرية الإسلام بشكلها النقي الأصيل الخالي من الشوائب والانحرافات.

2) تربية ملكة التقوى لأن وجود العنصر الأول لا يكفي لتحريك الانسان بدون التقوى فهو الجسد وروحه التقوى، وكمصاديق نذكر هنا على سبيل المثال والمناقشة اصحاب الجمل الذين كان التزامهم الظاهري بالاسلام وقربهم من صاحب الرسالة بدرجة فتنت عدداً كبيراً من الناس ومع ذلك نكثوا البيعة التي في اعناقهم وتسببوا في سفك الدماء وهتك الاعراض المسلمة بسبب اهوائهم الجامحة ولم يكن ما عندهم من التقوى تكفي لكبح جماح هذه الاهواء الطامحة للخلافة.

ومثال آخر اقرب من المثال الاول واكثر دلالة، روي ان شخصاً سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن قتل النملة او أهو جائز ام لا؟ فقال له عمر: من أي البلاد انت؟ قال: من العراق؟ فالتفت عبد الله الى اصحابه وقال: الا تعجبون من هؤلاء يقتلون ابن بنت نبيهم صلى الله عليه و آله دون تحرج ويستفتون في قتل نملة، فإذن كان هناك ناس ملتزمون بالطقوس العبادية الظاهرية الى هذا الحد (15) ومع ذلك ارتكبوا مثل هذا الذنب العظيم، فبماذا يفسر مثل هذا السلوك اليس لانهم فاقدون لعنصر التقوى والفهم

ص: 38

السليم لنظرية الاسلام ومن هنا نستطيع ان نفهم لماذا ركز الامام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء في خطبه على إثارة تقوى الله تعالى في نفوس اهل الكوفة والظهور بمظاهر رسول الله صلى الله عليه و آله اذ ان الفرصة فاتت أو لنقل لا يسمح الوقت بشرح وعرض الاسلام الأصيل كمعنى العبادة واتخاذ الارباب من دون الله والفرق بين إمامة الحق وإمامة الطاغوت ونسبة تكاليف عبادة الله الى عبادة الطاغوت ونحو ذلك ولا يبرر سلوك الكوفيين هذا بسياسة الترهيب المتعسفة والترغيب المغرية اللتين سلكهما عملاء الأمويين واذنابهم لأن هذه السياسة عمرها لم تثن مؤمناً عن عزمه او تزيغه عن طريقه المستقيم فهو - أي المؤمن - كما يفيد الحديث الشريف: اصلب من الجبل لأن الجبل يستقل منه بالمعاول ولا يستقل من إيمان المؤمن شيء، وفعلاً كان هناك نفر غير قليل من الكوفيين تمردوا على هذه السياسة والتحقوا بالركب الحسيني ونالوا شرف الشهادة.

فمثل هذه الحالة تتردى اليها الامة باستمرار وتعود الى جاهليتها وقد أنبأ عن هذه الحقيقة قوله تعالى (وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ان هناك جاهلية ثانية (16) ستعيشها الامة وعندئذ يأتي دور الاسلام لينقذها من جديد اذ الجاهلية ليست فترة زمنية مرت ولن تعود وإن الاسلام ادى دوره في علاجها واستنفذ اغراضه وانما الجاهلية حالة لها مواصفات وسمات متى تحققت

ص: 39

اصبح الوضع وضع جاهلية، والمجتمع مجتمع جاهلي، وعلى رأس هذه الصفات اقصاء منهج الله عن الحكم (أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً).

وهنا يتجلى جانب من جوانب اعجاز القرآن وهو خلوده وقدرته الدائمة على قيادة البشرية نحو سعادتها والأخذ بيدها كلما هوت من القمة واخلدت الى الارض واتبعت هواها.

ونشير هنا الى ان مشروع تفصيل القرآن يجمع هدفين:

1) إنه محاولة علمية بحتة وذلك بتفصيل آيات القرآن الكريم لذا تجده يدرج جميع الآيات القرآنية ضمن الموضوع الذي يحتويها ولا يكتفي بما يعرضه اثناء شرح وتفسير الموضوع.

2) إنه حركة جهادية ذات مسؤولية مزدوجة.

الاولى: تهيئة القواعد الشعبية التي تؤمن بخط الاسلام الأصيل وتسعى الى تحقيقه في واقعها الحياتي وتتفانى في الدفاع عنه.

الثانية: عرض الاسلام كنظام حياتي متكامل لاسعاد البشرية بدلاً عن النظم الوضعية المتهرئة والهزيلة.

لذا قد يخرج التفسير (17) عن حدود منهج تفصيل القرآن الكريم وعزل الآيات فحسب كما انه من الضروري سلوك طريقه القرآن الإصلاحية بحذافيرها لكن مع مراعاة اختلاف الظروف والملابسات وأولها أننا نتعامل مع ناس مسلمين!! لا مشركين.

ص: 40

وطريقه القرآن في إصلاح ومعالجة مجتمع الجاهلية الاولى كانت بالتدريج وفي اتجاهات ثلاثة تسير معاً:

اولاً: في مضمون الرسالة، فلم يأت الاسلام بالاحكام جملة وإنما تدرّج وهناك اتجاهات اخرى للتدرج في مضمون الرسالة منها الانتقال من الاجمال الى التفصيل والتصريح كتحريم الخمر ومنها: بتهيئة الاذهان والتقديم - قبل تبليغ الحكم - بأشياء وامور تصنع الارضية المناسبة لتقبل الحكم واستساغته خصوصاً في التكاليف الثقيلة كالجهاد والذي يراجع سورة البقرة - وهي اول السور القرآنية في المدينة - يجدها في عدة مواضع تهيء المسلمين وتعبأهم للجهاد والقتال فبلّغ العقائد أولاً وربّى ملكة التقوى (18) فكان ذلك هو الغالب في القرآن المكي أي طيلة السنن الثلاثة عشر الاولى من الرسالة الاسلامية التي قضاها النبي صلى الله عليه و آله في مكة، ثم بلغ الاوامر والنواهي بعد ان هيأ مجتمع المسلمين نفسياً وقلبياً وسلوكياً لقبولها بعين الرضا والتسليم كل في وقته المناسب وفق الإرادة الإلهية، فنجد ان القرآن الكريم لم يتعرض اثناء تبليغه العقائد في مكة الى شيء من التشريعات سوى تلك التي تساعد على تكريس تلك العقائد وتعمقها وتجسدها على واقع سلوك الانسان المسلم كالصلاة والانفاق في سبيل الله اما بقية الاحكام كالصوم والجهاد فقد تركت الى ما بعد تكوين المجتمع المسلم المستقل ذي الاساس العقائدي المحكم في المدينة.

ص: 41

وسنستعرض الملامح العامة للقرآن في قسم العقائد انشاء الله تعالى.

ثانياً: في المدعوين فقد بدأ بابن عمه علي عليه السلام وزوجته خديجة وغلامه زيد ثم أمر بانذار عشيرته الاقربين وان يصدع بما يؤمر ثم نقل دعوته الى الطائف فالمدينة فعموم الجزيرة العربية وبعد وفاته صلى الله عليه و آله استمرت الفتوحات وشملت رحمة الله الاسلام العالمين وهذا التدرج يستفاد منه في ناحيتين: -

* الاولى: بناء واختيار اتباع من درجات او خطوط مختلفة ومتدرجة حسب قابلياتهم وتجاوبهم مع الرسالة الجديدة ومتطلباتها وبذلك يستطيع الرسول صلى الله عليه و آله الاستناد الى بعض الخطوط (19) ذات المستويات العليا لمواصلة الرسالة اذا فقد الخطوط التي دونها لأسباب شتى كضعف البناء الداخلي او عدم تكامله او ضعف القابليات او تحت ضغط الظروف المحيطة ونحو ذلك، فبعد رحيله صلى الله عليه و آله ارتدت اغلب الاجزاء الاسلامية فلولا انه بنى في المدينة مجتمع المهاجرين والانصار لما امكن تأديب هؤلاء وارجاعهم الى احضان الاسلام والدولة المسلمة ونفس هذا المجتمع ذي المستوى العالي نسبياً تعرض لهزة ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و آله ففشل كثيرون منهم في الثبات على خط الرسول صلى الله عليه و آله

ص: 42

وبقي القليلون الذين استطاعوا بصمودهم وثباتهم على المبدأ إعادة غيرهم شيئاً فشيئاً الى خط الخلافة الشرعي والاعتراف بخطأهم وتقصيرهم العظيمين ولو بعد ربع قرن ونفس التباين هذا كان يحدث في معارك الرسول صلى الله عليه و آله فقد كانت تنهزم أكثر الخطوط (20) ويثبت مع النبي صلى الله عليه و آله من امتحن الله قلبه للإيمان.

* الثانية: تبليغ اكبر قدر ممكن من الاحكام اذ مع التباين الهائل بين قابليات ومؤهلات الناس لا يتمكن الرسول صلى الله عليه و آله من تبليغ كل الاحكام اذ لا يستطيع جلهم التحمل وقد يكفر بها هؤلاء فبمراعاة هذا الاختلاف يبلغ النبي صلى الله عليه و آله شيئاً لعامة الناس في المسجد ثم يتحف الخاصة منهم بأشياء اخرى ويضيف للخواص من هؤلاء الخاصة اشياء جديدة مع توصية بان لا ينقل اعضاء طبقة الى اعضاء الطبقة الاخرى الا ما يمكنهم تحمله ومن هنا ورد ما مضمونه - وربما استبدلت الاسماء سهواً - إن علم سلمان لو عرض على ابي ذر لقتله (21)، وإن علم ابي ذر لو عرض على المقداد لقتله، ولو عرض علم المقداد على عمار لقتله، هذا وهم من خواص اصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله ومن اركان الاسلام، اذن كيف ستكون الحالة لو نقلنا المقارنة الى

ص: 43

بقية الناس ولعل هذا وجهٌ محتملٌ لتفسير قول الامام الجواد عليه السلام للسيد عبد العظيم الحسني: لو تكاشفتم لما تدافنتم (22) لأنه سيكفر بعضكم بعضاً.

ومن هنا نستطيع فهم حرص النبي صلى الله عليه و آله على تربية واعداد من يواصل الرسالة بعده ليطمئن على صيانتها وديمومتها حتى جعل الله تعالى تنصيب الحامل الثاني للرسالة اكمالاً للدين واتماماً للنعمة وجعله نقطة النهاية واليأس لمحاولات الكافرين للوقوف في وجه الرسالة او التفكير في القضاء عليها، حيث انتقلت المهمة من الحامل الشخصي الى الحامل النوعي ولم يعد بقاء الرسالة منوطاً ببقاء صاحبها والقيم عليها.

كما مكنت هذه الخطوة النبي صلى الله عليه و آله من تبليغ بقية الرسالة مما لم يستطع تبليغه لاسباب او لأخرى وهكذا نفهم معنى وجود حواريين للنبي صلى الله عليه و آله والامام علي عليه السلام يدلون اليهم بعلوم المنايا والبلايا.

ويمكن استيعاب ترتب الناس حسب حصصهم من فهم هذا الدين ودرجات التزامهم به بتشكيل هرمي يبدأ بالرسول صلى الله عليه و آله في القمة ثم يتسع تدريجياً كلما نزل واي مقطع في الهرم يعطي صورة عن عمق إيمان اصحابه ونسبة عددهم والتناسب عكسي.

ثالثاً: في وسيلة نشر الرسالة فابتدأ النبي صلى الله عليه و آله بالجدال بالتي هي احسن ودرء السيئة (23) بالحسنة ودعوة الناس بالحكمة

ص: 44

والموعظة الحسنة، والمرحلة الثانية: في تكوين مجتمع مسلم مستقل ومقاطعة الكافرين وعدم التعاون معهم والركون اليهم والامتناع عن موالاتهم وهاتان المرحلتان لا تخصان النبي صلى الله عليه و آله بل هو سلوك مطرد لجميع الانبياء (24) عليهم السلام فبدون استقلال الجماعة المؤمنة لا ينزل النصر والفتح، وقصص الانبياء والمرسلين عليهم السلام كنوح وشعيب هود ولوط وغيرهم شواهد على ذلك، والمرحلة الثالثة: الجهاد والقتال فلابد للدين من دولة تحميه وتصون اهله وتسعى لنشره ولتحطيم العقبات التي تقف في طريقه وتمنع من إيصال ندائه ولرد العدوان وانقاذ المظلومين ورفع الفتنة سواء كانت بتعريض الافراد للقتل والتنكيل والتعذيب او بإقامة أوضاع فاسدة تفتن اهله او بإيجاد تيارات هدامة ونحو ذلك (قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ) وهذه المراحل الثلاثة متعاقبة فاولاً الاولى وثانياً الثانية ثم الثالثة.

والان وبعد ان استعرضنا مراحل واتجاهات التدريج في الرسالة الاسلامية التي تؤخذ بنظر الاعتبار عند تقنين المشروع وبعد ذلك تبقى مسؤولية التدريج في تطبيقه وإيصاله الى الناس (ولكل حادث حديث) رائدنا في ذلك التوجيهات العملية التي ذكرتموها وما تمليه الظروف المحيطة ومنها:

1 - معرفة المربي لمستويات من يربيه والاستفادة من تجاربه الخاصة.

ص: 45

2 - شعور الفرد بالشيء او الاشياء التي تنقصه وسعيه المخلص لتلافيه.

3 - معرفة الحاجة العامة للفرد والمجتمع وما يلائم سدّها دون مضاعفات أخرى.

4 - معرفة الوسيلة التربوية المناسبة ونحو ذلك.

التفسير التفصيلي للقرآن الكريم:

في الواقع ان فكرة وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم جديدة العهد وأول من دعا اليها السيد(1) قدس سره بيد انه لم يزد عليها شيئاً في حدود ما سمعت والله العالم ولم يبين الخطوط العريضة (25) للمشروع واتجاهات البحث فيه وحبذا لو تفضلتم على تلميذكم المتواضع فتشرفوه بذلك ولكني سمعت له بعدئذ محاضرات في احد ابواب هذا التفسير الذي اقترحه وكانت بعنوان (السنن التأريخية في القرآن الكريم) وظلت الفكرة تراودني واحلم بتحقيقها ومتابعتها شأني في جميع آثار السيد قدس سره ولا فخر، والان وقد ألجأنا البحث الى اقتراح نفس المشروع نشير هنا الى بعض الخطوط الرئيسية التي وضعناها اصلاً استجابة لدعوة السيد قدس سره اما البقية فستتضح لمن ينفذ المشروع - بتوفيق اللهل.

ص: 46


1- أي السيد الشهيد الصدر الأول.

وعونه وتسديده - عندما يقوم باستعراض الآيات الكريمة وعزل مجاميعها.

1) المدخل الى تفسير القرآن:

وفيه خلاصة علوم القرآن (لوجود عدد من الايات بشأنه فيكون من صلب البحث)، علم التفسير: تأريخه وأساليبه وأصوله، شرح الطريقة الجديدة المتبعة في هذا التفسير.

2) التفسير الوجيز للقرآن (26):

وفيه شرح مجمل لمفردات القرآن لأن المعنى الاجمالي لا غنى للقارىء عنه ولو تركنا تفسير كل آية الى محلها من التفصيل لأُصبنا - قبل القارىء - بالتخبط والتشويش، وبهذه المحاولة يستطيع القارىء الرجوع الى محل الاية في هذا التفسير ليفهم المعنى الاجمالي للآية ويترك تفصيلها الى المحل المناسب.

3) (أ) القرآن وظهور الرسالة الاسلامية:

يتناول فيه اتجاهات التدريج السابقة مع شرح لها ويحال القارىء كلما احتاج الأمر الى التوسع الى الاقسام الخاصة بها كقسم العقائد والشريعة ونحوها.

(ب) قسم العقائد وسيأتي توضيحه إنشاء الله: -

4) قسم الاخلاق وسيأتي توضيحه إنشاء الله.

5) قسم الشريعة وسيأتي توضيحه إنشاء الله.

6) ابواب متفرقة، مثلاً: -

ص: 47

أ - قصص الانبياء: تسبقها مقدمة في النبوة (عدا جانبها العقائدي) وتنزيه الانبياء ومناقشة الايات المتشابهة في ذلك، القصص في القرآن، القصص في الروايات...

ب - أحداث تأريخية.

ج - جوانب من حياة الرسول صلى الله عليه و آله.

د - السنن التأريخية (ويمكن تناولها في قسم العقائد).

ه -- فهرس او دليل (27) للآيات القرآنية لتسهيل الحصول عليها من قبل القارىء.

إن تناول الفقه الشامل بالطريقة اعلاه - اعني طريقه تفصيل القرآن - هو من قبيل (إياك اعني واسمعي يا جارة)، أي إننا نسميه تفصيل القرآن الكريم ولكن نقصد به وضع دليل سلوك المجتمع المسلم على اساس الفقه الشامل لتغطي كل حياته، فالذي يفهم - بتوفيق الهي - هذه الاشارة ويسعى لتطبيق الاسلام في كل شؤونه يجد في الكتاب بغيته دون ان نحمِّل جميع الناس جميع ما في الفقه الشامل حيث يظل احدهم على مراجعته لكتب الفتاوى، والذي يريد الله تعالى هدايته يطلب المزيد في كتاب تفصيل القرآن ليسلك نفس الطريق الذي سلكه الصحابة الكرام فاصبحوا خير جيل انجبته البشرية وسيساعدنا في ذلك ان كلاً من المشروعين - أي الرسائل الفقهية المطورة وتفصيل القرآن الكريم - يشير الى الاخر كلما دعت الحاجة وتوفرت المناسبة، وسيزداد

ص: 48

عدد الذين يفهمون هذه الحقيقة بالتدريج حتى تحين فرصة امكانية تطبيق الفقه الشامل وعرضه بشكل مباشر.

وهذه الطريقة اعني التكلم بشكل اجمالي يتيح لعدد من الناس فهم المراد دون تعنيف ولوم الاخرين ثم التبليغ بشكل اكثر تصريحاً فيزداد عدد الناس وهكذا الى أن يصرح الشارع المقدس بالحكم بوضوح وعندئذ تقام الحجة على الجميع، اقول وهذه الطريقة تحتمها الظروف وطبيعة الرسالة والناس وهي معروفة في القرآن ولها نماذج كأسلوب تحريم الخمر فقد تدرج في بيان الحرمة ولم يكن هذا التدرج بمعنى نقل الحكم من الاباحة الى الكراهة الى التحريم كيف والمشركون قبل المسلمين يعرفون عن هذا الدين انه يحرم الخمر كما يتضح من قصة مجيء اعشى قيس الى مكة لكي يؤمن بالاسلام وصد قريش له عن هدفه، وانما كانت طريقة الاسلام بعرض حكم التدريج بشكل اجمالي جداً يتوصل اليه مَن نوّر الله قلبه بالإيمان ثم تدرج في التصريح بالحكم حتى جهر بالتحريم بشكل واضح يفهمه الجميع.

فبهذه الطريقة (28) لعرض الفقه الشامل يستطيع المتعمق فهم المدلول العام للعبادة والفقه ويسعى لتحقيقه في حياته ويبقى العامي على التزامه الساذج وبينهما درجات، ويساعد ذو كل درجة غيره على الارتقاء (انزلنا من اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (29).

ص: 49

ومن حسنات هذه الفكرة عدم تعريض مثل هذا المشروع الضخم - مشروع تفصيل القرآن الكريم - للبوار وعدم تغيره بتغير الفقهاء والمجتهدين لأن احكامه الشرعية سوف لا تتدخل في الفروع التي هي مظان الخلاف وانما تتناول اصول الاحكام الشرعية المتفق عليها، وسيكون المشروع الاخر - الرسائل العملية بشكلها الجديد - مسرحاً لاجتهادات الفقهاء والعلماء خصوصاً في المنحى الجديد المقترح.

ويمكن ان نضع الهيكل العام لتفصيل القرآن الكريم بالشكل التالي: -

القسم الاول: قسم العقائد: وقد سار القرآن - خصوصاً المكي منه - بأربعة خطوط متداخلة وتسير معاً: -

1 - إقامة الحجج لاثبات العقائد الاسلامية الاساسية كالتوحيد والنبوة والمعاد ثم ما يتفرع عنها، ويراعى في نوعية الحجج والادلة مناسبتها للعصر (30) وابتعادها عن الترف الفكري الذي كان حصيلة الفراغ الذي عاشه المجتمع الاسلامي في عصر ما بعد صدر الإسلام، وخير الادلة تلك التي تثير كوامن فطرة الانسان وهي الطريقة التي سلكها القرآن والنبي صلى الله عليه و آله لذا سمي صلى الله عليه و آله معلماً ومذكراً، فهو معلم لأنه يعلم اشياءاً جديدة، وهو مذكر لأنه يبعث من زوايا النسيان والاهمال الفكري الامور التي اودعها الخالق عز وجل في

ص: 50

شريط فطرة مخلوقاته، وفي ادلة القرآن ما يكتفي به لأثبات ذلك، فلإثبات وجود الله تعالى هناك دليلاً ابداع الخلق وإتقان الصنع وحكمة الخالق وتعتبر هذه اشياءاً تعليمية اما التذكيرية فقد لفت الانتباه الى النعم الالهية وعدد قسماً منها، وهو بذلك يسلك طريقاً لكسب الناس الى الايمان بالله وذلك بالاعتماد على نقطة يتفق عليها الناس على اختلاف عقولهم وهي وجوب شكر المنعم ولما كان الله تعالى هو المنعم الحقيقي سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة إذن لابد من عبادته وحده.

كما بنى دعوته للإيمان بالله وتوحيده وتقديم العبادة له وحده على جملة امور اخرى يؤمن بها الناس حسب فطرتهم، منها إن الانسان بطبيعته يميل الى الالتجاء الى الكامل لأنه يشعر بالنقص ولما كان الله تعالى هو الكامل الحقيقي فلابد من عبادته ونبذ سواه ممن لا يمتلك هذه الصفة، وأثار صفات اخرى كالغنى المطلق والسببية الحقيقية للرزق والخلق وكل ما في الكون، وكذلك فمن طبائع الانسان دفع الضر عن نفسه، ولما كانت كل الالهة التي يعبدونها من دون الله تعالى لا تضر ولا تدفع ضراً إذن لابد من الالتجاء الى كاشف الضر الفعلي وهو الله تعالى بل هم يلتجأون اليه - وإن لم يؤمنوا به - عند تقطع الاسباب

ص: 51

كتعرضهم للخطر في البحر (فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ).

وهكذا في اثبات العقائد الاخرى كما استدل على ضرورة بعث الانبياء بالحاجة الى رفع الاختلاف بين الناس وقصور العقل البشري عن التصدي لذلك.

وتتدرج الادلة - في المشروع - حسب متانتها وبعد غورها، فأولاً الادلة الظاهرية الاعتيادية ثم الايات الافاقية والانفسية.

كما تختلف (31) الهداية الالهية باراءة هذه الايات والكشف عن اسرار ملكوت السماوات والارض تبعاً لدرجة القرب من الله تعالى والزلفى لديه حتى يصل الانسان الى درجة اليقين، قال تعالى: [وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ] .

2 - ابطال حجج وشبهات (32) المعارضين للعقائد اعلاه والمفكرين لها لتحصين المسلمين من الاغترار بأباطيلها ولتطمئن قلوبهم.

3 - توضيح المفهوم العام للمصطلحات الاساسية في الاسلام كالربوبية والعبودية والالوهية والوحدانية وانها شاملة لكل نواحي الحياة وشؤونها وانهم تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة على حد سواء ولا تقتصر على الطقوس العبادية التي هي شكل من اشكال العبادة فحسب ولهذا السبب عارضت

ص: 52

قريش الرسالة منذ البداية لانها فهمت من كلمة التوحيد انها اعطاء كل سلطة لله تعالى فهي اذن ثورة على نظم حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولو كان الاسلام مقتصراً على تقديم الطقوس العبادية لله وحده لما عارضت قريش الرسالة ولما نصبت العراقيل في طريقها فقد كان بين ظهرانيها موحدون احناف يقولون بالتوحيد ويؤدون مراسيم العبادة للإله الواحد ولم تنبس قريش ببنت شفة في معارضتهم لانهم لم يعطوا نظرية التوحيد حجمها الذي اعطاه إياها الاسلام.

4 - التركيز على آيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب من خلال مشاهد القيامة وما بعد الموت والاتعاظ بالامم السابقة والاعتبار بهم فتتربى بذلك ملكة التقوى والذوبان في الدين حتى يصبح المنظار الذي يبصر به الانسان كل ما حوله والمعيار الذي يعرف بواسطته قيمة الاشياء.

وقد ادى القرآن المكي هذه المهمات كلها حتى هيأ المسلمين (33) لما ينتظرهم من احكام وتكاليف ثقيلة فنجحت التربية الالهية هذه وخلقت جيلاً فريداً في التاريخ ذاب في الاسلام وحب الله تعالى حتى لم يعد يرى كيانه ذا بال قبالة طاعة مولاه واصبح يرى الله تعالى في كل شيء.

وبادامة التفكر في الامور السابقة (النقاط الاربعة اعلاه) وبالاستعانة بتطبيق القسمين التاليين (أي الاخلاق والشريعة)

ص: 53

- كل حسب درجته ومرحلته إذ ان هذه الاقسام الثلاثة متداخلة وتسير معاً - يصل الانسان الى قمة الحكمة النظرية (34) بانشراح القلب وبلوغ مرحلة اليقين او مقام التوحيد الخالص الذي اخبر تعالى عن ندرة من يصل اليه فقال (وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهذه القلة من المؤمنين غير خالصة الايمان الا القليل حيث قال تعالى: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) وممن وصل الى هذه الدرجة امير المؤمنين وسيد الموحدين الذي قال في وصف يقين اهلها

(لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا).

وهناك نقاط اخرى عالجها القرآن المكي قد تبدو العلاقة غير واضحة بين بعضها وبين قسم العقائد ولكن الذي يحدونا على وضعها فيه أمران:

1) معالجة القرآن المكي لها بنفس الوقت الذي قام فيه بعرض العقائد الاخرى وقد بنينا منهجنا على اساس الاستفادة من منهج القرآن لارجاع المسلمين الى احضان اسلامهم الأصيل.

2) كون اغلب الايات في هذه النقاط عبارة عن نظريات وقواعد يضيف الايمان بها والاعتقاد بمفاهيمها الاهداف التي جعلناها عناوين لها، فإذن هي لا تفقد خيط الاتصال بقسم العقائد، ومن هذه النقاط:

ص: 54

أ - تخفيف الاعباء النفسية على صاحب الرسالة بسبب ما يواجهه من مصاعب وتحديات اثناء تأدية واجبه وسكب الطمأنينة والسكينة على روحه والمؤمنين به فتكون الايات القرآنية بلسماً يشفي جروح وآلام هذا الطريق الشائك.

ب - مواجهة الشبهات والاستفسارات والأسئلة العامة التي تستجد خلال اداء الرسالة سواء بحسن نية او لإحراج صاحب الرسالة وكذا مقاومة المشاكل الفكرية التي يثيرها اعداء الرسالة لخلخلة إيمان المجتمع المسلم.

ج - السنن الالهية في الفرد والمجتمع (سنّة الاستدراج، الإملاء والإمهال، علاقة الرزق بالاستغفار، عذاب الاستئصال،...)

د - قواعد وكليات التصور الاسلامي وهي مجموعة النظريات والمفاهيم التي ينظر من خلالها الشخص المسلم الى الوجود والاحداث التي تكتنفه وكل ما حوله وهي تضم فيما تضم بعض نظريات التوحيد والعدل والسنن الالهية والتأريخية، ونظريات اخرى كالتسليم للقضاء الالهي (ومن امثلتها: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ ...، وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ (3(5) ..) وقد يمر جزء من هذه الايات ضمن الاقسام السابقة ولكن لا بأس

ص: 55

بادراجها هنا مرة اخرى لتكوِّن مجموعة واحدة ولتصبح بمجموعها منظاراً يرى به المسلم كل ما حوله.

ه -- عرض الامور الغيبية كالملائكة والعرش والكرسي ونحو ذلك.

القسم الثاني: قسم الأخلاق، ويشمل: -

1) علم الاخلاق المشتمل على التحليل النظري لعيوب النفس وملكاتها.

2) الجهد او الجهاد (36) العملي لتربية النفس وتكاملها في الطريق الحق وهو الجهاد الاكبر ويسمى طريق عرفان النفس ومسالك اكتساب الاخلاق.

3) المعارف العليا والكرامات التي يحصل عليها الاولياء والصالحون مما هو خفي عن غيرهم.

القسم الثالث: قسم الشريعة: ويكون على جانبين:

أ) الجانب التخصصي (37): وتتناول فيه الاحكام الشرعية من حيث الوجوب والحرمة والندب والكراهة والتخيير في العبادات، والصحة والفساد في المعاملات وهو ما يسمى (فقه القرآن) وذلك بالتعرض لأصول المسائل الشرعية مما هو متفق عليه بحيث يعد رأياً للإسلام والقرآن لا رأي المجتهد على ان تترك تفاصيل المسائل للرسائل العملية وكتب الفتاوى لأن لكل مجتهد رأيه

ص: 56

واستنباطه كما هو متداول الان بعد ادخال الاصلاحات المقترحة.

ب) الجانب المفهومي: حيث لا تتناول تعاليم الاسلام كأوامر ونواهي وانما تدرس من حيث اثرها في سلوك الفرد والمجتمع (38) ودورها في اسعاد البشرية والأخذ بيدها لانقاذها من مستنقع الجاهلية ورفعها الى مستوى خلافة الله تعالى في الارض، فإذن لا يوجد هنا عنوان عبادات ولا معاملات وانما ينتظم كل شيء حسب موضوعه ومفهومه الاجتماعي، فالخمس من الناحية التخصصية عبادة وهو من الناحية المفهومية في النظام الاقتصادي والزواج في المعاملات تخصصياً وفي النظام الاجتماعي مفهومياً وهكذا، وننبه هنا الى انه يمكن تجاوز البحث في الجانب المفهومي في مشروع تفصيل القرآن بناءاً على تناوله تفصيلاً في الرسائل العملية المتطورة، وعلى اية حال فإن هذا ونحوه يحدد محل تناوله وعدمه تفصيلاً واختصاراً بناءاً على العلاقة العامة بين المشروعين وهي ان ما يفصِّل هنا يختصر هناك وما يفصّل هناك يختصر هنا وهناك احكام تخص احد المنهجين دون الاخر الا بعلاقة بعيدة كالتسعير والتداول والتوزيع التي تخص النظم الاجتماعية فيؤخذ ذلك بنظر الاعتبار.

والخطوط العريضة للجانب المفهومي لتعاليم الاسلام والقرآن يمكن ان تكون كالاتي:

ص: 57

* اولاً: - التنظيم الداخلي للمجتمع المسلم:

1 - العلاقات الفردية بين الانسان وخالقه وسلوك الانسان (الطهارة، والصلاة، الصوم،...)

2 - النظام الاقتصادي (كالزكاة، الخمس، المكاسب،...).

3 - النظام الاجتماعي (الزواج والطلاق، الارث، تنظيم الأسرة،...)

4 - النظام السياسي (النظام الداخلي للحكومة وبضمنه الشؤون الادارية و العسكرية والصحية والعامة..)

ولا نغفل هنا الترابط بين تعاليم الاسلام وانظمته وهو احد معجزات الاسلام فالصلاة بين الفرد وخالقه لكن لها الاثر الكبير في النظام الاجتماعي وهكذا..

* ثانياً: التنظيم الخارجي للمجتمع المسلم: -

1 - علاقات المسلمين كفئة مع الفئات الاخرى كالمعاهدين والمتحالفين والمحاربين.

2 - العلاقات الدولية بين الدولة المسلمة والدول الاخرى.

* ثالثاً: التقويم والصيانة والضبط:

1 - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لضمان سلامة التنظيم الداخلي.

2 - الجهاد لتسيير النظام الخارجي.

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

ص: 58

اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 59

جواب الشهيد الصدر قدس سره

بسم الله الرحمن الرحيم

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ وصلى الله على عباده الذي اصطفى آلله خيرا ما يشركون، السلام عليكم وعلى جميع من تحبون ورحمة الله وبركاته.

(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أخي في الله سبحانه ووليي فيه عز وجل، ادام الله توفيقاته عليك كما تحب ويحب وجنبك سوء الفتن وشرور طوارق الليل والنهار واتم نورك وزادك بسطة في العلم وجدارة في العمل انه ولي كل توفيق.

مولاي: عندما انقطعت رسائلك بل بحوثك وافاداتك فكرت قليلاً ثم ارجعتها الى بدء العام الدراسي الذي يشغل ولا يمهل، وبخاصة بعد ان كان الهدف منه شرعياً يقصد به ما انت اعرف به من تقليل الظلم وبث العدل وقضاء حاجة المحتاجين والعطف على المنكوبين - اينما صار الفرد وحيث حصل -.

ولكن ورود افاداتك من جديد - وهي وفيرة كماً وكيفاً - دلني على ان الرجل الهادف يستحيل ان يتخلى عن هدفه او ينساه او يتغافل عنه حتى ولو في احلك ظلمات الدنيا ودهاليزها وبلاياها،

ص: 60

هذا ولكن - يا حبيبي - ينبغي ان تجعل للتقية في فكرك مجالاً فانها حصن المؤمن والجنة الواقية له من كل مكروه، فإن مثل هذه البحوث كانت متداولة في الستينات حين كان النسيم وافراً والحر متحملاً واما الان فنحن لعلنا اولى من الامام الحسن المجتبى عليه السلام بالتقية والهدنة وان لم نكن اولى فمثله، فاننا اضعف ناصراً واقل عدداً، وان كان في الحديث بما مضمونه: خف من لا يجد عليك ناصراً الا الله: الا ان الله بنفسه امر بالتقية على لسان اوليائه عليهم السلام.

ولعلي اكون في هذا كناقل التمر الى هجر، ولعل كل كلماتي في شقشقة من يدري؟!

مولاي: انا لا استحق كل هذا الثناء العطر الذي غمرتني به وشملتني له، وانما هي عين الرضا التي لا تبصر العيوب، يقول في الدعاء: ولو اطلعوا على ما اطلعت عليه - مني اذن لرفضوني وطردوني ولما انظروني - بالمضمون - وفي القرآن الكريم: ولو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً ولا يخفاكم ما في الحديث: إن الله لا ينظر الى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم، فالجسم والعلم والتفكير ونحوها كلها صورة، وانما المهم هو القلب السليم الخالي من الدرن الذي يستحق ما عند الله سبحانه ويكون مؤهلاً لرحمته، وهو وحده العليم بما في هذا القلب من ادران واخلاط.

ص: 61

وهذا الذي اعربت عنه متفضلاً إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اخلاصك وحرصك على الايمان والمؤمنين، ولكن تبدو لي هنا شقشقة اخرى وحاصلها: انني - مهما اكن في ذاتي - لا ينبغي ان تنظر الي من الزاوية الايمانية المحضة أي - اذا كنت اهلاً لذلك - ان اكون طريقاً الى العلم ومن ثم الى الله سبحانه فقط، ولست انا هدفاً بأي شكل من الاشكال، والا فسأصبح صنماً يدعي الناس انني اقربهم الى الله زلفى، ليس هذا هو روح الايمان، ونحن لا نطوف حول الكعبة لانها كعبة، ولا ينبغي ان نزاحم العلماء بركبنا لانهم علماء، بل كل ذلك لاجل الواحد الأحد الفرد الصمد غاية القاصدين وأمل الاملين، وهذا ليس كلاماً معك فقط بل هو كلام لي حتى انظرك انت بنفس المنظار، بل ان انظر نفسي بالمنظار ذاته ايضاً - على اختلاف في الفهم والمحتوى طبعاً -.

واما الفجر الذي تشير اليه في رسالتك، والذي اود ان افهم منه المعنى المعنوي فهو الفجر الذي يشرق في النفس والضمير قبل ان يشرق على المجتمع، والله سبحانه اخبر بعباده.. ومن المؤكد ان التربية الايمانية في ظلمات الدنيا وصعوباتها اقوى وأؤكد وارسخ من التربية مع الدلال والترفيه، فينبغي ان نكون كما قال في الدعاء: اللهم اعطني من الرضا بقضائك والتسليم بقدرك بحيث لا احب تقديم ما اخرت ولا تأخير ما قدمت.. كيف ونحن فهمنا

ص: 62

بعض وجوه الحكمة في ذلك، فلماذا الضيق، وهل تطبيق الاحكام الاجتماعية العامة بين الناس الا لطاعة الله، فاذا توفرت طاعته تحت ظروف الظلمات، بل بشكل الطف وأوكد.. فذلك هو المطلوب.

واما ما اشرت اليه في الرسالة من الرجوع الى الاخرين، ففي حدود ما يمكن بيانه: ان فيه فائدة وفيه ضرر علي وعليك، اما ضرري: فهو فقدان الطافك وعواطفك وفوائدك والساعات التي اقضيها في الافكار اللطيفة والانظار المعمقة التي احبها واشتاقها، واما فائدتي، فهو تخفيف كاهلي من الحكم الشرعي الذي يجعله السؤال في وجوب الجواب، فإن صياغته بالشكل المناسب متعب امام الله سبحانه وما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد.

واما فائدتك انت فهو الاطلاع على وجهات نظر متعددة وافكار مختلفة تستطيع بعدها أن تأخذ الزبدة وترجع بالمخيض وتميز بشكل ادق اللب من القشور، بل تميز الى جنب ذلك مستويات الناس ومقدارهم واشكال افكارهم واجوبتهم.

واما الضرر المحتمل لك في ذلك، فهو ما تشير اليه انت ضمناً في الرسالة وهو انه لابد من السير على طريق معين وعدم الحياد عنه، ولا يوجد مع شديد الأسف ممن يشار اليه في هذا الطريق غير هذا العبد الحقير كاتب هذه الحروف، ولعل من مستأنف القول لك وامثالك انه لا يجب الاغترار بالمظاهر الحوزوية

ص: 63

كالهندام وجمال المنطق وعمق المجاملة، بل حتى الفضيلة بل والاجتهاد في ان نتوقع ان نجد لدى الفرد ما يفيد ويجدي بالمعنى الذي انت تتوقعه من الفائدة والجدوى ولو كان لديهم ما يفيد لأفادوا به انفسهم ولما اسفوا واسرفوا حتى جلبوا لنا انواع البلاء، ولكنك على أي حال اخبر بمن ترجع اليه، كائناً من كان، وانا في خدمتك، وليس الامل مفقوداً كما قالوا لك اذا أفاض الله علينا وعليكم حفظه ورحمته.

هذا واود ان اشير استطراداً الى بعض المصادر التي يمكن لك الرجوع اليها، منها التعليق الذي كتبه هذا الضعيف على الفتاوى الواضحة، وخاصة ما يرجع الى مقدمات الكتاب والبحث في آخره عن العبادات فان الاصل مع التعليق سيكون مفيداً لك جداً، ولا اعلم مقدار اطلاعك عليه.

ومن المصادر: مجلة (علوم) العراقية فان فيها جانبين لا غنى عنهما للمؤمن: احدهما: عرض القوانين والظواهر الدقيقة والمعمقة للكون المنظور: في السماء او في الارض بشكل تظهر فيه قدرة الخالق وحكمته وهي الايات الافاقية.

وثانيهما: ما تسميه المجلة بالباراسايكو لوجي، وهو الفعاليات التي قد تصدر من الافراد خارجاً عن القوانين الطبيعية المسطورة في كتب الفيزياء والكيمياء والفلك، والتي تعزى عندهم الى قوى كهرومغناطيسية يملكها الفرد، وتعزيء حقيقته الى القوى النفسية

ص: 64

والروحية واشكال التصرف الميتافيزيقي الموهوب له من قبل العليم القدير، ومثل هذه الامور ليس فقط تدل على وجوده تبارك وتعالى وتضرب المادية الاوربية على فمها، بل تدل على حكمته وعلمه ايضاً، وتدل ايضاً على رحمته وسعة عطائه إذ اعطى البشر عموماً قوى خارقة جبارة لا يعلمها الا هو ولا ينفتح باب التصرف من خلالها الا عندما يريد هو جل جلاله، فان كان الفرد مؤمناً كانت حجة له وإن كان كافراُ او فاسقاً كانت حجة عليه.

اقول: ولهذه المجلة في كل عدد بحثُ كاملُ عن هذا الموضوع ولها في عددها الأخير(1) (ملفاً) كاملاً عن ذلك يحتوي على عدد من البحوث.

هذا واود ان اشير الى انني التزمت الى الان ان ارجع اليك ما ترسله لي من الكتابات حتى الرسالة التي تخاطبني بها، بالرغم من ان اللياقة الادبية تقتضي الاحتفاظ بها، وذلك لهدفين، احدهما: التقية التي انت اعلم بها، وثانيها: ان يتيسر لك تطبيق رسالتي هذه ونحوها على رسالتك فيتضح ان هذا الكلام جواب لذلك الكلام وهكذا، وهذا مهم في نظري.6.

ص: 65


1- سنة 1986.

واود ان اشير بهذه المناسبة للفرق بين الخوف والتقية فانك الان ممن يتحمل هذا المعنى بفضل الله سبحانه، فان الخوف حالة نفسية والحالات النفسية (لا عقل لها)، بل ولا ايمان لها فهي موجودة عند طاعة الله سبحانه وعند عصيانه، واما التقية فهي تنفيذ حكم الله سبحانه سواء كانت هناك حالة خوف او لم تكن، ومما يدل - مفهومياً - على الفرق بينهما انه قد يرتفع حكم التقية فيكون الخوف غير جائز بل غير موجود في نفس المؤمن، وتحدث هناك (آيات) الشجاعة مثل كلمة الحق عند سلطان جائر وكموقف سعيد بن جبير امام الحجاج وثورة الحسين السبط سلام الله عليه، كما يدل عليه مفهومياً غيبة الامام المنتظر عليه السلام اذ لا يحتمل في حقه (الخوف) على النفس من الظالمين مع انه يقول بالمضمون: وأمرني ابي ابو محمد بالتقية فانا في التقية الى ان يأذن الله بالفرج، وهي مروية في تأريخ الغيبة الصغرى، ولتفصيل الكلام عن ذلك مجال آخر.

هذا وقد ورد في نهاية الرسالة التماس الدعاء واود ان اعلق عليه بأمرين: احدهما: ان الفم الذي تفتح له ابواب السماء ليس هو فم كفمي ولا لهجة كلهجتي ولا قلب كقلبي، بل يحتاج توجه واخلاص وسلامة اكبر مما ههنا، والله اعلم بما يهب ويمنع،

ص: 66

وثانيهما: ما اشار اليه بعضهم(1) في احدى خطبه (هناك) بما مضمونه من ان العبد لا ينبغي ان يقترح شيئاً على الخالق سبحانه كأن يقول: هذا اريده لانه من مصلحتي بل يقول له: انت اعلم بمصلحتي فاعطني ما انت اعلم به مني، وهذا - بحسب فهمي - يشمل الامور الدنيوية والمعنوية معاً، اما الامور الدنيوية فلأن توفرها قد يوجب البعد عن الله سبحانه.

واما الامور المعنوية فلأن توفرها قد يوجب صعوبة التحمل مما يوقع الانسان في صعوبة معنوية في كلا الحالين.

هذا ولا ينبغي ان اوصيك مجدداً الى ان هذه المعاني وغيرها يجب ان تصان عن غير اهلها والا يكون كلُ من المتكلم والسامع متورطاً امام الله سبحانه كما اشرنا في كلمات سابقة.

هذا وارجو من الله سبحانه ان يصونك بحفظه ورعايته من جميع الجهات ومن جميع الافات وفي جميع الاوقات انه ولي كل حسنة وكل توفيق وهو على كل شيء قدير.

فهذه جواب الرسالة وستأتيك بحوثك بعد ذلك ان كتب الله لي العمر والتوفيق.

و اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.ا.

ص: 67


1- هذا المصطلح نستعمله للإشارة الى قادة الجمهورية الاسلامية في ايران وعلى رأسهم السيد الخميني (قده) وهو المقصود هنا.

تعليقة الشهيد الصدر قدس سره على بحث الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها

بسم الله توكلت على الله... ولا حول وقوة الا بالله...

1 - قول سماحة الشيخ اليعقوبي (التباين الهائل في مستويات الناس وقابلياتهم...).

وقع في يدي في يوم من الايام كتاب فيه قصص جنسية يقول مؤلفه في المقدمة: أن على الاحداث والمراهقين ان لا يقرأوها؟! ولإن استطاع هذا المؤلف ان يوصي بهذه الوصية فنحن - لا انت ولا انا - نستطيع ان نوصي بها لانه

(لا امر لمن لا يطاع) بان نقول مثلاً:

إن (كذا) من الناس يجب ان يمتنعوا عن قرائته، بل سيكون ذلك - لو امكن - اغراء اكثر بالاطلاع.

والمجتمع العالمي اليوم - كواقع لا محيص عنه - يحتوي على مختلف المستويات، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ومن اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، ويجب علينا - على كل تقدير - ان تأخذ هذا التباين بنظر الاعتبار.

إن القرآن الكريم ومدرسته المعصومة هي التي استطاعت ان تجمع بين الأمرين فتعطي للعامة ما ينفعهم وللخاصة ما يكملهم من دون إيجاد (مضاعفات) على أي منهم بلطف الله وحسن

ص: 68

توفيقه، ومع ذلك لم يخل هذا الاتجاه من طاعنين ومغرضين ومعاندين، فكيف بنا نحن الضعفاء العزل.

ان ما يكون في مصلحة ذلك كنقطة قوة عدة أمور منها:

ان كل فرد - قارىء - انما يفهم كلامنا بمقدار مستواه.

ومنها: انه ليس كل فرد يرغب بالحصول على هذه الافكار.

ومنها: انه ليس كل فرد يرى نفسه محتاجاً الى هذه الافكار او يرى نفسه مصداقاً لها، ونحو ذلك، وهذا وان كان تحديداً للقارىء الا ان فيه نقاط ضعف كما تعلمون فإن من لا يرغب بالكتاب قد يكون ممن يكره شيئاً وهو خير له، كما ان العكس صحيح.

الا انه مع ذلك لا ينبغي ان يعيق ذلك عن هذه المشاريع اذا تحددت بالحدود المعقولة وكتبت بحكمة وتروي وتجنبت المضاعفات مهما امكن.

2 - قول سماحة الشيخ: (ان الاحكام الشرعية هي مدار الحاجة والقاسم المشترك للناس على اختلاف مستوياتهم كما انها تتغير من مجتهد لآخر فيجب مراعاة ذلك لئلا ينعكس اثرها على المشروع ككل...)

انعكاس اثرها على المشروع، له مستويان نظري وعملي.

ص: 69

اما على المستوى النظري فالاختلافات قليلة التأثير حيث يمكن كتابة الفقه الكامل على فتوى أي مجتهد تقريباً او - بتعبير آخر - على فتوى كل (اعلم).

واما على المستوى العملي فهي عميقة التأثير وحسبنا ان نرى ان مسألة واحدة في الفقه قد تغير حياة الفرد بل حياة المجتمع كقولهم: لا يجوز تقليد الميت ابتداءاً، او ان المتنجس الثاني لا ينجس.

او لا تجوز الحيازة للغير (بدون إذنه ونحو ذلك، فكيف بالفقه الشامل الذي يحتوي على عشرات المسائل من هذا القبيل، وللتفلسف في ذلك مجال واسع.

3 - قول سماحة الشيخ: (فالحل المقترح هنا هو التفكير في مشروعين يكمل أحدهما الاخر: اول: تطوير الرسالة العملية...)

يمكن الاستفادة في هذا الصدد من مقدمة الفتاوى الواضحة، فانها اعطت منهجاً جديداً لكل الفقه الذي كان المؤلف عازماً على تطبيقه في رسالته العملية تلك، الا ان للتغيير والتفلسف فيها مجالاً طبعاً.

ص: 70

4 - قول سماحة الشيخ: (... والاصلاحات هي: 1 - عرض اصول العقيدة وادلة مناسبة لها...).

لا اعلم مقدار اطلاعكم على ان بعض علمائنا الاقدمين قد فعل شيئاً من ذلك كصاحب المعالم وغيره حيث يبدأ بالعقائد ثم باصول الفقه - حسب ما كان في ذلك الحين - ثم يدخل في الفقه ثم ينتهي - احياناً - باجازات الروايات وتفصيل المشايخ الذين اجازوه.

والمهم الان ان هذا طبعاً يكون على شكل سلسلة كتب او اجزاء وليس كتاباً واحداً بطبيعة الحال.

5 - قول سماحة الشيخ: (2 - شرح المفهوم العام للعبادة والمصطلحات الاساسية الاخرى كالتوحيد...).

يعني شرح ذلك في حدود الممكن بعد ان اشرنا الى انه لا يمكن لنا تحديد القارىء، وكذلك في الفقرتين الثالثة والرابعة.

6 - قول سماحته: (5 - اضافة مقدمة مختصرة قبل كل كتاب من كتب الفقه ككتاب: الصلاة مثلاً يتناول فيها اهمية تلك العبادة واثرها في حياة الفرد...)

هذا الامر له احدى فائدتين: الاولى: مجرد الاطلاع من باب ان العالم بالشيء خير من الجهل به، ثانيها: الترغيب بالعبادة لمن لم يكن راغباً.

ص: 71

اقول: انه - في حدود فهمي - فان الله تبارك وتعالى وهو الحكيم العليم يرى ان بعض مستويات التربية والتكامل يكون منوطاً بالامتثال الغيبي الخالي من الاطلاع على المصالح والمفاسد بل لمجرد الرضا والتسليم، كأعداد ركعات الصلاة ونحوها، ولعل مجرد التسليم في القلب خير من عامة الصلاة، إذن، فلعلنا نكون في غنى عن هذا البحث او يمكن اختصاره الى حد معقول، وخاصة وان المراتب العليا من غير معلومة وغير محمولة.

7 - قول سماحته: اضافة كلمة (فقه) الى العبادات والمعاملات فتصبح (فقه العبادات)

هذه مسألة شكلية على أي حال، ولكنها لا تخلو من فائدة في عالمنا الذي تسوده الشكليات ولكنها لاربط لها في حدود فهمي بتفهيم الفرد بأن في المعاملة عبادات ايضاً، فان هذا يحتاج الى (بحث) خاص وليس يكفله اضافة كلمة (الفقه) كما هو واضح.

8 - قول سماحته: (ولكن اذا فهمناها في ضوء النظام الاجتماعي للإسلام... علمنا ان الهدف من الحكم هو قطع الحجة...)

هذه احدى الحِكَم المتوخاة في هذا الحُكُم، وهناك حكم اخرى يمكن عرضها في حينه.

ص: 72

9 - قول سماحته (بالنسبة للبنوك الربوية كان من الممكن التفكير بتأسيس بنك اسلامي تتبناه المرجعية...)

بالنسبة الى البنك الاسلامي فيه عدة نقاط: -

النقطة الاولى: ان ما تشير اليه في مقالك بنك مستقل له طرقه الخاصة وليس كالبنوك الاعتيادية، على حين ان (البنك اللاربوي) كما هو منصوص في مقدمته انما هو محاولة لتمرير المعاملات الاعتيادية في البنوك بشكل شرعي، اقول: ينتج من ذلك ان هذا البنك المقترح اكثر جوازاً واوضح من البنك اللا ربوي المشار اليه.

النقطة الثانية: ان هذا البنك بعد الغاء الربا كيف سيكون استرباحه ومن أي شيء موارده، ان هذه اكبر نقطة ينبغي ان تلحظ في نظامه، وفي حدود فهمي انه يجب عليه ان يعمل كتاجر اعتيادي في الاموال المشتركة التي عنده مضافاً الى عمله في التسليف والاقتراض والا بقي رأس ماله من دون زيادة بل مهدداً بالنقصان المستمر وهذا مما لا معنى له.

وهذه التجارة هي التي يمكن بها تمرير اعمال (المضاربة) التي يطرق سمعك من انها البديل الشرعي للبنوك، وليست المضاربة بأخذ الاجور على مساعدة الناس او ضم علبة كبريت الى آلاف الدنانير مما هو اقرب الى الربا أي شيء آخر، والقول بجوازه يحتاج الى جرأة على الله سبحانه.

ص: 73

النقطة الثالثة: إن القائم به - في المجتمع الذي يمكن فيه ذلك - لا ينبغي تعيينه، فقد يكون فرد او قد يكون جماعة وقد يكون مرجعية وقد تكون جهة اخرى اعلى منها لا تخفى عليك.

كأن يكون البنك واحداً او متعدداً.

10 - قول سماحته: (لأن فصل المنهجين (المنهج الفردي والاجتماعي) ثبت عجزه عن تطبيق نظرية الاسلام...)

كان الافضل - كما هو واضح - التعبير: بان الاقتصار على المنهج الفردي وترك المنهج الاجتماعي قد ثبت عجزه وضرره.

هذا وينبغي ان نفهم من المنهج الاجتماعي مفهوماً خاصاً، والا فمن الواضح ان الرسائل العملية كلها - تقريباً او تحقيقاً - تحتوي على احكام اجتماعية ومعاملية كثيرة بل ان بعضها القليل فيه (الحدود والتعزيزات) وان كتاب (مباني تكملة المنهاج) للسيد الخوئي من ادلة ذلك.

11 - قول سماحته: (تجاوز الحيل الشرعية خصوصاً بما يمس النظم الاجتماعية لانها احدى نتائج تضييق نظرة الفقيه... ولان فيها قبولاً ضمنياً بالنظم غير الاسلامية).

جيد جداً أشكرك.

ص: 74

12 - قول سماحته: (وفي الحقيقة فان هذا المنحى في البحث الفقهي (المنحى الاجتماعي) جدير بان يعمل العلماء فيه اجتهادهم...).

هناك فكرة ينبغي ملاحظتها على أي حال كما لاحظها علماؤنا وحاصلها: ان معنى الرسالة العملية هي مجموعة الاحكام التي تفيد الانسان في حياته العملية واما ما ليس بعملي من الاحكام في حدود حاجات المجتمع الذي نعيشه فلا ينبغي للمجتهد ان يوجع رأسه ويقتل فيها وقته اذ يكون فيها ضرر الدنيا والاخرة، اما ضرر الدنيا فالعبث الذي لا طائل تحته واما ضرر الاخرة فلأنه قضى وقته فيما هو خلاف الاولى والاهم، اذن ينبغي اعطاء صيغة محددة مفهوماً للنتائج الصحيحة الدنيوية والاخروية للفقه المقترح، واهمها بحسب فهمي امران:

الامر الاول: في المجتمع الذي يحتاج الى ذلك، وهو المجتمع المسلم (بجميع) جهاته، فيجب على المجتهدين ابراز هذه الفتاوى وجوباً حقيقياً لامراء فيه، لانه بدون ذلك ستتعطل حدود الله سبحانه وتعالى.

الامر الثاني: اعطاء الاسلام كاطروحة متكاملة بازاء الاطروحات الاخرى الشرقية والغربية من قوانين ومفاهيم ضالة مضلة، وان كنت شخصياً لا استطيب استعمال مفهوم الاطروحة على الاسلام، لانها تحتوي على معنى التجربة بان هذا النظام

ص: 75

عادل او لا، وهذا الاستفهام غير وارد على الدين الحنيف وان كان هو اكثر من وارد على القوانين الوضعية.

13 - قول سماحته: (ان المشروع الأول لا يتناول تفصيل أي شيء عدا الاحكام الشرعية، اما الثاني فيتناول تفصيل كل شيء عدا الاحكام الشرعية).

يعني غير ما هو موجود في آيات الأحكام، واما هذا الحقل من التفسير فلابد منه كما هو واضح، واظن انه مذكور في آخر بحثكم.

14 - قول سماحته: (وفصل المنهجين بالشكل المقترح انما هو كمحاولة لعرض الاسلام الحقيقي ولكن بالتدريج...)

هذا التدريج غير مفهوم بدوياً، لأنه يبدو من سياق الكلام إننا ينبغي ان نقدم الفقه ثم التفسير او بالعكس، وهذا غير واضح بأيهما نبدأ - اولاً - ولا مبرر له - ثانياً - اذ ان المجتمع يحتاج اليهما على حد سواء، وانما التدرج انما يكون بالتربية لا بتأليف الكتب فان الكتاب عند تأليفه - أياً كان موضوعه - يكون ناجزاً ولا معنى لكونه تدريجي، فالرجاء ايضاح ذلك.

15 - قول سماحته: (فاذن كان هناك ناس ملتزمون بالطقوس العبادية الظاهرية الى هذا الحد ومع ذلك ارتكبوا مثل هذا الذنب العظيم...)

لا يخفى ان كلام عبد الله بن عمر لا يخلو من مطاطية وتعميم، فان اهل العراق يختلفون في النفسية والعقلية، وهذا الذي يسأل

ص: 76

عن جواز قتل النملة ليس هو المشارك في جيش الضلال، كما ان احداً من اولئك لم يسأل مثل هذا السؤال، نعم هذا الوصف منطبق الى حد كبير على الخوارج (ذوي الجباه السود) أي من العبادة وهم (الشراة) أي يشرون الدنيا بالاخرة، ومع ذلك فهم حاربوا سيد الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، ولا زالت اجيالهم الى الان مقيمة على بغضه مع ان ولايته هي باب الخيرات ومفتاح المبرات.

16 - قول سماحته: (ان هناك جاهلية ثانية ستعيشها الأمة وعندئذ يأتي دور الاسلام لينقذها من جديد...)

هذا موجود في بعض الروايات فعلاً، اقول: كنت تتكلم وتستشهد على التدريجية التي سار عليها الرسول صلى الله عليه و آله مع ان الكلام ابتعد عن ذلك كثيراً، فالرجاء التركيز في الكلام وتحديده جهد الامكان.

17 - قول سماحته: (.. لذا قد يخرج التفسير عن حدود منهج تفصيل القرآن الكريم وعزل الايات فحسب...).

هذا الخروج المشار اليه ملازم - عادة لا دائماً - للضحالة وعدم التركيز مع العلم ان البحث الذي يكون مؤهلاً لأن يأخذ موقعه من الافكار العالمية هو المركز والمرتب بطبيعة الحال.

والذي اجده - باحساس ما قبل الدخول في تلك التفاصيل - ان نفس وجود هذا التفصيل المعمق للقرآن الكريم يكفي لاشباع

ص: 77

الحاجات المشار اليها في البحث ولاعلاء كلمة الحق والهدى بين الناس، ومعه لا حاجة الى مثل هذه الاستطرادات المشار اليها في البحث.

وكذلك بالاولى القول (ليس من الضروري سلوك طريقة القرآن الاصلاحية)... الخ بل من الضروري سلوكها وهل لنا غيرها بالحق والعدل، كل ما في الامر ان القرآن الكريم قد تكفل لكل قوم تربيتهم، فاذا كنا (نتعامل مع ناس مسلمين لا مشركين) فإننا نربيهم تربية القرآن للمسلمين لا للمشركين، وهذا اخذ بالتربية القرآنية وليس اعراضاً عنها هذا، ولكننا في الواقع امام مشركين تماماً من عدة جهات اهمها:

اولاً: الاشراك بالشرك الخفي (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ).

ثانياً: عبادة الطاغوت يعني اطاعة الحاكم الظالم والتعويض به عن طاعة الله سبحانه.

ثالثاً: الكفار بمختلف وجهاتهم، من حيث اننا لا نستطيع ان نحدد القارىء بطبيعة الحال كما قلنا فلربما قرأه الكفار كما قرأه المسلمون.

ص: 78

18 - قول سماحته: (لم يأت الاسلام بالاحكام جملة وانما تدرج فبلغ العقائد اولاً وربى ملكة التقوى).

اعتقد ان في استعمال ملكة التقوى هنا تسامحاً، فانها لا تمثل الا درجة عالية من الايمان والورع والصلاح، الامر الذي كان مفقوداً عند الكثيرين من الصحابة، وخير دليل على ذلك انقلابهم على اعقابهم بعد عدة سنوات قلائل ومن الصعب جداً ان نتصور ان شخصاً وصل الى درجات التقوى سيتورط مثل هذه الورطات، وهذا الانقلاب لو كان قليلاً وشخصياً لهان الامر ولكنه كاد ان يستوعب المجتمع كما تعلمون.

فالذي اراه - عجالة - ان القرآن الكريم في مكة المكرمة حاول تربية الصحابة على امور:

منها: الاعتقاد بشخص النبي صلى الله عليه و آله لكي يستطيع ان يفتح بهم الافاق.

ومنها: الاعتقاد باليوم الاخر الامر الذي يهون معه بذل النفس بحيث يطأ بعرجته هذه الجنة.

ومنها: اذكاء الحماس العاطفي عندهم في هذا الاتجاه، ولعل من ادلته قصر الايات وقوة معطياتها وكثرة سجعها ونحو ذلك، وهذا كله شيء والتقوى شيء آخر.

هذا ولكن هذه المناقشة لا تنفي التدريجية التي اشرتم اليها.

ص: 79

19 - قول سماحته: (... وهذا التدرج يستفاد منه في ناحيتين: - الاولى: بناء واختيار اتباع من درجات او خطوط مختلفة ومتدرجة حسب قابلياتهم وتجاوبهم مع الرسالة الجديدة ومتطلباتها وبذلك يستطيع الرسول صلى الله عليه و آله الاستناد الى بعض الخطوط ذات المستويات العالية...).

هذا الامر لم استطع فهمه وهو غير واضح في العبارة، والرسول صلى الله عليه و آله قائد كامل من جميع الجهات يستطيع ان يعطي لكل واقعة ومشكلة حاجتها الكاملة، فان كان عندكم شيء اكثر تفصيلاً فانه يحتاج الى إيضاح.

20 - قول سماحته: (ونفس التباين هذا كان يحدث في معارك الرسول صلى الله عليه و آله فقد كانت تنهزم اكثر الخطوط ويثبت مع النبي صلى الله عليه و آله من امتحن الله قلبه للإيمان...).

هذا فيه تعميم كبير، لم يحدث مثل ما حدث في غير واقعة (احد) الا نادراً وكانت القيادة النبوية والقرآنية مسيطرة تماماً على النفوس، وعلى أي حال فهذا مجرد مثال يمكن الاستغناء عنه.

21 - قول سماحته: (ومن هنا ورد ما مضمونه - وربما استبدلت الاسماء سهواً - إن علم سلمان لو عرض على ابي ذر لقتله...)

هذا الحديث نعم الشاهد على مستويات التحمل، غير اني اريد ان اشير الى بعض احتمالات تفسير هذا الخبر، فان الرئيسي منها امران:

ص: 80

الاول: ان المقتول هو ابو ذر نفسه، يعني: لقتله العلم.

الثاني: ان المقتول سلمان لا ابو ذر، يعني ان اباذر سيقتل سلمان نفسه لو اطلع على معارفه وعلومه، وهذا ما تؤكده بعض الروايات فأبو ذر رضى الله عنه على ما هو عليه من العظمة سيتصرف تصرف العامة الجهال عند الاطلاع على المعارف الالهية العليا: يحسبها كفراً واشراكاً وهذا ادل دليل على وجوب (التقية) والكتمان من العامة والضعفاء.

وينسب الى الامام السجاد عليه السلام قوله:

يا رب جوهر علمٍ لو ابوح به *** لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون اقبح ما يأتونه حسنا

ولعل من امثلة ذلك قول الجاهل اللعين ابن ملجم لأمير المؤمنين عليه السلام عند ضربه بالسيف: الحكم لله لا لك يا علي، (كأن حكمه عليه السلام بعيد عن حكم الله سبحانه!).

22 - قول سماحته: (ولعل هذا وجهاً محتملاً لتفسير الامام الجواد عليه السلام للسيد عبد العظيم الحسني: لو تكاشفتم لما تدافنتم لانه سيكفر بعضكم بعضاً...).

هذا الحديث شاهد جيد على نفس الفكرة لان المستويات العالية تجد المستويات الدانية ضالة ومشركة، وكذلك العكس.

الا ان هذا المعنى (خاص) وينبغي تجنب ذكره للناس الا من عصم الله، وانما يفسر هذا الحديث:

ص: 81

ان ترك التدافن انما هو لأحد اسباب:

منها: الاطلاع على الذنوب الظاهرية (العملية) للفرد بحيث يبدو الفرد عاصياً بدرجة يستحق معها الاعراض التام.

ومنها: الاطلاع على الذنوب الباطنية (القلبية والنفسية) للفرد بحيث يكون كافراً او يشبه الكافر.

ومنها: الاطلاع على حقده على الناس، وبخاصة الاطلاع على حقده على (القاتل) نفسه، مثلاً لو اطلع زيد على فكرة عمرو عنه شخصياً لقتله او هجره وهكذا.

هذا، وفي حدود فهمي ان هذه الاخبار تشير الى مستوى معين من الجهل باسلوب التربية الحقيقية والا فالحق انه لا حاجة الى القتل على كل حال مادام الفرد في طريق التربية والهدى وغير متمرد على الله سبحانه.

هذا ولا ينبغي الاعراض عن التدريجية المشار اليها في البحث فانها تشمل عدة مستويات:

الاول: التدرج المكاني الذي اشير اليه في البحث من سيرة الرسول صلى الله عليه و آله.

الثاني: التدرج الافرادي من القليل الى الكثير كما عليه سيرته صلى الله عليه و آله ايضاً.

ص: 82

الثالث: التدرج الاجتماعي من حيث التدرج في تطبيق الاحكام والقوانين من الاخف الى الاصعب والاعقد، كما عليه سيرته صلى الله عليه و آله ايضاً.

الرابع: التدرج التربوي لكل فرد بعينه وعدم مجابهته بتربية ثقيلة غير محمولة بالنسبة له وكل هذه التدرجات مستفادة من سيرة النبي صلى الله عليه و آله وغيره من القادة سلام الله عليهم اجمعين ولا ينبغي الخلط بينهما فلكل منها اسبابها ونتائجها ومصالحها وان كانت قد تتداخل احياناً كما يبدو للمتأمل.

23 - قول سماحته: (... في وسيلة نشر الرسالة فابتدأ النبي بالجدال بالتي هي احسن ودرء السيئة بالحسنة ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة،...)

هذا احد التفسيرين للآية الكريمة، وهو ان يدرأ الفرد سيئة غيره، بحسنة نفسه، والتفسير الاخر، والاجدر حسب فهمي هو ان يدرأ الفرد سيئة نفسه بحسنة نفسه يعني يعمل من الحسنات ما يغفر معها السيئات (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).

ص: 83

24 - قول سماحته (... وهاتان المرحلتان لا تخصان النبي صلى الله عليه و آله وحده بل هو سلوك مطرد لجميع الانبياء...)

لجميع الانبياء يعني من الذين مارسوا الحكم في الجملة وبهذا يتضح استثناء اكثر الانبياء حتى مثل عيسى عليه السلام الذي لم يمارس الحكم اصلاً وعاش في (التقية) طيلة حياته.

اذن فينبغي اعطاء الكلام حقه من الصدق وعدم التعميم الزائد.

ولكن هذا لا يعني بطلان الفكرة المذكورة في البحث وهو (استقلال الجماعة المؤمنة) اقول: ولكن هذا الاستقلال قد يكون ظاهراً مع وجود القوة والشوكة لديهم، وقد يكون مقتصراً على القلب والنفس مع وجود التقية.

25 - قول سماحته: (ان فكرة وضع تفسير تفصيلي للقرآن الكريم جديدة العهد واول من دعا اليها السيد قدس سره بيد انه لم يزد عليها شيئاً في حدود ما سمعت والله العالم ولم يبين الخطوط العريضة للمشروع...).

عدم بيان الخطوط العريضة للتفسير صحيح فيما اعلم، لانه كان المفروض استمراره فيه حتى النهاية وعندئذ سيكون المقصود واضحاً، ولولا انه رضوان الله عليه قطع ذلك بعزمه على الشهادة، وقد القى تسع محاضرات في هذا التفسير كلها موجودة (هناك) وأظن ان عنوانها هو السنن التأريخية كما قلتم وان كنت الان بعيد العهد عن ذلك.

ص: 84

ان ما يمكن ان يكون بمثابة العناوين العامة لهذا التفسير بحسب فهم ذلك المؤلف العظيم هو ما يلي: السنن التأريخية، السنن الكونية، السنن التربوية، السنن الاجتماعية ونحو ذلك، ويندرج في كل عنوان مجموعة من العناوي الأصغر منها، ويندرج تحت كل عنوان من تلك مجموعة من المفاهيم، ويندرج في كل مفهوم مجموعة من الايات.

والمنهج بهذا الترتيب ونحوه صالح جداً للأستمرارية، ولكن يمكن اقتراح كثير من العناوين التفصيلية التي قد تخطر بالبال مما يمكن ان يندرج في تلك العناوين او يبحث كل منها على حدة: التوحيد، النبوة، اوصاف الجنة، اوصاف النار، اوصاف الملائكة، اوصاف الجن، اوصاف الشياطين، مقدار العلاقة بين هذه الفئات والبشر، الموت، الحشر، اوصاف فئات معينة (الفاسقون، الكفار، اصحاب الجنة، اصحاب النار، ذوي الالباب، المؤمنون، المتقون... الخ) علاقة الفرد بربه، علاقته بأوليائه، علاقته باصدقائه واخوانه، علاقته باعدائه، حال اهل الكتاب، قوانين الحرب، قوانين المعاملات، قوانين وآداب العائلة.. هذا مضافاً الى اخبار الماضيين والانبياء والسابقين.

مضافاً الى العلوم اللغوية والبلاغية، مضافاً الى العلوم الكونية وغيرها مما يتضح في وقته. هذا وإن اصدق وصف للقرآن الكريم هو ما ذكره سيد العارفين عليه السلام، في نهج البلاغة فراجع.

ص: 85

ولعل الفرد يحصل له منها اليأس من تفسير القرآن ويعترف بقصور قابلياته بل كل قابلية عن بلوغ حقيقة القرآن وسبر اغواره، الا من عصم الله سبحانه، الا ان هذا لا يعني امكان المحاولة على أي حال.

كما ليست الطريقة او الخطوات المذكورة من قبلكم بقاصرة، بل هي جيدة ويمكن اتباعها ايضاً، والافضل - على كل حال - إيكال الأمر الى المؤلف الذي يفضل ان يأخذ على عاتقه مثل هذا المشروع الكبير اياً كان شخصه.

26 - قول سماحته: (التفسير الوجيز للقرآن وفيه شرح مجمل لمفردات القرآن...)

هذه الخطوة ينبغي ان يراد بها ما يلي: اننا عند ابتداء أي موضوع ينبغي ان نعطي الفكرة العامة عنه ولا نبدأ بالتفاصيل رأساً، واما شرح المفردات فيكفي فيه ما يذكره المؤلف خلال التفاصيل، واما اذا اردنا من هذه الخطوة ايجاد مجمل عام لكل القرآن الكريم، فهو متعذر تماماً لعدة اسباب لا تخفى عليكم.

27 - قول سماحته: (فهرس او دليل للآيات القرآنية لتسهيل الحصول عليها من قبل القارىء).

هذا الموضوع موجود ومتداول ولا حاجة اليه مجدداً ولعل افضل الكتب في ذلك: المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم.

ص: 86

28 - قول سماحته: (فبهذه الطريقة لعرض الفقه الشامل يستطيع المتعمق فهم المدلول العام للعبادة والفقه ويسعى لتحقيقه في حياته...)

هذه الطريقة - التدرج - غير ممكنة في كتاب واحد - مهما كانت عدد اجزائه - ولم افهم لها وجهاً محدداً، نعم هي ممكنة بأحد امرين:

الاول: تأليف كتب متعددة بهذا الصدد بعضها مبسط وبعضها معمق لكي يستفيد كل واحد بالكتاب الذي يليق به.

الثاني: طبع مستلات وتوضيحات للكتاب الرئيسي بحيث يستفيد منها من هو دون هذه المنزلة. وكلا الامرين قد فعله السيد قدس سره فالأول فعله في سلسلته عن الاصول والثاني فعله في الكتب الصغيرة التي تكفلت ايضاح (اقتصادنا).

29 - قول سماحته (ويبقى العامي على التزامه الساذج وبينهما درجات ويساعد كل ذي درجة غيره على الارتقاء..).

جيد جداً أشكرك.

ص: 87

30 - قول سماحته: (سار القرآن خصوصاً المكي منه بأربعة خطوط متداخلة وتسير معاً: - 1 - أقامة الحجج لأثبات العقائد الاساسية... ويراعى في نوعية الحجج مناسبتها للعصر)

مناسبتها للعصر أي تيسيرها لفهم الجيل المعاصر مع توفر شرطين ضروريين: -

الاول: عدم التنازل عن شيء من حقائق الفكر القرآني لأجل ذلك.

الثاني: عدم التأثر بمعطيات العصر على اختلافها في مسخ الفكرة... وكلا هذين الشرطين قد ضاعا من مفكرينا الاسلاميين ضياعاً يكاد يكون تاماً، مع شديد الاسف كما لا يخفاكم.

31 - قول سماحته: (كما تختلف الهداية الالهية باراءة هذه الايات والكشف عن اسرار ملكون السماوات والارض تبعاً لدرجة القرب من الله تعالى والزلفى لديه...).

هذا الامر ونحوه ينبغي ان يشار اليه بغموض ولا حاجة الى تفصيله لأن الاعم الاغلب من النفوس قاصرة عن تحمله.

32 - قول سماحته: (ابطال حجج وشبهات المعارضين للعقائد...)

يعني في حدود المعطى القرآني بدون زيادات استطرادية.

ص: 88

33 - قول سماحته: (وقد ادى القرآن المكي هذه المهمات كلها حتى هيأ المسلمين لما ينتظرهم من احكام وتكاليف...).

سبق ان ناقشنا ذلك، والاوصاف المعطاة هنا في البحث ليست الا للألمعي من الصحابة.

34 - قول سماحته: (ان هذه الاقسام الثلاثة متداخلة وتسير معاً حتى يصل الانسان الى قمة الحكمة النظرية بانشراح القلب...)

هذه الامور خاصة وليست عامة وهي صحيحة.. الا ان اعلان تفاصيلها مما لا يمكن اصلاً فضلاً عن انه مرجوح بل محرم شرعاً، يكفي في ذلك ان اغلب الناس، اما انه لا يفهمها بالمرة اولا يستسيغها او لا يصدقها او لا يرغب بتطبيقها او لا يشعر بالحاجة اليها، ونحو ذلك وبذلك يبتعد كل العامة عنها و (لا يدخلها الا ذو حظ عظيم)، اقول: خذ ما أتاك الله وكن من الشاكرين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

35 - قول سماحته: (قواعد وكليات التصور الاسلامي... ومن امثلتها: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ...)

إنك تتكلم الان عن القرآن المكي، فالرجاء التأكد في هذه النقطة والنقطة السابقة عن كون المعاني المشار اليها موجودة فيه دون القرآن المدني، وعلى أي حال فالأمر موكول لحال التأليف.

ص: 89

36 - قول سماحته: (قسم الاخلاق ويشمل... الجهد او الجهاد العملي لتربية النفس وتكاملها...)

هذا وما بعده يذكر بشكل مقتضب لا حاجة الى تفصيله لانه مما لا يتحمله الناس كيف ونحن نريد تطبيق (الاسلام) في النفوس وهم لم يصلوا الى (الايمان) بعد، فكيف نكلفهم الجهاد الاكبر ونعرفهم بالمعارف العليا التي اعطاها الله سبحانه لأوليائه، تلك اذن درجة اليقين او اعلى درجاته.. والله تعالى اعلم حيث يجعل رسالته ولم يعط بيدنا شيئاً منه.

اقول: وانما ذكرت ذلك لك في بعض كتاباتي السابقة لتكون على اطلاع عن ذلك بصفتي مميزاً فيك حسن الاستعداد بفضل الله وكرمه، وهو غير موجود عند الآخرين، وهذا الاطلاع ينتج اموراً اهمها امران:

الاول: احترام هذه الزمرة العظيمة من الناس التي طالما احتقرها العامة وطعنوا بها واستبعدوا صدق اقوالها، (طبقاً للحديث السابق عن ابي ذر وسلمان) وهم ليسوا بالضرورة من الصوفية وان نبزهم الناس بذلك بل قد يكونون كذلك وقد لا يكونون ولعل اشهر اصحاب الكرامات من غير الصوفية السيد مهدي بحر العلوم والمحقق الاردبيلي وهناك كثيرون غيرهم.

ص: 90

الثاني: التفكير بالاتجاه العملي بالاتصاف بصفاتهم بعد ان يجد الفرد قابلياته لذلك، من دون ان يكلف نفسه ما لا تطيق.. وتحت اشراف تربوي دقيق بطبيعة الحال، وهذا راجع لكل فرد ووجدانه.

وقد كتبت في التعليقة على كتاب الاعتكاف من الفتاوى الواضحة شيئاً مربوطاً ببعض هذه الامور ان احببتم المراجعة.

37 - قول سماحته: (قسم الشريعة ويكون على جانبين:

أ - الجانب التخصصي وتتناول فيه الاحكام الشرعية...)

أو الجانب التشريعي، على ما أرى...

38 - قول سماحته (ب - الجانب المفهومي: حيث لا تتناول تعاليم الاسلام كأوامر ونواهي وانما تدرس من حيث اثرها في سلوك الفرد والمجتمع...)

اولاً: انظر ما قلناه في (التعليقة 6) فانها نافعة بهذا الصدد ايضاً.

ثانياً: انه يجب الحذر من هذا الاتجاه او في هذا الاتجاه تماماً الا في حدود ما نشير اليه، فإن فكرة التساؤل عن الحكمة في افعال الله سبحانه وتشريعاته فكرة ناشئة في حدود فهمي من الدس الاستعماري الاوربي الذي يحاول بكل وسيلة زحزحة الناس عن دينهم، وقد دخل المطلب الى اذهان الناس على أشكال مختلفة منها: ما كان وسيلة وذريعة لانكار الحكمة او استضعافها ومن ثم التذرع الى العصيان

ص: 91

واهمال الشريعة وهذا هو الاغلب وكان هو المطلوب الأساسي للاستعمار.

ومنها: ما كان لمجرد التفقه والمعرفة، وهذا ما اخذه المتدينون الا انهم - على أي حال - بعد ان يكونوا قد سلموا بالحكمة اجمالاً فقد كفوا عناء البحث عن تفاصيل هذه الحكمة، وبعد ان اعترفوا بان ذهنهم قاصر عن الاطلاع على كل التفاصيل فليس عليهم عناء البحث ايضاً هنا.

نعم في حدود ما هو معطى في القرآن الكريم والسنة الشريفة - ونحن الان في اطار القرآن - مما وجدت الحكمة نفسها ضرورة ايضاحه للناس فلا بأس من التعرض له (وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (اسكتوا عما سكت الله عنه) فان وجد مثل ذلك في القرآن شرحناه واكدنا عليه وسكتنا عن الباقي لانه الاوفق بحسب الحكمة الازلية بالتربية الخاصة والعامة.

ص: 92

البحث الثالث عالم الذر والظواهر الباراسايكو لوجية

اشارة

برز اخيراً علم الباراسايكو لوجي وهو علم يتناول دراسة ظواهر السلوك التي لا يمكن تفسيرها وفق القوانين البايولوجية او الكيميائية او الفيزيائية وعموم القوانين المادية، وشكرت الله تعالى على هذه اللطمة الجديدة للمادية الغربية، ولكن احزنني لجوء العلماء المختصين الى تفسير هذه الظواهر غير المادية بتفسيرات مادية (موجات كهرومغناطيسية (1) ونحو ذلك..) وقلت في نفسي هل من تفسير طبيعي (2) من وجهة نظر الآلهيين لهذه الظواهر، وهنا لمعت في ذهني فكرة عالم الذر (3) ومعيشة الانسان حياته كاملة قبل خروجه الى الدنيا وتساءلت: هل يمكن (4) الاستفادة من مفهوم عالم الذر وتفاصيله والقوانين التي تحكمه في تفسير الظواهر الباراسايكو لوجية خصوصاً حالة التخاطب عن بعد (التلباثي) والتي منها ما حدث (5) لعمر بن الخطاب (لو صحت الرواية) عندما نبه (وهو في المدينة) احد قادة جيوش الفتح الاسلامي نحو المشرق - وهو في بلاد فارس - الى وجود كمين للعدو خلف جبل هناك فقال: يا سارية الجبل! ففهم سارية الاشارة واستطاع ان ينجو من الفخ.

ونحن بعد إيماننا بأن وجود هذه الظواهر غير المادية ولفت انتباه العلماء لها هي من الآيات الالهية لتفنيد مزاعم المادية الاوربية

ص: 93

التي لا تعترف بما وراء المادة (الميتافيزيقيا) نقول - انطلاقاً من تصديق القرآن لقانون العلية (6) والتفسيرات الطبيعية التي تحكم الحوادث الكونية اذ لا يتصادم ذلك مع كون الله تعالى هو المسبب الحقيقي بل تترتب هذه الاسباب طولاً لا عرضاً - نقول: إن هذه الظواهر لها تفسيرها بالاستفادة من آثار عالم الذر (7) التي تظهر بين فترة واخرى للناس مما يعد دليلاً (8) على ان الانسان عاش حياة اخرى قبل الدنيا وقد نسي - أي الانسان - تفاصيلها لكنه لم ينس اصل (9) الميثاق الذي اخذ عليه فيها ولولا ذلك لم يدر احد من خالقه ورازقه على حد قول الصادق عليه السلام، والتفسير يكون على اساس ان هذين الشخصين المتخاطبين عن بعد مرا بنفس (10) الحادثة في عالم الذر وتنبها اليها في هذا العالم الدنيوي - او لنقل شاء الله تعالى لهما ان يتذكر (11) هذا الجزء من حياتهم السابقة - واستفاداً من ذلك في فهم ظروف الحادثة عن بعد علماً بأن الانسان في حياته السابقة على الدنيا لا تحكمه القوانين المادية التي تحكم حياتنا الدنيوية ولا تخضع لنفس قيوده.

ويبقى هذا التفسير يعتمد لاثبات صحته على صحة فروض اخرى اهمها ان الانسان عاش حياته هذه كاملة (عدا التفاصيل التشريعية) في عالم الذر وهو يعيدها (12) الان مع اختلاف في القوانين التي تحكمها بالضبط كتجسم الحياة الدنيوية في الاخرة

ص: 94

ورؤيتها على حقيقته (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) وقد كفانا مؤونة الاثبات هذا قرآنياً السيد الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان وها نحن ننقل خلاصة استنتاجاته أما تفاصيل البحث والبرهنة فموجودة في تفسيره (91/1-92، 306/8-331، 277/16-278) قال السيد في (91/1) ما نصه: (إن للإنسان في الدنيا وراء (13) الحياة التي يعيش بها فيها حياة اخرى سعيدة او شقية ذات اصول واعراق يعيش بها فيها وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الاسباب وارتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى ايضاً إن للإنسان حياة أخرى (14) سابقة على حياته الدنيا يحذوها (15) فيها كما يحذو حياته الدنيا فيما يتلوها.

وبعبارة اخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية، والثانية حكم الاولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن).

ولكن هذا التفسير كما هو واضح (16) لا يشمل جميع الظواهر الباراسايكو لوجية كالوقوف في الهواء مثلاً ولكنها لا تخلو من ارتباط بظروف عالم آخر وراء المادة وهو موجود (17) الان ومصاحب لعالمنا الدنيوي المادي لكن قوانينها تختلف حين تتاح لافراد العالم (18) الاخر امكانات هائلة لخروجهم عن حكم القوانين المادية لذلك نرى ان اصحاب هذه الظواهر يحتاجون الى

ص: 95

مجاهدات (19) روحية وضبط للنفس فيما تطمح اليه من اخلاد الى الارض أي يتصل بهذا العالم الاخر المصاحب لعالم (20) الدنيا زماناً لكنه متقدم رتبة (21) اذ يعيش فيه الناس قبل خروجهم للدنيا كل حسب الزمان المحدد له - وهو الرأي الذي تبناه السيد الطباطبائي في تحليله حول عالم الذر (22) معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر قبل الدنيا واخذ منهم الميثاق على الربوبية (الاعراف: 172-173) ثم اعيد كل شيء الى محله وفُنِي (23) ذلك العالم.

وعلى اية حال فلابد لهذه الظواهر من تفسير طبيعي (24) من وجهة نظر العلماء الالهيين قبالة آراء العلماء الذين حاولوا تفسير هذه الظواهر غير المادية بأسباب مادية فما هو التفسير الذي تضعونه لذلك؟

وبدون هذا التفسير الطبيعي فستصبح هذه التصرفات معاجز (25) لانها خارقة للعادة وعندئذ ما تأثير ذلك على اعتقادنا بالتلازم بين المعجزة وصدق ادعاء أهلها فيما لو ادعى هؤلاء شيئاً ما؟!

ص: 96

تعليقة الشهيد الصدر على بحث

(عالم الذر والظواهر الباراسايكو لوجية)

(1) قول سماحة الشيخ اليعقوبي: (ولكن احزنني لجوء العلماء المختصين الى تفسير هذه الظواهر غير المادية بتفسيرات مادية موجات كهرومغناطيسية).

هذا له مبرره من زاويتهم لو لاحظنا بعض النقاط:

اولاً: انهم معودون ومعتادون على العموم على القوانين الفيزياوية الكيمياوية الاعتيادية، فيجدون بطبيعة الحال في خرقها وتجاوز حكومتها هيبة ورهبة في قلوبهم وعقولهم.

ثانياً: انهم يجهلون عمق ذلك العالم اللامادي وشكل قوانينه التي تحكمه، وهم في ظلام وضلال تامين من هذه الناحية.

ثالثاً: انهم مقهورون على الاذعان للسببية المطلقة للكون اعني ان لكل شيء سبباً ولا يستطيعون التخلي عن ذلك بحال، ومن الطريف الذي يثير الضحك والبكاء في نفس الوقت انهم يؤمنون بهذه السببية بالضرورة ولكنهم ينكرون الخلق الالهي الذي هو سبب الكون بمجموعة، ومن الطريف ايضاً ان يكون الاتحاد السوفيتي الذي هو اكثر الماديين مادية تمسكاً بهذه الظواهر اكثر من غيره.

ص: 97

رابعاً: انهم وجدوا ان القوة الكهرومغنا طيسية هي اقوى قوة في الكون المادي من حيث فاعليتها وجذبها للأشياء وسيطرتها عليها، ومن هنا وجدوا ان انسب اسم للفاعلية الروحية هو ذلك، بحيث تنطبق كل هذه النقاط الاربعة عليه... ففكروا... وخاصة النقطة الاولى التي تنفعهم في مجال دعايتهم الايديولوجية حيث يوحون الى الرأي العام ان هذه الظواهر انما هي مجال من مجالات المادة لا اكثر.

(2) قول سماحته: (وقلت في نفسي هل من تفسير طبيعي من وجهة نظر الالهيين...)

هذا التعبير مؤسف جداً من امثالك وانما هو من سهو القلم بلا شك، فان السببية يمكن - بهذا الصدد - تقسيمها إلى عدة اقسام:

القسم الاول: السببية الطبيعية او المادية وهي سببية القوانين الكونية الفيزياوية والكيمياوية التي تحكم عالمنا هذا.

القسم الثاني: السببية المطلقة بعنوان ان الله سبحانه قد جعل لكل شيء سببا... اعم مما اذا كان سبباً روحياً او مادياً.

القسم الثالث: السببية الإلهية، وهو التأثير الرباني في خلق الاشياء جميعاً.

ولا اريد ان ادخل هنا في تدقيق هذه المستويات فلسفياً او عرفانياً.

ص: 98

كل ما في الأمر ان مستوى معين ومحترم من التفكير يعتبرها جميعاً سارية المفعول في الكون العام (المادي والروحي).

وانما الذي ندركه بوضوح هو ان القسم الاول ليس له أي تأثير على العالم الذي تحكمه القوانين من القسم الثاني، بل بالعكس فان القسم الثاني كما يكون شاملاً لعالمه الخاص هو شامل ايضاً لعالمنا المادي من حيث نعلم او لا نعلم.

ومن ذلك نستنتج امرين على الاقل:

الاول: ان تعبيركم بالتفسير الطبيعي لهذه الظواهر تعبير يحتوي على تسامح كبير ومن سهو القلم لانه يتضمن التسليم بشمول القوانين المادية (القسم الاول) للعالم الروحي (القسم الثاني) وهذا واضح البطلان، وانت تعلم ان لفظ (الطبيعي) واضح بالعالم المادي الذي نعيشه.

الأمر الثاني: ان هذه الظواهر الخارقة انما هي ناتجة عن قوانين القسم الثاني بصفتها ذات تأثير على العالم المادي نفسه، او بصفتها المستقلة احياناً... حسب اختلاف هذه الظواهر.

وهذا التعبير مني كاف لغلق الجواب وانتهائه عن كل هذه الظواهر، لولا انني اجد نفس بل واجدك ايضاً غير مقتنعين بالقليل وآملين الكثير فلذا اجد نفسي مندفعاً الى تسجيل بعض الزيادات مع الاستعصام بالله سبحانه وتعالى عن الزلل والباطل.

ص: 99

(3) قول سماحته: (وهنا لمعت في ذهني فكرة عالم الذر...).

ينبغي ان نحمل عن عالم الذر - فعلاً - فكرتين:

الفكرة الأولى:

انه عالم غير مؤكد الوجود لدى الكثيرين بما فيهم صدر المتألهين الشيرازي صاحب (الأسفار الأربعة) الذي يقول: بأن النفس مادية الحدوث وروحانية البقاء، اذ معنى كونها مادية الحدوث انها حادثة في هذا العالم المادي وليست سابقة عليه.

وكذلك السيد المرتضى في الامالي في شرح الاية (اخرج مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) يحاول جاهداً ان يجعل هذا العهد مأخوذاً في هذه الدنيا وليس في عالم قبله وانما هو تعبير عن اعتراف الفرد بالعقائد الحقة بعد وجوده ورشده، فراجع ان امكن.

الا ان كل تلك المناقشات غير واردة في نظري ومن المؤكد وجود عالم سابق يمر به الانسان قبل مجيئه الى الدنيا، وظواهر الكتاب والسنة تدل عليه.

ولا حاجة الى الدخول في تفاصيل الادلة في هذا المختصر، يكفي ان ابن سينا وهو من اعاظم الفلاسفة يقول في نظمه: نزلت - أي الروح - اليك من المحل الارفع.

ص: 100

الفكرة الثانية:

ان عالم الذر وإن كان موجوداً الا انه اضعف وأخس من هذا العالم وليس اقوى منه، وبتعبير أخر ادق: ان الانسان هناك يكون اضعف وأخس ويكون مجيئه الى الدنيا شكلاً من اشكال التكامل لا محالة، والا لم يكن هناك معنى لمجيئه الى هذا العالم.

وعليه فليس من المؤكد ان قوانين ذلك العالم تستطيع ان تقوم بإظهار هذه الظواهر الروحية بل من المقنع خلاف ذلك.

بقي الالماع الى امرين:

الأمر الاول:

انه اذا كان عالم الذر اخس من هذا العالم فلماذا يقول الشيخ الرئيس (من المحل الارفع)، وهذا بحث لا ينبغي ان ندخل فيه اذ ليس فيه فائدة تذكر الا التشييد الذهني، وانما مجرد اثارة السؤال لعلها نافعة مع الالتفات الى ان القدر المتيقن وهو ان ابن سينا اجل من ان يدرك ان مجيء الروح الى الدنيا هو شكل من اشكال التسافل لا التكامل.

الامر الثاني:

ان خطور (عالم الذر) في ذهنكم كعالم كفيل لتفسير الظواهر الروحية كأنه ناتج لا شعورياً من تخيل انحصار عالم الروح بعالم الذر مع ان المطلب ليس كذلك، ولعلي استطعت ان القي بعض الظلال او الأضواء على ذلك في ما يلي من الكلام.

ص: 101

4 - قول سماحته: (وتساءلت هل يمكن الاستفادة من عالم الذر وتفاصيله...)

اتضح مما سبق جوابه بالنفي ولكن المهم الذي اريد ان اقوله هنا هو البديل المحتمل لذلك

حبيبي: ان الله سبحانه وتعالى برحمته وقدرته خلق الانسان في احسن تقويم واودع فيه من الصفات والخصائص المادية والمعنوية والعقلية والروحية ما يفوق التصور بكثير، وهذا من جملة تفسيرات (الخلق الاخر) المشار اليه في القرآن الكريم، كما انه هو المقصود من النظم الوارد عن امير المؤمنين وسيد العارفين سلام الله عليه:

وتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الاكبر

وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

وهذا هو الذي سبب استحقاق الإنسان لعدة أشياء:

منها: تحمله للأمانة التي أبت الماديات بل والسماوات ايضاً عن تحملها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً (يعني بحسب ظاهره وغفلته).

ومنها: تسخير ما في الارض جميعاً له كما نص عليه في القرآن.

ومنها: تسخير كثير من الظواهر السماوية له كالليل والنهار والنجوم والشمس والقمر والسحاب وغير ذلك مما هو منصوص عليه في الكتاب الكريم.

ص: 102

وقد ادرك الغرب اخيراً الى ان الانسان مهما اوتي من عمل ونشاط فإنما هو يستخدم جزءاً من الف من طاقته الكامنة، وهذا الكسر العشري انما اوردته اوروبا حسب عقيلتها، والا فهو اقل واصغر جداً من ذلك، بنسبة عالم الروح الى عالم المادة الذي لا يعد في جنبه شيئاً يذكر اصلاً.

ولعلك سمعت بتقسيم العالم الى عوالم اربعة: عالم الناسوت و عالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم اللاهوت، ويقول الفلاسفة انها مترتبة من حيث الشرف والتجريد والتأثير (لاحظ هذه التعبيرات الثلاث) وان الخلقة الانسانية تحتوي عليها جميعاً وهو في هذا العالم، فالجسم من عالم الناسوت والنفس من عالم الملكوت والعقل من عالم الجبروت والروح من عالم اللاهوت، هذا كلام الفلاسفة وهو حق منظوراً من زاوية عقلية معينة، ولكل من هذه العوالم قوانينها وتأثيراتها التي نجهل الكثير منها تماماً...

ويخلق مالا تعلمون.

وهنا ينبغي ان نلتفت الى الافراد الذين استخدموا شيئاً من ملكاتهم وقواهم، فهذا متعمق بالكيمياء وذاك في الفيزياء وذاك في الرياضيات وذاك في الطب وذاك في السحر وذاك في اليوغا وذاك في علوم الدين وذاك في تدريب الوحوش وذاك في الرياضات القاسية كالنوم على المسامير او دفن الفرد عدة شهور او غيرها، مضافاً الى الظواهر الباراسايكو لوجية نفسها كالتخاطر

ص: 103

والسمع والبصر الخارق مضافاً الى المنامات الصادقة وغير ذلك مما انكشف بعضه واختفى اكثره.

إن أي واحد من هذه الاشخاص قد استعمل ملكة أو عدداً قليلاً من ملكاته ولم يستعملها كلها بطبيعة الحال، بل لم يستعمل كل مدى الملكة الواحدة ايضاً، فكيف لو تم لإنسان ان يستعمل كل ملكاته بكل قواها وماذا عساه ان يكون؟ ومحل الشاهد هو عمق خلقة الانسان وعظمة نعمة الله سبحانه عليه.

يكفينا ان نسمع مضمون الاية: لهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم قلوب لا يفقهون بها... بعد التسليم والوضوح بأن عيونهم وآذانهم المادية سليمة مئة في المئة.

وانما ذلك باعتبار احد امرين او كليهما:

الاول: ان المتوقع من ملكات الاحساس الاعتيادية ان ترى وتسمع اكثر من ذلك بحيث يكون ما تراه وتسمعه على كثرته واهميته كالعدم (لا يسمعون... لا يبصرون) بالنسبة الى العالم المغفول عنه والمحجوب عن الابصار.

الثاني: ان المتوقع من الانسان كإنسان ان يرى ويسمع اكثر من هذا كله لا بهذه الوسائط المادية بل بوسائط اخرى روحية قد تكون مشابهة في نوعها من هذه المادية وقد لا تكون، ومن هنا ورد: ان لكل إنسان عينان في قلبه فطوبى لمن فتح الله له ذلك (بالمضمون).

ص: 104

وعلى أي حال فأي شيء وردك من ظواهر الباراسايكو لوجي فهو قليل من كثير وغيض من فيض بالنسبة الى قدرات الانسان الكامنة، ولا موجب للتعجب لحدوثها.

وهنا يحسن الالماع الى فهم معين لقوله تعالى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) * والمكرر في القرآن العظيم عدة مرات، وهو ان الغافل عن هذه القوى الخفية في نفسه واللاهي في العالم المادي

(ذلك مبلغهم من العلم... اللهم لا تجعل الدنيا مبلغ علمنا ولا اقصى همنا)..

قد خسر هذا الشخص نفسه، وأي اسف يدركه واي حسرة ينالها حين يعلم في الاخرة بهذه الحقيقة المرة، وانه قد فوت على نفسه الفرصة الكبرى بما جنى على نفسه بيديه.

(5) قول سماحته: (.. منها ما حدث لعمر بن الخطاب - لو صحت الرواية عندما نبه وهو في المدينة احد قادة جيوش الفتح الاسلامي...).

الأمر الاول:

ان هذه الرواية ممكنة الحدوث، كما اشرنا ونشير في الامر الثاني، الا انني لا ارجح صدقها اكثر من 50% الى 55% على الاكثر وذلك لمدى العوامل الهدامة في التأريخ الاسلامي الذي اوجب - مما اوجب - وضع الكثير من الروايات في سبيل تركيز وتقديس الوضع القائم يومئذ مما لا يخفاكم ولا حاجة الى تفصيله.

ص: 105

الامر الثاني:

ان استخدام الانسان لقواه قليلاً او كثيراً غير منوط بالمؤمنين بل ولا المسلمين وغير خاص بالملتزمين بل يعم المنحرفين والشاذين عقائدياً او عقلياً او انسانياً ونحو ذلك، فإن لانفتاح كل روحية في الانسان مقدماتها واسبابها والتي منها ما هو مادي (اعني من هذا العالم) ومنها ما هو نفسي او فكري، كما ان منها ما هو متعمد للفرد ومقصود ومنها ما يحصل عفواً او صدفة من دون ان يريد الفرد ويتوقع.

وبالطبع اذا كان مقصوداً وكانت المقدمات صحيحة فسيكون اداؤه جيداً ومستمراً ويكون هو له متحملاً كأنه شيء طبيعي له.. بخلاف ما لو جاء صدفة فانه يكون متقطعاً وقليلاً وتحمل الفرد له قليل وتعجبه منه بكثير.

والذي اود الالماع اليه هنا: ان استخدام هذه القوى منها المقرب الى الله سبحانه ومنها المبعد عنه، فشأنها في ذلك شأن هذا العالم الذي منه المبعد ومنه المقرب، واذا كان الفرد قاصراً - عملياً على الاقل - عن استخدام قواه جميعاً فعليه ان يختار من قواه الدنيوية والروحية ما يقربه الى الله والزلفى لديه وينبذ ما سواه، ولعلي استطعت ان ازيد ذلك توضيحاً بعونه تعالى في الاتي من الكلام.

ص: 106

(6) قول سماحته: (انطلاقاً من تصديق القرآن لقانون العلية...)

سبق الكلام في أقسام القوانين، وبقي عليكم ان تأتونا ببعض الشواهد من القرآن الكريم في تصديق قانون العلية والتفسيرات الطبيعية التي اشرتم اليها.

(7) قول سماحته: (ان هذه الظواهر لها تفسيرها بالاستفادة من آثار عالم الذر..).

ظهر جوابه مما سبق.

(8) قول سماحته: (مما يعد دليلاً على ان الانسان عاش حياة اخرى قبل الدنيا...)

طبقاً لما قلناه لا يكون ذلك دليلاً وانما له دليله المستقل.

(9) قول سماحته: (وقد نسي - أي الانسان - تفاصيله لكنه لم ينس اصل الميثاق...)

لا اعتقد ان للميثاق ربطاً بالظواهر الباراسايكو لوجية، سوى مجرد الاستدلال على العالم السابق لو كان لذلك العالم ربط ما به.

(10) قول سماحته: (والتفسير يكون على اساس ان هذين الشخصين المتخاطبين مرا بنفس الحادثة...)

هذا منطلق من الزعم بأن هذا العالم انما هو مجرد تكرار لذلك العالم، الأمر الذي يأتي في كلامك التعرض اليه وهناك نناقشه.

ص: 107

(11) قول سماحته: (شاء الله تعالى لهما ان يتذكرا هذا الجزء من حياتهم السابقة...)

هذا مبني على نظرية التذكر الافلاطونية التي يدعمها ابن سينا: (فلعلها ذكرت عهوداً بالحمى). وهذا ما سأتعرض له عند المناقشة العامة لهذه الفكرة.

(12) قول سماحته: (ان الانسان عاش حياته هذه كاملة (عدا التفاصيل التشريعية) في عالم الذر...)

الان حان وقت المناقشة: وهنا ينبغي ان نلتفت الى عدة امور:

الأمر الاول:

إن هذا قول بلا دليل ولم اعهد احداً يقول به، ويكفي في نفيه عدم الدليل عليه، فان المتبني له هو المسؤول عن الاستدلال لا النافي له.

الأمر الثاني:

انه لا معنى للتماثل ومن ثم التكرار.. مع اختلاف القوانين التكوينية والتشريعية معاً، كما المعت اليه في كلامك، فإن هذا يعني عدة امور:

منها: ان الانسان هناك لم يكن بالغاً الكمال الذي حصل عليه هنا فكيف يفعل الناقص عين ما يفعله الكامل.

ومنها: ان المصلحة التكاملية او قل: التربوية هناك غيرها هنا ومن هنا كانت القوانين التشريعية بل والتكوينية مختلفة،

ص: 108

وهذا يدل على ان ردود افعال الافراد هناك تختلف عنه هنا.

الأمر الثالث:

قد يستدل على هذا التكرار بنظرية التذكر الافلاطونية بزعم: ان الانسان يتذكر كل شيء.. الا انها في اعتقادي خاصة غير عامة وتوضيح ذلك بمقدار الامكان: ان افلاطون وغيره يعتقد ان للإنسان خلقة أساسية عظيمة موجودة في عالم علوي هو العالم الذي تنطلق منه الروح اولاً وتعود اليه ثانياً وتتذكره في هذا العالم - ثالثاً -

وهذا لا ينافي ان الله سبحانه بحسب حكمته قد منع الانسان عن الاستمرار في ذلك العالم وانما بدأ خلقه من جديد محجوباً عن ذلك العالم (خلقاً من بعد خلق) (وبدأ خلق الانسان من طين) أي - بحسب هذا الفهم - من اخس المستويات واضعفها لكي يكون في طريق الكمال التدريجي، ويمر خلال ذلك بعوالم لا نعلمها (الله يعلمها) حسب الحكمة والمصلحة والتي من جملتها عالم الذر وعالم الميثاق، اما عالم الميثاق فيمثل اول استحقاق كمال الفرد للإعتقاد بالخالق جل جلاله، واما عالم الذر فهو العالم السابق مباشرة على هذا العالم، والانسان في كل تلك العوالم يكون قد نسي خلقته الاساسية وغفل عنها تماماً.

ص: 109

ولكنه حين يصل الى هذه الدنيا التي هي الاساسية في فرصة الطاعة والتكامل يبدأ بتذكر الخلقة الاساسية ويبدأ بالشوق اليها والنواح عليها - كما يقولون - كما يبدأ بعمل المقدمات التي توصله اليها، ولا ينالها الا ذو حظ عظيم.

إذن فالتذكر انما هو لمعرفة حقيقة النفس وليس لكل الافعال والاقوال الصادرة عنه في العالم السابق، والأمر بهذا المقدار لا غبار عليه فيما أرى، ولكنه خاص جداً كما تعلم فالرجاء ملاحظة ذلك.

إن افلاطون وسقراط وآرسطو واضرابهم لم يكونوا كما حاولت اوروبا فهمهم وكما عرضهم (عملاؤها) في الكتب التي ترجمتهم وتحدثت عن الفلسفة اليونانية كيوسف كرم او غيره، بل لهم نظرة اخرى اعمق واشمل كالنظرة التي ينظرها اليهم صدر المتألهين في الاسفار، والتي تدل عليها كتاباتهم انفسها لمن اطلع عليها.

(13) قول سماحته: (قال السيد الطباطبائي) ما نصه: (ان للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش فيها حياة اخرى...)

هذه هي الحياة الآخرة الآتية بعد الموت ولا نقاش فيها.

ص: 110

(14) قول سماحته: (ويظهر من كلامه تعالى ايضاً ان للإنسان حياة اخرى..)

وهذا واضح بعد الذي قلناه فيما سبق.

(15): قول سماحته: (يحذوها فيها كما يحذو حياته الدنيا فيما يتلوها...)

ما معنى هذا الكلام؟ (يحذوها فيها كما يحذو الخ) فان التفسيرات الممكنة له احد امرين:

الأمر الأول:

ان يكون الاحتذاء والمشابهة من جميع الوجوه واشكال السلوك وهو امر قد سبق ان ناقشناه ولا يكون كلام السيد الطباطبائي قدس سره حجة في اثباته.

الأمر الثاني:

ان لكل من العوالم التي يمر بها الانسان تأثيراً على الفرد في تكامله او تسافله وهذا مما لا شك فيه، بل لكل من العوالم السابقة تأثيراً على تصرف الفرد في العالم الذي يليه، وهذا ايضاً اكيد في نفسه، ولكنه لا يعني بأي حال المشابهة الكثيرة فضلاً عن التطابق، بل قد لا يعني شيئاً من المشابهة كما هو واضح لمن يفكر.

ص: 111

(16) قول سماحته: (ولكن هذا التفسير كما هو واضح لا يشمل جميع الظواهر الباراسايكو لوجية...)

بعد ان تمت مناقشة اصل النظرية التي عرضتموها لا يكون هذا (القصور) النظري محزناً.

(17) قول سماحته: (ولكنها لا تخلو من ارتباط بظروف عالم آخر وراء المادة وهو موجود الان).

هذا اكيد وقد سبق ان المعنا اليه في تقسيم القوانين الكونية الى ثلاثة اقسام، وليتكم عوضتم بهذا عن (عالم الذر) كمفسر للظواهر الروحية فان فيه الكفاية كما رأينا.

(18) قول سماحته: (حيث تتاح لافراد العالم الاخر امكانات هائلة...)

لابد انك تقصد الافراد الذين استطاعوا استخدام قواهم الكامنة من افراد هذا العالم، وهم ليسوا من افراد عالم آخر على أي حال.

(19) قول سماحته: (نرى ان اصحاب هذه الظواهر يحتاجون الى مجاهدات روحية...)

سبق ان قسمنا ظهور القوى الكامنة الى ما هو عمدي والى ما هو صدفي او اتفاقي، فقد يلتفت الفرد الى وجود بعض قواه النفسية ويستهدف انفتاحها له ويقدم المقدمات لذلك، والذي افهمه ان المقدمات لكل القوى انما هي مبتنية على مجاهدات وصعوبات ينبغي ان يمر بها الفرد.

ص: 112

سواء من ذلك القوى المستخدمة في القرب الى الله سبحانه او المستخدمة في البعد عنه كالسحر وتسخير الجن وغير ذلك، ولعل فيما يأتي توضيحاً لذلك ان شاء الله تعالى.

(20) قول سماحته: (أي يتصل بهذا العالم الاخر المصاحب لعالم الدنيا زماناً...)

في هذه السطور خلطاً بين العوالم الروحية، فاننا مهما قلنا واكدنا على وجود عالم الذر السابق على هذا العالم بوجوده في هذا العالم لا نستطيع أن نؤكد تأثيره الفعال في إيجاد الظواهر الروحية، بعد الذي قلناه سابقاً وسأشير اليه بعد قليل.

فإن الموجود في هذا العالم ايضاً هو قوانين (القسم الثاني) الخاصة بالعالم الروحي الذي هو اعلى واشرف واعمق تأثيراً واوسع سيطرة من المادة وقوانينها، الامر الشامل للخلقة الانسانية التي سبق وصفها، وهذا بمجموعه هو الذي يؤثر في الظواهر الروحية الباراسايكو لوجية كل منها حسب ما يناسبه من تلك القوانين.

(21) قول سماحته: (أي يتصل بهذا العالم الاخر المصاحب لعالم الدنيا زماناً لكنه متقدم رتبة..)

التقدم في الرتبة يعني هنا احد امرين او كلاهما:

الأمر الاول: العلية والسببية يعني لولا وجود الانسان في عالم الذر لما امكن وجوده في هذه الدنيا.

ص: 113

الأمر الثاني: السببية في التكامل يعني لولا الكمال النسبي الذي حازه هناك لما امكن استمراره في التكامل هنا.

وكلا هذين الأمرين بحسب ما نعرف من النظام الالهي صحيح، واما تفسير التقدم الرتبي بانه هو العالم المسيطر على العالم المادي فهو امر غير صحيح بل العالم المسيطر غيره كما عرفنا.

(22) قول سماحته (وهو الرأي الذي تبناه السيد الطباطبائي في تحليله حول عالم الذر معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر...)

قصدك: مؤكداً لا معارضاً.. والا يكون في العبارة تهافت واضح، وهو انما قد اكد ذلك في عبارته السابقة فعلاً ولم يعارضه.

(23) قول سماحته (معارضاً بذلك الرأي القائل بأن البشر خلقوا في عالم الذر قبل الدنيا واخذ منهم الميثاق على الربوبية (الاعراف 172-173) ثم اعيد الى محله وفُني ذلك العالم...)

هنا نقطة خلاف لم التفت اليها قبل سطرين، والحق مع السيد الطباطبائي حسب فهمي، فان فناء ذلك العالم يعني عالم الذر السابق.. مبني على انتهاء الحاجة اليه بعد خروج كل من فيه الى هذا العالم، ووجود الشيء بعد استنفاد اغراضه لغو محض اذن فلابد ان يكون ذلك العالم قد فني.

ص: 114

الا ان هذا كلام فارغ لأن الخروج منه الى الدنيا تدريجي وقد كان هذا الخروج بالولادات ساري المفعول ولا زال كذلك وسيبقى - الأمر الذي يدل بوضوح ان قسماً من الناس لا زالوا فعلاً في ذلك العالم (ينتظرون) الولادة في هذه الدنيا، الأمر الذي يؤكد وجود المصلحة في بقائه وعدم فنائه وعدم كونه لغواً محضاً.

(24) قول سماحته (وعلى أي حال فلابد لهذه الظواهر من تفسير طبيعي من وجهة نظر العلماء الالهيين...)

سبق أن ناقشنا هذه العبارة، وقد اجبنا عن هذا السؤال بإسهاب فخذ ما آتاك الله وكن من الشاكرين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

(25) قول سماحته (وبدون هذا التفسير الطبيعي فستصبح هذه التصرفات معاجز لأنها خارقة للعادة...)

بقي علينا ادراك الفرق بين الظواهر الروحية والمعجزات: ان ذلك يكون على عدة مستويات:

المستوى الاول: مستوى اهل الغفلة والذين اخلدوا الى الارض، وهؤلاء يكفيهم وجود الفعل الخارق المصاحب لادعاء النبوة في التصديق بها، وهو ايضاً المطابق مع ظاهر القواعد الاسلامية التي يؤكد عليها امثال السيد الخوئي في التفسير والسيد (شبر) في حق اليقين وغيرهما.

ص: 115

وهو كاف فعلاً مع وجود اليقين في النفس وهو الاذعان العقلي والنفسي بصدق مدعي النبوة، فان المهم امام الله سبحانه هو هذا اليقين والاذعان مهما كانت مقدماته.

المستوى الثاني: مستوى من يلتفت الى هذه الظواهر الروحية ويكون مستواه هو مستوى المثقف العصري في زماننا هذا، فمثل هذا الفرد او الجيل نقول له ما سجلناه في بعض بحوثنا حول الفرق بين السحر والمعجزة.

حيث ان أهم ما قلناه هناك: ان هناك صفات معينة نتوخاها في مدعي النبوة:

الأول: صلاحه الشخصي كفرد ممثل لقمة عليا من الانسانية والاخلاق والصفاء بحسب تجربتنا الحياتية السابقة معه، (ولو المنقول لنا بالتواتر عنه كنبي الاسلام صلى الله عليه و آله).

الثاني: مجيئه بالعدل الشامل الكامل في التشريع والتطبيق، الامر الشامل للعقيدة الحقة بما فيها من تجريد وعمق.

الثالث: مجيئه بمعجزة خالدة مع الدهر بحيث يمكن اثبات عجز الاخرين عنها مهما اوتوا من قوة مادية او روحية وعلى مدى الاجيال وفي كل وقت، ويكون التحدي القرآني شاملاً لكل ذلك.

ص: 116

فكل من كان حاله ذلك كنبي الاسلام صلى الله عليه و آله آمنا به، وان السحرة وغيرهم احقر واضعف من ذلك بكثير.. ولو كان لهم قوة كافية لكانت لهم سيطرة كافية على العالم مادية او روحية مع العلم ان ذلك لم يحصل لأي واحد منهم.

المستوى الثالث: مستوى الفرد الواصل الى العلوم الحقة والممارس للظواهر الروحية، فمثل ذلك الشخص يستطيع ان يعرف الحق من الباطل بطريقته الخاصة التي هو اعلم بها من غيره وربما تختلف بين اولئك الخاصة.

والنتيجة واحدة وهي قوله تعالى [وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ مستقيم] - هكذا الاية او نحوه -.

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

ص: 117

رسالة أخرى حول الظواهر الباراسايكو لوجية

قرأت تفسيرك للظواهر الباراسايكو لوجية وكان رأياً سديداً فلله درك والحمد لله على ما انعم، وقد وجدت بعدئذ ما يدعمه من وجهة نظر الطب في كتاب

(الطب محراب الإيمان)(1)(ص 172-175) تحت عنوان (فكرة مبسطة عن الغدة الصنوبرية) وسأقتبس بعض الفقرات منه وبواسطته من كتاب (الإنسان ذلك المجهول) و (الغريزة - الجزء الثاني) لكي تطلع عليها، قال المؤلف: (تقع هذه الغدة في مكان يصعب الوصول اليه

ص: 118


1- كتاب فريد في بابه وضعه المؤلف (الدكتور خالص جلبي كنجو) كرسالة لنيل شهادة الدكتوراه في الطب في اختصاص التشريح ويبين معجزة خلق الانسان وتصميمه، وهذا الاتجاه في الاطلاع على الآيات الافاقية افضل الاتجاهات لأنه يعرفك نفسك التي بين جنبيك وتجد من خلاله معنى قوله تعالى (ولقد خلقنا الانسان في احسن تقويم) وقول امير المؤمنين عليه السلام: اتحسب نفسك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر كما يتعرض لبعض الحالات المرضية الغريبة التي يسببها أي خلل يحصل في هذا البناء العظيم مما يجعلك تأخذ نفساً عميقاً - كما يقول المؤلف - وتحمد الله تعالى ان انقذك منها، والخلاصة انك تقرأ الكتاب يلهج - ويجب عليه ذلك - شكراً لله تعالى ويسبح بحمده وعظمته وتنظر باحتقار الى من يفر من الله سبحانه الى القول بالصدفة او الطبيعة والكتاب طبع عام 1971.

وهذا مما دعا الى عدم معرفة دور هذه الغدة الحقيقي، فهي تقع في اعلى الجذع الدماغي قريباً من السويقات المخية بين حديبات تسمى الحديبات التوأمية، ولقد لوحظ ان هذه الغدة تشبه العين الثالثة عند الحيوانات مثل الضفادع، فهي تلون الجلد حسب حاجة البدن فيما اذا تعرض للنور، ونزع هذه الغدة يفضي الى عدم الاصطباغ المعهود للجلد في حالة عدم التعرض للنور).

اما عن دورها في الانسان فينقل المؤلف هذا النص من كتاب (الغريزة - الجزء الثاني).

(يرى كثيراً من العلماء ان وظيفة هذه الغدة تتعلق بنمو الحاسة الجنسية، وهي تماثل في الحشرات العيون والنوافذ اذ تتلقى الاشعاعات الاثيرية التي يستعصي ادراكها على الحواس المعروفة فتنقلها الى اجزاء المخ، وهذه تجعلها جلية واضحة، وتحولها الى لون من الوان الوعي، وهي بذلك تعتبر مقر الحاسة السادسة، وتكون في الحيوانات حاسة الاتجاه وغريزة التأديب، فالنحلة تجمع الرحيق ثم تندفع نحو قفيرها في اتجاه مستقيم قاطعة طريقاً قد يبلغ طولها الميلين او اكثر مهتدية بهدي هذه الحاسة، ولذلك فهي عضو حسي يتلقى الذبذبات من الخارج ووظيفتها في الانسان حسب رأي (سيثيل) الاستجابة الى الذبذبات التي تنبعث من الاشياء ولا تستطيع الحواس الخمس المعروفة ان تدركها إما لبعدها او لتدخل ما نسميه المواد المعتمة، وهي اذن

ص: 119

مقر المواهب الخفية التي تسمى عند الانسان بالاستشفاف وكذلك التخاطر (التلباثي) أي انتقال الافكار من ذهن شخص لاخر).

وقال صاحب كتاب (الانسان ذلك المجهول): (أن البصر المغناطيسي وتراسل الافكار: معلومات اولية للملاحظة العلمية وفي استطاعة من وهبوا هذه القوة ان يستشفوا افكار الاخرين السرية دون ان يستخدموا اعضاءهم الحسية، كما انهم يحسون ايضاً بالاحداث السحيقة سواء من الناحية الفراغية ام من الناحية الزمنية، وهذه الصفة استثنائية وهي لا تنمو الا في عدد قليل من بني الانسان الا ان هناك كثيرين يملكون هذه الصفة بحالة بدائية، وهم يستخدمونها دون بذل أي جهد وبطريقة تلقائية، ويبدو ان البصر المغناطيسي مسألة عادية لمن يملكونه، وهو يجلب لهم معلومات اكثر توكيداً من المعلومات التي يحصل الانسان عليها بواسطة اعضاء الحس).

وتراسل الافكار كثير الحدوث، ففي كثير من المناسبات في اوقات الموت او الخطر العظيم يدفع الفرد الى انشاء علاقة معينة بشخص آخر، فالرجل الذي كتب عليه الموت او ان يصبح ضحية احدى الحوادث، وان لم تعقب الوفاة اصابته في الحادث يبدو لصديقه وكأنه في حالة طبيعية لا غبار عليها لأن شبح الموت يظل عادة صامتاً، وقد يحدث احياناً ان يعلن الشخص الذي سيموت انه سيموت عما قريب، وكذلك فان البصر المغناطيسي قد يرى ايضاً

ص: 120

منظراً او شخصاً او قطعة من الارض على بعد سحيق (تذكر حادثة عمر، منه).

ويكون في استطاعته ان يصفها بدقة(1)، وهكذا فان معرفة العالم الخارجي قد تصل الى الانسان عن طريق مصادر اخرى غير اعضاء الحس، ومن المحقق ان الفكر قد ينتقل من فرد لآخر ولو كانت تفصل بينهما مسافة كبيرة، وهذه الحقائق التي تنتمي الى علم ما وراء النفس الجديد يجب ان تقبل على علاتها، انها تكون جزءاً من الحقيقة، وتعبر عن جانب نادر يكاد يكون غير معروف من انفسنا، ومن الجائز انها مسؤولة عن الدقة العقلية الحاذقة التي تلاحظ في افراد معينين)(2) ويتابع المؤلف (ان ما مر يذكرنا بما جاء في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام ولما فصلت العير قال ابوهم إني لأجد ريح يوسف لولا ان تفندون)(3) هذا بعد قطع الامل من رؤيته وكان الاخوة في طريقهم لأخذ الوالد الصبور للقاء ولده الذي فقده منذ بضعة عشر عاماً).4.

ص: 121


1- ويمكن ان نضيف هنا وصف النبي صلى الله عليه و آله لبيت المقدس بعد عودته من الاسراء وهو في مكة.
2- الانسان ذلك المجهول/ص 147-148.
3- يوسف: 94.

ويمكن ان تفسر لنا هذه الحقائق تأكيد القرآن لوجود الاثار المادية السيئة للحسد وهو حالة نفسية خالصة، وذلك في قوله تعالى (ومن شر حاسد اذا حسد)(1) حيث يمكن للحاسد ان يوجه من عينيه موجات تؤثر في الطرف الاخر وتحدث خللاً في سير بنائه مما يولد اعراضاً مرضية او الوفاة احياناً.5.

ص: 122


1- الفلق: 5.

جواب الشهيد الصدر قدس سره

* قول سماحة الشيخ في الهامش (2): (ويمكن ان نضيف هنا وصف النبي لبيت المقدس...)

تفسيرك هذا يا حبيبي مبني على ان ذهاب النبي صلى الله عليه و آله الى بيت المقدس كان ذهاباً روحياً او قل: فكرياً.. ولم يكن جسدياً الا انه خلاف المشهور جداً ولعل من ضرورة المذهب لدينا خلاف ذلك، اعني انه صلى الله عليه و آله قد ذهب فعلاً بجسده لا بروحه او قل بهما معاً، وهو ظاهر القرآن الكريم، (راجع الايات) نعم، تفسير موقف يعقوب عليه السلام وانه وجد ريح ابنه كذلك تفسير (اصابة العين) او المنحى الروحي امر لطيف ومسر.

ص: 123

البحث الرابع فهم ما وراء النص

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الانبياء والاوصياء.

لابد لي قبل عرض البحث ان استمحيك عذراً لتدخلي فيما لا يحق لي التدخل فيه ولجرأتي على مقام العلماء الذين اتشرف ان اكون تلميذاً متواضعاً ومطيعاً لهم ولكن الذي يحدوني على هذا التطفل امور:

الاول: حلمك وسعة صدرك.

الثاني: وجوب عرض أي شيء يراد القاؤه الى الأمة - لو اتيح له ذلك - على العلماء وذوي الرأي فيهما ليقرر رأيهم قبل ان تعرض على الملأ لئلا تثير اللغط والشبهة في اوساط العامة ويكثر تطفلهم كما حدث غير مرة في حين ان عليهم الطاعة العمياء للعلماء المخلصين وكفى أما ما عدا ذلك فموكول الى اولي الأمر.

الثالث: استطلاع رأيكم والاستفادة من نمير علمكم العذب بما تتحفونا من آراء وتوجيهات ولسان حالي هل اكتفيت فأقول هل من مزيد.

ص: 124

فأمِط عن جهلي وفضولي غضبك وأقرأ متفضلاً وماناً على تلميذك المتواضع.

خلال قراءتي لعدة كتب في تفسير القرآن والاطلاع على مختلف الاراء في التفسير كان العجب يتملكني احياناً عندما أرى معنى الاية الكريمة - في حدود فهمي القاصر - وبنظرة واحدة في مستوى من الوضوح بحيث اتوقع اتفاق المفسرين عليه لكن لا البث حتى ارى اقوالاً متضاربة ومتباينة واذا كان قسم منها يقترب من المعنى - الذي اسميه واضحاً - فان اقوالاً اخرى تبتعد عنها بعد اسماء عن الارض، من ذلك تفسير البعض لقوله تعالى [يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ] أي بامهاتهم حيث ان (إمام) جمع (أم) وهو ما يأباه الذوق السليم واللغة القويمة واذا كان هذا التفسير واضح البطلان فلننتقل الى مثال ادق بقليل، كما في قوله تعالى على لسان النبي شعيب عليه السلام [قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها، وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ (1) اللّهُ رَبُّنا] الاعراف - 89.

فقد فسرها بعضهم انه:

(لا ينبغي لنا ان نعود الى الشرك و نترك الحق الذي نحن عليه الا اذا كان الله سبحانه و تعالى قدر علينا في سابق علمه ان نتردى في هوة الكفر بعد ان نجانا منها فهو وحده الذي يعلم ذلك) وهو معنى نجلّ الفرد من المؤمنين (فضلاً عن نبي كريم كشعيب عليه السلام)

ص: 125

ان يقوله ولا ان يخطر على باله بعد ان شرفه الله تعالى وهداه الى صراطه المستقيم والحقيقة ان جملة القطع (إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّنا) ببساطة ليست الا تعبيراً عن ادب الانبياء عليه السلام مع ربهم حيث لا يقدمون شيئاً ولا يؤخرون الا وفي اذهانهم (إِنْ شاءَ اللّهُ) * وهو معنى قوله تعالى (وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ) ولا تحمل جملة القطع اكثر من هذا المعنى.

سقنا الكلام اعلاه كمقدمة لما نريد ان نقوله إذ ان هذا التباين - واحياناً يكون بسبب قلة الكفاءة - موجود في فهم الفقهاء للنصوص ونحن لا نقصد الاختلاف الحاصل بسبب التباين في ملكاتهم الاجتهادية فهذا مما لا محيص عنه وانما نقصد به (عدم اعطاء الظهور اللفظي ابعاده الحقيقية وفهمه حق فهمه) وهو لا يعود الى خلل في ملكتهم وانما بسبب الالتزام بالاحتياط احياناً او الجمود على ظاهر النص والتحايل عليه وعدم (2) الخروج الى ما وراء النص او عدم التعامل مع النص تعاملاً روحياً وانما على صعيد الاوراق فقط ولا يعد هذا قولاً بلا دليل او افتاءاً بالرأي كما سنرى بعدئذ انشاء الله تعالى إنه قول بدليل فعلاً ولكنه يكتنف بشيء من الغموض وسأستعين على توضيح مقصودي هذا بعرض نماذج فقهية ليس غرضي منها الافتاء او ترتيب الاثار عليها - والعياذ بالله بل للمناقشة:

ص: 126

1 - حرم الفقهاء تصوير ذوات الارواح مطلقاً بناءاً على عمل النبي صلى الله عليه و آله وهو ظاهر النصوص ولكن بمساعدة فهم الظروف والملابسات المحيطة بالحكم كالفترة التأريخية للحكم وكون النبي صلى الله عليه و آله قائد ثورة تغييرية لمجتمع ذي تقاليد جاهلية معينة ونحو ذلك نقول بالاستفادة من ذلك نفهم ان الهدف منه هو قطع دابر الوثنية وعبادة الاصنام، اما اليوم وبعد ان اصبحت الاصنام المعبودة من دون الله تعالى من غير الحجارة والخشب والمواد الاخرى فيظهر ان حكم التحريم يجب ان يعاد النظر فيه (3) حيث اصبح الهدف من تجسيم ذوات الارواح امور اخرى غير محرمة كالزينة وتخليد العظماء ولعب الاطفال.

2 - من شروط الربا أن يكون العوضان من جنس واحد اما اذا لم يكونا كذلك فلا بأس لذا جاء في احدى الفتاوى (لا بأس بالزيادة في احد الطرفين اذا اضيف الى الاخر شيء كأن باع مناً من الحنطة مع منديل بمنين من الحنطة وكذلك اذا كانت الاضافة في الطرفين كأن باع مناً من الحنطة مع منديل بمنين ومنديل). وهو تحايل فظيع (4) على النص اذ ان اشتراط وحدة العوضين انما هو لفسح المجال امام البيع والمعاوضة المشروعة اما ان يستغل ظاهر النص فيفتى بمثل الفتوى اعلاه فهو خيانة للشرع وللعقل المسؤول عن فهم الشرع ويحتاج جرأة على الله تعالى ولو خرج الفقيه قليلاً وراء

ص: 127

اللفظ لرأى ان ما افتى به هو عين الربا المحرم لكنه مزوق بثوب فضفاض.

3 - وفي مسائل الخمس يمكن ان نستفيد من هذا الفهم لظهور النص وجوب الخمس على المكلف في بعض الحالات التي يتخلص فيها الشخص من الخمس ببعض الحيل الشرعية كمن يشتري قميصاً وهو يملك خمسة قمصان ولا يحتاج ضمن طبقته ووضعه الاجتماعي وحاجته الشخصية الى اكثر من خمسة قمصان للتبديل بينها فيقوم للتخلص من الخمس بارتداء هذا القميص الزائد عن المؤونة مرة واحدة ويتركه وعندئذ يرى انه محتاج للقميص لأنه (5) استعمله وهو فهم خاطىء للزيادة عن المؤونة الواردة في النصوص اذ انها تخص ما زاد عن الحاجة قوةً وفعلاً لا ما لم يستعمله الانسان وبنفس الفهم يجب الخمس على من يشتري عدداً من الكتب لمجرد ملأ مكتبة ما وهو لا يحتاج الى اغلبها فيقوم بتصفح الكتب فقط لكيلا يستحق عليه الخمس بحجة انه استعملها علماً بأن النص لم يجعل الاستعمال وعدمه مداراً للخمس وانما الزائد عن الحاجة والمؤونة.

4 - وبنفس المنظار نفهم ان نجاسة الخمر والمسكر (6) يقصد به نجاسة الشراب ونحوه ولا حاجة الى الخلط بينه وبين أي مادة يدخل في تركيبها الكحول كالاسبيرتو وماء الكولونيا وما شابه

ص: 128

لأن النجس هو المسكر المائع في حين ان الكحول عندما يضاف لصنع هذه المواد لا يضاف كمائع مسكر يشرب وانما بطريقة كيميائية لذا افتى العلماء بطهارة المخدرات الجامدة كالهيروين والكوكائين.

احس الان ان مصطلح (فهم ما وراء النص) اصبح واضحاً، اقول: ظلت هذه الفكرة تراودني لمجرد البحث العلمي والتحقيق لا للتطبيق فترة لكني كنت احاول ان اقبرها في مهدها لأني لست من اهلها اولاً ولأني أرى فيها افتاءاً بالرأي وهو محرم قرآناً وسنة رغم أني كنت اعود فأٌول: انها ليست كذلك لأنها من قبيل الظهور اللفظي الذي هو حجة في اصطلاح الاصوليين لأن الظهور اللفظي لا يعني المتبادر الى الذهن من اللفظ فقط وانما هو مع مراعاة الظروف والملابسات التي تحيط بالنص ومناسبته وغير ذلك، واحياناً اقول انه ما دام لم يثبت أي شيء عليه سلباً او إيجاباً فهل يمكن الالتزام به فيما يقع في جانب الاحتياط كالمثالين الثاني والثالث اعلاه.

بيد إني لم البث الا قليلاً حتى قرأت بحثاً للسيد(1) قدس سره عنوانه:ه.

ص: 129


1- يعني الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره.

(المفهوم الاجتماعي للنص في فقه الامام الصادق عليه السلام) ابدى فيه اعجابه لما ابداه الشيخ محمد جواد مغنية مؤلف كتاب (فقه الامام جعفر الصادق عليه السلام).

من فهم لما وراء اللفظ للحديث الشريف ومراعاة كل الظروف والقرائن المرتبطة بالنص، وقام بدوره في شرح هذا النهج الجديد في البحث الفقهي، وسأحاول تلخيص بحث السيد قدس سره لنتمكن من المناقشة والمقارنة بينه وبين ما اسميناه (فهم ما وراء النص): -

للنص مدلولان: لغوي او لفظي، واجتماعي ويمكن تعريف الفهم الاجتماعي للنص بانه فهم النص في ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الافراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات اللفظية الوضعية (أي الدلالات الناتجة عن وضع الكلمات في اللغة) والدلالة الوضعية: السياقية (أي الناتجة عن سياق الحديث وطريقة التعبير) ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنص حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له، فإن الفقيه في الدرجة الاولى يحدد المعطى اللغوي واللفظي للنص ثم بعد ان يعرف معنى اللفظ يسلط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة (مناسبات الحكم والموضوع) فيظهر له من النص اشياء جديدة لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الاولى في حدود الفهم اللغوي للفظ.

ص: 130

والاستفادة من المدلولين ليس جديداً في ممارسة الفقهاء للعمل الفقهي لكن الجديد الذي عالجه الشيخ مغنية هو التمييز بين الجانبين واعطاء كل منهما ملاكه وحدوده بعد ان كانا مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور.

وهناك مثالان لتوضيح المنهج:

1) فلو دل النص على ان من حاز ماءاً من النهر او خشباً من الغابة ملكه، نفهم فيه ان كل من حاز شيئاً من الثروات الطبيعية الخام ملكه دون فرق بين الماء والخشب وغيرها، لأن مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب.

2) ومثال آخر: اذا جاءت الرواية في ثوب اصابة ماء متنجس وأمرت بغسل الثوب نعرف ان الماء المتنجس اذا اصاب شيئاً نجسه، سواء أصاب الثوب أو أي شيء آخر، لأن مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنية العرفية العامة لا تقبل ان تنجيس الماء المتنجس خاصاً بالثوب، فالثوب يعتبر في الرواية قد جاء على سبيل المثال لا التحديد.

اما المبرر للإعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النصوص فهو نفس مبدأ حجية الظهور لأن هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي لأن المتكلم بوصفه فرداً لغوياً يفهم كلامه فهماً

ص: 131

لغوياً وبوصفه فرداً اجتماعياً يفهم كلامه فهماً اجتماعياً وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم.

ويبقى شيء وهو ان الفهم الاجتماعي للنص غير القياس المحرم في مذهب اهل البيت عليهم السلام لأن تعميم الحكم في الفهم الاجتماعي - لغير ما ذكر في النص ليس على اساس القياس وانما على الارتكاز الذي يشكل قرينة على ان ما ذكر في النص وانما جاء على سبيل المثال فيكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العام والمشكلة التي تحل على هذا الضوء هي ان كثيراً من الاحكام بينت عن طريق الجواب تحل أسئلة الرواة التي تكون غالباً حالات خاصة ويكون جواب الامام عليها بالذات لكن حالاتهم تكون امثلة لغيرها من الاحكام وجواب الامام يكون عندئذ على سبيل المثال فيمكن تعميمه لتكون اقرب الى واقع الحدود المحتملة لتلك الاحكام، إنتهى ملخصاً.

ويلاحظ هنا ما يلي: -

1) في المثالين الذين ذكرهما السيد قدس سره لا يظهر الفرق واضحاً بين منهج الفقهاء في عدم التمييز بين المفهومين (اللغوي الوضعي والاجتماعي) وبين المنهج الجديد الذي عرضه الشيخ مغنية، اذ ما من فقيه يقف في هذين المثالين عند الحدود اللغوية للفظ والتعميم امر مفروغ منه (7).

ص: 132

2) ان التوسع في فهم النص قد لا يكون بداعي الارتكاز الاجتماعي العام وانما بالاستفادة من الظروف التي احاطت بالنص وتأريخه (8) ومناسبته وكذلك فان بعض اوامر الرسول صلى الله عليه و آله صدرت لكونه قائداً أعلى للدولة فأوامره ونواهيه في هذه الحالة لا ينظر (9) اليها كتلك التي تصدر منه كرسول مبلغ عن الله تعالى ومن هذا القبيل حديث الفرار من الوباء فعن الحلبي قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوباء فيكون في ناحية المصر فيتحول الرجل الى ناحية اخرى او يكون في مصر فيخرج منه الى غيره فقال: لا بأس، انما نهى رسول الله صلى الله عليه و آله عن ذلك لمكان ربيئةٍ كانت بحيال العدو فوقع فيهم الوباء فهربوا منه فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: الفار منه كالفار من الزحف كراهية ان يخلو مراكزهم (روضة الكافي، حديث 85، ص 93) فالذي يفهم هذا النص مبتوراً يعمم (10) الحكم لجميع الازمان والظروف ولا يضعه في ظرفه الخاص.

ومثله ما سار عليه كثير (11) من علمائنا بعدم ذكر اسم الامام المهدي عليه السلام لنصوص وردت في ذلك رغم ان الحكم كان لكي لا تعرف السلطة ان للعسكري عليه السلام ولداً اسمه (محمد) ويزول الحكم بانتفاء موضوعه وقد صرحت بذلك احاديث اخرى تعتبر مقيدة للأحاديث السابقة من ذلك ما روي عن ابي عبدالله

ص: 133

الصالحي قال: سالني اصحابنا بعد مضي ابي محمد عليه السلام أن أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: إن دللتهم على الاسم اذاعوه وإن عرفوا المكان دلوا عليه، (اصول الكافي، كتاب الحجة، باب: في النهي عن الاسم، حديث 2).

3) ان السيد قدس سره يدعو لادخال مناسبات الحكم والموضوع والظروف المحيطة ونحو ذلك ضمن القرائن المتصلة والمنفصلة للنص اما (فهم ما وراء النص) فنعني به الدخول الى روح النص واستكشاف حدوده أي فهم الاشارات التي يوحي بها النص وكأن النص القي عليك (12) من المعصوم مباشرة وهذا ما لا يدخل ضمن القرائن التي تعارف عليها الفقهاء والاصوليون، على اننا لا نستلم هذا الفهم مباشرة ونعتمد عليه بل نعرضه للدليل وسنجد ان الادلة تساعده بسهولة وتؤيده الملكة السليمة واقل فائدة فيه تبقى في اختصار الطريق لانه سيحصر تفكيرنا في اتجاه معين حتى تثبت صحته او بطلانه بدلاً من مواجهة النصوص والادلة بدون قاعدة سليمة يوفرها فهم النص بأبعاده الحقيقية لأن الطريق سيتشعب وتعسر المهمة وتزداد الجهود.

4) إن كلا البحثين (13) يدعوان الى كسر جمود ظاهر النص والانتقال الى كل الافاق التي يمكن ان يستوعبها النص بمراعاة عدة امور منها: مناسبات الحكم والموضوع ومنها كون الحكم

ص: 134

عاماً لا يخص المسؤول عنه وانما ذكر هذا على سبيل المثال ومنها - وهو ما نركز على الاستفادة منه - ايحاءات يشعر بها النص وغير ذلك.

وقد وجدت في الموسوعات الفقهية (14) الاستدلالية ما ينطبق على هذا الموضوع وساكتفي بذكر مثال واحد مذكور في محاضرات السيد الخوئي(1) فرغم انه قال إن مثل هذا الفهم (والذي اسماه إشعاراً) مما لا يركن اليه بحسب الصناعة (ص 12) ثم اضاف: الا انه يؤثر بمثابة يخفف عن قوة ظهور الدليل ويتقوى هذا الاشعار بعد ملاحظة الاخبار الواردة في المسألة (نقلنا كلامه بتصرف يسير) اقول: رغم ذلك الا انه استفاد من هذا الفهم ومناسبة الحكم والموضوع في المسألة التالية (ص 178) قال ما نصه: هل يختص الحكم(2) بالشراء او يعم مطلق المعاوضة كالصلح؟ او يعم مطلق الانتقال وان لم يكن معاوضة كالهبة؟؟ وجوه:

اقواها الاخير فإن مقتضى الجمود على ظاهر النص وان كان هو الاول اقتصاراً في الحكم المخالف لمقتضى القاعدة على مقدار قيام الدليل الا ان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الغاءم.

ص: 135


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الخمس، مرتضى البروجردي.
2- الحكم هو وجوب الخمس في الارض التي يشتريها الذمي من المسلم.

خصوصية الشراء بحسب الفهم العرفي، وإن الاعتبار بمطلق الانتقال من المسلم الى الذمي كيفما اتفق وان التعبير بالشراء من اجل انه الفرد الغالب من أسباب النقل لندرة غيره كما لا يخفى، فلا خصوصية له بوجه، ولا يكاد يفهم العرف فرقاً بين ان يكون النقل بلفظ بعت واشتريت او صالحت او وهبت او الشرط في ضمن العقد ونحو ذلك (واضاف، ولعل السر في تشريعه هو التقليل من الانتقال المذكور خارجاً كيلا يتسلط الكفار على اراضي المسلمين ولا تقوى كلمة الكفر وتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ففرض عليه الخمس لكي تقل رغبته في الشراء لتضرره في ذلك غالباً فانه بحسب النتيجة قد اشترى اربعة اخماس الارض بتمام قيمتها).

ص: 136

جواب الشهيد الصدر قدس سره

اقول من باب التمهيد: إنك يبدو وتحمل نفسك ما لا تطيق او لا يطيق غيرك على الاقل، فعندك: الثقافة العامة، والجهاد الأصغر والجهاد الاكبر.

والعلوم الظاهرية الشرعية من الفقه والاصول والتفسير والرجال وغيرها، مضافاً الى الاهتمام بأمور المسلمين والاهتمام بأمور العائلة وغيره مما لا اعرفه، مع العلم ان كل واحد من هذا مع التعمق فيه يقتضي التفرغ له ودفع العمر كله في سبيله..

فأرحم نفسك رحمك الله سبحانه.

وهو بالرغم من ان أكثره بل كله راجح ومطلوب، الا ان الافضل لك هو هذه النقطة التي التفت اليها وحرصت عليها وهو الجهاد الاكبر، وهي فترة قد تطول وقد تقصر، والامل في الله سبحانه وحسن الظن به ان يتداركك بالرحمة والرضوان في اقرب وقت ويوصلك الى النتائج في اسهل طريق، وإن كان ذلك كله اليه سبحانه وقد يحصل ان بعض النتائج لا تحصل الا بعد عدة سنوات كخمسة عشر او عشرين او اكثر، الا انه لا ينبغي اليأس من رحمة الله والقنوط من فضله وسرعة عطائه.

مع العلم ان يد الرحمة والعون ممدودة لكل تائب ومنيب.

ص: 137

ومحل المقصود انها على أي حال ليست فترة مؤبدة بل يصل الفرد بعدها الى مرحلة لا تحتاج الى كلفة كثيرة، بعد ان يكون قد وصل الى نتائج مهمة وواضحة.

وعندئذ كما اشرنا قبل فترة، يصح الالتفات الى الجهاد الأصغر وغيره.

إذن فمثل هذا البحث الذي هو راجع الى مباحث الالفاظ من علم اصول الفقه لا شك انه مستأنف بالنسبة الى اهدافك الكبرى الحقيقية ومبعد لك عنها الى اجل مسمى.

هذا مضافاً الى ان الأمر موكول فيه كله الى علم الاصول ويبحث هناك بتمامه وتوضع فيه التحقيقات والنظريات المتكاملة ولا مجال في هذه العجالة استيعاب ذلك بطبيعة الحال، وهذا مانع آخر عن الجواب ومع ذلك سوف اجيب طلباً لرضاء الله ورضاك في حدود الميسور.

(1) قول سماحة الشيخ (كما في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّنا...)

هذه المشيئة بحسب ظاهر السياق انها متعلقة بنفس الشيء الذي كانوا عنه وهو العود في ملة الكفر، وهذا واضح.

الا انه يمكن تقسيم هذه المشيئة الى احتمالين: مشيئة تكوينية ومشيئة تشريعية، وكلاهما على أي حال منوطة بالشرط وواقعة في سياقه فلا تدل الجملة على انها موجودة فعلاً بل هي غير

ص: 138

موجودة بالضرورة، و - كما قالوا - ان الشرطية تصدق مع كذب طرفيها، وهذا مما يهون الخطب تماماً في كلام الانبياء بل يجعل القضية طبيعية تماماً.. ففكر.

فإن فهمنا منها الارادة التكوينية، كان معنى الاية ما نقلته انت عن البعض ومضمونه: اننا لن نعود الى ملتكم الا اذا شاء الله تعالى ذلك تكويناً علينا بأن كان ذلك موجوداً في سابق علمه وقضائه، وهذا لا يعني انه تعالى شأنه قد شاء ذلك فعلاً كما قلنا.

وإن فهمنا منها الارادة التشريعية، كان معنى الاية: اننا لن نعود الى ملتكم الا اذا أمرنا الله سبحانه بذلك وشرعه لنا، ونحن نطيعه في كل ما يأمر على كل حال، وهذا ايضاً كما قلنا لا يدل على انه سبحانه قد امر بذلك فعلاً.

فليس هناك أي الفات للنظر في مضمون الاية.

(2) قول سماحته: (وهو لا يعود الى خلل في ملكاتهم الاجتهادية وانما بسبب الالتزام بالاحتياط أحياناً أو الجمود على ظاهر النَص والتحايل عليه وعدم الخروج الى ما وراء النص...)

هذه العناوين: (عدم الخروج الى ما وراء النص) (عدم التعامل مع النص تعاملاً روحياً) تبدو عناوين مجازية ليس لها تركيز بالمرة، مع العلم ان التدقيق العلمي يقتضي خلاف ذلك.

ص: 139

ويكفينا في علم الاصول في فهم الكتاب والسنة اعتبار الظهور حجة اذا ساعدت على إيجاده العوامل الاتية: الوضع اللغوي، القرائن اللفظية المتصلة.

القرائن اللفظية المنفصلة كالمقيد والمخصص، القرائن الحالية التي تحف بالنص بما فيها لغة عصر الصدور، القرائن المفهومة من مستوى السامع وزمانه ومكانه ونحو ذلك، فإن تم الظهور بعد كل ذلك فلا إشكال في حجيته.

فإن كان المقصود مما وراء النص والتعامل الروحي معه هو ذلك فهو المطلوب، والا كان خارجاً عن الصدد تماماً.

نعم، يمكن ان تكون هناك استنتاجات خارجة عن المستوى الفقهي والحجية الشرعية للفظ.. كما في بعض بحوث التفسير والاخلاق والاجتماعيات، ونحوها قد تحصل للفرد ذهنياً نتيجة للتعامل (الروحي) مع النص، كما تعبرون الا ان هذا لا ربط له بالفقه اصلاً، واذا حصل في الفقه احياناً فإنه لا يكون حجة الا نادراً وقد حذر مشهور الفقهاء من ذلك وامثاله وقالوا: انه يقتضي تأسيس فقه جديد، او الذهاب الى خلاف الاجماع احياناً.

ص: 140

(3) قول سماحته: (فيظهر ان حكم التحريم يجب أن يُعاد النظر فيه حيث أصبح الهدف من تجسيم الأرواح أمور أخرى...)

هذا مرفوض فقهياً لأن النص الناهي عن التماثيل يحتوي على ما يسمى (بالاطلاق الازماني) يعني شموله لكل زمان حتى زماننا هذا، ولو كان معللآ بالعلة التي في كلامكم لأمكن التجاوز عن الحكم مع زوال العلة، وهو امر صحيح اصولياً، الا انه غير معلل لفظياً وانما العلة المذكورة امر ذهني مفروض على النص من الخارج.

(4) قول سماحته: (وهو تحايل فظيع على النص...).

اذا كان هذا العمل لمجرد التحايل والتوصل الى تمرير المعاملة شرعاً.. فأنا شخصياً مقتنع بحرمتها وبقائها على صفة الربوية، ولا اوافق السيد الخوئي في ذلك مع احترامي له، واما لو كان هذا العمل مما هو محتاج اليه سلفاً كما لو احتاج فعلاً الى حنطة ومنديل وكانت الحاجة عقلائية وموجودة في كلا الطرفين وكان قصد المتبايعين التوصل الى نقل الملكية حقيقة، وانما يكون ذلك في معاملة واحدة للسهولة مثلاً او العجلة في الانجاز ونحوها، فهذا مما لا إشكال فيه على الظاهر وليس فيه تحايلاً على النص او جرأة على الله سبحانه، ما رأيك؟

ص: 141

(5) قول سماحته: (وعندئذ يرى أنه محتاج للقميص لانه استعمله وهو فهم خاطئ للزيادة عن المؤنة).

هذا ايضاً، في حدود فهمي يشبه المسألة السابقة، فإن التصرف القليل إن كان حاصلاً لمجرد التهرب من الخمس فإنه لا يسقطه ولا يدخل هذا الشيء - كالثوب مثلاً - في المؤونة، خلافاً لبعض الفقهاء الذين افتوا بذلك.

ولكن اذا كان هذا التصرف القليل محتاجاً اليه حقيقة في بعض الظروف التي يمر بها الانسان فهذا معناه ان الشيء - كالثوب - قد دخل فعلاً في الحاجة والمؤونة وانه قد سقط خمسه، والأمر في ذلك في اللباس والكتب وسائر الاثاث على حد سواء.

(6) قول سماحته: (وبنفس المنظار نفهم ان نجاسة الخمر والمُسكر يقصد به نجاسة الشراب ونحوه...)

بالنسبة الى المسكر فالخمر على عمومها وكل سائل او جامد يحتوي على الكحول بنسبة غير مستهلكة (اكثر من 1,5%) فانه يحرم تناوله، الا ان شرب الخمر شيء وطهارتها او نجاستها شيء آخر، فإن الجامد من الكحول كله طاهر اذا كان جامداً من اصله، كما ان كل السوائل المحتوية على الكحول طاهرة ما عدا المستخرج من العنب فإنها عين النجاسة مضافاً الى حرمة شربها، ومن هنا قلنا بطهارة الاسبرتو والكولونيا وغيرها اذا كانت

ص: 142

مستخرجة من غير العنب كما هو الغالب، بل يكفي الشك في مصدرها في جريان اصالة الطهارة فيها ولا يجب السؤال عنها.

أما مسألة: التخدير فهي غير المسكر والمخدرات غير المسكرات، ومن هنا لم يقل احد في كونها نجسة بل ولا محرمة التناول اذا لم تكن مفوتة عن الواجبات اختياراً سواء كانت سائلة او جامدة او من قسم التدخين او السعوط او غيره - نعم قد تحرم مضافاً الى صورة تفويتها للواجبات كالصلاة، قد تحرم للضرر اذا كان معتداً به ومنسوباً اليها عرفاً، كما تحرم للضرر البليغ وان كان يوجد في المدى البعيد بسببها.

(7) قول سماحته: (إذ ما من فقيه يقف في هذين المثالين عند الحدود اللغوية للفظ والتعميم أمر مفروغ منه...)

هذا معناه ان التعميم في الفهم الاجتماعي او مناسبات الحكم والموضوع امر مفروغ عنه او بتعبير آخر، انها تعمل لا شعورياً في اذهان الفقهاء وتلقائياً، وانما الفضل لعلم الاصول الحديث في انه ميز هذه القرينة العامة عن سائر التفاصيل.

(8) قول سماحته: (ان التوسع في فهم النص قد لا يكون بداعي الارتكاز الاجتماعي العام وانما بالاستفادة من الظروف التي أحاطت بالنص وتاريخه...)

هذا صحيح اجمالاً ولا ينافي صحة التعميم بالفهم الاجتماعي، فإن كلا الامرين قد يكون موجباً للتعميم فعلاً، ولا يشكل هذا اشكالاً على ذلك التعميم بأي حال.

ص: 143

(9) قول سماحته: (فان بعض أوامر الرسول صلى الله عليه و آله صدرت لكونه قائداً أعلى للدولة فأوامره ونواهيه في هذه الحالة لا ينظر إليها كتلك التي تصدر منه كرسول مُبلّغ من الله)

الأصل في ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه و آله من توجيهات: أنها مبلغة عن الله سبحانه (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) فمع الشك نقول انها مبلغة عن الله تعالى وليست للولاية العامة، بل وحتى لو علمنا انها للولاية العامة فإنها لا تزول بوفاته، بل اذا شككنا ببقائها فان الواجب هو امتثالها وسريان مفعولها، ما لم يدل دليل معين على الانتهاء كالرواية المشار اليها في كلامكم.

(10) قول سماحته: (فالذي يفهم هذا النص مبتوراً يعمم الحكم لجميع الأزمان والظروف).

ينبغي ان يكون التعميم مع وجود تشابه مفهوم عرفاً والا كان قياساً محرماً.

(11) قول سماحته: (ومثله ما سار عليه كثير من علمائنا...)

هذا لا يفتي به احد فعلاً، ولا اعلم ان شخصاً بعد العلامة والمحقق افتى به، نعم بعض العلماء المتوسطين احتاط له وجوباً.

(12) قول سماحته: (أي فهم الاشارات التي يوحي بها النص وكأن النص القي عليك من المعصوم مباشرة...)

هذا غير ممكن بالمعنى الحرفي لأنه على خلاف واقع النص، ويستلزم عدة محاذير منها: افتراض صدور النص في هذا العصر

ص: 144

لا في عصره، ومنها: افتراض أن الامام قد اخذ بنظر الاعتبار الارتكاز المتشرعي لنا لا للراوي المخاطب له، ونحو ذلك مما هو غير مطابق للواقع.

فالصحيح هو وضع النص في الموضع الحقيقي له من زوايا: السائل والقائل والزمان والمكان والارتكازات العرفية اللغوية يومئذ، والبناءات العقلائية التي كانت ايضاً، والافكار المعادية التي كانت سائدة - لو كان تأثيراً في النص احياناً - وهذا كله كاف جداً للدخول الى (روح النص) واستنطاقه الكامل.

وعلى أي حال فالأمر عندك إن كان اكثر من ذلك فانا لم افهمه او لم اوافق عليه لأنه - على اقل تقدير - لا حاجة اليه بعد الذي عرضته بخدمتكم.

(13) قول سماحته: (ان كلا البحثين يدعوان الى كسر جمود ظاهر النص)

هذه الفقرة الى رأس السطر صحيح تماماً ولا يختلف عما قلناه اختلافاً جوهرياً.

(14) قول سماحته: (وقد وجدت في الموسوعات الفقهية الاستلالية ما ينطبق على هذا الموضوع)

أرى همتي ضعيفة في مناقشة الاستدلالات في الفقرات التالية لأن المطلوب (الاصولي) اصبح واضحاً نسبياً وهو الأمر الرئيسي المستهدف في بحثك، فلا شأن لي بالاستدلالات الفقهية فعلاً.

ص: 145

اقول: هنا اود التعليق في نهاية كلامي على ما ذكرته انت في نهاية كلامك بعد مبحث (من عرف نفسه... الخ).

أخي في الله ومولاي: انت تعرف ان الثقل الوحيد الذي اشعر به تجاهك هو الخوف عليك من التحميل الزائد عليك، وأما لو تجاوزنا ذلك او وفقني الله سبحانه الى تنفيذ هذه المهمة، فأنا اول المستفيدين من اسئلتك أخروياً مضافاً الى الفوائد الدنيوية:

1 - هي قضاء حاجة المحتاج ومن كتم علمه فهو شيطان أخرس.

2 - قد يحصل ان التفت الى حقائق جديدة علي من كلامك.

3 - المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق.

4 - ادخال السرور على قلب المؤمن.

الى آخر القائمة الطويلة المباركة التي برحمة الله سبحانه تنفذ ولولا ذنوبي وعيوبي لكانت ناجزة وصحيحة، فلماذا ثم لماذا يكون ذلك ثقيلاً علي وهل أنا - باصطلاح الناس - الا رجل دين وظيفتي في المجتمع هو ذلك ونحوه والاكثر منه والاقل، واوقاتي، في ظروف التقية هذه، وافرة نسبياً تسع هذه الاسئلة وغيرها.

واوصيك في نهاية المطاف بما يسمى (حفظ الظاهر) فإن كثيراً من الناس بل اعلى نسبة منهم مبغضون للزهد ونحوه وينبذونه باوصاف عديدة ادناها: التصوف والتحنث.... فحاول، حبيبي ان لا يفهم احد ممن تحتمل انت منه ذلك التزامك بالسلوك

ص: 146

الصالح الحقيقي، حتى ولو كان من افراد عائلتك او اقربائك او اصدقائك، وكن في (تقية) كاملة من هذه الناحية جزاك الله خير جزاء المحسنين.

وها أنذا اودعكم الله سبحانه مع زيادة الحرص على طول اللقاء هذا، ولكن المقادير يجب ان تجري كما أراد لها جل جلاله، ولتكن بعونه وعينه موفقاً في كل مسعى وهدف تسعى اليه، وابتهل اليه جل جلاله ان لا يعامل هذا المجتمع البائس كما نحن اهله بل يعاملنا كما هو اهله إنه اهل التقوى والمغفرة وهو الشكور الحليم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين.

ان استطعت أن تعيد قراءة هذه الأوراق مرة أخرى فهو الأحجى...

ص: 147

البحث الخامس مجال الإعجاز في القرآن

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

اختلف الباحثون في اعجاز القرآن أيما اختلاف وتعارضوا فيما بينهم شديد المعارضة وهذا الاختلاف في تحديد مجال اعجاز القرآن وهل هو في خصوص نظمه وبيانه أي بلاغته فحسب ام انه - أي القرآن - عام الاعجاز ويتعدى اسلوبه البلاغي الى وجوه اعجازية اخرى وقد اقام كل منهم ادلة على قوله و اتهم انصار كل فريق انصار الفريق بالخطأ والانحراف عن الصواب وسنذكر ادناه مؤاخذات كل منهما على الاخر:

أ - القائلون بالعموم يتهمون الاخرين بالتصادم مع آية 88 من سورة الاسراء الظاهرة بعموم التحدي، والاية هي قوله تعالى [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] .

ب - اما الفريق الاخر فيؤاخذ على الاول ما يلي:

1) ان التحدي بقليل القرآن وكثيرة على حد سواء وقليل القرآن احياناً - خصوصاً النازل منه اول البعثة - لا يحتوي على أي من وجوه الاعجاز التي ذكروها ومع ذلك فان التحدي قائم

ص: 148

به كغيره وهذا يعني ان هذه الوجوه ليست هي اعجاز القرآن المطلوب كدليل على صدق النبوة.

2) ان النبي صلى الله عليه و آله عندما كان يعرض نفسه على الناس كان يطلب منهم الايمان به وبرسالته بدليل واحد هو هذا القرآن الذي يقرأه لا ما يحويه من معارف وغيب أو أي وجه آخر من وجوه الاعجاز التي ذكروها.

3) إن وجوه الاعجاز التي ذكروها (عدا اسلوبه البلاغي) توجد كلاً او بعضاً في كتب الله الاخرى كالتوراة والانجيل ومع ذلك لم يقل احدها انها معجزة بمعنى الاعجاز المعروف للقرآن.

4) إن من وجوه الاعجاز ما لا تظهر الا بعد مدة قد تطول وقد تقصر كأخبار الغيب واسرار الخليقة ودقة تنظيماته وتشريعاته فهل ينتظر الناس تحققها ليؤمنوا بهذا الاعجاز ام ماذا؟

5) ما يستفاد من رواية ابن السكيت عن الامام الرضا عليه السلام (توجد في كتاب البيان للسيد الخوئي) حيث سأل الامام بما مضمونه لماذا بعث موسى عليه السلام بالسحر وعيسى عليه السلام بالطب ونبينا محمد صلى الله عليه و آله بالكلام والخطب فظاهر سؤال ابن السكيت وتقرير الامام عليه السلام له على سؤاله ان المتبادر للذهن من اعجاز القرآن انما هو في اسلوبه البلاغي.

ص: 149

والسؤال هو: ما هو رأيكم بهذا الخلاف؟ ولمن من الفريقين تمنحون تأييدكم؟ ولماذا؟ وهل يمكن استخلاص رأي يتفادى الاشكالات وينسجم مع الادلة؟ وما هي ردودكم واجوبتكم على المؤاخذات اعلاه؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 150

جواب السيد الشهيد الصدر قدس سره

بسم الله الرحمن الرحيم

وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعتقد ان القرآن الكريم مهما جاء به من شيء او فكرة فانه يأتي بها في اقصى ما يمكن في (عالم الامكان) من اشكالها وعمقها وسعتها واعجازها، ليس في البلاغة فقط بل في كل شيء.

كل ما في الموضوع انه كما ان افراد الانسان: يختلفون في الصفات مع اشتراكهم جميعاً فيها اجمالاً.. فبعضهم يتميز بالذكاء وبعضهم بالشجاعة وبعضهم بالشبق وبعضهم بالصبر وهكذا.. كذلك الايات القرآنية يتميز بعضها بأن الاظهر فيها تارة هذه الصفة واخرى تلك الصفة وثالثة غيرها وهكذا مع العلم:

1 - ان بعض الصفات تكون سالبة بانتفاء الموضوع في بعض الايات لانها خارجة عن مجالها بالمرة، فتكون الصفات الاعجازية هي في خصوص الميادين التي تطرقها بطبيعة الحال.

2 - ان بعض الصفات في عدد من الايات لا يمكن ان يدرك الا بشروط معينة: منها: عمق الذكاء ومنها عمق العلم ومنها عمق الايمان ومنها المرور بموضوع حياتي معين وهكذا: كان

ص: 151

فيها كلها او عدد منها فلا يجب ان نتعرف عليها جميعاً لاننا قد لا نكون حاصلين على شروط فهمه.

ولكن ما عرفناه من وجوه الاعجاز اكثر من الكافي في اثبات صدق النبوة وصدق القرآن الكريم نفسه ولعل اشمل واوضح اشكال الاعجاز هو الاعجاز البلاغي، بالنسبة الى الجمهور العام للبشر ومن هنا كان التركيز عليه في القرآن والسنة عليه اكثر.

واما الجواب على الوجوه المذكورة:

أ - قوله تعالى [عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ] وغيرها شامل لكل انواع الاعجاز لا لخصوص الاعجاز البلاغي كما هو واضح، فيكون الحق مع المستشكل هنا، بل لا يكون (مِثْلاً) للقرآن الا اذا كان حاوياً على مجموع (صفاته الاعجازية) لا خصوص الاعجاز البلاغي.

وانما تخيلوا ان الاعجاز البلاغي هو الصفة الرئيسية الوحيدة فكان (مثل) القرآن ما كان معجزاً بلاغياً بالخصوص وهو ليس بصحيح، فلو كان الكلام معجزاً بلاغياً فقط لم يكن مثلاً للقرآن الكريم.

1) هذا الوجه الاول اتضح جوابه مما سبق، فانه ليست كل الايات متساوية ولا يتساوى فهمها كما قلنا، فقولهم (لا يحتوي على أي من وجوه الاعجاز) موافق لفهم المتكلم به وهو على ما يبدو قاصر عن فهم القرآن الكريم حق فهمه.

ص: 152

2) لا دليل على اختصاص معجزات النبي صلى الله عليه و آله بالقرآن الكريم، بل الظاهر ان النبي صلى الله عليه و آله حين كان يعرض نفسه على الناس كان: اولاً: يستعمل قابلياته الشخصية في الاقناع وثانياً: الايات الاخرى غير القرآن احياناً وثالثاً: آيات القرآن نفسه مع الاعتماد على الجهات النفسية للسامعين بالمقدار الذي كان لهم من مستوى التفكير، وكان هذا كافياً في اتجاههم الى احترام القرآن وإيمانهم به.

3) لم يثبت وجود أي وجه من وجوه الاعجاز في كتب العهود السابقة سواء منها الموجود باليد او التالف، ولهذا لم يقل احد بأنها اعجازية، ومن الواضح ان الانبياء السابقين لم يكونوا يعتمدوا في معجزاتهم عليها بل على المعجزات الاخرى المروي قسم منها في القرآن الكريم نفسه.

وانما هذه الكتب في واقعها تتكفل مهمتين رئيسيتين:

اولاً: التشريع العام الذي يكفل تنظيم المجتمع وهذا هو الاغلب في التوراة.

ثانياً: التوجيه الى الله تبارك وتعالى والخشوع له وتكريس الحياة من اجل رضاه. وهذا هو الاغلب في الانجيل، مع وجود كلتا الصفتين في كلا الكتابين.

ص: 153

4) وجوه الاعجاز التي تظهر في خلال الزمان الطويل.. خاصة بالاجيال التي تطلع عليها وما بعدها.. واما الاجيال السابقة فحسبها ما تعرفه من وجوه الاعجاز وهو كاف كما اشرنا.

5) رواية ابن السكيت تركز على الجانب البلاغي باعتباره اعم واشمل في فهم البشر، كما نفهم واشرنا اليه، وليس فيها دلاله على اختصاص الاعجاز به وانه لا يوجد غيره.

و آخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

ص: 154

البحث السادس تأريخ نزول السور القرآنية

اشارة

سنتناول مناقشة الموضوع من خلال تاريخ نزول احدى السور القرآنية وهي سورة المائدة ثم نذكر استنتاجاتنا، ومن الله التوفيق والتسديد:

اشتهر بين المفسرين والمشتغلين بعلوم القرآن ان سورة المائدة هي آخر سور القرآن نزولاً، وانها نزلت جملة واحدة بل يرى السيد الطباطبائي قدس سره (الميزان: 6/6) ان ذلك من المتسالم عليه، اما السيد الخوئي قدس سره فقد اورد في كتابه البيان (361-362) روايات من طرق الفريقين لتأييد ذلك، لكن رأيهم هذا لا يخلو من إشكال:

1 - ان الشهرة هذه معارضة لشهرة كون سورة براءة نزلت بعد المائدة، وبعد براءة سورة النصر وهي آخر السور نزولاً وهذا هو المثبت في المصحف الشريف.

2 - مجيء ذكر آية من آياتها وهي قوله تعالى في الآية (24) من السورة حكاية عن موسى عليه السلام وقومه: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ) .

في كلمة للمقداد بن الاسود الكندي لرسول الله صلى الله عليه و آله حين شاور المسلمين في الخروج الى قتال قريش في بدر (البيان: 55/1) فيظهر ان هذه الاية نازلة قبل معركة بدر،

ص: 155

وقد التفت الى هذا بعض المفسرين كسيد قطب (في ظلال القرآن: 634/2) والطباطبائي (الميزان: 286/5) وقد وعد الأخير ان يشير الى ذلك في البحث الروائي الملحق بتفسير الاية ولم يف بوعده.

3 - سياق بعض الايات التي تخاطب اهل الكتاب يظهر ان لهم يومذاك بقية من قوة وانهم متغلغلون بين صفوف المسلمين وزمان هذا في النصف الاول من مدة مكوث النبي صلى الله عليه و آله في المدينة.

4 - ان الروايات التي اعتمد عليها القائلون بهذا الرأي لا حجية فيها، فهي إما غير قطعية الدلالة كما جاء في بعضها ان سورة المائدة من آخر سور القرآن نزولاً فوجود (مَن) ينفي قطعية الدلالة والى هذا اشار الالوسي (روح المعاني: 47/6) وفي روايات اخرى ان حلال سورة المائدة حلال الى يوم القيامة وكذا حرامها ولا دلالة في هذا على المطلوب، او انها تعبر عن اراء اصحابها ولا حجة في اقوالهم. ولعل الذي اوقع هؤلاء الباحثين في هذا الخطأ احد امور محتملة:

1 - إن سورة المائدة ضمت آخر آيات الاحكام نزولاً كما ربما يدل على ذلك عدم نسخ احكامها فعمم هؤلاء الباحثون القول على السورة كلها.

ص: 156

2 - انها ضمت آخر آية نزلت (على قول) كما ورد ان آخر آية نزلت هي آية اكمال الدين واتمام النعمة وهي آية (3) من السورة (دراسات في القرآن الكريم: 186).

3 - إن مفتتح السورة هو آخر مفتتحات السور نزولاً، ولما كان تأريخ نزول السور نزولاً ولكن خفي عليهم ان المقصود باوائل السور اول آياتها نزولاً لا مفتتحاتها.

4 - إن جل آياتها نزلت اواخر حياة الرسول صلى الله عليه و آله فقال الباحثون انها آخر سورة نزلت تسامحاً مع علمهم بأن تأريخ نزول السورة يحدد بتأريخ نزول اوائل آياتها.

والخلاصة: ان السورة لم تنزل جملة بشهادة سياقها وان بعض آياتها كانت من اوائل ما نزل من القرآن في المدينة كما ان بعضاً من آياتها كان من اواخر ما نزل كآية اكمال الدين واتمام النعمة وآية التبليغ (آية 67) كما ورد في الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في نصب امير المؤمنين عليه السلام خليفة للرسول صلى الله عليه و آله في غدير خم بعد حجة الوداع.

والرأي الذي تختاره في تحديد تاريخ نزول وترتيب السور القرآنية في ضوء تاريخ نزول آياتها ان الذي يحدد ذلك - واقعاً لا نظرياً في عرف المفسرين والمشتغلين بعلوم القرآن - تاريخ نزول مجموعة الآيات التي تشكل جسم السورة وتكشف عن غرضها الرئيسي، وهم وان يصرحوا بذلك الا ان الواقع يؤكده كما ظهر ذلك من

ص: 157

مناقشة تاريخ نزول سورة المائدة، وهذه النظرية تخلصنا من الاصطدام بعدة امور:

1 - عدم انسجام التعريف الموضوع مع الواقع (كما في سورة المائدة) اذ لو كان تاريخ نزول السور يحدد بنزول آياتها لكانت السورة من اوائل السور النازلة في المدينة لنزول بعض آياتها قبل معركة بدر.

2 - ان هناك سوراً مدنية فيها آيات مكية والمفروض ان مثل هذا لا يمكن حصوله في ضوء التعريف المعروض لأن وجود آيات مكية يعني انها اسبق نزولاً من بقية الايات المدنية فيجب ان تكون السور مكية ولا يمكن حل الاشكال الا في ضوء الرأي الذي اخترناه باعتبار ان هذه الايات متفرقة ومتناثرة لا تشكل جسم السورة الرئيسي.

3 - لو وجدت سورة ذات مئة آية مثلاً، إثنان منها مكية والبقية مدنية فحسب التعريف المعروض يجب ان تكون السورة مكية ولم نجد احداً يقول هذا.

واخيراً نستنتج ان الفوائد الرسالية في معرفة المكي والمدني انما هي لترتيب الايات وتأريخها لا للسور، ولا فائدة في معرفة ترتيب السور الا اذا كان نزولها جملة واحدة، لأن ترتيب السور او معرفة مكيتها ومدنيتها لا تعني ابداً كون الايات كذلك وانما الفائدة - كما قلنا - في معرفة ترتيب الايات وتاريخها والله العالم.

ص: 158

جواب الشهيد الصدر قدس سره

مسألة ترتيب النزول ومكانه وزمانه فهو بحث لا أؤمن به.

فهو بحث يضر اكثر مما ينفع ولا حاجة اليه، ولا دليل عليه أي ان كثيراً مما ذكروه بهذا الصدد ضعيف السند او ضعيف المستند، وحسبنا من كل النواحي ان القرآن الكريم قد تلقيناه بالضرورة بصورته الحالية عن الأئمة المعصومين عليهم السلام وتشمله السنة القطعية بالصحة، سواء كان في واقع النزول هكذا او بشكل آخر، وسواء كان هناك (مصحف اكبر منه عند علي عليه السلام) ام لم يكن.

نعم، قد يصدق نادراً في بعض الآيات ان يرد دليل معتبر على زمان النزول او مكانه او سببه، من زاوية كونه صالحاً للقرينة على مضمون الآية، فهذا هو مورد النفع الوحيد فيما أرى بنظري القاصر المقصر.

ومن هذه الناحية فمن الأرجح ان تتفضلوا بقبول اعتذاري عن الافاضة في هذا الموضوع ولكم الشكر الجزيل سلفاً.

ص: 159

البحث السابع الاجتهاد المقيَّد

اشارة

ان الطلبة الذين يصلون الى مستوى عالٍ من الفضيلة أي بعد انهاء السطوح العالية بجدارة وبذلك يمتلكون المقدرة على النظر في استدلالات اساتذتهم من المجتهدين وتقييمها ومعرفة الاقوى منها (بدليل ارجاع الناس اليهم في تحديد الأعلم وجعلهم اهل الخبرة) ويكون على درجة من الورع والنزاهة والتجرد عن الهوى فيثمَّن هؤلاء بإعطائهم شهادة فوق التقليد المطلق ودون الاجتهاد المطلق سميناها الاجتهاد المقيَّد لأنها قد جمعت الوصفين، وذلك بأن يتاح لمثل هؤلاء الفرصة في النظر في كل مسألة والأخذ بقول صاحب الدليل الأقوى من بين محتملي الاعلمية ولا يتقيدون برأي فقيه واحد فهو نحو من انحاء الاجتهاد والنظر في الأدلة لكن لا مباشرة وانما في حدود استدلالات الفقهاء محتملي الأعلمية أي الذين قامت حجة شرعية على براءة الذمة بالرجوع اليهم، وبهذا الاعتبار هم مقيّدون مقابل المجتهد المطلق الذي يستنبط الحكم من مصادره الاصلية وهذا ما لم يصلوا اليه وبالمقابل فهُم ليسوا كالعامّي المطلق الذي يأخذ بفتوى الفقيه من دون نظر.

وهي مرتبة علمية تضاهي مرتبة المحتاط المذكورة في الرسائل العملية، إلا ان الاحتياط مرتبة (عملية) وليست علمية حيث

ص: 160

يستطيع العامي المطلق أن يكون محتاطاً في مسائل كثيرة إلا تلك التي يحتاج الاحتياط فيها الى دقة نظر وهي قليلة.

اما الفكرة المعروضة فهي مرتبة (علمية) تناسب الدرجة الفاضلة التي وصل اليها الطالب، كما انها تضمن تقليد الأعلم (النوعي) أي في كل مسألة وليس الاعلم (الشخصي) الذي يمكن أن لا يكون أعلماً في كل المسائل خصوصاً تلك الراجعة الى تنقيح الموضوع فيكون التباين واسعاً بين قدرة الفقهاء وسعة اطلاعهم وثقافتهم العامة، اما المسائل الراجعة الى قواعد الفن خاصة فيمكن ان يقال أن الاعلم الشخصي هو الأعلم النوعي عادة.

وبذلك تكون هذه الفكرة أوفق بالقواعد وأدعى للاطمئنان وأنمى للمَلكة لدى مثل هؤلاء الطلبة ولا تدخل في دائرة تبعيض التقليد بقسمه المشكل.

ص: 161

جواب الشهيد الصدر قدس سره

بسمه تعالى... وبه نستعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

فإن هذا البحث محترم ودال على ان كاتبه حاول ان يتفكر ويتعمق كما ينبغي للحقائق ان تقتنص وكما ينبغي للعلم ان يدقق، وان كان فيه شيء من المناقشات فإنما هي مناقشة المفكرين، كثر الله من امثالك.

ولكن ينبغي الالماع الى فكرة اساسية تشمل كل احد وقد يغفل عنها الكثيرون، وإن الذكرى تنفع المؤمنين، وهي ان مسلك علمائنا واسلافنا قدس الله اسرارهم على وجه العموم، مهما كانت فيه من المناقشات الجانبية، فانه قد اسس وتعب عليه آلاف المفكرين وضحى في سبيله الالاف من الشهداء والصالحين، من اجل حفظ الاسلام والايمان وتفاصيل الشريعة والعقيدة، مضافاً الى إمكان نشرها وتوسيعها جهد الامكان، وقد اثبت ذلك المسلك جدارته ورجاحته خلال الالف سنة الماضية واثبت انه كفيل - بعناية الله سبحانه - ان يقوم بمهمته خير قيام بالرغم مما يدهم المسلمين والمؤمنين في كل زمان من البلاء والمؤامرات والمصاعب.

ص: 162

وان ادل دليل على نجاحه هو بقاء الدين بتفاصيله العملية والمهمة حياً قائماً في اذهان الكثيرين من دون ريب ولا نقص، وهذا مصداق لقوله تعالى [إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ] مع العلم ان الافكار المعادية مما هو مبرمج ومدقق اكثر مما يعد ويحصى الا ان الدين لا يزداد الا عمقاً ورجاحة.

فاذا كان هذا ناتجاً من المسلك العام لعلمائنا ومفكرينا فينبغي على الفرد ان يعيد النظر اكثر من مرة اذا اراد ان يغير(1) ذلك المنهج او يفرع عليه او يناقش فيه، اذ قد تؤدي المناقشة من حيث لا يعلم الفرد الى نتائج على خلاف النتائج التي جناها المسلك السابق الذي اصبح هدفاً للمناقشة فنكون مثل ذلك الغراب الذي حاول ان يقلد مشية الطاووس فلم يفلح فاراد ان يرجع الى مشية نفسه فوجد انه قد نسيها فخسر كلتا المشيتين.

وهذا لا يعني بحال ان المناقشات لا يمكن سماعها او ان المسلك السابق غير قابل للتعديل، ولكن ينبغي للفرد ان يأخذ عبرة ممن سبق ممن حاول ان يناقش ويجدد كالشيخ محمد عبدة وابي الاعلى المودودي فمع احترامي لافكارهم الا انه لم يبق منهم الا ما كانا.

ص: 163


1- أقول: ليس هذا المشروع تغييراً في المنهج وإنما هو إضافة تحذف بكل سهولة إذا علم عدم جدواها.

ضمن الخط العام لعلماء المسلمين واما التفاصيل التي جددوها فهي متقوقعة في منطقة او منسية او مجهولة وتكاد ان تندثر.

وإنما التجديد المحتمل بقاؤه والمحرزة صحته هو ان يبقى اتجاهه صامداً لفترة طويلة، وماراً (بالتمحيص) ضمن مئات او الاف من الافكار والمفكرين في اكثر من جيل او عدة اجيال، فيكون (اللب) المسلم صحته في هذا الاتجاه صحيحاً، واما التفاصيل فتبقى - رغم ذلك - قابلة للمناقشة.

هذه شقشقة (احتياطية) هدرت ثم قرت.

وهذا البحث، حسب ما افهم، اكثر افكاره صحيحة او تكاد تصح.

ص: 164

ملحق الكتاب

كلمات للشهيد الصدر في تربية الدين للنفس والمجتمع

بحث يتضمن الأفكار التالية:

1 - أقسام التربية الدينية.

2 - العمل الاجتماعي و الحركي لا يكون ذا قيمة اذا تجرّد عن تهذيب النفس.

3 - المرأة و العمل الاجتماعي الاسلامي.

4 - أسف الشهيد الصدر الأول قدس سره رائد الحركة الاسلامية انه لم يكمل تربية المجتمع بتهذيب النفس.

ملحق الكتاب

كلمات للشهيد الصدر في تربية الدين للنفس والمجتمع(1)

بسمه تعالى

عليه توكلت واليه أنيب

يمكن تقسيم التربية الدينية الى ثلاثة أقسام رئيسية تدخل في حاجتنا الان:

وان كان هناك تقسيمات اخرى خارجة عن محل الحديث.

القسم الاول: تدريب الانسان على الورع في الجملة، اعني الاهتمام بالقيام بالواجبات والارتداع عن المحرمات، ويكون الهدف في مثله عادة هو الحصول على الثواب الاخروي او كفاية العقاب الاخروي بالمعنى المفهوم عند غالب المتشرعة.

ص: 165


1- هذه من مدونات المرحومة الممتحنة ساجدة البغدادي التي كانت تشاركنا في هذه المراسلات مع السيد الشهيد قدس سره وكان يحوطها بعناية خاصة ويتحفها بكتاباته الثمينة وهي تدونها في سجلات خاصة نُشِر أكثر البحوث في كتاب (ما وراء الفقه) كبحث في البداء والغيبة والاستخارة والكذب وهناك حواريات فقهية في شتى الابواب قد اخترنا بعضها في الجزء الاول من (حديث الروح) وكانت رضوان الله عليها من حلقات الوصل المهمة معه قدس سره

ولا يكون لدى الفرد اهتمام خارج هذه الدائرة، وسيأتي الحديث عن نتائج هذا القسم الا ان الاهم فيه الان، هو انه الاساس المهم للقسمين الاخرين، اذ بدونه يصعب جداً شعور الفرد بهما او اندراجه خلالهما، بل يعتبر ذلك في درجاتهما العليا مستحيلاً.

القسم الثاني: ان يكون اهتمام الانسان منصباً على اصلاح المجتمع دينياً وهداية الناس، والقيام بالمصالح العامة والخاصة لهم او ما هو اكثر من ذلك!!

وهذا هو الذي يسمى بالوعي الاسلامي، وهو الذي يفيد بكل تأكيد في مجابهة المصاعب العامة والخاصة التي يمر بها المجتمع والافراد على حد سواء، لا اقول اكثر من ذلك وانتم ادرى به.

القسم الثالث: ان يكون اهتمام الفرد منصباً على اصلاح نفسه اخلاقياً لأجل انتاج صفاء النفس وطهارة القلب واخلاص الضمير، الامل الذي يؤهل الفرد لتلقي المزيد من الرحمات الخاصة الالهية.

وبعد التفاتنا الى هذين القسمين الاخيرين، يبدو لنا واضحاً توقفهما على القسم الاول الذي هو معنى الورع، اذ بدون الورع يعني انكباب الفرد على بعض المحرمات على الاقل او عدم اهتمامه بتركها، الامر الذي يسبب عجزه الجزئي او الكلي عن

ص: 166

اصلاح المجتمع من ناحية والحصول على طهارة القلب وصفاء النفس من ناحية اخرى، بل ان القسم الثالث.. واهم اشكال القسم الثاني يكون بمنزلة المستحيل كما المحنا، كما انه بدون الورع يمكن ان يكون الفرد فاقداً للإخلاص وتابعاً لجهات غير صافية والعياذ بالله.

والاهم في التربية الدينية الكاملة هو ان يكون المربي متصفاً بكل الاقسام الثلاثة، ويقابله في بداية النقص والانحراف فقدان الفرد لبعض تلك الاقسام فضلاً عن طبيعتها، الأمر الذي تترتب عليه نتائج وخيمة احياناً بل دائماً.

اما عدم تحقق القسم الاول لدى الفرد فهو الاعظم منها جميعاً، اذ معه يكون المربي فاقداً للورع فكيف بالاخرين الذين تتم تربيتهم، لا شك انهم سيكونون فاقدين له ايضاً

وانما تتم التربية في حدود الفهم الضيق الذي كان لديه والذي كان يحسبه الكل في الكل!!

واما عدم تحقق القسم الثالث، حتى لو تحقق القسمان الاولان معاً.

او تحقق الاول معها فقط، فأثره الاكبر هو قلة الصبر وضآلة المقاومة ضد البلاء الدنيوي الذي لابد عنه في الامور الشخصية والعامة معاً كما تعلمون والذي لابد منه في تربية الفرد ضد

ص: 167

الاعداء الخارجين في القسم الثاني والاعداء الداخلين في القسم الثالث، فاذا قل الصبر بدأ الانحراف.

ولا اقل من ان الفرد يميل عندئذ الى اخذ معنى التقية بمعنى اوسع اكثر جداً خارج حدوده الشرعية الحقيقية، ويهادن الاخرين فيما لا يرضي الله عز وجل ويهادن نفسه الامارة بالسوء في عصيانه سبحانه وتعالى.

ومن هنا يتضح ان القسم الثالث ضروري للقسم الثاني بكل تأكيد، فانه وان كانت نتائجه الاخرى كبيرة جداً، الا ان عدمه يعني اعطاء الاعداء بيد الذليل والخضوع لهم كالعبيد او الاندراج معهم في ظلمهم، ولا اقل من اهمال الاهداف العامة وترك الاهتمام بامور المسلمين.

مع ما ينبغي ان يكون واضحاً، بأن صبر غير المتربي وغير المتكامل لا يصح لمجابهة البلاء القوي، حتى ولو كان الفرد ورعاً تماماً فضلاً عما هو اقل منه، فإن الانهيار وزيادة الخوف والقلق وضيق النظرة وسواد الأمور المستقبلية تجاه نظرته، سيكون هو النتاج الاوضح فيه، الامر الذي ينتج اعراضه عن القسم الثاني واقتصاره على مستوى من الدين في نظره!!

كما ان القسم الثاني، مهم للقسم الثالث، وان يكن هو السبب الوحيد له، وتتضح مقدار اهميته من حيث بلاء الدنيا مع وجود الاهتمام المتشرعي لدى الفرد يجعله تجاه (الجهاد الاكبر)، الامر

ص: 168

الذي يتصاعد عنده بالتدريج الشعور بالاهتمام الداخلي، الامر الذي يبدأ معه مرحلة التجرد والصفاء النفسي والقلبي، ومن هنا قلنا في بعض بحوثنا ان الجهاد الأصغر يكون مهماً وصحيحاً باعتباره سبباً ومصداقاً للجهاد الأكبر، وقد ورد: لا فتنة اشد من السيف، اذ من الواضح انه بدون كونه من الجهاد الاكبر لا يكون مقبولاً ولا مجزءاً، بل يكون على الاغلب منحرفاً وغير مخلص، كما ورد: ان فرداً في بعض حروب النبي قصد الدفاع عن عشيرته فلم تكتب له النجاة ولا الشهادة بالرغم من انه مات مقتولاً في جيش النبي.

نعود الان الى السؤال الرئيسي: وهو انه لماذا يترك الرجل او المرأة اهتمامه الديني مع ابتلائه بالعمل الدنيوي كالعائلة والاطفال وغيرها.

لا شك ان الفرد رجلاً كان ام امرأة اذا كان حاصلاً فعلاً على درجة كافية ومحمودة من الاقسام الثلاثة للتربية الدينية، فإن أي شيء في الدنيا مهما جل وعز فانه لن يكون مانعاً عن استهداف رضا الله وتطبيق تعاليمه والشعور باهمية اوامره ونواهيه سواء على المستوى الشخصي الظاهري او المستوى الشخصي القلبي او المستوى الاجتماعي او المستوى التربوي اعني في تربيته للآخرين.

وانما يبدأ سبب الانحراف او التوقف على اقل تقدير من بعض النقصان في بعض الاقسام.

ص: 169

وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الاسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع اكثر من اهتمامه بمصالح الفرد او قل: اهتمامه بتربية الاخرين اكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم ان النفس التي لم تصل في التربية الى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الاخرين بالمرة او في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ احسن من استاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل او حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الاخطاء او النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الاسلامي، الامر الذي يجعل افراده اقل صبراً واضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة اخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو ان الهدف الاعلى للإتجاه الاجتماعي الاسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الاخرون من خيراتنا ومن انفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الاهداف، الا انها بطبيعتها دنيوية، الامر الذي يجعل حصول الفرد على هدف دنيوي كتجارة ناجحة او اسرة مهمة او زوج غني مانعاً عن السير في تلك الاهداف، حيث يرى الفرد ان هذه الدنيا مرفهة ولطيفة مع كونها فورية ومعجلة فلماذا ينتظر ويضحي في سبيل دنيا بعيدة

ص: 170

وصعبة مهما كانت مهمة ومرفهة ايضاً، ولعلها لن تحصل مادام هو في الحياة اصلاً.

وهناك نتيجة اخرى في هذا الصدد ايضاً، لا ينبغي اهمالها على أي حال، وهي:

ان الاخرة التي يستهدفها امثال هؤلاء انما هي آخرة ذات مستوى (دنيوي) تصلح للبطن والفرج لا اكثر ولا اقل، الامر الذي يجعل الدنيا المعجلة اولى في نظر الفرد من هذه الآخرة.

وهذا بخلاف ما لو فهم عن الآخرة اموراً معنوية اعلاها واوضحها رضا الله سبحانه وتعالى فضلاً عن الدرجات العلى التي وعد بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فان الدنيا عندئذ ستكون تافهة في نظره حتى لو كانت اكبر من ملك قارون واعدل من حكم داود الامر الذي ينفي عن نظره كل النتائج السلبية التي سمعناها.

وذلك لا يكون الا اذا كان قد مشى بعض الاقدام بالاتجاه الصحيح في القسم الثالث اعني التربية الداخلية للنفس والقلب والوجدان.

هذا مضافاً الى امر آخر قد يكون موجوداً في عدد من الافراد من حيث لا يعلم الاخرون، وعنوانه العام هو (الشك) الذي قد يكون شكاً في الاخرة وقد يكون شكاً في بعض تفاصيل العقيدة او بعض تفاصيل التعاليم الدينية او الفقهية او شكاً في المربي

ص: 171

نفسه او شكاً في القيادة ان وجدت، وكلها شكوك غير مشروعة بطبيعة الحال، ولكن قد توجد شكوك لا تخلو من شرعية يعني ان الله سبحانه وتعالى لا يجزي عليها بالعقوبة، كما لو قالت المرأة المتزوجة ان طاعة زوجي اهم عند الله سبحانه من كذا وكذا، وقال الولد: ان طاعة والدي اهم عند الله، وخاصة ان كذا وكذا عبارة عن اعمال اجتماعية صغيرة غير محرزة النتائج ولا قريبة الانتاج، فلو كان العمل الاجتماعي منتجاً بسرعة وسهولة نسبية بنتائج واضحة ومهمة، لما عدل عنها أي فرد، الا انها في الاعم الاغلب ليست كذلك.

وقد تكون مشروعية مثل هذا الاتجاه تعني في نظر الفرد تفضيل الجهاد الاكبر على الجهاد الاصغر مع تشخيصه ان طاعة الزوج او الوالد او نحوه يمثل قسطاً من الجهاد الاكبر في حين ان العكس اعني العمل الاجتماعي بدون اذن الزوج او الوالد لا يخلو في نظره من اشكال بل ليس عليه ثواب بل لعل عليه عقوبة اخروية، وخاصة مع بعد نتائجه وعدم احرازها كما اشرنا.

ومهما تكن الصحة او الخطأ في هذه النظرات الفردية، فان الفرد ان اصبح هكذا لا ينبغي ان يلزم او يجبر على مخالفة (حاله) وفهمه تجاه الله سبحانه، ما دام الهدف الاكبر والاعمق انما هو الاخرة دون الدنيا مهما كانت، ما لم يتم اقناعه منطقياً وشرعياً بخلاف ذلك، وليس هذا سهلاً دائماً.

ص: 172

هذا، وان المرأة تختص بعدة موانع، لا تكاد توجد عند الرجل، او هي غير موجودة بالمرة فيه، تجعلها ان كانت متدينة تختص بالقسم الاول من التربية دون القسمين الاخيرين، اهمها كما يلي:

اولاً: ان نوع المرأة يعتبر المهمة الرئيسية لها في الحياة هي حفظ الاسرة وانجاب الذرية وحسن العناية بهم دنيوياً واخروياً، دون ما سواه من الاهداف، فهي من وجهة نظرها يجب ان تتفرغ تماماً.

ثانياً: ان المرأة هي الجانب الاضعف بالنسبة الى الرجل، وان الرجل سواء كان زوجها او ابوها او اخوها او نحو ذلك يستطيع ان يؤثر فيها معنوياً ومادياً.

وان يفرض عليها رأيه بشكل من الاشكال.

ثالثاً: ان المرأة قليلة الصبر وضعيفة الارادة في خارج اسرتها، الا مَن عصمها الله سبحانه، ليس لديها في الغالب من نفع الاخرين الا هو جزئي وضيق.

رابعاً: ان الاغلب من النساء لا يفهمن او لا يستوعبن كما هو المطلوب الاهداف العليا المهمة، سواء كان ذلك على مستوى القسم الثاني او الثالث من التربية.

خامساً: ان المرأة ترى بطبيعة ضعفها ان الاهداف بعيدة المنال ودونها عوائق وحواجز وبلايا لا يمكن تخطيها والسيطرة

ص: 173

عليها الامر الذي يجعل الوصول الى الهدف مستحيلاً تقريباً، فلماذا يورط الفرد نفسه في المستحيل!!

سادساً: ان الحاجات الآنية الفعلية، ذات ضغط على الانسان اشد من الحاجات البعيدة المدى، وهذا موجود في اغلب الرجال والنساء وهو في المرأة اوضح ومن المعلوم ان الحاجات الدنيوية وخاصة حاجة الاسرة والاطفال والزوج هي الفعلية والمؤثرة طبعاً.

سابعاً: ان المرأة تقضي ردحاً من حياتها قليلاً او كثيراً عاجزة او كالعاجزة عن نفع الاخرين خارج اسرتها الا نادراً بسبب العوارض الطبيعية من الحمل والولادة والنفاس والعادة الشهرية التي قد تحصل بشدة وغير ذلك.

وهذا أوضح بكثير وذو اسباب اوسع في المتزوجة من غيرها بطبيعة الحال.

ثامناً: ان المرأة تقضي ردحاً من ايامها متنجسة كما اشرنا ولا يجب عليها الصلاة، فقد ترى نفسها من قلة فهمها، بأن الصلاة اذا لم تجب عليها وهي عمود الدين، فيكون عدم وجوب الامور الدينية الاخرى اولى بالسقوط عنها، فتتعلل بمختلف الاسباب لتركها.

هذا، ومن الواضح ان المرأة التي تستطيع ان تسيطر دينياً على كل هذه الموانع هي ذات التوفيق التي تستطيع ان تؤدي واجبها

ص: 174

الديني الخاص والعام على سواء، ولكن كيف يمكن للتربية الدينية ان تصنع من المرأة نموذجاً مثالياً يفوق اكثر الرجال قال الشاعر:

ولو ان النساء كمن عرفنا *** لفضلت النساء على الرجال

وهنا ينبغي ان نلتفت الى امرين مهمين في طريق تذليل بعض تلك الصعوبات او الاهم منها:

الأمر الأول: ان التربية الدينية من القسم الاول لا تحتاج في مبدأ امرها لحصول الورع لدى الانسان انثى كان ام رجلاً الى صبر شديد وجلد عظيم بل يكفي فيه الصبر الموجود عند عامة الناس، والالم يجعل الله سبحانه التكليف عاماً لهم جميعاً، كل ما في الامر ان الفرد يجب ان يعتقد بأهمية الاوامر الدينية وبوجود الآخرة بعمق ووضوح.

غير ان التربية الدينية حين تصبح ذات هدف وراء ذلك وابعد منه كالقسم الثاني والثالث، تحتاج الى استيعاب نظري للهدف والى صبر عملي وفعلي لتطبيقه والسير في سبيله (و سعى لها سعيها وهو مؤمن)، وهذا الصبر بالمقدار المحمود منه والذي يمكن تجنب أي انحراف او خمول، لا يكون الا بخطوات معينة من الجهاد الاكبر الذي به تحصل قوة الارادة من ناحية وصفاء النفس من ناحية اخرى، وهما الامران اللذان يمكن بهما السير في المدارج

ص: 175

المتقدمة من القسمين الثاني والثالث على حد سواء، اقول: وهذا هو الحل الرئيسي الذي به تذلل كل المشاكل السابقة على اختلاف أنواعها، سواء للرجل او للمرأة وسينال الفرد من نفعها بمقدار ما سار هو في طريق الجهاد الاكبر.

ونوكل استعراض تلك المشاكل وعرض حلولها الجزئية الى فطنة القارىء او الى تجربته اذا كان ممن سار او يسير في هذا الطريق.

الامر الثاني: ان نوع المرأة، ذات التربية المعروفة في اجيال متطاولة من الظلم والانحراف اجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، وكذلك بسبب ضعف خلقتها النسبي، من الرجل، اصبحت مبتلاة بالمصاعب السابقة وخاصة الثالث والرابع والخامس منها، الامر الذي يجعل الجهاد الاكبر على المرأة اصعب من الرجل، ومن ثم تكون المقدمات الاساسية لتكفل وتحمل الاهداف الكبرى لأنها أطول مدة.

وبالطبع فان الجهاد الاكبر لا يمكن ان يفرض بكل تفاصيله او بكل ثقله على أي احد، وانما تتبدأ بالفرد من الصفر، ثم تبتدئ تعلو به تدريجياً حتى نبلغ به الدرجة التي تنفعه وتنفع غيره، وتفتح عينه على الاهداف ثم تضع حبله على غاربه ليمشي نحوها مختاراً سعيداً خير من ان يشعر بكونه مجبوراً مضغوطاً عليه.

ص: 176

كما ان الجهاد الاكبر سيصعب على المرأة جداً في مجتمعنا الذي يقوى فيه التنافس على زخارف الدنيا في الملبس والمأكل والمشرب والحال والسمعة وغي ذلك، والمرأة التي هي عاطفية بخلقتها ستبذل عاطفتها في هذا الطريق لأجل حصول التنافس فيه كما قال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا *** وعلى المحصنات جر الذيول

في حين ان العاطفة والتنافس يجب ان يبذلا في سبيل الله سبحانه واهدافه الكبرى (وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ومحل الشاهد الان انه مادام التنافس على الدنيا شديداً كان الحصول على نتائج الجهاد الاكبر متعذراً، ومن المعلوم ان هذا التنافس يشتد بعد الزواج، حين تشعر المرأة بكيانها وسلطانها وبيتها الخاص بها وبزوجها.

مضافاً الى نقطة اخرى في الجهاد الاكبر، وهو انه لا يقود فيه ولا يدل على مقدماته الا من مارسه وجربه وسلك فيه، واما الشخص الخالي منه فمن المستحيل عليه القيام بذلك، وانما القائد هنا او المربّي انما هو كالطبيب يشخص الداء ويصف الدواء، ولا يمكن للفرد الاعتيادي ان يكون طبيباً لا للأبدان ولا للأديان.

وأريد ان اقول كلاماً اكثر صراحة، وهو ان التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الاغلب منهم يتهاون ويضعفون امام الدنيا بمختلف الاسباب: اما المال او الخوف في المجتمع او

ص: 177

التعذيب داخل السجون، وأكاد اقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم انما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم ادانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ: أننا استطعنا ان نربي الاخرين الى نصف الطريق ولم يقل الى نهايته لانه لو كان الامر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان اولئك المتدينون قد اصلحوا انفسهم قبل اصلاح الاخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الاخلاص وقوة الارادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الالهية الى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وانما كانوا مع شديد الاسف مصداقاً لقوله تعالى

(وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثم لا يكونوا امثالكم) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وليس ذلك الا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير.

هذا: ولعل قائلاً يقول: ان كيد الاعداء كان كبيراً جداً، بل اكثر من التوقع والتحمل، ولذا تهاونوا فيه من حيث لا يعلمون.

ص: 178

وهذا قد يكون صحيحاً الى حد ما، الا ان الامر بالدقة لا ينبغي ان يكون كذلك، ومن المعلوم ان السائر في سبيل الله ينبغي ان يدقق في امره لا ان يأخذ الأمر سطحياً تافهاً، وذلك:

اولاً: انه كان يجب من اول الأمر تشخيص وتوقع قوة الاعداء ودراسة ذلك بدقة متناهية على ما هو ممكن، وقد سبق لي ان نبهتهم الى ذلك فلم ينتبهوا.

ثانياً: انه كلما كان كيد الاعداء أكبر وجب ان تكون الارادة اقوى لا بالمعنى الظاهري بل بالمعنى الواقعي الذي يكون معه الفرد (اجرأ من ليث وأمضى من سنان) ومعه لا يضره كيدهم مهما كثر.

ثالثاً: ان مجابهة الاعداء بصراحة لو كان مطلوباً دينياً دائماً لفعلناه ولكن الامر ليس كذلك للأمر الشرعي بالتقية، ولذا يجب التصرف في حدود الامكان الخاص بذلك للمصالح العامة والخاصة معاً.

وينبغي الالتفات هنا الى ان اكثر اشكال الجهاد الاصغر مخالفة للتقية.

الا ان اكثر اشكال الجهاد الاكبر غير مخالفة لها، فان الاعداء لا يرون فيه مخالفة لأهدافهم وتدابيرهم جهلاً منهم بواقعه والحمد لله.

ص: 179

وهذا ينتج ان الاهتمام ينبغي ان ينصب في زمن التقية المكثفة ونحوها الى الجهاد الأكبر، حتى تكون النفوس مستعدة للجهاد الاصغر عندما يحين وقته، ولكن هذا والنداء الأغلب الناس: انه كما قال الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي

كما ينبغي الالتفات: ان الوعظ والتوجيه للأخرين بصيغة الجهاد الاكبر اقوى تأثيراً واسرع تصديقاً من الوعظ والتوجيه بصيغة الجهاد الاصغر، فمثلاً قولنا طهر قلبك وصف نفسك يؤثر اكثر من التعريف بان الاسلام له اقتصاد متكامل او نظام عام مضافاً الى ان تلك اللهجة اوثق بالتقية كما اسلفنا ومعه، فما هو المانع من ان يكون الاغلب من المواعظ هي بتلك اللهجة، وكلاهما لهجة دينية صحيحة، ولا منافاة بينهما كما عرفنا بل يجب ان تكونا مترافقتين في نفس الفرد وادراكاته، الامر الذي يسبب اننا قد قمنا ببناء النفوس قبل بناء المجتمع او بتكميل الفرد قبل تكميل الغير، وهذا هو واجبنا الان بل دائماً، ونكون قد اعددنا مجتمعاً يتصف بكلا الصفتين في المدى البعيد.

والحمد لله رب العالمين وصل الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 180

الفهرست

المحتوى الصفحة

كلمة الناشر

التعريف بالكتاب لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

البحث الاول

دليل سلوك المؤمن.

دعوة لتطوير الرسائل الفقهية.

جواب الشهيد الصدر قدس سره.

البحث الثاني

الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها.

نظرة الاسلام الى مفهوم الجاهلية، وكيفية مواجهتها.

جواب الشهيد الصدر قدس سره.

البحث الثالث

عالم الذر والظواهر الباراسايكو لوجية.

هل يمكن تفسير الظواهر الخارقة في ضوء اعتقادنا بوجود عالم الذر؟

جواب الشهيد الصدر قدس سره. 1

ص: 181

0

المحتوى الصفحة

رسالة أخرى حول الظواهر الباراسايكو لوجية

جواب الشهيد الصدر قدس سره

البحث الرابع

فهم ما وراء النص.

كيف نتعامل مع النص تعاملاً روحياً بعيداً عن الجمود على الظاهر؟

جواب الشهيد الصدر قدس سره

البحث الخامس

مجال الاعجاز في القرآن.

جواب الشهيد الصدر قدس سره.

البحث السادس

تاريخ نزول السور القرآنية

كيف نحدّد تاريخ نزول وترتيب السور القرآنية؟

جواب الشهيد الصدر قدس سره.

ص: 182

المحتوى الصفحة

البحث السابع

الاجتهاد المقيَّد.

من هو المجتهد المقيَّد، وماذا يعني هذا الاصطلاح الجديد؟

جواب الشهيد الصدر قدس سره.

ملحق الكتاب

كلمات للشهيد الصدر قدس سره في تربية الدين للنفس والمجتمع.

ص: 183

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.