فاجعة کربلاء فی الضمیر العالمی الحدیث المجلد 2

اشارة

فاجعة کربلاء في الضمير العالمی الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزءالثانی

دار العلوم للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

الأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

اشارة

کافة الحقوه محفوظة وسجلةالطبعة الأولى 1430ھ/2009م

دار العلوم

المكتب : الرويس - بناية عروس الرويس - تلفاكس :01/545182 -03/473919

ص . ب : 140 /24 - المستودع : بئر العبد - مقابل البنك اللبناني الفرنسي - هاتف :

01/541650

E-mail:info@daraloloum.com

www.daraloloum.com

ص: 2

فاجعة کربلاء

في الضمير العالمی الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزءالثانی

دار العلوم

للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

ص: 4

الحسین علیه السلام وارث الأنبياء علیهم السلام

يقول الحكيم الهندي (بوذا) (القرن الخامس ق.م): (إن إنسانا تأخذه الرحمة ويملؤه الحب ويصفو قلبه ويملك زمام نفسه لقريب من (النرفانا) - صفاء الروح واطمئنانها)(1)، ولا ريب في أن كلام هذا الحكيم الهندي صحيح تماما.

فالإنسان الحقيقي الكامل هو ذلك الإنسان الذي يرتدي ثوب الرحمة ويحمل في قلبه مصباح الفضيلة ويسير برفق على دروب الحب.

والإنسان الكامل لا يبحث عن أعظم مصدر للذة، بل يبحث عن أشرف منبع لتلك اللذة، إنه ذلك الإنسان الذي لا وقت لديه للكره، ولا کره عنده للمعرفة، ولا معرفة معه لغير الحق.

فالإنسان العادي قد يصل بعلمه وعمله وزهده وتقواه إلى مرحلة الإنسان الكامل، وليس هذا الأمر محصورا ضمن دائرة الإسلام كما يظن البعض خطأ، بل هو أمر يمكن أن يأخذ طريقه للحدوث مع أبناء كل الأديان الذين أخلصوا العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، بل ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أيضا أن التاريخ الإنساني المتقدم قد حدثنا عن أناس حكماء قدماء قد وصلوا بفطرتهم السليمة إلى التوحيد وإلى مراحل متقدمة من معرفة الذات وعلاقتها بالجوهر المطلق المحض.

ويكفي أن نضرب مثالا واحدا على صدق ذلك القول من خلال الاستشهاد بما

ص: 5


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مكتبة نوفل . بيروت، ص 377.

قاله الفيلسوف والصوفي الزاهد (أفلوطين) (204 -270م)، مؤسس مذهب الأفلاطونية الحديثة والتي حاول من خلالها التوفيق بين الفلسفة والدين، وقد جمعت تعاليمه القيمة في كتاب خاص يسمى (التاسوعات) وهو خلاصة فكره في مجمل القضايا التي تناولها في رحلة حياته.

يقول ذلك الفيلسوف والصوفي الزاهد واصفا سمو نفسه وصفاء بصيرته بعد أن خلع ثوب الملذات وارتدي ثياب الطاعات: (إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني جانبا وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدني، فأكون داخلا في ذاتي، راجعا إليها، خارجا من سائر الأشياء سواي، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الشريف الفاضل الإلهي، ذو حياة فعالة، فلما أيقنت بذلك ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع فيها متعلق بها، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته، ولا تعيه الأسماع، فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء ولم أقو على احتماله إلى عالم الفكرة، فإذا صرت في عالم الفكرة حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، فأبقى متعجبا أني كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي وصرت في موضع الفكرة بعد أن قویت نفسي على تحليق بدنها، والرجوع إلى ذاتها، والترقي إلى العالم الإلهي، حتى صارت في موضع البهاء والنور الذي هو علة كل نور وبهاء.

ومن العجب أني كيف رأيت نفسي ممتلئة نورا وهي في البدن كهيئتها وهي خارجة منه، غير أني لما أطلت الفكرة وأجلت الرأي وصرت كالمبهوت ذکرت عند

ص: 6

ذلك أخي (أرقليطوس)، فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس، والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى، وقال: إن من حرص على ذلك وارتقى إلى العالم الأعلى جوزي بأحسن الجزاء اضطرارا، فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص في الارتقاء إلى ذلك العالم، وإن تعب ونصب، فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها ولا نصب...)(1).

لا ريب في أن هذه الحالة التي حدثنا عنها الفيلسوف الزاهد (أفلوطين) وصديقه الفيلسوف (أرقليطوس) هي حالة إشراق الروح أمام أنوار التجليات والفيوضات الربانية التي لا تتأتى إلا لأولئك الذين صفت نفوسهم من علائق الدنيا، فتألقت أرواحهم بأنوار الآخرة.

ومن هنا يمكننا أن نطرح السؤال التالي:

إذا كان الحال الذي حدثنا عنه الفيلسوف (أفلوطين) هو حال الإنسان العادي الذي يمكن له أن يبلغ تلك الدرجة من الرقي الروحي بعد جهدوعناء، فما هو الحال إذن عند الرسل والأنبياء والأوصياء؟ وبعبارة أكثر وضوحا: فما هو حال الإمام الحسين عليه السلام ، سليل الأنوار المحمدية والعلوية، أمام هذه الحالات من الصفاء والطهر والنقاء؟!

وقبل الدخول في مناقشة هذا السؤال والإجابة عليه، أود أن أقول إنني ما أردت أن أكتب فصلا مستقلا بعنوان (الحسين عليه السلام وارث الأنبياء) ولم أعقد العزم على ذلك إلا في اللحظات الأخيرة، وإنما كانت إرادتي أن أكتب أفكار هذا الفصل وأبثها

ص: 7


1- السيد أحمد الفهري، دروس في التفسير (ج2)، الدار الإسلامية .بيروت، 1988، (ج2)،ص97

في الفصل اللاحق الذي يحمل عنوان (فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين علیه السلام)

وبناء على ذلك، أرجو أن يتم اعتبار هذين الفصلين فصلا واحدا مؤلفا من حلقتين متماسكتين لا انفصال بينهما أبدا نظرا لما في هذين الفصلين من معلومات متكاملة ومتسلسلة.

وبالعودة إلى مدار البحث، نقول إن الإمام الحسين عليه السلام ، وباعتراف النص القرآني الشريف والأحاديث النبوية، ليس إنسانا عاديا كسائر البشر، وإنما هو أحد مواطن الإشارة في آية التطهير القرآنية والتي تشهد بأن أهل البيت عموما علیهم السلام، والحسين عليه السلام أحدهم، هم أناس غير عاديين، فهم عبارة عن عناصر طاهرة مطهرة من كل رجس وعیب ونقص في وجوههم على الأرض ضمن عالم البشر الآدمي الترابي الكثيف.

وما من أحد يستطيع أن يشك أيضا في أن الإمام الحسين عليه السلام كان وجها من الوجوه النيرة الخمسة التي أراد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن يباهل بها وجوه (نجران) وعلماءها الأفذاذ، بل إن العديد من كتب المفكرين المسيحيين المتقدمين والمعاصرين تشهد وتقر بمصداقية حدوث تلك الحادثة العظيمة، وكيف أن علماء نجران وأساقفتها الكبار طلبوا من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم الإقالة والإعفاء من إتمام عملية المباهلة بعد أن رأوا في وجوه أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم أنوارا سماوية نقية لو أقسمت على الله سبحانه وتعالى أن يزيل الجبال من مكانها لأزالها إكراما وتعظيمالهم.

وبالتالي، فالإمام الحسين عليه السلام ليس بالإنسان العادي الذي يسعى طوال حياته عابدا زاهدا طائعا راکئعا من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى حالة الإشراق الروحي

ص: 8

المؤقت والتواصل بين الحين والآخر مع السبحات الإلهية، فهو علیه السلام منذ البداية ومنذ أن سمعت روحه الطاهرة نداء التوحيد عند معاقد العز من عرش الله العظيم، حيث لم تكن هناك أرض ولا سماء، ولانا رولا ماء، كان عليه السلام . منذ ذلك الحين . في حالة إشراق روحي دائم لا يعرف الانقطاع، وکان، منذ ذلك الحين أيضا، في حالة تواصل مستمر مع الأنوار السماوية والسبحات الإلهية الخالدة.

وأعتقد أن أبلغ حديث عن هذه النقطة التي نناقشها الآن هو حديث الإمام محمد الباقر عليه السلام إلى جابر الجعفي عن حقيقة ومقام أهل البيت عليهم السلام حيث يقول عليه السلام في ذلك الحديث:

«يا جابر كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمداصلی الله علیه و آله وسلم وخلقنا أهل البيت معه من نوره وعظمته، فأوقفنا أظلة خضراء بين يديه، حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر... نورنامن نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس، نسبح الله تعالی ونقدسه ونحمده ونعبده حق عبادته»(1).

وبما أن الحسين عليه السلام أحد أفراد البيت المحمدي الطاهر من كل الأرجاس والذي لا يقاس بهم أحد من الناس، فقد كان من الناحية النورانية في مقام الأنبياء والصديقين، ولا عجب عندئذ في أن يختلف المفسرون في تفسير كلمة (أحد) في الحديث الشريف القائل:

«نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد»(2)، فهل كلمة (أحد) مخصوصة ببني آدم علیه السلام

ص: 9


1- العلامة ميرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، مصدر سابق ص85
2- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق (ج1 )ص174

أم أنها مطلقة لتشمل كل النفوس العاقلة من بشر وملائكة وحتى أنبياء مقربين؟!

وعلى ما يبدو، فإن هناك ارتباطا وثيقاٌ بين الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه منذ قليل وبين الآية القرآنية الكريمة الواردة في سورة (البقرة) والتي تقول: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

فكيف يأمر الله الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام ؟!

وهل كلمة (سجود) تعني حصرامعنى العبادة؟!

وهل كان سجود الملائكة سجودا لآدم عليه السلام أم لشيءٍ آخر مُودَعُ في آدم؟!

فالكثير من التفاسير القرآنية تجيبنا على كل هذه الأسئلة بشكلٍ واضحٍ ومفيدٍ، وتعطينا الإجابة - بنفس الوقت وبشكلٍ غير مباشرٍ - عن منزلة ومكانة الحسين عليه السلام في عالم الملائكة المقربين.

وعلى سبيل المثال، فقد ذكر العديد من المفسرين أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قد بَیَّنَ معاني قول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ»(2) بقوله مخاطبا جمعا من المسلمين: «يا عباد الله، إن آدم عليه السلام لما رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبيَّن الأشباح، فقال: يا رب ما هذه الأنوار؟ فقال عز وجل: أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنتَ وعاءً لتلك الأشباح، فقال آدم: یا رب لو بَيَّنتها لي، فقال الله عز وجل: انظر يا آدم إلى ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى

ص: 10


1- سورة البقرة: الآية 34
2- سورة البقرة: الآية 34

أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح یا رب؟

قال الله : يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبریَّاتي، هذا محمدصلی الله علیه و آله وسلم وأنا الحميد المحمود في فعلي، شققتُ له اسماً من اسمي، وهذا عليُّ وأنا العليُّ العظيم شققتُ له اسما من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي عمّا يعيّرهم ويشينهم فشققتُ لها اسمآ من اسمي وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققتُ اسميهما من اسمي، هؤلاء خیار خلیقتي وکِرام بريَّتي، بهم آخذ و بهم أُعطي، وبهم أعاقب و بهم أثيب.

فَتَوَسَّل بهم إلي يا آدم إذا دهتم داهيةٌ، فاجعلهم إلى شفعاءك، فإني آليتُ على

نفسي قَسَما حقا أن لا أخيِّبَ بهم آملا ولا أردَّ بهم سائلا»(1).

وهذا يعني، باختصارٍ شديدٍ، أنه لما كان في صلب آدم عليه السلام من أنوار الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم المشتملة على أنوار أهل بيته الأطهار والمعصومين عليهم السلام منذ النشأة النورانية الأولى، وكانوا قد فُضِّلوا على الملائكة بالمنزلة الخصيصة التي أنزلهم الله فيها وحَباهم بها، فقد كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام طاعةً، ولله سبحانه وتعالى عبوديّةً، وللأنوارِ من أهل البيت المحمدي، المودَعة في آدم عليه السلام، إكراماوتعظيما وتقديسا.

ومن خلال هذه الحقيقة الراسخة يمكننا الانطلاق في حديثنا الآن عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بعالم الرسل والأنبياء علیهم السلام مبتدئين هذا الحديث الشَيِّق بدعاء عظيمٍ يناسب هذا المقام الذي نحن فيه، وهو دعاءٌ هامُّ ورد عن الإمام الصادق جعفر ابن محمد عليه السلام وهو الدعاء المعروف بدعاء (زيارة وارث)،ويكفي أن نقول إنه من

ص: 11


1- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مكتبة الصدر . طهران، 1416ه-، (ج1 )، ص115

الأدعية العظيمة الواردة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام الذين كانوا يوصون أتباعهم المخلصين بالمثابرة على حفظه وقراءته عند زيارة الإمام الحسين عليه السلام .

وبالطبع، فإنّنا لن نورد هذا الدّعاء العظيم من أجل أن نشرحه ونحلّله للقارئ، أبدا، فالهدف ليس كذلك، وإنما سنورده من أجل أن يقوم القارئ نفسه بدراسته و تحلیل معانيه واستيضاح مراميه، فاللقمة السهلة السائغة ليست دائما لذيذة المذاق، وإنما اللقمة المجبولة بالتعب والعرق والصبر هي حقا اللقمة التي تستحقّ بالفعل أن نقول عنها إنها لقمة الحياة.

ولذلك نطلب الآن من القارئ الكريم أن يرکّز ذهنه على كلّ عبارةٍ من العبارات التي سنذكرها الآن من دعاء (زيارة وارث) آملين أن يقارن ويدرس أوجه التشابه بين الأنبياء والرسل المذكورين وبين الإمام الحسين علیه السلام.

وإليكم الآن نصّ الزيارة - زيارة وارث . وما يجب على الزائر أن يقول، فَعَلى

الزائر أن يقف في حرم الحسين عليه السلام من حيث يلي الرأس ويقول بصوتٍ مسموعٍ:

«السَّلامُ عَلَيكَ يا وارِثَ آدَمَ صفُوةِ اللهِ السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نوُحٍ نَبيِ اللهِ السَّلامُ علَيْكَ يا وارِثَ إبراهيمَ خليلِ اللهِ السَّلامُ علَيْكَ يا وارِثَ موسى كَليِم اللهِ السَّلامُ علَيكَ يا وارِثَ عيسى روُحِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ محَمدٍ حبيبِ اللهِ السَّلامُ عَلَيكَ يا وارِثَ اَميرِ المُؤمِنينَ علیه السلام السَّلامُ عَلَيْكَ يَابنَ محَمّدٍ المُصطفى السَّلامُ عَلَيْكَ يَابن علي المرتضى السَّلامُ عَلَيْكَ يَابن فاطمة الزهراء السَّلامُ عَلَيْكَ يَابنَ خَديجَةَ الكُبرى السَّلام عَلَيْكَ يا ثارَ اللهِ وابنَ ثارِهِ والوِترَ المَوتوُرَ اَشهَدُ اَنَّكَ قَد اَقَمتَ الصَّلاةَ وَآتَيتَ الزَّكاة وَاَمَرتَ باُلمِعروف وَنَهَيتَ عَنِ المُنكرِ وَاَطعتَ اللهَ وَرَسولَهُ حتّى اَتيكَ اليَقينُ فَلَعنَ اللهُ اُمَةً قَتلَتكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً ظَلَمَتكَ

ص: 12

وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً سَمِعت بِذلك فَرَضِيَت به يا مَولاي يا ابا عَبدِ اللهِ اَشهَدُ اَنّك كُنتَ نوُرا في الأصلابِ الشّامِخَةِ وَالأرح-امِ المُطَهَرَةِ لم تُنَجِسكَ الجاهِليَّةُ باَنِجاسها وَلَم تلبسكَ مِن مُدلَهِمّاتِ ثيابِها وَاَش-هَدُ أنَكَ مِن دَعائِم الدّين وَاَركانِ المُؤمِنينَ وَاَشهَدُ اَنّكَ الإمام البَّرُ التَّقيُ الرَّض-يُ الزَّكيّ الهادِي المَهدِيُ وَاَشهَدُ اَنَّ الأَئمّة مِن وُلْدِكَ كَلِمةُ التَّقوى وَاَعلامُ الهُدى وَالعروةُ الوُثقى وَالحجَّةُ عَلى اَهل الدُنيا وَاُشهِدُ اللهَ وَملائكتهُ وَاَنبيائَهُ وَرُسلَهُ اَنّي بِكمُ مُؤمِنٌ وَبِايِابكم مُوقنٌ بشَرائِع ديني وخواتيِم عَمَلي وقَلبي لقَلبِكم سِلمٌ وَاَمري لِامْرِكمُ مُتَّبع صَلَوات الله عَلَيكم وَعَلى اَرواحكم وَعَلى اَجسادِكُم وعلَى اَجسامِكُم وَعلى شاهِدِكم وَعَلَى غائِبكم وَعلَى ظاهركم وعلى باطنِكم»(1)

وكما ذكرنا سابقا، فإنّنا نريد من القارئ الكريم أن يستخلص أوجه التشابه بين الرسل والأنبياء الواردة أسماؤهم في (الزيارة) وبين الإمام الحسين عليه السلام الملقب في تلك الزيارة باسم (وارث)، ولكن ما يمكننا أن نفيد القارئ الكريم به هنا هو ضرورة لفت انتباهه إلى أن أسماء الرسل الكرام عليهم السلام الواردة في نصّ الزيارة هم الرسل المعروفون بلقب (أولي العزم): وهم أعظم الرسل وأعلاهم شأنا بين بقيّة الرسل والأنبياء علیهم السلام .

ولكن، وفي محصّلة الأمر، فإنّ ورود أسماء أولي العزم من الرسل في (زيارة وارث) لا يعني أبدا أن الإمام الحسين عليه السلام قد ورث خصال وصفات أولئك الرسل فحسب، بل إن الدلائل والوقائع تشير إلى أن الإمام الحسين عليه السلام هو الميناء الآمن

ص: 13


1- الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان والباقيات الصالحات، نشر: أنصاريان .قم،ط1419/1 ص615

الذي يستقبل، بفضل اتّساعهِ وعمقه، كل المراكب والسفن المحمّلة بأرقى وأسمى ما تجود به السّماء من النفائس والهبات.

نعم، منذ اللحظة الأولى التي قَتلَ فيها قابيل أخاه التقيَّ هابيلَ، انشقَّ الوجود البشري إلى قطبين متعارضَين متصارعين، ولا سبيل إلى وقف ذلك التعارض والصراع إلا إذا وقفت عجلةُ الحياةِ ذاتها عن الدوران.

لقد قتل قابيل أخاه هابيل بالأمس، وفي كل يومٍ في زمننا الحاضر وفي المستقبل أيضا، سيحاول قابيل أن يغتال الحق المتجسّد في أخيه هابيل.

فالجريمة السوداء التي اقترفها قابيل لم يكن الهدف منها تصفية الأخ جسديا، بل كان الهدف منها بالدرجة الأولى تصفية هابيل فكريّا واغتياله روحيّا ومعنويّا، فالغاية الأكثر أهميّةً، إذن، هي إخمادُ صوت الحق واقتلاع بذور الخير من الوجود الهابيلي، وذلك لأن هابيل كان يتمتع بمزايا معيّنة وخصائص محدّدة تُخَوِّلُه أن يكون الوريث الشرعي لآدم عليه السلام وخليفته من بعده، في حين أن قابيل كان مفتقدا لتلك الخصائص والمؤهلات.

ولذلك، عندما قرب كل منهما قربانه الخاصّ إلى الله، ماذا كانت النتيجة وفق المنظور القرآني؟ كانت النتيجة أن تقبل الله من هابیل عليه السلام ولم يتقبل من أخيه المتسلط قابيل.

فلماذا تم قبول قربان هابيل ولم يتم قبول قربان قابیل؟!

لأن هابيل، وبكل بساطة، كان مُثقّفا بثقافة السماء، كان أقرب إلى الله، وأكثر معرفة به وعبادة له، وكان متواضعا ولم يكن جبّارا عتيّان، كان منطقه منطق الكلمة الطيبة، وأسلوبه أسلوب التعامل بالحُسني والدفعِ بالتي هي أحسن.

ص: 14

وبالمقابل، ما هي الثقافة التي كان يمتلكها قابيل ويتعامل، بموجب خطوطها

العريضة، مع من لا يتّفق معه أو مع من تتضارب معه مصلحته ومراميه الخاصة؟

إنها ثقافة (الأنا) المتضخّمة والمتربّعة على عرش الأنانية المطلقة، إن هذه الثقافة القابلية تجعل من ضمير المُلكيّة (لي) سَیِّد الضمائر وتاج الحروف والكلمات.

فحين لم يتقبل الله قربان قابیل، سارع قابيل إلى إعلان هويّته الثقافية السلبيّة وقام بمهاجمة هابيل عليه السلام قائلا له بلهجة الطُّغاة العُتاة: (لاَقتلنَّکَ )!

فما كان من هابيل عليه السلام إلا أن سارع هو بِدَوره أيضا إلى إبراز ثقافته الروحية، فأجابه بكل هدوءٍ واطمئنان:« إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(1) وأمام هذه الكلمات الطيبة من هابيل، ماذا يمكن لقابيل أن يفعل؟!

إن ثقافة العنف وشهوة الخلافة اللاشرعية وحب التملّك ونزعة التسلط هي التي دفعت بقابيل إلى رفض الحوار ومصادرة الحق واغتيال الفضيلة،وبإمكاننا نحن أن نتبيّن المستوى الروحي والأخلاقي في قول هابيل عليه السلام لقابيل: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ »(2) ، إيمانا منه بحرمة القتل بغير الحق، وإيمانا منه أيضا بأن الأخوة الإنسانية تفرض على كل الأطراف احترام مبادئ الحوار وتقدير إنسانية الإنسان قبل كل الاعتبارات الأخرى، فأول هويةٍ يحملها المرءُ منذ لحظة ولادته الأولى، وعلى مدى امتداد رحلة وجوده، هي الهوية الإنسانية، فهو إنسانٌ بالدرجة الأولى، أما بقية الهويات كالقومية والدين والمذهب والانتماءات الفكرية الأخرى، فهي هويات تأتي لاحقا بعد الهوية الأولى

ص: 15


1- سورة المائدة: الآية 27
2- سورة المائدة : الآية 28

من حیث الترتیب و الاهمیة

وفي المحصلة، ماذا كانت النتيجة، وما هو القرار الذي اتخذه قابیل بحق أخيه

هابیل علیه السلام ؟

فالنتيجة النهائية الصادرة عن القرار الذي اتخذه قابيل وتمسك به نجدها في قوله تعالى: «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(1)

وهكذا نرى أن الحياة، بكل ما تفرز من متناقضات، تحتوي في كل زمانٍ ومكانٍ على صُوَرٍ حيةٍ من الصراع الأبدي الدائر بين هابيل وقابيل، الخيروالشر، الحق والباطل، بصورٍ مختلفةٍ ومظاهر شتّی.

وبالتالي، كل من يُدرِجُ نفسَه تحت راية الحق ويدافع عن قِيَم ومبادئ ذلك الحق،يكونُ من ورثة هابيل عليه السلام بمقدار اقترابه من قِيَمِ وتعاليم ومبادئ هابیل علیه السلام .

وكل من يجنّد نفسه لخدمة جبهة الباطل وإعلاء راية الشر والظلم، فهو بلا شك من أتباع وأولياء وورثة قابيل منهجا وتطبيقا، سلوكاونتيجةً، ظاهرا وباطنا.

وكل ما سبق من كلام عن سيدنا هابیل علیه السلام يقودنا إلى السؤال التالي:

لماذا يقول زائر الحسين عليه السلام مخاطبا إياه: (السلام عليك يا وارثَ آدم صفوةِ الله)؟!

ويمكننا الإجابة على ذلك بشكلٍ مباشرٍ ومختصرٍ دون اللجوء إلى أسلوب التكلف والتعقيد، فالإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كان الصورة الأكمل لهابیل علیه السلام في مبادئه ومواقفه ضد جحافل الغي والضلال، وضد دولة الجبروت والطغيان، وهابيل هو . بدورهِ أيضا . الوريث الشرعي لآدم عليه السلام ولرسالته على الأرض،

ص: 16


1- سورة المائدة: الآية 30

وبالتالي، فإن الإمام الحسين عليه السلام هو أيضا (وارث آدم عليه السلام صفوة الله).

وإذا كنّا قد عرفنا، بشكلٍ مختصرٍ وسريعٍ، معنى القول بأن الإمام الحسين علیه السلام هو وارث آدم عليه السلام ، فما معنى قول الزائر أيضا: (السلام عليك يا وارث نوحٍ نبي

الله )؟!

معنی ذلك، في أبسط مستويات المعاني المقصودة، أن هذا النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد وقف وحيدا، مع قلّة قليلةٍ من الذين آمنوا معه، في مواجهة أمواج عالية ورياح عاتية من الشرّ والضلال والباطل والطغيان، فقد ترك ذلك النبي الكريم، نوح عليه السلام ، كل شيءٍ وراءه ولم يحزن على شيءٍ ولم يستسلم لشيءٍ أبدا.

لقد كانت رحلته الطويلة القاسية في تلك السفينة الآمنة خالصةً لوجه الله، فالهدف كان دائما وأبدا هو الله، والتضحية منه عليه السلام بكل شيءٍ كانت في كل وجوهها متّجهةً أيضا لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في البريّة من جديد. .

والإمام الحسين عليه السلام، بِدَوره أيضا . استطاع أن يواجه الطوفان العظيم مع ثلَّة صغيرةٍ من المؤمنين الذين تخلّوا عن كل شيءٍ من سقط المتاع وتركوه وراءهم من أجل هدفٍ واحدٍ جعلوه نصب أعينهم وقبلة أفئدتهم،إنه الرحيل إلى الله بقلبٍ سليم. فالهدف من الحركة الحسينية عموما هو إعطاء الناس دروسا لا تُنسى في الإيمان بالله وحده، والصبر على الابتلاءات والشدائد، ومواجهة الطوفان بشتى أسلحة الإيمان، ولذلك، فإن الحسين عليه السلام هو الشاهد في كربلاء قبل أن يكون الشهيد، فهو الشاهد على مأساة الإسلام الذي باتَ ألعوبةٌ وُدميَةٌ بيد الأمويين ومن كان يساندهم ويمهد الطريق لهم ويذلل لهم العقبات والصعبات، وهو الشاهد أيضا على الكثير من الناس الذين كانوا يدعون أنهم من أتباع الحق وأنهم من أعداء الباطل والضلال، فكان

ص: 17

لابد من إقامة الحجة عليهم بخروجه مع أهله وبنيه في سبيل الله ورسالته لِيَشهَدَ على الناس ويُتمّ حجته عليهم من جهةٍ، وليُشهِدَهُم على حقيقة أنفسهم وطبيعة مواقفهم في مواجهة الطوفان الأموي الأعمى والمدمِّر من جهةٍ أخرى.

أما عندما يقول الزائر في زيارة (وارث): (السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل

الله) فما هو المقصود من ذلك؟!

المقصود من ذلك أن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان قدوة للكثير من الأنبياء في علاقته مع ربَّه، فبالرغم من إقراره بعبوديته أمام ربَّه المتعالي العظيم، وبالرغم من إقراره لله بالربوبية المطلقة وأنه - عز وجل - غاية الغايات ومعنى المعاني، إلا أنه كان في علاقته معه مثالا للقُربِ وللخلَّةِ الصادقة التي جعلت منه مرآةً صقيلةً صافيةً قادرةً على عكس الكثير من القِيمَ والصفات الكمالية التي أخبر الله خليلَه الوفي عنها.

فالمرء الذي يُسلِمُ جسدهُ للسجود والركوع، ويجعل من خَدَّيه في جوف الليل طريقا لِما تفیضُ به عيناه من دموع، ويحاسب نفسه ويملأ قلبه بالتقوى والخشوع، ويستشعر الله في كل حركةٍ من حركاته فيعيش حالة (الخلّة) والخضوع، فلا بدّ أن يكون امرءا بعيدا عن النار في الدنيا والآخرة، وهذا ما كان عليه حال إبراهيم خليل الله .

فالله سبحانه وتعالى يخاطب في حديثه القدس نبيَّه موسی بن عمران عليه السلام قائلا:

«یا بن عمران، هب لي من عينك الدموع ومن قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ثم ادعني في ظلم الليل تجدني قريبا مجيبا»(1)، ومن المعروف تماما أن نبي الله موسی بن عمران عليه السلام كان ماضيا على نهج إبراهيم الخليل عليه السلام بكل دقةٍ وأمانةٍ.

فلقب (الخليل) الذي حظي به سيدنا إبراهيم عليه السلام يحمل أكثر من معنى،

ص: 18


1- العلامة میرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، مصدر سابق، ص192

وبإمكاننا معرفة تلك المعاني المتعددة من خلال العودة إلى أي معجم ٍمن معاجم اللغة العربية المُعتَبرة.

فمن المعاني التي تحملها كلمة (الخليل) معنی: الصديق الخالص، ومن معانيها أيضا معنی: الفقير والمحتاج، وهذا يعني أن ارتباط صفة (الخليل) بسيدنا إبراهيم عليه السلام كان ارتباطا وثيقا دالا على عمق العلاقة الروحيّة والنوريّة بين المرأة الإبراهيميّة والذات الإلهيّة.

وبالتالي لا قيمةَ لتلك المرأة الصافية إن لم ينطبع فيها شيء من صفات تلك الذات التي هي منبع كل الصفات الكمالية التي ستنعكس في تلك المرأة على قدر نقائها وصفائها، ومن هنا ندرك أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام كان مستغنيا في وجوده عن كل شيءٍ في الوقت الذي كان فيه محتاجا ومفتقرا إلى المَددِ المباشر من ربه وحده لا من أحدٍ آخر سواه.

والحسين عليه السلام ... ماذا عن الحسين ؟!

ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام کإبراهيم خليل الله علیه السلام غنيا عن كل شيءٍ، ومفتقرا في حركته ونهضته، فقط إلى من ثار من أجل إحياء كلمته وإعلاء رايته ؟!

ألم يخيِّر الإمام الحسين عليه السلام أصحابه المقرَّبين الأخيار بين أن يبقوا معه وبين أن يتّخذوا من الليل جَملا ویترکوه وحيدا في ساحة المعركة قبل بدئها مكتفيا بذلك على ثقته بالله؟

ألم يقف الإمام الحسين عليه السلام صبيحة المعركة رامقا جيشَ العدوِّ القادم لاستئصال جذوره النبوية الشريفة واجتثاث سلالته العلوية الطاهرة بنظرةٍ حزينةٍ، وقد توَّجَ تلك النظرة ببعض الدموع الدافئة التي انسابت بِرقّةٍ على خدّيهِ، وعندما سُئِل عن

ص: 19

ذلك، أجاب قائلا لمن سأله من أصحابه، وموضحا له أن سبب بكائه الحقيقي هو شفقته على جيش أعدائه، ويقينُه من أن كل أفراد ذلك الجيش القادم لقتاله سيدخلون النار بسببه؟!

أليست هذه الصورة من حياة الحسين عليه السلام نسخة أخرى عن شفقة إبراهيم

ورأفته حتى بأعدائه؟!

أليست هذه الرحمة من الإمام الحسين عليه السلام هي المرأة الصادقة لرحمة الله التي ابتدأ الله سبحانه وتعالى كل سورةٍ من سور كتابه الكريم بصفتين أساسيتين من أسمائهِ وصفاته وهما (الرحمن) و(الرحيم) المشتَقَّتين من تلك الرحمة الإلهية؟!

ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام في كل موقفٍ من مواقفه خليلا لله، مخلصا له، قريبا منه، مدافعا عنه، نافضا من الحياة يديه، مستغنيا عن كل شيءٍ لديه، محتاجا فقط لله ومفتقرا في وجودهِ وحركته إليه؟!

نعم، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام إبراهيميا في حركته الإيمانية وفي قربه من الله

وفي خلَّتهِ إليه وحده دون غيره.

ويقرأ الزائر أيضا في (زيارة وارث): (السلام عليك يا وارث عیسی روح الله ... السلام عليك يا وارث موسی کلیم الله) ويقرأ في نفس الزيارة أيضا: (السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله... السلام عليك يا وارث عليًّ ولي الله)، فما معنى ذلك؟!معنى ذلك أن في الحسين عليه السلام أسرارا إلهية لا يعلمها إلا الله، وأن فيه أنوارا لا يستطيع أن يكشف على حقيقتها أحدٌ إلا الله، فالحسين عليه السلام خلاصةٌ الرسل والأنبياء، والحسين عليه السلام ابن الرسالة وابن الإمامة، وهو أب الأئمة والأوصياء، ومن ذريته من يخرج ليملأ الأرض قسطا وعدلا، وتحارب معه ملائكة السماء

ص: 20

فما من أحد يشك في أن الحسين عليه السلام هو ابن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم من ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، وما من أحدٍ أيضا يشك في أنه عليه السلام ابن الأنوار العُلوية العَلَوية من أمير المؤمنين الإمام علي المرتضى إمام الأمة وسيد الأئمة علیه السلام.

ومما تقدم يمكننا أن نقول إن للحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه سابقا الحسین مصباح الهدى وسفينة النجاة» معان كثيرة تتدرج في عمقها وفي اتساع أفُقها.

فالإمام الحسين عليه السلام مصباح الهدی، نعم، إنه مصباح الهدى، ولكن من أين يستمد ذلك المصباح الزيت وماه هي طبيعة ذلك الزيت الذي يجعل ذلك المصباح يتوهج بنور الإيمان والعرفان ويجعله منارةَ الهداية والأمان لكل التائهين والمتعبين؟!

إن زيت المصباح الحسيني هو الميراث الروحي والمعرفي الذي ورثه الإمام الحسين عليه السلام عن كل الرسل والأنبياء، وعن كل الأئمة والأوصياء، فهو عليه السلام الوعاء الطاهر الشفاف الذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يرث الزيتَ المقدس وأن يختزنه في ذاته من أجل أن يعكسه نورا وهدايةً لكل من أراد أن يلقي الشمع وهو شهيد.

فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض مثلما أوجد عليها الإمام الحسين عليه السلام أيضا، وإن الذي أودع في الإمام الحسين عليه السلام ذلك الميراث الروحي العظيم وتلك الصفات الخيرة الكثيرة أودعَ فينا بعض الشيء من تلك الصفات الحميدة على حسب واستعداد أرواحنا كَبَشرٍ عادِّيين، ثم نصب لنا الإمام الحسين عليه السلام مصباحأ ومنارة لنقتدي به وبسيرته ونهجه في كسب المزيد من تلك الصفات والخصال، فالاقتداء بالحسين عليه السلام هو اقتداءٌ بالإمام علي علیه السلام، وهو اقتداء بالرسول المصطفى محمدصلی الله علیه و آله وسلم ، وهو اقتداءٌ بكل رسولٍ ونبي، وبالتالي، فإن الاقتداء بالإمام الحسين عليه السلام هو إقتداءٌ بالكلمات السماوية وبالأنوار الإلهية.

ص: 21

لقد صدق المفكر والباحث (أحمد عباس صالح) عندما تحدث عن نهج علي علیه السلام في الحياة وعن نهج ابنه الحسين عليه السلام بقوله في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام): (ومن الغريب أنه ما من فكرةٍ عظيمةٍ تبقى في الأرض وتؤتي ثمارها إلا بالتضحية والفداء، بل بالعذاب أقسى ما يكون العذاب وهذا النوع من الرجال العظماء هو الذي قُدِّر عليه أن يخوض التجربة حتى النهاية وأن يُمتَحنَ بكل أنواع العذابات دون أن يتردد أو يتراجع، وكأن دوره الوحيد أن يكون مثالا في التاريخ البشري كأنه علامةٌ من علامات الطريق)(1)

وبما أن الشيء بالشيء يُذكَرَ، سأتوقف الآن مليا مع جملةٍ قصيرةٍ قالها أحد أعظم الأدباء والمفكرين العرب في العصر الحديث، إنها جملة قصيرة في كلماتها لكنها بليغةٌ في معانيها وعميقةٌ في مغازيها.

ولكن قبل أن أذكر هذه العبارة القصيرة والبليغة، لابد من الوقوف قليلا مع ذلك الأديب والمفكر حتى نقوم بعملية التعرف عليه عن قرب، خاصةً وأن ذلك المفكر الذي بلغت شهرته الآفاق كان له موقف واضحٌ ومميَّز من الإسلام عموما، ومن فكر أهل البيت علیهم السلام المتمثل بالإمام علي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام خصوصا.

إن ذلك الأديب والمفكر، بل والفيلسوف في نظر المفكرين الغربيين، هو الأديب اللبناني المسيحي (جبران خليل جبران) (1883 - 1931)، إنه أديبٌ، شاعر، مفکر، مجدِّد، وُلد في قرية (بشري )اللبنانية وتوفي في نيويورك، من أركان النهضة الأدبية في المهجر، رئيس الرابطة القلمية في نيويورك، برَع في فن الرسم أيضا، له العديد من المؤلفات الأدبية باللغتين العربية والإنكليزية، ويمكننا أن نذكر من مؤلفاته: (الأرواح

ص: 22


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص112

المتمرّدة)، (الأجنحة المتكسرة)، (یسوع ابن الإنسان)، (المواكب)، (آلهة الأرض)، ومن أشهر كتبه كتاب( النبي ) باللغة الإنكليزية، وقد أصدر الكونغرس الأميركي في عام (1991) قرارا ينصّ على إطلاق اسم جبران خليل جبران على حديقة عامة في واشنطن(1).

ويكفي أن أذكر الآن شيئا واحدا عن عظمة هذا الأديب العالمي الكبير حتى ندرك مدى تأثيره في نفوس الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن ذكرنا لهذا الشيء الوحيد عن عظمة (جبران) لا يعني أنّنا نعطيه کامل حقِّه من الحديث عن طبيعة فكره وعمق تأثيره في نفوس قُرّائه على مختلف مشاربهم وأطيافهم، ولذلك فإننا سنعاود الكلام عن فلسفة هذا الأديب المسيحي في كل لحظةٍ سانحةٍ وفي كل مقامٍ مناسبٍ يسمح لنا بالكلام عنه وعن منابع فلسفته وغاياتها.

وعلى كل حالٍ، فالشيء المهم الذي نودُّ ذكره الآن هو أن كتاب (النبي) الذي كتبه (جبران) باللغة الإنكليزية قد تمت ترجمته إلى كل اللغات الحية في العالم، وليس هذا فحسب، بل إن هناك بعض الكنائس في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم رجال الدين فيها بقراءة بعض المقاطع من كتاب (النبي) لجبران خلال إقامة الصلوات وفي بعض الأعياد، ولا يتوقف هذا الأمر على بعض الكنائس المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه يتجاوز تلك الكنائس المسيحية في الغرب ليصل إلى المعابد البوذية في الشرق.

فهناك في الشرق الأقصى العديد من المعابد البوذية التي يرتل رهبانها وزهَّادُها الكثير من الأقوال الواردة في كتاب (النبي)، بالإضافة إلى العديد من المقاطع

ص: 23


1- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، انتشارات ذوي القربى . إيران،1423ه-، ص197

والأقوال الواردة في كتبهم المقدسة الخاصة بهم.

وإن دَلَّ هذا على شيءٍ، فعلى ماذا يدلّ؟!

إن هذا يدل على أنه كان لجبران خليل جبران رؤية معرفية صائبة في فهم جوهر الحياة، ويدل ذلك أيضا على أنه كان يمتلك بصيرةٌ حادّةً في سَبر أغوار معاني الوجود ومفرداته ، فأدب (جبران) - كما يصفه البعض - هو أدب النبوءة.

ولن أتوقف الآن مع الجانب الروحي والديني في فكر (جبران) وفلسفته، ولن أتناول في هذا الفصل التأثيرات الإسلامية الشيعية في أدبه وفكره، فإن لذلك الحديث مكانه الخاص في ما تبقى من فصولٍ من هذا الكتاب، ولكن علينا أن نعلم جميعا أن للفكر الإسلامي، وتحديدا الفكر العرفاني الشيعي، تأثيرا بالغا على نتاجاته الأدبية، بل إن (جبران) نفسه قد أقر في العديد من كتاباته، واعترف في الكثير من أحاديثه لأصدقائه المقرَّبين منه أنه لم يتأثر بشخصية إسلامية قَطَّ قَدرَ تأثره بشخصية الإمام علي عليه السلام وبأفكاره وأفكارالبقية من آل بيت النبي المصطفى عليهم السلام

وليس هذا الكلام مجرد كلامٍ لا يستند على أدلةٍ وبراهين، بل هو كلام صادق وثابت، وما على الذي يريد أن يقف على حقائق هذه الأمور إلا أن يعود ويقرأ بإمعانٍ کتابنا السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر) ليقف على كل ما قاله (جبران) عن شخصية الإمام علي عليه السلام وعن تأثره العميق بأفكاره ونظراته في الحياة.

ولذلك، ما يهمنا الآن بالتحديد هو الرؤية الجبرانية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام التي تُعتَبرُ الامتداد الفكري والرسالي لشخصية أبيه المرتضی علیه السلام ولشخصية جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم

ولا ريب في أن (جبران) الذي قرأ التاريخ الإسلامي ودرس أحداثه المفصلية

ص: 24

الهامة بكل روية، قد درس أيضا حادثة كربلاء من حيث المقدمات والوقائع والنتائج، ولا ريب أيضا في أن (جبران) قد درس شخصية الإمام الحسين عليه السلام بعمقٍ وحللها برؤيته الفلسفیة والمنطقية مثلما درس وحلل شخصية أبيه الإمام علي عليه السلام .

فماذا كانت نتيجة دراسة وتحليل( جبران) لشخصية الإمام الحسين عليه السلام التي يعتبرها الكثير من المسلمين وعاءً لخلاصة الرسل والأنبياء، والأئمة السابقين والأوصياء؟!

إن الجواب على هذا السؤال من قبل (جبران) يؤكد صدقَ الفكرة التي تقول إن الإمام الحسين عليه السلام هو (وارث الأنبياء)، فجبران المسيحي الذي درس جميع الأديان في العالم إلى جانب دراسته للديانة الإسلامية، يقول بكل قوةٍ ويقين عن الإمام الحسین علیه السلام : «الحسین مصباح مُنیرٌ لجميع الأديان»(1).

إنها عبارة - بلا شك . قوية في تعبيرها وعظيمةٌ في دلالاتها ومعانيها، وبسبب هذه القوة والعظمة التي تختزنهما هذه العبارة الجبرانية، يمكننا أن نتساءل قائلين: لماذا قال .

(جبران): (الحسین مصباح منير لجميع الأديان) ولم يقل: (الحسین مصباح منیر

لجميع أهل الإسلام)؟!

ولماذا أكد (جبران) على حقيقة أن نور الحسين عليه السلام نورٌ لجميع الأمم والأديان ولم يقبل فكرة أن نور الحسين علیه السلام نورٌ مقتصرٌ على هداية العرب والمسلمين

فقط؟! لقد أراد (جبران) أن يقول للعالم بأكمله إن كل إنسان في هذا الوجود، أيا كان دينه ومذهبه، سيعشق الإمام الحسين عليه السلام فور اطلاعه على مزايا شخصيته وفور معرفته بالأبعاد الروحية والإنسانية لثورته، فكل إنسانٍ يقرأتاريخ الحسين عليه السلام

ص: 25


1- راجع مجلة (رسالة الثقلين)، العدد /55/، مصدر سابق ص109

وأهداف الحسين عليه السلام سيري في الإمام الحسين عليه السلام صورةٌ مكثّفةَ الأبعاد عن صورة نبيَّه الذي يتبعه أيا كان ذلك النبي.

وبالتالي، فإن الحسين عليه السلام هو خلاصة الأنبياء والرسل علیه السلام ، وهو المنارة الحية في ضمائر كل أصحاب البصائر عند جميع الأمم والأديان في العالم.

فجبران خليل جبران الذي لم يقبل في يوم ٍمن الأيام أن يعتبر الإمام عليا عليه السلام مجرد إمام للمسلمين فقط، والذي لم يقبل أيضا أن ينزل الإمام عليا عليه السلام . في فكره وفي عقيدته الفلسفية الخاصة . إلا في منزلة الرسل والأنبياء، نراه يكرر نفس الاعتقاد مع الإمام الحسين عليه السلام أيضا وكأنه يريد أن يقول إن أنوار أهل البيت عليهم السلام بالأساس نورٌ واحدٌ، ؤُلِدَ من صدر الأزل وسیبقی نورا وهدايةٌ لجميع الأمم إلى منتهی الأبد.

ولن أخرج عن جوهر بحثنا المتعلق بمسألة ميراث الأنبياء عليهم السلام والحسين عليه السلام الوريث لها، ولكن سأمكث قليلا مع (جبران) ورؤيته لشخصية الإمام علي عليه السلام وذلك لأن (جبران) سوف يأخذ لاحقا حيزا لا بأس به في الفصول اللاحقة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء في الأدب العالمي عموما، وعن عظمة استشهاد الحسين عليه السلام في ضمير الأديان.

فالحديث عن (جبران) وعلاقته الروحية والعرفانية بأهل البيت عليهم السلام لا ينتهي أبدا، ونحن لا ندعي لك ادعاءً من عندنا، بل إن كل الدراسين والمحللين لأدب وفكر (جبران) يقولون نفس الشيء أيضا، وإذا كان الدارسون لأدبه وفكره في الغرب قد اختصروا الكلام كثيرا حول هذه المسألة، ربما بدافع التعصب أو الجهل، فإن الدارسين لأدبه في الشرق لم يغفلوا عن هذه المسألة أبدا، بل إنهم أفردوا لها أبوابا

ص: 26

وفصولا خاصةً بها واستفاضوا في شرحها وتحليلها.

وعلى كل حالٍ، دعونا نذكر ما قاله الأديب والمفكر المسيحي الكبير (جورج جرداق) عن علاقة (جبران) بالإمام علي عليه السلام وكيف كان (جبران) يبوح بهذه العلاقة الروحية العميقة التي تربطه بالإمام علي عليه السلام لكل أصدقائه المقرَّبين من رجال الفكر والأدب.

يقول الأستاذ (جرداق): (وطالما كان جبران يردد اسم علي بن أبي طالب في مجالسه الخاصة والعامة وحين يخلو إلى نفسه، وطالما كان يعظمه وينعتهُ بما يليق به من حِسانِ النعوت، يُنبيكَ عن ذلك أقرب الناس إليه، وأعني به (ميخائيل نعيمة) الذي يقول في رسالة منه إلى مؤلف هذا الكتاب، في جملة ما يقول: (وأذكر أن جبران كان يجلُّ الإمام كثيرا ويكاد يضعهُ في مرتبةٍ واحدةٍ مع النبي)(1).

ولذلك نقول إنه إذا كان (جبران) يعتبر الإمام عليا عليه السلام في مرتبةٍ تواكب مرتبة خاتم الرسل والتبيين عليهم السلام، فليس من الغريب - كما سنرى لاحقا. أن يعتبر دم الإمام الحسين عليه السلام المسفوح في كربلاء أفضل وأكرم وأنبل من دماء ومصائب جميع الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى على مَرِّ العصور والدهور!!

وبالعودة إلى معاني زیارة (وارث) من جديد، وبالوقوف على عبارة (السلام

عليك يا وارث عیسی روح الله)، ماذا يمكننا أن نقول عن ذلك؟!

يمكننا أن نقول، وقبل كل شيءٍ، إن الكثير من الباحثين والمفكرين الذين درسوا وحلَّلوا سيرة الإمام الحسين عليه السلام رأوا أن هناك تشابها كبيرا جدا بينه وبين يسوع عيسى المسيح عليه السلام.

ص: 27


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق (ج 4)، ص227

ورأي ، بنفس الوقت، قسم آخر من أولئك الباحثين أن الشبه الأكبر لم يكن بين الحسين عليه السلام والمسيح عليه السلام فحسب، وإنما كان أيضا بين الإمام علي عليه السلام والسيد المسيح عليه السلام.

وأنا شخصيا لا أرى أية غرابة في هذا الموضوع على الإطلاق، فالإمام الحسين علیه السلام نسخةٌ مطابقة الأوصاف والخصال عن أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبالتالي كلاهما يحملان في سيرة حياتهما وفي شخصيتيهما الكثير من نقاط التشابه في المبادئ والمواقف والنتائج.

ويكفي أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن المفكر المسيحي (نصري سلهب) قد أشار في أكثر من موضعٍ في كتابه (في خُطي علي) إلى التشابه الكبير بين شخصية الإمام علي عليه السلام وشخصية عيسى المسيح عليه السلام، وقد أكد في أكثر من موضع أيضا على أن تسامح الإمام علي عليه السلام مع قاتلیه ومع أعدائه وخصومه يشبه إلى حدِّ كبيرٍ تسامح السيد المسيح عليه السلام مع أولئك الذين ظلموه وعذبوه وأذاقوه مرارة الألم ولوعة الحرمان، وقد عبّر الأستاذ (سلهب) عن ذلك بقوله عن علي عليه السلام : (کان سَمحا غفورا، ما انطوى قلبه على ضغنٍ وحقدٍ... ولهذا السبب غفر لأعدائه، ووقف منهم مواقف تذكرنا بأمثال الإنجيل ومواعظ المسيح)(1).

ولا يختلف الحال بين علي عليه السلام والمسيح عليه السلام عن الحال بين الحسين عليه السلام والمسيح عليه السلام أيضا، فأوجه الشبه بين عيسى والحسين علیهما السلام تبين أن هناك تقاربا كبيرا بين حركتي الفداء والاستشهاد اللتين أقدم عليهما كلاهما مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق السطحية البسيطة في كيفية حدوثهما من حيث المظهر، لا من حيث الأهداف

ص: 28


1- نصري سلهب، في خُطى علي، مصدر سابق، ص320

والجوهر.

فأول وجهٍ من وجوه الشبه بين عيسى والحسين عليه السلام يتجلى في مولدهما وسيرة حياة كل منهما، وقد قيل: (لم يُولد مولود لستّة أشهر وعاش إلا الحسين وعیسی ابن مریم)(1)، وربما المقصود بذلك هو أنهما علیهما السلام فقط من بين كل الأنبياء والأئمة قد وُلدِوا لستة أشهر وسَلِما وعاشا بعد ولادتهما، وبالتالي، فالحديث قد يؤخذ به على وجه التخصيص والتقييد، لا على وجه الإطلاق والتعميم.

وبالطبع، فإن الأمر لا يتوقف عند التشابه بين الولادتين، بل إنه يتعداه إلى ما بعد ذلك بكثير، فلو أننا رجعنا إلى نقاط التشابه الأخرى، لَوَجدنا منها الكثير جدا، ويكفي أن نذكر هنا بعض تلك النقاط المتشابهة بينهما عليهما السلام حتى يكون دليلا على عمق واتساع مساحة التشابه بين كل منهما علیهما السلام .

فمن ناحية الصلابة والصمود والصبر على البلاء والشدائد، نرى أن السيد المسيح عيسى عليه السلام لاقى الكثير من الآلام والتعذيب، وعانى مرارة الظلم والاضطهاد والمهانة، وطُعن وشُتِم وشُتِمت أمّه العذراء مريم عليها اسلام وجرَّده الطغاة من ثيابه ووضعوا على جبينه النقي إكليلا من الشوك بدلا من إكليل الغار إمعانا منهم في تحطيمه وإذلاله، وحُوكِم وعُذِّبَ عذابا شديدا جزاء مبادئه وتعاليمه السماوية وقِيَمه الرسالية النبيلة.

والإمام الحسين عليه السلام بِدَوره أيضا، خرج مهاجرا في طلب الحق وإحياء الكلمة، فَشُرِّدَ و وضُیِّقَ عليه، وأذاقوه لظى العيش وهو ابن صاحب الحوض، وقتلوا البعض من عياله ظمأ وهم أحفاد صاحب نهر الكوثر، ولاقي في نهضته الرسالية الكثير من البأساء

ص: 29


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص72.

والضراء، وقُتِلَ هو وسُبِیَت عيالُه، وجرَّدوه هو أيضا من ثيابه بعد استشهاده، وسُلِب الخاتم من إصبعه بعد قطعها، وداسوا بالخيل على جسده الشريف، وأخذوا أهله وعياله أسرى تحت التعذيب وضرب السياط من كربلاء إلى الشام.

فالسيد المسيح عليه السلام يقول في نهاية مطافه وفي اللحظات الأخيرة: (أنا عطشان)(1)، فلم يُعطِه جلادوهُ أيةَ قطرةٍ، بل أعطوه إسفنجةً مبتلَّةٌ بالخَلِّ بدل الماء انتقاما منه.

والإمام الحسين عليه السلام أيضا طلب شربة ماء وهو ملقى على الرمال، مطعونٌ في جنبه ونحره، و مجروحٌ في حلقه ورأسه وجبهته، وكان دمه يتدفق من جراحه المتعبة بكل غزارةٍ مما يُنبئ باقتراب رحيله، ومع ذلك منعوا عنه شربة الماء وقال له رجلٌ من أعدائه: (والله لا تذوقه حتى تردَ الحامية فتشرب من حميمها)(2).

وإضافةً إلى ذلك، فإن الإمام الحسين نفسه عليه السلام كان يشبه حال عطش ابنه عبد الله الرضيع عليه السلام في كربلاء بحالة ناقة نبي الله (صالح) عليه السلام ومَنعِها من الماء من قِبَلِ أهل ثمود الذين تمادوا في غيهم وضلالهم إلى أقصى الحدود(3)

أما من حيث المبادئ والأهداف، فلا يمكننا أن نتجاوز تلك المقارنة الذكية التي قام بها المفكر والأديب المسيحي (أنطون بارا) بين مبادئ وأهداف المسيح عليه السلام وما يقابلها عند الإمام الحسين علیه السلام .

وينقل لنا الأستاذ (بارا) مقولة للسيد المسيح عليه السلام جاءت في أكثر من إنجيلٍ من

ص: 30


1- راجع إنجيل يوحنا ج19 ص29. 30
2- ابن نما الحلي، مثير الأحزان، دار العلوم. بيروت، ط 2004/1ص112
3- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، مصدر سابق ص136

الأناجيل الأربعة المعترف بها عند المسيحيين الآن، ويقول السيد المسيح عليه السلام في تلك العبارة مُبَيَّنا أهدافه التي أرسله الله سبحانه وتعالى من أجل تحقيقها بين الناس:

(روح الرب نازلٌ علي لأنه مُسَحني وأرسلني لأُبشِّر الفقراء وأبلغ المأسورين

إطلاق سبيلهم وأفرج عن المظلومين وأعلن سُنَّةً مرضية لدى الرب)(1)

.والإمام الحسين عليه السلام أعلن بِدَوره أيضا عن أهدافه المطلوبة قائلا على رؤوس الأشهاد: «وإني لم أخرج أشِرا ولا بطرا ولا مُفسِدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب»(2)

فهاتان العباراتان القصيرتان من السيد المسيح عليه السلام ومن الإمام الحسین علیه السلام تلخصان باقتضاب الأهداف المنشودة لحركة ونهضة كلٌ منهما، وغنيٌ عن القول والشرح أن التشابه واضحٌ في جوهر الحركتين وفي عمقهما الإنساني والاجتماعي العام. أما في ما يتعلق بإقامة الحجة على المقصرين في جهادهم ضدّ الباطل وفي وقوفهم مع الحق، وعلى أولئك الذين كانوا يخُفون روحهم الجاهلية وعصبيّتهم القبلية وراء ستار إسلامهم الزائف المبني عندهم على أساس المصالح الشخصية والمكاسب المادية، فنذكرهم أيضا بمواقف متشابهة تجمع بين المسيح والحسين عليه السلام من حيث ضرورة إقامة الحجة على أمثال أولئك الدخلاء على الدين الحقيقي النظيف، سواء الدين المسيحي أم الإسلامي.

ص: 31


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابقص73.
2- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق (ج1 ) ص188.

فالسيد المسيح عليه السلام يقول عن أمثال أولئك: «لو لم أكن قد جئتُ وكلَّمتُهم، لم

تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذرٌ في خطيَّتهم»(1)

والإمام الحسين عليه السلام يقول أيضا عن مسألة الاختبار: «وإذا أقمتُ مکاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يخُتَبرون؟ ... ولكن ليهلك من هلك عن بَيِّنةٍ، ويحیی من حيَّ عن بيِّنةٍ»(2)

أما ما يتعلق بمعرفة النهاية المحتومة على كل من المسيح والحسين عليه السلام ،فقد

كان كلاهما على معرفةٍ تامةٍ بما يريده القومُ منهما.

فالسيد المسيح عليه السلام يعرف أن الهدف من تعذيبه وإذلاله، ومحاولاتهم الدؤوبة للقضاء عليه لم تكن تهدف في صميمها إلا إلى التخلص من مبادئه وتعاليمه الجديدة التي جاء بها لتصحيح التشويه والتحريف المتعمد الذي ألحقه المفسدون منهم بشريعة موسی علیه السلام .

ولذلك، فقد قال المسيح عليه السلام مخاطبا أعداءه بكل يقينٍ وثباتٍ: «أليس موسی قد أعطاكم الناموس؟ وليس أحدٌ منكم يعمل بالناموس! لماذا تطلبون أن تقتلوني؟»(3).

ومن نفس المنطلق وبنفس المنطق ينطلق الإمام الحسين عليه السلام في حواره مع أعدائه الذين لم يجتمعوا عليه إلا من أجل هدفٍ واحدٍ وهو القضاء على المبادئ والقِيَم التي جاء ليحييها في صفوفهم من جديد، ففي القضاء على الإمام الحسين عليه السلام قضاء على رسالة محمد صل الله عليه واله ذاتها وإجهاضٌ مُبَکِّرٌ، بنفس الوقت، على كل

ص: 32


1- إنجيل يوحنا ج15 ص22
2- ابن طاوس، اللهوف على قتلى الطفوف، مطبعة العرفان بصيدا، ط 1929/2 ص37
3- انجیل یوحنا ج 7 ص 19.

ثورةٍ محتملةٍ لاحقةٍ يمكن أن يقوم بها أحدٌ ما أو أن تسول له نفسُه مجرد التفكير بها کردِّ فعلٍ على السياسة الأموية في معاملة العباد والتحكم بالبلاد.

وها هو عليه السلام يخاطبهم قائلا ومذکرا قبل الاشتباك والالتحام في ميدان المعركة:

«راجعوا أنفسكم وحاسبوها، هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نَبيَكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري؟!... ويحکم! أما تتقون الله؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!»(1)

وبما أن نقاط التشابه بين السيد المسيح عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام أكثر من أن تحُصى، فلابد من أن يَرِدَ السؤال التالي إلى أذهان البعض منا، خاصةً وأن السؤال يتعلق بمسألة نهاية الآلام التي عاناها كلُّ منهما قبل التحاقه بالرفيق الأعلى.

والسؤال هو: من كان أكثر معاناةً والاما من الآخر، المسيح أم الحسين عليه السلام ؟!

وربما يمكن لهذا السؤال أن يتفرع إلى أسئلةٍ جوهريةٍ لا تقل عنه أهميةً أبدا، فقد

يقودنا هذا السؤال الأساسي إلى أسئلةٍ عديدةٍ، ومنها:

إذا كان الإمام الحسين علیه السلام وارثأ للأنبياء في علومهم وفي خصالهم وأخلاقهم وفضائلهم، وفي مبادئهم وقِيَمِهم، فهل كان وارثا لهم أيضا في آلامهم ومصائبهم وفي إرثهم الفجائعي الدامي؟!

وإذا كان الضمير العالمي، بشكلٍ عامٍ تقريبا، يرى أن آلام السيد المسيح عليه السلام

كانت فظيعةً ولا تُطاق، ويرى بنفس الوقت أن السيد المسيح عليه السلام كان صاحب معجزات وعجائب كثيرة استطاعت أن تذهل البشر، وكان من جملة تلك المعاجز مقدرته على التنبوء بأحداثٍ ووقائع عديدة كانت لا تزال وقتها في دائرة الغيب حيث

ص: 33


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدا، مصدر سابق ص255

أشار القرآن الكريم إلى بعضها بشكلٍ مختصرٍ وواضحٍ من خلال قوله تعالى عن لسان المسيح عليه السلام : «... وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »(1)، فإذا كان السيد المسيح على هذا القدر العظيم والنصيب الوافر من المعاجز والقدرات المختلفة، بما في ذلك قدرته على التنبوء بالغيبيات، فهل كان على معرفةٍ غيبيةٍ بأن هناك ابن بنت نبي أخير سيأتي بعده وسيحمل عنه میراثه وسيتألم كأعظم ما يكون الألم، وسيعاني كأعظم ما تكون المعاناة، من أجل رفع رايات كل الرسل والأنبياء عليهم السلام من عهد آدم عليه السلام إلى عهد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ؟!

إنها أسئلةٌ قد تخطر على بال أيِّ واحدٍ منا، وهي بلا ريب أسئلةٌ تستحق الوقوف عندها والإجابة عليها بكل رويةٍ وإمعانٍ، ودون اعتماد أي عصبية معينة بحيث تخُرج الجواب المطلوب عن جادة الحق والصواب.

فيما يتعلق بالسؤال الأخير المطروح، نقول بكل ثقةٍ واطمئنان: نعم، إن السيد المسيح عليه السلام كان على علمٍ مسبقٍ بما سَيُقدم عليه ابن بنت آخر رسولٍ ونبيٍّ من ثورة شاملة على كل التشويهات والتحريفات التي لحقت بالدين الإلهی الواحد بجوهره، والمتجدد بمظاهره، والمنقول إلى الجنس البشري عموما عبر قنوات الرسل والأنبياء.

نعم، لقد عرف السيد المسيح عليه السلام ذلك وتنبأ به وأخبر عنه أتباعه وحواريه قبل حدوثه بمئات السنين، ولا يحسب القارئ الكريم أنني أنا الذي أقول وأؤكد ذلك.

کلا، فالقائل لستُ أنا قطعا، وإنما هو أحدُ المفكرين والباحثين المسيحيين الذين أفنوا عمرهم في قراءة تفاصيل وخفايا الديانتين المسيحية والإسلامية، وتوصلوا إلى معرفة الكثير من القضايا البالغة الأهمية والتي تدل على عمق الوشائج بين تلك

ص: 34


1- سورة آل عمران: الآية 49

الديانتين العظيمتين.

فالباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) یکتب تحت عنوان (المسيح... هل تنبأ بالحسين؟) ما يلي: (لقد لعن المسيح قاتلي الحسين وأمر بني إسرائيل بلعنهم، وقال: من أدرك أيامه فليقاتل معه، فإنه کالشهيد مع الأنبياء مقبلا غير مدبر، وكأني أنظر إلى بقعته، وما من نبي إلا وزارها، وقال إنك لَبُقعة كثيرة الخير، فيکِ يُدفِنُ القمر الزاهر)(1).

فالسيد المسيح عليه السلام يؤكد من خلال حديثه هذا لأتباعه و حواريه على أن القتال مع الإمام الحسين عليه السلام واجب ديني وضرورة إنسانية، وأن الاستشهاد بين يديه الكريمتين في ساحة الجهاد هو استشهاد عظيم لا يقل أهميةً عن الاستشهاد في ساحات القتال تحت رايات الرسل والأنبياء عليهم السلام.

أما السيد قول المسيح عليه السلام عن أرض كربلاء ذاتها: (وما من نبي إلا وزارها) فهو تأكيدٌ حاسمٌ على أن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن تكون أرض کربلاء أرضا ذات قداسةٍ خاصةٍ مستمدةٍ من دماء الحسين عليه السلام ومن عظمته وعظمة ثورته الروحية والإنسانية العامة التي جمعت في أهدافها ومضامينها كل أهداف وغايات الرسائل السماوية السابقة التي جاء بها الرسل والأنبياء عليهم السلام، فاستحق الحسين عليه السلام بذلك أن تكون أرض شهادته مزاراومقصدا لكل من جاء نبيا أو رسولا من السماء إلى بني الإنسان.

أما في الجواب عن السؤال الثاني المطروح سابقا والمتعلق بالإرث الفجائعي الدامي الذي ورثه الإمام الحسين عليه السلام عن كل من سبقه من رسل وأنبياء، فنستطيع أن

ص: 35


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص295

نقول بشكل مباشرٍ إن كل ذي بصيرةٍ نافذةٍ يستطيع أن يحكم على تلك المسألة من خلال مخزونه الثقافي المتعلق بالدراسة المعمقة لتاريخ وسيرة حياة الرسل والأنبياء من جهةٍ، ولتاریخ و سيرة الإمام الحسين عليه السلام من جهةٍ أخرى، وعلى سبيل المثال، هناك الكثير جدا من المفكرين والباحثين المثقفين الذين درسوا وحللوا وقارنوا بين حياة الرسل والأنبياء وسِيَرِهم المختلفة وبين سيرة الإمام الحسين عليه السلام فوجدوا من خلال النتائج الهامة التي توصلوا إليها أن الإمام الحسين عليه السلام نتيجةً لما لاقاه هو وأهله في كربلاء، كان موحدا لجراح الإنسانية المعذبة وجامعا في آلامه لكل آلام من سبقه من رسولٍ أو نبي على امتداد سلسلة النبوات والرسالات.

ولعل القول الذي سأورده الآن هو أفضل تعبيرٍ عن هذه الفكرة التي يعتنقها الكثير من المفكرين والمثقفين الباحثين عن الحقيقة، وهم في مجملهم ليسوا من المسلمين الشيعة، وربما معظمهم ليسوا من المسلمين أساسا.

فعندما نقرأ قولا كهذا القول الذي سأذكره بعد قليل لمفكرٍ مسيحي بارز عن الحسين عليه السلام ، فما هو تعليقنا عليه، وما هو البُعدُ الروحي الحقيقي في قول هذا المفكر المسيحي الذي أمضى سنوات طويلةٍ من عمره في دراسة سِيَرِ الأنبياء والرسل وعمق معاناتهم وآلامهم، ثم عكف بعد ذلك سنواتٍ أخرى من أجل دراسة وتحليل أحداث فاجعة كربلاء على ضوء مبادئ الإمام الحسين عليه السلام وسيرته المناقبية؟!

وما هو التحليل الفكري الذي يمكن أن يفهمه القارئ شخصیا من قول ذلك المفكر المسيحي الذي جاء قوله خاتمةً ونتيجةً لأبحاثه ودراساته المطولة، فقال بكل جرأةٍ ودون أدنى حرج:

(فأي رسولٍ زُرعَ في جسده أكثر من مئة نبلة... وأكثر من أربعين طعنة... وأي

ص: 36

نبي قتله العطش مثل ما فُعِل بالحسين عليه السلام ؟! وها هو قائد الشهداء وسيدهم یُرمی بسهمٍ في جبهته، ويضرب بحجرٍ فيها، ويُطعن على قلبه بسهمٍ ذي ثلاث شعب، ويُرمي في حلقه، ويُضرب على عاتقه، ويُطعن في ترقوته وبصدره وبنحره وبجنبه، ويُسلب وتُقطع إصبعهُ من أجل خاتمٍ، وتُقطع يده اليمنى ثم اليسرى من أجل تكةِ سروال، ويحُتز رأسهُ الشريف، ویُوطأ بعشرٍ من الخيل صَدرا وظَهرا، ثم يحُمَل رأسه على سنِّ رمحٍ إلى دمشق، حيث يوضع بمهانة أمام الفاسق یزید لینکت ثناياه بالقضيب، ويُعلق في سوق الصيارفة ويُشرب الخمر حوله ويُقالُ الكفر أمام كرامته ...

فهل يبقى للمقارِن المتمعِّن في هذه الميتة الأليمة تردد في وضع شهادة الحسين علیه السلام في المقام الأول بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ؟!)(1).

وهنا تحديدا، قد يقف بع القراء الذين قرأوا هذا الكلام البليغ الصادر عن أحدِ الأعلام المسيحيين في الوطن العربي ويتساءلون قائلين:

هل قصد ذلك المفكر المسيحي بقوله إن (شهادة الحسين عليه السلام في المقام الأول بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ) أن شهادة الحسين عليه السلام أعظم وأكبر حتى من شهادة المسيح عليه السلام ذاته والذي يعتبره المسيحيون قد عُلِّق على خشبة الصليب بعد عذابٍ ومعاناةٍ شدیدین؟!

نعم، إن هذا السؤال قد يخطر على بال أي قارئ بعد أن يقرأ ما جاء سابقا من تقييم لحادثة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بعد مقارنتها الدقيقة مع شهادات كل من استشهد من رسل وأنبياء قبله، ولكن، وعلى ما يبدو، فإن ذلك المفكر المسيحي قد استعد لكل سؤالٍ محُرجٍ من هذا النوع، فأعد له الجواب الشافي والبعيد كل البعد عن

ص: 37


1- نفس المصدر السابق ص117.

التحيز والتعصب على أي دينٍ أو مذهبٍ إلا لمذهب الحق ودين الصدق.

وقد كان جواب ذلك المسيحي على السؤال الذي يمكن أن يُطرح عليه من قِبَلِ أي قارئ: (هي شهادة أكبر في مقياس المعاناة من شهادة عيسی عليه السلام، ولَئِن تعادلت معها في مقياس النتيجة، فإن لها وقعا أشد على القلوب، وإذا تذكرتها العقول فإن الذكراها رنَّة حزنٍ وأسی تحفر في الحنايا والصدور أخاديد عميقة وأثلاما لا تندمل)(1).

وعلينا هنا أن نعرف تمام المعرفة أنه إذا كان هناك الكثير من المفكرين والباحثين الذين ينتمون إلى مشارب مختلفة قد عقدوا الكثير من المقارنات وأجروا عددا لا يُستهان به من الدراسات والتحليلات حول نقاط التشابه بين السيد المسيح عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام ، فإن هنالك، بنفس الوقت، العديد من رجال الفكر والأدب الذين لم يقتصروا في أبحاثهم على إجراء المقارنات بين المسيح والحسين عليهما السلام ، بل تجاوزوا ذلك إلى دراسة أوجه التشابه أيضا بين أم السيد المسيح عليه السلام وأم الإمام الحسين عليه السلام كنوعٍ من التأكيد على عمق العلاقة بين أهل عوالم الأنوار وبين أهل وورثة علوم النبؤات والرسالات.

فالمفكر والأديب اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني)، وهو مثال واحدٌ من الكثير من الأمثلة الأخرى، يرى أن هناك تشابها كبيرا بين مريم العذراء عليها السلام وفاطمة الزهراء علیها السلام

فكلتاهما تمثلان صورة المرأة الكاملة في الوجود، وكلتاهما جاءنا إلى عالمنا من أجل استمرار بقاء صوت الله ورسالته ونوره أحياء في ضمير الإنسان وذلك عن طريق

ص: 38


1- نفس المصدر السابق ص118.

ما ستتمخض عنه حماهما اللذان كما يقول عنهما الأستاذ الأديب (كتاني)، ليسا من لحمٍ ودمٍ، بل هما رمزان باقيان لمستودع الأنوار التي جاءت رحمةً وهدايةً لبني الإنسان في كل بقعةٍ ومكان، وإرثا سماويا خالدا تتوارثه ضمائر الأحرار على مر الأجيال.

وها هو الأستاذ المسيحي (كتاني) يقوم بعقد تلك المقارنة الهامة قائلا:

(وهذه رحم ما كانت بطانتها من لحم ودم - لقد شقت من قبل رحم مثلها عن ولادة جاءت رحما لسمو الإنسان - تلك مریم واضعةٌ في حضنها ذلك الذي احتضن الأرض والسماء، وهذه فاطمة الزهراء تتفتق خاصرتاها عن سلالة هي ديمومة النبوة في خطها الصاعد مع الأجيال، هي إرث الإنسان في احتكاكه بالجوهر الأسمى فيه، هو ذلك التحضير النفسي لِتَحسُّسِ الإنسان بقيمته المربوطة بالمصدر الأعلى)(1).

هذه هي صورة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في نظر ذلك المفكر المسيحي، وتلك هي أيضا وظيفتها في عملية الربط الروحي بين عالَمَي الأرض والسماء من خلال ذريتها المقدسة التي تلعب الدور الأسمى والأكثر حيويةً في إعادة ربط الإنسان بجوهر الرسالات السماوية أخلاقيا وروحيا، ومن ثم لربطه عمليا بالمصدر الأعلى والجوهر الأسمى عن طريق الأخذ بيده للسلوك في معارج السالكين وصولا إلى معرفة حقيقة الذات التي طَهَّرتُها نارُ المجاهدة من كل شائبةٍ وغسلت مرآة وجهها دموعُ التوبة والندم فأضحت صقيلة شفيفةً قادرةً على استقبال الفيوضات النورانية الربانية، وعارفة كيفية حدوث النفخة الإلهية في النشأة الآدمية.

فالسيدة العذراء مريم عليها السلام ، هي والدة السيد المسيح عيسى عليه السلام صاحب

ص: 39


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وترٌ في غمد، مصدر سابق ص625.

الكرامات والمعجزات التي لا تزال تذهل العقول وتحير أرباب النهي والبصائر، وما

جاء ابنُها عيسی عليه السلام بتلك الكرامات والمعاجز العظيمة ليضل الناس ويفتنهم عن الحق، بل جاء ليقول للناس إن كل إنسانٍ مؤمنٍ يمكن له إذا أطاع الله ورسوله أن يتحول إلى مهاجرٍ إلى الله، متخذا من سبيله . أي سبيل عيسی عليه السلام - معراجا ومسلكا للوصول إلى عالم الخلاص والخلود.

فالغاية المباشرة من تعاليم السيد المسيح عليه السلام هي خلق حالة الكمال في ذات الإنسان ورفعه من مستوى الإنسان شکلا وصورة إلى مستوى الإنسان المستحق للخلافة الإلهية على الأرض بكينونته المادية والروحية، ولذلك، بإمكاننا أن نتتبع الكثير من تعاليم السيد المسيح عليه السلام وأقواله ونصائحه لأتباعه ومريديه لنرى في نهاية المطاف أن الغاية من تلك التعاليم الرسالية هي قوله عليه السلام: «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء، الذي تشرق شمسه على الصالحين والفجرة، ويُنزل قطره على الأبرار والأئمة، وتكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام»(1).

وغنيُّ عن القول أن كلمة (أبناء) أو (أباكم) هي عبارةٌ عن اصطلاحاتٍ مجازية في اللغة، وقد استُخدِمت في هذا الحديث من ذلك الباب.

وكمثالٍ على ذلك، يمكن أن يقال لطالب الدنيا إله ابن الدنيا ولطالب الآخرة إنه ابن الآخرة، ويقال أيضا لمن هو ماهرٌ في صنعته إنه ابن الصنعة، وهكذا...

وإذا كانت الفضيلة العظمى للسيدة العذراء مريم عليهاالسلام أنها حملت كلمة الله وجاءت بها نورا وهداية وخلاصا للمتعَبين والمستضعَفين في الأرض، فما هي الفضيلة العظمى للسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ؟!

ص: 40


1- أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، دار دانية . بيروت ودمشق، ط1990/1ص101

في الواقع، إن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، من حيث العظمة التي تتمتع بها، يمكن أن نقف على شيءٍ منها، وليس على تلك العظمة كلها، ويكفي أن نقول إن التأمل والتفكر في هذه الأبيات الشعرية التي نظمها أحد الشعراء العارفين بحقيقتها ستعطينا، بلا ريب، شيئا من ملامح تلك العظمة التي لا يمكن أن تُدرَكَ بحقيقتها تمام الإدراك.

فعندما يقول عنها عليه السلام ذلك العارف ۔ بعد أن وصل إلى مفتاح معرفتها - هذه الأبيات واصفا إياها:

مشكاةُ نور الله جل جلاله *** زیتونةٌ عَمّ الوری برکاتُها

هي قطبُ دائرة الوجود ونقطةٌ *** لماتَبَدت اکثرت کَثَراتُها

هي أحمدُ الثاني وأحمدُ عصرِها *** هي عنصرُ التوحيد في ساحاتها

فعندما يقول عنها ذلك العارف ما قال، ماذا يمكننا نحن أن نقول؟!

بل هل هناك قولٌ لأحدٍ عن فاطمة علیها السلام بعد أن قال عنها الإمام جعفر الصادق علیه السلام :

«هي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(1)؟!

فهل بعد قول الصادق عليه السلام قول؟!

ولكن، ومع هذا، نقول إن كل ما قيل وما يقال عن الزهراء فاطمة عليها السلام ما هو في حقيقته إلا بمستوى القَبَس من الشعاع، ولا يعني هذا الكلام، بطبيعة الحال، أننا لا نريد من أحدٍ أن يكتب عن فاطمة عليها السلام أو أن يذكر فضائلها ومكانتها في قلوب المسلمين، أو حتى أن يكتب عن المصائب والكوارث التي حلت بها وببيتها حتى أن

ص: 41


1- أحمد الرحماني الهمداني، فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى، مؤسسة البدر . طهران، 1410 ه- ص7

ذلك البيت المقدس قد لُقِّبَ لاحقا ببيت الأحزان، أبدا، فنحن لا نقصد بذلك، بل نحن نطلب من الجميع أن يجُندوا أقلامهم للحديث عن دور الزهراء علیهاالسلام في حفظ الرسالة السماوية الأخيرة، تلك الرسالة الخالدة الجامعة الجوهر كل الرسالات السابقة، وكيف أنها عليها السلام لعبت دور (أم أبيها) وذلك عن طريق ذريتها والتي يمتل الإمام الحسين عليه السلام أحد أهم حلقاتها في الحفاظ على رسالة أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم على مرِّ العصور والأجيال التي تَلَت فاجعة كربلاء.

ولذلك، فمن الطبيعي تماما أن يركز الأديب المسيحي (سلیمان کتاني) على دور فاطمة الزهراء علیها السلام في تربية وتنشئة ابنيها الإمامين الحسن والحسين علیهما السلام في ظلال بيت النبوة من أجل القيام بالدور الذي ينتظرهما في المستقبل القريب، فالزهراء فاطمة علیها السلام كانت تمثل بالنسبة لأبيها المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم البُعدَ الروحي أكثر مما تمثل البُعد المادي والدموي.

فالتاريخ يحدثنا عن عددٍ من الأنبياء كان أبناؤهم ضدهم وضد حركتهم الرسالية، وبالتالي هل هناك من فائدة ٍتُرتجي من تلك القرابة والعلاقة الدموية القوية ؟!

وبالنسبة للزهراء فاطمة عليها السلام فقد كان الأمر مختلفا تماما، فهي من الجهة المادية والدموية الحبل الموصول بين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وذريته إلى يوم القيامة، وقد أكد الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم نفسه هذه الحقيقة بقوله في أكثر من حديثٍ: «كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ؤُلدُ فاطمة فإني أنا عصبتهُم وأنا أبوهم»(1).

وقد أدرك الكثير من المفكرين المسلمين والمسيحيين عمقَ هذه الحقيقة المتعلقة بالسيدة الزهراء علیها السلام ، وأدركوا، بنفس الوقت أيضا، أنها عليها السلام هي الوعاء

ص: 42


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهم السلام ، مصدر سابق ص54

الطاهر الذي لعب دور الجمع بين أنوار النبوة وأنوار الإمامة، وبالتالي فهي التي ستقوم بدور إحياء وإكمال ما بدأه أبوها المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وزوجها المرتضی علیه السلام عن طريق أبنائها الأئمة من ذرية ابنها الإمام الحسين عليه السلام

ولذلك، فعندما يقول الأستاذ (كتاني): (إن أم الحسن والحسين كانت أشد الناس استيعابا لقيمة التحضير )(1)، فهذا يعني معرفة الزهراء عليها السلام بالدور الموكل إليها في ترسيخ مبادئ رسالة والدهاصلی الله علیه و آله وسلم من جهةٍ، وفي كشف زيف إيمان من كان يدعي موالاته والتصديق به وبرسالته من جهةٍ ثانيةٍ، فالجهةالأولى باتت واضحة لدينا ولذلك لا داعي للاستفاضة في شرحها وتوضيحها من جديد، أما ما يتعلق بالجهة الثانية، وهي جهة بالغة الحساسية في طريقة معالجتها وتبسيط مضامينها، فيمكننا القول عنها - باختصارٍ شديدٍ - إن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كانت المحك الحقيقي الإيمان كل من ادعى أنه قد دخل إلى رسالة الإسلام عن قناعةٍ ويقين، ومن الطبيعي تماما أن يسأل أي واحدٍ من الناس عن تفسير هذا الكلام الذي يبدو غريبا بعض الشيء.

ولكننا نؤكد على أنه لا يوجد أي غرابةٍ في ذلك الكلام أبدا، فطالما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم قد أكد في أكثر من مناسبة على أن ابنته الزهراء فاطمة علیها السلام هي (أم أبيها)، وهي سرُّه، وهي أم أبنائه من علي عليه السلام ، فمن الطبيعي إذن أن يتم اختبار الناس الذين يدعون صدق الإيمان برسالة المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم عن طريق معرفة صدق مودتهم لمن استحقت بجدارة لقب (أم أبيها)، وعن طريق اختبار مدى مودتهم لأبنائها الذين يمثلون بحقيقة الأمر - أبناء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ذاته.

ص: 43


1- سلیمان کتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمدٍ، مصدر سابق ص627

ولا أعتقد أن هناك أحدا من القراء، مهما كانت ثقافته الإسلامية متواضعة، يجهل كيفية النهاية المأساوية التي لاقتها فاطمة الزهراء عليها السلام هي وجميع أبنائها وأحفادها، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام، سيد شباب أهل الجنة.

وأعتقد أنه من المناسب تماما هنا أن أذكر وجهة نظر المفكر الفرنسي المعاصر (جان موریون) حول الدور الحيوي الذي تمثله السيدة الزهراء عليها السلام على مسرح الرسالة الإنسانية، وليس على مسرح الرسالة الإسلامية فحسب.

يقول ذلك المفكر الفرنسي عنها علیه السلام : (لقد وجهها والدها نحو هذا الدور حين طرح اسمها لتكون من أهل البيت خلال الاحتكام إلى الله الذي عرضه على المسيحيين (يوم المباهلة)، وذلك حتى تستمر تعاليم الرسالة الإسلامية... وهكذا نجد أن فاطمة تحتل هنا موقع المحور وسط علاقات القرابة الخمس (الأبوة، الزواج، الأمومة، البنوة، الأخوة) وهي تحتل مكانة محورية، تاريخية، انتقالية، فهي الرابطة الجسدية الوحيدة بين أبيها وزوجها وأبنائه، وتمثل (أم أبيها) مبدأ الاستمرارية الوحيد للجنس... لقد تحولت فاطمة إلى رهينةٍ إنسانيةٍ لتأكيد الحرارة الإلهية)(1)

وبعد أن يجري الأستاذ (موريون) مقارنة سريعة بين أم السيد المسيح عليه السلام وأم الإمام الحسين عليه السلام وعلاقتهما بالجوهر الإلهي الوحيد والحقيقي الذي( لم يلد ولم يولد)، نراه يتابع حديثه عن معنى التضحية التي قدمتها السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فِداء للمبادئ وللقِيَمِ السماوية النبيلة، فيقول عن ذلك متابعا حديثه:

(وهكذا تجد فاطمة نفسها مخُتارة لضمان استمرار رسالة أبيها النبوية، وبقاء طائفة المؤمنين عبر الموت العنيف (من الحسن الذي مات مسموما، والحسين الذي

ص: 44


1- جان موريون، لويس ماسينيون، مصدر سابق ص81

استشهد، ومحسن الذي أُجهضت به) حتى المهدي الذي أسمته بصورةٍ مسبقةٍ محمدا(1)

وإذا كان البعض من المفكرين والباحثين لم يكتفوا بإجراء العديد من المقارنات بين المسيح والحسين عليهما السلام ، بل راحوا يقومون بإجراء مقارنات أخرى أيضا بين الوالدتين المقدستين، مريم العذراء وفاطمة الزهراء علیها السلام ، فإن هناك أيضا عددا آخر من رجال الفكر والأدب لم تتوقف أقلامهم عند مجرد إبراز وجوه التشابه بين شخصيَّتي عيسى المسيح والإمام الحسين عليه السلام ، بل تخطت أقلامهم ذلك إلى ما هو أكثر عمقا وتشعبا.

فنحن نعرف أن هناك العديد من الكتب والأبحاث والمقالات قد كُتِبَت عن إبراز معظم الأوجه المتشابهة بين شخصية الإمام علي عليه السلام . والذي يمثل الإمام الحسين علیه السلام نسخة ثانية عنه وعن مبادئه، وبين شخصية الفيلسوف اليوناني القديم (سقراط) (نحو 470۔ 399 ق.م)، ذلك الفيلسوف العظيم الذي تقول عنه كل الموسوعات الثقافية إنه أحدث ثورةً حقيقيةً في الفلسفةبأسلوبه وفكره، ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثير من المهتمين بالقراءة والثقافة هو أن هناك أيضا من أجرى نفس المقارنة، ولكن هذه المرة ليست بين سقراط والإمام علي عليه السلام ، بل بين سقراط والإمام الحسين علیه السلام

ذاته.

ولكن، ومن باب الإنصاف في الكلام، نقول إن كل الذين كتبوا في مسألة التشابه بين مبادئ علي عليه السلام ومبادئ سقراط، قد أكدوا بطريقةٍ أو أخرى على أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام في المجتمع هي امتدادٌ طبيعيُّ ومنطقي لنفس الثورة التي قادها أبوه

ص: 45


1- نفس المصدر السابق، ص81

الإمام علي عليه السلام من أجل تثبيت مبادئ الإسلام من جهة، ومن أجل إحياء القيم والمُثُل التي تألقت في عهد محمد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ثم راحت بعد غيابه تفقد بريقها وبهاءها شيئا فشيئا من جهةٍ أخرى.

فثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت تتعقب خُطی ثورة الإمام علي عليه السلام حتى كأن الذي رسم الخطوط العريضة لتلك الثورة الخالدة هو الإمام علي عليه السلام وذلك من خلال تلقين الإمام الحسين عليه السلام المبادئ والقِيَم والأهداف التي يجب على الإنسان المؤمن والحر أن يثور من أجلها.

وعلى سبيل المثال، عندما يتحدث المفكر والأديب المسيحي الكبير (جورج جرداق) في كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، وبالتحديد في الجزء الثالث من ذاك الكتاب، والذي يحمل عنوان (علي وسقراط)، نرى أن ذلك المفكر المسيحي العملاق قد أجاد الحديث عن الصفات والمبادئ التي تجمع بين هاتين الشخصيتين العالميَّتين العظيمتين.

ولابأس هنا أن نتوقف، ولو للحظةٍ قصيرةٍ، مع شيءٍ يسيرٍ من تلك المقارنة الطويلة التي أجراها الأستاذ (جرداق) بين علي عليه السلام وسقراط والتي بدأ حديثه عنها في أحد فصول كتابه المذكور أعلاه بالقول:

قد يتساءل المرء ومن حقه أن يتساءل لماذا نتحدث عن سقراط ونحن نسوقُ الكلام على علي بن أبي طالب، وما عاصر سقراطُ عليا وما كان عربيا ولا مسلما أو مسيحيا، بل تقدمه في الزمان، وكان إغريقيا وثنيا!

وبعد ذلك التساؤل الذي يمكن أن يطرح نفسه بقوةٍ على ساحة الفكر، ينتقل بنا الأستاذ (جرداق) إلى عالم المقارنة بين تلك الشخصيتين النادرتين، فيكتب قائلا

ص: 46

تحت عنوان (عظيم أثينا وعظيم الكوفة):

«كلاهما كان في عهده مظهرا لمجتمع جديد وحاجات جديدة، فراح يهدم

ويبني، فعادوه وتألبوا عليه، فَثَبتَ لهم كالطود الراسخ وازداد بالحق إيمانا!

وكلاهما جابه الطغاة والوجهاء وکانِزي الذهب وأهل السلطان وأصحاب الجيوش بسلامة الفطرة الإنسانية وقدرة العقل وحرارة القلب ووهج الضمير والإيمان بخير الحياة!

وکلا الرجلين تراث للإنسانية عظيم!»(1)

ولا داعي للتأكيد على حقيقة أن تلك المقارنة الرائعة التي أجراها الأستاذ (جرداق) بينهما كانت مقارنةً طويلةً بما فيها الكفاية لإعطاء القارئ صورة توضيحية ً مفصلة عن معظم الصفات والخصال التي تتمتع بها كلتاالشخصيتان العظيمتان.

ولكن اللافت للنظر في عملية المقارنة تلك هو أن الأستاذ (جرداق) قد اعتبر الإمام عليا عليه السلام لم يكن في حقيقته إلا نبيا قد أضاعه قومه فلم يُقَدِّروه حق قدره فحاربوه لجهلهم به ولعدم قدرتهم على مجاراته واللحاق به وبمبادئه، وكذلك كان الحال عند الحكيم والفيلسوف الزاهد (سقراط).

وها هو الأستاذ (جرداق) يختصر الكلام في هذا الموضوع قائلا: «وما أحلى أن نوجز قائلين إن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة آثر الصدق حيث يضره على الانحراف حيث ينفعه بمقاييس العاديين من الناس، وكان مثالا يحُتذى في المروءات كلها، ومثلا أعلى للشجاعة الأدبية التي يعتز بها تراث الإنسان، ونبيا لم يكترث إلا

ص: 47


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج3(علي وسقراط)

بالحق ولم يَهَبِ الموت في سبيله، وإن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة جعل العمل والقول شيئا واحدا فلم يفصل بين هذا وذاك»(1)

ويرى بعض المفكرين أيضا أن بقاء الإمام علي عليه السلام في قومه وصبره الطويل على جهلهم به وعلى أذاهم العظيم الذي ألحقوه به وبابن عمه صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته علیهم السلام يماثل في المرارة والألم تجرع سقراط لكأس السم بيديه(2)

ولذلك نقول: إنه إذا كان الله بحكمته، سبحانه وتعالى، قد شاء أن يرى أهل البيت علیهم السلام في كربلاء سبايا، وإذا كان الرسول المصطفى صل الله علیه واله قد أمر الإمام الحسين عليه السلام بالخروج مع أهل بيته الكرام إلى تلك الأرض التي امتدَّت جسرا إلى ملكوت السماء، فإن الإمام علي وفاطمة الزهراء عليها السلام هما اللذان قاما بتهيئةِ ابنهما، الإمام الحسين علیه السلام، للقيام بتلك المهمة الرسالیة والاستعداد التام لِتَحمُّل کامل تبعاتها مهما كانت الأثمان والتضحيات.

ولذلك، فمن الملاحظ دائما عند قراءة أي كتابٍ عن الإمام الحسين عليه السلام، سواءٌ كان الكاتب مسلما أم غیر مسلم، أن الكاتب يركز دائما على مسألة تأثر الحسين عليه السلام الشديد برسالة جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، وبنفس الوقت أيضا تأثره البالغ بعملية الإعداد الروحي والفكري التي نشأ عليها في أحضان أبيه علي عليه السلام وأمه فاطمة عليها السلام .

ومن هنا يمكن القول عن الذين يجرون المقارنات بين الإمام علي عليه السلام وشخصيات أخرى عظيمة سواء من الرسل والأنبياء، أم من الفلاسفة والحكماء، أنهم لا يجدون مَفَرا من إجراء مقارنات شبيهة بين الإمام الحسين عليه السلام ، ابن علي عليه السلام

ص: 48


1- نفس المصدر السابق ص90
2- سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، (مجموعة محمد شاطئ وسحاب) مصدر سابق ص392

وتلميذه، وبين نفس الشخصيات العالمية الأخرى التي لا تزال معلقةً في سماء المجد الإنساني كالقناديل الخالدة التي تضيء بِزَيتها الإلهي دروب الإنسان وعتمة لياليه على مَرَّ العصور وتعاقب الأزمان.

ومن أفضل ما يمكن أن نذكره الآن عن هذه النقطة المتعلقة بعقد المقارنات المتنوعة، هي تلك الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية التي يقارن من خلالها الشاعر المسيحي (جورج شكور) بين الإمام الحسين عليه السلام وعدد من الشخصيات المميَّزة، والتي كانت وستبقى متربعة على عرش المجد والخلود في ضمير الإنسان.

يقول ذلك الشاعر المسيحي النجيب:

يوم (الحسين) بك الأيام شامخة *** وقدتَشَابه في التاريخ أدوارُ

ذکرتَني كأس سم راح يجرعها *** (سقراط) حرا، ولم تأسره أفكارُ

ذکرتني رأس (یوحنا) به حلمت *** إحدى العواهر، والظلام عهارُ

ذکرتنیه(یسوع) الحق، مرتفعا *** على الصليب، وفي كفيه مسمارُ

إن العقائد ماهانت، وما وهنت *** وإن أحاط بها خطبٌ وأخطارُ(1)

وبما أن الشاعر قد ذكر على سبيل المقارنة اسم (یوحنا) وهو اسم النبي (يحيى ابن زکریا) علیه السلام، نرى من اللائق أن نختم هذا الفصل بالكلام عن ذلك النبي الكريم الذي تحدثنا عنه سابقا في أحد الفصول المتقدمة من هذا الكتاب.

ولكن الحديث عنه الآن سيكون من باب إجراء المقارنة التي قام بها العديد من

الأدباء والمفكرين بهدف إبراز وجوه الشبه بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام.

وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه النقطة، علينا أن نلفت الانتباه إلى حقيقة أن

ص: 49


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق ص24. 25.

الإمام الحسين ذاته عليه السلام كان يدرك في قرارة نفسه أن هناك شبها بينه وبين نبي الله یحیی علیه السلام ، فالإمام الحسين عليه السلام کان یکثر دائما من ذكر سيرة يحیی بن زکریا عليه السلام قبل خروجه إلى كربلاء، وكان يرد على كل من كان ينصحه بعدم الخروج خوف قتله قائلا: «من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجة عليهم»(1)

فهو عليه السلام يعرف إذن، وبشكلٍ مسبقٍ، أنه سوف يُقتَل وأن الذي سيأمر بقتله لن تعدو قیمته قيمة (سالومي)، تلك المرأة البغي من بني إسرائيل، وكان يعرف أيضا تمام المعرفة أن رأسه الشريف سوف يُقطع كما قُطع رأس نبي الله يحيي عليه السلام ، غير أن عملية قطع الرأس وحمله هي التي ستؤدي لاحقا إلى انهيار عرش الطغاة وزلزلة الأرض تحت أقدامهم ولو بعد حين.

ولَئِن رأينا . كما ورد سابقا - أن هناك العديد من الآباء والمفكرين في الشرق والغرب قد عقدوا المقارنات بين المسيح والحسين عليه السلام ، وعلى رأسهم المستشرق الشهير (آدم متز) (ADAM METZ) الذي قام بإجراء مقارنة جديدةٍ بين المسيح والحسين عليه السلام ورأى من خلالها أن هناك تشابها كبيرا بين (جمعية الآلام) عند المسيحيين و(أيام عاشوراء) عند المسلمين الشيعة(2)، فإن هناك أيضا العديد من الأدباء والمفكرين الآخرين الذين عقدوا نفس المقارنات بين يحيى والحسين عليه السلام .

فنبي الله يحيي عليه السلام هو النبي المعروف باسم (يوحنا المعمدان) الذي كان يعمد الناس بالماء في نهر الأردن، وهو الذي قام أيضا بتعميد السيد المسيح عليه السلام في نفس

ص: 50


1- أ. الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق، ج1 ص192. ب . عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص99.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص207

النهر المذكور، ونظرا لأن يحيي عليه السلام هو الذي عمد المسيح عليه السلام ، أي قام بإظهار تطهيره ماديا ومعنويا من كل العلائق، فإن البعض قد أعطى النبي يحيى عليه السلام أهميةً أكبر من أهمية السيد المسيح ذاته علیه السلام ، ولا تزال هناك طائفةٌ من الناس، ممن يقولون بذلك، تعيش حاليا في العراق وبعض الدول الأخرى المجاورة لها.

وعلى كل حالٍ، كان الإمام الحسين عليه السلام يدرك أن مصيره المحتوم سيكون كمصير النبي يحيي علیه السلام، ولذلك فقد قال الحسين عليه السلام لعبد الله بن عمر قُبیل الخروج إلى أرض کربلاء:

«إن رأسي يُهدي إلى بغي من بغايا بني أمية»(1)

ولابأس هنا في أن نقف قليلا مع مسألة التشابه بين مسيرة هاتين الشخصيتين العظيمتين كما يراها المتخصصون من أهل الفكر والأدب الذين لا تغيب عن أذهانهم مسألة الدراسات المقارنةالمتعلقة بالشخصيات الاستثنائية الهامة والحية دائما وأبدا في ضمير الأديان والشعوب.

فقد جرت قدرة الله تعالى أن يكون الرسل والأنبياء، والأئمة والأوصياء، والمؤمنون والأولياء محط ابتلائه سبحانه وتعالى وموضع امتحانه واختباره، حتى أن الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه و آله وسلم كان من دعائه الدائم بين يدي الله عز وجل: «أسألك من اليقين ما تهوِّن به على مصائب الدنيا»(2)، وفي هذا دلالةٌ قويةٌ على هول المصائب والابتلاءات التي كان يُبتلى بها في حياته صلی الله علیه و آله وسلم

وها هو نبي الله زكريا عليه السلام والد النبي يحيي عليه السلام قد تعرض بدوره للكثير من

ص: 51


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص69.
2- علي رضا برازش، مجمع الأنوار، منظمة الإعلام الإسلامي . طهران، ط1988/1 ، ج2 ص 494

المرارة والألم في حياته، فقد جاء في العديد من الروايات أنه لما هرب من الكفار، واختفى في الشجرة، وعرفوا ذلك جاءوا بالمنشار الكبير، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زکریا علیه السلام ، فاضطرب قليلا، ثم إنه أنةً، فأوحى الله إليه: (یا زکریا، لئن صعدت منك أنةٌ ثانيةٌ لأمحونك من ديوان النبوة!)، فَعضَّ زکریا علیه السلام على إصبعه وبقي صامتا صابرا حتى قُطِعَ شطرين (1)

ومن المعروف عن والد یحیی، زکریا علیه السلام ، أنه قد حُرِمَ الولد والنسل حتى إذاأدركه الكبر دعا ربه مخلصا موقنا، فرزقه الله الكريم من زوجته العاقر ولدا اسمه (یحیی) تقرُّ به عينه على الكبر ويرثه من بعده حتى إذا كسر طوق الصِّبا، وشبِّ يافعا اختاره الله إلى جواره مظلوما مذبوحا مقتولا.

وهاهو جد الحسين عليه السلام، الرسول المصطفى محمد صل الله علیه السلام خاتم الرسل والأنبياء، قد حُرِمَ أيضا من الولد والنسل إلا من ابنته الزهراء فاطمة عليهاالسلام ، فشاء الله سبحانه وتعالى في غامض علمه وفي سابق حكمه أن يطلع رسوله صلی الله علیه و آله وسلم على ما سيجري ويقع على حفيده الحسين عليه السلام في أرض كربلاء، فيرى حفيده مقتولا مذبوحا، مقطع الأوصال، مفصول الرأس عن الجسد، ويرى أيضا حرمه وأهل بيته وأصحابه المخلصين الصابرين قتلى وصرعی، ونساءه وبناته أسري وسبايا مقيَّدات بالسلاسل والأغلال ولا يعكر هدوء مسيرهن إلى دمشق إلا صوت ضرب السياط على ظهورهن، أو بكاء طفل عطشان، أو صدی صرخة الإمام الحسين عليه السلام التي كانت لا تزال ترن في الآذان وتتناقلها الوهاد والوديان: (وا قلة ناصراه)!!

ومن التشابه اللافت للنظربين محنة يحيى عليه السلام ومحنة الحسين عليه السلام أن يحيی

ص: 52


1- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، المؤسسة العلمية . بيروت، ط4 ، ج 3 ص279

قضى مذبوحا، وقد أخِذَ رأسه فَقُدِّم مهرا للعاهرة (سالومي)، تلك البغي من بغايا بني إسرائيل، والشيء نفسه حدث مع الإمام الحسين عليه السلام عندما قضى مذبوحا وقد حُمِلَ رأسه بعد ذلك لأبغى رجلٍ في الكون، إلى قابيل الثاني يزيد بن معاوية.

هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن محنة نبي الله يحيي عليه السلام لا تُقارن مع محنة الإمام الحسين عليه السلام في وطأتها وقوة أثرها، فالنبي يحیی علیه السلام قُتِلَ وحده فقط، أما الإمام الحسين عليه السلام فقد قُتِلَ معه من أهل بيته سبعة عشر رجلا ليس لهم شبيهٌ على وجه الأرض، ويحيى عليه السلام لم يُقتَل له أطفالٌ ولم تُهتك له حرمة ولم تُسبَ له نساءُ ولا عيالٌ، في حين أن الإمام الحسين عليه السلام ذُبحت أطفاله وسُبيَت نساؤه وعياله.

ويحيى عليه السلام لم يمنعه أحدٌ من شرب الماء قبل قتله، بينما مُنِعَ الحسين عليه السلام هو وعياله وأطفاله الصغار من شرب حتى القليل من الماء فماتوا عطاشى مظلومين ظامئين.

وهنا يمكننا التأكيد على حجم هذه الفاجعة والمحنة العظيمة التي ألمَّت بالإمام الحسين عليه السلام من خلال هذا الحديث القصير والمعبر الوارد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام والذي يدل على أن محنة النبي يحيى عليه السلام، بل ومحن كل الرسل والأنبياء علیهم السلام لم تصل في شدتها وحرقتها إلى المستوى الذي وصلت إليه عند الإمام الحسين علیه السلام

فالإمام الباقر عليه السلام يخبرنا عن ذلك قائلا: «كان أبي علي بن الحسین (زین العابدين) عليه السلام إذا حضرت الصلاة يقشعر جلده، ويصفر لونه، وترتعد فرائصهُ، ويقف شعره، ويقول ودموعه تجري على خديه: (لو علم العَبدُ من يناجي ما انفتل)، وبرز يوما إلى الصحراء فتبعه مولى له، فوجده قد سجد على حجارةٍ خشنةٍ، فقال

ص: 53

مولاه: فوقفتُ حيث أسمع شهيقه وبكاءه، فوالله لقد أحصيت عليه ألف مرة وهو يقول: لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله تعبدا ورقا، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا، ثم رفع رأسه من سجوده، وإن لحيته ووجهه قد غُمِرا بالماء من دموع عينيه، فقال له مولاه: يا سيدي، أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟! فقال له: ويحكَ! إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا ابن نبي وله اثنا عشر ابنا، فغيَّب الله تعالی واحدا منهم فَشَاب رأسه من الحزن، واحدَودَبَ ظهره من الغَمَّ، وذهبَ بصره من البكاء وابنُه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة وعشرين من أهل بيتي صرعی مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلُّ بكائي؟!»(1)

وربما لهذا التشابه الكبير الذي ذكرناه منذ قليل بين محنة يحيى والحسين عليه السلام وبين محنة زکریا و محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، كان من إعجاز القرآن الكريم أن يبتدئ الله سبحانه وتعالى قصة يحيى بن زكريا التي وردت في مطلع سورة مريم، بشكل حروف رمزية تشير بطريقة التلميح - عند العارفين من أهل الذكر الحكيم - إلى ما سيكون من محنة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بولده الحسين عليه السلام ، كما كان من محنة زکریا بولده يحيي عليه السلام ، ولذلك، فقد ابتدأ سبحانه قصة يحيى علیه السلام في القرآن الكريم بقوله: «کهیعص »(2)، ومن المعروف أن هذه الحروف لم تأتِ عبثا في كتابٍ ينطقٌ كلٌ حرفٍ فيه بالحق والصدق.

وقد رأينا في أحد الفصول السابقة كيف أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) قد سُئِلَ عن معنى (كهيعص)، فأجاب قائلا: فأما (الكاف) فدلالة على کربلاء، وأما (الهاء) فدلالةٌ على هلاك العترة، وأما (الياء) فدلالةٌ على يزيد

ص: 54


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج2 ص125
2- سورة مريم: الآية 1

الحسين عليه السلام ، وأما (العين) فدلالةٌ على عطشه علیه السلام، وأما (الصاد) فدلالةٌ على صبره عليه السلام، ثم أردف الإمام الحجة عليه السلام بعد ذلك قائلا: «إن هذه الحروف هي من أنباء الغيب الذي أطلع الله عليه عبده زکریا، وذلك أن زکریا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة ( محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام )، فأهبط عليه جبريل وعلمه

إياها.

وكان زكريا عليه السلام إذا ذکر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سری عنه همه وانجلی کربه، وإذا ذكر الحسين عليه السلام غلبته العبرة ووقعت عليه الزفرة، فسأل الله في ذلك، فأنبأه الله بقصة مقتل الحسين عليه السلام(1)، وقد ذَكَرنا هذه القصة بالتفصيل في فصل (نُبوءات الأنبياء بفاجعة كربلاء).

ويمكننا هنا أن نلتقط أنفاسنا قليلا وأن نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الرحلة المثيرة والطويلة مع الرسل والأنبياء وعلاقتهم، کارثٍ روحيَّ وفكريٍّ واجتماعيٍّ عام، بالإمام الحسين عليه السلام الذي حمل بكل قوةٍ وثباتٍ ذلك الميراث الرسالي العظيم الممتد من آدم عليه السلام وحتى نهاية السلسلة عند الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم

وبالنسبة للاستراحة القصيرة التي سننالها الآن، فستكون مع الشاعر المسيحي المبدع (بولس سلامة) الذي كان بدوره واحدا من الأدباء والمفكرين الذين رأوا أن هناك علاقة وطيدةٌ بين يحيي والحسين عليه السلام على طريق الخطوب والمصائب.

ص: 55


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص83، ولمزيد من المعلومات عن العلاقة بين محنة يحيى والحسين عليه السلام وبين سورة (مريم) في القرآن الكريم، راجع كتاب (مناقب آل أبي طالب) لمؤلفه (ابن شهرآشوب) المتوفى سنة (588ه-)، طبع المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، سنة 1956م، راجع ج3 ص237

وكان من جملة ما قاله عن ذلك شعرا هو قوله تحت عنوان (الساعة الرهيبة): هامة السبط في الغنائم تُهدى *** لخليع يدنس الخلعاء

لابن مرجانة!! كذلك يحيی *** قَرَّبوا رأسه إلى رقطاء

فإذا لم یکن (عُبيدٌ) بغيا *** فلقد كان للنفوس بغاء

ویلکم یاعصائب الشرِّ *** أولاد الثعابين تلسع الأبرياء

لاتصلي إلا رجاء نوالٍ *** وتصلي فتذبح الأنبياء

قد نقعتم صفيحة الأرض سُمَّا *** وطَليتم وجه الزمان ریاء(1)

ومن المؤكد تماما أن الأديب والشاعر، الأستاذ (سلامة) قد أصاب في كل كلمةٍ قالها عن يحيى والحسين عليهما السلام، وقد أصاب أيضا في تصويره الواقعي لأولئك الفجرة الذين لؤَّثوا الأرض بسمومهم وبقبيح أعمالهم، وشوَّهوا وجه الزمان بكفرهم وریائهم.

ولا يحسب أحدٌ من القراء الكرام أن هذا الأديب المسيحي يتجني على الحكام الأمويين ويتحامل على عمالهم وأتباعهم، أبدا، فهو لا يتجنى على معاوية أو على ابنه یزید، وهو لا يتحامل بنفس الوقت أيضا على أي واحدٍ من أذيالهم وأصفيائهم من المقربين الذين يباركون أعمالهم ويسيرون على سلوكهم ونهجهم في الفساد والإفساد.

فها هو (معاوية الثاني بن یزید) (41- 64ه- / 661- 684م)، وهو بالتأكيد ليس مسيحيا حتى نقول عنه إنه يتجنى أو يتحامل على أبيه وجده، يتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة شهور فقط من استلامه لها ويتركها طائعا مختارا لغيره من البيت المرواني

ص: 56


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص284

الأثيم.

أما السبب الذي جعله يتنازل عن عرشه ویترکه لغيره فهو واضحٌ تماما ولا يحتاج إلى الكثير من العناء والبحث للوقوف عليه، فهناك الكثير جدا من المراجع والمصادر التاريخية والفكرية القديمة والمعاصرة تذكر أن معاويةالثاني قد شعر بالذل والهوان من الأعمال المخزية التي ارتكبها أبوه يزيد وجدُّه معاوية بحقٌ الإسلام وبحقٌ أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، وهذا ما دفعه للتنازل عن كل شيءٍ له علاقةٌ بالتربُّعِ على عرش الحكم واستلام مقاليد أمور المسلمين.

وأعتقد أنه من الضروري أن أذكر هنا نص الخطبة التي قالها معاوية الثاني بشأن الأسباب التي دعته لترك كرسي الخلافة والتخلي عنها نهائيا.

تذكر المراجع والمصادر التاريخية أن معاوية الثاني، وبعد أشهرٍ قليلةٍ من استلامه مقاليد الحكم، صعد المنبر وخاطب الناس قائلا: «أيها الناس إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه لقرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وهو علي بن أبي طالب، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منیَّته، فصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرا بخطاياه، ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك، وركب هواه، وأخلفه الأمل وقصر عنه الأجل وصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرابجرمه» ثم بكى حتى سالت دموعه على خديه وقال: «إن من أعظم الأمور علینا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترةَ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأباح الحرم وضرب الكعبة، وما أنا بالمقلد ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم وأمركم والله لئن كانت الدنيا خيرا فلقد نلنا منها حظا، ولئن كانت شرا فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها...»(1)

ص: 57


1- أ.أنور الرفاعي وسعد الدين القواص، تاريخ الدولة العربية منذ الخلافة الأموية حتى العهد العثماني، مطبعة الترقي بدمشق، 1953، ص 28.ب .خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص46.

وقد احتجب في قصره بعد تلك الخطبة، وبقي في قصره ولم يخرج إلى الناس،

ولم ينظر في أمورهم حتى وافته المنية بعد أيام من ذلك، وبتقديري الشخصي فقد ماتَ قتلا.

وفي هذه الخطبة دليلٌ قويُّ وحجةٌ دامغةٌ على سوء منقلب معاوية وابنه يزيد إذ أن الأول قد ناصب الرسول والإسلام العداء، وقد اغتصب الخلافة من أهلها دون أي وجه حق وحارب الإمام عليا عليه السلام عليها مع معرفته المسبقة بقول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم على رؤوس الأشهاد: «من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر»(1).

أما الثاني، یزید بن معاوية، فهو الذي أباح الحرم المقدس وهو الذي ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وهو الذي . وكما يؤكد ابنه معاوية الثاني - قد صار أسيرا بجرمه لقتله الإمام الحسين عليه السلام ، سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ووارث الرسل والأنبياء عليهم السلام.

وهكذا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام ، وعلى الرغم من معرفة المسلمين به وبعظيم مكانته وبأنه الوارث الحقيقي لأنوار الرسل والنبيين عليهم السلام الذين خُتِموا بجده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، إلا أن كل ذلك لم يشفع له في أن يكون بمأمنٍ من سهام غدر أولئك الذين دخلوا في دائرة الإسلام نفاقا ودهاءً، إما طمعا في المكاسب والمناصب وإما خوفا من انتصار المسلمين الحقيقيين الذي سَیَجرُّ عليهم الذل والحيف والموت قتلا بحدِّ السيف.

ص: 58


1- ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب، مصدر سابق ص46.

فالمصائب التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام أكثر من أن تحُصى وتُعد، وربما كانت المصائب والمحن التي طرقت باب الإمام الحسين عليه السلام هي أعظم تلك المصائب وأشدها هَولا وترويعا في النفوس، وحسب اعتقاد عميد الأدب العربي، الدكتور (طه حسین)، فإن المحن التي أصابت أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، والاضطهاد الذي الحق بكل فردٍ منهم، وملاحقة أتباعهم في كل مكانٍ، كلُّ ذلك لعب دورا مهما في جذب قلوب الناس إليهم وتعاطفهم معهم بعد أن عرفوا حقيقة حكام السوء الذين يدفعون إلى الظلم ویُمعنون فيه، ويرهقون الناس من أمرهم عسرا(1)

وبالطبع، فإن الدكتور (طه حسين) لم يقصد في كلامه هذا (یزید) فقط، بل كان يقصد أيضا أباه معاوية وكل من كان يحذو حذوه، وكلَّ من كان يشبهه في طريقة الحكم، سواءً من الذين كانوا قبله أم من الذين جاؤوا بعده.

ويمكننا اختصار القول في ذلك بقصيدةٍ قصيرةٍ قالها أحد الأصدقاء من الأدباء والشعراء المسيحيين المعاصرين، إنها قصيدةٌ قصيرةٌ ومعبرةٌ نَظمها الشاعر والأديب (غسان حنا)، وهو من مواليد محافظة اللاذقية عام 1948، وله العديد من المجموعات الشعرية المتميزة في أسلوبها ومضمونها، وله أيضا عدة كتب نثرية وأدبية أخرى.

يقول الأستاذ (حنا) في تلك القصيدة التي تحمل عنوان (معاوية بن أبي سفيان): ذا... غاصبٌ حقَّ الخلافةِ،

خاطبٌ ودَّ السياسةِ،

والأصولُ غطاءُ.

ص: 59


1- طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2 (علي وبنوه)، مصدر سابق ص197.

ذا... أول المستملكين، وبعده

ويلُ الرعيّةِ

مُلكُها استعصاءُ

خيط ٌرفيعٌ مَدَّهُ لخصومه

وعليه كانت تَعبرُ الأخطاء.

وبعد أن يعطي القارئ هذه الفكرة الموجزة والمعبرة عن طبيعة معاوية، نراه ينتقل لكشف حقيقته بشكلٍ أعمق وأوسع، فيتابع قائلا في نفس القصيدة من دیوانه (أبجدية التجلي):

قد كان نقطة ضعفه (بیزیدِهِ)

والمحنةُ: الآباءُ ... والأبناءُ.

لكنَّ خبرتَه بأهل زمانه

اكتملت مبايعةً فَتَّمَ ولاءُ

عادت أميةُ فيه سيفا حاکما...

بقميص عثمانَ اکتَسَت أهواءُ(1)

وعلى كل حالٍ، لا نريد أن نخرج عن جوهر موضوعنا في هذا الفصل من الكتاب، ولكننا نقول إن مصائب ومحن الإمام الحسين عليه السلام كانت هي الخلاصة العامة لكل النوائب والكوارث التي حلَّت بأهل البيت عليهم السلام، وكانت أيضا التجسيد الأمثل والأقوى للصراع بين قوى الخير والشر التي ابتدأت مع أول نبي واستمرت حتى مع آخر رسولٍ سماوي صلی الله علیه و آله وسلم ، وستبقى تلك المعركة . بلا شکًّ - دائرةً إلى يوم

ص: 60


1- غسان حنا، أبجدية التجلي، دار الينابيع . دمشق، ط 200/4 ص202

الكشف المبين حين يرث الله الأرض ومن عليها.

وأخيرا، نقول إن الإمام الحسين عليه السلام . وكما رأينا. كان بالفعل وارثا للأنبياء والمرسلين، وكانت كل صفحةٍ من صفحات حياته، وكل مبدأ من مبادئه، وكل خصلةٍ من خصاله تنطق بالحق على ذلك، فهو عليه السلام بضعة المصطفى وهو منه (أنا من حسين، وحسينٌ مي)، والمصطفی صلی الله علیه و آله وسلم بِدَوره هو صفوة الرسل والأنبياء، وبالتالي، فالحسين عليه السلام الذي هو بضعة من ذات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، هو أيضا صفوة الرسل والأنبياء، فالقَبَسُ من النور نورٌ، والجزء من الجوهر جوهرٌ.

وعلينا أن لا ننسى أبدا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قد أكَّد مرارا على أن عليا عليه السلام كان أيضا وارثا للرسل والأنبياء عليهم السلام، فمن المأثور عنه صلی الله علیه و آله وسلم قوله: «من أراد منكم أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوحٍ في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي ابن أبي طالب»(1)

فهل نستغرب بعد هذا أن يكون ابنه الإمام الحسين علیه السلام وارثأ أيضأ للأنبياء والمرسلين ؟!

ص: 61


1- الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام ، طهران، ط 1404/3 ه- ص122

فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين عليه السلام

الدنيا والآخرة قطبان متقابلان ووجهان متعاكسان وضرتان مختلفتان، وعلى الرغم من كونهما كذلك، إلا أنهما . بالنسبة للإنسان - يصعب الفصل بينهما، وبتعبيرٍ أدق، لا يمكن الفصل بين دنيا الإنسان وآخرته، فالمؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يراقب حركته الحياتية من خلال موازين الآخرة، وهو الذي يترقب الآخرة المرجوة من خلال حركته الإيجابية على مسرح وجوده في الحياة.

ومن هنا، فإن المؤمن الحقيقي هو ذلك المرء القادر على رؤية حقيقة ذاته ومعرفتها ومعرفة مدى قربها من الله وابتعادها عن متاع الدنيا، ذلك المتاع الذي يمكن أن يحول الإنسان إلى عبدٍ ذليلٍ يقبع مُستكينا وراء قضبان الملذات في سجون الحُجُبِ والظلمات.

فالمؤمن العاقل العارف لا يرى شيئا في الوجود إلا ويرى الله معه، ولكنه لا يلبث إلا أن يغيب عن الوجود وعن ذاته حتى يصل إلى مرحلةٍ أعلى سموا في العلم والمعرفة، إنها المرحلة التي لا يرى من خلالها شيئا في الوجود غير الله سبحانه وتعالی.

فبالنسبة لذلك المؤمن العارف، ليس هناك من شيءٍ يسبق إلى ذهنه قبل الله، فالله حاضر في ذهنه في كل تصرفاته وحركاته، فإذا تفكر ففي الله، وإذا تكلم فبالله، وإذا تحرك فمع الله وبإرادته، وإذا تفضل وأحسنَ فبحولِ الله ورحمته، ولا يبلغ المؤمن

ص: 62

تلك الدرجة الراقية من حقيقة الإيمان حتى يصل بورعه وتقواه، وبعلمه وعمله إلى درجة التسليم والخضوع لله في كل شيءٍ، وحتى يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

فالنفس التي ارتوت من خمرة الله واغتسلت بفيوضات أنواره، وتجرَّدتُ عن

خدمة كلِّ سيِّدٍ إلاهٌ - عز وجل - وصانت كل العهود ولم تُفرِّط بأسراره، هي نفس تجاهد حق الجهاد للعودة والوصول إلى مملكة مُنَوِّر الأنوار وحظيرة قدس الأقداس، إنها النفس التي تعرج إلى عالم الكشف والشهود، فتقفُ هناك على الحقائق بلا حجاب ولا حدود.

ولقد أجاد ذلك العابدُ العارفُ عندما قال:

دعوتُ نفسي إلى ربي فَأبت، فتركتُها ومضيتُ إليه.

فالحذر كل الحذر من النفس إن لم تقبل أن تخلع ثوب (الأنا) وتلقيه جانبا - فإن كان الأمر كذلك، فإن نفسك التي بين جنبيك ستكون أعدى عدوِّيك، كما يقول عنها الإمام علي عليه السلام .

ومن هنا، فإن المؤمن لا يرغب في شيءٍ غير رضي الله تبارك وتعالى - لا يهمه إذا رضي عنه البعض أو سخطوا عليه، فالمهم حقا هو أن يرضى عنه لخالق أولا وأخيرا.

ولا ريب في أن العلاقة الصادقة بين العبد وربه تبارك وتعالى لا تستبقي في النفس وفي الحياة جانبا إلا ويستلهم فيها ذلك العبد المؤمن عبوديته لله ويعلن من خلالها خضوعه وطاعته الله الرحيم الحكيم وذلك من خلال تطبيق أحكامه وترجمتها عمليا على أرض الواقع، ولعل الآية القرآنية الكريمة: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي

ص: 63

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(1)هي أبلغ حجةٍ على أن حركة الإنسان المؤمن وأعماله على مستوى خَطَّي الحياة والموت لا يمكن أن تكون لغير الله عز وجل.وعندما نقرأ أقوال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : «الخلق كلهم عيال الله وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله»(2)، ندرك أن الكثير من مظاهر الطاعة لله والعبودية له يمكن أن تتجلى من خلال الامتثال لأوامره في عملية التواصل الإنساني السليم وخدمة ذلك الإنسان الذي من المفترض له أن يكون خليفةً لله في أرضه وأخا لكل إنسانٍ آخر يشاركه في النشأة الترابية وفي الصورة الآدمية.

كل هذا الكلام الذي ذكرناه الآن يمكن أن ينطبق على أي إنسانٍ عادي من عامة الناس، وهو كلام يتناسب في جوهره مع ذلك الإنسان العادي الذي اختار خط الإيمان والهداية وارتضاه سبيلا للحاق بعالم الأنوار والخلود.

ولا ريب في أنه من حقنا أن نسأل هنا ما يلي:

إذا كان الأمر على ما هو عليه فعلا، فماذا يمكننا أن نقول عن إيمان الإمام

الحسين عليه السلام ؟!

وهل إيمان الإمام الحسين عليه السلام كإيمان أي إنسانٍ عاديًّ؟!

وكيف ينظر الإمام الحسين عليه السلام إلى مفهوم الشهادة وفق منظوره الإيماني ؟!

إنها أسئلةٌ حسَّاسةٌ تفرض ذاتها علينا وتبحث، بنفس الوقت أيضا، عن إجاباتٍ شافيةٍ وكافيةٍ، وربما كان السؤال الأخير هو السؤال الأكثر أهميةً من بين بقية الأسئلة الأخرى التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن.

ص: 64


1- سورة الأنعام: الآية 162.
2- هادي المدرسي، الدين هو الثورة، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، 1981، ص8.

وبادئ ذي بدء نقول إنه من الواضح تماما بالنسبة لكل من يدرس شخصية الإمام الحسين عليه السلام أن هناك ترابطا وثيقا بين مفهوم الإيمان ومفهوم الشهادة في فكر الإمام الحسين عليه السلام ونهجه، فالإيمان عنده جهادٌ وشهادةٌ، والشهادة بدورها هي معرفةٌ وإيمان، ولا يمكن لكل من يقرأ بعمقٍ ويحلل شخصية الإمام الحسين عليه السلام أن يفصل بين ذَينك المفهومين عنده على الإطلاق.

لقد عرف الإمام الحسين عليه السلام أن الدين ليس مجرد حرکاتٍ تعبديةٍ وإجراءات طقوسية، بل هو فوق ذلك بكثير، فالدين بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام هو الثورة الحقيقية التي تتفجر على الدوام في وجه كل مظهرٍ من مظاهر الظلم والجهل والفساد والضلال، فالدين هو الثورة وإذا لم يكن الدين كذلك فمعنى ذلك أنه لا يستحق أن يُسمى دينا، وذلك لأن الدين هو الثورة السماوية المتجددة على مفاسد أهل الأرض وجمود حركة الحياة.

فكما أن الدين صلاةٌ وصيامٌ، فهو أيضأ ثورةٌ وتجدَّدٌ وقيام، ولا ريب في أن تلك الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام تبدأ من مستوى العمل بالكلمة الطيبة والدعوة للحق بالتي هي أحسن، وتنتهي عند حدود تحويل الدم الغالي إلى قطرات زيتٍ نقيًّ مبارك يتلألأ في احتراقه ويتألق في اشتعاله في سبيل إبقاء مصباح الشريعة الإلهية دائم التوهج في الليالي الحالكة وأمام الرياح العاصفة العاتية.

لقد جعل الإمام الحسين عليه السلام من قلبه العظيم حرما لله، بل جعل من قلبه عرشة له وحده دون سواه، ولذلك فمن البديهي تماما أن تكون الفلسفة الإيمانية للإمام الحسين عليه السلام مبنيةً على قوله، قبل وقعة كربلاء بوقتٍ قصير:

لئن كانت الدنيا تُعدُّ نفيسةً *** فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ

ص: 65

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت *** فَقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ(1)

فأشرف الموت القتل، وأشرف القتل ما كان في سبيل الله، وهذا ما حققه الإمام الحسين عليه السلام في رحلته الإيمانية التي قاربت في شكلها ومضمونها . كما رأينا سابقا ۔ رحلات جميع الأنبياء والمرسلين.

وبما أننا نتكلم الآن عن فلسفة الإيمان عند الإمام الحسين عليه السلام، دعونا الآن نقرأ سويةً هذه القصة القصيرة من تراث الهند الشعبي، والتي رواها(غوث علی شاه) (Ghauth Ali Shah)، وهو أحد كبار الصوفية في القرن التاسع عشر، وقد دونها تلميذه (غول حسن) في كتاب (التذكرة الغوثية) (Tathkira Ghauthia).

وتدور هذه القصة حول حوارٍ قصيرٍ يجري بين الإمام الحسين عليه السلام وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام :

يروي (غوث علي شاه) أن الإمام الحسين عليه السلام توجه في أحد الأيام، وكان عمره الشريف وقتذاك اثنتي عشرة سنة، إلى أبيه الإمام علي علیه السلام سائلا إياه:

«أيُّ حبًّ يسكن في قلبك؟».

فقال علي: «حبُّك»

فسأل الحسين: «وحب أخي الحسن؟»

فقال علي: «وحبُّه أيضا».

فسأل الحسين: «وحبُّ أمي أيضا؟».

قال علي: «وحبُّ أمك أيضا»

فسأل الحسين: «وحبّ جدي؟».

ص: 66


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدأ وشهيدا، مصدر سابق ص290.

فقال علي: «أجل، وحبُّه»

عندها سأل الحسينُ: «وحبُّ الله كذلك؟».

فقال علي: «أجل». .

فاعترض الطفل قائلا: «أي قلبٍ قلبك هذا؟ أقلبٌ هو أم نُزُل؟

في القلب يسكن حبُّ واحدُّ ولا أكثر من ذلك».

وعندئذ،ٍ ضَمَّه الإمام علي عليه السلام إلى صدره: وقال له: «حقا تقول، یا بني»(1)

لقد صدق الإمام الحسين عليه السلام في ما قاله، بل لقد دَلَّ هذا القول منه، وهو لا يزال طفلا على مبلغ علمه وعلى عمق إيمانه.

ولكن هنا يأتي لاحقا دور الإمام علي عليه السلام ليشرح لطفله كيف أن قلب المؤمن الحقيقي يتسع لكل هذه الأنوار السماوية الخالدة، والتي هي في حقيقتها نورٌ واحدٌ مشتقُّ من ذات نور الله جل جلاله.

فالحسين عليه السلام ابن الرسالة السماوية، تلك الرسالة التي تصهر الإنسان المؤمن وتعجن روحه بها لدرجة تجعله وحدةً متلاحمةً مع كل معاني السمو والكمال، بحيث لا يمكن الفصل بينهما أبدا.

فالإمام الحسين من جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم كالنور من النور، والحسين من أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام كزرقة السماء من السماء، فالإيمان نبعٌ فياضٌ يبدأ من محمد العلي، ومن علي الحسين، ولذلك، فليس كبيرا على الإمام الحسين عليه السلام أن يكون مثل الإنسانية الأعلى في الإيمان واليقين، وأن يكون رائدها في تفجير أعظم ثورةٍ

ص: 67


1- Gul Hasan solomon's Ring: The life and Teaching of sufi Translated and selected by: Hasan Askari Altamira Press 1998 Page 70

عرفها تاريخ الإنسان من حيث مبادئها وعمق أهدافها وعدد الثوار القائمين بها والتضحيات التي قُدِّمت من أجلها، وأخيرا من حيث النتائج التي ترتَّبت عليها.

فالكثير من الكتاب والأدباء يصفون ثورة الإمام الحسين عليه السلام بالثورة الشمولية، فهي ثورةٌ لكل إنسانٍ يعيش فوق صدر هذا الكوكب، مسلما كان أو غیر مسلم، وهذا شيءٌ يسيرٌ مما يجب أن يقال عن تلك الثورة التي كانت وستبقى الثورة المتجددة في ضمائر كل الأحرار في العالم بلا منازع.

فالكاتب والأديب الأستاذ( أحمد مطر) يتساءل قائلا بلسان الملايين من الناس:

(أني للبشرية أن تجد طريق خلاصها بعيدا عن تعاليم الحسين... كيف لها أن تسمو إذا لم تمَسُّها قدسيةُ الطَّف؟ إن كربلاء ليست وقعة تاريخية انتهت في العاشر من محرم، بل كانت منعطفا حياتيا خطيرااستهدفت عقيدة الإسلام العظيم...

فهل للحسين عليه السلام الشهيد وأبي الشهداء وسيدهم شبيهٌ في التضحية بين الأنبياء والشهداء... وهل لتضحيات أرباب الديانات قديمهم وحديثهم شبه بما ضحاه سبط النبي الذي قال عنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «حسينٌ مني وأنا من حسین»؟!)(1)

وعندما نقول عن هذه الأسئلة التي يطرحها ملايين الناس على ألسنة أدبائهم وشعرائهم ومفكريهم إنها أسئلةٌ حساسةٌ وجوهريةٌ، وأنها تستحق بالفعل الوقوف عندها والإجابة عليها، فإن هذا لا يعني أن الذين يطرحون هذه الأسئلة هم من المسلمين فقط أو من العرب فقط، بل إن الواقع يقول ويؤكد على حقيقة أن الكثير من أعلام الفكر والأدب، وحتى رجال الدين، من بقية الأديان في مشارق الأرض ومغاربها يطرحون على أنفسهم نفس الأسئلة والاستفسارات الهامة، ولكن سرعان ما

ص: 68


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص363

يخرج الجميع تقريبا بنفس النتيجة التي تقول إن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في کربلاء لم يغير تاريخ الإسلام والمنطقة فحسب، بل لقد غَیَّر استشهادهُ تاريخ أمم وشعوب على امتداد التاريخ بعد أحداث تلك الفاجعة الرهيبة والمؤلمة.

ويكفي أن نقول . كمثالٍ على قولنا هذا - إن زعيم الهند الخالد ومحررها المهاتما (غاندي) قد ربط تغير الأمة الهندية، بل شبه القارة الهندية، وإمكانية تطورها وتقدمهابحركة الإمام الحسين عليه السلام وثورته المباركة في كربلاء.

وها هو ذلك القائد (الهندوسي) الكبير، وهو بالطبع ليس من المسلمين ولا حتى من أهل الكتاب، يقول مخاطباأمة الهند في إحدى مقولاته الشهيرة بعد دراسة عميقةٍ لسائر الأديان السماوية وغير السماوية وتعرُّفه على شخصياتها البارزة، وها هو يقول في نهاية رحلته الفكرية مع الأديان وأثرها على الأمم والشعوب: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر، عليها أن تقتدي بالإمام الحسين)(1).

إذن، فإن ذلك الزعيم الهندي الهندوسي (غاندي) يربط مصير أمةٍ بكاملها، وهي ليست أمة مسلمة في معظمها، بحركة وثورة الإمام الحسين عليه السلام .

ومما يؤكد أيضا أن الحركة الإيمانية عند الإمام الحسين عليه السلام ، والتي قادته إلى إعلان ثورته الخالدة، إنما هي حركةٌ إيمانيةٌ ثوريةٌ تجاوزت حدود الدائرة الإسلامية لتشمل بمبادئها وسمو أهدافها كل المجتمعات الإنسانية على هذه الأرض هو أن العديد من المستشرقين الغربيين قد رأوا في تلك الثورة حادثةً ذات بُعدٍ أيديولوجي عالمي واسع النطاق، وقدعَبَّر عن هذه الفكرة المستشرق الأمريكي المعروف

ص: 69


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، راجع مجلة الثقافة الإسلامية، العدد /50/ إصدار المستشارية الثقافيةالإيرانية بدمشق تموز . آب، 1993، ص44

(غوستاف غرونیباوم) ( G. Grunebaum ) وهو ألماني الأصل - في كتابه (حضارةالإسلام) قائلا: (إن وقعة كربلاء حادث ذو أهمية كونية)(1).

وقد يستغرب القارئ إذا قلنا له إن هذه الحقائق عن إيمان الإمام الحسين عليه السلام وعن معاني استشهاده و عمق أهداف ثورته لم يتم الحديث عنها من قِبَلِ المفکرین المسيحيين والهندوس فقط، بل لقد تم الحديث عنها حتى من قبل المفكرين والأدباء الذين ينتمون إلى ديانة الصابئة أيضا.

ومن المعروف عن أتباع هذه الديانة أنهم يُعرَفون بالصابئين، وهي كلمةٌ مشتقةٌ

كما يقول العالم اللغوي الألماني (جسنیوس) - من كلمة صباؤوث العبرانية والتي تعني (جنود السماء)، وفي هذا دلالةٌ على أنهم كانوا يقدسون الكواكب والنجوم، وذهب المستشرق (نولد که) إلى أن تلك الكلمة مشتقةٌ أساسا من صَبِّ الماء إشارة إلى عملية تعميدهم بالماء كالنصارى، وقال غيرهما من الباحثين والمستشرقين إن الديانة المسيحية الأولى اتصلت بقية الكلدانيين فنشأ منهم مسيحيو مار يوحنا في البصرة وهم الصابئون(2)

ص: 70


1- نفس المصدر السابق ص47.
2- أخذنا هذه المعلومات عن الصابئة من مقال لم ينشر بعد للصديق والأخ الباحث الدكتور (ياسين الويسي)، وهو من إخواننا السنة في مدينة بعقوبة العراقية، حيث تفضل بتقديم هذا المقال الموثق بدقةٍ وأمانةٍ وذلك بالاعتماد على أوثق المصادر والمراجع العربية والغربية، فله منا جزيل الشكر والامتنان، ولكن ومن أجل الأمانة الفكرية فقد عدت وقرأت كتاب (أصول الصابئة) لمؤلفه الأستاذ (عزيز سباهي)، وهو مفكر صائبي معاصر، والكتاب من إصدار دار المدى في دمشق ط 2003/3 م، وقد اعتمدت على هذا الكتاب أيضا في دعم الأفكارالتي أوردها الصديق الدكتور (الويسي) في مقاله القيم عن الصابئة وذلك بعد أن أجريت مقارنة دقيقة بين المعلومات الواردة في المقال والمعلومات الواردة في الكتاب، وكانت النتيجة وجود تطابق واضح في المعلومات عموما.

وهناك الصابئة الحرانية، وهم قوم يعبدون الكواكب ويقدسونها، وهناك أيضا الصابئة المندائية، وهي الطائفة الصابئة الوحيدة الباقية إلى اليوم والتي تعتبر النبي (یحیی) عليه السلام نبيا لها، وهم أيضا يقدسون النجوم والكواكب ويعظمونها، وللصابئة عدد من الكتب المقدسة مكتوبة بلغة سامية قريبة من السريانية، ومن أهمها:

1- الكنزاربا: أي الكتاب العظيم، ويعتقدون بأنه صحف آدم عليه السلام .

2- دراشة ديهيا: أي تعالیم یحیی علیه السلام.

3- سدره انشماثا: كتاب يدور حول التعميد والدفن والحداد وانتقال الأرواح.

4- کتاب الديوان: وفيه قصص وسير بعض الروحانيين مع صور لهم.

5- كتاب أسفر ملواشة: أي سفر البروج وهو لمعرفة حوادث السنة المقبلة.

6- کتاب قماها ذهيقل زیوا: وهو مجموعة تعویذات، ويعتقد الصابئي أن من يحمله لا يؤثر فيه سلاح أو نار.

وهناك أيضا كت أخرى لا مجال لذكرها كلها هنا في هذه المساحة الضيقة، وعلى كل حال، وبعد أن قدمنا هذه اللحمة الموجزة عن ديانة الصابئة، دعونا الآن نتعرف على أحد مفكري وأدباء الصابئة في عصرنا الحاضر، وذلك من أجل الوقوف على وجهة نظره في ما يتعلق بعظمة الإمام الحسين عليه السلام وعظمة ثورته التي ألهبت، ولا تزال تلهب، ضمير الثوار والأحرار في شتى بقاع الأرض شرقا وغربا.

فالأديب والشاعر( عبد الرزاق عبد الواحد) هو واحد من الأدباء العراقين المعاصرين البارزين، وهو أحد أفراد وأتباع ديانة الصابئة التي تحدثنا عنها منذ قليل، ولهذا الأديب والشاعر المعروف قصائد لا تنسي في مدح الإمام الحسين عليه السلام وفي مدح ثورته الخالدة خلود المجد على جبين الشمس وعلى صدر الزمان.

ص: 71

وها نحن الآن نقتطف بعض الأبيات الشعرية من قصيدته الطويلة والرقيقة والتي تحمل عنوانا مؤثرا (من لي ببغداد؟) كتأكيد على غربة الإنسان العراقي، تلك الغربة التي لا يخفف من حدتها ولا يقلل من مرارتها إلا وجودالإمام الحسين عليه السلام في تلك الأرض التي ارتوت من دمه فارتفع نخيلها عاليا إلى السماء کارتفاع قامة الحسين علیه السلام

فالشاعر الصابئي يخاطب تلك الأرض المقدسة قائلا:

يا أطهر الأرض... یا قدیسة الطين *** یا کربلا... یا ریاض الحور والعين

یا مرقد السيد المعصوم... يا ألقا *** من الشهادة يحمي كل مسكين

مدي ظلالک للإنسان في وطني *** وحيثما ارتعشت أقدامه کوني

کوني ثباتا له في ليل محنته *** حتی يوحد بين العقل والدین

حتی یکون ضميرا ناصعا ويدا *** تمتد للخير، لا تمتد للدون

محروسة بالحسين الأرض في وطني *** وأهلها في ملاذ منه میمون

ما دام في كربلا صوت يصيح بها: *** إن الحسين ولي للمساكين(1)

نعم، لقد صدق ذلك الشاعر الصابئي الأستاذ (عبد الواحد) في كل عبارة قالها عن الحسين عليه السلام وعن كربلاء، وحقا، فإن كربلاء هي أرض الطهر والقداسة، وهي المعراج المرتفع بدماء الشهداء إلى رياض الجنان وملكوت السماء، ولا أعتقد أن هناك أية مبالغة في قول من وصفها قائلا:

على أعتابهاسجد الوجود *** ولولاها لما كان السجود

ص: 72


1- عبد الرزاق عبد الواحد ، قصيدة من لي ببغداد؟، مجلة الأسبوع الأدبي، العدد /1090/ إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق.2008/2/9 ، راجع ص 11.

وعودا على بدء نقول إننا قد ذكرنا بعض الأبيات الشعرية الرقيقة والمعبرة لأحد شعراء الصابئة المعاصرين لمجرد التأكيد على أن ثورة الإيمان الحسيني وصداها الإنساني العام وأثرها في الفكر والضمير العالمي العام لم يتوقف عند حدود أتباع الرسالة الإسلامية، بل إن تلك الثورة الملحمية قد تجاوزت بطبيعتها وبآثارها كل الحواجز الدينية وكل الحدود القومية والعرقية.

فالإمام الحسين عليه السلام، عندما انطلق في ثورته المبنية على الإخلاص لله والوفاء لمبادئه، كان يحمل الحب بين جوانحه لكل الإنسانية وكان يرى أن التضحية في سبيل المبادئ والقيم هي أبسط مظهر من مظاهر الوفاء لمن جعلنا خليفة له في أرضه وأمناء له على رزقه وملکه.

فالثمن المدفوع کعربون وفاء لله، مهما كان غاليا ومكلفا، لا يهم بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام ، فهو يدرك تمام الإدراك أن النظرة السطحية الظاهرية هي فقط التي تجعل الإنسان ينظر إلى الابتلاءات والمصائب التي تصيبه على أنها نوع من أنواع إعراض الله سبحانه وتعالى عن عبده وسخطأ منه عليه، وبالمقابل، كان عليه السلام يدرك أيضا أن النظرة الباطنية العميقة هي التي تجعل الإنسان المؤمن يرى الأمور على حقيقتها وجوهرها، إن تلك النظرة العميقة هي التي تريه أن المحن والآلام والمصائب هي عبارة عن منح وعطايا إلهيةيتكرم الله بها على المؤمنين من عباده من أجل صقل إيمانهم وتهذیب كمالهم، وتخليصهم من شوائبهم مثلما يتخلص الذهب من الشوائب بحرارة النار اللاهبة.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم كان يدعو كل حين قائلا: «اللهم أرني الأشياء كما هي»، أي أنه كان صلی الله علیه و آله وسلم يريد من الله عز وجل أن يريه حقائق الأمور وبواطنها وأن يوقفه على

ص: 73

أسرارها وحکمتها، ونفس الطلب الذي كان الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يطلبه من الله، كان الإمام الحسين عليه السلام أيضا يطلبه منه عز وجل في كل حركة يقوم بها في الليل والنهار، في السر والعلانية.

فسید الشهداء عليه السلام ، رائد مسيرة الحب والوفاء، تخلى يوم الطف عن كل العلائق بشكل كامل، وودع الأهل والعيال، ولم يترك شيئا معه من متاع أو مال، وعندئذ تقدم بكل إيمان وثبات ونادي قائلا:

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي، ياسيوف خذيني(1)

ونحن نعرف جميعا أن الأبطال من بني البشر ينتابهم الضعف وأحيانا الخوف عندما يقتل أحد أولادهم أو إخوانهم، وربما يتسلل إلى أذهانهم في لحظة مامن لحظات الانهيار النفسي أن يعقدوا هدنة مع الخصم خوفا من أن يفقدوا ابنا أو أخا أو عزیزا آخر في حال استمرار الصراع واتساع لهيبه.

فهل كان الإمام الحسين عليه السلام من هذا النوع؟!

إن كل كتب التاريخ تحدثنا أن الإمام الحسين عليه السلام كان يزداد وجهه تألقا وتوهجا، وكان ساعده يزداد قوة وعزيمة كلما قتل واحد من أولاده وأصحابه يوم عاشوراء، لقد كان مقتل كل واحد من أولئك الأعزاء يعني للإمام الحسين عليه السلام أنه تخلص من أحد القيود التي تجذبه إلى عالم الأرض ودائرة الفناء، ويعني له مقتل ذلك الحبيب العزيز، بنفس الوقت أيضا، أنه اقترب أكثر من عالم النور الكلي ودائرة البقاء.

كان عليه السلام كلما يصاب في جسمه وأهله وأصحابه، كان يزداد شوقا إلى لقاء

ص: 74


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص84، وقد نقل المؤلف كلمة (بنفسي) بدل (بقتلي) خطأ.

الموت وكأنه كان يلمح جمال المحبوب المطلق خلف ستائر الموت وتحت ظلال السيوف، فيزداد عشقا ولهفة للقائه ونعمة البقاء في جواره.

ومن المعروف للجميع أن الأبناء والأصحاب كانوا يستأذنونه لنيل نصيبهم من الشهادة في سبيل الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، وكان الحسين عليه السلام يأذن للواحد منهم تلو الآخر، على الرغم من أن كل فرد منهم كان عزيزا عليه كعينيه أو کنفسه الغالية، وكان من الطبيعي أن يحيط الموت بهم إحاطة السوار بالمعصم، ولكن بالرغم من ذلك فما أن يراهم الإمام الحسين عليه السلام صرعی مخضبين بالدماء من حوله حتى يزداد إيمانا وثباتا وقوة وعزما على لقاء الغاية والمني على مذبح العشق الإلهي العظيم.

وليس هذا بالشيء الغريب عن الإمام الحسين عليه السلام ، فالحسين عليه السلام هو ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، خاتم الرسل والأنبياء، وهو أيضا ابن علي المرتضى عليه السلام ، سید الأئمة والأوصياء، والحسين عليه السلام هو فلذة كبد أمه فاطمة الزهراء عليها السلام ، بضعة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسيدة النساء.

فلا عجب أن يقدم الحسين عليه السلام على ما أقدم عليه وهو ابن تلك الأنوار المشتقة

من النور المطلق للجمال والجلال والكمال.

وها هو المفكر والباحث (ميشيل أنطوني سیلز) (Michael Antony Sells) يذكر حديثا هاما بهذا الصدد في كتابه (التصوف الإسلامي المبكر)( Early Islamic Mysticism) يقول فيه، نقلا عن الإمام الصادق علیه السلام : «كان الله ولا شيء، فخلق خمسة من نور عظمته ومنح كل واحد منهم اسما من أسمائه، فهو المحمود ولذلك دعا رسوله محمدا، وهو العلي فدعا أمير المؤمنين عليا، وهو فاطر السماوات والأرض فاشتق منه اسم فاطمة، وله الأسماء الحسنی فاشتق من ذلك اسمين للحسن

ص: 75

والحسين ثم وضعهم عن يمين العرش»(1)

إذن، فهذه الأنوار التي خلقها الله من (نور عظمته) لابد وأن ترجع إلى ذلك النور الذي اشتقت منه، وقد اختار الجميع أن يكون القتل في سبيله هو أقصر الطرق للعروج إليه ومن ثم للالتحاق به في عليائه من جديد.

وبالطبع، فإن المفكر والباحث (سیلز) ليس بالمفكر الوحيد الذي ذكر أحاديث هامة كهذا الحديث الذي ذكرناه منذ قليل، بل هناك العديد منهم ممن ذكر الكثير من تلك الأحاديث المشابهة له في القيمة وفي المعنى.

وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نستعرض أو أن نذكر كل الأحاديث التي وردت في كتابات ومؤلفات المفكرين المعاصرين، فالوقت والمكان لا يسمحان لنا بذلك الإسهاب والإطالة، كما أننا لا نريد أن نخرج كثيرا عن جوهر موضوعنا المطروح بين يدينا الآن.

ولكن يكفي أن أذكر هنا أن الإمام الحسين عليه السلام الذي نشأ وتربى في بيت النبوة، وكانت أمه الزهراء عليها السلام تغذیه بالإيمان مثلما تغذيه بالطعام، كان موقفه في كربلاء عبارة عن ثمرة من ثمار تلك التربية الفاطمية التي قادت الحسين عليه السلام إلى أن يهز العالم بثورته مثلما كانت هي علیها السلام ان تغذیه و تربیه و تهز له مهده في طفولته.

ولذلك فمن غير المستغرب أن يعتبر المفكر الغربي (کریستیان فون دیسین)

( C.V. Dehesen ) في كتابه (فلاسفة وقادة دينيون) ( Philosophers and Religious leaders) أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هي إحدى القائدات البارزات في التاريخ، وقد لعبت دورا بارزا في الدفاع عن حقوق رسالة أبيها وحقوق الأئمة من

ص: 76


1- Michael Antony Sells, Early Islamic Mysticismn, Paulist Press P.77 + 78.

أبنائها(1)

إذن، فالتربية الإيمانية التي تلقاها الإمام الحسين عليه السلام في طفولته من أمه السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لم تكن مجرد تربية عادية روتينية من أم تقوم بواجباتها البيتية فقط، بل كانت تربية استثنائية من إحدى النساء البارزات والنادرات في تاريخ الإنسانية، فكل شيء كان استثنائيا الأم، الابن، التربية، وحتى زمن الثورة كان استثنائيا أيضا.

وهنا نقول، وبكل ثقة، إن الزهراء عليها السلام التي ربت الحسين عليه السلام وعلمته وهزت له سريره بيمينها، استطاعت لاحقا، ومن خلال ثورة ابنها في كربلاء، أن تهزضمير العالم بإيمانها.

فالتربية الإيمانية الصافية التي نشأ الحسين عليه السلام عليها جعلته يوازن في نفسه بين الرغبة في البقاء، وبين الواجب في الخروج لمواجهة الموت في عقر داره، فرأى أن طريق الواجب هو الأرجح في ميزان الإيمان، وهو الأرضى عند الله سبحانه وتعالی.

خرج الحسين عليه السلام وهو يدرك أنهم قلة المؤمنون بقضيته ومبادئه، ومع ذلك فقد خرج لأنه مؤمن أن القلة المؤمنة التي تجاهد في سبيل الله وفي سبيل إنعاش رسالته الأخيرة من جديد، ستتغلب بإيمانها على الكثرة الباغية، وأن صوت الحق سیبقی هو الأقوى والأعلى من جعجعة الباطل طالما أن هناك من سيستجيب لذلك الصوت ويلبي النداء في سبيل إبقاء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حية باقية ما بقي الليل والنهار.

وقد صدق الأديب والعلامة الأزهري (عبد الله العلايلي) عندما قال موجزا كلامه

ص: 77


1- Christian Von Dehesen, Philosophers and Religious leaders, Greenwood, P.64.

عن فلسفة الإيمان عند الإمام الحسين علیه السلام : «رسم الحسين عليه السلام خطته في كلمات خالدات، ستدور مع الفلك ثم تنتشر فيه لتبقى خطة الأبطال المخلصين:

«هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وبطون

طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية...

ألا ترون أن الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهی عنه، فلا أرى الموت إلا سعادة

والحياة مع الظالمين إلا برما» ...

فسلام عليه يوم يموت ويوم يبعث حيا»(1)

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يلخص خطته الثورية وفلسفته الإيمانية بكلمات قصيرة ومعبرة، وسيكون لتلك الكلمات أبلغ الأثر في خلق أجيال ثورية ترفض كل أشكال الباطل والفساد، ولا تقبل أي نوع من أنواع المساومات على القيم والمبادئ التي دعت إليها شريعة آخر رسالة أهدتها الماء إلى أهل الأرض.

نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام يقول: «هيهات منا الذلة»، ويريد لكل المؤمنين من بعده أن تكون هذه العبارة منهجا حياتيا متكاملا لهم، وشعارا يأخذون به عند أي موقف يتطلب منهم الوقوف إلى جانب الحق ونصرته ولو كلفهم ذلك الموقف بذل كل غال ورخيص.

فالله العزيز الحكيم يقول في محكم تنزيله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ

ص: 78


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص350.

وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1)، فالمعاني الإيمانية لهذه الآية القرآنية الكريمة تتضمن معنی قول الإمام الحسين عليه السلام «هيهات منا الذلة»، ولذلك لأن المؤمن لا يقبل أن يعيش حالة الذل أمام الطرف الآخر، ولا يقبل أيضا أن يبيع نفسه وروحه وماله وكل غال وعزيز يملكه إلا لله فقط، فكل ما في وجودنا عبارة عن ودائع لله عندنا، ولذلك فعلى المؤمن منا أن يعيد الودائع إلى صاحبها الذي استودعه إياها، وإلا فإنه يوم العرض والحساب لن يكون عزيزا ولا وجيها.

وعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام «هيهات منا الذلة»، فهي صرخة الحق التي تؤكد فلسفته الإيمانية المبنية على القواعد الإلهية والأسس الرسالية، إنها تلك الفلسفة التي جعلته يطرح مبادئه ويعلن نهجه أمام أعدائه بكل وضوح قائلا دون خوف أو وجل:

«لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، عباد الله! إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب »(2)

فعبارة (لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) هي عنوان النهج الحسيني على دروب الإيمان، وهي روح العزة التي حدثنا الله سبحانه وتعالى عنها في قرآنه الكريم، وبين لنا أن تلك العزة تليق فقط بمن ذكرتهم الآية الكريمة «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ »(3) في حين أن يزيد الفاسق لا يليق به إلا قوله تعالى:

ص: 79


1- سورة التوبة: الآية 111
2- أ. محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص136. ب. عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدأ، مصدر سابق ص255. ج. عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص100. د. أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص144
3- سورة المنافقون: الآية 8

أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ»(1)، وشتان ما بين العزتين !!

فالإمام الحسين عليه السلام يقول: «أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب»، أما يزيد، فتروي عنه كتب التاريخ أنه جلس ذات يوم على مائدة شرابه وعن يمينه ابن زیاد، وذلك بعد مقتل الحسين عليه السلام ، فأقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربة تروي مشاشي *** ثم صل فاسق مثلها ابن زیاد

صاحب السر والأمانة عندي *** ولتسدید مغنمي وجهادي(2)

فالحسين عليه السلام يتحصن بالله ويلوذ به، ولا يرنو بعينيه إلا إلى السماء، أما يزيد فلا يتحصن ولا يلوذ إلا برجس الكأس، ولا يؤمن إلا بالعدم ما بعد الوجود.

وها هو يؤكد على ذلك بقوله بين لفيف من أصحابه وخلانه:

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم *** وداعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم ولذة *** فكل، وإن طال المدى، يتصرم(3)

فالحسين عليه السلام كان ينظر ویری بلا حجاب،أما يزيد فكان ينظر ولكنه لم يكن يرى وذلك لأن البصيرة عنده قد طمست تماما وأعمتها الحجب الكثيفة والآثام العظيمة، فلم تعد ترى شيئا في الوجود غیر ذاتها، وكأن الوجود بأكمله قد تقزم و تحول إلى مجرد كلمة (أنا) بكل ما فيها من أنانية ومركزية ومعان فوقية متضخمة تدل على انتفاخ الذات وشعورها بأنها هي مركز الوجود وغايته القصوى مما يستدعي عدم الإذعان لله بالعبودية وعدم الإيمان باليوم الذي تجزي فيه كل نفس ما كسبت في دنياها

من فعائل تستحق عليها ثوابا أو عقابا .

ص: 80


1- سورة البقرة: الآية 206
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص342
3- نفس المصدر السابق ص345.

وليست (الأنا) هي الحجاب الوحيد، فهناك حجاب الجهل وحجاب السلطة وحجاب الشهوة وحجاب المادة، وهناك حجب عديدة أخرى تجذب الإنسان للأسفل بعيدا عن عالم الكشف والصفاء.

ومن الوارد أن يقع الإنسان فريسة لأحد هذه الحجب المذكورة، ولكن من المستغرب أن تجتمع كل هذه الحجب الكثيفة في شخص واحد، غير أن يزيد قد أزال حاجز الغرابة بسوء منبته وبقبيح أفعاله وبعظیم آثامه، فلم يعد غريبا أن تجتمع فيه كل تلك الحجب دفعة واحدة لتجعل منه دليلا إلى سقر وبئس المصير، ولتحيله إلى النموذج الأكمل للأبالسة والشياطين.

ولا أريد أن أستفيض كثيرا في الحديث عن هذه النقطة، ولكن لابأس في أن أذكر قصة قصيرة جدا من تراث الفكر الصوفي الهندي القديم، وهي قصة رمزية تبين لنا ما يمكن أن يفعله أي حجاب من حجب الغفلة بنا.

تقول القصة إن أحد الأثرياء البخلاء والمغرورين زار واحدا من متصوفة الهند وفلاسفتها، فأراد ذلك المتصوف الفيلسوف أن يبين لضيفه بعض عيوبه ولكن بطريقة عملية مهذبة ...

فأمسكه الفيلسوف من ذراعه وقاده إلى نافذة الغرفة التي كانا يجلسان فيها، وقال

له بأدب:

- انظر، ماذا ترى؟

فأجاب الرجل: أرى أناسا في الطرقات.

ثم قاده الفيلسوف بعد ذلك إلى مرآۃ معلقة على الحائط، وقال له:

- انظر ماذا تري الآن؟!

ص: 81

فقال الرجل الضيف: أرى نفسي.

وهنا قال الفيلسوف المتصوف: أتدري ما الفارق بين زجاج النافذة وزجاج المرآة؟! لا فارق سوى أن زجاج المرأة قد صقل بغشاء رقيق من (الفضة) فلم يعد يرى المرء فيه غير (أنانيته)، فإياك وغشاء المادة فإنه يطمس البصيرة(1)

فإذا كان غشاء المادة فقط قادرا على أن يطمس البصيرة، فما هو حال يزيد الذي كان على قلبه ما لا يعد من حجب وأغشية؟!

ولذلك، نعود ونؤكد من جديد على أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن ليسمح بوجود أي غشاء أو حجاب يحول بينه وبين ربه، بل لم يكن ليأذن لأي متاع من متاع الدنيا و علائقها أن يقف عائقا بينه وبين الالتحاق بالملأ الأعلى ليشاهد ما لا يخطر على قلب بشر وما لا تحيط به العبارات والفكر، ولذلك كان من الطبيعي تماما أن يقدم الحسين عليه السلام ما قدمه من أجل الوصول إلى غايته السامية التي نذر حياته فدية لها.

وبالفعل، فإن الإمام الحسين عليه السلام عندما قال قولته الشهيرة: «فإني لا أری الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما»(2)، فإنما كان يشير إلى أنه قد عقد العزم بالفعل على الالتحاق بجده وأبيه، وأمه وأخيه (عليهم السلام جميعا)، فالقتل لهم عادة، وكرامتهم من الله الشهادة.

ص: 82


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص384
2- إنها مقولة شهيرة للإمام الحسين عليه السلام وقد وردت في الكثير من المراجع المعاصرة لكتاب مسلمين ومسيحيين، نذكر منهم على سبيل المثال فقط، لا الحصر: أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص 131. ب. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 261.

وللإمام الحسين عليه السلام - كما رأينا - فلسفة خاصة عن الموت، فهو القائل: «موت في عز خير من حياتي في ذل»(1)، وهو القائل أيضا لمن خوفه بالموت إذا خرج إلى کربلاء: «أفبالموت تخوفني؟! هيهات، طاش سهمك وخاب ظنك»(2)

وهذا الموقف الحسيني من الموت يذكرنا بالموقف العلوي منه أيضا، وذلك عندما استبطأ بعض المقاتلين في جيش الإمام علي عليه السلام الإذن من الإمام علي علیه السلام لهم لبدء القتال في صفين وقد ظنوا أن عدم الإذن لهم بالقتال ناتج عن كراهة علي عليه السلام للموت، فأجابهم عندئذ قائلا:

«أما قولكم: أکل ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج

الموت إلي»(3).

إنه نفس الموقف من الموت تماما، إنه الموقف الواحد الموحد المبني على فكرة

الإمام علي عليه السلام القائلة إن الحياة هي أن نموت قاهرين، وإن الموت هو أن نعيش مقهورين.

إنها مدرسة الإمام علي عليه السلام في طلب الشهادة، بل هي أيضا مدرسة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي علم الناس قائلا: «ما من أحد يدخل الجنة يسره أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يحب أن يرجع ليقتل مرة أخرى»(4)

فالإمام الحسين عليه السلام الذي تخرج من مدرسة جده صلی الله علیه و آله وسلم و أبيه عليه السلام قد وطن

ص: 83


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص83
2- نفس المصدر السابق ص83
3- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة (شرح محمدعبده)، مصدر سابق ج1 ص100.
4- محمد عبد الرحيم، أربعون حديثا في فضل الشهيد والشهادة، طبع الحكمة . دمشق، 1995،ص84

النفس على ربط المعلومات التي تلقاها في تلك المدرسة بأرض الواقع، فالواقع الذي عاشه الإمام الحسين عليه السلام هیاه كي يترجم تلك التعاليم النبويةوالعلوية إلى أفعال عملية تأخذ سبيلها على أرض الواقع، ولذلك فإن الإمام الحسين عليه السلام لم يرف له جفن أمام الموت المحدق به وبأهل بيته علیهم السلام، بل على العكس من ذلك، فقد كان ثابت الجنان، رابط الجأش، قوي العزيمة على الرغم من معرفته الكاملة بما ينتظرهم على صدر تلك الرمال الحارقة في المستقبل القريب.

وها هو عليه السلام يخاطب أصحابه وأهله بكل هدوء وطمأنينة مخبرا إياهم بما ينتظرهم جميعا في الغد الرهيب: «إني غدا أقتل وكلكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد، حتى القاسم وعبد الله الرضيع، إلا ولدي عليا زين العابدين لأن الله لم يقطع تسلي منه وهو أبو أئمة ثمانية»(1)، فرفع الجميع أصواتهم شاکرین الله مجددا لأنه كرمهم بنصرته وشرفهم بالقتال معه والموت بين يديه دفاعا عنه وعن رسالة جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم

وفي سبيل التأكيد على هذه الحقائق، نقول إن إيمان الحسين عليه السلام العميق برسالة الإسلام السماوي، وبإنسانيةمبادئه وتعاليمه هو الذي خلق بداخله أحد الأسباب الهامة لإعلان ثورته على الحكم الأموي الجائر الذي كان يهدف أولا وأخيرا إلى تفريغ الإسلام من محتواه الروحي والإنساني.

وقد ذكرت (الموسوعة البريطانية) (Encyclopaedia Britannica) کلاما واضحا حول هذه المسألة، واعتبرت أن أحد أهم أهداف الإمام الحسين عليه السلام هو العودة بالإسلام إلى منهاجه الرسالي الصحيح، وقد جاء في تلك الموسوعة البريطانية

ص: 84


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص 255

حرفيا: (الظاهر أن ما التزمه (الحسين) من أفعال قد ألهمتها إيديولوجيا محددة وهي إرساء نظام يجدد الحكم الإسلامي (الحقيقي) في وجه الحكم الأموي الذي كان يعتبر جائرا)(1)

وبما أننا قد أوردنا شيئا يسيرا مما جاء في (الموسوعة البريطانية) عن الإمام الحسين عليه السلام ، دعونا نتوقف هنا قليلا مع بعض الأدباء والمفكرين الإنكليز الذين تحدثوا عن واقعة كربلاء عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي قاد تلك الملحمة الإيمانية الخالدة.

ودعونا نبدأ أولا مع الأديب الإنكليزي الكبير (تشارلز دیکنز) ( Charles Dickens)

(1812 -1870 )الذي أغنى الأدب العالمي بعشرات الروايات الخالدة مثل (أوليفر تويست)، (دافيد كوبر فيلد)، (قصة مدينتين)، (الآمال الكبيرة)... هذا بالإضافة إلى العديد من الروايات الاجتماعية الواقعية الأخرى التي تلامس جوانب الحياة بحلاوتها ومرارتها، وما من ناقد كتب عنه إلا واعتبره أشهر روائي إنكليزي في القرن التاسع عشر(2)

ويرى أيضا بعض الأدباء والنقاد أن الكثير من العبارات والاصطلاحات التي

ابتكرها (دیکنز) في رواياته قد أصبحت جزءا من اللغة الإنكليزية المتداولة يوميا(3).

إذن، فإن (دیکنز) علم بارز من أعلام الأدب الإنكليزي، الذين تجاوزوا

ص: 85


1- Encyclopaedia Britannica, CD - Rom. 2005.
2- ليليان هيرلاندز (وآخرون)، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ترجمة: محمد الجورا، دار الحقائق . بيروت، دمشق، ط1986/1 ، ص155
3- ل. دوغارد بيتش، تشارلز ديكنز، ترجمة: رجا حوراني، مكتبة لبنان . بيروت، ط 1974/1 ص50

بمؤلفاتهم الأدبية حدود وطنهم وقوميتهم ليحققوا شهرة عالمية ذائعة الصيت.

وقد يفاجأ القارئ إذا قلنا له إن لهذا الأديب العالمي موقفا متميزا من حركة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكن، ومن أجل الإبقاء على عنصر المفاجأة في الحديث، دعونا ننقل ما جاء عن الأديب (دیکنز) حول الحركة الحسينية المباركة التي ألهبت الضمير العالمي على مر العصور.

يقول (دیکنز): (لو كان الحسين يحارب لإرضاء رغباته الدنيوية، ما کنت لأفهم السبب في اصطحابه أخواته ونسائه وأطفاله معا، ولهذا، فإن الذي يقبله العقل هو أن تضحيته كانت خالصة للإسلام)(1)

ولا يختلف رأي الباحث والمؤرخ الإنكليزي (برسي سایکس) عن رأي الأديب( دیکنز) بشأن عظمة الإمام الحسين عليه السلام وسمو حركته الثورية، وها هو يبدي إعجابه الشديد بما قدمه الحسين عليه السلام في كربلاء قائلا:

(إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا)(2)

وعلى الرغم من أن كتابنا هذا الذي هو بين أيادينا الآن يتناول شخصية الإمام الحسين عليه السلام وأهمية ثورته في كربلاء من وجهات نظر عالمية حديثة، إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين أحيانا للعودة إلى الوراء قليلا للاستشهاد ببعض الأقوال والعبارات الهامة التي قيلت من قبل أشخاص لهم مكانتهم المتميزة في ميدان الفكر والأدب

ص: 86


1- راجع موقع: http: H//en. Wikipedia. Org/wiki/ Husayn – ibn - Ali
2- راجع نشرة (أجوبة المسائل الشرعية) المطابقة لفتاوى المرجع آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، العدد /122/ السنة /16/ إصدار مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية . عدد محرم الحرام، 1429. 2008م، ص9.

وذلك للتأكيد على أن أقوال أولئك المفكرين والأدباء السابقين تتفق في جوهرها مع أقوال ووجهات نظر المفكرين والأدباء المعاصرين في ما يتعلق بتحليل الأحداث وتقييم المواقف ودراسة الشخصيات التي لعبت دورا بارزا على مسرح الفاجعة في کربلاء.

وعلى سبيل المثال، فالمؤرخ الإنكليزي البارز (إدوارد غیبون) ( Edward Gibbon)،

(1737 - 1794 )وهو أعظم المؤرخين الإنكليز في عصره، كان له رأيه الخاص بأحداث الفاجعة وبالآثار السياسية والروحية والنفسية التي نتجت عنها، وإننا سنذكر - بلا شك - في الفصل الأخير من هذا الكتاب الآثار العامة التي خلفتها أحداث کربلاء على كافة المستويات، وسنذكر أيضا وجهة نظر المؤرخ (غيبون) حول الآثار السياسية لحادثة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام فيها، غير أننا الآن سنكتفي بما قاله ذلك المؤرخ الإنكليزي عن البعد النفسي الذي يمكن أن تخلفه قراءة أحداث تلك الفاجعة في النفوس على مختلف مستوياتها.

يقول (غيبون): (إن مأساة الحسين المروعة على الرغم من تقادم عهدها، فإنها

تثير العاطفة وتهز التنفس عند اضعف الناس إحساسا وأقساهم قلبا)(1)

نعم، إن ما حدث في كربلاء في شهر محرم الحرام لا يزال يهز نفوس الناس ويوقظ الأحاسيس من رقدتها ويطلق العواطف والمشاعر من سلاسلها، فالدم الحسيني كان ولا يزال قادرا على تطهير النفوس وغسل القلوب وتنقية المشاعر والأحاسيس حتى عند أقسى الناس قلوبا وأعتاهم نفوسا وأصلبهم مشاعرا

ولكننا نقول، وبكل جرأة، إن الدم الحسيني الذي هز عروش بني أمية وأسقطها

ص: 87


1- نفس المصدر السابق ص9

قد عجز عن هز شيء آخر يبدو أكثر بساطة وأقل قوة من صلابة تلك العروش.

وإننا لا نجد أي حرج في هذا القول أبدا، بل على العكس من ذلك تماما، فإننا نقولها ونعلنها ثانية: إن دم الإمام الحسين عليه السلام الذي هز عروش وقصور بني أمية قد أخفق في هز ضمائر الأمويين وفي إيقاظ أحاسيسهم التي قام يزيد، ومن قبله أبوه معاوية، بأخذها في رحلة سبات طويلة لا تعرف النهاية.

ومن بداهة القول هنا إن الخلل لم يكن في قوة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ولا في عظمة التضحيات الغالية التي قدمها على مذبح العشق الإلهي، ولكن الخلل كان في تلك التركيبة النفسية الشاذة التي جبل عليها الأمويون وأتباعهم من عبدة الدنيا والدرهم والدينار.

فالمأساة الرهيبة التي عاشها الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، بالإضافة إلى أصحابه الكرام، شغلت الضمير العالمي على امتداد ألف وأربعمائة عام تقريبا، ولا تزال تلك المأساة الأليمة تلهب مشاعر وأحاسيس المفكرين والأدباء الأحرار في شتى أصقاع العالم على مختلف مشاربهم الدينية وتياراتهم الفكرية والفلسفية.

وبما أننا كنا نتحدث منذ قليل عما ورد في (الموسوعة البريطانية) عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام وعن عمق إيمانه وسمو غاياته وأهدافه، وبما أننا كنا نتحدث أيضا عن بعض وجهات نظر عدد من الأدباء والمفكرين الإنكليز الذين درسوا وحللوا دوافع الثورة وأهدافها ونتائجها، لذا يمكنناالآن أن نستمر في إيراد المزيد من الشواهد الهامة للعديد من المفكرين الكبار الذين أسهموا في رفد الثقافة بالعديد من المؤلفات والكتابات التي أغنت الفكر العالمي الحديث.

ففي عام (1943) كتب عالم الآثار الإنكليزي الشهير المستر (سیتون لويد) في

ص: 88

كتابه الموجز عن تاريخ العراق من أقدم العصور إلى العام المذكور، والذي نشر تحت عنوان (الرافدان)، ما يلي: «حدثت في كربلاء فظائع ومآس صارت فيما بعد أساسا لحزن عميق في اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام، فقد أحاط الأعداء في المعركة بالحسين وأتباعه، وكان بوسع الحسين أن يعود إلى المدينة لو لم يدفعه إيمانه الشديد بقضيته إلى الصمود.

ففي الليلة التي سبقت المعركة بلغ الأمر بأصحابه القلائل حدا مؤلما، فأتوا بقصب و حطب إلى مكان من ورائهم، فحضروه في ساعة من الليل وجعلوه كالخندق ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وأضرموا فيه النار لئلا يهاجموا من الخلف، وفي صباح اليوم التالي قاد الحسين أصحابه إلى الموت، وهو يمسك بيده سيفا وباليد الأخرى القرآن، فما كان من رجال يزيد إلا أن وقفوا بعيدا، وصوبوا نبالهم فأمطروهم بها... فسقطوا الواحد بعد الآخر، ولم يبق غير الحسين وحده، واشترك ثلاثة وثلاثون من رجال بني أمية بضربة سيف أو سهم في قتله، ووطأ أعداؤه جسده وقطعوا رأسه»(1)

وبناء على ما جاء في قول الباحث الآثاري الأستاذ (لوید)، نرى أن إيمان الإمام الحسين عليه السلام بقضيته وشعوره بأنه هو المسؤول وقتذاك عن حفظ القرآن وحفظ معالم الإسلام هو الذي دفعه إلى الصمود وإلى الثبات على مواقفه في مواجهة جحافل الظلام الأموية التي جاءت بقوة السلاح لتجعل من الإسلام رسما دارسا ومن القرآن نسيا منسيا.

ص: 89


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة (الثقافة الإسلامية)، العدد /50/، مصدر سابق ص49

ألا يذكرنا هذان الموقفان من الإمام الحسين عليه السلام ومن يزيد، من خلال الاختلاف الكبير بينهما، بقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الكريم: «الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا»(1)؟!

نعم، إن هذين الموقفين المتضادين بين الحسين عليه السلام ويزيد يذكراننا بالآية الكريمة التي ذكرناها للتو والتي تدور حول فكرة الصراع بين رجال الله وبين أتباع الطاغوت، وإن مضمون تلك الآية الكريمة هو نفس مضمون الآية الكريمة التالية التي تقول: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2)، ولا أعتقد، شخصيا، أن هنالك آية قرآنية أخرى أوضح وأقوى منها في تصوير حالة الصراع المرير بين قوى الخير وقوى الشر، والتي يمثل الصراع بين الحسين عليه السلام ويزيد أحد أهم تلك الصراعات على مر العصور.

ولا ريب في أن الباحثة الإنكليزية (جرترود بل) (Gertrude Bell)

( 1868 - 1926 ) والتي عاشت فترة طويلة في بغداد وماتت فيها أيضا، قد أصابت عندها قالت عن واقعة كربلاء:

(لقد أصبحت کربلاء مسرحا للمأساة الأليمة التي أسفرت عن مصرع الحسين)(3)

فقد تحولت أرض كربلاء إلى خشبة مسرح تراجيدي يمثل مأساة الإنسان على الأرض، وقد تحولت تلك الرمال الحارقة المستلقية بصمت على ضفاف الفرات إلى

ص: 90


1- سورة النساء: الآية 76
2- سورة التوبة: الآية 32
3- نفس المصدر السابق ص48.

مسرح يصور مصائب ومحن الأنبياء والأولياء الذين لم تكن لهم ذنوب أو خطايا إلا محاولاتهم الجادة والصادقة في إحلال أسس الحق والعدل والفضيلة بين صفوف الناس.

ولا أريد أن أستفيض كثيرا في ذكر كل المتفکرین والأدباء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وعن معاناته في سبيل إيمانه القوي بمبادئه وأهدافه التي كافح من أجلها، فالمجال والوقت لا يسمحان لنا بذلك الآن، ولكن سنذكر كل شيء في مكانه المناسب في الفصول والصفحات المتبقية من هذا الكتاب بعون الله ومشيئته.

وعلى كل حال، فإن معظم المفكرين الذين أدلوا بدلائهم في تحليل ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، قد أدركوا وأكدوا أن تلك الثورة كانت مبنية على الوعي والإيمان الكاملين بضرورة حدوثها سواء عنده علیه السلام أو عند أهله وأصحابه الميامين، وقد أكدوا أيضا على أنه لا يمكن لمثل تلك الثورة أن يقال عنها بأنها وليدة الاندفاع النفسي أو التوتر العاطفي أبدا.

فلا أحد يشك في أن الإمام الحسين عليه السلام قد اختار هو وأهل بيته علیهم السلام طريق الشهادة كي تكون هي المنطلق لإعادة إحياء دین جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، فمنذ بداية الحركة وظهور مخاضها الأول يقول الحسين عليه السلام لمن نهاه عن الخروج إلى كربلاء لمواجهة الأمويين: «إني رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

في المنام وأمرني بما أنا ماض له»(1)، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه سيمضي في طريقه لتحقيق أهدافه مهما كان الثمن غاليا طالما أن الأمر له هو رسول الله ذاته صلی الله علیه و آله وسلم.

وقد عاد الإمام الحسين عليه السلام ليؤكد قوله الأول بخطبة بليغة يبين فيها عمق إيمانه

ص: 91


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص192.

بقضاء الله وقدره، ويوضح من خلالها أيضا نظرته إلى الموت وعزمه على ترجمة الإيمان بالله إلى واقع عملي من خلال السير في خط الشهادة.

وها هو عليه السلام يقول في بداية مخاض الثورة: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، ځط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و کربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيض عن يوم خط بالقلم، رضي الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحا إن شاء الله تعالی»(1)

وبما أن الحسين هو ابن علي وفاطمة عليهما السلام ، وهو أيضا ابن محمد صلی الله علیه و آله وسلم ووليد الرسالة السماوية، فقد كان قلبه صفحة نقية من صفحات تلك الرسالة الإنسانية السامية، وكانت سيرته ترجمة حية لكل منطلقاتها وتصوراتها، الأمر الذي جعل منه أول ملب لنداء تلك الرسالة الجريحة في عصره الكئيب.

وكان ثمن تلبية النداء رؤوسا نبوية مقطعة وأجسادا طاهرة ممزقة، ولكن كل هذا لا يهم بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام، فالرسالة الإسلامية شجرة مباركة غرسها الله سبحانه وتعالی - عن طريق نبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم - في أرضه، ولا بد لتلك الشجرة الصغيرة المغروسة حديثا من رعايةوعناية وسقاية حتى تستكمل نموها وتؤتي ثمرها، فكان لها الحسين عليه السلام وكانت لأجلها كربلاء.

ص: 92


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص099

وقد أجاد وأصاب الباحث والعالم الأزهري (خالد محمد خالد) في كتابه القيم (أبناء الرسول في كربلاء) عندما قال: (إن أعظم ما صنع الحسين وأهله وصحبه في ذلك اليوم هو أنهم جعلوا الحق قيمة ذاته ومثوبة نفسه، فلم يعد النصر (مزية) له.. ولم تعد الهزيمة (إزراء) به ..)(1)

أما عن الثمن المدفوع من قبل الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام مقابل بقاء تلك

الشجرة حية، وارفة الظلال، طيبة الغلال، فيقول الأستاذ (خالد) متابعا كلامه:

(إن الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول تحمل على أسنة رماح قاتليهم إلا لتكون مشاعل على طريق الأبد، للمسلمين خاصة، وللبشرية الراشدة كافة، يتعلمون في ضوئها الباهر أن الحق وحده هو المقدس... وأن التضحية وحدها هي الشرف... وأن الولاء المطلق للحق، والتضحية العادلة في سبيله هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان وللحياة قيمة و معنى)(2)

فما هو القصد من قول الأستاذ (خالد): (الولاء المطلق للحق والتضحية العادلة

في سبيله هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان قيمة ومعنى)؟!

فالمقصود من ذلك، وبكل بساطة ووضوح، أن الحياة حركة وأن الموت سکون،

ويصدق هذا الكلام على الناس العاديين فقط، أما بالنسبة للعظماء، فإن الوضع يختلف تماما، فموت الإنسان العظيم لا يمكن أن يكون سكونا ولا ثباتا ولا همودا، بل هو في حقيقته عبارة عن حركة مختزنة كامنة خرجت من حالة الكمون إلى حالة الفعل والحركة، إنه حياة ثانية تنتشر في الوسط المحيط بروح جديدة.

ص: 93


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص8.
2- نفس المصدر السابق ص9

فالحياة بحد ذاتها حركة تتمحور حول ذات الشخص الحي، فإذا مات ذلك الشخص وكان عظيما، فإن سكونه (موته) يتحول من حالة السكون إلى حالة الحركة، وذلك لأن حياته كإنسان عظیم تكون قد خرجت عن إطارها الشخصي وأصبحت ملكا حيا وأثرا حيويا في مجتمعه وبين أتباعه ومعتنقي مبادئه وآرائه.

ولذلك، وكما رأينا سابقا عند بعض المفكرين، فإن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن مجرد شهيد في كربلاء، بل كان شهيدا وشاهدا بنفس الوقت، فقد كان شهيدا من أجل الإيمان، وشاهدا على القوم باسم الحق.

وعلى ما يبدو، فإن المفكر الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) الذي أغنى المكتبات العالمية بالعديد من مؤلفاته السياسية والفكرية، والتي يتمحور قسم منها حول الرسالة الإسلامية، يبدو أنه يتفق معنا حول حقيقة إيمان واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في موقعة كربلاء

فقد علق المفكر (غارودي) على الآية القرآنية الكريمة: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1)، بالقول عنها في كتابه (الإسلام دين المستقبل): (... إن نموذج هذا الشهيد جسده لدى المسلمين استشهاد الحسين حفيد النبي الذي استشهد في معركة كربلاء في عام / 680 میلادی /، إن للشهيد هنا معنی آخر غير الهزيمة أو الموت لأنه شاهد باسم الحق والإيمان، إنه في نفسه مساهمة في نصر هذا الحق وهذا الإيمان)(2)

إذن، الموت ليس نهاية الحياة، بل هو وجه جديد من وجوه الحياة، وإن الشهادة

ص: 94


1- سورة آل عمران: الآية 169.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص48.

في سبيل الحق هي خير تلك الوجوه وأنبلها وأسماها، ورب امرئ قد يرتفع بموته إلى مستوى لم يستطع أن يصل إليه في حياته، وقد يكون الموت أحيانا خير رسول لحمل الرسائل و تبليغ المبادئ ومن ثم الوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة.

فها هو الحكيم والفيلسوف الإغريقي (سقراط)، الذي اختار طريق الموت الإثبات مبادئه وجملة تعاليمه أمام ظالميه من الطغاة والجاهلين، يقول قبل موته بوقت قصير مخاطبا أتباعه المخلصين ومبينا لهم أن الموت بشرف خير من الهروب من المبادئ ولو كان الهروب يحمل معه النجاة بالحياة.

ولنستمع الآن وهو يقول: (إذا أردنا تطهير أرواحنا فينبغي إبعاد أجسادنا عن كل ما يثقلها من الطمع في المال والإقبال على اللذة، وأرجو أن يكون معلوما أن الموت عندما يحضر الإنسان فحينئذ يموت منه الجزء الفاني، لكن الجزء الخالد وهو الروح فإنه ينسحب عند اقتراب الموت وينجو سليما من كل أذى ويكون غير قابل للهلاك.

وهناك نقطة أخرى أيها الأصدقاء وهي تستحق عنایتكم واهتمامكم، فإذا كانت الروح خالدة وجب الاهتمام بها وإن الخطر كل الخطر في إهمالها، وليس للروح مأمن من الشر إلا أن تصبح خيرة وحكيمة إلى أبعد حد تستطيعه)(1)

هذه هي باختصار شديد فلسفة الموت والإيمان بالمبادئ عند الفيلسوف الإغريقي سقراط الذي شغل موته، ولا يزال، الكثير من المفكرين والباحثين والأدباء لدرجة أن بعضهم قد اعتبر موته وصمة عار لا تمحى عن جبين مدينته (أثينا) التي حکمت عليه بالموت ظلما وعدوانا وأن موته أيضا لم يكن مجرد (استشهاد) في سبيل الخير والحق والفضيلة أمام الأثينيين من أبناء مدينته، بل كان موته يمثل بحد ذاته

ص: 95


1- الأستاذ علي رضا، محاكمة سقراط، طبع حلب، ط1 ، 1981، ص139

استشهادا عاما قدم فيه نفسه قربانا لتلك المبادئ السامية التي كان يحملها، فأصبح بذلك موته إرثا عالميا عظيما تجاوز في آثاره ومعانيه حدود الزمان و قیود المكان.

وكما أن الكثير من المستشرقين والمفكرين، من غير المسلمين، قد اعتبروا أن النصر الروحي والمعنوي الذي حققه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء لا يعدله ولا يوازيه أي نصر عسكري أحرزه الجيش الأموي، فإن الكثير من الدارسين والباحثين رأوا أيضا أن النصر الذي حققه سقراط على أعدائه من خلال موته المؤسف قد رفعه إلى مرتبة البطل الأسطوري وحوله إلى شهيد للفضيلة والإنسانية وللحرية الفكرية التي ترفع من شأن الإنسان الباحث عن الحق والمدافع عنه بكل ما يملك من قوة وإيمان.

فسقراط الحكيم الذي قال في قاعة المحكمة قبل صدور الحكم عليه: (إنني عندما أخرج من هذه القاعة سأخرج وقد قضيتم علي بعقوبة الموت، ولكن خصومي سيخرجون منها، وقد أدانتهم الحقيقه بالغواية والإفساد والشر)(1)، فإنما يذكرنا هذا القول بأولئك الذين يقارنون على الدوام بین سقراط والحسين من جهة، وبين سقراط وعلي عليه السلام من جهة ثانية، فهؤلاء الثلاثة هم رمز دائم لشهداء الإنسانية على مر الدهور.

فمعظم المهتمين بالقضايا الفكرية والثقافية يعرفون أن المفكر المسيحي المعروف (جورج جرداق) قد کتب موسوعة مؤلفة من خمسة أجزاء تحمل عنوان (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، وقد جعل لكل جزء منها عنوانا خاصا به، وقد أعطى الأستاذ (جرداق) الجزء الثالث من موسوعته المذكورة عنوان (علي وسقراط)

ص: 96


1- نفس المصدر السابق ص7

حيث راح يقارن (جرداق)، بكل ما أوتي من قوة بلاغية وثقافة فكرية، بين هاتيك الشخصيتين العظيمتين على مر التاريخ، وقد حمل ذلك الكتاب في طياته بعض العبارات والإشارات عن المبادئ والقيم التي ورثها علي عليه السلام لأبنائه وأتباعه كي تبقى تلك المبادئ مدرسة حية في نفوس كل الأجيال المتعاقبة من عرب وغير عرب، ومن مسلمين وغير مسلمين.

وبطبيعة الحال، لم يكن الأستاذ (جرداق) هو الأديب والمفكر الوحيد الذي أجرى مقارنات ودراسات من هذا النوع، فهناك أيضا الأديب والشاعر المسيحي اللبناني (جورج شكور) الذي أجرى بدوره عدة مقارنات بين الإمام الحسين عليه السلام وبعض الشخصيات العالمية الهامة، وكان من جملة الشخصيات العالمية الهامة التي ذكرها الأديب الشاعر (شکور) شخصية الفيلسوف الحكيم (سقراط) حيث رأى الأستاذ (شکور) أن إقدام الإمام الحسين عليه السلام على اقتحام جبهات الموت دون أدنى شعور بالخوف أو التردد يذكرنا بنفس الموقف البطولي الذي تبناه سقراط في مواجهة الموت الذي كان يحدق به خلف القضبان.

فالفيلسوف والحكيم اليوناني الزاهد (دیوجینوس) يقول في إحدى حکمه: قد يكون الأسد حبيسا ولكن الحبس لا يجعله عبدا، وهذا الكلام صحيح بلا أدنی ریب.

فلا الحصار الذي فرضه يزيد على الحسين وأهل بيته عليهم السلام، ولا السجن الذي فرضته محكمة أئينا الجائرة على سقراط جعلا منهما عبدين خاضعين لمطالب السلطتين الظالمتين، بل على العكس من ذلك تماما، فقد تحولا إلى أسدين جريحين يدافعان عن عرينيهما بكل ما أوتيا من بأس وقوة وتصميم، فالانتصار في هذه الأحوال ليس إلا انتصار القيم والمبادئ ولو كان الموت نصيب المنتصرين، وليس الانكسار

ص: 97

في هذه الحالة أيضا إلا انكسار قوی الجبروت والطاغوت ولو كانت الحياة في نهاية المعركة إلى جانب تلك القوى الظلامية التي أحرزت نصرا مزيفا يعشش بداخله ذل الانكسار ومرارة الهزيمة.

ولذلك، دعونا نصغي الآن إلى هذه الأبيات الشعرية المعبرة من الأديب والشاعر

(جورج شكور)، فهي أبيات تخدم هذه الفكرة وتلخصها خير تلخيص.

يقول الشاعر في ديوانه (ملحمة الحسين):

یا (کربلا) لديک الخسر منتصر *** والنصر منکسر، والعدل معيار

وفيک قبر غدت تحلو محجته *** يهفو إليه من الأقطار زوار

فأين قبر (یزید)، من يلم به *** غير التراب، وفوق الترب أحجار؟

وبعد ذلك ينتقل الأستاذ (شکور) ليخاطب يوم الحسين عليه السلام بقوله:

ذكرتني كأس سم راح يجرعها *** (سقراط) حرا، ولم تأسره أفكار

في كربلاء سكبت العمر ملحمة *** بالدم خطت، وخطت عنك أسفار(1)

فالإمام الحسين عليه السلام الذي سكب العمر ملحمة أبدية خطت بالدم على أرض کربلاء، قد أعطى البشرية دروسا لا تنسي في الإيمان والبطولة والفداء،ولذلك فقد أصاب الباحث الإنكليزي المعروف (وليم لوفتس) عندما قال في كتابه (الرحلة إلى کلدة وسوسيانة): (لقد قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة)(2)

ص: 98


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، الأبيات المذكورة موجودة في ص 26/24/22
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، الثقافة الإسلامية، عدد /50/ مصدر سابق ص51.

وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بشهادته إلى أسمى شهادة في تاريخ الإنسانية وإلى مستوى البطولة الملحمية التي يندر وجودها في تاريخ الأديان والشعوب، فلا ريب في أن للباحثين الذين توصلوا إلى هذه النتيجة رأيا أيضا في المعسكر المناوئ والمعادي للإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وصحبه القلائل الذين خرجوا معه إلى أرض کربلاء.

وفي الواقع، إنني لا أريد أن أستفيض كثيرا في الكلام حول هذه النقطة التي هي في حقيقتها حساسة وهامة، بل وتعتبر جزءا أساسيا من الموضوع المطروح الآن في هذا الفصل من الكتاب، ولكن لابأس في أن أذكر هنا شيئا يسيرا مما جاء حول النتيجة التي توصل إليها الباحثون والمفكرون بشأن الطرف المناوئ للإمام الحسين عليه السلام .

فعلى سبيل المثال، المستشرق الهولندي (رينهارت دوزي) ( Reinhart

Do3y )

(1820-1883 ) واحد من أكبر المستشرقين المعروفين، وله العديد من الكتب عن الإسلام وعن العرب، ومن أشهرها كتابه (الإسلام في إسبانيا)، وقد أمضى هذا المستشرق ثلاثة وثلاثين عاما - وهي أواخر سنين عمره، بروفسورا للتاريخ في جامعة لندن (Leiden) الهولندية.

وكان لهذا المستشرق البارز رأيه الواضح حول علاقة المعسكر المعادي للحسين

عليه السلام بالإسلام.

يقول ذلك المستشرق الهولندي في كتابه المذكور أعلاه عن علاقة جيش يزيد بالإسلام: (لم يتردد (الشمر) لحظة في الإشارة بقتل حفيد الرسول حين أحجم غيره عن هذا المجرم الشنيع ...

ص: 99

وإن كانوا (أفراد الجيش وقادته) مثله في الكفر)(1).

ولا يختلف موقف المستشرق المعروف (موللر) عن موقف (دوزي) أبدا، فهو يرى أن العامل الإيماني كان معدوما تماما عند قادة جيش يزيد الذين كان يوجههم الإخضاع الناس وسفك دمائهم واستباحة أعراضهم، وكان (موللر) يؤكد دائما على أن أولئك القادة كانوا جميعا يحملون بداخلهم عقائد وثنية ثابتة تجعلهم يتقدون غضبا وحقدا على المؤمنين(2)

وعلى الرغم من معاداة المستشرق الألماني (يوليوس فلهاوزن) (1844 - 1918) للإسلام ولرسوله صلی الله علیه و آله وسلم ، وإظهاره الإعجاب بكل من هو منحرف عن تعاليمه وآدابه، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة كفر يزيد وابتعاده الكامل عن الإسلام وقيمه وآدابه معتمدا في ذلك على ما جاء من أخبار موثقة في كتب ومؤلفات المسلمين المتقدمين (3)

وأنا شخصيا، يذكرني هذا الكلام الوارد من المستشرقين بكلام بالغ الأهمية صدر عن الإمام (أحمد بن حنبل)، وهو كلام کنا قد ذكرناه سابقا حول موقف هذا الإمام الذي يمثل أحد أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة المعروفة في الشارع الإسلامي.

فالإمام (أحمد بن حنبل) له موقف واضح من یزید بن معاوية ومن أفعاله السوداء الشنيعة بحق الإسلام والمسلمين، ولكن الشيء الذي يجب على كل مسلم أن يعرفه ويدركه جيدا هو أن ذلك الإمام - ابن حنبل - كان يرى ويحض دائما على لعن یزید

ص: 100


1- نفس المصدر السابق ص50
2- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص156.
3- نفس المصدر السابق راجع ص150 + ص165

وعلى البراءة منه ومن أفعاله(1)

وبتقديري الشخصي أيضا، علينا أن لا نستغرب هذا الموقف من الإمام أحمد بن حنبل تجاه يزيد وما قام به بحق المسلمين والإسلام، وبشكل خاص ما قام به بحق الإمام الحسين وبقية أهل بيت النبوة عليهم السلام

فمن الطبيعي تماما أن يهتز ضمير ووجدان الإنسان المسلم تجاه ما اقترفه یزید

من آثام وما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية خجلا، ولذلك فإن موقف الإمام ابن حنبل يأتي نتيجة طبيعية لحركة الضمير وتفاعله الوجداني مع القيم الإنسانية التي تنادي بها الرسالة الإسلامية كعنوان عام للتعامل من خلالها مع عموم الناس بلا أي تمييز.

وحتى اليهود أنفسهم، وهم المعروف عنهم أنهم قتلة الأنبياء، قد هزتهم حادثة

کربلاء وأدهشتهم الأحداث الوحشية التي تخللتها، وخاصة في الأيام الأخيرة منها.

وها هو أحد كبار اليهود المنحدرين من نسل النبي داود عليه السلام يعنف المسلمين على فعلتهم الشنيعة ويقول لهم: بيني وبين داود سبعون أبا وإن اليهود تعظمني وتحترمني، وأنتم قتلتم ابن نبيكم!!(2)

وغني عن القول إن هناك العديد من اليهود الذين استنكروا الأحداث الدامية التي مارسها الأمويون على أهل البيت عليهم السلام وعلى أتباعهم ومحبيهم، بل إن البعض منهم

ص: 101


1- أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص208. ب . الإمام شمس الدين محمد المقدسي الحنبلي، الآداب الشرعية والمنح المرعية، طبع بیروت، ج 1 ص 303.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص208، نقلا عن (الإصابة) لابن حجرالشافعي

قد دفعته دراسه ومعرفته بالإسلام إلى اعتناقه طوعا ورغبة دون وجود أي عامل من عوامل الخوف أو الإكراه أو الإجبار، ولولا خوف الإطالة والإسهاب لرجعنا قليلا إلى بطون كتب التاريخ، وإلى المؤلفات التي تتناول دراسة وتحليل السيرة النبوية الشريفة لنقرأ فيها العديد من الحوادث والمواقف التي تؤكد اعتناق بعض اليهود الكبار الدین الإسلامي رغبة وليس رهبة، وذلك بعد أن أيقنوا أن محمدا المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام هم الذين ورد ذكرهم حقا في كتبهم وأسفارهم الخاصة.

ويكفي أن أذكر ولو مثالا واحدا على صدق ذلك، وهو قول أحد رجال الدين اليهودي وقد كان حاضرا في إحدى المرات يستمع إلى حديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن فضائل أهل بيته عليهم السلام وعن وجوب طاعتهم وموالاتهم والاقتداء بهم في أخذ معالم الدين و تحصيل الحقائق والعلوم، فما كان من ذلك الرجل اليهودي، والذي كان معروفا بعناده وعتوه، إلا أن وقف بعد أن أنهى الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم حديثه، وقال منشدا على رؤوس الأشهاد:

صلى الإله ذو العلى *** عليك ياخير البشر

أنت النبي المصطفى *** والهاشمي المفتخر

بکم هدانا ربنا *** وفيك نرجوما أمر

ومعشر سميتهم *** أئمة اثناعشر

حباهم رب العلى *** ثم اصطفاهم من کدر

قد فاز من والاهم *** وخاب من عادى الزهر

من كان عنهم معرضا *** فسوف تصلاه سقر(1)

ص: 102


1- الشيخ منصور البيات القطيفي، النظرات الإلهية في الممادح المحمدية، مؤسسةالأعلمي .بيروت،1974، ص21.

وعلى الرغم من أن هذه الحادثة قد وقعت في فجر الرسالة الإسلامية، إلا أنها كانت تعكس بصدق ردود أفعال البعض من اليهود والنصارى الذين أرادوا أن ينفتحوا بعقولهم على الحق وعلى ثقافة الدين (الآخر) الجديد، والذي لم تكن تخلو كتبهم المقدسة وأسفارهم الخاصة من الإشارة إليه.

وبالعودة إلى ثقافة الشهادة وفلسفة الموت عند سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، نرى أنها قد باتت في موضع مقارنة هامة مع فلسفة الموت عند السيد المسيح عليه السلام بحيث راح المسيحيون أنفسهم يعقدون تلك المقارنات بين تلك الفلسفتين، الحسينية والمسيحية، تجاه مسألة الموت وعلاقتها بحفظ القيم والمبادئ وبكل ما له علاقة بالمثل العليا السامية والنبيلة.

فالمسيحيون من مفکرین وباحثين وأدباء يؤكدون في مؤلفاتهم أن الإمام الحسين عليه السلام قد لخص فلسفته عن الموت والشهادة بقوله في كربلاء: «صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلا من ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم وجسر هؤلاء إلى جهنم، ما کذبت ولا کذبت»،ثم يردف عليه السلام وهو يودع عياله قائلا لهم بكل إيمان وطمأنينة:

«استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله حامیکم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(1)

ص: 103


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص99

وبالفعل، فإن هذا الصبر العجيب الذي كان يتحلى به الإمام الحسين عليه السلام هو ظاهرة نادرة في تاريخ البشرية، وقد أعجز هذا الصبر النادر التفكير البشري عن إدراك ماهيته.

غير أن معظم الذين درسوا تلك الظاهرة المتمثلة بإقدام الإمام الحسين عليه السلام على الموت مع أهل بيته وأصحابه دون أدنى شعور بالخوف أو الرهبة، فقد خرجوا بنتيجة مفادها أن الحكمة الإلهية الخفية هي التي سنت لأولئك الأخيار سنن الشهادة ففرحوا بتلك السنن حتى أن شدة فرحهم كانت تمنعهم حتى من التساؤل ما داموا قد أعطوا ملکة رؤية نتائج صبرهم واستشهادهم، وما أعده وهيأه الله لهم من نعیم وجنان(1)

ومن هنا بدأت مسألة المقارنة بين استشهاد الحسين عليه السلام وآلام المسيح عليه السلام ، فالمفكرون والباحثون المسيحيون يقولون إن عيسى المسيح عليه السلام حث تلاميذه الذين سيحملون رسالة المسيحية من بعده على الصبر العظيم على الشدائد والمحن، وقد كان ذلك منه عندما دنت ساعة رحيله. .

وقد جاء في (إنجيل يوحنا) قول المسيح عليه السلام لتلامذته: «الآن تؤمنون، هاهي الساعة آتية، وإنها قد أتت، تتفرقون فيها فيذهب كل واحد في سبيله، وتتركوني وحدي، کلا لست وحدي لأن الآب معي، قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن قوا: أنا قد غلبت العالم»(2).

ومن النقاط الهامة، والتي كانت أيضأ موضعا للمقارنة بين الحسین علیه السلام وعیسی

ص: 104


1- نفس المصدر السابق ص99
2- العهد الجديد، إنجيل يوحنا ج16 ص32. 33

عليه السلام ، هي مسألة التسليم الكامل لمشيئة الله الخفية ولإرادته الحكيمة.

فالإمام الحسين عليه السلام يقول - كما رأينا سابقا - «شاء الله أن يراني قتيلا ویری النساء سبایا»، وفي هذا تسليم مطلق لإرادة الله ومشيئته، بل وتأكيد لقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: «لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ»(1).

وها هو السيد المسيح عليه السلام، بدوره أيضا، يقول لتلاميذه الذين كانوا ساهرين معه في تلك الليلة الكئيبة: «نفسي حزينة حتى الموت»، ثم ابتعد قليلا عنهم وراح يصلي بكل إيمان وخشوع قائلا: «یا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك،فأجزعني هذه الكأس، ولكن ليکن لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت»(2)

وفي الواقع، فإن الفكر المسيحي المعاصر لا يتوقف عند هذا الحد في المقارنة بل إنه يتجاوز تلك المقارنات ليصل في نهاية المطاف إلى المعجزات الإلهية التي أعقبت حدوث الفجائع وذلك من خلال الظلم الدموي العنيف الذي ناله کلاهما من أجل كلمة الحق.

ويرى ذلك الفكر تحديدا أن المعجزات التي تحدث عقب الشهادات العظيمة، ما هي في حقيقتها إلا إشارة واضحة إلى غضبة الإله الجبار من أولئك الظالمين الذين انتهوا إلى قتل وليه بطريقة مأساوية أليمة مما يستدعي رفعه إلى مرتبة الشهداء والصديقين.

وهنا يؤكد ذلك الفكر المسيحي أيضا على حقيقة حدوث معجزات عديدة أعقبت وقع مجزرة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام على صعيدها اللاهب،

ص: 105


1- سورة آل عمران: الآية 154
2- نفس المصدر السابق راجع إنجيل مرقس ج1 ص36. 37.

وينطلق ذلك الفكر في تأكيده لحدوث تلك الظواهر من خلال ما أثبته کتاب (العهد الجديد) أي الإنجيل، حيث ورد في (أعمال الرسل) قول الله : «وأعطي عجائب في السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل: دما ونارا وبخار دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم»(1)

ولذلك فهناك إقرار عند العديد من المفكرين والأدباء المسيحيين بأنه حينما نال الإمام الحسين عليه السلام شرف الشهادة، فإن الدنيا أظلمت ثلاثة أيام واسودت سوادا عظيما حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت أو أوشكت، وبدت الكواكب نصف النهار، ولم ير نور الشمس ثلاثة أيام كاملة، حيث كان سيد شباب أهل الجنة عاريا على وجه الصعيد(2)

وبالمقابل، حينما استشهد عيسى المسيح عليه السلام . وهذا ما يؤمن به المسيحيون عموما - فقد انتشر ظلام شديد على الأرض كلها منذ الساعة السادسة إلى التاسعة تقريبا، وعندما لفظ السيد المسيح عليه السلام روحه تماما، صرخ صرخة قوية وأسلم الروح... وقد جاء في (إنجيل متى) أن (حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين، من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت...)(3)

ومن هنا، فقد رأى الفكر المسيحي المعاصر أن هذه المعاجز الغريبة التي حدثت، إنما هي دلالة واضحة على عظمة الشهيدين، وعلى عظم غضب الله سبحانه وتعالي، الذي أظلم الدنيا ثلاثة أيام طيلة بقاء سيد الشهداء قتيلا غريبا عاريا في بطاح کربلاء، وأظلمها ثلاث ساعات كاملة طيلة بقاء السيد المسيح عيسی علیه السلام عاريا في

ص: 106


1- نفس المصدر السابق راجع أعمال الرسل ج2 ص19. 20
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص106
3- العهدالجديد، إنجيل متی ج 27 ص 51. 52.

(الجلجلة)، کیلا ترى عين أحد ما لا يجوز أن تراه من ذلك العري المقدس والمخضب بالدماء الزكية التي رفعتهم بحمرتها وطهرها وسمو الغايات التي أريقت من أجلها إلى أعلى عليين.

وهنا يمكننا الوقوف قليلا مع المفكر والأديب المسيحي (أنطون بارا) الذي كان له باع طويل في تشریح و تحليل ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، وفي مقارنة عملية استشهاد أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع حالة عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام قبل رفعه على خشبة الصليب - كما تقول الأيديولوجيا المسيحية وتؤكد عليها في إطارها العام.

فأول شيء يقوله ذلك المفكر المسيحي عن هذه المسألة، هو قوله الصريح: (إن ثورة ريحانة النبي هي أعظم الثورات قاطبة، وشهادته متممة لكل الشهادات التي سبقتها، إذ إن هذه الثورة قبلت قربانا لها الشيخ والمرأة والطفل والرضيع، وكانوا كلهم في ميدان واحد مشاهدي مجزرة ومتحملي نتائجها، فهي ثورة جعلت من مشعل أوارهاوارث آدم صفوة الله ووارث نوح نبي الله ووارث إبراهيم خليل الله ووارث عیسی روح الله ووارث محمد حبیب الله)(1).

ولكن ليس هذا القول هو كل ما يقوله الأستاذ (بارا) عن استشهاد الإمام الحسين علیه السلام ، بل هناك الكثير من الأقوال له حول هذه المسألة، ولكن ما يهمنا منها الآن هو مسألة مقارنة شهادة الحسين عليه السلام مع بقية شهادات الأبطال من رسل وأنبیاء ورجال عظماء آخرين قدموا أنفسهم قربانا على مذبح الحق والفضيلة.

وعلى الرغم من إيمان الأستاذ (بارا) بحادثة رفع السيد المسيحي عليه السلام على

ص: 107


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص81

خشبة الصليب، وهذا كما ذكرنا جزء هام من العقيدة المسيحية، إلا أنه يؤمن إيمانا قطعيا أن آلام وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام قد فاقت كل ألم وكل تضحية قدمها الشهداء على مسرح الحياة البشرية منذ عهد آدم عليه السلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويؤكد الأستاذ (بارا) على وجهة نظره هذه بالقول: (واستشهاد الحسين بهذا

الشكل الدراماتيكي المؤلم رفعه مرتبة فوق الشهداء، فصار سيدهم ومعلمهم)(1).

ورب قائل يقول متسائلا:

أليس من الممكن أن تكون هذه العبارة من الأستاذ (بارا) مجرد عبارة عاطفية

عابرة أفرزتها حرارة الحديث عن أهوال تلك الفاجعة المروعة في كربلاء؟!

نعم، يمكن للمرء أن يتساءل وأن يخطر له هذا الخاطر، ولكن يمكننا أن نقول له

مجيبين على خواطره وتساؤلاته:

إنها ليست عبارة عاطفية، وليست اندفاعا ناتجا عن حرارة حديث أو مرارة أحداث، أبدا، على الإطلاق، فالأستاذ (بارا) لا يخرج بهذه النتائج إلا بعد المرور بالمقدمات الأساسية وربطها بأحداث أخرى مشابهة لها ومقارنتها بها، وليصل بعد ذلك إلى النتائج المنطقية المطلوبة.

وليست تلك العبارة التي أوردناها منذ قليل للأستاذ (بارا) هي العبارة الوحيدة

التي قالها في كتابه عن الإمام الحسين عليه السلام.

ويكفي أن نذكر عبارة أخرى له لمجرد التأكيد على صدق كلامنا بهذا الشأن،

فالأستاذ (بارا) يقول مؤكدا في أكثر من موضع في كتابه عن الحسين عليه السلام :

ص: 108


1- نفس المصدر السابق ص81

(لم يسجل التاريخ شبيها لاستشهاد الحسين في كربلاء)(1) وأعتقد أن هذه العبارة وحدها قادرة على إثبات عمق إيمان الأستاذ (بارا) بما يقوله عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وعن عظمة قيمة الشهادة وأهدافها التي رفعته إلى مستوى القربان الإلهي المقدس الذي قدم نفسه وكل ما يملك فداء لكل الرسل والأنبياء علیهم السلام ولكل ما جاؤوا به من کتب ورسالات لهداية الإنسان وإخراجه من ظلمة الديجور إلى معارج النور.

ولا يحسب القارئ الكريم أن الباحث المسيحي (أنطون بارا) هو المفكر المسيحي الوحيد الذي يقول هذا عن مستوى شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، فهناك العديد من المفكرين المسيحيين وغير المسيحيين أيضا ممن يقولون هذا أيضا.

وسأكتفي هنا الآن بذکر شخصية أدبية عالمية الشهرة، كان لها رأيها الخاص أيضا بما قدمه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

إن الشخصية التي سنتوقف عندها الآن هي شخصية الأديب والفيلسوف العالمي( جبران خليل جبران) الذي سبق وتكلمنا عنه سابقا بشكل موجز في صفحات سابقةمن هذا الكتاب.

ولكن لابأس هنا بالوقوف معه قليلا للتعرف عليه عن قرب وعلى فكره الفلسفي والديني المبثوث في مؤلفاته الأدبية التي ترجمت إلى كل اللغات العالمية الحية من مشرق الشمس إلى مغربها.

وأكثر ما يهمنا الآن هو التعرف على وجهة نظره تجاه القيمة الروحية والإنسانية لمسألة الإيمان والشهادة في نهج وسلوك الإمام الحسين عليه السلام ، وسوف نتعرف - بلا

ص: 109


1- نفس المصدر السابق ص81

شك - على وجهة نظره تلك ولكن بعد إعطاء فكرة موجزة عن طبيعة فكر وفلسفة ذلك الأديب الذي شغل العالم بأدبه وفكره أكثر مما شغله أي أديب عربي معاصر آخر.

وقبل كل شيء يرى المفكر والباحث الدكتور (داغوبرت رونز) ( D. Runes) في كتابه (Treasury Of World Literature) (كنوز الأدب العالمي) أن أدب جبران هو الأدب القائم على أساس تعليم التاس دین المحبة والجمال والخلاص،

وهو الأدب الذي يوصف صاحبه بأنه (صاحب أدب الوحي والإلهام)(1)

ويتفق (رونز) في هذه النقطة مع العديد من الباحثين والدارسين لأدب (جبران)

الذين يصفون أدبه بأنه أدب (النبوءة).

وربما كان هذا أحد الأسباب الأساسية لانتشار أدبه وفكره في قلوب الناس انتشار النار في الهشيم، وليس هذا فحسب، بلراح أدبه المشبع بالأفكار الصوفية وبالإشارات الفلسفية الروحية يغزو أماكن العبادة والتأمل في أقصى الشرق، في الهياكل البوذية، وفي أقصى الغرب في الكنائس المسيحية، حيث يقوم القساوسة والرهبان وأبناء الكنائس - وبشكل خاص في أمريكا - بقراءة كتبه في مناسبات عديدة في الكنائس؟(2).

ولذلك، فإن الباحثين الغربيين لا يعتبرون (جبران خلیل جبران) مواطنا سوريا أو لبنانيا، ولا حتى أمريكيا، بل هو في محصلة الأمر. كما يقول عنه الناقد الأمريكي

ص: 110


1- Dagobert Runes Treasury of world Literature Philosophical Library New (1) York U.S.A, 1971, P.2EE
2- بربارة يونغ، هذا الرجل من لبنان، ترجمة: سعيد عفيف بابا، دار الأندلس . بيروت، ط1964/1، راجع المقدمة بقلم المترجم ص 13.

(جوزيف غولومب) ( J. Golomb) - مواطن عالمي بجنسية عالمية(1)

وهنا لنا أن نتساءل قائلين:

من أين حصل (جبران) على هذا الفكر المسيحي والصوفي الخلاق الذي سحر أهل الشرق والغرب لدرجة أن البعض أطلق على مبدعه - جبران - لقب (النبي) حبا وإعجابا ؟!

وهل كان للفكر الإسلامي عموما، وللفكر الإسلامي الشيعي خصوصا، أي دور هام في تشكيل وصقل تلك الأفكار الفلسفية العميقة التي كان جبران يعمد دائما إلى

بثها في معظم مؤلفاته العربية والإنكليزية بأسلوبه الأدبي البالغ السحر والشفافية؟!

في الواقع، ما من أحد كتب عن فکر جبران خليل جبران إلا واعترف أن ذلك الأديب الحر والفيلسوف الثائر قد نهل في فترة وجوده في لبنان من الفكر والتراث الإسلامي بشكل واضح لا يقبل الشك، وقد أشارت إلى هذه الحقيقة صديقته المقربة الكاتبة الأمريكية (بربارة يونغ) في كتابها (هذا الرجل من لبنان)، وقد لمحت إلى أن الأديب (جبران) يمكن أن يكون من خلال ثقافته التي كونها في مسقط رأسه في لبنان هو الصوت الناطق لأبناء شعبه وقوميته الذين يمتلكون أغنى الآداب على وجه الأرض حيث يحتل (القرآن) المنزلة الأكثر روعة فيه(2)

وعلى الرغم من أن الأديبة (يونغ) قد نقلت هذا الكلام عن الأديب والناقد (جوزيف غولومب) إلا أنها لم تجد ضیرا في ذكر وتثبيت هذه الحقيقة في العديد من

صفحات کتابها المذكور سابقا.

ص: 111


1- نفس المصدر السابق ص117
2- نفس المصدر السابق ص114

وعلى الرغم من تأثر (جبران) بالعديد من الشخصيات الأدبية والفكرية العالمية المشهورة مثل الشاعر الأميركي الصوفي (رالف والدو إمرسون) (1803- 1882)، والشاعر الإنكليزي المعروف (ولیم بليك) (1757 - 1828) الذي يؤمن بالكشف وبالولادة الروحية الثانية، كما يؤمن أيضا بوحدة العالم ووحدة القيم، أما عن تأثر (جبران) بالفلاسفة الغربيين، فقد تأثر بأفكار الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) حول فكرة السوبرمان، كما وأنه قد تأثر أيضا ببعض الأفكار التي طرحها الفيلسوف الفرنسي (أرنست رينان) حول طبيعة المسيح عليه السلام، وضرورة دراسة سيرة حياته بطريقة منطقية عقلانية تخلصها من كل ما علق فيها خلال العصور الوسطى من خرافات وهالات أسطورية تسيء إلى السيد المسيح ذاته علیه السلام.

إذن، على الرغم من تأثر (جبران) بهؤلاء الأدباء والفلاسفة الغربيين، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن الأثر الكبير الذي لا يستهان به كان مصدره الفكر الإسلامي الأصيل المتحدر من مدرسة محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام وعموم أفراد أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام

وليس هذا الكلام من عندنا، وما هو بالكلام النابع من الانفعالات العاطفية التي قد تحرف القلم عن جادة الحق وطريق الصواب، بل إنه کلام نابع من أعماق بطون كتب المفكرين والأدباء المسيحيين الذين درسوا أدب (جبران) وسيرة حياته، ودرسوا أيضا العوامل الأساسية والمصادر الرئيسية التي بلورت فكره وأغنت ثقافته.

وإذا أراد القارئ الكريم التأكد من هذا الكلام عن تأثر (جبران) بأقطاب أهل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم محمدصل الله و علیه و اله وعلي عليه السلام فما عليه إلا قراءة ما جاء في الكتب التالية لبعض المفكرين المسيحيين والمسلمين، وقد اخترنا هذه العناوين

ص: 112

بسبب توفرها:

- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية لمؤلفه جورج جرداق، راجع الجزء الخامس

- الإمام علي أسد الإسلام وقديسه لمؤلفه روکس العزيزي.

- النبي لمؤلفه جبران خليل جبران، راجع مقدمة المترجم: ثروت عكاشة.

- جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية لمؤلفه الدكتور نذير العظمة.

- الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر لمؤلفه راجي أنور هيفا.

- المجموعة العربية الكاملة لجبران خليل جبران، راجع مجموعة البدائع والطرائف، إرم ذات العماد.

- حوار مع المفكر المسيحي أنطون بارا، راجع مجلة الثقلين، العدد /55/ إصدار قم، 2007، فكل هذه المراجع تؤكد بالدليل القاطع مدى تأثر (جبران) بفكر أهل البيت علیهم السلام عموما، وبفكر علي عليه السلام خصوصا.

وعلى كل حال، فإن مسألة تأثر (جبران) بفكر أهل البيت عليهم السلام عموما باتت في زمننا الحاضر من المسائل المسلم بها عند كل من عرف شخصية جبران عن قرب، وعند كل من كتب عنه وحلل أعماله الأدبية، وبشكل خاص تلك التي ترتدي أثوابا فلسفية وتناقش كل الأسئلة الحساسة والحيوية في الكون والوجود.

وحتى لا نسهب كثيرا في كلامنا عن فلسفة جبران ورؤاه الصوفية، دعونا نبحر الآن سوية في رحلة قصيرة جدا مع هذا الأديب والفيلسوف الذي لخص رؤاه عن الإمام الحسين عليه السلام وعن قضية إيمانه واستشهاده في كربلاء بكلمات قليلة وقصيرة لكنها كانت تحمل في رحمها، على الرغم من قلتها وقصرها، كل معاني التعظيم

ص: 113

والإجلال لدرجة أن الإمام الحسين عليه السلام بات بالنسبة لجبران الأنموذج الأعلى والمثل الأسمى للإنسان الكامل في الحياة والموت.

وکمدخل منطقي لمعرفة الموقف الدقيق لجبران من الإمام الحسين عليه السلام ، علينا أولا أن نعرف أن الفلسفة الجبرانية تبدأ أول ما تبدأ من ارتباط جبران بالفكر الإسلامي الشيعي الذي نهل منه الشيء الكثير في مقتبل عمره قبل سفره إلى أمريكا.

ومما يؤكد هذا الكلام، التحليلات الدقيقة للعديد من أعماله الأدبية المميزة، وعلى سبيل المثال، كل الذين درسوا أعمال جبران وحللوها جملة وتفصيلا، لم يستطيعوا أن يفلتوا أو أن ينعتقوا من المجال المغناطيسي الفكري لعمل جبران الأدبي (إرم ذات العماد)، تلك المسرحية القصيرة جدا التي توجز للقارئ المنظومة الفكرية والفلسفية التي يؤمن بها جبران في قرارة نفسه.

وللأسف، ليس لدينا المجال الكافي هنا كي نحلل هذه المسرحية الفلسفية التي تنطوي على الكثير من الأفكار والمعتقدات التي آمن بها جبران دون أدنى خوف من مجتمعه أو حتى من كنيسته، وعلى كل حال، فقد قمت بتحليل أحداث وأفكار تلك المسرحية بشكل مفضل في كتابي (مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام )، ووضعت النقاط على الحروف مستشهدا بالعديد من الأقوال والعبارات لجبران ولغيره من النقاد والأدباء الذين أكدوا بالفعل وجود نزعة إسلامية شيعية في فكر (جبران) وأدبه(1).

ص: 114


1- راجع ما جاء في :أ. راجي أنو رهيفا، مقدمة في معرفة الإمام علي علیه السلام مؤسسة الفكر الإسلامي . بيروت، 2003، ص 131.124 . ب. راجي أنور هيفا، النزعة الإسلامية في فلسفة جبران، مجلة (النور)، العدد 118، دار النور للنشر . لندن، راجع عدد آذار (مارس) 2001، ص74. 75

ولذا، دعونا نختصر الكلام كثيرا، ونتوقف قليلا مع الباحث والمفكر السوري، الدكتور (نذير العظمة) الذي أجاد وأبدع في تحليل بعض الجوانب في شخصية (جبران) وأدبه.

يرى الدكتور (العظمة) في كتابه (جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية) أن مسرحية (إرم ذات العماد) تمثل ثلاثة أصوات أو مستويات لشخصية واحدة هي شخصية جبران في وعيه ولا وعيه، وقوة الإيمان التي تعمل بينهما في وحدة وجود الكيان الإنساني.

فالمستوى الأول تمثله شخصية (نجیب رحمة) المسيحي اللبناني الذي يبحث عن الحق واليقين بعقله لا بقلبه، فهو يؤمن بالعلم وقدرة العقل، ولكنه ليس متأكدا من أن هذه القدرة كافية لحل كل مشاكل الإنسان والإجابة على أسئلته، لذا يفتش عن شخصية قادرة على إعطائه كل ما يريد من علوم ومعارف، إنها (آمنة العلوية) ووساطته إليها (زین العابدين النهاوندي)، درويش أعجمي في الأربعين من عمره، يعرف بالصوفي ويمثل المستوى الثاني، مستوى الإيمان الذي يقبل ويجادل ويؤمن ولا يوارب مستجيبا إلى نداء الروح الكلي آمنة مطمئنا.

أما المستوى الثالث فهو صوت (آمنة العلوية)، لا أحد يعرف عمرها بالضبط، تعرف بلقب (جنية الوادي)، وهي تمثل نفس جبران الخفية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الروح الكلي، وهي تصل إلى الحقيقة لا بالإيمان بل بالمجاهدة، وتبلغ مدينة الحق بالكشف.

وبعد الكلام عن المستويات أو شخصيات المسرحية الثلاث، تبدأ بالأسئلة

الهامة بعملية غزو الفكر الدكتور (العظمة)، فلا يكاد ينتهي سؤال حتى يبدأ آخر.

ص: 115

وها هي بعض الأسئلة الهامة التي فرضت نفسها على الدكتور (العظمة) بكل

إلحاح:

(لماذا يختار جبران أن يكون (زین العابدين) النهاوندي عجميا يؤمن بالصوفية؟! ولماذا يصف (آمنة) بالعلوية؟!

هل ينسبها إلى الإمام علي علیه السلام أم إلى العلي لأنها ولدت في صدر الله أما

جسدها فقد ولد في جوار دمشق وروحها جزء من الروح الكلي؟!

أم أنه يترك المسألة غامضة عن قصير لما بين الشيعة والتصوف من وشيجة من حيث اعتمادها على الرمز وباطن النص القرآني وتأويله على حين أن السنة وأهل الجماعة يعتمدون على الظاهر ؟!)(1)

وليست هذه الأسئلة هي كل الأسئلة التي قرعت بوابة فكر الدكتور (العظمة)، بل هناك أيضا ما يزيد عن عشرة أسئلة أخرى لا تقل أهمية عن الأسئلة التي ذكرناها منذ قليل، وربما كان السؤال الأكثر أهمية هو السؤال التالي الذي طرحه الدكتور (العظمة) على نفسه قائلا:

لماذا يختار (جبران) الهرمل مسرحا لملتقاه مع آمنة بتاريخ 1883 ؟!

وإذا كان الدكتور (العظمة) قد اكتفى بطرح الأسئلة الهامة دون أن يجيب عليها

جميعا إلا بشكل موجز وسريع، مع الإقرار بتأثر جبران بالفكر الإسلامي الشيعي الذي يتجاوز النصوص إلى التأويل والعرفان، فإننا نرى أن الأستاذ والأديب (ثروت عكاشة) قد أجاب تقريبا على كل الأسئلة التي طرحها الدكتور (العظمة) عن فلسفة

ص: 116


1- الدكتور نذير العظمة، جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية، دار طلاس . دمشق، 1987، ص228.

جبران وطبيعة فكره وثقافته.

ويكفي أن نذكر هنا أن الأديب (عكاشة) قد علق على أحداث وشخصيات (إرم ذات العماد) بقوله في المقدمة التي وضعها لكتاب (النبي) لجبران بعد أن قام بترجمته إلى اللغة العربية: (من القرآن الكريم أخذ (جبران) اسم هذه المدينة التي ورد ذكرها في سورة الفجر، وصورها في صورة غابة صغيرة زاخرة بالثمار والأشجار، تحتضن بیتا وحيدا قديما، وتقوم على مقربة من قرية (الهرمل) التي يسكنها الشيعة في شمال شرق لبنان، وجعل زمن أحداث المسرحية عصر يوم من أيام يوليو (تموز) من العام الذي ولد (جبران) فيه وهو عام 1883)(1)

ولا يخفى على أحد ما في هذه الشروح والدراسات من إشارة واضحة إلى عمق التأثير الفلسفي والعرفاني الإسلامي الشيعي في فكر جبران المتجلي في نتاجاته الأدبية.

ففكر (آمنة العلوية) بالنسبة للسيد (نجیب رحمة) الذي هو في حقيقته جبران خلیل جبران نفسه هو الفكر الخالد القادر على أن يجعل من الأديان كلها وحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تتناقض إلا بالقشور، وهو أيضا الفكر الوحيد الجدير بالاتباع وبالبقاء على قيد الحياة نظرا لما فيه من قدرة على فهم واستيعاب حكمة الحياة وصيرورة الوجود، وبهذا السبيل يمكن للباحث عن الإيمان والحقيقة أن يكتشف أسرار الحياة وخفاياها التي لن يستطيع أحد أن يتوصل إلى معرفتها إلا إذا قرأ ما هو مکتوب وراء السطور.

ص: 117


1- جبران خليل جبران، کتاب النبي، ترجمة وتقديم: ثروت عكاشة، دار طلاس . دمشق، 1984راجع المقدمة ص52.

فجبران يؤمن أن الموت سطر مكتوب على الجميع، وهو قدر مرسوم لنا جميعا، ولكن لو تأملنا الموت وحقيقته لوجدنا ۔ حسب مفهوم جبران - أن الموت شيء مجازي وما هو في حقيقته إلا قنطرة يعبر عليها المرء من حياته إلى أخرى.

وربما كان المرء من خلال طريقة موته أقوى وأقدر على أن يقول للآخرين ويثبت لهم آراءه ويبين لهم أهدافه وبكل غاياته أكثر مما لو كان حيا باقيا على قيد الحياة، ومن هذه النقطة تماما، حدد جبران موقفه من مسألة شهادة الإمام الحسين في كربلاء

فجبران الأديب والفيلسوف كان يهتم بحقائق الأشياء أكثر من اهتمامه بمظاهرها، وكان يرى أيضا أن الجمال المبثوث في كل مفردة من مفردات الحياة تختبئ وراءه حكمة خفية لا يراها إلا ذوو البصائر وأهل النهی، ولذلك فليس هناك شيء قبيځ في الوجود.

ولكن الشيء القبيح حقا، وهو الشيء الذي يكسر قاعدة الجمال في الوجود ویشذ عنها، هو وجود الظلم، ولا ريب في أن أعلى مستوى للقبح الناتج عن الظلم هو ذاك الذي ينتج عن إساءة فهم الدين واتخاذه مطيه ذلولا لتنفيذ غایات دونية ومصالح شخصية بحيث يتحول الدين إلى وسيلة للاستغلال، وللقمع الفكري، بل وللتباغض والاقتتال والتجهيل.

فجبران الذي ثار على الكنيسة وعلى طقوسها الشكلية الجوفاء وعلى تعاليمها التي كان يرى فيها ظلما روحيا للسيد المسيح عليه السلام وإساءة إلى شخصه الكريم، ثار أيضا على الكثير من المفاهيم والممارسات الخاطئة التي كان يمارسها رجل الدين، سواء كان مسيحيا أو مسلما، وهذا ما نراه جليا في العديد من أعماله باللغة العربية.

وقبل أن نسأل أنفسنا عن كيفية فهم جبران لشخصية الإمام الحسين عليه السلام،علينا

ص: 118

أن نسأل أولا: كيف فهم جبران شخصية يسوع المسيح عليه السلام في سيرته؟!

في الواقع، إن مفهوم جبران ليسوع المسيح عليه السلام كان يختلف عن مفهوم عامة المسيحيين له، وقد أكد الباحث المسيحي المتخصص بأعمال جبران الأستاذ (غازي براکس) ذلك قائلا:

(وإلى هذا التباين في الرؤية مرد قوله (أي قول جبران) فيه: (مرة، كل مئة عام، يلتقي يسوع الناصري ويسوع النصاری، بین ربی لبنان، فيتحدثان مليا، وكل مرة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: أخشی، یا صاح، أننا لن نتفق أبدا)(1)

إذن، فیسوع جبران غير يسوع المسيحيين الذي يتصورونه وفق عقائدهم التي وضعوها هم وليست التي وضعها هو عليه السلام لهم، وبالتالي، كان لابد من ثورة جبران الفكرية على تلك العقائد التي تتنافى مع طبيعة المسيح الحقيقي عليه السلام وأصالة فكره.

ومثلما ثار جبران على أولئك الذين لم يفهموا تعاليم المسيح عليه السلام ولم يقدروه

حق قدره، فقد ثار أيضا على أولئك العرب المسلمين الذين لم يفهموا الإمام عليا علیه السلام ولم يقدروه أيضا حق قدره، فانبرى لهم مؤنبا تارة ومعاتبا تارة أخرى، ولكنه في نفس الوقت امتدح الفرس الأذكياء، ورثة الحضارات الغابرة لأنهم استطاعوا أن يصلوا إلى مكانة عالية في تقديرهم لشخصية الإمام علي عليه السلام ، فقال معبرا عن ذلك:

(مات علي بن أبي طالب شهید عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه

الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب قيمته ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس

ص: 119


1- نهال)(1) ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكرى جبران، مكتبة لبنان - بيروت، ط1981/1 ، ص108.

يدركون الفارق بين الجواهر والحصى)(1)

وكما أنه ثار من أجل الإمام علي علیه السلام، فقد ثار جبران أيضا من أجل الإمام الحسين عليه السلام ومن أجل الدماء الزكية التي سفكها سيف الظلم الأموي الذي لم يكن هدفه مجرد القضاء على الإمام الحسين وأهل بيته علیهم السلام، بل كان هدفه أبعد من ذلك بكثير، فقد كان الهدف الأبعد والأعمق هو القضاء على الرسول المصطفى محمد

صلی الله علیه و آله وسلم ذاته طالما قد تجسد من جديد في شخصية حفيده الإمام الحسين عليه السلام.

ولأن الإمام الحسين عليه السلام قد جسد كل قيم الحق والخير والفضيلة في ثورته،

ولأنه أعطى وضحي بكل ما يملك من غال وعزيز لدرجة أنه - حسب رؤية جبران - قد فاق بتضحياته الحمراء كل ما قدمه الرسل والأنبياء من بني الإنسان، فقد وقف جبران وأطلق حكمه الأخير قائلا بكل يقين وثبات:

(لم أجد إنسانة كالحسين سطر مجد البشرية بدمائه)(2)

ولا ريب في أن الذي يرى ويعتقد أن (الحسین مصباح منير لجميع الأديان)، سوف يدرك بالفعل أنه ما من إنسان في كل هذا الوجود استطاع أن يسطر مجد البشرية بدمائه کالإمام الحسين عليه السلام ، ولذلك، فإننا سنعود للوقوف مرة ثانية مع هذه العبارة الجبرانية الهامة في المكان المناسب، وسنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب كيف أن الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة لجبران لا يمثل بثورته ثورة إمام مسلم نهض بثورته من أجل المسلمين فقط، بل سنرى أن الثورة الحسينية بالنسبة لجبران تمثل ثورة إمام

ص: 120


1- روكس بن زايد العزيزي، الإمام علي أسد الإسلام وقديسه، دار الكتاب العربي . بيروت، 1979 ص10
2- راجع مجلة (الموسم)، العدد /3/ المجلد 4، صدر العدد في هولندا عام 1992، راجع ص354

الإنسانية الذي كان يهدف بثورته تلك إلى إحقاق الحق واجتثاث الظلم واستعادة کرامات الناس أجمعين.

وقبل أن أختتم هذا الفصل الهام من الكتاب، أود أن أذكر شيئا جوهريا لابد من ذكره، وهو شيء يتعلق بجبران خليل جبران، فالكثير من المهتمين بالقراءة والثقافة يعرفون من هم الشخصيات الفكرية البارزة التي فرضت أثرها البالغ على أدب جبران وعلى فكره في الغرب، ولكن الكثير من أولئك المهتمين بالثقافة قد لا يعلمون أن هناك شخصية فكرية أخرى قد لعبت دورا هاما جدا في جعل جبران يعيد النظر في رؤيته وفلسفته تجاه السيد المسيح عليه السلام وتجاه مسألة الفداء والتضحية والثالوث المسيحي الذي يعتبر حجر الأساس في العقيدة المسيحية.

فمن هي تلك الشخصية الأخرى التي تأثر بها جبران في الغرب؟

وكيف انعكس هذا التأثر على فكر جبران تجاه السيد المسيح عليه السلام وتجاه الإمام الحسين عليه السلام، مع الحفاظ على مكانتهما العظيمة عنده، في فكره ووجدانه، وربط التضحيات العظيمة التي قدمها كل منهما مع تضحيات الإمام علي عليه السلام أيضا؟

بادئ ذي بدء، نقول إن الشخصية المؤثرة على جبران في ما يتعلق بإعادة الحساب حول حقيقة السيد المسيح عليه السلام هي شخصية المفكر والأديب الفرنسي (أرنست رينان) (Renan) (1823- 1892)، فمن هو (أرنست رينان) هذا؟

يقول عنه الأستاذ (لویس معلوف): إنه أديب فرنسي قد تخلى عن دعوته الإكليريكية لينصرف إلى دراسة اللغات السامية وتاريخ ديانات العالم، وقد فقد (رینان) إيمانه بالكثير من العقائد المسيحية السائدة، وقد عبر في كتبه ومؤلفاته عن آرائه العقلانية الخاصة، وكان من أشهر مؤلفاته كتاب (مستقبل العلم) وکتاب (تاریخ

ص: 121

نشأة المسيحية)، وقد حمل الجزء الأول منه عنوان (حياة يسوع) الذي أحدث تأثيرا واسعا في أوروبا(1).

إذن، هذه باختصار لمحة سريعة وموجزة عن شخصية (رینان) التي لعبت الدور الأبرز في تعديل صورة وحقيقة السيد المسيح عليه السلام في فکر جبران الأدبي والفلسفي، وقد أكد الأستاذ (غازی براکس) على ذلك بقوله: (فما أن يمر بضعة أشهر من حلول

جبران في باريس حتى يجهر بحبه لرينان لأنه رآه يحب يسوع ويفهمه، ويبدي أن أمله

الأكبر هو في أن يصبح قادرا على رسم حياة الناصري كما لم ترسم من قبل)(2)

ولأن (رینان) لم يقل بألوهية السيد المسيح ولم يقل بالكثير من المعتقدات والمفاهيم المسيحية الأخرى، فقد اتهم بالجحود والكفر والتجديف على الله، وقد تبرأت الكنيسة منه ومن أفكاره واعتبرت أن تلك الأفكار هي أفكار شيطانية تخالف الحقائق الكنسية وتزعزعها.

لقد تأثر (جبران) بعقلانية (رینان) وبصراحته وجرأته وبعمق أفكاره وحججه، بل وتأثر أيضا بإقدامه الريادي على الخوض في مسائل دينية حساسة دون مراعاة لخطوط حمراء تحظر الخوض في تلك المسائل، أو حتى الاقتراب منها والتفكير فيها.

ولكننا نقول الآن، على الرغم من أن الأديب والفيلسوف (رینان) كان من وجهة نظر المسيحيين جاحدا ليسوع المسيح عليه السلام، إلا أنه كان صاحب رأي متميز بشأن تضحية السيد المسيح عليه السلام وعذابه، ومن ثم - كما يعتقد المسيحيون عموما - رفعه على خشبة الصليب في اللحظات الأخيرة من حياته المليئة بالآلام والعذاب

ص: 122


1- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، مصدر سابق ص274
2- ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكرى جبران، مصدر سابق ص107.

والحرمان.

يقول (رینان) عن موت المسيح عليه السلام مخاطبا إياه: (لقد صرت محبوبا بعد موتك ألف مرة أكثر مما کنته في حياتك حتى أصبحت حجر الزاوية في صرح البشرية، فلو جئنا نمحو اسمك من العالم لزعزعنا أركانه من أساساتها)(1)

وهنا يخالف (جبران) وجهة نظر الفيلسوف والأديب (رینان) حول قيمة السيد المسيح عليه السلام في حياته ومماته، نعم، إن جبران كان يعتبر المسيح عليه السلام ابن الإنسان أيضا، شأنه في ذلك شأن (رینان)، ولكن هناك فرق واضح بين احترام (جبران) للمسيح عليه السلام واحترام (رینان) له.

فجبران ذو روح شرقية شفافة مجبولة على حب المسيح عليه السلام، ولذلك فهي تعرف كيف تحترم وتقدر الأنبياء، وتعرف أيضا القيمة الحقيقية للسيد المسيح عليه السلام في حياته وبقائه وفي صعوده وارتقائه.

ولأن روح جبران تحترم وتقدر الجواهر في الوجود، ولأن فكره المستنير يعرف قيمة الحياة و معنى الموت، فقد أدرك أيضا أن أهل البيت علیهم السلام هم جواهر الوجود، شأنهم في ذلك شأن محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام، وعرفت روحه الباصرة أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن في حياته ذا قيمة تقل عن قيمته في موته واستشهاده، فالإمام الحسين عليه السلام هو الذي أعطى الموت والشهادة معنى جديدا، وهو الذي رفع الموت في سبيل الله إلى مستوى العطاء الدائم في حياة دائمة.

فعطاء الحسين عليه السلام لم ينحصر في ما قدمه من تضحيات في أيام معدودات من

ص: 123


1- راجع مجلة (النشرة) العدد الثالث، المجلد /119/ إصدار السينودس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان، آذار 2005، راجع الصفحة 220

شهر محرم الحرام، بل هو عطاء دائم بدأت شرارته في كربلاء وسيبقى ذلك العطاء مستمرا إلى اليوم الموعود.

وكيف لا ينظر (جبران)، وهو الأديب والفيلسوف ذو النفس الباصرة، إلى الإمام

الحسين عليه السلام بهذا المنظار الدقيق وبهذه العين الباصرة بحقيقة الأشياء وکنهها؟!

وكيف لا یری جبران خليل جبران في الإمام الحسين عليه السلام صورة الإمام الأمثل والشهيد الأعظم الذي استطاع حقا أن يسطر مجد البشرية بدمائه، وهو الذي قرأ - بلا شك - قول الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، في اللحظة التي قرر فيها أن يهاجر إلى الله، فرفع يديه الكريمتين وخاطب الله عز وجل قائلا:

تركت الخلق طرا في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربا *** لما مال الفؤاد إلى سواكا(1)

فهل هناك من كلام بعد هذا القول من سيد الشهداء عليه السلام؟!

وهل هناك من مبرر للاستغراب مما قاله الفيلسوف الباصر (جبران) عن فلسفة

الإيمان والشهادة عند الإمام الحسين عليه السلام ؟!

لن نجيب على أي سؤال من هذا النوع، بل ستترك أمر الإجابة عليها للقارئ الكريم، ولكن علينا أن نعلم جميعا أن المفكر والأديب جبران خليل جبران لم يكن إلا شمعة من مئات الشموع الأخرى التي كانت تضيء بنورها للآخرين بعض الجوانب الإنسانية والإيمانية الهامة في حياة الإمام الحسين علیه السلام.

وإذا كانت شمعة جبران المسيح قد أنارت لنا شيئا من جوانب صورة الشهادة

ص: 124


1- میرزا حسن الإحقاقي الحائري، رسالة الإنسانية، مؤسسة البلاغ . بيروت، ط1988/1 ، ج1 ص 214

والإيمان عند سيد الشهداء بعبارات نثرية قصيرة وساحرة، فإن شموع الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين الآخرين قد أضاءت لنا العديد من الجوانب الإيمانية والاستشهادية الأخرى ولكن بأسلوب شعري يخطف الألباب.

ويكفي أن أختتم هذا الفصل من الكتاب بما قاله الشاعر المسيحي (إدوار مرقص) عن إيمان الحسين عليه السلام وعن استشهاده الجليل، وهو يصور لقاء جيش الكفر الأموي لجيش الإيمان المحمدي بقيادة الإمام الحسين عليه السلام :

أيهابهم سبط النبي وعنده *** جيش من الإيمان ليس بنافد

حسب الفتى من قوة إيمانه *** ولکربلا عليه أصدق شاهد

ولئن قضى بين الأسنة ظاميا *** فلسوف يلقى الله أكرم وافد

ولسوف يسقيه النبي محمد *** كأسأ تفيض من المعين البارد(1)

وإلى هنا، فقد انتهى بنا مشوارنا، وها قد قارب الصباح أن يتنفس بعد أن ألقي

بحمرته الوردية على خد السماء الشرقي وكأنه يريد أن يقول لها:

أيتها السماء، حرام على كل من أعطي يوما جديدا من حياته أن ينسى الحسين علیه السلام عند كل شروق للشمس وعند كل مغيب.

ص: 125


1- راجع ما يلي: أ. جواد شبر، أدب الطف، مصدر سابق، ج10 ص43. ب. علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص305. ج. راجع مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص330.

کربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي

عندما كتب المفكر المسيحي البارز (جورج جرداق) موسوعته الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، أكد في أكثر من موضع في موسوعته ذات الأجزاء

الخمسة أن الإمام عليا عليه السلام لم يكن في يوم من الأيام ملكا للمسلمين فقط، وأضاف على ذلك أيضا أن عليا عليه السلام لم يكن في مسيرة حياته ممثلا للعدالة السماوية عند معتنقي الرسالة الإسلامية بحيث يقال عنه إنه إمام العدل بين المسلمين، بل كان الإمام علي عليه السلام أشمل من ذلك بكثير، فهو إمام الإنسانية جمعاء من مسلمين وغير مسلمين، وهو أيضا صوت عدالة السماء في مسمع أهل الأرض جميعا، ولذلك، فمن الظلم والجور أن ينظر المرء المنصف إلى الإمام علي عليه السلام على أنه مجرد أمير للمؤمنين من المسلمين فقط.

هذا عن الإمام علي عليه السلام فماذا عن الإمام الحسين عليه السلام ؟!

يبدو أن رؤية الأدباء والمفكرين المسيحيين في الشرق، أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية ويدرسون تاریخ الرسالة الإسلامية بمنطق الحياد وبروح الموضوعية، لا تختلف نظرتهم إلى الإمام الحسين عليه السلام عن نظرة المفكر والأديب (جرداق) إلى الإمام علي عليه السلام

ولا نغالي إذا قلنا أيضا إن نظرة (الهندوس) وحتى (الصابئة) لا تختلف في خطوطها العريضة عن نظرة أولئك المسيحيين المستنيرين فكريا وثقافيا إلى الإمام

ص: 126

الحسين عليه السلام وإلى ثورته (الإنسانية) التي تفجرت منذ ما يقارب ألفا وأربعمائة عاما تقريبا ولا تزال حرارتها حية في ضمائر الأحرار في العالم حتى يومنا هذا، وستكشف النا الصفحات القادمة من هذا الفصل تلك الرؤى المختلفة في منابعها، والمتوحدة في نتائجها، والتي تتمحور جميعها حول شخصية الحسين عليه السلام وأبعاد ثورة الحق على أرض العزة والكرامة في كربلاء

وبما أننا كنا نتحدث منذ قليل عن معنى العدالة الإنسانية في شخصية الإمام علي عليه السلام وعن معاني الإمامة الإنسانية كما يراها الأستاذ (جرداق) في سمو ونبل تلك الشخصية العالمية، بل الكونية، نظرا لعمق آثارها في الأرض والسماء، دعونا الآن - إذن - نسأل أنفسنا السؤال التالي:

هل ينظر الفكر العالمي الحديث إلى الإمام الحسین علیه السلام کنظرته إلى الإمام علي عليه السلام من خلال الزاوية التي يمكن أن تعطي شخصيته فيها بعدا إنسانياشاملا بحيث ينظر إليه على أساس أنه إمام وصاحب ثورة فريدة في التاريخ من حيث وقائعها ونتائجها؟!

وقبل الإجابة على هذا السؤال المطروح، علينا أن ندرك أولا أن الأقوال والكلمات الهامة في هذا الفصل والواردة عن ألسنة الكثير من أرباب الفكر والأدب لا يمكن فصلها عن تلك الأقوال الهامة الأخرى التي وردت في الفصول السابقة من هذا الكتاب، ولذلك دعونا الآن نستكمل استطلاع وتحليل تلك الأقوال الهامة مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإجابة على السؤال الجوهري السابق.

ودعونا نبدأ محطتنا الأولى مع كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) الذي أسلفنا عنه القول في الفصول السابقة من كتابنا هذا، وما يهمنا القول عنه الآن هو تعليق

ص: 127

المؤلف نفسه على عنوان كتابه الذي اختاره هو كفاتحة وكبداية لتعريف القارئ بشخصية الإمام الحسين عليه السلام وبالامتداد الروحي والفكري العميق لآثار ثورته التي لا تزال تلعب دورا كبيرا وهاما في رسم الخطوط العريضة للعديد من ثورات الشعوب ضد الظلم والطغيان في العصر الحديث.

ففي مقدمة الكتاب، يقول الأستاذ المؤلف (أنطون بارا): إن البعض من المسيحيين وغيرهم طالبوا أن تستبدل كلمة (مسيحي) بكلمة (إنساني) فيصبح العنوان معها (الحسين في الفكر الإنساني) بدلا من (الحسين في الفكر المسيحي).

فماذا كان رد فعل الأستاذ (بارا) على هذا الاقتراح؟!

يرد الأستاذ (بارا) مجيبا على ذلك بقوله في مقدمة الكتاب: (هي فكرة صائبة، وتسمية في محلها، على اعتبار أن ثورة (سيد الشهداء) كانت ثورة إنسانية في مفرد ميزاتها وفي مجملها، وأخذها من وجهة نظر مسيحية بما يخدم البحث المقارن الذي هو موضوع الكتاب، يصلح تقديمه كمثال على إنسانية هذه الثورة، أكثر مما يصلح قصره على هذه الوجهة، وبأخذنا لها من زاوية الفكر المسيحي، نكون وكأننا ننظر إليها من زاوية الفكر الإنساني ككل لأن الفكر المسيحي ماهو إلا جزء من الفكر الإنساني)(1)

ولا ريب في أن هذا الكلام صحيح ودقيق، فالفكر المسيحي لا يتجزأ من الفكر الإنساني العام، وبالمقابل أيضا، فالثورة الحسينية انطلقت في دائرة إسلامية واضحة المعالم، لكنها سرعان ما تجاوزت محيط دائرتها المحدود لتبلغ بقوة أهدافها وعمق غاياتها الدوائر الإنسانية الأخرى محطمة بذلك حدود الأديان والمذاهب، والألوان

ص: 128


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص23

واللغات، والقوميات.

فلم تعد کربلاء إرثا شيعيا ولا حتى میراثا إسلاميا، بل تحولت إلى تراث إنساني

عام تستثمره الأمم والشعوب وتتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.

ومما يثبت حيادية رأي الأستاذ (بارا) هو تفريقه بين رؤيتين متناقضتين لحادثة کربلاء، ففي إقراره بوجود رؤيتين متناقضتين للفاجعة دليل أكيد على حياديته وموضوعيته، وهو دليل أيضا على مصداقية حديثه عن الحسين عليه السلام وعن الأبعاد الإنسانية والقيم الروحية التي كانت تلك الثورة تختزنها في رحمها المثقل بالآلام وبالجراح النازفة التي جعلها الأمويون قدرا محتوما محسوما على كل الثائرين من المسلمين عموما، وعلى الإمام الحسين عليه السلام وأهله وأتباعه خصوصا.

فالفكر المسيحي الغربي - كما يقول عنه الأستاذ (بارا) - له مآخذ على الإسلام، وهو ينظر إلى تلك المآخذ من کوی مثالب عهود بني أمية، والتغيرات الجذرية التي عمت أمة الإسلام بسبب ذلك، حيث نظر الملوك والحكام إلى الدنيا بشكل مخالف تماما للصورة التي صورتها إياها التعاليم الرسالية والمبادئ السماوية.

ومن هنا ؤلد الصراع الدائم الذي استشرى لاحقا بين أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبين ذرية أبي سفيان، فأهل بيت النبي المصطفى يرون أن الخلافة سفينة تعود إلى الآخرة المحمودة وفق أحكام الله، أما بنو أمية فيتطلعون إليها باعتبارها مطية تقود إلى السلطان والجاه، وانقياد الدنيا، والتحكم بالبلاد والعباد وفق أهواء النفس وغرائزها الدونية التي لا تعرف الشبع أو الوقوف عند حد معين.

وبما أن الفكر الغربي - كما يقول الأستاذ (بارا) - هو فكر تغلب عليه النزعة المادية والنفعية، فهو فكر لا يعي هذا التناقض الصارخ بين الحق المقهور،وبين

ص: 129

الباطل المنتصر، ومتى فقد هذا الوعي تجردت الحوادث التاريخية الهامة من أهم عناصرها الحيوية.

وهنا يخلص ذلك المفكر المسيحي البارز إلى النتيجة التالية التي لخصها بقوله:

(لذا فقد رأى المستشرقون في حادثة الطف - انطلاقا من هذا التجرید - موقعة

عسكرية تغلبت خلالها الكثره على القلة، والتنظيم على الارتجال، غير ملتفتين إلى اختيارات العناية الإلهية وسرها وتدخلها في هذا الحدث الجذري في المسيرة الروحية والتاريخية لأمة الإسلام، ولدين الله الکلي الوحدانية)(1).

أما الرؤية الثانية، أو المنظور الثاني للفاجعة، فهو المنظور المسيحي العربي الشرقي، وهو يلعب دور: الحيادية الصرفة، محلا الرؤية الموضوعية محل تلك العاطفية منها والمتجنية على السواء.

وليعذرني الأستاذ العزيز (أنطون بارا)، فأنا أختلف معه بعض الشيء في ما يتعلق بالرؤية الغربية المسيحية للإسلام وللفاجعة، فنحن لا نشك في أن الحركة العامة للاستشراق بدأت كحركة مبدئية للاستعمار الغربي في الشرق، وهذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره أبدا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا:

هل كل المستشرقين كانوا في حالة مواجهة مع الإسلام، وفي حالة صراع فكري

استعماري مع الشرق؟!

فالجواب عندي - وهذا ما أختلف فيه مع الأستاذ (بارا) -: كلا، ليس كل المستشرقین طلائع للاستعمار ولا دعاة إلى الحركات التبشيرية، فهناك العديد منهم قاموا بدراسة الإسلام عن قرب وأعجبوا به وبتعاليمه وأظهروا الكثير من الاحترام

ص: 130


1- نفس المصدر السابق ص28

والتبجيل لصاحب الرسالة: النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، ولأهل بيته عليهم السلام الذين ما انفكوا يدافعون عن الرسالة الغراء حتى قضى الجميع نحبه في سبيلها، وما الحال عند المستشرق (جان جاك سيديو)، الملقب بالعلامة، والمستشرق الفرنسي (هنري کوربان) صاحب الحوارات الشهيرة مع السيد محمد حسين الطباطبائي، والمستشرق المعاصر (روجيه غارودي) صاحب المؤلفات العديدة عن الإسلام، إلا الدليل الأكيد على صحة ما نقول، ولولا خوف الإطالة والإسهاب من جهة، والخروج عن مدار بحثنا من جهة أخرى، لسردنا أسماء العديد من أولئك المستشرقين والمفکرین الغربيين الذين يكنون كل الود والاحترام للرسالة الإسلامية، وينظرون إلى الشرق على أنه موطن النور وأرض الرسالات وعالم الفكر والسحر والروح.

ولو تركنا الآن الأستاذ (بارا) وغادرنا واحته الوارفة الظلال، وانتقلنا براحلتنا إلى واحة أخرى، فماذا عسانا أن نلقي فيها؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نلقي فيها الكثير من الثمار في أشجارها، والكثير من الراحة والمتعة في سحر أفيائها وظلالها، خاصة إذا عرفنا أن وجهتنا القادمة ستكون إلى واحة الباحث الدكتور (فكتور الكك) صاحب الصولات والجولات في ميدان الفكر والأدب.

ولو أردنا أن نختصر الإقامة في واحته، وسألناه بشكل مباشر وصريح عن رؤيته

الخاصة للثورة الحسينية، فماذا سيكون جوابه؟

والجواب على ذلك هو أنه يرى أن ثورة الحسين هي عقيدة لا مسلك، وأن الحسين عليه السلام لم يمت جشعا إلى مقام وطامحا إلى مجد (فعلى مفرقه استوى المجد تاج حق لا تاجا من الذهب وبيمناه فخر الصولجان إرثا من الرسالة العلوية لا فضة

ص: 131

صيغت من آهات المحرومین وخبز الجائعين)(1).

ثم نسمعه يخاطب الإمام الحسين عليه السلام ثانية، ويقول له: (مجد سواك يا حسين شید على جماجم المغدورين والمستضعفين في الأرض، أما مجدك ففي حبات القلوب التي لا تخفق إلا للحق، مجد سواك كان اغتصابا للمجد في زمان معین ومكان معين، أما مجدك فرأيته خفاقا في كل زمان وفوق كل مكان، بشهادتك يا حسين دخل التاريخ حرم الوجود خافضا جبينه فولدت الأرض من جديد بالروح)(2).

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام يغير باستشهاده وجه التاريخ، ويجعل الأرض تولد مرة أخرى بنبض جديد وروح جديدة، بل وبلون جديد يستمد وجوده وألقه من دم الحسين عليه السلام المراق في سبيل حقوق الفقراء والمستضعفين في الأرض، فكل الأمجاد الأموية هي أمجاد من ورق، وكل سيوف الجلادين، أمام عظمة الحسين عليه السلام ، هي سيوف من خشب.

ولذلك، فمن الطبيعي أن يكون دم الإمام الحسين عليه السلام زيت سراج الوجود الإنساني النبيل، وأن يكون استشهاده مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه في بطاح کربلاء الشمعة الصامدة أمام عواصف الليل الطويل، بل الشمعة القادرة على اختراق وتبديد عتمة الظلام الأموي المخيف، ذلك الظلام الذي راح يبسط جناحيه الطويلين ويفردهما إلى أقصى ما يستطيع كي يخبئ تحتهما جرائمه وضحاياه وقبح آثامه التي كان يرتكبها تحت ستار الدين والشريعة.

وإذا كان البعض يرى في شهداء الطف - کربلاء - الشمعة التي قبلت أن تذيب

ص: 132


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص6
2- نفس المصدر السابق ص6

نفسها في الله، وأن تحرق ذاتها في سبيل إحياء رسالته، فإن البعض الآخر رأى في أولئك الشهداء الأبرار الشجرة القدسية التي ضربت جذورها عميقا في تراب الرسالة ونهضت بأغصانها عاليا إلى فضاءات الكمال وسماوات الجلال.

وها هو المفكر والأديب المسيحي، الدكتور (أنطوان كرم) یوجز لنا رأيه بواقعة الطف قائلا: (وفيها - أي في كربلاء - ينتهي الإنسان لتحيا الفكرة، فتورق أغصانها، وتتفرع وتتعمق جذورها وتترسخ لتصبح شجرة حضارية قائمة بذاتها، حتى إذا بلغت الفكرة منتهی مجالاتها البعاد، عادت وأبدعت صاحبها إبداعا جديدا وغدت رمزا قدسيا وهالة من جلال)(1)

وبالفعل، فإن ذلك الرمز القدس وتلك الهالة من الجلال هما جزء أساسي وثمرة مباركة من ثمار الشهادة في سفر تلك الملحمة الخالدة، وقد صدق من قال شعرا عن الإمام الحسين عليه السلام بروح العرفان ولغة الوجدان، فأصاب جوهر الحقيقة عندما رفع صوته قائلا:

(ومع أن العالمين محفل للأنس، لكن الشمع الذي

ينير القلوب الحسين لا سواه

وليست النفحة المنعشة لنسيم الجنة إلا شمة وعبيرا

من رائحة الحسين...

ولقد أحرق الحسين لا سواه فراشة الروح

في حرم العشق شوقا)(2).

ص: 133


1- نفس المصدر السابق ص7
2- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني، لمحات الحسین، مصدر سابق ص54.

ولأن الإمام الحسين عليه السلام قد اختار الرحيل إلى الأعالي وحلق بجناحي روحه الطاهرة حول لهب المصباح الإلهي الخالد، فقد وقع في حماه وعاد إلى مبتداه.

وبالطبع، فإننا لا نريد أن نسترجع تفاصيل ما حدث في تلك المأساة الرهيبة، فقد قدمنا في فصل (صور من الفاجعة) العديد من المشاهد المؤثرة الدالة على عظمة الحدث وعلى عمق المأساة وأهوالها، ولكن ما نريد قوله هنا، هو أن ذلك الخطب العظيم قد ألهم الكثير من الأدباء والمفكرين، وفتح لهم أبوابا رحبة من استلهام الأفكار والقيم والعبر ومن الدروس السياسية والاجتماعية والروحية التي لا تنضب، فكربلاء ليست مجرد حادثة، بل هي نهج وعقيدة، وكربلاء ليست مجرد موقف تاريخي عابر، بل هي مدرسة وسلوك.

ولذلك، فمن الطبيعي تماما أن يهب المفكرون والأدباء، من مختلف الأطياف،

حاملين أقلامهم ساعين إلى تصوير الأحداث مع مقدماتها ونتائجها والدروس المستفادة منها.

ورب سائل يسأل:

أية فائدة يجنيها أولئك المفكرون والأدباء، وحتى الممثلون والفنانون، من استرجاع أحداث تلك الفاجعة والتحدث عن ذكرى تلك المأساة سوى بعث الحزن في القلوب جراحا من الهموم وجمرا من القهر والآلام؟

وردا على هذا السؤال المحتمل، يجيبنا عليه العلامة الجليل والمفكر الباحث (محمد علي إسبر)، صاحب المؤلفات الجريئة، فيقول في كتابه الثمين (الإسلام وبناء المجتمع): (إننا لا نتكلم عن استشهاد الإمام الحسين لكي نرفع من مكانته لأنه في سموه قمة نورانية تنحسر دونها البصائر والأبصار، ولكننا نتحدث عن مقتله في سبيل

ص: 134

الله لأن الأمم الحية تحيي ذكرى أبطالها الذين ماتوا في ميدان الجهاد ضد الباطل انتصارا للحق الإلهي المقدس، وللشعوب المعذبة المحرومة المقهورة، ولا ريب أنه بمقدار ما تكرم الأمم أبطالها وعباقرتها ومصلحيها بمقدار ما تدل على أنها أهل للحياة الفاضلة الكريمة)(1)

وإذا كان هذا هو شأن الأبطال العظماء، كالإمام الحسين عليه السلام ، فماذا عسى أن

يقال عن شذاذ الآفاق الذين حاربوا أولئك الأبطال؟!

بل ماذا يمكن أن يقال عن أولئك الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام شخصيا

محاولين إخماد ثورته الرسالية وإطفاء نور مبادئه وقيمه الإيمانية ؟!

ويأتي الجواب الواضح من الأستاذ (إسبر) أيضا، حيث يقول فيه مبينا النتيجة:

(لقد كتبوا بأيديهم صك عبوديتهم... وعبودية الأجيال التي جاءت بعدهم...

عندما خرجوا عن إنسانيتهم وقتلوا النبي الإنسان الذي جاء ليجعلهم يحيون مبادئ القرآن، وما فيها من مثالية وجمال تهدفان إلى تحرير المجتمع البشري... وتنميته باستمرار نحو الكمال المادي، والروحي... فيا لها من رزية سجلت انتكاسة مرة لقيم الشخصية الإنسانية)(2)

ولاشك أبدا في صحة ودقة كلام هذا الباحث الكبير الذي أفنى عمره في قراءة ودراسة التاريخ الإسلامي، من ألفه إلى يائه، ولا يزال يتحفنا بالكثير من الأعمال الفكرية المتميزة على الرغم من أنه قد بلغ من العمر ما يقارب المئةعام (حفظه الله).

ومهما يكن من أمر، فإن كلام الأستاذ (إسبر) نابع من تحليل دقيق للوقائع

ص: 135


1- محمد علي إسبر، الإسلام وبناء المجتمع، دار التعارف. بيروت، ط2002/1 م، ج1 ص358.
2- محمد علي إسبر، ، ذکری کربلاء، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد 3، مصدر سابق ص 71

النفسية التي نشأ عليها الأمويون عموما، وبالتالي، فإن هذا الكلام يؤكد حقيقة أن الحكومات الأموية المتعاقبة كانت دائما حكومات ذات طابع دنيوي استبدادي لا يمت إلى الدين الإسلامي بأي صلة، اللهم إلا تلك الصلة التي تجعل من الدين مطية في خدمة السياسة، وتلك الصلة الأخرى أيضا التي تجعل من الدين عاملا من عوامل تخدير الرعية وتنويمها مغناطيسيا والتلاعب بها وبمصائرها والتحكم بها كما يتحكم ذئب مفترس بقطيع من الخراف التي أبعد عنها راعيها وحاميها.

وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات، من قبل بعض المستشرقين، للتخفيف من وطأة الأعمال المخزية التي كان يقوم بها (الخلفاء - الملوك) الأمويون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يخفوا الحقائق بشكل كامل، فحتى المستشرق (غولدتسيهر) والمستشرق (لامانس) وغيرهما ممن كان يفتري عمدا على الإسلام، نراهم ينقلون أحيانا بعض الوقائع الحقيقية عن سوء الحكومات الأموية وعن عدم وجود أي صلات لها بشريعة الإسلام.

فالمستشرق الألماني المعروف (يوليوس فلهاوزن)، وهو مجرد مثال واحد من العديد من الأمثلة، يؤكد في كتابه (تاريخ الدولة العربية) أن المسلمين الذين عاشوا في ظل الحكومات الأموية كانوا يكنون الكراهية والبغضاء لتلك الحكومات التي أرهقتهم وأذلتهم، ويتابع المستشرق (فلهاوزن) كلامه قائلا: (ولقد زاد في البغض للأمويين قدم الشكوى من (السلطان) وأفعاله، وظلت هذه الشكوى موجهة إليهم (أي إلى الحكام )خاصة باعتبار أنهم أصحاب السلطان في ذلك الزمان، وكانت موضوعات الشكوى هي: أن العمال يسيئون استعمال سلطتهم ويظلمون الناس، وأن أموال الدولة تجري إلى جيوب أفراد قلائل يستأثرون بها، على حين أن معظم جيوب

ص: 136

غيرهم تبقى خالية، وأن الزنى والعهر والشراب والميسر أصبحت لذات للسادة لا يعاقبون عليها، لأن الحدود معطلة)(1)

ومن هذه الهوة السحيقة بين سياسة حكم الأمويين من جهة، وبين مبادئ ومثل أهل البيت عليهم السلام من جهة ثانية، بالإضافة إلى الصراع بين أهل البيت علیهم السلام ممثلين بالإمام الحسين عليه السلام و بين الأمويين ممثلين بمعاوية وابنه يزيد، ولدت مادة فكرية خصبة مکنت المفكرين والأدباء من كتابة الكثير من الأبحاث والمؤلفات الفكرية، والعديد من الأعمال الروائية التي تتحدث عن ذلك الصراع المرير في الأيديولوجيات بين الطرفين المتصارعين انطلاقا مما يحمله كل طرف من مبادئ، وتعاليم، ونهج، وغايات.

ولا يخفى على القارئ الكريم، أن هناك في ميدان الأدب العالمي فرعا من فروعه العديدة يسمى بالأدب الثوري أو أدب الثورة، وهو عبارة عن أدب رفيع يقتصر في مواضيعه المطروحة على مناقشة واقع ما، سواء كان ذلك الواقع سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، أو حتى روحيا وفكريا، والدعوة للثورة والانقلاب عليه، ومن ثم الانتقال به إلى حالة أفضل وإلى واقع أكثر أمنا وأمانا وجمالا وعطاء.

ويأخذ هذا النوع من الأدب العديد من الأشكال المتعددة، كالرواية والقصيدة والمسرحية، وحتى القصة القصيرة أيضا، وبما أن الفروع الأدبية تتشابك في الكثير من حالاتها، لذا يمكننا أن نقرأ - على سبيل المثال - رواية تاريخية مكتوبة بأسلوب مفعم بالأفكار الثورة، ويمكننا أيضا أن نقرأ قصيدة شعرية ذات طابع رثائي منظومة بألفاظ وتعابير تنتقل بالقارئ من حالة العطف وذرف الدموع إلى حالة الاستنفار وشحذ

ص: 137


1- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص60

الهمم.

وكذلك الحال بالنسبة للمسرح الذي يمكن أن يؤلف العديد من الأشكال والأحوال الأدبية الأخرى للوصول إلى حالة الانقلاب والتمرد التي يمكن أن تكون دائرتها الأضيق هي الإنسان ذاته، ودائرتها الأوسع هي واقعه الذي يعيش فيه هو ومجتمعه الواسع.

فالأحداث المفصلية في مسيرة البشرية تفرز دائما أشياء جديدة خصوصا إذا كان

الأمر يتعلق بالثورات الاستثنائية الحاسمة التي تلعب دورا مميزا في تاريخ الشعوب.

ويذكر الدكتور( محمد غلاب) العديد من الأمثلة عن دور الثورات في تاريخ الشعوب وكيف أن تلك الثورات قد أذكت نار الأدب في مشارق الأرض ومغاربها أملا في أن ينير لهب تلك الثورات العظيمة الطريق للأجيال القادمة من أجل السير إلى مستقبل أكثر تقدما وأعمق إنسانية، وها هو الدكتور (غلاب)، وهو أحد المفكرين المصريين، يقول في كتابه (أدب الثورة) عن الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا:

(كانت الثورة الفرنسية - بسبب ما استحدثته من أفكار سياسية جديدة، وانقلابات اجتماعية خطيرة - قد أعدت النفوس إعدادا قويا للتمرد على أغلال الماضي والنشاط في تحطيمها والشعور بالحاجة إلى الانفلات منها)(1)

والشيء بالشيء يذكر، فقد كانت الثورة الحسينية، عن طريق استشهاد قائدها الإمام الحسين عليه السلام في ساحة المعركة، وعن طريق المبادئ التي خلفها لمن سيأتي بعده من الثوار، قادرة على تحطيم أقوى عرش في ذلك الزمان وتقويض أركانه من جذوره، فقد انتصر الحسين عليه السلام بقوة إيمانه وبدمه على العرش الأموي المحاط

ص: 138


1- الدكتور محمد غلاب، أدب الثورة، مطابع جريدة المصري . القاهرة، 1953، ص5

بآلاف السيوف التي تمسك بها أيا تجري في عروقها دماء الغدر والكفر والنفاق.

وإذا كان الأدب العربي والإسلامي عموما لم يعرف (الرواية) بمفهومها الأدبي المنهجي الدقيق إلا في فترة متأخرة، فإن هذا لا يعني أن ثورة الحسين عليه السلام لم تنتج في حقل الأدب الروائي الحديث الكثير من الأعمال الأدبية التي تجسد قيم تلك الثورة ومبادئها، بل على العكس من ذلك تماما، فقد أوحت فاجعة كربلاء، وبكل ما تملك من نفس ثوري وإيماني، بالكثير من الأعمال الأدبية الرائعة التي کتبت بأقلام حرة ونزيهة لكبار الأدباء المشهورين من المسلمين وغير المسلمين.

ونظرا لضيق المساحة، وحبا باختصار الوقت على القارئ الكريم، دعونا نتحدث الآن عن بعض الروايات الأدبية الحديثة التي جاءت كثمرة من ثمرات الثورة الحسينية المباركة في كربلاء

وبالطبع، فإننا لن ندخل في تفاصيل كل رواية من تلك الروايات، كما وأننا لن ندخل في تفاصيل التحليلات الدقيقة لكل أحداث تلك الروايات، فهذا مما لا يسمح لنا به الوقت من جهة، أضف إلى ذلك أن الكتاب الذي بين أيدينا الآن ليس كتابة قائما على دراسة وتحليل الأعمال الأدبية بشكلها المفصل وبالأسلوب الأدبي المطول، من جهة ثانية.

فالغاية من ذكرنا لتلك الروايات الأدبية هي الفكرة التي يحملها ذلك الأدب وليس الأدب ذاته.

ولذلك، دعونا الآن ندخل مباشرة في الحديث عن إحدى تلك الروايات التي تتحدث عن واقعة كربلاء وعن الشخصيات البارزة التي أسهمت في أحداث تلك الواقعة، سواء من طرف الإمام الحسين عليه السلام أم من طرف معاوية ولاحقا ابنه یزید.

ص: 139

فالرواية تحمل عنوان (خيانة وغدر) وهي رواية تاريخية من سلسلة روایات تاريخ العرب والإسلام لمؤلفها الأديب المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، ومن المعروف عن هذا الكاتب الأديب أنه كتب هذه الرواية كمقدمة للأحداث التي سبقت وقوع الفاجعة أما روايته الأخرى التي يصور من خلالها الأحداث الفعلية للفاجعة الأليمة فهي رواية (فاجعة كربلاء) والتي تعتبر الجزء الثاني من روايته الأولى (خيانة وغدر).

وعلى كل حال، ماذا يمكننا أن نجد في رواية (خيانة وغدر) من أفكار ومن مقاصد وأهداف أراد المؤلف أن ينقلها لنا من خلال أحدث روايته؟!

إن أول ما يمكن أن يستنتجه القارئ لتلك الرواية هو التوصيف العام للطبيعة الأموية المتجلية بشكلها الأكمل في شخصية معاوية، فمن خلال مجريات الأحداث ومدلولات الأقوال والأحاديث الواردة في سياق النص تظهر صورة معاوية بصورة الخليفة غير الشرعي الذي جاء واعتلى على رقاب الناس دون وجه حق على الإطلاق.

كما ويمكن أن نلاحظ أيضا أن هناك إشارات واضحة تدل على التجاوزات الكبيرة التي قام بها معاوية وخالف بموجبها تعاليم الإسلام ومبادئه الأساسية، وقد ذكر الأديب (حبشي الأشقر) مسألة استلحاق معاوية زياد ابن أبيه بنسبه مما يجعله في نظر الناس أخا له، فيكسب مودته ويأمن شره من جهة، ويرهب به الناس ويكم أفواههم من جهة أخرى، وقد ذكر الأديب (حبشي الأشقر) ثلاثة أبيات من الشعر قالها القائد (یزید بن مفرغ الحميري) يشير من خلالها إلى ما قام به معاوية من خرق واضح الآداب وأخلاق الإسلام.

وتقول تلك الأبيات الثلاثة الواردة في الرواية :

ص: 140

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني :

أتغضب أن يقال أبوك عف *** وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمک من زیاد *** کرخم الفيل من ولد الأتان(1)

وفي الحقيقة، فإن مسألة إلحاق زیاد ابن أبيه بنسب معاوية هي من المسائل الثابتة في كتب التاريخ الإسلامي، ولا مجال للطعن في مصداقية حدوثها من قبل معاوية، ويمكن لأي واحد منا التأكد من ذلك بمجرد العودة إلى أي كتاب يتناول سيرة حياة زیاد ابن أبيه(2).

ومن الأفكار الأساسية التي ينقلها لنا الأستاذ الأديب (حبشي الأشقر) في مجريات أحداث روايته، هي تلك الفكرة التي تقول إن معاوية قد حول الخلافة إلى نظام ملكي يتوارث العرش فيه الأحفاد عن الآباء مثلما يتوارثه الآباء عن الأجداد.

فمن خلال الأحاديث الدائرة بين الشخصيات الرئيسية في الرواية نرى أن هناك

تأكيدا واضحا على حقيقة أن معاوية (يبذل دهاءه ليحفظ العرش له ولبنیه)(3)

وليس هذا فحسب، بل إن سياسة معاوية كانت قائمة على التظاهر بالتسامح والحلم، بينما حقيقة الأمر غير ذلك، وقد ذكر مؤلف الرواية حادثة موجزة جدا وعلى قدر كبير من الأهمية نظرا لما تحمل من معان عميقة فاضحة لحقيقة الحلم الذي كان معاوية يتظاهر به أمام أعدائه وخصومه، ففي حديث مرفوع إلى (عبد الله بن عمير) أنه قال:

أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل لمعاوية: أتحلم عن هذا؟!

ص: 141


1- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، دار الأندلس . بيروت، 1979، ص84
2- خليل هنداوي (وآخرون)، زياد ابن أبيه، مكتبة دار الشرق . بيروت، د.ت ص32
3- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، مصدر سابق ص099

فأجاب معاوية: (إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملکنا)(1)

ومع تسلسل أحداث الرواية المثيرة، تشرق صورة الإمام الحسين عليه السلام بهية نقية وكأنها نسخة مكررة عن صورة أبيه عليه السلام وجده صلی الله علیه و آله وسلم ، وتظهر صورة الإمام الحسين عليه السلام كشخصية نبوية نبيلة تستنكر الكثير من أفعال معاوية ودسائسه، وترفض أيضا مبايعة ابنه العربيد (یزید) خليفة على المسلمين.

وآخر ما يمكن أن نخرج به من خلال قراءتنا لأحداث تلك الرواية التاريخية، وجود الروح الثورية التي كانت تتفاعل بقوة في صدر الحسين عليه السلام وفي صدور المخلصين من أصحابه المقربين الذين كانوا هم طلائع الفداء في الحركة الثورية الحسينية، كمسلم بن عقيل وهاني بن عروة اللذين ضربا مثلا عظيما بالإخلاص والوفاء لرسالة الإمام الحسين عليه السلام المستمدة من رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ومن نهج أبيه علي المرتضی علیه السلام.

ولم يغب عن ذهن الأديب (حبشي الأشقر) أن يقارن بين ما قدمه المقربون من الإمام الحسين عليه السلام وبين ما قدمه أصحاب يزيد للإسلام والمسلمين، فطلائع الثوار الحسينيين قدموا أمثولة في الوفاء للمبادئ الرسالية، وأمثولة أخرى في التضحية الثمينة من أجل الإخلاص لمبادئ الحسين عليه السلام ولقيمة التي سيثور من أجلها قريبا.

أما ما يتعلق بالطرف الأموي، فإن أصحاب يزيد قد قدموا لنا مثلا مجسدا عن الغدر برسالة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ومثلا آخر عن حالة النفاق التي كان يعيشها كل فرد منهم، فالواحد منهم يؤمن إيمانا قطعيا، في قرارة نفسه، بكفر یزید وفسوقه، لكن الشيء

ص: 142


1- نفس المصدر السابق ص107

الذي يحرکه باتجاه موالاته والدفاع عنه هو الدفاع عن المصلحة الخاصة أولا، وقد ضرب لنا الأستاذ (حبشي الأشقر) مثالا واضحا عن تلك الحالة السلبية من التقلبات النفسية التي كان يعيشها أصحاب يزيد والقادة عنده.

وحتى تبدو الصورة أكثر وضوحا ودقة، فقد ذكر المؤلف في الصفحات الأخيرة من روايته كيف أن (عمر بن سعد بن أبي وقاص) قد عاش حالة الصراع النفسي الذي كان سببه ضرورة الاختيار السريع بين تبني أحد الموقفين التاليين:

إما أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام مقابل استلامه عهدا بولاية منطقة الري، وإما أن

يرفض الاشتراك في قتل الإمام الحسين عليه السلام ويخسر بذلك ولايته على الري.

وهنا يصور لنا المؤلف (حبشي الأشقر) كيف أن عمر بن سعد قد بات ليلته مفكرا في الأمر، ثم سمعه بعض الناس وهو يقول بصوت مرتفع معبرا عما يعتمل بداخله من صراع:

أأترك ملك الري والري رغبة *** أم أرجع مذموما بقتل حسین

وفي قتله النار الذي ليس دونها *** حجاب، وملك الري قرة عيني ؟ !(1)

وكان من نتيجة هذا الصراع أن اختار - كما سنرى في الرواية الثانية - أن يشارك القوم في قتل الحسين عليه السلام مقابل تحقيق مصالحه الشخصية المتمثلة باستلام منطقة الري والتخطيط لاستغلال ثرواتها لحساباته الخاصة وحسابات سیده یزید.

وإذا كانت رواية (خيانة وغدر) بمثابة تصوير ورصد الإرهاصات الثورية المبكرة

في حركة الإمام الحسين عليه السلام ، فإن الرواية الثانية (فاجعة کربلاء) لنفس المؤلف الأديب الأستاذ (إميل حبشي الأشقر) تأتي بمثابة التكملة التاريخية لأحداث الفاجعة

ص: 143


1- نفس المصدر السابق ص182

الحقيقية التي دارت رحاها على أهل البيت علیهم السلام

ففي هذه الرواية، وقد تحدثنا عنها في فصول متقدمة من هذا الكتاب، يصور لنا الأستاذ (حبشي الأشقر) وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء مع أهل بيته والمخلصين من أصحابه، وهنا تبدأ عملية رصد الأحداث المتسارعة والتي بدأت تتلون باللون الأحمر الناتج عن المبارزات الفردية بين بعض المقاتلين والفرسان من الطرفين.

وأول ما يلفت الانتباه في تصوير تلك المبارزات الدامية، الاعتراف الواضح من قبل رجال يزيد بأنهم يقاتلون الحسين عليه السلام ظلما وعدوانا، وبأن قتالهم له ضلال ما بعده ضلال(1)

ولا يكتفي الأستاذ (حبشي الأشقر) بتدوين تلك الاعترافات المهمة الواردة عن ألسنة كبار قادة جيش يزيد، بل نراه يعمد أيضا إلى تصوير الحالة الوحشية الهمجية التي كان يتصف بها جيش يزيد في معاملته لأهل البيت من النساء والأطفال.

وقد أفرد المؤلف الكثير من الصفحات من أجل إيفاء هذا الغرض حقه من الدقة

في التصوير والصدق في الحديث، وقد انتهى إلى تصوير تلك الحالة بالقول:

(ومال الناس، فنهبوا الفرش والحلي والإبل والمتاع وما على النساء من لباس، ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة حتى خيل إلى الناس أن جسده جرح واحد...)(2).

أما مسألة تسيير سبايا أهل البيت عليهم السلام إلى دمشق، وكأنهم من سبايا أهل الروم أو

ص: 144


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص22.
2- نفس المصدر السابق ص29

الترك، فهذا مما لا داعي للوقوف عنده والكلام عنه ثانية، ولكن ما يمكن أن نقف عنده قليلا هو وصف الأستاذ (حبشي الأشقر) لشخصية يزيد كما وردت على ألسنة الناس الذين عرفوه عن قرب، فيزيد الذي تربع على كرسي الخلافة:

(يقضي لياليه كلها بين القيان يعزفن له ويضربن بالطنابير، وهو يداعب كلابه

ويشرب الخمر مع اللصوص ورجال السوء)(1).

وليس هذا فحسب، فيزيد هو الذي أمر بغزو مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لقمع المعارضة التي كانت تستنكر قبيح أعماله وسوء أفعاله، وها هو الأستاذ (حبشي الأشقر) يذكر لنا شيئا من مبادئ وتعاليم يزيد وكبار قادته في زمن الحرب والسلم.

وأول صورة من صور مبادئ وتعاليم مسلم بن عقبة، الذي غزا المدينة بأمر سيده یزید، تتجلى من خلال التعليمات التي أصدرها لجيشه الذي أفلج في إخضاع أهل المدينة والتغلب على رجالها.

فبعد أن قتل جيش (مسلم) معظم رجال المدينة، وكان بينهم الصحابة والتابعون، يقف (مسلم) ويوجه تعليماته الموجزة إلى جيشه قائلا: «أبحت لكم المدينة ثلاثة أيام، تقتلون الناس، وتأخذون ما يطيب لكم من المتاع والأموال... ذلك ما أمرني به أمير المؤمنين)(2)

ورب قائل يقول: وهل نقل لنا الأستاذ الأديب (حبشي الأشقر) بعض صور تلك

الحادثة المخزية التي وقعت على مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟!

في الحقيقة، لقد كسر الأديب (حبشي الأشقر) حدود وقواعد الأدب الروائي

ص: 145


1- نفس المصدر السابق ص113
2- نفس المصدر السابق ص159.

المتعارف عليها، فهو لم يكتف بذكر ونقل بعض تلك الصور المروعة التي قام بها جيش يزيد في المدينة بعد أن ارتكبوا ما يماثلها ويفوقها من فظائع شنيعة في كربلاء، بل راح يذكر بعض الأقوال والتعليقات لعدد من المستشرقين على ما قام به أولئك الأمويون الفجرة، وبالطبع، فإن إدخال بعض التعليقات على مجريات الأحداث داخل الرواية يخرجهانسبيا من دائرة العمل الأدبي ليدخلها في دائرة البحث الأدبي والتاريخي معا، هذا ما نراه نادرا في الأدب الروائي.

وعلى كل حال، دعونا نذكر حادثة واحدة من الحوادث التي سلط عليها الأستاذ (حبشي الأشقر) الأضواء في روايته (فاجعة کربلاء) ليرينا فظاعةالأعمال التي قام بها

جيش يزيد في مدينة رسول الله صل الله عليه واله الآمنة.

يبدأ الأستاذ (حبشي الأشقر) حديثه قبل سرد الحادثة، واصفا هول الحدث:

تدمير وقتل ونهب إلى النهاية ... حتى بلغ عدد القتلى يوم (الحرة)، من قریش والمهاجرين والأنصار، ألفا وسبعمائة من الرجال، وعشرة آلاف من سائر الناس ما عدا النساء والغلمان... أباح المدينة لجنده يفعل بأهلها ما يشاء، فطغى الجند وبغی، ونحن ندلك الآن على أثر من آثار طغيانه:

دخل جندي دار امرأة من الأنصار وعلى صدرها طفل، فقال لها:

- هل من مال؟

قالت: لا والله، ما تركوا لي شيئا.

قال: لئن لم تخرجي إلي شيئا لأقتلنک وطفلک هذا.

قالت: ويحك !! إنه حفيد أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ولقد بايعت رسول الله صل الله عليه واله معه يوم بيعة الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي

ص: 146

ولا آتی ببهتان أفتريه، فما أتيت شيئا، فاتق الله !!

ثم قالت لابنها (الطفل الرضيع): والله لو كان لي شيء يا بني لافتديتك به.

فأخذ الجندي برجل الطفل، والثدي في فمه، وجذبه بعنف ثم ضرب به الحائط

فانتثر دماغه (وأمه تنظر إليه)(1).

هذه، بالطبع، إحدى تلك الصور المروعة التي نقلها لنا الأستاذ الأديب (حبشي

الأشقر) بكل صدق وأمانة نقلا عن أمهات كتب التاريخ الإسلامي.

وكما ذكرنا سابقا، فإن الأديب المؤلف قد أدخل في القسم الأخير من روايته (فاجعة كربلاء) آراء العديد من المستشرقين والمفكرين، إضافة إلى آرائه الشخصية، حول فظائع الأمويين بحق أهل البيت عليهم السلام في واقعة كربلاء وفي غيرها من الوقائع والأحداث التي تثبت، بحق، أن الأمويين لم يكونوا أكثر من جماعة وثنية أرادت أن تهدم البناء الإسلامي من الداخل.

وعلى الرغم من أننا سنترك ما كتبه الأديب الأستاذ (إميل حبشي الأشقر) في روایتیه (خيانة وغدر) و (فاجعة كربلاء)، وسنغادره الآن إلى أديب آخر، إلا أننا سنعود إليه في الوقت المناسب، لاحقا، كي نتعرف على آرائه الفكرية الخاصة بشأن أحداث کربلاء والنتائج الصادرة عنها.

ولكن، وقبل أن نحط الرحال عند رواية جديدة وأديب جدید، علينا أن نتوقف قليلا مع المفكر الفرنسي المعروف بلقب (الدكتور جوزف)، ذلك المفكر الذي درس الفكر الإسلامي بشكل جيد، وتوقف طويلا عند الفكر الشيعي وأبعاده الروحية العميقة المتميزة عن بقية المذاهب والفرق الأخرى.

ص: 147


1- نفس المصدر السابق ص165

وقد حاول هذا المفكر الفرنسي أن يكون موضوعيا في تقييمه للجانب الروحي والنفسي في فاجعة كربلاء، وقد رأى أن أحد أهم عوامل استمرار الفكرالإسلامي الشيعي وتطوره هو الحدث العظيم الذي تم على أرض کربلاء

وها هي كلمات (الدكتور جوزف) ( Dr. Joseph ) تشهد بذلك، وتشهد أيضا

بأن المسيحيين الأوروبيين يتعاطفون ضمنيا مع أهل البيت عليهم السلام الذين وقع عليهم الظلم الشديد من قبل أعدائهم الأمويين الذين لا يعرفون الرحمة أبدا.

يقول الدكتور جوزف: (وهؤلاء مصنفو أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله، مع أنهم لا يعتقدون بهم، إلا أنهم يذعنون بالمظلومية لهم، ويعترفون بظلم وتعدي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا یذکرون أسماءهم إلا مشمئزين، وهذه الأمور الطبيعية لا يقف أمامها شيء، وهذا السر هو من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة)(1)

نعم، لقد أصاب (الدكتور جوزف) في كلامه هذا، وقد صدق في استنتاجاته عندما أكد أن ما حدث في كربلاء أعطى نتيجة مغايرة تماما لما كان يرجوه بنو أمية، فبدل أن ينطفئ ذكر آل محمد عليهم السلام، وبدل أن يخمد فكرهم على الساحة الإسلامية، نرى أن النتيجة لم تكن كما كان يرغب الأعداء الأمويون، فقلوب الكثير من الناس مالت إليهم وتعلقت بهم، والكثير من المسلمين في البلدان التي وصلها نبأ الفاجعة راجعوا حساباتهم الفكرية والروحية ورأوا أن الحسين عليه السلام لم يكن إلا صوت ضمير جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم المنادي في قلوب أبناء الأمة الغافلة عن الحق والمائلة عن منهج

ص: 148


1- راجع كلمة (الدكتور جوزف) في مجلة (الموسم)، العدد /13، المجلد /4،/ مصدر سابق ص236.

الصدق.

لقد لعبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء دورا عظيما في تثبيت دعائم الفكر الإسلامي الشيعي وفي إظهار حقيقة سوء الحكم الأموي وابتعاده الکلي عن الإسلام وعن قيمه ومبادئه.

وليس هذا فحسب، فالفكر الإسلامي الشيعي الذي بدأ منذ زمن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ، والذي هو شخصيا ألقي ببذوره الأولى مع بداية دعوته لرسالته السماوية الجديدة، نراه ينمو وينضج في كربلاء وينتقل بفعل قوته الفكرية والروحية إلى العالم شرقا وغربا محققا حضورا مميزا على ساحة الفكر الإنساني الرفيع الباحث عن حقيقة وهدف وجودنا في هذا الكون الغامض والفسيح.

ولا ريب أبدا في أن المستشرق الفرنسي المعاصر (هنري کوربان) ( .H Corbin) قد أصاب وأجاد عندما قال عن ذلك الفكر الشيعي الخلاق: (في عقيدتي، جميع الأديان حق، وهي تسعى وراء حقيقة حية، وتشترك جميعا في السعي لإثبات أصل وجود هذه الحقيقة الحية، ولكن يبقى التشيع وحده هو المذهب الذي منح هذه الحقيقة لباس الدوام والاستمرار بعقيدته، إن هذه الحقيقة ما بين العالم الإنساني والألوهي ثابتة دائما وباقية إلى الأبد)(1)

فالفكر الإسلامي الشيعي من جهة، وسيرة أهل البيت عليهم السلام المليئة بالمصائب والآلام العظيمين من جهة أخرى هما جناحا ذلك الفكر الإسلامي إلى جميع أصقاع

العالم.

ص: 149


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الشيعة (نص الحوار مع المستشرق كوربان)، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة أم القرى . بیروت، ط 1418/2 ص50

فالمصائب التي واجهت محمد صلی الله علیه و آله وسلم عليا عليه السلام وفاطمة الزهراء علیها السلام والمجازر الدامية التي نالت من ذرية النبي المقدسة، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الكرامة، هي التي خلقت عند عموم الناس، من مسلمين وغير مسلمين، تعاطفا روحيا معهم واستجابة فكرية للأهداف والقيم النبيلة التي قتلوا من أجلها دون أن يظهروا أي إشارة أو علامة من علامات الاستسلام أو اليأس والإحباط والقنوط، وربما كانت هذه الحقيقة هي الدافع الأساسي للدكتور الإنكليزي (دوایت رونالدسن) ليقول: (إن فجيعة العالم الإسلامي بالإمام الحسين قد جعلته بمستوى المسؤولية، وهي مأساة لا نظير لها في التاريخ وستبقى خالدة مع الأيام)(1).

ومن أسباب خلود الثورة الحسينية على مر الزمان هو تحولها من موقف زماني ومكان محدد إلى مدرسة فكرية شاملة تتجاوز بتعاليمها ومبادئها حدود الأمكنة والأزمنة ولتتحول بذلك إلى مدرسة عالمية تبين الصراع الأبدي الدائر بين الحق والباطل، فتناصر الحق وتدعو إلى اعتناقه، وتناهض الباطل وتدعو إلى اجتنابه .

وما يعزز هذا القول هو رأي الباحث المصري، الدكتور (أحمد راسم النفيس) الذي عاش تجربة روحية مريرة ومثيرة انتهت به إلى أن يلقي بمرساته المتعبة على شاطئ الأمان والاطمئنان، على شاطئ ولاية أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم

يقول الدكتور (النفيس) في كتابه القيم (على خطى الحسين) مبينا أهمية الدور والموقف الحسيني الذي تحول من طور الدرس الواحد إلى طور المنهج الكلي الكامل القائم على كيفية التعامل والتفاعل مع قطبي الصراع في الوجود، وضرورة الانتقال من الرؤى النظرية إلى الوقائع التطبيقية في خط سير ذلك الصراع: (الموقف

ص: 150


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص46

الحسيني میزان ومعيار يميز بين الحق والباطل، وهذه حقيقة واضحة من خلال النصوص الكثيرة المتواترة في خصائص أهل بيت النبوة أو تلك الواردة في حق الحسين عليه السلام على سبيل الخصوص.

والذي زاد الأمر وضوحا هو الدليل العملي الذي قدمه الحسين عليه السلام على صحة

ما ورد في فضل أهل البيت عليهم السلام)(1)

وفور الانتهاء من هذا التعليق على حركة الإمام الحسين عليه السلام، ينتقل الدكتور

(النفيس) ليطرح عدة أسئلة هامة، ومن ثم ليجيب هو عنها قائلا:

(فأين كان الآخرون من هذه الفتن التي هاجمت الأمة المسلمة من كل جانب؟!

أين موقف الدفاع العملي عن قيم الإسلام؟!

سؤال لا نجد له إجابة إلا في تحرك الحسين عليه السلام ذلك التحرك الذي كان مقدمة

لكل الحركات الثورية في تاريخ الأمة الإسلامية)(2)

ولا ريب في أن جواب الدكتور (النفيس) على السؤالين المطروحين أعلاه

يستحق الوقوف عنده من أجل دراسته وتحليله بالشكل اللائق به، فهو جواب ينطوي على الكثير من العبر المستخلصة من دروس ثورة الحسين عليه السلام ، ولذلك سنتوقف عند ذلك الجواب في الفصل الأخير من كتابنا هذا، وهو الفصل المخصص لاستخلاص النتائج والدروس المستفادة من الفاجعة الدموية.

ولكن يبقى أن نشير هنا، وهذا من نافلة القول، إلى أن الباحث الدكتور (أحمد راسم النفيس) (1952 ....) قد تحدث عن تجربته الروحية الغنية في كتابه (الطريق

ص: 151


1- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، الغدير . بيروت، ط 1997/1ص117
2- نفس المصدر السابق ص118

إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام )، وقد بين من خلاله مدى تأثره بوالده وبجده، الذي كان أحد علماء الأزهر، وكيف توصل إلى الكثير من الحقائق عن مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وكيف اتسعت دائرة معلوماته مما أدى إلى ابتعاد أصدقائه وأقاربه عنه، ثم كيف أتت المرحلة اللاحقة وهي مرحلة اعتقاله وتعذيبه، وتلفيق الاتهامات له من قبل السلطات وأجهزة الأمن، وكيفية ملاحقة نشاطاته الفكرية وحركاته السلمية حتى بعد الإفراج عنه وعن بعض مؤيديه الذين مضوا معه على نفس النهج غير آبهين بصعوبة الطريق ومرارة المصير.

وما دمنا في معرض الحديث عن كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي،

دعونا الآن نحط رحالنا في واحة رواية جديدة لأديب وباحث مسيحي معروف للجميع، إنه الباحث والأديب (جرجي زيدان) صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام الغنية عن التعريف.

والرواية التي سنتحدث عنها الآن هي روايته الأكثر شهرة، إنها رواية (غادة کربلاء)، تلك الرواية التي لا تحتاج إلى الكثير من المقدمات ولا إلى المزيد من التعريف بکاتبها المسيحي الذي حاول جاهدا من خلال مؤلفاته الأدبية أن يعيد صياغة الكثير من الأحداث التاريخية الإسلامية بأسلوب أدبي روائي جذاب يشد القارئ لمعرفة صفحات هامة من تاريخ العرب والمسلمين.

ولا أعتقد أن القارئ الكريم قد نسي أننا تناولنا رواية (غادة كربلاء) في أحد الفصول السابقة في هذا الكتاب، وأننا قد ذكرنا أشياء عديدة مما ورد في سياق أحداثها المؤثرة.

وعلى كل حال، سنوجز الحديث عن هذه الرواية نظرا للتشابه الكبير والتقارب

ص: 152

اللافت للنظر بينها وبين رواية (فاجعة كربلاء) للأديب (إميل حبشي الأشقر) التي كنا في معرض الحديث عنها منذ قليل في الصفحات السابقة من هذا الفصل.

فالأحداث العامة في خطوطها العريضة والهامة واحدة ومتماثلة بين الروايتين،

وروح الحدث أيضا واحدة، وكذلك الحال بالنسبة إلى تقييم الشخصيات البارزة في أحداث الواقعة.

وعلى سبيل المثال، يبرز لنا الأديب (زيدان) شخصية الإمام الحسين عليه السلام في سياق أحداث الرواية بصورة الإمام الزاهد والثائر على الظلم والفساد في مجتمع لم يعد يعرف عن روح الإسلام وعن آدابه وأخلاقياته إلا الشيء القليل، وهنا يقوم الأديب

(زیدان) بإعطائنا صورا من الواقع الإسلامي السيئ الذي كان يزيد بن معاوية يعمل جاهدا للإبقاء عليه من أجل تبرير الكثير من أفعاله وأفعال أبيه السابقة.

ولم يغب عن ذهن المؤلف أيضا أن يفضح، على لسان بعض أبطال الرواية، حقيقة الرجال والقادة الذين استخدمهم یزید کبطانة سوء له، يرهبون الناس ويقطعون أوصالهم ويأكلون أموالهم ويذيقونهم حر الحديد وبرده، لا لشيء إلا لإطفاء نور أهل البيت عليهم السلام من جهة، ولإرضاء (الخليفة) وتثبيت دعائم حكمه على جثث الضحاياوالمظلومين من جهة أخرى(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الحكم الأموي وقتذاك - كما يصوره لنا الأستاذ زيدان في نفس الرواية - انتهج أسلوب مطاردة العلويين وقتلهم في كل مكان دون أدنی شفقة أو رحمة، كما أنهم انتهجوا أيضا أسلوب التعتيم الإعلامي على حقيقة أهل البيت عليهم السلام وعلى فضائلهم وخصالهم ومعرفة حقوقهم، وزادوا على ذلك بأنهم جعلوا مسبة

ص: 153


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق، ص 117.116

الإمام علي عليه السلام والنيل منه على المنابر فريضة دينية وسنة أموية تتكرر على ألسنتهم كل يوم بعد كل صلاۃ(1)

ولا داعي هنا لنذكر ما أورده الأستاذ (زیدان) بشأن الفضائح السوداء التي ارتكبها معاوية ذاته بحق الإسلام والمسلمين، وكيف أنه هو من وضع ذلك النهج الأموي الفاسد بصورته السوداء المتبلورة كي يمشي عليه ابنه الفاسق يزيد ومن سيأتي بعده من الأمويين المعروفين بعدائهم التاريخي لقيم السماء ولأهل البيت علیهم السلام الذي يمثلونها خير تمثيل.

أما الصورة المباشرة لشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، فيقول عنها الأستاذ (زیدان) بلسان ذاته: (وكان الحسين خالص الطوية صادق اللهجة مثل أبيه، وكان سليم النية سريع التصديق، وما ضاعت الخلافة منه إلا لطيب عنصره ولحمه ورغبته عن الدهاء والمكر)(2).

أما ما يتعلق بالصور المأساوية المرتبطة بما حدث على أرض الفاجعة في كربلاء، فلا داعي لتكرارها وإعادتها ثانية، فقد ذكرنا منها ما فيه الكفاية في فصل سابق بعنوان

(صور من الفاجعة)، وقد أخذنا بعض تلك الصور بطريقة أو بأخرى من هذه الرواية

التي نحن بذكرها الآن.

وبقي أن نقول عن هذه الرواية المؤثرة إنها كانت رواية مقبولة من حيث جودة ومتانة تركيبتها الأدبية وحبكتها القصصية، لكن الأحداث التي نقلها لنا مؤلفها الأستاذ الأديب (جرجي زيدان) لم تكن بمستوى دقة الأحداث التي وردت في رواية (فاجعة

ص: 154


1- نفس المصدر السابق ص104
2- نفس المصدر السابق ص194

کربلاء) للأديب (إميل حبشي الأشقر)، فالصور الحقيقية لما ارتكبه القادة الأمويون من فظائع ومجازر بحق المؤمنين من المسلمين وبحق الحسين وأهله عليهم السلام كانت قليلة نسبيا، وكان يشوبها شيء من البرود أثناء عرضها على القارئ مما أفقدها الحرارة والحيوية في عملية تسارع الأحداث واتجاهها نحو الذروة.

ولكن تبقى هذه الرواية شاهدا جيدا على ما ارتكبه الأمويون، بقيادة زعيمهم يزيد ابن معاوية، بحق الإسلام والمسلمين عموما، وبحق الإمام الحسين عليه السلام وعياله وأطفاله وأصحابه خصوصا، ويبقى الهدف النهائي من هذه الرواية هو تلك الوصية التي نقلها لنا الأستاذ (زیدان) في آخر سطور روايته، وقد جعلها على لسان الشيخ الزاهد (عدي) - والد الشهيد (حجر) الذي قتله معاوية ظلما قرب دمشق - حيث أوصى ذلك الشيخ الزاهد من حوله قائلا لهم:

(إني أوصيكم بتقوى الله، والتفاني في نصرة أهل النبي، فأقيموا بمكة وحجوا إلى

کربلاء، وابكوا قتلاها ما استطعتم، وسيقتص الله من القوم الظالمين)(1)

وفي الحقيقة، إن هذا الكلام يستوقفنا ويستوقف كل من قرأ ولو شيئا يسيرا عن مجريات أحداث الثورة والفاجعة، ولا يستوقفنا هذا الكلام لأنه ورد في رواية تاريخية

کتبت بقلم مسيحي، بل إنه تستوقفنا لأنه يحمل في طياته معاني وحقائق لم تأت من فراغ، وإنما جاءت من مقدمات ودوافع كثيرة أدت إلى تلك النتيجة التي تتداولها كتب التاريخ والكتب الاختصاصيةالمعاصرة، ولا تزال تتناولها بالدراسة والتحليل بهدف الوصول إلى الدروس والعبر المستفادة من تلك الواقعة الثورية الأليمة.

وعلى سبيل المثال، دعونا نتوقف قليلا مع المفكر والفيلسوف الألماني

ص: 155


1- نفس المصدر السابق ص270

المعروف الأستاذ (ماربين) لنرى عن قرب كيف كانت نظرته إلى الإمام الحسين عليه السلام وإلى الحركة الثورية التي قادها بكل رجولة وإيمان، على الرغم من التكاليف الباهظة التي دفعها في سبيل إحياء مبادئها وقيمها التي تشكل جوهر الإسلام روحيا وفكريا.

يقول الأستاذ (ماربين) في كتابه (السياسة الإسلامية):

(الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عليه السلام هو سبط محمد صلی الله علیه و آله وسلم من ابنته المحبوبة فاطمة علیها السلام ويمكن أن يقال عنه أنه كان مجمع فضائل هذا العصر وأعلم المسلمين بدین جده، قد ورث الشجاعة عن أبيه وحاز أعلى درجات السخاء الذي هو أحب الصفات، فصیح البيان طلق اللسان، غيورا صادقا في الحديث، غير مرعوب من العدو، وعامة المسلمين لهم عقيدة به ومتفقون على مدحه والثناء عليه وقد أشغلوا كتبهم بذكر ملكاته الحسنة وسجاياه المستحسنة حتى الذين لا يوالون أباه وأخاه)(1)

إذن، هذا هو الوصف المبدئي الذي يراه الفيلسوف والباحث الألماني (ماربين) في شخصية الإمام الحسين عليه السلام، ولكن، بالطبع، ليس هذا كل شيء عنه عليه السلام فلا يزال هناك الكثير ليقال عن الإمام الحسين عليه السلام وعن التضحيات العظيمة التي قدمها في سبيل إحیاء دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي لم يبعث إلا رحمة للعالمين.

وعن تلك التضحيات والمصائب التي ارتبطت بمسيرة الإمام الحسين عليه السلام ،

يتابع ذلك الفيلسوف الألماني كلامه قائلا:

(المصائب التي تحملها الحسين عليه السلام في طريق إحياء دین جده تتفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ولم ترد على أحد منهم، نعم، إن هناك رجالا قتلوا

ص: 156


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص57

في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين عليه السلام ، فإنه ضحى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دین جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى، ويختص الحسين عليه السلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ)(1)

ومن المحتمل جدا أن يقول أحد القراء مستغربا:

ما لهذا المفكر المسيحي الغربي يقول شيئا عجبا!!

وكيف يقول: إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين)، فهل يقصد بهذا الكلام أن الإمام الحسين عليه السلام كان ذا مصاب أعظم وأعمق من مصاب السيد المسيح عليه السلام الذي يعتبره المسيحيون في الشرق والغرب أنه صاحب أعظم مصيبة شهدتها الإنسانية؟!

وبالطبع، فإنه من حق أي قارئ أن يتساءل عن ذلك وأن يبدي استغرابه مما قاله ذلك المفكر والفيلسوف الألماني عن الإمام الحسين عليه السلام ، ولكننا لن نجيب نحن عن ذلك السؤال المنطقي الهام، بل دعونا نستمع سوية إلى الجواب من المسيو (ماربین) نفسه.

يقول (ماربين) مبددا ځجب الحيرة وممزقا سحب الشك:

(إن مصائب الحسين أشد حزنا وأعظم تأثيرا من مصائب المسيح)(2)

وعلى كل حال، ستكون لنا وقفة مطولة مع هذا الفيلسوف الألماني المتميز في

ص: 157


1- نفس المصدر السابق ص57
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص116.

كل دراساته المعمقة عن التاريخ السياسي للإسلام، والذي كانت له وقفات مطولة مع ثورة الإمام الحسين عليه السلام التي هزت الضمير العالمي من الأعماق وأعطت الإنسانية دروس كثيرة لا تنسى في جميع ميادين الحياة ومجالاتها.

وبما أن هذا الفصل يحمل العنوان التالي (كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي)، دعونا نعود، إذن، إلى دراسة بعض المؤلفات الأدبية وإلى تحليلها فكريا مستعينين على ذلك بالعديد من الأقوال والأحاديث الهامة التي قالها كبار رجال الثقافة والفكر في الشرق والغرب.

ومحطتنا الآن عبارة عن كتاب لم يشأ كاتبه أن يطلق عليه اسم (رواية) ولم يصنفه تحت أي باب من أبواب الأدب أو الدراسات، وإنما ۔ على ما يبدو - فقد ترك أمر تصنيفه إلى ذوق القارئ وإلى حريته في أن ينظر إلى ذلك العمل من وجهة نظر أدبية روائية أو دراسة سردية تاريخية.

فالكتاب يحمل عنوان (أهل بيت النبي) للأديب والمفكر المصري (عبد الحميد جودة السحار) الذي أثرى المكتبة العربية بأعماله الأدبية ومؤلفاته الفكرية التي قاربت المئة عملا تقريبا في ميادين مختلفة ومواضيع شتی.

ويغطي هذا الكتاب، (أهل بيت النبي)، مساحة زمنية طويلة نسبيا تمتد من ما بعد موقعة بدر وحتى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء والمسير بالسبايا إلى دمشق ومن ثم العودة بهم إلى المدينة، وهذه المرحلة هي في حقيقة الأمر المرحلة الأكثر حساسية في مسيرة الرسالة الإسلامية وفي بيان خط سيرها، ولذلك فقد جعلها الأستاذ (جودة السحار) المادة الخصبة لموضوع كتابه المذكور.

ولا نريد هنا أن نستعيد ما ذكرنا من أحداث وردت في الكتب والروايات التي

ص: 158

ناقشناها سابقا، ولكن يكفي أن نذكر هنا أن الأستاذ الأديب (جودة السحار) يربط دائما بين مفهوم الغربة والشهادة من جهة وبين مفهوم الوفاء والإباء من جهة أخرى.

فالإمام الحسين عليه السلام أدرك بنفاذ بصيرته وبقوة إيمانه أنه سيعاني الغربة في مسيرته وسيلاقي الشهادة في نهاية ثورته، ولكن بالمقابل أيضا، كان يعرف تمام المعرفة ويؤمن تمام الإيمان أن كل ما سيقوم به في ثورته وكل ما سيبذله ويضحي به من أجلها، إنما هو في محصلة الأمر بذل وتضحية ووفاء لرسالة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، ذاك النبي الذي تنبأ له بكل ما سيلاقيه من مصاعب وآلام وفجائع جمة لإعلاء كلمة الله ولتثبيت كل الفضائل المجيدة والخصال الحميدة في المعالم الأساسية للهوية الإنسانية.

وهنا يصور الأستاذ (جودة السحار) خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى کربلاء بأسلوبه الأدبي الرقيق والمؤثر، ويقارن ذلك الخروج من المدينة بخروج کلیم الله موسى عليه السلام من مدينته خائفا يترقب وهو يقول: رب نجني من القوم الظالمين. ولابأس هنا بالوقوف على صورة خروج الإمام الحسين عليه السلام من مدينة جده رسول الله صل الله عليه واله كما جاء وصفها بقلم الأستاذ الأديب (جودة السحار)، ولنستمع إليه سوية الآن وهو يقول واصفا ذلك الخروج الحزين الذي ينذر بما خبأت له صحائف الغيب:

(وتجهز الحسين للخروج، فدخل قبر الرسول ليودعه قبل الرحيل، فبان في وجهه الأسى العميق وغامت عيناه بالدموع، وقال وهو يشرق بعبراته:

«بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد خرجت من جوارك كرها، وفرق بيني وبينك، وأخذت قهرا أن أبایع یزید شارب الخمور، وراكب الفجور، وإن فعلت كفرت، وإن

ص: 159

أبيت قتلت، فها أنا خارج من جوارك كرها، فعليك السلام مني يا رسول الله»(1).

وهنا ينتقل الأديب (جوه السحار) إلى وصف الحالة النفسية العامة للإمام الحسين عليه السلام بعد زيارته الأخيرة لقبر جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فيقول مصورا تلك الحالة النفسية: (وسار (الحسين عليه السلام ) مطأطئ الرأس منقبض الصدر، تشيع في نفسه أحاسيس رهبة وحزن، وتلفت قبل أن يخرج لفتة إلى القبر، وألقي نظرة أخيرة طويلة كأنما يتزود منه لنهاية العمر فما يدري أيعود إلى قبر الحبيب ثانية يزوره، أم يلتقي بصاحب القبر في جنات عرضها السماوات والأرض)(2)

ويشير المؤلف بطريقة غير مباشرة إلى أن الحسين عليه السلام كان يدرك في قرارة نفسه أنه سيلتقي قريبا بجده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم في جنات الخلود الأبدي ولكن بعد أن يعتلي صهوة الموت قتلا في سبيل إحياء تعالیم وقيم جده الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم الذي أخبر فيما مضى أنه سيسير لاحقا على دروب الحق والشهادة وأن دماءه الطاهرة ستكون معراجه إلى ملكوت السماء.

ولم يكتف الأستاذ الأديب (جودة السكار) بتصوير أحداث كربلاء التفصيلية في كتابه (أهل بيت النبي)، بل عمد إلى كتابة كتاب آخر مخصص للحديث عن الإمام الحسين عليه السلام فقط، وأسماه (حياة الحسين)، وعلى الرغم من أن الكتاب يشير من خلال عنوانه إلى سيرة حياة الإمام الحسين عليه السلام من ألفها إلى يائها، إلا أنه بنفس الوقت يتناول أيضا سيرة أهم المحطات في حياة أخيه الإمام الحسن عليه السلام الذي عمد إلى حقن دماء المسلمين من خلال عقد الاتفاقية المشهورة بينه وبين معاوية الناكث

ص: 160


1- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي ، مصدر سابق ص278
2- نفس المصدر السابق ص278.

بها لاحقا، ويشير المؤلف أيضا في كتابه (حياة الحسين)، ذي الطابع الروائي الواضح، إلى مسألة هامة جدا في بدايات كتابه المذكور، وتتجلى تلك المسألة الهامة من خلال التأكيد على أن معرفة أهم الدوافع الأساسية للثورة الحسينية لا يمكن الوقوف عليها إلا بعد التعرف على ما كان يفعله معاوية، والد یزید، بالإمام الحسن علیه السلام، شقیق الحسين عليه السلام.

فمن خلال فهم طبيعة معاوية وطبيعة البطانة المحيطة به يمكن الوصول إلى معرفة الشيء الكثير عن دوافع تلك الثورة الخالدة التي تفجرت في زمن الحسين علیه السلام

ومنعا لوصول الملل إلى القارئ الكريم، فلن نكرر ذكر دوافع الثورة ولا تفاصيل الفاجعة، بل سنكتفي بذكر تلك الحادثة الشهيرة التي ذكرها الأستاذ الأديب (جودة السحار) في معرض حديثه عن الخلاف بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية وتبيان الصراع الأيديولوجي بينهما من خلال فضح الإمام الحسن عليه السلام لسياسة معاوية المبنية على تسليم أهم المناصب والقيادات في الدولة الإسلامية إلى أرباب السوء والفسوق، أولئك الذين ينحدرون من أسوأ البيوت منبتا وتربية، حيث جعلهم معاوية بطانته القريبة التي يتحكم من خلالها برقاب العباد ومصير البلاد.

أما الحادثة التي سنذكرها الآن، فهي تلك الحادثة الشهيرة التي تقول إنه اجتمع في إحدى المرات عند معاوية عمرو بن العاص والولید بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، وقد طلب هؤلاء من معاوية أن يرسل في طلب الإمام الحسن علیه السلام ، كي يحضر مجلسهم من أجل أن ينالوامنه ومن أبيه علي عليه السلام ، وبعد تردد من معاوية، يستجيب لطلبهم ويرسل وراء الإمام الحسن عليه السلام کي يحضر مجلسهم في

ص: 161

الحال.

وما أن حضر الإمام الحسن عليه السلام ذلك المجلس المشؤوم حتى راح كل واحد منهم يتناوله بالشتم والشباب وإفراغ سمومه في أذنيه وهو ساكت لا يتكلم أبدا حتى ظنوا أنه بسكوته عنهم وعن سمومهم التي أخرجوها من صدورهم وألقوها في أذنيه قد نالوا منه كل ما أرادوا

ولكن، في النهاية، ماذا كانت النتيجة ؟!

وما هو الرد الذي قام به الإمام الحسن عليه السلام تجاههم وتجاه معاوية الذي تظاهر

بالوقوف على الحياد؟!

وما هو الهدف من اتباع ذلك الأسلوب في الرد على كل واحد منهم على انفراد؟!

فالإجابة على هذه الأسئلة لا تحتاج - بتقديرنا - إلى الكثير من الجهد والعناء، فبمجرد الاطلاع على رد الإمام الحسن عليه السلام ومعرفة طبيعة ذلك الرد الحاسم وفهم خلفياته وأبعاده، عندئذ نستطيع الإجابة على كل تلك الأسئلة التي ذكرناها منذ قليل.

وحتى لا نطيل الكلام، دعونا نقرأسوية ذلك الرد الذي ذكره الأستاذ الأديب (جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين):

بعد أن أدلى كل واحد منهم بدلوه في شتم الإمام علي عليه السلام والحسنین علیهما السلام وأفرغوا كل ما عندهم من سموم، سكتوا وقد ظنوا أنهم حققوا ما أرادوا

وهنا يأتي دور الإمام الحسن عليه السلام في الرد، بمحضر معاوية، فيقول مخاطبا إياه

فاضحا لسياسته من خلال كشف اللثام عن حقيقة وطبيعة رجال بطانته:

«یا معاوية، فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني فحشا ألفته، وسوء رأي غرفت

ص: 162

به، خلقا سيئا ثبت عليه، وبغيا علينا عداوة منك لمحمد وأهله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا، فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم.

أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كليهما

وأنت يا معاوية بهما کافر تراها ضلالة، وتبعد اللات والعزى غواية؟!

وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كليهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان، وأنت یا معاوية بإحداهما كافر، وبالأخرى ناکث؟!

وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة

قلوبهم تسترون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال؟!

وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنه صاحب راية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يوم بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية وأبيه، ثم لقيكم يوم أحد والأحزاب ومعه راية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و ومعك ومع أبيه راية الشرك، وفي كل ذلك يفتح الله له ويفلح حجته وينصر دعوته ويصدق حديثه، ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في تلك المواطن كلها عنه راض وعليك وعلى أبيك ساخط؟!

وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال: اللهم العن الراكب والقائد والسائق؟! والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت.

وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فأنزل الله فيه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ»(1) وأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم

ص: 163


1- سورة المائدة : الآية 87

فهزموا، فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وفعل في خيبر مثلها.

وأنتم أيها الرهط أنشدكم الله ألا تعلمون أن رسول الله لعن أبا سفيان في سبعة

مواطن لا تستطيعون ردها، أولها يوم لقي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقیفا إلى الدين فوقع به وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده وهم أن يبطش به فلعنه الله ورسوله وصرف عنه.

والثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهي جائية من الشام فطردها أبو سفیان وساحل بها ولم يظفر المسلمون بها، ولعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ودعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها، والثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في أعلاه وهو ينادي (أعل هبل) مرارا، فلعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عشر مرات ولعنه المسلمون.

والرابعة يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود فلعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وابتهل والخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله، ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أبا سفيان، والسادسة يوم الجمل الأحمر، والسابعة يوم وقفوا لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في العقبة ليستنفروا ناقته، وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان، فهذا لك يا معاوية.

وأما أنت یا بن العاص، فإن أمرك مشترك، وضعتک أمك مجهولا من عهروسفاح، فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها، الأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، ثم قام أبوك فقال: أنا شأني محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ما أنزل، وقاتلت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته بمكة وكدته کيدك كله، وكنت من أشد

ص: 164

الناس له تكذيبا وعداوة، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة، فلما أخطأك مارجوت، ورجعك الله خائبا، جعلت حقدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلته ففضحك الله وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام.

ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بسبعين بيتامن الشعر، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك من الله ما لا يحصى من اللعن، وأما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم لحقت بفلسطين، فلما أتاك قتله قلت: أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دینك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ود، وبالله ما نصرت عثمان حيا، ولا غضبت له مقتولا.

وأما أنت يا وليد ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صبرا، وأنت الذي سماه الله الفاسق وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا، فقال لك علي: اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق، فأنزل الله تعالى في موافقته قوله: «أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ۚ لَا يَسْتَوُونَ»(1)، ثم أنزل فيك على موافقته قوله أيضا: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...»(2)...

وأما أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك

ص: 165


1- سورة السجدة: الآية 18
2- سورة الحجرات: الآية 6.

وما عندك خير يرجي ولا شريتقی، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر عليا لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأما وعيدك إياي بقتلي فهلا قتلت اللحياني وجدته على فراشك، أما تستحي من قول نصر بن حجاج فيك:

يا للرجال وحادث الأزمان *** ولسبةتخزي أبا سفيان

نبئت عتبة خانه في عرسه *** جنس لئيم الأصل من لحيان

وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه، فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك! وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر وشارك حمزة في قتل جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد؟!

وأما أنت یا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني طائره عنك، فقالت النخلة: وهل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني؟!

والله ما نشعر بعداوتك إيانا ولا اغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشق علينا كلامك، وإن حد الله في الزنى لثابت عليك، ولقد درا عمر عنك حقا الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: لابأس بذلك یا مغيرة ما لم ينو الزنى، لعلمه بأنك زاڼ، وأما فخركم علينا بالإمارة، فإن الله تعالی يقول: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.»..»(1)

... وانصرف الحسن وتركهم يحسون کمدا، فقال معاوية:

- قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني، فوالله ما

ص: 166


1- سورة الإسراء: الآية 16

قام حتى أظلم علي البيت، قوموا عني، فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم

وعدولكم عن رأي الناصح المشفق والله المستعان)(1).

وهكذا نرى أن الإمام الحسن عليه السلام قد استطاع أن يفضح سياسة معاوية السيئة

وذلك من خلال فضحه لحقيقة بطانته التي كان يغذيها من جهة ويستقوي بها على العباد والبلاد من جهة أخرى.

وليس هذا فحسب، فمن خلال كشف الإمام الحسن عليه السلام للصراع المبدئي بين البيت الأموي والبيت الهاشمي، والذي تجلى بوضوح على الساحة الإسلامية بين أبي سفیان و محمد صلی الله علیه و آله وسلم، والذي استمر جليا وبقوة بن معاوية والإمام علي عليه السلام على مدى سنوات عديدة، والذي لم يتوقف أبدا بين معاوية والإمام الحسن بن علي عليه السلام ، فمن خلال هذا الكشف الذي قام به الإمام الحسن عليه السلام وبين من خلاله طبيعة الصراع بين الطرفين المتخاصمين، استطاع أن يوصل رسالة بالغة الأهمية إلى الناس عموما، ومفاد تلك الرسالة الهامة هو أن معاوية وبطانته وقادته هم أبعد الناس عن روح الإسلام وعن أخلاقياته وتعاليمه الإنسانيةالنبيلة.

وليس هذا فحسب، بل إن الأخطر من ذلك هو أنه عليه السلام أراد أن يقول للمسلمين

إن الصراع التاريخي بين الأمويين والهاشميين لن يتوقف عند حد معين أو عند جيل معين، بل سیستمر دائما وأبدا عبر الأبناء والأحفاد، وبالتالي، فإن الذي سيستخلفه معاوية على كرسي الحكم سيكون - وبشكل طبيعي - عدو لدودا للإمام الحسين عليه السلام

وسيذيقه أنواعا وألوانا من الظلم والجور والعذاب.

وبالمجمل العام، نستطيع أن نقول إن ما قدمه المفكر والأديب المصري الأستاذ

ص: 167


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص 49.45.

(عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) كان إنتاجا مميزا على مستوى الصدق في تصوير الواقعة تاريخيا، وعلى مستوى الأسلوب الأدبي الشفاف الذي استطاع من خلاله إيصال خلاصة أفكاره ووجهات نظره إلى قارئه بغض النظر عن الهوية الدينية أو المذهبية لذلك القارئ الباحث عن الحقيقة.

وقبل الانتقال إلى عمل أدبي آخر، دعونا نتوقف قليلا عند بعض الأفكار التي طرحها رجال الفكر في العديد من نتاجاتهم الفكرية المعاصر وذلك من أجل التعرف أكثر على الثورة الحسينية ومعطياتها من زوايا ووجهات نظر جديدة.

وعلى سبيل المثال، يرى الباحث الأستاذ (سعد رستم)، وهو ليس بالمسلم الشيعي، أن ثورة الحسين عليه السلام كانت حركة عقائدية وإنسانية أكثر مما هي حركة سياسية وعسكرية، فخروج الإمام الحسين عليه السلام لم يكن من أجل منصب أو من أجل کرسي، وإنما كان خروجا عقائديا إنسانيا تمليه عليه عقيدته الإسلامية الصافية وأخلاقياتها الرسالية العالمية العالية.

ويوضح الأستاذ (رستم)، وهو صاحب المؤلفات العديدة المتخصصة في دراسة العقائد والأديان، أن هناك دافعا قويا لإصرار الحسين عليه السلام على رفض منح الشرعية الخلافة يزيد بن معاوية، ولخروجه لطلب إصلاح ما فسد من نظام الحكم في أمة الإسلام.

وقد تحدث الأستاذ (رستم) بشكل مفصل عن تلك الدوافع الأساسية، وذكرهاعلى مساحة عدة صفحات في كتابه (الفرق والمذاهب الإسلامية) الذي يتميز، بالفعل، بروح الموضوعية والحيادية في الكلام عن تلك الفرق الإسلامية البائدة والسائدة.

ص: 168

وإيضاحا للصورة أكثر، وتعميما للفائدة أيضا، سنلخص تلك النقاط التي ذكرها الأستاذ (رستم) في كتابه المذكور، وسنتقل بعد ذلك إلى النتيجة النهائية التي خرج بها ذلك الباحث عن رؤيته الخاصة لطبيعة الثورة الحسينية.

فالنقاط الأساسية التي انعكست سلبا على المجتمع الإسلامي بسبب النهج الذي

وضعه معاوية، هي:

1- لم يعد الخليفة قريبا من عامة الناس ومستضعفيهم، بل صار بعيدا جدا عنهم، يسكن القصور، ويبذخ في صرف الأموال على المظاهر والبطانة والخليلات والأتباع...

2- لم يعد الأساس في تولية المناصب الأمانة والكفاءات، بل صار الحكم قبائليا

أسريا خاصا بالخليفة وعشيرته وأسرته من بني أمية ومن والاهم وناصرهم.

3- لم يعد هناك تقبل لحرية وجود المعارضين السياسيين، بل بدأت عمليات التجسس والاعتقالات على الظن، واستبيحت أعراض ودماء وأموال المعارضين، وبدأت عملية الإعدامات السياسية بشكل مرعب في الساحة الإسلامية، كما حدث الحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام، وكانوا أول جماعة يقتلون صبرا (أي إعداما) في الإسلام.

4- لم يعد بیت المال ملك الأمة، بل أصبح ملكا للخليفة، يتصرف به كيفما يشاء، ويرشي منه من يشاء، ويحرم منه من يشاء.

5- ظهور التعصب للجنس العربي مكان المساواة بين العرب والأعاجم من الرس وغيرهم.

6- التحول إلى الطريقة الملكية القيصرية الهرقلية في الحكم، فالملك يهلك

ص: 169

ليخلف ابنه على الأمة رغما عنها، وهذا ما فعله معاوية مع ابنه يزيد إذ إن إمرته لم تكن برضا الأمة الحقيقي واختيارها، بل مهدها له أبوه بالمال والخداع والقوة والقهر.

7- سوء السيرة الذاتية وقذارة الصفات الشخصية التي كان يتصف بهایزید، وقد ورث معظمها عن أبيه معاوية، فالإمام الحسين عليه السلام كان يرى ويدرك كل ذلك تماما، ولو أنه لم يخرج على يزيد لما بقي لشريعة جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم أي هيبة أو أثر في القلوب والنفوس(1).

وهنا ينتهي الأستاذ الباحث (رستم) إلى النتيجة النهائية التي تقول: (كان خروج الحسين - إذن ۔ أمرا يتصل بالدعوة والعقيدة أكثر مما يتصل بالسياسة والحرب، ولقد أراد الحسين أن يصلح كثيرا من مسائل العقيدة، بعد أن اختلت الموازين أثناء خلافة معاوية، ذلك أن معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب، ولكن بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، فلقد كان يعلن في الناس أن الخلافة بينه وبين علي قد احتكم فيها إلى الله، وقضى الله له على علي !!

وكذلك، حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء للقضاء، وليس للعباد خيرة في أمرهم، وهكذا، كاد يستقر في أذهان المسلمين أن كل ما يعمل به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه، قضاء من الله قد قدر على العباد)(2)

وعلى ما يبدو، فإن رأي الباحث والراهب الفرنسي المعروف (لويس غارديه) لا يختلف كثيرا عن رأي الأستاذ (رستم) في ما يتعلق بالعديد من النقاط التي ذكرناها منذ

ص: 170


1- سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، دار الأوائل . دمشق، ط 2005/2، ص 61.
2- نفس المصدر السابق ص62.

قليل عن سوء سياسة معاوية وابنه يزيد، بل والأسرة الأموية عموما، وبشكل خاص أولئك الأمويون الذين لم يقيموا للآداب والأخلاق الإسلامية أي وزن، وكانوا يعاملون الأعاجم معاملة شعوبية بغيضة(1)، على الرغم من أن أولئك الأعاجم کانوا إخوانا لهم في الدين وفي الإنسانية التي كان من المفترض أن تكون عاملا حيويا لضم جميع أبنائها تحت جناحيها في ظل راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ولم ينس العلامة الراهب (غارديه) أن يذكر ويؤكد مرارا أن الكثير من السنة، على مر الأجيال، أدانوا معاوية وسياسته البعيدة عن روح الإسلام، وأنهم قد أدانوا أيضا ابنه وتلميذه يزيد قاتل الإمام الحسين(2)

إذن، فالأدباء والمفكرون في الشرق والغرب، مسلمون وغير مسلمين، يعرفون تمام المعرفة أن النهج الذي رسمه معاوية لابنه الفاسق یزید، ولكل أعوانه ورجاله وبطانته، إنما هو نهج يقوم على تقديم الإسلام من الداخل وتقويض دعائمه، واغتيال أعلامه وعلمائه، ومن ثم العودة بالمجتمع الإسلامي الجديد إلى ما كان عليه سابقا من أحكام قبلية وأعراف جاهلية و عبادات وثنية تضمن بقاء بني أمية في موقع السلطة التي كانوا يتمتعون بها في الماضي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، فالرسالة الإسلامية وتعاليمها وأخلاقياتها وقيمها الروحية والإنسانية هي آخر ما يفكر فيه رجل السلطة الأموي.

وقد أحسن الباحث الأستاذ (سامح كریم) عندما ذكر في كتابه (إسلاميات) تلك المقارنة الوجيزة والمعبرة التي عقدها الأستاذ (عباس محمود العقاد) بين طبيعة رجال

ص: 171


1- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص60
2- نفس المصدر السابق ص265.

یزید وبين طبيعة وحقيقة رجال الإمام الحسين عليه السلام .

فليزيد رجاله وأعوانه وللحسين عليه السلام أيضا رجاله وأعوانه، فلهذه الزمرة أهدافها وغاياتها، ولتلك الزمرة أيضا أهدافها وغاياتها، وما على الإنسان الواعي إلا أن يقارن بين طبيعة وأهداف الزمرتين المتقابلتين.

ويبقى السؤال قائما: ما الفرق بين رجال الطرفين وما هي حقيقتهما؟!

ويأتي الجواب من الأستاذ (کریم) نقلا عن الأديب والمفكر الأستاذ (العقاد):

(كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو جلاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال).

حسنا، هذا شأن رجال يزيد، وهذا هو هدفهم، وهذه هي طبيعتهم وحقيقتهم، فما

هو الحال عند أعوان الإمام الحسين عليه السلام ؟!

ويأتينا الجواب : (وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو شهيد

يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح)(1)

إذن، فهي حرب بين جلادین وشهداء

ولأن تلك الحرب كانت، بالفعل، بين جلادین وشهداء، فقد أصبحت مادة خصبة للكثير من الأعمال والمؤلفات الفكرية والأدبية في العالم بأكمله، وسوف نری في الفصل القادم من هذا الكتاب كيف أن الشعر العالمي المعاصر قد استطاع أن يصور أبعاد تلك الثورة وآثارها على الفكر الإنساني عموما في مشارق الأرض ومغاربها، وما كان هذا ليحدث لولا الأثر العظيم الذي ألقته تلك الفاجعة الرهيبة في ضمائر أولئك الشعراء الكبار.

ص: 172


1- سامح كريم، إسلاميات، مصدر سابق ص130

وحتى لا يدركنا الوقت ولا ينال منا الملل والتعب، دعونا نكمل الحديث الآن عن علاقة الفاجعة الكربلائية بالأدب الروائي الرفيع، ولكن لن نتوقف طويلا عند بقية الأعمال الأدبية التي سنذكرها الآن نظرا للتشابه الكبير في سرد الأحداث وفي تصوير وقائع المصائب التي لحقت بأهل البيت علیهم السلام في ساحة تلك المعركة الخالدة، وسنكتفي بذكر بعض التعليقات الشخصية على طبيعة ذلك العمل الأدبي الذي يتناول الفاجعة.

والكتاب الذي سنتناوله الآن بشكل سريع هو كتاب (السيدة زينب عقيلة بني هاشم) للدكتورة (عائشة عبد الرحمن)، التي كانت تشغل منصب أستاذة الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين في المغرب، ويتناول هذا الكتاب الأدبي الرفيع سيرة السيدة زينب عليها السلام من المهد وحتى اللحد تقريبا.

ولذلك، فمن الطبيعي أن يكون الكتاب المذكور قد تناول أيضا مسألة الثورة الحسينية وفاجعة كربلاء باعتبار أن للسيدة زينب عليها السلام دورا بارزا لا يستهان به في نصرة ثورة شقيقها الإمام الحسين عليه السلام .

وتقول الدكتورة(عبد الرحمن) في مقدمة كتابها: (لهذا الكتاب عندي منزلة خاصة، فقد فتح أمامي أثناء تأليفه آفاقا جديدة رحبة لم أكن شارفتها من قبل، وهيأ لي من المتعة الروحية والذهنية ما لم يتح لي مثله في كتاب آخر)(1) .

أما السبب الأساسي والأهم الذي جعل لهذا الكتاب منزلة خاصة عند الدكتورة (عبد الرحمن) فهو - كما تؤكد هي في مقدمة كتابها - أن تلك البطلة كان لها الدور الذي لا ينکر في ساحة المعركة وأرض الشهادة، فهي عليه السلام السيدة الأولى التي ظهرت

ص: 173


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب عقيلة بني هاشم، مصدر سابق ص13

في اللحظة الحاسمة، تأسو الكلوم، وتواسي المحتضرين، وتثور للضحايا الشهداء الذين نبذوا هنالك في العراء.

وتضيف الدكتورة (عبد الرحمن) وجهة نظرها الخاصة على هذه المسألة، فتقول:

(لكني أرى دورها الحقيقي قد بدأ بعد المأساة، إذ كان عليها أن تحمي السبايا من الهاشميات اللاتي فقدن الرجال، وأن تناضل مستميتة عن غلام مريض - هو علي زين العابدين بن الحسين - کاد لولاها أن يذبح، فتفنی بذهابه يومئذ سلالة الإمام، ثم كان عليها بعد ذلك ألا تدع الدم المسفوك يذهب هدرا...)(1)

ومما يلفت النظر في محتویات ذلك الكتاب، التصوير الصادق والمحزن لكل مشهد من مشاهد المأساة على مسرح الفاجعة، حتى لتحسب أن ذلك الكتاب لم يكتب إلا ليتحول لاحقا إلى فيلم سينمائي عظيم يغزو جميع صالات العرض في العالم، فأحداث الكتاب تصور الإمام الحسين عليه السلام بطلانبيلا متفردا في صفاته ومتميزا في خصاله، معتليا صهوة المجد والشرف، يحمل راية خاتم الرسل والنبيين بيمينه ويقبض على سيف الحق والعدالة بيساره.

وعلى الرغم من وجود هذه الصور الرائعة على امتداد معظم صفحات الكتاب، إلا أن صورة الحسين عليه السلام الحقيقية تتجلى بأبهى مظاهرها في ساحة الوغی مکانيا، وفي ساعة الردى زمانيا.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يأت للوجود إلا ليكون ذلك البطل الذي عليه أن يعيش الفاجعة التي أخبر عنها وهو لا يزال صغيرا، فقدره أن يكون الثائر الساعي لإحياء

ص: 174


1- نفس المصدر السابق ص10

معالم رسالة خير الرسل والأنبياء صلی الله علیه و آله وسلم ، وأن يصبح سيد الشهداء بعد أن يلاقي تلك النهاية المريرة هو وأهله وأصحابه على رمال كربلاء، على بعد أمتار من نهر الفرات الذي كان شاهدا على كل ما لحق بأهل البيت عليهم السلام من آلام و مصائب على مسرح تلك المأساة الدامية التي انتهت بطريقة وحشية لا تماثلها أية مأساة أخرى في التاريخ.

وهنا تسدل الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) الستارة على مسرح الفاجعة بقولها:

( وکفت الرحى المجنونة بعد أن لم يبق من آل البيت من تطحنه!

وردت السيوف إلى أغمادها حين لم يعد هناك من تذبحه!

وترکت جثث الشهداء بالعراء...

وجعلت الخيل تطأ جثث الشهداء!)(1)

وحتى نكون منصفين في دراستنا لكتاب الدكتورة (عبد الرحمن) الذي تصفه هي شخصیا بقولها: (هذا الكتاب ليس تاريخا بحتا، وإن أخذ مادته كلها من مراجع تاريخية أصيلة، كما أنه ليس قصة خالصة، وإن اصطنع الأسلوب القصصي. غالبا - في العرض والأداء، وإنما هو صورة لأنثی، قدر لها أن تعيش في فترة تعج بجلیل الأحداث، وأن تلعب على مسرح الدولة الإسلامية دورا، أقل ما يوصف به أنه دور ذو شأن)(2)، فحتى نكون منصفين في دراستنا للكتاب المذكور، علينا أن نشير إلى أن الدكتورة المؤلفة قد جعلت من كتابها (السيدة زينب عقيلة بني هاشم) حلقة قوية تربط ما بين المادة التاريخية وما بين الأسلوب القصصي والروائي الذي يحترم القواعد الأدبية في الكتابة والتأليف.

ص: 175


1- نفس المصدر السابق ص126
2- نفس المصدر السابق ص9، ورد القول المذكور ضمن المقدمة.

هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن الدكتورة المؤلفة قد اعتمدت على إظهار عمق المأساة التي لحقت بالإمام الحسين عليه السلام وبأهل البيت عليهم السلام عموما من خلال إبراز الدور الأنثوي الذي لعبته السيدة زينب عليها السلام في مأساة كربلاء وفي تداعيات تلك المأساة التي تسببت في تغيير الكثير من الأموروالأحوال في مسيرة الرسالة الإسلامية.

لقد أرادت أن تقول الدكتورة (عبد الرحمن) للقارئ إن للسيدة زينب عليها السلام دورا حيويا هاما في إذكاء ثورة أخيها الإمام الحسين عليه السلام وفي حفظ مبادئ تلك الثورة بعد استشهاده على أيدي طغاة بني أمية.

فالدور الزينبي لا يقل أهمية عن الدور الحسيني ذاته، بل ربما، في بعض وجوهه، سيكون أكثر أهمية لأن له الفضل الأكبر في تجنيد القوى المختلفة من شتى شرائح الناس في المجتمع الإسلامي وتوجيهها كقوة ضاربة لتدك حصون وعروش الملوك الأمويين الذين ما بنوا دولتهم إلا على دماء الشهداء وعلى أجساد الضحايا من المستضعفين والمظلومين، ضاربين بمبادئ الإسلام وبأخلاقياته عرض الحائط.

وقد أوجزت الدكتورة (عبد الرحمن) کلامها هذا بقولها: وما أحسبني أغلو وأسرف إذا زعمت أن موقف السيدة زينب بعد المذبحة هو الذي جعل من كربلاء مأساة خالدة)(1).

وقد بينت، بالفعل، من خلال صفحات کتابها أن الثورة كربلاء قلبا حسينيا ونبضا زینبيا لا يزال يقدم الدماء الطاهرة النقية، حتى يومنا هذا، فداء للحسين، ولثورة الحسين، ولرسالة الحسين.

ص: 176


1- نفس المصدر السابق ص10

وغني عن القول إن الكثير من الأدباء والمفكرين، وحتى من المستشرقين أيضا،

يتفقون مع كل ما قالته الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) عن دور السيدة زينب عليها السلام في دعم ثورة شقيقها الإمام الحسين عليه السلام ، وفي إحياء مبادئها وترسيخ أهدافها بعد استشهاده وعودتها إلى مدينة جدها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مع بقية الأسرى والسبايا

وإذا كان البعض يرى في السيدة زينب عليها السلام صورة المرأة الكاملة الإيمان والتي استطاعت أن تمسك بالمجد من جميع أطرافه، وأن تكون قاب قوسين أو أدنى من تغيير وجه التاريخ، كما يقول عنها المفكر السني السوري( عبد الرزاق کیلو) في كتابه

(السيدة زينب بنت علي)(1) فإن البعض الآخر من المفكرين والأدباء والباحثين قد رأوا أن السيدة زينب عليها السلام قد استطاعت بالفعل أن تغير وجه التاريخ، وأن تقلب الأوضاع في المجتمع الإسلامي رأسا على عقب.

ويعزو، من يرى هذا الرأي، أن السبب المباشر في نجاح السيدة زينب وانتصارها في متابعة ثورة الإمام الحسين عليه السلام وإذكاء نارها من جديد، إلى أن الإرادة السماوية ذاتها هي التي هيأتها وأعدتها لتحمل راية الحسين عليه السلام من بعده كي تزلزل عروش الطغاة والمتكبرين وتحولها نارا حامية تتلظى بهم في الدنيا قبل أن تتراقص على جلودهم في الآخرة.

ولا ريب في أن أولئك المفكرين والأدباء، على مختلف أطيافهم ومشاربهم، قد قرأوا ما جاء في كتب السير والأخبار تلك الحادثة المشهورة التي تقول وتؤكد أن السيدة زينب عليها السلام كانت على اطلاع بتلك النبوءة الأليمة المرتقبة: فقد قيل إنها كانت في إحدى المرات تتلو شيئا من القرآن الكريم بمسمع من أبيها الإمام علي عليه السلام ، فبدا

ص: 177


1- عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص59.

لها أن تسأله عن تفسير بعض الآيات الكريمة ففعل، ثم استطرد - متأثرا بذكائها اللامع - يلمح إلى ما ينتظرها في مستقبل أيامها من دور ذي خطر وشأن، ولشد ما كانت دهشته حين قالت له (زینب) في جد رصين وبصوت هادئ حزين

- «أعرف ذلك يا أبي... أخبرتني به أمي (الزهراء) كيما تهيئني لغدي».

وعند ذلك، لم يجد الأب ما يقول، فأطرق صامتا وقلبه يخفق رحمة وحنانا(1)

ولذلك، فإن كل ما في حادثة كربلاء، من ألفها إلى يائها، يدل على أنها تمتلك مقومات الملاحم العظيمة في التاريخ الإنساني، وبالتالي، فليس من المستغرب أن يقوم البعض بإجراء مقارنات مطولة بين ملحمة كربلاء وملحمة (الإلياذة)، ملحمة الإغريق الخالدة، تلك الملحمة التي بلغت شهرتها الآفاق حتى غدت أسطورة وملحمة عالمية وجزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني العام.

وقبل أن نذكر شيئا عن مقارنة كربلاء بالإلياذة، دعونا نقدم تعريفا موجزا جدا عن تلك الملحمة الإغريقية العريقة، وذلك بهدف تسهيل الأمر على القارئ الكريم كي يدرك جيدا حقيقة أوجه المقارنة وطبيعتها.

فمن المتعارف عليه أن كاتب تلك الملحمة القديمة هو الشاعر الإغريقي (هوميروس) «Homer» (حوالي القرن التاسع قبل الميلاد)، ويقال عنه إنه كان أعمى، وقد كتب أعظم ملحمتين في التاريخ وهما (The ILiad)(الإلياذة) و( The Odyssey) (الأوديسا)، وأنه هو من وضع أسس الشعر الملحمي لكل من جاء بعده، وأهم تلك الأسس المكونة للأدب الملحمي هي: سرعة الانتقال في الأحداث، طريقة السرد الرائعة والمثيرة، الخيال الفطري، وذكر الأمجاد والمآثر الجليلة لكل الأبطال

ص: 178


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب عقيلة بني هاشم، مصدر سابق ص33.

النبلاء في الملحمة.

والملاحم البطولية موجودة عند أكثر الشعوب، وهي حكايا شعرية مطولة تروي حوادث ذات أهمية من الدرجة الأولى وقعت فعلا في الماضي المجيد، فكانت نقاط انعطاف هامة في تاريخ الشعب المعني بها، وتكون الدروس في نهاية الملحمة أخلاقية ومحترمة ونبيلة.

وملحمة (الإلياذة )عبارة عن عدد هائل من الأبيات الشعرية التي تروي قصة الصراع الدامي والطويل بين اليونانيين والطرواديين، وعلى الرغم من أن (أخيل)، البطل اليوناني، هو الشخصية البارزة في الملحمة، إلا أن (هکتور)، البطل الطروادي، هو الذي يلعب الدور الأهم في أحداث تلك الملحمة الدامية، فأبطال قلائل في قصائد

(هوميروس) يمكن مقارنتهم من حيث الأهمية مع (هکتور) الذي يعد من أنبل

الشخصيات في الأدب.

فمهارته في الحرب تجعل الإغريق، وكل الناس يخشونه، لكن الطرواديين يقدسونه، فهو شجاع، وشجاعته لا يشك فيها أحد حتى عندما يتجنب اللقاء مع (أخيل).

وفوق ذلك، هو مخلص لشعبه، مځب لأسرته، ومحبوب من قبل الآلهة، لكنه يحمل عبثا ثقيلا من المسؤولية، وعقله مليء بالاتزان والحذر، وهو يعرف قدره مسبقا، خراب طروادة، وقدر أسرته الذي ينتهي بهم إلى الرق أو الموت(1)

وتصدق النبوءة، ويواجه (هیکتور) قدره المأساوي، وتسقط طروادة وتتهاوی مثل سنديانة عتيقة قد أنهكتها الرياح العاصفة التي تضربها بعنف من كل اتجاه

ص: 179


1- ليليان هيرلاندز، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، مصدر سابق ص384

وصوب.

وعلى الرغم من سقوطها وتكسر أغصانها وتناثرها حولها، إلا أن صمودها أمام جبروت الرياح العاصفة، وأمام طول السنين العجاف التي حاصرتها ومنعت الماء عنها، جعل من أولئك الذين استظلوا بظلها يروون عنها أجمل الحكايات وأروع الروايات التي تفيض دروسا وحكما ومواعظ في البطولة ونبل الأخلاق لا تنسى على مر العصور.

وبعد هذه المحطة الموجزة جدا عن الإلياذة وعن الأدب الملحمي، دعونا نتوقف الآن مع أحد الأدباء والمفكرين المسيحيين المعاصرين لنرى كيف أنه قد قام بإجراء مقارنة موفقة بين ملحمة الإلياذة التي كتبها هوميروس بمداده وبين ملحمة كربلاء التي سطرها الإمام الحسين عليه السلام بدمائه.

يقول الأستاذ (سليمان كتاني) في كتابه (الإمام الحسين في حلة البرفير) مقارنا

بين ما قدمه هوميروس وما قدمه الإمام الحسين علیه السلام :

(ان ملحمة الإلياذة تشهد لهوميروس كيف خصص عمره كله لها، فإذا هي صنيع أدبي - شعري - خيالي، ليس فيه غير أبطال آلهة، خاضوا الأجواء كلها وربطوها بالميدان الأوسع، وأججوا الصراع وألهبوه بالبروق والرعود، وبقي القراء وحدهم المشاهدين كيف يتم زرع البطولات الخارقة، وكيف يتم الانتصار في المعركة الإلهية التي يحاول أن يقلدها الإنسان)(1)

هذه هي، باختصار شديد، وجهة نظر الأديب والمفكر المسيحي الأستاذ (كتاني)

عن إلياذة هوميروس، فما هي وجهة نظره عن كربلاء الحسين؟!

ص: 180


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص152

لا ريب في أننا نستطيع أن نكتب العديد من الصفحات عن وجهة نظر ذلك المفكر المسيحي عن ملحمة كربلاء، ولكن نرى من الأفضل لنا - وذلك من باب الأمانة الفكرية - أن لا نضع نفسنا مكان ذلك المفكر لنتحدث بلسانه، بل سنترك الأمر كله له، فنقرأ ما قاله حرفيا، وعندئذ ندع أمر الدراسة والتحليل للقارئ نفسه، فنحن لا نريد أن نفرض عليه شيئا من قناعاتنا الشخصية أو وجهات نظرنا الذاتية.

ولذلك، دعونا نقرأ سوية ما قاله عن ملحمة الحسين عليه السلام ، وبعد هذه القراءة فليخرج كل واحد منا بالخلاصة التي يراها صحيحة ومتناسبة مع دراسته وتحليله للنص المقروء.

يقول الأستاذ (كتاني): (ما أروع الحسين - يجمع عمره كله ويربطه بفيض من معاناته، ويجمعه إلى ذاته جمعا معمقا بالحس والفهم والإدراك، فإذا هو كله تعبير عن ملحمة قائمة بذاتها، صمم لها التصميم المنبثق من واقع إنساني عاشه وعاناه وغرق فيه - إن الملحمة التي قدمها على خشبة المسرح في كربلاء، هي الصنيع الملحمي الكبير، ما أظن هوميروس تمكن من تجميع مثله في إلياذته الشهيرة)(1) ولو أننا سألنا الأستاذ (كتاني) عن قوله بعجز (هوميروس) عن الإتيان بصنيع

ملحمي كبير يضاهي أبطاله أبطال ملحمة كربلاء، فماذا سيكون جوابه!

إنه سيجيبنا بكل وضوح عن السبب في ذلك قائلا: (هنالك - أي في الإلياذة - أبطال اعتلوا الجو خشبة لعبوا عليها)، أي أن الصنيعة الملحمية كانت أقرب في أحداثها إلى الخيال الحر منها إلى الواقع، فالأبطال عندهوميروس سطروامعظم ملاحمهم على الورق الذي نقله لنا هوميروس عبر إلياذته مما يعني أن تلك البطولات

ص: 181


1- نفس المصدر السابق ص153.

والخوارق، وحتى المواقف النبيلة، لم تكن كلها حقيقية جرت على أرض الواقع، بل كانت في معظمها محض خيال وتصورات.

أما عن ملحمة الحسين عليه السلام في كربلاء، وعن أبطال هذه الملحمة، فيقول:

(وهنا - أي في كربلاء - بطولة واحدة أتمت ذاتها بذاتها، فذة في مسراها، ومصممة في عزمها، وإنسانية في قضيتها، وواضحة في أهدافها، وحقيقية في عرضها المشاهد، وهي - بالوقت ذاته - مركزة على ملحمة أخرى أصيلة، هي التي قدمها جده العظيم ونفذها فوق الأرض وتحت السماء، فإذا هي ملحمة تنتصر بالإنسان فوق أرض الإنسان وتحت سماء الإنسان، لا خيال فيها، بل واقع إنساني محض، لحمة الأمة وعجنتها بعضها ببعض، في مدة من الوقت لم تتجاوز العشر سنين - أما الفترة التي أظهر فيها الحسين ملحمته الثانية والمشتقة منها فلم تتجاوز عشرين يوما، من أول خطوة خرج بها من مكة إلى آخر خطوة خر بها صريعا في كربلاء العطشى وهي ضفة من ضفاف الفرات)(1).

فملحمة كربلاء التي سطرها الإمام الحسين عليه السلام بدمه وبدماء أهله وعياله

وخيار أصحابه لم يكن الهدف منها الانتصار لطائفة ما أو لحزب ما، بل كان الهدف منها الانتصار لكرامة الإنسان عموما، بغض النظر عن دينه وطائفته وعن حزبه وقوميته، فكربلاء هي الملحمة التاريخية الوحيدة التي تتجدد مبادئها وقيمها عبر العصور والأزمنة لأنها هي الحدث الملحمي الوحيد في التاريخ الذي استطاع أن يثبت أنه ثورة الرحمن في بني الإنسان، وذلك لأن الإمام الحسين الذي هو خلاصة الأنبياء والرسل، والذي هو وريث رسالات الله جميعها، قد ثار من أجلها، وما الثورة

ص: 182


1- نفس المصدر السابق ص153

من أجلها إلا ثورة من أجل تحقيق معادلة الإيمان، وإثبات أن الإنسان الحقيقي هو خليفة الرحمن في أرضه، وقد عبر الإمام الحسين عليه السلام عن وجهة نظره حول العلاقة الوطيدة بين الإيمان والإنسان الحقيقيين خير تعبير عندما قال مخاطبا الناس و مبینا لهم الهدف من وجودهم في الحياة والسعي في مناكبها والثورة الدائمة لتحقيق أغراضها وغاياتها التي وجدت من أجلها:

«أيها الناس، إن الله - عز وجل ذكره - ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه»(1)

وبالتالي، فعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام : «أيها الناس»، فهو لا يقصد في خطابه هذا جمهور المسلمين فقط، بل قصد منه عموم الناس، وعندما يؤكد في نفس الخطاب أيضا على حقيقة أن الله - عز وجل - ما خلق (العباد) إلا ليعرفوه، ومن ثم ليعبدوه، فلم يكن يعني بكلمة (العباد) خصوص المسلمين، بل كان يعني أيضا عموم الناس من مسلمين وغيرهم.

وهذا يقودنا إلى القول بأن فلسفة الإمام الحسين عليه السلام حول التجدد والثورة وفق المنطلقات الرسالية والمبادئ السماوية لم تكن تهدف في محصلة الأمر إلى تغيير الشخصية المسلمة فقط، ولم تكن تهدف إلى إذكاء نار الثورة في نفوس المسلمين دون غيرهم، بل كانت تهدف إلى الارتقاء بالمسلمين وغيرهم، أي بعموم (العباد)، إلى مستوى الخلافة الإلهية الصادقة القادرة على تطهير الأرض من الأرجاس ومن جنود فرعون وهامان ومن ورثة قابيل، إمام الغدر وسید الطغيان.

ولا ريب في أن الدكتور المطران (برتلماوس عجمي) قد أجاد وأصاب عندما

ص: 183


1- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، دار الحديث. إيران، ج1 ص 223

طرح هذه المسألة على بساط البحث وناقشها بكل روية وروح حيادية حيث خرج بنتيجة هامة جدا، وتتجلى هذه النتيجة الهامة بتأكيد المطران (عجمي) على حقيقة ما أسلفنا من قول عن فلسفة الإمام الحسين عليه السلام حول الحياة والثورة والإنسان، وبتأكيده أيضا على أن الإمام الحسين عليه السلام الذي سطر ملحمة كربلاء لم يكن من خلال ثورته إلا بمثابة صوت الرحمن في ضمير الإنسان، فهو علیه السلام ودمه الطاهر الميراث الذي لا يمكن للمسلمين أن يستأثروا به دون المسيحيين، أو حتى أن يستأثروا به دون بقية الأديان والمذاهب في هذا الوجود(1).

وليس هذا الرأي من الدكتور المطران (برتلماوس عجمي) بالشيء المستغرب، بل على العكس من ذلك تماما، فإن الشيء الغريب هو أن لا يكون رأيه ورأي أمثاله من أصحاب الأقلام الحرة والعقول النيرة كذلك.

فملحمة كربلاء كانت، ولا تزال، تلهب خيال الأدباء والمفكرين، وتغرس في ضمائرهم قيم الحق والخير والفضيلة، وكما أن دماء الحسين عليه السلام كانت فداء عاما للجميع، فكذلك كانت رسالته ومبادئه عامة للجميع دون استثناء، وبالتالي فمن حق كل إنسان - أيا كان انتماؤه - أن ينهل من فضائل وقيم تلك الرسالة الحسينية وأن يستفيد منها قدر ما يرغب وما يستطيع.

فشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، بالنسبة للكثير من الأدباء والمفكرين من غير المسلمين، ليست مجرد شخصية ثورية عادية قامت بأداء دورها ثم انتهى أمرها، بل هي شخصية ثورية استثنائية تنطوي على الكثير من القيم والمبادئ والفضائل التي يتعذر اجتماعها كلها في شخصية واحدة كاجتماعها في شخصية الإمام الحسين

ص: 184


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص358.

علیه السلام

وقد التفت العديد من الباحثين والمفكرين إلى هذه الحقيقة وأولوها الكثير من الرعاية والاهتمام، ويكفي أن نقول، ونحن في هذا المقام، إن الخلاصة التي اتفق عليها أولئك الأدباء والمفكرون حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام هي أن تلك الشخصية الاستثنائية كانت ولا زالت منبعا ثرا ومنهلا عذبا لا ينضب من الفضائل والشمائل، ومن الحكمة المقرونة بالشجاعة المتعقلة.

وعلى سبيل المثال لا أكثر، فقد اعتبر الدكتور (جرجس جرجس) في كتابه القيم (بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم) أن الإمام الحسين عليه السلام أحد أبرز رجال الحكمة على امتداد تاريخ العرب المديد، وقد ذكر له الدكتور (جرجس) الكثير من أقواله و حکمه في كتابه المذكور، وقد وصفه في نهاية كتابه بقوله:

(عرف (الحسين عليه السلام ) بألقاب كثيرة منها: الرشيد، والطيب، والوفي، والسيد،

والمبارك، والسبط، والتابع لمرضاة الله ... كان عالما نحريرا لا يهاب الموت، حتى قيل فيه: (شجاعة الحسين يضرب بها المثل، وثباته بثبات الجبل)، وقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيه: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسینا، حسين سبط من الأسباط»(1)

وهكذا نرى أن الدكتور (جرجس قد ربط بين حكمة الحسين عليه السلام وعلومه من جهة، وبين شجاعته وثباته في الإيمان من جهة أخرى، وبالتالي، فإن هذا الكلام خير دليل على أن الإمام الحسين عليه السلام لا يزال حتى يومنا هذا معينا لا ينضب من الفضيلة

ص: 185


1- الدكتور جرجس جرجس، بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم، نشر: مختارات . بيروت، ط 1991/1 ص104

والحكمة والشجاعة، ومن الشمائل الحميدة الأخرى التي تجعل منه علیه السلام مدرسة فكرية وأخلاقية متكاملة الجوانب ومتناسقة الأبعاد فهي مدرسة الإمام الحسين عليه السلام التي قل نظيرها وشبيهها بين المدارس على مدى تاريخ الإنسانية الطويل.

ولذلك، وبناء على ما تقدم من قول، نرى أنه من الطبيعي تماما أن يتحول الإمام الحسين عليه السلام إلى قبلة للباحثين والأدباء والمفكرين، يتجهون إليه وينهلون من حكمته في الحياة، ويستخلصون الدروس والعبر من سيرته ومسيرته على دروب الكرامة والفداء وها هي الباحثة والكاتبة الإنكليزية القديرة (فاريا ستارك) ( F. Stark ) كانت قد كتبت فصلا مهما عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم (صور بغدادية)، والذي يعرف أيضا باسم (مخططات بغداد).

وتأتي السيدة (ستارك) على ذكر ملحمة كربلاء ومصائب أهل البيت علیهم السلام فيها،

كما وأنها تأتي أيضا على ذكر بعض المفاهيم والقيم الأخلاقية والرسالة التي يتحلى بها الإمام الحسين عليه السلام ، بطل تلك الملحمة الإنسانية الخالدة.

ويمكننا أن نذكر هنا، من جملة ما تقوله الباحثة الإنكليزية (ستارك)، قولها:

(على مسافة غير بعيدة من كربلاء، جعجع الحسين إلى جهة البادية، وظل يتجول حتى نزل في كربلاء، وهناك نصب مخيمه... بينما أحاط به أعداؤه ومنعوا موارد الماء عنه.

وما تزال تفصيلات تلك الوقائع واضحة جلية في أفكار الناس في يومنا هذا كما كانت قبل (1257) سنة، وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيرامن زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل

ص: 186

شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء)(1)

وبالفعل، فإن الأحداث المأساوية الدامية في ملحمة كربلاء تستطيع أن تفتت قلب الصخر الأصم حزنا وأسفا على ما لحق بالإمام الحسين وبأهله وعياله علیهم السلام، وبأصحابه الأخيار الأبرار الذين لن يجود الزمان بمثلهم إلا أولئك الذين سيخرجون مع الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فيناصرونه ويقاتلون تحت رايته حتى يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن تكون قد امتلأت ظلما وجورا

وبما أننا قد شارفنا على الانتهاء من هذا الفصل من كتابنا، دعونا نتوقف الآن مع

أحد أهم الأدباء المعاصرين في العالم، إنه الكاتب اليوناني الشهير (نیکوس کازانتزاکیس)( N. Kazantzakis ) ،

(1883- 1957 ) صاحب القصائد والروايات الفلسفية المعروفة عالميا، ومن أشهر تلك الروايات: (المسيح یصلب من جديد)، (ألكسي زوربا)، (الإغواء الأخير للسيد المسيح)، (الحرية والموت) وكتابه الأكثر شهرة (مذکرات کازانتزاکیس) والمعروف أيضا باسم (تقرير إلى غريکو).

ومن المعروف عن هذا الأديب اليوناني الكبير أنه - على حد قوله هو شخصيا في العديد من رواياته - أنه قد قرأ وسمع الكثير عن المتصوفين المسلمين وتأثر بأفكارهم وبرؤاهم للحياة ولحكمة الموجود، وقد انعكست تلك الأفكار الصوفية والرؤى الفلسفية في نتاجاته الأدبية عموما حتى يكاد القارئ لرواياته لا يقرأ له رواية إلا ويقع على العديد من الأحاديث أو القصص التي تتعلق بهذا المتصوف المسلم أو ذاك.

ومن المعروف عن ذاك الأديب اليوناني الكبير أنه كان واسع الاطلاع على

ص: 187


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص52

ثقافات العالم وعلى فلسفات وأديان العديد من الشعوب، ولذلك فقد كان على اطلاع جيد على الفكر الإسلامي بكل أطيافه وتشعباته الأساسية، بل وكان أيضا على معرفة جيدة بالتاريخ الإسلامي عموما، وبتاريخ الدولة العثمانية خصوصا وذلك لأن الدولة العثمانية كانت تناصب بلاده وقتذاك أشد أنواع العداوة والبغضاء، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يميل الإنسان المثقف إلى معرفة الكثير عن تاريخ وطبيعة أعداء قومه وبلاده.

وما يهمنا قوله الآن هو أن الأديب (کازانتزاکیس) قد ذكر في مذكراته أنه زار إيران والعراق وتأثر كثيرا بما شاهده فيهما من طقوس ومعالم روحية لا تنسى، وقد عرج على ذكر الإمام علي علیه السلام وعلى ذكر ابنيه الإمامين الشهيدين الحسن والحسين علیهما السلام وقد أوجز ذكرهما واعتبرهما «ابني علي عليه السلام المقتولين ظلما»(1) وهكذا نرى أن ملحمة كربلاء قد بلغت بأثرها الإنساني والأخلاقي مشرق الشمس ومغربها، وقد ترك صانع تلك الملحمة الإنسانية أنبل الدروس وأسماها على صفحات التاريخ وعلى جبهة الشمس، فصار الحسين عليه السلام أنشودة الزمان، وصارت کربلاء إنجيل الإنسان.

وكم يجدر بنا أن نختتم فصلنا هذا بالوقوف مع علم من أعلام الفكر الألماني الذي كان له باع طويل في الحديث عن فاجعة كربلاء وعن الدور الرسالي العظيم الذي قام به الإمام الحسين عليه السلام في سبيل إبقاء معالم الإسلام الحقيقي الذي جاء به الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم حیة في نفوس المؤمنين، وما ذاك العلم الفكري سوى الفيلسوف الألماني الشهير (ماربين) الذي كان يصيغ أفكاره الغنية عن الإسلام،

ص: 188


1- نیکوس کازانتزاكيس، تقرير إلى غريكو، مصدر سابق ج2 ص144

تاریخا وفكرا، بأسلوب شيق وجذاب وكأنه يروي لقارئه روایات کتبت بقلم أبرع وأمهر الأدباء والروائيين في العالم.

وبما أننا قد وعدنا القارئ في هذا الفصل بالوقوف مطولا عند هذا الرجل المبدع والمتميز على المستوى العالمي، فها نحن نفي بوعدنا لقارئنا، بل ونظرا لأهمية أفكاره عن كربلاء، سيكون لنا معه وقفات لاحقة أيضا في الأمكنة المناسبة من هذا الكتاب.

وحتى لا نطيل الكلام على قارئنا، دعونا نستعرض سوية ما کتب (ماربين)، وبشكل مطول، عن سيد الشهداء عليه السلام وآلامه العميقة في كربلاء، فها هو يقول: (من الظاهر أن الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى يزيد جيشا جرارا، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة، ولم يفز (بالمظلومية) التي أنتجت تلك الثورة العظيمة.

هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفکاکهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة، وقتلهم معه ما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة... نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمین سیما ذراري نبيهم.

لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر:

«إني أمضي إلى القتل»، ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا

ص: 189

يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدا في منعه، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم: «شاء الله ذلك، وجدي أمرني به»، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟!

فقال: «شاء الله أن يراهن سبایا»، ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحيا، لم يكن

لهم بد من السكوت)(1)

ولا يحسب القارئ الكريم أن هذا الكلام هو كل ما استنتجه الأستاذ (ماربين) من قراءته المتروية لأحداث الفاجعة الكربلائية، كلا، على الإطلاق، بل إنه قد خرج بالكثير من النتائج والخلاصات التي تستحق أن تجمع في كتاب واحډ مستقل يتناول في صفحاته العديد من الأفكار والقضايا التي تتعلق بمقومات الثورة الحسينية من جهة، وبالصفات الاستثنائية التي تتمتع بها شخصية الإمام الحسين عليه السلام من جهة أخرى.

وحتى لا نقع ضمن دائرة الاتهام بالبخل في ما يتعلق بإعطاء المزيد من أقوال ذلك الباحث المنصف (ماربين)، دعونا نختتم هذا الفصل بما جاء في كتاب (خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة) للأستاذ (لبيب بيضون) حيث نقل في كتابه المذكور العديد من أقوال (ماربين) عن أسرار الشهادة الحسينية.

وها نحن، بدورنا، نختتم فصلنا هذا بقول (ماربين) الدال على عمق نضجه

الفكري، وسمو نقائه الروحي، وطول باعه المعرفي في دراسة الأحداث وتحليلها:

(ومما يدل على أنه (أي الحسين) لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة، ولم يقدم على هذا الخطر

ص: 190


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص119.

من غير علم ودراية - كما تصوره بعض المؤرخين منا - أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة، على سبيل السلوة: «إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون على مصابنا، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي، وأنا وجدي نحبهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة». .

وليتأمل المتأمل في كلام الحسين وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة (عبد الله الرضيع).

فلما كان الحسين يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم)(1)

إنها حقا كلمات حرة صادقة تبعث حرارة الإيمان في النفوس، وقد جاءت تلك الكلمات سراعا وكأنها الجياد تتراكض في ميدان فكر ذلك المفكر الألماني والفيلسوف المسيحي (ماربين) الذي أبى إلا أن ينطق بالحق، ورفض إلا أن يكون من أهل الصدق، فجاءت كلماته عن الإمام الحسين عليه السلام وعن خصاله وعبق سيرته القدسية كقطرات الندى تتلألأ فجرا على صفحات القلوب الخافقة بالمحبة والانتماء،

ص: 191


1- راجع الصفحة 119.

فتزيد من هيامها في محراب شمس المعرفة والعشق والولاء.

فأي حب کحب الحسين عليه السلام يستطيع أن يغير القلوب ويحول صفرتها إلى لون

الواحات والغابات الخضراء على امتداد الوجود؟!

وأي قلب كقلب الحسين عليه السلام يستطيع أن يمنحك ربيعا دائما ودفئا دائما إذا

أظلم الدهر عليك وأحاطت بك من كل صوب ليالي الدموع والشتاء؟!

وأي دم كدم الحسين عليه السلام يستطيع أن يلون بنوره وجه الشمس، وأستار ابتسامة

الفجر، وأسرار أحزان المساء؟!

ولا يسعنا هنا إلا أن نضم صوتنا إلى صوت القائل:

ارفعوا للحسين راية نصر *** مثلماكان للعقيدة رايه

واجعلوا طينة الولاء أساسا *** في بناء يسقى بماء الولايه

ثم رشوا على الطريق دماء *** فدمانا هوية لا هوایه

فسلام على تلك الدماء الزكية...

وسلام على أهل بيت كانت دماؤهم لنا عنوانا وهوية.

ص: 192

ملحمة كربلاء في الشعر العالمي

إن الإنسان، بوصفه كائنا لغويا بالدرجة الأولى، فهو لا يملك أن يتذوق شيئا ما بقدر ما يملك أن يتذوق الكلمة الملفوظة، أو المكتوبة، المشحونة بالحساسية وبالمعاني الإنسانية العميقة، وما ذلك إلا لأن اللغة في حقيقتها هي السمة الجوهرية الأولى التي تربطنا بالوجود ومفرداته الغنية والمتنوعة من جهة، وبالآخرين ومفاهيمهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم المختلفة من جهة أخرى.

ويؤكد الأستاذ الباحث (یوسف سامي اليوسف) على هذا الكلام بقوله في كتابه( ما الشعر العظيم ؟): (إن اللفظ أقدر مناهجنا على التعبير عن روح الإنسان وأعماله، عن شقائه وسعادته ... إن أي عمل فني غير شفوي (كالرسم والموسيقى) لا يملك أن يكون إلا برهة واحدة وحسب، إلا أنا واحدا من آنائنا التي لا ترضخ للحصر والتعداد، بينما يملك العمل الأدبي، ولاسيما الشعري، أن يكون شموليا بحيث يعانق أبعادا كثيرة ومتعددة... إنه وحده الذي يملك أن يلامس الأبديات الراسخة في الداخلية ملامسة عميقة غائصة في الجوهر الماهوي للإنسان)(1).

ففي الشعر الحقيقي الأصيل - كما يقال - لغز عصي على الفهم وسر سماوي يصعب على الذهن استيعابه وإدراكه، فهو صفاء اللغة وروحها الأنبل والأطهر.

ص: 193


1- يوسف سامي اليوسف، ما الشعر العظيم؟، منشورات اتحاد الكتاب العرب . دمشق، 1981، ص 31.

ولأن الشعر هو، بالفعل، كذلك، وربما كان في بعض وجوهه وغاياته فوق ذلك،

كان لابد له من أن يعتلي عرش الكلمات ويتقلد تاج الحروف ويقف خاشعا بكل رهبة أمام أعقد الحقائق التي تحتاج إلى الكشف، فقوام الشعر الجديد معنی خلاق إبداعي لا معنی سردي وصفي، إنه كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر (رینه شار) ( R. Char ): (الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف)(1)

ولأن حادثة كربلاء ملحمة عالمية تلامس كل ضمير حي في البنية النفسيةللإنسان، ولأن الإمام الحسين عليه السلام كان، وسيبقى، عالم من القيم والفضائل والمبادئ التي لا تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والكشف للوصول إلى عمق المعاني الإنسانية والأهداف الرسالية التي تختزنها تلك الشخصية الاستثنائية التي يندر وجود نظير لها على مسرح الحياة، كان لابد للشعر العالمي المعاصر من أن يقوم بعملية الدراسة والكشف لتلك الملحمة الحسينية التي لا تزال تتفاعل وتتجدد في وجداننا ووجودنا يوما بعد يوم.

وها نحن سندخل بشكل مباشر إلى جوهر موضوعنا المطروح الآن على بساط الشعر وكلنا أمل أن يجد قارئنا الكريم فيه كل ما يرجوه من المتعة والفائدة وأن يستخلص كل ما يمكنه من الدروس والعبر التي أشار إليها أولئك الشعراء الأفذاذ على مختلف أطيافهم وطوائفهم في الشرق والغرب.

ولنبدأ الآن مع أحد أعلام الشعر في لبنان، والذي كان يعتبر واحدا من أهم الأدباء المسيحيين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

وشاعرنا الذي سنتحدث عنه الآن هو الأديب الأستاذ (حلیم بن إبراهيم بن

ص: 194


1- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة . بيروت، ط 1978/2 ص9

جرجس دموس) (1305- 1277 ه- = 1888- 1957م).

ولد الأديب والشاعر (دموس) في بلدة زحلة اللبنانية، وسافر إلى البرازيل وأقام هناك فترة لا بأس بها، ثم عاد بعد ذلك إلى بلده لبنان فشارك في جريدة (المهذب) واستوطن دمشق بعد الحرب العالمية الأولى إلى آخر حياته، وتوفي لاحقا في بيروت ودفن في بلدة جونيه في مقبرة طائفته (الروم الأرثوذكس)، من كتبه ودواوينه المطبوعة کتاب (قاموس العوام)، (يقظة الروح)، (دیوان حليم)، وديوان (المثالث والمثاني) وإلى غير ما هنالك من كتب وأبحاث عديدة أخرى.

ونظرا لما تركت فاجعة کربلاء من عظيم الأثر في نفس هذا الشاعر المرهف وفي ضميره الإنساني الحي الذي يرفض كل أنواع الظلم والذل والاستبداد، فقد راح قلمه الحر يخط أروع القصائد وأجمل الأشعار عن تلك الملحمة الكونية الخالدة وعن بطل وسيد تلك الملحمة، الإمام الحسين عليه السلام ، الذي حول نفسه إلى شمعة وضاءة تحرق ذاتها لتنیر لغيرها من العشاق السبيل للوصول إلى محراب العشق الإلهي.

وها هو شاعرنا المسيحي يقول عن الإمام الحسين عليه السلام في قصيدة له بعنوان

(الدم الزكي):

في صفحة القلب لا في الطرس ذكراه *** فلتخشع الروح إن الروح مأواه

ذكرى الحسین نواح لا انتهاء له *** كأن داود بالمزمار غناه

ذكرى الحسين قصيد خالد أبدا *** الحب ألهمه والحزن أملاه

ذكرى الحسين دروس في الحياة لمن *** رأت جراح الأسى في (الطف) عيناه

ذكرى الحسين أحاديث مسلسلة *** من جانب الشرق أدناه وأقصاه

فجددوها ففي التجديد تكرمة *** لمن تحن له (الفصحى) وتهواه

ص: 195

من الحجاز إلى أرض العراق سرى *** الله وثبته ، لله مسراه

من جاد بالروح في تحرير أمته *** فالخلد حياه والرحمن أحياه(1)

ولعل أروع ما قاله هذا الأديب والشاعر المسيحي في الإمام الحسين عليه السلام هو

قوله البليغ في مبناه والعميق في معناه:

ذكرى الحسين حفيد أحمد صفحة *** زادت بأسرار السماء يقيني

تلك الضحية في المحرم جددت *** في كعبة الإسلام صرح الدين

لم أنس بيتا للشهيد وقد دوت *** كلماته في (الطف) منذ قرون

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي، ياسيوف خذيني(2)

وبالطبع، فليس هذا هو كل ما قاله الأديب المسيحي (دموس) في الإمام الحسين عليه السلام ، سيد الشهداء وسبط خاتم الرسل والأنبياء صلی الله علیه و آله وسلم ، بل هنالك أيضا الكثير مما قاله فيه عليه السلام وفي ملحمته الحسينية الرائدة، ولذلك، فمن الواجب علينا أن نعود لاحقا للحديث ثانية عن الآثار الأدبية التي تركها لنا هذا الشاعر بخصوص التوصيف الدقيق لشخصية الإمام الحسين عليه السلام وثورته الإنسانية التي اندلعت شرارتها الأولى من كربلاء ولا تزال تتقد حرارة وإيمانا في صدور الأحرار والمؤمنين في شتى بقاع العالم إلى يومنا هذا.

وغير بعيد عن الأجواء العامة التي كان يعيشها الشاعر اللبناني (حليم دموس) كان هناك شاع مسيحي آخر لا يقل عنه شأنا يعيش في مدينة اللاذقية الساحلية السورية، وكان ذلك الشاعر شديد التعلق بأهل البيت عليهم السلام جميعا وعلى رأسهم الإمام

ص: 196


1- حليم دموس، الدم الزكي، راجع مجلة (الموسم العدد /12، المجلد 3، مصدر سابق ص387)
2- علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص314

الحسين عليه السلام .

إنه الشاعر (إدوار مرقص)الذي أسلفنا الحديث عنه في صفحات سابقة من هذا

الكتاب، فللأديب (مرقص) لغته الخاصة وأسلوبه المميز في الحديث عن أبي الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، ولملحمة كربلاء بالنسبة لذاك الشاعر المسكون الفؤاد بهاجس حب الحسين وأهله عليهم السلام مكانة في شعره لا تدانيها مكانة حادثة أخرى في التاريخ.

فملحمة كربلاء بالنسبة إليه هي ملحمة الفضائل الثائرة على كل النقائص والرذائل المتجلية في يزيد وأعوانه الذين لا يعدو كونهم أكثر من تجسدات حية للشيطان على أرض الواقع.

وعلى كل حال، فقد ذكرنا سابقا العديد من الأبيات الشعرية لهذا الشاعر المسيحي عن كربلاء وعن بطلها الإمام الحسين عليه السلام، وها نحن نعود ثانية إليه كي نذكر له المزيد من الأبيات الشعرية التي تعتبر من عيون الأدب العربي الشعري الذي يتناول مسألة الكرامة والشهادة التي سطر مبادئها العامة شهيد الإنسانية الإمام الحسين عليه السلام.

وها هو يتحدث عن شهداء کربلاء وعن غاية النهج الاستشهادي الذي رسمه

الإمام الحسين عليه السلام لأهله الأبرار ولصحبه الأخيار، فيقول:

یاغرة الشهداء من عليائها *** لوحي عليهم كالضياء العاقد

موسومة بدم الشهادة فهي لا *** تنفك تدمي مثل زند الفاصد

کیما يسيروا في الحياة بنهجه *** لا يخضعون لغاصب ومعاند(1)

ص: 197


1- أ. جواد شبر، أدب الطف، مصدر سابق ج10 ص43. ب. علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين، مصدر سابق ص305.

إذن، فالمسيرة الاستشهادية للإمام الحسين عليه السلام هي صرخة في وجه الموت،

فالحسين عليه السلام لم يخرج بأهله وعياله كي يكون فريسة سهلة بين أنياب الموت، بل خرج بهم ليهاجم الموت والفناء، وليثبت للعالم وللتاريخ أن إيمانه بالله وصبره على قضاء وحكم الله أقوى وأعمق من كل النوائب وعظائم الابتلاء.

فالإمام الحسين عليه السلام خرج بأعز وأغلى ما يملك ليقول للموت: أيها الموت لن تكون أنت الطريق إلى فنائي، بل ستكون أنت - ورغما عنك - السبيل إلى بقائي، وإذا

ذكرنا أنا وأنت في مجلس ما، في مكان ما، في زمان ما، سأكون أنا الأقوى والأبقى، فالعالم كله سيذكرني وسيذكر مواقفي ومبادئي وتضحياتي وإيماني وصبري، أما أنت أيها الموت، یا عقدة الضعفاء والمستكينين، ويا هم وخوف الجبناء والطغاة، فإنك ستتصاغر أمامي وأمام ذكري، بل إنك ستنهزم عند ذكري مثلما ينهزم الليل البهيم أمام طلائع الفجر المنير.

أما الدكتور الأديب (عبد المسيح محفوظ)، وهو من مسيحيي بلدة (جديدة مرجعيون) في جنوب لبنان، فيصور مشاهد كربلاء الدامية في العديد من الأبيات الشعرية الصادقة حتى يظن الذي يسمعها أنها أنشدت من شاعر شيعي مخلص أثقلته هموم الطف وأثخنت ضميره جراح الفاجعة، فأثارت فيه تلك المشاعر الفياضة مكامن العبقرية الشعرية الوقادة فانطلق يصور في قصائده أحداث تلك الملحمة الحسينية وكأنه عايشها عن قرب بكل تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة.

وها نحن نوجز ذكر بعض الأبيات من إحدى قصائده التي تتحدث عن أهوال

وآلام تلك الفاجعة التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام وبأتباعهم الأوفياء المخلصين .

يقول ذلك الشاعر المسيحي في مطلع قصيدته:

ص: 198

ضجت الأرض من عجيج الضوامر *** والتظى الأفق من وميض البواتر

واعترى الشمس كسفة فإذا الجو *** قتام وحاجب الضوء حائر

جحفل أزعج الفضاء بمسراه *** وأدمى الثرى بصدم الحوافر

وبعد هذه المقدمة الوصفية، يعرج الشاعر على ذكر العديد من النقاط البارزة في أحداث الملحمة وتفاصيل المعركة، ومن جملة تلك النقاط البارزة التي يعرج عليها الشاعر قصة رأس سيدنا الحسين عليه السلام يوم تهادی به الأعداء من بلد إلى بلد، وكان أكثر المشاهد استثارة لضمير ووجدان ذلك الشاعر المسيحي مشهد مبيت الجند الذين يحملون الرأس الشريف معهم لدى أحد الأديرة المسيحية، ومن المحتمل أن يكون ذلك الدير - كما يقول الأستاذ محمد سعيد الطريحي في دراسته للقصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها الآن - هو (دیر حنا) في مدينة النجف الأشرف.

وحينذاك يرى راهب الدير نورا ينطلق عاليا من الرأس الكريم فيهب مسرعا إلى احتضان الرأس وإكرامه، وفي بعض الروايات أن الراهب كان فنانا وساما فرسمه بيده واحتفظ بتلك الصورة كأيقونة مقدسة، وهكذا تمر تلك الصور المؤثرة في ذهنية شاعرنا (عبد المسيح محفوظ) فيصف تلك المشاهد المتزاحمة بقوله:

أي رأس أقصوه عن جسمك الطهر *** وساروا به علی کل ضامر

بین هزج الحداة في نشوة النصر *** وخفق الظبا وهزج العساکر

أترى عرش قيصر حملوه *** ليزيد حين تدق البشائر !!

أم رؤوسا يصدع الصخر مرآها *** فيضني الحشا ويدمي المرائر؟!

وهنا ينتقل الشاعر إلى قصة الراهب المسيحي مع رأس الحسين عليه السلام المقطوع،

فيقول متابعا في قصيدته مشيرا إلى تلك القصة المؤثرة:

ص: 199

فهنيئا لراهب أكرم الضيف *** وآوی رأس الغريب المسافر

ليتهم يرتضون عنه فداء *** لافتداه بماله والنواظر

ذاك صوت السماء في أذن *** القلب المدمى على اختلاف المشاعر

وفي الحقيقة، فإن الأديب الشاعر (عبد المسيح محفوظ) لم يعرج على قصة الراهب مع الرأس المقطوع للإمام الحسين عليه السلام إلا ليدل على مدى ما بلغته واقعة الطف من التعاطف في الأوساط المسيحية عموما، خاصة وأن الآلام الرهيبة التي تعرض لها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته من النساء والأطفال تذكرهم - ولو بشكل جزئی ۔ بالآلام العظيمة التي ذاقها السيد المسيح عليه السلام على أيدي الكفار والظالمين.

فالحسين الشهيد عليه السلام حي باق إلى الأبد في ضمير الإنسان، أيا كان دينه ومذهبه، وهذا ما أراد الأديب الشاعر (عبد المسيح محفوظ) قوله بالضبط وهو يختتم قصيدته الغراء المذكورة، فيقول في نهايتها موجها نداءه إلى الإمام الحسين عليه السلام الذي كان يرى فيه صورة ونهج السيد المسيح عليه السلام :

خذ نشيد الأسى يوقعه القلب *** لتصوير ماتكن الضمائر

خلجات النفوس يقطرها الوجد *** ويذكي لهيبها في الخواطر

فاسلت الفؤاد بین القوافي *** وأحر الدموع دمعة شاعر(1)

وغير بعيد عن هذا الحزن الكربلائي العميق المتشح بوشاح الألم المنسوج بخيوط الآهات والدموع المسفوحة على ما حل بالسيد المسيح عليه السلام ، هناك آهات ودموع مسيحية تسفح كل يوم على ما أصاب شبية عيسى ابن مريم العذراء عليها السلام ، الإمام الحسين بن علي وفاطمة الزهراء علیهما السلام.

ص: 200


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص. 706

ولنقرأ الآن هذين البيتين للشاعر المسيحي (سليمان بن إبراهيم الصولة) المتوفى في القاهرة سنة (1899م)، وليحذر القارئ من أن تحرقه آهات هذا الشاعر المسيحي الذي - والله أعلم - لو كان حاضرا وشاهدا على ما حدث في موقعة كربلاء لما تردد لحظة واحدة عن الانخراط في جيش الإمام الحسين عليه السلام والقتال معه وتحت رايته إلى أن يسلم الروح بين يديه ويلقى الله بقلب سليم

وها هو يقول بلغة سرمدية الحزن:

إن لم تسل منا العيون ففي الحشا *** مهج يفتت نوحهن الجندلا

لافارق الكرب المؤبد والبلا *** من لا ينوح على الشهيد بكربلا(1)

وغني عن القول إن هناك عشرات القصائد التي نسجتها أقلام الشعراء المسيحيين بمداد الصدق والحب والوفاء للإمام الحسين عليه السلام وللتضحيات الجليلة التي قدمها بسخاء وبنبل أخلاق عالية على مذبح الكرامة الإنسانية والكلمة السماوية، ولكن الشيء الدائم الذی يمنعنا من ذكر وإيراد كل تلك القصائد هو الملل الذي يمكن أن يتسلل خلسة إلى نفوس القراء الكرام.

وعلى كل حال، دعونا نكمل رحلتنا الكربلائية في عالم الشعر والشعراء، ودعونا ننتقل من شاعر إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، حسب ما تقتضيه الخطة الموضوعة لعرض أفكار هذا الفصل الشعري من الكتاب مع التذكير، للمرة الثانية، أن ترتیب ذکر الشعراء، من حيث البلد الذي ينتمون إليه أو الدين الذي يعتنقونه، ليس مهما، وإنما المهم هو نقل الفكرة ذاتها إلى القارئ الكريم.

ولذلك، سنحط رحالنا الآن في واحة الأديب والكاتب الدكتور (عبد الله

ص: 201


1- نفس المصدر السابق ص7

الطيب)، فمن المعروف عن هذا الأديب الدكتور هو أنه واحد من كبار أدباء القطر العربي السوداني، له العديد من الآثار الأدبية والفكرية المتنوعة، ومن جملة تلك الآثار الأدبية، تلك القصيدة الشعرية القوية والتي تحمل عنوان (وقفة مع الحسين)، وقد نظمها الشاعر بمناسبة زيارته لكربلاء المقدسة عام 1387 ه-. 1968م.

ويرى هذا الشاعر والأديب السوداني أن مجرد الوقوف على أرض کربلاء المقدسة يجعل أحاسيس المرء تتفجر ألما وحسرة على الإمام الشهيد عليه السلام الذي قتل ظلما وعطشا على شط الفرات وسط رياح السموم الحارة دون معين ولا نصير.

وليس هذا فحسب، بل يرى الشاعر (الطيب) أيضا أن المسألة لا تتوقف عند حدود الإمام الحسين عليه السلام ، بل إنها تتجاوزه وصولا إلى الله تعالى، فجیش یزید الأموي لم يكن هدفه النيل من الحركة الحسينية فقط، ولم تكن غايته مجرد قتل الإمام الحسين عليه السلام واجتثاث مبادئه، بل كان هدف جيش يزيد الأساسي إطفاء نور رسالة الإسلام من جهة، وقتل الإله ذاته - جل وعلا عن التشبيه - فيما لو أنه تجسد مدافعا عن رسالته في الأرض.

وها هو الشاعر (الطيب) يعبر عن هذه الأفكار في قصيدته (وقفة مع الحسين) قائلا: وقفت بكربلاء فسال دمعي *** على السبط المحلا في السموم

وقد دلفت قنا مضر إليه *** صوادي وهو كالنسک العظيم

إذا جسد الإله دنافويل *** له من منطق البشر السؤوم(1)

وبالطبع، فليست هذه الأبيات إلا باقة من كامل القصيدة، ولكن لم نر ضرورة

ص: 202


1- راجع القصيدة في مجلة (الموسم)، العدد /12، المجلد /3/ مصدر سابق ص390

لذكر بقية الأبيات الأخرى التي تتشابه في مضمونها مع الكثير من القصائد التي سنذكرها لاحقا لبقية الشعراء، وقد اكتفينا الآن بذكر الأبيات المميزة منها، وبشكل خاص ذلك البيت الذي يؤكد الشاعر من خلاله على أن أهل الباطل من البشر هم على استعداد تام للتخلص حتى من الإله ذاته إذا تعارضت مبادئه وتعاليمه مع مصالحهم و منطقهم السقيم ومع رؤاهم الأنانية الضيقة.

ولذلك، فقد صدق وأصاب الأديب والشاعر (خالد علي مصطفى) عندما كتب قائلا عن العلاقة الضدية بين نهج الإمام الحسين عليه السلام وبين أهل الباطل الذين أرادوا أن يستنزفوا الرسالة الإسلامية من محتواها الأخلاقي والروحي، فقال:

(ولما كانت تجربة الحسين غنية بالإيحاءات في مجالي الإحساس والفكر على حد سواء، فإنها ما زالت تفرض نفسها على الإنسان الشاعر، فهي، من حيث دلالتها، ذات بعد ثوري استهدفت تعديل (الخط الخاطئ) الذي وقع فيه العالم الإسلامي إثر استلام الأمويين للحكم، أما من حيث أخلاقيتها، فقد ثبتت قيمة عالية في الممارسة الفعلية لوضع الهدف موضع التحقيق، إن تجربة الحسين ربطت الوعي والممارسة، والنتيجة هو هذا الدم الفادي الذي أراد أن ينقذ، ومن هنا يظهر أن المأساة في تجربة الحسين هي المحصلة بين عظمة الفعل ونتيجته الدامية)(1)

ويرى هذا الأديب الشاعر من خلال قصيدته (ملاح الصحراء) والتي هي إحدى قصائد مجموعته الشعرية (موتي على لائحة الانتظار)، أن الإمام الحسين عليه السلام کان أقوى بإيمانه ويقينه من الفناء والممات، ولكنه كان بنفس الوقت أيضا أرق بمبادئه

ص: 203


1- خالد علي مصطفى، البعد الثوري لتجربة الحسين، راجع مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص307.

وأخلاقه من الماء الفرات، فالحسين عليه السلام ليس فقط (ملاح الصحراء)، بل هو في حقيقته غيث الصحراء وفراتها.

ولابأس الآن في أن نذكر شيئا يسيرا مما جاء في قصيدته (ملاح الصحراء) يقول

الشاعر في أحد مقاطع قصيدته المذكورة:

هلم اعطني السيف لم يبق لي غير هذا الزمن

ألم الثواني على مقلتيه

من الشام حتى المدينة:

تجمهر بينهما الناس، كل يحدث عن رحلة السبط يبكي عليه.

هلم اعطني ساعة من ضلوع الدمن

أعلقها فوق صدري لتنبئ بالصاعقة

رسمت حديقة بيتي على جبهتي

أين ماء الفرات يمسد أحجارها العاشقة؟

ويقول الشاعر في مقطع آخر من هذه القصيدة التي تفيض بالإشارات والرموز

الكثيرة التي تحتاج إلى صفحات عديدة من الدراسة والتحليل:

خطانا ممالك فوق الرمال

تبيت بها الريح کاهنة، أين درب الشمال؟

(سطیح) تشبث بالباب يحبس صوت النبوءة

ويطفئ مصباحه عن جفون السبايا البريئة

أخي لم يعد بالكؤوس المليئة:

ص: 204

جرار المدينة يشخب فيها نجيع الخطيئة(1)

وربما عظمة الحدث هي التي دفعت الشاعر للقول والتأكيد على أن الشعر بكل مقوماته وبكل وسائطه الفنية سيبقى عاجزا عن إعطاء تجربة الحسين عليه السلام الثورية حقها من الوصف والتقييم، فالإحاطة بمثل هذه التجربة لا يمكن تحقيقها عن طريق القصيدة، وإنما تحتاج إلى عمل (درامي ) يتحرك فيه الواقع والشخوص بحرية لكي تستطيع التجربة أن تأخذ مداها التاريخي وانعكاساتها الواقعية.

وعلى ما يبدو فإن الداعية والشاعر السعودي (عائض القرني) لا يبتعد كثيرا في رأيه عن رأي الأديب والشاعر (خالد علي مصطفی) حول مسألة إعطاء ملحمة كربلاء حقها من الوصف والتقدير من خلال الكلمة الشعرية.

ولكن، وبالرغم من ذلك، فإن هذه الحقيقة لم تمنع ذلك الأديب والداعية الوهابي (عائض القرني) من تدوین بعض أحداث تلك الملحمة الحسينية في قصائده الشعرية .

نعم، إن الأبيات الشعرية التي يتحدث فيها عن ملحمة كربلاء قليلة نسبيا، ولكن ذلك لا يعني أنه لم يتأثر روحا وفكرا بنهج الحسين عليه السلام وبأهداف نهضته التي ما قامت إلا لإحياء معالم دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم

وها هو ذلك الداعية (الوهابي) ينقل لنا شيئا من مشاعره الجياشة الدفينة، فيقول

ناظما ونادبا بأسلوب شعري شجي:

لنا كربلاء المجد ذكرى عزيزة *** يجددها قلب ورأس ومعصم

وروح بها يطهر الطهر كله *** وعزم تهاب الأسد منه وتهزم

ص: 205


1- نفس المصدر السابق ص310

أما ذكروا فيه النبي فأغمدوا *** سيوفا وخافوا الله فيه فأحجموا؟ !

ولو نطقت تلك الرماح لؤلؤلت *** عليه، ولكن هل رماح تكلم؟!

وأبكيه في شوق وأكتم لوعتي *** أكل سنين العمر أبكي وأكتم؟!

إلى الله أشكو ما أصاب جوانحي *** ولكن بأمر الله راض مسلم(1)

وهنا أريد أن أقف قليلا عند البيت الشعري الذي يقول فيه الشاعر:

ولو نطقت تلك الرماح لؤلؤلت *** عليه، ولكن هل رماح تكلم؟!

وما وقوفي عند هذا البيت الشعري تحديدا إلا لأتساءل:

هل هذه الصورة الشعرية الفنية هي من الإبداعات الأدبية الخاصة بالأديب والشاعر (عائض القرني) أم أنه استوحاها من مصدر شعری آخر؟!

في الحقيقة، وجدت بعد الدراسة والتحليل، أن الداعية والشاعر السعودي (القرني) قد تأثر أسلوبه الشعري بأسلوب شعر الإمام (محمد بن إدريس الشافعي)، إمام أحد المذاهب السنية الأربعة المعروفة.

ومن المعروف تماما أن للإمام الشافعي ديوانا شعريا مليئا بالحكم والمواعظ والمدائح والمراثي المؤثرة، ويعتبر دیوانه على صغر حجمه، عينا من عيون الأدب العربي الرفيع.

وبإمكان القارئ العودة إلى ذلك الديوان الشعري والاطلاع عليه عن كثب بهدف

الاستمتاع بقراءته والاستفادة من مواعظه و حکمه

وبالطبع، لسنا هنا في مجال إجراء مقارنة أدبية بين قصائد (عائض القرني)

ص: 206


1- راجع قصيدة (أنا سني حسيني) للداعية والأديب الشاعر (عائض القرني) في جريدة (الحياة)، العدد / 16077/ بتاريخ 1نيسان 2007، ص17.

وقصائد (الإمام الشافعي) الواردة في ديوانه، ولكن لا بأس في أن أذكر شيئا من قصيدة کنت قد ذكرت قسما منها في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب وذلك من أجل أن يقارن القارئ الكريم نفسه بين الأسلوبين وبين الصور الفنية المتنوعة الواردة عند كل من (القرني) و (الشافعي).

يقول (الشافعي محمد بن إدريس) واصفا حزنه على مصاب الحسين عليه السلام :

تأوب همي والفؤاد كئيب *** وأرق نومي والرقاد غریب

وممانفی همي وشيب لمتي *** تصاريف أيام لهن خطوب

وبعد ذلك ينتقل (الإمام الشافعي) لتقديم الصور الفنية المميزة التي تذكرنا

بالفعل بالصور المماثلة لها والتي وردت في أبيات الشاعر (القرني) السالفة الذكر.

وها هو يتابع قائلا وواصفا حزن كل مفردات الوجود على سيد الشهداء علیه السلام : وللسيف أعوال وللرمح رنة *** وللخيل من بعد الصهيل نحيب

وغارت نجوم واقشعرت كواكب *** وهتك أستار وشق جيوب(1)

وأعتقد، بشكل شخصي، أن نظرة واحدة سريعة على أسلوب القصيدتين وعلى

الصور الفنية والبلاغية الواردة فيهما ستبین لنا عمق تأثر الداعية والشاعر(عائض القرني) بأسلوب (الإمام الشافعي) الشعري مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوصول إلى هذه النتيجة الحتمية يستلزم عدم الوقوف عند مجرد إجراء مقارنة بين قصيدتين فقط، بل إن الأمانة العلمية والدقة الفكرية تستدعي أن تكون الدراسة أكثر شمولا وأعمق تحليلا.

وبما أن هذا ليس مجال اهتمامنا الآن، دعونا إذن ننتقل إلى شاعر جديد وإلى

ص: 207


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص 365

حصاد جديد من بيادر الإمام الحسين عليه السلام .

نعم، سنمضي الآن إلى شاعر جديد ولكن ليس قبل أن نجيب على سؤال قد يطرحه القارئ على نفسه أو علينا، وهو سؤال يتعلق بالشاعر الوهابي (عائض القرني) الذي كنا في زيارته منذ قليل.

والسؤال المفترض طرحه هو:

كيف يمكن لشاعر وهابي أن يمتدح الإمام الحسين عليه السلام بهذا الشكل الرائع على الرغم من أن مذهب الوهابية على شقاق عميق جدا مع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكيف نفسر هذا؟!

والجواب هو:

نعم، إن المذهب الوهابي ليس فقط على شقاق كبير مع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل إنه يناصبه العداء الواضح بشكل أو بآخر، ولكن وبالرغم من كل ذلك، فإن مأساة الإمام الحسين عليه السلام وأخلاقه ومبادئه هي التي أرغمت الجميع، بما في ذلك أعداءه، على احترامه وتقديره وإحياء معالم نهضته.

ويكفي أن نقول هنا إن الشيخ (ابن تيمية)، ذلك الشيخ الذي تأسست الحركة الوهابية على أنقاض تعاليمه، كان له رأيه الواضح والحاسم بشأن فاجعة كربلاء وما حل بالإمام الحسين وأهله وعياله عليهم السلام .

وقد ذكر العلامة الهندي (أبو الحسن علي الندوي)، السني المذهب، رأي الشيخ (ابن تيمية) في بحث له بعنوان (الحسين وكارثة كربلاء)، وكان من جملة ما قاله في بحثه المذكور: (قال شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية في حديث جرى بينه وبين مقدم المغول (بولائي) لما قدم دمشق في الفتنة الكبيرة

ص: 208

(أما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا)(1).

فإذا كان هذا هو قول (ابن تيمية) ورأيه، فهل - بعد هذا - نستغرب مما قاله الشاعر

(عائض القرني)، الوهابي، بالإمام الحسين عليه السلام ، (مصباح الهدى وسفينة النجاة)؟! وعلى كل حال، دعونا ننتقل الآن إلى واحة شعرية جديدة كي نتزود منها ببعض المتعة والفائدة، وفي الحقيقة، فإن محطتنا التالية ليست مع شاعر، وإنما هي في واقع الأمر مع فقيه وأديب أكثر مما هي مع شاعر محترف لصناعة الشعر.

ولكن، ومع ذلك، فإن لهذا الفقيه والأديب قصائد رائعة تؤكد لقارئها أن ناظمها لديه من القريحة الشعرية المتميزة ما يجعله يصنف بين أفضل وأفصح الشعراء المعاصرين.

إن محطتنا الآن هي محطة هامة مع العلامة والأديب (عبد الله العلايلي) الذي سبق وأن عرفنا القارئ عليه وعلى هويته الدينية وعلى بعض مؤلفاته الفكرية والتي كان من أهمها كتابه (الإمام الحسين).

وكما أن العلامة (العلايلي) لم يبخل بالكتابة النثرية عن الإمام الحسين عليه السلام ، فكذلك لم يبخل بالكتابة الشعرية عنه أيضا، وكان من أهم ما كتبه شعرا عن الإمام الحسين عليه السلام قصيدتان بعنوان (ذكرى الحسين) و(دمعة سني على الحسين).

ومهما يكن من أمر، دعونا نستعرض الآن بعضا من الأبيات المميزة الواردة في

ص: 209


1- أبو الحسن علي الندوي، الحسين وكارثة كربلاء، راجع مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص68. وقد نقل العلامة (الندوي) هذا الحديث عن (ابن تيمية) من كتاب (فتاوی ابن تيمية) المطبوع في الرياض بطبعته الأولى عام / 1381ه-، الجزء الرابع ص487

القصيدة الأولى والتي تحمل عنوان (ذكرى الحسین).

يقول الأستاذ (العلايلي) في القصيدة المذكورة واصفا سيد الشهداء علیه السلام :

عرى الدين من أحلاس شر وفتنة *** دواهي طغت وازور من وقعها الهدی

فهاج إمام الحق من كل وجهة *** وهاج إمام الدين من كل منتحی

فما قر في وجه المظلوم وما التوى *** على مرة الظلام أو شدة الهوى

أرادوا به ذلا فكان جوابه *** زئيرا کليث الغاب حفز للشری

سری جاهدا يستندب الروع بغية *** كأن الردي في الذل والعيش في الردی

إلى أن يتابع قائلا:

فياكربلا، کهف الإباء مجسما *** ویاکربلا، کهف البطولة والعلا

ویاکربلا، قد حزت نفسا نبيلة *** وصيرت بعد اليوم رمزا إلى السما

ویاکربلا، قد حزت مجدآ مؤثلا *** وحزت فخارا ينقضي دونه المدی

فخار لعمري سطرته ضحية *** فكان لمعنى المجد أعظم مجتلى

فللمسلم الأسمی شعار مقدس *** هما قبلتان للصلاة وللإبا

وربما كانت أقوى وأجمل الأبيات الواردة في قصيدة (ذكرى الحسين) هي هذه الأبيات التي يصور فيها الأديب والعلامة (العلايلي) لسان حال الإمام الحسين عليه السلام وهو يقدم الشهيد من أهله تلو الشهيد:

أقدم ولدي والأسنة شرع *** وأستعذب الموت الزؤام لهم رضی

أقدم من قرباي قربان فدية *** حفاظا لدين الله أن يرمي بالدنی

أقدم رأسي شاخبا بدمائه *** على أن أمد الكف للذل والخنا

ص: 210

ولو أن أهلي قطعوا إربا على *** الحاظي، کلا، لا أحول عن الخطی(1)

والآن، أصبح بإمكاننا الانتقال إلى القصيدة الثانية والتي تحمل عنوان (دمعة سنى علی الحسين عليه السلام)، وبالطبع، فإن هذا العنوان المؤثر يذكرنا بعنوان قصيدة (عائض القرني) السابقة (أنا سني حسيني).

يقول العلامة (العلايلي) فيها:

نحيي مثالا أجاب الندا *** فكان فيداء کرمز الحرم

أجاب وياروعة للجوا *** ب إذا قال مرحي بسكنى الرجم

وفيه افتداء حقوق غدت *** تئن بليل إذامااعترم

وفيه نداء يفل قوی *** ظلوم غشوم إذا ما احتكم

وفيه هزيم كصوت الرعو *** دویوم الحقيقة يوم حسم

ويتابع (العلايلي) في قصيدته قائلا:

ويذكي شعورا يخيف الظلو *** م ويحمي الحقوق فلا تنهضم

ألا إنما بالدما وحدها *** يرد اعتداء عدو خصم(2)

ألا تذكرنا هذه الأبيات الشعرية الواردة في القصيدتين المذكورتين، وبشكل

خاص، البيت الذي يقول الشاعر (العلايلي) فيه واصفا حال الحسين عليه السلام:

ولو أن أهلي قطعوا إربا على *** الحاظي، كلا، لا أحول عن الخطی

ألا يذكرنا هذا البيت الشعري بعبارة الأديب والمفكر (عباس محمود العقاد) التي يقول فيها: (فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة

ص: 211


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص108
2- نفس المصدر السابق ص110

وقدرة وذكرة... وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيدأبو الشهداء فيمئات السنين...)(1)؟!

ولو انتقلنا الآن إلى واحة جديدة من واحات الشعر الوارفة الظلال، فأين عسانا

نلقي برحالنا؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نلقي برحالنا في واحة الأديب والشاعر المسيحي السوري (غسان حنا)، الذي سبق وأن عرفنا القارئ الكريم عليه وعلى بعض مؤلفاته الأدبية المتنوعة، وستكون استراحتنا الآن مع مجموعته الشعرية الأكثر تألقا بين مجموعاته ودواوينه الشعرية الأخرى، إنها مجموعته (أبجدية التجلي) التي تميل بطبيعة أشعارها إلى البحث عن هوية الشاعر الفكرية والروحية، وإلى البحث أيضا عن معاني الوجود وعن قيمة التاريخ وحقيقته وحقيقة رجاله واستحقاقاتهم فيه.

لقد رأينا في أحد الفصول السابقة كيف أن الشاعر قد أعطى معاوية بن أبي سفيان حقه من التقييم والنقد الصريحين، وكيف أنه قد اعتبره محنة الإسلام وداء المسلمين، أما الآن فسوف نتعرف على وجهة نظره تجاه الإمام الحسين عليه السلام وتجاه ما حدث له في أرض كربلاء

ولنستمع إليه الآن وهو يقول في قصيدته التي تحمل عنوان (الحسين بن علي):

رأس الحسين... هوی

لو أني شاهد

لمددت قلبي...

فالفؤاد إناء

ص: 212


1- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص176

أو ... ربما... جانبت عن تقبيله

خوفا بأن... تتلاحم الأجزاء

.....

ما کربلاء

سوى الجريمة ذاتها

الحاكم السفاح والأمناء(1)

ولما سألت الشاعر الصديق (حنا) عن معنى وسبب خوفه من تلاحم أجزاء الحسين عليه السلام المتقطعة، فأجابني بكل تأثر: نعم، أنا أخاف أن تعود أوصاله المقطعة إلى التلاحم من جديد، إنني أخاف حدوث ذلك لأن كل يزيد يعيش في عصرنا هذا سوف يعود إلى قتل الإمام الحسين عليه السلام من جديد وسوف يعود إلى تمزيقه مرة أخرى، ولهذا السبب فأنا لا أريد أن يعاني الإمام الحسين عليه السلام من أجل الإنسانية أكثر مما عاناه.

وهكذا نرى أن هناك عمقا فكريا في الصورة الشعرية التي يرسمها هذا الشاعر المسيحي (غسان حنا)، إن ديانته المسيحية لم تمنعه من أن يحول قلبه النابض بالحب والحياة إلى وعاء رحب ليستقبل الحسين ورأس الحسين عليه السلام ويمنعه من السقوط على رمال كربلاء الحارقة، إنه يتمنى لو كان شاهدا حيا وقتذاك ليفعل ما أراد فعله بالرأس الشريف من تقدير وتوقير، إنه ضمير مسيحي ينبض بحب الحسين عليه السلام .

وبحكم المعرفة الشخصية المباشرة التي تربطني بهذا الشاعر المسيحي المولود في نفس المدينة التي ولدت فيها أنا، مدينة اللاذقية، كانت تدور بينناالعديد من

ص: 213


1- غسان حنا، أبجدية التجلي، مصدر سابق ص202.

المناقشات والحوارات الفكرية والأدبية العامة، مع التركيز على القضايا الشعرية الحديثة وعلى علاقة الشعر المعاصر بالحياة وبأثمن مفرداتها وأغلاها قيمة كمفهوم (الإنسان) و (الحرية) و (الحب) و (الجمال) و(الخير) و (الفضيلة) و (الروح).

وأذكر أن ذلك الشاعر الشقاف (حنا) كان يزين أحاديثه بالكثير من الأحاديث الشريفة الواردة عن السيد المسيح عليه السلام وعن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وكان يستفيض أيضا في توجيه الحوار والنقاش الدائر بيننا وذلك من خلال الاستشهاد بما تحفظ ذاكرته القوية من آيات قرآنية وأحاديث كثيرة واردة عن الإمام علي عليه السلام وعن بقية أهل بيت النبوة عليهم السلام.

وكان ما يدهشني في حديثه عن تاريخ العرب والمسلمين هو قدرته على استرجاع الكثير من الحوادث التاريخية الهامة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب،وإن كنت أنسى شيئا، فإنني لن أنسى ذلك الحديث المطول الذي دار بيننا، وبوجود عدد من الأصدقاء، حول الإمام الحسين عليه السلام وما حدث معه في كربلاء.

فقد كان حديثا شجيا مؤثرا يبعث في النفس الكثير من المشاعر المختلفة من حزن وعنفوان، ألم وصبر، انکسار في القلب وسمو في الفكر، لقد كان حديثا مطولا اختلطت فيه العبر بالعبرات.

وكان من أبرز النقاط التي دارت في نهاية ذلك الحوار المشبع تماما بالآهات والآلام، بالعزة والكبرياء والآمال، هي تلك النقطة التي جعلتني أشكره على مداخلة قام بها قبل شهر من لقائنا وحوارنا، حيث قام بمداخلة هاتفية على قناة المنار الفضائية التي كانت تقدم وقتها برنامجا خاصا عن ذكرى عاشوراء.

وكان من جملة ما قاله الأستاذ الشاعر (حنا) في تلك المداخلة الهاتفية التي تعود

ص: 214

بنا عشر سنوات للوراء.

- أتمنى من الإخوة المسلمين الشيعة أن يدركوا أن الإمام الحسين عليه السلام ليس لهم فقط، بل هو لنا أيضا، فالإمام الحسين عليه السلام للجميع من مسلمين وغير مسلمين، فالحسين عليه السلام لكل إنسان، وعلى المسلمين الشيعة أن يعلموا أيضا أن كربلاء إرث عام لنا جميعا، إنها تراث لكل الإنسانية، ونحن حملتها وورثتها، وعلينا جميعا أن تحافظ على هذا التراث الخالد العظيم.

وعندما ذكر الأستاذ (حنا) بهذه العبارات القلبية النقية الصادقة التي قالها عبر تلك المداخلة الهاتفية على شاشة التلفزيون، ابتسم بهدوء، ونظر إلي بعينين حزینتین وقال:

- أيها العزيز، هذا أبسط ما يمكن أن يقال بحق الإمام الحسين عليه السلام .

فللحسین دین کبیر عندنا، ولدمه الغالي حق عظيم على أقلامنا.

وقبل أن ينقض المجلس ويذهب كل منا إلى حال سبيله، أخبرته عن عزمي على تأليف كتاب ضخم عن الحسين عليه السلام وفاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث، فاستحسن الفكرة جدا ورحب بخطوط العمل العريضة التي أخبرته عنها، ثم قام بعد ذلك بإعطائي بعض التوجيهات والنصائح التي من شأنها أن ترفع من قيمة العمل الفكرية والفنية.

وإذا كان صديقنا الشاعر المسيحي (غسان حنا) قد كتب بعض القصائد عن الإمام علي عليه السلام وعن سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام، منطلقا في ذلك من إيمانه العميق بأن للحسین علیه السلام دینا كبيرا عنده، وأن لدمه المطلول ظلما حقا عظيما على قلمه، فإن هناك عددا من الشعراء المسيحيين الذين لم يكتفوا بكتابة بعض القصائد عن

ص: 215

الإمام الحسين عليه السلام أو عن بقية أفراد أهل البيت المحمدي عليهم السلام، بل راحوا ينظمون القصيدة تلو القصيدة، ويكتبون الديوان تلو الديوان عن مآثر الحسين عليه السلام وفضائله وعن فضائل عموم أهل البيت عليهم السلام

وها هو الأديب الشاعر (جورج شكور)، الذي أسلفنا ذكره في أحد الفصول السابقة، لم يكتف بكتابة بعض الأبيات عن ملحمة كربلاء وعن بطل أحداثها الإمام الحسين عليه السلام ، بل کتب دیوانا شعریا کاملا أسماه (ملحمة الحسين) وقدذكر فيه الكثير من الحقائق عن أهل البيت عليهم السلام وعن محامد خصال الحسين عليه السلام ومآثره الخالدة في كربلاء وأثر ذلك في إحياء رسالة الإسلام وخلود تعاليمها ومبادئها الإنسانية من جديد. .

وقد اعتبر الناقد والأديب المسيحي (مروان شمعون) هذه الملحمة الشعرية، (ملحمة الحسين)، ملحمة عظيمة من حيث الأفكار والبنية والتركيب.

فهي - كما يقول الأستاذ (شمعون) - ملحمة قادرة على أخذ القارئ إلى عوالم رائعة شبيهة بعالم (عبقر)، بل إن قراءتها المتروية والتأمل في بنيانها الشعري وفي محتواها الأخلاقي والبطولي والفكري ينقل القارئ إلى حضرة الملاحم العالمية الخالدة، تلك الملاحم البطولية التي تمثل طموح الشعوب الحية الشابة فتربط (الحاضر بالماضي، وتساعد على يقظة الوعي في الجماعات، وعلى تقوية إحساسها بالديمومة زمنيا ومكانيا، على أنه يفرض فيها تقادم الزمن على مضمون الحكاية لتتیسر تحليتها بالإعجاز والإغراب، فیزخرفها القدم، ويضفي عليها جوا من السحر العجيب(1)

ص: 216


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، الأستاذ الناقد (مروان شمعون) في نهاية الملحمة ص 41.

يويمكننا الآن أن نتوقف هنا قليلا لنقتطف بعض الأبيات الشعرية من (ملحمة الحسين)، وتحديدا تلك الأبيات التي يخاطب الشاعر فيها الإمام الحسين عليه السلام قائلا:

زين الشباب، لکم تهواك أشعار *** وفيك تحلو أحاديث وأسمار

ضجت لهيبتك الصحراء مجفلة *** كأنما هب في الصحراء إعصار

لكن هويت، وما في الأفق كوكبة *** إلا عليك بکت، والدمع مدرار

قد جذ راسک بالأسياف، واقتطعت *** رؤوس قومك، قلب الحقد قهار

ياويحهن على الأرماح، دامية *** تخالها النخل، لاحت منه أثمار(1)

وربما كان أجمل ما جاء في هذه الملحمة الشعرية، هو ذلك الوصف الشعري الرائع لموقف السيدة زينب عليها السلام من يزيد النكيد، حيث صاغ الشاعر المسيحي (شکور) جواب السيدة زينب علیها السلام شعرا، فقال مصورا ردها على يزيد:

تكيد کيدك، تسعى السعي مزدهيا *** وحول عنقك كالحيات أوزار

تشري الضمائر، لكن ظل مذکرا *** لاتنسها، ما لأهل البيت أسعار

لالن تميت لنا وحیأ ولا نسبأ *** باق لنا في قلوب الحب تذكار

نهز عرشك في الجلی نزلزله *** لنا النعيم، لك الويلات والنار(2)

وهنا أريد أن أضع نفسي موضع القارئ، لا موضع الكاتب والباحث، لأطرح هذا

السؤال عن مكانة الإمام الحسين عليه السلام في ضمير الأديان:

لقد عرفنا أن هناك الكثير من الأدباء والشعراء المسلمين السنة ومن الطوائف

ص: 217


1- نفس المصدر السابق ص28.
2- نفس المصدر السابق ص32.

المسيحية المختلفة الذين كتبوا ونظموا القصائد والملاحم عن الإمام الحسين عليه السلام وعن أخلاقه ومبادئه ومآثره في موقعة كربلاء، فهل هناك من كتب عن الإمام الحسين علیه السلام وعن نهضته المباركة من خارج الدائرة الإسلامية السنية ومن خارج الدائرة المسيحية ؟!

والجواب بكل بساطة ووضوح: نعم، هناك من كتب عن ثورة سيد الشهداء علیه السلام

وهو ليس بالمسلم السني ولا حتى بالمسيحي.

وها نحن سنذكر الآن أحد أهم الأمثلة على صدق ذلك، وإن المثال الأول الذي سنذكره الآن في هذا الموضع هو الشاعر (الصابئي) المعروف (عبد الرزاق عبد الواحد).

وأذكر أنني قد ذكرت بعضا من نتاجات هذا الشاعر الصابئي في فصل سابق لكن دون أن أقدم تعریفا کاملا به للقارئ الكريم، ولذلك، أرى أنه من المناسب الآن أن أقوم بتقديمه المطلوب واللائق للقارئ الذي سيتذوق بعد قليل بعض الثمار الشعرية التي جادت بها علينا موهبته الشعرية، تلك الموهبة التي استطاعت بحق أن تثبت وجودها على ساحة الفن الشعري الحديث واستطاع صاحبها أن يحتل مكانا مرموقا في الصف الأول بين كبار الشعراء العرب المعاصرين.

فمن هو الشاعر الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)؟

هو شاعر عراقي كبير، ولد عام / 1930م/ وهو من الجيل الذي تلا جيل الشاعر

المعروف (بدر شاكر السياب) مباشرة وقد زامله وصادقه في دار المعلمين العالية.

وقد عرف (عبد الواحد) بشعره اليساري لفترة طويلة، ودخل السجون مرارا

عديدة نتيجة آرائه ومبادئه التي كان يعتنقها ويؤمن بها تماما.

ص: 218

ولهذا الشاعر مجموعات شعرية متعددة، بدأت بمجموعته (لعنة الشيطان) عام / 1950م/ ثم (أوراق على رصيف الذاكرة) و(خيمة على مشارف الأربعين) و(قصائد في الحب والموت) وغيرها، وله العديد من المجموعات الشعرية للأطفال.

ولهذا الشاعر المتألق مسرحية بعنوان (الحر الرياحي) وهي مسرحية تخدم في موضوعها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ولذلك سنتطرق للحديث عنها في الفصل القادم إن شاء الله، وله ملحمة أيضا بعنوان (الصوت).

وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام /2003م/ اختار شاعرنا مدينة دمشق وطنا

ثانيا له، وما زال مواظبا على عطائه النثري والشعري(1)

وبعد هذا التعريف الضروري بشاعرنا (الصابئي) عبد الرزاق عبد الواحد، دعونا الآن نتوقف مليا عند نتاجه الشعري الذي يصور فيه موقفه من الإمام الحسين عليه السلام ومن ثورته الإصلاحية في كربلاء.

ففي أشهر قصيدة له عن الإمام الحسين عليه السلام ، وهي القصيدة التي تحمل عنوان (في رحاب الحسين)، نستطيع أن نقرأ هذه الأبيات المشبعة بالحب والتقدير والولاء، على الرغم من أنه ليس بالمسلم ولا بالمسيحي، إنه شاعر صابئي ملأ قلبه بحب الحسين عليه السلام فانعكس ذلك على ضميره الإنساني الحي الذي ترجم ذلك الحب والولاء إلى قصائد خالدة عن البطولة والفداء،عن الصبر والكرامة، عن الإيمان وخلاص الإنسان، فقال مخاطبا الإمام الحسين عليه السلام :

قدمت وعفوك عن مقدمي *** أسيرا كسيرا حسيرا ظمي

ص: 219


1- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق . 2007، راجع التعريف بالشاعر وأعماله ص 1

قدمت لأحرم في رحبتيك *** سلام لمثواك من محرم

فمذ کنت طفلا رأيت الحسین *** منارا إلى ضوئه أنتمي

ومذ کنت طفلا عرفت الحسين *** رضاعا وللآن لم أفطم

ومذ كنت طفلا وجد ت الحسين *** ملاذا بأسواره أنتمي

وبعد أن يعرفنا على علاقته بالإمام الحسين عليه السلام التي تمتد إلى أيام الطفولة

المبكرة، ينتقل بنا إلى عالم الحسين عليه السلام الأرحب ليعرفنا على الانتصار الساحق الذي حققه الحسين عليه السلام على الموت والفناء، فيقول:

سلام عليك فأنت السلام *** وإن کنت مختضبا بالدم

وأنت الدليل إلى الكبرياء *** بماديس من صدرك الأكرم

وإنك معتصم الخائفين *** یامن من الذبح لم يعصم

لقد قلت للنفس هذا طريقك *** لاقي به الموت کي تسلمي

وما دار حولك بل أنت درت *** على الموت في زرد محکم

فمسك دون قصد فمات *** وأبقاك نجما من الأنجم

وهنا ينتقل بنا هذا الشاعر (الصابئي) الألمعي إلى المشهد الدامي الذي يصور

تسابق آل الحسين عليه السلام للفوز بالشهادة العظيمة بين يديه، فيقول متابعا:

سلام عليك حبيب النبي *** وبرعمه طبت من برعم

حملت أعزصفات النبي *** وفزت بمعياره الأقوم

سلام على إلى الک الحوم *** حواليك في ذلك المضرم

وهم يدفعون بعري الصدور *** عن صدرك الطاهر الأرحم

ص: 220

ويحتضنون بکبر النبيین *** ماغاص فيهم من الأسهم

سلام عليك على راحتين *** کشمسين في فلک أقتم

تشع بطونهما بالضياء *** وتجري الدماء من المعصم

وهنا يأتي دور الكلام والسلام على السيدة الطاهرة المطهرة زينب الحوراء علیها السلام

شقيقة الإمام الحسين عليه السلام فيقول عنها واصفا دورها البطولي :

سلام على هالة ترتقي *** بلالائها مرتقی مریم

طهور متوجة بالجلال *** مخضبة بالدم العندم

تهاوت فصاحه كل الرجال *** أمام تفجعها الملهم

فراحت تزعزع عرش الظلال *** بصوت بأوجاعه مفعم

ولو كان للأرض بعض الحياء *** لمادت بأحرفها اليتم(1)

وعلى الرغم من كثرة الأبيات الشعرية التي أوردناها في سياق كلامنا عن الشاعر الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)، إلا أن القصيدة لم تنته بعد، ولكن اقتصرنا على ذكر هذه الأبيات فقط خوف الملل أو الإطالة التي قد يشعر القارئ بهما.

ولكن ذلك لا يعني أننا لن نذكر بقية الأبيات الرائعة في مكانها المناسب، بل إننا سنعمد إلى ذكر ما تبقى من هذه القصيدة العصماء الفصل الأخير من هذا الكتاب، إنه الفصل الذي ستحدث فيه عن الآثار العظيمة والدروس المستفادة من فاجعة كربلاء.

أما وقد تعرفنا الآن على وجهة نظر الأديب الشاعر (عبد الواحد) حول الإمام

ص: 221


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: WWW. Yahosein. Com /vb/ Show Thread. Php?t = 63239 تاريخ الدخول للموقع المذكور أعلاه 2008/3/6 م

الحسين عليه السلام وثورته النهضوية في كربلاء، دعونا نبقى هنا لفترة أطول معه كي نستزيد من شعره العذب حول مكانة الحسين عليه السلام ومكانة الفداء العظيم الذي كان وسيبقى قربانا لراية التوحيد في أرجاء السماء وتضحية لا تماثلها تضحية من أجل كرامة الإنسان وشرف الأديان على الأرض.

وقبل أن نكمل رحلتنا في عالم (عبد الرزاق عبد الواحد) الشعري، دعونا نتعرف على آرائه ومواقفه من الإمام الحسين عليه السلام من خلال أقواله وكتاباته النثرية ومن خلال مقالاته الأدبية، وبعد ذلك ننطلق للتحليق سویة في فضاءاته الشعرية من جديد.

يقول الأديب الشاعر (عبد الواحد) في مقال له بعنوان (الحسين أعظم الإضاءات

وذروة الاستشهاد من أجل الإنسان):

(الإضاءات في تاريخنا كثيرة.. وأعظمها إضاءات حملت قابلية الديمومة والتفجر.. فهي في أشد مسارات أمتنا ظلمة، مدخرة في ضمير الأمة، قابلة لأن تتفجر وتضيء كلما تهيات ظروف الأمة لتفجيرها.

وثورة الحسين عليه السلام في طليعة هذه الإضاءات المدخرة، القابلية لأن تضخ دما متوهجا في الأعراق ما تيبست فاخترقت جلودها مشرئبة إلى الحياة ... وبعد: فكثيرا ما يرد الحسين عليه السلام في شعري رمزا كلما شهقت القصيده عندي تبحث عن بطل تلوذ به)(1)

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام هو الملاذ الآمن الذي تلجأ إليه القوافي والأفكار

عند الشاعر والأديب (عبد الواحد)، وليس هذا فحسب، فالحسين عليه السلام هو الألق

ص: 222


1- عبد الرزاق عبد الواحد، الحسين أعظم الإضاءات وذروة الاستشهاد من أجل الإنسان، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص403.

المتجدد في ضمير الأمم والأديان، إن ثورته المعمدة بالدماء هي القوة الكامنة في شرايين الأحرار الذين يتوقون إلى حياة جديدة مفعمة بالحرية والكرامة، بالإيمان والعدالة، بالخير والفضيلة، إنها الحياة التي رسمها الإمام الحسين عليه السلام على أفق الوجود بدمائه الطاهرة الزكية بأسلوب ثوري وإنساني جديد كي تتحول تلك الحياة الجديدة، بكل مفاهيمها وقيمها الحسينية، إلى شجرة إلهية مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وسنتوقف الآن مع أحد المقاطع الشعرية من قصيدته التي تحمل عنوان (الصور)، وهي إحدى قصائده الشعرية الرمزية المميزة.

يقول الشاعر (عبد الواحد) فيها، وبأسلوب رمزي واضح المعالم:

نظرت فلم أجد راية

شمخت بعنقي المقطوع عمق الجو صارية

نشرت مكبرا كفني

وأترككم عراة تطفحون على دم البيعة

رؤوسا دونما أعلام

دموعا ما تزال تسيل، تسقي تربة البيعة

وتحني رأسها وتنام

أترك زيفكم لينام

وختم بدي يظل دما على أبوابكم يصحو

ومن يملك صفاء الله صدقا ماحيا يمح(1)

ص: 223


1- نفس المصدر السابق ص403

أما المقطع الشعري الأخير الذي سنذكره لهذا الشاعر العراقي (الصابئي)، فهو المقطع المأخوذ من مطولته الشعرية (الصوت)، وهو مقطع شعري يذكرنا، بلا ریب، بأحد المقاطع الشعرية الهامة للشاعر العالمي المعروف (أدونيس)، وهو شاعر ذائع الصيت عالميا، وسنأتي على ذكره بعد قليل كي نتعرف على مكانة ومنزلة الإمام الحسين عليه السلام في شعره العالمي الحديث.

وأرجو الآن من القارئ الكريم أن يقرأ المقطع الشعري الآتي أكثر من مرة، وأن يدرسه ويحلله جيدا كي يدرك ما فيه من صور فنية رائعة وأحاسيس وجدانية صادقة قلما نجدها في ما يكتب اليوم من دواوين ومجموعات شعرية تنتمي إلى الشعر الحديث أو إلى ما يشبهه.

والمقطع الشعري الذي أخذناه من ملحمة (الصوت) هو قوله الواضح عن رأس

الإمام الحسين عليه السلام المقطوع ظلما وعدوانا :

إني رأيت جسدا لا رأس له

يهبط كل ليلة

يطوف في الشوارع

رأيت رأسا تتدلى،

تعبر السطوح

تلصق بالأبواب والنوافذ

تبحث بالأبواب والنوافذ

تبحث عن أكتافها،

أوحي لي إذا تلاقي الرأس والجسد

ص: 224

فإنها القيامة (1)

وأعتقد، بعد أن انتهينا من الكلام عن الإمام الحسين عليه السلام وثورته في شعر الأديب والشاعر العراقي الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)، أننا قد قطعنا شوطا لا بأس به عن مكانة كربلاء في عالم الأدب الشعري الحديث والمعاصر.

ولكن، وقبل أن ننتقل إلى نقطة مفصلية هامة وجديدة في هذا الفصل من الكتاب،

علينا أن لا نتجاوز عدة نقاط بارزة لابد من الإشارة إليها الآن.

فالنقطة الأولى، هناك الكثير من الشعراء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وعن ثورته وعظمة شخصيته ومبادئه، ولكنهم - وللأسف الشديد - لم ينالوا نصيبهم من الشهرة في الأوساط الأدبية، وأعتقد أن أحد أهم الأسباب في ذلك هو إعلان حبهم العميق لأهل البيت عليهم السلام وتعاطفهم القوي والواضح معهم في مبادئهم وفي مصائبهم، مما يعني بالضرورة أنهم - أي هؤلاء الشعراء - قد وقفوا موقفا معاديا ومناهضا لكل من ناصب أهل البيت علیهم السلام العداء.

ومن هنا جرى عليهم التعتيم الثقافي والإعلامي في زمن لم تكن تحترم فيه وجهات النظر وحريات الاعتقاد، خاصة وأن تلك الفترة التي تمتد عقودا إلى الوراء كان محكومة فكريا ودينيا من قبل أصحاب فعاليات ثقافية ودينية تهاجم كل من يحاول أن يقول الحقيقة بحجة أن البوح بالحقائق قد يقود إلى إيقاظ الفتن !!

وكمثال واحد على مصداقية هذه النقطة المطروحة، وكتتمة وإكمال لموضوع بحثنا المتعلق بعنوان هذا الفصل، سنتوقف عند شاعر وأديب لم يأخذ نصيبه من الشهرة والتقدير في عالم الشعر والأدب وذلك بسبب حبه العميق لأهل البيت علیهم السلام

ص: 225


1- نفس المصدر السابق ص403

وميوله الواضحة لأفكارهم ومبادئهم على الرغم من كونه (حنفي) المذهب.

وشاعرنا الذي سنتوقف عنده لتعريف القارئ به هو الشاعر المصري (أحمد خيري باشا)، إنه أحد أدباء مصر وفضلائها الكرام، وقد نشأ هذا الشاعر في بيت يهتم بالسياسة والفكر والأدب، وقد ورث مجد أبيه الراحل في كل صفاته ومناقبه وفي ولائه للعترة الطاهرة علیهم السلام دون خوف مما قد يجره عليه هذا الولاء العلني من مصاعب ومتاعب.

وعندما لاحت على هذا الشاعر علامات الموهبة الشعرية، راح ينظم كل عام قصيدة طويلة ويهديها للإمام الحسين عليه السلام ، ومن الواضح تماما أن روح الإيمان كانت ترفرف على قوافي قصائده فتزيدها جمالا وجلالا وصدقا في الولاء لآل البيت عاليهم السلام وهذا ما يجعله غير مبال بقول الناصبين، ولا آبه بادعاءات الحاسدين الحاقدين، وقد قال في ذلك:

ولست بسماع لزعم مفند *** فمن حب آل المصطفى أتضلع

ومدح بني الزهراء وردي و مذهبي *** ولست أبالي قولهم يتشیع

وعندما يذكر هذا الشاعر البيت الأخير يعلق عليه في الهامش ويقول في هامش

الصفحة (76) من دیوانه المطبوع والذي سنأتي على ذكره بعد قليل:

(... والذي أحب ذكره هنا، وأشهد الله تعالى عليه، هو أني (حنفي) المذهب متمسك بحنفيتي، (خلوتي) الطريقة مخلص لطريقتي، (ما تريدي) العقيدة موقن بعقيدتي، ولكن في حب آل البيت عليهم السلام لا أكتفي بأن أكون شيعيا واحدا، ولكن سبعة من الشيعة يكررون عشر مرات - ليكون الناتج سبعين شيعيا)(1).

ص: 226


1- أحمد خيري باشا، ديوان المدائح الحسينية، مطبعة الاعتماد - القاهرة، 1371ه-، الموافق لعام 1953م، راجع هامش الصفحة (76) من الديوان

ولهذا الشاعر (الحنفي) المذهب دیوان شعر في المدائح الحسينية يحتوي على (16) قصيدة في مدح الإمام الحسين عليه السلام وثلاث أخرى في السيدة زينب عليها السلام وها نحن سنذكر مطلع كل قصيدة فقط، بالإضافة إلى ذكر عدد أبياتها.

- ومن قصائد الديوان (المدحة الثانية) (12 بیتا) ومطلعها:

قصدتک أسعي نحو بابك سائلا *** فعدت بما أرجوه منك وآمله

- والقصيدة العينية (22 بيتا) ومطلعها:

ضياء التجلي في مقامك يسطع *** ونور النبوة من ضريحك يلمع

- والقصيدة الجيمية (12 بیتا) ومطلعها:

شهيد أمية نعم الشهيد *** ويامن بقبرك فاح الأريج

- والقصيدة الدالية (61 بيتا) ومطلعها:

بجاهك يدنو الخير والخوف يبعد *** وبابك للمكروب کهف و مقصد

- والقصيدة الهائية (20 بیتا) ومطلعها:

سبط الرسول عليك صلى الله *** تلك المفاخر والعلى والجاه

- والقصيدة الواوية (16 بيتا) ومطلعها:

بکم ترقی مدائحكم علوا *** ويسمو الناظمون بها سموا

- والقصيدة الزائية (12 بيتا) ومطلعها:

حماکم يابني طه حريز *** سعيد من به يومآیفوز

- والقصيدة الحائية (29 بیتا) ومطلعها:

هاج الهيام أخا الغرام فباحا *** وشجاه شدو العندليب فناحا

ص: 227

- والقصيدة الطائية (12 بيتا) ومطلعها:

خليلي هناعنا المآثم تنحط *** فقبل ترابا تحت دفن السبط

- والقصيدة اليائية (23 بیتا) ومطلعها:

سبط خير الناس من ميت وحي *** ونبيلا من کرام في لؤي

- والقصيدة الكافية (32 بيتا) ومطلعها:

لحي الإله عذولا حين يلحاک *** یا نفس فاغتنمي أيام دنیاک

- والقصيدة اللامية (55 بيتا) ومطلعها:

شاقت فؤادك بعد الشيب عطبول *** بسحر بابل منها الجفن مکحول

- والقصيدة الميمية (42 بيتا) ومطلعها:

سرب من الغيد أم لحن من النغم *** أعاد في القلب ذكر الحب والنعم

- والقصيدة النونية (47 بيتا) ومطلعها:

حب الحسین هدانا إن نما فينا *** فزناومدحته أحلى أمانينا

- والقصيدة السينية (66 بيتا) ومطلعها:

سنحت كما يخطو النعام تميس *** فرنت إليها لاتریم نفوس(1)

هذا، بالطبع، أحد الأمثلة على الشعراء الذين تم التعتيم عليهم وعلى آثارهم الشعرية والأدبية نتيجة حبهم وتعلقهم الشديد بأهل البيت عليهم السلام.

والنقطة الثانية التي أريد الإشارة إليها الآن هي تلك النقطة التي يمكن أن تتبادر

إلى ذهن القارئ على شكل هذا السؤال المطروح:

- نحن لا نشك في أن هذا الفصل من الكتاب قد قدم لنا الكثير من الأمثلة عن

ص: 228


1- راجع المصدر السابق للتأكد من مطالع القصائد وعدد أبياتها.

الشعراء الكبار الذين تحدثوا عن كربلاء ضمن دواوينهم الشعرية وأعمالهم الأدبية، ولكن ماذا عن عمالقة الشعر العربي الحديث من أمثال: أدونيس، وبدر شاكر السياب، وعمر أبو ريشة، والدكتور مصطفى جمال الدين، ومحمد مهدي الجواهري، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وبولس سلامة، وعبد المسيح الإنطاكي وغيرهم من كبار وعمالقة الشعر العربي الحديث، فهل للإمام الحسين عليه السلام ولکربلاء مكانة خاصة في دواوينهم الشعرية وفي ضمائرهم الإنسانية؟!

أما النقطة الثالثة التي أريد التنويه إليها، قبل الإجابة على السؤال السابق المفترض طرحه من قبل القارئ، هي نقطة هامة جدا وذلك بسبب علاقتها المباشرة مع عنوان هذا الفصل من الكتاب.

فعنوان الفصل الذي هو بين أيدينا الآن (ملحمة كربلاء في الشعر العالمي)، وبالتالي فإن هذا العنوان سيجعلنا نتساءل قائلين:

- هل هناك شعراء كتبوا عن كربلاء وعن بطلها الإمام الحسين عليه السلام وهم ليسوا

من العرب، بل من قوميات شتی ومن قارات مختلفة؟!

وبالطبع، فإننا لن نجيب على هذا السؤال الهام قبل أن نجيب على السؤال الذي هو قبله، ذلك السؤال المتعلق بعمالقة الشعر العربي الحديث وعلاقتهم الروحية والشعرية بأحداث الفاجعة وبسيد الشهداء عليه السلام .

ولذلك نقول بادئ ذي بدء، إن عمالقة الشعر العربي الحديث قد تركوا بصمات لا تمحى في ميدان الكلام عن العزة والبطولة والكرامة والإيمان، تلك المعاني الروحية والوجدانية السامية التي تجمعت كلها وتجلت بأبهى صورها فيشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، سليل النبوة و معدن الرسالة.

ص: 229

وسنبدأ حديثنا الآن عن الشاعر الدكتور (مصطفى جمال الدين) المولود عام

/ 1927/ في العراق، فمن المعروف عن هذا الشاعر الكبير أنه نزح إلى مدينة النجف الأشرف حوالي عام / 1938/ ودرس فيها العلوم الدينية والعربية فتفوق فيهما وبرز بين أقرانه فقیها عالما شاعرا أديبا له مكانته الكبيرة والمتميزة في الأوساط الدينية والأدبية، وتابع دراسته الأكاديمية فحصل على شهادة الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة بغداد ثم حصل على شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة فنالها بدرجة الامتياز، وبعد ذلك أصبح عميدا لجمعية الرابطة الأدبية في النجف.

ولهذا الأديب الشاعر دراسات مطبوعة كثيرة، منها: (البحث النحوي عند الأصوليين)، (القياس حقیقته وحجته) وغيرها.

وقد عرف بشاعرية شفافة مبدعة، وقد أقام هذا الشاعر بقية حياته في العاصمة السورية دمشق.

ومن قصائده العديدة في الإمام الحسين عليه السلام ، يمكننا أن نأخذ هذه الباقة من

الأبيات الشعرية من قصيدته (أبا الشهداء).

يقول الشاعر مخاطبا أبا الشهداء علیه السلام :

ذكراك، تنطفي السنين وتغرب *** ولهاعلی کف الخلود تلهب

مولاي.. درب الخالدين منور *** بالذكريات الغر، سمح، مخصب

أنت الذي أعطيت ما أعيا الورى *** تصديقه، ووهبت مالايوهب

بثم ينتقل بعد ذلك إلى أجمل أبيات القصيدة، فيقول:

أنا لست شيعيا لأن على فمي *** ذكر الحسين، أعيد فيه وأطنب

ولأن في قلبي عصارة لوعة *** لأساه تذكرها العيون فتسكب

ص: 230

ولان امی ارضعتنی حبه *** ولانه لابی وجدی مذهب!!

لکننی اهویالحسین لانه *** للساکلین طریق خیر ارحب

و احبه لعقیدة یفنی لها *** ان دیس جانبها ودین یغضب (1)

اما محطتنا التالیة فستکون مع اخر قلعة من قلاع الشعر العربی الاصیل انه الشاعر الکبیر (محمد مهدی الجواهری)الذی اذهل بعبقریته البلاغیة و الشعریة جهابذة الادب العربی و علی راسهم عمیدالادب العربی الدکتور (طه حسین) الذی اجتمع معه فی احدی المرات فی مدینة دمشق اثناءانعقادمهرجان الفیلسوف و الشاعر(ابی العلاء المعری)عام/1944م/و عندها القی الشاعر(محمد مهدی الجواهری )من قصیدته عز نظیرها فلم یکن من الدکتور (طه حسین) و قد انتهی (الجواهری)من قصیدته فی ذلک الحفل الا ان وقف و قال :(لقد صدق الرسول العظیم: ان من البیان لسحرا و ان من الشعرلحکمة لقد افحمنی الاستاذ(الجواهری)بهذاالبیان الساحر الذی هو البقیة الباقیة من التراث الادبی العربی الصحیح)(2)

و علی کل حال فقد ولد الادیب الشاعر(الجواهری)مع مولد القرن العشرین فی عام /1903م/وقد درس فی الحوزة العلمیة فی النجف الاشرف ثم سافر الی العاصمة بغداد و عمل فی البلاط الملکی

صدرله دیوان شعری فی عدة اجزاء و هو دیوان متعدد الاغراض والمواضع الشعریة و صدر له کتاب ذکریات و قد توفی فی دمشق عام/1997/

ص: 231


1- د.مصطفی جمال الدین اباالشهداء راجع مجلة الموسم/12/المجلد/3/مصدر سابق ص253.252
2- حسن العلوی الجواهری دیوان العصر وزارة الثقافة - دمشق ط 1986/1 م ص 257

للشاعر الکبیر (الجواهری )العدید من القصائد والمقطوعات الشعریة فی الامام الحسین علیه السلام و فی ملحمة کربلاء التی لاتزال دماء ضحایاها تلون ارض العراق حتی یومنا هذا

و من اجمل ما قاله فی الامام الحسین علیه السلام هی تلک القصیدة البلیغة التی تحمل عنوان (امنت بالحسین)و هی التی یقول فیها مخاطبا سید الشهداء الابرارو ابا الائمة الاطهارعلیه السلام:

فداء لمثواک من مضجع *** تنور بالابلج الاروع

ورعیا لیومک یوم(الطفوف) *** وسقیالارضک من مصرع

تعالیت من مفزع للحتوف *** وبورک قبرک من مفزع

تلوذ الدهور فمن سجد *** علی جانبیه و من رکع

وعفرت خدی بحیث استرا *** ح خد تفری و لم یضرع

وحیث سنا بک خیل الطغاة *** جالت علیه و لم یخشع

وطفت بقبرک طوف الخیال *** بصومعة الملهم المبدع

الی ان یتابع نفس القصیدة قائلا:

فیا بن(البتول)وحسبی بها *** ضمانا علی کل ما ادعی

ویا بن(البطین)بلا بطنة *** ویا بن الفتی الحاسر الانزع

ویا غصن هاشم لم ینفتح *** بازهر منک و لم یفزع

ویا و اصلا من نشید الخلود *** ختام القصیدة بالمطلع(1)

ص: 232


1- راجع بعض ابیات هذه القصیدة الواردة فی :ا. انطون بارا الحسین فی الفکر المسیحی مصدر سابق ص 334 ب. محمد مهدی الجواهری امنت بالحسین راجع مجلة اهل البیت علیهم السلام العدد/50/عدد شهر نیسان 1991م تصدر عن رابطة اهل البیت الاسلامیة العالمیة فی لندن راجع الصفحة 63والقصیدة الکاملة موجودة فی الدیوان ج2ص269.266

و کما ذکرنا سابقا فان للشاعر(الجواهری)العدید من القصائد الاصیلة الرائعة فی الامام الحسین علیه السلام و فی مناقبة الرسالیة و الاستشهادیة العالیة و لذلک فان المجال یسمح لنا ان نذکر له بعضا من قصیدة اخری بعنوان (عاشوراء)

و من جملة مایقوله(الجواهری)فیها:

هی النفس تابی ان تذل و تقهرا *** تری الموت من صبر علی الضیم ایسرا

و تختار محمودا من الذکر خالدا *** علی العیش مذموم المغبة منکرا

ثم ینتقل(الجواهری) بعد ذلک لیصف اثرفاجعة کربلاء علی امة المسلمین الذین فرطوا بالامام الحسین علیه السلام و قبلوا ان یکون یزید الفاسق امیرا و خلیفة علیهم !! و هاهو یتابع قائلا:

ابت سورة الاعراب الا وقیعة *** بها انتکص الاسلام رجعا الی الورا

و نکس یوم الطف تاریخ امة *** مشی قبلها ذا صولة متبخترا

و ماکنت بالتفکیر فی امر قتله *** لازداد الا دهشة و تحیرا(1)

و کان (الجواهری) یردد من خلال هذه الابیات الاخیرة التی قالها قول فیلسوف الشعراء ابی العلاء المعری الذی ابدی استغرابه الشدید من متناقضات الحیاة فقال :

اری الایام تفعل کل نکر *** فما انا فی العجائب مستزید

الیس قریشکم قتلت(حسینا) *** و کان علی خلافتکم (یزید)؟!

ص: 233


1- محمد مهدی الجواهری عاشوراء راجع مجلة الموسم العدد/ 12/ مجلد /3/ مصدر سابق ص 249

و علی کل حال فان اخر ما یمکننا ان نذکره هنا عن علاقة الشاعر الکبیر (الجواهری)بالامام الحسین علیه السلام هو ذلک الرباط الروحی المتین الذی کان یتغلغل عمیقا فی نفس (الجواهری )فیغمرها بالایمان و الطمانینة خاصة و هو یطل علی ضریح الامام الحسین علیه السلام فی کربلاء فمن خلال تلک الاطلالة علی ضریح الامام الثائر الشهید علیه السلام ایقن( الجواهری)ان الحسین علیه السلام هو الحجة علی الایمان المطلق بالله العظیم و انه هو ایضا الیقین الذی یبدد کل غیوم الشک و الارتیاب

وقد عبر (الجواهری) عن ذلک بالقول عن دور الامام الحسین علیه السلام فی حیاته الروحیة:

و جاز بی الشک فیما مع ال-- *** ---جدود الی الشک فیما معی

الی ان اقمت علیه الدلی-- *** -----ل من مبدا بدم مشبع

فنورت ما اظلم من فکرتی *** و قومت ما اعوج من اضلعی(1)

و هنا تحضرنی مقولة هامة للادیب المصری (احمد امین) تتمحور حول ادب الشیعة و اثره علی الادب العربی یقول الاستاذ(امین):(ادب الشیعة هو ادب حزین فیه دموع و حسرات و علیه اردیة سود من طول الحداد علی مصرع الحسین بن علی رضی الله عنه و قد کان لحرکة التشیع اثر بعید فی اعطاء نواح الادب العربی حیاة جدیدة)(2)

و قد جاء کتاب (ادب الشیعة .. الی نهایة القرن الثانی الهجری) لمولفة الشیخ(عبد الحسیب طه حمیدة) و هو عالم مصری من علماء الازهر و مدرس سابق فی کلیة

ص: 234


1- حسن العوی الجواهری دیوان العصر مصدر سابق ص 352
2- سامح کریم اسلامیات مصدر سابق ص 69

اللغة العربیة لیوکد کل ما قاله الاستاذ(احمد امین ) عن ادب الشیعة فقد ذکر الشیخ(طه حمیدة)فی کتابه المذکور ان لفاجعةکربلاء دورا قویا فی تفعیل الادب العربی وقد عبر عن ذلک بقوله:(کانت حادثة کربلاء تلک الحادثة المروعة المشوومة فاتحة طور جدید من اطوار هذا الادب الشیعی..کما کانت ذات اثر عمیق فی النفوس الاسلامیة و العقائد الشیعیة و الحیاة السیاسیة و الواقع ان قتل الحسین علی هذه الصورة الغادرة و الحسین هو من هو دینا و مکانة بین المسلمین لابد ان یلهب المشاعرو یرهف الاحاسیس و یطلق الالسن و یترک فی النفس الاسلامیة اثرا حزینا دامیا و یجمع القلوب حول هذا البیت المنکوب)(1)

و لاریب فی ان (الجواهری) واحد من ابرز الشعراء الشیعة المعاصرین بل ربما کان ابرز الشعراء العرب المسلمین عموما و هو العلم الابرز لمعالم الشعر العربی الممزوج بالکثیر من الفواجع و الماسی والاحزان التی تمتد فی تاریخها الی ایام فجائع الحسین علیه السلام و هموم علی علیه السلام و احزان الزهراءعلیها السلام تلک الفجائع و الهموم و الاحزان التی تنبا بها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم قبل حدوثها باعوام طویلة

و حتی لانخرج بعیدا عن موضوع بحثنا دعونا ننتقل الی شاعر کبیر اخر من عمالقة الشعر العربی الاصیل و لتکن محطتنا الان مع الشاعر (عمر ابو ریشة)

فمن هو الشاعر (عمر ابو ریشة) و ما علاقته بالامام الحسین علیه السلام ؟!

و لد هذا الشاعر العظیم فی مدینة حلب السوریة سنة/1910م/ و تلقی علومه فی الجامعة الامریکیة قی بیروت و اکملها فی المعهد الفنی فی مدینة(مانشستر)

و هو عضو مجمع اللغة العربیة بدمشق و عضو المجمع اللغوی البرازیلی حصل

ص: 235


1- محمد جواد مغنیة الحسین وبطلة کربلاء مصدر سابق ص235

علی اکثر من (17) شهادة دکتوراه فخریة من مختلف جامعات العالم و عمل فی السلک الدبلوماسی السوری فترة طویلة

لهذا الشاعر العدید من الاعمال المنشورة منها : مسرحیة ذی قار - دیوان شعر و مسرحیة الطوفان و مجموعة شعر بعنوان (من عمر ابوریشة) و کتب مطولات شعریة بعنوان (ملاحم البطولة فی التاریخ العربی) و هی عبارة عن مجموعة شعریة تربو علی اثنی عشر الف بیت من الشعرثم مسرحیة بعنوان ( سمیرامیس)و ملحمة بعنوان (ملحمة الحسین بن علی) التی تتجاوز فی طولها الفی بیتا شعریا تقریبا و قد ارخ فیها للثورة الحسینیة ولتاریخ الحسین علیه السلام و ال البیت علیهم السلام منذ عهد النبوة حتی استشهاده و قد توفی هذا الشاعر العظیم عام/1990/ و دفن فی مدینة حلب (1)

و بالرغم من العمل الجلیل الذی قام به هذا الشاعر من عملیة تاریخ الحیاة الامام الحسین علیه السلام من مهده الی لحده فی ملحمته الشعریة الطویلة(ملحمة الحسین بن علی) الا ان هذه الملحمة - و للاسف الشدید - بقیت مخطوطة حتی الان و لا یعرف احد علی وجه الدقة الاسباب التی منعت هذه الملحمة الشعریة الهامة من کسر قیود الاسر و الخروج من زنزانة الظلام الی عالم النور

و علی کل حال فان الابیات التی استطعنا الحصول علیها هی ابیات قلیلة جدا و هی فی مجملها ابیات تصور الاصل السیی لیزید اللعین قاتل الامام حسین علیه السلام و هذه هی الابیات الاربعة التی تسربت الینا من المخطوطة المذکورة:

هی هند ام معاویة *** هی تلک الفاجرة الوغد

ص: 236


1- لمزید من المعلومات عن الشاعر (عمر ابوریشة ) راجع ما جاء فی : ا. مقدمة دیوان عمر ابو ریشة طبع دار العودة - بیروت 1986 ب. مجلة الموسم العدد /13/ المجلد/4/ مصدر سابق راجع ص 268

اخذت تستعرض فی احد *** جیش الفرسان الممتده

ورات فی حمزة و جه الحق *** حساما لا یبرح غمده

فاکبت تشرب من دمه *** و تلوک کما شاءت کبده (1)

وبما ان الشاعر(عمر ابو ریشة) من عشاق الشهادة و الشهداء فانه یری ان الامام الحسین علیه السلام و علی الرغم من کل ما قدم من تضحیات و قرابین عظیمة فی سبیل الله و من اجل رفع رایته فوق سماء الانسان یبقی دائما و ابدا التلمیذ الاعظم الذی تخرج الشهداء.

و مما یوکد هذه النظرة عند هذا الشاعر الکبیر و بشکل خاص تلک النقطة التی تشیر الی ان الامام علیاعلیه السلام هو الاب الروحی و الایمانی لکل قوافل الشهداء المومنین الذین اتوا بعده و ساروا علی نهجه البطولی هی تلک القصیدة الرائعة التی تحمل اسم (محمد)و التی یصف فیها الامام علیا علیه السلام لیلة المبیت علی فراش النبی المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم لیکون بذلک اول فدائی فی الاسلام ویمکننا الان ان نذکر بعض ابیاتها التی تقول :

جمعت شملها قریش و سلت *** للاذی کل صعدة سمراء

ودری سرها الرهیب (علی) *** فاشتهی لو یکون کبش الفداء

قال : یاخاتم النبیین امست *** مکة دار طغمة سفهاء

انا باق هنا ولست ابالی *** ما الاقی من کید ها فی البقاء

سیرونی علی فراشک و السیف *** امالی و کل دنیا و رائی

ص: 237


1- راجع المصدر السابق (ب) ص 268

حسبی الله فی دروب رضاء *** ان یری فی اول الشهداء(1)

فهل اکتفینا الان من التقاط الدرر الثمینة القابعة فی اعماق فکر شاعرنا الکبیر ( عمر ابوریشة)؟

لااعتقد اننا اکتفینا بهذا الکم من الدرر و لکن مایعزینا حقیقة هو الامل الدائم بمحی ء احد انصار الثقافة و الفکر الذی یکون قادرا علی فک اسر (ملحمة الحسین بن علی )و اخراجها دفعة واحدة الی عالم النور و الحیاة

و علی مایبدو فان ما ینطبق علی المخطوطات الشعریة النائمة علی رفوف مکتبة الشاعر و الادیب(عمر ابو ریشة) ینطبق ایضا علی العدید من القصائد المنسیة عند

شاعر النخیل العراقی(بدر شاکر السیاب)(1926 - 1964 )

وکالمعتاد دائما لابد ان نقدم للقاری لمحة موجزة عن الشاعر(السیاب)قبل الدخول فی الکلام عن اثاره الشعریة المتعلقة بالامام الحسین علیه السلام و ماساة کربلاء

یحدثنا الاستاذ (ناجی علوش ) فی المقدمة التی وضعها لدیوان (السیاب) فیقول:(کان(السیاب)رائدامن رواد التجدید... و کانت ماساة بدر ( الشاعر)تکمن فی غربته.. غربته الابدیة.. و کان یعیش فی مرحلة اشتد الصدام فیها بین القیم و الواقع بین الماضی و الحاضر .. انه یرفض ان یقبل الواقعی لانه مولم ...لانه الموت )(2)

و بعد ذلک ینتقل الاستاذ (علوش ) للقول بان (السیاب)قد درس الادب الانکلیزی بعمق وجدیة و قد اتاحت له دراسته التعرف الی الادب الانکلیزی بکل جوانبه و مراحله و قد صدر له العدید من المجموعات الشعریة الجیدة و اهمها:

ص: 238


1- راجع دیوان عمر ابو ریشة المجموعة الاولی / دار العودة - بیروت 1971 ص 495
2- راجع دیوان بدر شاکر السیاب /الجزء الاول/ اصدار دار العودة - بیروت 1989 - راجع المقدمة بقلم ناجی علوش الصفحات فی المقدمة دون ارقام

- ازهار ذابلة 1947م

- اساطیر1947 م

- انشودة المطر 1960 م

- المعبد الغریق 1962 م

- اقبال 1965 م

ویجمع النقاد علی ان اهم ممیزات شعر(السیاب)تتلخص بابرازة روح الشعر العربی التقلیدی بثوب جدید و بالاکثار من استعمال الاسطورة و الرمز هذا بالاضافة الی الاسهاب بدل الترکیز مما یجعل القصائد تتدفق بانساب جمیل حاملة معها اجمل الصور و اعمق التعابیر

و من جملة قصائده الطویلة التی تحمل الکثیر من الصور الجمیلة و التعابیر العمیقة قصیدته المسماة(الدمعة الخرساء ) و هی احدی قصائد مجموعته الشعریة (اساطیر)الصادرة عن دار البیان فی بغداد و تمثل (الدمعة الخرساء) الدموع التی یذرفها هذا الشاعر المرهف الحس بشکل مستمرعلی ما لحق بالامام الحسین واهله الاطهار علیهم السلام علی ضفاف الفرات الحزین

و مهما حاولنا ان نختصر من هذه القصیدة الموثرة فاننا نجد انفسنا بحاجة الی ذکر المزید من ابیاتها المشبعة بالصور و الاحاسیس التی تکاد تنقل القاری الی قلب الحدث و کانه یعیشه الیوم علی الرغم من مضی ما یقارب اربعة عشر قرنا علیه

ویبدا الشاعر(السیاب)قصیدته(الدمعة الخرساء)بالقول:

ارم السماء بنظرة استهزاء *** و اجعل شرابک من دم الاشلاء

واسحق بظلک کل عرض ناصع *** و ابح لنعلک اعظم الضعفاء

ص: 239

و اسدر بغیک یا (یزید)فقد ثوی *** عنک (الحسین) ممزق الاحشاء

مثلت غدرک.. فاقشعرلهوله *** قلبی وثار وزلزلت اعضائی

واستقطرت عینی الدموع ورنقت *** فیها بقایا دمعة خرساء

ثم ینتقل بعد ذلک الشاعر (السیاب) محمولا علی جناح الخیال لینقل لنا صورة المصیر المفترض الذی ینتظر السفاح(یزید)فی عالم الاخرة جزاء و فاقا علی ما اقترفته جوارحه الاثمة من جرائم و مجازر بحق ال بیت النبوة و مهبط الوحی و معدن الرسالة فیقول متابعا وواصفا ما راه من ظل وراءتلک الدمعة الخرساء المقهورة:

یطفو ویرسب فی خیالی دونها *** ظل ادق من الجناح النائی

حیران فی قعر الجحیم معلق *** مابین السنة اللظی الحمراء

ابصرت ظلک یا(یزید)یرجه *** موج اللهیب و عاصف الانواء

ویدان موثقتان بالسوط الذی *** قد کان یعبث امس بالاحیاء

ثم ینادی طیف یزید قائلا له :

قم واسمع اسمک و هو یغدو سبة *** و انظر لمجدک و هو محض هباء

و انظر الی الاجیال یاخذ مقبل *** عن ذاهب ذکری ابی الشهداء

و هنا تعصف الذکریات الالیمة براس شاعرنا (السیاب) فیتذکر لوعة السیدة زینب علیها السلام علی الاطفال الصغار و هم یتلوون عطشا و الما انها ذکری السیدة زینب ابنة الزهراء فاطمة علیها السلام و قد افاقت من حلم رهیب قبیل الکارثة بزمن قصیر لتخبر اخاها الامام الحسین علیه السلام بما راته فی حلمها المخیف حول المستقبل القریب الدامی

وهاهو الشاعر(السیاب)یصف ماکان من امر السیدة زینب علیها السلام و الاطفال

ص: 240

الصغار حولها يحلمون، وهذه أغلى أمانيهم، بجرعة ماء عذب مع مطلع الفجر الجديد: تلك ابنة الزهراء ولهی راعها *** حلم ألم بها مع الظلماء

تنبي أخاها وهي تخفي وجهها *** ذعرا، وتلوي الجيد من إعياء

عن ذلك السهل الملبد يرتمي *** في الأفق مثل الغيمة السوداء

يكتظ بالأشباح ظمأي حشرجت *** ثم اشرأبت في انتظار الماء

أيد تمد إلى السماء، وأعين *** ترنو إلى الماء القريب النائي

وإذا كانت ذكرى السيدة زينب علیها السلام سليلة بيت النبوة، وذكريات الأطفال الصغار حولها قد عصفت بعنف في ذاكرة الشاعر المثقلة بالآلام والجراح، فإن ذكرى الإمام الحسين عليه السلام وقصته مع طفله الصغير (عبد الله الرضيع) لا تقل ألما ولوعة عما سبقها من ذكريات جارحة ومريرة.

ومن هذه النقطة التي تشكل الذكرى الأكثر هما وألما، ينهي الشاعر( السياب)

قصيدته الطويلة واصفا حال الحسين عليه السلام مع طفله الرضيع قائلا:

آلی يموت ولا يوالي مارقا *** جم الخطايا، طائش الأهواء

فليصرعوه، كما أرادوا.. إنما *** ماذنب أطفال وذنب نساء؟!

عاجت بي الذكرى عليها ساعة *** مر الزمان بها على استحياء

خفقت لتكشف عن رضیع ناحل *** ذبلت مراشفه، ذبول خباء

لاح الفرات له فأجهش باسطا *** يمناه نحو اللجة الزرقاء

واستشفع الأب حابسيه على الصدي *** بالطفل يومي باليد البيضاء

رجي الرواء فكان سهماحز فی *** نحر الرضيع وضحكة استهزاء

ص: 241

فاهتز واختلج اختلاجة طائر *** ظمآن رف ومات قرب الماء

ذكرى، ألمت فاقشعر لهولها *** قلبي وثار، وزلزلت أعضائي(1) ومن الجدير ذكره أن الأستاذ (ناجي علوش) الذي جمع وطبع كل الأعمال الكاملة للشاعر (السياب) لم يثبت قصيدة (الدمعة الخرساء) ضمن تلك الأعمال الكاملة مما دفع الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي)، صاحب ورئيس تحرير مجلة (الموسم) التي تصدر في هولندا، إلى الاستفسار شخصيا من الأستاذ (علوش) عن سبب ذلك، فاعتذر الأستاذ (علوش) عن ذلك التقصير الكبير واعتبر أن ذلك من فواته، خاصة بعد أن أرشده الأستاذ (الطريحي) إلى القصيدة الموجودة ضمن دیوان( أساطير) الصادر عن دار البيان في بغداد عام 1947.

وسواء كان تقصير الأستاذ (علوش) في تثبيت هذه القصيدة ناتجا عن عمد أم عن غیر عمد، فإنه يقر في المقدمة التي وضعها لكتاب (الأعمال الكاملة للسياب)، بقوله: «ولبدر أيضا شعر كثير غير منشور، يعود قسم منه إلى سنوات 42 -43 - 54»(2)

وبعد أن قضينا وقتا مفيدا وطويلا مع الأديب والشاعر الكبير (بدر شاكر السياب)، دعونا ننتقل الآن سوية إلى شاعر غزا بشعره الإبداعي الأدب العالمي حتى صار شعره مترجما إلى كل اللغات العالمية الحية، وحتى صار الشاعر نفسه مرشحا لنيل جائزة (نوبل) في الآداب.

ص: 242


1- راجع القصيدة كاملة في أ. بدر شاكر السياب، دیوان (أساطير)، منشورات دار البيان . بغداد، 1947. ب. بدر شاكر السياب، الدمعة الخرساء، مجلة الموسم العدد /12/ المجلد /3/، ص363۔.364
2- راجع الجزء الأول من الأعمال الكاملة للسياب، راجع المقدمة بقلم ناجي علوش وتحديدا الصفحة ذات الرمز (ص ذ ذ)

إن شاعرنا الذي سنتحدث الآن عنه هو الأديب والشاعر العالمي (علي أحمد سعيد) والملقب باسم (أدونيس)، وهو من مواليد عام /1930/، سوري الأصل، لكنه ارتحل للإقامة في لبنان عام / 1956/، شارك (أدونيس) في تأسيس مجلة (شعر) وفي رئاسة تحريرها، ثم بعد ذلك أسس مجلة (مواقف)، وقد نال شاعرنا شهادة دكتوراه دولة في الآداب من جامعة القديس يوسف في بيروت عام / 1973/، وبعد عدة سنوات انتقل إلى فرنسا للإقامة والعمل فيها، له الكثير من الأعمال الأدبية والشعرية، ومن أشهر مؤلفاته الأدبية: (مقدمة للشعر العربي)، (الثابت والمتحول)، (زمن الشعر)، (فاتحة لنهاية القرن)، أما أعماله الشعرية، فهي كثيرة جدا، ونذكر منها: (قصائد أولى)، (أوراق في الريح)، (أغاني مهيار الدمشقي)، (المسرح والمرايا)، (مفرد بصيغة الجمع)، وغير ذلك كثير جدا، وقد جمعت معظم أعماله الشعرية في مجلدين تحت عنوان (الآثار الكاملة)، هذا بالإضافة إلى عمل هام جدا ومتميز له وهو كتاب يحمل عنوانا غريبا بعض الشيء، إنه كتابه (الكتاب )المؤلف من عدة أجزاء.

والشيء المهم بالنسبة لنا في هذا المكان هو رؤية هذا الأديب العالمي بحادثة کربلاء وللإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام، خاصة وأن للتراث أهمية كبيرة في فكره وأدبه، وهو القائل عن التراث وأهميته في كتابه (زمن الشعر):

(ليس التراث عادة في الكتابة، أو موضوعات طرقت ومشاعر عوینت وعبر عنها،

وإنما هو طاقة معرفة وحيوية خلق، وذكرى في القلب والروح)(1)

فماذا اختزن قلبه وروحه من ذكريات وأفكار عن كربلاء؟!

دعونا ندخل الآن إلى أعماق روحه کي نقرأسوية قصيدته (مرآة لمسجد

ص: 243


1- أدونيس، زمن الشعر، مصدر سابق ص45

الحسين)، يقول (أدونيس)، وهو الشاعر المثقل بالأفكار والرموز:

ألا ترى الأشجار وهي تمشي

حدباء،

في سكر وفي أناة

کي تشهد الصلاة؟

ألا ترى سيفا بغیر غمد

يبكي،

وسيافا بلا يدين

يطوف حول مسجد الحسين؟(1)

إنها بلاشك صور شعرية رائعة ومؤثرة، إنها غريبة وجديدة على الأدب الشعري العربي، وأعتقد أن كل من يقرأ هذه القصيدة القصيرة مرة أو مرتين بكل روية وأناۃ، فسيشعر بموجة من الحزن والأسى تجتاح كيانه وهو يتخيل صفوفا من الأشجار المحدودبة الأغصان تمشي على أطراف جذورها بخطى جنائزية مهيبة، وربما سيكون التأثر أقوى وأعمق عندما يتخيل القارئ أن هناك رجلا سیافا مقطوع اليدين، وربما يكون هو قاتل الحسين عليه السلام ، يطوف برهبة وخشية حول قبر الضحية طالبا منها الصفح والغفران!!

وحتى لا نستفيض في الشرح أكثر، دعونا ننتقل إلى قصيدة أخرى مغرقة في الصور والأفكار الرمزية التي تميز شعر (أدونيس) عن غيره بشكل عام، إنها تلك القصيدة التي جاءت تحت عنوان (لون الماء)، وهي قصيدة طويلة مفعمة بالأسرار

ص: 244


1- أدونيس، الآثار الكاملة /ج2/، دار العودة . بيروت، 1971، ص352

والرموز والصور الضبابية الكئيبة، تلك الصور التي تبدو وكأنها تنبعث من رحم کربلاء ومن أتون الفاجعة الحمراء.

وها نحن نقتطف منها مقطعا صغيرا فقط للتأكيد على عمق الأثر الذي تركته کربلاء والحسين عليه السلام في صدر ذلك الشاعر الذي ولد في بيت ريفي بسيط ورث شيئا من الفاجعة وآلامها.

يقول (أدونيس) في قصيدته (لون الماء): .

- کلمات

شهدت جثة الحسين

وهي تبكي وتجري مع الرافدين

مت في حضنها وعشت

وطمرت شرایینها و نبشت

كلمات المجيء۔

سفر معتم خطوات تضيء

في الزمان المهرول في وجهه البطيء (1)

ويمتد الحزن في قلب (أدونيس) حتى يبلغ الأعماق الخفية فيه، ثم يعود ذلك الحزن ليتحول من حالة عاطفية إلى حالة فكرية ممتزجة بحالات فريدة من الصفاء الوجداني والجذب الصوفي والعرفاني، فالذي يقرأ قصيدة (مرآة الشاهد) سيتبادر إلى ذهنه أن (أدونيس) يؤمن بوحدة الوجود من خلال الألم، فالألم أو الموت نفسه هو الذي يوحد ويصهر كل مفردات الوجود في بوتقته، وبالتالي، فإن الإمام الحسين

ص: 245


1- نفس المصدر السابق ج2 ص285

عليه السلام، الذي يمثل قمة الألم وقيمته العليا، هو القادر على توحيد هذا الوجودالمليء بالهموم والآلام المتباينة في قيمتها ومستوياتها.

ولننظر الآن كيف أن كل الأشياء توحدت وتعاطفت کلیا مع آلام الحسين عليه السلام

ومع مأساته التي لم يحدث أي مثيل لها حتى ولو في الأساطير الإغريقية القديمة.

يقول (أدونيس) في قصيدته (مرآة الشاهد):

وحينما استقرت الرماح في حشاشة الحسين

وازينت بجسد الحسين

وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين

واستلبت و قسمت ملابس الحسين

رأيت كل حجر يحنو على الحسين

رأيت كل زهرة تنام عند كتف الحسين

رأيت كل نهر يسير في جنازة الحسين(1)

وهكذا نرى أن الإمام الحسين الشهيد عليه السلام، ومن خلال تمثيله لقيمة الألم

الناتج عن الإيمان، قد تحول إلى بوابة للخلود وإلى مرآة ناصعة لحقيقة الوجود.

إن الألم وجه من وجوه الموت، بل ربما تحول الموت ليصبح أبسط وجه من وجوه الألم، فالعلاقة بينهما وطيدة جدا وقديمة جدا، وكلاهما سر من أعمق الأسرار التي تتوحد بهما الأشياء، ولذلك أكد شاعرنا (أدونيس) على هذه الحقيقة بقوله:

يضمنا الموت إلى صدره

مغامرا، زاهدا

ص: 246


1- نفس المصدر السابق ج2 ص351

يحملنا سرا على سره

يجعل من كثرتنا واحدا(1)

وهذا الألم المتوج بالموت هو النهر الأبدي الخالد الذي لا يمكن لأحد أن يتعمد فيه إلا إذا كان قادرا على أن يعطي السماء أغلى ما يملك، بل كل ما يملك، في زمن السقوط الرديء الذي لا يقدر فيه الأنبياء والحكماء حق قدرهم.

وها نحن نختم رحلتنا مع الشاعر العالمي (أدونيس) بهذه الأبيات الشعرية القليلة التي يتحدث فيها عن نهر الألم الذي انتهى به الأمر إلى كربلاء الحسين عليه السلام ، فها هو يقول في قصيدته (السماء الثامنة):

سمعت صوت الزمن... السقوط

نحوي في الولادة

والنهر الممدود کالوسادة

من شفتي (سقراط) حتى جثة (الحسين)(2)

وهكذا نرى أن الألم، بكل صوره وأبعاده، لو أمكن له أن يتجسد أمام كل إنسان منا، لكانت کربلاء هي خير تجسيد له عبر كل الدهور والعصور.

وهنا صار بإمكاننا الانتقال إلى شاعر جديد بعد أن أطلنا الإقامة في ضيافة الأديب والشاعر العالمي (أدونيس)، وهذا الشاعر الجديد الذي سنكون في ضيافته الآن هو الشاعر المصري (أحمد شوقي) (1868- 1932).

لقد حظي هذا الأديب الشاعر بتكريم عدد وافر من شعراء مصر والبلدان العربية،

ص: 247


1- نفس المصدر السابق ج 1 ص 114.
2- نفس المصدر السابق ج2 ص447.

وقد منحوه لقب (أمير الشعراء)، ويعد (شوقي) أبرز رواد الشعر العربي الحديث، بالإضافة إلى أنه رائد المسرحية الشعرية العربية، فقد أغنى الأدب العربي بالعديد من مسرحياته الشعرية الذائعة مثل (مجنون ليلى) و(مصرع كليوباترا) و (عنترة).

ولهذا الشاعر عدد كبير من القصائد، وقد جمعت في ديوانه (الشوقيات)(1).

ويذكر الأستاذ (جاسم عثمان مرغي) في كتابه المتميز (الشيعة في مصر) العديد

من القصائد التي قالها أمير الشعراء (شوقي) في مصائب عموم أهل البيت عليهم السلام.

ويؤكد الأستاذ (مرغي) ذلك بقوله: (إنه يجل أهل البيت الذين أذهب الله عنهم

الرجس وطهرهم تطهيرا، فتراه في ثنايا أشعاره يتفجع لما أصابهم :

هذا الحسين دمه بکربلا *** روى الثرى لما جرى على ظما

واستشهد الأقمار أهل بيته *** يهوون في الترب فرادى وثنا

ابن زیاد ویزید بغيا *** والله والأيام حرب من بغى

لولا يزيد بادئأ ماشربت *** مروان بالكاس التي بها سقى)(2)

أما الأبيات التالية التي سأذكرها الآن، فهي من أفضل ما قاله أمير الشعراء في إظهار مکنون حبه للإمام الحسين عليه السلام رغم التعصب الشديد الذي كان يلفت مجتمعه، وهو في ذلك لا يتكلم فقط عن نفسه وعن مجتمعه، بل إنه يتكلم بلسان حال كل الشرفاء الذين أرادت لهم مجتمعاتهم المتعصبة وحكوماتها المستبدة أن يكتموا

ص: 248


1- المزيد من المعلومات عن الشاعر (أحمد شوقي) وعن آثاره الأدبية، راجع: أ. فؤاد أفرام البستاني، أحمد شوقي . اجتماعيات منتخبة، دار المشرق . بيروت ط 1968/2 ب. مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، مصدر سابق ص44.
2- جاسم عثمان مرغي، الشيعة في مصر، مؤسسة الوفاء . طهران، 1412ه-، ص 131

كلمة الحق وأن يكفوا عن قول الصدق.

وها هو يعبر عن ذلك بقوله:

وأنت إذا ماذكرت الحسين *** تصاممت لا جاهلا موضعه

أحب الحسین ولكنني *** لساني عليه، وقلبي معه

حبست لساني عن مدحه *** حذار أمیة أن تقطعه(1)

وعلى الرغم من خوفه الشديد من نتائج مدح الحسين عليه السلام في مجتمع كان يلف نفسه بالعصبية مثلما تفعل دودة الحرير بشرنقتها التي تؤدي لاحقا إلى قتلها، إلا أنه لم يتردد بين الحين والآخر من ذكر الحسين عليه السلام ومدحه والثناء عليه وعلى كل ما قدمه للإسلام من تضحيات عظيمة يصعب وصفها وتقديرها.

وها هو يقول أيضا في قصيدته الشهيرة (الحرية الحمراء):

في مهرجان الحق أو يوم الدم *** مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليهانورنور دمائها *** کدم الحسين على هلال محرم(2)

هذا هو أمير الشعراء وهذه هي بعض الصفحات من قصته مع أهل البيت عليهم السلام ومع الإمام الحسين عليه السلام على وجه التخصيص، وما على الذي يريد الاستزادة من المعرفة حول مكانة الإمام الحسين عليه السلام وثورة كربلاء في أدب أمير الشعراء (أحمد شوقي) إلا أن يعود إلى ديوانه (الشوقيات) ليقرأ المزيد من الأبيات الشعرية العذبة التي تمجد ذكرى أبي الشهداء عليه السلام وأمجاده في كربلاء.

ص: 249


1- نفس المصدر السابق ص131.
2- راجع الكتب التالية: أ. المصدر السابق ص132، نقلا عن ديوان (الشوقيات) ج2 ص187. ب. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص332

وبما أننا قد تكلمنا الآن عن أمير الشعراء (أحمد شوقي) وختمنا به الحديث عن عمالقة الشعر العربي في الزمن المعاصر، دعونا نتقل إذن إلى محطة مفصلية جديدة في بحثنا الذي هو بين أيدينا الآن، وما المحطة المفصلية الجديدة سوى الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام وعن کربلاء من خلال الملاحم الشعرية الطويلة في الأدب العربي المعاصر.

وقد يتفاجأ القارئ الكريم إذا قلنا له إن الملاحم الشعرية العربية عن فاجعة

کربلاء ليست ذات مصدر إسلامي على الإطلاق، بل هي ملاحم شعرية عربية ذات أصول مسيحية، ونقصد من هذا الكلام أن الناظمين لتلك الملاحم الخالدة كانوا من الشعراء المسيحيين ولم يكونوا من المسلمين.

وحتى لا نطيل الكلام عن تاريخ الملاحم الشعرية عبر العصور، دعونا نقول إن من أقدم الملاحم الشعرية التي عرفها الإنسان هي تلك الملحمة اليونانية القديمة المعروفة باسم (الإلياذة) والتي نظمها الشاعر الإغريقي (هوميروس) في مايقارب (16000) بيتا من الشعر، ثم أتبعها بملحمة ثانية أسماها (الأوديسة) وهي ملحمة شعرية قريبة من حجم الملحمة الأولى وتعتبر تتمة وتكملة للملحمة المذكورة، وقد عرف الرومان القدماء الشعر الملحمي أيضا، حيث كتب شاعرهم المعروف (فرجيليوس) ملحمته الشعرية الرائعة(الإنبادة) بأسلوب شيق وبديع، أما الفرس، وهم أهل الحضارة والفكر، فكفاهم فخرا أنهم رفدوا الفكر العالمي بملحمتهم الرائعة (الشاهنامه) التي نظمها أحد شعرائهم العظام على مر العصور، (أبو القاسم الفردوسي)، الذي تعتبر ملحمته إحدى عيون الأدب العالمي قديما وحديثا، وكذلك الحال بالنسبة لملحمة (المهابهاراتا)، ملحمة الهند الكبرى.

ص: 250

إذن، قصة الإنسان مع الملاحم الشعرية قصة قديمة جدا تمتد جذورها إلى ما قبل التاريخ الميلادي بمئات السنين، ولا تزال روح الإنسان المعاصر تميل إلى احترام وتقدير هذا النوع من الشعر القوي والجميل.

وما يهمنا الآن هو الحديث عن الملاحم الشعرية العربية المعاصرة وعن دورها

في تأريخ وتصوير فاجعة كربلاء كما حدثت على أرض الواقع منذ مئات السنين.

ولذلك سندخل مباشرة في صلب موضوعنا، وسنبدأ الكلام عن الملحمة الشعرية العربية المعاصرة، ملحمة (عيد الغدير ) إناظمها الشاعر المسيحي الكبير (بولس سلامة) الذي سبق وأن عرفنا القارئ عليه في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب.

ومن المعروف عن تلك الملحمة الشعرية الطويلة أنها أول ملحمة عربية تتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي بدءا من الجاهلية وانتهاء حتى آخر دولة بني أمية وما يتعلق بهم وبأفعالهم المشينة.

وحتى لا يشعر القارئ بالملل أو التعب، سنكتفي بذكر بعض الأبيات الشعرية التي تحمل صورا مميزة من أحداث الواقعة الفجائعیة الدامية، وسوف نركز على تلك المشاهد التي تبرز شخصية الإمام الحسين عليه السلام من خلال ارتباطها بالأحداث بشكل مباشر ودقيق.

وأول هذه المشاهد التي يمكن أن نذكرها الآن، هو المشهد الذي يصور الإمام الحسين عليه السلام وقد ازدادت عليه الضغوط وأحاطت به الخطوب، لكنه لم يأبه لكل ذلك، ولم يلهه ذلك عن قراءته للقرآن الكريم أو حتى عن إقامة الصلاة والاجتهاد فيها في أكثر اللحظات حرجاوحساسية، وقد عبر الأديب والشاعر (سلامة) عن ذلك

ص: 251

بقوله:

ناولوني القرآن، قال حسين *** لذويه، وجد في الركعات

فرأى في الكتاب سفر عزاء *** ومشى قلبه على الصفحات

ليس في القارئين مثل حسین *** عالما بالجواهرالغاليات

فهو يدري خلف السطور سطورا *** ليس كل الإعجاز في الكلمات

فما هي السطور الخفية التي استطاع الإمام الحسين عليه السلام قراءتها وراء تلك السطور الظاهرة في الذكر الحكيم؟! وماذا استطاع أن يقرأ ويدرك من خفايا تلك الكلمات المبهمات فيه؟!

لقد رأى الإمام الحسين علیه السلام في تلك السطور والكلمات نفس الشيء الذي رآه في نومه بعد أن انتهى من قراءة القرآن الكريم وإقامته للصلاة وقيامه بالدعاء والمناجاة في جوف الليل الحالك الثقيل.

وهنا يختصر علينا الشاعر المسيحي (سلامة) الجهد والوقت كي يعطينا الجواب الوافي عن كل ما رآه الحسين عليه السلام في قرآنه وفي منامه، وها هو (سلامة) يعطينا تلك الصورة كاملة بكل أبعادها، فيقول:

أطلق السبط قلبه في صلاة *** فالأريج الزكي في النسمات

المناجاة ألسن من ضیاء *** نحوعرش العلي مرتفعات

وهمت نعمة القدير سلاما *** وسكونا للأجفن القلقات

ودعاه إلى الرقاد هدوء *** كهدوء الأسحار في الربوات

وصحاغب ساعة هاتفا: *** أختاه بنت العواتك الفاطمات

إنني قد رأيت جدي وأمي *** وأبي والشقيق في الجنات

ص: 252

بشروني أني إليهم سأغدو *** مشرق الوجه طائر الخطوات

إذن، هذا بعض ما رآه الحسين عليه السلام في نومه وقد أخبر شقيقته الحبيبة زينب عليها السلام بذلك، ولكن ليس هذا كل شيء، فقد جمع الحسين عليه السلام أصحابه ليخبرهم عن كل ما رآه في نومه من أهوال تنتظرهم في الغد القريب:

قال: إني لقيت منكم وفاء *** وثباتا في الهول والنائبات

حسبكم مالقيتم من عناء *** فدعوني، فالقوم يبغون ذاتي

و خذوا عترتي، وهيموا *** بجنح الليل، فالليل درعكم للنجاة

إن تظلوا معي فإن أديم *** الأرض هذا يغص بالأموات(1)

وبالطبع، فإن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يرفضون التخلي عنه وتركه وحيدا بين أيادي الأعداء الأمويين الذين ما جاؤوا إلى كربلاء إلا لإطفاء النور المحمدي المتجسد في شخص الحسين ذاته علیه السلام.

ويستمر الشاعر (سلامة) في صياغة أحداث الملحمة الحسينية بأسلوبه الشعري الأنيق، وينتقل بنا في ملحمته الشعرية إلى قصيدة طويلة بعنوان (الوقيعة) ليصور من

خلالها توبة (الحر بن یزید الرياحي) واستشهاده المؤثر بين يدي الإمام الحسين عليه السلام وليصور من خلالها أيضا استشهاد أصحابه الكرام الواحد تلو الآخر، وكذلك الحال بالنسبة لإخوانه وأبنائه الأطهار الذين كانوا يتساقطون حوله وبين يديه كما تتساقط وتتهاوى أشجار النخيل الباسقة أمام عواصف هوجاء مجنونة لا تعرف الرحمة ولا الهوادة.

أما في القصيدة التي تحمل عنوان (الساعة الرهيبة)، فيصور الشاعر المسيحي

ص: 253


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص 263 .264

قصص استشهاد من تبقى من آل الحسين وأبنائه، بما فيهم استشهاد ابنه الطفل الصغير

(عبد الله الرضيع)، وقد أسمى الشاعر (سلامة) هذه القصيدة الساعة الرهيبة) لأنه يصور فيها أيضا تفاصيل عملية استشهاد الإمام الحسين نفسه علیه السلام والاعتداء عليه میتا بطريقة وحشية رهيبة تقشعر لها الأبدان وترفضها النفوس الكريمة والضمائر الحرة القويمة.

ولا بأس الآن من ذكر بعض الأبيات التي تصور لنا مأساة استشهاد الطفل الصغير (عبد الله الرضيع) بين يدي أبيه الإمام الحسين عليه السلام الذي كان يحتضن طفله الصغير طالبا من جيوش الأعداء أن يسعفوه ببعض القطرات من ماء الفرات كي لا يموت عطشا بين يديه.

فماذا كانت النتيجة، وكيف استجابوا لطلبه؟!

هذا ما سنعرفه من خلال هذه الأبيات الملحمية التي کتبت بأنامل مسيحية لم يكن هدفها إلا إظهار الحق وموالاته، وكشف القناع عن الباطل ومعاداته، وها هو شاعرنا المسيحي يقول واصفا حال الإمام الحسين عليه السلام وهو محتضن لابنه الرضيع

(عبد الله) وقد أنهكه العطش:

ضمه الوالد اللهيف، لعل *** الحب يقصي عن الصغير العناء

أي طفل؟ كأنه الوردة الحمراء *** جفت ، لم تشرب الأنداء

وإذا كان هذا الطفل لم يشرب الماء، فماذا أرسل إليه الأعداء بدل تلك الشربة من

ماء الفرات؟!

وإذا في الفضاء سهم يصک *** السمع صکا ويجرح الأصداء

شق نحر الذبيح فاندفق *** المرجان، یکسوۂ حلة حمراء

ص: 254

مهجة البرعم الرضيع *** تلقاها حسين، بكفه، أجزاء

روعته الجفون، مسبلة الأهداب *** کالزهر إذ يموت انطفاء

ذلك الفجر لم یمتع بصبح *** وقبيل الصباح لاقى المساء

إنما حرقة الكآبة أقوى *** حين تبقی کابة خرساء(1)

وبما أننا وعدنا القارئ الكريم بإبعاد كل ما من شأنه أن يصيبه بالملل أو الضجر،

لذا فإننا نكرر ذكر تفاصيل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على أرض الفاجعة، وذلك لأننا قد قمنا بنقل تفاصيل ذلك الحدث المأساوي من هذه الملحمة وذكرناه مفصلا في فصل سابق بعنوان (صور مؤثرة من الفاجعة).

وبالتالي، فإننا سنكتفي الآن بذكر بعض الشذرات الشعرية المتنوعة التي تتناول أحاسيس ومشاعر هذا الشاعر المسيحي تجاه عدة نقاط هامة تتعلق بأحداث ما بعد الفاجعة.

فالنقطة الأولى التي يمكن أن نتوقف عند ذكرها الآن هي الحالة النفسية للشاعر الناظم للملحمة، ذلك الشاعر الذي استطاع، وبجدارة تامة، أن ينقلنا إلى الأجواء الحقيقية للأحداث لدرجة الشعور بأننا نشاهد تلك الأحداث الغابرة وكأنها تحدث اليوم أمام عيوننا. فالواقع النفسي للشاعر جعله يخاطب غروب الشمس فوق رمال كربلاء قائلا بصوت رخيم وحزين:

یاضیاء الغروب في كربلاء *** دونك الشمس في الغروب ضياء

کیف باتت والكوكب الضخم *** يهوي مثلما تسقط الجبال انكفاء

ص: 255


1- نفس المصدر السابق ص276، القصيدة بعنوان (الساعة الرهيبة).

صبغ النهرقانيا وتدلت *** شجرات تكاد تلقي الرثاء

أرسل العندليب شجو جريح *** واستحرت فيه الدموع دماء

وهولو تعلم الغصون نواح *** بث فيها الأسى بعاشوراء(1)

إنها صور فنية آسرة تتناسب مع الأجواء العامة لنهاية الفاجعة التي ألمت ببطلها

الإمام النبيل، سيد الشهداء وسليل بيت النبوة وخاتم الرسالات عليه السلام .

وتنبع هذه الصور - بلا شك - من أعماق هذا الشاعر الذي أضنته وحشية هذه المأساة وراحت تتفاعل بداخله مع ضميره وأحاسيسه مما جعله يعيش كل يوم من أيام حياته وكأنه ساحة من ساحات کربلاء، أوليس هو القائل عن نفسه كإنسان شاعر:

دمك السمح یا حسین ضیاء *** في الدياجير يلهم الشعراء

أي فضل لشاعر، منك يعتا *** م اللآلي، يصوغ منها رثاء

شاعر مقعدجریح مهيض *** كل أيامه غدت کربلاء

أما النقطة التالية التي نرغب في الإشارة إليها، فهي نتيجة العمل الدموي الرهيب الذي قام به الأمويون الطغاة ضد أهل البيت عليهم السلام الذين لم ترسلهم السماء إلا ورثة للأنبياء والمرسلين ورحمة للعالمين.

فكيف يرى (بولس سلامة) المصير الذي ينتظر فراعنة الأمويين؟!

إنه يراه بالقول المؤيد لما قاله (عبد الله بن عفيف الأزدي) في مجلس (ابن زیاد):

إن هذا الذي حنيتم من الآثام *** فوق الكفران والإلحاد

سیعد الرحمان ألف جحيم *** ليزيدورهطه الأوغاد

ص: 256


1- نفس المصدر السابق ص287، القصيدة بعنوان (الساعة الرهيبة).

تتراءى جهنم جنب تلك *** النار کالمدفأ الطري المهاد(1)

وبالطبع، فإن قصة موكب الأسرى والتطواف برؤوس الشهداء عليهم السلام في البلدان والأمصار وقصة المواقف البطولية للسيدة زينب علیها السلام في مجلس يزيد اللعين، كل هذه القصص لم تغب عن ملحمة هذا الشاعر المسيحي العظيم الذي جمع بين الأدب والشعر والفلسفة فجاءت مؤلفاته غنية بالأفكار ومشبعة بالقيم والمبادئ التي قلما نراها في مؤلفات أديب آخر.

ففي كتابيه (حديث العشية) و (الصراع والوجود)، وهما كتابان فلسفیان، نستطيع أن نلمس فيهما الكثير من المشاعر الإنسانية الفياضة، كما وأننا نستطيع أيضا أن نحس بالنفحات الروحية التي تتسامى على المشاعر الدونية الدنيوية، ولا ريب في أن القارئ الحصيف والمثقف النجيب سيدرك ما لفكر أهل البيت عليهم السلام وما لفاجعة کربلاء من آثار عميقة في طيات هذين الكتابين الفلسفيين من حيث الروح ومن حيث الرؤية الفلسفية للحياة.

وآخر ما يمكننا الوقوف عنده في تلك الملحمة المنظومة بمداد المحبة وأنفاس الولاء الصادق لآل البيت علیهم السلام ، ذلك الولاء النابع من قلب محب مسيحي عاهد النفس والروح على استمرار المسيرة في خط الولاية، هي تلك الأبيات الشعرية التي نظمها صاحب الملحمة وجعلها خاتمة لملحمته الشعرية الرائعة.

يقول الأديب (سلامة) مختتما ملحمته الغراء ومشيرا إلى حقيقة أن الظلام

الحالك لا يستطيع أن يقهر النور الأبجل مهما بلغت قوته وشدته:

غاص (نیرون) في دماء النصاری *** فحباهم زرع الخلود نمیا

ص: 257


1- نفس المصدر السابق ص295 ، القصيدة بعنوان (غب الوقيعة).

وأراق (العبيد) مهجة أهل البيت *** فاستشهد (الحسين) أبيا

ومضى للهلاك وغد (زیاد) *** ولواء (الحسین) ظل عليا

ثم يتابع قائلا عن نفسه وعن تأسيه بإيمان الحسين عليه السلام وصبره:

کدت أقضي لولا النهي والتأسي *** ونعيم أصوغه وهمیا

أتأسی بابن البتول فيوليني *** عزاء وبلسمامعنويا

أتأسی بهاجر يقطع *** الصحراء قسراعن بيته منفيا

ما رأى في الحياة ظل هناء *** منذ ماعاد من (حراء) نبيا

أتأسي بالأكرمين خصالا *** لم يسيغوا في العمر شربا مریا

بجراح (الحسین)، في كل جرح *** يجد الصبر كهفه الأزليا(1)

ومن خلال هذه الأبيات الأخيرة التي تطفح عزاء وأسفا على ما لحق بأهل البيت علیهم السلام من فجائع ومصائب تتزلزل لها شوامخ الجبال، نستطيع القول إننا قد استكملنا رحلتنا الشيقة في رحاب ملحمة (عيد الغدير) للأديب الكبير والشاعر المسيحي الشهير (بولس سلامة).

أما الآن أيها الأحبة القراء، دعونا نتوقف مع شاعر ملحمي آخر لا يقل أهمية عن

الشاعر الأستاذ (بولس سلامة) الذي كنا في ضيافته منذ قليل، وشاعرنا الذي سنتوقف عنده الآن هو الشاعر المسيحي المعروف (عبد المسيح الإنطاكي) صاحب (ملحمة الإمام علي عليه السلام) التي تحدثنا عنها سابقا.

وعلى الرغم من أننا عرفنا القارئ على هذا الشاعر المسيحي المتميز، إلا أننا نود أن نلفت انتباه القارئ إلى حقيقة أن هذا الشاعر المتألق ينحدر من أصول يونانية

ص: 258


1- نفس المصدر السابق ص311، القصيدة بعنوان (الخاتمة).

سكنت منطقة (إنطاكية)، على ما يبدو، فإن أصوله اليونانية قد لعبت دورا هاما في تكوين ثقافته وفي التأثير عليه أدبيا وفكريا، مما جعله يتعشق الشعر الملحمي الذي كان يمتاز به الأدب اليوناني القديم.

فملحمته العربية (ملحمة الإمام علي علیه السلام ) تتحدث عن تاريخ الإسلام المبكر وعن دور أهل البيت عليهم السلام في نشر تلك الرسالة السماوية الإنسانية الأخيرة بأسلوبهم السلمي والحضاري الراقي، ومن الطبيعي أن يتحدث الشاعر (الإنطاكي) عن الإمام الحسين عليه السلام وعن دوره في ترسيخ مبادئ وقيم وتعاليم جده الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله وسلم، وعن درب الآلام العسيرة التي سلكها من أجل تحقيق حلم خاتم الرسل والأنبياء عليهم السلام في إبقاء راية التوحيد عالية ينادي بها كل يوم خمس مرات مع التأكيد الدائم على بعدها الإنساني في ساحة الوجود.

وحتى لا نكرر ما سقناه سابقا من أبيات شعرية اقتطفناها من هذه الملحمة، سنذكر الآن بعض الأبيات الجديدة التي تصور لنا موقف ذلك الشاعر المسيحي المبدع من تلك الفاجعة المريرة التي لا تحيط بها الكلمات ولا توفيها حقها العبارات والحروف.

وها هو (الإنطاكي) يصفها قائلا:

جریمة ماروی التاريځ أبشع *** منها في أساطيره أو ما يحاكيها

جریمة دونهاكل الجرائم لا *** ينفك ذو الدين يشکو من تماسيها

جریمة کل عاشوراء تذکرنا *** بها وليس کرورالدهر ينسيها(1)

وفي الحقيقة، فإن الأديب والشاعر الملحمي (عبد المسيح الإنطاكي) لم يتوقف

ص: 259


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام ، مصدر سابق ص648

حديثه عن الإمام الحسين عليه السلام ضمن مجال (ملحمة الإمام علي عليه السلام)، بل إنه تجاوز ذلك إلى الحديث عنه في بقية مؤلفاته ودواوينه الشعرية الأخرى.

وها نحن نقتطف بعض الأبيات من قصيدته (الضريح المقدس) الشهيرة:

تسعى الركاب لسيد الشهداء *** بتقي وإخلاص وحسن ولاء

وتزورتربا قد تطهر بالدم ال- *** زاكي وأصبح مظهر الآلاء

وتؤم تربته التي فيها ثوي *** بجلاله وفخاره و بهاء

وغدت مقر الغفر والرحمات *** للمتهجدين ومصدر النعماء

فهنالك الزوار قد عقدوا الحبی *** حول (الحسین) بفجعة وبكاء

متمسكين بحبه وولائه *** وبحب (طه) مع بني (الزهراء)

فعلى الشهيد بكربلاء تحية *** الإخلاص تعبق في أنم شذاء

من كل من صدق الولا للمصطفی *** ولآله صدقا بغیر ریاء

وهو المشفع مع أبيه وجده *** بالناس في جاه عظیم رواء(1)

وبقي أن نقول الآن، وقبل انتقالنا من ساحة الشعر العربي إلى ساحة الشعر العالمي، إن كل ما ذكرناه من شعر عربي عن كربلاء لا يمثل إلا غيضا من فيض، ولكننا آثرنا أن نقتصر في حديثنا عن كربلاء على ذكر العديد من مشاهير الشعراء العرب الذين كانت لهم بصمات قوية لا تمحى على ساحة الشعر العربي المعاصر.

أما الآن، فسنبدأ رحلتنا في رحاب الشعر العالمي مع الشاعر الذي شرب من خمرة العشق الإلهي حتى الثمالة، فتحولت تلك النشوة بداخله إلى قصائد وأشعار

ص: 260


1- عبد المسيح الإنطاكي، الضريح المقدس، مجلة (الموسم) العدد /12/ المجلد /3/، مصدر سابق ص388.

خالدة يتغنى بها أهل الأرض ويترنم بموسيقاها الوجدانية ومعانيها الإنسانية أهل العشق الأوفياء الذين يتلهفون شوقا للعروج إلى السماء على صوت الأنغام القدسية لقيثارة الروح الخالدة.

إن شاعرنا العظيم الذي سنحل ضيوفا عليه الآن هو الشاعر الباكستاني الكبير (محمد إقبال) (1877- 1938) الذي تحدثنا عنه سابقا بما فيه الكفاية، ولكن حديثنا عنه الآن سيكون مقتصراعلى مكانة الإمام الحسين عليه السلام عنده في قصائده ودواوينه الشعرية التي تمت ترجمتها إلى معظم اللغات العالمية الحية.

تری کیف ینظر شاعر الشرق العظيم (اقبال) إلى شخصية الحسين عليه السلام ؟!

وما هي رؤيته الفلسفيةوالشعرية تجاه ملحمة كربلاء الدامية ؟! |

وللحصول على الإجابات المطلوبة، دعونا ندخل مباشرة إلى عالم (إقبال)

الشعري المخضب بالقيم الأخلاقية وبالأفكار الفلسفية المنفتحة على آفاق الوجود.

ففي قصيدة (فقر الصالحين)، والتي هي إحدى قصائد دیوانه الشعري (يا أمم الشرق)، نلاحظ تركيز الشاعر الواضح على المعاني الصوفية والعرفانية لمصطلح (الفقر) بكل أبعاده ومعانيه.

ولكن هذا لا يعني أن الفيلسوف الشاعر (إقبال) قد اقتصر في قصيدته المذكورة على إبداء وجهة نظره الشخصية تجاه معاني الفقر الصوفية، بل نرى أنه قط ربط ربطا وثيقا بين معاني الفقر وبين الإنسان الكامل في الإسلام، فالفقير الحقيقي - بالمعنی الصوفي العام - هو ذاك الذي يستغني عن (الكل) من أجل (الكلي).

وحتى تتضح الصورة أكثر دعونا نتوقف الآن مع بعض الأبيات من قصيدته (فقر

الصالحين) حيث يقول الشاعر (إقبال) من جملة ما يقوله فيها:

ص: 261

یا عبيد الماء والطين اسمعوا *** ماهو الفقر الغني الأرفع

هو عرفان طريق العارفين *** وارتواء القلب من عين اليقين

خیبر حررها ذاك الفقير *** لم یکن له سوى خبز الشعير

وقد قصد (إقبال) بذلك أن الإمام عليا هو التجلي الأمثل للصفات الكمالية الظاهرة في الإنسان الكامل، ذلك الإنسان الذي استطاع أن يقهر حصن خيبر بقوته الجبارة على الرغم من أنه كان قد اكتفى من دنياه بطمریه وقرصيه من خبز الشعير، وبعد ذلك، ينتقل (إقبال) للقول عن المؤمن الحقيقي:

يقهر المؤمن ناموس الفلك *** فهو إنسان وفي النور ملك

في هدى القرآن والذكر الحكيم *** دائم الإسعاد موصول النعیم

إلى أن يقول:

وترى المؤمن في امته *** ينشدالحق بذاتيتة

نحو إدراك المعالي ساعيا *** وسراجا في الليالي هاربا

إنه إيمان بدر و حنين *** إنه زلزال تكبير الحسین(1)

ونفس المعاني التي وردت عن الإمام الحسين عليه السلام في هذه القصيدة الرائعة نراها تتكرر مرة أخرى في قصيدة أخرى له بعنوان (صوت إقبال إلى الأمة العربية) حيث يرى الفيلسوف (إقبال) أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ما هي في حقيقتها إلا الامتداد الطبيعي لثورات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في بدر وځنين وفي بقية

ص: 262


1- محمد إقبال، يا أمم الشرق، ترجمة: محمد أحمد غازي وصاوي شعلان، دار الفكر . دمشق، ط 1988/1 ص74

الوقعات النبوية الأخرى(1)

ولو انتقلنا الآن من ديوان (يا أمم الشرق) إلى ديوان (جناح جبریل)، ماذا يمكننا

أن نقرأ فيه عن الإمام الحسين عليه السلام ؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نقرأ فيه الكثير عن سيد الشهداء عليه السلام وعن ثورته الإنسانية العظيمة في كربلاء، ولذلك، دعونا نتوقف الآن مع هذا الديوان الكبير الذي لا تكاد تقرأ فيه قصيدة إلا وتقع فيها على اسم الحسين علیه السلام وعلى معاني بطولاته وتضحياته من أجل الحق والفضيلة.

وها نحن نستطيع أن نقرأ قوله في قصيدته (حمية وحماسة) الواردة في ديوان (جناح جبریل):

ليس في نار التراث العربي، ولا في نغم الفكر الفارسي

رصد العربي ولا تأمل الفارسي!

ليس في قافلة الحجاز (حسين) واحد

مع أن ضفائر دجلة والفرات ما تزال تلمع (2)

إذن، فغاية القول عند الفيلسوف الشاعر (إقبال)، هو أن التاريخ عاجز عن المجيء بحسين آخر إلى الوجود على الرغم من أن وجوده شيء أساسي وضروري في كل حين ووقت أمام هذه الظروف السيئة والضاغطة التي يعانيها الإنسان في كل مكان من الأمكنة التي زرعها آدم عليه السلام بذریته

ونستطيع أن نقرأ أيضا في إحدى قصائده الطويلة جدا قوله الذي يخاطب فيه

ص: 263


1- نفس المصدر السابق ص116
2- محمد إقبال، ديوان جناح جبريل، مصدر سابق ص183.

الإنسان بأسلوب المعلم والحكيم:

الذات التي تدعمها المعرفة يغبطها حتى جبریل

فإذا دعمها الحب غدت صور إسرافيل

أنا الألم الذي أتی من معرفة هذه الأيام:

ألقوني في النار كما ألقوا إبراهيم!

إلى أن يقول في نهاية المقطع من هذه القصيدة الطويلة:

الليل مظلم وأنت بعيد عن القافلة:

لهيب كلمتي مصباح لك!

حكاية الحرم ليس لها نظير، فهي بسيطة وملونة

(الحسين) منتهاها، و (إسماعيل) مبتداها(1)

وقد علق الأستاذ الأديب (عبد المعين الملوحي) الذي ترجم ديوان (جناح جبریل) إلى اللغة العربية بالقول عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالكعبة:

(إسماعيل هو الذي أراد إبراهيم تضحيته لا إسحاق، وكان إسماعيل بكر أولاده... أما الحسين فقد سقط شهيدا في العراق دفاعا عن الإسلام يعني دفاعا عن شرف الكعبة كما يقول إقبال)(2)

وكما ذكرنا سابقا، لا يوجد دیوان من دواوين الفيلسوف الشاعر (اقبال) إلا ولأهل البيت عليهم السلام عموما، وللإمام الحسين عليه السلام خصوصا، ذکر واضح فيه، وبالتالي، من الطبيعي أن يكون للإمام الحسين عليه السلام ذكر مميز في ديوان الشاعر

ص: 264


1- نفس المصدر السابق ص138
2- نفس المصدر السابق ص138

(إقبال) المسمى (في السماء) والذي يجمع الكثير من الأفكار والرؤى الفلسفية التي

يؤمن بها ذلك الشاعر والفيلسوف الكبير.

ولكن، وللأسف، فإن ما يمنعنا من ذكر الشواهد المناسبة من ذلك الديوان هو الخلل الواضح في الترجمة، وربما مرد ذلك إلى أن المترجم حاول جاهدا - وهو مشكور على جهوده - أن ينقل الديوان الشعري من اللغة الفارسية إلى ما يقابله من الترجمة باللغة العربية وبطريقة شعرية مماثلة مما أفقد النصوص الشعرية الأصيلة الكثير من بلاغتها وقوة معانيها ومتانة ترابطها.

وعلى كل حال، فإننا سنكتفي بذكر هذه الأبيات الشعرية القليلة التي يرى الشاعر( إقبال) من خلالها أن استشهاد (ابن النبي)، الإمام الحسين عليه السلام ، لا يماثله أي استشهاد، وأن طريقة رحيله الدامية صعودا إلى الله لا تعادلها أية طريقة أخرى مهما بلغت من الصعوبات والمآسي والآلام العظيمة.

ومن هذا المنطلق، يقول (إقبال):

مایرجي مؤمن من ربه *** موت إطلاق له من تربه

لطريق الشوق هذا الموت غاية *** وهو للتكبير في حرب نهايه

ليس للمؤمن غير الأطيب *** أي موت مثل موت (ابن النبي)؟!

قال للقوم النبي ذو المحامد *** راهب الإسلام من كان المجاهد(1)

وقد علق المترجم الدكتور (حسين مجيب المصري) على هامش الصفحة الموجودة فيها هذه الأبيات الشعرية المذكورة أعلاه، بالقول: (ابن النبي) هنا هو

ص: 265


1- محمد إقبال، في السماء، ترجمة: الدكتور حسين مجيب المصري، نشر مكتبة الأنجلو المصرية . القاهرة، 1973، ص288.

الإمام الحسين رضي الله عنه سيد الشهداء، وقد علق أيضا على البيت الأخير بقوله: هذه إشارة إلى قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «الجهاد رهبانية الإسلام»

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشاعر والفيلسوف الباكستاني (إقبال) كان يخالف قول العالم والفيلسوف (رينيه ديكارت) القائل: (أنا أفكر، إذن أنا موجود) وذلك بقوله المأثور: (أنا عاشق، إذن أنا حي)، فالعشق ينشئ ثباتا في الحياة، ويقيم ثقة في البقاء بعد الرحيل من الدنيا، والزمان أيضا أسير العشق لأن العشق أعلى منه، وقد كان العشق وسيبقى دائما وأبدا هو الجوهر الحقيقي للروح.

ولو تساءلنا قائلين: وما العشق الجوهري الذي يقصده (إقبال)؟!

في الواقع، إن الأستاذ الباحث، الدكتور (علي حسون) يجيبنا على السؤال المطروح من خلال ما أورده في كتابه المتميز (فلسفة إقبال) حيث بين لنا أن العشق الحقيقي الذي يقصده الفيلسوف (اقبال) هو التعلق بالکلي المطلق من جهة، والتعلق بأهل البيت المحمدي عليهم السلام من جهة ثانية، وعلى رأسهم والد الحسن والحسين عليهما السلام ، أمير المؤمنين علي عليه السلام(1)

وقد جاء كلام الباحث الإيراني الأستاذ (صادق آئینه وند) مؤيدا لكلام الدكتور (علي حسون) حول مسألة العشق الإلهي وعلاقتها بالإنسان الكامل الذي لا يمكن الأحد، أي كان، ومهما بلغ من العلم والمعرفة، أن يصل إلى تلك الحالة من الكمال الإنسانی ما لم يتخذ من أهل بيت محمد المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم مثلا وأسوة له في طريق كماله الإنساني وعروجه الروحاني.

فالفيلسوف والشاعر الباكستاني (إقبال) كان يري، على الرغم من أنه مسلم سني

ص: 266


1- الدكتور علي حسون، فلسفة إقبال، دار السؤال . دمشق ط 1986/2 ص136

الأصل والمنبت، أن الكمال الإنساني لن يكتمل حقيقة ما لم يتم الاهتداء بنهج الخمسة المطهرين من كل رجس ودنس، ولكن، وبالرغم من ذلك، فإن السؤال الأساسي يبقى مطروحا أمامنا:

أين موقع الإمام الحسين عليه السلام من هذا الكلام عن فلسفة (إقبال) حول العشق

الإلهي وحول الإنسان الكامل؟!

وهنا يجيبنا الباحث الإيراني (آئینه وند) بالقول إن عملية البحث عن الإنسان الكامل في الوجود هي عملية صعبة ومضنية بلا شك، والدليل على ذلك هو أن الفيلسوف والحكيم اليوناني القديم (دیوجینوس) قد بحث عنه في النهار وطاف المدينة بالمصباح فلم يهتد إليه ولم يلتق به وقد مات بعد ذلك دون تحقيق تلك الأمنية الغالية على قلبه.

وهنا يتابع (آئینه وند) كلامه قائلا: (إلا أن إقبال وجد الإنسان الكامل فيمن يتأسى بالحسين عليه السلام ومسلكه في كربلاء، فهو يقول لمن يؤثر الحياة على الموت في سبيل الحق: لا تصاحبني، فأنا لا أسمع نصيحتك، ولن أغلق فمي ولن أمتنع عن إباحة الأسرار، بل إني سأتزود بالسهم والرمح والخنجر والسيف، وكل وسائل الحرب الأخرى في سبيل الحق، فابتعد عني إن كنت تخاف، فإنني أرى عظمة الفناء في سبيل الحق، تلك العظمة الحسينية هي كمال الشرف الإنساني)(1)

وقد جاء كلام الباحث ( آئینه وند) شرحا لقول الشاعر (إقبال) في إحدى قصائده

العرفانية الرائعة:

أنا أبحث عن السهم والرمح والخنجر والسيف

ص: 267


1- مجموعة من الأدباء والباحثين، نداء إقبال، مصدر سابق ص183

فلا تصاحبني لأن مسلك الحسين أملي

قالوا: أغلق فمك ولاتبح بالأسرار *** قلت: كلا، إن صيحة تكبيري هي أملي

وقد تابع الأستاذ (آئینه وند) تعليقه على هذين البيتين الشعريين اللذين أوردهما في بحثه الفكري الشيق (اليقظة الإسلامية في فارسيات إقبال) قائلا وواصفا حال (إقبال): (فليرتفع صوت التكبير عاليا، ولتعل كلمة الإسلام على أشلائي في أسعد مقاماتها أسوة بسيد الشهداء، بسبط الرسول صلی الله علیه و آله وسلم)(1)

وقبل أن تغادر سفينة بحثنا ميناء (إقبال) الشعري، نشعر أنه من واجبنا أن نشير إلى أن الأديب والمفكر (نجيب الكيلاني)، صاحب المؤلفات الفكرية والأدبية الحاصلة على جوائز عديدة، لم يجعل عنوان کتابه الأكثر شهرة، (إقبال الشاعر الثائر)، عن عبث.

بل لقد ربط بين شخصية (إقبال) ومعاني الثورة من جهة، وبين شخصية (إقبال) والروح الإبداعية الشعرية من جهة أخرى، هذا كله بالنسبة لعنوان الكتاب فقط، فماذا عن مضمونه وعن خفايا سطوره و صفحاته؟!

في الواقع، إن الدكتور (الكيلاني) يبين لنا في أكثر من موضع في كتابه المذكور أن ثورة الفيلسوف والشاعر (إقبال) هي جزء، بل هي جذوة من ثورة الإمام الحسين عليه السلام العالمية التي يرمز لها بتكبيرة (الله أكبر)(2)

فتكبيرة (الله أكبر) الحسينية قادرة على تغيير العالم والنهوض به عاليا، بل إن

ص: 268


1- نفس المصدر السابق ص183
2- الدكتور نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مصدر سابق ص147.

(إقبال) قد زاد على هذه الحقيقة حقائق أخرى في قصيدته التي تحمل عنوان(طلوع

الإسلام) والتي يقول فيها بكل جرأة ويقين:

أنت يد قدرة الله أيها المسلم وأنت لسانها.

فهيا اخلق يقين الهمة ولا تعش أسير الأوهام...

أكانت هناك في العالم قوة تحارب الجبابرة سوى

قوة (علي) وفقر (أبي ذر) وصدق (سلمان)؟!(1)

وهنا أجد نفسي، وقد حصلت على معظم ما تريد من كنوز ثمينة من أعماق بحار عالم (إقبال) الفلسفي والشعري، مستعدا للإبحار الطويل من جديد بهدف إلقاء المرساة المتعبة على شاطئ جديد آخر للتعرف على عوالم جديدة زاخرة بالعلوم والمعارف وبالأفكار الإنسانية النيرة التي تتألق بأنوارها المتلألئة في فضاءات الوجود ومدارات الروح وفي خفقات القلب والوجدان.

وستكون محطتنا الآن مع مستشرقة ألمانية عز نظيرها في عالم الاستشراق والبحث في عالم التصوف وتاريخ الأديان.

إنها المستشرقة الألمانية البارزة (آنا ماري شميل) ( Annemarie

(2005 -1922) (Schimmel

وقبل الدخول في عالم تلك المستشرقة الألمانية التي تمثل ظاهرة فريدة في عالم الدراسات الاستشراقية، لا بد لنا من أن نقدم تعریفا موجزا عنها وعن سجلها الفكري المليء بالمآثر وبالأعمال الفكرية الجليلة التي قلما نلحظها عند الكثير من المستشرقين الكبار الذين بلغت شهرتهم الآفاق شرقا وغربا.

ص: 269


1- نفس المصدر السابق ص75

ولدت (آنا ماري شميل) في مدينة (إير فورت) الألمانية عام / 1922/ وقد بدأت تتعلم اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وحصلت على درجة الدكتوراه في علم الاستشراق من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية من جامعة (برلین) سنة /1941/ وهي لم تتجاوز سن التاسعة عشرة، كما أنها حصلت سنة / 1951/ على درجة دكتوراه ثانية في تاريخ الأديان.

ولهذه المستشرقة العديد من الكتب والدراسات التي تتناول الفكر الإسلامي، عقيدة وتاريخا، ومن أشهر تلك الكتب کتابها (محمد نبي الله ومنزلة الرسول في الإسلام)، وقد حصلت السيدة الفاضلة (شمیل) عام / 1995/ على جائزة السلام، وهي أهم جائزة من نوعها بعد جائزة (نوبل) العالمية للسلام(1)

وبعد هذا التعريف الموجز بالمستشرقة (شميل)، أريد أن أتوقف مليا مع بحث هام لهذه المستشرقة النابغة، كانت قد كتبته لتبين للقراء والباحثين أهمية ثورة كربلاء وعظمة شخصية الإمام الحسين عليه السلام وأثر ذلك على حركة الشعر العالمي خارج دائرة الأدب العربي.

إن بحث السيدة الفاضلة (شميل) يحمل العنوان التالي:

Karbala and The Imam Husayn in Persian and Indo - )

(Muslim Literature

أي ما يمكن ترجمته بما يلي: (كربلاء والإمام الحسين في الأدب الإسلامي الفارسي والهندي)، وهو بحث قيم وبالغ الأهمية نظرا للجهود المبذولة في تقديم

ص: 270


1- میادة خطاب، ماري شميل. الألمانية عاشقة النبي، مجلة (النور)، العدد 176، آب . أيلول 2006، دار النور . لندن، راجع ص74. 75.

المادة الفكرية الجديدة والهامة بأسلوب مختصر و مفید، ولكن، وعلى الرغم من العنوان الواضح الذي يحمله ذلك البحث الفكري الثري، إلا أن السيدة (شميل) قد أدرجت في بحثها أسماء العديد من الشعراء الأتراك الذين لهم بصمات شعرية واضحة في المسيرة التاريخية للشعر التركي.

وها نحن سنبدأ باستعراض أهم النقاط الواردة في ذلك البحث الفكري النادر من حيث نوعيته وغزارة معلوماته، وتبدأ السيدة (شمیل) بحثها المذكور بمقدمة موجزة تقول فيها: (من المثير للاهتمام إلقاء نظرة على شيء من أشعار التراث الإسلامي الشرقي التي تعبر تعبيرا غالبا عن انشغال الشعراء السنة بمصير الحسين عليه السلام والتي تردد في الوقت نفسه صدی ما عند الصوفيين من نزوع لأن يروا فيه مثالا للمعاناة التي لها أثر راسخ في زكاة النفس (سمو الروح))(1)

وبعد هذه المقدمة الموجزة، تبدأ المستشرقة (شميل) استعراض أسماء الشعراء

الذين كان للإمام الحسين عليه السلام أثر بالغ في تكوين بنيتهم الفكرية وهويتهم الروحية.

وها نحن نذكرهم كما أوردتهم هي في بحثها مبتدئة حديثها عن الشاعر (سنائي)( يقول الشاعر (سنائي)، المتوفى عام / 1131م/ في (الديوان) مخاطبا المسلمين

ولائما إياهم على تقاعسهم عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام:

دینکم حسینکم، والطمع والرغبة هما خنزیر کم وكلبكم

ص: 271


1- Annemarie Schimmel, Karbala and The Imam Husayn in Persian and Indo - Muslim Literature. وقد نشرت مجلة الصراط هذا البحث في المجلد رقم /12/ عام 1986، وقد قمنا نحن بأخذ هذا البحث باللغة الإنكليزية عن الموقع الإلكتروني التالي: www. al - islam. Org/ al - serat وقد قمنا بترجمته إلى اللغة العربية بكل دقة وأمانة، يرجي الرجوع إلى الموقع الإلكتروني المذكور للتأكد من سلامة التوثيق ودقة الترجمة.

تقتلون الأول (حسینکم) عطشان، وتطعمون الآخرين!!)

ثم تنتقل (شميل) للكلام عن (فريد الدين العطار)، فتقول:

(يقول العطار في إحدى قصائده:

کن کالحسين أو كالمنصور..)

وبالطبع، فإنه يقصد بالأول الإمام الحسين، شهيد الحق في الخلق، بينما يقصد

بالآخر (المنصور) الحسين بن منصور الحلاج، شهيد المتصوفين الشهير.

وبعد الكلام عن الشاعر (العطار)، تنتقل السيدة الألمانية (شميل) إلى دائرة

الشعراء الأتراك، وتبدأ حديثها عنهم بالقول:

(هناك شاعر تركي يدعى (یونس عمر) (Yunus Emre)، عاش بين القرنين (13م. 14م) وتعد أشعاره من أول ما نظم باللغة التركية، وقد برز فيها ذكر سبطي النبي علیهم السلام .

وقد وصفهما في إحدى القصائد الرائعة بأنهما (سيدا الشهداء) و (دمعتي الأولياء) و (حملا فاطمة) و(ملكا الجنان الثمان) و (قرطا العرش).

وبعد كلامها عن الشاعر التركي (يونس عمر)، تنتقل للكلام عن شاعر تركي آخر

اسمه (سيهير أبدال) (Seher Abdal) (القرن السادس عشر ميلادي) فتقول عنه:

(يقول الشاعر (سيهير أبدال):

أهل السماء والأرض سكبوا اليوم دمعا أسود.

وهم شعث مثل شعرك يا حسين

ينزف الفجر دمه حزنا على الحسين،

والتوليب الأحمر تتخضب الدم وقد اصطبغت قلوبها بصبغة حزنه...).

ص: 272

وهنا تنتقل (شميل) من الشاعر التركي (أبدال)، وربما يلفظ أيضا (عبدال)،إلى

شاعر سندي في الباكستان هو الشاعر (محمد محسن) ( M. Muhsin )

(1709م - 1750م) الذي نظم الكثير من المرثيات.

وتذكر له السيدة (شميل) مقطوعة واحدة من مرثياته المؤثرة، وهي تلك المقطوعة التي يقول فيها:

(سفينة آل المصطفى غرقت في الدم،

غيمة الكفر السوداء حجبت الشمس،

سراج النبي أطفأه ريځ أهل الكوفة).

ومن السند تنتقل السيدة (شميل) إلى محطتها الأخيرة في قلب الباكستان.

إنها المحطة التي تقف فيها مع الشاعر الباكستاني المعروف (عبد اللطيف البيتي)

( A. L. of Bihti) (1689م - 1752م)، وقد نقلت السيدة (شميل) عدة مقاطع شعرية له جديرة بالوقوف عندها للتأمل والدراسة والتحليل.

وهذه هي الأبيات التي ذكرتها له (شميل) في بحثها الرائع الجميل.

يقول الشاعر (البيتي):

اصغ إلي، إن مشقة الشهادة هي يوم السرور

ليس عند (یزید) ذرة من هذا العشق

الموت هو المطر لأبناء (علي))

ويقول (البيتي) في نفس القصيدة أيضا:

(مشقة الشهادة في فصل المطر البهيج

ليس في (یزید) أثر من هذا العشق

ص: 273

لقد قدر للأئمة منذ البدء أن يذوقوا القتل)

وتذكر (شميل) مقطعا ثالثا عن شهداء کربلاء يقول فيه الشاعر (البيتي):

(الفردوس مسكنهم، لقد اقتحموا الطريق إلى الفردوس

وفنوا في الله، وبه أصبحوا إياه (متألهين))(1)

وبما أننا لا نزال في إطار الكلام عن المعلومات الثمينة الواردة في بحث المستشرقة (شمیل) علينا أن لا ننسی نقطتين هامتين، فالأولى تتعلق بالشاعر (سنائی) الذي سبق ذكره والذي خاطب المسلمين من خلال دیوانه ليقول لهم: إن (دینکم هو حسینکم)، فقد كان يقصد أن الذي يتهاون في نصرة الإمام الحسين عليه السلام وفي الدفاع عنه، فإنما هو يتهاون في نصرة الإسلام وفي الدفاع عن رسالة الله الأخيرة، فالإمام الحسين عليه السلام هو حجة الله في خلقه وهو رسالة الله الناطقة بالحق والآمرة بالصدق في عموم البرية والخلق.

وقد اعتبر الباحث (Najib Ullah) في كتابه (Islamic Literature) (الأدب الإسلامي) أن الشاعر العظيم (سنائي) واحد من أعظم الشعراء الصوفيين في الإسلام قاطبة(2)

فآثاره الشعرية والعرفانية لا تزال تلقى الكثير من التقدير والإعجاب.

أما النقطة الثانية التي أريد أن أذكرها هنا أيضا، فهي النقطة التي تتعلق، ليس فقط بالشاعرين التركيين (یونس عمر) و(سيهير أبدال)، بل بعموم الأدب التركي في بداية

ص: 274


1- يمكن العودة إلى الموقع الإلكتروني المذكور أعلاه للاستزادة من المعلومات عن الشعراء المذكورين في بحث السيدة (شميل) وعن تأثرهم بالإمام الحسين عليه السلام وفاجعة كربلاء.
2- Najibullah islamic literature washington square press.newyork 1993 -page 278.

ولادته، وعن هذه النقطة المهمة المتعلقة بالأدب التركي، يقول البروفيسور (ستانلي لين - بول) (Stanley Lane - poole ) في كتابه المطبوع باللغة الإنكليزية (Turkey) (تركيا): (إن أدب العثمانيين، مثل حضارتهم، مستعار من الفرس من خلال السلجوقيين، ولذلك فمن الطبيعي أن نجد تشابها كبيرا بين كتابات هؤلاء وكتابات أساتذتهم الفرس)(1)

وبالطبع، فإن تحليل هذا الكلام، وما جاء بعده على لسان الباحث (لين - بول) يشير بوضوح إلى أن الأدب التركي عموما، وبشكل خاص الشعر، كان واضح التأثر بالنزعة الصوفية والميول الروحية التي تقدس أهل البيت علیهم السلام عموما، وتنتصف للإمام الحسين عليه السلام وما حدث له في كربلاء خصوصا، على الرغم من اختلاف المذهب.

وبما أننا الآن بصدد الكلام عن الأدب التركي، وبشكل خاص عن الشعر التركي الذي لا يزال يحمل في طياته الكثير من الرؤى الصوفية، فمن المفيد أن نذكر أن هناك علاقة وثيقة بين الشعر والتصوف، وقد انتقلت هذه العلاقة أيضا من الأدب الفارسي إلى الأدب التركي، وتتجلى تلك العلاقة بين الشعر والتصوف من خلال الحقيقة الواضحة التي تبين لنا أن الشاعر يكتب بلغة صوفية، في حين أن المتصوف يكتب بلغة شاعرية، وربما كان خير مثال على ذلك في العصر الحديث المتصوف التركي (بديع الزمان سعيد النورسي) صاحب عشرات المؤلفات الصوفية المعروفة والتي تمت ترجمة بعضها إلى العديد من اللغات العالمية الحية.

ولو قرأنا، على سبيل المثال، ما جاء في كتابه (مجموعة اللمعات من کلیات

ص: 275


1- stanley lane-poole turkey khayats.beirut 1966p.302.

رسائل النور) عن الإمام الحسين عليه السلام ، فسوف يتبادر إلى أذهاننا أن الذي نقرؤه ليس مجرد أفكار صوفية ولا (لمعات) عرفانية، وإنما هو فيض وفير من القصائد الشعرية الشفافة المليئة بالصور الفنية والمحسنات اللفظية.

وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا أن يعود إلى كتاب (اللمعات) المذكور ويقرأ بالتحديد (اللمعة الرابعة) التي تدور عن معرفة أهل البيت عليهم السلام وعن إقرار المؤلف (النورسي) بنورانية الإمام الحسين عليه السلام وبأنه هو وبقية الأئمة من أهل البيت الاثني عشر علیهم السلام هم عبارة عن سلسلة نورانية متصلة بعضها ببعض، وأنهم هم أيضا الورثة الحقيقيون لنور النبوة وحقيقتها(1)

وبالعودة إلى المستشرقة الألمانية (شمیل) ثانية، نرى أن تلك المستشرقة كانت متأثرة جدا بالفيلسوف والشاعر الألماني العظيم (یوهان غوته) الذي أفنى حياته في دراسة الشرق وقيم الروحية الإسلامية، وقد ذكرت السيدة (شميل) في أكثر من مكان في مؤلفاتها أن (غوته) هو أحد أهم أساتذتها الروحيين الذين فتحوا لها أنوار بصيرتها للتعرف عن كثب على الإسلام وعلى أهل الرسالة الحقيقيين الذين كانوا، بحق، أنوار السماء المرسلة مع خيوط الفجر الجديد إلى غفاة البشر الذين كانوا يغطون في سبات

طويل وثقيل.

فمن هو (غوته) هذا الذي تأثرت به المستشرقة الألمانيةاللامعة (شمیل)؟!

وهل هناك مكان لأهل البيت عليهم السلام، بما فيهم الحسين عليه السلام ، في مؤلفاته

ودواوينه الشعرية ؟!

ص: 276


1- بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، مصدر سابق.ص32

الجواب، وبشكل مختصر جدا، يأتي على الشكل التالي من خلال هذه النقاط الموجزة يرى (غوته) (1749 - 1832) في كتابه ( الشعر والحقيقة) أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام هو المؤمن الأول بالرسالة الإسلامية إلى جانب السيدة خديجة عليها السلام، وأن إيمانه کان انحيازا كليا ومطلقا لرسالة النبي المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم(1)

أما النقطة الثانية، فتتجلى من خلال مكانة أهل البيت عليهم السلام عند (غوته) عندما تنقل لنا الباحثة الألمانية (كاتارينا مومزن) جزءا هاما من مسرحية قصيرة وضعها (غوته) على لسان الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، والدي الحسن والحسين عليهما السلام ليبين للناس من خلال ما جاء فيها أن عليا وفاطمة علیهما السلام هما جناحا النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي يحلق بهما في سماء الروح حاملا رسالته السماوية التي ستخلد بواسطتهما وبواسطة ذريتهما المرتقبة.

فالقليل من التأمل والتحليل للحوار القائم في تلك المسرحية بين علي علیه السلام وفاطمة عليها السلام سيقودنا، بلا ريب، إلى تلك الرؤى والنتائج المستخلصة وما على الذي يريد تحليل ودراسة تلك المسرحية إلا أن يعود إلى كتاب الباحثة (كاتارينا مومزن) المعروف بعنوان (غوته والعالم العربي)(2)

ولكن، ومن باب التأكيد على ما ذكرناه في السابق، نقول إن فیلسوف ألمانيا وشاعرها الأكبر قد أشار في الجزء الثاني من كتابه (الشعر والحقيقة) إلى أنه كان قد خطط لمسرحية (نشيد محمد) وأن يكون الإمام علي عليه السلام هو صاحب الدور الأول فيها حيث يقوم الإمام علي عليه السلام بإنشاد ذلك النشيد الصوفي المليء بالقيم الروحية

ص: 277


1- يوهان غوته، الشعر والحقيقة، مصدر سابق، ج2 ص279.
2- كاتارينا مومزن، غوته والعالم العربي (عالم المعرفة) العدد /194/ ترجمة الدكتور عدنان عباس علي، الكويت، عدد شباط 1955 ص 206.204

والمعاني الصوفية في نقطة الذروة من النجاح في عملية التبليغ السماوي(1)

وآخر ما يمكننا أن نذكره الآن عن هذا الشاعر والفيلسوف الألماني العظيم الذي شغل أوروبا بأكملها بأعماله الأدبية ومآثره الفكرية والفلسفية هو أن لهذا العبقري دیوانا شعريا يحمل عنوان (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) وقد وضع فيه (غوته) خلاصة أفكاره عن الشرق وعن الإسلام.

وما يعنينا من دیوانه المذكور هنا، هو أنه قد وضع فيه قصيدة عن سيدات الجنة الأربع وهن - حسب ما جاء في قصيدته التي قام بتعديلها لاحقا - (زلیخا، مریم، خديجة، فاطمة) (عليهن السلام جميعا).

وقد علق الدكتور المصري (عبد الرحمن بدوي) على هذه القصيدة من خلال

التعريف بأسماء السيدات الوارد في نص القصيدة بقوله:

(أما في الصورة الثانية للقصيدة (المعدلة) فنجد:

1- زلیخا، وقد عرفت بحبها العنيف ليوسف، ثم زهدها وعزوفها.

2- مريم عليها السلام .

3- السيدة خديجة رضي الله عنها، زوجة الرسول وأم المؤمنين التي لم يتزوج

بغيرها طول حياتها.

4. وفاطمة الزهراء، ابنة الرسول وزوجة علي، وأم الحسن والحسين، رضي الله

عنهم جميعا)(2)

إن كل هذه الأفكار عن أهل البيت عليهم السلام بالإضافة إلى الكثير من أفكار(غوته)

ص: 278


1- يوهان غوته، الشعر والحقيقة، مصدر سابق، ج2 ص279.
2- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، مصدر سابق، ص314.

الأخرى قد أثرت في البنية المعرفية والرؤية الاستشراقية للباحثة الألمانية السيدة (آنا ماري شميل)، ولا تغالي إذا قلنا إن أفكار (غوته) عن الإسلام، بالإضافة إلى استعداداتها الثقافية والروحية، هي التي دفعتها إلى عشق الإسلام وعشق رموزه الحية( محمد وعلي فاطمة والحسن والحسين) عليهم السلام، وإلى ملء أصغريها بحب الله سبحانه وتعالى على نفس النهج الذي أحبه (غوته) إياه من خلاله.

بل كيف لا يكون الأمر كذلك وهي التي قالت: (إنني أؤمن أن الماء الصافي سوف ينتصر بحركته الدؤوبة على مر الزمان على صم الحجر، إنني أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولا وأخيرا إلى من توجه إليه (غوته) في (الديوان الشرقي) بقوله: لله المشرق... لله المغرب... والأرض شمالا... والأرض جنوبا ... تسكن آمنة بين يديه ... هو العدل وحده، يريد الحق لعباده.. من مائة اسم من أسمائه .. تقدس اسمه هذا.. آمين)(1)

ونظرا لخدماتها الجليلة للإسلام ولنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة في صفوف الناس الأوروبيين، فقد أقامت الجهات الثقافية المسؤولة في إيران، بلد الثقافة والحضارة، منتدى ثقافيا يحمل اسم (خیابان این میری شمل) أي (منتدی آنا ماري شمیل) یوکفي هذه المستشرقة فخرا أن رئيس ألمانياالأسبق (رومان هرتسوج) قال عنها وهو يسلمها جائزة السلام: (إنها هي من مهدت لنا الطريق إلى الإسلام)(2).

وعلى كل حال، وقبل أن نكمل رحلتنا في أوروبا بحثا عن أثر الإمام الحسين عليه السلام وعن فاجعة كربلاء في الشعر الأوروبي، نرى من الأفضل الآن أن نستكمل

ص: 279


1- ميادة خطاب، ماري شميل الألمانية عاشقة النبي، مصدر سابق، ص75
2- نفس المصدر السابق، ص75

رحلتنا في شبه القارةالهندية لنتعرف، ولو بشكل مختصر، على بعض الشعراء الهنود الذين كان للإمام الحسین علیه السلام مکان هام في شغاف قلوبهم وضمائرهم و في دواوينه وقصائدهم.

ومن جملة من يمكننا أن نذكرهم الآن، على سبيل المثال، الأديب الهندي المشهور (مير أنيس) الذي كرس قسما كبيرا من جهوده الأدبية للحديث عن الإمام الحسين عليه السلام وعن ملاحمة البطولية الخالدة في كربلاء

وقد كتب عنه الأستاذ (محمد حسن)، أستاذ الأوردية السابق في مركز اللغات الهندية بجامعة (جواهر لال نهرو) في نيودلهي، قائلا: «.. و(مير أنيس) الذي أضفى بشخصيات ملاحمه الدينية عن معركة كربلاء صبغة محلية ونظرة هندية على الأدب الأردي»(1)، قاصدا بذلك عمق الأثر الروحي والفكري الذي تركه هذا الأديب والشاعر الهندي على الأدب الأوردي من خلال عظمة أعماله الأدبية والملحمية عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام وعن بطولاته ومآثره الإنسانية الخالدة في واقعة کربلاء.

وهناك شاعر هندي آخر يحدثنا عنه الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي) في بحث مطول له بعنوان (الشعر العربي في الهند)، ويذكر الأستاذ (الطريحي) أن ذلك الشاعر الهندي السيد (علي صدر الدين ابن الأمير أحمد نظام الدين ابن السيد معصوم المدني) (1052ه- - 1117 ه-) كان عالما وشاعرا غزير الإنتاج، ومن أهم مؤلفاته المطبوعة:

ص: 280


1- محمد حسن، الروح الثقافية للمجتمع الإسلامي في الأدب الهندي، ترجمة: الدكتور إبراهيم يحيى الشهابي مجلة (الآداب الأجنبية) العدد /65/، إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1990 ص50.

1- سلافة العصر في محاسن الشعر في كل مصر.

2- أنوار الربيع في أنواع البديع.

3- الدرجات الرفيعة - طبع منه جزء واحد في النجف.

4- رياض السالكين في شرح الصحيفة السجادية

5- الحدائق الندية في شرح الصمدية للشيخ بهاء الدين العاملي.

6- ديوان شعر ضخم، يضم بين دفتيه حوالي خمسة آلاف بیت شعري، حققه

ونشره الأستاذ (شاکر هادي شکر).

وها نحن نذكر له هذه الأبيات الشعرية الرقيقة في رثاء الإمام الحسين عليه السلام : نفسي الفداء لمقتول على ظمأ *** لم يسق إلا بحد البيض والأسل

نفسي الفداء له من هالك هلكت *** له الهداية من علم ومن عمل

قرت به أعين الأعداء شامتة *** وأسخنت أعين الأملاک والرسل

یا صرعة صرعت شم الأنوف بها *** وأصبح الدين منهاعاثر الأمل

قد أثكلت بضعة المختار (فاطمة) *** وأوجعت قلب خير الأوصياء (علي)(1)

وبعد هذه الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية المؤثرة للشاعر الهندي السيد (علي صدر الدين)، نرى أنه من الأفضل لنا، ونظرا لضيق المجال، أن ننتقل مباشرة إلى شاعر هندي آخر لم يأخذ حقه من الشهرة والتقدير بعد على الرغم من كثرة تصانيفه ومؤلفاته التي تربو على الخمسين مؤلفا.

إنه الأديب والشاعر الهندي (محمد هارون الزنگپوري) الذي كان حيا حتى سنة

ص: 281


1- محمد سعيد الطريحي، الشعر العربي في الهند، مجلة (الآداب الأجنبية)، المصدر السابق ص116

/ 1335 ه- /، ولهذا الشاعر المولود في بلدة (زنك بور) قصائد كثيرة في مدح أهل البيت عليهم السلام وفي رثائهم ووصف أحوالهم.

ودعونا الآن أيها القراء الكرام نستمع سوية إلى وصية هذا الشاعر الهندي من خلال ما صاغه یراعه المرهف من أبيات ترشح حبا ووفاء لسيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، وها هو يبدأ نصيحته الثمينة بقوله:

إذا ما طلب المستجار من البلى *** فليس لك سوى أرض کربلا

هي المسجد الأقصى يطوفون حوله *** هي الكعبة العليا هي الخلد والعلى

فمن جاءها مستغفرا كان آمنا *** وأوتي في الفردوس قصرا ومنزلا

ومن رامها للأمن من ثورة الأذي *** رآها له حرزا حريزاومعقلا

فما عاد منها سائل غیرمنجح *** وماخاب فيها من أتاهامؤملا(1)

أما عن الفاجعة الكربلائية نفسها وعن الآلام الروحية والنفسية، فيقول شاعرنا الهندي مصورا حال الإمام الحسين عليه السلام وهو يطلب نصرة الحق في ساحة الفاجعة:

أليس من مسلم فيكم فينصرني *** أو من مجيب لقولي بين أشرار

یاقوم یاقوم إني نجل فاطمة *** إني ابن بنت رسول خير أخیار

إني ابن أحمدكم لا ريب فيه لكم *** إني خبير بأحكام وأسرار

لا تقتلوني بلا إثم ولا خطأ *** واخشوا عذاب الإله الخالق الباري

واسترهبوا الله في أبناء فاطمة *** ولا تحوموا لجهل حومة النار

إلى أن يقول في نفس القصيدة متابعا:

فليت شعري ماذا العذر حين دعوا *** لدى الحساب إلى الميقات جبار

ص: 282


1- راجع القصيدة كاملة في مجلة (الموسم) العدد /12/، المجلد الثالث، مصدر سابق، ص390

تقول فاطمة الزهراء باكية *** يارب هذا حسین بر أبرار

هذا حسين أضاعوه لحقدهم *** وكان خامسنا من خمس أنوار(1)

وبالفعل، يحق لهذا الشاعر أن يتساءل عن العذر الذي سيقدمه أولئك القتلة عندما يقفون بين يدي الله المنتقم الجبار سبحانه وتعالی.

ويحق له أن يتخيل أيضا موقفهم من سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء علیها السلام ، وهي تذرف الدموع السخية في الحضرة الإلهية المقدسةشاكية إلى الله عز وجل ما فعله الأشرار الفجار بابنها الحسين عليه السلام ، ذلك الابن الذي كانت مجرد دموعه، وهو طفل صغير، تؤذي جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم !!

وما أجمل الأفكار التي طرحها الشاعر الهندي المعروف (معین الدین اجمیری)، رحمه الله، عندما تحدث في قصائده وأشعاره عن أهداف الحسين عليه السلام ونبل الحسين وشجاعة الحسين عليه السلام ، إنها أفكار تتشابه في محتواها مع محتوی قصائد السيد (علي صدر الدين) وقصائد غيره من الشعراء الكبار الذين رأوا في كربلاء عملية إحياء لمعالم الإسلام الذي جاء له أبناء الجاهلية ودعاتها أن يكون دينا فارغا من كل قيمه

الروحية وتعاليمه السماوية ومبادئه الرسالية.

وهذا هو الشاعر الهندي (اجمیري) يؤكد من خلال أفكاره وأشعاره على أن الإمام الحسين عليه السلام كان دائما وأبدا جديرا بأن يسمى البناء الثاني في الإسلام بعد

جده المصطفی صلوات الله عليه وآله، وبأنه عليه السلام المجدد لبناية التوحيد(2)

وكان من أهم العوامل في إثارة العنفوان والحمية في نفوس أولئك الشعراء

ص: 283


1- نفس المصدر السابق، ص392
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص102

الهنود وغيرهم، من مسلمين وغير مسلمين، تلك الخطب النارية التي كان يلقيها الإمام الحسين عليه السلام على أتباعه قبيل حدوث الواقعة الدامية والتي كانت تكشف عن الكثير من الجوانب الذاتية والشخصية للإمام الحسين عليه السلام الذي كان تواقا للتخلي عن كل متاع الدنيا وزينتها من أجل هدف واحد فقط، إحياء كلمة الله في خلق الله.

ولا يسعني وأنا أكتب هذه السطور إلا أن أذكر قول المفكر الإيراني البارز الدكتور (علي شريعتي) الذي امتازت كتاباته عن كربلاء بالقدرة التحليلية على دراسة الأحداث وتحليل الخطب التي كان يلقيها سيد الشهداء قبيل الواقعة، فجاءت تلك الكتابات ناضجة ومليئة بالعبر والدروس المستخلصة من فلسفة الحركة الحسينية ومن هنا يأتي صدق قول الدكتور (شریعتی)، الذي لم يكن غائبا بمضمونه الفكري عن أذهان الكثير من المفكرين والشعراء:

(لقد بدأ التاريخ - حسب الفلسفة السياسية الشيعية - منذ أن قتل هابیل وحکم

قابيل، وبقي قابيل هذا حاكما على التاريخ في جميع مراحله وممسكا بزمامه، وقابيل متدین، له دین، ودينه الشرك، وهابيل إنسان الإسلام، الإنسان المثالي الحقيقي، قتل وصار ضحية، وعليه فالتاريخ الحاكم على المجتمعات البشرية هو تاریخ قابيل وهذا لا يعني أنه مات بعد حين... کلا إنه لم يمت، بل ظل حاكما على مجتمعات البشر باسم الشرك على طول خط التاريخ، بقي حاكما باسم الشرك على الأمم والناس أجمعين، وقد اتخذ (قابیل) من الدين أداة لتبرير وجوده وإبادة الناس والحيلولة دون انبعاث هابيل من جديد)(1).

ص: 284


1- د. علي شريعتي، الحسين وارث آدم، ترجمة: د. إبراهيم دسوقي شتا ، دار الأمير، للثقافة والعلوم، بيروت ط 2004/1 ، ص276

بهذه الرؤية كان ينظر الدكتور (شريعتي) إلى الصراع القائم بين الإمام الحسين عليه السلام ومناوئيه، إنه صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الميراث الهابيلي والميراث القابيلي، ومن خلال هذه الرؤية الفلسفية المبنية على تحليل خطب وأقوال الإمام الحسين عليه السلام المتوافقة مع مآثره وأفعاله على أرض الواقع، كان معظم المفكرين والأدباء والشعراء على مختلف مشاربهم، ينظرون إلى طبيعة الصراع الأزلي القائم بين النور والظلام ويستوځون منه أقوى وأجمل الأفكار والدروس والعبر وليعيدوا صياغة كل ذلك من جديد في مؤلفاتهم وأبحاثهم ودواوينهم الشعرية.

أما الآن، أيها القراء الأحبة، دعونا نعود سوية إلى أوروبا وإلى الأدب الشعري الأوروبي كي نتصفح بروية ما جاء من قصائد وأشعار وملاحم عن معركة كربلاء وعن سید الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام

لقد رأينا في ما سبق من صفحات مدى تأثر الشاعر الألماني العالمي (یوهان غوته) بفكر أهل البيت عليهم السلام عموما، سواء بمحمد أو بعلي وفاطمة وبابنيهما الحسن والحسين علیهما السلام ، وقد رأينا أيضا في نفس الصفحات من هذا الفصل، وفي غيره من الفصول السابقة عمق تأثر الكثير من أعلام الأدب والفكر الأوروبي بشخصية الإمام الحسين عليه السلام وبمبادئه وقيمه الإنسانية التي تجلت بأبهى صورها في العاشر من محرم الحرام فوق رمال كربلاء التي تلهث عطشا وهي تستلقي بصمتها المخيف على بعد بضعة أمتار من مياه الفرات الحزين.

فهل كان الشاعر (غوته) هو الأديب والشاعر الأوروبي الوحيد الذي تأثر بفكر

أهل البيت علیهم السلام وبشخصياتهم الاستثنائية التي تفيض فكراونورا على العالمين.

وهل كان أولئك المفكرون والأدباء الأوروبيون المذكورون سابقا في كتابنا هذا

ص: 285

هم كل من تحدث عن فاجعة كربلاء التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي؟!

إنها أسئلةتستحق الإجابة، وتستحق أيضا العناء الذي نبذله من أجل الكشف عن تلك الإجابات الشافية، ولذلك، دعونا ندخل الآن بشكل مباشر في عمق موضوعنا المطروح دون اللجوء إلى المزيد من المقدمات

يقول الدكتور اليوغسلافي الأصل (محمد موفاكو) عن مسألة دخول الإسلام إلى منطقة البلقان الأوروبية وتأثر أبناء تلك المناطق الهامة من أوروبا بالكثير من الأحداث الهامة التي شهدتها ساحة التاريخ الإسلامي: (لقد شهد القرن السابع عشر ذروة انتشار الإسلام في صفوف الألبانيين، إذ أصبحت غالبية الألبانيين منذ هذا القرن في صف الإسلام، ويثير هذا التحول الجماعي للألبانيين نحو الإسلام اهتمام الباحثين نظرا لأنه يشكل ظاهرة في ذاتها، ويعود هذا إلى أن الألبانيين هم الأمة الوحيدة في البلقان التي اعتنقت الإسلام بغالبيتها)(1).

وعن أثر الفاجعة الكربلائية في أدب تلك المنطقة الأوروبية التي كانت، ولا تزال، ساخنة سياسيا بسبب أهميتها والصراع الدائم عليها، يتابع الدكتور (موفاكو) كلامه قائلا في كتابه (الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية): (وفي ذلك الوقت - أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر - سجل الأدب الألباني نقلة كبيرة وجديدة، وذلك بملحمة الشاعر (داليب فراشري) (Dalip Frasheri) عن أحداث کربلاء، والتي يبلغ عدد أبياتها /56/ ألف بيت من الشعر، وقد دخلت هذه الملحمة تاريخ الأدب الألباني على اعتبارها أول ملحمة شعرية في اللغة الألبانية، كما أنها لا تزال إلى

ص: 286


1- د. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدي العربية (سلسلة عالم المعرفة) العدد /68/ إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت. عدد آب 1983 ص 91.

الآن أطول ملحمة شعرية في اللغة الألبانية)(1)

إذن، فالشاعر الألباني (داليب فراشري) قد اشتهر بملحمته الشعرية الضخمة

(الحديقة) التي تعتبر أول وأطول ملحمة في تاريخ الأدب الألباني، وربما كانت هذه الملحمة الشعرية عن مأساة كربلاء وعن شخصية الإمام الحسين عليه السلام وبطولاته هي إحدى أطول الملاحم الشعرية في العالم قاطبة.

ومن المعروف عن هذا الشاعر الألباني العظيم أنه ولد في أسرة مليئة بأرباب الفكر والأدب في قرية تدعى (فراشر)، التي كانت تضم تكية معروفة للطريقة البكتاشية، حيث أمضى فيها معظم حياته بعد أن أصبح من أتباع هذه الطريقة الصوفية، وقد انتهى الشاعر (فراشري) من كتابة ملحمته الشعرية الضخمة بتاريخ / 1258 ه-/ الموافق لسنة / 1842م/.

وتتألف هذه الملحمة - كما ذكرنا سابقا - من ستة وخمسين ألف بيت من الشعر حول فاجعة کربلاء، وهي عبارة عن محاولة ألبانية جادة لتجاوز ما قام به الشاعر (فضولي البغدادي) في كتابه (حديقة السعداء)، وقد قسم الشاعر (فراشري) عمله الملحمي إلى عشرة فصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة.

وفي مقدمة تلك الملحمة يستعرض الشاعر (فراشري) تاريخ الطريقة البكتاشية في المناطق الألبانية، حيث يتحدث عن أهم الشخصيات التي ساهمت في صياغة ونشر هذه الطريقة الصوفية، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث المطول عن تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده وما صاحب ذلك من تطورات إلى معركة كربلاء الخالدة، حيث يصور بالتفصيل أحداث تلك المعركة ويرثي من سقط فيها من الشهداء الأبرار وعلى رأسهم

ص: 287


1- نفس المصدر السابق ص107

الإمام الحسين عليه السلام(1)

وبما أننا الآن في أجواء الكلام عن الملاحم الكربلائية، لذا يجب علينا أن نتوقف مع شاعر جديد وملحمة شعرية جديدة، ففي هذا الاتجاه لدينا أيضا ملحمة شعرية ثانية للأخ الأصغر للشاعر (داليب فراشري)، إنه (شاهین فراشري) ( Shahin Frasheri)، الذي انتهى من كتابتها سنة / 1868م/، وتتألف ملحمة الشاعر (شاهین فراشري)، التي تحمل عنوان (مختار نامة)، من عدد كبير أيضا من الأبيات الشعرية التي تصل إلى حوالي اثني عشر ألف بيت من الشعر، وتعتبر هذه الملحمة هي الملحمة الثانية في الأدب الألباني بعد ملحمة (الحديقة).

ويعلق الدكتور (موفاكو) على هاتين الملحمتين العظيمتين بقوله: (وقد ترکت هاتان الملحمتان تأثيرا كبيرا في الأدب الألباني، سواء من ناحية تأصيل الملحمة في هذا الأدب أو فيما يتعلق باستمرار حضور کربلاء في الأدب الألباني، وحتى في أدب عصر النهضة القومية الألبانية)(2)

وغني عن القول إن أدب الملاحم الشعرية في الأدب العالمي المعاصر بات قليلا جدا، هذا إذا لم يكن معدوما أو شبه معدوم، ولا نعرف - على حد علمنا - أن هناك من نظم الشعر الغنائي والملحمي بشكل لافت للنظر في الأدب العالمي المعاصر مثل الشاعر والأديب اليوناني الكبير (نیکوس کازانتزاکیس) الذي توفي عام / 1957/ فملحمة (کازانتزاکیس) المسماة (الأوديسا) تتألف من / 33333/ شطرا من الشعر، وهي صورة ملحمية رائعة للمسار الفكري لكازانتزاكيس على طريق الحياة وقد حاکی

ص: 288


1- نفس المصدر السابق ص149
2- نفس المصدر السابق ص152

في نظمها ملحمة (هوميروس) شاعر اليونان القديم وصاحب الملحمتين الشهيرتين (الإلياذة) و (الأوديسا)(1)

ولذلك، فإن هذا اللون من الأدب بات قطعا نادرا جدا، وسيغدو عن قريب ۔ بلا ریب - جزءا هاما من الأدب التراثي العالمي العام سواء كانت الملحمة الشعرية تتحدث عن تجربة شخصية في الحياة كما هو الحال في ملحمة الشاعر اليوناني (کازانتزاکیس)، أو أنها تتناول تجارب أمم وشعوب أو سيرة أبطال وقادة صنعوا المجد والفخار بقيمهم ومبادئهم كما هو الحال في ملحمتي الشاعرين الألبانيين (دالیب) و(شاهین فراشري).

وقد نستغرب كثيرا إذا عرفنا أن هناك شاعرا ملحميا ثالثا يحمل اسم (فراشري)

أيضا، إنه الشاعر (نعیم فراشري) صاحب ملحمة (كربلاء) العظيمة.

ولكننا لن نتحدث الآن عن هذا الشاعر الكبير، بل إننا سنرجي الكلام عنه كي نتحدث بالتفصيل عن ملحمته الشعرية مع إيراد بعض الشواهد الهامة منها في نهاية هذا الفصل، ولذلك سنتابع كلامنا الآن عن بقية الشعراء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وثورة كربلاء من خلال أشعارهم التي لا تنتمي إلى النوع الملحمي الذي كنا في معرض الحديث عنه منذ قليل.

ويمكننا أن نذكر من أولئك الشعراء - على سبيل المثال - الشاعر المسلم حسن کامبيري (Hasan Kamberi)، المتوفى في بداية القرن التاسع عشر، ومن أقدم الأعمال الشعرية المعروفة لهذا الشاعر هي تلك القصيدة الطويلة التي يتجاوز عدد

ص: 289


1- نیکوس کازانتزاكيس، المسيح يصلب من جديد ، ترجمة: شوقي جلال،دار طلاس . دمشق،ط1996/3 ، راجع المقدمة بقلم المترجم، ج 1 ص10

أبياتها الشعرية المئة وهي بعنوان (معاوية)، ويشير هذا العنوان، مع مضمون القصيدة إلى حقيقة أن معاوية قد تحول إلى رمز للشر الذي نبعت منه بقية الآثام والشرور، هذابالإضافة إلى أن لهذا الشاعر الموهوب عدة قصائد أخرى تتناول واقعة كربلاء ومآثر الإمام الحسين عليه السلام ، ويرى النقاد والباحثون أن الشاعر (كامبيري) هو أول من استثمر کربلاء في الشعر الألباني(1)

ويعد الشاعر (بابا أحمد التوراني) شاعرا لامعا ومتميزا بحبه لسيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، وقد أصبح هذا الشاعر في عام / 1908/ رئيسا لتكية منطقة (توران) ومن شعره المشهور عن فاجعة كربلاء، قوله في إحدى قصائده:

(بكل ما لدي من قوة

هتف الأمان

یا حسين الشهيد!

وفتح الله يديه وأنقذني

یا آل المرتضى، لا تنسوني،

ولا تخرجوا روحي من الخدمة تحت لواء کربلاء)(2).

وهناك أيضا شاعر آخر لا يقل أهمية عن الشاعر (التوراني)، إنه الشاعر المعروف باسم (باب ملج)، وقد كان حيا في نهاية القرن التاسع عشر، يتصف شعر هذا الشاعر بالشفافية والغزارة وبالتنوع والجزالة، ويمكننا أن نذكر هذا المقطع من إحدى قصائده الكثيرة التي يتحدث فيها عن درب الآلام التي ارتضاها الإمام الحسين عليه السلام لنفسه في

ص: 290


1- د. محمد موناكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص132
2- راجع مقالة: تأثير الملحمة الحسينية على الثقافة الألبانية، إعداد : أطياف النور وهذه المقالة موجودة على الموقع التالي : WWW. Atyaf - alnoor. net

سبيل الحق والفضيلة وطلبا لخلود راية التوحيد الإلهي:

(لا تبک من العذاب والعناء،

فقد تحمل الحسين الكثير من الألم والمعاناة،

لا تضيع الطريق،

الآلام تقربك من الحياة .

فهذا الإمام (زين العابدین)،

انظر إلى ما عاناه في طفولته،

ورغم أنه كان صغيرا،

إلا أنه تعرف على الآلام جميعا)(1)

ويعتبر الشاعر (بابا على التوموري) شاعرامتصوفا، ومن المعروف عنه أنه أحد أشهر دراویش (بريشتينا) في إقليم كوسوفو، ولهذا الشاعر منظومة شعرية حماسية في کربلاء وفي بطولة أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام ، وله ضمنها قصيدة تحمل عنوان (شهید کربلاء)، جاء فيها:

(ابن فاطمة، وبرعم محمد

هجر المدينة، وانطلق نحو الله.

جميع الذين رافقوه

كانوا يعلمون بمصيره في كربلاء،

ورغم ذلك لم يتخلوا عنه)(2)

ص: 291


1- راجع نفس المقالة السابقة على الموقع المذكور
2- راجع نفس المقالة السابقة على الموقع المذكور.

وعلى كل حال، بإمكان القارئ الكريم إذا أراد التوسع في مسألة التأثيرات الفكرية الإسلامية على تلك المنطقة، وعلى ما يجاورها من مناطق أوروبية أخرى، من خلال ظهور تلك الآثار الفكرية الإسلامية في أعمال ونتاجات أدباء وشعراء أبناء تلك المناطق، أن يعود لما كتبه المفكرون في هذا المجال من أمثال الدكتور (أحمد سمایلوفتش)، الأستاذ السابق للعقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو - يوغسلافيا، ورئيس المشيخة الإسلامية لجمهوريات البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا، وبإمكان القارئ أن يعود أيضا إلى كتابات الدكتور (محمد موفاكو)، وكتابات الدكتور (جمال الدین سید محمد) المتخصص بالأدب اليوغسلافي والذي يعالج في العديد من صفحات کتابه (الأدب اليوغسلافي المعاصر) مسألة التأثير الفكري الإسلامي على العديد من الأدباء اليوغسلافيين الذين تأثروا بالكثير من القيم والمبادئ الإسلامية النبيلة كالبطولة والأخلاق والفضيلة في حب الوطن(1)

أما الآن، فيمكننا القول إننا شارفنا تقريبا على الانتهاء من هذه الرحلة الطويلة مع کربلاء في الشعر العالمي، ولذلك، كنا قد وعدنا سابقا بأن نتوقف مليا عند ملحمة

(کربلاء) للشاعر (نعیم فراشري)، وها نحن نفي بوعدنا ونقدم بعض المعلومات الهامة عن تلك الملحمة الشعرية الطويلة، وعن حياة ذلك الشاعر الذي أراد التوفيق بين حماسة القومي الطاغي وبين عواطفه الدينية ومبادئه الروحية العميقة.

ومن أجل التوفيق بين القومية والدين، عكف الشاعر (نعیم) خلال سنوات

ص: 292


1- د. جمال الدين سيد محمد، الأدب اليوغسلافي المعاصر (عالم المعرفة) العدد / 81/، المجلس الوطني للثقافة . الكويت، عدد أيلول / 1984/ ص235. 244، وصفحات متفرقة لاحقة.

/1892- 1895/ على كتابة ملحمة (كربلاء) التي صدرت أخيرا في سنة / 1898/ في ما يقارب عشرة آلاف بيت من الشعر، وقد قسم الشاعر ملحمته هذه إلى خمسة وعشرين فصلا، دون عناوین، بحيث يتناول في كل فصل حادثة أو أكثر.

وعلى سبيل المثال، يتحدث الشاعر (نعیم) في الفصل الأول من ملحمته عن العرب قبل الإسلام، وعن ظهور النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم ومقاومة الوثنيين له، وعن كفاح النبي صلی الله علیه و آله وسلم حتى هجرته إلى المدينة وانتصار الإسلام، كما يتحدث في هذا الفصل عن وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعن صراع السقيفة، وعن المشاكل التي أعقبت الخلافة حتى مقتل عثمان بن عفان.

وهكذا تتوالى الفصول الواحد تلو الآخر، فيتحدث عن بطولات الإمام علي عليه السلام وعن مآثره الخالدة في سبيل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والرسالة، ويتحدث عن فضائح مناوئيه وعلى رأسهم معاوية صاحب المكائد والدسائس والمؤامرات على الإسلام وعلى أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام .

وفي الفصل التاسع، تحديدا، يبدأ الكلام الفعلي عن بداية الفاجعة.

ففي هذا الفصل يتحدث (نعیم) عن تقدم الإمام الحسين عليه السلام نحو الكوفة، حيث يبدأ الموقف بالتأزم والتوتر، ففي الطريق يصل إلى الجماعة المحيطة به خبر استشهاد مسلم بن عقیل فتنهار أعصاب الكثير منهم، ويهرب أكثرهم تاركين الإمام الحسين عليه السلام مع حفنة قليلة من أصحابه المخلصين، الذين باعوا أنفسهم لله وحده عن طريق مبايعتهم الصادقة للحسين عليه السلام والثبات معه حتى اللحظة الأخيرة.

وتتابع هذه الحفنة القليلة المخلصة المسيرة مع الإمام الحسين عليه السلام إلى أن يعترض طريقها (الحر بن یزید التميمي الرياحي) على رأس قوة من ألف فارس، وهنا

ص: 293

يقدم لنا الشاعر (نعیم) صورة اللحظة المؤثرة عن طريق الحوار بين الاثنين :

(قال الإمام: قل لي،

هل جئت لتحاربني أو لتساعدني؟

هبط (الحر) ليقبل قدمه

وأجاب: أنا من الأصحاب،

أنا أؤمن بعلي

كما أؤمن بالله،

ولذا أرجوك أن تعود)

وأمام هذا الرجاء الحار يزداد الإمام إصرارا على متابعة سيره:

(لن أعود أبدا للوراء،

بل سأموت هنا کر جل!

فأنا أسعى في سبيل الحق

وأحترق في سبيل الحقيقة

لإنقاذ الإنسانية!

الموت يبدو أمام أعيننا

فنحن لسنا خالدين في هذه الحياة،

أفلن نموت مرة

فلم نبقى إذن على قيد الحياة

في هذا المساء ؟ ! )(1)

ص: 294


1- محمد موفاكو، کربلاء في الأدب الألباني، مجلة (المعرفة) العدد /213 / السنة /18/، عدد تشرين الثاني عام 1979، إصدار وزارة الثقافة بدمشق، ص96

وفي الفصل العاشر من الملحمة يتحدث الشاعر العظيم (نعیم) عن اللحظات الأولى من وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض کربلاء، وعن المناوشات الأولى مع بعض رجال (ابن زیاد) و عندما يسمع الطاغية ابن زياد في الكوفة بموقف الإمام الحسين علیه السلام الرافض للعودة والتراجع إلى المكان الذي جاء منه، يطلب من رجاله الأشداء الأشرار أن يشددوا الحصار على الإمام عليه السلام وأصحابه المخلصين له، وأن يقطعوا عنهم ماء الفرات، وهنا تبدأ المعاناة الشديدة من العطش المضني وتمضي اللحظات الحرجة بطيئة للغاية أمام هذه الأزمة الجديدة:

(استسلم الإمام للنعاس

فرأى الله في نومه،

محمدا وعليا

وأمه فاطمة

مع أخيه الحسن،

رأى كل من في تلك الحياة

رأى عرش الله،

رأى الملائكة وهم يبكون

وقال له كل من كان هناك :

نحن في انتظارك)(1)

وفي الفصل الخامس عشر، وهو من أهم الفصول في الملحمة، يصور لنا (نعیم)

ص: 295


1- نفس المصدر السابق ص97

بطولات عظيمة ومميزة من معركة كربلاء.

فيحدث في البداية عن (علي الأكبر) علیه السلام، الذي (حول باستشهاده النهار إلى ليل)، وقد أثار استشهاده العظیم حماسة الإمام علي زين العابدین علیه السلام، الذي كان مريضا فتمالك نفسه وخرج يطلب أباه الإمام الحسين عليه السلام ليستأذنه في الخروج إلى میدان القتال، إلا أن أباه الإمام الحسين عليه السلام لا يعطيه الإذن في ذلك، بل يقنعه بالصبر والهدوء، وبالبقاء جانبا من خلال شرح فلسفة الحياة والموت:

(قال الحسين: البطل لا تهزمه المعاناة

أولئك ذهبوا إلى تلك الحياة

لدى الله الحق

حيث اجتمعوا مع الله

ومع محمد وعلي، ومع الأم فاطمة والحسن

هذه الحياة مثلها مثل النعاس

فالروح تصحو بعد الموت،

والإنسان الحقيقي

لا يموت أبدا في هذه الحياة)(1)

وفي الفصل السابع عشر، وهو الفصل المتعلق بذروة الأحداث في الملحمة يحدثنا الشاعر عن فراق الإمام الحسين عليه السلام لنسائه وأولاده، وبعد ذلك، يصور لنا هجوم الحسين عليه السلام على أعدائه، مما أدى إلى تحويل أرض كربلاء إلى بحيرات من

الدماء:

ص: 296


1- نفس المصدر السابق ص102

(كان بإمكانه أن ينال الجميع

لكنه كان يتلظى دون ماء

اقترب من النهر

توقف قليلا وتفكر،

تذكر أصحابه

فانهمرت دموعه)

وعاد الإمام الحسين عليه السلام ليحارب ببطولة وشجاعة، وبإيمان كامل برسالته في إحياء معالم دین جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم حتى بلغت جراحة السبعين جرحا، ومع ذلك، لم يمتنع الإمام الحسين عليه السلام عن متابعة هجومه الفردي الساحق على أعدائه الذين كانوا يفرون من أمامه كما تفر الطرائد المذعورة أمام الأسد الجريح.

ولكن، وفي تلك اللحظة الحاسمة، يطبق المزيد من الجنود الأشقياء على الإمام عليه السلام من كل جهة وصوب، ولكنه يبقى صابراوصامدا حتى اللحظة الأخيرة إلى أن نفذت قوته أخيرا فسقط شهيدا وأسلم نور روحه الله السميع البصر الذي كان شاهدا على كل ما حدث لابن بنت نبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم :

(سقط عمود الإنسانية،

نور الله،

فاهتزت سهول كربلاء

وأظلمت السماء،

اهتزت كل الأرض

ص: 297

لدى سقوط الإمام)(1)

أما في الفصول اللاحقة، فيتحدث الشاعر (نعیم) عن مصير يزيد اللعين وعن

مصير كل من سار على نهجه الشيطاني الذي رسمه له أبوه معاوية منذ زمن طويل.

وبإمكاننا أن نلاحظ أن الشاعر (نعیم) قد خصص آخر الفصول للحديث المطول عن آثار الفاجعة وعن الدروس المستخلصة منها وأثر ذلك على مستوى الأمة الإسلامية

والأسرة الإنسانية الآدمية.

وبالطبع، سنعود لاحقا للحديث عن الدروس التي استخلصها الشاعر الملحمی (نعیم فراشري) من فاجعة كربلاء، وسيكون الحديث عن ذلك في الفصل الأخير من كتابنا هذا الذي بين أيدينا إن شاء الله تعالی.

وهنا أريد أن أعلق على كل ما سبق مضيفا وموضحا أن هناك الكثير من رجال الفكر والأدب والشعر في العالم قد تحدثوا في مؤلفاتهم ودواوينهم عن الإمام الحسين عليه السلام وعن فاجعة كربلاء التي لحقت به وبأهل بيته الكرام عليهم السلام، ولكن كان حدیثهم عنه مقتضبا ومختصرا جدا، وليس معنى ذلك أنه كان مجهولا أو شبه مجهول بالنسبة إليهم، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام معروفا تماما بالنسبة إليهم كما هو حال أبيه علي عليه السلام وجده محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، ولذلك كانوا يرون أن الحديث عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم هو بالضرورة الحديث عن حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي كان نسخة طبق الأصل عن جده الرسول محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقد عبر أحدهم عن ذلك خير تعبير عندما شبه العلاقة بين الإمام الحسين عليه السلام وجده المصطفى الأمين صلی الله علیه و آله وسلم بقوله:

ص: 298


1- نفس المصدر السابق ص 105

(إن خصائص الوراثة، بعد أن كانت مجتمعة في النبي صلی الله علیه و آله وسلم الذي هو نقطة الدائرة، انتقلت بالحسين وأخيه اللذين هما الحافظان للنسل النبوي من الانقطاع، إلى محیط أوسع شكل دائرة كبرى)(1)

ولذلك، فإننا لا نبالغ ولا نقدم شيئا جديدا إذا قلنا إن الكثير من الشعراء الكبار في

العالم، من أمثال الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) (Lamartine )(

1869-1790)

الذي قال عن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، جد الإمام الحسين الشهيد عليه السلام : (ما من رجل غیر محمد نذر نفسه لهدف كهذا الهدف، فقد كان هذا الهدف مما

يفوق القدرة البشرية، هدم المعتقدات الباطلة التي تتخذ زلفی وواسطة بين الخالق والمخلوق، ورد الله إلى الإنسان والإنسان إلى الله)(2)، أو من أمثال الشاعرين الروسين الكبيرين (بوشكين) (Pouchkine) (1799- 1837) و(میخائیل ليرمونتوف) (1814-1841 ) (Lermontov) اللذين عکسا حبهما القوي للرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم من خلال قصائدهما العديدة التي تمجد أخلاقه وتقد رسالته وتثمن عاليا ثورته على العبودية وعلى الظلم والجهل والفساد في الأرض، فلا نبالغ - إذن - إذا قلنا عن هؤلاء الشعراء، وعن غيرهم ممن امتدح ثورة محمد صلی الله علیه و آله وسلم الفكرية والاجتماعية، إنهم اقتصروا في قصائدهم على ذكر محمد صلی الله علیه و آله وسلم بشكل صريح دون غيره من أهل بيته عليهم السلام، بما فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، الذي اكتفى البعض منهم بذكره بشكل موجز وقصير لسبب واحد وجيه وهو السبب الذي ذكرناه منذ قليل، ولكن للزيادة في التوضيح نقول إن السبب في ذلك هو إدراكهم أن الكلام عن

ص: 299


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 291
2- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، طبع دمشق2006 ص70.

الثورات التي فجرها الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم في مجتمعه، والأهداف الإنسانية العامة التي نادي بها بین عموم الناس هي نفس الثورات التي جدد جذوتها حفيده الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهي نفس الأهداف التي نادي الحسين عليه السلام بإعادة تحقيقها في المجتمع الإسلامي وقتذاك، وبالتالي، فكلامهم عن محمدصلی الله علیه و آله وسلم بالتصريح هو عين الكلام عن الحسين عليه السلام بالتلويح.

ففي كتاب الشاعر (بوشكين) الذي يحمل عنوان (قبسات من القرآن)،نستطيع أن نقرأ في القصيدة السادسة منه معاني البطولة وقيم الجهاد في سبيل الله والمبادئ، ونستطيع أن نقرأ فيها أيضا رؤية (بوشكين) الخاصة لمعاني الشهادة وقيمة الشهداء(1)

وبنفس الوقت، بإمكاننا أن نقرأ العديد من المقاطع الشعرية للشاعر (ليرمونتوف)

الذي يبين لنا من خلالها مدى تعلقه بالإسلام، وعمق تأثره بفكرة الثورة والإقدام على الموت في سبيل المبادئ والقيم(2)

ولا يخرج فيلسوف ألمانيا وشاعرها الأكبر (یوهان غوته) عن هذا الإطار في حدیثه ضمن قصائده الشعرية عن الإسلام وعن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي غير بثوراته المتنوعة وجه التاريخ، ولكن ما يميز الشاعر الألماني (غوته) عن الكثير من بقية الشعراء هو أنه - وكما رأينا سابقا - قد كان أكثر وضوحا وصراحة في الحديث عن محمد صلی الله علیه و آله وسلم وعن أهل بيته عليهم السلام، علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهما السلام .

وللتأكيد على صحة ما نقول بشأن التصريح والتلويح في قصائد الشعراء التي تتناول الحديث عن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم وعن مآثره وخصاله ومبادئه التي ورثها

ص: 300


1- د. مکارم الغمري، مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي (عالم المعرفة)، العدد /155/ إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، تشرين الثاني 1991، ص159
2- نفس المصدر السابق، راجع من الصفحة 18 حتى ص 201

لأهل بيته عليهم السلام من بعده، دعونا ننهي حديثنا حول ذلك من خلال هذا الشاهد الهام الأحد أرباب السياسة والفكر من الهندوس.

من المعروف عن رجل السياسة البارع والمفكر الهندوسي اللامع (غاندي) أنه لم يكن شاعرا، ولكنه كان محبا جدا للشعر، وعلى الرغم من أنه ليس شاعرا إلا أننا سنختتم فصلنا هذا المخصص للحديث عن كربلاء في الشعر العالمي بهذا الكلام المميز لرجل هندوسي عظيم لم يسبق له أن نظم شيئا من الشعر.

ولقد آثرنا أن نستشهد بأقواله الآن للتأكيد على أن عدم ذكر الإمام الحسين عليه السلام بشكل صريح في أقوال بعض المفكرين والشعراء ما هو إلا إقرار أكيد منهم بأن ذكر جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم هو بحقيقته ذكر له ولبقية أفراد أهل البيت المحمدي الذين حملوا رايته الرسالية من بعده.

وبالعودة إلى ما قاله الزعيم (غاندي)، نلاحظ وبشكل صريح أن هذاالزعيم الهندوسي يقول وبكل صراحة : (إن نبي الإسلام هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند، فلا تحرموا الناس من المساواة التي نادى بها الإسلام ونبي الإسلام)(1).

نعم، هذا ما قاله الزعيم والمفکر (غاندي) عقب تحرير الهند من الاستعمار

البريطاني، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:

هل تضمن كلام (غاندي) عن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم شيئا عن حفيده الحسين علیه السلام الذي حمل راية إحياء معالم دین جده؟!

وهل عدم ذكر الإمام الحسين عليه السلام بشكل صريح يدل على عدم المعرفة به أو على تجاهل دوره وقيمته وقيمة ثورته الكربلائية التي تعتبر امتدادا طبيعيا لثورة جده

ص: 301


1- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، مصدر سابق ص137

صلی الله علیه و آله وسلم؟!

في الحقيقة، إن الكلمة الأخرى التالية لذاك الزعيم الهندوسي هي القادرة على

إعطائنا الجواب المطلوب، وإجلاء غبار الشك عن وجه الحقيقة.

يقول (غاندي) في كلمة أخرى له تتعلق أيضا بتحرير الهند وبانتصارها على كل

أعدائها من جهل و تخلف وفقر تسبب به الاستعمار البريطاني:

(على الهند إذا أرادت أن تنتصر، أن تقتدي بالإمام الحسين)(1)

وهكذا نرى، ومن خلال المقارنة بين المقولتين اللتين قالهما ذلك الزعيم والمفكر الهندوسي (غاندي)، أن المقولة الأولى التي ذكر فيها الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله وسلم لا تلغي ذكر الإمام الحسين عليه السلام حتى ولو لم يذكر فيها علانية، في حين أن المقولة الثانية صرحت علنا بذكر الحسين عليه السلام ولم يذكر فيها جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وما كان ذلك من الزعيم (غاندي) إهمالا لذکر محمد صلی الله علیه و آله وسلم وتجاهلا لدوره في دفع عجلة التاريخ والتطور للأمام، وإنما كان ذلك منه للتأكيد على أن ذكر أحدهما هو بالضرورة ذكر للآخر حتى ولو لم يذكر اسمه بشكله الصريح.

وعلى كل حال، وبعد هذه الجولة الشعرية المطولة في رحاب الشعر العربي والشعر العالمي، وبعد اطلاعنا على آراء ووجهات نظر أولئك الشعراء من خلال قراءتنا لدواوينهم، وتحديدا للقصائد التي تتحدث عن الدم الحسيني الذي انتصر على سطوة السيف، أرى من واجبي أن لا أبخس المرأة الشاعرة حقها من الكلام.

ولذلك فقد تعمدت منذ البداية أن أنهي هذا الفصل بالوقوف مع شاعرة بارزة تكون بمثابة الرمز الأنثوي الذي يمثل بشكل عام كل الشاعرات اللواتي تحدثن عن

ص: 302


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص44.

معاني وقيم الفاجعة التي أحدقت بالإمام الحسين عليه السلام.

وقد ركزت على نقطتين أساسيتين عند اختياري للشاعرة الرمز التي وقع اختيارنا عليها، فالنقطة الأولى تتجلى بالمكانة المرموقة وبالمنزلة الأدبية الرفيعة التي يجب أن تتميز بها الشاعرة المختارة، أما النقطة الثانية، فضرورة أن تكون تلك الشاعرة غير شيعية.

وبالفعل، فقد وقع اختيارنا على الشاعرة السورية البارزة (هند هارون) فمن هي

هذه الشاعرة (هند هارون) الملقبة بشاعرة الأمومة؟!

لقد ولدت هذه الشاعرة في الثلاثينيات من القرن العشرين في مدينة اللاذقية على الساحل السوري في أحد البيوتات المشهورة بثقافتها وبجهادها ضد الاستعمار الفرنسي.

وقد تلقت الشاعرة (هارون) تعليمها في مدينة اللاذقية، وتأثرت كثيرا بكتب

التراث الإسلامي وبالقرآن الكريم.

قرضت شاعرتنا الشعر في سن مبكرة، وشاركت في مناسبات و مهرجانات ومؤتمرات هامة في موسكو والقاهرة وغيرهما أيضا، ولهذه الشاعرة المتميزة العديد من الأعمال الفكرية والأدبية، ومن أهم هذه الأعمال التي أنتجتها هذه الشاعرة المسلمة السنية الفاضلة:

1- دیوان عمار: وحصلت الشاعرة من خلاله على شهادة الماجستير في الآداب .

2- وهج البردة: وهي قصيدة شعرية تعارض فيها (البوصيري) و(أحمد شوقي)

في قصيدتي البردة ونهج البردة على نفس البحر والقافية.

3- المرأة العربية والشعر (من العصر الجاهلي وحتى عصر الانحدار).

ص: 303

4- دراسة تحليلية عن (تجليات الرحمن من أضواء القرآن للدكتور أسعد علي). 5- مجموعة شعرية: وهي مجموعة تحتوي على مختلف أغراض الشعر، وقد تم

جمعها في حوالي خمسة آلاف قصيدة، جمعتها خلال رحلة عمرها.

6- بين المرسى والشراع (ديوان شعر): تغنت من خلاله بالإمام الحسين بن علي ابن أبي طالب علیه السلام، ورأت بمصابه ومصاب أمه الزهراء عليها السلام فيه عزاء كبيرا لها في كل مآسيها الشخصية خلال حياتها.

7- ملحمة شعرية مطولة حول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام(1)

وهذه هي باختصار اللمحة الموجزة التي أردنا تقديمها للقارئ عن هذه الشاعرة السنية المتألقة، ولذلك - ومنعا للإطالة - دعونا نقف على موقف شاعرة الأمومة من آلام الحسين عليه السلام المتولدة عن ثورة الكرامة على أرض كربلاء

ففي مطلع قصيدة (استشهاد الحسين)، تقول الشاعرة:

من دم في كربلاء *** من ينابيع السخاء

عندما أهوى الحسین *** کل عین منه عين

یارسول الله قدغاب الحسين *** أي خطب في ثرانا... أي بين؟!

کم حبا في حجرك الحاني صغيرا *** کم حملت الطفل فوق المنكبين !!(2)

وبعد هذه المقدمة الشعرية التي ربطت الشاعرة من خلالها بين الحسين عليه السلام وبين جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، نراها تنتقل بعد ذلك للربط بين الإمام الحسين عليه السلام وبين أمه السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام - زوجة المرتضى وابنة المصطفى - بأسلوب

ص: 304


1- الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ في جبال بهراء وتنوخ، طبع دمشق،ط2006/1 ، ص 541.
2- هند هارون، بين المرسى والشراع، وزارة الثقافة . دمشق، 1984، ص 122

شاعری حزين مليء بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية الصادقة، وها هي شاعرتنا تتخيل السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تنظر من الأعالي إلى ابنها الذبيح فوق أرض کربلاء، فتنزل من علياء السماء إلى ابنها المذبوح ظلما من الوريد إلى الوريد، فتمسح بيدها الطاهرة على جراحه العميقة وتحنو عليه بكل رفق وحنان مثلما يحنو النخيل على التراب الحزين على شط الفرات.

وها هي تصعد الآهات بداخلها لتتماهى آلامها وآهاتها مع آلام السيدة الزهراء علیها السلام فتقول: (یا دماء نزفت في كربلاء

وانحنت (فاطمة) فوق الدماء

وكأني ألمح الروح الحزينة

هومت فوق القتيل

من سماوات السكينة

تمسح الجرح الثخين

نازفا تحت النخيل،

آه ما أشجي الأنين...

من قلوب حانیات

من صدور الأمهات

من تراب ضم أطياب الجراح

حزنت كل البطاح

ومنادي القوم صاح:

ص: 305

- (یا لثارات الشهيد)(1)

وبعد هذه الصور الشاعرية المؤثرة التي تتراءى السيدة الزهراء عليها السلام من خلالها وهي تهبط إلى ابنها الحبيب الحسين عليه السلام ، نرى أن الشاعرة تنقلنا بعد ذلك إلى مشهد آخر لا يقل أهمية وتأثيرا عن مشهد الزهراء عليها السلام، ففي هذا المشهد الجديد نستطيع أن نرى الإمام عليا عليه السلام واقفا على أبواب السماوات العلى ليستقبل ابنه الحسين وهو مضرج بدمائه وجراځه لا تزال تنزف دما أحمر يرسم طريقا طويلا يبدأ من كربلاء وينتهي إلى السماء.

فلنستمع إذن إلى هذه الشاعرة العبقرية (رحمها الله) وهي تقول:

(وأراني كالشعاع

عندما حان الوداع

ودع الدنيا الحسين

قاصدا نهر اللجين

و(علي)... من علاه

هش للوجه الحبيب

قبل الخد الرطيب

بالدم المسفوح في أرض الشقاء

تستقي منه السماء)(2)

وليس هذا فحسب، فالشاعرة (هارون) لا تكتفي بذكر هذا المشهد المؤثر والذي

ص: 306


1- نفس المصدر السابق ص123
2- نفس المصدر السابق ص126

يعبر بصدق عن مكنونات نفسها التي صقلها الحب والولاء من جهة، والألم ومرارة الحياة ونكباتها المروعة من جهة أخرى، بل يستطيع القارئ لديوانها الذي يحمل عنوان (بين المرسى والشراع) أن يقرأ أيضا المشهد المتخيل للقاء الحميم بين الإمام علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين عليه السلام في أعالي السماء.

ومن الجدير ذكره هنا هو أن هذه الشاعرة المبدعة قد رزقت في حياتها بطفلها

(عمار) الذي ملأ عليها الدنيا وأنساها هموم الحياة وآلامها المريرة، ولكن - وللأسف الشديد - فقد وقع طفلها فريسة لمرض عضال وهو في الرابعة من عمره وقضى عليه دون شفقة أو رحمة، وهكذا مضى عمار إلى ربه تاركا وراءه أمة ذاهلة من هول الفجيعة وألم المصاب، ذلك الألم الذي فجر شعر الأمومة فيها بعد أن عجزت عن فعل أي شيء لابنها وهي تراه يموت ببطء أمام عينيها، وكان لموت ابنها عمار دور أيضا في تعلقها الشديد بأهداب الزهراء عليها السلام، حيث وجدت أن العزاء الوحيد القادر على أن ینسيها آلامها ولوعة فراق ابنها عمار في الحياة هو ما حل بأهل البيت علیهم السلام من مصائب، وبشكل خاص مصائب ابنة الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، فاطمة الزهراء، أم الحسن والحسين (عليهم السلام جميعا)(1)

وهنا نصل إلى خاتمة الكلام عن هذه الشاعرة التي أبدعت بالفعل في كلامها عن سید الشهداء وعن أبيه المرتضى وأمه الزهراء عليها السلام، ولكن بقي علينا أن نذكر خاتمة قصيدة ( استشهاد الحسين) والتي تعبر من خلال تلك الخاتمة عن عمق حبها للإمام الحسين عليه السلام لأنه أهل لهذا الحب، ولأنه أيضا ابن علي وفاطمة علیهما السلام وها هي تختتم قصيدتها الغراء بالقول فيها وهي تخاطب الإمام الحسين عليه السلام بلسان شاعرة مسلمة

ص: 307


1- الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ، مصدر سابق ص 541

سنية أحبته من عمق ضميرها ووجدانها:

(كنت ترنو... یا صفي الروح... تهفو للقاء

ظللت روحك في الفردوس نسل الأنبياء

أشرقت في صدرك الحاني شموس من ولاء

عندما تم اللقاء..!!

أنت من بعض الإمام

أنت رمز للسلام

أنت حب ليس يفني في الأنام

وأنا... أهوى الإمام)(1)

وهكذا، أيها الأحبة، نرى أننا قد أطلنا الإقامة في رحاب الشعر العربي والعالمي، ذلك الشعر الوجداني الذي يتناول أحداث فاجعة كربلاء ومآثر سيد الشهداء الذي ألهبت تضحياته ومبادئه ضمائر الشعراء الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها، فراحوا ينظمون القصيدة تلو القصيدة، ويكتبون الملحمة تلو الملحمة مخلدين بما نظموا أحداث الفاجعة الرهيبة ومستذكرين، بنفس الوقت أيضا، أهداف الحسین علیه السلام ومحامد خصاله ومکارم فعاله وسمو مبادئه ونبل خلاله.

وبما أن هذا الفصل كان مخصصا للحديث عن فاجعة كربلاء في الشعر العالمي، دعونا ننهي حديثنا عنه من خلال تقديم هذه الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية، ولكن هذه المرة لن تكون هذه الأبيات لأي من الشعراء العرب أو العالميين، بل ستكون للإمام الحسين نفسه عليه السلام ، وقد قالها وهو عازم على الموت بين يدي الله سبحانه

ص: 308


1- هند هارون، بين المرسى والشراع، مصدر سابق ص127

وتعالی.

فلنستمع إليه، إذن، وهو يقول مخاطبا جيوش الكفر والنفاق:

أنا ابن علي الخير من آل هاشم *** كفاني بهذا فخرآ حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مضى *** ونحن سراج الله في الأرض نزهر

وفاطمة أمي ابنة الطهر أحمد *** وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

وفينا کتاب الله أنزل صادعا *** وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان الله في الخلق كلهم *** نسر بهذا في الأنام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا *** بكأس وذاك الحوض للسقي کوثر

فيسعد فينا في القيام محبنا *** ومبغضنايوم القيامة يخسر(1)

هذا هو الحسين عليه السلام في لحظات ما قبل الشهادة، وهذه هي شهادة نسبه النبوي الكريم، التي كانت بمثابة الحجة الأخيرة على أعدائه الذين جاؤوا لاغتيال ذلك النور النبوي المتجلي فيه.

أما عرف أولئك الطغاة البغاة أنهم بقتلهم للإمام الحسين عليه السلام قد قتلوا محمد ا

ذاته صلی الله علیه و آله وسلم ، وأنهم بتمزيق صدره الشريف قد مزقوا القرآن الكريم؟!

أما عرف جیش الكفر الأموي أن كل دمعة سقطت من عيني فاطمة الزهراء عليها السلام ، وهي تراقب من علياء السماء ما يحدث لابنها الحسين عليه السلام في كربلاء، قد أبكت أم الكتاب وحولت كلماتها إلى حروف مكتوبة بحرقة الدموع وحرارة الدماء؟!

أما عرف أهل الضلال الذين جاؤوا مدججين بالسلاح لاغتيال نور الله أن دموع

علي عليه السلام على الحسين عليه السلام قد اهتز لها عرش الرحمن؟!

ص: 309


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج2 ص33

وسواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا، فإن الحق باق ما بقيت السماوات والأرض، وما الصفحات السابقة التي مرت معنا عن عظمة الحسين عليه السلام في كربلاء - كما جاءت في القصائد والملاحم الشعرية العالمية - إلا أحد أقوى الأدلة على أن تلك العظمة الحسينية لن تمحى من كتاب الإنسانية والوجود.

وهب أن تلك العظمة قد محيت من كل الكتب، فمن ذا الذي يستطيع أن يمحيها

ويمحي ذكر الحسين وأهل البيت عليهم السلام من القرآن العظيم؟!

فها قد صاح الديك وانشق ثوب الدجي عن الصباح، فلا بد لنا من الصمت

والسكوت عن الكلام المباح.

ص: 310

فاجعة كربلاء في المسرح العالمي

بعد أن زرنا في الفصل السابق واحة الشعر الوارفة الظلال، وأقمنا فيها طويلا، وتعرفنا من خلالها على الكثير من الشعراء الكبار في الساحتين الغربية والعالمية، وغادرناها

في نهاية الرحلة وقافلتنا مليئة بالكثير من الأشعار والقصائد والملاحم الشعرية الخالدة التي تتحدث عن عالم الرجولة والبطولة والفداء، ذلك العالم الذي سطره الإمام الحسين عليه السلام بدمائه ودماء أهله وأبنائه الأطهار وأصحابه الأوفياء الأبرار، فتحولت ملحمته الخالدة إلى نغم أنشودة قدسية ترتلها الملائكة بصوتها الحزين على أسماع المؤمنين وقلوبهم في كل مكان يقلهم سواء على صعيد الأرض أو على أجنحة السماء، فبعد تلك الزيارة الطويلة، ها نحن نرتحل سوية من عالم الشعر إلى عالم المسرح، ومن عالم القوافي إلى عالم الرموز والإيحاءات، إنه عالم التراجيديا ودوره في إيصال رسالة الإمام الحسين عليه السلام ومبادئ ثورته الكربلائية إلى كل الناس في شتى بقاع الأرض وأصقاعها.

ولكن، وقبل الدخول في عالم المسرح التراجيدي وعلاقته بفاجعة كربلاء، لابد لنا من الوقوف مليا مع معنی وطبيعة المسرح التراجيدي الذي عرفه الإنسان منذ أقدم العصور والذي لا يزال حيا بيننا حتى وقتنا الحاضر.

فلا تزال المناقشات تدور، حتى يومنا هذا، بين علماء الأدب حول أصل التراجيديا (المأساة)، في حين أن الاتفاق يكاد يكون تاما بينهم فيما يختص بأصل

ص: 311

الكوميديا (الملهاة) وبجذورها التاريخية والفكرية.

وإذا عدنا إلى أصل كلمة تراجيديا سنجدها مكونة من كلمتين أساسيتين هما

(Trages) وتعني (الماعز)، والكلمة الثانية (Ode) وتعني (القصيدة الغنائية).

وقد قام الباحث (ف. روبير) ( F. Rubert )، الأستاذ الأسبق للأدب اليوناني في جامعة السوربون الفرنسية بكتابة بحث مطول عن أصل التراجيديا، وقد نشر له ذلك البحث القيم في عام /1962/، ولا يزال يعتبر بحثه من أكثر الأبحاث جدية في هذا المجال الأدبي العريق.

ويعود الباحث (روبير) إلى فكرة مؤداها أن أصل التراجيديا يرجع إلى احتفال دیني يقام إكراما للآلهة القدماء والموتى من الأبطال العظماء، وكان المحتفلون يقدمون للآلهة ذبيحة من فصيلة الماعز، فإذا كان المحتفل به إلها كانت الذبيحة له تيسا، أما إذا كانت آلهة كانت الذبيحة لها عنزة(1)

ومن المعروف بالنسبة للباحثين في علم الميثولوجيا (الأساطير) أن الماعز - کرمز - منذ أقدم العصور كان ينظر إليه على أنه كائن محمل بذنوب وخطايا الناس، وأن في عملية ذبحه خلاصا وتطهيرا من هذه الذنوب، ولكن هذه العقيدة تطورت شيئا فشيئا، ليس عند الإغريق فقط بل عند معظم تلك الشعوب القديمة، وكان من نتيجة ذلك التغير في العقيدة السائدة أن يصبح أحد الأبطال العظماء هو كبش الفداء.

وبالتالي، يصبح الكلام هنا بصدد شعائر دينية الغرض منها تطهير القوم من شوائبهم، من تقصيرهم بواجباتهم العليا، فيضحي الفرد المتميز بنفسه في سبيل

ص: 312


1- الدكتور يوسف مراد، علم النفس في الفن والحياة (سلسلة كتاب الهلال)، العدد /187/، دار الهلال . القاهرة، 1966، ص128

خلاص أهله وقومه.

ومن الواجب ذكره أيضا أن مشاهدة التراجيديا كانت أمرا إجباريا لكل سكان المدينة التي تعرض فيها التراجيديا، وكانت فكرة الإجبار توحي أنهم بصدد احتفال دیني جاد لا مجرد احتفال ترفيهي، وكانت المشاركة بين الممثلين والمشاهدين مشاركة فعلية عاطفية، فلم يكن الممثل يتكلم بصوته الطبيعي العادي، بل كان إلقاؤه أقرب إلى الإنشاد المشبع بنبرات الحزن والنحيب وكأنه قد تحول إلى كاهن يؤدي الشعائر الدينية المطلوبة(1)

وفي هذا الجو المأساوي الكئيب، وفي هذا الجو المرؤع الرهيب كان يبدو للمشتركين في أحداث التراجيديا أن حجب السماوات قد تمزقت وأن البطل التراجيدي قد امتطى صهوة آلامه وارتقى على براق عذابه وانطلق مرتفعا إلى عرش السماء ليكتب اسمه وبطولاته ومآثره في سجل الخالدين.

ومن خلال هذه المقدمة الموجز عن مفهوم التراجيديا أصبح بإمكاننا أن ندخل إلى جوهر موضوعنا الأساسي، وكم يحلو لنا الكلام هنا عندما نربط في بداية حديثنا مسألة الفاجعة الكربلائية بقضايا المناحات الكبرى في تاريخ الإنسان المترع بالآلام والأحزان.

إذن، سنبدأ الكلام الآن عن الأساس التراجيدي الذي يوحد بين أقوى ثلاث مناحات ألهبت الوجدان والضمير الإنساني عبر آلاف السنين، ولا تزال المناحة الثالثة حية متقدة في القلوب حتى يومنا هذا.

فما هي قصة المناحات الثلاث وما علاقة ذلك بحديثنا عن كربلاء وعن مسرح

ص: 313


1- نفس المصدر السابق ص130

الفاجعة؟!

في الحقيقة، يرى المهتمون والباحثون في الميدان الميثولوجي أن هناك علاقة وثيقة بين فاجعة كربلاء وبين قصتين قديمتين جدا ولدتا قبل میلاد السيد المسيح نفسه عليه السلام بقرون عديدة، وهاتان القصتان القديمتان، أو الأسطورتان، هما أسطورة (أوزيريس) المصرية وأسطورة (تموز) العراقية، وكلتاهما أسطورتان قدیمتان متجذرتان في عمق التاريخ القديم.

وباختصار شديد، تقول أسطورة (أوزيريس) إن أوزيريس كان من أعظم آلهة مصر القديمة، وكان هو الحامي للموتى، وقد تعرض للقتل العنيف ظلما على أخيه (ست)، إله الصحراء المترامية الأطراف، وهذه القصة الأسطورية يمكن إحالتها إلى قصة أقدم وهي قصة مقتل (هابیل) على يد أخيه الظالم الآثم (قابیل).

أما قصة، أو أسطورة، (تموز) البابلية العراقية، فتقول إن تموز كان يمثل إله الخصب والجمال والانبعاث عند الآشوريين القدماء، وقد لقي ذلك الإله الوديع والجميل حتفه على يد خنزير بري لا يعرف الرحمة أبدا حيث قام بقتل ذلك الإله شر قتلة ثم مزقه بأنيابه شر تمزيق، ولكن ما لبث أن عاد (تموز) للحياة ثانية على يد الإلهة (عشتار)، وبالطبع، فإن (تموز) البابلي هو نفسه (أدونيس) في الأسطورة الفينيقيةالقديمة وفي الأسطورة اليونانية أيضا.

أما القصة الثالثة، أو المناحة الثالثة، فهي قصة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في کربلاء، وهي القصة الوحيدة، من بين هذه القصص الثلاث، المبنية على أسس واقعية بعيدة عن عالم الميثولوجيا والأساطير.

وما يجمع هذه القصص الثلاث هو الطقس الجنائزي الحزين المصحوب بالبكاء

ص: 314

والنواح على أولئك الأبطال الثلاثة الذين قدموا للناس أعظم ما يملكون بطريقة تراجيدية أليمة، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن موت هؤلاء الأبطال الثلاثة لا يمثل قناءهم من الوجود، بل إن موتهم يمثل انبعاثهم وعودتهم من جديد إلى عالم الحياة والخلود، بل إنهم هم أنفسهم قد تحولوا إلى رمز ولادة الحياة.

وانطلاقا من كل ما تقدم، نرى أن هناك نقاط تشابه بين الفجائع الثلاث تستدعي الوقوف والتأمل من قبل الباحثين والدارسين المتخصصين في هذا النوع من الدراسات والأبحاث المقارنة.

ففي بحث مطول للباحث (فاضل الربيعي) بعنوان (نواح الأقنعة - الفجيعة الجماعية من تموز حتى كربلاء)، نرى أن ذلك الباحث يفتتح بحثه بالقول المباشر إن المؤرخ اليوناني الشهير (هیرودوت) (500 ق.م) قد نقل لنا في واحدة من أروع وأكثر مشاهداته أهمية في مصر القديمة، انطباعا مفاده أنه قد شاهد المصريين وهم يقيمون نوعا من المناحة الجماعية في احتفالات الإله (الشهيد) أوزيريس، وذلك عن طريق إعادة تمثيل مشاهد من موته العنيف في طقس من الحزن الجماعي، ثم بعد ذلك يشرعون في بكاء حار وطويل ثم يلطمون أجسادهم حزنا عليه وعلى مصيره الأليم.

وقد علق الأستاذ (الربيعي) على كلام المؤرخ اليوناني القديم (هيرودوت) بقوله إن هذا الوصف الموجز الذي تتعمده ملاحظة (هيرودوت) وتقدمه كنوع من المشاهد المسرحية المؤثرة لا يقدر بثمن، فهو يفتح الطريق الصعبة أمامنا على نحو مفاجي، من أجل رؤية الصلات الممكنة بين المناحات الجماعية الكبرى، والتي لا يزال بعضها قائما في مجتمعنا الإسلامي من خلال المناحة الكربلائية الحسينية التي تعيد إحياء ذكرى الإمام الشهيد، الحسين عليه السلام ، الذي سقط من أجل مبادئه في صراع مرير غیر

ص: 315

متكافئ مع یزید بن معاوية(1).

وهذه الرغبة في إعادة المشاهد التمثيلية الكربلائية المفجعة يدركها الجمهور الحسيني في أعماق ذاته جيدا، فهي تلبي باستمرار حاجات روحية وعاطفيةووجدانية دفينة في داخل كل فرد من الحضور، وهي تحمل أيضا العاطفة الملتهبة للبطولة الحقة والمفقودة في الزمن الحاضر، إن تلك الرغبة في إعادة تمثيل تلك المشاهد التراجيدية لا تهدف بالتأكيد إلى إعادة البحث عن البطل الحقيقي واكتشافه من جديد، فهو مكتشف و معروف جيدا، وإنما تهدف إلى استرجاعه من أعماق الماضي وتتبع خطاه المليئة بالآلام المريرة في سبيل المبادئ الخيرة التي استشهد من أجل تحقيقها وتثبيتها.

وإذا كانت المناحة في أسطورتي (أوزيريس) و(تموز) تعبیرا رمزيا عن الخوف من غضب الطبيعة وعواملها المتغيرة التي تؤدي إلى الجفاف وخلخلة الدورة الزراعية، وبالتالي إلى حدوث المجاعات المتبوعة بالموت والطاعون، فإن المناحة في كربلاء ليست إلا التعبير الأمثل عن الخوف من السلطات الجائرة التي لا تتوانی عن فصل رؤوس المعارضين عن أجسادهم كما حدث مع رأس ابن بنت النبي ذاته عليه السلام في واقعة كربلاء

لقد كانت المناحة القديمة تعبيرا حقيقيا عن خوف جماعي من سلطة الطبيعة الغاضبة والمزاجية والقادرة على قهر الجماعات قبل الأفراد نظرا لما تحمله من كوارث لاحقة يصعب معها التنبؤ بالخسارة الحقيقية التي يمكن أن تنال من قوة

ص: 316


1- فاضل الربيعي، نواح الأقنعة، مجلة (الناقد)، العدد /69/، عدد آذار، 1994، تصدر عن دار رياض نجيب الريس، بيروت. لندن، ص4

وتماسك تلك الجماعات التي تعتمد في وجودها وبقائها على ما تعطيهم إياه الطبيعة من بركات الأرض ونعمها التي تبقي على وجودهم وعلى وجود قطعانهم.

غير أن المناحة الكربلائية لم تنشأ من أجل ذلك، بل إنها أسست لخوف جدید غير الخوف من القوة القاهرة للطبيعة، لقد أسست للخوف من السلطة الزمنية الجديدة، تلك السلطة الدموية العنيفة التي اتخذت من الدين ستارا لها، ومن هنا فقد أصبح كل فرد شريف يطالب بالعدالة والشرعية (غریب کربلاء)(1)

ففي دم الحسين عليه السلام المراق ظلما على رمال كربلاء سیری کل مسلم دمه هو شخصيا مراقا ومسفوحا بلا جرم ارتكبه ولا إثم اجترحه، فالجرم الوحيد الذي ارتكبه ذلك الفرد المسلم الرافض للظلم والبغي والعدوان هو جرأته على البوح بما كان يخفيه في صدره من رفض لكل صور وممارسات تلك السلطة الإسلامية الجائرة التي اتخذت من الإسلام شعارات براقة لها لتخفي وراء تلك الشعارات الزائفة قبح وجهها الحقيقي الغارق في الممارسات الجاهلية السابقة.

وقبل الدخول عميقا في تحليل أسس ومقومات المسرح التراجيدي، وبشكل خاص المسرح التراجيدي الكربلائي الذي كنا بصدد الكلام عنه منذ قليل، دعونا الآن نتوقف مع بعض النصوص المسرحية التي تتناول أحداث فاجعة الحسین علیه السلام ومأساة أهله وأطفاله علیهم السلام، ثم لننتقل بعد ذلك مجددا إلى متابعة الحديث الذي كنا قد بدأناه بشأن تحليل المسرح التراجيدي وعلاقته بكربلاء.

فهناك مسرحيتان شهيرتان كنا قد تحدثنا عنهما في فصل سابق من هذا الكتاب،وهما مسرحية (الحسين ثائرا) و (الحسين شهيدا) للأديب والمفكر المصري المعروف

ص: 317


1- فس المصدر السابق ص7

(عبد الرحمن الشرقاوي)، لقد حاول ذلك الأديب جاهدا أن ينقل للقارئ كل ما حدث على أرض الفاجعة بطريقة أمينة وصادقة، وبلغة بعيدة عن كل ما يمكن أن يوصف بالعصبية والانفعال أو التحيز والانحراف عن قول الحق.

فمن الصفحات الأولى في كلتا المسرحيتين تبرز شخصية الإمام الحسين عليه السلام بصورة السيد الجليل المهاب، والبطل المقدام المؤمن حتى الموت برسالة السماء التي جاء بها جده الرسول المصطفى إلى العالمين أجمعين.

وفي المنظر الرابع تحديدا، يصور لنا الأستاذ (الشرقاوي) رحلة الآلام مع الإمام الحسين عليه السلام التي بدأت فعليا بخروجه من مدينة جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورحيله إلى ساحة الفداء والدماء على رمال كربلاء.

فالإمام الحسين عليه السلام يعلن قائلا، وهو على وشك الخروج من المدينة :

- أنا ذا أرحل مقهورا - ولا حيلة -

عن أرض المدينة،

ملعبي عند الطفولة

ومراحي في الشباب

ومنار العلم والدين ومهد الغزوات،

حرم الله وحصن الذكريات

ومثابات الخيال

آه يا نبع الأماني الشريفة

أنا ذا أخرج منها هائما تحت الظلام

أنا ذا أحمل آلامي وأحلام الجميع

ص: 318

کالمسيح المضطهد

تتلقاه حراب الظلم في كل بلد

وهو يمضي يغرس الأقدام في شوك السلام

ليزيح الشوك من كل الربوع!

مثل موسی خارجا یوجس خيفة

هاربا من بطش فرعون إلى التيه الفسيح المترامي

ما على النفس يخاف،

إنما يشفق منأن يغلب الظلم ودولات الضلال

إنني أخرج كي أنقذ أعناق الرجال

إنني أخرج كي أصرخ في أهل الحقيقة:

أنقذوا العالم، إن العالم المجنون قد ضل طريقة(1)

هذه هي حال الإمام الحسين عليه السلام وهو على وشك الخروج مع أهل بيته وعياله وأطفاله إلى أرض مصارعهم ومحط رحالهم ومهراق دمائهم، وهنا يبرز لنا الأستاذ

(الشرقاوي) فكرتين هامتين في هذا النص، وهما:

أولا: إن الإمام الحسين علیه السلام، شأنه شأن السيد المسيح عليه السلام وموسی کلیم الله علیه السلام ، كان مظلوما و مظطهدافي قومه، خائفا في بلده، فاقدا للأمان في زمن سيطر فيه أهل البغي والنفاق على رقاب العباد و خیرات البلاد، في زمن سيطر فيه أبناء الطلقاء والفجار على أبناء الرسالة وأنوار النبوة الأطهار، فكان لا بد من الخروج.

ثانيا: إن خروج الإمام الحسين عليه السلام ، على الرغم من اضطهاده وخوفه، لم يكن

ص: 319


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا مصدر سابق ص75

خروجا نابعا من خوفه على نفسه، فهو يقول - كما جاء في النص -: (ما على نفسه يخاف)، وإنما كان هناك خوف من نوع آخر، فما هو ذلك الخوف الذي دفع الإمام الحسين عليه السلام للخروج؟!

إنه الخوف من أن يصبح للظلم دولة، إنه الخوف من أن يتخذ الظالمون من الضلال سياسة ومنهجا وسلوكا لهم في تعاملهم مع الأمة والرعية، إنه الخوف من أن تمزق راية الرسالة الإسلامية تحت حوافر خيول الجاهلية.

وما يؤكد ذلك كله، قول الإمام الحسين عليه السلام في المنظر الرابع نفسه:

- ربي... إلى من توکل العبد الضعيف؟

أنا ذاك أدعو مثل جدي

حين طارده رجال من ثقيف

قد أتاهم بالهداية:

(إن لم يكن بك رب من غضب علي فما أبالي!)

إني فزعت إليك من دنیا یزید

وهرعت نحو رحابك القدسي بالخير الطريد

وبكل أحلام السلام وكل آمال العدالة

أنا ذا لجأت إليك يا ذا الحول والجبروت یا رب

الجلالة(1)

وإذا كان هذا هو حال الإمام الحسين عليه السلام وهذه هي أهدافه بإحلال السلام وإقامة العدالة في المجتمع الذي بات فريسة ثمينة بين أنياب یزید و مخالبه، فما هي

ص: 320


1- نفس المصدر السابق ص79

الأهداف التي يطمح رجال يزيد لتحقيقها في ذلك المجتمع، وما هي السياسة التي يتبعها أولئك الرجال مع أفراد المجتمع لإرساء قواعد وأسس تلك السياسة الأموية المتوارثة ؟! في الحقيقة، إن الأديب الأستاذ (الشرقاوي) قد لخص الخطوط العريضة لتلك السياسة الأموية الجائرة بالقول على لسان (عبيد الله بن زیاد) الذي وقف مخاطبا أهل الكوفة، مبينا لهم سياسته المستقبلية معهم:

(- العاقل منکم من نافقني

المجرم فيكم من جابهني

الأحمق من أضمر بغضي

وأسر النجوی كي يطعن في عرض أبي

أو في عرضي).

أما الخط الثاني لسياسته المستقبلية، فيتجلى في قوله:

(فعيوني تسعی بینکم

وجواسيسي يستقصون دبيب الهمسة في الأعماق

وسآخذكم بنوایاکم.. بالأفكار المكتومة

لا بالأعمال المعلومة.

بالخلجات وبالخفقات وهمس الهمس

فالفائز منکم من صانعني حتى في خلوات النفس)(1)

إذن، هذه باختصار شديد، بعض وجوه المقارنة التي أجراها الأديب (الشرقاوي)

ص: 321


1- نفس المصدر السابق ص173.

بین ما يريده الإمام الحسين عليه السلام في الرعية وبين ما يريده يزيد ورجاله من انتهاج السياستهم الأموية الخاصة في نفس الرعية.

وقد علق الباحث المصري الدكتور( علي الراعي) على مسرحية (الحسين ثائرا) بقوله في كتابه (المسرح في الوطن العربي): (صور الشرقاوي الحسين شهيدا منذ البداية، فهو يملك ذلك النقاء في الروح، والقول، والعمل، الذي لا يستطيع صاحبه أبدا أن يهادن معه الشر.

كل ما يستطيعه هو أن يدخل مع الشر في معركة حامية، يعرف أيضا أن مثل هذه

المعركة غير المتكافئة هي السبيل الوحيد لإنقاذ الإنسان وشرف الإنسان)(1).

وكما ذكرنا في بداية حديثنا عن المسرح التراجيدي وعن الأبطال الذين لعبوا الدور الأساسي في نصوص تلك المسرحيات التراجيدية الموغلة في القدم، فما من كاتب مسرحي معاصر كتب عن الإمام الحسين عليه السلام وعن بطولاته الجليلة وغاياته النبيلة إلا وأعطى الإمام الحسين عليه السلام المكانة اللائقة به والتي ترفعه إلى مصاف الأبطال العظماء القدماءالذين ينحدرون من أصول سماوية نبيلة، كما تصورهم الأساطير القديمة في الشرق العريق والغرب القديم.

وهاهو الدكتور (علي الراعي)، وهو الباحث المتخصص في الدراسات المسرحية والحاصل على شهادة دكتوراه في المسرح من جامعة (برمنجهام) البريطانية عام / 1955/ ، ها هو يؤكد صواب کلامنا بقوله عن صورة الإمام الحسين عليه السلام الواردة في مسرح (الشرقاوي) الذي تناول الكثير من أحداث الفاجعة في أدبه

ص: 322


1- الدكتور علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (عالم المعرفة)، العدد /248/، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، عدد آب 1999، طبعة ثانية، ص165

المسرحي:

(إن معركة الحسين مع أنصار الشيطان من بیت یزید بن معاوية، ومن عماله وعملائه، هي أشبه ما تكون بمعركة الإنسان الإغريقي القديم مع القدر، تلك أيضا كانت معركة غير متكافئة، نتيجتها معروفة سلفا، ولكن البطل الإغريقي، الإنسان، كان يشرف كثيرا بمجرد قبوله تحدي القدر، كان يحصل على المجد لمحض دخوله المعركة المحتومة المصير، اعترافا منه بأنه في مثل هذه اللحظات النادرة في التاريخ أو في الأسطورة، يتعين على الإنسان أن يرتفع بقامته طويلة جدا حتى يناطح بها السحاب، أو ما هو أعلى منه)(1).

وبالفعل، فإن الحسين عليه السلام لا يطرف له جفن في مواجهة الشر والضلال، ولا يغريه وعد من الكفار، ولا يرهبه وعيد من الطغاة الفجار، ولا يثبط همته ذلك العدد القليل من الصحب والأنصار، إنه البطل الثائر في وجه الانحراف عن خط الرسالة ولو كلفته ثورته تلك خوض اللجج وسفک المهج، فالهدف السامي الذي خرج بأهله وعياله من أجله يستحق أكثر من ذلك بكثير.

وعلى ما يبدو، فإن أكثر المشاهد إثارة للنخوة والحماسة في النفوس هو ذلك المشهد الأخير الذي يندد فيه الإمام الحسين عليه السلام بزمانه، ذلك الزمان الأغبر الرديء الذي مکن الذئاب من الرقاب، وأبعد أصحاب الحقوق عن حقوقهم، وأقصاهم عن ممارسة ذلك الحق في خدمة العباد والبلاد.

ولابأس هنا في أن نذكر شيئا عن آخر ما قاله الإمام الحسين عليه السلام في المشهد

الأخير من مسرحية (الحسين ثائرا).

ص: 323


1- فس المصدر السابق ص166

فالإمام الحسين عليه السلام يقف أمام من تبقى معه من أصحابه المخلصين بعد أن تخلى عنه معظمهم خوفا من عيون يزيد وأعوانه الذين لا يرحمون صغيرا ولا كبيرا، لا طفلا ولا امرأة، ولا يترددون لحظة واحدة عن ارتكاب أفظع المجازر وأبشعها في سبيل مرضاة فرعونهم الأكبر یزید.

فالإمام الحسين عليه السلام يقف أمام البقية الباقية معه، ويقول لائما عصر الرزایا: (يا أيها العصر الرزي لأنت غاشية العصور

قد آل أمر المتقين إلى سلاطين الفجور...

أي الذئاب منحته السلطان والملك العريض؟

يا أيها العصر البغيض

يا أيها العصر الرزي وأنت غاشية العصور

العصر ينفث حولنا الغثيان مما أحدثته به أمية

عصر يثير تقزز النفس الأبية..

يا أيها الشرفاء لا تهنوا إذا طغت الذئاب

سیروا بنا كي ننقذ الدنيا من الفوضى

ومن هذا الخراب)(1)

وبهذه الأبيات الشعرية التراجيدية ينهي الأديب (الشرقاوي) مسرحيته الأولى( الحسين ثائرا) وليبدأ بعدها بمسرحيته الثانية عن كربلاء، والتي تحمل عنوان (الحسين شهيدا)، وهي المسرحية التي تصور بشكل دراماتيكي مؤثر مجمل أهوال الفاجعة التي لحقت بالحسين وأهله عليهم السلام نتيجة وقوفهم تلك المواقف البطولية في

ص: 324


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، مصدر سابق ص246.

سبيل المبادئ التي نذر الحسين عليه السلام نفسه من أجلها.

وبما أننا لا نريد تكرار المشاهد والأحداث التي ذكرناها سابقا عن تفاصيل تلك الملحمة الحسينية الدامية، فمن الأفضل لنا أن نكتفي هنا بإيراد بعض المقاطع الهامة التي وردت في سياق الحوارات الدائرة بين الشخصيات الرئيسية في نص المسرحية المذكورة.

ففي أحد المشاهد الأخيرة من المسرحية، يصور لنا المؤلف أرض كربلاء ليلا وقد غسلها ضوء القمر الحزين، فبدت التلال وقد امتلأت بجثث الرجال، إنهم رجال الإمام الحسين عليه السلام الذين تساقطوا كالفراش حول المصباح وهم يطلبون قبسا من نوره البهي.

ففي هدأة تلك الليلة المخضبة بالدماء، يقف الإمام الحسين عليه السلام وحيدا تحت

ضوء القمر الذي شهد مصارع الفتيان والرجال، ويقول مخاطبا أعداءه :

- أنا ذا عشت شهیدا

لم لا أقضي شهیدا؟

أنا ذا أمضي وحيدا

ليست العبرة في قتل الحسين بن علي

إنما العبرة فيمن قتلوه.. ولماذا قتلوه

أنا ثأر الله فيكم.. فاطلبوه!!(1)

ومن الطبيعي تماما أن يبرز هنا، في خضم هذه الأحداث الحامية، دور السيدة زینب علیها السلام جليا في مساندة أخيها الإمام الحسين عليه السلام الذي يتقدم بخطوات ثابتة

ص: 325


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين شهيدا، مصدر سابق ص380

باتجاه الموت الذي لم يعد يفصله عنه إلا عدد قليل من الخطوات.

ويقترب الحسين عليه السلام من أحضان الموت أكثر فأكثر، ويقاتل بسيفه بكل ما

أوتي من قوة وإيمان، ويصبر ویصابر حتى اللحظات الأخيرة وكله أمل باللحاق السريع بجده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الزهراء وأخيه المجتبى عليهم السلام بعد أن يزلزل بصبره وشجاعته وإيمانه عروش أعداء الرسالة من الأمويين الكفرة.

وبعد صولات وجولات، يسقط الحسين عليه السلام أرضا وقد امتلأ جسده بالجراح النازفة، يسقط الحسين عليه السلام وعيناه مثبتتان نحو السماء فيرى الملائكة بأبهى صورها تستعد للقائه وهو ممزق الجسد، وتستعد للقاء أصحابه وعياله وأطفاله أيضا بعد أن ذبح بعضهم وقتیل البعض الآخر منهم عطشا وقد أضرمت النار في خيامهم مثلما

أضرمت النار من قبل في بيت أمهم فاطمة الزهراء عليها السلام .

وها هي أخت الإمام الشهيد عليه السلام، السيدة زينب عليها السلام، تقف قرب جثة شهید الرسالة ونور النبوة، وقرة عين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وريحانته، وتخاطب الأمويين القتلة بقولها المجلجل:

(- يا قاتلي بطل الحقيقة والتقى

یا خانقي أمل الخلاص المرتجى

يا ويلكم.. أوطأتموا أفراسکم جسد الشهيد

ابن الشهيد المرتضى

أنتم دهستم ويحکم جسد الرسول!

وسفكتم دمه الطهور

دم الرسول المصطفی...

ص: 326

یا نابشي قبر النبي ومهدري حرمات أهله

یا ماضغي كبد الشهيد

يا مطفئ نور الحضارة.. والحقيقة والسلام

یا خانقي الأحلام)

وبعد هذه الصرخات الهادرة المجلجلة في وجه أبناء الفجور وسلاطين الديجور، تلتفت بكل ثبات إلى عمر بن سعد، ودموعها تنسكب بمرارة على أخيها الشهيد المظلوم وتخاطب ابن سعد بقولها الذي تمتزج فيه أحاسيس الكبرياء والعزة مع أحاسيس الحسرة والألم والمرارة، تلك الأحاسيس المتفجرة والنابعة من قلب جريح قد حولته الهموم والآلام إلى وعاء للفاجعة .

فها هي تخاطب ابن سعد قائلة:

( - ماذا ستجني عندما تهدي رؤوس الأولياء

إلى البغي؟

أخليت وجه الأرض ويحك من جميع بني علي

یا عارك الأبدي إذ تشري رضاء ابن الدعي

بأن تریق دم النبي ؟)(1)

وقد اختتم الأديب (الشرقاوي) مسرحيته الشعرية (الحسين شهيدا) بحديث مطول للإمام الحسين قادم من عالم الغيب، إنه حديث البطل التراجيدي المليء بالدروس والعبر الثمينة التي لا تفيض إلا من قلب كبير قد آلمته الجراح وعصفت به الرياح، فبقي ثابتا على ما هو عليه من قيم إنسانية وأهداف رسالیة لا ينثني أمام آلام

ص: 327


1- نفس المصدر السابق ص392

الجراح ولا ينحني أمام عصف الرياح.

ونظرا لأن الفصل الأخير من هذا الكتاب مخصص للكلام عن الدروس والعبر المستخلصة من الفاجعة، فرأينا أنه من الأفضل أن نستشهد ببعض أقوال الأديب

(الشرقاوي)، التي وضعها على لسان الإمام الحسين عليه السلام، في الفصل القادم إن شاء الله تعالی.

وبقي أن نقول هنا إن النقد الحديث لمسرحيتي الأديب (الشرقاوي) يرى أن امتلاء جسد الحسين عليه السلام بالجراح العميقة، وسقوطه شهيدا، واحتزاز رأسه، والسير به إلى مجلس يزيد في دمشق، إنما هي أحداث طبيعية في عالم التراجيديا، وذلك لأن الإمام الحسين عليه السلام قد سطر باستشهاده قصة استشهاد الإمام وعلؤه ومجده.

ويرى النقاد المعاصرون أيضا أن الحسين عليه السلام دائم الحزن في أحداث

مسرحيتي (الشرقاوي)، ويتساءلون عن السبب في ذلك: لماذا؟!

ويأتي الجواب منهم قائلا ومعللا:

إن المعركةطويلة.. طويلة جدا طول الملايين الكثيرة من السنين التي عاشتها الإنسانية والتي سوف تعيشها، وما هذه المعارك التي يثخن فيها الخير بالجراح إلا المعالم على الطريق.

وتبعا لذلك، فإن الإنسان قد يصبح أكثر حكمة، لكنه لن يكون أقل حزنا وشجنا.

فالمصدر الرئيسي للمأساة في عملي (الشرقاوي) هو أن الخير والنقاء المفرط يعاقبان عقابا شديدا لأشياء لم يرتكباها أبدا، بينما الشر يسرح ويمرح على هواه، ويتمرغ هانئا سعيدافوق أكوام الذهب وبين أعطاف النساء، فالخير غريب، والشر

ص: 328

مقيم!(1)

وغني عن القول إننا لن ندرس ونحلل هنا كل المسرحيات التي كتبت عن الإمام الحسين عليه السلام وعن مصابه الجلل في كربلاء، فكل ما ورد في تلك المسرحيات - من

حيث المادة التاريخية - متشابة تماما، وإنما الخلاف بينها يقع في الأسلوب الأدبي

الذي تتم من خلاله عملية نقل الأحداث والأفكار.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، فلا داعي للإكثار من الشواهد المتشابهة التي قد تخلق جوا من الرتابة والملل في نفوس القراء، ولذلك فإننا سنكتفي بدراسة وتحليل الشخصيات الأبرز الواردة في تلك المسرحيات، مع التركيز أيضا على النتائج المترتبة على استشهاد الإمام الحسين وأهله وأصحابه عليهم السلام، ليس من ناحية الدروس والعبر، وإنما من ناحية المراسم والطقوس العزائية التي خلفتها الفاجعة وراءها.

فمن حيث المادة التاريخية، نرى تطابقا كبيرا بين ما كتبه الأديب (الشرقاوي) وبين ما كتبه الأديب المسرحي السوري (وليد فاضل) في مسرحيته التراجيدية (الحسين).

وتتألف مسرحية الأستاذ (فاضل) من ثلاثة أجزاء مترابطة ومتكاملة، وكل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة يحمل عنوانا خاصا به، فالجزء الأول يحمل عنوان (الحسين وشمر)، والجزء الثاني يحمل عنوان (كربلاء)، بينما يحمل الجزء الثالث والأخير عنوان (الرأس والهاشميات).

وإذا كان الأديب (الشرقاوي) قد كتب مسرحيتیه (الحسين ثائرا) و(الحسين شهيدا) بأسلوب شعري متميز، فإن الأديب (فاضل) قد فضل الأسلوب النثري على

ص: 329


1- د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، مصدر سابق ص168.

الأسلوب الشعري، ولذلك فقد جاءت مسرحيته (الحسين) مليئة بالتعابير والصور الفنية التي تغني بجمالها عن جمال الأبيات والقوافي الشعرية.

ويمكننا أن نذكر هنا، على سبيل المثال، تلك المناجاة العميقة المعاني التي جاءت على لسان الإمام الحسين عليه السلام في الجزء الأول من المسرحية، إنها مناجاة تفيض بالصور والحقائق التي تتعلق بشخصية الحسين عليه السلام وبطبيعته النورانية المتحدرة من الأنوار العلوية القدسية التي أفاضها الله سبحانه وتعالى على خلقه رحمة بهم وفضلا عليهم ما بقيت الأرض والسماء.

فالإمام الحسين عليه السلام كما جاءت صورة مناجاته في المسرحية، يجلس متربعا

على الأرض وسط دائرة من نور، ويطلق لسانه بالمناجاة قائلا:

-«أيا سيدي، أيها المصباح المنير، یا جدي، أيا سيدي، أيها الباب، باب المدينة التي تحوم في صدور الحكماء، يا أبت، أيتها الزمردة الكونية، أيهاالهيكل المحلق في سماء الروح، يا أماه، أنتم الغاية والوسيلة، وأنتم البدء والمنتهى، فلولاكم لما كنت أنا، الطرقات شتى، وطريق واحد هو طريق السلامة، الأنوار شتى، ونور واحد هو نور الحق، تشابهت الأنوار واختلطت الطرقات، فحملتني يا جداه عبء فرز الإشارات ونخب الألوان، وقلت: (حسين مني، وأنا من حسین).

ها شفاهك تقبل أصقاع روحي، فأستبين بعد الأنوار، اخترتني دليلا للأرواح الضالة وذاك الدليل سأكون، اخترتني ناخبا للنور الإلهي من الأنوار الخداعة، وبمسری ذاك النور سأسير، جسدي سيكون الصراط، هكذا أردت يا سيدي، وهكذا سيكون، فالأوثان كثيرة، والطواغيت أكثر، وشمس السماء قد طويت، وأنجم السماء قد غطيت، وبان القمر واختفت الزهرة، وما عاد في السماء من قمر سواك يا جداه، یا

ص: 330

قمر الروح الذي لا يغيب، ويا شمس النفس التي لا يكف ضوءها عن السريان، بك ألتمس الدفء، فأنت دفء الفؤاد والجسد، أفرزتني من بعضك، فأنا منك، جسدي فيه من جسدك، وواسطة الربط كانت زهرة الكون، أمي وسيدتي فاطمة»(1)

هذه هي المناجاة الحسينية التي وضعها الأديب المسرحي (فاضل) على لسان الإمام الحسين عليه السلام في الصفحات الأولى من مسرحيته المذكورة، ولكن الشيء اللافت للنظر في هذه المناجاة هو المقطع الأخير منها، وهو المقطع الذي سنذكره الآن، فهو مقطع يلفت نظر المستمع والمشاهد إلى حقيقتين اثنتين، وهما:

إن الإمام الحسين عليه السلام يعرف نهايته التراجيدية المأساوية منذ بداية المسرحية،

أي منذ أن رفع الستارة عن بداية الحوارات والأحداث.

أما الحقيقة الثانية، فتتعلق بقوله عليه السلام في آخر مقطع من مناجاته، والذي يقول

فيه وهو يستشرف الأحداث المستقبلية القادمة:

«أذرف یا قلب دمعك على قتلتك، فما أقسى الظلام الذي سيزجون به، ظلام خلفه ظلام، ولكن أوان الولادة قد حل، ولو تدري سيوف الظلام أي فجر ستصنع، لبقيت في أغمادها خرساء صامتة»(2)

إنها دلالة الكمال في شخصية الحسين عليه السلام ، تلك الشخصية العظيمة والنبيلة التي ورثت الكثير من عظمتها ونبل أخلاقها من الجد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم والأب المرتضی علیه السلام ، إنها شخصية الحسين عليه السلام النبيلة التي تبكي حزنا وأسفا على قاتليها الذين سيدخلون النار بسبب قتلهم إياها دون ذنب ارتكبته أو خطأ اجترحته.

ص: 331


1- وليد فاضل، الحسين (ملحمة تراجيدية)، مطبعة اليمامة . حمص، 1998، ص19.
2- نفس المصدر السابق ص20

فالرسول المصطفی صل الله عليه واله قال لأعدائه الألداء الذين ناصبوه العداوة بكل أشكالها في الليل والنهار، قال لهم بعد أن مكنه الله منهم يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(1)، مع معرفته اليقينية بأن أبا سفيان سيبقي رأس الكفر والنفاق في قومه.

والإمام علي عليه السلام، بدوره أيضا، قال موصيا ابنه الإمام الحسن عليه السلام ، بعد أن طعنه عبد الرحمن بن ملجم (لع) عند صلاة الفجر في مسجد الكوفة، وقد تم إلقاء القبض عليه:

«ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه واشفق عليه...»، ثم يطلب من ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام ألا يغلا له يدا وألا يقيدا له قدما، ثم يتابع قائلا في وصيته للحسن عليه السلام : «نعم، يا بني، نحن أهل البيت لانزداد على المذنب إلينا إلا کرما وعفوا، والرحمة والشفقة من شیمتنا، بحقي عليك أطعمه یا بني مما تأكل واسقه مما تشرب...»، ثم يردف في النهاية قائلا: «إن أبق، فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء میعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!»(2).

وبعد كل هذا النبل والتسامح من الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم والإمام المرتضی علیه السلام، هل بقي مكان للاستغراب من بكاء الإمام الحسين عليه السلام حزنا وأسفا على المصير الأسود المحتوم الذي ينتظر قاتلیه؟!

ص: 332


1- عبد الزهراء عثمان محمد ، سيرة المصطفى، مكتبةالشهيد الصدر . قم، 1984، ص162.
2- راجع ما جاء في أ. الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1982 ص378. ب . عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي، مصدر سابق ص694

فالحقيقة الثابتة، إذن، تتجلى في الكمال الإنساني وفي ثبوت النور الرباني في شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي ورث ذلك عن كمالات وأنوار الحقیقتين المحمدية والعلوية، المتحدتين بالنور والمنفصلتين في الظهور.

وإذا كان الأستاذ (فاضل) قد أوضح لنا الأهداف التي يسعى الإمام الحسين علیه السلام لتحقيقها، وبين لنا ۔ بنفس الوقت أيضا - الخصال والصفات التتمتع بها تلك الشخصية التراجيدية التي تتجسد فيها كل معاني النبل والبطولة والفداء، فإن هذا لا يعني أبدا أن المؤلف قد أغفل أو أهمل ذكر الشخصية الرئيسية المناوئة للإمام الحسين عليه السلام، أو أنه تجاوز ذكر فلسفتها في الحياة.

فمن خلال أحد الحوارات الهادئة بين یزید بن معاوية ومستشاره المقرب( سرجون بن منصور الرومي) الذي جاء وصفه في المسرحية على أساس أنه (إحدى تجسدات الشيطان)، نستطيع أن نتبين فلسفة يزيد في صراعه مع الحسين عليه السلام ومع آل بيت النبوة عليهم السلام عموما.

ففي جلسة سرية بينهما، يخاطب یزید مستشاره سرجون قائلا:

- التركة تمت تصفيتها، وطويت صفحة الهاشميين، آه، أية أفاع كمنت تحت ألسنتكم، وبأي سحر تأسرون قلوب الناس يا بني هاشم، أعطيتم سحر الكلام، لكن سحر السوط والدينار، وسحر الخمرة والنساء أقوى، وبه سأبطل سحركم على القلوب.

إنه سحر المتعة والشهوة، وحب الدنيا وممارسة الحياة، تعدون الناس بجنة عالية، أما أنا فقد صنعت للناس جنة دانية، وتمنون الناس بالحور العين، أما أنا فقد جلبت لهم حورا من ياسمين وبنفسج، وحتى وردا أسود، تغرونهم بأنهار من عسل

ص: 333

ولبن مصفی، ما أكثر العسل في جرار یزید، وتشوقونهم بخمرة لا يتغير طعمها، أما خمرتي، فيتغير طعمها كلما تعتقت أو مزجت بكافور الماء، خمرتي هي الخمرة، وما عداها السراب، فتهيؤوا یا آل هاشم للغزو، غزو سحركم، وغزو بیانكم، وغزو حجتكم أمام الناس(1)

وبتقديري الشخصي، لقد أبدع الأستاذ (فاضل) في تصوير شخصيات مسرحيته وإبراز حقيقة تلك الشخصيات المتصارعة، وكان من أكثر النقاط تميزا في أحداث المسرحية هي مسألة الحوار الغريب الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام الثابت على مواقفه، مع معرفته المسبقة بالفجيعة التي تنتظره، وبين الشيطان الذي يحاول أن يثنيه عن مواقفه بعد أن يعرض على الحسين عليه السلام خدماته وعروضه المغرية التي قلما يثبت أحد أمام بريقها.

والنقطة الثانية التي يتميز بها الأستاذ (فاضل) في طرحه وفي أسلوبه الأدبي المتمثل في الحوارات المتنوعة الجارية على ألسنة شخصيات المسرحية، هي تلك النقطة التي تتعلق بالكلمات والتعابير التي يستخدمها في تلك الحوارات المتبادلة بين أهم الشخصيات المحورية التي تدير الأحداث.

فالذي يقرأ ما تقوله شخصية الإمام الحسين عليه السلام في تلك المسرحية يظن أن الذي كتب هذه الأقوال والتعابير ووضعها على لسان الحسين عليه السلام ليس (ولید فاضل) وإنما (جبران خليل جبران)، فالتعابير قوية في معناها وجذابة في مبناها، بل إن لتلك التعابير المستخدمة على لسان الإمام الحسين عليه السلام أجنحة رشيقة تحمل القارئ معها إلى عوالم الصفاء والقداسة والخلود.

ص: 334


1- وليد فاضل، الحسين، مصدر سابق ص73

فلنقرأ الآن سوية ما كتبه الأستاذ (فاضل)، وقد وضعه على لسان شخصية الإمام الحسين عليه السلام في حوارها مع شخصية عمر بن سعد وشخصية شمر بن ذي الجوشن وجنودهما المقربين، وعلينا أن نقارن، ونحن نقرأ هذا المقطع الذي سنذكره الآن، بين أسلوب الأديب المسرحي (فاضل) في التعابير التي وضعها على لسان الإمام الحسين عليه السلام و بين أسلوب الأديب والفيلسوف (جبران) الذي انتهجه مع شخصية

(المصطفی)، بطل كتابه الشهير (النبي)، ذلك الكتاب الفلسفي الأدبي الذي بلغت

شهرته الآفاق.

وها نحن نذكر المقطع المذكور الذي وضعه الأستاذ (فاضل) على لسان الإمام الحسين عليه السلام مع أملنا بأن يقارن القارئ الكريم بين أسلوب (فاضل) وأسلوب (جبران)، وعدم إغفال ذلك.

فلنستمع، إذن، إلى شخصية الحسين عليه السلام وهي تخاطب جيوش الظلم والظلام

قائل:

- (ماذا لو قبض الله رحمته عن هذه الأرض بدمي؟!... التراب يهفو للثم خطاي وأنتم تعرضون، ونجوم السماء تتمايل بحبور لأنها أبصرتني وأنتم تمتارون،... بعد قليل لن أكون بينكم، عندئذ ستبكون، وتبكون ندما على خابية المسك التي أرقتم، وعلى حمامة الروح التي ذبحتم، وعلى برزخ السلام الذي نقضتم، بيني وبينكم انقطاع، فلو كانت قلوبكم قلوب ذئاب أو ضوار لأطرقتم حياء مني... ولو أومضت شرارة الإيمان في كهوف أبدانكم، لعلمتم أنني الشرارة وأنني المنارة، وأنني بحر النور، إنني الحسين، جدي محمد، وأبي علي، وأمي فاطمة، وأخي الحسن، خامس خمسة أنا، راسنا محمد، ونحن أجنحته، ونبضات قلبه، نحن دمعه، ونحن حزنه، نحن

ص: 335

فرحه، ونحن نجواه)(1).

أليس هذا الأسلوب في الكلام والتعبير الذي اتبعه الأستاذ (فاضل) في مسرحيته( الحسين) هو نفس الأسلوب الذي انتهجه الفيلسوف (جبران) في كتابه (النبي) وفي

بقية مؤلفاته الأدبية الأخرى ذات الطابع الفلسفي العميق؟!

وعلى كل حال، لا يسعنا هنا أن نتكلم بشكل مفصل عن كل مجريات الأحداث في تلك المسرحية، فالمجال لا يسمح لنا بذلك، ولا يختلف الوضع هنا عن الوضع في أحداث مسرحية (الحر الرياحي) لمؤلفها الأديب والشاعر العراقي الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد).

فبطل المسرحية هنا هو القائد الأموي الهوى (الحر الرياحي) الذي يظهر العداء

الشديد لأهل البيت عليهم السلام بشكل عام، وللإمام الحسين عليه السلام بشكل خاص.

وتستمد شخصية (الحر) قوتها وبطولتها من خلال العودة المفاجئة إلى جادة الحق والالتحاق بجيش الإمام الحسين عليه السلام والتخلي عن كل المغريات التي كان قد أعطاها له أعوان الملك الأموي الضال یزید.

وليس هذا فحسب، بل إن (الحر) يحاول دائما أن يكفر عن سيئاته الكبيرة التي ارتكبها بحق الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه المؤمنين الأطهار، وينجح (الحر) أخيرا في التكفير عن سيئاته وخطاياه وذلك عن طريق إراقة دمه الزكي في ساحة الشهادة فداء للحسين وأهل الحسين ورسالة الحسين عليه السلام.

وللأسف الشديد، هذا هو كل ما استطعنا تحصيله من معلومات عامة عن هذه المسرحية التراجيدية المؤثرة التي هي إحدى أهم النتاجات الأدبية الثمينة للأديب

ص: 336


1- نفس المصدر السابق ص75

والشاعر العراقي الجنسية والصابئي الدين، (عبد الرزاق عبد الواحد)، وتعتبر هذه المسرحية، بالإضافة إلى ملحمة (الصوت)، من أبرز أعماله الأدبية ذات الطابع المسرحي(1)

ولو تركنا الآن المسرحيات المكتوبة باللغة العربية عن فاجعة كربلاء الأليمة واتجهنا في بحثنا هذا إلى الآداب العالمية الأخرى، فماذا يمكننا أن نجد في ذلك العالم من الآداب المسرحية؟! هل يمكننا أن نجد فيها شيئا عن كربلاء؟!

وحتى نختصر المقدمات، دعونا ندخل بشكل مباشر إلى الأدب الفرنسي كي نتأكد من وجود مكان بارز لمأساة كربلاء في ذلك الأدب العريق والذي لا يزال يحقق انتشارا واسعاعلى المستوى العالمي الكبير.

وقبل كل شيء، نقول إن الاتصال والاحتكاك الأول بين المسلمين والفرنسيين الذين كانوا يعرفون باسم (الغاليين)، يعود إلى سنة / 114ه- - 732م / التي شهدت معركة (بواتييه) الشهيرة في قلب فرنسا، وهي المعركة المعروفة عند المؤرخين العرب باسم (بلاط الشهداء) التي دارت رحاها بين المسلمين بقيادة (عبد الرحمن الغافقي) وبين جموع الغاليين بقيادة الأمير (شارل مارتل).

ومنذ تلك الفترة العصيبة بدأ الاهتمام الجدي من قبل الفرنجة بالفكر والتراث العربي والإسلامي، ويؤكد الدكتور( محمود المقداد) في كتابه (تاريخ الدراسات العربية في فرنسا) أن عملية نشر المخطوطات العربية والإسلامية، أو عملية ترجمتها لم تكن تجري بشكل عشوائي دون ضابط أو ناظم لها، بل كانت هناك ضوابط وقواعد مرعية نشأت منذ أن بدئ بنشر تلك المخطوطات أو ترجمتها، وقد أثبت تلك

ص: 337


1- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، مصدر سابق راجع ص 1

الضوابط المستعربان الفرنسيان الشهيران (ریجیس بلاشير) و(جان سوفاجيه) في کتاب نشر في باريس تحت عنوان (قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها) عام /1953 /

وقد اهتم المستعربون الفرنسيون بنص القرآن الكريم، فترجموه إلى اللغةالفرنسية مرارا عديدة، ومن أبرز تلك الترجمات:

1- ترجمة دورییه DuRyer (باريس، 1634).

2- ترجمة سفاري Savary (باریس، 1783).

3- ترجمة كازيميرسكي Kasimirsky(باريس، 1845).

4- ترجمة ماردروس Mardrus (باريس، 1926).

5- ترجمة مونتيه Montet (بایس، 1929).

6۔ ترجمة بلاشير Blachere (باريس،1949-1950 )(1)

وكما اهتم أولئك المستعربون والمستشرقون بالقرآن الكريم وترجماته، فقد اهتموا أيضا بالتاريخ العربي والإسلامي وبكافة الفروع الأخرى من العلوم والمعارف.

وبما أن مجال بحثنا الآن يتمحور حول فاجعة كربلاء في الأدب الفرنسي، وبشكل خاص في الدراسات الفرنسية حول تاريخ المسرح التراجيدي في الشرق، سنتجاوز في بحثنا هذا كل كلام عن بقية العلوم والمعارف التي اهتم بها الفرنسيون، وسنركز كل اهتمامنا على مسألة الروح والفاجعة وعلى مسألة (التعازي) التي تعتبر

ص: 338


1- د. محمود المقداد، تاريخ الدراسات العربية في فرنسا (سلسلة عالم المعرفة)، العدد /167/، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، تشرين الثاني، 1992، ص85.

جزءا لا يتجزأ من الأحداث التالية للمشاهد الدمائية المخيفة والمحزنة التي تنتهي بها الأحداث التراجيدية وتسدل الستارة على المسرح الذي كان شاهدا على المأساة.

وفي الحقيقة، لقد كان المستشرق الفرنسي (كوبينو) (Cabineau) والمستشرق شودزکو) (Chodzko) أول من نبها على وجود دراما واقعة كربلاء، في أوروبا عموما، وفي فرنسا خصوصا، ويقول هذان المستشرقان المذكوران إن تلك الدراما الحزينة تحكي قصة مقتل الحسين وعائلته وأصحابه في سهل كربلاء في مجزرة رهيبة ارتكبتها عساكر يزيد في العاشر من محرم سنة / 61ه-/ الموافق ل-/ 10 أكتوبر 680م/.

ومن المعروف عن المستشرق (كوبينو) أنه أحد أهم الكتاب والمفكرين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وممن اشتهر أيضا بكتاباته التي تقوم على تأیید نظرية التفوق الآري، وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لزيارته بلاد فارس، حيث اطلع هناك على المآتم الحسينية، فتأثر بها وكتب عنها لأول مرة في كتابه (الديانات والمذاهب الفلسفية في آسيا الوسطى) المطبوع في باريس عام / 1865/.

وكان إعجابه شديدا جدا بأعمال المسرح الفارسي الذي يقوم على تصوير أحداث فاجعة كربلاء الأليمة، فيقوم بعرض التمثيلية السنوية لتفاصيل مأساة الإمام الحسين وأهله وأصحابه علیهم السلام مع إطلالة كل شهر محرم من كل عام، ويقول السيد

(کوبینو) في الصفحة / 454/ من كتابه المذكور إن قراء التعزية الحسينية هم الأقدر على إثارة الشعور والحماس في قلوب الناس من أجل الحق وخيرالإنسانية لأنهم يمتلكون الوسائل الكفيلة بامتلاك القلوب والسيطرة على المشاعر وتوجيهها حسب ما يريدون، وقد نشر (کوبینو) ضمن كتابه المذكور سابقا نصا کاملا يحمل عنوان

ص: 339

( عرس القاسم)(1)

ثم جاء بعد المستشرق (كوبينو) المستشرق (ألكساندر شودزکو)، فنشر في عام / 1878/ خمسة نصوص كاملة من التعزية الحسينية كان قد استخرجها من مخطوطة

حصل عليها في إيران وهي الآن محفوظة في دار الكتب الوطنية الفرنسية في باريس تحت رقم / 893/، ثم جاء بعد ذلك الباحث والمستشرق الفرنسي المعروف (فيروليو) ( CH. Virolleauid ) فوقع على تلك المخطوطة الثمينة، فدرسها جيدا ثم اختار منها مجموعة من الأشعار الفارسية المتضمنة تلك المشاهد المؤثرة عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، فترجمها إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان (آلام الإمام الحسين) (La Passion De L'imam Hosseyn)، ونشر الكتاب في مدينة بيروت عام / 1927/(2)

ومن المؤلفات الهامة في هذا المجال، كتاب (الإسلام والمسرح )المكتوب أساسا باللغة الفرنسية لمؤلفه الدكتور التونسي (محمد عزيزة) الذي درس الحقوق والآداب والعلوم الإسلامية في جامعتي باريس والسوربون، ويعتبر كتابة المذكور من أعمق وأجرأ الدراسات في هذا الميدان، بالإضافة إلى أنه يقدم نصا مسرحيا رائعا بعنوان(آلام الحسين أو مأساة كربلاء)، وهو نص ظهر في بعض البيئات الإسلامية القديمة، والحقيقة أنه نص مسرحي بالغ الجمال والعذوبة بحيث يفرض على الباحثين عموما أن يغيروا الشيء الكثير من وجهات نظرهم إلى موضوع المسرح في الحضارة

ص: 340


1- راجع مقالة (آلام الحسين . نص فرنسي عن فاجعة الطف)، إعداد وترجمة المستشرق جيلبرت دیلانو G. Delanoue، راجع مجلة (الموسم) العدد /2-3/، السنة الأولى ، إصدار أكاديمية الكوفة . هولندا، 1989، ص622
2- نفس المصدر السابق ص622

الاسلامیة

ويرى هذا الباحث في مقدمة كتابه (الإسلام والمسرح) وفي أول جزأين منه أيضا أن الإسلام التقليدي لم يعرف المسرح أبدا، ولم يشجع الفقهاء التقليديون بدورهم على ولوج العديد من أبواب الفنون المتنوعة كالرسم والتمثيل المسرحي الذي كان معروفا عند شعوب الإغريق والرومان قبلهم بمئات السنين.

ولكنه يرى في الجزء الثالث من كتابه أن المسرح والتعازي الحسينية هي الاستثناء الوحيد الذي استطاع أن يخرق حدود الإسلام التقليدي الأصم، واعتبر أن هذا المسرح وهذه الطقوس والمراسم في عملية التعازي هي التي أعطت الإسلام - بدءا من القرن السابع - الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه.

وقد أخذ الدكتور (عزيزة) الكثير من معلوماته عن مجموعة من المستشرقين الذين درسوا التاريخ الإسلامي وتاريخ الشرق بشكل يؤهلهم للخوض في دراسة أفكار ومعتقدات وعادات الشعوب في تلك المنطقة.

وانطلاقا من هذه الملاحظة التي ذكرناها الآن، علينا أن نشير هنا إلى أهم الكتب والمراجع التي كتبت عن مسرح فاجعة الحسين عليه السلام من قبل أبرز المستشرقين والباحثين المتخصصين، وهي في مجملها مكتوبة باللغة الفرنسية أو بغيرها من اللغات الأوروبية الحية الأخرى:

1- شودزکو، المسرح الفارسي، طبع باريس، 1844.

2- ليتين، الدراما في فارس، طبع ليبزيج، 1929.

3. مونتيه، المسرح في فارس، طبع جنيف، 1888.

4- رونو، التعازي الفرنسية (الدراسات الجديدة للتاريخ الديني)،طبع باريس،

ص: 341

1884

5- ریزفاني، المسرح والرقص في إيران، طبع باريس، 1962.

6- نولدیکه، استشهاد الحسين في كربلاء، طبع برلين، 1909.

7- شودزکو، استشهاد الجندي - نشيد الضحايا، باريس، 1855.

8- لويس بيلي، المسرحية المعجزة للحسن والحسين، لندن، 1879.

9- الكونت جوبينو، الديانات والفلسفات في آسيا الوسطى، باريس، 1886 - 1900

10۔ سمیر نوف، الدين في فارس، تفلیس (تبيليسي)، 1916.

11- روبرت وهنري جینیریه، استشهاد علي الأكبر، مكتبة كلية الفلسفة والآداب في جامعة لييج.(1)

ويمكن للقارئ النبيه أن يلاحظ أن معظم عناوين هذه المراجع المذكورة أعلاه

تحمل اسم بلاد فارس - إيران حاليا- فعلى أي شيء يدل هذا؟!

في الواقع، إن هذا الأمر يدل على حقيقتين أساسيتين، وهما:

أولا: إن الفرس الذين كانوا يتمتعون بحضارة عريقة سابقة على الإسلام، كانوا هم الأقدر على فهم روح الإسلام من غيرهم، ولذلك، فإن الشعب الفارسي المسلم لم يأخذ التعاليم الإسلامية بطريقة صماء تتعارض مع متغيرات الحياة ومتطلبات

ص: 342


1- المزيد من المعلومات الواردة في هذه المراجع، وبشكل خاص عن مسألة الروح والتعازي راجع كتاب الإسلام والمسرح، تأليف الدكتور محمد عزيزة (سلسلة كتاب الهلال ترجمه إلى العربية الدكتور رفيق الصبان، الكتاب رقم /243/، إصدار دار الهلال في القاهرة، عدد نيسان 1971، وقد وردت المراجع الأوروبية المذكورة في صفحات متعددة بدءا من الصفحة 42 وحتى الصفحة 52

الحضارة بل قد أخذها وتلقاها بكل مرونة وشفافية بحيث تسير مع التطورات جنبا إلى جنب، مما أدى به الأمر إلى الإبداع في الكثير من فروع الفنون وعلى رأسها الفنون المسرحية التي أبدعها الفرس من رماد وأشلاء الملحمة الكربلائية المكتوبة بدماء الإمام الحسين عليه السلام.

ثانيا: إن الفرس، الذين هم أصحاب حضارة عريقة، لم يبدعوا فقط في مجال الفنون المسرحية وفي غيرها من بقية أنواع الفنون الأخرى، بل لقد أبدعوا في فهم الحياة كکل متكامل، وفهموا الدين على أنه رديف للحياة وموجه لها، ولذلك فقد عمدوا إلى ربط الدين بالحياة وجعلهما وجهين لعملة واحدة تدعى حقيقة الوجود.

وما يؤكد صواب هذا الكلام، هي تلك القصة الشهيرة التي تدور عن رجل من

العرب أو الأعراب جاء إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : يشكو إليه أمر الأعاجم، وبشكل خاص الفرس، وقد ظن ذلك الرجل أنه بشكواه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم سيجعله يقول فيهم مقالا سیئا لن تقوم لهم بعد ذلك قائمة، ولكن ذلك الرجل، وكل من كان حاضرا معه، فوجئوا بأن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم لم يذكرهم بأي سوء،بل على العكس من ذلك تماما، فقد قال صلی الله علیه و آله وسلم مادحا إياهم: «ليضربنکم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا »(1)

وهذا يدل على أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم كان قادرا بصفاء بصيرته ونقاء سريرته على قراءة صفحات المستقبل وهو لا يزال يمارس دوره کرسول في دائرة الحاضر في زمانه.

ص: 343


1- راجع ما جاء في أ. المتقي الهندي الحنفي، كنز العمال، مؤسسة الرسالة ج4 ص 613 ب. الزبيدي الحنفي، تاج العروس، منشورات مكتبة الحياة . بيروت ج 1 ص 43 ، وذكره أيضا في ج3 ص155

وبالعودة إلى كتاب (الإسلام والمسرح) نرى أن مؤلف الكتاب الدكتور (عزيزة) قد مهد لنص مسرحية (آلام الحسين أو مأساة كربلاء) بشكل جيد ومؤثر وذلك عن طريق تقديم وعرض خلاصة موجزة لأهم المشاهد التي سبقت الفاجعة بزمن طويل.

وبالطبع فإن هذه المشاهد المعروضة ليست من تأليفه هو، وإنما هي مشاهد نقلها المستشرق (شودزکو) وغيره من المستشرقين عن بعض النصوص الإسلامية القديمة .

وأهم مشهد من المشاهد المترجمة إلى اللغة الفرنسية نقلا عن تلك المخطوطات القديمة، هو ذلك المشهد الحزين الذي يحمل عنوان (موت فاطمة)، وبسبب الأثر النفسي الكبير الذي خلفه ذلك المشهد التراجيدي في نفوس قرائه من الفرنسيين وغيرهم، نرى من الضروري أن نثبت هنا هذا المشهد الذي سبق حدوث الفاجعة نظرا لما يحمل أيضا من دلالات قوية على حتمية اقتراب المأساة واقترانها بمصير الإمام الحسين عليه السلام الذي أعاد رسم خارطة رسالة السماء بأقلام من قامات الشهداء وبمداد من الإيمان المعمد بالدماء.

ويصور مشهد (موت فاطمة) كيف أن الزهراء عليهاالسلام قد سقطت مريضة بعد شهور قليلة من وفاة أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، ويصور لنا المشهد أيضا كيف أن الإمام عليا عليه السلام كان يسهر عليها بكل عطف وحب وحنان، وكيف أنها أخبرته عن الرؤيا التي شاهدت فيها أباها المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم : وهو يبشرها قائلا: «غدا، سوف تلحقين بي إلى الجنة»

وهنا يشتد التأثر بالإمام علي عليه السلام ، وبشكل خاص عندما تطلب منه أن يلبي لها

رغبتها الأخيرة قبل لحاقها بأبيها صلی الله علیه و آله وسلم.

فما هي رغبة فاطمة الزهراء عليهاالسلام الأخيرة التي ينقلها لنا ذلك المشهد المؤثر

ص: 344

الحزين؟!

تقول فاطمة عليها السلام - كما جاء في المشهد : «ستجد في غرفتي صندوقا مغلقا بإحكام، ويمكنك أن تميزه بسهولة عن غيره، لأن له لونا أحمر، بلون الدم، في هذا الصندوق توجد ورقة مختومة كتب عليها ملاك البشارة عدة سطور بالحبر الأخضر.

عندما أفارق الروح، تذكر ذلك جيدا، ضع هذا الصندوق بعناية على صدري لأنني أريد يوم المحاكمة النهائية أن أضع تحت أقدام عرش الخالق هذا العقد ففيه ثمن دم ولدي دم الحسين الذي بفضله يغفر لكل أمتنا، وحتى أكثر الخطاة خطأ.. سيغفر له ويدخل الجنة»(1)

وبعد العديد من هذه المشاهد السابقة على أحداث الفاجعة، ينتقل بنا الباحث الدكتور (عزيزة) إلى تقديم النص الأساسي لمسرحية (آلام الحسين أو مأساة کربلاء)، وقد كانت صياغة هذا النص الثمين باللغة الفرنسية من قبل الدكتور (عزيزة) مميزة بعدة نقاط بارزة، وأهم هذه النقاط وأبرزها هو الأسلوب (الشكسبيري) في صياغة الصور والتعابير المتداولة بين أهم الشخصيات المحركة لأحداث المسرحية التراجيدية، فالذي يقرأ النص المترجم إلى اللغة العربية يخاله نصا مترجما عن إحدى روائع مسرحيات (شكسبير) المأساوية.

فابن سعد، العدو اللدود للإمام الحسين علیه السلام ، يخاطبه قائلا، بعد أن طلب منه

الحسين عليه السلام شربة ماء:

- لا يمكنني يا سيدي النبيل أن أجيبك إلى هذا الطلب، إن أوامر الخليفة يزيد بن

ص: 345


1- محمد عزيزة، الإسلام والمسرح، مصدر سابق ص95

معاوية قاطعة في هذا الشأن، لذلك أنا مجبر على ترك قداستك(1)

.وحتی شمر بن ذي الجوشن الذي كان الأشد في عداوته وحقده على الحسين علیه السلام ، نراه يخاطبه قائلا:

- لم أكن أنتظر غير ذلك منك.. يا حسين الكريم، یا حسين المثالي، أيها النقي الجميل، یا کثير النقاء یا حسین. یا لعظمتك.. وكم هو مؤسف أن تتفسخ هذه العظمة كلها في لهيب الشمس.. في أرجاء هذا السهل الكثيب(2).

أليست هذه التعابير والصور والأسلوب في نقل الأفكار تتشابه إلى حد كبير مع

الأسلوب المسرحي والأديب الإنكليزي (وليم شكسبير)؟!

إن كل من هو على اطلاع کاف ومعرفة جيدة بالمسرح الشكسبيري، سيوافقنا

الرأي بلا شك.

أما أكثر المشاهد تأثيرا على القارئ، سواء كان غربيا أم عربيا، فهو ذلك المشهد الذي يصور الإمام الحسين عليه السلام وهو يودع من بقي حيا من الفاجعة، ويوصيهم قائلا قبل انطلاقه الأخير إلى ساحة الموت والشهادة، مبتدئا بخطابه لزوجته (شهربانو) الوفية: - ها قد حانت ساعة الفراق والتمزق.

(شهربانو)، یا رفيقة شبابي العذبة، يا رفيقة انهياري، اعلمي أني لا أفارقك إلا مرغما لأن قلبي لم يرغب أبدا بأن يتحرر من تلقاء نفسه من القيود العذبة التي تربطنا

معا

ص: 346


1- فس المصدر السابق ص119
2- نفس المصدر السابق ص122

إني أعهد إليك بأولادي.. كلميهم عني حتى يذكروني.

وأنت يا صغيري (زين العابدین)، یا وريثي، إني أعهد إليك بما بقي من القافلة.

ورغم سنك الصغيرة، وجسدك الضعيف، عليك أن تسهر على النساء والأطفال،

وأن تتابع النضال.

وأنت يا (زینب).. یا شقيقتي المفضلة، یا صورة أمنا الحية، كيف أقول لك ما تحسينه وما تعرفينه حقا؟! اعلمي أن الحديد عندما يتغلغل إلى لحمي المدهوش.. ستكون آخر أفكاري متجهة نحوك.

أما أنتم.. أيها الشيوخ الكرماء، وأنتن أيتها الأرامل الغارقات بالدموع.. ويا أرق

الأيتام.

أنتم يا من سأترككم على حافة الشقاء الحادة، أيها الضعفاء الناجون من الموت،

فكنتم أعذب الشهود.

عندما يحين الوقت وينضج.. اذكروني بتسامح، وارووا بكثير من الاعتدال قصة

الرجلالذی ارادان یحقق حتی النهایة قدرا صلبا

وأنتم يا أشباح أحبابي الغائبين، يا من تهيمون حول نيران المعسكرات، تسلحوا بشيء من الصبر.. فقريبا ستفارق روحي التي تحررت.. جسدي، وستذهب لتلقاكم على ضفاف نهر الكوثر في الجنة.. بعيدا عن أشواك هذه الحياة الدنيا.

الوداع يا أصدقائي.. سأسبقكم إلى الحياة الأخرى ولكني لن أترككم(1).

بهذه العبارات الشجية وبهذه الصور المتشحة بالحزن والآلام، يغادر الحسين علیه السلام مودعا من بقي حيا بعد أهوال الفاجعة، يغادرهم الحسين عليه السلام ليکتب خاتمة

ص: 347


1- نفس المصدر السابق ص125

تلك المأساة المريرة بتقديم دمه ثمنا غاليا لرسالة لم تقدر حق قدرها بين أهل لغتها من أبناء قومها.

ومثلما كانت هناك مجموعة مشاهد سابقة على أحداث الفاجعة، كانت هناك مجموعة من المشاهد أيضا لاحقة لأحداث الفاجعة وناتجة عنها.

فأثناء المسيرة بالرأس الشريف وبالسبايا إلى دمشق كانت المعجزات تتوالی واحدة بعد أخرى، وكان كثير من النصارى واليهود يرتدون عن دينهم ويدخلون في رحاب الإسلام الذي طهره الإمام الحسين عليه السلام بدمائه الزكية من رجس يزيد وأبيه وكل الدخلاء من قبلهما في الدين السماوي الأخير.

أما المشهد الأخير من الأحداث، فيحمل عنوان (يوم الحساب الأخير أو خاتمة

الحسين)، وهو مشهد رمزي يقول محتواه (في يوم الحساب الأخير، سيتناقش الحسين ويعقوب لمعرفة من منهما قد تعذب في الدنيا أكثر من غيره، ويحسم جبریل النزاع لصالح الحسين، فيصبح الحسين بذلك الشخص الذي سيتلقی مفاتیح الجنة ليدخل إليها المسلمين الصالحين، وكذلك الخطاة الذين عرفوا الندم الصادق)(1)

وبعد دراستنا المطولة لكل تلك المسرحيات التي تناولناها بالبحث والدراسة والتحليل، نرى من الواجب الآن أن نتوقف عند مفهوم الطقوس الاحتفالية والعزائية المرافقة لمشاهد استذكار أحداث الفاجعة ومصير أبطالها الشهداء.

ص: 348


1- نفس المصدر السابق ص135، ومن الجدير ذكره هنا أن الدكتور (رفيق الصبان) الذي ترجم كتاب (الإسلام والمسرح) إلى اللغة العربية، قد قام بنشر ملخص واف للمعلومات الواردة في الكتاب المذكور، وقد نشر ذلك الملخص مع النص المسرحي (الام الحسين) بالكامل في مجلة (الهلال) المصرية، في العدد الأول . السنة التاسعة والسبعون . بتاريخ يناير كانون الثاني /1971/ راجع من الصفحة (111) حتى الصفحة (149).

فالباحث الدكتور (عبد الكريم اليافي)، وهو أحد أهم أساطين الفكر والفلسفة في سوريا، بل في الوطن العربي عموما، له صولات وجولات في دراسة الفلسفة والحكمة من إقامة مآتم العزاء الحسيني، ولا تتجلى صولات وجولات الدكتور( اليافي) في عدد الأبحاث والمقالات التي كتبها عن المآتم الحسينية، بل في الدقة والنتيجة التي كان يخرج بهما دائما كمحصلة منطقية لأبحاثه العميقة والعقلانية حول طبيعة ومجريات الفاجعة.

والدكتور (اليافي) ينحدر في نسبه من الجد (عمر اليافي)، وهو شاعر صوفي

مشهور له خلوة معروفة في جامع بني أمية بدمشق، وله ديوان شعر مطبوع.

والدكتور (اليافي) من مواليد مدينة (حمص) عام / 1919/، فهو حمصي مولدا،

ودمشقي موطنا، وحنفي مذهبا، ويحمل الدكتور (اليافي) خمس شهادات دراسات عليا في الفلسفة وعلم الاجتماع (باریس 1941- 1945)، بالإضافة إلى شهادة دكتوراه في الفلسفة من باريس أيضا.

له الكثير من المؤلفات الأدبية والفكرية والفلسفية، وكان لهذا الباحث الدكتور

حضوره المميز في مؤتمر الغدير في لندن عام / 1990/.

ويرى الدكتور (اليافي) في مقال له بعنوان (من وحي عاشوراء ومأتم الحسين) أن كل ما قام به الأمويون من فساد في الدولة الإسلامية شيء طبيعي تماما لأن ذلك يمكن أن يفهم ويؤول على نحو خاص وهو حب الأمويين للدنيا والمال والجاه وللتحكم مع العمى عن الهدى والرشاد.

ولكن الشيء الذي لا يمكن فهمه أبدا - كما يقول الدكتور (اليافي) - هو ما حصل في كربلاء بين خلاصة آل البيت الذين على وجوههم سنا من أنوار النبوة وبين حشد

ص: 349

من أجلاف العرب وفجارهم الذين لم ينفذ نور النبوة إلى قلوبهم ولم يهتدوا بهدی الإسلام، بل كانت على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي صدورهم وقروحقد للذين آمنوا

واهتدوا وكانوا أعلام الهدى والإيمان.

ويتابع الدكتور (اليافي) كلامه قائلا: (لا أستطيع أن أتصور قبح ما حصل في ساح کربلاء... دون الخجل والاستحياء من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو الذي كان له فضل هداية العرب وإنقاذهم من الضلال والتأخر، بل هو الذي شرف الله عز وعلا الإنسانية باجتبائه واصطفائه وحمل رسالته التي هي أعلى الرسالات)(1)

إذن، فالدكتور (اليافي)، الحنفي المذهب، يشعر بالخجل والاستحياء من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعد ما يقارب الأربعة عشر قرنا من وقوع الفاجعة على أرض كربلاء، وإذا كان هذا هو شعور الدكتور (اليافي)، وهو الباحث الموسوعي المثقف، فما هي الرؤى ووجهات النظر المستخلصة من أحداث تلك الفاجعة الإنسانية الأليمة كما يراها هو شخصيا؟!

باختصار شديد جدا، يرى الدكتور (اليافي) أن الإسلام انحرف عن مساره

المرسوم له بشكل حاد وخطير جدا، وإن أبرز الأحداث التي قادت الإسلام للترهل والتمزق هو ارتكاب مجزرة كربلاء بحق أهل بيت النبوة وأنوار الرسالة، ولذلك، فإن إقامة المآتم الحسينية هي الدليل على بقاء ذلك النور الإيماني حيا في ضمائر المسلمين الرافضين للظلم والفساد والطغيان.

ويعزز الدكتور (اليافي) ذلك بقوله: (ولا غرو أن تتملك العالم الإسلامي بأسره

ص: 350


1- د. عبد الكريم اليافي، من وحي عاشوراء ومأتم الحسين، مجلة (الموسم)، العدد الثاني عشر، المجلد /3/، مصدر سابق ص37

مشاعر الخوف والنفور والبغض، ولاسيما بسبب قتل الحسين، ولقد كان قتله جريمة وأي جريمة، وخطأ وأي خطأ جسيم، ومأساة وأي مأساة مذهلة)(1).

فالدكتور (اليافي)، كما يخبرنا في مقاله المذكور، لم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء المرير والطويل على الإمام الحسين عليه السلام عندما زار مرقده الشريف في كربلاء، بل إنه وجد نفسه قد ركع على الأرض وراح يقبل تلك الأرض بحرقة ولوعة وقد غسل مكان ركوعه بدموعه.

فالحسين عليه السلام الذي قام له المآتم كل عام، هو ذلك الإمام الذي استنار بنور جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم واستضاء بضوء أبيه المرتضى عليه السلام، فهو الإمام الذي جمع بين نور النبوة وعبق الإمامة، ولكن - يا للأسف الشديد - لقد أدی انحراف الفكر عند القائمين على أمور المسلمين، أولئك الذين نصبوا أنفسهم خلفاء على الأمة، إلى اغتيال ذلك النور الحسيني المعبر خير تعبير عن تعاليم وقيم أبيه وجده عليهما السلام .

وقد عبر الدكتور (اليافي) عن ذلك بقوله في الكلمة التي ألقاها بمناسبة إقامة المآتم الحسينية: (والذي أؤمن به أن مبادئ الإسلام وحدها كفيلة في العصر الحاضر بإقامة التوازن في المجتمع وإسباغ الصحة والعدالة عليه أيا كان، ومن الواضح أن الإسلام كما كان يعيه علي عليه السلام وسبطاه الشهيدان هو غير ما يستخلص من أحوال المسلمين في هذا الوقت)(2)

فالحسين عليه السلام هو صورة محمد وعلي عليهما السلام، وإقامة المآتم ومجالس العزاء من أجل الإمام الحسين عليه السلام ما هي في حقيقتها وجوهرها إلا المآتم والعزاء من أجل

ص: 351


1- نفس المصدر السابق ص38
2- نفس المصدر السابق ص39

رسالة الإسلام الصحيحة والبعيدة عن كل تشويه و تحریف، إنها مجالس العزاء من أجل الإسلام الصافي الذي كان يريده محمد وعلي علیهما السلام ، وقد أصاب عين الحقيقة من قال:

بکاک جدك (طه) *** قبل الشهادة حزنا

فأنت منه ائتلاف *** يشع هديا وحسنا

رسالة الله عادت *** بفيض نحرك تبنی

وإذا كان الدكتور (اليافي) الذي يعظم مآتم الإمام الحسين عليه السلام لا يستطيع أن يتمالك نفسه من البكاء الطويل وذرف الدموع الغزيرة على ضريح الإمام الشهيد علیه السلام في كربلاء، فإن الأديب والشاعر والسياسي المسيحي (عبد المسيح الإنطاكي)، اليوناني الأصيل، لا يختلف في موقفه كثيرا عن موقف الدكتور (اليافي) الحنفي المذهب في ما يتعلق بزيارة الإمام الحسين عليه السلام والبكاء عند مرقده الشريف كنوع من أنواع تجديد وإحياء المآتم لذكراه الطاهرة العطرة، وذلك لأن الذكرى - بحد ذاتها۔ هي وجه من وجوه الوفاء لصاحب الذكرى المحتفى به.

وها هو يقول في ذلك داعيا وناصحا أبناء الدين المسيحي والإسلامي على حدسواء:

أم الضريح بكربلاء وقف به *** متخشعا واطلب رضاء الغافر

وامرغ جبينك في ثراه فإنما *** أهريق فيه دم الحسين الطاهر

واندب مصاب المسلمين بخطبه *** وعليه نح بمسيل دمع هامل

واقر السلام على رفات قدثوت *** فيه، وعدباليمن أكرم زائر(1)

ص: 352


1- عبد المسيح الإنطاكي، الضريح المقدس، مجلة (الموسم)، العدد /12/، مصدر سابق ص288

ولو أردنا أن نتعمق أكثر في مسألة إقامة المأتم الحسينية وفي فلسفة عقد مجالس العزاء التي تتكرر كل عام في نفس التاريخ، فإن الكلام سيطول وقد نحتاج من أجل ذلك إلى كتابة العديد من المجلدات نظرا لأن الكثير من أتباع الديانات والمذاهب المختلفة تخص وتشارك أيضا في عقد تلك المجالس وفي إقامة المآتم حبا بذكر فضائل الإمام الحسين عليه السلام وباسترجاع الدروس والعبر من فاجعته الأليمة.

أعرف أن هذا الكلام قد يبدو غريبا وجديدا على القارئ، ولكن كل ما يمكننا أن نقوله هنا الآن هو أن الشواهد الفكرية والمشاهد الواقعية هي خير دليل وبرهان على صواب وصدق ما نقول.

وعلى سبيل المثال، دعونا نستعرض سوية ما قاله الفيلسوف الألماني(ماربين)

في كتابه ( السياسة الإسلامية) حول فلسفة المأتم الحسينية.

يرى هذا الفيلسوف والباحث المسيحي أن الطائفة الإسلامية الشيعية قد حققت بالفعل أعظم النتائج في عملية السمو الروحي والفكري نتيجة الاهتمام الزائد بقضية إقامة المآتم الحسينية في كل مكان يوجد فيه أنصار وأتباع لنهج الإمام الحسين عليه السلام الذي سار بخطى ثابتة ومستقيمة على نهج جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

وعن ثمار إقامة هذه المجالس والمآتم، يقول (ماربین): (لم يكن قبل مئة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلا ما يعد على الأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعية (أي مجموع العدد) إذا قيسوا بغيرهم، وكذلك هم في سائر نقاط الأرض)(1).

وهنا ينتقل ذلك الفيلسوف الألماني للمقارنة بين المآتم الحسينية واستذکار

ص: 353


1- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص116

أحداث فاجعة الإمام الحسين عليه السلام وآلامه مع أهل بيته وبين مجالس المسيحيين التي يستذكر فيها القساوسة ورجال الدين عموما آلام و مصاب السيد المسيح علية السلام ، وقد رأى نتيجة تلك المقارنة أن الفرق بين حصاد المأتمين كبير جدا حيث عبر عن ذلك بكل صراحة قائلا:

(وإن كان قسسنا(جمع قسيس) يحزنون القلوب بذکر مصائب المسيح، ولكن ليس بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين، فيغلب الظن أن سبب ذلك (أي عدم القدرة على مجاراة الشيعة) هو أن مصائب الحسين أشد حزنا وأعظم تأثيرا من مصائب المسيح)(1).

والحقيقة، إن هذه النتائج الدقيقة التي خرج بها الفيلسوف (ماربين) عن أسرار النهضة الحسينية وفلسفة مآتمها لم تأت عن عبث أبدا، ولم تأت من فراغ، فمن المعروف تماما عن الفيلسوف المسيحي (ماربين) أنه قد درس التاريخ الإسلامي بدقة بالغة وبروح موضوعية بعيدة - قدر الإمكان - عن التحيز والتعصب، ولذلك فقد جاءت معظم نتائجه المستخلصة قريبة من المنطق وملامسة للعقل القويم.

فالفيلسوف (ماربين) الذي تعمق في دراساته عن الفكر الإسلامي ونقاطه

المفصلية الهامة، يقول مؤكدا في أكثر من موضع في كتابه ( السياسة الإسلامية):

(ينبغي لنا أن ندقق النظر فيما يذكر من النكات الدقيقة الحيوية في مجالس إقامة عزاء الحسين، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في

(إسلامبول) مع مترجم، وسمعتهم يقولون: الحسين الذي كان إمامنا ومقتدانا ومن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمل الضيم ولم يدخل في طاعة يزيد وجاد بنفسه

ص: 354


1- نفس المصدر السابق ص116

وعياله وأولاده وأمواله في سبيل حفظ شرفه وعلو حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت في الدنيا والشفاعة يوم القيامة والقرب من الله، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة.

فرأيت بعد ذلك وعلمت أنهم في الحقيقة يدرس بعضهم علنا (أي بالقول لهم): إن كنتم من شيعة الحسين وأصحاب شرف، وإن کنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، ولا تتحملوا الذل، بل اختاروا الموت بعزة على الحياة بذلة حتى تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا والآخرة وتحظوا بالفلاح)(1).

وليعذرني القارئ الكريم إن نويت إطالة الاستراحة في واحة فكر ذلك المفكر والفيلسوف الألماني الذي تكلم عن أحداث الفاجعة ووقائعها التراجيدية المؤلمة، وما نجم عنها من نتائج وتداعيات، بطريقة تجعلك تشعر أن ذلك الفيلسوف المسيحي لم يكن في حقيقته إلا أحد خريجي مدرسة الإمام الحسين عليه السلام نتيجة قدرته الإبداعية الخلاقة في فهم الوقائع وفي الغوص إلى أعماق شخصية الإمام الحسين علیه السلام للوقوف على بواطن أهدافها وحكمة تصرفاتها وفلسفة تعاملها مع الواقع.

وسأترك المجال الآن للقارئ الكريم كي يقرأ بعمق وإمعان هذه الفقرات العديدة التي كتبها (ماربين) عن الإمام الحسين عليه السلام ، شهيد القيم ومبادئ الرسالة، ذلك الإمام الذي يستحق أن تقام له المآتم ومجالس العزاء كل يوم وليس كل عام.

فمن جملة ما يقوله الفيلسوف (ماربین): (لقد قتل قبل الحسين ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء كما وقع مكررا في بني إسرائيل، وقصة يحيى من أعظم الحوادث

ص: 355


1- نفس المصدر السابق ص117

التاريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع ...

فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم، ومقاصد الحسين كانت على علم وحكمة وسياسة، ليس لها نظير في التاريخ)(1).

وهنا علينا أن نشير إلى حقيقة ثابتة وأكيدة حول كلامنا عن فلسفة المآتم وإقامة

مجالس العزاء الحسينية، فالكثير من المفكرين والأدباء يرون أن الكلام عن مجالس العزاء وعن إقامة المآتم هو جزء لا يتجزأ عن الكلام حول فاجعة كربلاء وعلاقتها بالمسرح.

فمجالس العزاء جزء هام من العروض المسرحية الجماعية التي تقام كل عام

تخليدا لذكرى الفاجعة الحسينية الأليمة والمروعة.

ولذلك، فنحن شخصيا لا نرى أن كلامنا المطول عن مجالس العزاء وإقامة المآتم خروج عن جوهر فصلنا الحالي، الذي يحمل عنوان (فاجعة كربلاء في المسرح العالمي).

ومن هذا المنطلق، يرى ذاك الفيلسوف والمفكر الألماني (ماربين) أن إقامة المآتم الحسينية واجب حتمي تمليه الضرورة الروحية والأخلاقية في كل مجتمع يبحث عن الخلاص من عوامل الفساد والضلال والطغيان.

ثم، أليس هذا الكلام الرائع بدقته، والساحر بصدقه، والذي نطق به ذلك المفكر المسيحي الألماني الكبير (ماربين)، يذكرنا بمقولة هامة نقلها لنا الأستاذ الباحث

ص: 356


1- نفس المصدر السابق ص121

(أنطون بارا) عن أحد كبار القساوسة المسيحيين الذين قرأوا بعمق أحداث فاجعة کربلاء، فما كان منه إلا أن قال متأثرا بعد تلك القراءة المتروية والدراسة المتأنية:

(لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلد بيرقا ولنصبنا له في كل قرية منبرا

ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين)(1)

.وعلى كل حال، لن نعلق الآن على مقولة هذا القسيس المسيحي الكبير، بل إننا سنعود ثانية إليها لدراستها وتحليلها في الفصل القادم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالی.

إذن، وبالعودة إلى مسألة إحياء مجالس العزاء وإقامة المآتم الحسينية تخليدا لذكرى الفاجعة، نرى أن تلك المسألة تلعب دورا حيويا هاما في إحياء معالم الدين وفي إظهار (مظلومية) أهل البيت عليهم السلام واغتصاب حقوقهم الشرعية على أيدي جماعة من الناس ادعوا دخولهم في دائرة الإسلام، إذ لم يكن لهم هدف من وراء ذلك إلا العمل على تمزيق الإسلام من الداخل، وتصفية أهل الرسالة وأصحابها الحقيقيين، والعمل أيضا على العودة بالمجتمع الإسلامي الجديد إلى سابق عهده من الحكم القبلي والتناحر العشائري والإقامة الدائمة على قيم وعادات المجتمع الجاهلي المثقل بأوزار عبادة الأوثان واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان.

ألم يعبر الإمام علي عليه السلام عن الحالة التي كان عليها القوم قبل الإسلام، وهي الحالة التي يريد الأمويون العودة بالأمة إليها، بقوله الصائب: (إن الله بعث محمدا صلی الله علیه و آله وسلم، نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دین وفي شر دار، منيخون (أي مقيمون) بین حجارة خشن، وحیات صم، تشربون الکدر، وتأكلون

ص: 357


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص72

الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة)؟!(1)

نعم، هذه هي الحالة التي أراد لها يزيد الحياة من جديد، بل هي الصورة الموجزة والمختصرة لتلك الحالة الرهيبة والمزرية التي أراد یزید أن يبث فيها الروح الجاهلية والعصبية القبلية ليبقى هو وأولاده وأبناء الفرع الأموي من بعده الملوك المتربعین على عرش الشعوب الذليلة المقهورة يحكمونهاويتحكمون بها وبرقابها باسم الخلافة والدين.

ومن هذه المخططات الساخرة والمستخفة بالدين، ومن هذه (الملهاة) المولودة في فكر البيت الأموي، ولدت المأساة) وسالت الدماء في بقية البيت المحمدي عليهم السلام .

ولكن أي مأساة هذي التي دارت دوائرها على آل الرسول؟!

وهل يستطيع صاحب أي عقل راجح أن يتصور فداحة الخطوب وهي تتوالی

خطبا إثر آخر دون أن يهتز لأبطالها المؤمنين رمش أو تغمض لهم عين؟!

وها هو الباحث والأديب المسيحي (سليمان كتاني) يتأمل ما حدث بعمق، ويحاول أن يرسم بقلمه الأمين خطوطا عريضة لأهوال الفاجعة ولفلسفة أبطالها الذين كانوا يتسابقون للعروج إلى السماء على جناح الشهادة المخضب بدماء النبي صلی الله علیه و آله وسلم الزكية. وقد عبر الأديب (كتاني) عن رأيه بقوله: (وكربلاء - إني أتمثلها الخشبة العريضة التي عرضت فوقها مشاهد الملحمة التي كان نجمها الكبير، وبطلها الأوحد، الحسين ابن علي بن أبي طالب الذي صرفنا مجهودا طيبا به، ونحن نستنزف النفس والأوصال

ص: 358


1- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مصدر سابق ج1 ص69

في تتبع سيرته المليئة بأسرار الذات، وعنفوان النفس، والمنسولة نسلامن كل عبقرية يقترن بها توق الإنسان، فيقتنص له منها جناحا يطير به إلى سماوات أخرى تجعله قطبا من الأقطاب الذين يعتز بهم وجود الإنسان)(1).

وهنا يتساءل الأستاذ (كتاني) إن كان يجوز لنا، بعد أن رافقنا الحسين عليه السلام ستا وخمسين سنة - وهي كل عمره الشريف -، أن لا نتتبع خطاه في البقية الباقية من أيامه العشرة بيننا على وجه الأرض، وهي الأيام الأخيرة الخالدة في ضمائر الأديان وذاكرة الشعوب، وسرعان ما يرى الأستاذ (كتاني) أن تلك الأيام الأخيرة من عمر الإمام الحسين عليه السلام هي خلاصة المعاني السامية في حقيقة هذا الوجود، ولذلك علينا أن نستمر في مرافقتنا للإمام الحسين عليه السلام حتى نصل معه إلى ساحة كربلاء، وعلينا - على الأقل - أن نكون مشاهدين صادقين مع ذواتنا وقادرين على امتصاص واستيعاب النواقص فينا وإدراك ضعفنا بداخلنا أمام عظمة الحسين عليه السلام وبطولاته، وعلينا، بنفس الوقت أيضا، أن نحاول - قدر الإمكان - امتصاص شذى البطولات.

وهي تدعونا إلى كل فضیلة من شأنها أن تجمعنا إلى حقيقة الذات الخيرة والنيرة

والتي نتوحد من خلالها بالإمام الحسين عليه السلام .

وإذا كان الأديب المسيحي، الأستاذ (كتاني)، قد تأثر كثيرا بأحداث التراجيديا

الكربلائية وبفصولها المأساوية الدامية، واعتبر أن كل إنسان عليه أن يكون شاهدا على فظاعة الخطب وشناعة الحدث الذي انتهت إليه فصول الملحمة الحسينية، تلك الملحمة التي لم يكتبها الإمام الحسين عليه السلام بدمه إلا من أجلنا نحن أبناء النور الآدمي في كل زمان ومكان، فإن هذا لا يعني إلا شيئا واحدا لا يجوز التغاضي عنه أو تجاوزه

ص: 359


1- لیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص152

في الكلام عن مسرح الفاجعة.

إن استذكارناللفاجعة واسترجاعنا لكل تفاصيلها يعني أننا نريد حقا أن نطهر نفوسنا من أكدارها وأن نصفيها من أرجاسها عن طريق تصعيد الألم مثلما يصفو الذهب الحر من التراب والشوائب بفعل قوة النار اللاهبة فيه.

فالكاتب المسرحي والأديب المسيحي العراقي (يوسف عبد المسيح ثروت) ( 1921 - 1994) لم يغفل عن ذكر الإمام الحسين عليه السلام ومأساته الأليمة في دراساته

المسرحية ونتاجاته الفكرية.

فقد أبرز هذا الأديب المسرحي مكانة الحسين عليه السلام بصدق وأمانة في نفوس عشاقه وأحبابه من المسيحيين في العراق، لاسيما ممن خبر قصة الحسين وأهله عليهم السلام، ووقف على التحليلات العقلانية والدراسات الواقعية لثورة الطف المجيدة.

وكان المرحوم (یوسف ثروت) قد حضر مأتم الإمام الحسين عليه السلام والمسرح التقليدي الذي يروي عادة قصة استشهاد سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في معركة غير متكافئة بين قوة الخير وقوى الشر، وكان مما خرج به هو هذا الانطباع عن الإمام الشهيد علیه السلام :

(إن المشاهد التي أراها على مدى التاريخ العربي والإسلامي - لم تستطع مهما آتاها الحظ - أن ترقی سفح الجبل الذي قمته مشهد ثورة الإمام الحسين، واستشهاده عليه السلام مع من استشهد معه، ومن ظل من أتباعه ينتظر الشهادة بعده، احتذاء بأسرته واقتفاء لاثره، فالمثل الذي ينتصب شامخا أمامنا والقدوة التي تجتذبنا إليها بكل تلك الروعة والجلال، والدرس الذي خطته على جبين الزمن تلك الشهادة اليتيمة، والرمز العظيم الذي حفر في كل قلب حزاندیا أبد الدهر، والصفعة التي كالها الإمام لوجه

ص: 360

طاغوت الظلم والشر والاستبداد، كل ذلك يحفزنا على أن لا نمر بالعاشر من المحرم مر العابثين السادرين في غي الأفيون، اللاهثين وراء ملذات الجسد والتراب...)(1) فالمشاهد المسرحية المؤثرة - على كثرتها وصدقها - لا تستطيع أن تنقل الحقيقة

بكل أبعادها وأعماقها إلى قلوب وعقول المشاهدين، فباتساع الرؤية تضيق العبارة.

وقد أدرك الأستاذ (ثروت) حقيقة ذلك، ولكن الشيء الذي لم يستطع أن يدركه تمام الإدراك هو عزوف الأدباء المسرحيين العرب عن تأليف العديد من المسرحيات الجادة التي تتناول قصة الثورة الحسينية بأسلوب مسرحي مدروس جيدا يمکن المشاهدين من فهم حقيقة أبعاد الفاجعة التي لا تزال تطاردهم بآثارها حتى اليوم الحاضر.

وربما كان أبلغ ما قاله المسرحي المسيحي (ثروت) في هذا المجال هو قوله في مقال له بعنوان (ثورة الحسين - المأساة والأصداء): (... وعلى كثرة ما قرأت عن المأساة، فإن الذي كنت أفتقده أشد ما يكون الافتقاد هو خلو أدبنا العربي - وفي القرن العشرين بالذات من أثر مسرحي واحد يعالج المأساة عرض دراميا جديرا بجلالها ومدلولاتها وصنوف تأثيراتها في مجمل التاريخ والأدب وكل دروب الحياة، انطلاقا منها ورجوعا إليها تقويم للدرس وصيانة للأثر، وفضحا للأستار الكثيفة من تبريرات الحكام وتلبيات أذنابهم وجلاوزتهم)(2)

.وإذا كان الأديب المسيحي (يوسف عبد المسيح ثروت) قد أبدى امتعاضه من عدم كتابة المسرحيين العرب للعديد من المسرحيات الهادفة التي تكشف الستارة عن

ص: 361


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص6
2- يوسف عبد المسيح ثروت، ثورة الحسين . المأساة والأصداء، راجع مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص 21

حدث خطير يعتبر من أهم وأخطر الأحداث على ساحة التاريخ الإسلامي والإنساني على حد سواء، فإن الأديب والباحث (أمير اسکندر) قد أبدى استغرابه الشديد من الأيادي السوداء الخفية التي تريد أن تخنق كل محاولة جادة لإخراج المسرحيات المكتوبة عن الإمام الحسين عليه السلام إلى عالم الواقع والنور.

وقد كتب الأستاذ (اسکندر) مقالا له بعنوان (ثأر الله)، وقد نشرته له جريدة الجمهورية المصرية بتاريخ ( 2/18/ 1972)، وكان من جملة ما قاله فيه هو أن الحسين عليه السلام ، منذ ثلاثة عشر قرنا، خرج بأهله وأصحابه كي يعلي كلمة الله الحقيقية، كلمة الحق والعدل والحرية، وكان خروجه حينذاك نذيرا بالنهاية لكل قوى الشر والبغي والظلام.

وكانت تلك الرحلة اليتيمة رحلة عذاب طويلة ومجيدة وما كان يقوى على احتمال مصاعبها ومتاعبها إلا أصحاب الرسالات وحدهم، وقد ناضل فيها الحسين عليه السلام بالكلمة والسيف معا، ورفض السلام الخانع وارتفع فوق مستوى السلامة الشخصية الذليلة، وظل حتى آخر نبضة من قلبه الطاهر النقي ثابت الإرادة، مرفوع الرأس، إلى أن تمكنت منه قوى الكفر والظلام فقتلته وفصلت رأسه عن جسده، وقد حسبت أنها قد حققت ما أرادت وأن لهيب الثورة قد نام إلى الأبد.

لكن الواقع كان غير ذلك تماما، فالحسين عليه السلام قتل لكن دعوته غدت رسالة والحسين عليه السلام قطع رأسه، لكنه بات رمزا للعنفوان والشهادة، والحسين عليه السلام تضرج بدمه، لكنه أمسى في عصره، وفي كل العصور، نداء دائما في صداه يستصرخ المؤمنين والمناضلين والمستضعفين من الفقراء والبسطاء والمساكين طالبا منهم جميعا أن يفتحوا عيونهم وأن يجابهوا بثبات كل قوى الشر التي تحيط بهم، وأن يقمعوا كل

ص: 362

عوامل الضعف والخنوع والتردد في أعماقهم... وأن يثأروا لكلمة الله الحقيقية... كلمة الحق والعدل والحرية(1).

وانطلاقا من هذه الحقائق التي يؤمن بها كلها الأستاذ الأديب (اسکندر)، وانطلاقا أيضا من حبه وتقديسه لمعاني البطولة والتضحية والفداء الذي تشرف به التاريخ الإسلامي والإنساني والتي كان الإمام الحسين عليه السلام رمزهاالأكبر في كربلاء، فإن الأستاذ (اسکندر) يبدي استغرابه الكبير وأسفه الشديد على ما بدر من علماء ومشايخ الأزهر الشريف بحق إحدى المسرحيات الهامة التي تتناول مسيرة الإمام الحسين علیه السلام .

فبعد أن أعطت الجهات المسؤولة في الأزهر موافقتها المبدئية، ومن ثم النهائية،

على عرض مسرحية (عبد الرحمن الشرقاوي) عن ثورة الحسين عليه السلام البطولية على خشبة المسرح القومي في مصر عام / 1971/، فوجئ الناس بصدور قرار جديد من نفس الجهات المسؤولة في الأزهر يحظر ويمنع منعا باتا القيام بعرض وتمثيل هذه المسرحية بأي شكل كان.

وقد صدر ذلك القرار المضاد الجديد دون تقديم أي مسوغ أو تبرير ضاربين برغبات الناس ومشاعرهم عرض الحائط، سيما وأن الآلاف من أولئك الناس قد قرأوا الإعلانات عن المسرحية في الصحف والمجلات، وعلى جوانب الطرقات، تلك الإعلانات التي تقول إن (ثأر الله) سوف تعرض على خشبة المسرح القومي هذا الأسبوع!!

وهنا، يعلق الأستاذ (اسکندر) على ما حدث قائلا: (ويبدو أن مأساة الحسين التي

ص: 363


1- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، مصدر سابق ص252

وقعت في العراق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا تتكرر هنا مرة أخرى رغم اختلاف الظروف وبعد القرون، فمسرحية الحسين تتعرض الآن مثلما تعرض الحسين نفسه في الماضي للتنكر والإنكار!! وهي توشك أن تلقى مصيره الدمي، مختنقة وسط حصاد قوى غريبة تسلك سلوكا غير مبرر وغير مفهوم...)(1). وعلى ما يبدو، فليست مسرحية (ثأر الله) هي العمل الأدبي المسرحي الذي تعرض للاغتيال على يد جماعة تتخذ من الدين ستارا ومن التعصب دثارا، بل هناك العديد من الأعمال الأدبية الكبيرة لا تزال محتجزة في دائرة الظلام الإعلامي خوفا من إفلاتها وخروجها إلى عالم الانطلاق والنور.

فكتاب (ملحمة الحسين) للشاعر الكبير (عمر أبو ريشة)، الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، لا يزال مختفيا ومتواريا عن الأنظار عامة، ولا أحد يعلم حتى الآن السبب الأكيد والمباشر وراء عدم طباعة تلك الملحمة الشعرية التي تقع في ما يقارب ألفي بيتا من الشعر العربي الأصيل، والتي تؤرخ للثورة الحسينية ولآل البيت عليهم السلام منذ عهد النبوة وحتى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في بطاح كربلاء

وكذلك الحال بالنسبة للملحمة الشعرية ذات الطابع المسرحي التي نظمها الشاعر الدمشقي (عدنان خليل مردم بك) المولود عام / 1917/ في مسقط رأسه دمشق.

وتحمل تلك المسرحية الشعرية الملحمية عنوان (مصرع الحسين)، وهي مسرحية تتناول في طياتها الكثير من المشاهد المؤثرة عن خروج الحسين عليه السلام واستشهاده المبکر من أجل قيم ومبادئ السماء، ومن أجل عزة الإنسان وكرامته على

ص: 364


1- نفس المصدر السابق ص253.

أرض الرسل والأنبياء عليهم السلام .

ولكن، وللأسف، ماذا وصلنا من تلك المسرحية الملحمية غير النتف والمقاطع الصغيرة منها، مع العلم أن ناظمها الأديب والشاعر السني (عدنان مردم بك) هو واحد من ألمع الأدباء في الوطن العربي، وله العديد من المسرحيات الشعرية الأخرى، مثل:(جميل بثينة)، وديوان (نجوی)، و(غادة أفاميا)، وديوان (صفحة ذكرى)، و(عبير من دمشق) و (فلسطين الثائرة)، وغيرها... وقد منحته إحدى منظمات اليونسكو لقب (بروفيسور) مع منحه أيضا الجائزة الثالثة للأعمال الأدبية الصوفية الكبرى.

وقد منح هذا الشاعر المحلق الجائزة الثالثة للأعمال الصوفية الكبرى عن مسرحيته (رابعة العدوية) المنشورة عام / 1972/ في بيروت، ولهذا الشاعر مسرحيات شعرية صوفية أخرى مثل (الحلاج) طبع / 1971/، ومسرحية (دیوجین) طبع / 1977/، ومسرحية (أبو بكر الشبلي) طبع / 1981/، وقد ترجمت معظم مسرحياته هذه إلى اللغات العالمية الحية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:

لماذا لا تذکر مسرحية (مصرع الحسين) بين أعمال الشاعر؟!

ولماذا عندما نستعرض قائمة أعمال هذا الشاعر المذكورة في أي عمل من أعماله المنشورة لا تقع عيوننا على عنوان مسرحية (مصرع الحسين)، حتى ولو ضمن قائمة

(تحت الطبع) أو (من الأعمال المخطوطة للشاعر)؟!

ثم، أليس من واجبنا هنا - بعد هذا التعتيم الفكري الكامل على هذه المسرحية - أن نشكر الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي) الذي نبهنا إلى وجود هذه المسرحية الهامة في أدبنا العربي وذلك بعد أن ألقي عليها الأضواء من خلال إيراده لبعض

ص: 365

المقاطع الشعرية منها في مجلته الغراء (الموسم) التي تصدر في هولندا.

وها نحن نذكر الآن - لمجرد التأكيد على وجود هذه المسرحية - بعض الأبيات القليلة الواردة على لسان (حبیب بن مظاهر)، أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الذي قدم نفسه في سبيل نصرة رسالة الإمام العظيم عليه السلام ، وها هو يقول مخاطبا معسكر الأعداء:

- انزلي الظلم في رقاب البرايا *** عبد شمس، ولا ترقي لمدمع

وأبيحي ماحرم الله في الأر *** ض وبثي الفساد في الكون أجمع

واخنقي الحق واخرسی کل من *** * قال بقول الحق أو كان يسمع

أليس بعد الظلام غير ذكاء *** ودجى الليل غیر فجر مرصع

فأكثري الظلم عبد شمس فإنا *** عن قريب عند الإله سنجمع(1)

وعلى كل حال، وبما أننا كنا منذ قليل في معرض الحديث عن مسألة تحویل أحداث ونصوص الفاجعة إلى مسرحيات تمثيلية يتم تشخيصها على أرض الواقع، فمن المفترض أن نستمر في استعراض واستكمال ذكر أهم النقاط التي تصب في هذا الميدان الذي لم يبق محصورا على ذكر أحداث ومآسي الإمام الحسين عليه السلام في نصوص المسرحيات العربية، بل تجاوزها إلى ذكر تلك المآسي والدروس والعبر في

سياق العديد من النصوص المسرحية في الشرق والغرب أيضا.

فالأستاذ الباحث (رشید بنشنب)، وهو باحث من المغرب العربي، كتب مؤكدا في بحث مطول له باللغة الفرنسية تحت عنوان (فكرة المسرح والطقوس الإسلامية) أن المسرح الإسلامي الأول نشأ في بلاد فارس، وأن الفرس هم أول من قام بنقل

ص: 366


1- راجع مجلة الموسم العدد /12/ المجلد /3/ مصدر سابق ص358

أحداث الفاجعة من مرحلة الروايات المنطوقة والمكتوبة إلى مرحلة الأحداث المتجسدة والمشخصة على أرض الواقع.

ونراه يؤكد وجهات نظره بالقول: (نحن نقرأ أن هذه المسرحيات تعتمد على أساس ديني شأن التراجيديات اليونانية، وأسرار القرون الوسطى، وأنها تأخذ نقطة انطلاقها من (علي)، وخصوصا من (الحسین) ابن بنت محمد... وهذه الحادثة العسكرية قد وجدت في فارس صدی عميقا، وكان الاحتفال بذكرى موت الحسين يتم عن طريق مظاهر الحداد، ومسيرات شعبية يجلد فيها المؤمنون أنفسهم مع تأوهات وندب علني ثم تحول كل ذلك في نهاية القرن الثامن عشر إلى عرض مسرحي)(1).

وفي الحقيقة، إن الباحث (بنشنب) قد أجاد في وصف المسرح الكربلائي الذي يقام كل عام تخليدا لذكرى الإمام الحسين عليه السلام الذي هزت مأساته الضمائر الإنسانية الحية على مر العصور.

وقد استطاع ذلك الباحث أن يوجز الكلام في هذا الموضوع بطريقة تعطي القارئ الفكرة المطلوبة بشكل مختصر ومفيد دون اللجوء إلى الإسهاب، والإطالة مما قد يوقع القارئ في مهاوي الضجر والملل وربما التشتت في الأفكار أيضا.

وهنا تحديدا، دعونا نتوقف مع هذا الباحث الذي شاهد المسرح الحسيني بأم عينه، ثم راح يصف ويكتب ما رآه باللغة الفرنسية ليقرأ ذلك البحث المميز الآلاف من الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين الذين يهتمون بتاريخ الشرق وبرسالاته وبالأحداث

ص: 367


1- رشيد بنشنب، فكرة المسرح والطقوس الإسلامية، دراسة ملحقة بكتاب الإسلام والمسرح للمؤلف محمد عزيزة، وهو مصدر سبق ذكره، راجع ص164

المفصلية التي مرت عليه وسجلت في صفحاته المكتظة بالأحداث المتنوعة والمتفاوتة في قيمتها وأهميتها.

وحتى يقطع الأستاذ (بنشنت) حبل الإطالة في الحديث عن المسرح الكربلائي نراه يبدأ حديثه عن تصوير مسرح الفاجعة بالقول: (يقام هذا العرض عموما في ساحة عامة، أو في صحن مسجد أو في تكية بنيت لهذا الغرض، ويأتي المشاهدون الذين يهزهم الإيمان نفسه ليشاركوا في العرض وكأنه طقس ديني.

أما في البداية فنجدهم وقد هزهم التأثر صامتين جامدين، ثم تنهمر دموعهم

دون ضابط عندما يشهدون أمام أعينهم أحداث حياة الحسين المضطربة:

طفولته السعيدة مع أبيه الإمام علي، وأمه فاطمة ابنة النبي، وأخيه الحسن، ثم شبابه المهدد من كل جانب من قبل أعداء قساة، وأخيرآ نهایته المأساوية، ويزداد فضولهم المليء بالإعجاب بعوامل أخرى تقدم في العرض... کالرؤى والمعجزات والنبوءات والإحياء... إذ يرون مثلا رأس الحسين المقطوع يظهر كي يرتل مقاطع من القرآن .. وفي مكان آخر يرون أحد المعاركين الشهداء وقد قطعت ذراعاه يضع سيفه بين أسنانه ويغمده في أحشاء خصمه، ولكن حماس المشاهدين لا يصل إلى أعلى درجاته إلا في المشهد الرئيسي للعرض.. مشهد قطع رأس الإمام نفسه حيث يجري الدم - الدم الحقيقي - أمام أنظار المشاهدين المتألمين على رمال الصحراء.. عند ذلك يبدأ البكاء والنشيج المختلط بالاهتزاز العصبي لدى البعض الذين بلغ إيمانهم بما یرونه درجة كبيرة من التأثر.

وأخيرا، يتدخل المشاهدون في العرض بحماسة تفوق حماسة الممثلين.. ويبدو الأمر وكأن الممثلين والمشاهدين قد خضعوا للعذاب نفسه يعيشون بصورة واحدة

ص: 368

مغامرة الحسين الرهيبة ويصبحون بذلك مثالا حيا للتقمص..)(1).

إذن، بهذه السطور المكثفة استطاع الباحث (بنشنت) أن ينقل لنا صورة المسرح الإسلامي الكربلائي بأسلوب واقعي بعيد عن روح الانفعال، وخصوصا ما يتعلق بوصف المشاهد ذات الصلة بإعادة إحياء أحداث الفاجعة وربطها مسرحيا بأرض الواقع من جديد. .

ولكن ما يستوقفني الآن، هو قول الأستاذ (بنشنب): (ويبدو الأمر وكأن الممثلين والمشاهدين قد خضعوا للعذاب نفسه، يعيشون بصورة واحدة مغامرة الحسين الرهيبة، ويصبحون بذلك مثالا حيا للتقمص)، فما الذي يقصده بذلك؟!

في الحقيقة، إن الجواب على هذا السؤال يكمن في عبارة قصيرة نسمعها عادة من أفواه الناس والقراء الذين يتلون وقائع وتفاصيل الفاجعة على أسماع الحضور في مجالس العزاء وعند إقامة المأتم الحسينية.

فما هي تلك العبارة، وماذا تعني؟!

إنها العبارة التي تعبر عن رغبة كل فرد بالدفاع عن الإمام الحسين عليه السلام على الرغم من الفارق الزمني والمكانی الذي يفصل بين ذلك الفرد وبين الإمام الحسين عليه السلام، إنها العبارة التي تقول: (یا لیتنا کنا معکم فنفوز فوزا عظيما)، إن هذه العبارة البسيطة التي نسمعها في كل شهر محرم مئات المرات هي التي تجعل من كل فرد مشارك في ذلك المأتم أو مجلس العزاء جزءا لا يتجزأ من أجواء الفاجعة، بل ربما تجعل منه إنسانا جديدا قادراعلى اختراق حواجز الزمان والمكان ليعيش معركة کربلاء من جديد، وليحارب بكل شجاعة وإيمان وصبر مع الإمام الحسين عليه السلام ،

ص: 369


1- نفس المصدر السابق ص166

وليقتل بين يديه كأي شهيد من أصحابه، بعد أن يكون قد تطهر من كل ذنوبه وأثقاله، ومن كل همومه وأحزانه.

وما يؤكد كلامنا هذا، هو كلام الدكتور (أنطون معلوف) الوارد بشكل موسع في كتابه (المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية)، فبعد الكلام المطول عن تاریخ الأبطال المأساويين بدءا من أبطال الشرق القديم (تموز) و (مردوخ) وغيرهما، و مرورا بالأبطال الإغريق والرومان، وانتهاء بالأبطال المأساويين الذين ولدوا على يدي الأديب والمسرحي الإنكليزي الشهير (وليم شكسبير)، نرى أن هذا الباحث المتخصص، الدكتور (معلوف)، لا يغفل ذكر ملحمة الإمام الحسين عليه السلام التي لا تزال تلك البطولات الدامية فيها حية في قلوب الملايين من محبيه، بل وفي قلوب أولئك الذين يرون أن طهارة القلوب والنفوس لن تأتي بشكلها الحقيقي إلا عن طريق التطهير(CATHARSIS) الذي يتولد عادة عن العيش والانخراط في جو من أجواء المأساة التي تصيب البطل العظيم، ذلك البطل الذي تكون نهايته تراجيدية على الرغم من أنه ينحدر من أصل شريف ونبيل ويحمل الكثير من الصفات والخصال الحميدة التي قلما تجتمع كلها في شخص آخر غيره.

وبعد الانتهاء من الكلام عن احتفالات عاشوراء وعقد مجالس العزاء، نرى أن الدكتور (معلوف) يجيبنا على سؤال هام جدا قد يتبادر إلى ذهن كل واحد منا بعد أن يعرف ويدرك جيدا طبيعة البطل التراجيدي ودوره في عملية (التطهير).

والسؤال هو: لماذا نحب البطل التراجيدي على الرغم من أن نهايته ستكون مأساوية؟!

ويأتينا الجواب الواضح من الدكتور (معلوف) بقوله: (أما أبطال المآسي

ص: 370

فيمثلون، بفعل روح التخطي الحالة فيهم، أعلى ما في نفوسنا من توق إلى التوحيد بين الفكر والعمل، بين الظاهر والباطن، بين (الكون) و(التظاهر) بالكون، بین ما نؤمن به وما نفعله، فلا ازدواجية من بعد، ولا رياء، وبالتالي فلا شعور دائم بالإثم، أو بخيانة الذات... إذن فسر حبنا للمأساة، وسر إقبال الناس قديما وحديثا على الاشتراك في الاحتفالات المأساوية، إن أبطالها هم (نحن) في أنقى وأعلى ما في نفوسنا من اشتياقات دفينة إلى الصدق والبراءة، والنبل والتضحية ...)(1).

وبطبيعة الحال، فإن الدكتور (معلوف) لا يبخل علينا بذكر العديد من المشاهد المسرحية المؤثرة المأخوذة من عمق الفاجعة الكربلائية الدامية، ولكن بعد ذكر تلك المشاهد المؤثرة، نراه الآن وفي هذه المرة هو الذي يطرح السؤال على نفسه قائلا:

هل من كاثرسیس (تطهير) في احتفالات عاشوراء؟!

وقبل أن نقرأ جوابه على سؤاله المطروح، دعونا نقرأ أو أحد المشاهد الهامة التي ذكرها في مقدمة حديثه عن مأساة كربلاء، وقد بدأ الدكتور (معلوف) بقوله عند ذكر المشهد: (ومن المواقف الدرامية الشديدة التأثير، بعد مقتل القاسم بن الحسن،...

حين تقدم العباس من أخيه الحسين:

العباس: السلام عليك يا سيدي يا أبا عبد الله .

الحسين: وعليك السلام يا بن والدي.

العباس: هل من رخصة؟! (إذن القتال)، إني فقدت الصبر .

الحسين: أنت أخي، أنت قائد عسكري وحامل لوائي، وسقيم نفسي، فإذا ذهبت

ص: 371


1- الدكتور أنطوان معلوف، المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر . بيروت، ط1982/1، ص88

قلت حيلتي وشمت بي عدوي.

العباس: أخي، سيدي، لقد سئمت الحياة وعدمت الصبر .

الحسين : إنا لله وإنا إليه راجعون.

... ويتقدم العباس فيفتك بأهل الكوفة (من الموالين للجيش الأموي) فتكاعظيما، فيضربه أحدهم بعمود من حديد على يمينه فيقطعها، فينشد:

والله إن قطعتم يميني...

إني أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

وکمن له رجل آخر فضربه بالسيف على يساره فقطعها، فصاح العباس:

(السلام عليك يا أخاه، السلام عليك يا أبا عبد الله ...)، فينقض الحسين عليه ويكشف العسكر عنه، ويجلس إلى جنبه، ويضع رأسه على ركبته ويمسح التراب عن وجهه، ولكن العباس ينزل رأسه عن ركبة أخيه ويروح يمرغه بالتراب...

الحسين: أخي، أبا الفضل، لم تفعل ذلك؟!

العباس: أنت الآن تمسح التراب عن رأسي، ولكن بعد ساعة من يمسح التراب

عن رأسك ؟ !(1)

وأمام هذا المشهد المحزن، وأمام بقية المشاهد المأساوية المؤثرة الأخرى، يزداد انفعال الجمهور المحتشد ويرتفع البكاء والنحيب، ويتحول الجميع إلى أفراد مشاركين في الحدث وكأن كل واحد منهم بدأ يعيش کربلاءه الخاصة بالإضافة إلى كربلاء الإمام الحسين عليه السلام العامة ذات الطابع الإنساني الشمولي.

ص: 372


1- نفس المصدر السابق ص42

ولذلك، فمن المناسب هنا أن نذكر جواب الدكتور (معلوف) عن إمكانية قيام

المجالس والاحتفالات العاشورائية بعملية الكاثرسيس (التطهير) في نفوس الناس المحتفلين، وعلى ما يبدو، فإن الجواب عنده واضح وبسيط ولا يحتاج إلى الكثير من التفكير، ولذلك نراه يقول بكل ثقة في جوابه على السؤال المطروح: (إن العاشوراء قائمة على التعاطف مع آلام الحسين تعاطفا يبلغ أقصى حدوده، يشحن المحتفلون نفوسهم بأقصى عواطف الخوف والشفقة على الحسين]... حتى إذا بلغوا الغاية من التعاطف مع بطل عاشوراء تخففوا من آلامهم ومشاعرهم، ومن رآهم ينوحون ويذرفون الدمع الغزير ثم رآهم بعد ذلك، وقد اكتست أساريرهم براحة نفسية أكيدة، عرف ما للعاشوراء من مفعول (کاثر سیسی) (تطهيري) صادق)(1).

وعلى ما يبدو، فإن رأي الدكتور (أنطوان معلوف) يتشابه كثيرا مع رأي الأستاذ (علي يونس)، وهو أستاذ في الجامعة اللبنانية، في فقه المسرح وسوسيولوجيا المسرح وعلم النفس المسرحي، ويرى هذا الباحث المتخصص في علوم المسرح أنه من خلال إقامة مجالس العزاء ومن خلال احتفالات عاشوراء يتم استعادة الحدث بأبطاله وجمهوره، ويتجلى حضور البطل رغم غيابه من خلال حضوره بالقيم والمثل.

أما الزمان في عاشوراء فهو زمن متواصل لا يعرف الفواصل، وأما المكان فلا

يعرف الحدود والأطر لأن عاشوراء قابلة للتمثيل في كل مكان في العراء

وأما عن مسألة التطهير التي كان يتحدث عنها الدكتور (معلوف) منذ قليل، فیری الأستاذ (یونس) بدوره أيضا أن شعيرة عاشوراء هي التربة المثاليةالخصبة لإنتاج عملية التطهير النفسي والروحي عند المحتفلين والمشاركين في تلك الشعيرة.

ص: 373


1- نفس المصدر السابق ص51.

ويؤكد على وجهة نظره بالقول: (إن شعيرة عاشوراء هي الطقس المثالي لتحقيق التطهير، فهي نوع من إعادة خلق الذات والعودة بها إلى (المعيار الصحيح)، وهي مناسبة خصبة تسمح بالولادة والتجدد والانبعاث لكونها متناغمة تماما مع انقضاء عام هجري وبداية عام جديد، إذ يتعانق الموت والحياة والفناء والولادة.. فيأتي مصرع الإمام الحسين ليحقق النصر بالهزيمة، ويوحد القوة بالضعف، في صراع الحق مع الباطل، والإباء مع الطغيان والفساد)(1)

وفي هذه الحالة، يقوم البطل هنا- وهو الإمام الحسين عليه السلام - بتحويل الهزيمة القتالية إلى نصر عظيم، والموت إلى حياة، وعذاب الغربة والوحدة إلى عذوبة اللقاء مع أحكم الحاكمين، ومعاناة الجوع والألم والعطش إلى نعيم دائم في جنات لا تفنى خيراتها ونعمها، والأهم من ذلك كله هو قدرة البطل هنا على تحويل الدم، الذي ينظر إليه شرعا على أنه نجس، من رمز للعذاب والقهر والعنف إلى رمز للخلاص والطمأنينة والطهارة، أوليس الشهيد يدفن دون أن يغسل من دمه!!

ألم يقل الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده بفترة وجيزة:

(إن كان دين محمد لم يستقم إلا *** بقتلي، فياسيوف خذيني)؟!

نعم، لقد قالها الإمام الحسين عليه السلام وهو على يقين تام أن دمه سيغطي جسده كله بعد لحظات من قولها، وأنه سيتحول إلى طريق للتطهير ولاستعادة الوعي والإرادة في نفوس أتباعه.

وقد علق الأستاذ الباحث (یونس) على هذا البيت الشعري الذي قاله الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده بوقت قصير، رابطا بين هذه العبارة الشعرية وبين

ص: 374


1- علي يونس، شعيرة عاشوراء، مجلة (الآداب)، العدد /6.5/ أيار . حزيران، 1999، ص7

تداعيات الشعيرة العاشورائيةونتائجها الطقوسية، بالقول:

(يقولها الإمام الحسين (أي عبارة: إن كان دين محمد...) ويتوحد مع مصيره، إذ

لا لقاء بين الأضداد، فيتخطى الهوان ويقاتل دون تكافؤ، ويستشهد، وهنا يتوازی المفهوم الديني مع المفهوم التراجيدي، حيث يوځد البطل بين قوله وفعله، ولا يؤخر حسما ولا يتردد، وكما أن الحياة في المعتقد الديني رحلة قصيرة إلى زوال ۔ من دار فناء إلى دار بقاء «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ»(1) ، فإن الموت في التراجيديا ليس مقلقا، بل إن الحياة هي المقلقة، لأن الاستمرار فيها مع الذل والهوان فشل وإخفاق، والموت بالتالي نجاح وانتصار.

وموت الحسين يجعله يبلغ بموته ما لم يكن ليبلغه لو بقي حيا، واحتفالية عاشوراء كشعيرة طقوسية لا تزال موسما للتطهير واستعادة التوازن المفقود، وبذا خرج أبطال عاشوراء إلى حالة إنسانية أرحب، ومن دائرة الواقع إلى دائرة المثل، بل أصبحوا أقرب إلى الأسطورة)(2).

فللدم المراق شعائريا وظيفه تطهيرية في عاشوراء، فهو يمثل الرغبة القوية والطموح الجامح للاستشهاد في سبيل الله، فالشهيد في العقيدة الإسلامية لا يطهر من دمه المراق في سبيل الله وفي سبيل رسالته ومبادئه، بل من المكروه جدا أن يلامس الماء جسده قبل الدفن، وهذا شيء متعارف عليه ولا خلاف على صحته عند كافة المذاهب والفرق الإسلامية، أما بالنسبة لعقيدة (المناولة) في الديانة المسيحية، فهي ترتكز في جوهرها على هذا التصور القائل: إن المؤمن حين يشرب الخمر الذي يقدمه

ص: 375


1- سورى الأعلى: الآية 17
2- س المصدر السابق ص7

له الكاهن في الكنيسة، فهو يشرب الدم الذي نزفه السيد المسيح في لحظات العذاب العظيم، وبالتالي فإن تناوله للخمر الذي هو رمز لدم المسيح، هو محاولة للتكفير عن كل ما ارتكبه ذلك المؤمن من ذنوب وخطايا، وهو تطهير من كل النقائص والآثام.

إذن، فالدم أحد أهم المميزات في هوية البطل التراجيدي سواء في فاجعة كربلاء أم في غيرها من الفجائع والمآسي الكبرى عبر التاريخ، وحتى عبر الأدب والميثولوجيا أيضا.

فالبطل التراجيدي - كما يصفه الفيلسوف اليوناني (أرسطو) - هو ذلك الشخص الاستثنائي الذي يملك من الفضائل والخصال ما لا يملكه الإنسان العادي، ويكون

(أفضل مما نحن عليه)(1)

ولأن ذلك البطل يتصف بامتلاكه ما لا يملكه الإنسان العادي من الخصال والفضائل، فمن الطبيعي تماما أن يعيش حالة الصراع المرير القائم بين رؤيته للحياة الناقصة وبين تطلعات النفس البشرية نحو أحلام كبيرة وسامية، ومن الطبيعي أيضا أن يحكم هذا الصراع القاسي مضمون أخلاقي كما هو الحال في كل مأساة، ويكون لهذا المضمون الأخلاقي قوام روحي وله أيضا قوانین جمالية خاصة به.

ألم يعلق الباحث المتخصص (إريك بنتلي) على علاقة المسرح بالحياة الواقعية وبالحياة الخيالية المرتقبة بقوله: (هل كان للفن وجود لو لم يرغب الإنسان في الحياة مرتين ؟! لك حياتك، وعلى المسرح تحياها ثانية)؟ !(2)

ص: 376


1- مولوین میرشنت وكليفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا (سلسلة عالم المعرفة)، ترجمة: د. علي أحمد محمود ، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، العدد /18/ حزيران، 1979، ص193.
2- مناضل داؤود ، المسرح وطقوس التعزية، راجع ملحق جريدة (الثورة) الثقافي، العدد /163/ الأحد 1999/5/23ص7

فالصراع قائم لا محالة، والدم مسفوك بلا شك، والحياة السامية المرتقبة التي

يريدها البطل التراجيدي لا تزال تدغدغ أحلامنا في كل حين.

وقد ذكر العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين مسألة البطل التراجيدي في فاجعة كربلاء، وركز البعض الآخر منهم على قضية أخرى لا تقل أهمية عن مسألة صفات البطل التراجيدي التي يمتاز بها عن غيره من بقية الشخصيات، إنها مسألة(القدر المكتوب) الذي على البطل أن يواجهه بكل شجاعة وثبات.

ولكن، نظرا لضيق الوقت والمكان، ونظرا لأن هذه المسألة الهامة تحتاج إلى کتاب مستقل قائم بحد ذاته، فإننا نرى أن نرجئ الكلام في هذا الموضوع الهام والحساس إلى وقت آخر بهدف دراسته جيدا والإحاطة به من كل جوانبه.

ولذلك، فإن ما يهمنا الآن هو استعراض بعض الآراء والانطباعات التي سجلها العديد من المستشرقين والمفكرين حول (مسرحة) الفاجعة وإقامة مجالس العزاء والمآتم تخليدا لكل الأبطال التراجيديين الشهداء، وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام، حفيد النبي والرسول الأخير صلی الله علیه و آله وسلم

وعلى سبيل المثال، يذكر المستشرق (دومينيك سوردیل) في كتابه (الإسلام في القرون الوسطى )العديد من الملاحظات حول مسرحة أحداث کربلاء، واعتبر في ملاحظاته أن إعادة تمثيل وقائع الفاجعة التي ألمت بالإمام الحسين عليه السلام عبارة عن صورة مطابقة لما يحدث في الديانة المسيحية من تمثيل المشاهد المؤثرة حول عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام .

وكان من جملة ما قاله (سوردیل) بصدد ذلك: (وأدت فاجعة موت الحسين في

ص: 377

کربلاء إلى مشاهد مسرحية تذکر بمشاهد (الوجد) في الغرب الوسيطي، وارتضى

الإماميون أن يتأملوا في الآلام الماضية للعترة المختارة)(1).

وعلى الرغم من أن هذا المستشرق، (سوردیل)، لم يكن نزيها ومنصفا في الحكم على بعض المسائل الإسلامية بشكلها العام، كمسألة مصادر الدين الإسلامي ومسألة الحضارة في الإسلام، إلا أنه لم يجد مفرا من الإقرار بالحق أحيانا عند الكلام عن بعض القضايا التي تتناول الأحداث المصيرية الكبرى في التاريخ الإسلامي، وبشكل خاص التاريخ الإسلامي المبکر.

وانطلاقا من ذلك، نرى أن هذا المستشرق يركز في معظم ما كتبه عن الإسلام على واقعة كربلاء، واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام مع أهله وأصحابه على يد الأجلاف الأمويين.

وقد جاء في كتابه (الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي) الذي كتبه بالاشتراك مع (جانين سوردیل)، قوله التالي : (وقد اقترن ما خص به الإمام من دور فرید بتعلق عاطفي بشخصه وبعائلته عبرت عنه بخاصة التأملات في المآسي التي لم تزل تنزل

بساحة علي وفاطمة وآلهم خلال وجودهم الأرضي.

فزيارات التقوى على أضرحتهم واحتفالات ذكرى عاشوراء ساعدت أتباعهم

على تذكر آلام واستشهاد معظم الأئمة الذين مضوا جميعا بموت عنيف...

وقد ركز بشكل خاص على مأساة كربلاء التي ذهب ضحيتها الحسين وعدد من أولاده وبني عمه، وتلاها سوق نسائه وبقية الأسري على طول طريق الفرات حتى المقر الدمشقي للخليفة الأموي... وأدت (فاجعة كربلاء) إلى تمثيلات مسرحية

ص: 378


1- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، مصدر سابق ص107

حقيقية لاستشهاد الحسين)(1).

أما في ما يتعلق بالمؤرخ والباحث الدكتور (جون هوليستر) صاحب الكتاب الشهير (تاريخ الشيعة في الهند)، فقد أفرد في الفصل التاسع منه بحثا خاصا عن شهر محرم الحرام وأهميته الدينية مع مراسيم الشعائر الحسينية التي تقام خلاله في الهند بمختلف الوسائل والأشكال.

وقد أكد في كتابه المذكور، وعلى ما يقارب العشرين صفحة من الفصل التاسع منه، على (أن مقتل الحسين في كربلاء برغم كونه قد وقع قبل مدة تزيد على ثلاثة عشر قرنا، فإن فجيعته كانت واضحة جلية لكل شيعي ولكثيرين غيرهم بواسطة المراسم والاحتفالات الدينية التي تقام سنويا في محرم الحرام).

وبعد تأكيد الدكتور (هوليستر) على حرمة وعظمة شهر محرم عند كل مسلم، نراه

يتابع كلامه بالقول: فقد كان (شهر محرم) حتى قبل عهد النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم يعرف بالمهرجان السنوي الذي كان يقام فيه، وأن اليوم العاشر منه يسمى بيوم عاشوراء، وكان يعرف بكونه اليوم الذي تسقط فيه أول مطرة في السنة، وكذلك خلق الله سبحانه وتعالى فيه آدم وحواء والسماء التاسعة (هكذا وردت)، ومنحت فيه الرسالة المقدسة الأرواح العشرة آلاف رسول، وفي الوقت الذي يكون فيه مقتل أعظم شخصية إسلامية التي لها أثر كبير في نفوس المسلمين وغيرهم، هو سبط الرسول الأعظم محمد ،صلی الله علیه و آله وسلم الإمام الثائر أبي عبد الله الحسين(2).

هذا هو المختصر المفيد من كلام المؤرخ الدكتور (جون هوليستر) الذي ورد في

ص: 379


1- دومينيك وجانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة: حسني زينه دار الحقيقة . بيروت، 1980، ص138
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص56

الفصل التاسع من كتابه (تاريخ الشيعة في الهند)، وعلى ما يبدو فإن الرسالة التي تؤديها احتفالات عاشوراء ومجالس العزاء الحسينية واضحة المعالم والنتائج بالنسبة لكل المفكرين والمستشرقين على حد سواء.

فهذا هو المستشرق الفرنسي، الدكتور (جوزف) يحدث القارئ الغربي في كتابه

(الإسلام والمسلمون) عن طبيعة تلك الاحتفالات التراجيدية وعن دورها الفعال والحيوي في نشر فكر أهل البيت عليهم السلام و في تبيان الظلم العظيم الذي وقع عليهم وعلى أتباعهم المخلصين على مر التاريخ.

وكان من جملة ما قاله الدكتور (جوزف) عن أتباع أهل البيت عليهم السلام ومحبيهم:

(وصاروا يعقدون المجالس سرا ويبكون على مصائب الحسين واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم... وبمقتضى تخمين بعض سواح فرنسا، إن الشيعة فعلا سدس المسلمين أو سبعهم، ونظرا إلى هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل من دون جبر وإكراه يمكن أن يقال إنهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن أو قرنین، والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كل واحد منهم داعيا إلى مذهبه.

ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد والاثنان من الشيعة إلا ويقيمان فيه عزاءالحسين ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة)(1).

وأعتقد شخصيا أن هذه الأعمال من محبي النهج الحسيني هي أقل ما يمكن أن يقام به کواجب أخلاقي وروحي تجاه الإمام الحسين عليه السلام وما قدمه للإنسانية عموما من دروس وعبر وتضحيات عز نظيرها في الوجود.

ص: 380


1- نفس المصدر السابق ص58

فالبقدر الذي كان فيه يزيد ذليلا ووضيعا، كان الإمام الحسين عليه السلام بالمقابل عزيزا ورفيعا، وبقدر ما ملك يزيد واستأثر وطغى وبغي، بقدر ما بذل الإمام الحسين عليه السلام وأعطى وجاد و ضحی.

فمن الصراع الحاد والاختلاف الذي يفوق التصور بين هاتين الشخصيتين ولدت أعظم مأساة في التاريخ، وقد صدق العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (كارلتون كون) ( C.Coon) صاحب کتاب (قصة الإنسان) المعروف عالميا، عندما قال:

(إن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل أساسا لآلاف المسرحيات الفاجعة)(1)

وقد جاء هذا القول للعالم الأمريكي (کون) في كتابه (القافلة.. أو قصة الشرق الأوسط).

أما المستشرق الإنكليزي (رینولد نیکلسون) فلا يجد حرجا في وصف یزیدبقوله الصريح:

(ترعرع یزید بدويا بكل غرائز وأذواق البدو، من حب اللذة وکره التقى وعدم اكتراث استهتاري بقوانين الدين، وقد تحدد مستهل حكمه بحادث (قتل الحسين) قلما يتحدث عنه المسلمون - حتى في الوقت الحاضر - دون أن يشعروا بقشعريرة الفظاعة والرعب)(2). وإذا كانت هذه هي صورة يزيد كما يراها أحد أهم المستشرقين في الغرب المسيحي، فكيف يرى الأديب النحوي والعالم الأزهري السني (عبد الله العلايلي)

ص: 381


1- الحسين عليه السلام في ضمير الأمم والحضارات، مجموعة أقوال للعديد من المفكرين والعلماء وهذه الأقوال ملحقة بنشرة (أجوبة المسائل الشرعية) المطابقة لفتاوى المرجع آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، العدد / 122/، مصدر سابق ص9
2- نفس المصدر السابق ص9

صورة الإمام الحسين عليه السلام ، وهو أحد أبرز الأعلام في الشرق الإسلامي؟!

يرى العلامة (العلايلي) صورة الإمام الحسين الحقيقية من خلال قوله الصادق:

(في إنسانية الحسين عليه السلام تلتقي شعلة البذرة المقدسة بالفطرة المثالية الفذة، وتزدحم المعاني والصور ورموز العالم المجهول، فهو روح إلهية في طبيعة بشرية، ومعنى غيبي في حروف من أشباح الوجود، وكذلك تعطي يد الله الصناع بعض المعالم الحية سرا من أسرارها، يكون لها به ما للأحجار الكريمة من خلب وبهجة ورواء)(1)

وبعد كل هذا التناقض الصارخ بين الإمام الحسين عليه السلام ويزيد، أليس من الطبيعي أن تولد ملحمة كربلاء الحسين عليه السلام لتكون النسخة الثانية الأكثر عنفا ودموية من مسرحية الصراع البشري الأول بين قابيل وهابيل؟!

نعم، إن فاجعة كربلاء، وإن كانت متأخرة زمنيا عن فاجعة هابیل علیه السلام وعن

فجائع كل الرسل والأنبياء الذين تعرضوا للظلم والعنف والموت كالنبي زکریا علیه السلام وابنه النبي يحيى عليه السلام وانتهاء بالمآسي والآلام المريرة التي تعرض لها سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ، إلا أن كربلاء هي الوعاء الأوسع والأشمل الذي احتوى كل معاني الفاجعة في سبيل نصرة الحق وإعلاء راياته وكشف الظلمات عن كلماته وأنواره.

فالمستشرق الأمريكي (غوستاف غرونیباوم) الذي قرأ وكتب الكثير من المؤلفات عن الإسلام وعن الحياة الاجتماعية والفكرية في الشرق، قرأ بإمعان ما حدث في كربلاء من مجازر وظلم بحق الحسين وأهل بيته عليهم السلام، وقد قرأ أيضا ما جاء في كتاب (مسرحية الخوارق عن الحسن والحسين) للكاتب والأديب الإنكليزي

ص: 382


1- نفس المصدر السابق ص 9.

(لويس بيلي)، وكان من نتيجة قراءته لتلك الأحداث المؤثرة في المسرحية المذكورة،

أن علق عليها بقوله: (إن حادثة كربلاء تذکر بعنف وقوة بموت المسيح)(1).

وهنا بالتحديد، أريد أن أتوقف قليلا مع هذه العبارة التي قالها المستشرق الأمريكي (غوستاف غرونیباوم) حول التشابه بين البطلين التراجيديين (الإمام الحسین) و (السيد المسيح) علیهما السلام

وقبل أن أذكر هنا الفكرة التي تراودني باستمرار عن العلاقة القوية بين هذين البطلين المأساويين من حيث حجم الكارثة والفاجعة التي نزلت بكل منهما، أريد أن أقول للقارئ الكريم إن الفكرة التي سأذكرها الآن هي وجهة نظر خاصة بي أنا، ولا ألزم أي شخص باعتناقها أو حتى تأييدها والقبول بها.

فللقارئ الكريم الحق في قبول أو رفض أي فكرة أطرحها في هذا الكتاب طالما

أنها فكرة قابلة للتداول ما بين أخذ ورد، و قبول ورفض.

والفكرة التي أريد طرحها الآن هي فكرة مبنية على السؤال التالي الذي يبدو أنه سؤال غريب فعلا، والسؤال هو: لماذا لم يتزوج السيد المسيح عليه السلام ويأتي بأطفال وذرية مباركة إلى هذا الوجود؟!

وبالطبع، فإن الجواب على هذا السؤال لا يأتي بكلمة أو كلمتين، وإنما يأتي من

خلال ربط هذه المجموعة من الأفكار التي سنربطها الآن بعضها ببعض.

لقد رأينا في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب كيف أن معظم الرسل والأنبياء علیهم السلام قد تنبأوا بالمصير الدامي الذي ينتظر سبط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين بن علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام، وقد رأينا أيضا أن هناك العديد من المفكرين

ص: 383


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص56

المسيحيين المعاصرين قد ذكروا في مؤلفاتهم أن السيد المسيح عليه السلام قد تنبأ بدوره أيضا بما سيقع على الإمام الحسين وأهله علیهم السلام على شط الفرات معتمدين في ذلك على العديد من الأحاديث والروايات المتنوعة الواردة في عدة كتب ولعل أبرزها الكتاب المقدس نفسه، وتحديدا كتاب (الإنجيل) أو مايعرف بكتاب (العهد الجديد).

وبما أن السيد المسيح عليه السلام كان هو الأقرب زمنيا إلى فترة بعث محمدالمصطفی صلی الله علیه و آله وسلم رسولا ونبيا، كان هو الأقدر والأعرف بشؤون هذا الرسول الجديد القادم الذي سيخلفه وسيكون خاتم الرسل والأنبياء.

ولعل آخر کتاب قرأته في هذا المجال هو كتاب (نظرة جديدة في سيرة رسول الله) لمؤلفه المفكر والسياسي المسيحي المعتدل (كونستانس جیورجیو)، وزیر خارجية رومانيا السابقة، والذي يرى في كتابه المذكور أنه من غير المستبعد أن يكون السيد المسيح عليه السلام قد تحدث عن مجيء رسول من بعده يدعى (بارکالت) أو

(بریکلي توس) والتي تعني باليونانية (أحمد) و(محمد) ومعناها هنا الأكثر مدحا.

وقد ذهب السيد (جیورجیو) إلى أبعد من هذا، وذلك عندما ذكر أن اليهود أيضا كانوا على علم ودراية بمجيء رسول آخر بعد المسيح عليه السلام وسيكون اسمه (أحمد)، ولذلك فإنهم اضطربوا اضطرابا عظيما ليلة ولادة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقد تخوفوا من وضع آمنة علیها السلام خوفا كبيرا(1)

ولأن السيد المسيح عليه السلام - كما رأينا الآن وفي فصل سابق - كان على معرفة

ص: 384


1- كونستانس جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة الدكتور: محمد التونجي، الدار العربية للموسوعات . بيروت، 1983، ص23

كاملة بأحوال الرسول الذي سيأتي بعده، وماذا سيحل به شخصيا من حيث مختلف فعالياته ونشاطاته الدينية والدنيوية، وماذاسيحل بأهل بيته من بعده، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام الذي سيذبح هو وأولاده وأطفاله ظلما على شط الفرات، فقد عاش السيد المسيح عليه السلام فاجعة كربلاء بذهنه وبقلبه قبل أن يعيشها الإمام الحسين عليه السلام بعدة قرون من تنبؤ السيد المسيح عليه السلام بها.

ولأن السيد المسيح عليه السلام كان دائما وأبدأ رمزا للمحبة والسلام، ورمزا للتصالح مع الذات من حيث ارتباطاتها الأرضية، ونظرا لكرهه الشديد لمشهد الدماء ولکرهه أيضا لشرب كأس الاختبار المرير الذي عبر عن موقفه منها بقوله مخاطبا الله عز وجل: (يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك )(1) مدركا تمام الإدراك أنه لا مفر له من شرب تلك الكأس المريرة المصحوبة بأقسى أنواع البلاء والابتلاء، لذلك فقد آثر وفضل أن يعيش حياته وحيدا دون شريكة ودون عيال وأطفال لأنه كان يدرك أيضا في قرارة نفسه أن مصير أولاده وأطفاله قد يكون كمصير أولاد وأطفال سبط الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام.

ولذلك، فقد آثر السيد المسيح عليه السلام أن يعيش کربلاءه الخاصة بشكل فردي أحادي وحتى دون أن يسمح لفكره أن يتخیل، مجرد خيال، أن يكون له أطفال أتقياء أبرياء أنقياء کندى الصباح يعيشون من بعده ما سيعيشه ابن المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وأطفاله، وما سيلاقونه سوية على شط الفرات من ظلم وقتل وبي ومهانة لا تحدها حدود.

وفي هذه الحالة، أيهما أفضل: أن يبقى وحيدا ويلاقي مصيره بشكل فردي، أم أن يكون صاحب عیال وأطفال كي يلاقوا ما سيلاقيه أولاد الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم في

ص: 385


1- الإنجيل (إنجيل متى) ج26 ص42.

فاجعة أليمة كفاجعة كربلاء؟!

هذا ما أردت أن أقوله معبرا عن وجهة نظري، وللقارئ الكريم الحق في قبول

هذا الكلام أو رفضه.

وبالعودة ثانية إلى آراء وأقوال المستشرقين، يمكننا أن نتوقف قليلا مع الكاتب والمؤرخ الأمريكي (ول ديورانت) صاحب کتاب (قصة الحضارة) الغني عن التعريف.

يقول هذا الكاتب، وهو مؤرخ أكثر مما هو مستشرق، عن المسرح التراجيدي المتخصص بعرض مشاهد الآلام في الفاجعة الحسينية: (أقيم في كربلاء حيث قتل الحسین مشهد عظیم تخليدا لذكراه، ولا تزال مأساة قتله تمثل في كل عام تمجيدا لتضحيته وبدافع من الحزن والأسى)(1).

وعن هذا المشهد الحسيني العظيم الذي تمثل بجانبه حوادث الفاجعة كل عام تخليدا لذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، يقول المستشرق الألماني (أ - هونيغمان) في كتاب الإنسكلوبيديا الإسلامية الموجزة): (إن الانطباع العام الذي يحصل عليه الإنسان داخل المشهد الحسيني في كربلاء لا يماثله إلا ما يروى في الأساطير)(2).

نعم، لقد أصاب هذا المستشرق الألماني عندما رأى أن الانطباع الذي يكتسبه الإنسان داخل المشهد الحسيني لا يوصف لأنه أشبه ما يكون بالشعور الذي ينتاب الفرد وهو يعيش في جو من أجواء الأساطير التي لا تحدها حدود ولا تضبطها قوانین .

ص: 386


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص54
2- نفس المصدر السابق ص54

وعن هذه الفاجعة التي دخلت بقوة أحداثها المؤلمة أجواء الملاحم الأسطورية،

تحدثنا الباحثة الإنكليزية (أ. س. ستيفنس) في كتابها (في بلاد الرافدين) قائلة:

(على مقربة من مدينة كربلاء حاصر هراطقة يزيد بن معاوية وجنده الحسين بن علي ومنعوا عنه الماء، ثم أجهزوا عليه، إنها أفجع مآسي الإسلام طرا...

جاء الحسين إلى العراق عبر الصحراء ومعه منظومة زاهرة من أهل البيت وبعض مناصريه، وكان أعداء الحسين كثرة، وقطعوا عليه وعلى مناصريه مورد الماء.

واستشهد الحسين ومن معه في مشهد کربلاء، وأصبح منذ ذلك اليوم مبكى القوم وموطن الذكرى المؤلمة كما غدت تربته مقدسة)(1).

وإذا كانت هذه الباحثة الإنكليزية ترى أن التربة التي استشهد عليها الإمام الحسين عليه السلام قد غدت تربة مقدسة على مستوى المسلمين المناصرين لمبادئ الإسلام الثائر في كربلاء، فإن المستشرق الأمريكي (فيليب حتي)، المتحدر من أصل لبناني، يرى أن كربلاء قد أصبحت بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على رمالها واحدة من الأماكن المعظمة في العالم.

ويقول الأستاذ (حتي) في كتابه (History Of The: Arabs ) عن المجالس والمآتم الحسينية التي تتكرر على الدوام: (ولا تزال حشود الحجاج تتدفق على مشهد (علي) في النجف وعلی مشهد ابنه الحسين، القديس العظيم، والشهيد في جوار کربلاء، ولا تزال المسرحيات المؤثرة تمثل بشكل سنوي في العاشر من شهر محرم في شتى أصقاع العالم الشيعي لتظهر إمكانية أن يكون الموت أكثر فائدة ونفعا بالنسبة

ص: 387


1- نفس المصدر السابق ص53.

(للمخلص) من الحياة ذاتها)(1).

فالموت أحيانا يعطي الأحياء دروسا أكثر مما تعطيهم الحياة، ويكون البطل الشهيد في هذه الحالة هو المخلص والمعلم الذي لا يتوانى في إعطاء الإنسان الحي الكثير من الدروس والعبر والحكم المكتوبة بمداد من الدم على صفحات من البطولة والرجولة والصبر والإيمان.

فعندما يقول العالم الإنكليزي (توماس هيوز)، وهو أيضا أحد المفكرين البارزين، في كتابه الذي يحمل عنوان (قاموس الإسلام): (اشتهرت کربلاء بمصرع الحسين، الإمام الشهيد، وبكونها مثواه الأخير)(2)، فهذا يدل ويؤكد على أن هذا المفكر، وغيره من المفكرين أيضا، لا يترددون لحظة عن إطلاق صفة (الشهيد) على الإمام الحسين عليه السلام الذي يمثل - حتى بالنسبة إليهم - الإمام العظيم الذي قدم أعزما يملك من أجل القيم والمبادئ والمثل النبيلة التي كان يؤمن بها حتى اللحظةالأخيرة من رحيل روحه إلى عالم غيب السماوات الفسيح.

وبإمكاننا الآن الوقوف قليلا مع المستشرق الإنكليزي (دوایت رونلدسن) الذي

يرى أن أرض کربلاء قد اكتسبت قداستها وعظمتها من دم الإمام الحسين عليه السلام المراق فوق رمالها الملتهبة، ويؤكد (رونلدسن) أيضا في كتابه (عقيدة الشيعة) على أن كل مكاني كان يكتسب مكانته المميزة في نظر المسلمين من خلال شهادة المكان ذاته على حجم الظلم الكبير والكارثة التي حلت بدرية الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ممثلة بفاجعة كربلاء التي دارت رحاها الطاحنة على الإمام الحسين عليه السلام الثائر وعلى أهله

ص: 388


1- PHILIP HITTI, History Of The ARABS, P.183
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55

وأصحابه المخلصين الميامين.

يقول (رونلدسن) في كتابه المذكور: (... وفي القاهرة يوجد جامع الحسين،

فيذهب الدراويش في أيام معينة من شهر محرم ويطوفون بالقبر الذي يقال إن فيه رأس الحسين الشهيد، ولكن شيعة إيران ينظرون إلى سهل کربلا ءنظرة احترام عظیم حيث وطئ جسد الحسين بالخيل، ويذكرون أن إحدى زوجاته كانت ابنة (یزدجرد) آخر الملوك الساسانيين، فيعتبرون شهادته في كربلاء مصيبة قومية عظمى يحيون ذكراها بالتعازي الكثيرة وتمثيل السبايات في شهر محرم.

إن سفك دم الحسين ابن بنت النبي في سهل كربلاء قد أصبح يعتبر ذا قيمة في التضحية ويظهر ذلك في تطور العقيدة وفي انتشار عادة الزيارات التي يمتاز بها مشهد الحسين)(1) ويرى الباحث والراهب الفرنسي (لويس غارديه) أن (تقدیس آل البيت كان منشأتلك التمثيليات المأساوية التي هي (التعزيات)... وبعد ملحمة كربلاء أسبغت على الألم والموت قيمة مباركة بالنسبة إلى الشيعة)(2).

ومن نافلة القول أن نذكر هنا أن هذا الراهب الفرنسي الكبير (لويس غارديه) قد ألف كتابا قيمامن عدة أجزاء بالاشتراك مع الباحث (ج. قنواتي)، والعنوان الكامل للكتاب هو (فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية)، وهو كتاب يتناول في مجمله القضايا العقائدية والفلسفية التي تتفق عليها الديانتان الإسلامية والمسيحية، ولكن، بنفس الوقت أيضا، لم يغب عن ذهن المؤلفين ذكر أهم النقاط التي تتميز بها

ص: 389


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص101
2- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص248

كل ديانة عن الديانة الأخرى.

فمن النقاط الهامة واللافتة للنظر قول ذلك الراهب: (ومن اليعاقبة (وهي فرقة من المسيحيين) أيضا كانت القبائل العربية المسيحية التي حالفت المسلمين في حروبهم في السنين الهجرية الأولى، ثم اعتنقت الإسلام بعد ذلك دینا)(1).

وعلى كل حال، أردنا فقط أن نلقي الضوء على هذا الكتاب الهام الذي يعتبر بحق، أهم الأعمال الفكرية التي تركها لنا الراهب (غارديه) بعد رحيله.

وتتمة؛ لحديثنا السابق عن مسألة الفاجعة الحسينية وعلاقتها بالمسرح، نرى أن البارون الفرنسي (كارا دوفو) قد تحدث في كتابه (مفكرو الإسلام) عن مأساة أحداث اغتيال أمير المؤمنين علي عليه السلام واستشهاده في الكوفة، وكذلك عن تمثيل تفاصيل استشهاد ابنه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكن كلامه عن الفاجعتين المريرتين جاء بشكل مختصر جدا(2).

ومن الطبيعي أن لا تغيب مأساة كربلاء وذكرى آلامهاعن فكر المستشرق الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) الذي ما برح يتحفنا بالمزيد من نتاجاته الفكرية والفلسفية التي - إن دلت على شيء- فإنما تدل على أن عالم الاستشراق لا يخلو أبدا من وجود مفکرین مخلصين لشرف المهمة الفكرية والثقافية التي انتدبوا أنفسهم للقيام بها وبأعبائها على أكمل وجه.

فالمفکر (غارودي) يتحدث في كتابه (ما يعد به الإسلام) عن فاجعة كربلاءفي

ص: 390


1- لويس غارديه وج. قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية ج2، ترجمة: د.صبحي الصالح والأب الدكتور فريد جبر، دار العلم للملايين . بيروت، 1967، ج2 ص16
2- البارون کارا دوفو، مفكرو الإسلام، ترجمة: عادل زعيتر، الدار المتحدة للنشر . بيروت، ط 1979/1 ، ص83

أكثر من موضع، ولكن كلامه عن مفهوم الشهادة عنده طغى على كلامه حول علاقة الفاجعة ذاتها بالمسرح ومآتم العزاء، ولذلك، فقد لخص كلامه عن تلك النقطة بقوله: ( واستشهاد الشهيد يمكن أن يتم في إحدى المعارك التي يأمل فيها بالنصر، وهذا ما حدث في معركة (أحد) التي خاضها النبي... وقد یکون موت الشهيد باختياره وهو يعلم علم اليقين بهزيمته المؤكدة، وهذا الطراز من الاستشهاد جسده لدى الشيعة من المسلمين الحسين بن علي حفيد النبي الذي قتل في معركة كربلاء، وللشهادة مدلول آخر بالإضافة إلى (موت) الشهيد وتوقع الهزيمة، فهي برهان على الحقيقة والإيمان، وهي في الوقت نفسه إسهام في نصر هذا الإيمان وتلك الحقيقة)(1)

وكان أيضا للمفكر الفرنسي المسيو (بلانشو) (Blanchot) كلام غريب بعض الشيء عن مسرح الفاجعة وعن الإمام الحسين عليه السلام الذي يمثل بنظره البطل التراجيدي المثالي، ولذلك، فقد قال في معرض كلامه عن الاحتفال بأيام عاشوراء : (إن الحسين عند المسلمين يذكر بأدونيس عند اليونان)(2)، أي أن الحسين عليه السلام قد تحول إلى رمز لتجدد الحياة.

ومنعا لأي إشكال في فهم ما قاله المسيو (بلانشو) حول أوجه التشابه بين الإمام الحسين عليه السلام عند المسلمين وأدونيس عند اليونانيين، فقد علق الدكتور (زكي مبارك) على ذلك بقوله في كتابه (المدائح النبوية في الأدب العربي): (ليس معنى هذا أن المسلمين نقلوا عن اليونان فكرة المآتم الموسمية، ولكن هذه المشابهة بين ذکری أدونيس وذكرى الحسين تدل على أن الناس يلتقون في كثير من الأخيلة الفطرية وإن

ص: 391


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، مصدر سابق ص68
2- الدكتور زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر . القاهرة، 1935، ص54.

تباعدت بينهم الديار، وفرقت بينهم المذاهب، ومن العجيب أن هناك نفحة روحية في الفكرتين، فأدونيس تقدس ذكراه لأنه ابن (أفرودیت) إلهة الجمال، والحسين یمجد ذكره لأنه ابن فاطمة، وهي بنت الرسول)(1).

ولكن، وعلى ما يبدو، فإن الباحثة المسرحية المعروفة على المستوى الأوروبي (تمارا ألكسندروفنا بوتیتسیفا) كانت أيضا من الشخصيات المسرحية الهامة التي قرأت أحداث فاجعة كربلاء وتأثرت بها إلى أقصى الحدود، وكان لتلك الباحثة الموهوبة مشاركات فكرية فعالة في مجال الكتابة عن فلسفة مأساة الحسين عليه السلام وعن الأسس الفعلية التي قامت عليها طقوس العزاء واحتفالات عاشوراء الحزينة التي تختلط فيها ذكرى آلام الماضي بآهات وهموم الحاضر، وتمتزج فيها أيضا دموع الألم بالدماء التي تراق أحياناللتعبير عن النية الصادقة في السير على النهج الحسيني السليم مهما كانت النتائج والضرائب المترتبة على هذا الولاء الأكيد.

وقد حاولت هذه الباحثة المجتهدة (بوتیتسيفا) الاعتماد على هذه النقاط الأساسية في بحثها المسرحي، وقد أعلنت أسفها الشديد (لعدم ولادة (شكسبير) عربي كان باستطاعته تجسيد طباع أبطاله وسلوكهم في الشكل الفني للتراجيديا الدموية)(2)، ومن ثم الوصول إلى أنه (رغم عدم توفر الأساس الأدبي المتين، فقد أدى مصير الحسين المأساوي وأدت معركة كربلاء إلى ولادة (التعزية) التي تعتبر من أقدم العروض المسرحية في العالم الإسلامي)(3).

ص: 392


1- نفس المصدر السابق ص 54
2- أحمد محمد خالد، مسرح العرب بين نص الإسلام وسيرورته، منشورات وزارة الثقافة . دمشق، 1997، ص 51
3- نفس المصدر السابق ص51

وبالتالي، فإن هذه الباحثة (بوتیتسیفا) هي من أكثر الباحثين المسرحيين حماسه للقول بوجود مسرح (عربي - إسلامي) قدیم ولد من رحم الفاجعة.

ولكن السؤال المهم الآن، هو:

لماذا كانت (بوتیتسیفا) تأمل بولادة (شكسبير) عربي؟ ولماذا شكسبير تحديدا؟ في الحقيقة، إن ما تريد الباحثة (بوتیتسیفا) قوله لنا هو أن الكاتب والأديب المبدع لا يمكن أن يكون مبدعا بالفعل ما لم يكتب شيئا أو يقدم عملا أدبيا أو فكريا مميزا جدا بحيث يضع مؤلفه في دائرة الإبداع، فالمؤلف هو الذي يبدع العمل وهو الذي يخرجه من حالة الكمون إلى حالة الوجود، سواء بشكل قصيدة أو رواية أو مسرحية أو غير ذلك من الأشكال الفكرية أو الفنية الأخرى.

فالأديب المسرحي (شكسبير) (1564-1616) لم يتربع على عرش المسرح في أوروبا كلها إلا بعد أن أبدع الكثير من الأعمال المسرحية الهامة والمعروفة عالميا، مثل: (هاملت)، (عطيل)، (الملك لير)، (تاجر البندقية)، (مكبث) وغير ذلك من الأعمال المسرحية التي لا تزال تمثل على الكثير من خشبات المسرح في بقاع عديدة من العالم حتى الآن.

إذن، فهناك عملية إبداع يقوم بها المبدع حتى يصبح مبدعا في عيون الآخرين، وهذا شيء طبيعي ومتعارف عليه في عالم الإبداع، ولكن الشيء غير الطبيعي هو أن يكون العمل الإبداعي موجودا بطبيعته على أرض الواقع، وهو القادر على أن يخلق مبدعين عظماء لمجرد أن يتناولوه بالبحث والدراسة وإعادة صياغته بأسلوب أدبي وفکری جذاب و دقیق بحيث يتم التركز فيه على طبيعة الأحداث وعلى العمق الذي تتميز به كل الشخصيات الرئيسية وعلى الأهداف والقيم والتداعيات اللاحقة وعلى

ص: 393

الآثار والدروس المستفادة، وهذا- باختصار شديد - ما أرادت الباحثة (بوتیتسیفا) قوله لنا من خلال استغرابها وأسفها على عدم ولادة شكسبير عربي من خلال صياغة وكتابة العديد من المسرحيات باللغة العربية عن فاجعة كربلاء، تلك الفاجعة الأليمة والاستثنائية بمرارة أحداثها وقوة دروسها وآثارها على المستوى العالمي عموما، وليس على المستوى العربي أو الإسلامي وحسب.

إذن، فمن أراد من الأدباء المسرحيين أن يكون مبدعا عالميا في عالم المسرح مثل الأديب المسرحي (شكسبير)، فعليه بالكتابة عن ملحمة الحسين عليه السلام وعن أبعاد تلك الملحمة المأساوية الجديرة بأن تمثل على الدوام بمختلف اللغات في شتى أصقاع الأرض.

ومما يؤكد عالمية ملحمة كربلاء وتجاوزها لحدود الزمان والمكان والأديان، هو تعاطف غير المسلمين مع آلام الإمام الحسين عليه السلام ومع أهدافه وقيمه ونبل غاياته.

فالصابئة - على سبيل المثال - يحتفلون في العراق بذكرى استشهاد الإمام الحسين مع أهل بيته عليهم السلام، ويشاركون المسلمين الشيعة في إقامة مجالس العزاء، وقد أصبح بإمكان كل واحد منا أن يلاحظ بروز هذه الظاهرة جليا في القنوات التلفزيونية الفضائية ذات الطابع الديني المعتدل التي تعرض في كل عام تقريبا ما يقوم به الصابئة في العراق من مشاركات وجدانية وإنسانية في إحياء مراسم ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.

ومن المعروف عن الصابئة تفضيلهم اللون الأبيض على سائر الألوان في لباسهم فالصابئي يحب أن يرتدي اللون الأبيض على الدوام، غير أنه يفضل أن ينزع هذا اللون عنه ويستبدله باللون الأسود في ذكرى محنة الإمام الحسين عليه السلام حيث يرتدي

ص: 394

السواد إمعانا منه في إظهار حبه ومواساته للإمام الحسين عليه السلام ولأهل بيته الأطهار الذين قضوا ظلما وعطشا على شط الفرات.

ولذلك، فعندما تحدث الرحالة البرتغالي (بيدرو تكسيرا) في كتابه (بغداد مدينة الباشوات) عن السقاة في كربلاء قائلا: (إن السقاة في كربلاء يسقون الماء للناس في سبيل الله وإحياء الذكرى الإمام الشهيد الذي قتل عطشان في هذه البقعة)(1)، فإنه لا يقصد بكلمة (السقاة) مجرد المسلمين المتعاطفين کليا أو جزئيا مع مصائب الإمام الحسين وأهله وعياله علیهم السلام ، بل قصد حتى أولئك الذين هم من غير المسلمين الذين تعاطفوا وجدانيا وإنسانيا مع سيد الشهداء عليه السلام في صراعه مع قوى الشر والشرك.

ولا يتوقف الأمر عند مشاركة المسيحيين والصابئة في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بل إن الأمر يتعدى ذلك ويتجاوزه إلى حد كبير، فالباحث المتخصص (توبي هوارث) (Toby M. Howarth ) يحدثنا في كتابه الشيق (الشيعة الاثنا عشرية كأقلية إسلامية في الهند) ( The Twelver Shia As Amuslim Minority in India) عن إحياء الطائفة (الهندوسية) لذكرى استشهاد الإمام الحسين علیه السلام وعن إقامتهم لمجالس عزاء خاصة به وبأهل بيته عليهم السلام.

ويحدثنا المؤلف (هوارث) عن الترتيبات التي يقوم بها الهندوس تكريما لتلك المناسبة الحزينة، وقد كتب (هوارث) قائلا تحت عنوان (الهندوس يحيون ذكرى موت الحسین): (ألقيت الخطبة التالية (عن معاني كربلاء) ضمن مجلس عزاء نظمه أحد الهندوس لجمع من غير الشيعة ... والمجلس لقاء سنوي ينظمه الدكتور (إي سودار شان داس)، وهو زعيم محلي وناشط سياسي من ناحية (دابيرا بورا).

ص: 395


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55

و(سودار شان داس) من محبي فاطمة ابنة النبي وأم الحسين، وفي كل سنة يدعو جماعة من السياسيين غير الشيعة وسواهم من زعماء المجتمع ويقيم لهم مجلسا يخطب فيه أحد الشيعة ويلقب ب- (الذاكر)، ومقصده من ذلك أن تحصل لهم معرفة جيدة لمعاني محرم ومعركة كربلاء)(1)

وينتقل الباحث (هوارث) بنا إلى أجواء الاحتفالات ليعطينا بعض الصور عن

طبيعة تلك المجالس التي ينظمها الوجهاء الهندوس تخليدا للفاجعة، فيقول متابعا: (ويقوم في وسط هذه الجماعة (غير الشيعية) عشرون من الرجال والصبيان الشيعة، وهم يدركون تماما أنهم يؤدون منسکا دينيا بحضور طائفة من الناس، وهم إن يكونوا غرباء فإنهم يشاركون في المجلس بالصلوات على محمد وآله وبالبكاء وبعمل المأتم...)(2)

ومن الأبحاث الهامة التي تدعم المعلومات الواردة في كتاب الباحث (توبي هوارث)، هو ذلك البحث الذي يحمل عنوان (ذكرى الاستشهاد في بومبي وحيدر آباد) للكاتب والباحث البحريني (علي الشرقي) الذي عايش جو الاحتفالات ومآتم العزاء في الهند عن قرب.

وقد أكد الأستاذ (الشرقي) في بحثه المذكور أن الأمة الهندية التي تمثل الخليط الغريب لمختلف الأديان والمذاهب، تشارك جميعها في احتفالات عاشوراء وفي إقامة مجالس عزاء حدادا على مصاب الإمام الحسين عليه السلام ، شهید کلمة الرحمن وكرامة الإنسان.

ص: 396


1- Toby M. Howarth, The Twelver Shia As A muslim Minority in India Routledge – 2005 P.74
2- نفس المصدر السابق ص74

فمنذ ألف وأربعمائة سنة تقريبا، وحتى الآن، ولا تزال أصداء النهضة الحسينية تقرع أسماء العالم وتهز ضميره، ولا تزال شخصية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام تمثل عند ذوي الضمائر الحية والحرة من مختلف المذاهب والأديان أنموذجا فريدا للمنقذ والمخلص الحق الذي قدم وضحي بكل ما يملك من أجل تحقيق كل الأهداف النبيلة التي خرج من أجلها، وكذلك من أجل إثبات وترجمة قول جده الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : «حسين مني وأنا من حسین»، هذا القول الذي لا يختلف على صحته اثنان من المسلمين.

وعلى كل حال، بعد المقدمة الموجزة التي كتبها الأستاذ (الشرقي) عن مكانة تضحيات الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الأحرار، نراه ينتقل بنا إلى مشاهداته الحية في الهند، فيقول: (ففي الهند التي يقطنها خليط من المذاهب والأديان والاتجاهات، تجلت مظاهر الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره من أول يوم من المحرم، وفي كل ولاية ومدينة، تعبيرا عن الارتباط العاطفي والشعوري بالرجل الذي صار رمزا لكل ما ينشده الإنسان الحر في كل مكان)(1)

وبعد كلام الأستاذ (الشرقي) ووصفه للاستعدادات التي تقام تمهيدا لاستقبال شهر المحرم الحرام، ينتقل بنا للكلام عن إقامة مجالس التعزية في كل مكان مع التجاوز الكامل لكل القضايا الخلافية والحساسيات الدينية بين المذاهب، وقد ذكر الأستاذ (الشرقي) هذه المسألة وركز عليها بقوله: (والملفت للنظر حقا، أن مجالس التعزية هذه لم تقتصر على منطقة معينة في بومبي، ولا على أتباع مذهب معين، بل إن المسلمين على اختلاف مذاهبهم أقاموا مجالسهم في الشوارع والطرقات، حتى لقد

ص: 397


1- علي الشرقي، ذكرى الاستشهاد في بومبي وحيدر آباد، مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص71

صارت هذه المجالس وحضورها، يمثل مظهرا من مظاهر الوحدة الحقيقية التي أرادها الإمام الحسين عليه السلام ، وأعطى روحه الطاهرة ثمنا لها)(1).

وفي الكلمات التالية نرى أن هناك تطابقا كبيرا بين ما قاله الرحالة البرتغالي (بيدرو تکسیرا) وبين ما يقوله الأستاذ( علي الشرقي) حول مسألة سقاية الماء في ذكرى الاستشهاد، فما يحدث في بغداد يحدث أيضا في الهند، وبشكل خاص في بومبي وحيدرآباد.

وها هو الأستاذ (الشرقي) يتناول هذه الظاهرة العميقة في مضامينها الإنسانية والوجدانية، فيقول: (ومن الأمور التي تسترعي الانتباه، هو انتشار أماكن توزيع الماء على حب الحسين عليه السلام ، وهذا أيضا لم يكن مقتصرا على مذهب معين أو دين معين، فالمسلمون على اختلاف طوائفهم، والهندوس وغيرهم . حتى الأطفال منهم - يتسابقون لإقامة (سبيل) لتقديم الماء، إشارة منهم إلى أن الإمام الحسين عليه السلام قد قتل عطشان، وعلى العالم أن يتذكر ذلك ليعرف مقدار مظلومية هذا الإمام وغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومقدار الخسة والدناءة التي تشبعت بها قلوب أعدائهم المجرمين)(2).

وهكذا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام قد استطاع أن يوحد ضمائر الأحرار من كل المذاهب والأديان تحت رايته الإنسانية المصطبغة بدمائه الزكية، فكان حقا عليهم أن يتذكروه دائما وأبدا وكأنه حي باق بينهم لم يغادرهم ولم يفارقهم طرفة عين، وكأن حناجرهم بدورها أيضا، تهتف على الدوام في كل عاشوراء من كل شهر محرم:

ص: 398


1- نفس المصدر السابق ص71
2- نفس المصدر السابق ص72

(لا يوم كيومك يا أبا عبد الله الحسين !!)

هذه هي، باختصار شديد، قصة مأساة كربلاء وعلاقتها بالمسرح التراجيدي العالمي وبالفنون المسرحية الأخرى كالتعازي والطقوس الجنائزية الحزينة المتجذرة في العمق التاريخي والوجودي للإنسان في رحلته المضينة عبر قنوات الحياة.

وخير ما نختم به هذا الفصل الطويل، هو قول الدكتور (زكي مبارك): (ومقتل الحسين خاصة من الحوادث التي شغلت خواطر المسلمين أجيالا طوالآ، ولو كان التصوير من الفنون التي شجعها الإسلام، لملات صورة الحسين أقطار الأرض)(1) فتأمل وتفکر!!

ص: 399


1- الدكتور زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مصدر سابق ص54

دروس الفاجعة وآثارها

على الرغم من أهمية هذا الفصل وحساسيته الشديدة، إلا أنني قد ترددت كثيرا في كتابته وفي تحليل المعلومات والآراء الواردة فيه، وبعبارة أكثر وضوحا، لم أكن قد خططت بشكل مسبق لوضع هذا الفصل الهام ضمن هذا الكتاب المتفرد في طبيعته ورؤيته لفاجعة كربلاء

ويمكن أن أعزو إحجامي السابق عن كتابة هذا الفصل الهام إلى عدة أسباب

أعتبرها جوهرية وتستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار.

فالسبب الأول يعود إلى رغبتي الخاصة في أن يقوم القارئ الكريم شخصيا باستخلاص واستنتاج الدروس والعبر والآثار المتنوعة المترتبة على وقوع الفاجعة بعد أن يكون قد قرأ جميع الفصول السابقة في هذا الكتاب، وإذا كنا قد رغبنا في عمل ذلك بالفعل، فإن مرد ذلك إلى ثقتنا الكبيرة بقدرة القارئ على الدراسة والمقارنة والتحليل، ومن ثم على استخلاص النتائج المترتبة على ذلك كله.

أما السبب الثاني، فهو إيماننا الأكيد بأن هذا الفصل هو أهم الفصول وأكثرها

غنى وثراء بالمفاهيم والقيم والمعاني، وبالتالي فهو يحتاج حقيقة إلى أن یکون کتاب مستقلا، لا فصلا مستقلا.

نعم، إن كل فصل من الفصول السابقة أيضا يستحق أن يكون كتابا مستقلا قائما بحد ذاته، وربما يستحق أن تكتب عنه الكثير من الكتب والمؤلفات، ولكن هذا الفصل

ص: 400

بالتحديد هو أغناها وأثراها لأنه هو الفصل الأكثر والأغنى من حيث عدد الزوايا التي يمكن أن ينظر من خلالها إلى أبعاد الفاجعة وآثارها.

وعلى الرغم من وجود هذين الدافعين لعدم كتابة هذا الفصل، إلا أنني وجدت نفسي مرغما على التراجع عن هذا الإحجام، ورأيت أن عدم كتابته کفصل أخير وكخاتمة للكتاب سيظهر الكتاب وكأنه عمل مبتور وناقص.

ولذلك فقد عزمت على كتابته و اختتام الكتاب به مع الإقرار المسبق بأنني لن أفي الموضوع حقه كما ينبغي

ولكن المشكلة التي برزت أمامي بعد أن عقدت العزم على كتابة هذا الفصل هي المشكلة التالية:

هل سأذكر دروس الفاجعة وآثارها وأبعادها على حسب أهمية كل درس وأثر، أم حسب وجهة نظر كل مفكر ومستشرق وأديب ؟!

ولما كان من الصعب جدا أن نفصل بين الأسلوبين المذكورين، رأيت أن أقوم بعملية مزج بينهما على أمل أن يلقى ذلك قبولا حسنا عند القراء ويبعد عنهم تکرار قراءة بعض الأفكار والآراء التي قد يتولد عن تكرارها بعض الملل وفقدان عامل التشويق والانجذاب.

وليس هذا فحسب، بل رأيت أن يكون لي أيضا رأيي الخاص بي الذي يقوم على إبداء وجهات نظري ضمن التحليلات التي أقوم بها أثناء دراستي لوجهات نظر وآراء الأدباء والمفكرين والمستشرقين الذين أدلوا بدلائهم في هذا المجال. وبناء على كل ما سبق، دعونا الآن نبدأ باستعراض الدروس والنتائج المترتبة على خروج الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده العظيم مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه الكرام في

ص: 401

أرض كربلاء

وفي الحقيقة، إن مسألة الولاية هي واحدة من أهم النقاط التي أكدت الفاجعة نفسها ضرورة التمسك بها، فالولاية بطبيعتها منحة إلهية وهبة سماوية لا يجوز تجاوزها أبدا، وقد أكد القرآن الكريم هذه المسألة في العديد من آیاته الكريمة، ولعل أوضح وأبلغ آية كريمة في هذا المجال هي الآية الكريمة التي تقول:« إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1)، وهي آية كريمة لا يختلف على تفسيرها اثنان من المفسرين في ما يتعلق بالإشارة إلى أن (الولي) و(المتصدق) و(الراكع) هو، بلا أدنی ریب، أمير المؤمنين وإمام المتقين علي ابن أبي طالب علیه السلام.

وبالإضافة إلى وجود العديد من الآيات القرآنية الأخرى التي تثبت شرعية ولاية أهل البيت عليهم السلام على المسلمين، باعتبارهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فهناك أيضا الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد وثبت ما جاء في القرآن الكريم من حقوق الولاية لأهل البيت عليهم السلام دون سواهم.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يؤكد أن ولاة الأمر الحقيقيين والشرعيين من بعده اثنا عشر خلیفة وكلهم من قریش، وهذا الحديث مثبت في كتب وصحاح السنة مثلما هو مثبت في كتب ومؤلفات الشيعة، والرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يؤكد أيضا أن ولاة الأمر من بعده سيكون عددهم كعدد أسباط بني إسرائيل، وهذا الحديث له وجود قوي في مؤلفات السنة أيضا.

وهناك الكثير من رجال السنة الذين كتبوا كتبا خاصة عن ولاية أولئك الأئمة

ص: 402


1- سورة المائدة: الآية 55

الاثني عشر من أهل البيت المحمدي عليهم السلام، ولعل أبرز هذه الكتب وأشهرها هي کتاب (الأئمة الاثنا عشر) لابن طولون الحنفي، وكتاب (الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة) تأليف ابن الصباغ المالكي، وكتاب (تذکرة الخواص) لمؤلفه العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، وكتاب (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) لمؤلفه الإمام كمال الدين بن طلحة النصيبي الشافعي، وكتاب (ینابيع المودة) لسليمان القندوزي الحنفي، هذا بالإضافة إلى العديد من الكتب الأخرى التي تناولت ذكر إمامة بعض هؤلاء الأئمة الاثني عشر علیهم السلام مثل کتاب (نور الأبصار) للعلامة الشيخ مؤمن بن حسن الشبلنجي الشافعي، وكتاب (إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى) للعلامة الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي، وكتاب (الإتحاف بحب الأشراف) لمؤلفه العلامة الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي الشافعي، هذا بالإضافة إلى الكثير من الكتب السنية الأخرى التي تثبت الولاية للأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

وعلى كل حال، فإن الإمام الحسين عليه السلام قد أثبت من خلال ما أصابه أن الأمويين لم يكونوا في يوم من الأيام أهلا لولاية أمور المسلمين، بل كانوا مجرد غاصبين لها ومعتدين عليها ومن الطبيعي تماما أن يكون مخطئا كل من يعتقد أو يظن أن الإمام الحسين عليه السلام كان يريد من صراعه مع الأمويين، وعلى رأسهم معاوية ومن بعده ابنه يزيد، مجرد التنافس على استلام كرسي الحكم.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يكن همه أن يجلس على كرسي الحكم شأنه في ذلك شأن أي ملك أو حاكم أو حتى صاحب سلطة زمنية، بل كان هم الإمام الحسين عليه السلام أن يتولى بالدرجة الأولى القيادة الروحية والرسالية للأمة كي يعود بها ويسير معها إلى النهج الرباني الذي أراده لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم .

ص: 403

فالإمام علي عليه السلام يقول في إحدى مناجاته مع ربه العلي القدير، في الوقت الذي كان صراعه فيه مع مناوئيه على أشده: «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، وتظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودک»(1).

وعلى هذا النهج العلوي سار الإمام الحسين عليه السلام في صراعه مع مناوئيه الأمويين.

فالولاية والإمامة الإلهية لم تكن في يوم من الأيام إرثا للظالمين، بل كانت دائما وأبدا هبة إلهية لمن اجتباهم الله وفضلهم على البقية من العالمين بسبب قوتهم الإيمانية وعدالتهم الإنسانية المستمدة من معرفتهم المطلقة بخفايا الرسالات السماوية، هذا بالإضافة إلى استعداداتهم الروحية وقابلية طبيعتهم النورانية.

فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: "« وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(2)، وبالتالي فإن هذا القول الإلهي الخالد يوفر علينا الكثير من الكلام عن علاقة الإمامة والولايةبالظالمين من جهة وبالمطهرين المستحقين لها من جهة أخرى.

فالكاتب والأديب المسيحي (سلیمان کتاني) يتحدث عن ولاية أهل البيت عليهم السلام وعن تطور مفهوم میراث فاطمة الزهراء عليها السلام وكيف يتحول ذلك المفهوم من مجرد مفهوم جغرافي إلى مفاهیم روحية وفكرية سامية متعددة الجوانب والأبعاد، تبدأ من

ص: 404


1- آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، مصدر سابق ص98
2- سورة البقرة: الآية 124

(فدك) وتنتهي في (كربلاء).

ولذلك، فهو يقول موضحا ذلك: (كل الذين يرثون يتعين میراثهم إلا فاطمة الزهراء... كان إرثها مع أبيها نبوة، وأصبح في زواجها من علي إمامة، ثم ارتباطأ ببطولات - وتطور في فدك إلى صنوج تستثير إلى جهاد، وانقلب مع الحسن والحسين إلى امتداد القضية ثم إلى استشهاد)(1)

فالسيدة الزهراء عليها السلام هي الوعاء الأطهر الذي يجمع بين أنوار النبوة وأنوار الإمامة، وبالتالي فهي كلمة الولاية وقرآن الهداية.

وعلى ما يبدو، فإن نظرة العالم الأزهري السني (عبد الله العلايلي) إلى مفهوم الخلافة والولاية التي أثبتها الإمام الحسين عليه السلام لنفسه لا تختلف أبدا عن مفهومها عند ذلك الكاتب والأديب المسيحي (سلیمان کتاني).

فالعلامة (العلايلي) يطلعنا على مفهوم الولاية وحقيقتها التي أرادها سيد الشهداء عليه السلام من خلال إجراء مقارنة بين شريعة الأمويين وشريعة الحسين عليه السلام ، ولذلك نراه يقول في معرض تلك المقارنة الهامة والموضوعية:

(شاؤوا (أي الأمويون) أن يشهدوا رجل التقوى والعمل الصالح الذي ينبثق من معدن الرسالة ونجار النبوة وبيت الاصطفاء الإلهي، ثم يتمثل فيه الحق بأجلى معانيه ويظهر بأروع مظاهره، شاؤوا أن يروا المثل الكامل الحامي الوديقة في نصرة العدالة والحق، ينحني بصغار ويخضع بضعة ويستسلم بذلة، لرجل الباطل والفسوق والتجاوز والخروج والتحدي لله ولرسوله وللمؤمنين، والمجاهرة بدون مبالاة ولا ارعواء ولا احتشام، بكل ماتفرق منه الشريعة وترتعد له الإنسانية وترتجف به

ص: 405


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد، مصدر سابق ص631

الفضيلة.

شاؤوا أن يروا بيعة تتم على هذا الوجه وتنتهي على هذا الطراز الساخر، فلا تعجب إذا رأينا هذا الإمام ينظر إلى عهد کهذا العهد وبيعة کهذه البيعة كأنه نیر من نار، أفضل منه حر السلاح في هجير الحر، فقضى كذلك مستبسلا)(1).

ويتابع العلامة العلايلي مؤكدا وجهات نظره بقوله إن هناك واجبا وعلى الخليفة أن يقوم به، وإذا تجاوزه وجب على الأمة إسقاطه ووجبت على الناس الثورة عليه، وهذا الواجب الذي على الخليفة احترامه هو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة، وإلا فأي تظاهر بخلافه يكون عبثا وتلاعبا، فإذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه وتحدى الله ورسوله والمؤمنين، لم يكن الخضوع له إلا خضوعا للفسق والفحشاء والمنكر، ولم يكن الاطمئنان إليه إلا اطمئنانا للتلاعب والعبث والإعلان بالفسوق.

ثم ينتقل العلامة (العلايلي) للتعليق على قول الإمام الحسين عليه السلام تجاه یزید: «ومثلي لا يبايع مثله»، ويعتبر أن هذه العبارة من الإمام الحسين عليه السلام هي خير تعبير للكلام عن روح المبايعة وعن معنى العهدة وفلسفة الخلافة والولاية، ولذلك، فهو يعلق على ذلك بقوله: (يعني الإمام الشهيد بهذا أن المبايعة بيع النفس للخليفة الذي هو رمز الشريعة والدين ووحدة التقاليد والعقائد وحامي القرآن كتاب الله، وولي عهد المصطفى صلوات الله عليه، وإن المبايعة أيضا التضحية والاستماتة في سبيل الخليفة الرمزي وهي أيضا وقف كل مسلم نفسه على أن يلبي نداءه تعالى «أَطیعُوا اللّهَ وَ أَطیعُوا

ص: 406


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص 93

الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ»(1) فجعل طاعة الخليفة الرمزي من طاعته لأنه ينقذ أوامره جل شأنه )(2)

وهنا يخلص العلامة( العلايلي) إلى نتيجة هامة مفادها أن المبايعة استسلام وخضوع حتى الموت، وبعبارةأخرى، البيعة بيع النفس للخليفة، فهي رق اجتماعي وسياسي وديني، ومن ثم كان لزاما أن يتروى المرء كثيرا حين يبيع نفسه من أجل أن يعلم فيم يبيع ولمن يبيع.

ونتيجة ذلك كان من الضروري جدا أن يثور صاحب الولاية الحقيقية، الإمام الحسين عليه السلام، في وجه يزيد وأن يأبی مبايعته ولو كلفته تلك الثورة الكثير من الدماء، فأعلن الإنكار ولم يعط أذنه إلى من نصحه بالبقاء دون الخروج، لأن عدم خروجه، وإن تكن فيه سلامته، ففيه حتف المسلمين قاطبة.

واختتم (العلايلي) وجهة نظره بالقول: (ولقد استطاع عليه السلام أن يقول بملء رئتيه وبسعة شدقيه وأن يرسلها صيحة داوية تصم من أذن الفجور والبطل، وتبقى تدوي ما بقيت، وهي بعد كلمة الحقيقة الخالصة، (ومثلي) في لحمة الحق ومظهر دين الله، (لا يبايع مثله) في لحمة الشيطان ومظهر الباطل)(3).

وإذا كان الدرس الأول الذي نستخلصه من ثورة الحسين عليه السلام هو وجوب التمسك بالولاية على حقيقتها وبشروطها الرسالية المشروعة، فإن هذا الدرس الهام لا يمكن فصله عن الدرس الثاني المتمثل بكشف اللثام عن حقيقة الحكم الأموي الذي لا يمت إلى جوهر الإسلام وإلى حقيقته الروحية والإنسانية بأدنى صلة.

ص: 407


1- سورة النساء: الآية 59
2- نفس المصدر السابق ص94
3- نفس المصدر السابق ص95

فالإمام الحسين عليه السلام كان على بينة من طبيعة الأمويين وكيفية نظرتهم للدين والدنيا، فحقيقة أبي سفيان لا تخفى على أحد، وحقيقة من تقلد المناصب منهم بالمكر والدهاء لم تكن أيضا خافية على أحد، وبالتالي، فبمكرهم ودهائهم، وبسياسة الترغيب والترهيب استطاعوا امتلاك رقاب الناس حولهم.

وبالطبع، فإننا لن نتطرق الآن إلى ما فعله عثمان بن عفان بحق الإسلام والمسلمين، وكذلك الأمر بالنسبة لمعاوية لأننا تكلمنا عنه في أحد الفصول السابقة بما فيه الكفاية بأقل مستوياتها، ومع ذلك، فإننا سنتكلم عن الحكم الأموي بشكله العام، ذلك الحكم الدموي الوثني الأرعن الذي أثبت للجميع أنه حكم لا يليق بإنسانية الإسلام ولا بتعاليمه الرسالة وقيمه الأخلاقية.

إنه الحكم الذي اتخذ من الإسلام شعارا في الوقت الذي راح فيه ولاة الأمر من الأمويين يعملون السيف برقاب رموز الإسلام وأقطابه وأهله الحقيقيين أملا في اجتثاثه من جذوره وهدم بنيانه من الداخل.

فالباحث والعالم الإيطالي (ألدو ميلي) يقول في كتابه (العلم عند العرب):

(نشبت معركة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي، وخلفت وراءها فتنة عميقة الأثر، وعرضت الأسرة الأموية في مظهر سيئ، ولم يكن هناك ما يستطيع أن يحجب آثار السخط العميق في نفوس القسم الأعظم من المسلمين على السلالة الأموية والشك في شرعية ولا يتهم)(1).

والذي أثبت بالفعل عدم شرعية ولا يتهم في نظر المسلمين هي تلك الجريمة النكراء التي تضاف إلى سجل جرائهم السوداء السابقة، إنها جريمة قتل سبط رسول

ص: 408


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص47

الله صلی الله علیه و آله وسلم مع أهله وعياله علیهم السلام وكل أصحابه الأبرار الذين كانوا معه في محنته عندما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينبوعه الصافي ويخلصه من الشوائب والأكدار التي ألحقها به یزید ومن سبقه إلى كرسي الحكم تحت عنوان (الخلافة).

فالباحث والكاتب المصري المعروف (رفعت سيد أحمد)، مدير مركز يافا للدراسات يرى أن ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام هي ذكرى عزيزة على كل مسلم، شيعي أو سني لأن تلك الذكري العزيزة تمثل وقفة العز الحسيني في وجه الطغيان المتعدي على حدود الإسلام وحقوقه، ولذلك (جاء خروج الإمام الحسين على هذا الحاكم المغتصب للإمامة)(1).

لقد واجه الإمام الحسين عليه السلام وضعا مخيفا ومترديا في جسد الأمة وروحها حيث انقلب كل شيء فيها رأسا على عقب، فالسيوف التي شهرها الإسلام الأول في وجه الكفر والضلال انقلبت إلى سيوف بيد أدعياء الإسلام لمواجهة أهل البيت عليهم السلام وتصفيتهم جسديا وفكریا

والمنابر التي نادى بها الإسلام للإرشاد والهداية، قد تحولت إلى منابر للسب واللعن والبراءة، والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر قد تحولت عند الأمويين وأتباعهم إلى صلاة جوفاء تعمل عمل الستارة التي ترتكب وراءها عمليات الفحشاء والمنكر، أما الزكاة، فقد حولوها من واجب ديني يطهر النفوس ویزکیها إلى أداة لقتل النفوس وإماتة الضمائر والأحاسيس الحية.

لقد أسقط الإمام الحسين عليه السلام بخروجه واستشهاده في كربلاء شكل الإسلام

ص: 409


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء، مجلة (النور)، العدد / 107/ نيسان (إبريل)، 2000م،إصدار دار النور . لندن، راجع ص77

الذي يريده الأمويون، فهم يريدونه إسلاما يحفظ لهم مصالحهم وسلطاتهم وجميع امتیازاتهم وهم يريدونه أيضا إسلام الطقوس والأمور الشكلية الجوفاء، فإسلامهم المنشود هو ذلك الإسلام الذي يتغير حسب مزاج الحاكم وتبعا لأهوائه ومصالحه ورغباته، وهو بالتالي إسلام بلا ثوابت ولا ضوابط، بل هو عقيدة متلونة كتلون الحرباء في الغابة، يتلون بحسب لون الوضع السياسي القائم.

وإلى هذه الحقائق أشار الأديب والكاتب المسيحي الكبير (جورج جرداق) في حديثه عن تمزيق بني أمية للشريعة الإسلامية والأهدافها السامية التي تتجاوز في روحانیتها وإنسانيتها حدود الشعارات الشكلية والطقوس الظاهرية التي لا تعني شيئا إن لم ترتبط ببواطنها وبمعانيها الروحية والفكرية العميقة وانعكاس ذلك على أرض الواقع.

وبالطبع، فإن الأديب المسيحي (جرداق) لم يتحدث عن الجريمة التي اقترفها بنو أمية بحق الحسين وأهله علیهم السلام فقط، بل كانت نظرته لجرائم الأمويين نظرة شاملة وعامة يفهم من خلالها أن الحسين عليه السلام كان محقا في ثورته ضد يزيد وأعوانه، وذلك لأن يزيد، ومن كان قبله ومن سيكون بعده من الحكام الأمويين، لن يلعبوا إلا دور المخرب للإسلام والمدمر له من الداخل، على كافة الأصعدة وفي مختلف الميادين.

وهنا يحدثنا الأستاذ (جرداق) عن وضع الإسلام في ظل معاوية ويزيد وأتباعهما قائلا: (فأصبح الإسلام في نظر معاوية يعني التخلص من علي، وفي نظر أبي ذر الغفاري رفع الفقر والحاجة عن كواهل الجماعات وإيقاف موجة الفساد والطغيان وأصبح الإذعان لأوامر الإسلام ونواهيه في نظر ولاة بني أمية يعني تأليف الجيوش في خدمة البيت الأموي ومن والاه وعمل له، وتقتيل من لا يرون حقه في الخلافة، ثم

ص: 410

جمع أكبر كمية ممكنة من مال الخراج والجزية وسائر الضرائب بأعنف الوسائل...

وعلى هذا الأساس، كانت وظيفة الله في نظر عبيد الله بن زیاد هي مساعدته ومساعدة بني أمية في قتل الحسين بن علي وصغاره ونسائه...، وكانت وظيفة الله في نظر مسلم بن عقبة هي أن يبيح له نهب المدينة واستعراض أهلها بالسيف على صورة مروعة حتى إذا بلغ عدد القتلى على يديه في الأيام الثلاثة اثني عشر ألفا من الرجال، وبلغ ضعف هذا العدد من النساء والأطفال، وقف يقول مطمئن البال: (الحمد لله الذي شفي صدري بقتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم)(1).

إذن، فالدرس الثاني الذي يمكننا أن نتحدث عنه بشيء من الإسهاب هو إعطاء الناس عموما الصورة الحقيقية للحكم الأموي الغاشم، فاستشهاد الإمام الحسين مع أهله وأطفاله ونسائه وأصحابه بتلك الطريقة المأساوية الأليمة أعطت العالم درسا بليغا عن قساوة الحكم الأموي وابتعاده عن الإسلام من جهة، كما أن ذلك الاستشهاد المؤثر والمرير لحفيد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد سارع في تقويض الحكم الأموي وهدمه من جهة ثانية.

فالإمام الحسين عليه السلام في ثورته النهضوية لم يكن مجرد فرد، بل كان مشروعا ثوريا كاملا، ولم يكن الحسين عليه السلام مجرد شخص، بل كان أيضا منهجا فكريا متكاملا، ولأنه كان كذلك، فقد أراد يزيد وأعوانه أن يطفئوا نوره بأفواههم وأن يجتثواجذوره بأسيافهم، ولكن الحسين عليه السلام كان أقوى من الرياح وأصلب من الرماح.

نعم، إن جيش يزيد قتل جسد الحسين وقطعه ومزقه، ولكن ذلك لا يعني أن المقصود هو جسد الحسين عليه السلام فقط، بل إن ذلك يعني أن المقصود حقيقة هو نور

ص: 411


1- جورج جرداق، علي والقومية العربية، مصدر سابق ص183

الحسين وفكر الحسين وإيمان الحسين عليه السلام .

والدليل الأكيد على أنهم أرادوا ذلك من تمزيق جسد الحسين عليه السلام بكل وحشية وعنف، هو ما قاموا به بعد عدة سنوات من استشهاد الحسين عليه السلام في كربلاء

فالذي فعلوه بالإمام الحسين عليه السلام من تقطيع وتمزيق هو التعبير الأقوى للنوايا الدفينة والمكبوتة في صدور الأمويين والهادفة في حقيقتها إلى تقطيع وتمزيق القرآن الكريم ذاته، وهذا ما حدث بالفعل مع الحاكم الأموي اللاحق (الوليد بن یزید بن عبد الملك) الذي دعا بالمصحف الشريف فنصبه غرضا لسهامه، وأقبل يرميه وهو يقول غاضبا:

أتوعد كل جبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ماجئت ربك يوم حشر *** قل يارب مزقني الوليد(1)

وبالتالي، فإن قتل الإمام الحسين مع أهله وأطفاله في كربلاء، وتمزيق أجسادهم وتقطيع أوصالهم، ما هو في حقيقته إلا تمزيق للقرآن الكريم وتقطيع لسوره وآياته.

وبالمقابل أيضا، فإن تمزيق المصحف الشريف وتقطيع أوراقه بسهام الحاكم

الأموي الوليد بن یزید بن عبد الملك، ما هو في جوهره إلا إعادة قتل الحسين عليه السلام وتمزيقه وتقطيع أوصاله من جديد باعتباره هو الممثل الحقيقي والشرعي لرسالة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي كان يعتبر على الدوام أن الحسين عليه السلام منه وأنه هو صلی الله علیه و آله وسلم من الحسين جسدا وروحا ونورا وفكرا.

فالأديب والدكتور المسيحي المصري (نظمي لوقا)، وإن كان لم يشر بشكل مباشر إلى مأساة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، إلا أنه أشار بشكل واضح إلى

ص: 412


1- لدكتور فرج فودة، الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات . القاهرة، 1988، ص87

الأذى العظيم والظلم الكبير الذي لحق بأهل البيت عليهم السلام عموما في سبيل الله وفي سبیل رسالته وإعلاء رايته وصون كلمته وكرامته، وإن كان قد أشار إلى ذلك في كتابه (محمد الرسالة والرسول) بطريقة التلميح إلى المجازر العديدة التي ارتكبت بحق أهل البيت الشريف عليهم السلام من قبل أعدائهم المعروفين، إلا أن هذا الأسلوب في الإشارة إلى مظلومية أهل البيت عليهم السلام وإلى التضحيات العظيمة التي قدموها للإسلام وللإنسانية لا يروق للكثيرين من الأدباء والمفكرين الذين خاضوا بكتاباتهم في هذا الميدان.

ويعود السبب في عدم رضاهم عن هذا الأسلوب إلى ضرورة الإشارة الصريحة إلى مواطن الخطأ والخلل والزيغ والانحراف دون مجاملة ولا محاباة، فالحكم الأموي الذي ثار الإمام الحسين عليه السلام في وجهه هو آفة الإسلام وداؤه، ولذلك كان علي بن الحسين عليه السلام أن يهب ثائرا من أجل وقف تغلغل ذلك السرطان القاتل في جسد الأمة وفي هيكلها الفكري والروحي المتمثل بالرسالة الإسلامية المولودة حديثا على مسرح الحياة.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن الكثير من الأدباء والباحثين لم يكتفوا بالتلميح إلى حقيقة الأمويين وفظائعهم، بل أشاروا إلى ذلك إشارة واضحة وبعبارات بليغة لا تقبل التأويل أو التحريف.

وعلى سبيل المثال، فالمستشرق (رينولد نیکلسون) يشير إشارة واضحة إلىحقيقة الأمويين - وعلى رأسهم معاوية - وإلى موقف المسلمين منهم بقوله:

(اعتبر المسلمون انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصارا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتی

ص: 413

قضى عليها وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء والضراء وأزال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء ويستذلون الضعفاء ويبتزون الأموال، لذلك لاندهش إذا كره المسلمون بني أمية وغطرستهم وكبرياءهم وإثارتهم الأحقاد القديمة ونزوعهم للروح الجاهلية، ولاسيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الإسلام إلا سعیا وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكا كسرویا، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك)(1)

وبالتالي، فإن نهوض الإمام الحسين عليه السلام لإسقاط الحكم الأموي المتمثل وقتها بیزید بن معاوية هو نهوض لإسقاط الوثنية الأموية من جهة، ولإحياء معالم الإسلام من جهة أخرى، ولكن رب قائل يقول متسائلا:

نعم، لقد تأكد لنا أن الإمام الحسين عليه السلام قد استطاع من خلال استشهاده مع أفراد أهله وأطفاله أن يكشف للناس الطبيعة الدنيئة والوضيعة للنفوس الأموية التي لا تتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مصالحها ومكاسبها، ولكن هل كان لعملية قتل الحسین، سبط الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أثر بالغ على ديمومة الحكم الأموي؟!

وللإجابة على هذا السؤال الذي يمكن أن يطرح بشكل أو بآخر، دعونانستعرض سويةمجموعة من الآراء نبدأها مع البروفيسور اليهودي (برنارد لويس) (

B. Liwis) المولود عام / 1916/.

ص: 414


1- الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام (ج1)، مكتبة النهضة المصرية . القاهرة،1964 ج1 ص279

يقول هذا المؤرخ الإنكليزي اليهودي (لويس)، وهو المتخصص بدراسة الإسلام، إن لحادثة كربلاء تداعيات خطيرة جدا على كافة المستويات، وقد أكد هذا المؤرخ اليهودي ذلك الكلام في كتابه (العرب في التاريخ) قائلا: (في سنة / 681/ ميلادية قتل الحسين مع عدد من أهله وأتباعه على يد القوات الأموية في واقعة كربلاء، وكانت نتائج هذه الواقعة هائلة)(1)

أما المفكر والباحث الهندي (سيد أمير علي)، فيذكر في كتابه (مختصر تاریخ

العرب) أن المؤرخ الإنكليزي (جيبون) يرى أن كربلاء قد أدت بالفعل إلى تعاطف المسلمين عموما مع أهل البيت عليهم السلام مما يعني حدوث نفور وكره وحقد على الحكومة الأموية الجائرة، وقد عقب الأستاذ (أمير علي) على وجهة نظر المؤرخ (جيبون) بقوله: (إن مذبحة كربلاء قد هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا.. ساعد على تقويض دعائم الدولة الأموية)(2).

وذكر المستشرق الفرنسي (هنري ماسيه) في كتابه (الإسلام) أن لمعركة كربلاء نتائج لا تحصى من الناحيتين السياسية والدينية، وبشكل خاص يعدقتل الحسين مع أهل بيته ودخول جيش يزيد إلى المدينة واستباحتها، وحصاره لمكة وإحراقه للكعبة(3)

ولكن، وعلى ما يبدو، فإن للباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) رأيا مغايرا

بعض الشيء عن آراء من أسلفنا ذكرهم منذ قليل.

يرى الأستاذ (بارا) أنه كان لحركة الحسين عليه السلام هدفان أساسيان، الأول:

ص: 415


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55
2- نفس المصدر السابق ص46
3- هنري ماسية، الإسلام، مصدر سابق ص69

إحداث هزة عنيفة في كيان الأمة الإسلامية، وهذا هدف مبدئي، والهدف الثاني: وضع الأسس النهائية والمبادئ الضرورية لحفظ كيان العقيدة وروحها إلى الأبد، محاذرا بها أن تزل أو تضعف أو تذوب وتضمحل على أيادي أفراد وسلاطين و حکام متسلطين على الإسلام.

فسقوط عرش يزيد - كما يرى الأستاذ (بارا) - كان واحد ة من معجزات الثورة الزمنية أي تلك المتعلقة بأشكال الحكم القائمة، أو بالأفراد الذين يسوسون الأمة في تلك المرحلة، وإذا كان لهذه المعجزة من سبب وهدف فليس إلا لأنها متممة اللمعجزتين - الروحية والاجتماعية اللتين كانتاالهدف الأسمى لثورة الإمام الشهيد علیه السلام

فثورة الحسين عليه السلام التي انتهت باستشهاده جسديا، لم يكن الهدف منها إسقاط عرش يزيد وزلزلة الحكم الأموي فقط، بل كان الهدف من ذلك أبعد وأعمق مما يتصوره الإنسان العادي بكثير، فالثورة الحسينية المكللة بالشهادة لم تكن ثورة فرديةلمجتمع دون آخر، ولم تكن أيضا لزمن دون آخر، بل كانت ثورة الإنسان والرحمن،ما دام الإنسان ذو الفطرة الدينية السليمة هو المستفيد منها.

فمعركة كربلاء في شكلها الخارجي المادي، هي موقعة عسكرية، استطاعت الكثرة من خلالها أن تهزم القلة، أما من الناحية الرمزية والروحية، وکعبرة عميقة الدلالات موحى بها من السر الإلهي، فهي من جانب الحسين عليه السلام رمز لوقفة الحق وصموده في وجه الباطل على الرغم من ضعف وسائله وقلةذات يده أمام جحافل الظلم والظلام، في حين أنها من جانب یزید، و من وجهة نظره الضيقة، هي رمز لجولة الباطل على الحق وانتصاره عليه بكل الوسائل المتاحة على الرغم من بطلانها.

ص: 416

ومن هذه النقطة بالذات يرى الأستاذ (بارا) أنه يتاح لنا النظر إلى إكمال المعجزة الروحية الأساسية للثورة بمعجزة زمنية تتجلى في سقوط عرش یزید بواسطة ذلك الحق الذي كان ضعيفا بوسائله في ساحة كربلاء(1).

ولو قارنا بين رأي الأستاذ (أنطون بارا) ورأي الفيلسوف والحكيم الألماني (ماربين) حول الدروس والآثار الناتجة عن معركة كربلاء، نرى أن الرأيين متشابهان إلى درجة تبعث على الدهشة والاستغراب، ولكن، بنفس الوقت، فإن هناك استفاضة من قبل الحكيم (ماربين) في استنباط الدروس والعبر في دراسته المطولة عن آثار الفاجعة.

ومنعا لإعادة ذكر النقاط المتشابهة بين (بارا) و(ماربين) وخوفا من الملل الذي قد يصيب القارئ من جراء ذلك، نرى أن نذكر الآن تلك النقاط التي تفرد بها الحكيم (ماربين) وتميز بها عن الأستاذ (بارا).

يرى الحكيم الألماني (ماربين) في كتابه (السياسة الإسلامية) أن يزيد لم يكن يجهل مقاصد الحسين عليه السلام في إعلان الثورة ضد الأمويين منذ اليوم الذي استشهد فيه أبوه، الإمام علي عليه السلام، في الكوفة، ولكن الظروف لم تكن تسمح له بإعلان تلك الثورة العارمة ضدهم، وكان يزيد يعلم أيضا أنه لو قامت الثورة تحت قيادة الإمام الحسين عليه السلام ، وبوجود عنصر الكراهية والنفور من قبل المسلمين تجاه الحكومة الأموية وميلهم إلى الحسين عليه السلام ، فإن هذا يعني زوال ملك الأمويين وسلطانهم إلى الأبد، ولذلك فقد عزم یزید قبل كل شيء، ومنذ اليوم الأول الذي بويع فيه، على التخلص جسديا من الإمام الحسين علیه السلام الذي يمثل المحامي والمدافع الحقيقي

ص: 417


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص172

والشرعي عن دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وعن حقوق جميع الفقراء والمساكين والمستضعفين.

ويتابع ذلك الحكيم الألماني كلامه قائلا في كتابه المذكور إن أعظم البراهين والأدلة على أن الإمام الحسين عليه السلام قد أقدم على التضحية بنفسه ولم يكن له أي مطمع بسلطة زمنية أو كرسي رئاسية، هو معرفته المسبقة بعدم وجود قدرات عسكرية عنده مكافئة لتلك التي يمتلكها يزيد، وهذا بالإضافة إلى كونه يعلم مسبقا أنه سيقتل في أرض يقال لها كربلاء، والدليل على ذلك أيضا - كما يقول (ماربين) - هو أن الحسين عليه السلام كان يقول من اليوم الذي استشهد فيه والده أنه سوف يقتل، وأعلن أيضا يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل، وقد أظهر ذلك لأصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة، وحتى يتفرق الذين التفوا من حوله طمعا بالدنيا والمال كما كانوا يتخيلون، وبالتالي، فإن هذا كله يدل على أنه لم يكن للإمام الحسين عليه السلام أي مطمع دنيوي على الإطلاق، بل كان هدفه الأسمى إعادة بناء الهيكلية العامة للرسالة الإسلامية النقية الصافية، تلك الرسالة التي عمد الأمويون إلى مسخها وتقزيم أبعادها الروحية والإنسانية، علما أن خير الوسائل إلى دحر الأمويين وهزيمتهم كانت برأي الحسين تمر عبر طريق (الانفراد والمظلومية)، مع وضع أمر الشهادة نصب عينيه لأن ذلك سيكون من أشد المصائب ومن أكثرها تأثيرا على القلوب والنفوس(1)

ويغلب على الظن - برأي (ماربین) - أن غرض الإمام الحسين عليه السلام من هذا العمل الذي قام به في ثورته هو تفهيم العالم بقوة مبلغ عداوة بني أمية لحملة الرسالة من بني هاشم ويتابع (ماربين) كلامه قائلا: (ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على

ص: 418


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص118

تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحالة، وبتلك الكيفية، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية، منافية لقواعد كل دین وشريعة، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم، سيما المسلمين، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم، بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد)(1).

وأعتقد أن هذا الكلام من الحكيم الألماني (ماربين) يكفينا الآن، ولذلك سوف ننتقل سوية إلى آراء جديدة ووجهات نظر متعددة أخرى، مع العلم أننا سوف نعود ثانية للكلام عن رأي (ماربين) بالنصر العظيم الذي حققه الإمام الحسين عليه السلام باستشهاده من أجل الإسلام، رسالة الرحمن وخاتمة الأديان،وكيف أنه أحيا معالم الدين الجديد بإعطائه دماء الوريد.

ولقد ذكرنا في ما مضى من فصول أن هناك باحثا مصريا يدعى الدكتور (أحمد راسم النفيس) قد كتب كتابا لافتا للنظر بعنوان (على خطى الحسين)، وقد تحدثنا عنه بعض الشيء، وها نحن نعود إليه ثانيه لنتعرف على وجهات نظره تجاه دروس كربلاء والعبر المستفادة منها.

فبعد كلام الدكتور (النفيس )عن تفاصيل الفاجعة، نراه ينتقل بقارئه إلى تداعياتها وإلى آثارها المترتبة عليها، وها هو يستخلص أحد دروس الفاجعة بقوله: (هذه هي شريعة بني أمية وهي شريعة فرعون نفسها وشريعة كل طاغية... هذا هو صنيع بني أمية مع خير هذه الأمة أما وأبا، فكيف صنيعهم مع بقية الأمة؟! إنها سياسة الاستعباد والعبودية التي ورثناها منهم إلى يومنا هذا، لم تكن قضية فردية ولا شخصية كما

ص: 419


1- نفس المصدر السابق ص120

يحاول أنصار الحزب الأموي تسويغ مقتل الحسين عليه السلام أو تسويغ استمرارهم في السلطة بالمعطيات نفسها والأساليب عينها، يسيرون على خطى آبائهم وأجدادهم)(1)

ولذلك، وبناء على هذه الثوابت التاريخية، فقد رأى الباحث الدكتور (علي حسني الخربوطلي) في كتابه (10 ثورات في الإسلام) أن الإمام الحسين عليه السلام كان رجل الساعة وبطل الموقف حين ثار في وجه يزيد الأموي الذي لم يكن مؤهلا لتولي ذلك المقام على الإطلاق، ولم تكن صفاته الخلقية أو خبراته السياسية تؤهله لتولي ذلك المنصب الخطير.

وقد استشهد الدكتور (الخربوطلي) في كتابه المذكور على فظاعة ما قام به یزید وأعوانه بذكر الحادثة التاريخية التي أخذها من كتاب (المحاسن والمساوی) لمؤلفه (البيهقي)، والتي تقول: (غضب قيصر الروم لهذه الفاجعة فكتب إلى يزيد: قتلتم نبياأو ابن نبي)(2)

ويرى هذا الباحث السني، الدكتور (الخربوطلي) أن صيحة (يا لثارات الحسین) كانت من أهم العوامل التي قوضت بنيان الدولة الأموية، فقد كان لمقتل الإمام الحسين عليه السلام أثره البالغ في مسيرة التاريخ الإسلامي عموما، وكان هو السلاح الفعال ذو الأثر البالغ والعاجل في تمزيق ملك يزيد، إذ ما كادت تمر أشهر معدودة من عمر الزمان حتى قضی یزید تحبه(3).

وهنا نری، من باب الضرورة الملحة، أن نعود ونذكر بأن ثورة الإمام الحسين

ص: 420


1- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، مصدر سابق ص121.
2- الدكتور علي حسني الخربوطلي، 10 ثورات في الإسلام، دار الآداب . بيروت، ط 1978/2 ص86
3- نفس المصدر السابق ص87

علیه السلام علی یزید لا تعني أنها ثورة موجهة ضد یزید بعينه فقط، وإنما هي ثورة ضد یزید وضد أبيه معاوية، بل وضد كل الأمويين وأعوانهم ممن أرادوا أن يمتهنوا ويذلوا كرامة الإنسان وأن يشوهوا ويحرفوا تعاليم القرآن، ولو أن الظروف في زمن حکم معاوية كانت مواتية للحسين عليه السلام لإعلان ثورته لما توانی عن القيام بها طرفة عين، ولكن لكل حاد حديث ولكل مقام مقال، فالأسباب كانت حاضرة لكن الظروف کانت تجري برياحها عكس ما تشتهيه السفن وأشرعتها المتعبة.

فالرسالة الهامة المشهورة التي وجهها الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية والتي يفضح تاريخه وماضيه من خلالها، هي الشرارة الأولى التي كانت تنبی المسلمين بعدم جواز قبول الحكم الأموي الجائر على الأمة، وبالتالي فهي رسالة تنبئ بسقوط الدولة الأموية حتى قبل أن يعلن الإمام الحسين عليه السلام ثورته علی یزید بن معاوية وخليفته الآثم على المسلمين.

ونظرا لأهمية تلك الرسالة، فقد تناقلتها معظم كتب التاريخ الإسلامي، سواء منها الشيعية أو السنية، وقد رأى الرواة والباحثون في تفاصيلها بذور الثورة الحسينية التي ستفتك بالحكم الأموي بعد أن تظهره على حقيقته وتكشف أغراضه وأهدافه المتناقضة كليا مع أهداف الإسلام وغاياته الإنسانية الشاملة.

وحتى لا نعود ثانية إلى ذكر تلك الرسالة الهامة بكل تفاصيلها، فها نحن نعود إلى التذكير ببعض ما جاء فيها مستعينين على ذلك بكتاب (الإمامة والسياسة) وهو الكتاب الشهير بكتاب (تاریخ الخلفاء) للإمام العالم (ابن قتيبة الدينوري) (

213- 176 ه-).

فبعد المقدمة الموجزة في الرسالة، يعدد الإمام الحسين عليه السلام لمعاوية مجموعة الجرائم السوداء التي ارتكبها ويذكره بما قام به من أقبح الأعمال التي تتنافي بشكل

ص: 421

عام مع أبسط المبادئ الدينية والقيم الأخلاقية الإنسانية.

فالإمام الحسين عليه السلام يذکر معاوية بجريمته النكراء بحق عمرو بن الحمق الخزاعي.

والإمام الحسين عليه السلام يذکر معاوية أيضا بجريمة قتل حجر بن عدي وأصحابه لمجرد أنهم من أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام السائرين على نهجه وخطاه.

ومن خلال تلك الرسالة الهامة أيضا، يذكر الإمام الحسين عليه السلام معاوية الفاجر الغادر بما قام به من تحليل للحرام وتحريم للحلال، وتعطيل للحدود والأحكام، وتهديم لأركان الإسلام.

ولم ينس الإمام الحسين عليه السلام أن يذكر معاوية في تلك الرسالة باستلحاقه (زیادابن أبيه) بنسبه السفياني واتخاذه أخا وتأميره على الناس بالرغم من سوء منبته(1)

وقد جاء في بعض الكتب أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام كتب في نفس الرسالة مخاطبا معاوية بشأن (الحضرمي) قائلا - وبرأي الخاص، هذا هو الأكثر صحة مما أورده الدينوري -: (أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين علي فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمه صلی الله علیه و آله وسلم الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه)(2).

ومهما يكن من أمر، فإن الإمام الحسين عليه السلام كان، منذ استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يتحين الفرصة المناسبة والظروف المؤاتية لإعلان ثورته على الطلقاء

ص: 422


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي - القاهرة، د.ت، ج1 ص156
2- محمد مهدي شمس الدين، ثورة الإمام الحسين، مصدر سابق ص110

الدخلاء على الدين الجديد.

ونحن نعلم جيدا أن الثورة الصحيحة في منطلقاتها والسليمة في غاياتها هي في حقيقتها ذلك الاحتجاج النهائي الأكثر فاعلية و حسما على الواقع السلبي المعاش في كل أبعاده، فالثورة - أيا كان شكلها - هي عملية الکي التي يقوم بها الطبيب الحكيم بعد استنفاد كل طرق ووسائل العلاج الأخرى.

وقد استطاع الإمام الحسين عليه السلام مع تلك الزمرة القليلة من المحيطين به أن يحققوا كل الأهداف المرجوة من ثورتهم على ساحة كربلاء، وربما كان موت هؤلاء الأبطال الحسينيين واستشهادهم حول سبط النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم بتلك الطريقة المؤلمة، بل والوحشية، التي أرادها لهم أعداء الإسلام هي التي لعبت دورا هاما في إيصال رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى العالم كافة بطريقة أسرع وأشمل

فالمستشرق الإنكليزي (د.ج. هوکارت) كان قد تنبه إلى هذه المسألة في كتابه (الجزيرة العربية)، وقال عنها مؤكدا عليها: (دلت صفوف الزوار التي ترحل إلى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما تزال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الإسلامي بأسره - كل هذه المظاهر - استمرت لتدل على أن الموت ينفع القديسين أكثر من أيام حياتهم مجتمعة)(1)

وربما يتفق كلام المستشرق الإنكليزي (هوکارت) مع كلام المستشرق الألماني (يوليوس فلهاوزن) بطريقة أو بأخرى حول هذه النقطة المطروحة الآن، فالمستشرق (فلهاوزن) يقول بدوره: (بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكريا، فإن الاستشهاده معنی كبيرا في مثاليته وأثرا فعالا في استدرار عطف كثير من المسلمين

ص: 423


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص48

على آل البيت)(1)

وليس هذا فحسب، بل حتى المستشرق الهنغاري (أجناتس غولدتسيهر) المعروف بتحامله الشديد على الإسلام وعلی أعلامه البارزين، نراه يشير من بعيد إلى هذه النقطة الحساسة، ونراه يشير أيضا - بنفس الوقت - إلى أن دماء الشهداء المسفوحة في كربلاء قد مهدت الطريق لقيام العديد من الثورات لاحقا ضد الظلم والقهر على مدى امتداد التاريخ الإسلامي المبكر، وقد عبر عن ذلك بقوله: (قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي (یزید) نزاع دام، وقد زودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء... اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم مظهرا عاطفيا)(2)

ومن خلال كل ما تقدم قوله، نلاحظ بوضوح أن دم الإمام الحسين ودم أطفاله

وعياله عليهم السلام وأصحابه الكرام الأبرار رضی الله عنه قد زعزع العرش الأموي الدامي وتسبب لاحقا في إسقاطه وتقويض أركانه من الجذور بعد أن ظن كل من اعتلاه أنه سيدوم لهم ولذريتهم من بعدهم إلى الأبد.

وبعد هذا نرى أنه من الأنسب لنا أن ننتقل إلى أثر آخر وإلی بعد جدید من آثار وأبعاد الثورة النهضوية التي أخذها الإمام الحسين عليه السلام على عاتقه وفجرها في وجه الطواغيت والفراعنة بكل ما يملك من قوة إيمانية وأهداف رسالية استمدهما من روح المسؤولية المترتبة على مقام الإمامة والولاية المتجلي فيه عليه السلام هذا بالإضافة إلى نور النبوة الذي ورثه عن جده المصطفی صل الله علیه اله

فالإمام الحسين عليه السلام هو من قام بالثورة، وهو الذي قدم كل ما يملك في سبيلها

ص: 424


1- نفس المصدر السابق ص48
2- نفس المصدر السابق ص51

وهو - بالدرجة الأولى - من أعطاها أبعادها الفكرية والإنسانية العامة، ومن هنا يمكن أن يقال إن القائمين بالثورات النهضوية هم دائما وأبدأ أصح أفراد الأمة وأكثرهم وعيا وشعورا بالمسؤولية.

نعم، قد لا يكون جبروت الطاغوت ذاتيا ومطلقا في غطرسته بقدر ما يكون نابعامن صمت الناس وخوفهم من إطلاق صرخة احتجاج في وجهه، بل حتى من إطلاق صرخة ألم في وجه الجلاد الذي يذيقهم أقسى أنواع العذاب، ولكن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا أبدا.

فالذي لا يقبل أن يبقى صامتا أمام الظلم هو ثائر، والذي لا يقبل أن يكون شاة في قطيع تحكمه الذئاب هو ثائر أيضا، والذي لا يقبل أن يعطش هو وقومه في فصل الشتاء، فيهت مطالبا بحقوقه ومنتزعا إياها من أيدي محتكری نعم السماء المباحة في أساسها لكل الناس، هو أيضا ثائر حتى ولو كانت ثورته من أجل نهلة ماء.

ولذلك نقول إن البعد الجديد والدرس الأكيد الذي يمكن أن يتعلمه كل إنسان من ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء هو إعادة الحسابات في مسألة عمق الإيمان بالمبادئ والقيم التي يحملها كل واحد منا في داخله.

ولا تعني مسألة الإيمان هنا مجرد الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبرسالته وما تحوي من تعاليم دينية، بل تعني أيضا القيم والمبادئ الإنسانية التي يؤمن بها الفرد شخصيا ويسعى لتحقيقها ونشرها مهما كان الثمن غاليا في نظره.

فالثائر والبطل القومي الإيطالي (جوزيبي مازيني) ( G.Mazzini) (1805۔ 1872) يقول في إحدى مقولاته الشهيرة: (لماذا نخاف الموت إذا ما كنا على حق؟ خير للمرء أن يموت في سبيل فكرته من أن يعمر طويلا خائنا لمبدئه، جبانا عن

ص: 425

نصرته)(1).

وهذا الكلام من الثائر والبطل الإيطالي (مازيني) يتفق إلى حد بعيد مع کلام

الثائرة الفرنسية القديسة (جان دارك) (Jeanne D'arc)

(1412- 1431 )التي ناضلت بكل قوة وشجاعة ضد الاحتلال الإنكليزي، والتي قبض عليها وحكم عليها بالإعدام حرقا بالنار، وقد نفذ فيها الحكم الصادر ظلما من قبل الإنكليز فماتت حرقا دون أن تضعف أمام جلاديها، بل قالت وهي على عمود المحرقة: (الموت بالنار أهون من الحياة بلا عقيدة)(2)، فتحولت بنظر محبيها إلى شهيدة قديسة قضت في سبيل الحق والحرية والعقيدة التي يهون في سبيلها كل شيء.

وإذا كان موت هذه الثائرة البطلة قد جعل منها شهيدة وقديسة بعد أن قدمت نفسها قربانا على مذبح الحق والحرية، فماذا يمكننا أن نقول نحن عن الإمام الحسين عليه السلام الذي قدم أشقاءه وأبناءه وأطفاله وأصحابه، ومن ثم نفسه، قرابين وأضاحي على طريق التعاليم الرسالة والقيم الإنسانية التي تتجدد بدمائهم مع كل جيل؟!

وبناء على هذا التساؤل الطبيعي الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا فإنه من الممكن أن نؤكد على حقيقة أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مجرد ثورة عادية قائمة من أجل شرف رسالة الإسلام فقط، بل هي في حقيقتها ثورة الأديان جميعها في وجه الظلم والباطل وكل ألوان الانحراف والفساد.

وها هو المفكر المسيحي البارز (أنطون بارا) يؤكد على مصداقية هذه الفكرة

الهامة، فيقول: (ففي الهدف ثبت أن ثورة الإمام كانت دفاعا عن كل الرسالات

ص: 426


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391
2- جبران مسوح، الاشتراكية البسيطة، دار القلم . بيروت، 1954، ص50.

السماوية التي سبقتها ما دام هدف الرسالات تقديم المثال الحي على خلودها بالاستشهاد المعمد بالدم، والحسين عليه السلام تمم بها ما بدأه جميع الأنبياء الذين ذاقوا الاستشهاد حرقا وقتلا وذبحا وصلبا)(1).

ومن الواضح تماما أن المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) على اتفاق واضح - من حيث المبدأ والنتيجة - مع ما يقوله الأستاذ (بارا) بشأن طبيعة الثورة الحسينية وأبعادها الفكرية والعملية، ولذلك نراه يستشهد في الكثير من صفحات کتابه (الإسلام الشيعي) بأقوال وكتابات للمفكر الإيراني البارز، الدكتور( علي شريعتي) ويثني عليها، وكان من جملة ما ذكره في ما يتعلق بموضوع بحثنا المطروح الآن هو القول التالي: (ففي كربلاء، لم يستطع أعداء الحسين الانتصار إلا على أجساد الشهداء، ولكن إيديولوجية الشهداء كانت تدين أولئك الناس ونظام حكمهم... إن الحسين قد حقق نفس المعجزة التي حققها موسي عندما أخجل سحرة فرعون ورجال دينه، وحقق بدم الشهداء ما كان يحققه عيسي عندما يرسل نفخته التي تعيد البصر إلى العميان والحياة إلى الموتی... ولم يكن ذلك محدودا بزمانه، وبلده وحدهما، ذلك أن الشهادة ليست الحرب، إنها مهمة، وليست سلاحا، ولكنها رسالة( إنها كلمة تلفظ بالدم)(2).

وبالفعل، لقد أثبت الإمام الحسين عليه السلام باستشهاده، وبتقديم أعز وأغلى ما يملك، أنه وارث الأنبياء وخليفتهم في رسالاتهم وفي تحقيق معجزاتهم وأمجادهم، فإيمان الحسين عليه السلام بكل حركة كان يقوم بها، وبكل هدف نبيل كان ينشده، وبكل آية

ص: 427


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص81.
2- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص85

قرآنية كان يستذكرها، هذا بالإضافة إلى إيمانه الراسخ والعميق بالله الحكيم الذي لا يرضى بالظلم ولا يقبل بالضلال ولا يتهاون مع الباطل، كل هذا جعل الإمام الحسين علیه السلام على بينة من ثورته ومن نتائجها ومردود حصادها، فالمسألة مسألة حق وباطل، الحق بوجهه الواحد مع الباطل بوجوهه العديدة إنه صراع القيم والأهداف حيث لا يقيم الإمام الحسين عليه السلام أي وزن للكثرة التي سيواجهها في صراعه الفكري والمبدئي، وحتى العسكري إن اقتضى الأمر ذلك، ولذلك، فقد أصاب تماما المؤرخ الأسكتلندي (توماس کارلایل) (Thomas Carlyle) عندما قال عن نتائج الثورة الحسينية: (إن خير درس نستخلصه من فاجعة كربلاء هي أن الحسين وأصحابه کانوا حقا أشد المؤمنين بالله، لقد أوضحوا أن الكثرة ليس لها حساب حينما يكون الأمر أمر

الحق والباطل، إن انتصار الحسين على قلة ناصريه يثير في الأمجاد)(1).

ويحق للمؤرخ والمفكر (کارلايل) أن يستشعر الأمجاد في نفسه بفضل الحسين وإيمان الحسين عليه السلام، ولم لا وهو صرخة الرحمن في ضمير الإنسان، وهو البقيه الباقية من إرث السماء على الأرض !! إنه الإمام الذي أحال الدم المسفوح إلى شفق من شعاع الروح.

فالإمام الحسين عليه السلام الذي أعاد رسم خارطة الإسلام بأعضائه الممزقة وأعاد تلوينها بدمائه المسفوحة على رمال الغربة في ساحات العطش والوحشة والوحدة.

وعلى وقع نشیده التراجيدي الحزين: (وا قلة ناصراه)، لم يكن في يوم من الأيام إلا رجل الإيمان والمبادئ، بل لا نبالغ إذا قلنا عنه إنه الرجل الذي تختبر عنده الرجال في كل ما يحمله أولئك الرجال من قيم وأهداف ومبادئ.

ص: 428


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: - http: H//en. Wikipedia. Org/wiki/ Husayn – ibn : Ali

وها هو العلامة السني، الشيخ (عبد الله العلايلي) يقول في معرض حديثه عن الدروس والعبر المستخلصة من كربلاء: (الحسين شخصية إيمان ومبادئ، وشخصية دعة وسلام ولقد أرانا في كل جانب ألوانا، فكان جزء من تاريخه عقيدة، والجزء الآخر جهادا، فکتب الخلود له، وکتب علينا أن نأتم به لنجرب إيماننا في الجهاد وجهادنا في الإيمان)(1).

وليس هذا فحسب، فمن الأرض التي شهدت مصارع الأبطال، ومن التربة التي ضمتهم إلى صدرها، وقد اغتسلوا وتطهروا بدمائهم، سيخرج صوت الحسين عليه السلام هادرا ليسمع الأجيال ويوقظ الإنسانية على حقيقة أنه من بين العدوان على الحق، وتجاهل العدوان، ينبعث الأبطال ويخرج الأحرار، وعلى نبرات مثل هذا الصوت فقط يتأتى للإنسانية أن تغسل الكثير من آثامها وتخلص من أدرانها وتتطهر من أرجاسها، حتى تعود إنسانية كما أرادتها شرائع السماء واحتفلت بها الأديان، وحتى تكون إنسانية عمادها المثل العليا والفضائل الصالحة والخير المطلق وإحقاق الحق، فإن لهذه الخصال وحدها ضحى الحسين)(2).

ففي الوقت الذي أراد فيه يزيد أن يحول الدين إلى مزرعة أموية، وأن يجعل من السلطة سوطا بيده ويد أعوانه المقربين، كان الإمام الحسين عليه السلام يفكر في شيء آخر تماما، فالحسين عليه السلام حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالب دنيا ولا جاه، إنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يغلب ولا يقهر، ولقد رأى أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان.

ص: 429


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص360
2- نفس المصدر السابق ص92

ويؤكد العالم الأزهري (خالد محمد خالد) على هذا الكلام بقوله إن الإمام الحسين عليه السلام كان يتألم كثيرا لتلك الخطيئة التي ترتكب أمام عينيه كل يوم، إنها خطيئة الصمت والسكوت التي يمارسها الناس رغبة حينا ورهبة أحيانا، فما من شك في أن يزيد كان آثما وخارجا بسوء أفعاله عن الدين وآدابه وأخلاقيات، ولكن هذا لا يعني أن الآثم الوحيد هو يزيد أو ابن زیاد أو ابن سعد، بل إن الذي يشارك أولئك في آثامهم هي الرعية ذاتها، تلك الرعية التي تقبل بالصمت على الأخطاء التي يمارسها الجلاد عليهم وهم خانعون، وهي تلك الرعية التي تراقب ما يحدث لمقدساتها من انتهاكات سافرة على يد من يدعي أنه حاميها وأنه المدافع عنها دون أن تنبث تلك الرعية المستكينة والخانعة ولو بكلمة استنكار صادرة من القلب تجاه ذلك الطاغي الباغي الذي يعبث بمقدساتها ويستبيح محرماتها دون وازع من ضمير أو أخلاق.

ويختتم الأستاذ (خالد) كلامه عن حصاد الفاجعة بقوله: (ويلقانا من حصاد کربلاء ودروسها العظيمة، جلال الإيمان وسلطانه القاهر... كانت بيعة يزيد دعما السلطان الجاهلية على حساب الدين... ودعما لسلطان القبيلة والأسرة على حساب الأمة.. وهكذا صارت مقاومتها دعما لسلطان الدين والأمة معا... وهكذا، وفي سبيل إيمانه الوثيق والعريق، ضحى البطل الشهيد براحته، ثم بحياته.. وضحى معه أهله الأقربون، وصحبه الأكرمون)(1).

وعلينا أن نتذكر دائما صواب ما قاله هذا العالم الأزهري (خالد محمد خالد) عندما وضع عدة مقدمات بسيطة ليصل بعد ذلك إلى نتيجة عظيمة بفحواها، وعميقة بمعناها.. إنها تلك المقدمات التي وضعها بالشكل الاستفهامي التالي:

ص: 430


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص193.

(أليس كل مسلم كان أو سيكون، يختم صلاته قائلا:

التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله...

اَلسَّلامُ عَلَیكَ اَیُّها النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهْ،

اَلسَّلامُ عَلَیْنا وَعَلَى عِبادِالله الصَّالِحین

اَشْهَدُ اَنْ لااِلهَ اِلاّاللهُ، وَاَشْهَدُ اَنَّ مُحَمَّداً رسول الله

(ٱللَّٰهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ)...

أليس (الحسين) من أولئك الآلي..؟!

أليس هو درتهم الفريدة والمجيدة..؟!

إذن، فإن لهؤلاء الذين يصلون عليه عبر الزمان والأجيال حقا عظيما سيقتضيه تضحيات عظيمة.

وبالتالي، فإن النتيجة الحتمية والمنطقية لكل ما سبق من أسئلة وحقائق، هي: (إن ملايين المسلمين في كل العصور والأزمان، يصلون عليه في صلواتهم آناء الليل وأطراف النهار)(1)، فللإمام الحسين عليه السلام حق عظيم على المسلمين لا يزال البعض منهم يجهله أو يتجاهله، على الرغم من أنهم يصلون عليه فرضا واجبا خمس مرات كل يوم!!

وعلى كل حال، عندما يقول السياسي والعالم الأميركي (بنیامین فرانکلین)

(1706 -1790 )(B.Franklin) في حديث له عن الشهادة ودورها في تطهير المجتمعات وبنائها: (إن الشهداء هم الذين وضعوا أسس الحضارة، وقد وضعت

ص: 431


1- نفس المصدر السابق ص104

أسسها على أشلائهم)(1)، فقد أصاب جوهر الحقيقة تماما، فالحضارةهي اللحظة الأخلاقية في المدنية، وبالتالي فلا معنى للمدنية ولكل التطورات التي تحدث فيها ما لم تكن تلك التطورات مرتبطة أساسا بالقيم الأخلاقية وبالأهداف الإنسانية القادرة على تحويل المجتمع من مجتمع مديني إلى مجتمع حضاري بعيد قدر الإمكان عن تشويه إنسانية الإنسان وتحريف ثوابته الأخلاقية التي تنادي بها كل الشرائع والأديان، وحتى النظريات والفلسفات الأخلاقية.

وبالتالي، من كالأنبياء والرسل والحكماء والشهداء سيكون قادرا على تحمل مسؤولية تصحيح مسار المجتمعات وتصویب انحرافاتها والحفاظ على كل مفرداتها الأخلاقية والإنسانية؟!

بل من هو ذاك الذي سيكون قادرا على حفظ قداسة الأهداف وجلال الفضائل کالشهيد الذي لا يتوانی لحظة واحدة عن تقديم دمه فدية لكل مقدس نبيل ولكل خلق فضيل؟!

لقد صدق القائل عندما عبر عن ذلك بقوله شعرا:

نحیی الطهارة في بيتها *** إطار الطهارة قدس ودم

فبدماء الشهداء تصان المقدسات وعلى أشلائهم تنهض المجتمعات والحضارات.

أما الآن، فإننا سنقف مع شخصية تبدو للبعض أنها غريبة بعض الشيء، وقد تزداد هذه الغرابة إذا علمنا أن تلك الشخصية التي سنستمع إلى عبرهاالتي استخلصتها من فاجعة كربلاء هي شخصية (سيد قطب)، أحد أهم أعلام الإخوان المسلمين في الوطن

ص: 432


1- محمد قره علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391

العربي من محيطه إلى خليجه.

فالأستاذ (قطب) (1903 - 1966) هو أديب مصري وكاتب إسلامي بارز، وهو أيضا شاعر وناقد، كان من أبرز أعلام الإخوان المسلمين، وقد أعدم نتيجة لذلك، ومن أهم آثاره المطبوعة كتاب (في ظلال القرآن) و(کتب وشخصيات) و(التصوير الفني في القرآن)، هذا بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات الدينية والأدبية والنقدية الأخرى.

لقد كتب هذا الأديب والباحث الإسلامي عن فاجعة كربلاء وعن أسسها

ومقوماتها، وكتب أيضا عن العبر والدروس المستفادة من تلك الثورة المجيدة التي فجرها سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام، الذي كان يحلو لجده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم أن يدعوه دائما ب- (ابني)(1) و(ريحانتي) إمعانا منه صلی الله علیه و آله وسلم في إظهار مقام سبطه الحسين عليه السلام عنده ومكانته منه.

وعلى أي حال، ها هو الأستاذ (قطب) يبدأ حديثه عن العبرة في ذكرى أبي الشهداء، بقوله: (دم ودموع، وسمو واستعلاء، وألم يفري الضلوع، وعزة للنفس وإباء، تلك ذكرى أبي الشهداء.

ما اجتمع الألم القاسي والعزة الطولى، كما اجتمعتا في هذه الذكرى، الألم لذكرى تلك الدماء النقية الطاهرة ما ارتوت الأرض بأطهر منها، والعزة بذلك الشمم العالي ما شهدت الأرض مثله، وإنها لمزيج مقدس تطهر بها الأرواح وتتزکی، وتسمو به الإنسانية إلى السماوات العلا، وإنه لمقام تتطاول إليه الأعناق لتقبس العيون

ص: 433


1- الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، الإتحاف بحب الأشراف، المطبعة الأدبية بمصر1316ه-، ص40

والقلوب من نور هداه، ولترى كيف ترتفع إليه البشرية إلى الملأ الأعلى، وكيف تصمد الروح لآلام الجسد، وكيف تحتمل النفس ما لا طاقة به لبشر وكيف تصفو وتشف فإذا هي نور يتحدى النار، فيكتوي ولكنه ينتصر مدى الأدهار(1)

وبعد هذه المقدمة الرائعة المسبوكة بشفافية الكلمة وبقوة العبارة وبجمال

الصورة، ينتقل بنا الأستاذ (قطب) إلى السؤال الذي طرحه على نفسه:

ما العبرة في ذكرى أبي الشهداء؟!

وما أن يسأل هذا السؤال حتى يتبعه بالجواب قائلا: (هي عبرة العقيدةالتي لا تضعف، والإيمان الذي لا يهن، والعزة التي لا تستخذي، والإباء الذي لا يقهر، والقلب الشجاع الذي لا تردعه الأهوال.

وهي في الجانب الآخر، عبرة النفس الإنسانية حين تمسخ، والطبع البشري حين ينتكس، والشر اللئيم الخسيس حين تسعفه القوة المادية، والنذالة القذرة المنتنة حين تواتيها الظروف؟

وما الذي صنعته الأيام والدهور بهذا وذاك ؟!

لقد خلدت العقيدة والإيمان والعزة والإباء والقلب الشجاع، خلدتها في القلوب

نورا وإيمانا وعقيدة تذكيها القرون والأجيال...

ولقد دفنت الطبع المنتكس والشر اللئيم والنذالة القذرة، وعفت على هذه الصور البشعة، إلا أن تذكرها بالمقت والازدراء.

ألا فلينظر الشباب أي الطريقين يسلك اليوم بعد ألف وثلاثمائة عام، لينظر

ص: 434


1- سيد قطب، العبرة في ذكرى أبي الشهداء، مجلة (الموسم)، العدد /12/، مصدر سابق ص124

أيسلك طريق الخلود الكريم، أم طريق الفناء المهين؟!)(1).

تلك هي العبر التي استقاها (سيد قطب) من أحداث الفاجعة، وذاك هونداؤه

للشبيبة المسلمة ودعوته لها للاقتداء بسيد الشهداء أبي عبد الله الحسین علیه السلام .

وبما أننا قد وعدنا القارئ بالعودة إلى مقالات الفيلسوف الألماني (ماربين) حول الدروس العظيمة التي ألقتها فاجعة الإمام الحسين عليه السلام علينا، فإننا نرى أن الوقت قد حان فعلا للوقوف على تلك الدروس والآثار المهمة التي خرج بها ذلك الفيلسوف الألماني بعد دراسته العميقة لها وتحليله الدقيق لكل بعد من أبعادها.

فقبل كل شيء، يقول (ماربين): (إن الحسين قد أحيا بقتله دین جده وقوانين الإسلام)(2)، ثم ينتقل بعد ذلك للقول: (كأن المسلمين بعد قتل الحسین قد دخلوا في دور جدید وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مدرسه غائبة عن أذهان المسلمين... وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسين على جميع مصائب السلف، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية آل محمد).. فكانت أول نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم، وخصوصا في أولاد الحسين (فكان منهم أئمة الشيعة)، ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين... وصار یزید یسمع تقدیس الحسين وأولاد علي وعظمتهم

ص: 435


1- راجع ما جاء في أ. نفس المصدر السابق ص124 ب. لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص18
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص117.

و مظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير، وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بد غير السكوت، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسين، وقال يزيد ذات يوم: إن سلطنة الحسين كانت أهون علي من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم)(1).

فالمقام الروحي الرفيع الذي احتله الإمام الحسين عليه السلام في قلوب المسلمين كان أشد وقعا على يزيد من استلامه مقاليد الخلافة على الأمة - هذا في حال لو أن الحسين قد استلمها فعلا - وبالتالي، فإن يزيد كان يشعر أن خلافة الحسين عليه السلام واستلامه مقاليد أمور الأمة أهون عليه من المكانة الروحية العالية التي حظي بها الإمام الحسين وآل علي عليهم السلام عموما في قلوب المؤمنين من المسلمين الذين لم يقبلوا أن يبيعوا ضمائرهم ولا أن تهدر كرامتهم أمام من تاجر بالرسالة واعتدى على كتابها وقام بتصفية رموزها.

ونحن لا نشك أبدا في أن عدد ذلك النموذج من المسلمين الصامدين الصادقين كان قليلا جدا، وذلك نتيجة السياسة الإعلامية الظلامية التي انتهجها معاوية للتعتيم على حقيقة مكانة أهل البيت عليهم السلام من جهة، ونتيجة سياسة الترهيب والترغيب التي اتبعها هو وابنه يزيد مع المسلمين من جهة أخرى.

ولذلك، يرى بعض الباحثين أن أروع لحظات الاستشهاد البطولية لا تظهر إلا في لحظات الانحدار الروحية التي يعاني منها العدد الأكبر من الوجود الجمعي. ولكن ما أن يقوم البطل الشهيد والقائد الثائر بتقديم كل ما يمكن تقديمه من إمكانيات وتضحيات ودماء وأرواح، حتى تعود القوة الروحية للانبعاث في المجتمع

ص: 436


1- نفس المصدر السابق ص122

السقيم والمتعب من جديد.

فالمجتمع الإسلامي قبل ثورة الإمام الحسين عليه السلام كان مريضا لدرجة فقدان الأمل بعودة الرسالة الإسلامية إلى سابق بريقها بعد أن فقدته بشكل شبه كامل على يد السرطان الأموي الذي راح يفتك بجسدها يوما بعد يوم، ولكن، وبالرغم من كل ذلك، فقد خرج الإمام الحسين عليه السلام لإعلان الثورة شاهرا مبضعه لاستئصال ذلك السرطان المخيف.

وبالفعل، لقد خرج الحسين عليه السلام - كما يقول الأستاذ (أحمد عباس صالح) - وهو يحسب أن كل الناس ما زالوا يطلبون العدل الاجتماعي، وكان الحسين عليه السلام منذ اللحظة الأولى قد اختار دوره لأنه كان يعرف مسبقا ما ستكون عليه نتائج ثورته،فطبيعته ترفض كل ما يحدث حوله في صفوف المسلمين، فالسيف والإرهاب يطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يبايع أبدا ويأوي إلى مكة، وفي مكة يتقاطر عليه الناس يدعونه إلى الخروج والثورة.

ولو لم يطلب إليه الناس ذلك لكان قد خرج أيضا أو لمات قهرا على الإسلام (1).

وقد أشار الأستاذ (صالح) إلى مسألة إعادة شجن المجتمع روحيا ورفع مستواه المتردي إلى المستوى الذي كان يريده له جده صلی الله علیه و آله وسلم وأبوه عليه السلام من خلال التضحية الكبرى التي سيقدمها قريبا على رمال كربلاء، فالخاطر الذي لم يفارق الإمام الحسين عليه السلام طرفة عين هو أنه مقتول بغير شك إذ إنه كان يردد دائما أن الموت کتب على ابن آدم...

وأكد الأستاذ (صالح) أيضا على أن الإمام الحسين عليه السلام (كان يضع موته في كفة

ص: 437


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص161

وثقته في الناس في كفة، فهو لم يفقد الثقة في الجوهر الكامن في النفس الإنسانية، ذلك الجوهر النازع إلى الارتقاء الروحي)(1).

وهنا يأتي دور الدرس الأشمل الذي استخلصه الأستاذ (صالح) من ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، فيقول في آخر صفحة من صفحات کتابه (اليمين واليسار في الإسلام): (وبذلك انتهت أول جولة لليسار مع اليمين،انتهت بأروع استشهاد وأعظم بطولة، وكانت شهادة الحسين أعظم انتصار للثورة لأنها تغلغلت في الضمير العربي، وأحيث الضمائر التي خنقها الإرهاب)(2)

إذن، لقد تسببت ثورة الإمام الحسين عليه السلام في انبعاث الروح النضالية في صدر الإنسان المسلم من جديد بعد فترة طويلة من الهمود والجمود والاستسلام، ولقد كانت الآفات النفسية والاجتماعية - كما يرى العديد من الباحثين المختصين - تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يثور على واقعه، وأن يناضل عن ذاته وعن إنسانيته، فجاءت ثورة سید الشهداء عليه السلام لتحطم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي من شأنها أن تقف في وجه تفجير الثورة وانطلاقها من مهدها الحسيني العزيز.

وحتى نتعرف جيدا على مدى تأثير ثورة الحسين عليه السلام في بعث روح الثورة في المجتمع الإسلامي يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع السقيم قد أخلد إلى السكون والخنوع ما يقارب العشرين عاما قبل الثورة الحسينية، إذ إنه لم يقم خلالها بأي ثورة على الرغم من توفر الأسباب والدواعي إلى النهوض والثورة خلال تلك السنوات الطوال.

ص: 438


1- نفس المصدر السابق ص165
2- نفس المصدر السابق ص170

ولذلك، فعندما يكتب الداعية الإسلامي السني، الشيخ (عبد الرحمن النجار)،

المدير السابق للمركز الإسلامي بدار السلام في تنزانيا، تحت عنوان (من ذكريات کربلاء) قائلا:

(ومضى الأعداء في إيلام الحسين فقتلوا آل بيته أمام عينيه ثم اجتمع الأعداء حوله وأصابوه إصابة قاتلة ولقي ربه شهيدا... ومضى في التاريخ يوم كربلاء رمزا لعدوان الباطل على الحق، وصمود الحق حتى آخر لحظة من لحظات حياته، وتأكيدا لأن الاستشهاد في سبيل العقيدة والمبدأ هو خير حياة...)(1)، فعندما يكتب ذلك الداعية الإسلامي هذا الكلام الصائب عن معنی کربلاء ومعنى الثورة الحسينية، فإن هذا يعني أن الثورة الملونة بالدم هي العامل الفعال في إيقاظ المجتمع النائم من غفوته، واستنهاضه من كبوته، وهي الدم النقي المتجدد الذي سيجري من جديد في كل خلية متيبسة وفي كل ورید.

وهنا أريد أن أتوقف قليلا مع أحد أهم وأبرز المفكرين والباحثين العرب المعاصرين، الذي أثرى المكتبة العربية والإسلامية بالكثير من مؤلفاته الفكرية المتنوعة، والذي كانت تربطني به معرفة شخصية متميزة خلال إقامتي في مدينة بيروت عام / 1993/ وما بعده، إنه الدكتور( مصطفى الرافعي) الذي كان يدرسنا مادة تاريخ الفقه الإسلامي في معهد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في الضاحية الجنوبية في بيروت.

لقد كان الدكتور (الرافعي)، وهو مسلم سني، يحدثنا عن الإمام علي عليه السلام وعن سید الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، وعن كل إمام من الأئمة الكرام عليهم السلام وكأنه حفظ سيرة حياة كل منهم عن ظهر قلب، ولا زلت أذكر حتى الآن كيف أن أحد الأحاديث

ص: 439


1- عبد الرحمن النجار، خواطر مؤمنة، دار الرائد العربي . بيروت، 1982، ص183

الخاصة قد دار بيننا عن مقومات ثورة الإمام الحسين عليه السلام وعن نتائج ودروس تلك الثورة الحمراء التي انتهت بافتداء الإسلام بدم الإمام الحسين ودم أهله وعياله علیهم السلام وبدم أصحابه الغر الميامين رضی الله عنهم الذين لم يرضوا أن يتركوه وحيدا في ساحة الموت والشهادة، في ساحة العز والشرف والفداء.

ولذلك، فعندما قرأت مقال الدكتور (الرافعي) الذي يحمل عنوان (وبقي الحسين سيرة لا تموت وحديثا لا يفوت) لم أستغرب ما جاء فيها من عبارات وكلمات تدل على أنها نبعث من قلب صافي ثم انسالت على الورق بكل رقة وشفافية وإيمان، إن الكلمات التي كتبها في ذلك المقال هي نفس الكلمات التي كان يسمعني إياها في جلساتنا الخاصة معه بعد انتهاء الدروس والمحاضرات، وأحيانا أثناءها.

وعلى كل حال، دعونا نقرأ شيئا عن الدروس والعبر التي أخذها دكتورنا (الرافعي) من ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، سبط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك، فإنه يبدأ كلامه عن دروس الفاجعة بالقول: إن في استشهاد سيدنا ومولانا الحسين بن علي وابن محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عظاة وعبرا لا يجوز لنا أن نمر بها غافلين.

ففي هذه الذكرى الكريمة ينبغي أن نتلقى دروسا في الوفاء والاستشهاد في سبيل الحق والعقيدة وإعلاء كلمة الله.

وبعد هذه المقدمة الموجزة عن دروس كربلاء، ينتقل بنا الدكتور (الرافعي) إلى التفصيل في الكلام حول معاني الفاجعة ودروسها، ونراه يفتتح تفصيل الكلام بقوله: (وليس مثل هذا الدرس من عبرة ولا مثل هذه التضحية من استشهاد، وإن وقفة على شرفة الزمن واستعراضا للأحداث الجسام التي جرت للإمام الحسين ليست وحدها

ص: 440

هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحسين... فإن حياة الحسين وتاريخ الحسین وجهاد الحسين يشمل زمنا بأحداثه، وإن أندية المسلمين وجوامعهم وحسينياتهم حين تحتفل بهذه الذكرى كل عام، فإنما تحتفل بذكرى الفداء العظيم الذي أقدم عليه الحسين مقتحما المنايا طلبا للآخرة وحماية للدين، ولافتا أنظار المسلمين في كل زمان ومكان إلى أن الفداء هو منزلة أفذاذ الرجال وصفة عظماء الأبطال، وأعظم هؤلاء جميعا من يخوض الصفوف ليحمي المال والأرض، ويصون الدين والعرض، بلا خوف من قوت ولا وقوع على موت، وإنه ليس في هذه الخلائق كلها أفضل من بطل يسفك دمه ليبقي قومه، ومن مقدم بدنه قربي إلى الله لينقذ روحه، ومن مفکر عاقل يغض بصره عن يومه لیری غده، ولا ضير عليه أن تنفصل أجزاؤه وتتفرق أشلاؤه - كما جرى للإمام الحسين - فكلنا نؤمن بوعد الله للشهداء وأهل الفداء حين يقول: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1)(2)

ولا يخرج كلام الدكتور (عمر فروخ) قيد أنملة عن معاني الكلام الدكتور (مصطفى الرافعي) بشأن الدروس المستفادة من كربلاء، فالدكتور (فروخ) الذي درس التاريخ الإسلامي جيدا وحلل معظم أحداثه المفصلية الهامة، وعلى رأسها فاجعة كربلاء، نراه يفتتح إحدى مقالاته الهامة عن فاجعة كربلاء و مصائب الإمام الحسين عليه السلام بقوله: (لم يعرف التاريخ مأساة شغلت الإنسانية كمأساة الحسين بن علي عليه السلام )، ثم ينتقل بعد ذلك للقول: (إن شجاعة الحسين بن علي يجب أن تكون حية في قلوبنا حتى نرهب بها المعتدي ونرد بها الظالمين

ص: 441


1- سورة آل عمران: الآية 169
2- الدكتور مصطفى الرافعي، ويبقى الحسين سيرة لا تموت وحديثا لا يفوت، مجلة (الموسم)،العدد/ 13/، المجلد /4/، مصدر سابق ص389

إننا لم ننصف الحسين عليه السلام مهما عظمت ذكرياتنا ومهما تنوعت تلك الذكريات أو تعددت إذا كنا نحيي ذكراه في كل عام بأفواهنا وجفوننا فقط ثم لا نجعل تلك الذكرى حمية دائمة في قلوبنا وقوة مرهبة في أيدينا، إن علينا أن نقتدي بسيدنا الحسين ونسير على ضوء منهاجه اللاحب ونهتدي بهديه والسلام عليه)(1).

وما من أحد يشك في أن هناك تفاوتا وتباينا في عمق النظرة إلى كربلاء، وربما يكون مرد ذلك إلى اختلاف الزاوية المنظور إلى الفاجعة من خلالها، ففي الوقت الذي ينظر البعض إليها من منظار الشجاعة ومن زاوية البطولة،ينظر البعض الآخر إليها من زاوية المحاولة الجادة لتغيير مسيرة التاريخ وإعادة عجلة الحق إلى مسارها الصحيح في طريق الإنسانية.

فالباحث والمفكر اللبناني، الدكتور (عبد المجید زراقط) واحد من أصحاب النظرات العميقة في تحليله لآثار الفاجعة وتداعياتها، فهو لا يقبل بالرؤية السطحية البسيطة لما حدث على الساحة الإسلامية في العاشر من محرم الحرام، بل نراه ينتقل في دراسته وتحليله لذلك الحدث من المقدمات والمعطيات البسيطة والسطحية إلى الخوض في عمق ذلك الحدث الجلل الذي لا نزال نعاني من آثاره في مجتمعاتنا الشيء الكثير.

وقد لخص الدكتور (زراقط) كلامه عن أبعاد الفاجعة وحقيقتها، بقوله:

(وهكذا تبدو کربلاء، في حقيقتها، حركة تاريخية تهدف إلى تغيير وجهة سير التاريخ وإعادتها إلى الاتجاه الأصوب الذي حدده الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، وهي، وإن لم تنجح عسكريا حين حدوثها، فقد كانت واجبا شرعيا يؤدی من ناحية أولی، ووضعت

ص: 442


1- الدكتور عمر فروخ، الحسين المثل الأعلى للاستشهاد ، نفس المصدر السابق ص17

أسس التحرك التاريخي، في الحالات المماثلة، على مر العصور من ناحية ثانية)(1).

وبالطبع، فإن هذا ليس هو كل شيء بالنسبة للدكتور (زراقط)، بل بإمكاننا أن نلاحظ أن هذا الدكتور الباحث يحاول أن يغوص أكثر في دراسة وتحليل ماحدث في ذلك اليوم التاريخي العظيم، فيقول مستنتجا: (وفي غمرة احتدام المعركة، وكانت نتائجها واضحة منذ بدايتها، أدى الحسين عليه السلام وأصحابه واجبهم، وواجهوا مصيرهم بشجاعة منقطعة النظير، وبإصرار على بذلك النفس في سبيل أداء الواجب الذي لا يكون إلا من أمثالهم، وما كانوا يرتمون على الموت، وإنما كانوا يوظفونه في سبيل شق طريق التغيير أمام الأجيال التالية)(2)

ومما لا شك فيه هو أن الكثير من أصحاب النظرة العميقة في تحليل الحدث الذي زعزع أمة الإسلام على اتفاق كامل مع المعنى العام للنتائج التي توصل إليها الدكتور (عبد المجید زراقط) في نهاية حديثه عن أبعاد الفاجعة وتفصيل نتائجها على المستويين الإسلامي والإنساني، ولذلك، فقد أصاب أيضا الباحث والمفكر المغربي (أحمد بوعود) عندما كتب تحت عنوان (دواعي التغيير في قومة الحسين): (وهكذا،لم ير الشهيد الحسين أحدا يجب عليه التغيير قبله، فهو أحق الناس به... فهو يقول متمما خطبته: «وأنا أحق من غير...» ولم يكن الإمام يضع في حسبانه ما سيواجهه في قومته، أو على الأصح، لم يكن يبالي، ما كان يهمه هو أن يقوم بهذا الواجب الذي أصبح مطوقا به حفاظا على دين الله عز وجل وسنة جده المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما أحوج المسلمين اليوم إلى دراسة قومة الحسين، في شمولية وتكامل،

ص: 443


1- الدكتور عبد المجيد زراقط، كربلاء بين رؤيتين، نفس المصدر السابق ص79
2- نفس المصدر السابق ص79

حتى يستوعبوا تاريخهم، ويتعرفوا إلى طرق النهضة والتحرر من ثقل قرون

الانحطاط، فهي حلقة أساس لا يمكن بحال من الأحوال إغفالها)(1).

وعلى كل حال، هناك العديد من الكتاب والباحثين، من غير الطائفة الشيعية، لا يختلفون في آرائهم عن رأي كبار المفكرين والباحثين الشيعة بشأن الرؤية العرفانية الاستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في غربته دفاعا عن عقيدته، فالكاتب السني (توفيق أبو علم) - وهو واحد من مجموعة من الأمثلة - يؤكد في كتابه (الحسين بن علي) على صدق ما يقال في المؤلفات الإسلامية الشيعية عن حقيقة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام

وكان من جملة ما قاله عن الإمام الحسين عليه السلام في كتابه المذكور: (فهو (أي الحسين عليه السلام ) قد بين أهل الحق من أهل الباطل، فهو في ذلك يشبه القرآن الذي هو بینات من الهدى والفرقان، إلا أن القرآن صامت والحسين إمام ناطق، والقرآن نافع لمن يتلوه والحسين نافع لمن يزور قبره، والقرآن جديد لا يبلى مع التكرار، والحزن على مقتل الحسين لا يبلى على مر الليالي والأيام، وقراءة القرآن عبادة والاستماع إليه عبادة والنظر إليه عبادة، والحسين رثاؤه عبادة واستماع رثائه عبادة والجلوس في مجلسه عبادة والهم والحزن له عبادة، وتمني الشهادة بين يديه عبادة والسلام عليه عبادة)(2).

وليس هذا فحسب، بل نرى أن الأستاذ الباحث (أبو علم)، وهو الباحث المتخصص في دراسة تاريخ أهل البيت عليهم السلام ، يؤكد على أن جمهور السنة يشاركون

ص: 444


1- أحمد بوعود ، دواعي التغيير في قومة الحسين، مجلة النور، العدد / 107، مصدر سابق ص79.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص206.

المسلمين الشيعة بحبهم القوي والشديد للإمام الحسين عليه السلام الذي قضى شهيدا في سبيل الحق، هذا بالإضافة إلى اتفاقهم الواضح معهم بشأن صحة الأحاديث التي تنبأ فيها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بمقتل الحسين عليه السلام في أرض کربلاء فداء لرسالته الإسلامية التي بعث بها رحمة للإنسانية ورأفة بالعالمين أجمعين.

فالشاعر والأديب الألماني (شیلر) ( Schiller) ( 1805-1759(

) يقول موضحاالعلاقة بين الخلود والفناء من جهة، والشهادة من جهة أخرى: (بئس الرجل رجل يفر من الاستشهاد، إنه كالذي يفر من الخلود إلى الفناء)(1).

أليس هذا القول للأديب والشاعر الألماني (شیلر) يشابه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام الشهير: «اقتحموا الموت، فرب جريء كتبت له السلامة، ورب جبان لقي حتفه في مكمنه، إن المجاهدين قد باعوا أرواحهم واشتروا الجنة»(2)؟!

لا ريب أن التشابه واضح بشكل جلي لا غبار عليه، فالشهادة تبرز في هذين القولين على أساس أنها مفتاح الخلود الأبدي وبوابة النعيم الأزلي، وهذا مما لاشك فيه أبدا، ولكن السؤال الآن هو:

كم هو عدد الذين صنعوا ما صنعه الحسين عليه السلام في كربلاء؟!

وهل هناك في التاريخ المديد من ضحى بأشقائه وأبنائه وأطفاله وأصحابه، ثم

بنفسه، فداء لمبادئه وعقيدته مثلما فعل الحسين عليه السلام؟!

نعم، إن التاريخ يحدثنا عن أناس كثيرين ضحوا بأنفسهم من أجل مبادئهم

وأهدافهم، ولكن ذلك التاريخ لم يحدثنا، ولو عن شخص واحد، ضحى بالذي ضحى

ص: 445


1- محمد قره علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391
2- نفس المصدر السابق ص391

به سید الشهداء وسبط الرسول العظيم صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام .

وإذا كان التاريخ قد حدثنا عن أبطال حقيقيين قد اقتحموا جبهات الموت غير مبالين بالنتائج المترتبة على اندفاعهم في سبيل أهدافهم، فإن ذلك التاريخ ذاته لم يستطع أن يحدثنا عن بطل كالحسين عليه السلام استطاع أن يقتحم حصون الموت وقلاع المنايا دون أن يرف له جفن أو أن ينقبض له قلب خوفا من الموت الذي جعله يرى كل أهله وعياله وأصحابه صرعی حوله وبين يديه، معفرین بالتراب ومضرجين بالدماء.

ففي كتاب (الشهيد الخالد الحسين بن علي) يتحدث الأديب والمفكر المصري (أحمد حسن لطفي) عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالموت في سبيل الحق والمبدأ، فيقول: (إن الموت الذي كان ينشده فيها كان يمثل في نظره مثلا أروع من كل مثل الحياة لأنه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهي، ولأنه السبيل إلى الانتصار وإلى الخلود... فأعظم ببطل ينتصر بالموت على الموت)(1)

وإذا كان الأستاذ (أحمد حسن لطفي) قد ركز على دور الإمام الحسين عليه السلام في لقاء الموت ومواجهته في سبيل قضيته العادلة وأهدافه النبيلة، فإن الأديب والكاتب (عمر أبو النصر) قد رأى من خلال كتاب (آل محمد في كربلاء) أن كل شهید من شهداء جيش الإمام الحسين عليه السلام هو صورة مطابقة في حقيقتها لصورة سيد الشهداء من حيث نبالة الأخلاق وسلامة المقصد وقوة الإيمان وعزة النفس وعظمة البطولة والتضحيات.

وها هو يصف تلك الأسرة الطاهرة بقوله: (وهذه قصة أسرة من قريش حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها... قصة ألف

ص: 446


1- راجع مجلة (أهل البيت)، الطبعة العربية، العدد /50/، مصدر سابق ص43

فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أن الله شرف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوة والوحي والإلهام في منازلها... فلم يشأ لها حظ الرجل العادي من عباده، وإنما أرادها للتشريد والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها أن تتزعم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذریتها...)(1)

وهكذا نرى أن دروس الفاجعة وآثارها وعبرها تكاد لا تنتهي، ففي كل حركة من حركات الإمام الحسين عليه السلام درس لا ينسى، وفي كل قول من أقواله حكمة أو عبرة لا تمحى، ولكل مشهد من المشاهد الدرامية على أرض التضحية والفداء أثر خالد لا يفنی.

وانطلاقا من هذه الحقائق الثابتة، دعونا نتوقف قليلا مع درس جديد من دروس مدرسة الإمام الحسين عليه السلام الاستشهادية، تلك المدرسة التي أعطت البشرية درسا خالدا لا ينسى في معنى الفداء العظيم.

فالإسلام - بدون أدنى شك - يقدس الفداء كمفهوم عقائدي ويحض على احترامه والعمل به من أجل الحق والخير والفضيلة، ولكن العقيدة المسيحية ترفع مفهوم الفداء إلى مرتبة عظيمة جدا بحيث تضعه فوق كل اعتبار، وحجة المسيحيين في ذلك هو أن السيد المسيح عليه السلام قد فدى العالم بنفسه وطهر البشرية بدمه وخلص الإنسانية من الخطيئة الأولى وتبعاتها بآلامه وعذابه الشديدين قبل ارتفاعه إلى السماء.

ولأن مفهوم الفداء له مكانته الخاصة عند كل الأديان الأخرى أيضا، دعونا إذن نقوم بجولة سريعة مع بعض المفكرين والشعراء والأدباء لنرى ما تعلموه من الإمام

ص: 447


1- نفس المصدر السابق ص43

الحسين عليه السلام عن معاني الفداء العظيم.

فالأديب والباحث المسيحي (أنطون بارا) يمهد للكلام عن معاني الفداء التي تعلمها من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام بقوله: (والسيرة العطرة لحياة سيد شباب أهل الجنة، واستشهاده الذي لم يسجل التاريخ شبيها له، كانا عنوانا صريحا لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمة المثالية في أخذ العقيدة وتمثلها، فغدا حبه كثائر واجبا علينا كبشر، وحبه کشهيد جزءا من نفثات ضمائرنا، فقد كان عليه السلام شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعا حمى العقيدة من أذى منتهكيها، ودفع عنها خطر الاضمحلال، وكان انطفاؤه فوق أرض کربلاء مرحلة أولى لاشتعال أبدي، كمثل التوهج من الانطفاء، والحياة في موت)(1)

بهذه الكلمات والعبارات يمهد الباحث المسيحي (بارا) الطريق أمام الحديث عن عقيدة الفداء في النهج الحسيني، ومن هنا، فقد كتب الأستاذ (بارا) قائلا تحت عنوان (فداء الحسين في الفكر المسيحي): (وبمقياس الجود بالنفس الواحدة مقابل سلامة العقيدة أو بعثها من البدء، فإن الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام والشهداء زکریا ویحیی وعلي والحسن والحسين والعباس( بن علي عليه السلام ) وغيرهم.. أدوا رسالتهم الكاملة بما يرضي الله سبحانه تعالى كما رسمها لهم، وكانت أنفسهم الطاهرة هي القربان الذي قدموه على مذبح الشهادة)(2)

ولكن لا يظن القارئ الكريم أن هذا الكلام هو غاية ما أراد الأستاذ (بارا) قوله لنا بشأن فداء الحسين عليه السلام، بل ها هو يتوسع في شرحه لنا حول هذه النقطة الهامة التي

ص: 448


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص65
2- نفس المصدر السابق ص80

ينظر إليها من منظور مسیحی تارة، ومن منظور إنساني عام تارة أخرى.

ولذلك، دعونا إذن نصغي إليه وهو يقول متابعا: (فإذا كانت الأديان السماوية تنزل ويفدى لها بنفس رسولها، وتنشر فيفدى لها بنفس ناشرها، وتحمي

فيفدى لهابنفس حاميها.. فبأي وصف أو مقياس يمكن لنا ولأجيال المؤمنين من بعدنا أن نقيس ثورة الحسين عليه السلام التي قدم فيها عترة آل البيت وصحبه الأخيار، وكان ثمن دفاعه عن انحراف العقيدة ثلاثا وسبعين نفسا طاهرة هي أسرة النبي الذي أنزلت الرسالة به... فهل يمكن قياسها بمقياس ما قدمت، أم بمقياس ما زالت تقدمه؟!)(1).

ولأن الفداء له أهميته العظمى في العقيدة الدينية المسيحية، فقد رأى الأستاذ (بارا) أن فداء السيد المسيح عليه السلام للبشرية لا يعادله إلا فداء آخر... إنه فداء الحسين.

ولو وقفنا الآن سوية وطلبنا من الأستاذ (بارا) قائلين:

هل يمكنك أيها الباحث المسيحي المؤمن بفداء المسيح عليه السلام أن تلخص لنا ماتريد أن تقوله للناس عن فداء الإمام الحسين عليه السلام وأهدافه؟!

وما من شك في أن الجواب سيكون حاضرا على مرمى أسماعنا، وذلك لأن

الجواب على سؤالنا موجود بالفعل في العديد من صفحات کتابه الذي ذكرناه سابقا.

وعلى أي حال، ها هو الجواب قد أتانا، وهو يقول فيه بلهجة المتسائل العارف بالحقائق: (فإذا الله جل شأنه فدى إسماعيل من الذبح بعد أن صدق أبوه الرؤيا... فهل يرضى سبحانه بذبح الحسين ابن بنت نبيه؟! وكم كان غضبه عظيما حين ذبح فداء للحق الإلهي، وهو الصادق الأمين على هذا الحق، وعلى سنة الله في خلقه؟!

وكم هو حري بنا نحن البشر الضعفاء أن نقف بقلوب حزينة وعيون دامعة أمام

ص: 449


1- نفس المصدر السابق ص80

أحداث هذا الذبح الذي لم تسجل الأديان والتواريخ ما يعدله سمو معنی، وسمو ذات وعلو شأن..؟!

فهو ذبح فدى البشرية جمعاء، وصان دين الله الواحد من الانتهاك.

وهو ذبیح أرسى للبشرية مجدها الذي ترتفع في نعمته الآن، وإلى أبد الدهور)(1).

وفي الواقع، علينا ألا نستغرب هذه الأقوال عن فداء الإمام الحسين عليه السلام من قبل هذا المفكر والباحث المسيحي (أنطون بارا)، فهناك الكثير من المفكرين والمثقفين المسيحيين، ومن غير المسيحيين أيضا، لا تختلف آراؤهم كثيرا عن آراء الأستاذ (بارا) الذي لم يدخر جهدا في دراسة وتحليل ومقارنة فاجعة كربلاء مع بقية الفواجع العالمية الكبرى التي ألمت بالرموز الإنسانية على مر العصور والدهور.

وكمثال آخر من الأمثلة التي يمكن أن نستحضرها عن الكلام بشأن فداء الحسين عليه السلام في الفكر المسيحي، هو الفيلسوف والأديب والشاعر (جبران خليل جبران)، إنه ذلك الرجل الموسوعي الذي سحر الغرب بكتاباته الأدبية وأدهشهم بأفكاره الفلسفية وفتنهم بقصائده الشعرية، إذ لا يمكننا وصفه إلا بأنه روح الشرق المهاجرة إلى جسد الغرب.

ومن المعروف عن هذا الأديب الفيلسوف أنه كان مسيحيا ولكنه كان ثائرا على رجال الدين الذين يتعمدون الفهم الخاطئ لتعاليم السيد المسيح عليه السلام النقية، وعلى الرغم من أنه كان مسيحيا صادقا بالفطرة مع ذاته، فقد ناصب الكنيسة العداء واعتبر تعاليمها مشوهة لحقيقة السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، وليس هذا فحسب، بل إن الفكر المستنير الذي كان يحمله (جبران)في سراج عقله كان يدفعه باستمرار لقراءة

ص: 450


1- نفس المصدر السابق ص56

فكر التيارات والأديان والمذاهب الأخرى، ولذلك فقد فتح (جبران) نوافذ فكره على ثقافة (الآخر) ونهل منها ما أراد، ولا ريب في أن المتتبع لسيرة حياة (جبران) سیلاحظ، وبوضوح تام، أن هذا المفكر والفيلسوف المسيحي قد كان على اتصال وثيق مع الشيعة والفكر الشيعي في لبنان.

وقد ذكر الأستاذ (ثروت عكاشة) هذه الحقيقة في المقدمة التي وضعها لكتاب (النبي) الذي كتبه (جبران) باللغة الإنكليزية ثم ترجم لاحقا إلى اللغة العربية وإلى كل اللغات العالمية الحية الأخرى(1)

إذن، لقد بين الأستاذ الأديب (عكاشة) أثر الفكر الإسلامي الشيعي في فكر (جبران) وانعكاس ذلك الأثر في مؤلفاته الأدبية ذات الطابع الفلسفي والتي تبحث عن حقيقة الوجود وعن معاني مفردات الحياة وطبيعة النفس وحقيقة الإنسان وعالم الروح.

ونظرا للتأثير الفلسفي الشيعي البارز في فكر (جبران)، فقد كتب مقالا مطولا

عن النزعة الإسلامية الشيعية في فكر ذلك الفيلسوف المسيحي، وقد نشر ذلك المقال في مجلة (النور) الصادرة في لندن في شهر آذار (مارس) عام / 2001/(2).

وعلى كل حال، ومنعا للإطالة في الحديث، كان (جبران) قارئا جيدا للفكر

الإسلامي مثلما كان قارئا متفهما للفكر المسيحي وللفكر الهندي بكل أطيافه أيضا.

ص: 451


1- المزيد من الاطلاع على تأثر (جبران خليل جبران) بالفكر الإسلامي الشيعي، راجع المقدمة التي وضعها الأستاذ (ثروت عكاشة) لكتاب (النبي) لجبران، والكتاب صادر عن دار طلاس. دمشق، ط1984/1 ، راجع من الصفحة /52/ حتى الصفحة /54/ من المقدمة
2- راجع مقالة: راجي أنور هيفا، النزعة الإسلامية في فلسفة جبران، مجلة النور، العدد /118/، عدد شهر آذار (مارس)، 2001، تصدر عن مؤسسة النور. لندن، ص74. 75

وما من أحد يستطيع أن يشك في أن لجبران اطلاعات جيدة أيضا على الكثيرمن الأحداث الإسلامية الهامة، وعلى أبرز الشخصيات الإسلامية التي كان لها الدور الأكبر في صنع تلك الأحداث المهمة، وبطبيعة الحال، فإن فاجعة كربلاء إحدى أهم تلك الأحداث المفصلية في تاريخ الرسالة الإسلامية.

فكيف كانت نظرة (جبران) إليها، وكيف رأي مسألة فداء الحسين عليه السلام وأثرها على الإنسانية المعذبة ؟!

في الحقيقة، كانت نظرة (جبران) لفاجعة كربلاء، نظرة استثنائية تتجاوز في مفهومها حدود الحركة والصورة، إنها النظرة الباطنية العميقة التي تستطيع سبر أغوار الحدث والوصول إلى ترجمته الحقيقية الكامنة وراء تلك الصور والحركات التي لا يصعب تخيلها وكأنها تحدث أمامنا متخطية حدود الزمان والمكان.

فلا ريب في أن (جبران) كان قادرا على تخيل ما حدث على ساحة کربلاء من قتل وتمزيق لأجساد، وتقطيع لأوصال، وحرق وسلب ونهب، وسبي وتهجير واستخفاف بكل فضيلة ومكرمة وخصلة حميدة، نعم، لقد كان (جبران) قادرا على تخيل كل ذلك واستحضاره أمامه، ولكن (جبران) الفيلسوف لم يشأ أن ينظر إلى فداء الإمام الحسين عليه السلام من خلال الحركة والصورة وفظاعة المشهد فقط، بل أراد أن يغوص بنور بصيرته إلى أعمق أعماق ذلك الحدث المأساوي الذي جعله يقوم بعملية مقارنة جادة بين فداء الحسين عليه السلام وبين فداء كل الرسل والأنبياء والقديسين والمصلحين الذين قدموا للبشرية ما يستطيعون تقديمه.

وبعد تلك الدراسة والمقارنة، ماذا كانت النتيجة ؟!

وكيف رأى (جبران) أبعاد الفاجعة وأثرها على الإنسانية جمعاء؟!

ص: 452

لقد اختصر (جبران خليل جبران) رؤيته للفاجعة نظرته لقضية الفداء العظيم الذي قدمه الإمام الحسين عليه السلام على أرض كربلاء، برؤيته النابعة من رهافة مشاعره وسلامة منطقه وعمق فكره وثقافته، تلك الرؤية التي تختصر الكثير من المعاني والعبر، بل والكثير من الدروس العظيمة أيضا، إنها رؤية (جبران) المسيحي التي يقول ويؤكد جبران من خلالها أنه لم يجد في تاريخ الإنسانية الطويل من ضحى وقدم للإنسانية المعذبة ما قدمه الحسين عليه السلام ، فبالدم الحسيني تحققت عزة الإنسانية ومجدها(1).

إنها رؤية خالدة في معانيها، وعميقة في مراميها، وكم يحلو لي أن أكرر ذكرها في غالبية ما يخطه قلمي من كتب وأبحاث عن علاقة جبران بفكر علي والحسين عليه السلام .

ولئن سبق لي أن ذكر هذه الرؤية (الجبرانية) عن مكانة فداء الإمام الحسين عليه السلام في فكر (جبران) في أكثر من مكان ومناسبة، فإن هدفي من ذلك هو أن ترسخ هذه العبارة القصيرة والموجزة في ذهن القارئ الكريم، وأن يعمل على دراستها وتحليلها حتى يصل، بنور بصيرته، إلى ما وصل إليه ذلك الفيلسوف المسيحي النقي.

وحتى لا نقع داخل دائرة الاتهام بقلة إعطاء الأمثلة عن معاني الفداء الحسيني في الفكر المسيحي، دعونا نتوقف مع مثال آخر من الأمثلة التي يمكن لها أن تزيد الرؤية وضوحا والفكرة سطوعا، وليكن مثالنا التالي هو المطران الدكتور (برتلماوس عجمي) صاحب الصدر الرحيب والفكر الحضاري المستنير.

لقد كتب هذا المطران، الدكتور (عجمي)، عن تضحيات الإمام الحسين عليه السلام الكلمة تلو الكلمة والسطر تلو السطر، فجاءت كلماته مؤيدة بروح القدس لكل حرف

ص: 453


1- راجع مجلة (الموسم)، العدد /3/، المجلد /4/، صدر العدد في هولندا عام 1992، ص354

خطته يده عن تضحيات الحسين عليه السلام في محراب العشق الإلهي، وكان من جملة ما قاله سيادة المطران الدكتور (عجمي) عن ذلك، هو ذلك الكلام البليغ الذي جاء تحت عنوان( الحسين شهيد للمسيحية كما هو شهيد للإسلام)، والذي يقول فيه بكل صراحة ووضوح: (فمن أجدر من الحسين علیه السلام لأن يكون تجسيدا للفداء في الإسلام؟! ومن أجدر من الفكر المسيحي لأن يفهم رموز ومعاني هذا الفداء (الذي هو) الركن الأول في المسيحية ؟!... فالحسين من وجهة نظر مسيحية، هو شهيد للمسيحية كما للإسلام، وكما لغيرها أيضا لأن فداءه ذو أهداف إنسانية شمولية لا تختص بفرد دون آخر)(1)

ولا أعتقد، بشكل شخصي، أن هناك عاقلا ذا بصيرة يمكن أن يختلف مع ما قاله سيادة المطران (عجمي) حول تضحية سيد الشهداء في ساحة الفداء، فالإمام الحسين عليه السلام بمسيرته الفدائية - كما يصفه الكثير من أرباب الفكر - قد صافح السيف، وعانق الرماح، وقدم الضحية تلو الضحية، وقرب القربان تلو القربان من أجل كلمة الحق وكرامة الخلق، وبذلك يكون قد حقق وحظي بالنصيب الأوفر من التضحية والفداء، من زمن سيدنا إسماعيل وحتى عهد سيدنا المسيح علیه السلام.

ويذهب الكثير من المفكرين أيضا إلى أن يوم عاشوراء ليس للشيعة فحسب ولا للسنة أيضا، وإنما هو للناس أجمعين لأنه جهاد وتضحية وفداء وصراحة وحق وحكمة ونور بصائر، وليس لهذه الفضائل دین خاص ولا مذهب خاص ولا وطن خاص ولا حتى لغة خاصة بها (2).

ص: 454


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص358
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص207

وهنا يمكن أن نسأل أنفسنا قائلين:

ماذا بعد درس الفداء العظيم، وهل هناك من دروس أخرى؟!

ويأتي الجواب واضحا من الأدباء والمفكرين: إن دروس کربلاء تكاد لا تنتهي، وإن عبرها وآثارها تفوق حدود التصور والحصر عند كل من يتعمق في دراستها وفي تحلیل جزئياتها بالشكل المنهجي المطلوب.

فالمستشرق الفرنسي (هنري کوربان) يقول - على سبيل المثال -: (نستطيع أن نسعي للبحث في ثنايا الفكر الشيعي عن رؤية واضحة ونهج معنوي، رؤية تتفوق على الإحباط واليأس الذي يساور البشرية اليوم،وتزيلهما)(1)، وهذا يعني أن الفكر الإسلامي الشيعي هو فكر بعيد كل البعد عن اليأس والخنوع والإحباط، وعن القبول بالذل والاستكانة والقبول بسياسة (الأمر الواقع) السيئة.

وهنا يحق لنا أن نسأل الأستاذ (کوربان) السؤالين التاليين:

من أين اكتسب الفكر الشيعي هذه القوة الهائلة القادرة على إلحاق الهزيمة

باليأس والقنوط والإحباط ؟!

وما هو المقصود بأن الفكر الشيعي قادر على أن يكون هو الدواء الشافي

لأمراض البشرية اليوم، وكيف يكون ذلك؟!

في الحقيقة، إن الجواب على هذه الأسئلة واضح بالنسبة للمستشرق (کوربان)، ويمكن الوقوف على آرائه ووجهات نظره من خلال قراءة مؤلفاته العديدة عن الإسلام وعن تياراته الفكرية العديدة، وبالتالي، يمكن لنا أن نقول إن ذلك المستشرق الفرنسي

ص: 455


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي کسار، مؤسسة أم القرى، ط1418/1 ه-، ص46

یولي ما حدث في كربلاء أهمية كبيرة، ويرى أن الفكر الإسلامي الشيعي قد اكتسب قوة كبيرة وفعالية عظيمة بعد أحداث الفاجعة الأليمة، وبالطبع، فإن الأستاذ (کوربان) لم يغفل عن ذكر فكرة هامة أخرى كان لها الدور البارز أيضا في التغلب والسيطرة على كل أشكال الاستكانة واليأس، إنها فكرة وجود الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشریف) الذي سيعيد الحق إلى نصابه ويجتث الباطل من جذوره.

وبما أن الشعور بالإحباط والاستكانة يولد في نفس الإنسان الشعور بالذل والمهانة، في حين أن الشعور بالأمل والإيمان يولد فيها الشعور بالعزة والكرامة، فمن أجل سحق المهانة والذل في نفس الإنسان قاتل الإمام الحسين عليه السلام ومن أجل الحفاظ على العزة والكرامة قتل الإمام الحسين عليه السلام.

ألم يقل الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده: ( هيهات منا الذلة...)؟!

ثم، ألم يؤكد هذه الفكرة المفكر (رینر برونر) (Rainer Brunner) في كتابه (The Twelver Shia In Modern Times) (الشيعة الاثنا عشرية في العصر الحديث) عندما ذكر هذا المؤلف قول الإمام الحسين عليه السلام ، وهو يصف الموقف العصيب في كربلاء، أنه بات بين السلة والذلة، ثم يورد تعليقا على ذلك، فيقول: (... وجد الحسين نفسه يحارب على جبهتين، فهو يجاهد لعدم القبول بحكم يزيد المنافي للقرآن، ويجاهد أيضا لعدم القبول بالذل والهوان اللذين أراد عدؤه أن يحلا به، فهو لذلك يدافع عن كرامته، والدفاع عن الكرامة هو القضية البارزة في المراحل النهائية لنضال الإمام)(1). وإذا كان هذا المفكر الغربي قد رأى في مسألة الكرامة أنها القضية الأبرز في ثورة

ص: 456


1- Raimer Burnner, The Twelver Shia in Modern TimesBrill 2001P.162

الإمام الحسين عليه السلام على الحكم الأموي الجائر، بحيث جعلها القيمة الثورية الأسمى في النهضة الحسينية، فإن هناك الكثير من المفكرين والباحثين الآخرين في الشرق والغرب لا يعترضون على هذا الكلام مطلقا ولكنهم - بنفس الوقت أيضا - يرون أن الثورة كانت تحمل في رحمها الخصيب الكثير من القيم العليا الأخرى والتي لا تقل شأنا عن تلك القيمة الأخلاقية النبيلة التي ركز المفکر (برونر) على ذكرها في معرض حديثه عن معاني الفاجعة ودروس الحسين عليه السلام .

فالباحث والرجل العرفاني الموسوعي، الدكتور (أسعد علي) الذي يعمد في كل مؤلفاته الفكرية والأدبية إلى الإبحار عميقا في عوالم الكشف والإشراق، يرى في کربلاء عوالم من الرؤى الإشراقية الملونة بالدماء الحسينية والتي لا يمكن لأحد أن يراها على حقيقتها التامة وصورتها الكاملة ما لم يكن متخرجا من (جامعة الحسين). فالدكتور العارف (أسعد علي) (حفظه الله) يرى أن (ثورة الحسين كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلط في عصره، ليخترق جدران العبودية، مطلقا هواء الحرية بالفداء في فضاء الزمان، ليصل الهواء النقي ببعضه، من ماض وحاضر وآت ... (أشهد أن لا إله إلا الله) عنوان جامعة الشهادة، أي الحرية، لأن هذه العبارة تعني عدم الخضوع لغير الله، والخضوع لله حرية لأن من يخضع لله يتقوى بقوته ويتحول بحوله، والشهداء خريجو هذه الجامعة التي تصنع الأحرار، وتدعو عشاق الحرية، في كل سبيل)(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الدكتور الفيلسوف (علي) يضيف إلى ما سبق من قول

ص: 457


1- الدكتور أسعد علي، جامعة الإمام الحسين عليه السلام من أجل الإنسانية، مجلة (الموسم)العدد /12/ المجلد /3/، مصدر سابق ص52

تأكيده على أن (الحسين حس علي للإسلام، لذلك آمن الحسين بتجربة أبيه الفدائية:

فدى أبوه رسول الله بالنوم، فكان نومه تنويما تاريخيا للمشركين، وإيقاظا تربويا للموحدين، فكان فتى الإسلام، (لا فتى إلا علي)، آمن الحسين بتجربة أبيه ففدى أمةجده بالنفس، فكان استشهاده تنفسا للحرية، خرق الحسين جدار العبودية أيام كربلاء، فانعتق هواء الشهادة)(1)

وإذا كان الدكتور العارف (أسعد علي)، وغيره الكثير من المفكرين والباحثين، قد رأوا أن الفداء والحرية والإيثار هي أهم الدروس والعبر المستخلصة من الفاجعة الكربلائية، فإن هناك البعض الآخر من الباحثين والمفكرين،وحتى المستشرقين أيضا، يرون أن الإمام الحسين عليه السلام قد خرج بالفعل من أجل تحقيق هذه المبادئ والقيم المذكورة، ولكن المبدأ الأسمى والقيمة الأعلى التي خرج الإمام الحسين لتحقيقها هي العدالة الاجتماعية في صفوف الرعية.

وها هو المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون)، على سبيل المثال فقط، يقول في كتابه (سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران) إن الإمام الحسين أخذ على عاتقه مصير روح الرسالة الإسلامية، وأنه (غدا ليقتل في سبيل العدل في کربلاء)(2)

وقد جاء كلام الباحث الإنكليزي المعروف (جون أشر) مطابقا لما قاله المفكر

ص: 458


1- نفس المصدر السابق ص48
2- لويس ماسينيون، سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران، ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، وهذا الكتاب جزء من مجموعة كتب أخرى قام الدكتور بدوي بترجمتهاوتصنيفها في كتاب أطلق عليه عنوان (شخصيات قلقة في الإسلام)، وقد صدر الكتاب عن وكالة المطبوعات في الكويت عام 1978، راجع مقولة ماسينيون عن الإمام الحسين عليه السلام في الصفحة 45.

والمستشرق الفرنسي (ماسینیون) بشأن مسألة العدل الاجتماعي الذي سعى إليه الإمام الحسين عليه السلام في ثورته، وها هو الأستاذ (أشر) يؤكد على مصداقية ذلك بقوله في كتابه (رحلة إلى العراق): (إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي)(1).

وبما أن الإمام الحسين عليه السلام كان قد خرج بالفعل من أجل إحياء معالم دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، ومن أجل كل هذه القيم والمبادئ التي تحدثنا عنها في ما سبق من سطور وصفحات، لذلك كان من الطبيعي تماما أن تتسع دائرة محبة الإمام الحسين عليه السلام في قلوب الناس أفرادا وجماعات.

وقد انتبه العديد من الباحثين والمفكرين إلى هذه المسألة واعتبروا أن أحد أهم الانتصارات التي حققها الإمام الحسين علیه السلام بخروجه واستشهاده هو بلورة الفكر الإنساني الذي كان يناضل من أجله.

وكمثال على ذلك، يرى المستشرق الألماني (كارل بروكلمان) في كتابه (تاریخ الشعوب الإسلامية) أن الإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يحقق الكثير من الأهداف من خلال استشهاده في كربلاء، وقد عبر (بروكلمان )عن النصر الفكري الذي حققه الإمام الحسین علیه السلام بخروجه واستشهاده بالقول: (الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين ابن علي قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في کربلاء أقدس محجة)(2) وقد أيد هذا الرأي المستشرق الإنكليزي المعروف (رینولد نیکلسون) عندما أكد على أنه (خلال بضع سنوات فقط من مصرع الحسين أصبح

ص: 459


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص51
2- نفس المصدر السابق ص51

ضريحه في كربلاء محجا تشد إليه الرحال)(1).

فباستشهاد الإمام الحسين عليه السلام بتلك الطريقة المأساوية المروعة من أجل تلك الفضائل والمبادئ الإنسانية العامة، أصبح الحسين عليه السلام رمزا أخلاقيا لكل المؤمنين من جهة، ولكل الناس الآخرين الذين أدركوا لاحقا قيمة المبادئ التي كان يسعی التحقيقها من جهة أخرى، نعم، لقد تعاظم، بعد وقوع الفاجعة، دور فكر أهل البيت عليهم السلام على الساحة الإسلامية، وذلك لأن الأحداث الدامية التي جرت على أرض الواقع أكدت لعموم المسلمين أن الدم النبوي المقدس الذي قدمه آل بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن من أجل هدف دنيوي أبدا، وإنما كان من أجل الإنسان، ومن أجل دين الإنسان وعزته وكرامته، فمن دم الإمام الحسين عليه السلام - كما يقول المفکر المسيحي (سليمان كتاني) - أصبح لفكر أهل البيت عليهم السلام المتمثل بالشيعة صيحة جديدة لم تزل تدوي حتى اليوم مطالبة بثارات الحسین(2)

وفي الحقيقة، إن هذا الكلام من أولئك المستشرقين والمفكرين يذكرنا بكلام مماثل من المفكر والمستشرق (ستانلي لين بول) عندما تحدث عن نتائج استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في معركة كربلاء في كتابه (Studies In a Mosque) قائلا: (ونتج عن مقتل الحسين تشیع كثير من الموالي، فقد اعتبروا الحسين مثلا أعلى للتضحية وتحمل العذاب والشدائد من أجل البشرية، وكانت طبيعة الفرس تميل نحو إنكار الذات، ولذا كانت تضحية الحسين تساير الاستعداد الطبيعي للفرس)(3)

ص: 460


1- نفس المصدر السابق ص55
2- سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، مصدر سابق ص455.
3- الدكتورة سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول، نشر البطحاء، إيران، د.ت، راجع الصفحة 29.

ومما يمكن أن نستنتجه من كل ما سبق من آراء ووجهات نظر هو أن هناك نهوضأ واضحا في صفوف المسلمين وأن هناك أيضا صحوة ويقظة في ضمائرهم تجاه ما حدث لآل بیت نبيهم علیهم السلام مما دفع الكثيرين منهم إلى إعادة حساباتهم الروحية والالتفاف من جديد تحت ظلال رايتهم التي كان يمسك بها سيد الشهداء نيابة عن جده الرسول المصطفى صل الله علیه واله وعن بقية أفراد ذلك البيت النبوي الطاهر الذي كان مصيرهم المحتوم هو أن لا يكون منهم إلا مقتول أو مسموم.

فالإمام الحسين عليه السلام أصبح بثورته رمزا للخلاص، وتحول هو إلى مخلص ومنقذ للإنسانية من كل مفردات الشر والكفر والرذيلة والضلال، ومما يؤكد ويعزز صدق هذا الكلام هو رأي الباحث والأديب المسيحي (يوسف عبد المسيح ثروت) الذي يقول لنا من خلاله: (وإذا كان الحسين سيقتل وهو مقتول حتما بسبب الظروف الغريبة في الكوفة فإن العبرة ليست في مقتل الحسين، وإنما العبرة فيمن قتلوه ولماذا قتلوه؟ فالعبرة في الثأر الأعظم، ثأر الحسين، في الثأر من كل سفاح مهما يكن ومن تابعه من قتلة الحسين على مدى التأريخ الذي وضع أبو عبد الله أساسا جديدا له ببعد نظره وحكمته وأصالة إيمانه بحق الفقراء والضعفاء الذين ظلوا ينتظرون مخلصا من السماء قرونا وقرونا، فجاء استشهاد أبي عبد الله تعبیرا جديدا لهذا الخلاص)(1)

وما بين الإمام الأول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى العاشر من محرم يوم استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، مرحلة تمضي في التاريخ ليبدأ بها التاريخ، وبهذه الكلمة يبدأ الدكتور (أنطوان کرم) رأيه بواقعة الطف، ثم يقول: (وفيها ينتهي الإنسان لتحيا

ص: 461


1- يوسف عبد المسيح ثروت، ثورة الحسين، مجلة (الموسم)، العدد /13، المجلد /4/، مصدرسابق ص26

الفكرة)(1).

إذن، لقد تحول الإمام الحسين عليه السلام إلى مخلص للإنسانية ومنقذ للبشرية، وقد تحولت مبادئ ثورته وأهدافها إلى فكرة، تلك الفكرة التي تنمو وتكبر وتورق وتتبرعم، ثم تزهر وتثمر، فالحسين عليه السلام لم يمت لأنه كان شهيدا، والشهيد حي مرزوق عند ربه، ولم يمت الحسين عليه السلام لأنه كان مثلا والمثل حي باق يضيء مع العدل ويرتفع مع الحق.

وقد أصاب وأجاد المفكر المصري، الدكتور( إبراهيم سلامة) عندما أكد على حقيقة ذلك بقوله في مقال له بعنوان (الحسين فكرة سامية): (لم يمت الحسين لأنه كان فكرة، ومن طبع الفكرة السمو فلا ينالها أحد وإنما ينال صاحبها، وتسمو الفكرة بعد موت صاحبها فتنتقل من روحه إلى روح أمته... إذن، كان الحسين شهيدا ومثلاوفكرة وعقيدة، والتراث الذي خلفه من نصيب المسلمين جميعا، ومن واجب المسلمين جميعا المحافظة على هذا التراث)(2)

فكربلاء الحسين عليه السلام لم تعد ملكا للشيعة، ولا حتى لعموم المسلمين، بل إنها أصبحت إرثا عالميا وتراثا إنسانيا لكل الأجيال البشرية بمختلف أطيافها الدينية والقومية.

ولذلك، فعندما يحدثنا الباحث المسيحي (حنا عبود) عن العلاقة بين التراث والإبداع، فإننا نراه يركز على أن التراث، كان وسيبقى، طريقا هاما وسببا مباشرا لعملية الإبداع في الفكر والآداب والفنون عند جميع الأقوام والشعوب.

ص: 462


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص59
2- الدكتور إبراهيم سلامة، الحسين فكرة سامية مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد /4 / مصدر سابق ص114

ولم يغب عن ذهن هذا الباحث ما للتراث الديني من دور هام في تفعيل وتفجير الروح الإبداعية عند رجال الفكر والأدب على مر العصور، وقد اعتبر الأستاذ (عبود) أن التراث الديني ملك مشاع لأنه، في نهاية الأمر، يشتمل على الكثير من التجارب والخبرات الإنسانية التي تصبح مع مرور الأيام مبعثا لاستلهامات وإبداعات كثيرة في مختلف ميادين الفكر والثقافة والعلوم الإنسانية.

وقد أكد ذلك الباحث المسيحي على أن التراث الديني ليس لفئة دون أخرى،وليس لزمن دون آخر، وذلك بقوله: (إن التراث الديني يلعب دوره الهام والكبير في العديد من الميادين، لذلك لا يقتصر الاستلهام الشعري على ناحية واحدة، فأي ظاهرة دينية، لها أكثر من دلالة، فقد تكون نفسية واجتماعية وفنية ودينية معا، وقد تقل عن ذلك حتى تكتفي بواحدة... وكربلاء ليست فقط حادثة تاريخية، وليست فقط حربا دينية، فقد انخلعت کربلاء عن محدودیتها، لتغدو رمزا إنسانيا شموليا)(1)

وبالطبع، فإن الأستاذ الأديب والباحث (حنا عبود) كان محقا في كل ما قاله عن علاقة التراث بالإبداع من جهة، وعن علاقة الإرث العالمي بفاجعة كربلاء من جهة ثانية.

ومما يعزز الكلام عن مسألة اعتبار أن كربلاء قد أضحت رمزاإنسانيا شموليا عاما، هو تبني الفكر المسيحي المعاصر للحقيقة القائلة: (المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروعون من كل المذاهب والبقاع يتجهون في كل رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين عليه السلام ، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل

ص: 463


1- حنا عبود، التراث والإبداع، وهو عبارة عن مقال مطبوع ضمن كتاب بعنوان: (جريدة حمص في يوبيلها الماسي 1909. 1985)، مطابع ألف باء الأديب . دمشق، 1985، ص46.

والأمان.

وما دامت قد تحددت ماهية ثورة الحسين عليه السلام بهذه الأطر، أفلا يجدر اعتبار الحسين شهيدا للإسلام والمسيحية واليهودية، ولكل الأديان والعقائد الإنسانية الأخرى)(1)؟!

ولهذا، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام فبس هداية، ومشكاة طهر، ومثال الخير والحق والفضيلة، فكان حقا جوهر الأديان وصوت الله في ضمير الإنسان إلى يوم البعث والنشور.

فسيرة الإمام الحسين علیه السلام ، من مهده إلى لحده، هي السيرة التي تثير الحماسة

والبطولة والكرامة في نفوس الأحرار الأباة في كل أصقاع العالم من مسلمين ومسيحيين ويهود و صابئة وهندوس وغيرهم، وإن ثورته الكربلائية هي مصدر إلهام للعديد من الثورات اللاحقة التي قام بها رجال أحرار في بقاع مختلفة من العالم.

وقبل أن ندخل في هذه النقطة الحساسة لشرحها ومناقشتها، علينا أن لا نغفل عن ذکر نقطة جوهرية تتعلق أيضا بطبيعة الثورة الحسينية وبمكوناتها البشرية.

وتتجلى هذه النقطة الجوهرية من خلال سؤالنا التالي:

من كان مع الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء؟!

ويأتينا الجواب واضحا من أرض المعركة:

كان مع الحسين عليه السلام الطفل الرضيع، والشاب الذي تستمد الورود لونها من لون دمه الثائر في شرايينه الفتية الغضة، وكان مع الإمام الحسين عليه السلام أيضا الشيخ الطاعن في السن، وكانت معه المرأة الثائرة أيضا، فمن هؤلاء، كانت الثورة الحسينية

ص: 464


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص71.

تستمد مكوناتها البشرية.

فعبد الله الرضيع لم يكن إلا مجرد طفل صغير يمثل براءة الطفولة وطهارتها، وحبيب بن مظاهر لم يكن إلا ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي أبى إلا أن يجعل الآخرة أمامه والدنيا وراءه، أما السيدة زينب علیها السلام فلم تكن إلا رمزا حيا للمرأة المؤمنة الحرة التي تستطيع أن تهز عروش الظلم بيسارها مثلما تهز مهد الطفولة بيمينها.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإننا نری مع الحسين عليه السلام العنصر العربي وغير العربي ونرى معه أيضا الأبيض والأسمر والأسود، ولكل واحد من هؤلاء دور عليه أن يؤديه بصدق وأمانة على مسرح الفاجعة.

لقد اجتمعت كل مراحل العمر وكل الألوان في جيش الإمام الحسين عليه السلام الذي بلغ عدده سبعين ونيف فقط مقابل الآلاف في جیش یزید بن معاوية، حتى لكأن الله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل من جيش الحسين رمزا للإنسان الحقيقي بعمره ولونه و قومیته وجنسه، ليقول له بعد ذلك إن الإسلام فوق كل هذه الحواجز، وليقول له أيضا إثر ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن إلا من أجل إزالة هذه الحواجز والحدود، فللصغير دوره، وللكبير دوره أيضا، وللمرأة - بدورها - دورها الحيوي الذي لا يقل شأنا عن بقية الأدوار أبدا وهذا يعني أن من ثمار ثورة الحسين عليه السلام أنها خلقت تکاملا في الأدوار والمهمات بين الأفراد والجماعات من أجل الحفاظ على دين النبي المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم اول(1)

وعندما وقف . على سبيل المثال - (جون بن حوي النوبي) المعروف ب- (جون

ص: 465


1- راجي أنور هيفا، كربلاء من تراجيديا الصورة إلى فلسفة الحركة، مجلة (النبأ)، العدد /66/ تصدر عن المستقبل للثقافة والإعلام. بیروت، محرم، 1423ه-. 2002م، ص102.

مولى أبي ذر) وهو عبد أسود اللون، أمام الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال، لم يقل له الإمام الحسين عليه السلام : اذهب، فلا حاجة لنا بك، ولا بلونك الأسود أيها العبد، بل أعطاه الإمام الحسين عليه السلام الإذن بالقتال والنزال، فلم يزل يقاتل قتال الأسود البواسل حتى قتل - كما جاء في بعض الروايات - مايقارب سبعين رجلا قبل أن يقتل، فلما قتل وقف الإمام الحسين عليه السلام ونظر إليه وقال: «اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعرف بينه وبين آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم» ، فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أزكى من المسك)(1)، وهكذا، فإن لون الإنسان يسقط أمام الحركة الحسينية مثلما تسقط جنسيته ولغته وجنسه وعمره لأن الجميع قد و حدوا دماءهم من أجل وحدة هدفهم الذي رسمه لهم الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجهم جميعا إلى مسرح الفاجعة.

وليس هذا فحسب، بل إن الدارس لفاجعة كربلاء أو المحلل لمجريات أحداثها الدقيقة يستطيع أن يكتشف أن ثورة كربلاء قد استطاعت أن تحقق أكثر مما ذكرناه للتو بكثير، فقد عبرت تلك الثورة الإنسانية الخالدة عن عطش الناس - على مختلف عقائدهم وأديانهم - إلى العدالة والكرامة، ولذلك، حتى أصحاب العقائد والأديان المختلفة قد توحدوا تحت راية الإمام الحسين عليه السلام أيضا.

وكان ممن اشترك في تلك الثورة أبطال غدوا من أبرز شهدائها وهم من غير المسلمين ولعل أبرزهم الشهيد (زهير بن القين) الذي كان عثمانيا في مذهبه ولكنه كان مسلما صادق الإسلام وقد رثاه الإمام الحسين عليه السلام وبكاه حين استشهد أمامه، ويحدثنا التاريخ أنه كان للمسيحية حضور في الثورة من خلال أسرة مسيحية تتكون

ص: 466


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص258

من أم وابنها وزوجته، وكان الرجل أحد شهداء کربلاء وكانت أمه إحدى شهیداتها(1)، ولم تكن تلك المؤازرة العلنية بعيدة عن السياق التاريخي للمسيحية العربية التي انضمت في وقت سابق إلى جيوش الإمام علي عليه السلام عند محاربته في صفين.

فسيرة الإمام الحسين عليه السلام - كما يصفها المفكر المسيحي البارز (کرم قنصل) - هي سيرة مبادئ ومثل وثورة، وهي (لأعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها، وعلى الفكر الإنساني عامة، لا الفكر المسلم والمسيحي فحسب.. أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد، لأنها سر سعادة البشرية وسر سؤددها.. وست حریتها)(2).

نعم، فمما لا شك فيه أبدا، أن كربلاء كانت لكل الأعمار والأجناس وكانت أيضا

لكل القوميات والشعوب والأديان، وهي بالفعل - سرعزة البشرية وسر حريتها في حال الاستفادة من إعادة استنباط رموزها وفهم معانيها وأبعادها.

فالزعيم الوطني الهندي (جواهر لال نهرو) ( J. Nehru) (1889- 1964) الذي يعتبر أحد بناة الهند الحديثة، يقول في كتابه (اكتشاف الهند) إن الكثير من الشعب الهندي الذي يعتنق الديانة الهندوسية قد تحول من ديانته الهندوسية إلى الديانة الإسلامية، وقد رد الزعيم الهندوسي (نهرو) السبب في ذلك إلى أن الإسلام في حقيقته وجوهره هو دين العدل والإخاء والمساواة(3)

ولا ريب في أن هذا الكلام صحيح في خطوطه العريضة، ولكن ماذا عن تفاصيله، ونقصد بذلك السبب المباشر لدخول الكثير من أبناء الديانة الهندوسية في صفوف الإسلام؟

ص: 467


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص59.
2- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص365
3- جواهر لال نهرو، اكتشاف الهند ، دار العلم للملايين . بيروت، 1959، ص164

يمكننا أن نقع على الجواب الشافي والكافي على هذا السؤال المطروح، من خلال قراءة ما كتبه المستشرق الفرنسي الدكتور (جوزف) عن سبب تحول الهندوس إلى الإسلام.

يقول الدكتور (جوزف) إن استذكار الأحداث الكربلائية واستعادتها من خلال إقامة المآتم والتذكير بأهدافها هو السبب المباشر لدخول الكثير من الهنود في صفوف المسلمين الشيعة(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الدكتور (جوزف) يضيف إلى ذلك قائلا: (وهؤلاء مصنفو أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله - مع أنهم لا يعتقدون بهم - إلا أنهم يذعنون بالمظلومية لهم ويعترفون بظلم وتعدي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلا مشمئزين)(2)

وهكذا، فإن الدكتور والمستشرق الفرنسي (جوزف) يربط بين كربلاء ودخول العديد من الهندوس إلى الإسلام في الهند من جهة، وبين كربلاء وتعاطف المفكرين المسيحيين مع الإمام الحسين عليه السلام في القارة الأوروبية من جهة أخرى، فلفاجعة کربلاء أثر عظيم في ضمير الإنسانية على مختلف عقائدها وجنسياتها وأديانها.

وبما أننا قد قاربنا على الانتهاء من هذا الفصل، بل من الكتاب بكامله، أرى من المناسب هنا أن نتوقف مع درس جديد ومع أثر جدید من آثار الثورة الحسينية على المستوى المحلي والعالمي.

فهل خطر على بالنا السؤال التالي:

ص: 468


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص58
2- نفس المصدر السابق ص58

ما هو تأثير ثورة كربلاء على الثورات المعاصرة؟!

وربما يأتي هذا السؤال المطروح بشكل سياق آخر:

هل للحس الثوري الحسيني أثر في نفوس ثوار اليوم؟!

قبل الإجابة بشكل مفصل على هذا السؤال، نود أن نورد قولا مهما للأديب والمفكر المصري المعروف (إبراهيم عبد القادر المازني) (1890- 1949)، ذلك الأديب الذي كان عضوا من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، وصاحب الكثير من المؤلفات الفكرية والأدبية الهامة.

يقول الأستاذ (المازني): (لا يزال مصرع الحسين بعد أربعة عشر قرنا يهز العالم الإسلامي هزا عنيفا، ولست أعرف في تاريخ الأمم قاطبة حادثه مفردة كان لها هذا الأثر العميق على الزمن في مصائر دول عظيمة وشعوب شتى)(1)

ماذا يعني هذا الكلام؟!

إنه يعني، في أبسط مستوياته، أن لتلك الثورة أثرا قويا على مصائر دول كبری وعلى شعوب من قوميات وجنسيات مختلفة، وأن ذلك الأثر الحسيني الثوري لا يضعف ولا ينقطع على مر الأزمان، وقد رأى الكثير من أصحاب الفكر وأرباب الثقافة والأدب أن هذه الفكرة حقيقة ثابتة ولا يختلف على مصداقيتها أحد.

وعلى سبيل المثال، يرى المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) أن ثورة کربلاء

كانت وستبقى الثورة المثالية لكل الأحرار والمعذبين في الأرض، وقد عزز الأستاذ (ریشار) وجهة نظره هذه بالقول: (وكان أثر مذبحة كربلاء غير متناسب مع ما حدث فيها، وكل ما حدث هو أن معركة بين الأنداد، دامت نهارا واحدا، وقتل فيها بعض

ص: 469


1- راجع مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص376

العشرات، ولكن الوجدان الإسلامي هز هزا عنيفا بالمصير المأساوي الذي صار إليه حفيد النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم بعد أن عزم على القتال حتى النهاية ضد السلطة التي كانت تدوس أخلاق الإسلام الأول، ومبادئه، لكن الحسين الشهيد صار نموذجا مثاليا لكل نضال من أجل الحرية، ولكل معذبي الأرض)(1).

إذن، لقد تحول الإمام الحسين عليه السلام من خلال استشهاده البطولي في سبيل الحق والعدل، إلى رمز لكل نضال من أجل الحرية، وقد تحولت كربلاء - بدورها - إلى نموذج الثورة الإنسانية الشاملة التي تمثل رسالة الخلاص لكل المعذبين والمستضعفين في شتى أصقاع الأرض.

وهنا تحديدا، قد يسأل سائل ما: هل هناك من أمثلة على أن لكربلاء وللمبادئ الحسينية أثرا واضحا على بعض الثورات المحلية، عربيا وإسلاميا، وعلى بعض الثورات العالمية ؟!

إنه - بلا شك - سؤال جدير بالطرح وبالإجابة، ولذلك، دعونا الآن نجيب على هذا السؤال المطروح من خلال العرض التاريخي التالي الذي سنبدأ الكلام عنه بدءا من ذكر بعض الثورات المحلية وانتهاء بذكر بعض الثورات والحركات النهضوية العالمية

التي تنتمي، نسبيا، إلى العصر الحديث.

فنحن لا شأن لنا هنا، في هذا الكتاب، بالثورات العديدة التي تأثرت بطريقة أو بأخرى بثورة الإمام الحسين عليه السلام ، والتي تبتعد عنا زمنيا بمسافات زمنية طويلة تمتد إلى العديد من القرون، فكلامنا سيقتصر هنا على الثورات والحركات النهضوية القريبقة منا زمنيا، علما أن تلك الثورات البعيدة والمتقدمة زمنيا تستحق أن يكتب عنها

ص: 470


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص54

الكثير من الكتب والمجلدات، ويكفي أن نقول، من باب التأكيد على ذلك: إن المستشرق المعروف (آدم متز) قد بين في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) كيف أن مجرد ذكر سيرة الإمام الحسين عليه السلام كان يلهب نفوس الثوار ويثير حمية المقاتلين في الثورات الإسلامية المبكرة التي أعقبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده فيها(1).

وعلى كل حال، وحتى لا نطيل في المقدمات، دعونا ندخل إلى جوهر موضوعنا بشكل واضح ومباشير، فعندما يقول المفكر المصري، الدكتور (أحمد راسم النفيس): (والأمة الآن، وهي تعيش لحظات حرجة في تاريخها، بحاجة لاستلهام هذه الروح الحسينية والاقتباس من نورها لعلنا نتمكن من إضاءة هذا الظلام الحالك، إننا في أمس الحاجة لاستلهام ذلك النور الحسيني لإضاءة هذه الظلمات وتحديد طريق المسير، ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)(2)، فعندما يقول الدكتور (النفيس) هذا الكلام، فهذا يعني أن الأمة في أوضاعها الراهنة هي أمة واهنة ومتهالكة، بل هي أمة قد أصيبت بالعمى والضعف نتيجة ابتعادها عن نهج أهل البيت عليهم السلام، وبشكل خاص عن النهج الثوري (العلوي - الحسيني) الذي كان يجاهد على الدوام من أجل الحفاظ على روح الإسلام العملي الذي نادی به رسول الإنسانية محمد صلی الله علیه و آله وسلم

فما من مجتمع عربي أو إسلامي انتهج نهج الإمام الحسين عليه السلام في ثورته على الظلم والفساد والاستكبار إلا وكان حليفه الانتصار المصحوب بكل قيم العزة

ص: 471


1- آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو (عصر النهضة في الإسلام)، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي . بيروت، د.ت، ج2 ص147.
2- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، مصدر سابق ص118

والمجد والكرامة.

فمن المعروف عن الثورة الإسلامية في إيران - وهي مثالنا الأول - أنها الثورة الأعظم في القرن العشرين، وهناك إجماع عالمي على ثبوت هذه الحقيقة، لدرجة أن الكثير من رجال السياسة وعلم الاجتماع اعتبروا أن (الإمام الخميني )(رحمه الله) هو رجل القرن العشرين، باعتباره هو المفجر لتلك الثورة الإسلامية في إيران.

فكيف استطاع الإمام الخميني (قدس سره) تحقيق ذلك الانتصار الساحق على أقوى طاغية في الشرق وقتذاك ؟! ذلك الطاغية الذي أخذ على عاتقه تحویل بلاده إلى بلد ذلیل خاضع بكل مقدراته وكرامته لأكبر نظام رأسمالي في العالم، أي لنظام الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول على الدوام أن تثبت وجودها وتقوي اقتصادها على حساب سفك دماء الشعوب وافتعال الفتن وحبك المؤامرات في العديد من البلدان بهدف تحويلها إلى بؤر توتر ساخنة بعيدة عن كل أشكال الأمان والاستقرار ولم يكتف ذلك الطاغية بذلك، بل عمد إلى إبعاد شعبه عن القيم الأخلاقية الإسلامية وعن مبادئ أهل البيت عليهم السلام تحديدا، تحت شعارات مختلفة وحجج شتی

وبكل بساطة، لقد استطاع ذلك الإمام المجاهد الانتصار على تلك القوة الديكتاتورية الضاربة من خلال السير على خطى أهل البيت علیهم السلام، وبشكل خاص على نهج الإمام الحسين عليه السلام الذي انتهجه في كربلاء.

وقد أكد الكثير من المحللين السياسيين الذين كتبوا عن الحياة السياسية للإمام الخميني أن حركة الإمام الخميني الجهادية اتصفت بعدة صفات، ومن أهم تلك الصفات هي أن (حركة الإمام كانت مستلهمة أصلا من فكر أهل البيت عليهم السلام

ص: 472

وأساسها هو العقيدة الإسلامية، وهي سائرة على نهج القرآن ودستوره وعلى خطی الرسول وأهل بيته عليهم السلام(1)

وكان من الطبيعي جدا أن يربط الأدباء والشعراء بين ثورة الإمام الخميني (قدس سره) وبين ثورة كربلاء المجيدة، وها هو أحدهم يقول وقد رفرف النصر بجناحيه فوق سماء إيران:

نحن دمرناقدیما خیبرا *** وغوى الناس، فكانت کربلاء

نحن أسرجنا قناديل الورى *** وربطنا الأرض في حبل السماء

فاقبسوا منا النجيع الأحمرا *** عزة الإسلام تبنی بالدماء(2)

إذن، ففي ظل الثورة الحسينية، لم تمت الشخصية المسلمة الأبية، بل بقيت شخصية عزيزة معبأة بدماء كربلائية تتدفق في نفس الاتجاه الذي أراده لها الإمام الحسين عليه السلام ، وهاهو شاعر عربي آخر يقول، وقد تهاوى عرش ربيب أمریکا وإسرائيل: فانظر طلائع آل البيت كيف طوت *** طي الصحائف آفاقا وأزمانا

تأبطت کربلاء في مظاهرة *** عبر القرون إلى (صقين) إيرانا

لتسترد دیوانأمن معاوية *** ومن (یزید) ومن (حجاج) طهرانا(3)

وبالطبع فإن المقصود هنا من (یزید) و(حجاج طهران) هو الشاه المخلوع وأزلامه وجلاوزته ممن أهانوا البلاد واستعبدوا العباد، وباختصار شديد، فقد كان

ص: 473


1- محمد حسن رجبي، الحياة السياسية للإمام الخميني ، دار الروضة . بيروت، ط1993/1 ،ص234
2- جعفر حسین نزار، الخميني والثورة في الشعر العربي، دار الرأي العربي . بيروت،1984 ،ص 140
3- نفس المصدر السابق ص141

انتصار الثورة الإسلامية في إيران امتدادا لانتصار الحق على الباطل في موقعة كربلاء.

أما المثال الثاني عن امتدادات ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتأثيرها على العديد من الثورات والثوار في العصر الحديث، فسيكون من صفحات التاريخ العربي السوري المعاصر، فمن من العرب لا يعرف البطل السوري (يوسف العظمة) الذي شغل منصب وزير الدفاع السوري في بدايات القرن الماضي؟!

لقد خاض هذا البطل السوري السني معركة ضارية وغير متكافئة في القوی ضد الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (غورو) في موقعة شهيرة تعرف باسم موقعة ميسلون، وقد استشهد في هذه المعركة الضروس البطل (العظمة) مع جيشه الصغير جدا دون أن يبدي أي مظهر من مظاهر الخوف أو الاستكانة أو الاستسلام.

ففي عام / 1920/ قامت الجيوش الفرنسية بتركيز قواتها الجرارة المدعومة بكافة صنوف الأسلحة الثقيلة بالقرب من دمشق، فما كان من البطل (العظمة) إلا أن أعلن النفير العام لمواجهة المعتدين القادمين، وعلى الرغم من ضعف التسليح وقلة الأفراد إلا أن ذلك لم يضعف من همة ذلك القائد البطل، فقاد ذلك الجيش الصغير وواجه به العدو على أرض ميسلون وبقي يقاتل على رأس الجيش، وهو الذي كان وزيرا للدفاع، بكل شجاعة وبسالة إلى أن استشهد هو ومعظم أفراد جيشه في تلك الموقعة الشهيرة والتي لعبت لاحقا دورا معنويا عظيما في طرد المعتدين وتحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي البغيض.

فكيف أقدم هذا البطل القائد على الخروج إلى أرض ميسلون مع ذلك العدد الصغير من المقاتلين لمواجهة الآلاف من جيش المعتدين مع معرفته المسبقة بما ستنتهي إليه الأمور؟!

ص: 474

ألا يذكرنا هذا الخروج إلى ميسلون بخروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء؟! وما تفسير ذلك؟!

في الواقع، وهذا مما لا يعرفه الكثير من القراء، إن ذلك البطل السني (يوسف العظمة) كان محبا للإمام الحسين عليه السلام وكان من المتأثرين بأفكاره ومبادئه وبنهجه الجهادي الثوري في مواجهة الفساد والظلم والاستبداد.

وحتى لا نطيل الكلام في هذه النقطة التي تبدو جديدة بمعلوماتها، دعونا نكتفي بالقول إن ذلك البطل الذي كان يشغل - كما ذكرنا سابقا - منصب وزير الدفاع لم يقف مكتوف اليدين أمام جحافل الغزاة، ولم يجلس وراء مكتبه أو في غرفته ليكتفي بتوجيه الثوار والمجاهدين وإعطائهم التعليمات العسكرية عن بعد، وإنما خرج هو بنفسه ليقود ذلك الجيش الصغير المؤمن في ساحة المعركة، وليقوده بعد ذلك أيضا إلى عالم الجنان والخلود.

ولا أعتقد أننا نبالغ عندما نقول إن ذلك البطل السوري المقدام كان من المتأثرین بسيرة سيد الشهداء عليه السلام حيث إنه أراد أن يقتدي به قولا وعملا وشهادة، فكان مثال التلميذ المخلص لمعلمه العظيم.

فالشهيد البطل (يوسف العظمة) كان على علاقة وثيقة وقوية مع العلامةالإمام (عبد الحسین شرف الدين الموسوي) صاحب المؤلفات العظيمة، وعلى رأسها کتاب (المراجعات) المشهور، وكان كثير التردد على مجالس ذلك العلامة الجليل الذي لم تكن مجالسه - بطبيعة الحال - تخلو من ذكر الإمام الحسين عليه السلام وما قام به في كربلاء من بطولات لا توصف، كما أن البطل (العظمة) كان شديد الإعجاب بالعلامة (شرف

ص: 475

الدين) وبمبادئه ومواقفه(1)

ولذلك، فمن الطبيعي أن ما قام به البطل (یوسف العظمة) في ميسلون إنما هو

عمل ناتج عن تأثره بسيرة الإمام الحسين عليه السلام من خلال مجالس الإمام (شرف الدين) ومن خلال الاطلاع على مواقفه ومبادئه ومؤلفاته الإسلامية المتنوعة التي تتناول في مجملها العام كبرى القضايا الإسلامية، وتدرس فکر ونهج أهل البيت علیهم السلام وسيرتهم التي غالبا ما تنتهي بهم إلى عالم الشهادة والفداء على دروب العدل والحق والإنسانية المعذبة والكفاح ضد الظالمين.

وإذا كانت الخصال الأخلاقية والوطنية التي كان يتحلى بها القائد (یوسف العظمة) من جهة، وتأثره بسيرة الإمام الحسين عليه السلام وبمبادئه وثورته من جهة ثانية، هما العاملان الأساسيان في خروجه مع جيشه الصغير الباسل إلى أرض ميسلون واستشهاده هناك إلى جانب معظم أفراد جيشه كخطوة أولى على طريق تحرير سوريا من براثن الأعداء، فإن لدينا مثالا آخر أكثر وضوحا وأعمق دلالة على تأثر الحركات والثورات المعاصرة بنهضة الإمام الحسين عليه السلام وبحركته الكربلائية الخالدة والتي لا يزال لهيبها حيا دائما وأبدا في نفوس الثوار.

كلنا يعرف أن الكيان الصهيوني، أو ما يعرف بدولة إسرائيل، قد قام في العقود الأخيرة من القرن الماضي بالكثير من الاعتداءات الخطيرة على الجمهورية اللبنانية وقد قامت قواته باحتلال أراض عديدة في منطقة الجنوب لما يزيد عن العقدين من الزمن.

ص: 476


1- الإمام عبد الحسین شرف الدين الموسوي، النص والاجتهاد، منشورات قسم الدراسات الإسلامية . طهران، 1458ه-، راجع المقدمة بقلم العلامة السيد محمد صادق الصدر، راجع ص16.

ولكن بعد تلك الفترة من الاحتلال القاسي والحياة المريرة التي عاشها سكان الجنوب اللبناني، والذي يتكون في غالبيته العظمى من المسلمين الشيعة، فقد انقلب كل شيء رأسا على عقب وتبدلت معطيات المعادلة في المنطقة.

فكيف حدث ذلك؟! وكيف استطاع أهل الجنوب، ومن وقف معهم أن يهزمواأقوى وأكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط، والجيش الرابع على مستوى العالم.

في الحقيقة، كان للثورة الحسينية دور بالغ الأهمية في تحرير الجنوب اللبناني من براثن الاحتلال الصهيوني وفي كسر شوكة غطرسته واستعلائه، ففي بادئ الأمر انطلقت العديد من المنظمات والأحزاب السياسية في محاولات جادة وصادقة الإخراج العدو الصهيوني من الأراضي اللبنانية الجنوبية، وقد تم تقديم الكثير من الشهداء في سبيل تلك الغاية المرجوة، ولكن للأسف فقد كانت القوات المعادية وأسلحتها الفتاكة أقوى من أن تهزم أمام ضربات أولئك الرجال المؤمنين بعدالة قضيتهم.

ولكن، وفي غفلة من عين الزمن، ولدت المقاومة الإسلامية من رحم الآلام المريرة والمصائب الكثيرة التي حلت بأهل الجنوب السليب، وقد ولدت تلك المقاومة الإسلامية بعد إرهاصات فكرية وسياسية عديدة فرضتها بعض المتغيرات المحلية والدولية في المنطقة، وعلى الرغم من وجود عدة حركات وتنظيمات داعمة للمقاومة الإسلامية في لبنان، إلا أن القوة الضاربة الأساسية في تلك المقاومة اتخذت من عبارة (حزب الله )اسما لها وعنوانا لانطلاقاتها وغاياتها، وقد استطاع ذلك الحزب تحقيق العديد من الانتصارات الساحقة على آلة القتل الإسرائيلية، وتمكن من إذلال جيش تلك الدولة الصهيونية التي كانت تزعم على الدوام أن جيشها لا يقهر .

ص: 477

ولم يصدق العالم ما كان يراه على شاشات القنوات التلفزيونية الفضائية من فرار الجنود الصهاينة وتخليهم عن مواقعهم القتالية والانسحاب إلى عمق الأراضي الإسرائيلية تحت ضربات رجال المقاومة الذين كانوا يغرسون رایات حزب الله على رأس كل موقع يحررونه من يد الأعداء، وقد فوجئ العالم أيضا بتحرير أراضي الجنوب اللبناني على يد تلك المقاومة الإسلامية الشيعية التي استطاعت بإيمانها وبصدقها مع الله ومع نفسها أن تحقق ما عجزت كل جيوش الأمة العربية عن تحقيقه في صراعها مع ذلك الكيان الصهيوني الدخيل لمدة تزيد عن نصف قرن.

ويرى الباحثون والمحللون السياسيون (أن المجاهدين في لبنان كانوا دائما قبل اقتحامهم للمواقع الإسرائيلية يهتفون: يا إمام، يا أبا عبد الله، مستحضرين، سواء في عملياتهم العسكرية الجهادية أو الاستشهادية، روح وقيم الفداء التي جسدها الحسين، مستمدين منها القوة)(1)

وقد أشار الباحث الهولندي (ماوريتز بیرخر)، وهو الباحث المتخصص في الدراسات العربية والقانونية، إلى تلك الروح البطولية الاستشهادية التي كان ينقذها رجال حزب الله بكل قوة وبسالة ضد العسكريين الأمريكيين والإسرائيليين والفرنسيين، ملمحا بنفس الوقت إلى أن تلك الهجمات الاستشهادية البطولية كانت تحمل في طياتها نزعة إنسانية لأنها كانت موجهة فقط تجاه العسكريين وليست تجاه المدنيين البعيدين عن ساحات القتال(2).

وهنا أريد أن أتوقف قليلا مع ما لمسته شخصيا من علاقة عشق قوية وعميقة بين

ص: 478


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء لابد أن يستلهم معاني الجهاد، مجلة النور العدد (107)، مصدر سابق ص77
2- ماوريتز بيرخر، دفاعا ضد أنفسنا، ترجمة: غياث جازي، دار إيمار . دمشق، 2004، 42

حزب الله وبين الإمام الحسين عليه السلام وثورة کربلاء.

فخلال وجودي في بيروت، ومن خلال دراستي الشرعية في معهد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في الضاحية الجنوبية، تلك المدرسة التي ابتدأت بها عام / 1993/، كان لي شرف اللقاء مع العديد من كبار المراجع الإسلامية الشيعية، بالإضافة إلى حضور خطب و مجالس كبار الرجال القياديين في حزب الله، وما من مرة حضرت فيها خطبة أو مجلسا إلا وشعرت أن الإمام الحسين عليه السلام كان حاضرا بيننا، وما من مرة من تلك المرات إلا وكنت أشعر فيها بالقوة والعزم والإيمان والنية الصادقة لطلب الحق أينما وجد، ومد يد العون والمساعدة لكل المظلومين والمستضعفين في كل مكان دون تمييز بين لون أو دين، ولكن - بنفس الوقت - فإن الشيء الذي كان على الدوام يثير بداخلي الحزن والرغبة في البكاء، هو أنني كنت دائما أتخيل الإمام الحسين عليه السلام جالسا معنا وهو مخضب بالدماء ومقطوع الرأس وينام على صدره ابنه عبد الله الرضيع علیه السلام

وعلى كل حال، لا أريد الآن أن أذرف المزيد من الدموع ولا أن أطلق الكثير من الآهات السجينة في صدري، بل كل ما أريد أن أذكره الآن هو لقائي الشخصي والخاص مع سماحة الشيخ( عبد الكريم عبيد)، الأسير المحرر من إسرائيل وأحد الرجال القياديين البارزين في حزب الله.

ففي تاريخ 2007/7/26 م دعيت إلى إلقاء كلمة في مهرجان الإمام علي عليه السلام العالمي السابع، ولقد لبيت الدعوة وألقيت الكلمة وسط حشد هائل من الحضور الإسلامي والمسيحي، وقد لاقت تلك الكلمة التي كانت تحمل عنوان (السلم واللاعنف بين النظرية والتطبيق في نهج الإمام علي عليه السلام ) الكثير من القبول

ص: 479

والاستحسان لدرجة أن العديد من القنوات الفضائية قد عرضتها بالكامل مرات عديدة وعلى فترات متباعدة، هذا بالإضافة إلى ما كتب عنها وعن المهرجان في بعض الصحف والمجلات العربية التي نوهت إلى التعليقات الهامة التي وردت في نص الكلمة(1)

وفي نهاية المهرجان، ألقى سماحة الشيخ (عبد الكريم عبيد) كلمة مطولة ومفيدة ذكر فيها الكثير من مناقب الإمام علي عليه السلام في السلم والحرب، وقد ختم كلمته بالكلام عن الأوضاع السياسية في المنطقة وعن التغيرات المتوقعة فيها وعن دور حزب الله البطولي في قلب موازين القوى وتغيير المعادلات التي كانت مرسومة للمنطقة بأكملها.

وعلى كل حال، بعد الانتهاء من إلقاء الكلمات والاجتماع بالفعاليات الثقافية والفكرية وتبادل وجهات النظر والانطباعات العامة عن المهرجان المذكور، جلست مع سماحة الشيخ (عبيد) أمام المركز الثقافي العربي في منطقة المزة بدمشق - وهو مكان المهرجان - وقد تبادلنا أطراف الحديث إلى أن وصلنا في حديثنا إلى حادثة کربلاء وأبعادها المتنوعة.

ولما أخبرته عن كتابي (فاجعة كربلاء في الضمير العالمي) وعن بعض النقاط المفصلية الهامة فيه، استحسن الفكرة جدا وأثنى على الجهد الذي أبذله من أجل ذلك، وقد أبدى استعداده لتقديم كل ما يلزم من أجل إنجاز هذا العمل الجديد.

ولما أخبرته أنني لا أريد شيئا سوى إعطائي فكرة شاملة عن دور ثورة الإمام

ص: 480


1- فادية مصارع، السلم واللاعنف منهج وسلوك عند الإمام علي، راجع مجلة (رؤى الحياة)،العدد / 21/. دمشق، عدد آب 2007، ص21.

الحسين عليه السلام في الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان، ممثلة بحزب الله، على أعتى وأشرس جيوش العالم، ابتسم وقال: لولا الإمام الحسين عليه السلام لما استطعنا أن نختصر الزمان و نحقق هذه الانتصارات الحاسمة والمتلاحقة بوقت قصير إذا ما قيس بطول كفاح ونضال الكثير من بقية الشعوب.

ولما استفاض سماحته في كلامه عن دور الحسين عليه السلام وكربلاء بتحرير الجنوب، وكان قد استغرق كلامه الشيق أكثر من ساعة، طلبت منه أن يكتب لي على عدة أوراق إجاباته عن أسئلة كانت قد وردت على خاطري أثناء استماعي لحديثه، وقد أخبرته أن هذه الأسئلة والأجوبة سأذكر بعضها في كتابي (فاجعة كربلاء في الضمير العالمي) ولذلك أريد أن تكون الإجابات على الورق کي تبقى بشكل وثيقة رسمية موقعة بخط يده الكريمة.

وبالفعل، فقد كان ما أردت تماما، وها أنا أذكر الآن بعض الأجوبة التي كتبهاسماحته بشكل مختصر عن الأسئلة المطروحة.

فعندما كتبت له سائلا: ماذا تمثل کربلاء بالنسبة لسماحتكم، وأنتم في هذاالموقع القيادي البارز في حزب الله؟

وكان جوابه: (كربلاء هي النهضة التي تتولد من رحمها كل ثورة تريد الحق في كل أرض وعاشوراء هو كل يوم ينصر فيه الحق، وكل ما عندنا في لبنان، وقبلها في إيران، وبعد ذلك حتى صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هو من كربلاء لأن كربلاء حياة الإسلام، ولولاها لمات الإسلام واندثر).

أما السؤال الثاني، وهو السؤال الأخير الذي يمكن أن نستفيد منه هنا، هو التالي: ما هو دور کربلاء في حزبكم مع إسرائيل؟

ص: 481

وكان الجواب: (كل شهدائنا وكل مجاهدینا، بل كل رجالنا ونسائنا، كانت کربلاء لهم القدوة والمدرسة، وعليه، فقد كان الحسين هو القائد وكانت زينب هي القدوة، وكل ما قدمناه كان ثمرة لكربلاء، فكل طفل هو طفل الحسين، وكل شاب هو علي الأكبر، وكل شيخ هو حبیب بن مظاهر، وكل امرأة هي زينب، وبكلمة مختصرة، كانت کربلاء حية فينا وستبقى كذلك حتى ظهور القائم وزوال الغاصب)(1)

وهكذا نرى أن الانتصارات المجيدة التي حققها (حزب الله ) إنما هي ثمرة التمسك بنهج أهل البيت عليهم السلام من جهة، وبالاقتداء قولا وعملا بالمسيرة الجهادية الحسينية من جهة أخرى.

فيوم الحسين عليه السلام يوم مشهود في تاريخ الإنسانية لأنه اليوم الذي تبادلت فيه الأرض والسماء دوريهما على مسرح الفاجعة، فالله، بفضله ورحمته، يجعل السماء ترسل المطر هدية إلى الأرض لتتجدد الحياة عليها على الدوام، أما في فاجعة كربلاء فقد أخذت الأرض دور السماء، فأرسل الإمام الحسين عليه السلام قطرات دمه ودماء أهله وبنيه وأصحابه هدية منه إلى السماء وأهل السماء، إنها هدية الحسين عليه السلام التي تحیی رسالات الله بها وتتجدد معالمها الروحية والأخلاقية من خلالها على الدوام.

إن ذلك اليوم المشهود . كما تصفه الكاتبة والأديبة المصرية المعاصرة (سنية قراعة) - (یوم رهيب... يوم فاجع... قد سقط الفارس الشجاع وسيفه في يده، سقط صريع الحق، وفي سبيل الحق، سقط وحوله بنوه وذوو قرباه، وامتلأت ساحة كربلاء بجثث الأطهار المغاوير الذين ما تخاذلوا عن نصرة الحسين على قلة عددهم، ولا هم

ص: 482


1- من نص الوثيقة بخط يد الشيخ عبد الكريم عبيد التي كتبها لي بتاريخ 2007/7/26

فكروا في ترکه وحده وقفوا إلى جواره وسقطوا إلى جانبه)(1)

فما حدث بالأمس، یعاد حدوثه اليوم من أجل الحق أما الآن فدعونا ننتقل إلى مأساة العرب الكبرى في عصرنا الراهن، دعونا ننتقل سوية إلى فلسطين التي لا تزال تستصرخ الضمير العربي منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان.

فمنذ عام /1948/ والمسجد الأقصى - أولى القبلتين - أسيرا بيد الصهاينة، شذاذ الآفاق، ومنذ ذلك الوقت وحجارته تصرخ في صمتها المهيب: وا إسلاماه... وا محمداه... واعلياه، أما من خیبر جديدة ؟!

وعلى كل حال، دعونا نستعرض الآن شيئا من العلاقة بين فلسطين وكربلاءكما

يراها أبناء فلسطين من المجاهدين والأدباء المفكرين.

فلشعر الأرض المحتلة وقع خاص في النفوس، وله أثر بالغ على المشاعر والقلوب، ولذلك سوف نتوقف الآن مع بعض شعراء الأرض المحتلة الكبار لنرى كيف ربطوا في شعرهم ما بين الأرض الفلسطينية وأرض کربلاء.

ولنبدأ الآن مع الشاعر الفلسطيني (أحمد دحبور)، ذلك الشاعر المولود في (حيفا) عام / 1964/ والذي عمل في إعلام المقاومة منذ عام /1968/، ولهذا الشاعر المقاوم العديد من الأعمال الشعرية المطبوعة، مثل: (الضواري وعيون الأطفال)، (حكاية الولد الفلسطيني)، (طائر الوحدات)، (اختلاط الليل والنهار)، (واحد وعشرون بحرا)، وبعض الأعمال الأدبية الأخرى.

وفي إحدى قصائده التي تحمل عنوان (العودة إلى كربلاء)، يقول الشاعر

ص: 483


1- سنية قراعة، نساء في التاريخ العربي (سلسلة كتاب العربي)، العدد / 75/ الكويت، يناير 2009ص186

(دحبور):

(آت، ويسبقني هواي

آت، وتسبقني يداي

آت علی عطشي، وفي زوادتي تمر النخيل

فليخرج الماء الدفين إلي، وليكن الدليل

یا کربلاء تلمسي وجهي بمائك،

تكشفي عطش القتيل

وذكرت أنک لي، وأن الكون يأكل من ثمارك

ما عداي

فأتيت يسبقني هواي)(1)

فكما نرى، إن الشاعر هنا يريد العودة إلى كربلاء بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه، فالعطش والجوع والقتل الذي يعاني منه شعبه في فلسطين يذكره بالجوع والعطش والقتل الذي لحق بشهداء کربلاء، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام .

ولكن ماذا يقصد الشاعر بقوله في الجزء الأخير:

(وذكرت أنك لي... فأتيت يسبقني هواي)؟!

في الحقيقة، هذا هو جوهر القصيدة الطويلة التي اقتصرنا على ذكر هذا المقطع الوحيد منها، ولذلك، نقول - وباختصار شديد - إن المقصود بالجزء الأخير من المقطع المذكور هو أن الشاعر قد أدرك في نهاية المطاف أن كل الأمم والشعوب تستفيد من

ص: 484


1- أحمد دحبور، العودة إلى كربلاء، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص 345

دروس الإمام الحسين عليه السلام ومن ثورته المظفرة في كربلاء، فالكل يستفيد من ثمارها إلا الشعب الفلسطيني الذي هو الأكثر جدارة بالاستفادة من التجربة الكربلائية في كيفية تحقيق الانتصار على كل الطغاة والمفسدين في الأرض.

فعلى الشعب الفلسطيني أن يتخذ من الإمام الحسين عليه السلام مثلا أعلى له في نهجه وسلوكه وعمق إيمانه وأهدافه من أجل ضمان تحرير أرضه وعزة نفسه وقهر عدوه إلى يوم الدين، فالعودة إلى دروس کربلاء واجب لا بد منه.

ولو انتقلنا الآن إلى شاعر آخر من شعراء الأرض المحتلة، فسوف نرى مدى التطابق الكبير في الآراء بين (أحمد دحبور) وشاعرنا الجديد الذي سنأتي على ذكره الآن.

إن شاعرنا الذي سنتحدث عنه الآن هو في الحقيقة الشاعرة الفلسطينية البارزة (دعد كيالي)، تلك الشاعرة التي تعتبر من ألمع الشاعرات الفلسطينيات المعاصرات اللواتي كرسن أعمالهن الأدبية للنكبة وقد غنت الشاعرة (كيالي) لفلسطين في معظم شعرها، وقد نظمت هذه القصيدة التي سنذكر منها بعض الأبيات لدى زيارتها إلى مدينة النجف الأشرف وزيارة العتبات المقدسة فيها.

وقد قرنت في قصيدتها هذه بين نکبة القدس وفاجعة الطفوف، مستلهمة من کربلاء صمود الإمام الحسين عليه السلام وتضحيته بأغلى ما يملك من دماء ونفوس.

وتفتتح الشاعرة الفلسطينية (كيالي) قصيدتها (كربلاء.. آهة الشعر ودمعة الفن)

بقولها مخاطبة الفتيات العربيات:

يا فتاة العرب ابكي واندبي *** يوم عاشوراء واستبكي ونوحي

کربلا، أي مآس هجت لي *** فغدا قلبي كالطير الذبيح!!

ص: 485

کربلا، أي دماء أهرقت *** فوق كثبانك يامهد جروحي!!

کربلا، یا آهة الشعر ويا *** دمعة الفن ويا أنة روحي

وبعد هذه المقدمة المليئة بالعواطف والشجون، تنتقل الشاعرة إلى مرحلة الشكوى من ضياع القدس من أيدي العرب والمسلمين، وهنا تشتكي الشاعرة إلى الإمام الحسين عليه السلام ما حل بالعرب من ضعف وهوان وخنوع واستسلام مما تسبب بضياع وفقدان الأراضي المقدسة، وتبدأ الشاعرة شكواها إلى الإمام الحسين عليه السلام بقولها إن القدس ضاع ولم أجد من يفديه من العرب إلا بالخطب الجوفاء الرنانة، ثم تتابع قائلة: كلهم يهتف (فليحيى) وقد *** صارواموتاه من أهل القبور

ضاع من عرب وهم في لهوهم *** يضربون الطبل، لا طبل النفير

وبعد تقريعها اللاذع للعرب الذين فرطوا بمقدساتهم ولم يقتدوا بالإمام الحسين عليه السلام وبتضحياته العظيمة في كربلاء، تنتقل الشاعرة (كیالي) إلى اختتام قصيدتها الطويلة بقولها عن ختام رحلتها لضريح الإمام الشهيد عليه السلام ولكربلاء (بنت الرزایا والصروف):

جئت أستوحي ضريحا ظاهرا *** وبقلبي ذكرة الماضي الأسيف

ثم ودعت وروحي ذاهل *** وعلى ثغري صدى الروح اللهيف

آه ياذكري فؤاد ذاب من *** ضيعة القدس ومأساة الطفوف

إيه يامن ألهمتني مبدئي *** إيه يابنت الرزایا والصروف

افهمي الأعراب أن الحق لا *** شيء یعليه سوى الحرب العنيف(1)

ص: 486


1- دعد كيالي، كربلاء.. آهة الشعر ودمعة الفن، مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد /4/ مصدرسابق ص330

وللحقيقة أقول إن هذه الشاعرة قد أبدعت إبداعا حقيقيا في تصويرها للمأساة المريرة التي لحقت بالقدس الشريف نتيجة تخاذل العرب وتهاونهم في ملاقاة العدو ومجابهته بكل قوة وإيمان وعزم وتصميم، وقد كان إبداعها الأقوى في طبيعة وأسلوب الشكوى التي بثتها بين يدي الإمام الحسين عليه السلام وفي حضرته الشريفة، تلك الشكوى التي لم نذكرها كلها هنا وذلك لضيق الوقت والمكان.

ومهما يكن من أمر، فإن هذا النوع من الشعر الثوري هو الشعر القادر على إيقاظ الهمم والنفوس، وذلك من خلال طرح الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن عدم القدرة على النهوض مجددا من تحت رماد النكبة وحطام الانكسار وتحويل تلك النكبات والانكسارات إلى نقاط انطلاق جديدة في الحركات الثورية بحيث يولد الانتصار من رحم الانكسار.

ومن هنا يأتي صواب ما قاله الشاعر العالمي المعاصر (أدونيس) عندما كتب عن

الشعر الثوري قائلا: (إن الشعر الثوري هو الذي يرتبط بالحركة لا بالوضع، هو الذي يتخطى لا الذي يعكس، هو الذي يطرح الأسئلة ويكون الأفق والنار)(1)

وبما أننا لا نزال في دائرة الحديث عن علاقة كربلاء بفلسطين وبالشعر الثوري، دعونا ننتقل سوية على علم من أشهر أعلام الشعر الثورة الفلسطيني، دعونا نتوقف - ولو للحظات قليلة - مع هذا الشاعر الملتزم، مع الشاعر الراحل (محمود درویش) (1941- 2008) الذي بلغ بشهرته حدايجعلنا نستغني عن تقديمه للقارئ، خاصة وأن رحيله عنا لم يتجاوز إلا عدة من الشهور فقط.

ويقول هذا الشاعر الكبير، من جملة ما يقوله عن كربلاء:

ص: 487


1- أدونيس، زمن الشعر، مصدر سابق ص126.

(وحين أحدق فيک

أری کربلاء

وأثيوبيا

والطفولة

وأقرأ خارطة الأنبياء).

وقد علق الباحث الموسوعي، الدكتور (أسعد علي) على هذا المقطع الصغير والجميل من قصيدة الشاعر الفلسطيني (درويش)، بقوله في مقال له بعنوان (بین کربلاء وفلسطين في شعر محمود درویش): (كربلاء.. قضية تأريخية.. هي قضية الحق والباطل في كل العصور من تاريخ البشر.. لا في العصر الأموي من التأريخ العربي وحده...

وفي فلسطين أيضا، حق يغتصب من أصحابه، وانحراف إلى ظلم الإنسان خطير،

والشاعر الفلسطيني يرى بعين قلبه وعين خياله كربلاء الحديثة)(1)

وفي نهاية تعليقه على هذا المقطع الشعري، يختتم الدكتور (علي) حديثه قائلا: هذه علاقة كربلاء بنفس شاعر مشرد عن وطنه.. يرى أن استعادة ذكراها استنهاضا لنفسه المروعة لتطالب بالحق ولو كانت الشهادة في سبيل الحق هي النتيجة.

ثم ينتهي المقال عند الدكتور (أسعد علي )بهذا السؤال المنبثق أساسا من ربط

العبارتين التاليتين: (أری کربلاء

وأقرأ خارطة الأنبياء)

ص: 488


1- الدكتور أسعد علي، بين كربلاء وفلسطين في شعر محمود درويش، (الموسم)، العدد /12/ مصدر سابق ص76.

والسؤال هو: ماذا حل في خارطة الأنبياء غير استنهاض الهمم، لتكون النفوس

عاشقات للحق، وباذلات ذواتها له.. في كل أرض من كل جنس؟!

وعلى الرغم من المعرفة الواضحة بالجواب، إلا أن طبيعة السؤال تأتي أحيانا

بصيغة التأكيد على صحة المعلومات الواردة في سياق السؤال ذاته.

وعلى كل حال، فإن البعض يخطئ عندما يعتقد أن كربلاء تستنهض همم المسلمين الشيعة فقط، بل الصحيح إن كربلاء تستنهض ضمائر الأحرار وهممهم في كل مكان من هذا العالم، فالمستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) يقول - على سبيل المثال - :

(وصار مصرع الحسين عند كربلاء هم حدث في مجرى التاريخ بالنسبة للشيعة وظل هذا الشهيد رمزا للشيعة حتى يومنا هذا، فشباب الشيعة الذين يشتركون في المعارك المشتعلة في الشرق الأوسط يتخذون قضية الحسين قدوة لهم، ويعتبرون الجهاد واجبهم الأسمى وتذكر الحسين يحث المحاربين على الإصرار والتضحية بالنفس، فالحسين نبع القوة لشيعة اليوم)(1)

وبالطبع، فإن هذا الكلام ليس دقيقا بما فيه الكفاية، فمما لا شك فيه أن للإمام الحسين عليه السلام دورا كبيراجدا في انتصارات الشيعة وفي تحقيق قوتهم في كل الميادين التي تتطلب تقديم أعظم وأغلى التضحيات، ولكن هذا لا يعني أن دروس الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كانت امتیازا خاصا للمسلمين الشيعة دون غيرهم من بقية المذاهب والأديان.

وعلى ما يبدو، فإن هذا المستشرق الألماني المعاصر (کونسلمان) قد انتبه لهذه

ص: 489


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق ص59

الحقيقة، وربما هذا ما جعله يعدل فكرته عن أثر کربلاء على الشيعة وحضر أثرها عليهم مما دفعه إلى القول والتأكيد على أن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام مع أهل بيته قد أدى لاحقا إلى أن تصير سلالة محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام وآل بيتهما حية دائما في ضمائر الكثير من عموم المسلمين، وذلك لأن آل البيت عليهم السلام هم (أنبل جنس عاش يوما ما على أرض الدولة الإسلامية)(1). وبالفعل، فإن الساحة الإسلامية قد تأثرت عموما بما حدث في كربلاء، ولا تزال هذه الآثار سارية المفعول حتى يومنا هذا بما في ذلك المرحلة الحاسمة التي تشهدها ساحة الكفاح الفلسطيني هذه الأيام، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يكون مخطئا كل من يعتقد أنه ليس لثورة كربلاء أثراعلى ساحة الكفاح الفلسطيني، سواء على المستوى الفكري أو على المستوى الجهادي والاستشهادي.

وبما أننا قد تحدثنا منذ قليل عن أثر کربلاء في الفكر والأدب الشعري الفلسطيني دعونا الآن، إذن، نتحول للكلام عن الشق الآخر من الكفاح الفلسطيني، ونقصد بذلك الكلام عن الكفاح الجهادي المرتبط بالتحرك على خط الشهادة والاستبسال.

ومثالنا الأول في الحديث عن هذا النوع من الكفاح هو الشيخ السيد (حسين بركة)، أحد مؤسسي وقادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأحدمسؤوليها ورموزها الفاعلين الذين كان لهم دور متميز في تشکيل تيار إسلامي واع وثوري.

ومن المعروف عن السيد (بركة)، المولود عام / 1956/ في إحدى قرى مدينة (غزة)، أنه كان أحد أهم المعلمين البارزين في بناء جيل إسلامي كان له الدور الطليعي في العمل الجهادي وفي تفجير الانتفاضة الإسلامية الشاملة في فلسطين، وبالإضافة

ص: 490


1- نفس المصدر السابق ص59

إلى دوره الجهادي الواضح على أرض الواقع، إلا أنه يصنف أيضا كواحد من أبرز رجال الفكر الثوري والثقافة الواعية الملتزمة في فلسطين.

ويقول هذا المفكر والمجاهد في كتابه (فهل أنتم مسلمون؟!) مبينادور الإمام الحسين عليه السلام في عمليات الإصلاح والتغييرات الثورية: (إن أهم أسباب قوة وصلاحية الاجتهاد الإسلامي الشيعي اليوم للثورة والتغيير أنه يختزن في عمق كل مفردة من مفرداته روح وعمق الموقف المعارض، أو موقف صاحب الإصلاح وطالب التغيير والثورة، وبالتالي حين يقول الإمام الخميني رضی الله عنه : (كل ما لديكم فهو من الحسين عليه السلام )، فهو يعني أن كل هذا العنفوان الثوري العظيم، وكل هذه الحيوية، وكل هذه الصلابة، وكل هذا الصمود والتضحيات ما كان من السهل أن تحدث اليوم لولا موقف زعيم الثوار الأكبر في التاريخ، أبو الأحرار الحسين عليه السلام حين وقف يردد مقولته الشهيرة: «إذا كان دين محمد صل الله عليه واله لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني»)(1) وبالاستناد على هذه المعطيات الحسينية، فقد دأب السيد (بركة) على تربية الجيل الحديث من الشباب الفلسطيني تربية حسينية ثورية، وتثقيفه الثقافة الروحية والأخلاقية القادرة على شحن ورفع معنوياته القتالية في صراعه الطويل والأليم مع المحتلين الصهاينة الذين لا ينتهون عن انتهاك الحرمات وتدنيس المقدسات ومحاربة الإسلام في بلد السلام

وبالطبع، فإن حديثنا لا يتوقف عند حدود الكلام عن هذا المجال والمفكر الفلسطيني البارز الشيخ السيد (حسين بركة)، بل إننا سنأتي بمثال آخر لا يقل أهمية عن المثال الأول المذكور، إن مثالنا الثاني هو القائد الفلسطيني الشهيد (فتحي

ص: 491


1- الشيخ السيد حسين بركة، فهل أنتم مسلمون،؟ دار الفكر الإسلامي. بيروت، 1996، ص68

الشقاقي) (رحمه الله) الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي فی فلسطين.

لقد كان الشهيد (الشقاقي) تلميذا بارا بمعلمه الإمام الحسين الذي علمه كيف يحيا ومن أجل ماذا يموت، لقد أكد الشهيد (الشقاقي) لكل من كان حوله من الأهل والأصدقاء والأتباع أنه اختار طريق الإمام الحسين عليه السلام للوصول إلى هدفه الأسمى، ذلك الهدف الذي يتجلى في صون الدين وحفظ الكرامة وتحرير الأرض ومقدساتها من أيدي الكفار الغاصبين، قتلةالنبيين وأعداء الرسل والصديقين.

وقد تحدث الكاتب والباحث المصري (رفعت سيد أحمد)، مدیر مرکز يافا للدراسات، عن تأثير ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء على العديد من الثورات المعاصرة، وقد ذكر عدة أمثلة على ذلك، وكان من جملة ما قاله الأستاذ الباحث (سید أحمد) عن علاقة المناضل القيادي (فتحي الشقاقي) بثورة الإمام الحسين عليه السلام ، هو التالي:

(المثال الثالث: هو الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، الذي كان يذوب عشقا في الإمام الحسين، فاستشهد في (مالطة) عام / 1996/ غريبا مثل الحسين الذي استشهد غريبا في كربلاء، كما أسس حركة الجهاد على أسس حسينية، أخذت من معاني التضحية لدى أهل البيت عنوانا ثابتا لفلسفتها الجهادية وأدائها العسكري)(1)

وهكذا نرى أن كربلاء تظاهرة صارخة ضد كل ظلم وطغيان يمارس بحق الشعوب وحرياتها، ولم تكتسب کربلاء صفتها الخالدة إلا من وهج دم الإمام الحسين عليه السلام ودم أهله وأصحابه الأحرار المخلصين، وبالتالي، فلو لم يكن الحسين عليه السلام قد فعل ما فعل في كربلاء لما كان لكربلاء اسم یذکر.

ص: 492


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء لابد أن يستلهم معاني الجهاد، مصدر سابق ص77

وباستشهاد الإمام الحسين عليه السلام على ترابها، أصبح لها ذلك الدوي الهائل،وصارت ذات معنى لا يحاط وصفه.

وقد صدق الأستاذ والباحث اللبناني السيد (حسن نور الدين) عندما قال: (وما من ثورة ضد الظلم والعبودية إلا وكان صوت الحسين حاديها وباعثها، لقد استلهم الأحرار في كل مكان من كربلاء الفداء والإباء، ولن يحل الأمن والسلام في العالم، ولن تسود روح الحق والمساواة إلا إذا انتصرت القيم العظيمة التي رفع لواءها الحسين عليه السلام في كربلاء، حيث إن ثورته لم تكن عرضية عابرة، إنما كانت للتاريخ كله، ومن أجل الأجيال بأسرها، وهي تؤكدلنا يوما بعد يوم أن كل أمة يخلو تاريخها وضميرها ووجدانها من عاشوراء ليست أمة نابضة حية)(1)

وكتأكيد على صدق هذا الكلام وعلى صوابيته، نرى من المناسب الآن أن ننتقل إلى دائرة أوسع وأشمل من الدائرة الثورية الإسلامية التي كنا في معرض الحديث عنها منذ قليل.

لقد تحدثت في أعمالي الفكرية السابقة عن دور فكر أهل البيت عليهم السلام في تحرير أمريكا ذاتها من الاستعمار الإنكليزي، فالروح الثورية التي بثها الإمام علي عليه السلام في ذريته من خلال أقواله وأفعاله وتعاليمه المستمدة من جوهر رسالة ابن عمه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، قد لعبت دورا عظيما في استقلال أمريكا عن بريطانيا.

وقد يبدو هذا الكلام غريبا على القارئ بعض الشيء، ولكن لابأس فقصة

الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا يمكن أن توجز بكلمات قليلة ومركزة.

ص: 493


1- السيد حسن نور الدين، عاشوراء في الأدب العاملي المعاصر، الدار الإسلامية . بيروت، 1988، ص64

فالأديب والفيلسوف الأمريكي (إمرسون) (Emerson) كان قد تعرض على كلمات أمير المؤمنين علي عليه السلام سنة / 1832/، وقد ذكر ذلك الفيلسوف الأمريكي مدى تأثره بكلمات الإمام علي عليه السلام وذلك في مقالتين شهيرتين له، وهما (الذات الحق) و(الذات العليا).

والعملان الفكريان - كما يقول أستاذنا الدكتور (أسعد علي) - خلاصة لما

استلهمه ذلك الفيلسوف من مثالية حكيم الإسلام عليه السلام (1)

والحقيقة، فإن هذا الفيلسوف هو أحد المنظرين البارزين لعملية الاستقلال الأمريكي، وهو أيضا أحد الذين مهدوا الطريق فكريا لعملية الاستقلال تلك، وكان تأثير فكر الإمام علي عليه السلام عليه قويا جدا، وخاصة الفكر الثوري ضد الظلم والاستبداد والطغيان، ذلك الفكر المتجدد الذي تميز به عموم أهل البيت عليهم السلام في مسيرة حياتهم جميعا. فالإمام الحسين عليه السلام هو ابن علي عليه السلام وتلميذه، وهو المترجم العملي لأفكاره الثورية ولمبادئه الإنسانية، ولذلك فإن تأثر أي شخص بفکر محمد صلی الله علیه و آله وسلم أو علي علیه السلام، هو بلا شك - تأثر بفكر الإمام الحسين عليه السلام وبثورته الكربلائية وبمبادئ تلك الثورة الإنسانية الشاملة.

ولذلك، فعندما قرأ (إمرسون) أفكار الإمام علي عليه السلام وأقواله، وبشكل خاص مقولته الشهيرة التي يقول فيها: (رب همة غيرت أمة)، عندئذ قرر (إمرسون) أن يكون هو صاحب تلك الهمة التي ستغير حال تلك الأمة الأمريكية وتنقلها من التبعية

ص: 494


1- د. أسعد علي، الكنز المهجور وآثاره الإنسانية، راجع كتاب (نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر)، تأليف مجموعة من الأدباء والباحثين،إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، 1993، ص76

والهوان إلى التحرر والاستقلال.

وبالفعل، فقد كان ما كان واستقلت أمريكا عن بريطانيا بفضل تلك الروح الثورية التي تميز بها فكر أهل البيت عليهم السلام، والتي كانت ثورة كربلاء إحدى تجليات تلك الروح التي لعبت دورا بارزا في العديد من الثورات العالمية، حيث كانت عملية استقلال أمريكا عن بريطانيا واحدة من ثمرات ذلك الفكر الإسلامي الثوري العظيم الذي صیغ على يد أمير المؤمنين علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين عليه السلام

ومن التعليقات الجميلة على تأثير فكر الإمام علي عليه السلام الثوري، وفكر أبنائه الثوار من بعده، على الحركات الثورية المعاصرة في شتى أصقاع العالم، هو تعليق الدكتور العلامة (أسعد علي) الذي يقول فيه: (من حسن الحظ أن الكوفة لم تبتلع صوت علي عليه السلام ، ولم تكن قضيته المثلی محصورة في مسجد الكوفة الضيق... بل كانت قضية الإنسان في كل مكان وزمان...

كان أمير المؤمنين يتحدث في مكان ضيق، لكنه - وهو أبو التراب - كان يعتقد

اعتقادا جازما بأن هذا الكلام سيتلقاه أهل الذوق من أبناء التراب في كل مكان)(1)

وبعد هذا العرض الموجز والسريع عن استقلال أمريكا عن بريطانيا، دعونا ننتقل الآن للحديث عن استقلال شبه القارة الهندية عن الاستعمار الإنكليزي أيضا.

فمن المعروف للجميع أن الهند، ذلك البلد الذي يكاد أن يكون قارة بمفرده، قد وقع يوما فريسة في فم الاستعمار الإنكليزي، شأنه في ذلك شأن الكثير من البلدان التي راحت ضحية لتلك الإمبراطورية الإنكليزية المترامية الأطراف والتي لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها الشاسعة.

ص: 495


1- نفس المصدر السابق ص79

وبالرغم من قوة وضخامة تلك الإمبراطورية، إلا أنها راحت تتفكك تحت تأثیر العديد من الحركات الثورية في مستعمراتها، وكانت الهند إحدى تلك الدول الكبيرة التي استطاعت أن تتحرر من سلطة الحكم الإنكليزي، فكيف حدث هذا؟! وكيف العب فکر أهل البيت علیهم السلام الثوري - ممثلا بالإمام الحسين عليه السلام - دوره في تحريرالهند من القرصنة الإنكليزية؟!

فمن المعروف أن الزعيم الهندوسي (غاندي) قد لعب الدور الأكبر في عملية استقلال الهند، وكان هو الوجه الأبرز في دفع الثوار الهنود لإعلان العصيان المدني في وجه المستعمرين الإنكليز.

وكان يرى ذلك الزعيم الهندوسي أن الهند ستنتصر يوما على عدوها، ولكن ذلك الانتصار سيكون شاملا وكاملا إذا اقتدى أبناء الهند بالإمام الحسين عليه السلام وبطبيعة وأهداف ثورته الإنسانية النبيلة.

فالمهاتما غاندي - كما يقول عنه من درس شخصيته والعوامل التي أثرت فيها - قد تأثر بالفكر الإسلامي الإنساني، ولكن تأثره الأكبر كان بأفكار ومبادئ الإمام الحسين عليه السلام من خلال إدراكه أن الحسين عليه السلام كان مدرسة متكاملة الجوانب والأبعاد للحياة الكريمة، وكان المثال الأكمل للمسلم القرآني الذي يحمل في ذاته كل القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية التي تجعل منه مقياسا و میزان للحق)(1)

ومن الواضح بالنسبة لكل الدارسين لحياة ذلك الزعيم الهندوسي أنه لم يكن متدينا لديانة آبائه وأجداده الهندوس فقط، بل كان متدينا لديانة أهل الإنجيل والقرآن أيضا، وقد صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوس والمسلمين في

ص: 496


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية، في الفكر العالمي، مصدر سابق ص44.

الهند على الإخاء، وبذلك فقد رفع السياسة إلى مستوى القداسة.

وإذا كان البعض يرى أن الزعيم المهاتما( غاندي) قد ولد إنسانا ومات قديسا، فإن هذا الإنسان القديس قد استطاع أن يحرر بإنسانيته وبقداسته كل بلاده من سطوة الاحتلال ومن براثن الظلم والطغيان، ولكننا، لو سألناه - بنفس الوقت - قائلين:

كيف استطعت أن تحقق كل ذلك، وكيف تعلمت فعله؟!

فسيجيبنا قائلا بكل روية وهدوء، بل وبابتسامته الحزينة المعهودة:

(تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر)(1)

إذن، فمن خلال نهضة اللاعنف في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، استطاع المهاتما (غاندي) أن يتعلم الكثير من مبادئ تلك الثورة، واستطاع بنفس الوقت أن يستثمر تلك المبادئ خیر استثمار وأن يعمل لاحقا على ترجمة تلك المبادئ إلى واقع عملي يحقق من خلاله تحرير البلاد وبناء الإنسان ولذلك، فليس من الغريب أن يشبهه بعض المفكرين والأدباء بالرسل والأنبياء، وأن يتحدثوا عن تأثير فكر أهل البيت عليهم السلام عليه في أقواله وأفعاله.

وها هو أمير الشعراء (أحمد شوقي) يصفه قائلا في إحدى قصائده:

قریب القول والفعل، من المنتظر المهدي

شبيه الرسل في الذوډ عن الحق وفي الزهد

لقد علم بالحق وبالصبر وبالقصد

دعا الهندوس والإسلام للإلفة والود

ص: 497


1- راجع ما جاء في أ. رضي منصور العسيف، سفن النجاة، دار المحجة البيضاء. بيروت، 2003، ص86 ب. عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص45

بسحر من قوى الروح حوى السيفين في غمد(1)

ولعل العالم والفيلسوف الألماني (ألبرت أينشتاین) قد أصاب عندما تحدث عنه

قائلا:

(سوف يتعذر على العالم بعد ألف عام أن يصدق أن مثل هذا الرجل كان يمشي

بين الناس يوما ما)(2)

إذن، إن هذا المناضل الذي استطاع أن يحرر الهند، والذي لن يصدق الناس أنه كان يوما ما - على حد تعبير أينشتاین - يمشي على الأرض كإنسان عادي، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تلميذا في مدرسة الإمام الحسين عليه السلام ، بل وفي مدرسة أهل البيت علیهم السلام عموما أيضا.

وحتى لا يدركنا الوقت، سنتوقف الآن عند بلد جديد وفي قارة جديدة لنتعرف علی آثار ثورة الإمام الحسين عليه السلام في تحريرها وتطهيرها من رجس الطغاة والمحتلين.

فالبلد الأوروبي الذي ستتوقف عنده الآن هو (ألبانيا)، إنه الآن بلد جمهوري في منطقة البلقان، وتبلغ مساحته ( 28،748 )كم مربع فقط، وغالبية سكانه من

المسلمين.

ومن المعروف عن هذا البلد أنه تعرض للاحتلال العسكري من قبل القوات

العسكرية الإيطالية عام / 1939/.

ولكن، ومع سقوط الزعيم (موسوليني)، قامت الجيوش الألمانية بالسيطرة على

ص: 498


1- الدكتور عادل العوا، بعض عظمة غاندي، مجلة المعرفة، العدد (93)،وهذا العدد مخصص للكلام عن غاندي في ذكراه المئوية، طبع وزارة الثقافة . دمشق، 1969، ص7.
2- نفس المصدر السابق ص7

ألبانيا في خريف عام /1943/، وقد تمكن الشعب الألباني الباسل من تحریر کامل بلاده من الاستعمار الألماني في عام / 1944/.

ولكن، علينا أن نعرف بنفس الوقت أيضا، أن المسلمين الألبان لم يكونوا على خير حال مع المسلمين العثمانيين الأتراك وذلك بسبب شعورهم أن الأتراك العثمانيين يعاملونهم كمواطنين من الدرجة الثانية بالرغم من الخدمات العظيمة التي قدمها الألبان للدولة العثمانية في أيام أمجادها الأولى حيث كانت من أكبر الإمبراطوريات في العالم ومن أغناها ثروة.

وعلى كل حال، لقد أدرك الأدباء والشعراء الألبان المتقدمون أن بلدهم ألبانيا لن تتحرر من الاستعمار، بكل أشكاله وأنواعه، وعلى مر الأجيال القادمة، ما لم تتخذ تلك الأجيال القادمة من ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومن کربلائه وتضحياته قدوة ومثالا.

فالشاعر الألباني (نعیم فراشري) (1846- 1900) الذي تحدثنا عنه بشكل كاف في الفصل المخصص للحديث عن كربلاء في الشعر العالمي، يرى أن الله - سبحانه وتعالی - غني عن عبادة جميع عباده، وبالتالي: ما هي العبادة التي يريدها الله من العباد؟!

ويجيب (فراشري) على هذا السؤال بقوله في الفصل الأخير، الخامس

والعشرين، في ملحمة (كربلاء):

العبادة هي الإنسانية لدينا،

هي الصراحة وحب الخير

فمن يحب الإنسان،

ص: 499

يكون قد أحب الله

وبالروح نفسها، يعبر الشاعر (نعيم) عن مقولته الأساسية:

لا يؤمن بالله

من لا يحب الإنسانية(1)

ولأن هذا الشاعر يؤمن إيمانا عميقا بالإنسانية، فهو يكره الاستعماروالمستعمرين، ويكره أيضا كل ما من شأنه أن يسيء إلى الإنسان أو أن ينتقص من قدره أو من قدر دينه أو لغته أو قوميته وعقائده الخاصة.

ومن هذا المنطلق، كان (نعيم) يحض أبناء ألبانيا من المعاصرين له ومن الأجيال التي ستأتي لاحقا، إلى صون ألبانيا وتحريرها من كل الغزاة، وإلى الثورة على الظلم والطغيان والاقتداء كليا بالمبادئ التي نادى بها الإمام الحسين عليه السلام في ثورته الإنسانية في كربلاء.

وبهذه الروح الثورية العالية يختتم (نعیم) ملحمته التي ألهبت نفوس الألبانيين، بمحاولة ناجحة منه في الربط بين كربلاء وألبانيا، فهو يريد. كما يقول عنه الدكتور محمد موفاكو أن يعمد كل ألباني إلى استلهام معاني كربلاء لمصلحة وطنه وقوميته وإنسانيته.

ومما يؤكد هذا الكلام، تلك الخاتمة التي يقول (نعيم) فيها محرضا أبناء ألبانياعلى الثورة الدائمة ضد أي احتلال وظلم وطغيان:

(یا الله، لأجل كربلاء،

ص: 500


1- د. محمد موفاكو، ملحمة كربلاء من روائع الأدب الألباني، مجلة الموسم، العدد /2-3/، عام 1989، ص587.

لأجل الحسن والحسين،

لأجل الأئمة الاثني عشر،

الذين عانوا ما عانوه في الحياة

لا تترك ألبانيا

تسقط أو تدمر،

بل لتبقى خالدة

وليكن لها ما تريد

ليبق الألباني بطلا كما كان

ليحب ألبانيا،

ليمت في سبيل وطنه

كما مات (المختار) في سبيل (الحسين)،

وليشرف ألبانيا)(1)

وخلاصة القول، إن هذا النموذج من الشعر الذي يتقد حماسا وثورة، سواء من قصائد الشاعر (نعیم) أو من غيره من كبار شعراء ألبانيا على مدى العديد من العقود الماضية، هو أحد أهم العوامل المباشرة في عملية الاستماتة دفاعا عن كرامة ألبانيا وشرف الألبانيين الذي يجب أن يبقى مقرونا دائما وأبدا بشرف الإمام الحسين عليه السلام وبكرامة مبادئه ونبل أخلاقه وقيمه الإنسانية النادرة.

ص: 501


1- أ. نفس المصدر السابق ص588. ب . محمد موفاكو، کربلاء في الأدب الألباني، مجلة المعرفة، العدد /213، دمشق، 1979، ص110. ج. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص153

ويكفي أن نذكر هنا أن ألبانيا جزء من دول البلقان، ومن المعروف عن تلك المنطقة تاريخيا أنها منطقة حروب ساخنة على الدوام، ولم تكن ألبانيا بمنأى عن تلك الحروب الشرسة أبدا، ولذلك فقد وقعت تلك الدولة المسلمة فريسة أطماع الدول الأوروبية المجاورة في بداية القرن العشرين.

فكيف لعبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام دورها في تحرير ألبانيا من ذلك الاحتلال في تلك الفترة المتقدمة وقبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعرف ما يلي: في أعقاب حرب البلقان الكبرى والتي انهزمت فيها القوات العثمانية وخسرت بذلك الدول والمناطق التابعة لها في البلقان، احتلت الجيوش الأوروبية معظم أراضي ألبانيا، وهي الدولة الإسلامية الوحيدة في المنطقة، بينما بقيت مدينة (فلورا) الألبانية بعيدة عن الاحتلال، مما حدا بعدد من القادة الألبانيين إلى الاجتماع فيها وإعلان استقلال بلادهم من تلك المدينة بتاريخ ( 1912/11/28 ).

وقد اعترفت الدول الأوروبية المجاورة - بضغط من إمبراطورية النمسا. بذلك الاستقلال الألباني لكن على أن تظل ألبانيا تحت الرقابة المباشرة والجماعية للدول الكبرى، وأن تقطع ألبانيا كل صلاتها بالسلطة العثمانية.

وبناء على ذلك، قامت أول حكومة ألبانية ملزمة باتباع سياسة قطع كل الصلات، ليس فقط مع العثمانيين، بل ومع الدين الإسلامي أيضا، وقد ألغت تلك الحكومة أيضا الحروف العربية وأحلت محلها الحروف اللاتينية، علما بأن التراث الثقافي الألباني مکتوب كله بالحروف العربية ولمدة أربعة قرون، كما ألغت الحكومة الوظائف الدينية وعطلت القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية الإسلامية.

وكانت هذه الإجراءات اللادينية سببا في إثارة غضب وسخط الشعب الألباني

ص: 502

المسلم الذي رفض أن تلغي هويته الإسلامية ويلغى ارتباطه بتراثه المكتوب بالعربية وقد بلغ السخط الشعبي ذروته في بداية عام / 1914/ حيث اندلعت ثورة إسلامية شعبية ضد تلك الإجراءات التعسفية الظالمة، واستمرت الثورة عدة أشهر حتى أذعنت لها تلك الحكومة كما أذعنت لها أيضا الدول الأوروبية المسيطرة على المنطقة والتي كانت تحرك وتوجه الحكومة الألبانية كالدمية بين يديها.

ولذلك، فقد تم تعيين أمیر مسلم بدلا من الأمير الأوروبي السابق الذي عينته الدول الأوروبية المحتلة، كما عادت الأبجدية العربية بشكل رسمي، وتم إعطاء المفتي الأكبر صفة رسمية مع صلاحيات للمحافظة على الطابع الإسلامي للدولة.

وهنا يبرز دور الثورة الحسينية جليا في تلك الثورة الشعبية التي أعادت للألبانيين کرامتهم وعزتهم، بل وهويتهم القومية الأوروبية على أكمل وجه، فمن المعروف تماما أن البطل المجاهد والقائد المسلم الذي قاد تلك الثورة الألبانية الشعبية هو أحد كبار علماء الدين من محبي أهل البيت عليهم السلام، إنه الشيخ المسلم الشيعي (موسی الكاظمي)، الذي كان يشغل منصب المفتي العام لمدينة (تیرانا)(1)

وقد أحدث انتصار هذه الثورة المشبعة بالأفكار الإسلامية الحسينية ذعرا كبيرا في الأوساط الغربية المجاورة لألبانيا، ووصفوها بالخطر الإسلامي المهدد لأوروبا، فقامت الجيوش اليونانية باجتياح الأراضي الألبانية عام / 1914/ بغية القضاء على هذه الثورة الإسلامية التي أسست حكومة وطنية في مدينة (دورس) عاصمة ألبانياسابقا.

ص: 503


1- راجع مقال: ماذا تعرف عن الشيخ موسى الكاظمي؟ المنشور في مجلة (أهل البيت علیهم السلام )، العدد /44/، إصدار رابطة أهل البيت علیهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، آذار، 1998، ص20

لكن القوات اليونانية لم تفلح في هدفها، فقامت القوات العسكرية الصربية عام / 1915/ باجتياح ألبانيا من الشمال، فاجتمعت القوات اليونانية والصربية للقضاء على تلك الثورة الإسلامية في ألبانيا، واحتلت تلك القوات الكبيرة العاصمة (دورس) واعتقلت قادة الثورة وأعضاء الحكومة بعد مقاومة عنيفة أبداها هؤلاء مع أتباعهم الثوار في مواجهة القوات الأوروبية الجرارة.

وبعد تلك المقاومة المستميتة في الدفاع عن كرامة الأرض وعزة الدين و شرف الإنسان فقد تم اعتقال زعماء تلك الثورة الشعبية بعد إصابتهم بجراح بليغة، وعلى رأسهم أيضا الشيخ القائد (موسى الكاظمي)، وقد أجريت لهم محاكمة شكلية انتهت بإعدامهم جميعا دون أدنی رحمة(1)

.ولكن دماء هذا القائد الحسيني ودماء رفاقه من القادة والثوار لم تذهب هدرا، بل كانت هي المنارة لكل الأجيال اللاحقة كي تستكمل ما بدأه ذلك القائد الذي سار على نهج الحسين عليه السلام في التصدي لكل مظاهر الضعف والذل والهوان التي عصفت بالبلاد، وكانت ثورته هي الوقود التي أشعلت نار المقاومة لاحقا ضد المستعمرين الجدد، فثاروا على نهجه واقتدوا بمبادئه، فكان النصر وكان الخلاص.

وهنا، وبعد هذه الرحلة الطويلة مع آثار الفاجعة ودروسها، أرى أن نختتم هذا

الفصل الطويل ببعض المقتطفات الشعرية لكبار الشعراء الذين لخصوا دروس الفاجعة بأبيات شعرية مؤثرة، وقد عبروا من خلالها عن عمق إيمانهم بالحسين علیه السلام

ص: 504


1- راجع ما جاء في : أ. ماذا تعرف عن الشيخ موسى الكاظمي؟ مجلة أهل البيت عليهم السلام ، العدد /44/، مصدر سابق ص20. ب. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص75

وبالأهداف والغايات الإنسانية التي جسدتها ثورته الخالدة على مدى الأجيال.

فها هو الشاعر المسيحي (يوسف أبي رزق) يجد في الإمام الحسين عليه السلام أملا حقيقيا يحقق وحدة الوطن، ومصباحا متألقا ينير داجيات الليالي، ودرسا عظيما أطل على الإنسانية من سماء الخلود ليعلمها دروس التضحية والفداء:

فيا سبط الرسول أنردجانا *** وأشرق في الليالي الحالکات

فأنت والك الأبرار صرتم *** قرابين العلي والمحرقات

أطل من الخلود علی تراثنا *** وعلمنادروس التضحيات

وحقق وحدة الوطن المفدى *** وجنبه شرور الحادثات(1)

وهذا الشاعر المسيحي الآخر (حليم دموس)، الذي تحدثنا عنه سابقا، يحدثنا عن ضرورة المداومة على إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام ، وذلك لأن إحياء ذكراه يعني إحياء كل المعاني الإنسانية السامية التي استشهد من أجلها في كربلاء

وها هو يقول:

هذا ابن فاطمة الزهراء مفخرة *** لكل شعب بذكر الحق نجواه

لولا الشهادة لم تعرف مكانته *** ولم يفز بالعلى لولا ضحاياه

فکرموا كل عام في محافلكم *** من مقلة الله في الجنات ترعاه

د م زكي طهور لا يعادله *** دم سفكناه أو دمع سفحناه

من جده (المصطفی) المختار من قدم *** ومن أبوه (علي) كيف ننساه؟

ومن یکن کحسين في عقيدته *** هيهات تنسی عروس الشعر ذكراه(2)

ص: 505


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص6
2- نفس المصدر السابق ص6

أما الشاعر المحلق في رحاب أهل البيت عليهم السلام، ونقصد بذلك الأديب والفيلسوف الشاعر (بولس سلامة)، فقد أصر في ملحمته الشعرية الخالدة (عيد الغدير) على أن دم الإمام الحسين عليه السلام هو زيت سراج ثورات الإنسانية في كل زمان و مکان:

دمه السمح جلل الدهر فخرا *** وجرى في كل العصور خصبا وريا

کلمااعوزالمیامین عزم *** لمسوه فعاد غضاطریا(1)

وحتى لا يتهمنا القارئ الكريم بالإكثار من الشواهد الشعرية للشعراء المسيحيين، دعونا نتوقف الآن، وبعد هذه الرحلة الشاقة والشيقة، مع الشاعر الصابئي المعروف (عبد الرزاق عبد الواحد)، ذلك الشاعر الذي قال: (يظل الحسين عليه السلام رمزا يستوحى.. في كل مواقفه.. ترعدني منها اللحظة التي قرر فيها أن يقاتل وهو يعلم أنه مقتول ومعه أولاده وأهل بيته جميعا... إنها عندي ذروة الاستشهاد من أجل قضية يؤمن بها الإنسان). ولأن هذا هو إيمان هذا الشاعر الصابئي بالإمام الحسين عليه السلام وبثورته، لذلك فقد قال فيه مختتما قصيدته الرائعة (في رحاب الحسين):

قدمت وعفوك عن مقدمي *** مزيج من الدم والعلقم

كأنك أيقظت جرح العراق *** فتیاره كله في دمي

ألست الذي قال للباترات: *** خذيني، وللنفس: لا تهزمي

وطاف بأولاده والسيوف *** عليهم سوار على معصم

كذا نحن یاسیدی یا حسین *** شداد على القهر لم نشکم

ص: 506


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص307

تدور عليناعيون الذئاب *** فنحتار من أيها نحتمي

فيا سيدي ياسَناكربلاء *** یلالي في الحلك الأعتم

تشع منائره بالضياء *** وتذخربالوجع الملهم

ويا عطشا، كل جدب العصور *** سينهل من ورده الزمزم

سأطبع ثغري على مؤطئيك *** سلام لأرضك من ملثم

سلام لأرضك من ملثم(1)

وهكذا أيها الأحبة الكرام، ها قد وصلنا الآن إلى نهاية رحلتنا الطويلة مع سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام (مصباح الهدى وسفينة النجاة)، وأرجو أن أكون قد وفقت في تقديم كل ما يمكن تقديمه من أفكار وشواهد عن عظمة الحسين عليه السلام ، وعن نهضته وأهدافها ودروسها وآثارها.

ولا يخفى على القارئ الكريم كم عانيت من مصاعب ومتاعب في جمع ودراسة وتحليل ذلك الكم الهائل من المقولات الفكرية والنصوص المسرحية والقصائد الشعرية والمؤلفات النثرية التي تتحدث عن فاجعة كربلاء، باللغتين العربية والإنكليزية لكبار المفكرين والأدباء والشعراء من كافة المذاهب والأديان الحية في العالم.

وبهذا، أرجو أن أكون قد قدمت للقراء الكرام، على مختلف أطيافهم، کتابا فريدا

من نوعه، شاملا في تحليلاته، متكاملا في موضوعاته، ومقنعا لقرائه.

وليس لي الآن إلا أن أضع قلمي المتعب على الطاولة وأدعه يستريح قليلا بعد

ص: 507


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: تاريخ الدخول ( 2008/3/6 )،WWW. Yahosein. Com. /vb/showthread. Php?t = 63239

رحلته الطويلة معي في رحاب كربلاء وفي ظلال واحات الحسين عليه السلام

وليس لي أنا أيضا في هذه الليلة العاصفة، حيث تتراقص ألسنة الصواعق فوق البحر، وتضرب حبات المطر الثقيلة نافذتي بكل قوةٍ، ليس لي إلا أن أرفع يدي إلى الله العلي القدير ضارعا متوسلا بحق محمد وآل محمد أن يتقبل هذا العمل مني وأن يجعله زادا لي في سفري و غربتي ووحشتي ويوم ألقاه بقلبٍ سليمٍ، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أجمعين.

ص: 508

مناجاة الروح للنور

سيدي يا أبا عبد الله الحسین...

يا زهرة العمر في عمر بلا ربيع

یا شمعة الروح الملتهبة في محراب العشق الإلهي

ويا قطرة الندى التي غفت قليلا على رمال الصحراء

فاجتبتها شمس الحقيقة إليها فأعادتها إلى موطنها

في ملكوت السماء

سیدی یا حسین..

یا وارث الرسل والأنبياء

یا وارث أسرار الأوصياء،

أشهد انك أنت وجدك وأبوك

وأمك وأخوك، سر الوجود

وأنكم مبدأ كل موجود

وأنكم أنتم ينابيع الفيض والجود

سيدي يا حسين

یا تاج الأسياد ويا سيد الشهداء،

یا من أحلت الدم المسفوح

ص: 509

إلى شفقٍ من شعاع الروح

يا من أعدت رسم خارطة الأنبياء

بأوصالك الممزقة، وأوردتك المقطعة،

وأعدت تلوينها بکوثرك المطلول

على رمال الغربة، في ساحات الشدة، وفي ساعات العطش والوحشة والوحدة أشهد أنك أنت الوفاء والإخلاص

وبک، غدا، يكون الخلاص

وها أنا الآن يا سيدي

أقف وحيدا في هذا الليل

في محراب عشقك المتجدد،

وقد أعطيت لرهبة الموقف من قلبي الخشوع

ومن عيني الدموع

ومن جوارحي الخضوع...

وأعرف أنك، يا سيدي، تسمعني الآن... وتراني الآن

وتعرف أنت، يا سيدي، كم تعبت وعانيت في إنجاز هذا الكتاب

الذي هو الآن بين يدي، لأقدمه هدية خالصة إليك

ومع ذلك، أقسم لك صادقا

والذي نفس محمدصلی الله علیه و آله وسلم بيده،

إنني أشهد وأقر بأن كل ما قدمته، وكل تعب تعبته من أجل ذلك

لا يساوي قطرة دم واحدة من دمك العلوي المحمدي الأقدس.

ص: 510

وإن كل عام من الأعوام العديدة التي مضت من حياتي في كتابة هذا الكتاب عنك لا يساوي لحظةً واحدةٌ من لحظات العطش التي عاشها طفلك (عبد الله الرضيع).وإن ذلك التعب كلُّه لا يساوي لحظة خوفٍ واحدة من لحظات الخوف التي عاشتها يتيمتك الصغيرة (رقية) - روحي لها فداء.

وأشهد بالحق أن كل ذلك لا يساوي أيضا نظرةً واحدةً من نظراتك الحزينة وأنت ترقب عند المساء ساحة الفداء وقد ازدانت بالأضاحي العظيمة من أهلك وأحبابك وأصحابك.

فَلا والله يا سيدي، إن كل ما قدمته، وما سأقدمه، لا يساوي شيئا أمام عطاياك ياإمام العبر ويا شهيد العبرات،

وإن صبري طوال هذه الأعوام الماضية لا يعادل لحظة صبرٍ من صبرك أمام مرارة تلك الفاجعة الرهيبة.

ولَئِن حُرمت من نعمة الدفاع عنك في الأمس بالسيوف

فأحمد الله الذي مكنني اليوم من التعويض عما فات،

بالدفاع عن مبادئك وفضائلك وقضيتک بسلاح الحروف

سيدي يا حسين...

سأبوح لك بشيء يؤلمني في داخلي:

آهٍ يا سيدي، ما أصعب أن يعيش من يعرفك في مجتمعٍ يجهلك أو يتجاهلك، إنه الاحتراق بلا ضوءٍ ولا نور

اللهم اهدهم فإنهم لا يعلمون

وأخيرا يا سيدي...

ص: 511

اقبل عملي المتواضع هذا،

واجعله زادي في سفري وشفيعي في محشري

واغفر لي تقصيري بحقوقك

یا من غفرت ل- (الحر) العظيم ما كان منه بحقك

وأرجوك يا سيدي و يا مولاي

أن تذكرني بخير عند جدك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم،

فإني أرى أن اللقاء قريب

خادمك

راجي أنور هيفا

20 صفر المظفر 1430ه- 2009/2/15 م

ص: 512

المراجع المستخدمة في الكتاب حسب تسلسل استخدامها

1- أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي (أخطب خوارزم) الحنفي، مقتل الحسين،مطبعة الزهراء - النجف، 1948.

2- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سویدان - بیروت، د.تا

3- خليل عبد الكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، سينا للنشر - القاهرة، 1995.

4- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، دار العلوم - بیروت، 2006م

5۔ سلیمان کتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990.

6- بيير - هنري سیمون، الفكر والتاريخ، ترجمة: د. عادل العوا، المجلس الأعلى

لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية - دمشق، 1963.

7- أحمد بهاء الدين، المثقفون والسلطة في عالمنا العربي (كتاب العربي)،الكويت. أكتوبر، 1999.

8- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، المطبعة الميمنية بمصر، 1312 ه-.

9- الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك

ص: 513

الصحيحين، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حیدرآباد ۔ دکن، 1324ه-

10- الإمام محمود بن عمر الزمخشري، تفسير القرآن المسمى بالكشاف، مطبعة

مصطفى محمد بمصر، 1354 ه-.

11- الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور،المطبعة الميمنية بمصر، 1314 ه-.

12۔ المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حیدرآباد، دکن، 1312 ه-.

13- الإمام مسلم، صحیح مسلم، مطبوعات محمد علي صبيح وأولاده، مصر.

14- الإمام أحمد بن حنبل، المسند، المطبعة الميمنية بمصر، 1313 ه-.

15- المحب الطبري، الرياض النضرة، مطبعة الاتحاد المصري، ط 1/ القاهرة.

16- الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء، مطبعة السعادة

بمصر، 1351 ه-.

17۔ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، مطبعة السعادة بمصر، 1349 ه-.

18- الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله (المحب الطبري)، ذخائر العقبی، مکتبة

القدسي - القاهرة، 1354 ه-.

19۔ الحافظ زین الدین عبد الرؤوف المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مكتبة الزهراء - القاهرة، 1985.

20۔ الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، مكتبة القدسي -

ص: 514

القاهرة، 1352 ه-.

21- خليل فرحات، في محراب علي، طبع بیروت، د.ت.

22- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مؤسسة الأعلمي - بيروت،

د.ت.

23۔ الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت،منشورات معاونية العلاقات الدولية، طهران، 1988.

24 - السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط 1979/1 .

25- نصري سلهب، في خطى علي، دار الكتاب اللبناني - بيروت، 1973.

26 - الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، الدار الإسلامية -

بیروت، ط1/ 1992.

27۔ کریم جبر الحسن، الإمام السجاد علیه السلام، مؤسسة البلاغ - بیروت، 1990. 28- بولس سلامة، عيد الغدير، دار الكتاب اللبناني - بيروت،1986.

29- الإمام الشافعي، ديوان الشافعي، تحقيق: صلاح الدين أبو الجهاد، مكتبة المستقبل - حلب، 1999.

30۔ حامد حسن، المكزون السنجاري بين الإمارة والشعر والتصوف والفلسفة، منشورات دار مجلة الثقافة بدمشق، الطبعة الأولى 1972.

31- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة - دمشق، 1989.

32- عبد الباقي العمري، الترياق الفاروقي، دار النعمان، النجف الأشرف، 1964

ص: 515

33- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الخصال، مؤسسة الأعلمي، بیروت، ط1990/1 34- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الأمالي، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، 1980.

35- الإمام أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، قصص الأنبياء (عرائس التيجان)،

المكتبة الشعبية - بیروت، د.ت.

36- الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، ترجمه عن اللغة التركية: الملا محمد زاهد الملا زكردي، منشورات دار الآفاق الجديدة - بیروت، 1985.

37۔ سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، دار الكتاب الإسلامي - قم، .1990

38۔ محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مطبعة بولاق بمصر، 1292ه-.

39- الشيخ العلامة عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة الحياة - بيروت، 1986

40. أليكس جورافسكي، الإسلام والمسيحية (عالم المعرفة)، العدد/ 215/، ترجمة الدكتور خلف محمد الجراد، المجلس الوطني للثقافةوالفنون والآداب.

41- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات - بیروت، 1981.

42 - الحافظ أحمد بن شعيب النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي علیه السلام ، مطبعة التقدم العلمية بمصر، د.ت.

ص: 516

43- یان ریشار، الإسلام الشيعي، ترجمة: حافظ الجمالي، دار عطية - بيروت،1996 44- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، دار المعارف بمصر، ط 2/ 1982.

45- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، دار المعارف بمصر، ط 3/ 1990.

46- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، 1978.

47 - محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، 1388 ه-.

48- الشيخ عبد الغني النابلسي، ديوان الحقائق و مجموع الرقائق، دار الجيل - بیروت، د.ت.

49- سعيد عقل، الأعمال الكاملة، المجلد السادس (كما الأعمدة - الوثيقة التبادعية)، طبع نوبلیس ۔ بیروت، د.ت.

50- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، دار العصر الحديث - بیروت،1985

51- محمد رضا الأنصاري، مختارات من الأحاديث النبوية، نشر معاونية العلاقات الدولية - طهران، 1986.

52- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي (كتاب الهلال)، دارالهلال - القاهرة، أيلول، 1951.

53- مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، وزارة التربية - دمشق،

1996

54- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم - بیروت، 1982.

ص: 517

55۔ نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1988.

56۔ مجموعة من المفکرین، نداء إقبال، دار الفكر بدمشق، 1986.

57- محمد إقبال، دیوان جناح جبریل، تعريب: عبد المعين ملوحي، دار طلاس ۔

دمشق، 1987.

58 - عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام ، مؤسسة الأعلمي -

بیروت، ط 2/ 1991.

59- جرجي زيدان، غادة كربلاء، منشورات دار مكتبة الحياة - بیروت، د.ت.

60- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس - بیروت، 1965.

61- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مكتبة مصر - القاهرة،ط 2/ 1977. 62- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي، دار مصر للطباعة - القاهرة،

د.ت.

63- لويس غارديه، أهل الإسلام، ترجمة: صلاح الدين برمدا، وزارة الثقافة -

دمشق، 1981.

64- العلامة میرزا جواد ملکي التبريزي، السير إلى الله، ترجمة وشرح: السيد

ياسين الموسوي، دار التعارف للمطبوعات - بیروت، 1990.

65۔ خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مطبوعات دار الشعب - القاهرة،

ط1968/1.

66. عبد اللطيف المشتهري، سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين، طبع اللاذقيةط 2/ 1379 ه-.

ص: 518

67 - أنور الجندي، الإسلام والحضارة، دار الاعتصام - القاهرة، 1977.

68- مونتغمري واط، أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا، ترجمة: جابر

أبي جابر، طبع وزارة الثقافة . دمشق، 1981.

69- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم، طبع دار الوثبة - دمشق، د.ت.

70- تامر میر مصطفی، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار، الغدیر - بیروت،.1998

71- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة الدكتور عبد الرحمن

بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت، 1980.

72- العلامة خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، مؤسسة الوفاء - بيروت،.1983

73. ج.ن. راغهافان، تقديم الهند، تعريب: عبد الحق بن شجاعت علي،إصدار

المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، نيودلهي، ط 3/ 1983.

74۔ لویس فیشر، غاندي الثائر القديس (کتاب الهلال)، ترجمة: صوفي عبد الله،

العدد (8)، دار الهلال - القاهرة، 1952.

75۔ ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي - القاهرة، د.ت.

76- ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، المكتبة الإسلامية - طهران، د.ت.

77۔ ابن قرناس، ستة الأولين، دار الجمل - ألمانيا، ط2006/1

78۔ سلیمان کتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990.

ص: 519

79. د. نظمي لوقا، أبو بكر (کتاب الهلال)، دار الهلال - القاهرة، آذار، 1971.

80- خليل عبد الكريم، قریش من القبيلة إلى الدولة المركزية، سينا للنشر - القاهرة، 1993.

81- خليل عبد الكريم، شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، سينا للنشر - القاهرة، ط1/ 1997.

82- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت، 1973.

83 - عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب، مكتبة العرفان - بیروت، د.ت.

84- د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية،ط 1964/7 . 85- نبيل فياض، يوم انحدر الجمل من السقيفة، منشورات Exact ليماسول -

قبرص، د.ت.

86- جورج جرداق، موسوعة الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات

مكتبة الحياة - بیروت، 1970.

87- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، ترجمة: عبد المطلب الأمين، مؤسسة المفيد . بیروت، 1990.

88- دومينيك وجانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة

حسني زينة، دار الحقيقة - بيروت، ط1/ 1980.

89- جرهارد کونسلمان سطوع نجم الشيعة، ترجمة: محمد أبو رحمة، مكتبة

ص: 520

مدبولي - القاهرة، 1992.

90۔ سلیمان کتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، دار الروضة - بيروت.1993 91- سامي سليمان شيا، أقوال مأثورة، دار النهار - بیروت، 1981.

92- الحافظ شمس الدين بن محمد (الذهبي)، میزان الاعتدال، مطبعة السعادة - مصر، 1325ه-.

93 - الحافظ شهاب الدين العسقلاني (ابن حجر) تهذيب التهذيب مطبعة مجلس

دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد ۔ دکن، 1325 ه-.

94- السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، طبع دار الثقافة . قم، 1412ه-.

95 - ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، داء إحياء الكتب العربية - القاهرة، ط 1959/1

96- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، ترجمة: الدكتور محمد هادي أبوريدة، نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر في دار الثقافة العامة - القاهرة، 1968

97.- جان جاك سیدیو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة: محمد أفندي بن أحمد عبد الرزاق، دار الآثار - بیروت، ط 1400/2ه-.

98- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، ترجمة: علي المقلد، دار

التنوير - بیروت، 1983.

99- راجي أنور هيفاء الإسلام والغرب بين حوار الحروف وصدام السيوف، دار

ص: 521

العلوم - بیروت، 2004م.

100۔ سلیمان الخش، الفتح العربي الإسلامي، دار ریاض نجيب الريس، لندن،ط1/ 1994.

101- محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، مكتبة الأمل - الكويت،1967

102۔ محمد الغزالي، نظرات في القرآن، دار الكتب الحديثة - القاهرة، 1962.

103۔ سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، منشورات الشريف الرضي -

قم، 1418 ه-.

104- کمال الدین محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، مؤسسة البلاغ - بیروت، 1999.

105- ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مؤسسة الأعلمي - طهران، د.ت.

106- مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بیروت، د.ت.

107 - الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاریخ الخلفاء، دار الفكر - بیروت، د.ت. 108- محمد رضا (المصري)، الحسن والحسين، المكتبة العصرية - صيدا،ط2004/1 109- غريغوريوس الملطي (ابن العبري)، مختصر تاريخ الدول، مؤسسة نشر

منابع الثقافة الإسلامية . قم، د.ت.

110- أسعد وحيد القاسم، حقيقة الشيعة الاثني عشرية، نشر رابطة أهل البيت علیهم الاسلام العالمية - لندن، ط1/ 1991.

ص: 522

111- محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن علیه السلام ، دار المثقف المسلم ۔ قم، د.ت.

112- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، دار المعارف بمصر، ط 3/ 1969.

113- هنري ماسیه، الإسلام، ترجمة: بهيج شعبان، منشورات عويدات - بیروت، 1960.

114- آية الله العظمی محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، دار الملاك -

بیروت، ط1/ 1997.

115- محمد زكي عبد القادر، الحرية والكرامةالإنسانية، مكتبة الخانجي ۔ القاهرة، 1959.

116- محمد عبده، مختارات، إعداد ونشر وزارة الثقافة - دمشق، 2005.

117 - السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مطبعة أمير - قم، 1999. 118- کلود کاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ترجمة: د. بدر الدين

القاسم، دار الحقيقة - بیروت، 1972.

119۔ فان فلوتن، أبحاث في السيطرة العربية، ترجمة الدكتور إبراهيم بیضون،

وهذا الكتاب ملحق بكتاب الدولة الأموية والمعارضة تأليف المترجم نفسه، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر - بیروت، 1985.

120- جورج شکور، ملحمة الحسين، طبع شركة ساب إنترناسيونال - بيروت، ط 2003/1 .

121- الشيخ كاظم حمد الإحسائي النجفي، السفينة السائرة في فضائل العترة

ص: 523

الطاهرة، مؤسسة الهادي - بيروت، 1999.

122- الدكتور نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، الشركة العربية للطباعة -

القاهرة، 1959.

123- عبد البديع مجازي، المساواة والاشتراكية في الإسلام، مطبعة الإرشاد - اللاذقية، 2005م.

124-

Philip Hitti, History Of The ARABS, Macmillan, New

York, 1958

125- د. إسرائيل ولفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، طبع دار النافذة - القاهرة، ط 2006/1 م.

126- الشهيد السيد حسن الشيرازي، كلمة الله، دار الصادق - بیروت،1969.

127۔ محمد شاكر عضيمة، كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية، مطبعة

الكشاف . اللاذقية، 1969.

128- ليوبولد فایس، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة: منصور ماضي، دارالعلم للملايين - بیروت، 1957.

129 - الدكتور نوري جعفر، الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام، مطبوعات

النجاح - القاهرة، 1978.

130- محمد عبد الباقي سرور نعیم، الثائرالأول في الإسلام، طبع القاهرة - مصر، د.ت. 131- الدكتور صادق جلال العظم، الاستشراق والاستشراق معكوسا، دارالحداثة - بیروت، 1981.

ص: 524

132- آية الله السيد محمد الحسيني الطهراني، لمعات الحسين عليه السلام ، طبع

دمشق، 2002.

133۔ عبد الحميد الجوهري، الشفاء بالتنويم المغناطيسي والطاقة الروحية، نشر

إفريقيا الشرق، الدار البيضاء - المغرب، 1988.

134- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، أجوبة المسائل العلوية

مؤسسة المجتبی ۔ بیروت، 2003.

135 - الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، دار الكتاب العربي - بيروت،

1985

136- جمال الدین محمد الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، مكتبة نينوى الحديثة - طهران، د.ت.

137- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدا، المكتبة العصرية - بيروت وصيدا، 2005.

138 - الدكتورة عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي - بيروت، د.ت.

139- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مطابع ابن زيدون

. دمشق، 1974.

140 - محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب، دار الكتب العلمية - بیروت، د.ت. 141- جون کیهو، العقل الباطن، ترجمة: د. مصطفى دليلة، دار الحوار - اللاذقية،

.2001

142 - جميل جبر، من الأدب الألماني، دار الريحاني للطباعة والنشر - بیروت،

ص: 525

د.ت

153- کاتارینا مومزن، غوته والعالم العربي (سلسلة عالم المعرفة)، ترجمة: د.

عدنان عباس علي، إصدار المجلس الوطني للثقافة الكويت، عدد شباط، 1995

.1990

144- توفيق فتح الله، عاشوراء وكلمات خالدة، انتشارات لاله کویر - یزد،1421ه-. 145 - الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي، إسعاف الراغبين، دار الفكر - بیروت، د.ت.

146- محمد أحمد جاد المولى، قصص القرآن، دار الهجرة - 1984.

147- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مؤسسة الأعلمي - بيروت، 1988.

148- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، انتشارات الشريف الرضي - قم،

1417 ه-.

149- العلامة أحمد محمد حیدر، الحيرات، دار الشمال - طرابلس، لبنان،1991

150- الحافظ رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، د.ت. 151 - العلامة عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنة

والأدب، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1374 ه-.ش.

152 - الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين قتيل العبرة، دار الذخائر - قم،

1411ه-.

ص: 526

153- أبو الحسن الندوي، قصص النبيين، مؤسسة الرسالة . بیروت،ط20/ 1996. 154- محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، المطبعة الخيرية بمصر،

1320 ه-.

155- عبد الرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين، مكتبة غريب - القاهرة، د.ت.

156- أحمد مظهر العظمة، علي بن أبي طالب، مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، 1956.

157- محمد إبراهيم الأحمد، رابع الخلفاء علي بن أبي طالب، دار الرضوان -

حلب، 2004.

158- علي فكري، أحسن القصص، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1975/5.

159- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، مطبعة الإنصاف ۔ بیروت،ط4/ 1960. 160- السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، دار البلاغة - بیروت، ط 2/ 1993

161- أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مؤسسة الأعلمي - بيروت،

1980

162- مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: الدكتور عفيف دمشقية، دار

الآداب - بیروت، 1980.

163- السيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، مطبوعات النجاح -

القاهرة، 1979.

ص: 527

164- محمد عبد الله المنفلوطي، ريحانة أهل البيت السيدة زينب الكبری، مکتبة

الإيمان - القاهرة، 2007.

165- السيد عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسين، مطبعة النجف، ط1963/3.

166- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى وسفينة

النجاة، انتشارات المدرسي - طهران، 1414 ه-.

167- الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، الشرف المؤبد لآل محمد، مکتبة دار

المستقبل - حلب، ط2006/1 .

158- السيد هادي المدرسي، کتاب عاشوراء، دار ومكتبة الهلال - بیروت، د.ت. 169- آية الله السيد عبد الحسین دستغيب، الثورة الحسينية، دار التعارف ۔

بیروت، د.ت.

170 - الأمير أحمد حسین بهادرخان الهندي، تاريخ الأحمدي، أشرف على الترجمة: السيد محسن الخاتمي، مركز الدراسات والبحوث العلمية - بیروت، 1988.

171- عباس محمود العقاد، حياة قلم، دار الكتاب العربي - بيروت، 1969.

172 - أبو ریحان البيروني، الجماهر في الجواهر، نشر مكتب التراث المخطوط -

طهران، 1995.

173- جواد شبر، أدب الطف، مؤسسة التاريخ العربي -بيروت، 2001.

174- علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، دار

المرتضی - بیروت، 2004.

175۔ سلمان هادي طعمة، أم البنين، دار البقيع . طهران، 1996.

ص: 528

176- السيد نور الدين الجزائري، الخصائص الزينبية، منشورات الشريف الرضي

- قم، 1998.

177- عبد الرزاق کيلو، السيدة زينب بنت علي، دار المنارة - اللاذقية، 1995. 178- حسين الشاهرودي، يتيمة الحسين عليه السلام، مؤسسة السيدة زينب الخيرية -

بیروت، 1998.

179 - الشيخ عباس القمي، نفس المهموم، طبع دمشق، د.ت.

180- متري هنري، سفر الجامعة، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبةالقبطية الأرثوذكسية - القاهرة، 1924.

181- کارين أرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة: محمد الجورا، دار

الحصاد . دمشق، 2002.

182- الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت . قم، 1408ه-

183- نیکوس کازانتزاکیس، تقرير إلى غریكو، ترجمة: ممدوح عدوان، الجندي للطباعة والنشر - دمشق، د.ت.

184۔ محمد قرة علي، سنابل الزمن، مكتبة نوفل - بيروت.

185- السيد أحمد الفهري، دروس في التفسير، الدار الإسلامية - بیروت،1988

186- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مكتبة الصدر - طهران، 1416ه-.

187- الشيخ عباس القمي، مفاتیح الجنان والباقيات الصالحات، نشر أنصاریان -

قم، 1419ه-.

ص: 529

188- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، انتشارات ذوي القربی - إيران،1423ه-

189۔ ابن نما الحلي، مثير الأحزان، دار العلوم - بیروت، ط 2004/1

190- ابن طاوس، اللهوف على قتلى الطفوف، مطبعة العرفان - صيدا، ط 2/ 1929.

191- أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، دار دانية - بيروت ودمشق، ط1/ 1990.

192- أحمد الرحماني الهمداني، فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفی، مؤسسة

البدر - طهران، 1410 ه-.

193۔ سلیمان کتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990. 194- علي رضا برازش، مجمع الأنوار، منظمة الإعلام الإسلامي - طهران،

ط 1988/1 .

195 - محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، المؤسسة العلمية - بيروت.

196- أنور الرفاعي وسعد الدين القواص، تاريخ الدولة العربية منذ الخلافةالأموية حتى العهد العثماني، مطبعة الترقي بدمشق، 1953.

197- غسان حنا، أبجدية التجلي، دار الينابيع - دمشق، ط 2004/1

198۔ الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، طهران/ 1404ه-.

199- هادي المدرسي، الدين هو الثورة، دار التعارف للمطبوعات - بیروت،

ص: 530

200 - Gul Hasan, Solomon's Ring, Translated and

selected

by: Hasan Askari, Altamira Press, 1998

201 - Michael Antony Sells Early Islamic Mysticism

press

202 -

Christian Von Dehsen Philosophers and Religious

Leaders Green Wood

203- محمد عبد الرحيم، أربعون حديثا في فضل الشهيد والشهادة، طبع الحكمة

. دمشق، 1995.

Encyclopedia Britanica. CD - Rom. 2003-204

205- ليليان هيرلاندز (وآخرون)، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ترجمة:محمد الجورا، دار الحقائق . بيروت ودمشق، ط 1/ 1981.

206- ل. دوغارد بيتش، تشارلز دیکنز، ترجمة: رجا حوراني، مكتبة لبنان - بیروت، 1974.

207 - الأستاذ علي رضا، محاكمة سقراط، طبع حلب، ط1/ 1981.

208 - الإمام شمس الدين محمد المقدسي الحنبلي، الآداب الشرعية والمنح المرعية، بیروت، د.ت.

209- الشيخ منصور البيات القطيفي، النظرات الإلهية في الممادح المحمدية، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، 1974.

-210 Dagobert

Runes Treasury of world Literature

Philosophical Library NewYork, 1971

ص: 531

211- بربارة يونغ، هذا الرجل من لبنان، ترجمة: سعيد سابا، دار الأندلس - بیروت، 1964.

212- راجي أنور هيفا، مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام ، مؤسسة الفكر

الإسلامي - بيروت، 2003.

213- الدكتور نذير العظمة، جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية، دار

طلاس - دمشق، 1987.

214- جبران خليل جبران، کتاب النبي، ترجمة وتقديم: ثروت عكاشة، دارطلاس - دمشق، 1984.

215- ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكری جبران، مكتبة لبنان - بیروت، ط1981/1 . 216- روکس بن زايد العزيزي، الإمام علي أسد الإسلام وقدیسه، دار الكتاب

العربي - بيروت، 1979.

217- میرزا حسن الإحقاقي الحائري، رسالة الإنسانية، مؤسسة البلاغ - بیروت، ط1/ 1988.

218- العلامة محمد علي إسبر، الإسلام وبناء المجتمع، دار التعارف ۔ بیروت، ط2002/1

219 - الدكتور محمد غلاب، أدب الثورة، مطابع جريدة المصري - القاهرة،1953

220- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، دار الأندلس - بیروت، 1979.

221- خليل هنداوي (وآخرون)، زیاد ابن أبيه، مكتبة دار الشرق - بیروت، د.ت .

ص: 532

222 - السيد محمد حسين الطباطبائي، الشيعة (نص الحوار مع المستشرق کوربان)، ترجمة: جواد علي کسَّار، مؤسسة أم القرى - بیروت، ط 2/ 1418 ه-.

223 - الدكتور أحمد راسم النفيس، على خُطى الحسين، الغدیر - بیروت، ط1/ 1997.

224- سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، دار الأوائل . دمشق، ط2005/3

225- محمد الريشهري، میزان الحكمة، دار الحديث - إيران.

226- الدكتور جرجس جرجس، بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم،

نشر: مختارات بیروت، 1991.

227- یوسف سامي اليوسف، ما الشعر العظيم؟، اتحاد الكتاب العرب - دمشق،

1981

228- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة - بيروت، ط 2/ 1978.

229- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، وزارة الثقافة - دمشق، 2007. 230- أحمد خيري باشا، ديوان المدائح الحسينية، مطبعة الاعتماد - القاهرة، 1953

231- حسن العلوي، الجواهري ديوان العصر، وزارة الثقافة . دمشق، ط 1986/1 232- دیوان عمر أبو ريشة، طبع دار العودة - بیروت، 1986

233- دیوان بدر شاكر السياب، طبع دار العودة - بیروت، 1989.

ص: 533

234. فؤاد أفرام البستاني، أحمد شوقي، (اجتماعيات منتخبة)، دار المشرق -

بیروت، 1968.

235. جاسم عثمان مرغي، الشيعة في مصر، مؤسسة الوفاء - طهران، 1412ه-.

236. محمد إقبال، یا أمم الشرق، ترجمة: محمود أحمد غازي وصاوي شعلان، دار الفكر - دمشق، ط 1988/1

237- محمد إقبال، في السماء، ترجمة: الدكتور حسين مجيب المصري، نشر

مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة، 1973.

238. الدكتور علي حسون، فلسفة إقبال، دار السؤال - دمشق، ط 2/ 1968.

239-

Nagib Ullah Islamic Literature Washington Square era

Press New York, 1963

240-

Stanley Lane - Poole, Turkey, Khayats, Beirut, 1966

241- یوهان غوته، الشعر والحقيقة، ترجمة: محمد جديد، وزارة الثقافة . دمشق، 1992

242. الدكتور علي شريعتي، الحسین وارث آدم، ترجمة الدكتور إبراهيم دسوقي شتا، دار الأمير للثقافة والعلوم، بیروت، ط2004/1

243- الدكتور محمد موناكو، الثقافة الألبانية، في الأبجدية العربية (سلسلة عالم المعرفة)، العدد /68/ ، المجلس الوطني للثقافة الكويت، آب 1983. 244- نیکوس کازانتزاکیس، المسيح يصلب من جديد، ترجمة: شوقي جلال،

دار طلاس، دمشق، ط 1996/3.

245. د. جمال الدین سید محمد، الأدب اليوغسلافي المعاصر (عالم المعرفة)،

ص: 534

العدد/ 81/ ، الكويت أيلول 1984.

264- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، دمشق، 2006.

247 د. مکارم الغمري، مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي (عالم

المعرفة)، العدد/ 155/ - الكويت، تشرين الثاني، 1991.

248 - الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ في جبال بهراء وتنوخ، طبع دمشق، 2006.

249. هند هارون، بين المرسى والشراع، وزارة الثقافة - دمشق، 1984. 250 - الدكتور يوسف مراد، علم النفس في الفن والحياة (سلسلة كتاب الهلال)،العدد / 187/، دار الهلال - القاهرة، 1966.

251- د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (عالم المعرفة)، العدد/ 248/ الكويت، آب، 1999.

252۔ وليد فاضل، الحسين (ملحمة تراجيدية)، مطبعة اليمامة . حمص، 1998.

253. عبد الزهراء عثمان محمد، سيرة المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، مكتبة الشهيد الصدر - قم، 1984.

254. الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة بشرح الشيخ صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني - بيروت، 1982.

255. د. محمود المقداد، تاریخ الدراسات العربية في فرنسا (عالم المعرفة)،

العدد/ 167/ ، الكويت، 1992.

256- د. محمد عزیزة، الإسلام والمسرح (کتاب الهلال)، العدد (243)، ترجمه إلى العربية، الدكتور رفيق الصبان، دار الهلال - القاهرة، نیسان 1971.

ص: 535

257۔ الزبيدي الحنفي، تاج العروس، منشورات مكتبة الحياة - بيروت.

258 - الدكتور أنطوان معلوف، المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية،

المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1/ 1982.

259۔ مولوین میر شنت و کلیفور دلیتش، الكوميديا والتراجيديا (عالم المعرفة)، العدد/ 18/، ترجمة: د. علي أحمد محمود، الكويت، حزيران، 1979.

260. كونستانس جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة الدكتور محمد التونجي الدار العربية للموسوعات - بیروت، 1983.

261. لويس غارديه وج. قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. صبحي الصالح والأب الدكتور فرید جبر، دار العلم للملايين -

بیروت، 1967.

262۔ البارون کارا دوفو، مفكرو الإسلام، ترجمة عادل زعيتر، الدار المتحدة

للنشر - بیروت، ط 1979/1 .

263- د. زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - القاهرة، 1935.

264- أحمد محمد خالد، مسرح العرب بين نص الإسلام وسيرورته، وزارة

الثقافة . دمشق، 1997.

265 -

Toby M.Howarth, The Twelver Shia as a Muslim

Minority in India, Routledge,2005.

266 - الدكتور فرج فودة، الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات . القاهرة، 1988.

267. الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية .

ص: 536

القاهرة، 1964.

268. جبران مسوح، الاشتراكية البسيطة، دار القلم - بیروت، 1954.

269 - الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، الإتحاف بحب الأشراف، المطبعة

الأدبية بمصر، 1316 ه-.

270 - الشيخ عبد الرحمن النجار، خواطر مؤمنة، دار الرائد العربي -بيروت، 1982

271 - السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالةالتشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي کسار، مؤسسة أم القرى، ط1418/1 ه-.

Rainer Burnner The Twelver Shia in Modern TimesBrill211 272

273. لويس ماسينيون، سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران، ترجمه إلى العربية د. عبد الرحمن بدوي، ثم ألحقه بمجموعة مقالات أخرى لبعض المستشرقين وجمعهم في كتاب (شخصيات قلقة في الإسلام)، وكالة المطبوعات في الكويت، 1978.

274. الدكتورة سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول، نشرالبطحاء - إيران، د.ت. )

275. مجموعة من الأدباء، جريدة حمص في يوبيلها الماسي، 1909- 1985،مطابع ألف باء، دمشق، 1985.

276 - جواهر لال نهرو، اکتشاف الهند، دار العلم للملايين - بیروت، 1959. 277. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة: محمد عبد

ص: 537

الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي - بيروت، د.ت.

278 - محمد حسین رجبي، الحياة السياسية للإمام الخميني، دار الروضة -

بیروت، 1993.

279. جعفر حسین نزار، الخميني والثورة في الشعر العربي، دار الرائد العربي - بیروت، 1984.

280. الإمام عبد الحسین شرف الدين الموسوي، النص والاجتهاد، منشورات

قسم الدراسات الإسلامية - طهران، 1458 ه-.

281۔ ماوريتز بیرخر، دفاعا ضد أنفسنا (سلسلة الترجمات الهولندية)ترجمة:

غیاث جازي دار إيمار - دمشق، 2004.

282- سنية قراعة، نساء في التاريخ العربي (سلسلة كتاب العربي)، العدد/ 75/، الكويت، يناير، 2009.

283 - الشيخ السيد حسين بركة، فهل أنتم مسلمون؟، دار الفكر الإسلامي -

بیروت، 1996.

284 - السيد حسن نور الدين، عاشوراء في الأدب العاملي المعاصر، الدار

الإسلامية - بيروت، 1988.

285- مجموعة من الأدباء، نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر،المستشارية الإيرانية الثقافية بدمشق، 1993.

ص: 538

أسماء الجرائد والنشرات والمجلات المستخدمة:

286- مجلة النور، الأعداد (107 -176 -118)، إصدار دار النور - لندن. 287- جريدة الوحدة (العدد الصادر بتاريخ2006/2/9 )مؤسسة الوحدة -

فرع اللاذقية.

288. مجلة الثقافة الإسلامية ( العدد 50)، إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق.

289. مجلة المنبر الحسيني (العدد 2)، إصدار دار السيدة زينب في بيروت. 290. نشرة الغدير (العدد59)، إصدار مركز الإمام الخوئي في لندن.

291- مجلة أهل البيت علیهم السلام، الأعداد (44- 50)، إصدار رابطة أهل البيت عليهم السلام الإسلامية العالمية في لندن.

292. مجلة رسالة الثقلين (العدده 55) تصدر عن المعاونية الثقافية - طهران. 293- نشرة أجوبة المسائل الشرعية المطابقة لفتاوی آیة الله السيد صادق

الحسيني الشيرازي (العدد 122)، إصدار مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية. 294- مجلة (النشرة)، العدد (3) المجلد (119)، إصدار مجمع السينودس

الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان.

295- جريدة الحياة (العدد الصادر بتاريخ 11 نیسان 2007)، تصدر في بيروت.

ص: 539

296- مجلة الآداب الأجنبية (العدد 65)، إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق. 297. مجلة المعرفة الأعداد (93-213)، وزارة الثقافة بدمشق.

298- مجلة الناقد العدد (69)، تصدر عن دار ریاض نجيب الريس، بيروت

لندن.

299. مجلة الهلال (العددا )، السنة 79، تصدر عن دار الهلال في القاهرة. 300. مجلة الآداب (العدد 5-6) بتاريخ أيار - حزيران، 1999 تصدر في بيروت.

301- جريدة الثورة، ملحق العدد الصادر بتاريخ1999/5/23 تصدر في

دمشق.

302- مجلة النبأ (العدد66)، تصدر عن المستقبل للثقافة والإعلام في بيروت. 303- رؤى الحياة (مجلة) (العدد 21) تصدر في دمشق.

304- مجلة الموسم الأعداد (2-3) + العدد (12) المجلد الثالث + العدد (13) المجلد الرابع تصدر عن أكاديمية الكوفة في هولندا.

ص: 540

عناوين المواقع الإلكترونية المستخدمة:

http: H//en. Wikipedia.org/wiki/ Husayn - ibn - Ali -300 http: Www. 14Masom. Com/ mostabsiron F101. htm .309 www.yahosein.com/vb/showthread. Php?t = 63239 -307

تاريخ الدخول 2008/3/6

www.al - islam. Org/ al - Serat. 308

www. Atyaf - alnoor - net.309

310. ويمكن إضافة إلى كل ما سبق من مراجع و مواقع، وثيقة خاصة من سماحة الشيخ المجاهد (عبد الكريم عبيد)، أحد قياديي حزب الله، سلمني إياها في دمشق بتاریخ 2007/7/26 م

ص: 541

ص: 542

الفهرس

الحسين علیه السلام وارث الأنبياء عليهم السلام ...5

فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين عليه السلام...62

كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي ...126

ملحمة كربلاء في الشعر العالمي ...193

فاجعة كربلاء في المسرح العالمي ...311

دروس الفاجعة وآثارها ...400

مناجاة الروح للنور...509

المراجع المستخدمة في الكتاب حسب تسلسل استخدامها...513

الفهرس ...543

صدر للمؤلف ...544

ص: 543

صدر للمؤلف

1- صفحات من الفكر - لندن 2002.

2- مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام - بيروت، 2003.

3- الإسلام والغرب بين حوار الحروف وصدام السيوف . بیروت، 2004.

4- نظرية اللاعنف في الإسلام (بحث مقدم إلى هيئة الأمم المتحدة بتكليف من

مركز الإمام الشيرازي للدراسات)، 2004.

5. الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر - بیروت، 2005.

6- فاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث - بیروت، 2009.

قيد الإنجاز

7- سلاما يا زهراء (المرأة الكاملة في الإسلام).

8- خيوط الشمس وعبق الشرق (شعر).

9- فلسفة الموت في الشرق والغرب.

10- رؤى في فلسفة الحب والجمال.

التنضيد والإخراج الفني

الكوثر

Agsatri@yahoo.com

ص: 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.