فاجعه کربلاء فی الضمیر العالمی الحدیث المجلد 1

اشارة

فاجعة کربلاء في الضمير العالمی الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزء الاول

دار العلوم للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

الأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

اشارة

كافة الحقوق محفوظة و مسجلة

الطبعة الأولى 1430ه /2009م

المكتب : الرويس - بناية عروس الرويس - تلفاكس : 01/545182 -03473919

ص . ب : 140/ 24 - المستودع : بئر العبد - مقابل البنك اللبناني الفرنسي - هاتف : 01/541650

E-mail:info@daraloloum.com

www.daraloloum.com

ص: 2

فاجعة کربلاء

فی الضمیر العالمی الحدیث

دراسة تحلیلیة لروی دینیة و فکریة عالمیة

تأليف راجي أنورهيفا

الجزء الاول

دار العلوم

للتحقیق و الطباعة و النشر و التوزیع

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ

ص: 4

الإهداء

إلى العينين الحزينتين

المهاجرتين في كل لحظة

باتجاه زرقة السماء

إلى العمامة الطاهرة

التي اجتمع في كل خيط من خيوطها

سواد ليالي كربلاء

فأضحى صاحبها رمزا للصبر على كل مصيبة

وكل بلاء

إلى الذي علمنا أن شهادة أن لا إله إلا الله،

وأن محمدا رسوله هي الترتيلة المباركة المقدسة

التي كتبها الله لنا، وشرفنا بها،

وما علينا إلا أن ننشدها دوما بصدق وإخلاص ويقين

إلى أن تأذن ساعة الرحيل.

إلى الإمام الذي علمنا أن المؤمن، الغريب، الوحيد، العطشان، المظلوم، الذي يرفع يديه إلى السماء ويقول صابرا محتسبة: (آه) فإنما ينادي (الله).

إلى الذي علمنا أن الحياة أن نموت قاهرين،

وأن الموت أن نحيا مقهورين.

إلى كل جرح من جراحك يا سيدي ويا مولاي

يا بن علي والزهراء،

إليك يا سيدي، يا حسين...

راجي

ص: 5

شعاع من وهج الحقيقة و التاریخ

إن الحديث عن فاجعة كربلاء وعن بطلها الإمام الشهيد وما حل به وبأهل بيته الأطهار علیهم السلام هو حديث طويل وأليم، إنه حديث يفيض بالحزن والغربة، وبالعبر والعبرات، وبالدروس التي لا تزال المجتمعات الإنسانية المعاصرة تنهل منها ما تشاء من حکم ومواعظ وقيم أخلاقية عالية تجعلها أساسا راسخا لثوراتها ضد كل مظاهر الظلم والطغيان، وضد كل صور الجور والفساد والانحراف عن القيم الإيجابية الفاضلة المتجذرة في النفس الإنسانية السليمة والسوية.

والحديث عن مسيرة الإمام الحسين عليه السلام بأهله إلى أرض کربلاء هو حديث عن هجرة الروح و سفر النور الحسيني إلى عالم الماء وإلى مملكة الخلود في رحاب النور الإلهي المطلق.

فالإمام الحسين عليه السلام ، إمام الشهداء، لم يكن في سفره مجرد إمام مجاهد اختار الحركة الاستشهادية ضد واقع سلبي منحرف حاول أن يفرض ذاته عليه وعلى أتباعه المؤمنين فحسب، بل كان سفره حركة إيمانية شاملة ومتكاملة حملت عناوین عديدة ومتنوعة و من ضمنها الاستشهاد من أجل شرف الكلمة وروح الرسالة.

وعندما نقول: إن الإمام الحسين علیه السلام قد اختار إعلاء شرف الكلمة وإحياء روح الرسالة ولو كلفه ذلك بذل الغالي والرخيص وصولاً إلى تقديم الدماء والأرواح من أجل ذلك الهدف السامي النبيل، فماذا يعني هذا الكلام؟!

ص: 6

يعني هذا الكلام، وبكل بساطة، أن الكثير من الناس يتحدثون عن واقعة كربلاء من وجهة نظر تراجيدية بحتة تقوم على أساس موت البطل مع أسرته الطاهرة المقدسة بطريقة مأساوية أليمة على يد جيش جرار من الظلمة الحاقدين القادمين من كهوف التاريخ ومن صفحات الثقافة الجاهلية العفنة و من مراتع الظلام وأقبية الجهل الضاربة بجذورها عميقاً في عقولهم الصدئة وقلوبهم المهترئة.

ونحن لا نشك في أن هذه الرؤية صحيحة بوجهها العام، ولكن لا يمكن أن تكون هذه النظرة دقيقة و شاملة في حالة دراستها من زوايا خاصة أخرى.

فهناك الكثير من رجال التأريخ والسير ومن الرواة أيضاً ممن ينقلون لنا صورة الإمام الحسين عليه السلام بطريقة فجة غير ناضجة حيث يصورونه لنا بصورة الإمام الثائر الذي لم يكن له هم إلا أن يقتل بسيوف الأعداء وتقطع أوصاله برماحهم من أجل الحصول على شرف الشهادة فقط.

وفي الحقيقة، لا يمكننا أن نقول إلا أن هذه الصورة التراجيدية ناقصة في محتواها الروحي والفكري، وقاصرة في عمقها الاجتماعي والإيماني، ويأتي جزء كبير من هذا النقص المعرفي من حقيقة أننا غالباً ما نقوم بتسليط الأضواء على الإمام الحسين عليه السلام و على أهله الكرام عليهم السلام وعلى جيشه الصغير - إن جاز لها أن نسميه جيشاً- فقط، دون تسليط بعض الأضواء على خصومه وأعدائه وعلى طبيعة ذلك الجيش العرمرم الذي يستقوي به ذلك الخصم العنيد، فعندما نعرف ماهية وأهداف وغايات يزيد بن معاوية (لع)، فإننا وقتها سنعرف بلا ريب أهداف و رسالة الإمام الحسين بن علي عليه السلام الذي خرج بأعز ما يملك من أجل إجلاء الغبار عن رسالة جده المختار محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلق الله وخاتم رسله عليهم السلام.

ص: 7

فعندما نقرأ بعمق وروية وصية ورسالة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبيل مغادرته المدينة، سنعلم وبشكل واضح أهم الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام للخروج و ملاقاة جحافل یزید بن معاوية، وها هو أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي الحنفي المعروف ب (أخطب خوارزم) يحدثنا في كتابه (مقتل الحسین) عن أن الإمام الحسين عليه السلام قد دعا بدواة و بياض و كتب فيها هذه الوصية الهامة لأخيه محمد و ذلك قبيل خروجه بوقت قصير:

بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، أن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر و أسير بسيرة جدي محمد، و سيرة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا صبرت حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و يحكم بيني و بينهم و هو خير الحاکمین.

هذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، والسلام عليك و على من اتبع الهدى و لا قوة إلا بالله العلي العظيم»(1).

إن هذه السطور القليلة، بالإضافة إلى خطب وأقوال أخرى للإمام الحسين علیه السلام سنأتي على ذكرها في مكانها الصحيح في هذا الكتاب، تلخص لنا فلسفة الحركة

ص: 8


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مطبعة الزهراء، النجف الأشرف، 1948، ج1 ص188.

الحسينية المباركة الكامنة وراء مسيرته من المدينة المنورة إلى كربلاء.

فالوعد الحسيني يمثل لنا الأمل الدائم في ضرورة التخلص والقضاء على كل أنواع الانحراف الذي يصيب الضمير الإنساني القابل للتمظهر بمظهر الإيمان والعدل والنقاء، و لذلك فإننا نقول إن خروج الإمام الحسين عليه السلام مع أهل بيته الكرام الأطهار طلباً للإصلاح في أمة جده لا يعني أن الفساد قد دخل قلب الرسالة الإسلامية و جوهرها، بل الشيء الذي فسد و تحلل من كل روابط مبادئ وقيم تلك الرسالة السماوية الخالدة هو قلب الإنسان الطاغية الذي أراد أن يفسد كل ما حوله بقدر الفساد الذي يعيشه هو شخصياً من الداخل و من الخارج على حد سواء.

فالرسالة الإسلامية رسالة سماوية واضحة، وأسسها واضحة، وأحكامها جلية، و قوانينها ومبادئها بينة، ولكن ما تبدل حقا هو التطبيق والممارسة لا النظرية و لا المبادئ، نعم، لا يشك كل قارئ للتاريخ الإسلامي في أن الحكام والملوك الأمويين قد ألقوا بغبار سيرتهم السوداء على الوجه الناصع للمرأة الإسلامية التي تعكس بصدقٍ و نقاء قوانين و أحكام السماء، و أنهم حاولوا أيضاً أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن إرادة الله كانت دائماً فوق إرادتهم، و مشيئته أعلى وأقوى من مشيئتهم ومن مكرهم.

فالصورة التي نقلتها لنا كتب التاريخ والسير عن خروج الإمام الحسين عليه السلام هي صورة حركية تتجاوز في أبعادها الروحية والفكرية حدود المشهد والتراجيديا التصويرية لتنقلنا إلى عمق العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة والهدف، وهذا يعني أن حركة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مجرد ثورة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل إن حركته عليه السلام تعني الثورة الرسالية المتكاملة التي تنادي بالتغييرات الكلية الشاملة،

ص: 9

والتي أول ما تبدأ من الدعوة الصريحية للثورة على الذل والاستكانة الداخلية والخضوع النفسي داخل ذات الإنسان، و لتتسع بعد ذلك حتى تشمل حدود تغيير المجتمع بكل أبعاده، و ذلك من خلال تغيير الأشخاص والرموز التي تدعي أنها الموكلة به والقيمة عليه.

و لذلك، فإن للنهضة الحسينية أبعاداً عميقة لا نراها في غيرها من الحركات والثورات والتحركات النهضوية المختلفة، فهي- الثورة الحسينية- حركة نهضوية لا تنبع من منظور أو من منطلق شخصي، و لا تهدف إلى تحقيق منفعة ذاتية فردية، ولا تقوم على تغييب الجانب الروحي والأخروي في خط سيرها وفي منهجها، بل على العكس من ذلك، فهي حركة جهادية ذات أهداف شمولية وإنسانية عامة، تقوم على خلق نوع من التوازن بين احتياجات الروح ومتطلبات الوجود، إنها الحركة التي تجعل من الأرض ساحة صراع بين قيم الحق وقوى الباطل و ذلك من أجل مشروع تأسيس وبناء هيكل للروح في عالم السماء، فالجنة التي وعد بها المؤمنون والتي يبلغ (عرضها) السماوات والأرض، والتي لم يخبرنا الله سبحانه و تعالى عن مدی (طولها)، هي الهدف والمنطلق الذي حرك و فجر الثورة الرسالة المحمدية العلوية الحسينية لتكون ثورة إنسانية دائمةً لا يخمد لهيبها طالما أن هناك قيما للخير و قوي للشر على مسرح الحياة.

أما النقطة الثانية التي تميز هذه النهضة عن غيرها، فهي نقطة التجاوز لحدود الملحمة القومية التي تخص شعباً دون شعب أو بلداً دون بلدٍ آخر، فالدماء الطاهرة التي بذلها الإمام الحسين علیه السلام فوق رمال كربلاء الحارقة جعلت منه نشیداً روحياً تتغتی به دائماً وأبداً أفواه أبناء الإنسانية المعذبة، وتحولت عندها جراحه المتعانقة

ص: 10

على مساحة جسده الشريف إلى أوتارٍ قدسية تعزف لكل الثائرين من بعده لحن السمو والإيمان والخلود.

ومن هنا يمكننا أن نقول للقارئ الكريم: إن هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن هو کتابٌ فریدٌ في نوعه، شأنه في ذلك شأن كتابنا السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر)، ذلك الكتاب الذي حظي بالكثير من الثناء والمديح من قبل الكثير من المفكرين والنقاد و رجال الدين على مختلف مشاربهم و اعتباره أيضاً كتابة فريداً جديداً لم يسبق للمكتبتين العربية والإسلامية أن سجلتا حضوراً مميزاً لكتابٍ شبیه به في ما يحويه من أقوالٍ و شواهد و قوةٍ في الدراسة والتحليل.

وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا الدخول على العديد من المواقع الدينية والثقافية على شبكة الإنترنت للوقوف على حقيقة ذلك.

و بالتالي، فإن هذا الكتاب الذي نقرأ صفحاته الآن هو كتابٌ يتناول الحركة الحسينية من وجهات نظر عديدة، إسلامية و غير إسلامية، و بالطبع، عندما نقول و جهات نظر إسلامية فإننا نقصد بذلك و جهات نظر إسلامية غير شيعية، و على الرغم من أنني قد تعمدت أن يتناول هذا الكتاب شخصية و سيرة الإمام الحسين عليه السلام وحركته الثورية وآثارها من وجهات نظر عصرية، إلا أنني وجدت نفسي مرغماً بعض الأحيان على العودة إلى بطون الكتب التاريخية القديمة للتأكيد، بما جاء فيها، على ما كتبه حديثاً رجال الفكر والأدب والدين والسياسة حول فاجعة كربلاء وقرابينها المقدسة.

و بالطبع، فقد قمت بتقسيم الكتاب إلى عدة فصول، وكل فصل يتناول موضوعاً معيناً ولكنه بنفس الوقت يعتبر حلقة وصل تربط بين الفصل السابق والفصل اللاحق،

ص: 11

و لم أعتمد على التسلسل الزمني للأحداث التي وقعت على مسرح الفاجعة و ذلك لأن هذا الكتاب ليس كتاباً يهتم بالدرجة الأولى بتسلسل الأحداث التاريخية لتفاصيل الفاجعة، وإنما هو كتاب يهتم بالدرجة الأولى بالناحية الإنسانية وبالآثار الاجتماعية والسياسية التي خلفتها و قائع تلك الملحمة الحسينية الدامية في نفوس المسلمين والمسيحيين، بل و حتى في نفوس الكثير من الذين لا يندرجون تحت هوية الإسلام أو المسيحية، كالمهاتما غاندي، على سبيل المثال، أو غيره من اليهود والصابئة.

و يمكن أن أضيف إلى هذه المقدمة الموجزة فكرة هامة قد يعتبرها البعض غريبة بعض الشيء، ولكن لن أستفيض في مناقشتها هنا، بل سيكون لها مكانها المناسب في صفحات هذا الكتاب، و تتلخص هذه الفكرة الهامة والموجزة بقولنا إن ما جرى في کربلاء لم يكن بالشيء المستغرب و لم يكن التخطيط له وليد اللحظة، بل إن فاجعة کربلاء هي ابنة أحداث سقيفة بني ساعدة، وسيلاحظ القارئ الكريم أن الخوض في هذه الفكرة ليس شيئاً دخيلاً على موضوع هذا الكتاب و على جوهره، بل سيلاحظ مدى عمق العلاقة بين ما حدث في سقيفة بني ساعدة و بين ما جرى على مسرح الفاجعة، علماً أن هدفنا هنا ليس التجريح أو الإهانة، و إنما تقييم مواقف خاطئة فقط.

و على كل حالٍ، فإن لكل فكرةٍ مكانها الخاص بها والمناسب لها، و علينا أن لا نستعجل الأمور و علينا أيضا أن نكون في أنسب مكان يمكن للمرء أن يكون فيه بعيداً عن روح التعصب والانفعال، وعن لغة الانحياز إلى تيار العاطفة الذي يجره بعيداً عن تيار العقل وعن نهج المنطق القويم، وانطلاقاً من هذه النقطة تحديداً، فقد قمت بإجراء واستعراض الوقائع والأحداث كما جاءت في الكتب والدراسات الفكرية والتاريخية المختلفة، والتي هي بأغلبيتها كتب و دراسات غير شيعية، أي أن الكتاب

ص: 12

والمفكرين الذي قاموا بكتباتها و دراستها هم ليسوا من الشيعة أبدا، بل من أديان و مذاهب مختلفة.

وبعد أن قمت باستعراض الأحداث والوقائع كما جاءت في صفحات كتبهم الفكرية و في دواوينهم الشعرية، و بعد أن ذكرت تحليلاتهم الخاصة بهم والمتعلقة بدراسة الشخصيات والأحداث، وحتى الخطب والأحاديث، فقد قمت عند ذلك بإجراء تحليلاتي الخاصة آخذاً بعين الاعتبار أن القرار الأخير في كل مسألة من المسائل التي تعرض لها هذا الكتاب هو قرار القارئ الكريم و ليس قراري الشخصي.

فمن غير اللائق أن يعتبر الكاتب أن القارئ عبارةٌ عن حجر شطرنج يمكن تحریکه کيفما يشاء، فللقارئ، بلا ریب، عقله و فكره و ثقافته الخاصة، و له أيضاً منطقه و منهجه الفكري الخاص به، و لذلك ما علينا نحن أن نقوم به هو أن نزوده بالوقائع و بالدراسات والتحليلات الفكرية المختلفة المبنية على الحجج والبراهين، و ما عليه هو- كقارئ يبحث عن الحقائق-إلا أن يقوم بتحليلاته الخاصة أيضا وأن يجعل عقله يعمل و يتفاعل بشكلٍ أكثر فاعلية مع ما يقرؤه و بأسلوب عقلاني واعٍ يحميه من الوقوع في شرك الطائفية و أفخاخ المذهبية التي لا ترحم حقيقةً و لا تحترم حقاً مهما كان ذلك الحق متجلياً للبصائر و بادياً للأبصار.

فغاية الكتابة عن التاريخ و أحداثه هي إدراك الماضي كما كان، لا كما نتوهم أنه كان، و كذلك ليس التاريخ هو تصوير الماضي كما يجب أن يكون أو كما نريده أن يكون بل هو التصوير الدقيق والصادق للأحداث و للأشخاص مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التصوير متصف بروح الموضوعية والحيادية و إلا فإن التاريخ، في حال عدم اتصافه بالحيادية و بالصدق في التصوير، لن يكون إلا بمثابة المساحيق والألوان

ص: 13

الزاهية التي توضع على وجه أنثي تضج روحها ونفسها بالقبح والفجور.

ورب قارئ يتساءل قائلاً: و هل تاريخنا العربي والإسلامي يندرج تحت عنوان التاريخ الصادق والمحايد في وصفه و تأطيره للأحداث بالشكل الصحيح أم أنه يندرج تحت سياق التاريخ الموجه والمشوه والذي يمكن تمثيله بالوجه الأنثوي المترهل والمموه، ذلك الوجه الذي عمد البعض إلى وضع الكثير من الأصبغة والمساحيق الكثيفة عليه في محاولة يائسةٍ منهم لإخفاء صورته الحقيقية بكل ما تحمله من قبح و تشوهات؟!

و يؤسفني أن أقول في جوابي على هذا السؤال المفترض: إن تاريخنا العربي والإسلامي هو تاريخ مليء بالزيف و مترعٌ بالأكاذيب.

وليعذرني القارئ الكريم على هذه الصراحة الخشنة في حديثي، فأنا لم أعتد أن أجامل أحداً في حديثي عن قضايا هامة و حساسة كهذه، و ما اعتدت أن أكون إلا منطقياً في معالجة أية قضية من هذا المستوى أو العيار.

وحتى لا أكون مجحفاً بحق تاريخنا ولا متجنياَ عليه، و حتى أكون أكثر إنصافاً وأكثر موضوعية واتزاناً في حكمي عليه، أرى لزاماً علي أن أشير و بكل وضوح إلى أن هناك صفحات بيضاء ناصعة في تاريخنا العربي والإسلامي بحيث لا يستطيع كائن من كان أن يتجاهل تلك الصفحات أو أن ينكرها أو يضرب عنها صفحاً.

فتاريخنا ليس كله مظلماً و ليس كله عبئاً على الحقيقة، بل نستطيع أن نقول إننا بحاجة إلى أقلام حرة وجريئة، إلى أقلام حرة تنتقد بنزاهةٍ وموضوعية، إلى أقلام تمجد الحق لا إلى أقلام تقدس السلطة والسلطان، إننا بحاجةٍ إلى كل هذه الأقلام اليوم من أجل رفع النقاب عن وجه التاريخ الإسلامي وإظهار الوقائع والأحداث على

ص: 14

حقيقتها التي كانت عليه بالفعل، فمعالجة قضايانا التاريخية يجب أن تستند إلى سلطة العقل لا إلى عقل السلطة.

علينا اليوم أن نقول إن تلك الصفحة من تاريخنا كانت بيضاء مشرفة، ونحن نعتز بها و نعتبرها مثالاً رائعاً ومأمثلاً على نحتذي به في عصرنا الراهن، و لكن علينا بنفس الوقت أن نكون شجعاناً أمام ذواتنا و نقول بصوتٍ عالٍ إن تلك الصفحة الأخرى من تاريخنا سوداء ومذلة، و نحن نعترف بها و نخجل منها و لكنها اليوم درس مفيد لنا إذ علينا أن نحللها و نستوعب كل السلبيات التي أفرزتها و ذلك من أجل الحرص الشديد على عدم تكرارها في وقتنا الحاضر.

فثمار اليوم هي النتيجة الطبيعية لغراس الماضي، فإذا ساءت الغرسة أو سكتنا عن الآفات التي تعصف بها، فإن الثمار ستأتي بعد حين مريضة و غير مكتملة في نضجها، و ربما الشجرة ذاتها لن تعرف أغصانها طريقاً إلى شمس المستقبل لأنها ستكون قد هو على الأرض و قد حولها داؤها العضال إلى مجرد كومة من الحطب لا تصلح أن تكون إلا و قوداً للنار التي ستحيلها إلى رماد تذروه الرياح والعواصف

والمشكلة الحقيقية هنا هي أننا لا نتعظ من الماضي ولا نأخذ عبراً من دروسه القاسية والمريرة، فلا أحد يشك في أن العصر الجاهلي، ذلك العصر السابق على مجيء الرسالة الإسلامية، قد مر وانقضى وأخذ معه الكثير من متناقضاته والكثير من نقائصه و سيئاته، و لا سبيل إلى عودته اليوم في الحالة التي كان عليها بالأمس.

نعم، لا أحد يشك باستحالة عودة هيكل الماضي للعيش معنا في الحاضر، و لكن الذي نشك فيه، و ربما تصل عندنا درجة الشك إلى حالة اليقين، هو حقيقة أننا قد تخلصنا تماماً من رواسب العصر الجاهلي و من سلبياته و مساوئه، فروح العصر

ص: 15

الجاهلي لا تزال تعيش في حالة كمون داخل عقول و قلوب الكثيرين من أبناء القرن الحادي والعشرين من المسلمين داخل و خارج ديار العروبة.

و باختصار شديد، أقول إننا نعاني اليوم من جاهلية القرن الحادي والعشرين والتي لا تختلف بجوهرها كثيراً عن جاهلية ما قبل الإسلام.

وأعتقد أنني قد ناقشت هذه النقطة بشكلٍ موسع في الكتاب السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر) و ذلك من خلال الكلام عن ربط مفهوم العروبة بالإسلام لدرجة جعل العروبة هي الهوية القومية للرسالة الإسلامية من جهة، و جعل الإسلام هو الهوية الروحية للعروبة من جهة أخرى.

و لذلك لا داعي للإسهاب في الحديث عن هذا الموضوع و لكن ما أردت قوله هنا هو أن هناك من لا يزال يكتب عن أحداث التاريخ الإسلامي بقلمٍ يستمد مداده من محابر العصر الجاهلي و يستمد قوته و غطرسته من روح العصر الأموي، ذلك العصر الذي قام أساساً على أسس و مرتكزات التركيبة النفسية والاجتماعية للعصر الجاهلي متجاوزاً بذلك معظم قيم و مبادئ الرسالة الإسلامية التي جاء بها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم هديةً كريمةً من السماء إلى عموم أهل الأرض من عربٍ و غير عرب.

و لذلك أقول بصراحةٍ، إن هناك ارتباطاً وثيقاً جداً بين العصرين، العصر الجاهلي والعصر الأموي لدرجة أنني عندما أقرأ ما جاء في العصر الجاهلي من مثالب و مساوئ أجد نفسي في حالة استرجاع فكري شامل لما كان يتصف به العصر الأموي من صفاتٍ سلبية مشابهة، و بالمقابل أيضاً، عندما أقرأ عن واقع المسلمين والعرب المسلمين في ظل الحكومات الأموية المتعاقبة أجد نفسي، و بشكلٍ لاشعوري، في حالة مقارنة بين هذا العصر المحسوب على الإسلام و بين عصرٍ آخر أكثر قدماً و يقع

ص: 16

خارج الدائرة الإسلامية لأجد - بعد تلك المقارنة - أن أبسط ما يمكن أن يقال هو أن العصر الأموي يمثل الابن الشرعي للعصر الجاهلي و ليس للرسالة الإسلامية.

و لا أريد هنا أن أكشف النقاب عن الوجه المظلم لجاهلية ما قبل الإسلام و كيف كانت حالة التركيبة النفسية والاجتماعية لغالبية الأفراد في تلك الفترة، و لكن يكفي أن أشير إلى أن التركيبة الفكرية والبنية النفسية للذات العربية قد تسللت بما هي عليه إلى دائرة الانتماء الإسلامي المولود حديثاً والمنادی به من قبل الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

فهناك العديد من المسلمين - و هذا ليس سراًة على أحدٍ- قد دخلوا إلى دائرة الانتماء الإسلامي إما طمعاً و إما خوفاً و لم يدخل الإيمان المطلوب إلى قلوبهم، و قد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة في أكثر من موقعٍ و اصفا إياهم بالمنافقين سواءً كانوا من (الأعراب) أم من (أهل المدينة) ليقطع بذلك الطريق على كل من يريد أن يقول إن ظاهرة النفاق مقتصرة على الأعراب دون غيرهم من العرب، فالآية القرآنية الكريمة التالية: «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ»(1)، إنها آيهٌ شريفة واضحة و دالة على وجود ظاهرة النفاق في صفوف المسلمين، تلك الصفوف التي تمثل الجيل الأول من الداخلين إلى الدعوة الجديدة سواء كانوا عرباً أم أعراباً.

وأرى من الواجب علينا هنا أن نذكر مثالاً أو مثالين عن أناسٍ دخلوا وانضموا إلى صفوف المسلمين لكنهم لم يستطيعوا أن يتخلوا تماماً عن طبيعتهم الجاهلية و عن عصبياتهم القبلية و ثاراتهم الشخصية القديمة.

ص: 17


1- توبه، 101

و لذلك، و قبل إيراد البعض من هذه الأمثلة المناسبة لابد من التأكيد على صفة بارزة لازمت العقل العربي منذ زمنٍ بعيدٍ يصعب تحديد بدايته و تتعلق بعدم قبول (الآخر) و احترام هويته حتى ولو كان ذلك (الآخر) عربياً و لكن من قبيلةٍ أخرى.

فالإنسان العربي، و على الرغم من الصفات الإيجابية التي كان يتحلى بها، لم يستطع أن يتخلى عن (أناه) المفرطة والمتضخمة أمام الآخرين من غير قبيلته، إنه مستعد أن يكون حجرة مصمتة على رقعة قبيلته الشطرنجية بحيث يترك على مساحة تلك الرقعة دون إرادة منه إلى درجة أن تذوب (أناه) في ميدان تلك القبيلة بكل يسر و رحابة صدر، غير أنه من المستحيل تقريباً أن يقبل ذلك الرجل احتواء آراء الآخرين من القبائل المحيطة بقبيلته حتى في أعظم الأمور التي تتطلب من الفرد أن يعمل عقله فيها كأن يلقي بسيفه جانباً و لا يشارك قبيلته في حرب جائرةٍ ظالمةٍ ضد قبيلةٍ أخرى ضعيفة و مظلومةٍ و لا ناصر لها، و ما قول الشاعر:

و ما أنا إلا من غزيةٍ إن غوت *** غويت ، و إن ترشد غزية أرشد

ما هذا القول إلا واحد من عشرات الأقوال والأمثلة الصائبة والدالة على صدق مقالنا إن مرض (الأنا) المتضخمة ضمن إطار القبيلة والتعصب لها والذي اجتاح عقولنا بالأمس لا يزال يسري فيها بقوة حتى يومنا هذا، إنها حالة أشبه ما تكن بحالة السير أثناء النوم أو ما تعرف علمياً بحالة (الشرنمة)، فكم من رأس قطع بالسيف و كم من صدرٍ طعن بالرمح من أجل ناقةٍ أو من أجل فرسٍ كما حدث في حرب البسوس و في حرب داحس والغبراء، و كم عقدٍ من الزمان دامت هذه الحروب و كم كلفت من دماءٍ وأرواحٍ من أجل إرضاء خاطر هذه القبيلة أو تلك!!

إن العقل العربي و قتذاك كان يقدم و لاءه المطلق للقبيلة و كأن حدود العالم تنتهي

ص: 18

عند آخر خيمةٍ من خيام قبيلته، لقد كان يشعر أن (الأنا) هي الكمال وال (هو) من غير قبيلته هو النقص، إذ لا مجال للاتفاق بين النقص والكمال إلا ضمن أطرٍ محددة لا يسمح بتجاوزها أبداً(1)

و للأسف الشديد، فقد انتقلت هذه الحالة إلى ظل الدولة الأموية و من بعدها إلى الدولة العباسية بشكلٍ ملحوظٍ تماماً و صار العقل العربي ينظر إلى عقول البقية ممن هم في جوارهم نظرةً دونيةً غير قائمةٍ على احترام الإرث الثقافي والروحي لهذا الشعب أو ذاك، بل نرى أن الكثير من المفكرين العرب أنفسهم قد أعدموا بتهمة الزندقة والكفر وحوربت الفلسفة و رفض علم المنطق و راحت المدارس الإسلامية تكفر بعضها بعضاً، و كان من نتيجة ذلك أن سالت الدماء بين الأخوة العرب و بين المسلمين عموماً.

و حتى لا نكون جائرين على الدولة الأموية، أو على الأقل حتى لا يتهمنا أحد بذلك، نرى أن هناك العديد من المشاهد والصور التي تعكس بصدقٍ كل ما أسلفنا من قول على الرغم من أنها مشاهد و صور مأخوذة من الخيوط الأولى لفجر الرسالة الإسلامية و من العهد الراشدي أيضاً.

و على سبيل المثال، كل واحدٍ منا يعرف من هو خالد بن الوليد و كيف أسلم و متى كان ذلك، و كلنا يعرف أيضاً دوره القوي في التصدي للرسالة الإسلامية و للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و كيف لعب الدور الحاسم في إلحاق الهزيمة بالمسلمين يوم غزوة أحد، و كيف استطاع هو و جنوده العتاة النيل من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم حتى سال

ص: 19


1- راجي أنور هيفا، محاكمة العقل العربي، مجلة النور العدد (107)، دار النور، لندن، نیسان 2000م، ص12.

الدم الغزير من رأسه الشريف و من فمه، فما كان منه صلی الله علیه و آله و سلم إلا أن وقف و رفع يديه إلى السماء قائلاً: «كيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْه نَبِيّهمْ بِالدَّمِ!!»(1)

نعم، كلنا يعرف أن هذا قد حدث قبل إسلام خالد بن الوليد، و لكن هل كلنا يعرف ماذا حدث بعد إظهار إسلامه؟!

على كل حالٍ دعونا الآن نقرأ ما جاء في الجزء الثالث من كتاب (تاریخ الأمم والملوك) للمؤرخ (محمد ابن جرير الطبري) حول بعض ما قام به خالد بن الوليد بعد إظهاره للإسلام، و سنترك التعليق على ما حدث للقارئ الكريم كي يرى أن الأخلاق الجاهلية والنزعات التعصبية كانت عميقة في جذورها داخل عقول و قلوب العديد من أولئك الذين دخلوا دائرة الدين الإسلامي الجديد.

إن المؤرخ (الطبري) يحدثنا عن مسير خالد بن الوليد، بتكليفٍ رسمي من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، إلى بني جذيمة ليؤكد على دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لهم مجدداً كي يجاهروا بإسلامهم و يؤمنوا عمليا بمبادئه و قيمه بعد أن بينها و شرحها لهم.

و بالفعل، يتحرك خالد بن الوليد على رأس جماعةٍ من معاونيه لتنفيذ المهمة الموكلة إليه، و لكن ما أن يصل خالد و رجاله إلى القبيلة المقصودة حتى يظهر أمر غريب من خالد، فبعد أن وصل إلى القبيلة و عرفهم على نفسه بأنه مبعوث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إليهم، بعد أن أعطاهم الأمان على أرواحهم و أموالهم و أعراضهم، نراه يأمر رجاله أن يجردوا رجال القبيلة من أسلحتهم، ثم يأمر بهم بعد ذلك فتوثق أيديهم، و لم يكتف خالد بفعل ذلك، بل عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر

ص: 20


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج2، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سویدان، بيروت، ج2 ص515

المشؤوم إلى رسول صلی الله علیه و آله و سلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ».

و يتابع (الطبري) حديثه قائلاً بأنه بعد أن دفع الإمام علي عليه السلام ديات القتلى نيابةً عن رسول الله و بأمره صلی الله علیه و آله و سلم، وقف رسول الله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى إنه لیری بیاض ما تحت منكبيه، و هو يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ» ثلاث مرات(1).

هذا هو المشهد الأول من المشاهد الدالة على انتقال العصبية القبلية والروح الجاهلية إلى ميدان العمل الإسلامي من قبل أشخاص دخلوا إلى الإسلام وانضموا إلى صفوفه في الوقت الذي كانت فيه قلوبهم ما تزال تئن و تعاني من أمراض الجاهلية المزمنة.

أما المشهد الثاني من مجموعة المشاهد الكثيرة التي يمكن أن نوردها في بحثنا هذا، هو ذلك المشهد المأساوي الذي ذكره المفكر والباحث المصري المعاصر (خليل عبد الكريم) في كتابه (الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية) والمتعلق بمقتل أحد الرجال المسلمين على يد خالد بن الوليد أيضاً بتهمة الارتداد عن الدين، إذ إن الطريقة الوحيدة للتخلص من الخصم هي رميه بتهمة الزندقة أو الارتداد عن الدين.

و يلخص لنا الأستاذ الباحث (عبد الكريم) تلك الحادثة المأساوية والدالة على التركيبة النفسية المضطربة لخالد بن الوليد بتأكيده على أن خالداً ما أراد أن يلصق تهمة الارتداد عن الدين ب (مالك بن نويرة) إلا من أجل أن يتخلص منه و يصفو له

ص: 21


1- نفس المصدر السابق، ج3 ص68.

الجو الاغتصاب زوجته البارعة الجمال (أم تميم)، و هذا ما قام به خالد بن الوليد بالفعل، فقد أعمل خالد سيفه و سيوف رجاله في رقاب بني يربوع، رهط مالك بن نويرة، بل وقام بقتل أسراهم و من ثم قام بقتل مالك بن نويرة بنفسه و نكح امرأته في نفس اليوم، حتى أن عمر بن الخطاب لما سمع بما قام به خالد على رؤوس الأشهاد، أغلظ القول لخالد بن الوليد مهدداً متوعداً: (قَتَلَتْ امرءا مُسْلِماً ثُمَّ نَزَوْتُ عَلَى امْرَأَتُهُ ، وَ اللَّهُ لَأَرْجُمَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ!)(1)

و بعد أن يورد الأستاذ (عبد الكريم) هذه الحادثة الشنيعة التي قام بها خالد بن الوليد بحق مالك بن نويرة و بحق زوجته أم تميم، نراه يعلق على تلك الحادثة بقوله مخاطباً القارئ ومبيناً له كيف أن بعض المؤرخين والباحثين راحوا يلتمسون الأعذار لما قام به ابن الوليد من عملية اغتصاب لزوجة رجل مسلم قتله غدراً و مكراً:

(دعك مما ذكره المؤرخون من أن تلك الزوجة (أم تميم) كانت صاحبة أجمل ساقين بين نساء العرب حتى كان يضرب بهما المثل فيقال (أحسن من ساقي أم تميم)، أو أنها كانت ذات شعر أسود فاحم ينسدل حتى منتصف ظهرها، أو أن عينيها زانهما الحور فزادهما سحراً، أو أن ابن الوليد كان يهواها في الجاهلية، دعك من كل هذا، فحتى لو كانت أم تميم تلك أقبح امرأةٍ في جزيرة العرب فما كان يجوز لخالد أن ينكحها . أو (ينزو عليها) بتعبير عمر بن الخطاب- بعد أن قتل زوجها، هذه التجاوزات التي لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها)(2).

و هنا نرى أنه من حقنا أن نتساءل قائلين، و دون أدنى إحراج:

ص: 22


1- خليل عبد الكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، سينا للنشر، القاهرة، 1995، ص111.
2- نفس المصدر السابق ص111.

لماذا لم تفعل الأخلاق الإسلامية فعلتها في قلب و ضمير خالد بن الوليد کي تمنعه من قتل امرئٍ مسلم من أجل مجرد الفوز بساقي زوجته الجميلة؟!

و أي إيمان هذا الذي يدفع بقائدٍ، والقائد يجب أن يكون قدوةً لغيره، إلى أن يعمد إلى نحر رجلٍ بريءٍ بعد رميه بتهم باطلة، و من ثم التمثيل بجثته و حرقها، لا لشيءٍ إلا لأن هذا المسكين قد تزوج و بطريقةٍ شرعيةٍ، من عشيقة ذلك القائد المسلم (البطل) حيث كان يهواها في الجاهلية في الوقت الذي كانت هي ترفض أن تبادله ذلك الهوی؟!

ولا أعتقد أن الإجابة على أسئلةٍ كهذه تحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء، بل أعتقد أن ما تحتاجه الإجابة هو القليل من الجرأة والموضوعية والصدق مع الذات أولاً و آخراً.

و أظن، بنفس الوقت، أين هذين المشهدين أو هاتين الحادثتين تكفيان تماماً لإعطاء صورة واضحة المعالم عن كيفية انتقال الإرث الفكري الجاهلي إلى الساحة الإسلامية عن طريق أناسٍ لم يستطيعوا أن ينفصلوا تمام الانفصال عن جاهليتهم و سلوكياتها، و لم يستطيعوا أيضا أن يتشربوا و يتمثلوا أخلاقيات و أدبيات الدين السماوي الجديد.

أما النقطة الثانية، و هي النقطة المتعلقة بقضية تضخم (الأنا) ضمن إطار القبيلة فإنني أعتقد أن هذه المسألة أيضاً أخذت طريقها إلى الدولتين الأموية والعباسية مروراً بالخلافة الراشدية ذاتها، و لا أريد أن أستفيض في شرح هذه المسألة و لا أن أكثر من الأمثلة للتأكيد على وجودها، و لكن كل ما أريد أن أقوله الآن هو أن العرب الذين يعيرون بقية القوميات والشعوب بامتلاكهم للنزعة الشعوبية، تلك النزعة التي تحط

ص: 23

من قيمة العرب و مقدارهم إنما هم مخطئون تماما في ما يدعون، فالعرب يعيرون غيرهم بالشعوبية انطلاقاً من مبدأ (الهجوم خير وسيلةٍ للدفاع) و ذلك لأننا لو راجعنا بعض المواقف التي شهدتها ساحة الخلافة الراشدية لوجدنا أن (الخليفة) ذاته كان هو البادئ في قدح شرارة تلك النزعة القائمة على احتقار بقية الشعوب و على الانتقاص من قدرهم أمام (الأنا) المتضخمة قبليا من جهة و غروبیاً من جهةٍ أخرى.

و على سبيل المثال لا الحصر، عندما تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد أن أوصى له بها الخليفة الأول أبو بكر، قام بعدة أعمال و إجراءات كان من شأنها أن زرعت بذور الشقاق بين العرب والعجم، و بين القبائل العربية ذاتها مما أدى إلى إزكاء نار الحقد والبغضاء بين القبائل و زيادة الشعور بضرورة التعصب والتحزب في ظل دینٍ لا يسمح أساسا بالتعصب إلا للحق وحده و لا يرغب بالتحزب إلا لمكارم الفعال و محامد الخصال

و لم يكن المؤرخون القدماء و لا الباحثون المسلمون المعاصرون هم وحدهم الذين أدركوا هذه الحقائق والوقائع، بل نرى أن المفكرين المسيحيين المعاصرين أيضاً قد أدركوا ذلك، وقد أثبتوا في كتبهم، و بالاعتماد على مصادر إسلامية سنية، أن عمر بن الخطاب حينما تولى الخلافة، (فرض العطاء على مبدأ التفضيل، ففضل السابقين على غيرهم، و فضل المهاجرين على الأنصار، والعرب على العجم، والصريح على المولى، و مضر على ربيعة، والأوس على الخزرج)(1).

و يرى بعض المفكرين المسيحيين أيضاً أن عمر بن الخطاب قد ابتعد كثيراً عن سياسة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الداعية إلى جعل الناس، أمام مقياس العدل والحق

ص: 24


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، انتشارات الهاشمي، قم، ط 3/ 1984، ص197.

متساوین كأسنان المشط، والداعية أيضاً إلى جعل التقوى هي المعيار الأساسي للتفضیل بین فرد و آخر أو قوم و آخر، إذ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، و لذلك فإن عمر بن الخطاب، في نظر ذلك الصنف من المفكرين والأدباء المسيحيين المعاصرين، قد لعب الدور الأبرز في الابتعاد عن المناقبية الإسلامية و عن الصفة العالمية للرسالة التي أرادها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم شريعة عالمية منفتحة على العالم بأسره تأبى الانعزال والتقوقع على ذاتها ضمن دائرة العروبة و داخل حدود العصبيات القبلية البغيضة(1).

و بناء على ما تقدم، ألا يعني هذا أن الحركة الشعوبية التي بلغت أوجها في العصر العباسي إنما كانت نتيجة حتمية و طبيعية للرؤی و للممارسات الاستعلائية الخاطئة التي صدرت أول ما صدرت عن (الخليفة الراشدي) نفسه؟!

ألا يعني هذا أيضاً أن هذه الحقائق التي تغص بها كتبنا التاريخية والتراثية الإسلامية، والتي تكشف النقاب عن الوجه الصحيح للكثير من الشخصيات التي لعبت دوراً بارزاً في تصنيع أحداث ذلك الماضي، ألا يعني ذلك أن هذه الحقائق الثابتة تاريخياً هي التي تخيف المفكرين والباحثين العرب والمؤرخين المسلمين المعاصرين أيضاً و تمنعهم من الخوض في مسألة إعادة كتابةالتاريخ العربي والإسلامي؟!

فهناك خوفٌ واضحٌ عند العديد من المفكرين العرب والإسلاميين تجاه مسألة إعادة كتابة التاريخ بكافة أبعاده و في مختلف مجالاته، و هم بذلك يتعاملون مع التاريخ و كأنه تاریخٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لذلك لا يجوز المساس به و لا يجوز

ص: 25


1- سليمان كتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور، (ضمن مجموعة محمد شاطئ و سحاب)، دار المرتضى، بيروت، 1990م، ص718.

حتى التفكير في مجرد إعادة ترتيب أوراقه و وضع النقاط على الحروف.

و هنا نقول لهذا الصنف من المفكرين إن التاريخ ليس كتاباً مقدساً و ليس مرآة صافية تعكس دائماً الصور والوجوه كما هي عليه بالفعل، و فوق ذلك، فالتاريخ ليس إرثاً قومياً بل هو میراث إنساني عام، و لا أعتقد أن الأديب الفرنسي (ألبير كامو 1913۔ 1960) قد جانب الصواب عندما قال موضحاً وجهة نظره تجاه التاريخ العام للبشرية المتعبة وكيفية التعامل معه: (ليس للتاريخ عيون، و لذا ينبغي رفض عدالته والاستعاضة عنها قدر الإمكان بالعدالة التي يتصورها الفكر)(1).

فالتاريخ ليس مادة صماء تكتب مرةً واحدةً و بشكلٍ حاسمٍ و قاطعٍ، بل هو المادة التي يمكن، بل يجب، أن تعاد کتابتها و باستمرار على ضوء ظهور معلومات جديدة تتعلق بأي حادثة مفصلية من حوادث التاريخ أو على ضوء ظهور أدوات فكرية مستجدة تستخدم في فهم التاريخ و في تحليل أحداثه و تعليلها، بل و في كشف المزيف منها أيضاً.

و على سبيل المثال، يذكر الباحث المصري المعاصر (أحمد بهاء الدين 1927۔ 1996) في معرض حديثه عن التاريخ وعن ضرورة إعمال الفكر في دراسة التاريخ و دراسة أحداثه و كشف المزيف منها أن الكثير من المؤرخين ينسبون إلى بعض فراعنة مصر القدماء أنهم كانوا يمحون ما سبق أن حفره أسلافهم على الصخر الأصم من تسجيل للأحداث التاريخية، و كانوا يعيدون كتابة بعض تلك الأحداث ناسبين إلى أنفسهم معارك و وقائع لم يخوضوها أبداً، وانتصارات خيالية لم يحرزوها البتة،

ص: 26


1- بيير . هنري سيمون، الفكر والتاريخ، ترجمة: د. عادل العوا، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1993م، ص5.

و جلائل أعمال لم يقوموا بها مطلقاً، سواء كان ذلك تهميشاً لحكام و فراعنة سابقين عليهم قاموا بتلك الأعمال، أو انتحالاً لفضل لا حق لهم فيه أبداً.

و ليس هذا فحسب، بل و في القرن العشرين أيضاً، و بعد أن مات (لينين) قائد و زعيم الثورة الاشتراكية الروسية، و دارت رحى الحرب العنيفة على السلطة و على المراكز السلطوية من بعده بين أشهر و أبرز رفيقين له و هما (ستالين) و (تروتسكي) انتهت تلك المعركة الحامية بانتصار (ستالين) و بهزيمة (تروتسكي) و بطرده من البلاد شر طرد.

و بعد ذلك، فقد عمد (ستالين) إلى وثائق الثورة مستخدماً سلطته الشخصية المستمدة من سلطة الدولة المطلقة و راح يمحو منها كل عمل مهم و مفيدٍ قام به (تروتسكي) في سبيل الثورة و من أجل الشعب، و ظهرت- وقتذاك-أعداد هائلة من الكتب و دوائر المعارف التي طبعت طبعات جديدة تعيد صياغة أحداث الثورة و تعيد تشریح و دراسة شخصياتها البارزة بطريقةٍ جديدة تماماً بحيث تزيل وتمحو أثر (تروتسكي) أو تشوه دوره الإيجابي في أحداث الثورة.

و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حتى اللوحات الزيتية الرائعة التي رسمها الفنانون تخليداً لمجريات الثورة وأحداثها الحاسمة، عادت إليها ريشة الفنان، و بأمر من ستالين، كي تمحو وجه (تروتسكي) حيثما ظهر فيها، و قد قاموا بالعمل ذاته في الأرشيف الذي يحتوي على الصور الفوتو غرافية الهامة، فأجروا عليها الكثير من التعديلات التي تصب في المجرى ذاته(1).

ص: 27


1- أحمد بهاء الدين، المثقفون والسلطة في عالمنا العربي (كتاب العربي)، الكتاب 38، الكويت 15 أكتوبر، 1999م، ص157

إذن، ما حدث منذ ما يقارب الأربعة آلاف عام يتكرر أيضاً في القرن العشرين، القرن الذي غادرنا منذ سنوات قليلة فقط، و لذلك، فمما لا شك فيه أبداً، أن عادة التزييف والتلاعب بالتاريخ هي عادة مستحكم في العقول السلطوية، بل و في عقول أولئك المفكرين والباحثين الذين يعملون تحت إشراف السلطة و برعايتها، فيكتبون ما تريده السلطة الحاكمة و يحذفون ما تشاء و يحرفون و يشوهون ما ترغب فيه و تبتغيه.

وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نؤكد أن تاريخنا العربي والإسلامي هو عبارة عن حلقة من حلقات التاريخ البشري الطويل، و بالتالي هو أيضا معرض للتزييف والتشويه و قلب الحقائق رأسا على عقب، شأنه في ذلك شأن أي تاريخ كتب بسياط الجلاد أو بسيف السياف أو حتى بريشة الكاتب المعتاش على فتات موائد السلطان الحاكم.

و لسنا هنا بمعرض الحديث المطول والمعمق حول حجم و طبيعة التشويه والتزييف اللذين لحقا بتاريخنا، و بشكلٍ خاص التاريخ الإسلامي الذي كان له النصيب الأوفر من طمس الحقائق قياساً بما لحق التاريخ العربي عموماً من تزویر و قلب للوقائع والحقائق، و لكن كل ما نريد أن نقوله هنا هو أن حادثة كربلاء، تلك الحادثة الفاجعة التي اهتر لها الضمير الإنساني عموماً لم تكن أيضاً بمعزلٍ و بمنأى عن يد الدهاء والمكر التي تريد أن تنال من قيمتها الفكرية و من معانيها الروحية، بل و ترید أن تجمل صورة القاتل أيضاً في الوقت الذي تريد فيه أن تشوه صورة الضحية و تزيف قائمة المبادئ والقيم التي كانت تلك الضحية تسعى لتحقيقها بكل ما أوتيت من عزمٍ وتصميمٍ و إيمان.

و من هنا يأتي دور كتابنا هذا في الرد على أولئك المتعصبين الذين يريدون أن

ص: 28

يدافعوا عن القتلة وأن يلتمسوا لهم الأعذار والحجج في كل ما أقدموا عليه من عملٍ شنيع أو تصرفٍ فظيعٍ يتنافى مع أبسط قواعد و مبادئ الإسلام و مع أدنى حد من حدود الإنسانية.

و ليس هذا فحسب، بل يأتي دور هذا الكتاب أيضا في كشف الكثير من الحقائق التي تتعلق بالمبادئ والأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها كل من الطرفين المتصارعين في كربلاء على كافة المستويات الحياتية والأخروية.

والأهم هذا، هو أن الزاوية التي سننظر منها إلى فاجعة كربلاء لن تكون زاوية ذات نظرةٍ شيعية أو رؤية إمامية، بل ستكون الرؤية منطلقة من زاوية أكثر اتساعاً و شمولية، إنها الرؤية المبنية على الفكر الإنساني العام و على الضمير العالمي الشامل، إنها تلك الرؤية الإنسانية العالمية التي لا تعترف بحواجز المكان و لا تعترف بحدود الزمان، و لا حتى بمبدأ تأطير الفاجعة ضمن خطوط و حدود الدين الواحد الذي ولدت الفاجعة الكربلائية في أحضانه.

و يرى أصحاب تلك النظرة الإنسانية العامة أن المساحة الزمنية التي تحتلها کربلاء على امتداد الوجود البشري تبدأ منذ اليوم الذي اغتال فيه (قابیل) أخاه الوحيد والمظلوم (هابیل) باللجوء إلى الحوار الدمائي معه دون وجه حق، و تنتهي عند حدود آخر فاجعة يمكن أن يشهدها مسرح الحياة في عملية الصراع المرير والدائم بين قوى الخير و قوى الشر، فالفاجعة الكربلائية عند أولئك المفكرين والأدباء- كما سنرى لاحقاً في فصول هذا الكتاب- تمثل الاختزال الحقيقي لكل بلاء وابتلاءٍ حل بعالم الأنبياء والرسل أو بعالم الفواجع البشرية التي دفع فيها الإنسان المؤمن أغلى ما يملك من ولدٍ و مالٍ و روحٍ ودماءٍ من أجل الدفاع عن قيم الحق والخير والفضيلة و من أجل

ص: 29

إبقاء الشعلة الإلهية حيةً و دائمةً الاتقاد في صدور المؤمنين بالله من جهة، و بكرامة الإنسانية و قيمها و مثلها الرفيعة من جهة أخرى.

و هنا نعتقد أن الوقت قد حان فعلا للانطلاق في رحلتنا المؤثرة عبر صفحةٍ داميةٍ من صفحات التاريخ الإسلامي لنتعرف من خلالها على ماهية الصراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين النفس المطمئنة والنفس المسؤلة، و ليكن شعارنا دائماً هو: (الحق هو القوة و ليست القوة هي الحق).

ص: 30

أهل البيت علیهم السلام عماد الوجود و رحمته

أن نبدأ الحديث عن أهل البيت النبوي الشريف عليه السلام، معنى ذلك أن نتحدث عن رسالة الإسلام السماوية بكل قيمها و بكل أبعادها الروحية والفكرية، معنى ذلك أن نتحدث عن القرآن العظيم الخالد بكل ما يختزن من مفردات وجودية و بكل ما يملك من ذخائر معرفية تتناول الحیاتین الدينية والدنيوية.

أن نتحدث عن أهل البيت المحمدي عليهمالسلام الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، معنى ذلك أن نتحدث عن الطهر الإلهي و عن الصفاء السماوي الأزلي السرمدي المستمد في وجوده و بقائه من ديمومة الحق الأبلج المطلق، ذلك الحق الذي لا يحد بحد و لا يقاس بند

أن نتحدث عن آل بيت المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذين افترض الله سبحانه و تعالی مودتهم و محبتهم في محكم تنزيله الشريف على كل مسلمٍ و مسلمة و مؤمنٍ ومؤمنةٍ، يعني ذلك أن نتحدث عن معاني الحب و رموزه، عن التجسيد العملي والحركي لكل جانبٍ من جوانب الحب الأسمى، عن تلك القوة الهائلة التي يمنحنا الحب إياها كي نقف بثباتٍ و بقوة إيمان أمام رياح الشر و عواصفه و أمام الأمواج العاتية التي تجتاحنا أحياناً من الداخل حيث تستيقظ مع تلك الأمواج كوامن النفس الأمارة بالسوء و تثور معها أيضاً نزعات و رغبات النفس المسؤلة لتجعل من ذواتنا هشيماً و حطاماً، بل وأثراً بعد عين أيضاً.

ص: 31

فالله محبة، والمحبة لا تفيض إلا من ذاتها و لا تلقي على الآخرين إلا و ريف ظلالها.

والمحبة نور أيضاً، والنور لا يقبل أن يجتمع مع الظلام في مكان واحد و في زمان واحد أبداً.

و لأن الله نور و لأن الله محبة، فإن الله سيتجلی نوراً و محبةً في قلوب المحبين العاشقين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ»(1)، فدائرة العشق الإلهي لن تكتمل عند العاشق المحب ما لم يصل الی حالة محو المحب لصفاته من أجل إثبات و تأكيد المحبوب بذاته.

والحب في وجودنا لا يتحرك في فراغ و لا يتجسد و يتجلى في غير أهله، الحب ليس معنى مجرداً و ليس هو عبارة عن حالة غيبية ميتافيزيقية، بل هو حالة حركة و ثورة داخلية، و هو حالة توحدية يتحد فيها المحب مع الحب ذاته من أجل الوصول إلى الحبيب المقصود.

فروح المؤمن أشد اتصالاً بالله من شعاع الشمس بقرصها، و كذلك الحال في نهاية المطاف بين الطالب والمطلوب، بين الحبيب والمحبوب.

و عندما نتكلم عن أهل البيت عليهم السلام فإننا نتكلم عن كلمات الله التامات التي تلقاها سیدنا آدم (عليه الصلاة والسلام) من ربه الغفور الرحيم فتاب عليه، فأهل بيت الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم هم الكلمات التامات و هم أنوار العرش العظيم و هم مصابيح الهدى و سفن النجاة، و هم سفينة نوح و باب حطة، و هم عماد الوجود و أساس كل موجود.

ص: 32


1- سورة المائدة: الآية 54.

و ليست هذه الأوصاف المختصة بأهل البيت علیهم السلام هي مجرد أوصافٍ نلتقي بها كثيراً في كتب و مؤلفات المسلمين الشيعة بحيث يخيل للمرء أنها أوصاف مبالغ فيها و ربما تكون أوصافاً نابعةً من عاطفةٍ مذهبيةٍ جياشة تتجاوز في عمقها و شدتها كل حد و تصورٍ، بل هي في الواقع أوصاف حقيقية صادقة و يمكن لنا أن نقع عليها في الكثير من مؤلفات و دواوين إخواننا المسلمين السنة، و ليس هذا فحسب، بل حتى أنه يمكننا أن نقرأ تلك الأوصاف العميقة والتوصيفات الدقيقة في الكثير من كتب و دواوين و دراسات المفكرين المسيحيين أيضاً.

والشيء الآخر الذي يمكننا أن ندركه أيضاً هو أن تلك الصفات العميقة التي ذكرناها بشأن حقيقة أهل البيت عليهم السلام والتي سنستعرضها لاحقاً في كتب السنة والمسيحيين، لم تكن ناتجةً عن عاطفةً مذهبيةٍ أو عن عصبيةٍ فئوية، بل هي أوصاف و حقائق جاء بها رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، بل هو الرسول الأمين الذي يبلغ الناس ما يوحى إليه عن رب العالمين دون زيادةٍ أو نقصان و بكل صدق و أمانة.

و لو توقفنا الآن قليلاً مع أهل البيت علیهم السلام، ذلك البيت النبوي الشريف والذي يمثل الإمام الحسين عليهه السلام أحد أقطابه الهامة، فإننا نستطيع أن نقول من خلال هذه الوقفة القصيرة إن أهل البيت النبوي عليهم السلام هم المرموز إليهم في محكم التنزيل ب (المؤمنين) وَ(الصادقين) و(خير البرية) و(أهل الذكر) وإلى غير ما هنالك من أوصافٍ حميدةٍ لا تليق إلا بهم علیهم السلام.

و فوق كل ذلك، هم معتمد كل الأنبياء والمرسلين السابقين علیهم السلام، و هم كهفهم و ملاذهم، و بهم و بفضلهم كانت نجاتهم من المهالك و كان خلاصهم من كل هم

ص: 33

و غم.

فما هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه حتى تاب عليه؟!

و ماذا قال سيدنا إبراهيم علیه السلام حتى جعل الله سبحانه وتعالى النار برداً وسلاماً عليه؟!

و كيف فرج الله الكربات عن النبي الصابر أيوب؟!

وكيف استجاب الله لدعاء يعقوب؟!

و كيف تخلص سیدنا يوسف من البلاء العظيم عندما ألقي في غياهب الجب؟!

إنها، بلا شك، أسئلة بالغة الحساسية و مثيرة بالفعل، غير أن الإجابة عليها ستكون بدورها أكثر إثارةً وأعظم دلالة على خصيص مكانة أهل البيت علیهم السلام في الكتابين الإلهيين العظيمين، الكتاب التدويني المتمثل بالقرآن الكريم، والكتاب التكويني المتمثل بالوجود و عالم الإمكان.

و قبل الإجابة على بعض تلك الأسئلة المطروحة سابقة، لابد لنا من الوقوف على تفسير بعض الآيات القرآنية الشريفة لنتعرف من خلالها على المكانة الرفيعة التي يشغلها آل بيت النبوة في الكتاب الإلهي العظيم.

و على سبيل المثال، فقد جاء في كتاب (الصواعق المحرقة) الشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، و في غيره من كتب السنة المعتبرة، في تفسير قوله تعالى: «مَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً»(1).

قوله: وأخرج أحمد عن ابن عباس (في تفسير الآية المذكورة) هي (المودة لآل

ص: 34


1- سورة الشورى: الآية 23

محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم).(1)

و قد جاء في العديد من كتب السنة أيضا أن المقصود من قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(2) هم آل بيت محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، و على سبيل المثال أيضاً، فقد ذكر المتقي الهندي الحنفي في كتابه (کنز العمال) والحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في كتابه (الدر المنثور) أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لما نزلت هذه الآية «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»: «ذَاكَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ أَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي صَادِقاً غیر کاذب وَ أَحَبَّ الْمُؤْمِنِينَ شَاهِداً وَ غَائِباً ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ يَتَحَابُّونَ»(3).

و قد جاء في صحيح الإمام مسلم أنه لما نزلت هذه الآية «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا

ص: 35


1- راجع ما جاء في كل من: أ- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، المطبعة الميمنية بمصر المحروسة، 1312ه، ص 101. ب- الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك الصحيحين، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد دکن، 1324ه، ج3 ص172. ج- الإمام محمود بن عمر الزمخشري، تفسير القرآن المسمى بالكشاف، مطبعة مصطفى محمد بمصر، 1354ه، راجع ما جاء في تفسير الآية المذكورة ضمن شرح سورة (الشوری). د- الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، المطبعة الميمنية بمصر، 1314ه، راجع تفسير الآية المذكورة ضمن شرح سورة (الشوری).
2- سورة الرعد : الآية 28
3- راجع على سبيل المثال ما جاء في: أ. المتقي الهندي، كنز العمال ج 1 ص 251، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد دکن، 1312ه. ب. الإمام السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، راجع ذیل تفسير الآية المذكورة.

وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1) و هي الآية المعروفة باسم آية المباهلة، دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليا و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال: «اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهلُ»(2).

و هناك أيضاً عشرات الآيات القرآنية المباركة التي نزلت لتبيان فضائل أهل البيت المحمدي الطاهر عليهم السلام و لإظهار خصيص مكانتهم و سمو مواقعهم، و لكننا لا نستطيع أن نورد كل ما جاء في حقهم من مدح و ثناء في محكم التنزيل الإلهي المبارك و ذلك لأن موضوع کتابنا الأساسي يفرض علينا أن لا نسهب كثيراً في الكلام عن كل ما من شأنه أن يبعدنا عن الفكرة الأساسية والموضوع الرئيسي لهذا الكتاب.

و لكن يكفي أن نقول إن آية المودة «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ...» و هي الآية رقم (23) من سورة الشورى، و إن آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» و هي الآية (33) من سورة الأحزاب، هما آیتان قرآنیتان واضحتان من حيث نزولهما على آل بيت المصطفى علیهم السلام بحيث إن كل المفسرين والرواة المسلمين، على مختلف أطيافهم و مشاربهم قد أجمعوا على نزولهما في أهل بيت محمد عليهم السلام حصراً.

و لو انتقلنا الآن من دائرة القرآن الكريم إلى دائرةٍ أخرى، و هي دائرة الحديث النبوي الشريف، لنرى كيف كان الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم ينظر إلى أهل البيت عليهم السلام و كيف كان يراهم بنور بصيرته و بصفاء سريرته، فإننا سنقع أيضاً على الكثير من الأحاديث النبوية الهامة التي تتداولها كتب المسلمين جيلاً إثر جيل، و ستبقى، بلا

ص: 36


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- الإمام مسلم، صحيح مسلم ج7، مطبوعات محمد علي صبيح و أولاده . مصر، راجع ج7 ص120. 121.

ریب، كذلك طالما أن المسلمين يسمعون الأذان والصلاة على محمد و آل محمد خمس مرات في كل يوم.

و على سبيل المثال، روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة أنه قال: نظر النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم إلى علي والحسن والحسين و فاطمة علیهم السلام، فقال: «أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ وَ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ»(1).

أما الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله الشهير ب (المحب الطبري) فقد روى في كتابه ( الرياض النضرة) عن أبي بكر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم خيم خيمة و هو متكئ على قوس عربية، و في الخيمة علي و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقال: «مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنَا سِلْمُ لِمَنْ سَالِمٍ أَهْلِ الْخَيْمَةِ ، حَرْبُ لِمَنْ حَارَبَهُمْ ، وَلِيُّ لِمَنْ وَالَاهُمْ، لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا سَعِيدُ الْجَدِّ ، طَيِّبُ الْمَوْلِدِ ، وَ لَا يُبْغِضُهُمُ إِلَّا شَقِيُّ الْجَدِّ ، رَدِي ءُ الْوِلَادَةِ»(2)

و قد روى الحاكم النيسابوري أيضاً في كتابه (مستدرك الصحيحين) عن زيد بن أرقم أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم من حجة الوداع و نزل غدیر خم أمر بدوحاتٍ فقال: «كأني قد دعي فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، ك تَابَ اللَّهُ تعالی وَ عِتْرَتِي فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا ، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»(3)

و ربما كان الحديث النبوي الشريف الذي سنورده الآن هو الحديث الأكثر شهرة في كتب المسلمين عموماً، إنه حديث الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي يصور فيه أهل

ص: 37


1- راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 2 ص 442، طبع المطبعة الميمنية بمصر، 1313ه.
2- المحب الطبري، الرياض النضرة ج2 ص199، مطبعة الاتحاد المصري . الطبعة الأولى.
3- الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين ج3 ص109، مصدر سابق.

بيته عليهم السلام بصورة باب حطة و بسفينة نوح، فقد جاء في الكثير من كتب المسلمين السنة أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، الذي لا ينطق عن الهوى، أنه قال: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مِثْلَ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»(1)، وأنه صلی الله علیه و آله و سلم قال في موضعٍ آخر: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق، و إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له»(2).

و لا شك في أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد استفاض في بيان مكانة أهل البيت علیهم السلام للمسلمين و كان صلی الله علیه و آله و سلم دائم التذكير بضرورة التمسك بهم و بموالاتهم و اتباع نهجهم و لو بخوض اللجج و سفك المهج و ذلك لأنهم هم علیهم السلام في نهاية المطاف وجه الرحمن و ترجمان القرآن.

وانطلاقا من هذه النقطة الهامة والأساسية نرى لزاماً علينا أن نذكر المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في كتب إخواننا السنة و التي كان لها أبلغ الأثر في نفوس عموم المسلمين من جهةٍ و في نفوس و عقول الكثير من المفکرین

ص: 38


1- راجع على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في: أ. الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين ج2 ص343، مصدر سابق. ب . الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء ج4، ص306، مطبعة السعادة بمصر، 1351ه. ج. الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ج12 ص19، مطبعة السعادة بمصر، 1349ه. د. الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله (المحب الطبري)، ذخائر العقبى ص 20، مكتبة القدسي. القاهرة، 1354ه. ه . الحافظ زین الدین عبد الرؤوف المناوي، كنوز الحقائق ص137، مكتبة الزهراء . القاهرة ط 1، 1985م.
2- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ج 9 ص168، مكتبة القدسي . القاهرة، 1352ه.

المسيحيين وغير المسيحيين من جهةٍ أخرى.

و لكن قبل أن نورد المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم السلام و بسمو مكانتهم، ينبغي أن أشير إلى أن الاستزادة من هذه الأحاديث النبوية الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام عموماً ليست خروجاً عن موضوع بحثنا الأساسي والمتمثل بالحديث عن الإمام الحسين عليه السلام و عن ثورته المباركة، و إنما هي جزء هام من موضوع بحثنا و ذلك لأن أهل البيت عليهم السلام ذوو جوهرٍ واحدٍ و معدنٍ واحد، و بالتالي فإن الكلام عنهم عليهم السلام هو بنفس الوقت كلامٌ عن كل فردٍ منهم، والكلام عن كل فردٍ منهم هو، بالضرورة أيضاً، كلامُ عنهم بالإجمال و ذلك بسبب التوحد في الجوهر والتعدد في المظهر.

و لا ريب في أن الشاعر المسيحي المعاصر (خليل فرحات) كان محقاً في قصيدته المطولة (في محراب علي) عندما و صف أهل البيت عليهم السلام بأنهم أكثر رقةٍ و شفافية من النور ذاته لأنهم هم في مجملهم يمثلون خلاصة اللطف النوراني الإلهي، و ها هو يقول معلناً ذلك بكل صدقٍ و إيمانٍ ومؤكداً على حقيقة توحدهم في الجوهر و تعددهم في المظهر:

محال عبور الشمس جسر شروقهم *** و هم يعبرون الضوء من غير ما جسر

يذوبون في الأنوار حتی كأنهم *** خلاصة لطف الله في خالص الأجر(1)

و على كل حالٍ، و حتى لا نطيل المقدمات على قارئنا الكريم، دعونا الآن

ص: 39


1- خليل فرحات، في محراب علي (مطولة شعرية) و هي منشورة بالكامل تقريباً في مجلة (الموسم) العدد السابع، صدر العدد في هولندا (1990)، أما القصيدة الكاملة فمطبوعة بشكلٍ مستقل و تحمل نفس العنوان أيضأ مع مقدمة طيبة بقلم الأديب والشاعر اللبناني الراحل نجيب جمال الدين، راجع البيتين السابقين في الصفحة 27.

نستعرض باقةً من أحاديث النبي المصطفی حول حقيقة منزلة أهل بيته عليهم السلام المطهرين من كل دنسٍ و رجس

قال الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم: «مَن حَفِظَني فِي أَهْلِ بَيْتِي فَقَدِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً»(1)

و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي مَنْ أَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي وَ هُمْ شِيعَتِي»(2).

و قال صلی الله علیه و آله و سلم في موضعٍ آخر و على رؤوس الأشهاد: «من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا و من مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا و من و مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير، ألا و من مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا و من مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمن، ألا و من مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مکتوباً بين عينيه آیسٌ من رحمة الله، ألا و من مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا و من مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة»(3)

و من الأحاديث النبوية الهامة التي يمكن أن نذكرها هنا، هو ذاك الحديث الذي ورد أيضاً في العديد من كتب السنة والذي يمتلك في ذاته دلالات معنوية عميقة لا

ص: 40


1- المحب الطبري، ذخائر العقبى ص18، مصدر سابق.
2- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ج2 ص146، مصدر سابق.
3- راجع ما جاء في : أ. الزمخشري، التفسير المسمى ب (الكشاف)، مصدر سابق، راجع ما جاء في تفسير قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي» في سورة الشورى. ب. العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة ج1 ص26، مؤسسة الأعلمي . بيروت.

يمكن لكل ذي لب أن يغضي عنها أو أن يتجاهلها أبداً، و يقول نص الحديث، كما جاء في كتب إخواننا السنة: «من لم يعرف حق عترتي والأنصار، فهو لإحدى ثلاث: إما منافق، و إما كرنية، و إما لغير طهر، يعني حملته أثره على غير طهر»(1)

و لا ريب في أن كلام الرسول صائبٌ تماماً في شأن من لم يعرف حق عترته و أنصاره، بل كيف لا يكون الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم صائباً في ذلك و هو القائل مخاطباً المسلمين في منطقة (الجحفة): «ألست أولی بكم من أنفسكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:

«فَإِنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ اثْنَيْنِ : عَنِ الْقُرْآنِ ، وَ عَنْ عِتْرَتِي»(2)

و عندما يقول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم هذا الكلام عن الكتاب وعن العترة، فإن هذا يعني أن الرسول يريد أن يقول للمسلمين على مر العصور والأجيال أن هناك علاقةً و طيدةً و رابطةً وثيقة بين طرفي المعادلة الأكثر أهمية في رسالة الإسلام.

فالطرف الأول من المعادلة هو القرآن الكريم، ذلك الكتاب السماوي الخالد الذي «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»(3)، وبالطبع ليس المقصود هنا من كلمة (لا يمسه) عملية اللمس المادي، فشتان بين المس واللمس، فاللمس عملية احتكاك مادي، بينما المس عملية نفسية معنوية كأن نقول: إن فلاناً من الناس فيه مسٌ من الشيطان أو

ص: 41


1- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت ص 45، منشورات معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1988م.
2- راجع ما جاء في : أ. الحافظ جلال الدين السيوطي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت ص62، مصدر سابق. ب. الحافظ الهيثمي، مجمع الزوائد ج5 ص195، مصدر سابق. ج. الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء ج1 ص64، مصدر سابق.
3- سورة الواقعة: الآية 79.

الجن.

و بالتالي، فإن المقصود من الآية السابقة شيئان أساسيان، و هما: أولاً: لا يستطيع أحدٌ أن يمس معاني القرآن النبيلة و قيمه السامية ما لم يكن ذلك المرء من أصحاب الطهارة الروحية والنقاوة النفسية بإقبالهم على الله و بمحبتهم لرسوله و كتابه.

ثانية، إن المقصود من الآية السابقة هو أن القرآن بذاته هو کتاب طاهر مطهرٌ من كل نقصٍ و خطأ و عيب، فهو كتابٌ سماوی کامل و خالد و قد صدر حقاً عن إلهٍ حکیمٍ مطلق الكمال والجلال.

أما الطرف الثاني من المعادلة، فهو العترة الطاهرة، تلك العترة المباركة التي أخبرنا الله سبحانه و تعالى عنها بأنه قد أذهب عنها الرجس و طهرها تطهيراً، و هذا يعني بدوره أن عترة النبي المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم هم أيضاً، كالقرآن الكريم، مبرؤون من كل نقصٍ وخطأ و عيب، فهم بالتالي يمثلون الجانب العملي والحركي من القرآن الكريم.

و بما أن القرآن الكريم هو الكتاب الشامل لدراسة مفردات الحياة الدينية والحياة الدنيوية، فإن عترة محمد المصطفى علیهم السلام هم رسل القرآن إلى الإنسان، و هم أيضاً صوت الرحمن بين خلقه، و لذلك، عندما نفتح و نقرأ الصفحة تلو الصفحة في كتاب أهل البيت الشريف علیهم السلام، فإن ذلك يعني أننا نقرأ صفحات الإيمان في كتاب الإسلام برحابته مثلاً و قيماً، و بسعته فكراً و علماً، و بامتداده و عمقه نهجاً و سلوكاً واتساع حياة.

فكل صفحةٍ نقرؤها عن أهل البيت علیهم السلام نقرأ فيها غايات المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم السامية و أهدافه النبيلة، و نرى فيها تجليات العظمة و أطياف الأنوار العلوية المتماهية في جوهرها و معدنها مع أنوار الكتاب السماوي الأقدس المنفتح على مسرح الوجود بكل أبعاده و متحولاته، و بكل انطلاقاته و مستجداته المادية والمعنوية، جسداً و روحاً.

ص: 42

و مع ذلك، قد يستغرب بعض القراء عندما تقع عيونهم على ما كتبه الأستاذ الأزهري (فكري أبو النصر) عن مكانة أهل بيت النبوة عليهم السلام عند الباصرين من أهل الستة، فالأستاذ (أبو النصر) أحد خريجي الأزهر الشريف، و كان يعمل محرراً في جريدة الأهرام القاهرة، و له عدة مؤلفات فكرية مثل (من كفاحنا الفكري) و(ذكريات خالدة) و غيرهما.

و قد درس الأستاذ (أبو النصر) التاريخ الإسلامي دراسةً وافية و عميقة، و درس بنفس الوقت الخلافات المذهبية بين العديد من المذاهب والطوائف الإسلامية و مرتكزات تلك الخلافات و أسبابها، و لكنه أبى أن يقول إلا الحق بعد أن انتهى من تلك الدراسات والتحليلات، و كان من جملة ما قاله عن المكانة الحقيقية لأهل البيت النبوي المطهر كطهر القرآن:

(و إيمان الشيعة المطلق بأن الإمام علياً و آل البيت النبوي الكريم كانوا أحق بها و أهلها صلاحاً لأمر الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين، و هو ما يؤمن به و يتفق معهم صفوة كبيرة من علماء السنة كذلك.

... فأي سني ینکر على آل البيت طهرهم و أحقيتهم في الخلافة الدينية للمسلمين، أو ینکر تشیعه لهم والاستضاءة بنورهم!!)(1).

نعم، قد يبدو هذا الكلام غريباً لأول وهلة، خاصةً أنه كلامٌ صادرٌ عن قلم مفکرٍ سني أزهري، و لكن سرعان ما ستتبدد غيمة الغرابة تلك بعد أن نقرأ عشرات الكتب والمقالات المشابهة لما قاله الأستاذ (أبو النصر)، و لكن هذه المرة من أقلام مفکرین

ص: 43


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية ص187، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط1، 1979م.

ليسوا بالشيعة و لا حتى بالسنة، و إنما من أقلام مسيحية أبت أن تنطق إلا بالحق، و رفضت أن تبوح إلا بالصدق.

و ها هو المفكر والأديب اللبناني (نصري سلهب)، و هو مفکر مسیحي بارز، یری أن أحد أهم أسباب تراجع العرب والمسلمين و تقهقرهم و تخلفهم عن الركب الحضاري هو ابتعادهم عن أهل البيت عليهم السلام و عن مبادئهم و تعاليمهم، فالعرب والمسلمون الذين تنکروا لأهل الحق في الماضي حيث قبلوا أن يحكمهم و يتأمر عليهم من هو ليس بالشخص الجدير باستلام زمام أمور المسلمين مبعداً أهل الخلافة الحقيقية تارةً بالسم والنار و تارةً أخرى بالسيف والدماء، هم العرب والمسلمون الذين فاتهم لاحقاً اللحاق بركب المستقبل الحضاري الذي تعيشه الكثير من الأمم الحالية دونهم، فالخوف على العرب والمسلمين، إذن، هو خوفٌ من الأمس على الغد.

و ها هو الأستاذ (سلهب) يقول بكل صراحةٍ وجرأةٍ معبراً عن ذلك:

(كلما ذكرت (أمة العرب) أن أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أمراء مؤمنيها، خلفاء نبيها، وارثي رسول ربها، قد استباحوا الدم الزكي العطر فغدروا بأهل البيت، أولاد و رضعاً، نساءً وعجزاً، فتیاتٍ وعزلاً.

كلما ذكرت أن الغادرين، سافكي الدماء، هادري الحياة، هم منها عرب أقحاح، بکت وخافت من أمسها على غدها)(1).

و يحق لهذا المفكر المسيحي أن يقول ذلك لأن الإنسان الذي يرى بنور بصيرته قبل أن يرى بنور عينيه سيرى أن الأمة التي تخالف أهم وصایا رسولها السماوي لن يكون مصيرها أفضل من مصير الأمم السابقة التي قامت بنفس الفعل وارتكبت نفس

ص: 44


1- نصري سلهب، في خطى علي ص17، دار الكتاب اللبناني . بيروت، ط 1، 1973م.

الأخطاء.

فالأمة التي تدعي أنها أمة القرآن في الوقت الذي تخلت فيه عن التمسك بالطرف الثاني من وصية نبيها الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (القرآن والعترة)، هي أمةٌ تعيش حالةً من حالتين اثنتين: إما حالة النفاق الروحي و إما حالة الفصام النفسي، و في كلتا الحالتين هي أمةٌ جديرةٌ بالرثاء لما آل إليه أمرها واستقرت عليه حالتها.

و مهما يكن من أمر، فرب قائل يقول لنا: قد عرفنا مكانة آل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في القرآن الكريم، و عرفنا أيضاً منزلتهم الرفيعة عند رسول رب العالمين صلی الله علیه و آله و سلم، فهل لنا أن نتعرف على مكانتهم من خلال ما وصفوا هم أنفسهم به؟!

أليس من العدل والحكمة أن نستمع إليهم و هم يصفون أنفسهم - و هم العترة الصادقة في كل ما تقول-خاصةً و هم المطهرون من كل رجس والمنهون عن كل دنسٍ بشهادة القرآن الكريم؟!

نقول لكل من يسأل ذلك: إنك محقٌ في طلبك و صائبٌ في مرماك، و ها نحن نلبي لك مطلبك بكل سرورٍ و برحابة صدر، و ليكن أول قول يمكن أن نستشهد به الآن على حقيقة منزلة أهل بيت النبوة علیهم السلام هو قول أمير المؤمنين و سيد البلغاء والمتكلمين و إمام المتألهين علي بن أبي طالب علیه السلام.

يقول الإمام علي عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة): «هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن حکم منطقهم، لا يخالفون الحق، و لا يختلفون فيه، و هم دعائم الإسلام، و ولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدین عقل و عاية و رعاية، لا

ص: 45

عقل سماع و رواية، فإن رواة العلم كثير، و رعاه قليل»(1).

إنهم عليهم السلام، إذن، حياة العلم و بقاؤه، و هم أيضاً موت الجهل و فناؤه، إنهم عليهم السلام أهل الحق في منهج الصدق، و هم راية الرحمن و مدحرة الشيطان.

و لو انتقلنا من قول أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى قول ابنه الأكبر، الإمام الحسن الزكي عليه السلام فماذا يمكننا أن نقرأ في وصفه لأهل البيت النبوي الكريم؟!

بالطبع، بإمكاننا أن نقرأ الكثير والكثير عن و صفه لآل بيت محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و لكتنا لن نطيل على القارئ الكريم و سنكتفي بذكر مقولةٍ واحدةٍ من مقولاته الكثيرة والهامة، و سنعتمد في ذكر هذه المقولة على ما جاء في كتاب (مستدرك الصحيحين) للحاكم النيسابوري.

لقد ذكر الحاكم النيسابوري بسنده عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال: خطب الحسن بن علي عليهماالسلام على الناس حين قتل علي عليه السلام فحمد الله و أثنى عليه، فساق الحديث إلى أن قال «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم، و أنا ابن الوصي، و أنا ابن البشير، و أنا ابن النذير، و أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذين كان جبريل ينزل إلينا و يصعد من عندنا، و أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرة، و أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلمٍ، فقال تبارك و تعالى لنبيه صلى الله عليه (وآله) و سلم «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ»(2)، «وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ن-زدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا»(3)فَاقْتِرَافُ الْحَسَنَهًِْ

ص: 46


1- الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، الدار الإسلامية . بيروت، ط 1 ص1992، ج2 ص398
2- سورة الشورى: الآية 23.
3- سورة الشورى: الآية 23.

مَوَدَّتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ».(1)

أما ما جاء عن الإمام الحسين عليه السلام ، الذي هو الموضوع المحوري في كتابنا هذا، بشأن وصفه لأهل بيت النبوة و معدن الرسالة، فسنرجئ ذكره الآن إلى المكان الذي نراه مناسباً حيث أوضح فيه الإمام الحسين عليه السلام للمسلمين من هم أهل البيت علیهم السلام و ما هي رسالتهم و ما هي غاياتهم و أهدافهم.

و إذا كنا قد تجاوزنا الآن ما قاله الإمام الحسين عليه السلام، فإننا بالطبع لن نتجاوز ما قاله ابنه الإمام علي زين العابدین علیه السلام بشأن الموضوع نفسه.

فالإمام زین العابدین علیه السلام شهد فاجعة كربلاء الدامية و شهد كيف كان الشهداء من أهل البيت علیهم السلام و من أنصارهم الكرام يتساقطون الواحد تلو الآخر کتساقط أوراق الخريف المنذرة بقدوم شتاء عاصفٍ و مظلمٍ لا يعرف للرحمة طريقاً و لا للشمس سبيلاً، إنه شتاء الأعاصير و ظلام الليالي الحالكة لا شتاء الخير والبركة، إنه شتاء الجفاف واليباب والموت عطشاً!!

و للإمام زین العابدين عليه السلام العديد من الأقوال والخطب التي تتناول وصف أهل البيت عليهم السلام و وصف الأهداف والغايات السامية التي سعوا لتحقيقها مع معرفتهم أن ذلك السعي يمكن أن يكلفهم كل غالٍ و رخيصٍ، و لكننا آثرنا أن نختار من كل تلك الخطب والأقوال تلك الخطبة المؤثرة التي ألقاها علیه السلام علي مسامع أهل الشام بعد أن اقتيد أسيراً إلى دمشق مع من تبقى من نسوة و أطفال كي يمثلوا بين يدي يزيد اللعين.

و قد مثلت تلك الخطبة البليغة الوجه الإعلامي الصادق للثورة الحسينية، إذ إنها

ص: 47


1- الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين، مصدر سابق، ج2 ص172.

قد استطاعت أن تبرز بشكلٍ واضحٍ و علني أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستطاعت بنفس الوقت أيضاً أن تزيل اللثام عن الوجه القبيح لغطرسة يزيد و كفره و إنهاء أضاليله و أباطيله التي أشاعها بين الناس حول أن الحسين عليه السلام و أهله و أنصاره هم مجموعةٌ من ثوار خوارج عصوا و خرجوا عن الجماعة و شقوا عصا الطاعة فقضي عليهم!!

و على كل حالٍ، ها هو الإمام زين العابدین و سید الساجدين علیه السلام يقف أمام أهل الشام و أمام يزيد اللعين و يقول مخاطباً إياهم بعد أن حمد الله سبحانه و تعالى و أثنی عليه:

«أيها الناس أعطينا ستاً و فضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، و فضلنا بأن منا النبي والصديق والطيار و أسد الله و أسد رسوله و سبطا هذه الأمة، أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي، أيها الناس أنا ابن مكة و مني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خیر من ائتزر وارتدی، و خير من طاف و سعی، و حج و لبي، أنا ابن من حمل على البراق و بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى فكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحي، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر و حنين و لم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين و وارث التبيين و يعسوب المسلمين و نور المجاهدين و قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين و مفرق الأحزاب، أربطهم جاشاً و أمضاهم عزيمةً، ذاك أبو السبطين الحسن والحسين علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء و سيدة النساء وابن خديجة الكبرى، أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن ذبيح

ص: 48

کربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء و ناحت الطير في الهواء»(1).

و هذه باختصار صورة أهل البيت علیهم السلام بشكلها الموجز والصادق كما نقلها لنا لسان و بيان أهل تلك الدوحة النبوية المباركة، تلك الدوحة التي لا تنطق إلا بالصدق و لا تعكس إلا صورة وجه الحق بين الخلق.

و لم لا يكون أهل البيت علیهم السلام كذلك؟!

بل كيف نستغرب ذلك، و هناك مئات الأحاديث التي نقرؤها في كتب السنة والتي تدل على عظمة أهل البيت عليهم السلام و على أنهم أنموذج الكمال الصادر عن ذي العزة والجلال؟!

ألم يثبت لنا العلامة الكبير الشيخ سليمان القندوزي (الحنفي) في كتابه القيم (ينابيع المودة) حديث الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن هذه الحقيقة و ذلك بقوله صلی الله علیه و آله و سلم للمسلمين: «معرفة آل محمد براءة من النار، و حب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمانٌ من العذاب»(2)؟!

ألم يأت الإمام محمد الباقر عليه السلام بعد عدة سنين، ليشرح لنا ما قاله جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بحديثٍ مطولٍ و صريحٍ لمن طلب منه أن يعلمه شيئاً عن ماهية و منزلة أهل البيت عليهم السلام قائلاً: «نحن جنب الله و صفوته و خبرته، ون حن مستودع مواریث الأنبياء، و نحن أمناء الله عز وجل. و نحن حجة الله و أركان الإيمان و دعائم الإسلام، و نحن من رحمة الله على خلقه، و بنا يفتح و بنا يختم، و نحن الأئمة الهداة والدعاة إلى الله، و نحن مصابيح الدجى و منار الهدى، و نحن العلم المرفوع للحق، من تمسك بنا

ص: 49


1- کریم جبر الحسن، الإمام السجاد عليه السلام، مؤسسة البلاغ . بيروت، 1990م، ص34.
2- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج1 ص22.

لحق و من تأخر عنّا غرق، و نحن قادة الغر المحجلين، و نحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله، و نحن من نعمة الله عز وجل على خلقه، و نحن معدن النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة، و نحن المنهاج والسراج لمن استضاء بنا، و نحن السبيل لمن اقتدی بنا، و نحن الأئمة الهداة إلى الجنة، و غرى الإسلام، و نحن الجسور والقناطر من مضى عليها لحق و من تخلف عنها محق، و نحن السنام الأعظم، و بنا ينزل الله عز وجل الرحمة على عباده و بنا یسقون الغيث، و بنا يصرف عنكم العذاب، فمن عرفنا و نصرنا و عرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا و إلينا»(1)؟!

نعم، لقد أتي كل أئمة أهل البيت علیهم السلام بالكثير من الأحاديث القيمة والمشابهة لهذا الحديث الذي أوردناه عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، و كما يلاحظ القارئ الكريم، فقد تعمدنا أخذ حديث الإمام محمد الباقر عليه السلام من كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي (الحنفي) لنؤكد على حقيقة أن هذه الأحاديث الهامة والمتميزة بشأن علو منزلة أهل البيت عليهم السلام و مقامهم لا يقتصر وجودها على كتب المسلمين الشيعة، بل هي أحاديث لها مكانتها اللائقة حتى في كتب السنة أيضاً.

و هذا لا يعني أن مفعول هذه الأحاديث والحقائق المنبثقة عنها ستبقى حبيسةً ضمن إطار المنظومة الفكرية الإسلامية، بل إنها- بلا شك- ستجاوز حدود الدائرة الفكرية الإسلامية حتى تصل و تتصل بالدوائر الفكرية الأخرى من مسيحية و غير مسيحية.

وهنا يحضرني الحديث عن لقاء تلفزيوني نادر مع رجل من رجالات الفكر

ص: 50


1- نفس المصدر السابق، ج 1 ص 21.

والسياسة في لبنان، وكان ذلك اللقاء التلفزيوني الرائع يتمحور حول ذكرى بيعة الغدير المباركة من جهةٍ و حول فاجعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام من جهةٍ أخرى.

و قد تطرق ضيف الحوار، الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، نائب رئيس حزب الكتائب المسيحي اللبناني إلى النقطة المهمة التي كنا نتحدث عنها منذ قليل، إنها مسألة الدوائر الفكرية و ضرورة تجاوز الفكر الحر لكل حدود الأوطان والأديان والمذاهب، و قد أكد الأستاذ (رشاد سلامة) على حقيقة أن فكر أهل بيت الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم هو فكر خلاق و نهج إنساني شاملٌ يصلح أن يكون دستوراً لكل جيلٍ من الأجيال.

و قد ذكر الأستاذ (رشاد) أيضاً كيف أن والده الأديب والشاعر (بولس سلامة) قد غاص في بحار علوم و آداب أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام، و كيف غاص أيضاً في تاريخهم و في سيرتهم المباركة العطرة، ومن ثم كيف عکس تلك السيرة العطرة في مؤلفاته القيمة عنهم عليهم السلام، و بشكلٍ خاص في ملحمته الشعرية الخالدة المسماة ب (عيد الغدير) تيمناً و تباركاً بذلك اليوم التاريخي الأغر(1)

و لا أخفي على القارئ الكريم أنني كنت مشدوداً- شأني في ذلك شأن كل مشاهدٍ لذاك الحوار الثمين-إلى كل كلمةٍ كان يقولها الأستاذ (رشاد سلامة) لدرجة أنني شعرت في نهاية الحوار كأنني كنت في حالة تنويمٍ مغناطيسي حقيقي أمام شاشة التلفاز.

ص: 51


1- جرى الحوار مع المفكر والسياسي المسيحي اللبناني (رشاد بولس سلامة) على قناة (المنار) اللبنانية بتاريخ 2000/3/22 م، الموافق ل 18/ ذي الحجة/ 1420ه. و ذلك بمناسبة عيد الغدير، و قد كان الحوار مليئاً بالمتعة والفائدة والصراحة التي تثلج الصدور.

و غالباً ما كنت أسأل نفسي هذا السؤال:

كيف يمكن لرجلٍ مسيحي أن يتكلم بهذه الروح المفعمة بالحب والولاء عن اهل بیت رسولٍ لا تربطه بهم صلةٌ دينية روحية مباشرة؟!

والحقيقة تقال، إن هذا السؤال لم يكن هو السؤال الوحيد واليتيم الذي كان يقرع بوابة ذهني، بل كان هذا السؤال عبارة عن مفتاح للكثير من الأسئلة الأخرى التي لعبت دور التداعيات الفكرية الناتجة عن السؤال الرئيسي الأول.

و غالباً ما كان يهدأ بالي و تستريح أمواج فكري عندما أقول بعد طول تفكيرٍ و عمق تحليل إن ما قاله الأستاذ (رشاد سلامة) شيء مدهش حقاً و يأخذ بمجامع القلوب، خاصةً و أن هذا الكلام يجري على لسان مفكرٍ مسيحي لم يعتنق الإسلام، و لكن أليس من الطبيعي أن تخف هذه الدهشة قليلاً عندما ندرك أن الأستاذ (رشاد سلامة) هو ابن المفكر والأديب المسيحي الكبير (بولس سلامة) إذ لم يكن الأستاذ رشاد ابنه بالدم والجسد فحسب، بل كان ابنه أيضاً في الأدب والفكر.

ألم يتعلم الأستاذ رشاد من أبيه أن العقل نافذة و أن الفكر شمس!!

ألم يتعلم من أبيه أيضاً أن الحق والتاريخ مشاع للعالمين؟!

ثم لماذا نندهش عندما يتحدث الأستاذ رشاد سلامة بكل احترامٍ و تقديرٍ عن أهل البيت عليهم السلام عموماً و نحن نعرف أنه ورث هذا الاحترام والتقدير عن أبيه الذي لم ينقطع لسانه يوماً عن مدح الرسول المصطفی صلى الله عليه وسلم وآله عليهم السلام؟!

ألم يقل الأستاذ (بولس سلامة) عن عالمية الفكر و عن عظمة رسول الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم في مقدمة ملحمته الشعرية الرائعة (عيد الغدير):

(أجل، إني مسيحيٌ ينظر من أفقٍ رحبٍ لا من كوة ضيقة، فيرى في غاندي الوثني

ص: 52

قديساً.

مسيحيٌ يرى (الخلق كلهم عيال الله) و يرى أن «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوی).

مسيحيٌ ينحني أمام عظمة رجلٍ يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض و مغاربها خمساً كل يوم، رجلٌ ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً، وأبعد أثراً، وأخلد ذكراً، رجلٌ أطل من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواءٍ مجید، كتب عليه بأحرف من نوره لا إله إلا الله، الله أكبر!)(1).

نعم، لقد قال الأديب الشاعر (بولس سلامة) هذا الكلام الرقيق عن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، بل، لقد قال كلاماً كثيراً أعذب من هذا الكلام عن محمد و عن أهل بيته الكرام عليهم السلام و لم يخف في الحق لومة لائمٍ، و ما كان ليخرج ذلك الكلام منه لولا صفاء بصيرته و نقاء سريرته، فمن المعروف عنه أنه كان قارئاً بارعاً للتاريخ الإسلامي، ينهل من كل المشارب و يتذوق من كل أنواع العلوم والمعارف، حتى إذا شعر أن عقله قد امتلأ منها أعطى الأوامر لذلك العقل أن يتسلح بالحجج والبراهين و أن يتدرع بقوة المنطق و ذلك من أجل أن يمارس كاقة صلاحياته في الحكم على القضية المطروحة على طاولة البحث والتحليل.

و بالطبع، ليس كل المفكرين المسيحيين، و حتى غير المسيحيين، على درجةٍ واحدةٍ من الدقة في البحث والتحليل و في استخلاص النتائج و بلوغ الأهداف والغايات، و لكن نستطيع أن نقول إن هناك اتفاقاً واضحاً على الكثير من الخطوط العريضة المتعلقة بأهم المسائل الإسلامية و بأعقد القضايا التاريخية التي شهدتها

ص: 53


1- بولس سلامة، عيد الغدير، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1989م، راجع المقدمة ص10

حركة الرسالة الإسلامية في عصورها الأولى.

و بما أننا الآن في معرض الحديث عن منزلة أهل البيت عليهم السلام، و هو الحديث الذي يمثل دور البوابة الواسعة للدخول إلى عالم الإمام الحسين عليه السلام الذي هو ركنٌ هامٌ من أركان أهل ذلك البيت النبوي الطاهر الكريم علیه السلام، نستطيع أن نقول إن الفكر العالمي عموماً متفقٌ على عنوان عريضٍ، و هذا العنوان العريض يمكن تلخيصه بالقول التالي:

إن دوام و استمرار رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلى يومنا هذا إنما مرده إلى ما قدمه أهل بيته علیهم السلام من تضحيات.

و سنلاحظ الآن، كما لاحظنا في العديد من الشواهد السابقة، أن الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم هو إسلام أهل بيته الأطهار عليهم السلام و أن الورثة الفعليين المستحقين لحمل لواء الرسالة الإلهية بعد غياب رب البيت صلی الله علیه و آله و سلم هم أهل بيته و وعاء علمه و محط أسراره و منازل أنواره علیه السلام.

و لا ريب في أن هذه الحقيقة الثابتة عن مكانة أهل بيت المصطفى علیهم السلام هي التي دفعت بالكثير من أئمة المذاهب الإسلامية، و بشكلٍ خاص الأئمة الأربعة، إلى إثبات تلك الحقيقة و تدوينها في مؤلفاتهم و نتاجاتهم الفكرية القيمة، و لولا أنني قد آليت على نفسي منذ البداية أن يكون الكلام عن الإمام الحسين و عن فاجعة كربلاء مقتصراً على الرؤية الفكرية حصراً، لكنت قد أتيت بعشرات الشواهد والبراهين لأئمةٍ و مفكرين و أدباء و شعراء ينتمون إلى عصرٍ متقدمٍ جداً على عصرنا الراهن بمساحات زمنية طويلة، و لكن طبيعة الكتاب والزاوية التي نظرنا من خلالها إلى فاجعة كربلاء هي التي فرضت علينا أن نستغني، و لو بشكلٍ جزئي، عن الكثير من الأمثلة والشواهد

ص: 54

الممتدة في جذورها إلى أعماق التاريخ الإسلامي.

و لكن، حتى لا يتهمنا القارئ الكريم بالبخل والتقتير أو بالتجاوز الكلي والكامل للتراث الفكري الماضي المتعلق بأهل البيت علیهم السلام من جهة و بالإمام الحسين عليه السلام و ما حل به و بأسرته و أصحابه في واقعة كربلاء من جهةٍ أخرى، سأكتفي بذكر بعض ما جاء عن الإمام (محمد بن إدريس الشافعي) (150- 204ه) عن مكانة أهل البيت علیهم السلام في ضميره و وجدانه، و سنمسك عن ذكر ما قاله بخصوص الإمام الحسين عليه السلام و كربلاء إلى المكان المناسب في هذا الكتاب.

و لا أعتقد أنني بحاجةٍ لتقديم الإمام الشافعي إلى القارئ، فهو إمامٌ و علمٌ من أعلام الفكر الإسلامي، و هو أحد أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة الباقية حتى يومنا هذا.

و لاريب في أن هذا الكلام معروفٌ عند الكثير من المسلمين في العالم قاطبةً، و لكن الشيء الذي قد لا يعرفه الكثير من المسلمين هو أن لهذا الإمام الفقیه دیواناً بديعاً من الشعر الوجداني الرقيق.

و ما يهمنا الآن من هذا الديوان الشعري الرقيق هو ذكر أهل البيت علیهم السلام فيه، أو بعبارةٍ أكثر وضوحاً: هل لأهل بيت النبوة علیهم السلام مكانٌ في ديوانه؟!

و بالطبع لن نجيب نحن على ذلك السؤال، بل ستترك الإمام الشافعي يجيبنا عنه بنفسه، و أعتقد أن الإمام الشافعي سيقول لنا بادئ ذي بدء: انظروا واصغوا جيداً إلى هذين البيتين الشعريين الهامين في ديواني، لقد قل في آل بیت رسولنا الكريم عليه السلام:

یا آل بیت رسول الله حبكم *** فرضٌ من الله في القرآن أنزله

ص: 55

يكفيكم من عظيم القدر انکم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له(1)

و لا أظن أن هذين البيتين الشعريين للإمام الشافعي، و على الرغم من بلاغة تركيبهما و قوة معناهما، بحاجةٍ للكثير من الجهد والعناء للوصول إلى المرامي والغايات التي أرادها الإمام الشافعي منهما.

و من نافلة القول أن هذين البيتين الشعريين الرقيقين ليسا هما كل ما قاله الإمام الشافعي في أهل البيت عليهم السلام، و لكن لا بأس بذكر بعض الأبيات الشعرية الأخرى حتى نتأكد من حقيقة أن مقام أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عند الإمام الشافعي هو المقام الأقدس والأطهر، إنه المقام الذي يمثل بالنسبة للإسلام مقام القطب من الرحى و مقام الروح من الجسد.

و ها هو يقول فيهم عليهم السلام أيضاً، في نفس الديوان:

آل النبي ذريعتي *** و همو إليه و سيلتي

أرجو بهم أعطي غداً *** بيدي اليمين صحيفتي(2)

إذن، فأهل بيت النبي المصطفى علیهم السلام بالنسبة للإمام الشافعي هم الذريعة والوسيلة لدخول الجنان والفوز بثواب الرحمن، و عندما نقول إن أهل البيت عليهم السلام هم الذريعة والحجة والوسيلة في عقل و ضمير الإمام الشافعي، فإن هذا لا يعني أن هذه هي مكانتهم و منزلتهم عند الإمام الشافعي فقط، بل إن هذه المكانة هي مكانتهم عند كل أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، بل هي مكانتهم و منزلتهم عند ملايين المسلمين السنة في مشارق الأرض و مغاربها، و كيف لا تكون هذه مكانتهم عند

ص: 56


1- الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ديوان الشافعي، تحقيق: صلاح الدين أبو الجهاد، مكتبة دار المستقبل، حلب، ط1/ 1999م، ص48.
2- نفس المصدر السابق ص12.

المسلمين عموماً و قد أيقنوا أن الرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم قد أوصى قائلاً:

«الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله تعالى، و هو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عملٌ عمله إلا بمعرفة حقنا»(1)!!

و لذلك، فمن الطبيعي بالنسبة لكل مسلمٍ يريد أن يكون مشمولاً بشفاعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم و أن يكون من أهل الجنة الخالدين، أن يكون ملتزماً بمودة أهل البيت علیهم السلام و أن يعرف حقهم و يدرك مقامهم.

و علينا أن نعلم هنا تحديداً أن المعرفة الحقيقية والكاملة لمقام أهل بيت النبوة علیهم السلام ليست بالأمر اليسير و لا حتى بالأمر الممكن تماماً، بل نستطيع أن نقول و بكل يقينٍ إن الخلاف الذي دار حول مقام النبوة لم يبلغ أبدا تلك الدرجة من الخلاف بين المسلمين حول مقام الإمامة والولاية.

و لكن، و بالرغم من هذه الحقيقة الثابتة، فإننا نقول إن بذل المحبة والمودة لآل بيت محمد المصطفى عليهم السلام له أجرٌ عظيمٌ عند الله سبحانه و تعالى حتى و لو لم يكن ذلك المحب لهم علیهم السلام عارفاً و مدركاً تمام المعرفة والإدراك لحقيقة مقامهم أو لمكانتهم و منزلتهم.

و ربما يتساءل متسائل ما قائلاً بعد التسليم بإمكانية الاقتراب من معرفتهم من قبل البعض:

و هل معرفتهم حكر على شيعتهم و أتباعهم فقط، أم أن هناك من عرف جليل مقامهم و عظیم منزلتهم و هو من غير أتباعهم و شيعتهم؟!

و ربما يتساءل نفس المتسائل قائلاً لنا أيضاً:

ص: 57


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق، ص46.

إذا كان جوابكم لنا: (نعم، هناك من يعرف و يعلم مقامهم عليهم السلام و هو مصنف من غير أتباعهم)، فإننا نطلب منكم، إذن، أن تعطونا و لو مثالاً واحداً للتأكيد على صحة كلامكم لأننا نعتقد أن هذا الطلب من حقنا، أليس كذلك؟!

و نحن بدورنا سنقول لذاك السائل: نعم، إن ذلك الطلب من حقك بكل تأكيد، و سنعمل على إعطائك مثالاً على صحة كلامنا الذي قد أسلفناه، و سيكون ذلك المثال من العصر المقارب لعصرنا نسبياً و ليس من العصور البعيدة عنا، و ذلك لسببٍ واحدٍ فقط و هو أن كتابنا يتناول بالدرجة الأولى صورة الإمام الحسين عليه السلام و فاجعة كربلاء من وجهة نظر الضمير العالمي المعاصر و ليس من جهة نظر الضمير العالمي الشامل لكل الصور والأزمان و قد نوهنا إلى ذلك سابقاً.

و ها نحن نقول بكل صراحةٍ و جرأة لذلك السائل: نعم، هناك من يعرف مقام آل بیت النبوة علهم السلام على الرغم من أنهم غير مصنفين في زمرة أتباعهم، و نحب أن نؤكد هنا، قبل إيراد المثال المطلوب، على نقطةٍ هامةٍ جداً، و هذه النقطة يمكن تلخيصها بالقول إن التصنيفات والتسميات التي يطلقها الناس على شخصٍ ما بحيث يصبح ذلك الشخص أسيراً لها لا تعود ذات قيمةٍ ذكر إذا تحولت تلك التسميات والتصنيفات بداخله إلى ما يشبه الشمع المذاب أمام و هج نور الحقيقة القائمة.

فهل يضير فلاناً من الناس أن يقال عنه إنه (مالكي) أو (حنفي) أو...الخ

إذا كان ذلك الفلان من الناس يعيش بداخله حالة الولاء التام لأهل البيت علیهم السلام؟؟

و هل يتألم فلانٌ من الناس أيضاً إذا رمي بالجهل أو بالانحراف عن الحق إذا كان ذلك الفلان قد جعل من عقله معقلا للعلم و من قلبه عرشاً للحق!!

ص: 58

أعتقد أن الإنسان الحكيم والعاقل لا يأبه للتصنيفات التي تلحق به- مهما كان نوع تلك التصنيفات- إذا كان يعيش بداخله أجواءً مغايرة لها و بعيدةً عنها.

و على سبيل المثال، عندما يقول أحد المتصوفة المشهورين مخاطباً (الحق) سبحانه و تعالى بعد أن صنفه الناس و وضعوه تحت عدة تسميات و تصنيفات مختلفةٍ و متباينة في اتجاهها وطبيعتها:

أراني فيك ممسوساً *** من الشيطان بالنكد

و بالتشنيع من جاري *** و بالعصيان من ولدي

و أبر ما أكابده *** من الإخوان بالحسد

و لست بذاك مكترثاً *** فكيف؟ و أنت معتمدي(1)

فعندما يقول هذا المتصوف الحكيم (المكزون السنجاري) هذا الكلام معبراً عن عمق أحاسيسه و ما لحق به من تعب و ألم حتى من أقرب الناس إليه بعد أن تم رميه بصفاتٍ و نعوتٍ مختلفة من قبل الناس، فإنما أراد أن يقول لنا إن الألم أو التعب الذي الحق به لم يكن في حقيقته إلا شيئاً ظاهرياً فقط، بينما هو كمتصوفٍ و كعارفٍ لا يكترث لكل ما يصفونه به أبداً و ذلك لأن قلبه منشغلٌ عن كل تلك الأشياء و نعوتها، إنه القلب الذي لا يرضيه شيءٌ إلا أن يكون عرشاً للرحمن.

و لا أعتقد أن (ابن عربي) يبتعد كثيراً عن الشيء الذي قصده الأمير (المكزون السنجاري) بقوله السابق في مخاطبته للحق جل وعلا، و ها هو- ابن عربي - يؤكد أيضاً فكرة إمكانية تعدد الصفات والمسميات الظاهرية أمام ما يثبت عليه القلب الذي

ص: 59


1- حامد حسن، المكزون السنجاري بين الإمارة والشعر والتصوف والفلسفة، منشورات دار مجلة الثقافة بدمشق، طبعة أولی، 1972م، ج2 ص7.

هو الأساس في كل شيء، فعندما يكون القلب كبيراً، يمكن له أن يتجاوز كل المسميات والتصنيفات و ذلك من أجل هدفٍ واحد هو (الحب) أو (الحق)، و بإمكاننا أن نسمعه الآن و هو يقول:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة *** فمرعی لغزلان و دیر لرهبان

و بيت لأوثان و كعبة طائف *** وألواح توراة و مصحف قرآن

أدين بدين الحب اتنی توجهت *** ركائبه فالحب ديني و إيماني(1)

فالقلب الكبير، الواعي والمستنير لا يرضى أن يبقى سجيناً أو أسيراً حقيقياً المجموعة من الألقاب والمسميات على حساب الجوهر والمضمون، و لكن بنفس الوقت أيضاً، لا يجد ذلك القلب المستنير غضاضةً في أن يصنف حامله في أي زمرة طالما أن القلب ذاته متعلق بأستار الحقيقة و راكع في هيكل الحب، فارتفاع أمواج البحار لا يعكر صفو القاع.

و هذا ما عبر عنه المفكر والأديب المسيحي الأستاذ (بولس سلامة) عندما أعلن ولاءه للإمام علي عليه السلام ، و هو الشاعر والأديب المصنف ضمن زمرة المسيحيين، فالأستاذ (سلامة) لم يتخل بالتأكيد عن حبه للسيد المسيح أو لأمه السيدة العذراء (عليهما سلام الله)، و لكنه بنفس الوقت لم يغلق قلبه أمام أنوار الحقائق السماوية والمعارف الإلهية، فما كان منه إلا أن أعلن أن الهوية الخارجية لا تعني الكثير، أو على الأقل، يمكن أن تذوب أمام الهوية الداخلية المبنية على التفكير والدراسة لا على التقليد والوراثة كما هو الحال عند الكثيرين ممن يحملون هويات روحية خارجية مختلفة أعطاهم إياها الآباء والأجداد.

ص: 60


1- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة . دمشق، 1989م، ص82.

فهل تحول صفه (المسيحي) التي يحملها الأستاذ (سلامة) دون إعلان و لائه و حبه القلبي الصادق للإمام علي عليه السلام الذي يمثل أهل البيت علیهم السلام جميعاً؟!

بالطبع، كلا، إن ذلك لن يحول دون حدوث ولادة روحية جديدة تخلق مصالحةً حقيقيةً بين العقل والقلب، وانطلاقاً من ذلك، فقد أعلن الأستاذ الأديب (سلامة) صوت الولاء الممزوج بصدق الوفاء قائلاً:

يا أمير الإسلام حسبي فخراً *** أنني منك مالي أصغريا

جلجل الحق في (المسيحي) حتى *** عد من فرط حبه (علویا)

أنت رب العالمين إلهي *** فأنلهم حنانك الأبويا

و أنلني ثواب ما سطرت كفي *** فهاج الدموع في مقلتيا

يا سماء اشهدي و يا أرض قري *** واخشعي، إني ذكرت عليا(1)

و بإمكاننا أن نلاحظ في البيت الشعري الثاني أن التصنيفات والمسميات الظاهرية لم تعد هي الغاية أو الهدف، بل تصبح الغاية الجوهرية عند الأستاذ (سلامة) هي الولاء القلبي المشتمل على الحقيقة والحب والطاعة.

و بالطبع، فإن هذا الكلام صحيح تماماً و لا ريب فيه، فما هي الفائدة أو المضرة من أن يحمل إنسانٌ ما صفةً من الصفات أو أن يدرج في فئةٍ من الفئات و هو يعلم أنه من الداخل بخلاف ذلك، و يكون مطمئناً أيضاً لما هو عليه قلبه سواءٌ كان ذلك الاطمئنان ناتجاً عن حمل صفات داخلية سلبيةٍ أو إيجابيةٍ؟!

فهل يضير الإنسان المؤمن أن يرمي بالكفر من قبل بعض الحمقى أو أصحاب غايات السوء في الوقت الذي يكون فيه قلبه مطمئناً بالإيمان و ثابتاً عليه؟!

ص: 61


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، ص312.

و بالمقابل، وإحقاقاً للحق، نقول ما هي الفائدة المرجوة من صفة يحملها إنسانٌ ما كصفة أنه (مسلم) أو (شيعي) في الوقت الذي يكون باطن ذلك الإنسان، بل و أعماله أيضاً مخالفةً تماماً لتعاليم الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و لمبادئ أهل بيته الأطهار اعلیهم السلام؟!

و أعتقد الآن أن الفكرة المطلوبة قد وصلت بعد أن أسهب قليلاً في الحديث عنها، و لكن ما أو الحديث عنه الآن والعودة إليه من جديد هو ذلك الوعد الذي أعطيناه للقارئ الكريم بشأن معرفة مقام أهل بيت النبوة عليهم السلام من قبل أناسٍ غير مصنفين من أتباعهم بشكلٍ ظاهري، و مثالنا الذي سنتحدث عنه الآن هو مثالٌ مدهشٌ اقتطفناه من حديقة فكر إخواننا المسلمين السنة.

و مثالنا الآن هو الأديب والسياسي والشاعر (عبد الباقي العمري الموصلي الحنفي).

فالشاعر (العمري) واحد من مشاهیر شعراء القرن الثالث عشر الهجري و واحدٌ من أعلام الأدب والسياسة في القطر العراقي في العهد العثماني.

قله من الناس هم الذين يعرفون أن لهذا الأديب والسياسي دیواناً شعرياً بديعاً من العيار الثقيل حجماً و مضموناً، و قلةٌ هم أيضاً أولئك الذين يعرفون العلاقة الروحية العميقة التي تربط بين هذا الشاعر المتحدر من ذرية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب و بين آل بيت الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم

و للحقيقة نقول: إن شعر عبد الباقي العمري الذي قاله في أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام هو شعرٌ أقرب إلى شعر التصوف والعرفان منه إلى شعر الثناء والمديح.

و قد أكد في أكثر من قصيدةٍ من قصائده المعرفية العميقة على أن نورهم عليهم السلام هو

ص: 62

نور إلهي المصدر و ذلك لأن الله سبحانه و تعالى شاء منذ الأزل أن يخلق محمداً صلی الله علیه و آله و سلم و علياً علیه السلام من نورٍ واحدٍ، و من هذا التور الواحد المتحد نشأ عنه النور المشع لأهل البيت عموماً عليه والذي هو في حقيقته نورٌ من نور منور الأنوار (عز وجل)، و لذلك، فالحقيقة الوجودية الوحيدة- بالنسبة لعبد الباقي العمري الحنفي - هي حقيقة وجود أهل البيت عليههم االسلام، و ما عدا ذلك فهو توهمٌ و خيالٌ، و في ذلك يقول موضحاً هذه الفكرة:

إن الوجود و إن تعدد ظاهراً *** ما فيه غير کمو لمن يتوسم

أو صح في الإمكان ثمة عالمٌ *** و حياتكم ما فيه إلا أنتمو

أنتم حقيقة كل موجودٍ بدا *** من کنز (کنت) و فيه أنتم كنتمو

فحقيقة الأعيان أنتم عينها *** و جميع ما في الكائنات توهم(1)

و لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن هذه الأبيات الشعرية الأربعة تحتاج إلى الكثير من الصفحات من أجل شرحها و توضيحها، و بشكلٍ خاص البيت الثالث الذي يشير الشاعر (العمري) من خلاله إلى العلاقة الوطيدة والرابطة الوثيقة بين حقيقة وجود أهل البيت علیهم السلام من جهةٍ و بين كلمة (كنت) الموضوعة ضمن قوسين و التي تشير إلى الحديث القدسي الشهير:

کنت کنزاً مخفياً... من جهةٍ أخرى.

إن مجرد الخوض في هذه النقطة العرفانية الحساسة يتطلب منا الكثير من الوقت والجهد لإعطاء صورةٍ واضحة المعالم عن طبيعة و عمق تلك العلاقة النورانية

ص: 63


1- عبد الباقي العمري، الترياق الفاروقي، دار النعمان. النجف الأشرف، ط2/ 1994م، ص136.

المميزة.

و لكن، بما أن موضوع کتابنا الذي هو بين أيدينا الآن ليس عن أهل البيت علیهم السلام عموماً، و ليس أيضاً عن طبيعة تلك العلاقة العميقة بينهم علیهم السلام و بين الله سبحانه و تعالى، و إنما هو حول حياة وثورة الإمام الحسين عليه السلام فقط، و لذلك لا داعي هنا للاستفاضة في الحديث عن مواضيع حساسة و عميقةٍ تستحق أن يكتب عن كل واحدٍ منها العديد من الكتب والمؤلفات، بل والدواوين الشعرية العرفانية أيضاً.

و لكن، حتی يكون حديثنا مترابطاً و متماسكاً، و حتى يكون هدفنا واضحاً و بيناً، علينا أن نبين للقارئ الكريم، على الأقل، وجهاً واحداً من الوجوه التي تدعو الناس عموماً إلى الوقوف في حالة عجزٍ شبه تام عن معرفة أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم حق معرفتهم، و تجعلهم يحارون في فهم كنههم و إدراك حقيقتهم علیهم السلام.

و ليكن هذا الوجه الذي سنتحدث عنه باقتضابٍ شديدٍ الآن هو وجه العلاقة و طبيعتها بين آل البيت علیهم السلام من جهةٍ و بين بعض الرسل والأنبياء علیهم السلام من جهةٍ أخرى، و ذلك من أجل التأكيد أيضاً على أن آل البيت علیهم السلام هم حقاً عماد الوجود و هم الرحمة التي يمكن أن تطال كل موجودٍ.

و حتى لا نثقل بحديثنا على القارئ الكريم، دعونا نقلب صفحات کتاب (الدر المنشور في التفسير بالمأثور) للإمام الحافظ جلال الدین عبد الرحمن أبي بكرالسيوطي الشافعي) كي نتعرف على وجه العلاقة بين آل بيت محمد علیهم السلام من جهة و سیدنا آدم علیه السلام، أبي الأنبياء والبشر جميعاً، من جهةٍ ثانيةٍ.

فقد جاء في الكتاب المذكور (للسيوطي الشافعي)، في ذيل تفسير قوله تعالى:

ص: 64

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)، قال: و أخرج ابن النجار عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: «سأل بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه»(2)

و بالطبع، ليس الإمام السيوطي الشافعي هو الوحيد الذي ذكر هذه الحقيقة، بل بإمكاننا قراءة نفس الحقيقة المذكورة، و لكن باختلافات لفظية يسيرة، في كتاب (کنز العمال) لمؤلفه (المتقي الهندي الحنفي) حيث ذكر نفس الحديث في الصفحة / 234/ من الجزء الأول من كتابه المذكور، هذا بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي كتبها علماء سنة مشهورون أوردوا فيها الحديث المتعلق بتوبة الله سبحانه و تعالى علی سیدنا آدم عليه السلام بفضل و ببركات أهل بيت محمد عليه علیهم السلام و لكنهم ذكروا ذلك الحديث بطرقٍ و أساليب شتی و بأشكالٍ لفظية مختلفة لكنها لا تمش روح الحديث و جوهره و لا تشوه غایته و مقصده.

و لو تركنا جانباً مسألة سيدنا آدم علیه السلام والكلمات القدسية التي كانت السبب المباشر في توبة الله سبحانه و تعالى عليه، واتجهنا في رحلتنا الفكرية باتجاه من يأخذ بیدنا للوقوف على حقيقة كلمات سيدنا إبراهيم الخليل علیه السلام، فهل سنجد أن هناك اختلافاً أم تشابهاً بین کلمات سیدنا آدم عليه السلام و كلمات سيدنا إبراهيم علیه السلام؟!

فمن المعروف تماماً أن هناك آية قرآنية كريمة تقول: «وَ إِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي

ص: 65


1- سورة البقرة: الآية 37.
2- الإمام السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، راجع ذيل الآية المذكورة

الظَّالِمِينَ»(1) ومن الواضح أيضاً أن هناك رابطةً وثيقةً بين سيدنا إبراهيم الخليل علیع السلام و مفهوم الإمامة من جهة و بين عدة كلمات إلهية تلقاها إبراهيم علیه السلام من ربه الرحيم الحكيم فكانت تلك الكلمات الإلهية مفتاح الرحمة و بوابة النعمة عليه.

و هنا يحق لنا أن نتساءل قائلين:

ما هي حقيقة تلك الكلمات الإلهية الموحى بها إلى سيدنا إبراهيم خليل الله علیه السلام، و ما معنى (فأتمهن) الواردة في الآية الكريمة؟!

و لا ريب في أنه سؤال يستحق التفكير فيه ملياً، وإلا ما معنى أن نقرأ القرآن الكريم دون أن نغوص في أعماقه و نتدبر معانيه؟!

و على كل حالٍ، ها هو المحدث الثقة والفقيه السند (المفضل بن عمر الجعفي) يوفر علينا عناء البحث والتنقيب عن معنى الآية القرآنية الكريمة السابقة، و يدعونا لزيارة إمام أئمة المسلمين، الإمام الصادق جعفر بن محمد علیه السلام لنستمع إليه بإمعان و هو يخبرنا عن معناها العميق والذي يتفق بطريقة أو بأخرى مع ما أخبرنا به، سابقاً، كلٌ من الإمام السيوطي الشافعي) والعلامة (المتقي الهندي الحنفي) بشأن توبة سيدنا آدم علیه السلام.

و ها هو الإمام الصادق عليه السلام يجيب عن معنى الآية القرآنية السابقة ملبياً طلب تلميذه المقرب (المفضل بن عمر) قائلاً: «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، و هو أنه قال: يا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحیم»، فقلت (والكلام هنا للمفضل ابن عمر) له: يا بن رسول الله، فما يعني عز وجل بقوله: «فَأَتَمَّهُنَّ»؟ قال: «يعني فأتمهن

ص: 66


1- سورة البقره، الآیة 124

إلى القائم عليه السلام اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين»(1).

و هذا الكلام الجليل الصادر عن الإمام الصادق عليه السلام لو قارناه مع كلام الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن توسل الأنبياء والرسل عليهم السلام بمحمد و بآل بيته الكرام عليهم السلام، لوجدنا أن هناك تشابهاً كبيراً بينهما في الشكل والمضمون، آخذين بالاعتبار أن للرسول الكريم أحاديث عديدة مشهورة حول هذه المسألة المعرفية الهامة.

و ربما كان الحديث النبوي الشريف الذي سنورده الآن هو واحد من أكثر الأحاديث النبوية شهرةً حول موضوع بحثنا الآن، إنه ذاك الحديث المتعلق بقدوم أحد علماء اليهود على النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، حيث دخل ذاك العالم اليهودي عليه و قام بين يديه يحد النظر إليه طويلاً، فقال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم له: «يَا يَهُودِيُّ ، قُلْ لِي مَا حَاجَتُكَ؟»، فقال اليهودي: أنت أفضل أم موسی بن عمران النبي الذي كلمه الله و أنزل عليه التوراة والعصا و فلق له البحر وأظله الغمام؟

فقال له النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، و لكني أقول إن آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما غفرت لي، فغفرها الله له، و إن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة و خاب الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه الله منه، و إن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها الله عليه برداً و سلاماً، و إن موسى عليه السلام لما ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما آمنتني، فقال الله جل جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى، یا یهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي

ص: 67


1- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الخصال، مؤسسة الأعلمي- بيروت، ط1 / 1990م، ص305.

و ينبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً و ما نفعته النبوة، يا يهودي و من ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى ابن مريم لنصرته فقدمه و صلى خلفه»(1)

و قبل أن نرفع مسألة توسل الرسل والأنبياء علیهم السلام بآل بيت النبي المصطفى علیهم السلام عن طاولة البحث والتحقيق، لابد لنا من أن نذكر حديثاً آخر لا يقل أهميةً من الأحاديث السابقة التي أوردناها عن هذه المسألة الهامة، و لكن هذه المرة لن يكون الحديث عن سيدنا آدم أو إبراهيم أو نوح أو موسی (علیهم السلام جميعاً)، و إنما سيكون الحديث هذه المرة عن نبی کریمٍ قاسی کثیراًة و عانى طويلاً شأنه في ذلك شأن سيدنا النبي الصابر أيوب علیه السلام.

إن حديثنا الآن، و هو آخر حدیثٍ نورده في هذا المجال، سيكون عن سيدنا النبي الجليل يوسف عليه السلام و عن كيفية خلاصه من واحدٍ من أعظم الابتلاءات التي تعرض لها في حياته، تلك الحياة الحافله بعددٍ غير قليلٍ من الاختبارات والمفاجآت القاسية .

و كلنا يعرف، بالطبع، قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته و كيف ألقوه في غياهب الجب، و كيف جاء ذكر هذه الحادثة بتفاصيلها في القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه و تعالی مخبراً عن ذلك: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ»(2)

ص: 68


1- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الأمالي، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط5/ 1980م، ص181.
2- سورة يوسف: الآية 7.

نعم، كلنا نعرف هذه القصة، و نعرف أيضاً كيف التقطه بعض السيارة و أخرجوه سليماً معافى، و لكن هل خطر في بالنا كيف اهتدى أولئك السيارة إليه بعد اليوم الرابع من إلقائه في الجب المظلم والعميق؟!

و إذا كان البعض منا يعرف أن الاهتداء إلى سيدنا يوسف عليه السلام وإنقاذه كان نتيجةً حتميةً للدعاء الذي كان سيدنا يوسف عليه السلام يدعو به، و هو دعاء خاص علمه إياه جبرائیل عليه السلام من أجل الخلاص مما هو فيه، فإذا كان البعض يعرف هذا، فهل يعرف أيضاً ما هي طبيعة ذلك الدعاء الخاص لتفريج الهموم والمصائب، و هل يعرف ذلك البعض أيضاً بمن كان يتوسل يوسف عليه السلام إلى الله سبحانه و تعالى و بمن كان يتوجه إليه للخلاص ما هو فيه؟!

ربما القلة القليلة هي التي تعرف الإجابة على هذه التساؤلات التي يمكن أن تغزو عقل القارئ المثقف أو الباحث المفكر على حد سواء في حين أن الأكثرية الغالبة لا تعرف شيئاً بخصوص الإجابة على تلك الأسئلة السابقة.

و حتى لا نضيع وقت القارئ الكريم، و حتى نوفر عليه جهد البحث والعناء عن تلك الإجابات الصحيحة المطلوبة، دعونا ندق الباب على الإمامة العلامة (أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي) صاحب کتاب قصص الأنبياء المعروف بكتاب (عرائس التيجان) فلعل الجواب الشافي والقول الكافي في جعبته.

و بالفعل، ها هو (الإمام الثعلبي)، و هو أحد علماء المسلمين السنة، يفتح لنا بابه و يستجيب لما دعوناه إليه بكل رحابةٍ صدر قائلاً عن خلاص سيدنا يوسف عليه السلام من غياهب الجب وظلامه: (... فلما كان في اليوم الرابع أتاه جبريل عليه السلام و قال: یا غلام من طرحك في هذا الجب؟ قال: إخوتي لأبي، قال: و لم؟ قال: حسدوني على منزلتي

ص: 69

من أبي، قال: أتحب أن تخرج من هذا الجب؟ قال: نعم، قال: قل يا صانع كل مصنوع و يا جابر کل مکسور و يا حاضر كل ملا و یا شاهد كل نجوی و یا قريباً غير بعيد و يا مؤنس كل وحيد و يا غالب غير مغلوب و يا عالم الغيوب و يا حي لا يموت و يا محيي الموت لا إله إلا أنت سبحانك أسألك يا من له الحمد يا بديع السماوات والأرض يا مالك الملك يا ذا الجلال والإكرام أسألك أن تصلي على محمد و على آل محمد أن تجعل من أمري و من ضيقي فرجا و مخرجاً و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب، فقالها يوسف فجعل الله تعالى له من الجني مخرجاً و من كيد إخوته فرجاً و آتاه ملك مصر من حيث لا يحتسب)(1).

و من الجدير بالملاحظة هنا هو أن سيدنا يوسف عليه السلام لم يبدأ بالمسألة والطلب إلا بعد أن سأل الله سبحانه و تعالى أن يصلي على محمد و على آل محمد علیهم السلام و كأني به قد سمع حديث أخيه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم القائل: «الدعاء محجوبٌ حتى يصلى على محمد و أهل بيته، اللهم صل على محمد و آله»(2)

و هكذا نرى أن الرسل والأنبياء جميعاً عليهم السلام كانوا يتوسلون إلى الله عز وجل بمحمد صلی اله علیه و آله و سلم، أول خلق الله و خاتم رسله عليه، و بآل بيته الأبرار الأطهار عليهم السلام أن يرحمهم و يرأف بهم وينجيهم من شرور النوازل و أهوال المصائب، و ما الأمثلة السابقة التي أوردناها عن الرسل والأنبياء عليهم السلام إلا باقة وردٍ من حديقةٍ غناء و ما هي إلا غيض من فيض.

و مهما تحدثنا عن حقيقة أن أهل بيت الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم هم عماد الوجود

ص: 70


1- الإمام أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، قصص الأنبياء (عرائس التيجان)، المكتبة الشعبية . بيروت ص67.
2- المتقي الهندي الحنفي، كنز العمال، مصدر سابق، ج1 ص173.

و أساس رحمته، فإننا سنبقی - بلا شك- مقصرين في إعطائهم کامل حقهم و في إعطاء الصورة الحقيقية لتخصيص مكانتهم و عظیم منزلتهم واتساع رحمتهم في عالم الغيب والشهود، وقد أجاد و أصاب المتصوف التركي المعاصر الإمام (بديع الزمان سعید النورسي) (1292 ه - 1379 ه) عندما تحدث عن مكانة أهل البيت علیهم السلام و مبلغ رحمتهم المرتبطة بالتوسل والدعاء و ذلك في كتابه النفيس المسمى (مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور) حيث استفاض في شرحه العرفاني لمعنى (آية المودة)، و كان من جملة ما قاله ذلك المتصوف السني التركي عن أهل البيت المحمدي النوراني عليهم السلام و ارتباطهم الوثيق والمتشب بمعاني الدعاء:

(إن الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، رأی بنظره الأنيس للغيب، أن آل بيته سيصبح في حكم شجرة نورانية بين عالم الإسلام، وأن الذين يؤدون وظيفة الهداية والإرشاد في درس الكمالات الإنسانية في كل طبقات عالم الإسلام سيخرجون من آل البيت على الأكثرية المطلقة، و كشف أن دعاء الأمة في حق الآل في التشهد، و هو (اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) سيكون ذلك الدعاء مقبولا...)(1).

وبالطبع، ليس هذا هو كل ما قاله ذلك المتصوف التركي المعاصر عن أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذين يمثلون، بنظره، (شجرة نورانية) تتواصل بنورانیتها الأبدية مع الإنسان المؤمن في هذا الوجود بواسطة الدعاء، فهم عليهم السلام شجرة نورانية مباركة تتقبل الدعاء من المؤمنين من جهة، و تكون سببا مباشراً لاستجابة كل أنواع وألوان

ص: 71


1- الإمام بدیع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، ترجمه عن التركية: الملا محمد زاهد الملا زكردي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985م، ص33.

الدعاء من جهة أخرى.

إنهم عليهم السلام الشجرة النورانية المباركة التي ترسل ضوء رحمتها في كل اتجاه شرقا و غربا، فلا جهة أحق برحمتها و نورها من جهة أخرى إلا بمقدار معرفة تلك الجهة بها والتمسك بأغصانها والتفيو بظلها.

و لا ريب في أن لهذا المتصوف التركي المعاصر کلاما مميزا عن سيدنا و مولانا الإمام الحسين عليه السلام والذي هو محور کتابنا الأساسي، و لكننا سنرجئ الكلام الوارد عن سيدنا الحسين علیه السلام إلى الوقت المناسب وإلى المكان المناسب في هذا الكتاب.

و على كل حال، إذا كان ذلك المتصوف التركي السني يرى أن آل بيت النبي المصطفى علیهم السلام هم الشجرة النورانية الحقيقية التي دل عليها النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في بحر علم الغيب، فإن المفكر والأديب اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني) يرى في كتابه الشيق (الإمام الحسين في حلة البرفير) أن أهل البيت علیهم السلام هم (الكلمة الإلهية في الرسالة التي هبطت بالحق)(1).

إنهم علیهم السلام اليقظة في ضمير الأمة، إنهم عليهم السلام كلمات الله في كتاب الرسالة.

و قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن تلك العبارة الجميلة والعميقة التي قالها الأديب اللبناني الأستاذ (كتاني) عن أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام إنما هي مجرد عبارة طارئة صدرت عن قلم مفكر و أديب مسيحي لا يعرف أساسا الكثير عن تاريخ الرسالة الإسلامية و لا عن أعلامها و كبار قادتها و مفكريها، و بالتالي فإن تلك العبارة قد صدرت عن انفعال عاطفي أو عن قلم يعمل على تغييب لغة العقل والمنطق.

ص: 72


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، دار الكتاب الإسلامي. قم، ط1 / 1990م، ص62.

نعم، إن هذه الفكرة قد تتبادر إلى ذهن القارئ الحصيف، و قد تتبادر إلى ذهنه أفكار أخرى مماثلة لا تقل عنها أهمية، و لكن باستطاعتنا أن تطمئن ذلك القارئ و أن تبعد عنه غيومه الفكرية التي تحجب شمس الحقيقة عن عقله، بإمكاننا أن نقول له بكل وضوح و بشكل بسيط و مباشر إن المفكر والأديب المسيحي (سلیمان کتاني) ليس بالقارئ العادي و لا هو بالمطلع العابر على التاريخ الإسلامي عموما، بل هو واحد من المثقفين المسيحيين الذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من النتاجات الفكرية وأغنوها بالعديد من المؤلفات الثقافية التي تثبت لهم طول الباع في معرفة أدق التفاصيل في الحوادث الإسلامية المفصلية ذات الأهمية البالغة.

فكتاب (الإمام الحسين في حلة البرفير) ليس هو الكتاب الوحيد للأستاذ (كتاني)، و إنما هو واحد من سلسلة طويلة من الكتب التي تتحدث تارة عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم (محمد شاطئ وسحاب)، وتارة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (الإمام على نبراس و متراس)، و تارة عن الطاهرة المطهرة، سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء علیهاالسلام (فاطمة الزهراء وتر في غمد)، و نراه مرة أخرى يتحدث عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام (الإمام الحسن الكوثر المهدور)، و لم يتوقف قلمه عن الكتابة عند هذا الحد، بل راح يسطر ملحمة فكرية رائعة عن شهید کربلاء، الإمام الحسين عليه السلام ، و هو الكتاب الذي ذكرناه سابقا، واستمر قلمه المسيحي الصادق بالفيض والعطاء، فصاع لنا تحفة فنية فكرية رائعة أسماها الإمام زین العابدین عنقود مرصع)، ثم كتب أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام و عن الإمام الباقر عليه السلام دون كلل أو ملل، و لا يزال ذلك القلم النظيف يخط أروع الملاحم من صفحات مشرقة من تاريخ الإسلام إنها تلك الصفحات التي تتحدث بكل فخر واعتزاز عن مآثر و فضائل آل بيت محمد صلی لله علیه و آله و سلم.

ص: 73

و هنا تحديدا، و قبل إقفال باب هذا الفصل، تحضرني مقارنة بسيطة بين مقولتين قصيرتين لمفکرین اثنين، أحدهما مفكر و رجل دين مسلم، أما الآخر فهو أديب و مفكر مسيحي، والمقولتين اللتين سنقوم بذكرهما الآن هما مقولتان تدوران حول منزلة أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

فالمقولة الأولى هي تلك المقولة الجميلة التي كتبها الأستاذ (محمد زكي إبراهيم) ذلك الأستاذ الذي تخرج من جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، وراح يرفد الفكر العربي والإسلامي بالعديد من المؤلفات الأدبية والدينية، هذا بالإضافة إلى إصداره لمجلة (المسلم) مدة خمسة و عشرين عاما بانتظام.

يقول الأستاذ (إبراهيم): (إن الكتابة عن آل البيت عبادة يجب أن تؤدي على وجهها، والتقلب في ذكرياتهم حياة فوق الحياة، والانصراف إلى خدمة تاريخهم توفيق عزيز، والخلوص إلى التفكر فيهم مدة لا يتاح، و لا ينبغي إلا لأهل الله)(1).

إذن، فمن أراد أن يستزيد من العبادة لله سبحانه و تعالى، فعليه أن يتفاعل مع تاریخ أهل البيت علیهم السلام عليه أن يكتب عن فضائلهم وأن يحيي مآثرهم، و عليه أيضا أن يعقد جلسات حوار و مناقشات بناءة وصريحة مع عقله و فكره و أن يكون الجلوس للحوار مبنية دائما و أبدا على أسس منطقية و قواعد حيادية و ذلك بهدف الوصول إلى أقوى و أعمق الحقائق المعرفية المتعلقة بهم عليهم السلام.

و إذا كان هذا هو رأي ذلك العلامة الأزهري السني (محمد زكي إبراهيم) بشأن أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام، فما هو رأي الباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) حول نفس الموضوع المتعلق بآل بيت الرسول عليهم السلام؟!

ص: 74


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مصدر سابق، ص20.

وأعتقد أن الباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) غني عن التعريف والتقديم، خاصة بعد أن حقق كتابه النفيس (الحسين في الفكر المسيحي) شهرة واسعة المدی و قوة الصدى، و يكفي أن نذكر أن سيادة المطران (برتلماوس عجمي) قد قال عن ذلك الكتاب معلقا: (و يظل كتاب ابننا الأديب أنطون بارا من أفضل الكتب التي قرأتها في هذا الصدد، إن من حيث اللغة، أو من حيث الأسلوب والمضمون، وأعتبره خطوة جبارة في طريق الحوار بين أتباع الديانات السماوية)(1).

و أما ما يتعلق بالعبارة التي نريد أن نذكرها له الآن، فهي عبارة قصيرة في مبناها عميقة في معناها، إنها قوله: (الفكر المسيحي العربي يقدس آل البيت عليهم السلام كما المسلم)(2).

نعم، إنها عبارة قصيرة من مجموعة عبارات كثيرة قالها الأستاذ الأديب (بارا) في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي المعاصر)، و لكنني آثرت أن أذكر هذه العبارة تحديدا هنا دون سواها لما لهذه العبارة من مدلولات عميقة تتعلق بعمق الرابطة الروحية بين المفكرين المسيحيين العرب المستنيرين من جهة و بين فكر و مآثر أهل البيت علیهم السلام من جهة أخرى.

فالفكر المسيحي المستنير بنور الحق يتعشق، بلا شك، أهل الحق علیهم السلام، فعندما يقول سيدنا الإمام علي علیه السلام: «اِعْرِفِ اَلْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»، و عندما يقول سیدنا عیسی المسيح عليه السلام : «اطْلُبُوا الْحَقِّ ، يَحرّركُم الْحَقِّ»، فعندما يقول كلاهما عليهماالسلام ذلك، معنی ذلك أن الحق يحرر الإنسان من الكثير من القيود والأغلال، و أول هذه الأغلال

ص: 75


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق، ص358.
2- نفس المصدر السابق ص25.

والقيود هو قيد التقوقع والانكماش داخل دائرة التين الواحد أو الفكر الواحد، فالحق دائما وأبدا يحلق عالية فوق حواجز الأديان و فوق حدود القوميات والسياسات، والحق هو الذي يعطي الإنسان الباحث عنه هويته في حين أن الحق لا يكتسب هويته من أي إنسان.

فالفكر المستنير للعرب المسيحيين يقدس أهل البيت عليهم السلام لأن فكرهم يسمو على التعصب والتزمت من جهة، ولأن أهل البيت علیهم السلام هم أهل الحق من جهة أخرى.

و بالتالي، فإن كل إنسان - سواء كان مسيحيا أم غير مسيحي- له فكره الخاص، و له أيضا: قيمته المرتبطة بذلك الفكر، و تتجلى قيمة الإنسان الحقيقية بمقدار الجهد المبذول للوصول إلى حمى الحق والدخول في دائرته، فعظمة الإنسان تتجلى بالفكر الباحث عن الحق و بالعمل الحثيث على ترجمة معانيه و إدراك مقاصده.

و بناء على كل ما سبق، نستطيع القول إن عبارة الأديب الأستاذ (أنطون بارا) السابقة كانت عبارة صادقة في معانيها و صائبة في مراميها، و ذلك لأن أهل البيت المحمدي علیهم السلام - بالنسبة للمفكرين المسيحيين عموما-هم مصباح الدجی و منارة الهدی وهم أهل الصدق و حمى الحق.

و بالتالي، فإن أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين يمثلون دور الفراشات اللطيفة التي تدور و تدور بلهفة و شوق حول المصباح الإلهي العظيم، إنهم العشاق الذين يدورون حول حمى الحق، و من دار حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

ص: 76

يحدثونكم عن الحسين عليه السلام

كان حديثنا السابق حديثا موجزا نوعا ما عن أهل البيت عليهم السلام عموما، و كان ذلك الحديث يتناول ذكرهم عليهم السلام من خلال رؤى إسلامية و مسيحية على حد سواء، و من الطبيعي تماما أن أكون مقصرا في عرض كل وجهات النظر الإسلامية والمسيحية و حتى الهندوسية و غيرها التي جاءت على لسان الكثير من الشخصيات الفكرية الهامة والتي تتحدث تارة عن الرسالة الإسلامية و رسولها الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و تارة أخرى عن أهل بيت ذلك الرسول المصطفى صلی لله علیه و آله و سلم الذين يعتبرون الامتداد الروحي والفكري الرسالة رأس ذلك البيت النبوي الشريف، محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و لا يعني اعترافنا بالتقصير أننا سنقبل بالأمر الواقع و سنستكين له، بل على العكس من ذلك تماما، فإننا سنبذل قصارى جهدنا لاستدراك ما فاتنا و لترميم كل الثغرات التي نرى أن من شأنها أن تخفف من قيمة هذا العمل الفكري الذي يستحق كل الجهد والعناء.

و على كل حال، نرى الآن أن الوقت قد حان فعلا للدخول إلى عالم الإمام الحسين عليه السلام و إلى مملكته الروحية كي نتعرف عليه عن قرب أكثر بعد أن عرفناه كفرد من أفراد أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

فللإمام الحسين عليه السلام مكانة عظيمة و منزلة رفيعة لا يرقى إليها أحد إلا أبوه المرتضى الإمام علي عليهه السلام وأمه المطهرة الزهراء فاطمة علیهاالسلام، و أخوه المجتبى الإمام

ص: 77

الحسن عليه السلام ثم الأئمة التسعة من صلب الحسين (عليهم السلام جميعا).

و لا أعتقد أن هناك من داع إلى إعادة ما جاء في فضل الإمام الحسين عليه السلام كفرد من أفراد أهل البيت الشريف علیهم السلام، فقد ذكرنا في ما مضى أن القرآن العظيم الذي يمثل الوثيقة الإلهية الأعلى منزله قد أفصح في العديد من آیاته المحكمات عن مكانة الإمام الحسين عليه السلام باعتباره واحدة من أعضاء أسرة آل بيت الرسول المصطفى علیهم السلام، و قد رأينا من خلال آية التطهير: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1)، أن أهل البيت عليهم السلام عموما، و من بينهم الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا الآن، هم المبرؤون من كل عيب و نقص و من كل رجس و نقيصة.

و غني عن القول أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام هو أحد المقصودين بآية المباهلة التي تقول:

«...فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ أَبناءَنا وَأَبناءَكُم وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُم وَ أَنفُسَنا وَ أَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنَتَ اللَّهِ عَلَى الكاذِبينَ»(2)، حيث أجمع كل المفسرين، و على اختلاف مذاهبهم، أن المقصود بكلمة (أبناءنا) هم الحسن والحسين (عليهما الصلاة والسلام)، و بكلمة (نساءنا) السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة نساء العالمين، و بكلمة (أنفسنا) الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علي المرتضى عليه السلام، و في هذا إشارة واضحة و صريحة إلى المكانة التي يشغلها أهل البيت علیهم السلام في الرسالة الإسلامية، تلك المكانة التي لا يستطيع أحد أن يبلغها أو أن ينالها، و إلا لكان الرسول الحكيم صلی الله علیه و آله و سلم قد أحضر جماعة غيرهم من أجل المباهلة.

ص: 78


1- سورة الأحزاب: الآية 33.
2- سورة آل عمران: الآية 11.

أما ما يتعلق بأية المودة «... قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ»(1) فهي الآية الكريمة التي ستبقى تنزف دما و دموعا على ما حل بأهل بيت محمد علیهم السلام بعد أن تنكر الكثير من المسلمين لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم ولآل بيته عليهم السلام و تناسوا تلك الوصية الإلهية الخالدة في محكم تنزيله و بدلوا المودة والمحبة والتوقير بالسيف والتحریق والتهجير، و راحوا يلاحقون و يرهبون كل من أحبهم و والاهم وینکلون بهم قتلاً و تشريدا، و قد صدق القائل:

إن اليهود بحبها لنبيها *** أمنت معرة دهرها الخوان

و ذووا الصليب بحب عیسی أصبحوا *** يمشون زهوأ في قرى نجران

والمؤمنون بحب آل محمد *** یرمون في الآفاق بالنيران

و إذا كان الإمام الحسين عليه السلام هو دائم أحد المشمولين بالذكر ضمن تلك الآيات القرآنية الكريمة السابقة والتي تتحدث بشكل صريح عن موقع آل البيت عليهم السلام من الرسالة الإسلامية و عن منزلتهم السامية عند الله سبحانه و تعالى و عند خاتم رسله الكرام (عليهم سلام الله جميعا)، فلم لا نتحدث الآن، إذن، عن مكانة الإمام الحسين علیه السلام، بشكل مفرد و مستقل، حتى نتعرف عليه عن قرب أكثر و حتى نستوعب شيئا من مزايا شخصيته الكريمة الحميدة التي أبت إلا أن تمثل العمق الفكري والبعد الروحي لشخصية الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، أول الخلق وخاتم الرسل عليهم السلام.

دعونا الآن، أيها القراء الكرام، ندخل سوية، عبر بوابة الزمن الغابر، إلى بيت سیدنا و مولانا محمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، دعونا نسأله عن مدى حبه لسبطه الحسین علیه السلام، و عن المعاني الإسلامية والقيم الفكرية والأخلاقية التي يمثلها ذلك السبط

ص: 79


1- سورة الشورى: الآية 23.

بالنسبة إليه صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، الكريم بعلومه الإلهية، و بآدابه النبوية، و بأخلاقه الرسالية، يجيب على سؤالنا بكل رحابة صدر قائلا:

«حسين مني و أنا من حسين، أحب الله من أحب حسینا، حسين سبط من الأسباط»(1).

هذا هو الحديث الأول الذي تفضل علينا به سيدنا و مولانا محمد المصطفى صلی الله علیه و آل و سلم، و لكن، و قبل أن يفيض علينا ذلك الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة المفصحة عن مكانة الحسين عليه السلام عنده، و هو الرسول السماوي الأخير الممثل لخلاصة الرسالات السماوية السابقة، دعونا نقف قليلا في رحاب الحديث الأول كي نشرح و نحلل شيئا من دلالاته و معانيه.

أعتقد أن القسم الأول من الحديث النبوي الشريف (حسين مني) واضح تماما و لا يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتحليل، و لكن لابأس بإلقاء بعض الأضواء على المعاني الروحية التي تكمن وراء العبارة اللفظية ذاتها.

نعم، لا أحد يشك أو يرتاب في أن الحسين عليه السلام هو أحد حفيدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبالتالي، فالحسين عليه السلام هو حقا من النبي، أو بشكل أوضح هو من ذرية النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يخفى علينا حديث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المشهور: «ينقطع يوم القيامة كل سبب

ص: 80


1- راجع على سبيل المثال: أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مطبعة بولاق بمصر، 1292هج2 ص307. ب. الحافظ النيسابوري، مستدرك الصحيحين، مصدر سابق ج 2ص 177 مع اختلاف يسير. ج. المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مصدر سابق ج 7 ص107، أورده باختلاف يسير.

و نسب، إلا سببي و نسبي»(1)، و في هذا دلالة واضحة و صريحة على الوحدة الدموية الأبوية بين الإمام الحسين عليه السلام و جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد اعتبر أن أبناء السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هم أبناؤه لأن - و كما رأينا في آية المباهلة - الإمام علي عليه السلام و محمدا صلى الله عليه و آله و سلم نفس واحدة حيث استخدم البيان الإلهي في تلك الآية الكريمة كلمة (أنفسنا) للدلالة على أنهما علیهماالسلام نفس واحدة.

و لو أردنا أن نغوص أكثر في معاني عبارة (حسین مني) بحيث نقف على ما وراء المعنى الظاهري الواضح لتلك العبارة النبوية، لرأينا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يعني أن الإمام الحسين ليس مجرد حفيد طاهر من ذريته المقدسة والمطهرة من كل رجس، و إنما يعني أشياء أخرى أيضا تتجاوز في مضامينها حدود البعد اللفظي الأحادي المعنی

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يعني أن الإمام الحسين عليه السلام هو منه دما و روحا و فكرا، بل هو منه نورا و رسالة أيضا، و لا يمكن أن تتضح الصورة المطلوبة هنا ما لم ننتقل مباشرة للحديث عن القسم الثاني من الحديث النبوي السابق «وأنا من حسين».

كيف يمكن لصاحب الرسالة السماوية الأخيرة صلی الله علیه و آله و سلم : أن يكون جزءا أو بعضا من حفيده؟

بل أي عقل سيقبل فكرة أن الجد هو المتحدر من الحفيد في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الحفيد هو المتحدر فعليا من ذرية الجد؟!

و إذا قلنا، على سبيل التسليم، إن المقصود بتلك العبارة هو أن الحسين علیه السلام

ص: 81


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص55.

السبيل القويم والنهج المستقيم لمرحلة إسلام ما بعد محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فكيف يمكن لنا أن نستوعب ذلك و أن نسلم به؟!

كل هذه التساؤلات يمكن أن تخطر على بالنا و على بال الكثيرين من المفكرين والمسلمين و غير المسلمين ممن استوقفتهم تلك العبارة المميزة من الحديث النبوي الشريف.

و على سبيل المثال، لو سألنا الشيخ الأزهري الجليل (عبد الله العلايلي) عن معنى ذلك الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه سابقا، والذي ذكره هو شخصيا في أماكن متعددة في كتابه (الإمام الحسين)، فماذا سيكون جوابه؟!

إن جوابه هو ما يلي: (و في هذا الحديث معنى لا أدري كيف أحدده، و لكن يجمل بي أن أتعنى في فهمه بما أمثل معه لحن النبوة في حروفها، هو لون من البيان يقصد به في كلام العرب إفادة الامتزاج والاتحاد، و كأنما حي صلی الله علیه و آله و سلم من الحسين في مظهرين: مظهر الرجل النبي، و مظهر الرجل المسلم، و له في المظهر الأول شكل من جاء من السماء، و في المظهر الثاني شكل من عاد إليها)(1).

هذه هي باختصار شديد وجهة نظر العلامة الأزهري، الشيخ (عبد الله العلايلي) حول مفهوم و معاني ذلك الحديث النبوي الشريف بشأن الحسين عليه السلام، و خلاصة القول عند العلامة (العلايلي) هو أن الإمام الحسين عليه السلام يمثل، بالنسبة لجده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، بقية النبوة و خلاصة الشخصية الإسلامية الكاملة.

و ما يعزز وجهة النظر تلك، هو قوله في مكان آخر في تفسيره لنفس الحديث النبوي السابق: (جاء في أخبار الحسين أنه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جده

ص: 82


1- الشيخ عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة التربية . بيروت 1989، ص68.

العظيم، فأفاض النبي عليه شعاعة غامرة من حبه و أشياء نفسه، ليتم له أيضا من وراء الصورة معناها.

فتكون حقيقته من بعد كما كانت من قبل، إنسانية ارتقت إلى نبوة (أنا من حسين)، و نبوة هبطت إلى إنسانية (حسين مني)، فسلام عليه يوم ولد...)(1).

حسنا، نعتقد أن الصورة باتت أكثر و ضوحا في التعبير عن وجهة نظر ذلك العلامة الجليل (عبد الله العلايلي).

و لا يخفى على القارئ الكريم أن الكثير من الباحثين والمفكرين المسلمين والمسيحيين قد تهبوا الخوض في شرح الحديث السابق، خاصة ذلك القسم الذي يقول فيه صلی الله علیه و آله و سلم: (و أنا من حسين)، و لذلك فقد اكتفوا بذكر الحديث كدلالة على عظمة الحسين عليه السلام ، و لم يتطرقوا إلى فك رموزه و تحلیل معانيه.

و قد يستغرب البعض منا إذا علم أن هناك بعض المفكرين المسيحيين في الشرق والغرب قد عمل جاهدة على تحليل العلاقة الروحية الوثيقة التي تربط بين الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و حفيده الإمام الحسين عليه السلام، و ذلك بالاعتماد على تفسير دلالات الحديث النبوي السابق و على غيره من الأحاديث النبوية الأخرى التي لا تبين فضائل و عظمة الإمام الحسين عليه السلام فحسب، بل و تبين فضائل و مآثر أبيه، الإمام علي المرتضى عليه السلام ، وأمه السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، قرة عين المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و لو أردنا أن نأخذ مثالا واحدة فقط على ما نقول، لوقع اختيارنا على المستشرق الفرنسي الذائع الصيت (Louis massignon- لويس ماسينيون) (1883 -1962)

ص: 83


1- نفس المصدر السابق ص290.

و بالطبع، لم يأتي اختيارنا للباحث والمستشرق الفرنسي (ماسينيون) عن عبث، و إنما جاء هذا الاختبار نتيجة لعدة عوامل ثقافية هامة، و لابأس بذكر البعض منها هنا كي تكون المدخل المناسب لحديثه عن الإمام الحسين عليه السلام و عن أمه و أبيه و جده (عليهم الصلاة والسلام جميعا) و عن العلاقة المميزة التي تربط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بسبطه الإمام الحسين علیه السلام.

فالمستشرق (ماسینیون) عالم بالإسلام، و كان له نفوذ بعيد المدى على الصورة التي نظر بها الغربيون إلى الإسلام، و قد مهد الطريق للكنيسة الكاثوليكية للانفتاح على الإسلام و مبادئه على حسب ما ورد في (إعلان الفاتيكان 2)، و قد شغل (ماسینیون) منصب کرسي علم الاجتماع الإسلامي في جامعة باريس، والجدير بالذكر أيضا أن المستشرق الفرنسي (هنري کوربان) هو أحد تلامذته النجباء، و من تلامذته أيضا المفكر المصري عبد الرحمن بدوي)، والمفكر (جورج مقدسي)، والشيخ (عبد الحليم محمود) شيخ الأزهر سابقا، و من أشهر أعماله کتاب (آلام الحلاج).

إذن، فالأستاذ (ماسینیون) ليس بالشخصية العادية التي تكتب عن الإسلام والمسلمين عن بعد، بل هو واحد من القلة القليلة التي زارت و جابت الكثير من البلدان الإسلامية حتى أنه، كما يقول عنه الباحث الروسي (أليكسي جوارفسكي) في كتابه (الإسلام والمسيحية)، دخل إلى القاهرة للدراسة في جامعة الأزهر، و قد عين في شتاء 1912- 1913 أستاذا في جامعة القاهرة الجديدة، و قد أصبح في عام 1919 مدیر (مجلة العالم الإسلامي)، و لاحقا مديرا لمجلة (الدراسات الإسلامية) )(1).

ص: 84


1- أليكسي جارافسكي، الإسلام والمسيحية (عالم المعرفة) العدد (215)، ترجمة: الدكتور خلف محمد الجراد ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . الكويت . تشرين الثاني، 1996، ص110.

و على كل حال، يرى الأستاذ (ماسينيون) في العديد من كتاباته و مقالاته أن الرسول الكريم محمدا صلی الله علیه و آله و سلم كان شديد الحب لابنته الطاهرة فاطمة علیهاالسلام حتى أنه كان يلقبها ب (أم أبيها) إيمانا منه بأنها- إلى جانب زوجها علي عليه السلام، ستحفظ مبادئ الإسلام الدينية والإنسانية من خلال ذرنيتها المقدسة المتمثلة بشكلها الأوضح في شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي سيأتي من نسله تسعة أئمة أطهار عليهم السلام، و سيكون آخرهم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(1).

و هنا، يؤكد لنا الباحث الفرنسي المعاصر (جان موریون) أن (ماسينيون) كان مدركا تماما لمعنى قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لابنته فاطمة أنها (أم أبيها)، و قد شرح الأستاذ (موريون) وجهة نظر (ماسینیون) بقوله: (لقد لقبت فاطمة تحببا بأم أبيها، و هذا يدل على مدى حب الرسول لها، فهي التي سيستمر توارث الرسالة الإسلامية عبرها حتى يوم الدين)(2).

و بعد هذا الكلام، نرى أن الأستاذ (موريون) يستفيض في شرح و جهات نظر الأستاذ (ماسینیون) بشأن العلاقة الروحية العميقة بين الجد والابنة والحفيد علیهم السلام، فالإمام الحسين علیه السلام هو الإمام الذي سيحفظ تراث جده الروحي، و هو الذي سيدافع عن شريعته، بل هو الإمام الوحيد من ذرية علي و فاطمة علیهماالسلام القادر والمؤهل لإعطاء دفة القيادة الإسلامية الروحية لتسعة أئمة من ذريته يجددون و يعمقون مبادئ الإسلام الحنيف في نفوس المؤمنين، و من هنا يسهل علينا أن نفهم قول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم: «... و أنا من حسین»، على أساس أن روح رسالته السماوية ستستمر حية

ص: 85


1- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بیروت، 1981، ص81.
2- نفس المصدر السابق ص80

من خلال حفيده الحسين الذي سيحيي معالمها و سيبقيها شعله متقدة من خلال الأئمة التسعة من أبنائه، فحياته الرسالية ستبقى حية وستستمد بقاءها اللامحدود من خلال حياة حفيده القائمة على أساس الإيمان بالإمامة المتحدرة أساسا من الإمام علي علیه السلام و من زوجته فاطمة عليهاالسلام ، ابنة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و(أم أبيها).

و ربما بسبب كل هذه العوامل المذكورة أعلاه، فقد خص (ماسينيون) الفكر الإسلامي الشيعي بمكانة بارزة في أعماله، و خض أهل البيت عليهم السلام عموما وفاطمة الزهراء علیهاالسلام التي تحتل موقع المحور وسط علاقات القرابة الخمس (الأبوة، الزواج، الأمومة، البنوة، الأخوة)، بمكانة مرموقة في مؤلفاته لدرجة أنه أبرزها بشكل مستقل في أربعة من بحوثه(1).

هذه باختصار شديد بعض التحليلات الهامة للحديث النبوي السابق، و قد تعمدنا أن يكون التحليل الأول لعالم إسلامي من الشرق، و هو العالم الأزهري (عبد الله العلايلي)، هي حين كان التحليل الثاني لمستشرق مسيحي من الغرب، و هو المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون).

و علينا أن لا ننسى الآن أننا كنا في زيارة لسيدنا الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لنتعرف على مكانة الحسين علي عنده، و أننا كنا بانتظار المزيد من أحاديثه النبوية الشريفة.

و ها هو صلی الله علیه و آله و سلم يفيض علينا من برکات بیانه قائلا: «إن الحسن والحسين هما ريحانتاي»(2)، ولأنه صلی الله علیه و آله و سلم رسول الخير والحق والفضيلة، ولأنه أيضا الرسول الأكرم،

ص: 86


1- نفس المصدر السابق ص81 80.
2- راجع على سبيل المثال ما جاء في أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق ج2 ص306. ب. الإمام أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المطبعة الميمنية بمصر، 1312ه، ج2 ص85 93. ج. الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصباني، حلية الأولياء، مطبعة السعادة بمصر، 1351ه، ج5 ص70. د. الحافظ أحمد بن شعيب النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، مطبعة التقدم العلمية بمصر ص37.

فهو لا ينتظر منا أن نطلب منه المزيد عن مكانة الحسين عليه السلام عنده، بل هو صلی الله علیه و آله و سلم الذي يبادر إلى القول من جديد: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»(1).

و إذا كنا نريد و داع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و إنهاء رحلتنا إلى حضرته النبوية القدسية على أمل لقائه غدا يوم العطش الأكبر كي يكون شفيعا لنا عند رب غفور رحيم، فإننا نشعر بحرقة الوداع و لوعة الفراق، غير أن الأمل الأكبر سيكون في يقيننا أنه صلی الله علیه و آله و سلم سیسقينا غدا و سوف يسقي كل محب له و لأهل بيته علیهم السلام من نهر الكوثر أيا كانت هوية ذلك المحب المذهبية، أو حتى الدينية أيضا.

والحقيقة ثقال، فإننا مهما حاولنا إقناع أنفسنا بضرورة الاكتفاء بما قدمناه من أحاديث نبوية شريفة عن منزلة الحسين عليه السلام الرفيعة في ضمير جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و في فكره الرسالي، فإن تلك القناعة قد لا تكون مرضية لبعض القراء الكرام الذين يريدون دائما المزيد من تلك الأحاديث الممتعة للروح و للفكر، و ربما يزيد ذلك النوع من القراء المزيد من الأحاديث النبوية لعدة أسباب جديرة بالاهتمام، و لا نستبعد أن

ص: 87


1- راجع على سبيل المثال: أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق، ج2 ص306. ب. أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مصدر سابق، ج3 ص3 + 62. ج . الحافظ أبو بكر أحمد بن علي (الخطيب البغدادي)، تاریخ بغداد، مطبعة السعادة بمصر، 1349ه، ج9 ص 231. د. الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، مصدر سابق، ج5 ص 71. ه . الحافظ النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، مصدر سابق، ص36.

يكون على رأس هذه الأسباب حبهم للاطلاع على الدراسات والتحليلات المعاصرة التي جادت بها أقلام الأدباء والمفكرين المعاصرين، والتي جاءت بمثابة الدراسة المنطقية والتحليلات العقلانية لتلك الأحاديث النبوية الشريفة التي قالها خاتم رسل الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.

و ها نحن سنكون كرماء، كما كان الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم کریما معنا، و سنورد المزيد من أحاديثه البهيجة والمميزة حول سبطه الذي سيروي شجرة الإسلام من دمائه الزكية.

فقد جاء في كتاب (مجمع الزوائد) للحافظ (نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي): عن يزيد بن أبي زياد قال: خرج النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم من بیت عائشة، فمر على بيت فاطمة سلام الله عليها، فسمع حسينا يبكي فقال: «ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟»(1).

نعم، إن بكاء الحسين علسه السلام يؤذي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و يثير الهموم والآلام في صدره الشريف، و لكن ألا يحق لنا أن نسأل - على ضوء فهينا لهذا الحديث النبوي-رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم قائلين:

إذا كان بكاء الحسين علیه السلام يؤذيك يا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و إذا كانت دموعه تشعل الهموم والأحزان في قلبك النقي الطاهر، فما هو موقفك لو أبصرته و رأسه الشريف يقطر دما؟!

و إذا كان بكاؤه يؤذيك و يؤلمك على الرغم من أنه كان يبكي و هو بين ذراعي أمه

ص: 88


1- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، مكتبة القدسي، القاهرة، 1352ه، ج9 ص 201.

فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فما هو شعورك لو أبصرته مرملا بدمائه، ممزق الجثة تحت حوافر الخيل؟!

ألم يسمع أولئك القتلة الفجرة بقولك المشهور الذي قلته على رؤوس الأشهاد: «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني و من أبغضهما فقد أبغضني»(1)؟!

و على كل حال، لا يسعنا أن نقول شيئا إلا قولنا لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و حسبنا الله و نعم الوكيل.

و نعتقد الآن أنه من الأفضل لنا أن نذكر هذا الحديث الهام الذي أخذناه من كتاب (تاریخ بغداد) لمؤلفه الحافظ (الخطيب البغدادي)، و هو حديث مؤثر جدا و مناسب کي نختتم به حدیثنا الآن عن منزلة الإمام الحسين عليه السلام في وجدان الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و في ضميره النبوي الكريم.

و لكن، بالطبع، ستكون لنا عودة ثانية للتوقف مع أحاديث النبي المصطفی وصلی الله علیه و آله و سلم التي تتحدث عن قضية خروج الإمام الحسين علیه السلام و عن استشهاده على رمال كربلاء الحارقة والمتعطشة لدماء الشهداء الأبرار التي ستكون الوقود الإيماني الذي سيحفظ روح الإسلام والخير والحق والفضيلة حية دائما و أبدا في ضمائر كل الأحرار في العالم على مر الأعوام و تقادم الأزمان والعصور.

و ها نحن نذكر الآن الحديث الأخير الذي يمكن أن نذكره هنا، فقد روی الخطيب البغدادي بسنده عن أبي العباس، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم، و على فخذه الأيسر ابنه إبراهيم (ابن مارية القبطية)، و على فخذه الأيمن الحسين بن علي علیهماالسلام .

ص: 89


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق،ج2 ص46.

تارة يقبل هذا و تارة يقبل هذا، إذ هبط عليه جبريل عليه السلام بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: أتاني جبريل من ربي فقال لي: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام و يقول لك: لست أجمعهما لك، فافذ أحدهما بصاحبه، فنظر النبي صلى الله عليه (و آله) و سلم إلى إبراهيم فبكى، و نظر إلى الحسين عليه السلام فبكي، ثم قال: إن إبراهيم أمة أمة و متى مات لم يحزن عليه غيري، و أم الحسين فاطمة و أبوه علي ابن عمي لحمي و دمي، و متى مات حزنت ابنتي و حزن ابن عمي و حزنت أنا عليه، و أنا أوثر حزني على حزنهما.

يا جبريل، تقبض إبراهيم، فديته بإبراهيم، قال: فقبض بعد ثلاث، فكان النبي (صلى الله عليه (و آله) و سلم) إذا رأى الحسين عليه السلام مقبلا قبله و ضمه إلى صدره و رشف ثناياه، و قال: فديت من فديته بابني إبراهيم(1).

و هنا لا بد لنا من التوقف قليلا كي نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الجولة الشيقة في ربوع الفكر المحمدي الرسالي الخالد و في مملكة معرفة الحسين علیه السلام، الإمام الشهيد و أبي الأئمة الشهداء علیه السلام.

و بطبيعة الحال، ما هذه الأحاديث النبوية الشريفة التي أوردناها في معرض حديثنا عن الإمام الحسين علیه السلام إلا غيض من فيض، و هي بمجملها - بالإضافة إلى الأحاديث النبوية التي سنذكرها لاحقا حول نبوءة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ومعرفته الغيبية باستشهاده عليه السلام - الأحاديث التي بني عليها المفكرون والأدباء المسلمون والمسيحيون و غيرهم و جهات نظرهم و دراساتهم عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام و عن ثورته الإيمانية الإنسانية المباركة.

ص: 90


1- الحافظ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ، مصدر سابق، ج2 ص204.

و إذا كان المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون)، الذي أسلفنا ذكره، قد أعطى أهل البيت عليهم السلام عموما مكانة مرموقة في مؤلفاته الاستشراقية، و بشكل خاص تلك المكانة المميزة للسيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، أم الحسن والحسين عليهماالسلام ، والملقبة بأم أبيها، فإن المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) يؤكد في كتابه (الإسلام الشيعي) على صحة وجهة نظر أستاذه المستشرق (ماسينيون)، و يعتبر أن لأبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، و تحديدا الإمام الحسين عليه السلام الدور الفعال في عملية استمرار النسل المحمدي الحامل والمجدد دوما للديانة الإسلامية، تلك الديانة التي أثبتت قوتها و جدارتها فعلا يوم حادثة المباهلة حيث باهل الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم و فد نجران، أو بالأصح كاد أن يباهلهم، بأغلى الناس على قلبه و بأهل بيته عليهم السلام الذين يمثلون صفوة رسالته الإلهية، بعلي و فاطمة والحسن والحسين(1).

أما لو عدنا ثانية إلى الشيخ الأزهري الجليل (عبد الله العلايلي) كي نقف على رأيه بشخصية الإمام الحسين عليه السلام بعد وضعها تحت أضواء الأحاديث النبوية الشريفة، فماذا سيكون رأيه؟!

في الحقيقة، يربط العلامة (العلايلي) بين الآية القرآنية التالية «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2) و بين شخصية الإمام الحسين عليه السلام، إذ إنه یری- على ضوء الآية القرآنية السابقة- أن كل شيء قائم بنور الله وحي به، و إنما يتفاوت الناس بمقدار ظهور شعاع الله فيهم، و من هذه الفكرة ينبثق السؤال التالي:

إذا كان الناس يتفاوتون بمقدار ظهور شعاع الله سبحانه و تعالى فيهم، فما هو

ص: 91


1- یان ریشار، الإسلام الشيعي، ترجمة: حافظ الجمالي، دار عطية . بيروت، 1996م، ص47.
2- سورة النور: الآية35.

موقع الإمام الحسين عليه السلام من هذا الكلام؟!

والجواب بكل بساطة- كما يراه العلامة العلايلي - هو أن الحسين عليه السلام ، ليس غريبا أن يكون حيث نتحدث عنه، فإن في إنسانيته السامية، تلتقي شعله النبوة المقدسة بالفطرة المثالية، و تزدحم المعاني والصور، و رموز العالم المجهول، فهو روح إلهي في طبيعة بشرية)(1).

نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام روح إلهي في طبيعة بشرية، و لكن لم يأت هذا الحكم من العلامة (العلايلي) من الفراغ، و لم يأت نتيجة ثورة عاطفية بعيدة عن روح المنطق و أسس العقل، بل إنه الحكم المنطقي الصادر عن عقل مستنير بضوء الحقائق و بنور الوقائع، فلا يسمح لتيار العاطفة المجلجل أن يجرف معه ما بناه العقل من نتائج و أحكام.

و لا أريد هنا أن أسهب في الحديث عن وجهة نظر العلامة (العلايلي) حول طفولة الإمام الحسين عليه السلام و موقعه کسبط في قلب و وجدان جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لكن أحب أن أذكر هنا حادثة واحدة فقط من الحوادث المشهورة عن طفولة الحسين عليه السلام، و من ثم سأذكر تعليق العلامة (العلايلي) عليها و تحليله العقلي لها.

نقل لنا العلامة (العلايلي) في الصفحة / 282/ من كتابه (الإمام الحسين) القصة التالية كما جاءت في الكثير من كتب التراث الإسلامي، فقال:

و عن شداد، قال: خرج علينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في إحدى صلاتي العشاء و هو حامل حسينا، فتقدم النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فوضعه، ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهره و هو ساجد، فرجعت إلى سجودي فلما قضى الصلاة،

ص: 92


1- العلامة عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص8

قيل: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أم أو أنه يوحى إليك، فقال: «كل ذلك لم يكن، و لكن ابني ارتحلني (أي امتطى ظهره صلی الله علیه و آله و سلم) فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».

هذه هي القضية بتمامها كما نقلها لنا العلامة (العلايلي) في كتابه المذكور، و قد حظيت هذه القصة تحديدا بالكثير من التأمل والتفكر في كتاب العلايلي، و لعل أبرز تحليل و أعمق معنى وصل إليه العلامة العلايلي في دراسته لأبعاد هذه الحادثة المتعلقة بطفولة الإمام الحسين عليه السلام هو قوله:

(ارتحل الحسين عليه السلام ظهر جده العظيم و هو ساجد في الصلاة، وجاء في الحديث أن أقرب ما يكون المرء من ربه و هو ساجد.

و معنى هذا أن النبوة الساجدة كانت معراجا روحيا لهذا الطفل الذي استودع فيه النبي أسراره العظمى و إنسانيته العليا)(1).

فالحسين عليه السلام، إذن، كأبيه الإمام علي عليه السلام، مستودع أسرار النبوة و خزان علوم الرسالة السماوية، و لهذا السبب كان الكثير من رجال الفكر والأدب ينظرون إلى زواج الإمام علي عليه السلام من ابنة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المفضلة فاطمة الزهراء علیهاالسلام على أنه تزاوج قائم بالأساس على امتزاج النور الإمام العلوي مع النور الرسالي النبوي المحمدي والعودة بذلك النور إلى حالته الأولى كما كان عليه قبل أن يخلق الله سبحانه و تعالى سیدنا آدم عليه السلام بعدة آلاف من السنين الإلهية.

فالإمام الحسين هلیه السلام، كأخيه الإمام الحسن علیه السلام، هما نتاج أنوار الإمامة وأنوار الرسالة، إنهما عليهماالسلام ابنا المرتضى عليه السلام والمصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لهذا لا يمكننا أن نعتبر

ص: 93


1- نفس المصدر السابق ص293

قول العلامة (العلايلي) عن زواج علي علیه السلام من فاطمة بنت المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم إلا قولا صائب و حكما سديداة، إذ إنه قال:

اجتمعت في علي قابليات لا حد لها...

واجتمعت في فاطمة إشراقات لا حد لها...

فيوم علي و فاطمة، يوم نظر النبوة إلى نفسها في المرآة(1).

و الآن، أيها الأعزاء، دعونا ننتقل في رحلتنا هذه من عالم العلامة (العلايلي) إلى رحاب عالم مفکر آخر لا يقل أهمية في فكره عن مستوى العلامة (العلايلي) الذي كنا في ضيافته الفكرية منذ قليل.

فالأستاذ (توفيق أبو علم) واحد من أبرز الكتاب السنة المعاصرين الذين خاضوا غمار البحث في التاريخ الإسلامي و خرجوا نتيجة بحثهم بالعديد من الكتب الدينية والفكرية الهامة التي أغنت المكتبة العربية بمعلوماتها و بدقة الملاحظات التي أبدتها حيال الكثير من الوقائع الإسلامية والحوادث التاريخية المفصلية الهامة على امتداد فجر الرسالة الإسلامية.

و لا ريب في أن الأستاذ (أبو علم) كان متبخرة جدا في دراسة التاريخ الإسلامي و إلا لما خرج بالعديد من الكتب الإسلامية التي تتناول سيرة حياة أعلام المسلمين الذين كانوا هم بحق صورة الإسلام ومنهج الإيمان الذي رسمته الرسالة السماوية الأبناء الأرض.

و يمكننا أن نذكر من مؤلفات الأستاذ (أبو علم)، الذي كان يشغل منصب وكيل أول في وزارة العدل سابقا، الكتب التالية والتي طبعت مرات عديدة نظرا لقيمتها

ص: 94


1- نفس المصدر السابق ص386

الفكرية والروحية:

(فاطمة الزهراء)، (علي بن أبي طالب)، (الحسن بن علي)، (الحسين بن علي)، (السيدة نفيسة)، و قد ترجمت بعض هذه الكتب إلى اللغة الفارسية.

و أكثر ما يهمنا الآن من هذه الكتب هو كتاب (الحسين بن علي)، كونه الكتاب الذي يتحدث بشكل مباشر عن الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا في الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن.

وبلا شك، فقد تحدث الأستاذ (أبو علم) عن طفولة الإمام الحسين عليه السلام في بداية كتابه، و قد أجاد في إيراد الشواهد التاريخية و في التعليق عليها أيضا، و قد ذكر من جملة ما ذكر عدة حوادث تتعلق بطفولة الإمام الحسين عليه السلام و بارتباطه الروحي بجده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و ما يهمنا من هذه الحوادث الهامة هي تلك الحادثة التي نقلها لنا الأستاذ (أبو علم) من بطون الكتب التراثية السنية المعتمدة والموثوقة عند أهل النقل من علماء المسلمين.

يقول الأستاذ (أبو علم) إنه جاء في كتاب (تاريخ البلاذري) نقلا عن محمد بن يزيد المبرد النحوي بسنده، قال: انصرف النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى منزل فاطمة فرآها قائمة خلف بابها فقال: «ما بال حبيبتي ها هنا؟» فقالت: «إن ابنيك خرجا غدوة و قد غم علي خبرهما»، فمضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقفو آثارهما حتى صار إلى كهف جبل فوجدهما نائمين وحية مطوقة عند رأسيهما... ثم حمل الحسن على كتفه اليمنى والحسين على كتفه اليسرى، فنزل جبرائيل فأخذ الحسين، فكانا بعد ذلك يفتخران، فيقول الحسن:

ص: 95

«حَمَلَنِي خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ»، و يقول الحسين: «حَمَلَنِي خَيْرُ أَهْلِ السَّمَاءِ»(1).

و في نفس الصفحة التي ذكر فيها الأستاذ (أبو علم) هذه الحادثة المشهورة والمأخوذة من كتاب (تاريخ البلاذري)، نراه يسارع مباشرة لذكر عدة أبيات شعرية تخلد هذه الحادثة شعرا، فقد ذكر قول الشاعر (حسان بن ثابت):

فجاء و قد ركبا عاتقيه *** فنعم المطية والراكبان

ثم ذكر بعد هذا البيت الشعري، عدة أبيات شعرية أخرى و لكن هذه المرة للشاعر العبقري (السيد الحميري)، و هي في مجملها أبيات شعرية تصور الرسول الكريم صلی اله علیه و آله و سلم و هو يحمل حفيديه العزيزين علي علیهماالسلام كتفيه:

أتی حسنا والحسين الرسول *** و قد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما و تفداهما *** و كانا لديه بذاك المكان

و مر و تحتهما عاتقا، *** فنعم المطية والراكبان

و للأستاذ (أبو علم) أسلوبه الخاص و طريقته المميزة في عرض جوانب الشخصية التي يتحدث عنها، فهو ينتهج أسلوب واحدة من مدارس علم النفس الحديثة التي تقول إن الإنسان، في محصلة الأمر، هو ابن بيئته البيتية، و هو نتاج تربيته الأبوية، و ذلك لأن الإنسان يكتسب الكثير من الخصال والصفات في سلوك و ثقافة أبويه و من محيطه الأقرب.

وانطلاقا من هذه الفكرة، يرى الأستاذ (أبو علم) أن التعريف بشخصية استثنائية رفيعة كشخصية الإمام الحسين علیه السلام لا ينظر إليها من ذاتها فحسب، و إنما ينظر إليها أيضا من خلال محيطها الأقرب، و من خلال ثقافة و سلوك أفراد ذلك المحيط

ص: 96


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، دار المعارف بمصر، ط1982/2 ، ص27.

الأقرب، و بشكل أوضح، من خلال أسرته.

و لذلك، يرى أن التعريف بالإمام الحسين عليه السلام يستلزم الكلام عن هوية جده صلی الله علیه و آله و سلم و عن جدته (رضی الله عنه)، و يستلزم الكشف أيضا عن هوية أبيه عليه السلام و أمه علیهاالسلام و أخيه علیه السلام أيضا.

و لكن نحن لن نقوم بهذا العمل لأننا لو قمنا به، أو على الأقل، لو استعرضنا هوية كل من مر ذكرهم علیه السلام من محيطه الأقرب فسيطول بنا المقام كثيرا و سيكون في ذلك خروج، بعض الشيء، عن الشخصية الأساسية والمحورية في كتابنا هذا.

و لذلك، سنختصر الكلام و سنقول مؤكدين ما يراه الأستاذ (أبو علم) من أن معرفة أهل البيت علیهم السلام هي باب من أبواب الجنة، لأن حبهم هو بحد ذاته الجنة التي لا يرضى عنها المؤمن الحقيقي أي بديل أو مقابل.

و سنوفر الكلام على الأستاذ (أبو علم)، و سنورد الحديث النبوي الشريف الذي ذكره في كتابه (الحسین ابن علي) والذي يختصر الحديث عن استعراض الهوية المفضلة عن جو الإمام الحسين عليه السلام و عن محيطه الأقرب.

و نص الحديث المنقول عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هو أنه قال: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم آخذا بيد الحسين بن علي و هو يقول: «أيها الناس هذا حسین بن علي فاعرفوه، فوالذي نفسي بيده لجد الحسين أكرم على الله من جد یوسف بن يعقوب - هذا الحسين جده في الجنة- و أبوه في الجنة و أمه في الجنة و عمه في الجنة و عمته في الجنة، و خاله في الجنة و خالته في الجنة و أخوه في الجنة و هو في الجنة»(1)

و لا أظن، بعد ذلك، أننا بحاجة للإجابة على السؤال التالي:

ص: 97


1- نفس المصدر السابق ص30.

إذا كان كل هؤلاء علیهم السلام: من محيطه الأقرب، هم سادة أهل الجنة، فماذا تعني محبتهم و معرفتهم و موالاتهم؟! هو مصير من يسير على خطاهم و ينهج نهجهم و سلوكهم مع الخالق ومع الخلائق؟!

و لا نطلب من القارئ الكريم، في إجابته على ذلك، إلا القليل من التروي والمنطق والإنصاف، و من ثم فليكن جوابه ما يشاء.

و حتى يكون القارئ أكثر عقلانية و إنصافا في إطلاق حكمه و في الإجابة على ما سبق من جهة، و حتى لا يتهمنا بالبخل والتقتير بإيراد المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرها الأستاذ توفيق أبو علم في مؤلفاته العديدة عن أهل البيت عليهم السلام من جهة ثانية، لا يسعنا إلا أن نقول للقارئ: لك ما تريد، و لكن دعنا نقرأ سوية و بروية هذا الحديث النبوي الشريف الذي أورده الأستاذ (أبو علم)، هذه المرة، في كتابه (الحسن بن علي)، و لنقف متأملين بعمق و متفکرین بهدوء و بتعقل كل عبارة واردة فيه.

ينقل لنا الأستاذ (أبو علم) عن علي بن الهلالي عن أبيه قوله:

دخلت على رسول الله صلی اله علیه و آله و سلم في الحالة التي قبض فيها، فإذا فاطمة سلام الله عليها عند رأسه فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع صلی الله علیه و آه و سلم طرفه إليها، فقال: «حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك؟»، فقالت: «أخشى الضيعة من بعدك»، فقال: «يا حبيبتي أما علمت أن الله اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك و أوحي إلي أن أنكحك إياه؟

یا فاطمة و نحن أهل بيت فقد أعطانا الله سبع خصال لم تعط أحدا قبلنا و لا تعط أحدا بعدنا، وأنا خاتم النبيين و أكرمهم على الله عز وجل و أحب المخلوقين إلى الله عز وجل و أنا أبوك، و وصيي خير الأوصياء و أحبهم إلى الله عز وجل و هو بعلك، و شهيدنا

ص: 98

خير الشهداء و أحبهم إلى الله عز وجل و هو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك و عم بعلك، و منا من له جناحان أخضران يطير بهما إلى الجنة حيث يشاء مع الملائكة و هو ابن عم أبيك و أخو بعلك، و ما سبطا هذه الأمة و هما ابناك الحسن والحسين و هما سیدا شباب أهل الجنة، وأبوهما -والذي بعثني بالحق-خیر منهما، یا فاطمة والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا و مرجا، و تظاهرت الفتن و تقطعت السبل و أغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيرا، و لا صغير يوقر كبيرا، فيبعث الله عز وجل عند ذلك من يفتح حصون الضلالة و قلوبا غلفا يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، و يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»(1).

و أقل ما يمكن أن يقال عن المحيط الأقرب للإمام الحسين عليه السلام- بعد قراءة الحديث الذي ذكرناه- هو أن ذلك المحيط المتمثل بالأسرة التي نشأ فيها الإمام الحسين عليه السلام هو محیط يدأب و يسعى لتحقيق وحدة هدف كان أول من نادی به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تحت راية لا إله إلا الله دائما و أبدا، و لا ريب في أن ذلك الهدف أو القضية التي حمل لواء الدفاع عنها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - كما يصفها المفكر المسيحي (سلیمان کتاني)- هي نفس القضية التي امتلأ بها وجود الإمام علي عليه السلام، و هي أيضا ذات القضية التي حملتها و سارت بها الصديقة الزهراء علیهاالسلام إلى باحة المسجد، و هي ذاتها التي قصف بها الإمام الحسن عليه السلام حسامه حقنا للدماء، وصونا لوحدة المسلمين، لتبقى هي القضية ذاتها يمشي بها الإمام الحسين عليه السلام من أرض مكة إلى

ص: 99


1- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، دار المعارف بمصر، ط 1990/2 ، ص29.

رمال كربلاء بجبة ما طاب له إلا أن يصبغها بدماء الوريد(1).

لقد كان محيط الإمام الحسين عليه الاسلام الأسري هو بحد ذاته المجتمع الإنساني والإيماني الأمثل، لقد حققته الرسالة السماوية إذ بنته بيتا كريما تنزل فيه كي تخلد معه في القيمة المستمرة، في وجود الإنسان و استمراريته، فهي الرسالة السماوية التي ستدافع عن ذلك البيت النبوي، إذ إنها في ذلك ستدافع عن ذاتها و عن حقيقتها من خلال دفاعها عنه، و من هنا كان البيت بيت الرسالة، أما أهلوه المخصصون فهم المصطفون عنصرا أصيلا للصيانة والتعهد، حتى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المنشود إلى أن يعم الرشد سواد الناس و تنجلي سحب الضلالة والظلام، و تتجذر إنسانية الإنسان بداخله عن طريق العلم واليقين و عن طريق السعي والممارسة، تلك الممارسة التي نسيه مواطئ قدميه في أمسه المظلم والهزيل، و تنقذه و تنجيه من الانتكاس والردة في يومه الجديد و في مستقبله الممتد صعودة إلى يوم الدين). (2)

و ليس هذا فحسب، بل يرى المفكر والأديب المسيحي (كتاني) أن لطفولة الإمام الحسین علیه السلام تعهدا متفردا عن المثيل، و قد اشترك في ذلك التعهد الممتاز: الجد والأب والأم بأسلوب موحد لا يدل و لا يشير إلا إلى وحدة الهدف الذي يجتمع عليه الثلاثة، فكان واحدة في اللون، و واحدة في التوع، و واحدة في التوجيه، بل و واحدة أيضا في ضم الأخوين الطاهرين إلى مشترك واحد دون أي فرق أو تمييز، كأنهما واحد في التنشئة والتربية، و كان كل واحد منهما المكمل للآخر ليكونا حبكة واحدة في فتيلة سراج الرسالة السماوية الأخيرة.

ص: 100


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص6.
2- نفس المصدر السابق ص27.

لقد كانا - الحسن والحسين عليهماالسلام-فعلا شخصين منفصلين جسدية لكنهما متحدان بقوة لا تقبل التفريق بينهما ضمن إطار الوحدة الفكرية الروحية الخالصة، لقد جمعتهما تلك الوحدة إلى القصد الواحد، ليكونا يتاجة واحدة لذلك القصد الأكبر الذي جال في بال النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو يزف إلى الإنسان رسالة تجمعه من تیهه المشرد إلى مجتمعه الموحد(1).

إذن، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام منذ البداية المرأة الصافية التي تعكس بصفائها و نقائها أفكار و أخلاقيات و سلوك جده الرسول المصطفى و أبيه الإمام المرتضى عليه السلام و أمه البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فهو المرآة العاكسة لأنوار النبوة والإمامة فكرا و ممارسة، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يعمل أعداء الإسلام الحقيقي على تحطيم تلك المرأة و تفتيتها، أو على الأقل، على نثر الغبار والرمال على وجهها الناصع بغية إطفاء نورها و إبطال مفعولها.

و يمكننا أن نعتبر کلام الأديب الراحل الدكتور (طه حسين) عن شخصية الإمام الحسين بمثابة التأكيد على ما قلناه، فالدكتور (طه حسين) الذي يتميز بوجهات نظر خاصة و غريبة بعض الشيء حول بعض القضايا والأحداث الإسلامية الهامة، يرى في كتابه (الفتنة الكبرى) أن الإمام الحسين عليه السلام كان (كأبيه صارما في الحق لا يحب الرفق و لا الهوادة و لا التسامح فيما لا ينبغي التسامح فيه)(2).

حقا، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام كأبيه علي أمير المؤمنين عليه السلام تماما، بل لقد كان أيضا صورة صادقة عن شخصية جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في كل صفة من صفاتها

ص: 101


1- نفس المصدر السابق ص79.
2- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، 1978، ج2 ص195.

و في كل سلوك من سلوكياتها، فالحسين عليه هو الصورة التي انطبعت فيها خطوط و معالم جده العظيم محمد صلی الله علیه و آله و سلم لأنه حل في بيئة النبوة التي هي، حقا، الإنسانية العليا في المظهر البشري، فكان بذلك أسمى رجل لأنه أسمى طفل تربى و ترعرع في أسمى بیئة

و يرى الكثير من أهل العلم والمعرفة، على مختلف مشاربهم و مذاهبهم، أن الجانب النوراني في شخصية الإمام الحسين عليه السلام هو انعکاس واكتساب أيضا من نورانية عالم النبوة والإمامة.

فعندما يخبرنا الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن إرادة الله سبحانه و تعالى قد قضت عليه أن يزوج النور بالنور، أي علي عليه السلام من فاطمة علهاالسلام، فهذا يعني أن الأئمة الأطهار عليهم السلام المنحدرين منهما والمنصوص عليهم أصلا هم أيضا ورثة و حملة و أصحاب و نتاج تزاوج هذين النورين العظيمين الخالدين.

و بناء على ذلك، يمكننا أن نعتبر ما قاله الإمام (بديع الزمان سعيد النورسي)، و هو أحد المتصوفين الأتراك الستة المعاصرين، بشأن علاقة الرسول الكريم صلی لله علیه و آله و سلم، بحفيديه الطاهرين الحسن والحسين عليهماالسلام و بشأن علاقتهم النورانية هو عين الصواب حيث قال ذلك الإمام التركي المعاصر حرفيا:

(إن ما أظهره الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام من الشفقة الفائقة علی العادة والاهتمام العظيم، إزاء الحسن والحسین (رضی الله عنهما) في صبوتهما، ليس شفقة جبلية و محبة ناشئة عن حس القرابة، بل ذلك، من حيث إن كلا منهما رأس حبل نوراني من حبال وظيفة النبوة)(1).

ص: 102


1- الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل التور، مصدر سابق ص 31.

إذن، فالاهتمام العظيم الذي أظهره الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم تجاه ابنيه الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام لم يأت عن عبث، و لم يكن ناتجا عن الرابطة الدموية و عن العلاقة العاطفية فحسب، بل كان ذلك الاهتمام العظيم والمميز اهتماما ناشئا عن وحدة العلاقة النورانية بالدرجة الأولى، تلك العلاقة التي تربطهم بالله سبحانه و تعالى ارتباطا و ثيقا و دقيقا كارتباط شعاع الشمس بقرصها و ربما أكثر دقة من ذلك، و قد أصاب و أجاد الإمام محمد الباقر عليه السلام عندما أجاب على سؤال سأله إياه جابر بن يزيد الجعفي، بقوله مجيبة عليه:

(یا جابر إ لنا عند الله منزلة و مكانة رفيعا، و لولا نحن لم يخلق الله أرضا و لا سماء و لا جنة و لا نارة و لا شمسا و لا قمرة و لا با و لا بحرة و لا سهلا و لا جبلا و لا رطب و لا يابسة و لا حلواة و لا مرا ولا ماء و لا نباتا و لا شجرا، اخترعنا الله من نور ذاته، لايقاش بنا بشر)(1).

و لا يسعنا إلا أن نقول، و بثقة كاملة، إن عبارة الإمام الباقر علیه السلام: «اخْتَرَعَنَا مِنْ نُورِ ذَاتِهِ» هي واحدة من أكثر العبارات دقة في وصف العلاقة النورانية القديمة بين الله سبحانه و تعالى وأهل بیت رسوله علیهم السلام.

و لا ريب في أن عبارات و أحاديث من هذا النوع، سواء كانت للإمام محمد الباقر عليه السلام أم لغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام هي أحاديث عميقة المعاني و قد استمدت عمق معانيها من الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي لم يبخل بها الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على عموم المسلمين في العديد من المواقف والمناسبات.

ص: 103


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، نشر دار الكتب الإسلامية . طهران، 1388ه، ج26 ص12.

و يمكننا أن نوجز القول حول هذه النقطة بقولنا إن الكثير من الشعراء الكبار والمتصوفة قد تناولوا تلك الأحاديث النبوية الشريفة و درسوها و حللوا معانيها ثم خلصوا بعد ذلك إلى العديد من النتائج التي تتفق في معانيها مع مجمل معاني أحاديث الرسول المصطفى صلی اللهعلیه و آله و سلم حول طبيعة العلاقة النورانية و عمق ارتباطها بين الله و أهل البيت علیهم السلام.

و قد عمد أولئك الشعراء المتصوفة إلى تدوين النتائج التي توصلوا إليها في أبيات شعرية بالغة العذوبة والشفافية إيمانا منهم بأن تلك الحقائق التي توصلوا إليها يجب أن تخلد أبد الدهر في دواوينهم و مؤلفاتهم.

و يكفي أن نذكر على سبيل المثال أن المتصوف والشاعر السني (عبد الغني النابلسي)، و هو متصوف ليس بالبعيد عنا زمنيا كثيرا، كان يرى أن آل بیت المصطفى علیهم السلام هم أساس الوجود إذ إن نورهم المستمد من ذات نور الله سبحانه و تعالى هو نفس نور طه النبي صلی الله علیه و آله و سلم غير أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم يمتاز عنهم بحمله لخاتم النبوة، و يرى المتصوف (النابلسي) أيضا أن الإنسان البصير الذي يمعن التفكير في أساس هذا الكون و في وجوده المستمد من أمر الله:

(كن فيكون)، سيدرك بنور بصيرته أن نور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نور أهل بيته عليهم السلام، والذي هو بالأساس نور واحد، هما التنوران المميگان بدوام هذا الوجود، و هما الممئلان الحقيقيان للحكمة الإلهية السارية في هذا الكون.

و قد قال (النابلسي) عن ذلك مخمسا في كتابه (ديوان الحقائق و مجموع الرقائق):

الكون قد أظهر لي بسطه

ص: 104

في نور طه مثبت قسطه

و الآن نور أحكموا ربطه

لو شق عن قلبي يرى وسطه *** سطران قد خطا بلا كاتب

نوران في نور لهم غائب

روح و جسم ذا بلا عائب

لا زال في قلب لنا تائب

العلم والتوحيد في جانب *** و حب آل البيت في جانب(1)

و سواء ذكر الشيخ (النابلسي) الإمام الحسين عليه السلام بالاسم الصريح أم لم يذكره، فالنتيجة واحدة دون أدنى شك، و ذلك لأن الإمام الحسين عليه السلام هو أحدأقطاب أهل البيت المحمدي عليهم السلام الذين يمثلون السفارة السماوية الأخيرة على الأرض، و هم عليهم السلام أيضا مهبط وحي الله و بیت رسالته و أئمة أمته.

و قد صدق المفكر والشاعر المسيحي الكبير (سعيد عقل) عندما و صفهم أيضا، فأجاد الوصف بقوله عنهم في إحدى قصائده الرائعة:

و كانت إمامات و كانت مطارح

محیط نزول الله أو يقرب القرب

ففي كل أرض بعد بیت مطیب

على اسم الأولى في الكتب ليس لهم شطب(2)

ص: 105


1- الشيخ عبد الغني النابلسي، ديوان الحقائق و مجموع الرقائق، دار الجيل . بیروت، د.ت، ج1 ص74.
2- سعيد عقل، الأعمال الكاملة، المجلد السادس (كما الأعمدة . الوثيقة التبادعية)، نوبلیس . بیروت، ص 71.

نعم، فلأهل البيت علیهم السلام ذکر مطيب في كل مكان من الأرض، و في كل زمان من الدهر، بل لأهل البيت علیهم السلام ذكر لا يفنى واسم لا يمحى في كل كتب السماء و في كل رسالات الأولين الغابرين.

و قد يستغرب بعض القراء الكرام هذا الكلام، و قد يعتبره البعض الآخر ضربا من الإثارة الفكرية أو التشويق الروحي الممتزج بشيء من التأويلات والترجيحات التي تتجاوز في بعض وجوهها الوقائع والحقائق.

نعم، ربما يقول البعض ذلك، و لكن يمكننا أن نقول لذلك البعض إن الفصول اللاحقة من هذا الكتاب ستبين لنا أن هذا الكلام عن أهل البيت عليهم السلام و عن ورود ذكرهم في الكتب والرسالات السماوية السابقة ليس ضربا من التأويل الشخصي أو التفسير المذهبي الخاص، بل هي- كما سنری - حقائق ثابت و مؤكدة، و قد عمد على تأكيدها و إثباتها، بالفعل، العديد من الشعراء والمفكرين المسلمين والمسيحيين القدامى والمعاصرين، و ليست تلك الأبيات الشعرية القليلة التي أوردناها منذ قليل للأديب والمفكر المسيحي المعاصر (سعيد عقل) إلا مثالا واحدا فقط من مجموعة أمثلة أخرى سنأتي على ذكرها في المكان المناسب في الفصول اللاحقة بإذن الله.

و حتى لا نجنح مبتعدين كثيرا عن موضوع فصلنا هذا، دعونا نتوقف الآن مع واحد من أعظم الأدباء المصريين في العصر الحديث، إنه الأديب الشاعر والكاتب (عبد الرحمن الشرقاوي) (1920- 1987).

و من المعروف عن الأستاذ (الشرقاوي) أنه كاتب و شاعر و روائي و مسرحي الامع، و له بصمات فنية لا تمحى في ساحة الفكر والأدب، و يمكن إيجاز الكلام عن أعماله الفكرية و آثارها الأدبية بأنها كانت أعمالا تجسد الدعوة إلى العدالة الاجتماعية

ص: 106

والحرية والبحث عن المبادئ الفضيلة والقيم النبيلة، و كانت تلك المبادئ والقيم هي الهدف الأساسي المحرك لنشاطه العام و للموضوع الذي لا يغيب أبدا عن باله في كل أعماله و مؤلفاته التي خلفها وراءه.

و من أشهر آثاره: رواية (الأرض) و کتاب (علي إمام المتقين) و كتاب (محمد رسول الحرية)، و من أشهر مسرحياته: مسرحية (الفتى مهران)، و مسرحية (الحسين ثائرا، شهيدا)، و هذه المسرحية بالأساس هي عبارة عن مسرحيتين شعريتين مطبوعتين في كتاب واحد، المسرحية الأولى تحمل عنوان (الحسين ثائرا)، أما المسرحية الثانية فتحمل عنوان (الحسين شهيدا)، و تمثل هاتان المسرحيتان الشعريتان الصورة الحقيقية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام كما أراد الأستاذ (الشرقاوي) أن ينقلها لنا.

و على الرغم من أننا قد خصصنا فصلا مستقلا للكلام عن المسرح التراجيدي و تاريخه و علاقة ذلك بفاجعة كربلاء في الأدب المسرحي العربي والعالمي، إلا أننا نرى من المناسب هنا أن نتحدث في هذا المكان عن بعض أبعاد شخصية الإمام الحسين عليه السلام كما يراها الأستاذ (الشرقاوي) لكن دون أن نتعمق في الكلام عن البعد المسرحي أو التراجيدي في مسرحيته.

نستطيع أن نقرأ بوضوح، و منذ الصفحات الأولى في مسرحية (الحسين ثائرا)، صورة الإمام الحسين عليه السلام كما هي في الواقع وكما أراد أن ينقلها لنا بأمانة الأستاذ (الشرقاوي) أي أن الأستاذ (الشرقاوي) عمد إلى تصوير أبعاد شخصية الإمام الحسين عليه السلام كما هي بالفعل و لكن بأسلوب أدبي شفاف ليستطيع من خلاله أن يجذب القارئ إلى كل كلمة أو عبارة قال في تلك المسرحية.

و يمكننا القول أن الانطباع الأول الذي يريده الأستاذ (الشرقاوي) أن يبقى في

ص: 107

عقولنا و قلوبنا عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام هو أنه الوريث الشرعي لرسالة جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و لمبادئ أبيه علي أمير المؤمنين عليه السلام.

فالإمام الحسين عليه السلام كما يصوره (الشرقاوي)، لم يكن في يوم من الأيام طالب دنيا و لم يكن طالب مال و لا جاه، و إنما كان طالب إعادة بريق الرسالة و نورها إلى ما كانت عليه في زمن جده صلی اللهعلیه و آله و سلم، فالإمام الحسين عليه السلام كان مدركا دائما و أبدا أن طالب الدنيا كالعطشان الذي يريد أن يرتوي من ماء البحر، فكلما غرف و شرب منه لم يزدد إلا عطشا و طلبا للمزيد من الماء للارتواء.

و هنا يصور الأستاذ (الشرقاوي) الإمام الحسين عليه و هو يحاور (الوليد)،أمير المدينة، بشأن موقفه من الدنيا والخوض في غمار مغرياتها قائلا:

آه من بعد السفر!

آه من طول طريقي و عظيم المورد!

إنما عيشك في الدنيا يسير!

كل أخطارك يا دنيا حقير

إيه يا دنيا إليك الآن عني!(1)

و لو تأملنا قليلا في هذه العبارات القصيرة والمعبرة التي جاءت على لسان شخصية الإمام الحسين عليه السلام في تلك المسرحية المؤثرة، فماذا عسانا أن نقول؟!

ألا يمكننا القول أن الأستاذ (الشرقاوي) قد تعقد وضع هذه العبارات على لسان الإمام الحسين عليه السلام لكي يقول للقارئ أو للمشاهد- في حال القيام بتمثيل المسرحية

ص: 108


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، دار العصر الحديث . بيروت، ط 2/ 1985، ص 42.

-إن نهج الحسين عليه السلام في حياته هو نفس النهج الذي سلكه الأب عليه السلام و من قبله الجد صلی الله علیه و آله و سلم؟!

ثم، ألا تذكرنا هذه العبارات السابقة بالكثير من العبارات والأحاديث المشابهة التي جاءت تارة على لسان الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم و تارة أخرى على لسان الإمام المبين علیه السلام؟!

ألا يشبه مفهوم الحياة الدنيا عند الإمام الحسين عليه السلام مفهومها عند جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذي قال عنها يوما مخاطبا سلمان الفارسي (رضی الله عنه):

«إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة، یا سلمان! إنما الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»(1)، و قوله صلی الله علیه و آله و سلم عنها أيضا في مكان آخر: «أيها الناس هذه دار ترح لا دار فرح، و دار التواء لا دار استواء، فمن عرفها لم يفرح لرجاء و لم يحزن لشقاء»(2)؟!

ثم، ألا يشبه مفهوم الإمام الحسين عليه السلام والرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم للحياة الدنيا مفهوم أمير المؤمنين علي علیه السلام لها عندما قال عنها في إحدى كلماته الخالدة:

«تغر، و تضر، و تم، إن الله تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، و لا عقابا لأعدائه، و إن أهل الدنيا كرکب بينا هم حلوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا»(3)؟!

أليست كل معاني الأحاديث والعبارات السابقة تصب جميعها في معاني قول

ص: 109


1- محمد رضا الأنصاري، مختارات من الأحاديث النبوية، نشر معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1986، ص48.
2- نفس المصدر السابق ص48.
3- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الدار الإسلامية . بيروت، ط 1992/1، ج4 ص601.

أمير المؤمنين علي عليه السلام الواردة في مقولته الشهيرة التي فتنت أرباب اللغة والفكر بجمال مبناها و عمق معناها:

«ما أصف من دار أولها عناء، و آخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، و من قعد عنها واتته، و من أبصر بها بصرته، و من أبصر إليها أغمته»(1)؟!

و غاية القول في ذلك هو أن الأستاذ (الشرقاوي) قد تعمد وضع العديد من الأقوال والأحاديث الغنية بالإيمان والحكمة على لسان الإمام الحسين عليه السلام من أجل إيصال فكرة هامة جدا للقارئ، و تتلخص تلك الفكرة الهامة بالقول إن الحسين السبط عليه السلام هو وجه من وجوه الشخصية المحمدية الرسالية.

و بتعبير آكثر دقة، إن الإمام الحسين عليه السلام هو النسغ المحمدي المبارك الذي يجري بعنفوان و حيوية في وريد الرسالة الإسلامية التي شاءها الله سبحانه و تعالى أن تكون الحب الروحي الأخير الذي يصل ما بين رحاب السماء و أبناء التراب.

و على كل حال، لا أعتقد أن وجهات نظر الأستاذ (الشرقاوي) حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام تختلف كثيرا عن وجهات نظر الأديب والشاعر المصري (عباس محمود العقاد) (1889- 1964): غير أن الأسلوب في عرض الأفكار والوقائع هو الذي كان يميز كلا منهما عن الآخر، فالأستاذ (الشرقاوي) كان يميل إلى تقديم الأفكار و عرضها بأسلوب أدبي شاعري شفاف يميل إلى السهولة والبساطة، في حين أن الأستاذ (العقاد) يميل إلى عرض أفكاره عن الإمام الحسين و عن تقديم واقعة کربلاء بأسلوب أقرب ما يكون إلى عملية التدوين والتحليل البعيدة عن لغة المشاعر

ص: 110


1- نفس المصدر السابق ج1 ص124.

والعواطف والأحاسيس المتفاعلة مع الحدث إلا بقدر يسير.

و لكن، و بالرغم من ذلك، فمن خلال تناول الأستاذ (العقاد) شخصية أبي الشهداء الحسين عليه السلام في كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي) يصور لنا (العقاد) مأساة تاريخية إنسانية عظيمة لا تكاد تجاریها مأساة أخرى في أسبابها و وقائعها و نتائجها و آثارها.

و من أجل ذلك نجده ينفذ إلى جوهر الوقائع والتواريخ لتمحيص الحقيقة محاولا الابتعاد عن الأهواء في دراسة حياة أبي الشهداء علیه السلام.

و حين يتناول الأستاذ (العقاد) شخصية أبي الشهداء الحسين بن علي علیه السلام بالدراسة والتحليل، نراه يبدأ أول ما يبدأ بدراسة طبائع الناس و كيف أن تلك الطبائع والأمزجة يتناوبها مزاجان متقابلان متناقضان: مزاج يعمل عمله للأريحية والنخوة والبحث عن الحق والفضيلة، و مزاج يعمل عمله من أجل المنفعة الخاصة والغنيمة الشخصية و لو على حساب الحق والفضيلة(1).

و يرى الأستاذ (العقاد) من خلال كتابه المذكور أن حياة الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن صفحة، لا تماثلها صفحة أخرى في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين و بيان ما لكل منهما من أدوات و جنود للنجاح في كفاح الحياة سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على الأمد القريب.

و هنا تحديدا، لا يغيب عن ذهننا أن نذكر القارئ الكريم بحقيقة أن الأستاذ (العقاد) قد درس التاريخ الإسلامي العام و حاول أن يسبر أغواره و يستكشف خباياه

ص: 111


1- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي (كتاب الهلال)، العدد /4/ دار الهلال . القاهرة عدد سبتمبر (أيلول)، 1951/ ص 11.

لكن النجاح لم يكن دائما حليفه في تلك المحاولات الفكرية الجادة، و لذلك يمكننا القول أن الأستاذ (العقاد) كان أديبا و لم يكن باحثا أو رجل دين كما يتصوره البعض، بل كان واحدا من أبرز كتاب النهضة الأدبية، و أكثرهم ثقافة و إبداع في المجال الأدبي، و قد ظل اسمه لامعا في سماء الأدب مدة نصف قرن تقريبا، أخرج خلالها (83) کتابا في أنواع مختلفة من الأدب الرفيع(1).

و لكن عدم نجاح الأستاذ (العقاد) في الوصول إلى بعض النتائج المنطقية المتعلقة بالعديد من القضايا والشخصيات الإسلامية المطروحة ضمن سلسلة (العبقريات) التي كتبها الأستاذ (العقاد) نفسه و قدمها للشباب المسلم كي يتخذوا تلك العبقريات أسوة و قدوة حسنة لهم، لا تخفف من قيمة العقاد ککاتب حاول أن يدلي بدلوه في حقل الثقافة الإسلامية.

و مهما يكن من أمر، فإن ما يهمنا هنا هو موقف (العقاد) أو رؤيته الخاصة لطبيعة و شخصية الإمام الحسين عليه السلام، أو أبي الشهداء، كما يحلو للعقاد أن يسميه.

فالأستاذ (العقاد) يرى منذ بداية الكلام عن شخصية الإمام الحسين علیه السلام و طبيعته، و تنشئته، بل يرى منذ الصفحات الأولى من كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي) أن صفات الإمام الحسين علي هي صفات نبوية موروثة و متجذرة في ذاته النبيلة، و أن كل منقبة و محمدة من محامد خصاله و مکارم فعاله إنما مردها إلى البيئة البيتية الصالحة و إلى التربة النبوية الطاهرة التي استنبتت الغرسة الحسينية المباركة تلك الغرسة الطيبة التي ارتوت أيضا بماء الفضائل العلوية والمناقب الفاطمية.

نعم، كل هذا واضح تماما عند الأستاذ (العقاد)، و لكن العقاد لا يريد أن يكتفي

ص: 112


1- مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، وزارة التربية . دمشق، 1996، ص55.

بقول ذلك، بل يريد أن يقول لقرائه إن اللون الأبيض هو فعلا أبيض و لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، و لكن إذا أردنا أن نعرف شدة و درجة بياض هذا اللون فما علينا إلا أن نضع بجانبه نقيضه، والمقصود بذلك اللون الأسود بلا شك.

والمعنى من هذا الكلام هو لو أنك تريد أن تعرف العظمة الحقيقية للإمام الحسين عليه السلام وللأهداف والمقاصد الإنسانية النبيلة التي جاهد من أجلها، فما عليك إلا أن تدرس و تحلل شخصية و طبيعة و تربية ذلك الشخص الذي ناصبه العداء، و إذا أردت أن تعرف غايات و أهداف الحسين عليه السلام و أثرها على المجتمع الإسلامي والإنساني، فما عليك إلا أن تقرأ و تدرك غايات و وسائل و أهداف أعداء الإمام الحسين عليه السلام و أثر ذلك على نفسية الأجيال اللاحقة في الساحتين الإسلامية والإنسانية، فالأشياء عموما تزداد المعرفة بها من خلال معرفة نقائضها.

و عن هذه النقطة تحديدا، فقد تحدث الأستاذ (سامح كريم) في كتابه (إسلاميات) عن التضاد الواضح بين شخصية الإمام الحسين عليه السلام من جهة و شخصية يزيد بن معاوية من جهة أخرى كما جاء وصف الشخصيتين حسبما يراهما الأستاذ (العقاد) في كتابه (أبو الشهداء).

و قد حاول الأستاذ (سامح كريم) أن يكون متزنا و منطقية قدر الإمكان في شرحه و توضيحه للأفكار التي طرحها الأستاذ (العقاد) من خلال كلامه عن النهضة الحسينية و فلسفتها في التاريخ الإسلامي.

و عن أسباب التنافس والخصومة بين الحسين علي السلام ، و یزید بن معاوية، يقول الأستاذ (کرم) موضحا و شارحة وجهة نظر (العقاد) بقوله: (يتبع هذا الفصل عن الخصمين موازنة بينهما، فهناك اختلاف في النشأة بين الاثنين والنسب والمكانة

ص: 113

والصفات، والخلق، والشجاعة، و هي أمور جد اختلف الاثنان فيها مما أدى في النهاية إلى الخصومة، بل و أي شيء آخر غير الخصومة كان مستغربا بين الاثنين)(1).

إذن، فالشيء المستغرب هو أن لا يكون هناك نزاع و خصومة بين الإمام الحسين عليه السلام و خصمه اللدود یزید ابن معاوية، أما الحالة السوية فهي وجود ذلك النزاع المرير والصراع الدائم بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين في كلصفة و هدف، و في كل مخطط و حركة و أثر.

و يتابع الأستاذ (کریم) شرحه و توضيحه لأفكار الأستاذ (العقاد) بقوله:

(و بديهي جدا أن يكون- والخصومة قائمة- أعوان لكل خصم... هم رجال المعسكرين، و بالطبع اختلاف أنصار، فمنهم من هو طامع في مال أو مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات و لا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام، و لم يكن معه رجال ذوي رأي إن العقاد يصفهم و صفا دقيقا حين يقول في كلمة صغيرة: كان أعوان یزید جلادين و كلاب طراد في صيد كبير)(2).

أما الآن، فدعونا أيها القراء الأعزاء، نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الجولة المثمرة في رحاب أفكار الأستاذ (عباس محمود العقاد) الذي قدم لنا صورة مشرقة من صور حياة واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي)، ذلك الكتاب الذي أخذ طريقه إلى النور منذ أكثر من خمسين عاما و لا يزال یطبع المرة تلو المرة، و لا يزال أيضا مرجعا أساسيا يرجع إليه الكثير من الباحثين والمفكرين الذين يريدون أن يتحدثوا أو أن يكتبوا عن فاجعة كربلاء أو عن فلسفة

ص: 114


1- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم . بيروت، 1982، ص129.
2- نفس المصدر السابق ص120.

الشهادة من أجل قيم و مبادئ السماء.

و على كل حال، فإن استراحتنا القصيرة الآن ستكون مع الأديب والمفكر المسيحي الراحل (بولس سلامة) الذي نذر نفسه و جند قلمه للدفاع عن قضايا و مبادئ أهل البيت عليهم السلام مسقطة من حسبانه أي قيمة لرضى زيد أو لغضب عمر، و إنما القيمة الحقيقية عنده هي قيمة الحق وحده في زمن أغبر قل فيه الباحثون عنه.

فللإمام الحسين عليه السلام قيمة استثنائية في نسيج (سلامة) الفكري والشعري، و لذلك فقد خصه، منذ بداياته الشعرية، بالكثير من العناية والاهتمام، و قد كتب في وقت مبكر نسبيا قصيدة مطولة تحت عنوان (علي والحسين) بين من خلالها أن الإمام علي عليه السلام و ابنه الإمام الحسين عليه السلام هما وجه الإسلام الرضي و قلبه النقي، ذاك الإسلام الذي أراده محمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يبسط جناحيه على وجه البسيطة فيمنع عنها سدف الظلام و يرفعها إلى عالم الإشراق والأنوار.

و غني عن تفصيلات القول أن الأستاذ (سلامة) قد ذكر في حديثه عن طفولة الإمام الحسين عليه السلام حادثة سابقة على حادثة ولادة و طفولة الحسين عليه السلام حيث اعتبر الأستاذ (سلامة) أن تلك الحادثة السابقة هي حادثة هامة جدا و يجب أن لا يغفل أحد عن ذكرها أبدا نظرا لما تحمل من مدلولات و إشارات روحية قوية تصب كلها في تيار الحديث عن الإرادة الإلهية والحكمة السماوية التي جعلت من الإمام الحسين علیه السلام، و من قبله أخيه الإمام الحسن عليه السلام، الثمرة الطاهرة المطهرة والتي تحمل و تجمع كل الصفات الرسالية و كل المؤهلات الإمامية التي و رثها عن أبويه عليهماالسلام .

فحادثة زواج الإمام علی عليه السلام من السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هي الحادثة التي يجب أن نستذكرها دائما في معرض حديثنا عن سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام،

ص: 115

فزواج علي علیه السلام من فاطمة عليهاالسلام، ابنة رسول الله صلی الله علیه و السلام، لم يأت بقرار محمدي فحسب، بل أتی أيضا بقرار سماوي إلهي لا يقبل الطعن أو التبديل، و كلنا يعرف و يدرك عمق الحديث النبوي المشهور والذي يؤكد الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم من خلاله على أنه لو لم يكن الإمام علي عليه السلام موجودا في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما كان هناك أحد يمكن أن يكون الزوج الكفؤ لفاطمة الزهراء عليهاالسلام.

و لذلك، فبعد أن يذكر الأستاذ الشاعر (بولس سلامة) حادثة الزواج المبارك، نراه ينتقل بعد ذلك للكلام عن ميلاد الإمام الحسن عليه السلام و من بعده عن ميلاد أخيه الإمام الحسين عليه السلام الذي سيغير وجه التاريخ الإسلامي بعد أن أراد أعداء الإسلام أن يسيروا بالإسلام إلى الهاوية و ذلك باتخاذه مطية لهم للعودة إلى الحياة الجاهلية، مع الأخذ بعين الاعتبار التأسيس لحياة سياسية جديدة قائمة على نظام الملك العضوض و توارث العرش الملكي ابنة عن أب و أبا عن جد ضاربين بمبادئ الإسلام عرض الحائط.

و على كل حال، فإن أهم ما يميز کلام الأستاذ (سلامة) عن ولادة الإمام الحسين عليه السلام هو الوضع النفسي لجده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك الجد الرحيم الذي اصطفاه الله رسولا للعالمين، رسول محبة و فضيلة و خير و إخاء

فبقدر ما كان ذاك الجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مسرورا و مبتهجا بولادة سبطه الحسین علیه السلام ، بقدر ما كان فريسة للكثير من الهواجس والظنون التي بدأت تعصف برأسه حول مستقبل ذلك السبط و ما ينتظره من هموم و آلام في مستقبله القريب.

و هنا، يريد أن يقول لنا الأستاذ (سلامة) إن الرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم کان على علم إلهي مسبق بكل ما سيحل بأهل بيته من كوارث و مصائب، بل و كان يدرك أيضا

ص: 116

على يد من ستكون نهاية كل فرد من أفراد أهل بيته علیه السلام الذين سيحملون راية الإسلام من بعده.

فعندما يصور لنا الأستاذ (سلامة) الحالة النفسية للرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و هو يحمل حفيده الحسين الطاهر عليه السلام بين يديه، و ينظر بعينيه الحزينتين في عيني سبطه الصغير، فعندما يفعل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم هذا متأملا وجه حفيده بحزن يقطر له الفؤاد دما، فإنما يفعل ذلك لأن عين السماء جعلته يرى آفاق المستقبل و هو لا يزال يعيش في أحضان الزمن الحاضر.

و مهما يكن من أمر، فعندما يقول الأديب الشاعر (سلامة):

و علت جبهة النبي طيوف *** کوشاح الغمامة الدکناء

لمح الغيب ! يا لهول الليالي *** مرعدات بالنكبة الدهياء(1)

فعندما يقول الشاعر (سلامة) هذا، فهو يشير بذلك إلى النبوءة المستقبلية التي قرأها الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم في صفحات کتاب الغيب والتي لا تكشف إلا لقلوب الأنبياء والأوصياء.

و لا أريد الاستفاضة هنا بهذا الشأن، بل سأرجى الحديث في هذا الموضوع إلى صفحات لاحقة من هذا الكتاب حيث نتحدث فيها، و بشكل مفصل، عن مسألة نبوءة الرسل والأنبياء بفاجعة كربلاء

و إذا كان الأديب الشاعر (بولس سلامة) قد ركز في ملحمته الشعرية (عيد الغدير) على شخصية الإمام الحسين عليه السلام في مرحلة الثورة أكثر من تركيزه عليها في مرحلة ما قبل الثورة، فإن الأديب والمفكر المسيحي (أنطون بارا) قد ركز على

ص: 117


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص 66.

شخصية الإمام الحسين عليه السلام في مختلف أطوارها و مراحلها و في مختلف الأحداث والمتغيرات الجوهرية التي عایشتها.

و من أوائل الأسئلة التي يطرحها الأستاذ (بارا) على نفسه في مقدمة كتابه (الحسين في الفكر المسيحي): لم الحسين بالذات دون سائر أعلام الإسلام موضوعا للكتاب ؟!

فيأتي جوابه بسؤال مردود: (و لم لا يكون الحسين بالذات؟ أيكره أحدنا الحق و رافعي لوائه ... و لم لا يحب المؤمن، أيا كان دينه، من أحبه النبي صلی الله علیه و آله و سلم واعتبره بضعة منه (حسین مني) واعتبر نفسه جزءا منه (و أنا من حسین؟!))(1)

و لا يكتفي الأستاذ (بارا) بهذه الأسئلة المردودة على سؤاله الأول، بل نراه يسارع إلى طرح المزيد والمزيد من ذلك النوع من الأسئلة التي يحق لها أن تطرق باب فکر كل إنسان باحث عن الحقيقة في هذا الزمن الأغبر الكئيب.

و ها هي مجموعة أخرى من الأسئلة تطرح نفسها عليه بقوة و تصميم و كأنها أسئلة تأبى الرحيل عن ساحته الفكرية إلا بعد أن تصطحب معها أجوبتها الشافية بعد أن تحررها و تطلقها من قيود الفكر المحدود و من براثن الثقافة المتقوقعة المنقوصة التي تدور وحيدة في دائرة ديني ما أو مذهب ما لا يقبل الانفتاح على بقية الأديان والمذاهب.

و ها هي أسئلة ذلك المفكر المسيحي الجديدة تطرح نفسها متسائلة:

(أيرفض مطل إنسان - سيما إذا كان مسيحيا - أن يكون ذلك المؤمن الذي ترقد في قلبه حراره قتل الحسين التي لا تبرد أبدا... تيمنا بقول الإمام الصادق عليه السلام: «إن

ص: 118


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص52.

القتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا» ...؟ ومن الذي لا يحب مظلوما کالمظلوم الحسين، و لا يجد في حبه راحة لضمير حي، و سعادة لفكر أصيل، و رضى لقلب ينزع بالإيمان)(1)؟!

و هنا، يجيب الأديب الباحث، الأستاذ (بارا) على مجمل تلك الأسئلة بقوله البسيط والواضح: (... فشخصية كالحسين اختصت بشمائل النبوة، لا يعثر المطلع في سفر حياته على موقف رخو أو متخاذل، فلا يملك إلا أن يعجب به و يحبه و يجد في الاستجابة لهذا الإعجاب، و هذا الحب، مودة قلب، و مودة قربی... «قل لا أسئلکم عليه أجرا إلا المودة في القربی»)(2)

و غني عن القول أن هناك الكثير من العبارات والأقوال المهمة والتي تجمع بين القوة والجمال في كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) للأستاذ الأديب (أنطون بارا) حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام و سيرة حياته العطرة، و لا ريب في أننا سنعود إلى تلك العبارات والأقوال للاستشهاد بها عند الضرورة، و لكن دعونا الآن - أيها الأحباء- نتوقف عند علم جديد من أعلام الفكر والأدب، دعونا نتوقف عند أديب و مفكر عملاق له بصماته الثقافية الواضحة على الساحتين الإسلامية والعالمية، إنه الأديب والفيلسوف (محمد إقبال).

يعتبر الأديب والمفكر (محمد إقبال 1876- 1938) أشهر الشعراء الفلاسفة والمفكرين المسلمين في الهند، دعا إلى إنشاء الباكستان والاستقلال عن الهند تماما.

واستطاع (إقبال) أن يوائم بين الشعر والسياسة، و إن بدا كل منهما على طرفي

ص: 119


1- نفس المصدر السابق ص54.
2- نفس المصدر السابق ص54.

نقيض، و على كل حال، ففي كلية الحكومة بمدينة (لاهور) التقى المفكر (إقبال) بأستاذه الفيلسوف والمستشرق (توماس أرنولد) و هو من خبرة من درسوا الإسلام والتصوف الإسلامي، و له مواقف جليلة في الدفاع عنه و عن قيمه و مبادئه و عن رجاله و رموزه، و رحب الأستاذ بميل تلميذه إلى الفلسفة، فكان له خیر مرشد و معين، و قد دفعه طموحه العلمي إلى الدراسة في أوروبا، و بالفعل، فقد حصل في إنكلترا على عدة شهادات في الفلسفة و في القانون، و نال من جامعة (ميونخ) الألمانية شهادة الدكتوراه في الفلسفة.

و قد تعمق (إقبال) في دراسته للفكرين الهندي والإيراني، و نال قسطا عظيما من کنوز التراثين الروماني واليوناني قديمهما و حديثهما، و نهل قدرا كافيا من الثقافة الإنجليزية والألمانية والفرنسية والأمريكية، هذا بالإضافة إلى التراث الفكري والروحي الإسلامي والعربي، الذي صرف فيه (إقبال) معظم مجهوداته الفكرية(1).

و كان لأهل البيت علیه السلام في مجهوده الفكري و في تراثه الشعري مكانة متميزة جدا لا تدانیها مكانة أي شخص آخر، و بالتالي، فقد كان للإمام الحسين عليه السلام المنزلة الرفيعة والمكانة السامية التي تجعل منه، كأبيه الإمام علي عليه السلام الإنسان الكامل في الإسلام، و ربما هذا هو السبب الذي جعل الفيلسوف (إقبال) يتعمد ذكر الإمام الحسين عليه السلام في كل دواوينه الشعرية دون استثناء إيمانا منه بأن مستقبل الأمة الإسلامية مرهون بالسير على خطى الإمام علي عليه السلام و بالاتباع الصادق لنهج ابنه الإمام الحسين عليه السلام قولا و عملا.

و يكفي أن نذكر هنا شيئا بسيطة نستدل من خلاله على مكانة الإمام الحسين عليه السلام

ص: 120


1- نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مؤسسة الرسالة . بيروت، طه4 /1988، ص35.

عليه عند الفيلسوف الشاعر (محمد إقبال).

فمن المعروف عن الفيلسوف اليوناني القديم (دیوجین)، صاحب المصباح، أنه كان يبحث بشكل دؤوب عن الحقيقة و عن الإنسان الحقيقي الكامل حتى أعياه البحث واستسلم لليأس بعد طول البحث والعناء، و قد تناول هذه القصة الشاعر الفارسي الكبير (جلال الدين الرومي) في العديد من قصائده الشعرية.

و كان من جملة ما قاله شعرا عن قصة ديوجين، الملقب في القصيدة بلقب (الشيخ):

قضى الشيخ ليله في الطواف بالمصباح حول المدينة

يقول: مللت الشيطان والوحش، الإنسان أملي

قالوا: لا يعثر عليه فقد بحثنا نحن أيضا

قال: هذا الذي لا يعثر عليه أملي

إذن، ليس للإنسان الكامل وجود عند الفيلسوف اليوناني (ديوجين)، بل بإمكاننا القول، بناء على ما جاء عن لسان الشاعر المتصوف (جلال الدين الرومي) أيضا، أن الكثير من الناس يؤكدون جازمين أن العثور على الإنسان الكامل شيء مستحيل.

و إذا كان هذا هو الرأي السائد عند عموم الناس تقريبا، فما هو رأي شاعرنا و فيلسوفنا (محمد إقبال)؟!

في الواقع، لقد أبدى الفيلسوف (إقبال) رأيه حول الإنسان الكامل من خلال تعليقه على البيتين السابقين للإمام الصوفي الفارسي (جلال الدين الرومي)، حيث علق على البيتين الشعريين السابقين بقوله رادا عليه بلغة الشعر أيضا:

أنا أبحث عن السهم والرمح والخنجر والسيف

ص: 121

فلا تصاحبني لأن مسلك (الحسين) أملي

قالوا: أغلق فمك و لا تبح بالأسرار

قلت: كلا، إن صيحة تكبيري هي أملي(1)

و كما نلاحظ هنا، فالبحث لدى الثلاثة (دیوجین) و (جلال الدين الرومي) و (محمد إقبال) عن الإنسان الكامل هو عبارة عن عملية بحث دؤوب، فقد بحث (دیوجین) عنه ليلا و نهارا حاملا مصباح الزيت بيمينه و عكازه بيساره يجوب طرقات المدينة و أزقتها في الصيف والشتاء لم يهتد إليه.

و جاء من بعده الشاعر المتصوف (جلال الدين الرومي) يقتفي أثره باحثا عن ضالته لمنشودة و لكن سرعان ما استسلمت أشرعته لرياح اليأس، و لكنه لم يلبث أن عاود الكرة تلو الكرة و ثابر واجتهد و كافح إلى أن حقق بالفعل ما لم يستطع أن يحققه الفيلسوف اليوناني (ديوجين) و قد قارب في نهاية حياته أن يشير إلى بغيته و هدفه بكل ثقة و اطمئنان، و هذا ما يعني أنه قد قطع شوطا طويلا في هذا المجال.

أما بالنسبة إلى الشاعر الفيلسوف (محمد إقبال)، فقد أشار إلى هدفه دون أي شك أو تردد، فهو يقول لمن يؤثر الحياة الدنيا على الاستشهاد في سبيل الحق والخير والفضيلة: لا، لا تصاحبني، فأنا لن أسمع نصيحتك، و لن أغلق فمي، و لن أمتنع عن البوح بالأسرار العميقة المتعلقة بمن وجدت فيه الصورة الحية للكمال، بل إنني سأتزود بالسهم والرمح والخنجر والسيف و بكل و سائل الحرب الأخرى من أجل الحق، فابتعد عني إن كنت تخاف النتائج، فإنني أرى عظمة الفناء على حقيقتها في

ص: 122


1- مجموعة من المفكرين، نداء إقبال (و هو مجموعة المحاضرات التي ألقيت في مؤتمر إقبال في دمشق عام 1985) إصدار دار الفكر بدمشق، 1986، ص182.

سبيل الحق، فالعظمة الحقيقية هي العظمة الحسينية و هي كمال الشرف الإنساني(1).

و رب قائل يقول هنا: نحن لا نعترض على هذا الكلام حول كمال الإمام الحسين علیه السلام، و لكننا و جدنا في العديد من دواوين الشاعر (إقبال) أمثلة أخرى عن حقيقة الكمال الإنساني، فهناك الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و هناك الإمام علي المرتضی علیه السلام، بل و هناك أيضا سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام أيضا، فهل هذا تناقض في كلامه و في أحكامه؟!

والجواب على هذا التساؤل المنطقي يمكن أن نلخصه بعدة عبارات بسيطة و واضحة:

إن الفيلسوف (إقبال) عندما يعتبر أن الإنسان الكامل هو الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم أو عندما يعتبره هو الإمام علي عليه السلام أو الإمام الحسين علیه السلام أو حتى عندما يعمد في أكثر من موضع في دواوينه الشعرية و في مؤلفاته الثرية إلى التأكيد على أن السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي سيدة نساء العالمين و هي قدوة نساء المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها، فعندما يؤكد الفيلسوف (إقبال) على كل ذلك، فإنما يفعل ذلك إيمانا منه بأنهم جميعا، بالإضافة إلى الإمام الحسن علیه السلام، يشكلون وحدة واحدة كاملة متكاملة بحيث إن الكلام عن أي فرد منهم علیهم السلام هو في المحصلة كلام عن بقية الأفراد دون استثناء.

و بالتالي، فإن كلامه عن الإنسان الكامل المتجسد عمليا في الإمام علي عليه السلام أو في الإمام الحسين عليه السلام هو كلام عن الإنسان الكامل المتجسد أيضا في بقية أفراد أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة.

ص: 123


1- نفس المصدر السابق ص183.

و على سبيل المثال، عندما يتحدث الشاعر (إقبال) عن السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام في مؤلفاته و في دواوينه الشعرية و يعتبرها صورة صادقة و نسخة ثانية عن كمال و جلال أبيها الرسول المصطفى، و عندما يعتبرها مستحقة بجدارة للقب الذي أطلقه عليها أبوها صلی اللهعلیه و آله و سلم (أم أبيها)، فهذا يعني بالنسبة إلى (إقبال) أن السيدة الزهراء عليهاالسلام قد ورثت الكمال عن أبيها صلی الله علیه و آله و سلم من جهة، و قد قامت بتوريث تلك الصفات النبوية الكمالية إلى أبنائها الأئمة علیهم السلام من جهة ثانية.

و لهذا علينا أن لا نستغرب منه عمق و صدق إجلاله و تعظيمه للسيدة الزهراء عليهاالسلام التي هي بحق قدوة النساء و هدية السماء، بل علينا أن لا نستغرب قوله فيها:

أنا لولا الشرع عن هذا نهى *** و إلى شرع الرسول المنتهی

طفت حول القبر إجلالا لها *** ناشرة من سجداتي حولها(1)

فالفيلسوف الشاعر يريد أن يسجد، جسدا و روحا، للسيدة الزهراء فاطمة عليهاالسلام تعظيمة لها و إجلالا لقدرها، لكنه يعود و يتذكر أن شريعة والدها الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد نهت عن السجود لغير الله سبحانه و تعالی.

و إذا كانت هذه هي الصورة التي رسمها الشاعر (إقبال) بكل أمانة و صدق للسيدة الزهراء علیهاالسلام، والدة الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا في هذا الكتاب، فما هي الصورة التي رسمها نفس الشاعر لوالد الإمام الحسين عليه السلام، الإمام علي أمير المؤمنین علیه السلام ؟!

قبل كل شيء، نستطيع القول، و دون أي مبالغة، أنه لا يوجد دیوان شعري خطته يمين الفيلسوف الشاعر (إقبال) إلا و كان للإمام علي عليه السلام نصيب وافر من الذكر فيه

ص: 124


1- نفس المصدر السابق ص115.

حيث جاء ذكره دائما في تلك الدواوين بصورة الإمام الرباني الكامل.

و على سبيل المثال، لا الحصر، عندما نقرأ في كتاب دیوان جناح جبریل) ما كتبه الشاعر (إقبال) عن أمير المؤمنين علي علیه السلام ، نستطيع أن نتبين حقيقة ما نقول، و على سبيل المثال، يعرف الشاعر (إقبال) معاني الحب، فيقول:

الحب وحدة في الجبال والأودية حينا،

الحب ضني (بالغياب) حينا و غبطة و وصال حينا،

الحب يبعث الحياة في المحراب والمنبر حينا،

الحب هو الوصي علي، فاتح خیبر، حينا(1)

و من أجل أن تبدو الصورة أكثر وضوحا، علينا أن ندرك جيدا أن الشاعر (إقبال) يعتبر أن الحب الحقيقي، الذي يجده الإمام علي علیه السلام، هو الطريق القويم لمعرفة الذات، فبقدر ما يغمس طالب المعرفة جناحيه في بحر الحب والعشق الإلهي، بقدر ما يكون قادرة على معرفة ذاته و مدركا للكثير من خفاياها و أسرارها.

و إذا كان الفيلسوف (إقبال) يطلق على طالب المعرفة المحلق في سماء الكمال لقب (الإنسان الحر) و (الإنسان الجسور) و(القلندر) و(الإنسان المتجرد) و(الدرویش) و إلى غير ما هنالك من الألقاب المشابهة، فإن النتيجة تبقى هي ذاتها، فحتى يبلغ الدرویش هدفه المنشود، لابد من أن يتعمد أولا بمياه العشق الإلهي، و لابد أيضا من أن يملأ صدره و قلبه بعبير محبة الإمام علي عليه السلام لدرجة أن كل من هو حوله يستطيع أن يستنشق عبق ذلك العطر السماوي الخالد و هو يتفجر من ذلك القلب الذي

ص: 125


1- محمد إقبال، دیوان جناح جبريل، تعريب: عبد المعين ملوحي، دار طلاس . دمشق، 1987، ص93.

امتلأ حبا بعلي عليه السلام.

و ها هو يعبر عن ذلك في كتابه (دیوان جناح جبریل) قائلا:

(عندما يلقن الحب العبيد طقوس معرفة الذات،

تتكشف لهم الأسرار الملكية!

................

هذا الدرویش خیر من (دارا) و من (الإسكندر)

في دروشته نستنشق عبير (أسد الله))

و قد قال الأستاذ (عبد المعين ملوحي) الذي ترجم کتاب (دیوان جناح جبریل) إلى اللغة العربية، معلقا على تلك المقطوعة الشعرية المذكورة أعلاه: (أسد الله هو لقب علي عليه السلام ، و علي عند إقبال صورة الرجل الكامل)(1).

و أخيرا نقول، إذا كانت هذه هي منزلة الإمام الحسين عليه السلام و منزلة أبويه، الإمام المرتضى عليه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام عند الفيلسوف الشاعر (محمد إقبال)، فبماذا عسانا أن نختتم هذه المحطة عنده في ما يتعلق بمختصر القول المفيد عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالعشق والحب الإلهي الذي يكثر (إقبال) من الحديث عنه في كل دواوينه و قصائده؟!

في الواقع، يري الفيلسوف (إقبال) أن العلاقة بين الإمام الحسين عليه السلام والحب ليست بالعلاقة المعقدة أو العلاقة العصية على الفهم والإدراك، فالحب الإلهي، من حيث المبدأ، هو القوة الخفية السارية في الكون و هو عماد الوجود، و لذلك، علينا نحن البشر أن نتفاعل مع هذا الوجود من خلال عملية تفعيل الحب بداخلنا في

ص: 126


1- نفس المصدر السابق ص132

علاقتنا مع ذاتنا و في علاقتنا مع ذوات الآخرين و حتى نصل صعودا إلى علاقتنا مع الله سبحانه و تعالى والذي هو بذاته الرحمة والمحبة.

فالنبي إبراهيم خليل الله علیه السلام، أبو الأنبياء، هو صورة صادقة للحب، والحبيب المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم، خاتم الأنبياء، هو صورة صادقة أخرى من صور الحب الإلهي الرفيع، أما الإمام الحسين عليه السلام فهو الإمام الشهيد الذي وقف بصلابة إيمانه مدافعة عن الحق و مقدما أغلى ما يملك من أجل هذا المفهوم العظيم والذي هو شخصيا عليه السلام يجسده و يمثله خير تمثيل.

و يكفي أن نذكر هذه المقطوعة الشعرية القصيرة لنؤكد على حقيقة ما أوردنا من شرح و توضيح لوجهة نظر الفيلسوف (إقبال) حول هذه النقطة المطروحة عن الإمام الحسين عليه السلام و تجليات الحب فيه و في غيره من الرسل والأنبياء يقول (إقبال):

الحب هو السيد الأول للعقل والقلب والنظر،

إذا غاب الحب، فالدين والقانون مجمع الخرافات،

صدق إبراهيم هو الحب، صلابة الحسين في الحق في الحب،

بدر و حنين هما الحب في معركة البقاء(1)

هذا هو الإمام الحسين عليه السلام، و هذه هي صورته و منزلته في فكر فیلسوف باكستان الأكبر و شاعرها الأعظم (محمد إقبال)، و لا ريب في أننا سنتعرف في الفصول اللاحقة على المزيد من وجهات نظر الفيلسوف (إقبال) تجاه أهل البيت عموما و تجاه الإمام الحسين علیه السلام علي وجه الخصوص.

و لكن علينا أن نعرف الآن أن الفيلسوف (إقبال) قد هام حبأ بمحمد المصطفى

ص: 127


1- نفس المصدر السابق ص183.

صلی الله علیه و آله و سلم و بآل بيته عليهم السلام الغر الميامين لدرجة يعجز القلم أو اللسان عن الإحاطة بذلك الحب الروحي العميق، و قد كان ذلك الحب، بالفعل، حبا منطلقا من عمق المعرفة والإرادة والمعاناة، إنه الحب الذي يبدأ بالإخلاص، و ينتهي إلى الخلاص.

فالكثير من الناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية قد ينطلقون في حبهم لشيء ما أو لشخص ما من خلال الرؤية السطحية الخارجية دون الولوج إلى داخل الأشياء و حقائقها، إنه حب القلب الأعمى الذي قد يتصدع عند بزوغ أول شعاع من أشعة الشمس الكاشفة لخفايا الأمور و حقائقها المتمتعة بالأشكال الجاذبية والمظاهر الخادعة.

أما الحب الذي ينطلق من المعرفة والصدق والمعاناة بحيث تتفاعل مفردات ذلك الحب في ميزان العقل و في أعماقه، بل و في عمق النفس المطمئنة، و في عمق الروح المنفعلة بالتفخة الإلهية، فعندئذ سيبقى ذلك الحب العظيم ثابتا في اليقلب ثبات الجبال الراسيات على الأرض، و سيبقى ذلك الحب متصلا بالروح أيضا اتصال الكلمة بمعانيها أو كاتصال غيوم الشتاء بالمحيط العظيم حيث في البداية نشأت منه، و إليه في النهاية تعود.

و بالطبع، فإن هذا الكلام لا ينطبق فقط على فيلسوف الباكستان و شاعرها الأعظم (محمد إقبال) الذي كنا في ضيافته منذ قليل، بل إن هذا الكلام ينطبق أيضا على كل صاحب فكر نير و صاحب كل قلب عامر بالصدق والحب والمعاناة في طلب الحقائق والإخلاص لها.

إن هذا الكلام ينطبق على كل من يحمل الهوية الإنسانية الصادقة سواء كان حاملها مسلمة أم مسيحيا، أبيض أم أسود، عربيا أم أعجميا، فكل قلب ينفتح على

ص: 128

الحب هو قلب منفتح على الله، والله بدوره- كما يقول عنه السيد المسيح عليه السلام . محبة، و من يثبت في المحبة يثبت في الله، والله يثبث فيه(1).

و من خير الأمثلة على من بت الحب الصادق في قلبه و تمكن من كل نفس من أنفاسه، و ذلك بعد عمق المعرفة و طول المعاناة، هو السياسي والأديب الشاعر (عبد المسيح الإنطاكي) المولود في إنطاكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أبوين مسيحيين.

و لكن، و قبل أن نتحدث عن تمكن الحب والولاء الصادقين في قلب هذا الرجل المسيحي، لابد أن نعرف القارئ عليه، و لو بسطور قليلة، حتى يعلم أن هذا الرجل المسيحي لم يكن بالرجل العادي أبدا، بل كان حقا رجلا استثنائيا في ميادين عديدة، و لكنه للأسف لم يقدر حق قدره في زمننا الحاضر على الرغم من كل الخدمات الجليلة التي قدمها للعروبة و للإسلام.

ولد أديبنا (الأنطاكي) - كما ذكرنا- في إنطاكية، و لكنه نشأ في مدينة حلب الشهباء، و أقام الأديب (الإنطاكي) العديد من العلاقات والصداقات مع العديد من العلماء والشعراء والسياسيين، و تربى على أيدي البعض منهم و على رأسهم العلامة الكبير السيد (عبد الرحمن الكواكبي) صاحب كتابين شهيرين هما: (أم القرى) و كتاب (طبائع الاستبداد)، والأستاذ (الإنطاكي) هو أول من نادي بالقومية العربية و إنشاء دولة عربية واحدة و مستقلة ذات سيادة كاملة منفصلة عن العثمانيين و مستقلة عن الشرق والغرب.

و من أجل هذا الهدف، راح الأستاذ (الإنطاكي) يوطد علاقاته السياسية مع زعماء

ص: 129


1- العهد الجديد (الإنجيل)، رسالة القديس يوحنا الأولى ج4 ص16.

العالم العربي من ملوك و سلاطين و شيوخ عشائر عرب، و قد تمكن من زيارة معظمهم و نال الحظوة والاحترام عندهم، و أنشأ لهذا الغرض أيضا مجلته المعروفة باسم (الشذور) في مدينة حلب سنة (1897-1898) فحاربته الحكومة التركية تحت قيادة السلطان (عبد الحمید)، فما كان منه إلا الارتحال عن أرض وطنه الأم والهجرة إلى مصر فأنشأ فيها جريدته باسم (الشهباء) والتي أخذت لاحقا اسم آخر هو (العمران)(1)

و بعد معارك سياسية طاحنة و محاولات يائسة لتشكيل (ولايات عربية متحدة)، و بعد الحرب العالمية الثانية و ما جرته على الناس عموما من ويلات و مآس و فقر شدید، استقر به المقام عند أحد الأمراء العرب في منطقة الخليج، و هناك بدأ تنظيم قصيدة شعرية مطولة أسماها (القصيدة العلوية المباركة) و هي أول ملحمة شعرية عربية هائية على الإطلاق، فبلغ عدد أبياتها خمسة آلاف و خمسمائة مئة و خمسة و تسعين بيتا من الشعر العربي الأصيل، و قد صدرت الطبعة الأولى من هذه الملحمة الفريدة في مصر عام (1920).

و لا يستطيع كل من يقرأ تلك الملحمة العلوية المباركة أن يخفي دهشته الشديدة إزاء تلك الفيض المتفجر حبا لأهل البيت عليهم السلام عموما من قبل رجل مسيحي صادق جند قلمه النظيف لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي الحقيقي بأسلوب شعري راق موضحا من خلال تلك الملحمة الكثير من الوقائع الإسلامية التي شاءها البعض أن تكون غامضة أو حتى- في بعض الأحيان - موؤودة تحت رمال التاريخ و غباره.

ص: 130


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام أو (القصيدة العلوية المباركة)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات . بيروت، ط 1991/2 ، راجع المقدمة ص 6

و على الرغم من أن تلك الملحمة تحمل في عنوانها اسم علي عليه السلام إلا أنها لم تكن في نهاية المطاف مقتصرة على الكلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام من حيث السيرة والفضائل والمآثر، بل كانت ملحمة شاملة امتدت في أعماقها حتى مرحلة الحكم الأموية الدموي الجائر والممثل أفضل تمثيل بمعاوية و بابنه يزيد (لع).

و قد أفرد الأستاذ (الإنطاكي) في ملحمته تلك الكثير من الأبيات الشعرية الجريئة التي تصور و قائع فاجعة كربلاء من ألفها إلى يائها.

و بالطبع، فإننا سنقوم بذكر العديد من تلك الأبيات الشعرية المؤثرة عندما نتحدث عن أحداث و تفاصيل تلك الفاجعة المروعة التي ألمت بالأمة الإسلامية و بالهوية الإنسانية على حد سواء.

و هنا تحديدا، يمكننا أن نذكر ما قاله الأستاذ (الإنطاكي) عن الإمامين السيدين (الحسن) و(الحسین) علیهماالسلام نثرا لا شعرا بهدف توضيح و شرح بعض أبياته الشعرية.

يقول المسيحي (الإنطاكي): (هما (أي الحسن والحسين عليهماالسلام ) فرعا الدوحة النبوية المثمران، و نجما سماء الرسالة المحمدية المضيئان، و خير من أنجبت الآباء والأمهات في بني الإنسان، هما سبطا رسول الله عليه وعليهما وعلى أبويهما الصلاة والسلام)(1).

و يؤكد الأستاذ (الإنطاكي) أن الإمامين الحسنين عليهماالسلام هما الإمامان المبرآن من كل عيب و خطأ و نقص، و هما عنصران أساسيان في آية (التطهير) الكريمة التيجاء بها الروح الأمين عن رب العالمين.

كما ويؤكد الأستاذ (الإنطاكي) أيضا على أن الإمامين الحسنين عليهماالسلام هما حقا

ص: 131


1- نفس المصدر السابق ص616.

ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى أنه كان يدعوهما (ولديه)، و كان يدعوهما أيضا (زهرة شباب أهل الجنة)، و قد استشهد الأستاذ (الإنطاكي) بحديثين يدلان على أن ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هما الحسن عليه السلام والحسين علیه السلام، و أن تلك الذرية ستستمر من خلالهما، و بشكل خاص من خلال الإمام الحسين عليه السلام الذي سيحفظ رسالة جده العظيم صلی الله علیه و آله و سلم عبر ذريته من الأئمة الأطهار الأبرار الذين سيحفظون تراث جدهم الروحي والإلهي من كل تزييف و تشويه إلى أن يرث الله سبحانه و تعالى الأرض و ما عليها.

فالحادثة الأولى التي يوردها الأستاذ (الإنطاكي) في ملحمته العلوية هي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يربأ أن يزج بالحسنین علیهماالسلام بمهالك الحروب الضروس حرصا على حياتهما الثمينة التي إذا أصابها مكروه انقطع نسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انطفأت أنوار رسالته السماوية التي شاءها الله سبحانه و تعالى أن تكون البلاغ السماوي الأخير لأبناء آدم علي علىه السلام وجه هذه الأرض.

و عن هذه الحادثة الأولى، يقول الأستاذ (الإنطاكي): (ومرة- في موقعة صفين-رأى سيدنا أمير المؤمنين ابنه الحسن يتسرع إلى القتال، فصاح بمن حوله: املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذین (و یرید الحسن والحسين) على الموت، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله )(1).

أما الحادثة المهمة الثانية التي ذكرها الأستاذ (الإنطاكي) في معرض حديثه عن منزلة الإمامين الحسنين علهماالسلام عند جدهما رسول رب العالمین صلى الله عليه و آله و سلم فهي الحادثة التالية التي جرت مع محمد بن الحنفية (رضی الله عنه) ابن أمير المؤمنين علي و لكن من غير

ص: 132


1- نفس المصدر السابق ص617.

السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فقد قيل يوما له: لم يغرر بك أبوك في الحروب و لم يغرر بالحسنين؟!

فقال: (لأنهما عيناه و أنا يمينه، فهو يذب عن عينيه بيمينه)(1)، و في هذا تأكيد على أن الإمام علي عليه السلام كان يعتبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمثابة عينيه و أن الحسن و أخيه الحسين عليه السلام هما الامتداد الطبيعي للبصيرة النبوية التي يجب الحفاظ عليها و حمايتها و صونها من كل مكروه.

و قد رأينا في ما سبق من صفحات أن كلمة (أنفسنا) في آية المباهلة تعني أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم و علي عليه السلام هما نفس واحدة، و بالتالي فإن عيني الإمام علي عليه السلام الممثلين بالحسن والحسين عليهماالسلام هما أيضا عينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي فإن دفاع الإمام علي عليه السلام عن عينيه هو دفاع بالضرورة عن عيني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي بين لنا بدوره أن كلمة (أبناءنا) في نفس آية المباهلة أيضا، إنما تعني حفيديه العظيمين، الإمامين السيدين الحسن والحسين عليهماالسلام ابني علي و فاطمة عليهاالسلام .

و لا أعتقد أننا بحاجة للاستفاضة في الكلام حول وجهة نظر الأستاذ (الإنطاكي) بشأن مكانة الإمام الحسين عليه السلام ، و أخيه الإمام الحسن عليه السلام أيضا، عند جدهما رسول الله محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، لقد أفرد الأستاذ (الإنطاكي) العديد من الصفحات في ملحمته الغراء عن الفضائل والمآثر الخاصة بالإمام الحسين عليه السلام بدءا من طفولته في أحضان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انتهاء باستشهاده التراجيدي المفجع من أجل إحياء مبادئ جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم فوق رمال كربلاء.

و ليس هذا الحال هو حال السياسي والأديب المسيحي (عبد المسيح الإنطاكي)

ص: 133


1- نفس المصدر السابق ص617.

فقط، بل هناك الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين و غير المسيحيين الذين تحدثوا و كتبوا عن سيرة أبي الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام، بكل صدق و محبة و أمانة حتى لتحسبهم أنهم من شيعته أو من خواص صحابته.

و لكن عندما نقول هذا الكلام و نؤكده بكل ثقة و يقين من خلال العديد من الأدلة والشواهد الحية، فإننا نأخذ بعين الاعتبار أن أولئك المفكرين والأدباء عموما لم تكن نتاجاتهم الفكرية بسوية واحدة و لم تكن النتائج المستخلصة من كتاباتهم عن فاجعة کربلاء بذات القيمة الفكرية، بل كان هناك تفاوت ملموس في الرؤية وفي النتائج بين أولئك الأدباء والمفكرين وإن كان الجميع متفقين على أن الإمام الحسين عليه السلام هو شهيد الحق والخير والفضيلة، و أن أعداءه يمثلون حقا جيش الباطل والشر والرذيلة.

و ربما يعود التفاوت في الرؤى بين الأدباء والمفكرين إلى الزاوية التي ينظر كل واحد منهم من خلالها إلى شخصية الإمام الحسين، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فهناك أيضا تفاوت و تباين في أسلوب عرض الأحداث و توصيف الأمور المفصلية الهامة التي قامت عليها أحداث الفاجعة الأليمة.

و على سبيل المثال، هناك العديد من الأدباء الذين خاضوا غمار الكتابة عن سيرة حياة الإمام الحسين عليه السلام و عن خصاله و مآثره بأسلوب أدبي روائي شيق و جذاب يجعل القارئ معه مستعجلا في التهام السطر تلو الآخر، والصفحة تلو الأخرى بغية الوصول إلى نتيجة تلك الرواية التاريخية المؤثرة، و لكن، هنا، يمكننا أن نطرح السؤال التالي:

أليست هذه الطريقة في عرض الأفكار و في تقديم الأحاث و توصيفها هي طريقة جذابة حقا و شيقة لكتها محفوفة بالمخاطر و مصحوبة بالمحاذير؟!

ص: 134

نحن لا نشك في أنها طريقة سهلة لنقل الأفكار من المؤلف إلى القارئ، و لكن ألا يمكن أن يكون هناك تقصير في وصف الشخصيات، و تقصير في عرض المبادئ والقيم التي يؤمن بها الأشخاص الحقيقيون في الرواية؟!

ثم، ألن تكون القيمة الأدبية للرواية التاريخية على حساب قيمتها الفكرية و على حساب التصوير الواقعي لقيمة و حقيقة أبطالها؟!

و حتى لا نطيل النقاش حول هذه النقطة، دعونا نزور الأديب والمؤرخ المسيحي (جرجی زیدان) (1861. 1914) والذي له باع طويل في كتابة الروايات التاريخية، و بشكل خاص الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام و أحداثه الهامة.

فمن المعروف لكل مطلع أن هناك رواية للأديب المؤرخ (زیدان) تحمل عنوانا يناسب موضوع کتابنا الذي هو الآن بين أيدينا، فعنوان الرواية هو (غادة كربلاء)، و لا يخفى على القارئ اللبيب ما لهذا العنوان من دلالات و مؤشرات، فكلمة (كربلاء) وحدها كافية لإعطاء القارئ إشارة واضحة إلى أن هذه الرواية التاريخية ستعطيه فكرة كافية و مفصلة عن كل ما حدث في تلك الواقعة من الآلام والفجائع والمآسي التي تفوق حدود الوصف والتعبير، و ربما سيتخيل القارئ أيضا أن تلك الرواية ستلقي بالكثير من أضوائها على شخصية الإمام الحسين عليه السلام و على علاقته و مكانته من جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، و على الأسباب المباشرة و غير المباشرة لثورته ضد معسكر الظلم والضلال والطغيان، و باختصار شديد، ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن تلك الرواية التاريخية للأستاذ (زیدان) عن فاجعة كربلاء سوف تعطيه صورة مفصلة عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام بدءا من الولادة و انتهاء بالشهادة.

و لكن هل هذا هو فعلا ما استطاعت أن تقدمه تلك الرواية؟

ص: 135

والجواب بكل بساطة و وضوح هو أن تلك الرواية استطاعت فقط أن تقدم لنا جزءا بسيطا من حياة الإمام الحسين عليه السلام و من سيرته المتجذرة في عمق الرسالة الإسلامية، إنه الجزء المتعلق فقط بمسرح الفاجعة و بالأحداث الدامية التي شهدتها رمال كربلاء.

و بالطبع، فإننا عندما نقول هذا الكلام عن رواية (غادة كربلاء) للأديب والمؤرخ المسيحي (جرجي زيدان) فإننا لا نقصد الانتقاص من القيمة الأدبية والفكرية لتلك الرواية و لا لغيرها من الروايات التي أصدرها ضمن سلسلة (روایات تاريخ الإسلام)، كما و أننا لا نقصد الإساءة إلى المؤلف نفسه أو إلى النيل من إنتاجه الفكري و جهده الثقافي الذي قدمه خدمة للقارئ العربي، بل على العكس من ذلك تماما، كل ما أردنا أن نقوله هنا هو أن الرواية التاريخية عموما تبقى عاجزة عن إعطاء الشخصيات الرئيسة حقوقها من تسليط الأضواء عليها و من إعطائها أيضا حقوقها من الوصف الحقيقي الذي يجب أن يكون بمثابة المرأة الواقعية لها.

فشخصية الإمام الحسين عليه السلام في رواية (غادة كربلاء) لا تبرز بشكلها الفعال إلا في النصف الأخير من الرواية عموما، أما في النصف الأول منها، فإننا بالكاد نقرأ شيئا عنه عليه السلام و عن طفولته و عن مكانته في القرآن و عن منزلته من جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل بإمكاننا القول أن أكثر ما أراد أن يركز عليه الأديب والمؤرخ (زیدان) في تلك الرواية هي شخصية الإمام الحسين عليه السلام المؤمنة بحقها والقادرة على إثبات شجاعتها التي لا مثيل لها تحت و طأة أي ضغط أو ظرف مهما كان قاسية أو عصيبا(1).

فالمعسكر المعادي للإمام الحسين عليه السلام- كما يصفه المؤرخ (زیدان) - هو

ص: 136


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، د.ت ص 151.

معسكر الشر والباطل و هو أيضا المعسكر المرتكز في أيديولوجيته الفكرية على أسس ثابتة من العصبية القبلية والنزعة الجاهلية.

و على الرغم من اتصاف معسکر یزید اللعين بهذه الصفات الذميمة، إلا أن كبار قادة جيشه كانوا يدركون حقيقة الإمام الحسين عليه السلام و كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الحق كل الحق مع الإمام الحسين عليه السلام و مع الأهداف التي نذر حياته من أجلها، و لكنها الدنيا التي تغر و تضر فتجعل المرء الضعيف يقف مع الباطل من أجل حطامها و سقط متاعها.

و قد استشهد المؤرخ (زیدان) بالعديد من العبارات والجمل التي قالها أعداء الإمام الحسين عليه السلام أنفسهم عنه و عن حقيقة شخصيته والتي تؤكد أنهم حينما ناصبوه العداء، كانوا عارفين بأن وزرهم و ذنبهم عند الله عظيم لا يغتفر

و لا أريد أن أستفيض هنا في الحديث عن بداية أحداث الفاجعة، و لا أريد أن أستبق الأحداث، فالكلام عن مسرح الفاجعة قادم لا ريب، و لكن الحديث عنه سيأتي في مكانه اللائق والمناسب في هذا المكان، و لكن لابأس في أن أورد شاهدا واحدا هنا عما قلته منذ قليل عن معرفة أعداء الإمام الحسين عليه السلام به و عن إدراكهم لعظيم منزلته و علو مقامه الشريف عند الله و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

فعندما يتحدث الأديب والمؤرخ (زیدان) عن محاولة أخذ البيعة بقوة السيف اليزيد من الإمام الحسين عليه السلام ، نراه يلجأ إلى تصوير ذلك الحدث بطريقة مباشرة حيث يتم الحديث الأساسي بين شخصيتين متميزتین بعدائهما التاريخي لأهل البيت عليهم السلام عموما، و للإمام الحسين عليه السلام خصوصا.

فالشخصية الأولى هي (مروان بن الحكم)، أما الشخصية الثانية فهي (الوليد بن

ص: 137

عقبة بن أبي سفيان)، ابن عم يزيد و عامله على المدينة.

فعندما يرفض الإمام الحسين عليه السلام مبايعة يزيد الفاسق خليفة على رقاب المسلمين غير آبه بتهديدهما له بالقتل و بالتنكيل به، و عندما يغادر مجلسهما دون أن يعتريه أي شعور بالخوف من ترهيبهما له بسفك دمه و إهدار حياته، يطلب مروان بن الحكم من الولید بن عقبة أن يسرع في اغتيال صوت الحق عند الحسين علیه السلام عن طريق اغتياله هو شخصيا، فيجيبه الوليد بن عقبة قائلا-كما جاء في رواية جرجي زیدان-:

(والله يا مروان ما أحب أن يكون لي ما طلعت عنه الشمس و غربت عنه من مال الدنيا و ملكها، و أن أقتل حسينا أن قال لا أبايع، والله إني لا أظن امرءة يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة)(1).

فيجيبه مروان بن الحكم قائلا: (قد أصبت).

هذه، باختصار، صورة الإمام الحسين عليه السلام كما جاءت في النصف الأول من رواية (غادة كربلاء) التاريخية، و لكن، و على الرغم من الغياب الواضح لتصوير جوانب و خصائص عديدة في شخصية الإمام الحسين علیه السلام، إلا أن مؤلف الرواية (جرجي زيدان) استطاع أن يختصر الكلام عن الإمام الحسين عليه السلام مع الإبقاء على فكرة هامة أراد تصویرها و نقلها للقارئ، إنها الفكرة القائمة على تصوير و تأكيد أن الإمام الحسين عليه السلام الذي هو سبط الرسول الإلهي الأخير صلی الله علیه و آله و سلم، و ابن الوصي علي المرتضی علیه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام، هو في، محصلة الأمر، الوجه الحقيقي الصادق للإسلام، و هو صرخة الضمير الإنساني الشريف في وجه الظلم والجبروت والطغيان.

ص: 138


1- نفس المصدر السابق ص151.

فالإمام الحسين علیه السلام كما يؤكد الأستاذ (زیدان) من خلال حوار شخصياته في الرواية، هو حرمة عظيمة من حرمات الله العلي العظيم

و ربما ما قلناه عن المؤرخ والأديب المسيحي (جرجي زيدان) يصدق أيضا على الأديب الروائي الشهير (إميل حبشي الأشقر)، ذلك الأديب الروائي اللبناني الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الأعمال الروائية المثيرة التي تعبق برائحة الماضي البعيد من التاريخين العربي والإسلامي.

و لا ريب في أن الرواية الأكثر أهمية بالنسبة إلينا في معرض حديثنا الآن هي روايته (فاجعة كربلاء) والتي تعتبر الرواية المتممة لرواية أخرى سابقة عليها هي رواية (خيانة و غدر)، والروايتان- بالطبع- هما روايتان تاریخيتان من سلسلة روائية مطولة كانت تصدر تحت عنوان (روایات الليالي في تاريخ العرب والإسلام).

و على الرغم من الخطأ الذي وقع فيه الأديب (حبشي الأشقر) و هو استقاء أحداث رواياته التاريخية المتعلقة بالإسلام من مصادر واحدة معينة ذات صبغة إسلامية محددة، و هو نفس الخطأ الذي وقع فيه أيضا الأديب والمؤرخ (جرجي زیدان)، إلا أن أحداث روايته (فاجعة كربلاء) جاءت مصورة للعديد من الحقائق والأحداث التي جرت فعلا في تلك الحقبة السوداء من تاريخ المسلمين.

نعم، إن الأديب (الأشقر) لم يتطرق إلى ذكر الإمام الحسين علیه السلام من خلال الكلام عنه في مرحلة الطفولة والصبا، و ربما لم يكن باستطاعته أن يبين للقارئ طبيعة المنزلة التي يحتلها الإمام الحسين عليه السلام في ضمير جده صلی الله علیه و آله و سلم وجدانه، و ماذا كان يمثل بالنسبة إليه في ما يتعلق باستمرار رسالته الإسلامية السماوية من خلاله و من خلال الأئمة الأطهار علیه السلام من ذريته، نعم، إن الأديب (الأشقر) لم يذكر ذلك بشكل

ص: 139

واضح و صريح، و لكنه لم يدخر جهدا في إبراز العديد من الحقائق الثابتة والمؤكدة عن الإمام الحسين عليه السلام و تقديمها للقارئ على أنها بالفعل من المسلمات القائمة والثوابت الأساسية التي تعترف بمصداقيتها كل الأطياف والمذاهب الإسلامية، بل و حتى العديد من العقول المسيحية المستضيئة بنور الفكر من شمس الثقافة والمعرفة.

و على كل حال، فإن الأستاذ الأديب (الأشقر) يرى، على ما يبدو، أن خير وسيلة لتعريف القارئ بالإمام الحسين عليه السلام هي تقديمه إليه من خلال الاعتماد على خطبه و كلماته التي كان يعرف الناس على نفسه من خلالها، و بشكل خاص تلك الخطب التي كان يلقيها على مسامع الجيوش المدججة بالسلاح في ساحة كربلاء قبل الاشتباك والالتحام مع جيشه الصغير الذي لا يتجاوز بالكاد السبعين شخصا ما بين رجل و امرأة و شيخ و طفل رضيع.

و هنا يمكننا القول أن الأفكار التي أراد الأستاذ (الأشقر) إيصالها إلى القارئ هي أن جيش الإمام الحسين عليه السلام- هذا إذا جاز لنا أن نسميه جيشا- هو جيش الإيمان والنور، في حين أن جيش يزيد و رجاله هو جيش الكفر والضلال(1).

و ما أراد أن يقوله الأديب (الأشقر) للقارئ أيضا من خلال الصفحات الأولى من الرواية هو أن الإمام الحسين عليه السلام الابن الأخير للرسول الأخير صلی الله علیه و آله و سلم على وجه الأرض، و هو بالفعل كما قال جده صلی الله علیه و آله و سلم؛ عنه و عن أخيه، «سیدا شباب أهل الجنة و قرة عين أهل السنة»(2).

أما بالنسبة لبقية الأفكار والصفات التي أراد الأستاذ (الأشقر) إيصالها إلى القارئ

ص: 140


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس . بيروت، 1965، ص9.
2- نفس المصدر السابق ص11.

عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام کالجرأة والشجاعة و عمق الإيمان بالله و مدی الاقتداء برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، والنبل والحلم والتضحية والفداء، فكل هذه الصفات لا داعي للوقوف عندها من أجل شرحها والتأكيد عليها و ذلك لأن كل هذه الصفات هي صفات ثابتة للإمام الحسين عليه السلام عند الموالي والمخالف، و عند كل المفكرين والأدباء المسلمين والمسيحيين على حد سواء، بل و سنلاحظ لاحقا اتساع دائرة الاعتراف والإقرار بذلك لتشمل أيضا البعض من مفكري أبناء الطائفة الهندوسية الذين تحدثوا و كتبوا عن الإسلام و عن رجاله العظام، كالإمام الحسين عليه السلام مثلا، بكل جرأة و محبة و تبجيل و احترام.

أما الآن، و قد قاربنا على الانتهاء من هذا الفصل من كتابنا، دعونا أيها الأعزاء نتابع جولتنا السريعة والمختصرة من أجل التعرف على ما قاله بقية المفکرین المعاصرين حول الخطوط العامة والمعالم لرئيسية لشخصية سيدنا و مولانا الإمام الحسين عليه السلام.

و عندما نقول إن جولتنا السريعة والمختصرة القادمة ستكون مع بقية الأدباء والمفكرين المعاصرين، فإن هذا لا يعني أثر من سنذكرهم الآن هم كل ما في جعبتنا من رجال فكر و أدب ممن أذلوا بدلائهم في ميدان الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام قتیل العبرة و ضمير العترة، بل إن ذلك يعني أن من سنذكرهم الآن هم أصحاب الباع الأطول في الكتابة عن سيد الشهداء، أبي عبد الله الحسين عليه السلام، و لذلك، فهم الآن الأجدر بالذكر من غيرهم من المفكرين والأدباء في هذا المكان.

و ستكون جولتنا السريعة الآن مع الكاتب المصري، الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) صاحب عشرات الكتب والروايات والمجموعات القصصية القصيرة، و يعد

ص: 141

الأستاذ (السحار) واحدا من أهم الذين كتبوا عن أهل بيت النبي المصطفى عليهم السلام و عن سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام.

و لو استعرضنا، بإيجاز سريع، صورة الإمام الحسين عليه السلام في كتابه المخصص لهذا الغرض والذي يحمل عنوان (حياة الحسين)، لوجدنا عدة نقاط هامة يمكن تلخيصها بما يلي:

أولا- إن أهل البيت عليهم السلام عموما، والحسين عليه السلام منهم بلا شك، هم أهل العصمة الإلهية المباركة(1).

ثانية - إن مجرد دموع الحسين عليه السلام تؤذي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تؤلمه في أعماق نفسه و روحه(2).

و في هذه النقطة استثارة لذهن القارئ كي يجيب على السؤال التالي، و هو سؤال کنا قد طرحناه سابقا:

إذا كانت دموع الحسين علیه السلام تؤلم قلب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و تدميه حزنا، فما هو حاله صلی الله عله و آله و سلم لو رأي دماء سبطه المظلوم الغريب الظمآن مسفوحة فوق رمال كربلاء اللاهبة؟!

ثالثا- إن الكرم والجود، بما في ذلك الجود بالنفس من أجل الحق، و إن الجرأة والإقدام والشجاعة التي يتحلى بها الإمام الحسين عليه السلام هي كلها صفات نبوية رسالية عظيمة أورثه إياها جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم(3)

رابعا- لا يستطيع أي شخص كان أن يجحد أو أن ينكر أن الإمام الحسين علیه السلام

ص: 142


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مكتبة مصر - القاهرة، ط 1977/2 ، ص11.
2- نفس المصدر السابق ص11
3- نفس المصدر السابق ص13.

هو بحق، كما وصفه جده الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رؤوس الأشهاد من الأصحاب، سيد شباب أهل الجنة يوم القيامة والحساب(1).

هذه هي باختصار شديد المعالم الرئيسية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام كما رسمها الأستاذ (جودة السكار) في كتابه القيم (حياة الحسين)، و بالطبع، ليس هذا هو كل شيء عن الإطار العام لمزايا و خصائص الحسين عليه السلام ، بل هناك الكثير مما يمكن أن يقال عنه و لكن ليس من الحكمة أن نذكر كل شيء هنا، بل ستترك ذلك للحديث عنه عند التكلم عن أسباب الثورة الكربلائية و عن أحداثها الدامية.

و لكن لا يغيب عن ذهننا هنا أن نقول إن كتاب (حياة الحسين) يتكامل في معلوماته مع المعلومات الواردة في كتاب آخر للكاتب الأستاذ (جودة السحار) و هو الكتاب الذي يحمل عنوان (أهل بيت النبي)، فكلاهما كتابان يتناولان سيرة أهل بیت النبوة علیهم السلام من حيث إنهم هم أهل النبوة و مهبط الوحي و معدن الرسالة و أن الإمام الحسين عليه السلام من أصحاب الكساء و هو الإمام الطاهر المطهر من كل رجس(2)

و قد أكد الأستاذ (جودة السكار) في كتابه المذكور على عدة نقاط تتطابق بشكل حرفي مع ما هو موجود في كتابه (حياة الحسين)، و ما تأكيده على تلك المعلومات إلا ليثبت للقارئ أن ما كتبه عن الإمام الحسين عليه السلام هو عين الصواب و جوهر الحقيقة.

و نستطيع أن نلاحظ منذ الصفحات الأولى لكتاب (أهل بيت النبي) أن الكاتب الأستاذ (جودة السكار) يريد أن يشتد الاهتمام على نقطة محورية هامة من ضمن مجموعة نقاط هامة أخرى أوردها في كتابه، و تتجلى هذه النقطة بالتأكيد المستمر على

ص: 143


1- نفس المصدر السابق ص89
2- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي، دار مصر للطباعة . القاهرة، د.ت، ص259.

أن ذرية الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي ذاتها ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي، فإن النتيجة المنطقية التي يريد الأستاذ (جودة السحار) أن يتوصل إليها القارئ هي أن أذى العترة الطاهرة عليهم السلام هو في حقيقته أذى لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أن أذى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو في محصلة الأمر أذ لله سبحانه و تعالى من خلال الانتقاص من ثقليه العظيمين، كتابه الكريم و عترته الطاهرة عليهم السلام.

و يكفي أن نذكر هنا حادثة واحدة من مجموعة حوادث ذکرها الأستاذ (جودة السحار) لإثبات أن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم كان يرى في الإمامين السيدين الجليلين الحسن والحسين عليهماالسلام ذريته الرسالية المقدسة والمحفوظة في نسل علي سيد الأوصياء عليه السلام و فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة النساء، فهي ذريته المتصلة به صلی الله علیه و آله و سلم بالدم والفكر والروح والنور.

و ها هو الأستاذ (السحار) يروي لنا: (وقف رسول الله في مسجده يخطب، و بينا هو يعظ المسلمين، جاء الحسن والحسين (و هما طفلان) و عليهما قميصان أحمران يعثران و يقومان، فلم يتمالك رسول الله نفسه، بل نزل إليهما وأخذهما و عاد إلى المنبر و هو يضمهما إليه، ثم وضعهما في حجره و قال: «صدق الله ! إنما أموالكم و أولادكم فتنة»)(1)

و لا ريب في أن من حق الأستاذ (جودة السحار) أن يركز على تلك النقطة التي أراد أن يلفت انتباه القارئ إليها، بل و إلى غيرها من النقاط الهامة الأخرى المبثوثة في صفحات کتابه (أهل بيت النبي)، فالكتابة عن أهل البيت علیهم السلام عبادة، والدفاع عن قضاياهم و مبادئهم جهاد، و ذكر فضائلهم رحمة، و موالاتهم مغفرة و عتق من النار.

ص: 144


1- نفس المصدر السابق ص12.

و أعتقد أنه من المسلم به تماما أن كل من ذكرناهم في هذا الفصل من مفکرین و أدباء و شعراء سواء كانوا من المسلمين أو من المسيحيين قد قرأوا الكثير عن أهل البيت علیهم السلام و عن فضائلهم و مآثرهم العملية والروحية و إلا لما كتبوا عنهم بتلك الطريقة الشفافة التي تفيض حبا و احتراما و ولاء

فماذا عساه المفكر أو الأديب المسلم السني، أو حتى المسيحي الذي نفض غبار التعصب عن عينيه، أن يقول عندما يقرأ الكثير من الأحاديث النبوية الهامة التي وردت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في كتب السنة والشيعة معا حول عظمة آل بيته الذين هم مستودع سره؟!

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر (الخوارزمي) الحنفي، المتوفى عام /568 ه / في كتابه (مقتل الحسین) هذا الحديث الثابت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى يأكل من ثمر الجنة أو من شجر الزقوم، و حتى يرى ملك الموت، و يراني و يري علي و فاطمة والحسن والحسين، فإن كان يحبنا، قلت: يا ملك الموت ارفق به، فإنه كان يحبني و أهل بيتي، و إن كان يبغضني و يبغض أهل بيتي، قلت: يا ملك الموت شدد عليه، فإنه كان يبغضني و يبغض أهل بيتي، لا يحبنا إلا مؤمن و لا يبغضنا إلا منافق شق»(1).

و ماذا يمكن لذاك المفكر أن يقول أيضا عندما يقرأ ما جاء في كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الكبير (الشيخ سليمان ابن الشيخ إبراهيم القندوزي الحنفي)حيث ذكر هذا الشيخ الجليل حديثا مطولا لأمير المؤمنين علي عليه السلام بعد أن سئل عن تفسير

ص: 145


1- أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، منشورات مكتبة المفيد . قم المقدسة، د.ت، راجع الجزء الأول ص109.

قوله سبحانه و تعالى: «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ»(1)، فأجاب علیه السلام: «نحن الأعراف و نحن نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، و نحن الأعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط، لا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه، إن الله تبارك و تعالی لو شاء لعرف الناس نفسه و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و وجهه الذي يتوجه منه إليه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون...»؟!(2)

فلا ريب في أن هذا المفكر المسيحي أو ذاك الأديب المسلم قد قرأ الكثير من هذه الأحاديث الرائعة عن أهل البيت عليهم السلام في كتب السنة و في مؤلفاتهم الفكرية و في دواوينهم الشعرية التراثية، و هذا ما جعلهم يسارعون إلى إلقاء عباءة التعصب عن كاهلهم و من ثم تجنيد أقلامهم النظيفة للذود عن أهل بيت آخر رسول في مشارق الأرض و مغاربها إذ لا رسول بعده إلى يوم الدين.

و لذلك أقول إنه إذا كان المفكر المسيحي (أنطون بارا) محقا في مقولته التي أسلفنا ذكرها في الفصل السابق، والتي تنص على أن الفكر المسيحي العربي يقدس أهل البيت عليهم السلام و يجلهم، فإن الراهب المسيحي الفرنسي (لويس غارديه) أيضا محق في مقولته عن أهل بيت النبي عليهم السلام و موقف السنة منهم حيث اعتبر (غارديه) أن السنیين يمجدون و يجلون هم أيضا أسرة النبي علیهم السلام و أن السنيين أنفسهم كانوا متعاطفين مع الشيعة ضد الحكم الأموي البغيض(3).

ص: 146


1- سورة الأعراف: الآية 46
2- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج1 ص 101.
3- لويس غارديه، أهل الإسلام، ترجمة: صلاح الدين برمدا ، وزارة الثقافة . دمشق، 1981، ص216.

و لا داعي، بالطبع، لأن نسرد عشرات الأحاديث النبوية الشريفة و غيرها من الأحاديث التي تنص على علو مكانة آل بيت الرسول المصطفى عليهم السلام و سمو منزلتهم في الأرض و في السماء، و لكن ما أردنا قوله هنا هو أن هذا النوع من الأحاديث الثابتة والمتفق عليها عند جميع الأطياف الإسلامية هو أحد الأسباب المباشرة التي جعلت هذا الكم الكبير من الأدباء والشعراء والمفكرين المسيحيين المستنيرين و من رجال السنة يشمرون عن سواعدهم للدفاع عن أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام وللانتصار لقضاياهم التي جاهدوا من أجلها بأنفسهم و أموالهم باذلين بذلك أغلى ما يملكون.

و من البديهي أيضا أن نقول إن الأحاديث النبوية الشريفة المختصة بذكر الإمام الحسين عليه السلام و مكانته من جده و من جوهر رسالته السماوية الأخيرة، هذا بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الأخرى التي تخرق حجاب الغيب لتتنبأ بمصير ذلك الإمام العظيم و لتخبر المسلمين و قتذاك بالنهاية المفجعة التي سيلقاها ذلك السبط المظلوم على ضفاف الفرات الحزين، إن كل هذه الأحاديث لعبت أيضا دورها الفعال في استثارة العواطف و في تنبيه كل العقول النيرة إلى ضرورة الدفاع عن أهل الحق و إلى إبراز فضائلهم، و إلى ضرورة إدانة أهل الباطل و إظهار رذائلهم، فكان نتيجة ذلك هذا الكم الكبير من الأقلام الحرة والنزيهة التي جاءت من مختلف الأديان والمذاهب کي تصدع بالحق و تنطق بالصدق و ترفع أصواتها عالية لنصرة سيد شباب أهل الجنة الذي قال عنه جده رسول الله الأعظم علیه السلام الذي لا ينطق عن الهوى:

«الجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، و نور ولدي الحسين من نور الله،

ص: 147

و ولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين»(1).

و لربما من أكثر الأحاديث قوة و تأثيرا على من كتب عن الإمام الحسين عليه السلام و عن نهضته و ثورته المباركة، هو ذاك الحديث النبوي الشريف الذي ورد بطرق متقاربة في الكثير من المصادر والمراجع الإسلامية الهامة، سواء الشيعية أو السنية، و هو الحديث النبوي الذي يلخص لنا ما يمثله الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة إلى جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو (الخوارزمي) الملقب ب (أخطب خوارزم) الحنفي المذهب ينقل لنا ذلك الحديث النبوي الشريف بصيغته الصحيحة والكاملة، فيروي لنا الحديث المرفوع إلى سلمان الفارسي (المحمدي) بقوله:

(دخلت على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و إذا الحسين على فخذه و هو يقبل عينيه و يلثم فاه، و يقول: «إنك سيد ابن سيد أبو سادة، إنك إمام ابن إمام أبو أئمة، إنك حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم»)(2).

فما من كلمة قالها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في هذا الحديث إلا و لها أعمق الدلالات على المنزلة العظيمة التي يحتلها الإمام الحسين عليه السلام في قلب جده، و ما من كلمة في هذا الحديث أيضا إلا و لها، بنفس الوقت، أوضح الدلائل و أبلغ الإشارات على الدور المنتظر المنوط بالإمام الحسين عليه السلام أبي الأئمة الأبرار الأطهار علیهم السلام الذين سيستمرون في حمل راية الإسلام و لواء الإيمان إلى أن يأتي تاسعهم عليهم السلام في نهاية الزمان فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعدما تكون قد ملئت ظلما و جورا،

ص: 148


1- العلامة ميرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، ترجمة و شرح السيد ياسين الموسوي، دار التعارف للمطبوعات . بیروت، 1990، ص84.
2- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج1 ص146.

فهؤلاء الأئمة التسعة عليهم السلام الذين أشار إليهم جدهم الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم والذين يمثلون عبق الرسالة و روحها الحية و نبضها الدائم الممتد إلى آخر الزمان، و لو کره الكافرون، هم کلهم من الإمام الذي سيقدم نفسه قربانا على ضفاف الفرات من أجل شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، إنه القربان الإلهي المقتول ظلما بسيف أعداء الدين، إنه وارث رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، إنه الإمام الحسين.

و أنا أعرف الآن أن الكثير من القراء يطلبون المزيد والمزيد من ذكر الأحاديث التي تظهر عظمة الحسين عليه السلام و مقامه السامي الرفيع، و لا ريب في أن لهم الحق في ذلك، و لكن سنعمد إلى ذكر تلك الأحاديث المطلوبة في مكانها المناسب من هذا الكتاب، أما الآن، دعونا نزور أحد المفكرين المصريين الأفذاذ الذين تميزوا بآرائهم الجريئة والصريحة حول المبادئ الأساسية والخطوط العامة العريضة التي تتمحور حولها شخصية الإمام الحسين عليه السلام و حول أسباب و نتائج ثورته الحسينية التي حفظت للإسلام ماء وجهه بعدما أراد أعداؤه و أعداء أبيه عليه السلام و جده صلی الله علیه و آله و سلم أن يريقوه عبثا غير آبهين بدين و لا بشريعة و لا حتى بإله جبار شديد العقاب ينصب الميزان غدا ليوم الحساب.

و حتى لا نطيل المقدمات، دعونا نعرفكم، أيها الأعزاء، على محطة مميزة من محطاتنا الفكرية الهامة، إنه الأستاذ الأزهري والباحث المصري (خالد محمد خالد) صاحب المؤلفات الفكرية والإسلامية التي تعد بالعشرات، والتي لا يزال يعاد طبعها المرة تلو المرة حتى يومنا هذا نظرا لقيمتها الفكرية العالية.

و من أهم آثاره: (عشرة أيام في حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم )، (الوصايا العشر)، (كما تحدث القرآن)، (في رحاب علي عليه السلام)، (أفكاره في القمة)، (أبناء الرسول في

ص: 149

کربلاء)، هذا بالإضافة إلى الكثير من الكتب الإسلامية والمؤلفات الفكرية الأخرى التي تتصف بروح الإنصاف والموضوعية في نهج البحث و في عملية استخلاص النتائج المترتبة عليه.

و ما يهمنا من كل كتبه الآن هو كتابه (أبناء الرسول في كربلاء)، ذلك الكتاب الذي أخذ طريقه إلى النور في طبعته الأولى عام / 1968/ و أعيدت طباعته مرات عديدة.

و بإمكاننا أن نلاحظ، و بشكل بارز تماما، كيف أن الأستاذ (خالد) قد استطاع بكل براعة أن ينتقل بقارئه من فكرة إلى أخرى بأسلوب منطقي متدرج يجعله قادرا على تكوين مجموعة أفكار جوهرية و حساسة جدا عن الجو الأسري الذي تربى و نشأ فيه الإمام الحسين عليه السلام .

و لو أخذنا مثالا واحدة على طبيعة تلك الأفكار الهامة التي طرحها الأستاذ (خالد) في سياق الكلام عن أسرة الإمام الحسين عليه السلام التي ترعرع و شب في أحضانها إلى أن بلغ مرحلة الشباب، فسيكون مثالنا المأخوذ هو ما جاء في تعليق الأستاذ (خالد) على معنى قوله تعالى في سورة آل عمران: «... كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ»(1)، حيث قال معلقا على ذلك:

(فالربانية وحدها هي التي تضفي على العظمة الإنسانية رداء الصدق، والإخلاص، والنسك، و هي التي تجعل من التضحيات رشدا و رضوانا...

و لقد كانت القدوة التي تركها (علي و فاطمة)، والتي سيتركها بنوهما (الحسن والحسين) من بعدهما رائعة الاتساق مع هذه الغاية الفريدة، و ذلك المستوى

ص: 150


1- سورة آل عمران: الآية 79

البعيد)(1).

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام إمام رباني في تربيته و في نشأته و في سلوكياته و في غاياته، إنه سليل أسرة القرآن وابن مدرسة الرحمن

و إذا كان الإمام قد نشأ هذه النشأة الربانية العظيمة في أحضان أسرة نبوية طاهرة مطهرة، كما جاء في النص الإلهي الأقدس، فكيف نتوقع أن تكون علاقة ذلك الإمام بالحق والفضيلة و بالدستور الإلهي الخالد؟!

إن الجواب على هذا السؤال ليس بالأمر الصعب أو العسير بالنسبة إلينا و إلى الأستاذ الأزهري (خالد)، بل على العكس من ذلك تماما، فالإمام الحسين عليه السلام كان أكثر التصاقا بالله و بكتابه من التصاق الجنين بأمه، و كان أكثر ارتباط بجده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و بأبويه، المرتضى عليه السلام والزهراء علیهاالسلام، و بمبادئهم جميعا من ارتباط معنی الكلمة بالكلمة أو هوية الشيء بالشيء.

و بالنسبة للأستاذ (خالد)، فإن (للحسين طبيعة جياشة ثائرة، يربطها بالحق ولاء وثيق و عجيب، و تستمد من فضائل الدين العالية و من تراث حسبه العريق زادة لا يفنی من الصمود والمثابرة)(2).

و عندما يقول الأستاذ (خالد)، و هو العالم السني الأزهري، إن الإمام الحسين عليه السلام يستمد الكثير من الفضائل والمناقب والخصال عن طريق ارتباطه الوثيق بشريعة السماء من جهة، و عن طريق الأخذ بتراث حسبه العريق من جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن الإمام الحسين عليه السلام يعتمد في تثبيت مكانته و منزلته على مجرد الانتماء إلى

ص: 151


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مطبوعات دار الشعب . القاهرة، ط1/ 1968 ص 19
2- نفس المصدر السابق ص102

الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عن طريق الرابطة الدموية فحسب، بل إن الإمام الحسين عليه السلام يعتمد على عدة عوامل أخرى أيضا، و ما الانتساب إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالرابطة الدموية إلا أحد تلك العوامل العديدة التي أشار إليها الأستاذ (خالد) في صفحات متفرقة من كتابه (أبناء الرسول في كربلاء)، ذلك الكتاب المميز بأسلوب طرحه للأفكار و بالنتائج المستخلصة على ضوء ذلك الطرح والبحث العميقين.

و على ما يبدو، إن هناك الكثير ممن كتبوا عن الإمام الحسين عليه السلام، سواء من المسلمين أو من المسيحيين، قد اعتمدوا في تأكيدهم علی عظیم مقام الحسين و على رفعة مكانته و منزلته على العديد من الآيات القرآنية كآية (التطهير) و آية (المباهلة) و على غيرهما من الآيات القرآنية الأخرى التي تظهر خصيص مكانة أهل البيت علیهم السلام عموما.

و قد اعتمدوا من جهة أخرى على عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت بمثابة الشرح والدعم لتلك الآيات القرآنية السابقة.

و لعل من أكثر الأحاديث النبوية الشريفة رواجا في كتب السنة المتقدمين هو ذلك الحديث النبوي الشريف الذي سنذكره الآن، و هو أحد الأحاديث الهامة التي يستشهد به ويعتمد عليه الكثير من الأدباء والمفكرين المعاصرين من سنة و شيعة و مسيحيين.

و هذا هو نص الحديث النبوي الشريف كما ورد حرفيا في كتاب (ينابيع المودة) للعلامة الكبير الشيخ سليمان القندوزي الحنفي)، و كما ورد أيضا في غيره من کتب السنة القدماء و لكن باختلافات يسيرة جدا.

يقول العلامة (القندوزي الحنفي): (و عن ربيعة السعدي، قال: أتي حذيفة رضي الله عنه، فسألته عن أشياء، فقال: اسمع مني وعة، و بلغ الناس أني رأيت رسول الله

ص: 152

صلی الله علیه و آله و سلم و سمعته بأذني و قد جاء الحسين بن علي رضي الله عنهما على المنبر فجعله على منكبيه ثم قال:

«أيها الناس هذا الحسين خير الناس جدا و جدة، جده رسول الله سيد و لد آدم، و جدته خديجة سابقة إلى الإيمان من كل الأمة، و هذا الحسين خير الناس خالا و خالة خاله القاسم و عبد الله و إبراهيم، و خالته زينب و رقية و أم كلثوم، و هذا الحسين خير الناس عما و عمة، عمه حمزة و جعفر و عقيل، و عمته أم هانئ، و هذا الحسين خير الناس أبا و أمة و أخا و أختة، أبوه علي و أمه فاطمة و أخوه الحسن و أخته زينب و رقية»، ثم وضعه عن منكبه فأجلسه في جنبه، فقال: «أيها الناس هذا الحسين جده في الجنة و جدته في الجنة و أخواله في الجنة و خالاته في الجنة و أعمامه في الجنة و عماته في الجنة و أبوه في الجنة وأمه في الجنة و أخوه في الجنة و أختاه في الجنة و هو في الجنة»، ثم قال: «يا أيها الناس إنه لم يعط أحد من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي الحسين بن علي خلا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، يا أيها الناس إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ذريته فلا تذهب بكم الأباطيل». (1)

و يحق - بالطبع - لكل قارئ، بل و لكل أديب أو باحث أن يولي هذا الحديث النبوي الشريف أهمية بالغة و مكانة مرموقة في ميدانه الفكري و في مجال بحثه و تأليفه نظرا لما يقدمه هذا الحديث لنا من فكرة شاملة عن الجو الأسري المقدس الذي نشأ فيه سيد الشهداء، أبو عبد الله الحسين عليه السلام .

و كما سنلاحظ، فإن الإمام الحسين عليه السلام هو المحور في هذا الحديث النبوي الشريف، و هو السبط الوحيد، كما يقول عنه جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم- الذي

ص: 153


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج2 ص103.

أعطي ما لم يعط أحد غيره من ذرية الأنبياء ما عدا سيدنا يوسف بن يعقوب عليهماالسلام .

و قد استدل العالم الأزهري المصري الأستاذ (عبد اللطيف المشتهري) - و هو مبعوث الأزهر بسوريا في فترة الستينيات من القرن الماضي- على تلك العظمة الحسينية من خلال العديد من الأحاديث النبوية، بل و من خلال الكثير من الحوادث والوقائع التي وقعت في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، شخصيا، أحد أقطابها.

و من جملة الحوادث التي ذكرها الأستاذ (المشتهري) عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، والتي استدل من خلالها على عظمة الحسين في نفس و وجدان جده خاتم رسل الله صلی الله علیه و آله و سلم هي تلك الحادثة الشهيرة التي ذكرها في كتابه (سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين صلی الله علیه و آله و سلم):

دخل الحسين المسجد و رسول الله يخطب، فداس (الحسين عليه السلام) في ثوب كان عليه فسقط و بکی، فنزل النبي ليتلقاه، فلما رآه الناس سعوا إلى الحسين يتعاطونه و يعطيه بعضهم بعضا حتى تسلمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و قال: «والذي نفسي بيده ما دریت أني نزلت عن منبري»(1).

حقا إنها حادثة عظيمة أن يقطع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و صفوه رسله في خلقه خطبته و ينزل عن منبره من أجل سبطه الطفل الصغير !!

بلى والله إنها لعظيمة، و إن دلالتها لأعظم !!

و على كل حال، فقد علق العلامة الأزهري على تلك الحادثة قائلا:

ص: 154


1- عبد اللطيف المشتهري، سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين، طبع اللاذقية، ط 1379/2 ه، ص12.

(إيه يا حسين، أيه منزلة لك في قلب صفوة الله من خلقه حتى يدع خطبته و منبره و يتلقاك من بين الناس ليعود بك قرير العين؟!»(1).

نعم، أيها الإمام العظيم، یا بن الإمام الأعظم

نعم، إن لك منزله في قلب صفوة الله من خلقه و رسله

لا تخطر على قلب بشر، و لا تناله الفكر

و إن لك شأنا، و أي شأني، في رسالة السماء إلى أهل الأرض

لا يبلغه المؤمنون و لا الملائكة المقربون

و كيف لا تكون أنت كذلك

و أنت ابن سید النبيين، وابن خير الوصيين

وابن سيدة نساء العالمين؟!

و كيف لا تكون كذلك

و أنت أحد سيدي شباب أهل الجنة

و أحد الريحانتين

والوارث لعلوم الوحي الأمين؟!

و بعد كل هذا، ألا يح لجذك الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أن يقول على رؤوس الأشهاد: «حسين مني و أنا من حسین»؟!

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.

ص: 155


1- نفس المصدر السابق ص13.

فاجعة كربلاء و مأساة السقيفة

ربما يستغرب القارئ الكريم أن أكتب هنا فصلا مستقلا تحت عنوان (فاجعة کربلاء و مأساة السقيفة) و ربما يتساءل البعض أيضا ما علاقة فاجعة كربلاء و أحداثها الدامية بما سبقها من أحداث و اختلافات و (فلتات) في سقيفة بني ساعدة !!

نعم، ربما يتساءل أي قارئ عن ذلك، بل ربما يتساءل عن أشياء أخرى أكثر من ذلك، و مهما كانت الأسئلة التي يمكن أن يطرحها القارئ و مهما كان حجمها و عمقها، فهي، بلا ریب، أسئلة مباحة و غير محظورة و لها ما يبررها أيضا.

و لكن، و قبل أن ندخل في الحديث عن العلاقة الوطيدة بين أحداث واقعة كربلاء و أحداث سقيفة بني ساعدة، دعونا نؤكد أولا على نقطة غاية في الأهمية و في الجدية نظرا لما يراه البعض فيها من ضرورة تبيان و توضيح.

و تتلخص هذه النقطة الهامة بقولنا الاستفهامي:

هل الشريعة الإسلامية ديانة دم و عنف؟

و إذا كان الجواب (نعم)، فما هي أسسه و عوامله، و ما هي الشواهد الدالة عليه في كتاب الله العزيز و في سنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؟

أما إذا كان الجواب (لا)، إن الإسلام في جوهره و في تعاليمه السماوية و في إرشاداته النبوية يقف موقف النقيض من العنف و من سفك الدماء البريئة، فمن أين، إذن، و فدت علينا هذه الظاهرة السلبية الخطيرة والتي تمتد بجذورها إلى أعماق

ص: 156

التاريخ الإسلامي الطويل؟!

و بطبيعة الحال، لا يحق لنا نحن أن نجيب على هذه التساؤلات الضرورية والتي يمكن أن تكون المدخل الطبيعي والمعبر المنطقي للكلام عن ما حدث في ساحة کربلاء.

بل إننا سنترك أمر الإجابة عن هذه الأسئلة لمجموعة من المفكرين والباحثين الكبار ممن ينتمون إلى غير الدائرة الإسلامية سواء كانوا من المسيحيين أم من غير المسيحيين.

و لكن، و قبل أن نستعرض وجهات نظر و آراء أولئك المفكرين، علينا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أننا سنوجز الكلام في هذا الموضوع و سنعمد إلى ذكر أسماء بعض الشخصيات الهامة، و ذلك لسبب واحد فقط و هو عدم الرغبة بالخروج عن جوهر کتابنا الأساسي المتمحور حول واقعة كربلاء و أثر تلك الفاجعة في الضمير العالمي الحديث.

و على كل حال، وحتى لا نطيل المقدمات و لا نضيع الوقت، دعونا الآن نستعرض بعض تلك الآراء والمواقف، و لتكن محطتنا الأولى مع المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) الذي أسلفنا الكلام عنه والتعريف به في الفصل السابق من هذا الكتاب.

قبل كل شيء، پری (ماسينيون) أن الإسلام دين له حصته و نصيبه من الخطة التي وضعها الله لهداية البشر، و یری (ماسينيون) أيضا أن الإسلام شريعة إنسانية تحترم آراء الأفراد والجماعات و تقدس جوهر الديانات السماوية الأخرى، و يؤكد (ماسینیون) مضيفا على ذلك بقوله: (بما أن الإسلام لا يفصل الشؤون الروحية عن الشؤون

ص: 157

الزمنية، فإن الواجب الأساسي المفروض على المؤمنين هو التوحيد والشهادة العلنية الدالة على العزم الراسخ على الإخلاص لعبادة الله الواحد، بكلمة أخرى، يمكن القول إن الشخص الإنساني يشكل في الإسلام شهادة يؤديها كل فرد وحده «وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ»(1)، والإخلاص لهذه الشهادة هو الذي يحدد قيمة الشخص الإنساني أمام الله)(2).

إذن، فالشخص (الإنساني) في الإسلام هو القادر على تحديد هويته أمام الله، فبقدر ما يكون ذلك الشخص قادرا على الإخلاص لله من خلال النطق بالشهادة الكاملة والعمل بشروطها وفق المستويين العمودي والأفقي - أي (الإلهي) مع الله و رسوله، و(الإنساني) مع الإنسان بشكل عام- بقدر ما يكون قادرا على تحقيق قيمته الإنسانية أمام خالقه.

و قد ذهب (ماسينيون) إلى حد القول (إن الإسلام جاء بمنزلة ضمير لليهودية والمسيحية)(3)، أي أن الرسالة الإسلامية هي الضمير الإنساني الحي لبقية الرسائل التي جاءت بها الرسل والأنبياء علیهم السلام.

أما المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي) ( ARNOLD TOYNBEE) (1889-1975) الذي فسر التاريخ على أساس مبدأ التحدي والاستجابة، فقد شهد الإسلام بأنه دين الإنسانية السمحاء، و أنه أكثر العقائد الدينية في العالم اتفاقا مع المنطق و أشدها صراحة في الإيمان بمبدأ الوحدانية الجليل و أعظمها و ضوحا في إدراك

ص: 158


1- سورة الأنعام: الآية164
2- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، ط1981/1 ، ص56.
3- أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، مصدر سابق ص125.

الاستشراق الإلهي وتسامي الذات الإلهية(1).

و لا يختلف رأي المستشرق المعروف (مونتغمري واط) ( M.WATT)، المولود عام (1909)، كثيرا عن رأي سابقه المؤرخ (توينبي) حول الطبيعة الروحية والنزعة الإنسانية في جوهر العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد رأى هذا المستشرق (واط) أن الرسالة الإسلامية هي أكمل الرسالات السماوية روحيا و إنسانية، حتى أن المجمع المسكوني الفاتيكاني المنعقد عام /1965/ قد اعترف بمآثر الإسلام العظيمة في نشر الكثير من القيم والحقائق(2).

و يرى المستشرق (واط) أيضا أن كل دين يترك للدين الذي يليه أن يكمل ما فيه من نقص، أما الإسلام فهو خاتم الأديان، و لذلك كان لا بد من اشتماله على كل فضائل الديانات السابقة من مكارم الخصال و محامد الصفات والتفحات الإنسانية الشفافة التي تسمو بالإنسان إلى عوالم الطهر والنقاء، فالعقيدة الإسلامية تصلح أصولا أن تستمد منها البشرية كل القوانين التي تسير حياتها، إنها القانون الإنساني(3).

و يرى المستشرق الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) في كتابه (ما یعد به الإسلام) أن المتصوفة (العمليين) في الإسلام هم الأقدر على نقل مضمون رسالة الإسلام إلى كل من هو خارج دائرة الإسلام، فالمتصوف رمز للتسامح و نبراس للقيم الإنسانية النبيلة، و بالتالي فإن الإنسان الكامل في الإسلام هو الإنسانية ذاتها في شمولها و تاريخها و تنوع أجناسها و ثقافاتها، فالإنسان الكامل الذي يجسد الحب

ص: 159


1- أنور الجندي، الإسلام والحضارة، دار الاعتصام. القاهرة، 1977، ص225.
2- مونتغمري واط، أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا، ترجمة: جابر أبي جابر، وزارة الثقافة . دمشق، 1981، ص12.
3- أنور الجندي، الإسلام والحضارة، مصدر سابق ص242.

والملحمة الإنسانية بكامل أبعادها هو الرسول المصطفى محمد صاحب الحقيقة المحمدية(1).

و یری (غارودي) أيضا في كتاباته المتمحورة حول معاني الإسلام الحنيف أن العقيدة الإسلامية هي أبعد العقائد عن العنف و عن الإكراه والجبر، بل على العكس من ذلك تماما، فالمسلم يحترم جميع الأديان السماوية السابقة و يقدسها، و فوق ذلك أيضا، فالإسلام اشترط لصحة إسلام المسلم الإيمان بجميع الرسل والأنبياء(2).

و هذا يعني أن المبادئ النظرية للعقيدة الإسلامية تستوجب من المسلم أن يكون غاية في المحبة والتسامح والحفاظ على رابطة الأخوة الإنسانية، و قد استشهد على ذلك بقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الكريم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَي َعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَ عِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(3)

و لو توقفنا قليلا عند الأديب والفيلسوف الإيرلندي (جورج برنارد شو) (G.B.SHAW ) (1950 - 1856) و سألناه عن رأيه بصاحب الرسالة الإسلامية، فماذا سيكون واجبه؟!

إن جوابه، و بكل بساطة و وضوح، سيكون هو التالي:

(ان محمدا يجب أن يدعی منقذ البشرية... إن محمدا هو أكمل البشر في

ص: 160


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، ترجمة: قصي أتاسي و ميشيل واكيم، طبع دار الوثبة . دمشق، د.ت، ص173.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، ترجمة: عبد المجيد بارودي، دار الإيمان . بيروت. و دمشق، د.ت ص34.
3- سورة البقرة: الآية 136.

الغابرين والحاضرين، و لا يتصور وجود مثله في الآتين)(1).

و إذا كان محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو المنقذ للبشرية -كما يقول عنه الفيلسوف (برناردشو) - أليس يعني هذا أن رسالة منقذ البشرية هي رسالة الخير والحق والفضيلة، ألا يعني هذا أنها رسالة المحبة والتسامح والغفران، و نبذ العنف و رفض الجبر والإكراه و مصادرة الأفكار واغتيال العقول والحريات؟!

ثم ألا يتفق هذا الرأي من الفيلسوف الإيرلندي (برناردشو) مع رأي المفكر السياسي والأمير الألماني (بسمارك) (BISMARCK) ( 1898-1815 ) موحد الأمة الألمانية و رجلها الفولاذي في القرن التاسع عشر، حيث يقول مخاطبة رسول الإنسانية والرحمة المهداة إلى أهل الأرض:

(یا محمد، إنني متأثر جدا من أن لم أكن معاصرة لك... إن البشرية رأت قدوة ممتازة مثلك، مرة واحدة، و لن ترى ذلك مرة أخرى، فبناء على ذلك، إني أعظمك بكمال الاحترام راكعا في حضورك المعنوي)(2).

و لو أخذنا عبارة واحدة فقط من عبارات الأديب والفيلسوف الألماني العظيم (یوهان غوته) ( J.W.GOETHE ) (1749 - 1832) لوجدنا عمق حبه و تقديره لرسالة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم المنطوية في أساسها و في عمق أهدافها على غایات نبيلة تعجز الألسن عن وصفها، و ها هو يقول عنها بعد أن قرأها و درسها جيدا على مدى عدة عقود من الزمان:

ص: 161


1- تامر سمير مصطفى، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار، الغدير . بيروت، ط1998/1 ، ص126.
2- نفس المصدر السابق ص127.

(إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا و نموت جميعا)(1).

أما عن أثر هذا الدين الحنيف على الإنسان، فيقول (غوته) أيضا:

( إن دین محمد كله إخلاص، و دین اجتماع و أخلاق و رعاية لبني الإنسان)(2).

و لو خرجنا قليلا عن محيط الدائرة المسيحية المتفهمة لحقيقة الرسالة الإسلامية و أهدافها السامية و دخلنا في إطار الدائرة الفكرية للطائفة الهندوسية كي نتعرف على وجهة نظر أهم أعلامها و أبرز رجالها في العصر الحديث في ما يتعلق بأهداف الرسالة الإسلامية و بمعطياتها الفكرية و علاقة ذلك بالنزعة الإنسانية و بمسألة احترام (الآخر) و نبذ العنف و إراقة الدماء، فيمكننا أن نقرأ الكثير عن تلك النقاط الهامة و كما قد وردت في كتابات العديد من المفكرين المعاصرين من أبناء الديانة الهندوسية.

و على سبيل المثال، فقد تحدث الصحافي والمفكر الهندي (ج.ن. راغهافان) في كتابه (تقديم الهند) عن الإسلام و عن الرسالة السماوية الإنسانية التي نزلت و حية على الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و يعتبر هذا المفكر الهندي المعاصر (ج.ن.راغهافان) واحدة من أبرز المفكرين الهنود في مجال البحث والدراسة والعناية بالتراث الروحي والفكري للهند.

و يكفي أن نقول إن السيد (راغهافان) قد شغل العديد من المناصب الفكرية في الهند و قد استقر به المقام أخيرة في رئاسة تحرير مجلة (قراءات من الهند) الصادرة من قبل المجلس الهندي للعلاقات الثقافية.

و يرى هذا المفكر الهندي أن الديانات الكبرى التي تحكم العالم كلها تمجد الله

ص: 162


1- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة: الدكتور عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص37.
2- العلامة خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، مؤسسة الوفاء. بيروت، 1983، ص98.

و تقدسه، و كلها أيضا تنادي بالمحبة والتسامح و رفض العنف و نبذ كل الصفات الذميمة التي تتنافى مع الفطرة الإنسانية السليمة المودعة في التركيبة النفسية للإنسان بشكل عام.

و يرى هذا المفكر الهندي أيضا أن الإسلام، کدی سماوي متكامل، يمتلك القدرة في ذاته على نشر الخير والفضيلة في صفوف معتنقيه، بل و له القدرة أيضا على جعل معتنقيه قادرين على التعايش بسلام مع معتنقي الديانات الأخرى حتى و لو لم تكن تلك الديانات ذات مصدر سماوي.

و يرى السيد (راغهافان) أن خير دليل على مصداقية هذه الفكرة هو اللجوء إلى الدراسات المقارنة التي تربط بين التصوف الإسلامي من جهة و بين التصوف الهندوسي بكافة طوائفه من جهة ثانية.

و من هنا يری (راغهافان) أن ظهور الحركات التوفيقية الهندوسي في الهند والتي تنادي بالتآخي والتقارب مع المسلمين و غيرهم ما هي إلا الدليل الواضح على أن الإسلام في جوهره الذاتي، والممثل خير تمثيل بالتيار الصوفي العملي، هو دين رحمة و محبة و فضيلة و سلام(1).

و إذا كانت هذه هي و جهة نظر المفكر الهندي البارز (ج.ن. راغهافان) بشأن إنسانية الإسلام، فإن وجهة نظر الزعيم الهندي الراحل (جواهر لال نهرو) ( J.NEHRU) (1889- 1964) لا تختلف كثيرا عن رأي المفكر (راغهافان) حول نفس النقطة المطروحة بشأن جوهر الرسالة الإسلامية التي تحترم إنسانية الإنسان أيا

ص: 163


1- ج.ن. راغهافان، تقديم الهند، تعريب: عبد الحق بن شجاعت علي، إصدار المجلس الهندي للعلاقات الثقافية. نيودلهي، ط 1982/3 / ص55. 59.

كان دينه أو مذهبه.

و من الجدير ذكره هو أن الزعيم (نهرو) قد شغل منصب رئاسة وزراء الهند( 1964-1947 )، و لذلك فهو يعتبر أحد أهم بناة الهند الحديثة، و لهذا الزعيم الراحل عدة مؤلفات هامة في التاريخ والسياسة والثقافة العامة.

و من جملة ما يقوله هذا المفكر الهندي العظيم في كتابه (لمحات من تاريخ العالم) و يؤكد عليه في العديد من الصفحات هو أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم قد رحل عن هذا العالم و ابتعد عنه جسميا و لكن تعاليمه السماوية السامية لم ترحل معه بل بقيت حية في صفوف أتباعه و محبيه الذين يتقدون غيرة و حماسة إلى نشر الفضيلة بين الناس(1).

إذن، فالفضيلة بكل معانيها و أبعادها هي الغاية الأسمى في رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم السماوية إلى أهل الأرض، و لا ريب في أن الديانة التي تجعل من نشر الفضيلة غايتها الأسمى، هي ديانة غاية في الإنسانية و في التسامح و في نبذ العنف والتفرقة بين الاخوة في الهوية الإنسانية.

و بما أننا في سياق الكلام عن الرؤية الهندوسية للإسلام كشريعة سماوية يعتنقها ملايين البشر في مشارق الأرض و مغاربها، فلا يجوز لنا أن نتجاوز أبرز رجل هندوسي و زعيم هندي العصر الحديث، إنه الزعيم الكبير (المهاتما غاندي) (GANDHI) ( م1948- 1869 )

و من المعروف عن هذا الزعيم الكبير هو أنه زعيم سياسي و روحي للهند، نادی

ص: 164


1- عبد الرزاق كيلو، النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في عيون هؤلاء، جريدة الوحدة . اللاذقية بتاريخ .9 /2/ 2006

باللاعنف واتخذ المقاومة السلمية شعارا له، و عمل جاهدة على استقلال الأمة الهندية عن الاستعمار الإنكليزي و قد نجح في ذلك نجاحا رائعة لا يزال صداه يهز ضمائر الثائرين في كل أصقاع العالم.

و مهما حاولنا أن نختصر في الكلام عن مدى تأثير الرسالة الإسلامية و كتابها الأقدس، القرآن الكريم، على البنية الفكرية (للمهاتما غاندي)، فإننا نجد أنفسنا في حاجة دائمة لإلقاء المزيد من الأضواء على عمق التفاعل بين هذا الزعيم الهندوسي و بين رسالة الإسلام.

و لكن، اختصارا للوقت و منعا للإسهاب والإطالة، يمكننا أن نوجز الكلام بالقول إن هذا الزعيم الروحي والسياسي الهندي لم يكن يحترم ديانته الهندية الخاصة أكثر من بقية الأديان الأخرى بما في ذلك الديانة الإسلامية، و قد ذكر عالم الاجتماع الإنكليزي (لویس فیشر) في كتابه (غاندي الثائر القديس) أن (المهاتما غاندي): (لم يكن يؤمن أن ديانة البوذا هي وحدها كلمة الله، فهو لا يرى ما يمنع عقلا من أن يكون الإنجيل والتوراة والقرآن كلام الله كذلك... فهو بهذا بعيد عن التعصب الذميم الذي يمليه على أصحابه ضيق الأفق)(1).

و لذلك، فالإسلام- بالنسبة للزعيم (غاندي) - هو دين التعايش والسلام، دین الحب والانعتاق من الأنانية الآثمة، نعم، إنه - غاندي- يؤمن أن كل الأديان السماوية تدعو إلى ذلك و تحاول جاهدة نشر تلك المفاهيم النبيلة بين أتباعها، لكنه كان دائما يسعى إلى التقرب من المفكرين المسلمين بالدرجة الأولى بهدف إقامة أوثق

ص: 165


1- لويس فيشر، غاندي الثائر القديس، ترجمة: صوفي عبد الله، سلسلة كتاب الهلال، العدد 8، القاهرة، 1952، ص52.

العلاقات الفكرية معهم والاستزادة من علوم القرآن الكريم الذي قرأه (غاندي) في حياته مرات و مرات إلى أن بلغت درجة احترامه له أن وقف في اليوم الذي توفيت فيه زوجته (کاستور باي) على جثمان زوجته المسجى أمامه وراح يقرأ عليه آيات من الذكر الحكيم و بعض الأدعية من الكتب الأخرى(1).

أما عن موقف هذا الزعيم العظيم من شخصية الإمام الحسين علیه السلام، فحدث و لا حرج، غير أننا لن نفصح عن ذلك الموقف المميز للزعيم (غاندي) إلا في المكان المناسب في الصفحات القادمة من هذا الكتاب، و لكن يكفي أن نقول هنا إن الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة للزعيم الكبير (غاندي) كان دائما و أبدا رمز الحياة القرآنية الكريمة، و قدوة الأخلاق الإنسانية و قيمها، و مقياس الحق(2).

و هكذا نرى أن الإسلام السماوي الذي جاء به الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم إلى بني الإنسان ما هو في جوهره إلا رسالة أخوة و محبة و توحيد و سلام، فالرسالة الإسلامية لا تدعو في حقيقتها إلى العنف و لا إلى سفك الدماء بين بني البشر، و إنما هي رسالة نبيلة تدعو- كما لاحظنا في ما قاله المفسرون والأدباء المسيحيون والهندوس - إلى صقل إنسانية الإنسان وإلى نشر الخير والفضيلة بين أفراد الأسرة الآدمية على الأرض.

و هنا لنا أن نتساءل قائلين:

إذا كان الأمر هو حقا كما ذكرنا و كما ذكر و أكد عليه الأدباء والمفكرون المسيحيون و غيرهم، فمن أين جاءت، إذن، ظاهرة الإسلام الدموي العنيف؟!

ربما يبدو الجواب على هذا السؤال في الوهلة الأولى عسيرا بعض الشيء، و ربما

ص: 166


1- نفس المصدر السابق ص210.
2- عبد الله عدنان المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد (50)، إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، تموز . آب، 1993، ص44.

يرى البعض الآخر أيضا أن الجواب الشافي على هذا السؤال ليس صعبا فحسب بل إنه مستحيل تمام الاستحالة و لا يمكن الإجابة عليه بأي حال من الأحوال.

و لكن نقول إن هناك جماعة من المفكرين والباحثين المسلمين و غير المسلمين لهم وجهة نظر مختلفة عن وجهات النظر السابقة، و هم يؤكدون على حقيقة أن بإمكانهم أن يقدموا لنا المبررات الكافية والمسوغات المقنعة التي كان لها الدور الأبرز في جعلهم يتبنون وجهة نظرهم المختلفة هذه، بل هم يؤكدون أيضا على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه يتجاوزه إلى حقيقة أخرى و هي أن الجواب على السؤال المطروح هو جواب سهل و في غاية البساطة، و بالتالي، ما على الذي يريد الوصول إلى الجواب المطلوب إلا أن يعمل عقله بشكل جيد و جدي، و أن يعود بذاكرته للوراء إلى اللحظات الأولى بعد وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى من أجل أن يعرف ماذا حدث بالتفصيل، و من أجل أن يدرك أيضا أن ما حدث بعيد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد ترك آثارا عميقة و دائمة في مجری تاريخ المسلمين و على امتداد تاریخ الرسالة إلى يومنا هذا.

إذن، دعونا الآن نمتطي صهوة الزمن و نعود وراء إلى اللحظات العصيبة الأولى التي تلت وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لنرى ماذا حدث و قتذاك و ماذا ترتب على ذلك من أمور و متغيرات كان لها الدور الأبرز في تغيير و تشويه أهم و أنبل المفاهيم الإسلامية التي جاء بها الرسول الكريم صلی الله عیه و آله و سلم و نادي بها القرآن الكريم.

و من الضروري أن نفكر هنا أن الكتاب الذي سنعتمد عليه بالدرجة الأولى لقراءة الأحداث التي أعقبت غياب الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى هو كتاب (الإمامة والسياسة) والمعروف أيضا باسم کتاب تاریخ الخلفاء للإمام الفقيه أبي

ص: 167

محمد عبد الله بن مسلم قتيبة الدينوري (213-276 ه).

و لكن هذا لا يعني أننا سنقتصر في دراستنا لحادثة سقيفة بني ساعدة على كتاب (الإمامة والسياسة) فقط، بل سنعتمد أيضا على كتب و مراجع أخرى تناولت تلك . الحادثة بشيء من التفصيل والتوضيح.

و على كل حال، ها نحن ننقل ما ذكره (ابن قتيبة الدينوري) في كتابه (الإمامة والسياسة) حول حادثة السقيفة و ما جرى فيها من القول.

يقول (الدينوري) في الحديث مرفوعا إلى عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أنه قال:

(إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قبض، اجتمعت الأنصار رضي الله عنهم إلى سعد بن عبادة، فقالوا له: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد قبض، فقال سعد لابنه قیس رضي الله عنهما: إني لا أستطيع أن أسمع الناس کلاما لمرضي، و لكن تلق مني قولي فأسمعهم، فكان سعد يتكلم، و يحفظ ابنه رضي الله عنهما قوله، فيرفع صوته لكي يسمع قومه، فكان مما قال رضي الله عنه، بعد أن حمد الله تعالى و أثنى عليه: يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، و خلع الأوثان.

فما آمن به من قومه إلا قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يعرفوا دينه، و لا يدفعوا عن أنفسهم، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة و ساق إليكم الكرامة، و خصکم بالنعمة، و رزقكم الإيمان به و برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، والمنع له و لأصحابه، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم، و أثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا الأمر الله تعالى طوعا و كرها، و أعطى البعيد

ص: 168

المقادة صاغرا داحرا حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، و دانت بأسيافكم له العرب، و توفاه الله تعالى و هو راض عنكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس و أولاهم به.

فأجابوه جميعا: أن قد و فقت في الرأي و أصبت في القول، و لن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر، فأنت مقنع و لصالح المؤمنين رضا، قال فأتي الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، ففزع أشد الفزع، و قام معه عمر رضي الله عنهما، فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فانطلقوا رضي الله عنهم جميعا، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة، و فيها رجال من الأشراف، و معهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، فأراد عمر رضي الله عنه أن يبدأ بالكلام، و قال: خشيت أن يقصر أبو بكر رضي الله عنه عن بعض الكلام، فلما تيسر عمر للكلام، تجهز أبو بكر رضي الله عنه و قال له: على رسلك، فستكفي الكلام، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، وانتصب له الناس، فقال: إن الله جل ثناؤه بعث محمدا صلی الله علیه و آله و سلم بالهدى و دين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالی بنواصينا و قلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامة، والناس لنا فيه تبع، و نحن عشيرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و نحن مع ذلك أوسط العرب أنسابة، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا و لقريش فيها ولادة، و أنتم أيضا والله الذين آووا و نصروا، و أنتم و زراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أنتم إخواننا في كتاب الله تعالی و شركاؤنا في دين الله عز وجل، و فيما كنا فيه من سراء و ضراء، والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس إلينا، و أكرمهم علينا، و أحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عز وجل و لما ساق لكم و لإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، و هم أحق الناس فلا تحسدوهم، و أنتم

ص: 169

المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين و أنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم و أبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم، و إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر، و كلاهما قد رضيت لكم و لهذا الأمر، و كلاهما له أهل.

فقال عمر و أبو عبيدة رضي الله عنهما: ما ينبغي لأحد من الناس أن یکون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار ثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر.

فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، و إنا لكما و صفت یا أبا بكر والحمد لله، و لا أحد من خلق الله تعالی أحب إلينا منكم، و لا أرضى عندنا و لا أيمن و لكنا نشفق مما بعد اليوم، و نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا و لا منکم، فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد وأن يكون بعضنا يتبع بعضا، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، و يشفق أن يزيغ الأنصاري فيقبض عليه القرشي

فقام أبو بكر، فحمد الله تعالى و أثنى عليه، و قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلی الله علیه و آله و سلم رسولا إلى خلقه و شهيدة على أمته ليعبدوا الله و يوحدوه و هم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى، يزعمون أنها لهم شافعة، و عليهم بالغة نافعة، و إنما كانت حجارة منحوتة، و خشبا منجورة (أي صنعها النجار)، فاقرؤوا إن شئتم «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(1)، «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ

ص: 170


1- سورة الأنبياء: الآية98.

اللَّهِ ۚ»، و قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَي اللَّهِ زُلْفي»(1)، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له والصبر معه على الشدة من قومهم، و إذلالهم و تكذيبهم إياهم و كل الناس مخالف عليهم، زار (غائب) لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم و إزراء الناس بهم واجتماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، و أول من من بالله تعالى و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و هم أولياؤه و عشيرته، و أحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم، و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم و لا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصارة لدينه و لرسوله، و جعل إليكم مهاجرته، فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء، لا نقتات (أي لا نستأثر) دونكم بمشورة، و لا تنقضي دونكم الأمور.

فقام الحباب بن المنذر بن زید بن حزام رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم و ظلالکم، و لن يجير مجير على خلافکم، و لن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثرو وأولو العدد والنجدة، و إنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم و تقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، و إليكم كانت الهجرة، و لكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، و أنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم، و لا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم، و لا دانت العرب للإسلام إلا بأسیافكم، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر، و إن أبي القوم، فمنا أمير و منهم أمير.(2)

ص: 171


1- سورة يونس: الآية18.
2- سورة الزمر: الآية 3.

فقام عمر رضي الله عنه، فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، و أولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد و میراثه، و نحن أولياؤه و عشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانب لإثم أو متورط في هلكة.

فقام الحباب بن منذر رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فاجلوهم عن بلادكم، و تولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة (أي خربة قوية)، والله لا يرد على أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف.

قال عمر بن الخطاب: فلما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام لأنه كان بيني و بينه منازعة في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسؤوه أبدا.

ثم قام أبو عبيدة، فقال: يا معشر الأنصار، أنتم أول من نصر و آوی، فلا تكونوا أول من يبدل و يغير.

و إن بشيرة (بشیر بن سعد) لما رأى ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد بن عبادة، قام حسدا لسعد، و كان بشیر من سادات الخزرج، فقال: يا معشرالأنصار، أما والله لئن كنا أولي الفضيلة في جهاد المشركين، والسابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا، و طاعة نبينا، والكرم لأنفسنا، و ما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، و لا نبتغي به عوضا من الدنيا فإن الله تعالى ولي النعمة والمنة علينا بذلك.

ص: 172

ثم إن محمدا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجل من قریش، و قومه أحق بميراثه، و تولي سلطانه، و أيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله و لا تنازعوهم و لا تخالفوهم.

ثم إن أبا بكر قام على الأنصار، فحمد الله تعالى و أثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجماعة، و نهاهم عن الفرقة، و قال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة بن الجراح، أو عمر، فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك و أنت بين أظهرنا، أنت أحقنا بهذا الأمر، و أقدمنا صحبة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أفضل منا في المال، و أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين، و خليفته على الصلاة، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، و يتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك أبايعك.

فلما ذهبا یبایعانه سبقهما إليه بشير الأنصاري فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: یا بشیر بن سعد، عقك عقاق (أي مخالفتك لنا أمر صعب و مر)، ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدك ابن عمك على الإمارة؟

قال: لا والله، و لكني كرهت أن أنازع قوما حقأ لهم، فلما رأت الأوس ما صنع بشیر بن سعد و هو من سادات الخزرج، و ما دعوا إليه المهاجرين من قريش، و ما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، و قال بعضهم لبعض و فيهم أسيد بن حضير: لئن وليتموها سعدة عليكم مرة واحدة، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، و لا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، فقاموا إليه فبايعوه، فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه، فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها یا معشر الأنصار، أما والله لكأني

ص: 173

بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد و قفوا يسألونهم بأكفهم و لا يسقون الماء.

قال أبو بكر: أما تخاف یا حباب؟

قال: ليس منك أخاف، و لكن ممن يجيء بعدك، قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك، فالأمر إليك و إلى أصحابك، ليس لنا عليكم طاعة، قال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا و أنت، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.

فقال سعد بن عبادة: أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك أنت و أصحابك، و لأ لحقتك بقوم كنت فيهم تابعة غير متبوع، خاملا غير عزیز، فبايعه الناس جميعا، حتى كادوا يطئوون سعدا.

قال سعد: قتلتموني، فقيل: اقتلوه، قتله الله، فقال سعد: احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره و ترك أياما، ثم بعث إليه أبو بكر (رضی الله عنه): أن اقبل فبايع، فقد بايع الناس، و بایع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني و رمحي، و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و أقاتلكم بمن معي من أهلي و عشيرتي، و لا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، و أعلم حسابي)(1).

هذا ما أورده حرفيا الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن مسلم (ابن قتيبة الدينوري) في كتابه المعروف (الإمامة والسياسة) حول مسألة البيعة المزعومة في سقيفة بني ساعدة والتي تخللها الكثير من المشاحنات و حتى الاشتباكات بين مختلف الأطراف والأحزاب.

و هنا تحديدا، و قبل أن نكمل ما جاء في نفس الكتاب، و في غيره من الكتب

ص: 174


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي و شركاه، القاهرة، د.ت ج1 ص 17.

المعتبرة، حول تداعيات تلك البيعة الشوهاء المشؤومة، نجد أن من حقنا و من حق كل قارئ أن يطرح عدة أسئلة هامة على ضوء ما ورد في أحداث تلك البيعة التي ذكرناها منذ قليل.

و لعل أولى هذه الأسئلة التي طرحت نفسها بقوة على عقول الكثير من المفکرین والباحثين هي:

لماذا فزع أبو بكر و عمر أشد الفزع- كما يقول الدينوري - عندما بلغهما أن معظم الناس قد بايعوا سعد بن عبادة عن قناعة و رضا قائلين له بعد خطبته القصيرة: أن قد و فقت في الرأي، و أصبت في القول، و لن نعدو ما رأيت توليت هذا الأمر، فأنت مقنع و لصالح المؤمنين رضا؟!

والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه و بقوة: من أين حصل أبو بكر على الحق الذي يخوله ترشيح أبي عبيدة ابن الجراح و عمر بن الخطاب على أن يكون أحدهما خليفة على المسلمين؟! و بأي حق حضر الترشيح بين هاتين الشخصيتين فقط؟!

أما السؤال الثالث، والذي لا يقل أهمية عن الأسئلة السابقة، فهو: لو افترضنا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم يوص بالخلافة لأحد من بعده و لم يستخلف أحدا من أتباعه على المسلمين، فلماذا، إذن، رفض أبو بكر و عمر العرض المنطقي الذي تقدم به الأنصار قائلين: فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا على أنه إذا هلك اخترنا واحدة من الأنصار فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين؟!

و ليس هذا فحسب، بل لماذا كان جواب أبو بكر على هذا الاقتراح: نحن الأمراء و أنتم الوزراء؟!

و علينا أن لا يغيب عن أذهاننا أنه لما قام الحباب بن المنذر قائلا: منا أمير و منكم

ص: 175

أمير، رفض عمر بن الخطاب هذا العرض بكل قوة و عنف قائلا: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم.

فمن أين جاء عمر بن الخطاب بهذه الفتوى العجيبة؟! و أين موقع هذا الكلام من حديث المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم المشهور: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟!

و لو تركنا ما قاله ابن الخطاب جانبا، و توقفنا قليلا مع ما قاله أبو بكر مخاطبا الأنصار بقوله لهم: فهم- أي المهاجرين- أول من عبد الله في الأرض، و أول من آمن بالله تعالى و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و هم أولياؤه و عشيرته، و أحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم.

فلو فكر كل باحث في هذا الكلام الذي قاله أبو بكر للأنصار، و باحتجاجه عليهم بقوله إن الخلافة هي حق للمهاجرين لأنهم هم أولياؤه و عشيرته، و بالتالي فهم أحق الناس بهذا الأمر من بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا ينازعهم فيه إلا ظالم.

فلو فكر أي باحث في هذا الكلام قليلا، و من ثم سأل أبا بكر قائلا:

كيف فضلت المهاجرين على الأنصار، و كيف قبلت أن يكون المهاجرون هم أولياء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عشيرته والأقرب إليه، والأحق بأمر الخلافة من غيرهم، و لم تقبل أن يكون أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم الحقيقيون، و على رأسهم الإمام علي عليه السلام ، هم أولياء الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و عشيرته المقربة، و هم الأحق بهذا الأمر العظيم حيث، بالفعل، لا ينازعهم أحد فيه إلا ظالم؟!

و يمكن لذلك الباحث السائل أن يقف و يسأل أبا بكر مجددا، و بكل جرأة و ثبات: ثم ما قولك يا أبا بكر في حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم- الذي ذكرته لاحقا كتب السنة -

ص: 176

والذي يقول فيه: «من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان»(1)؟!

وآخر ما يمكن أن يسأله أي باحث عن الحقيقة: ما هذه الخلافة التي يدعي البعض أنها انعقدت بين المسلمين بطريقة الشورى في حين أن كبار الصحابة الأجلاء و كل أهل بيت النبي علیهم السلام الذين هم فعلا أهله و قرابته و عشيرته كانوا خارج دائرة الشورى و مغيبين عنها عمدا؟!

فما أصدق القائل مخاطبا أبا بكر:

فإن كنت بالشوری ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غیب؟!

و إن كنت بالقربی حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي و أقرب !!

و مهما يكن من أمر، دعونا نعود ثانية إلى كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري كي نتعرف على موقف سيدنا أمير المؤمنين علي علیه السلام من تلك البيعة الرخيصة التي حدثت في سقيفة بني ساعدة والتي دارت رحاها على المسلمين عموما منذ ذلك اليوم و حتى يومنا هذا.

و لكن، و قبل أن نكمل الكلام عن موقف الإمام علي عليه السلام من تلك البيعة الغريبة الشوهاء، نرى ضرورة لفت انتباه القارئ الكريم إلى أن الكاتب الإسلامي (ابن قرناس) يرى في كتابه المطبوع حديثا في ألمانيا، والذي يحمل عنوان براقا، (سنة

ص: 177


1- أ. الحافظ زين الدين المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مكتبة الزهراء . القاهرة، 1985، ص150. ب. الحافظ ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، المكتبة الإسلامية . طهران، 1394ه، و قد أورد ابن المغازلي نص الحديث عن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بالشكل التالي: «من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، و قد حارب الله و رسوله، و من شك في علي فهو كافر» راجع الصفحة 46 من الكتاب المذكور.

الأولين)، يرى هذا الكاتب المشهور بعدائه لأهل البيت علیهم السلام، و لكل أتباعهم، أن أبا بکر و عمر بن الخطاب قد زورا الكلام على الناس عند بيعة السقيفة، حتى أن عمر بن الخطاب نفسه- كما يقول (ابن قرناس) - قد أضمر في نفسه تزوير الكلام من أجل أن يجعل الناس يقبلون بيعة أبي بكر و يعتبرونها شرعية، غير أن أبا بكر استطاع أن ينفذ إلى أعماق عمر، و قال كل ما كان قد أضمره عمر في نفسه من تزوير(1).

أما موقف الإمام علي عليه السلام من تلك البيعة، فهو- كما ذكره الدينوري - بقوله: (ثم إن علي كرم الله وجهه أتي به إلى أبي بكر و هو يقول: «أنا عبد الله و أخو رسوله»، فقيل له: بايع أبا بكر، فقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلی الله علیه السلام، و تأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، و سلموا إليكم الإمارة؟

و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا و ميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون و إلا فبوؤوا بالظلم و أنتم تعلمون». .

فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبایع، فقال له علي: «أحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا»، (أي افعل فعلا يكون لك منه نصيب، فأنت تبایعه اليوم ليبايعك هو غدا)... فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي كرم الله وجهه: یا بن عم إنك حديث السن و هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، و معرفتهم بالأمور، و لا أری أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، و أشد احتمالا و اضطلاعا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، فإنك إن تعش و يطل بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خلیق و به

ص: 178


1- ابن قرناس، سنة الأولين، طبع دار الجمل . ألمانيا، ط2006/1 ص637.

حقیق، في فضلك و دينك، و علمك و فهمك، و سابقتك و نسبك و صهرك.

فقال علي كرم الله وجهه: «الله، الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره و قعر بيته إلى دورکم و قعور بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت و نحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بینهم بالسوية، و الله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعدا».

فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان.

قال: و خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل و لو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي کرم الله وجهه:

«أفكنت أدع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في بيته لم أدفنه، و أخرج أنازع الناس سلطانه؟»، فقالت فاطمة: «ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم»(1).

هذا بالتمام والكمال ما أورده ابن قتيبة الدينوري عن مأساة سقيفة بني ساعدة و ما دار فيها من مجالات و من تحالفات و اتفاقات تصب جميعها في مجرى التيار المناهض لأهل البيت عليهم السلام و لحق أمير المؤمنين علي عليه السلام بالخلافة والولاية.

ص: 179


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ج1 ص19.

و على الرغم من أن (الدينوري) قد أغفل - عن عمد أو عن غير عمد- العديد من الجالات الكلامية بين مختلف الأطراف، و بشكل خاص بعض العبارات التي قالها الإمام علي علیه السلام في معرض احتجاجاته على أولئك الذين نازعوه حقه في الخلافة و سلبوه إياه تحت ذرائع شتی و حجج واهية متنوعة، إلا أننا يمكننا اعتبار ما جاء في كتابه (الإمامة والسياسة) هو الأقرب للحقيقة مما جاء في العديد من الكتب الأخرى التي حاولت إخفاء حتى أبسط الحقائق مما أدى بها إلى الوقوع في تناقضات مذهلة واختلافات غريبة لا تدل في جوهرها إلا على شيء واحد، و هو الرغبة الدفينة في إخفاء الحقيقة بأي شكل كان و مهما كانت النتائج.

و هنا، على وجه التحديد، يجدر بنا التوقف عند تلك البيعة التي جاء وصفها لاحقا على لسان الخليفة الثاني بأنها كانت (فلتة من فلتات الجاهلية) حتى نرى ما هي أبعادها السياسية وتداعياتها الاجتماعية والدينية كما يراها أصحاب الفكر والأدب في العصر الحديث، و حتى نرى أيضا أثر هذه الحادثة المؤسفة جدا على المقدمات المبدئية التي قادت جماعة من القتلة المرتزقين إلى ارتكاب مجزرة كربلاء الرهيبة والتي لم يكن القصد من ارتكابها التخلص من أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل كان الهدف الأساسي أيضا اغتيال القرآن الكريم و تصفية الإسلام ذاته معتمدين في ذلك على الإرث الدموي العنيف الذي بدأ أول ما بدأ فعليا لحظة انتقال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى، و من ثم القيام بعملية التفاف من قبل بعض كبار الصحابة على مبدأ الاستخلاف والولاية، والتمويه على المسلمين بأن ما فعلوه هو التطبيق العملي المبدأ الشورى في الإسلام، و هذا بالضبط ما يراه الكثير من المفكرين والمستشرقين في كتاباتهم عن تاريخ المسلمين.

ص: 180

و مهما يكن من أمر، دعونا الآن نستعرض آراء و وجهات نظر بعض المفكرين في الشرق، والمستشرقين في الغرب كي نرى و نتعرف على الآثار السلبية التي خلفتها و راءها حادثة السقيفة التي فات عليها ما يقارب أربعة عشر قرنا من الزمان و لا نزال نعاني من تداعياتها حتى عصرنا الحاضر.

و دعونا نبدأ أولا مع الأديب والمفكر اللبناني (سلیمان کتاني)، ذلك المفكر المسيحي الذي نذر قلمه و فكره لكشف اللثام عن الكثير من القضايا التاريخية العربية والإسلامية التي تهم كل فرد عربي غيور على سلامة تاريخه و نقاوة ماضيه و أصالته.

يرى هذا المفكر الباحث عن الحقائق أن مسألة استخلاف علي عليه السلام على المسلمين هي مسألة بديهية تماما لا ينكرها إلا جاهل أو متعصب، أما المسألة الأخرى التي لا يمكن لأي شخص أن ينكرها أيضا هي مسألة تمثيل مسرحية مدبرة أطلت بفصولها البغيضة من سقيفة بني ساعدة متحدية بذلك كل وصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و أوامره.

و ها هو الأستاذ (كتاني) يحلل الحدث الجلل قائلا: (إن الاجتماع الذي حصل في السقيفة- و جثمان النبي لا يزال فاترا- كان أكبر دليل على اليقظة السريعة للميول المكبوتة المجمدة تحت ضغط الهالة القدسية التي كانت تشع من جبين المسجی الصامت الذي كان على قيد الحياة منذ ساعة، لقد وجدت تلك الميول- في هذه اللحظة التاريخية الواجمة - متنفسا لها فعبرت عن روح قبلية جاهلية لم تتمكن حتى الرسالة من و أدها)(1).

ص: 181


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد (مجموعة محمد شاطئ و سحاب)، دار المرتضى بيوت 1990 ص574.

و لهذا كان يرى الأستاذ (كتاني)، و هو المفكر المتعمق في دراسة التاريخ الإسلامي، أن الحوار الذي قام بعد موت النبي لم يكن حوارا حقيقية و لم تكن له أية علاقة بمبدأ الشورى التي يتستر بها البعض، فالمجتمعون في السقيفة لم يستدرجوا المجتمع إلى أي حوار، بل لم يستدرجوا حتى أولي الأمر منهم، لقد تحاوروا فيما بينهم و لم يستدعوا الطرف الآخر أبدا من أجل استكمال ما عقدوا الأمر على مناقشته.

و هنا يتساءل الأستاذ (كتاني) قائلا:

ثم إن المجتمعين- أي شيء دعاهم إلى الاجتماع؟ هل هو استلام الحكم أم هو الحرص منهم على الرسالة-عن طريق استلام الحكم؟

فإن يكن الأول، فلقد توصلوا إلى الغاية، و لا لزوم إلى حوار... و إن يكن الثاني - كما هو الادعاء- فلماذا الخوف من استدعاء رجل (أي علي عليه السلام) سلمه زمام الرسالة من برأ الرسالة؟(1)

و بسبب حجم مأساة هذه الحادثة التي لا يزال المسلمون، حتى يومنا هذا، يعانون الكثير من آثارها و مخلفاتها، فقد احتلت العديد من الصفحات في مؤلفات الأستاذ (كتاني) الفكرية، و يكفي أن نقول، من خلال قراءتنا المتأنية لكتابه المعروف(الإمام الحسن عليه السلام الكوثر المهدور)، أنه اعتبر أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة عبارة عن عملية تعيين مباشر و ليست عملية مبايعة فعلية و شرعية، و باختصار شديد، لقد كانت تلك البيعة- هذا إذا جاز لنا أن نسميها بيعة- خاتمة شؤوم لبيعات لاحقة قائمة على القهر والغدر و على هدر الدماء(2).

ص: 182


1- نفس المصدر السابق ص578.
2- سليمان كتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور (مجموعة محمد)، دار المرتضى . بیروت، 1990، ص684.

و بطبيعة الحال، فإنه لا يمكننا أن نستفيض في شرح موقف الأستاذ المفکر (سليمان الكتاني) بشأن مأساة السقيفة و ذلك لسبب بسيط و هو أنه ما من كتاب كتبه الأستاذ (كتاني) عن الإسلام إلا و تناول فيه و قائع تلك الحادثة المؤسفة و أبعادها المختلفة بنفس الأسلوب و بنفس الموقف، و لذلك ليس هناك من ضرورة لتكرار و جهات نظره المتماثلة والواردة في كل مؤلفاته.

و لذلك، دعونا الآن أيها الأحبة، نتعرف على موقف رجل آخر من رجال الفكر والمعرفة، دعونا نتعرف على موقف الأديب والمفكر المسيحي (أنطون بارا) الذي سبق و أن عرفنا به، و بمؤلفاته، و بمكانته الفكرية في فصل سابق من هذا الكتاب.

فمن أهم النقاط الحساسة التي يمكن أن نذكرها هنا هي تلك النقطة التي يركز عليها الأستاذ (بارا) في بداية حديثه عن البيعة الناقصة في سقيفة بني ساعدة، و يمكننا أن نوجز الكلام عن تلك النقطة بالقول إن الأستاذ (بارا) يرى أن ما حدث في فاجعة کربلاء هو الثمرة الطبيعية لما حدث في يوم السقيفة.

فما فعله یزید بن معاوية بالإمام الحسين عليه السلام لم يمكن في حقيقته إلا المرأة العاكسة لما فعله (الخلفاء) الأوائل بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، فيزيد (لع) لم يفعل كل ما فعله إلا اقتداء بسياسة الآباء والأجداد و ما فعلوه مع أهل بيت النبوة علیهم السلام(1)

و قد أضاف الأستاذ (بارا) على ذلك قائلا: (و قد جاءت وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لتكشف عن استمرارية تمکن روح القبلية بين المسلمين، إذ لم تمضي ساعات على وفاة الرسول الأعظم، حتى بدأت المداولات هنا و هناك بمعزل عن جموع أمة الإسلام

ص: 183


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص197

العريضة... و كان عامل الذهول الذي أصاب المسلمين بوفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قد جعلهم يتناسون عهد النبي إلى علي بن أبي طالب عليه السلام) (1)

و على الرغم من أن المفكر المسيحي المصري الدكتور (نظمي لوقا) كان رأيا خجولا حول أحداث السقيفة و حول المآسي الكثيرة التي نتجت عنها، إلا أن ذلك الخجل الواضح في الرأي الصريح لم يمنعه من التأكيد على أن بيعة أبي بكر لم تكن في حقيقتها سوى (فلتة) من فلتات الجاهلية .- كما عبر عنها عمر- و لم يمنعه ذلك أيضا من اعتبار تلك البيعة حدثا جسيما و يوما عاصفة في تاريخ الإسلام(2).

إذن، فإن رأي الدكتور (نظمي لوقا) هو حقا رأي خجول قياسا برأي الأديب والمفكر (أنطون بارا)، و لكن، و بالرغم من ذلك كله، فإنه لم يجد حرجا في شرح مقولة أبي بكر المعروفة، والتي قالها بعد استلامه مقاليد الخلافة: (... ألا و إن لي شیطان يعتريني ! فإذا أتاني فاجتنبوني)، فقد علق الدكتور (لوقا) عليها قائلا:

(و ما من شك في أن التعبير بهذا اليسر الشديد عن حدة الطبع بأنها شيطان يعتريه يدلنا على أمرين: أنها حد معهودة فيه لا يستغرب عارفوه أمرها، فهي عندهم مفروغ منها، و أنها شديدة شدة بالغة لها تأويلا أو تشبيها إلا مس الشيطان، ذلك أنها تتجاوز كل حد)(3).

و هنا يمكن أن تتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلة الملكة التي تبحث عن أجوبة شافية كافية، و من هذه الأسئلة الملحة قولنا:

ص: 184


1- نفس المصدر السابق ص197.
2- د. نظمي لوقا، أبو بكر (سلسلة كتاب الهلال)، العدد 242، دار الهلال . القاهرة، عدد مارس (آذار)، 1971، ص154.
3- نفس المصدر السابق ص48.

(كيف يمكن لمن لديه (شیطان) يعتريه و يسيطر عليه بين الحين والآخر أن يكون هو حقا خليفة الرسول الكريم صصلی الله علیه و آله و سلم الذي وصفه خالقه في محكم تنزيله بأنه على خلق عظیم

ثم كيف يمكن لأي عقل سليم أن يقبل فكرة أن كل المسلمين قد قبلوا ذاك الذي فيه حدة طبع، لدرجة تشبيهها بمس من الشيطان، و تفضيلهم إياه على ذاك الإمام الذي هو أحد الأقطاب الهامة في الآية القرآنية الكريمة التي تؤكد على أنه عليه السلام أحد الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا؟!

إنها أسئلة طبيعية و منطقية يمكن أن تقتحم أذهان الكثير من أولئك الذين يريدون أن يقرأوا ماضيهم و يتفهموه بروح موضوعية و حيادية، بل و أن يتعرفوا أيضا على شيء من الأسباب المباشرة للمأساة التي يعيشها الإسلام المعاصر بعد أن تم تفريغه من محتواه الروحي و تشويه رسالته الإنسانية بعد أعوام قليلة من ولادته.

و على كل حال، فإن هناك الكثير من المفكرين المعاصرين يعتقدون أن مسألة تحول الإسلام من إسلام الرسالة الإنسانية والكلمة الطيبة إلى إسلام الدماء المسفوحة والكرامة المهدورة قد بدأت فعليا يوم السقيفة، و ما تلك الحوادث الدمائية المفجعة التي شهدتها الساحة الإسلامية لا حقا إلا الثمرة الطبيعية الناضجة للغرسة الأولى التي غرسها بعض (الصحابة) في تربة السقيفة إثر وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بساعات قليلة.

و هنا يمكننا الوقوف مع واحد من أبرز الكتاب الإسلاميين المعاصرين في مصر، إنه المفكر الإسلامي المصري (خليل عبد الکریم) صاحب المؤلفات الإسلامية المتعددة والتي حاول من خلالها أن يقيم الأحداث الإسلامية الأولى التي قام بها الصحابة، لكنه لم يفلح في تقييمه لها حيث كان من المفترض لذلك التقييم أن يكون

ص: 185

منطقيا و موضوعيا تماما، لا أن يكون التقييم تقييما استثنائية يجعل من بعض الصحابة أشخاص فوق مستوى التقييم و فوق كل الاعتبارات والموازین.

و لكن، و بالرغم من كل ذلك كله، يرى الأستاذ (عبد الكريم) أن سياسة قتل المعارضين بالسيف والنار التي نراها على الساحة الإسلامية في عصرنا الحاضر إنما هي سياسة تعود في أصولها و جذورها إلى سنة عمر ابن الخطاب، تلك السنة التي لا يزال يدفع المسلمون ضريبتها منذ ذلك الوقت و حتى اليوم(1).

و لم يكتف الأستاذ (عبد الكريم) بذکر تجاوزات عمر بن الخطاب للأحكام القرآنية و للسنة النبوية بشأن التكفير والقتل و تعطيل بعض الحدود في كتابه (قریش من القبيلة إلى الدولة المركزية)، بل إنه عاد و ذكر العديد من تلك التجاوزات الخطيرة في أماكن عديدة في كتابه الأكثر شهرة (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة)، حتى أنه تطرق في الجزء الثاني من هذا الكتاب إلى حادثة السقيفة و إلى حقيقة أن عمر بن الخطاب لجأ في حواره مع المعارضة إلى أسلوب القمع والإرهاب بدلا من الحوار والإقناع لدرجة أنه أمر بتصفية سعد بن عبادة جسديا حيث قال صائحا: (اقتلوا سعدا قتل الله سعد)(2)، و هو أسلوب ترفضه شريعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم جملة و تفصيلا.

والحق يقال: فإن رأي المفكر الإسلامي المعاصر (أحمد عباس صالح)، و هو أيضا مفكر ستي، لا يختلف كثيرا عن موقف الأستاذ المفكر (خليل عبد الكريم) من حيث تقييم واقعة السقيفة و تداعياتها الاجتماعية والسياسية على أمة المسلمين.

ص: 186


1- خليل عبد الكريم، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، سينا للنشر . القاهرة، 1993، ص10.
2- خليل عبد الكريم، شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة السفر الثاني)، سينا للنشر . القاهرة، ط1/ 1997، ص85.

يرى الأستاذ (صالح) في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام) أن الإمام عليا علیه السلام هو، في الحقيقة، صورة النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم الصادقة التي تعكس جميع فضائله الحميدة و كل خصاله الجليلة، و هو الرأس الأساسي الذي يمثل اليسار الثوري في الإسلام بعد الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و يؤكد الأستاذ (صالح) أيضا على أن الإمام عليا عليه السلام و صحبه كانوا إلى جوار النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يبكونه و يعدون العدة لدفنه بالطريقة اللائقة به، في حين اندفع عمر بأبي بكر- و جثة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم تبرد بعد - إلى السقيفة ليبتوا في مسألة من سيخلف الرسول صلی الله علیه و آله و سلم(1)

و لا يرى الأستاذ (صالح) أي حرج في القول إن حزب اليمين من المسلمين، ذلك الحزب الذي يضم الأرستقراطيين، و أصحاب الجاه المادي، و ذوي النزعات الاستغلالية، و أهل المآرب الشخصية والمصالح الخاصة كانوا من مؤيدي بيعة أبي بكر التي دفعه إليها صاحبه عمر بن الخطاب، بينما كانت غالبية المسلمين مع الاتجاه اليساري الذي يمثله علي و أصحابه، وأضاف الأستاذ (صالح) معللا ذلك بقوله: (إن جماهير المسلمين العريضة كانت مع هذا الاتجاه (أي مع علي عليه السلام) لأن النبي نفسه كان زعيمه و واضع مبادئه الأساسية، و أي اتجاه مضاد كان سيقابل بالعنف، و كان سيقضي عليه في المهد.

و لذلك جاءت خلافة أبي بكر فرصة ليستجمع فيها اليمين قواه و يرتب للوثوب على الحكم بعد أن قضى النبي الذي لم يجرؤ أحد في حياته أن ينحرف بالدعوة إلى اتجاه غير اتجاهها)(2).

ص: 187


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت، ط2/ 1973، ص58.
2- نفس المصدر السابق ص59.

و غني عن الاستفاضة في الشرح والتوضيح، إن معنی کلام الأستاذ (صالح) هو أن الطريقة التي جاء بها أبو بكر إلى الحكم هي الطريقة التي مهدت للآخرين شبل الالتفاف والانقضاض على الإسلام الذي نادى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آزره عليه علي علیه السلام .

و يمكننا القول إن أوضح و أقوى عبارة قالها الأستاذ (صالح) حول هذه المسألة هو أن اليمين لم يكن هو الوحيد الذي يخشى اليسار الذي يمثله الإمام علي عليه السلام الخليفة الحقيقي للرسول ، بل إن عمر و أبا بكر (جماعة الوسط) أيضا كانوا يخافون من الإمام علي علیه السلام، الممثل الفعلي للتعاليم التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و لذلك (حين حضرت الوفاة أبا بكر الصديق كان أهم ما حرص عليه هو أن تتم البيعة لعمر بن الخطاب، و كانت و صايته للجميع بذلك)(1) بهدف منع الإمام علي عليه السلام من استلام زمام الخلافة و عدم السماح له بتطبيق ما أراد محمد صلی الله علیه و آله و سلم القيام به بين المسلمين.

و أنا شخصيا أعتبر أن كل ما قاله أولئك المفكرون الذين أسلفنا ذكرهم حول مأساة السقيفة مجرد قبس من نور الحقيقة قياسا بما قاله المفكر المصري الكبير (عبد الفتاح عبد المقصود)، ذلك المفكر المبدع الذي رفض أن يكتفي بأخذ مجرد قبس بسيط من وهج الحقيقة، بل أراد أن يأخذ الحقيقة كلها كما هي في بطون كتب التاريخ والسير، نعم، لقد أراد الأستاذ (عبد المقصود) أن يقدم الحقيقة للقارئ بكل أبعادها و تبعاتها، بكل حلاوتها و مرارتها، و لكن ليس بأسلوب تاریخی جامد لا يعرف المرونة، بل بأسلوب حيوي مثير، و هو أقرب للأدب منه للتاريخ و إن كان التاريخ هو مادته الأساسية والجوهرية.

ص: 188


1- نفس المصدر السابق ص60.

و يكفي أن نقول إن كتاب الأستاذ (عبد الفتاح عبد المقصود)، و هو كتابه الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته، والذي يحمل عنوان (الإمام علي بن أبي طالب)، يعد مفخرة فكرية حقيقية لذلك المؤلف السني الكبير.

و غني عن الإسهاب في القول إن ذلك الكاتب المتميز قد وضع خلاصة فكره عن حقيقة أهل البيت علیهم السلام في ذلك الكتاب المذكور والذي يتكون من تسعة أجزاء غاية في الترابط والتكامل، و لا يكاد القارئ يمسك بالجزء الأول و يبدأ بقراءته حتى يشعر برغبة عارمة تدفعه ما لقراءة بقية الأجزاء جزءا تلو الآخر دون الشعور بالتعب أو الملل.

و لا ريب في أن مسألة السقيفة قد شغلت حيزا لا بأس به من الكتاب المذكور، و قد حاول (عبد المقصود) أن يكون منطقيا و موضوعية قدر الإمكان في حديثه عن تلك الواقعة الأليمة.

و نستطيع القول أنه كان مقبولا جدا في موضوعيته و في كيفية عرضه و تقييمه لتلك الحادثة و للأحداث المأساوية الأخرى التي جاءت لاحقا بمثابة النتائج الطبيعية لها.

و مما يلفت النظر حقا، هو أن الأستاذ (عبد المقصود) قد أعطى الصديقة البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام دورا عظيما في مسألة الدفاع عن مبدأ الخلافة أو الإمامة التي أرادها الله و رسوله لأمير المؤمنين علي عليه السلام دون غيره من بقية الأصحاب.

و بالنسبة لمن يعرف السيدة الزهراء فاطمة علیهاالسلام جيدا، لن يكون مستغربا من الوصف الذي صورها به الأستاذ (عبد المقصود) و هي تدافع عن وصية أبيها المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و عن حق زوجها المرتضى عليه السلام، و بالفعل، فقد أجاد الأستاذ (عبد

ص: 189

المقصود) عندما أتى على وصف جزء من شخصيتها الكاملة المتكاملة بقوله في الجزء الأول من كتابه واصفا إياها علیهاالسلام و هي تدافع عن كلمة الحق الجريحة بعد أحداث السقيفة: (لعبت فاطمة دورها و هي شديدة الإيمان بأنه لزام عليها أن تفعل، و أن تدعو، و أن تكافح غير وانية، و وقفت إلى جوار زوجها المظلوم تنضح عنه باللسان و ليس لها عدة سواه... فكأنها بفعلها ارتدت (خديجة أخرى)، لا يقعدها خذلان القوم زوجها عن الكفاح، بل راحت ترسم نفسها بلون الماضي لتبدو صورة بارزة الظلال والأضواء، واضحة المعالم، نابضة بالحياة، عاشت فيها الأم في الفتاة)(1).

نعم، إن هذا الكلام صحيح كله بلا أدنی ریب، بل يمكننا القول إنه عين الحقيقة، ففاطمة الزهراء علیهاالسلام هي حقا خديجة الكبرى (علیها سلام الله) قلبا و قولا، فكرا و عملا، بل كيف لا تكون فاطمة صورة عن أمها خديجة عليهالسلام إذا كانت هي ذاتها علیهاالسلام صورة عن أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم؟!

فعندما تكون فاطمة علیهاالسلام هی- كما وصفها أبوها صلی الله علیه و آله و سلم- (أم أبيها)، فكيف لا تعيش الأم في جوهر الفتاة أيضا؟!

و على كل حال، إن موقف السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام من أحداث السقيفة التي قادت لاحقا إلى حدوث الكثير من التجاوزات والاعتداءات السافرة على نصوص القرآن الكريم، و إلى حدوث الكثير من الاقتتالات والمجازر بين المسلمين، و لعل أشهرها و أكثرها عنفا و دموية مجزرة كربلاء التي تم فيها اقتلاع ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 190


1- عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن أبي طالب، مكتبة العرفان . بیروت، د.ت ج1 ص181.

و إلقائه عطشانة و مرملا بدمائه الطاهرة فوق رمال كربلاء، إن موقفها علیهاالسلام من أحداث السقيفة، و معرفتها اليقينية بما ستؤول إليه الأحوال بعد أن نكث الكثير من المسلمين ببيعتهم لزوجها علي عليه السلام ، لهو موقف يستحق التوقف عنده طويلا، و لكن لن نقوم الآن بذلك لأن ذلك سيجعلنا - بلا ريب - في موقف الخروج عن جوهر کتابنا الأساسي المتمحور حول أحداث کربلاء و تداعياتها على المستويين الإسلامي والإنساني.

و لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن الأستاذ (عبد المقصود) لم يخف وجهة نظره الخاصة عن القارئ عندما اعتبر أن ما حدث في السقيفة هو عبارة عن حركة سياسية انتهازية أخجلت كل المسلمين الذين تجاهلوا بيعة علي عليه السلام و حقيقة مكانته في سفر الرسالة الإسلامية إلى جانب ابن عمه الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد أبرز الأستاذ (عبد المقصود) هذه الحقائق عندما ذكر الحوار الهام جدة الذي دار بين السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام و بين المسلمين الذين أسفوا و أبدوا ندمهم على ما كان منهم من تفريط واضح بحق الإمام علي عليه السلام.

فعندما سألتهم عليهاالسلام عن تفريطهم بحق الإمام الوصي علیه السلام، كانوا يجيبونها خافضي الرؤوس، کاسفين:

(يا بنت رسول الله ... قد مضت بيعتنا للرجل).

و تجيبهم هي مستنكرة فعلتهم و تناسيهم لحقه في الولاية:

«أفتدعون تراث رسول الله يخرج من داره إلى غير داره؟!»

فلا يجدون لهذا الاستنكار ردا سوى الأسف على ما سلف منهم، والاعتذار عنه: (يا بنت رسول الله ... لو أن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به).

فيقول علي عليه السلام:

ص: 191

«أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه، ثم أخرج أنازع الناس سلطانه؟!».

و هنا تحديدا، يعلق الأستاذ (عبد المقصود) على هذا الحوار و على ما قاله الإمام علي عليه السلام بقوله:

و لكنها (أي مقولة علي عليه السلام السابقة) حجة لا تغني في حساب السياسة النهازة (الانتهازية) العادية و إن أغنت في حساب الأخلاق القويمة الصافية....

و إن فاطمة لتعبر عن هذا في أوجز بیان فتجيب القوم و هي تنهض عنهم نافضة يدها من تأييدهم المأمول:

«ما صنع والله أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له... و قد صنعوا ما الله حسيبهم عليه»(1).

إذن، ما حدث في السقيفة ما هو في حقيقته- كما عبر عنه الأستاذ (عبد المقصود)- إلا عملية سياسية انتهازية جائرة لا يمكن للإمام علي عليه السلام أن يهبط إلى مستوى من خطط لها و نفذها و جني ثمارها ضاربا بمصلحة المسلمين و بوصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم عرض الحائط.

أما ما يتعلق باغتيال سعد بن عبادة، فقد سخر الأستاذ (عبد المقصود) من أولئك البسطاء الذين يصدقون إشاعة أن الجن قد قتلته ليلا، بل رجح الأستاذ (عبد المقصود) فكرة أن الذي قتل سعد بن عبادة، المعارض البارز لخلافة أبي بكر، هو خالد بن الوليد.

و كانت حجة الأستاذ (عبد المقصود) على ذلك هي عدم القدرة، بالفعل، على تبرئة خالد بن الوليد من أعمال كهذه، و ذلك لأن تاريخه الأسود السابق يشهد عليه

ص: 192


1- نفس المصدر السابق ج1 ص182.

بذلك، و بأنه (لم يكن بالنقي الصفحة كل النقاء من العدوان)(1)، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضا أن خالدة كانت له أهدافه الخاصة، و كان من المقربين من أبي بكر في الوقت الذي كان فيه معادية لكل من يأبی مبايعته خليفة على المسلمين.

و لا يمكنني هنا أن أتجاهل أو أتجاوز ما جاء في كتاب (تاريخ الإسلام) للدكتور (حسن إبراهيم حسن) بشأن تلك البيعة السقيمة والتي حاول الدكتور (حسن) أن يدافع عنها و يبرر حدوثها بشتى السبل والوسائل المنطقية و غير المنطقية.

و على الرغم من دفاعه المستميت عن تلك البيعة الباطلة، إلا أنه لم يجد بدا من الاعتراف بعدم كمالها و نضوجها، و هذا ما يعني عدم صحتها، و ذلك عندما قال صاغرة: (و تسمى بيعة السقيفة بالبيعة الخاصة لأنه لم يبايعها إلا نفر قليل من المسلمين هم الذين حضروا السقيفة)(2).

و هذا ما يؤكد كذب زعم أولئك النفر من الكتاب والمؤلفين الذين يزعمون أن كل المسلمين قد أجمعوا وقتها على بيعة أبي بكر خليفة عليهم قبل أن ينفض المجلس، و أن أمرهم كان شوری بینهم جميعا.

فقد تم تفريغ مبدأ الشورى من محتواه الأساسي تماما، و حولوه إلى لعبة سياسية، و إلى واجهة عريضة تخفي وراءها الكثير من المصالح الخاصة والمنافع الشخصية المتبادلة.

و لعل الباحث والصحافي (نبيل فياض) هو واحد من أكثر الباحثين جرأة و إقدامة على طرح مسألة السقيفة و على ما خلفته من آثار سلبية كثيرة على عموم الأمة

ص: 193


1- نفس المصدر السابق ج1 ص153.
2- د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط 7/ 1964 ، ج1 ص205.

الإسلامية.

و يكفي أن نقول إن الأستاذ (فياض) يعتبر أن سقوط العرب والمسلمين من التاريخ، بل خروجهم الخالي منه، إنما هو النتيجة الحتمية لما حدث بداية في السقيفة من صراع واقتتالي، ذلك الاقتتال الذي انتهى بتنصيب أبي بكر زعيما على جثة سعد بن عبادة و على اغتيال حقوق أهل البيت عليهم السلام، هذا بالإضافة إلى المحاولة الجادة من قبل عمر و أبي بكر و خالد بن الوليد لأخذ البيعة من الإمام علي علیه السلام بالقوة والترهيب و لو أدى الأمر إلى قتله و قتل زوجته فاطمة الزهراء علیه السلام و إحراق البيت على من فيه(1).

فالممارسات الخاطئة والمؤسفة التي قام بها كبار الصحابة، والتي ذكر الأستاذ (فياض) معظمها في كتابه (یوم انحدر الجمل من السقيفة)، هي حقا المفتاح المناسب لعملية إخراجنا الراهن من التاريخ والعيش على هامشه روحيا و فكريا.

فما معنى أن تصدر الأوامر بإحراق بيت النبوة على من فيه؟!

أليست تلك محاولة جدية لإطفاء نور الله؟!

أليس هذا العمل المؤلم، بالإضافة إلى بقية الأعمال والتجاوزات الأخرى الواضحة التي قام بها الصحابة الأوائل و من حذا حذوهم لاحقا ممن تسموا بالخلفاء، هي أحد أهم المبررات الرئيسية التي اتخذها یزید بن معاوية (لعنت الله به) درعا و ستارا له في عملية إبادة أهل بيت النبوة والتخلص منهم نهائيا و على رأسهم سبط رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ريحانته، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، سيد الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام؟!

ألا يحق للقارئ أو للباحث الحيادي، و بشكل خاص من غير المسلمين، أن يرى في شخص یزید بن معاوية (لعنت الله به) التلميذ النجيب الذي تتلمذ فكرة و ممارسة على أيدي

ص: 194


1- نبيل فياض، يوم انحدر الجمل من السقيفة، منشورات، EXACT ليماسول، ص34.

من سبقه من (أولي الأمر) من المسلمين؟

ألا يحق لكل ذي بصيرة أن يرى في ما قام به یزید اللعين بحق الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء هو الامتداد الطبيعي لما قام به الأوائل في مأساة السقيفة؟!

و على كل حال، فإن إدراك حجم الكارثة التي لحقت بالإسلام والمسلمين من جراء ما حدث في السقيفة ليس حكرا على الباحثين والمفكرين المسلمين، بل إن ذلك الإدراك قد تعداهم إلى غيرهم من المسيحيين أيضا في الشرق والغرب.

و على سبيل المثال، لا الحصر، يرى المفكر اللبناني المسيحي (نصري سلهب) في كتابه (في خطي علي) أن المسلمين قد دفعوا، و لا يزالون يدفعون ثمن خطئهم نتيجة انحرافهم عن وصايا رسولهم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن ولاية الإمام علي علیه السلام عليهم.

واعتبر الأستاذ (سلهب) أن ما قام به الشيخان في السقيفة خطأ عظيم و جسيم، و إن ما قاما به سوية ما هو إلا عصيان واضح لأ وامر الرسول الكريم صصلی الله علیه و آله و سلم الذي لم يحترما وصيته في حياته و لا بعد مماته(1).

و بما أن كتاب ذلك المفكر المسيحي عن الإمام علي عليه السلام و سيرة حياته، فمن الطبيعي أن لا يذكر الأحداث الدامية والفجائع المريرة التي حدثت بعده، و لا سيما ما حدث لابنه الإمام الحسين علي علىه السلام رمال كربلاء، و لكن الأستاذ (سلهب) تحدث عن مأساة أخرى لا تقل أهمية- بنظره - عن بقية الكوارث التي جاءت لاحقا بعد رحيل الإمام علي علیه السلام.

فالحادثة التي رأى فيها الأستاذ (سلهب) الاستمرار المدروس لما و قع في السقيفة، والتي نراها نحن فاجعة حقيقية لا تقل مكانة وأهمية عن ما حدث في كربلاء،

ص: 195


1- نصري سلهب، في خطى علي عليه السلام ، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1973، ص92.

هي تلك المحاولة الجادة من قبل بعض صحابة الرسول صلی الله علیه وآله و سلم لإحراق بيت النبوة، بيت علي و فاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، و إجبار الإمام علي عليه السلام على التنازل عن حقه و مبايعة أبي بكر خليفة على المسلمين.

و قد أكد الأستاذ (سلهب) على ذلك بقوله: (ولقد بلغ بهما- أي بعمرو و أبي بكر-الخطأ حدا جعلهما يلجآن إلى العنف والتهديد ليحملا عليا على مبايعة أبي بكر، و لقد اقتحم عمر، برفقة بعض أنصاره، منزل ربيب الرسول و هدده بالقتل و بحرق المنزل، إن هو لم يبايع)(1).

و هذا، من حق الأستاذ (سلهب) أن يتساءل هو و غيره من الباحثين والمفكرين بل و حتى من القراء أيضا:

أليس الشروع في إحراق بيت الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بمن فيه من آله علیهم السلام، الذين وصفهم الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الكريم بأنهم مطهرون من كل رجس، بمثابة و بمكانة الشروع بقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟!

أليست النية الدفينة والمميتة لإحراق البيت الشريف الذي يضم عليا و فاطمة والحسنين عليهماالسلام، أولئك الذين باهل الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بهم أهل نجران، أو كاد أن يباهل بهم، أليست النية لإحراقهم تعادل نية يزيد اللعين في اجتثاث جذور ریحانة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم وإطفاء نور الله؟!

من حقنا، و من حق الجميع أيضا، أن يتساءلوا و أن يجيبوا على تلك الأسئلة بالطريقة التي يرونها منطقية و موضوعية و بعيدة عن روح العصبية والمذهبية.

و لا ريب في أن كل من سيجيب على هذه الأسئلة و على غيرها من

ص: 196


1- نفس المصدر السابق ص100.

التساؤلات والاستفسارات بالطريقة المنطقية والموضوعية المطلوبة، سيجد نفسه، و بشكل تلقائي، يقف في صف الإمام علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين علیه لسلام، ذلك الصف الذي يمثل دائما و أبدا صرخة المظلوم الثائر في وجه الظالم، و صوت الحق الهادر في الضمير النائم.

و بهذا، يكون التشيع، كما يقول عنه الأديب والمفكر المسيحي (جورج جرداق)، هو (موئل يلوذ به كل مضطهد و محروم، و ينضوي تحت لوائه كل ثائر في سبيل الحق المهدور)(1).

و غني عن القول إن رأي الأستاذ (نصري سلهب) والأستاذ (جورج جرداق) هما رأيان و مثالان من عشرات الأمثلة لآراء و وجهات نظر الأدباء والمفكرين المسيحيين الذين أدركوا بعقولهم المنفتحة المستنيرة، مثلما أدرك الكثير من المستنيرين السنة أيضا، أن يوم السقيفة هو اليوم الذي غرست فيه شجيرة الفتنة لتتحول بعد ذلك إلى شجرة كبيرة تمد أغصانها و فروعها الأخطبوطية في كل مكان و لتحمل، لاحقا، عن جدارة بذرة مخيفة كان قد تنبأ بمستقبلها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، سابقة قبل رحيله، إنها الشجرة الأموية التي ستلقي بظلالها الكثيفة الخانقة على نفوس المسلمين.

و بطبيعة الحال، لا يمكننا أن نغفل موقف الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) من السقيفة و أهوالها، إنه اجتماع السقيفة الذي أثار کوامن النفوس و أظهرها على حقيقتها، و أظهر موقعها الحقيقي من الإيمان بوصايا محمد، الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 197


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج5 ص186.

و ها هو يعطينا وجهة نظره تجاه تلك المأساة المؤسفة، والتي أدت لاحقا إلى حدوث سلسلة متوالية من المآسي الأخرى، و على رأسها مأساة الإمام الحسين عليه السلام و أهل بيته الكرام البررة على شاطئ الفرات الحزين.

فلنستمع إليه، إذن، و هو يقول:

و توالت تحت السقيفة أحداث *** أثارت کوامنا و ميولا

وانجلت عن ضياع حق ولي *** کان إلا عن حزنه مشغولا

و توالت مبایعات ثلاث *** طمست نور حقه المأمولا

أول الناس رتبة و ولاء *** كان أحرى بالطيبات الأولى(1)

هذه هي، باختصار شديد، وجهة نظر الأديب الشاعر (بولس سلامة) تجاه أحداث السقيفة، تلك السقيفة التي أثارت- كما يقول الأستاذ (سلامة) - الكوامن والميول الخفية، والتي تعود بجذورها إلى عصر الجاهلية، فكشفتها على حقيقتها و أخرجتها من تحت الرماد جمرات متقدة تحرق صحائف الحاضر و آمال المستقبل.

و ليس هذا الرأي هو رأي الأديب المسيحي (بولس سلامة) فقط، بل هو رأي الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين أيضا.

فالمفكر السياسي والأديب (عبد المسيح الإنطاكي) أدلى بدلوه أيضا في مسألة الكارثة، بل الكوارث، التي حلت بالمسلمين نتيجة مخالفة وصايا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تجاوزها کليا والوصول معها إلى ضرب عرض الحائط بها و ذلك من خلال اجتماع الشورى المزعوم يوم السقيفة المشؤوم.

و يمكننا أن نوجز موقف الأديب (الإنطاكي) بشأن تلك المسألة من خلال

ص: 198


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص118.

الاستشهاد المباشر بقوله الواضح والصريح في كتابه (ملحمة الإمام علي علیه السلام):

(وظل الناس يلغطون ببيعة أبي بكر و ينتقدونها سرا و جهرة حتى اضطر عمر أن يصعد المنبر في مسجد المدينة و يقول: (فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بکر کانت قلتله، فلقد كانت كذلك و لكن الله وقی شترها)، و كان قد سبق له أن قال على إثر بيعة أبي بكر (إن بيعة أبي بکر کانت فلتة وقي الله شرها فمن عاد إلى مثلها قاتلوه)، و ذاع هذا القول عنه و تداوله الناس و في قوله هذا كفاية لقوم ينصفون)(1)

و هنا، نرى من الحق لكل واحد منا أن يعلق على قول عمر بن الخطاب متسائلا:

إذا كان أبو بكر هو الخليفة حقا، فمن الذي أعطاك الحق في أن تسن شريعة القتل لكل من يكرر تلك البيعة (الفلتة)؟!

و إذا كنت -والسؤال موجه إلى (الخليفة) الثاني - مصمما على قولك (فمن عاد الى مثلها قاتلوه)، فما قولك بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والذي تتداوله كتب السنة، والذي يقول ان فيه عن كل من تسول له نفسه أن يغتصب الخلافة من الإمام علي علیه السلام:

«من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، و قد حارب الله و رسوله، و من شك في علي فهو كافر»؟!(2)

و قوله صل الله علیه و آله و سلم أيضا: «من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان»؟!(3)

و من هنا تبرز القيمة الحقيقية للسؤال الذي يمكن أن يطرحه صاحب كل عقل

ص: 199


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام، مصدر سابق ص239.
2- الحافظ الخطيب ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام، مصدر سابق ص46.
3- الحافظ الفقيه زين الدين المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مصدر سابق ص150.

منفتح على شمس الحقيقة:

إذا كان الأمر كذلك، و بناء على ما قاله الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و أوصى به في الحديئين السابقين، فمن هو، إذن، الذي يجب أن يعيد حساباته بشأن قتل من يكرر عمل تلك (القلتة)؟!

إن هذا السؤال، كما أعتقد أنا شخصيا، يمكن أن يقرع أبواب فكر الكثير من الباحثين والمثقفين المسلمين و غير المسلمين في محاولة جادة للوقوف على الجواب الشافي والذي يبدو بالفعل ليس بالأمر الغامض أو العسير.

و على كل حال، و كما عودنا قراءنا الكرام في كتبنا السابقة، فإننا لن نتفوه بجوابنا الخاص على السؤال السابق المطروح، بل سنترك الجواب حقا محفوظة و مصونا لكل قارئ و باحث، غير أن كل ما يمكن أن نقوله الآن بهذا الصدد هو قول الفيلسوف العظيم (أفلوطين): (من يملك القدرة على رؤية الحقيقة فإنه لا يتجه إلى ظلها أبدا).

و لو تركنا الآن جانبا كل ما قاله المفكرون والباحثون المسيحيون في الشرق عن تداعيات بيعة السقيفة و كيف أنها قادت، لاحقا، المسلمين إلى الدخول في متاهات الصراع الدموي والنزاع الأيديولوجي القائم عند بعض الأطراف، و هي في الغالب الأطراف السلطوية، على تحقيق هويتها الفكرية و مآربها النفعية من خلال التخلص من كل الخصوم عن طريق اللجوء العلني إلى سياسة سفك الدماء و كم الأفواه و شراء بعض الضمائر الضعيفة، فلو تركنا هذا جانبا واتجهنا إلى الغرب، إلى العالم المعروف باسم الاستشراق، لنرى و نتعرف على بعض وجهات النظر الغربية الاستشراقية، فماذا يمكننا أن نقرأ عن محور بحثنا الآن؟

في الواقع، يمكننا أن نقرأ الكثير من الأشياء، و لكن ضيق المساحة المخصصة

ص: 200

لهذه المسألة لا يسمح لنا بالمضي قدما في عملية إيراد كل ما قيل من قبل كل المستشرقين عن تلك النقطة الحساسة والتي يعتبرها الكثيرون أنها النقطة التي حرفت رسالة المسلمين مئة و ثمانين درجة عن اتجاهها الصحيح الذي كان يريده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم

و على سبيل المثال، تحدث المستشرق الدكتور (دوایت رونلدسن)، و هو مستشرق يحمل شهادة دكتوراه في اللاهوت و شهادة دكتوراه أخرى في الفلسفة، و قد زار الكثير من البلدان الإسلامية و على رأسها العراق و إيران حتى أنه بقي في إيران ما يقارب ست عشرة سنة درس فيها العديد من الأديان والمذاهب والعادات والتقاليد، إذن، فقد تحدث هذا المستشرق عن أحداث إسلامية على غاية من الأهمية والخطورة، و كان من جملة ما تحدث عنه (رونلدسن) قضية استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء.

و مبادئ أهل البيت عليهم السلام و علاقتهم الروحية بجوهر الرسالة الإسلامية، و تحدث أيضا عن مساوئ الحكام الأمويين الذين اتخذوا من الدين سلعة و ستارا لإخفاء عدائهم الباطني لمحمد و لأهل بيته الكرام علیهم السلام من جهة، و لإشباع ميولهم و شهواتهم و تحقيق مطامعهم الدونية والدنيوية من جهة أخرى.

و لكن ما يهمنا في هذا الفصل هو حديثه عن مسألة السقيفة و آثارها العميقة الممتدة على طول التاريخ الإسلامي التي تلاها.

یری (رونلدسن) أن مسألة السقيفة والنزاع الدموي الذي حدث فيها يعود إلى أسباب سابقة تتزامن مع اللحظات الأخيرة من حياة الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم .

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم أوصى، في أكثر من مناسبة، بالخلافة من بعده الإمام علي

ص: 201

علیه السلام، و لكن كل تلك الوصايا كانت عبارة عن وصایا شفهية يمكن أن ينساها الناس بعد فترة من الزمان، أو حتى يمكن أن ينكروها و أن يتلاعبوا بمضمونها بحيث يحرفوه عن معناه الأصلي، و لذلك كان لابد من تتويج تلك الوصايا أو البيعات الشفهية ببيعة كتابية لا يمكن لأحد أن يتلاعب بها أو أن يتنكر لها، و من هنا جاءت إرادة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بتدوين تلك الوصية قبيل رحيله بلحظات قليلة.

و من هنا، فإن استشهاد المستشرق (رونلدسن) بما جاء في صحيح مسلم و صحيح البخاري لم يأت عن عبث، خاصة و أن المسألة تتعلق بإرادة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم حول تدوین وصيته الأخيرة التي لن يضل المسلمون من بعدها أبدا.

أما نص الحديث الهام الذي نقله (رونلدسن) عن صحیحي مسلم والبخاري فهو أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لما دنت وفاته كان عنده في البيت عدة رجال بينهم عمر بن الخطاب، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «اِیْتُونی بِدَواةٍ وَ صَحیفَة اَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ اَبَدًا»، فقال عمر: (إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، و حسبنا کتاب الله )(1).

و بعد أن يورد (رونلدسن) هذا الحديث المعبر صراحة عن رغبة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في أن يكتب وصيته الأخيرة و هو على فراش الموت، و هي الوصية التي لن تجعل المسلمين بعدها يقتتلون أو يضلون أبدا، و بعد أن يورد أيضا رد عمر بن الخطاب على رغبة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بمعارضته الواضحة لكتابة تلك الوصية التي لن يضل المسلمون لو تمسكوا بها، بل و بالإيحاء لمن هم حوله بأن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد بدأ يهذي بالفعل لأن الوجع قد غلبه، و بالتالي فليس هناك أدنى ضرورة أو حتى

ص: 202


1- دوايت رونلدسن، عقيدة الشيعة، ترجمة: عبد المطلب الأمين، مؤسسة المفيد . بیروت، ط 1990/1 ، ص28.

أهمية للاستجابة لرغبة الرسول في الأخيرة، إذن، فبعد إيراد (رونلدسن) هذين الحديثين، الحديث الأول رغبة الرسول بكتابة الوصية، والحديث الثاني معارضة عمر بن الخطاب لإرادة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم واتهامه بالهذيان، يمكن لكل قارئ لبيب أن يلاحظ بفطنته أن (رونلدسن) يتوقف عند حديث ثالث لايقل في دلالته أهمية عن الحديثين السابقين و إن كان لم يعمد إلى شرحه و توضيحه بالشكل المطلوب.

و على كل حال، فإن نص الحديث الثالث الذي أورده المستشرق (رونلدسن) هو قوله:

و روى عبد الله أن ابن عباس كان يقول: (إن الرزية كل الرزية ما حال بین رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم)(1).

و غني عن الإسهاب في القول إن ابن عباس لم يكن ليقول: (إن الرزية كل الرزية...) إلا بعد أن عايش بالفعل الكثير من المآسي والمصائب التي عصفت بالمسلمين و قتذاك نتيجة لمنع عمر بن الخطاب و جماعته الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم من كتابة وصيته الأخيرة والتي كان من المفترض لها، لو أنهم أخذوا بها واحترموها، أن تجعل منهم، بالفعل، خير أمة أخرجت للناس.

و لا يغيب عن ذهننا هنا موقف المستشرق الفرنسي المعاصر (یان ریشار) من الأحداث الجسام التي قادت المسلمين إلى أنهار الدم بعد التجاوزات الواضحة التي لم يتم من خلالها احترام وصايا الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فالمستشرق (ريشار) تحدث بشكل مطول و على اتساع صفحات كثيرة عن مأساة أهل البيت، و على رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ، في واقعة كربلاء و ما لاقوه من آلام

ص: 203


1- نفس المصدر السابق ص29.

الغربة والوحدة والجوع والعطش و لظى الصيف و ظلم السيف.

نعم، لقد تحدث الأستاذ (ریشار) عن كل ذلك، و عن غير ذلك أيضا، في كتابه الذي يحمل عنوان (الإسلام الشيعي)، و لكنه قبل أن يتحدث عن تلك المأساة الخالدة و عن غيرها من المآسي التي تعرض لها المسلمون المؤمنون عموما، و أهل البيت علیهم السلام خصوصا، نلاحظ أن الأستاذ (ریشار) لم يغفل عن ذكر البيعات المشبوهة و لم يغفل أيضا عن التلميح الواضح إلى مسألة التآمر على الإمام علي عليه السلام و إبعاده عن الخلافة التي هي - كما يقول (ریشار)- من حقه واستحقاقاته باعتباره هو الخليفة المعين أساسا من النبي صلی الله علیه و آله و سلم(1).

و لا يختلف رأي المستشرق (یان ریشار) كثيرا عن رأي المستشرقين المعاصرين (دومينيك و جانين سوردیل) بشأن المآسي المروعة التي نشبت بين المسلمین نتيجة إقصاء الإمام علي عليه السلام عن حقه المشروع في خلافة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم

و قبل كل شيء، يرى هذان المستشرقان أن استيلاء أبي بكر على منصب الخلافة إنما هو استيلاء غير مبرر، بل إن استيلاء على مقاليد الحكم جاء نتيجة مجادلات و مناقشات مطولة و مكائد و مناورات أدانها التقليد الديني اللاحق.(2)

و يعزو هذان المستشرقان أيضا أهم أسباب الشقاق بين المسلمين في ذلك العصر إلى إبعاد الإمام علي عليه السلام عن حقه(3)

و هنا علينا أن نعرف أيضا أن الأستاذ الباحث (ریمون بلوخ) الذي عرض على

ص: 204


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص35
2- دومينيك و جانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة: حسني زينه دار الحقيقة . بيروت، ط1980/1 ، ص31.
3- نفس المصدر السابق ص32.

المستشرقين (سوردیل) كتابة كتاب شامل عن الإسلام في العصر الوسيط، والذي هو أيضا وضع المقدمة المناسبة لذلك الكتاب الذي حمل عنوان (الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي)، كان له رأي حاسم و صريح بشأن المؤامرات التي حيكت وراء أستار السقيفة والتي كانت تحمل في أحشائها بذور الانشقاق والارتداد، و لذلك، فإن الأستاذ (بلوخ) يقول، حرفيا، في المقدمة التي وضعها للكتاب المذكور سابقا إن (أوائل الفتوحات و تنافس الصحابة بعد وفاة محمد، تبدو لي مرسومة بعمق و وضح نادرين)(1).

و بالفعل، فإن صاحب كل بصيرة خبيرة سيدرك على الفور أن كل شيء كان مدبرا و محاكا جيدا منذ البداية، و ما على الممثلين إلا أن يتقنوا لعب أدوارهم على مسرح السقيفة كي يوهموا المشاهدين البسطاء أن يد القدر هي التي تتصرف بحكمة منها كي تحفظ وحدة المسلمين، وكي تحفظ المسلمين أنفسهم أيضا من أي (فلتة) ثانية يمكن أن تحدث لاحقا في صفوفهم التي تصدعت و حدتها بشكل فعلي منذ المشهد الأول من مسرحية البيعة في سقيفة بني ساعدة.

و على ما يبدو، فإن المستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) صاحب کتاب (سطوع نجم الشيعة)، الذي تحدث مطولا عن موقعة كربلاء بالاعتماد على النظر إليها من زوايا فكرية متنوعة، كان له وجهة نظر خاصة تنم عن مقدرته في دراسة الأحداث و تحليلها و من ثم الخروج بنتائج محددة و واضحة تستطيع أن تقنع القارئ أن ما حدث في كربلاء للإمام الحسين عليه السلام و من كان معه من الأهل والأصحاب في ظل حكومة يزيد بن معاوية، و أن ما حدث لعموم المسلمين في ظل بقية الحكومات

ص: 205


1- نفس المصدر السابق، راجع المقدمة بقلم ريمون بلوخ ص7.

الأموية المتلاحقة، و من بعدها الحكومات العباسية أيضا، هو شيء طبيعي تماما قياسا بالتجاوزات الخطيرة والقاتلة التي حدثت في عهد الخلافة (الراشدة).

فالمستشرق (کونسلمان) تحدث عن الإمام الحسين عليه السلام و عن مبادئه و أخلاقه، و عن الأهداف النبيلة التي خرج من أجلها إلى كربلاء، و لكنه بنفس الوقت أيضأ، استفاض في الحديث عن الانقسام الأول الذي عصف بالمسلمين بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و يمكننا أن نلاحظ في العديد من صفحات کتابه (سطوع نجم الشيعة) أن هذا المستشرق يلقي باللائمة، بطريقة أو بأخرى، على رجال السقيفة و أبطالها بطريقة تجعل القارئ اللبيب يتساءل بينه و بين نفسه قائلا:

كيف يلقي الكثير من المسلمين باللوم على معاوية فقط عند خروجه عن طاعة الإمام علي عليه السلام و محاولته الجدية انتزاع الخلافة منه بالقوة، و لا يلوم أولئك المسلمون أيضا من سن لمعاوية ستة الخروج على صاحب الحق و لو كان في ذلك مخالفة صريحة لوصية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟!

و لماذا يلوم المسلمون عموما معاوية على عدم اعتماده مبدأ الشورى في تولية الخليفة من بعده -هذا إذا اعتبرناه خليفة أساسا-مما دفعه إلى تسليم ابنه يزيد مقاليد الحكم، و لا يلوم المسلمون أبا بكر الذي سلم مقاليد الحكم لصاحبه عمر بن الخطاب دون أن يعمد فعليا إلى عقد مجلس شورى يضم أهل الحل والعقد؟!

فلماذا دائما نلقي باللوم على الأذناب لا على الرؤوس، أم أننا لا نستطيع أن نقترب من الرؤوس أساسا لأن تلك الرؤوس قد اكتسبت، بحكم الزمان و قوة السلطان، هالة من القداسة والتنزيه لدرجة يحظر معها الاقتراب والدراسة أو الإشارة إليها بالتقصير والخطأ عند ثبوت ذلك؟!

ص: 206

و على أي حال، فإن القارئ الفطن يمكن أن يسأل نفسه أكثر من هذا، سواء قرأ کتاب المستشرق (کونسلمان) أم قرأ غيره من كتب المستشرقين والباحثين في الشرق والغرب، تلك الكتب التي تتناول - و لو بالقليل من الصدق والإنصاف -. ذكر الأحداث المفصلية الهامة في فجر الرسالة الإسلامية.

و حتى لا يفوتنا ذكر بعض ما جاء في (سطوع نجم الشيعة) للمستشرق (کونسلمان)، يجدر بنا أولا أن نقول إن للأستاذ (کونسلمان) تعليقا لافت للنظر حول حديث الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم المشهور في مؤلفات السنة والذي يقول صلی الله علیه و آله و سلم فيه- كما أورده هو حرفيا -: «أيها المؤمنون، إن قضيت (مت)، فسيبقى القرآن، کلام الله و آل بینی»(1)

و ربما كان يقصد (کونسلمان) بهذا الحديث الذي أورده، أو بالأصح أورد معناه، هو الحديث النبوي الشريف الذي تتداوله كتب السنة عموما والذي نصه الصحيح هو قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «إني مقبوض، و إني قد ترکت فیکم الثقلين: كتاب الله، و أهل بيتي، و إنكم لن تضلوا بعدهما»(2)

والمهم، هو أن (کونسلمان) قد حلل مغزى هذا الحديث بطريقة ذكية بعد أن ربطه بعدة أحاديث أخرى تبين المكانة الخاصة التي يحتلها أهل البيت عليهم السلام في عمق الرسالة الإسلامية.

و قد علق (کونسلمان) على الحديث الماضي المتعلق بالقرآن و بأهل البيت علیهم السلام

ص: 207


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، ترجمة: محمد أبو رحمة، مكتبة مدبولي القاهرة، 1992، ص17
2- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، نشر معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1988، ص50.

بقوله:

«إن كليهما ينبغي أن يظلا في أسمى مكانة، القرآن الذي أعلن مشيئة الله، و أفراد عائلة النبي، و من هذا يفترض أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم تنبأ بإمكانية التهديد الذي سيتعرض له آل بيته بعد موته)(1).

وبالفعل، إن هذا التحليل لا يبتعد عن الصواب أبدا، و قد ذكر (کونسلمان) بعد ذلك التحليل جملة من الأحداث التي لاقاها أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام بعد وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم مباشرة.

و كان من جملة الأحداث التي ذكرها (کونسلمان) والتي تخدم محور بحثنا الآن هو الهجوم المسلح على بيت فاطمة الزهراء عليهاالسلام، سيدة نساء العالمين، بعد رفض الإمام علي عليه السلام ما حدث في سقيفة بني ساعدة، و كان من نتيجة ذلك الهجوم الذي قاده عمر و صاحبه أبو بكر - كما ورد في كتاب (کونسلمان) - هو صدم فاطمة الزهراء علیهاالسلام بالباب مما أدى إلى جرحها، و من ثم قام واحد من رجال عمر بضربها حتى أجهضت من حملها في الشهر السادس(2).

أما عن النتائج اللاحقة التي جاءت نتيجة لعدم تلبية رغبة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بكتابة وصيته الأخيرة من جهة، و للاجتماع المشوه الذي حدث في السقيفة و كان من نتائجه إبعاد الإمام علي عليه السلام من جهة أخرى، هو أن الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام علي عليه السلام لم يكونوا خلفاء للرسول صلی الله علیه و آله و سلم بالمعنى الصحيح للكلمة، و لم يستطيعوا أن يمثلوا روح الإسلام و جوهر رسالته.

ص: 208


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق، ص17.
2- نفس المصدر السابق ص37.

و إذا لم يكن الخلفاء الثلاثة خلفاء حقيقيين للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فماذا كانوا إذن؟!

و حتى لا تقول على الأستاذ (کونسلمان) ما لم يقله، دعونا نورد ما قاله بشكله الحرفي الدقيق.

يقول (کونسلمان): (فأثناء خلافة أبي بكر و عمر و عثمان، أخذ خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصير بسرعة حاكما دنيويا - أي ملكا)(1).

و نعتقد من الواضح تماما كيف يمكن للملك، مثل کسری أو قيصر، أن يحكم بين الرعية في الوقت الذي وضع نفسه فيه موضع الحاكم أو الخليفة لرسول سماوي معصوم من الزلل والخطأ.

و حتى لا يتهمنا القارئ العزيز بإغفال نقطة هامة من نقاط بحثنا المطروح الآن، ألا و هي مظلومية الإمام الحسين عليه السلام و موقع حادثة كربلاء في فكر المستشرق الألماني (کونسلمان)، نقول له! إننا لم ننس و لم نغفل ذكر تلك الحادثة و آثارها على المسلمين عموما، و حتى على غير المسلمين أيضا، بل كل ما نستطيع أن نقوله الآن هنا هو أن (کونسلمان)-و كما هو واضح في كتابه- قد أشار في العديد من صفحات کتابه إلى التجاوزات التي قام بها الخلفاء، واحدا تلو الآخر، بدءا بالسقيفة و مرورا بفاجعة کربلاء وامتدادا إلى عدد لا ينتهي من التجاوزات الفاضحة التي قام بها الخلفاء الأمويون و من بعدهم الخلفاء العباسيون أيضا.

و لا يمكن لأي قارئ - بطبيعة الحال - بعد أن يقرأ ما كتبه (کونسلمان) و غيره من الباحثين في الشرق والغرب عن مسيرة الحركة الإسلامية منذ الأيام الأخيرة للرسول

ص: 209


1- نفس المصدر السابق ص49.

الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و حتى ما بعد فاجعة كربلاء، إلا أن يلاحظ و بوضوح تام أن اجتماع السقيفة هو الذي خنق رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأجهض السيدة الزهراء علیهاالسلام و سفك دماء الإمام الحسين عليه السلام .

و للحق أقول- و دائما قول الحق لا يروق للبعض - إن كل الباحثين والمفكرين المسيحيين في هذا الشرق، بالإضافة إلى الكثير من المستشرقين في الغرب، قد كتبوا و درسوا و حللوا ما حدث في مأساة كربلاء بطريقة أكثر عقلانية و أكثر إنصافا من بعض المسلمين الذين شاركوا أيضا في الكتابة عن عملية استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و عن أبعاد و آثار مسألة خروجه واستشهاده مع أهل بيته الأطهار عليهم السلام فوق رمال کربلاء.

و ما المستشرقين والمسيحيين العرب الذين ورد ذكرهم في هذا الفصل من كتابنا إلا أمثلة قليلة من مجموع أمثلة كثيرة تدل في مجملها على قدرتها الفكرية في كيفية التعامل والتفاعل مع الأحداث، و من ثم القدرة على الخروج من تلك الأحداث الخطيرة والهامة بنتائج مقبولة هي أقرب للعقل والمنطق منها إلى الانفعال والعاطفة.

و ما أريد أن أذكره الآن، و في هذا المكان تحديدا، هو أنني لا أبرئ ساحة كل المستشرقين من الاتهام بالتحامل على الإسلام رسالة و رسولا، بل على العكس، فهناك العديد من المستشرقين قد تعمدوا قلب الحقائق و تشويهها لغايات سلبية متعددة سواء كانت تلك الغايات ناتجة عن أهداف استعمارية شمولية أو عن أهداف دينية تعصبية.

و بالتالي، فإذا كان المستشرقون عموما قد تناولوا بعض القضايا والحوادث الإسلامية المفصلية بروح الحياد والموضوعية، فإن هذا لا يعني أن هناك البعض منهم

ص: 210

لم يحاول أن يضع السم في الدسم في محاولة مدروسة للنيل من شخصية ما أو للتقليل من حادثة ما أو للتشويش على فكرة ما.

و إذا كان الأمر كذلك في عالم الاستشراق، فإنه ليس كذلك في عالم الفكر والثقافة المسيحية في الشرق.

فالمفكرون المسيحيون في الشرق يكتبون عن الإسلام و رجاله و أحداثه التاريخية الهامة بروح الانفتاح على عوالم الصدق والإنصاف، و بدافع الانعتاق من ظلمة الغايات والإجحاف، فإظهار الحقائق هو الهدف الأسمى لكل مفكر أو باحث أو أديب مسيحي في الشرق.

و حتى أكون أكثر موضوعية و صدقة في حديثي هذا، أقول إنني لا أدعي أنني قد قرأت كل ما كتبه المفكرون والأدباء المسيحيون في الشرق عن الرسالة الإسلامية و عن رسولها صلی الله علیه و آله و سلم؛ و رجالها و أحداثها، و لكنني أقول الحق بأنني قد قرأت الكم الأعظم مما كتبه أولئك المفكرون والأدباء عن الإسلام، و قد قمت بعد ذلك بدراسة و تحليل كل تلك الأعمال الفكرية والأدبية التي قرأتها، و كان من نتيجة ذلك أن خرج بالعديد من المقالات والأبحاث والكتب التي من شأنها أن تبرز الدور الإيجابي للمفكرين والأدباء المسيحيين في الشرق في كشف اللثام عن الكثير من الحوادث الإسلامية التي عصفت بالأمة في المراحل الأولى من عهد الرسالة النبوية الشريفة و إظهارها على حقيقتها دون تعاطف مع طرف على حساب الطرف الآخر، و إنما إظهار الحادثة و توضيحها كما حدثت بالفعل.

و قد بينت في ما كتبت أيضا كيف أن أولئك المفكرين والأدباء قد لعبوا دورا حيويا هاما في توضيح الأهداف الإنسانية النبيلة للرسالة الإسلامية، و كيف أنهم-

ص: 211

بالرغم من أنهم مسيحيون - لا يتفقون في العديد من النقاط مع المستشرقين المسيحيين في الغرب، و بشكل خاص تلك النقاط التي تتناول مسألة الوحي، والمصدر السماوي للقرآن، و براءة الإسلام الحقيقي من العنف والدم، و إلى غير ما هنالك من نقاط هامة و حساسة تبقى محل خلاف و نزاع بين المسيحيين في الشرق والمستشرقين من جهة، و بين المستشرقين أنفسهم من جهة أخرى.

و على كل حال، فإن الشيء الذي أريد أن أقوله الآن، مع التأكيد عليه دائما و أبدا، هو أن أهل الفكر والثقافة والأدب، وأقصد بذلك الفكر المسيحي في عالمنا الشرقي، كانوا يعرفون على أي الحروف يجب أن توضع النقاط، و كانوا يدركون تماما أن الإسلام برسالته الإنسانية النبيلة ما كان له أن يترجم إلى أرض الواقع إلا من خلال أهل بيت صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله و سلم، فأهل البيت علیهم السلام، عند الكثير من المفكرين المسيحيين في الشرق، هم خيوط النور الإلهي الذي يربط قلوب و بصائر أهل الإيمان في الأرض ببوابات قدس الأقداس في مملكة السماء، فهم علهم السلام: «الطيبون الأوائل، والمعاينون الأوائل، والمعانون الأوائل، والمعنيون الأوائل»(1).

أو هم عليهم السلام - باختصار شديد- كما وصفهم الأديب والشاعر المسيحي المبدع (بولس سلامة) بقوله مخاطبا إياهم على أساس أنهم هم عليهم السلام مشارق الأنوار الإلهية التي تكرم الله سبحانه و تعالى بإظهارهم بين خلقه لإجلاء الظلمات عنهم:

یا شروق الأنوار في غيهب الأزمان ظلي على العصور مشاعل

أهل بيت الرسول ما زال منكم نحو عرش الرحمن حبل واصل(2)

ص: 212


1- سليمان كتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، دار الروضة، بيروت، 1993، ص62.
2- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، البيت الأول ص 101 والثاني ص105.

و لذلك، لنا الجرأة على القول إن أولئك المفكرين المسيحيين في الشرق، بالإضافة إلى الكثير من مفكري و أدباء إخواننا السنة أيضا، قد أبلوا البلاء الحسن في الحديث عن أهل البيت عليهم السلام عموما و عن سيدنا الإمام الحسين عليه السلام خصوصا، و كان لهم موقف جريء لافت للنظر عندما تحدثوا عن العلاقة الوثيقة التي تربط بين أحداث السقيفة من جهة و وقائع مأساة كربلاء الدامية من جهة أخرى.

إنهم رجال فکر آمنوا بشرف الكلمة و بنبل الأمانة فحملوا أقلامهم النظيفة و راحوا يسطرون الحقيقة تلو الحقيقة لا لشيء و لا لمكسب، فلا الشيء الدنيوي يغريهم، و لا المكسب المادي يغويهم، بل أرادوا فقط أن يكونوا جنود الحقيقة و فرسانها، لقد أدركوا الحقيقة و عاشوا بمستواها، و أيقنوا أيضا أن الذي يتعمد أن يزرع غراس الريح فلن يحصد إلا العواصف والزوابع.

نعم، إن العبارة الواردة في (كتاب العقائد) للهندوس والتي تقول: (واحد من آلاف البشر قد يجاهد في سبيل الحقيقة)(1)، هي عبارة صحيحة تماما، و لكن علينا أن ندرك أن مقام هذا (الواحد) المجاهد من أجل الحقيقة هو بمثابة شمعة في غرفة كبيرة، تتحدى و تتغلب بنورها الضعيف الواهن على ظلمة الليل البهيم، و علينا أن ندرك أيضا أن الحقيقة التي ننشدها و نبحث عنها هي قبس من الحق، و ما (الحق) إلا هو عز وجل.

وما أجمل أن ننهي هذا الفصل بقول الشاعر عن العلاقة الوطيدة بين مأساة السقيفة و فاجعة کربلاء:

رزية الخميس لا تمحي *** آثارها حتى يقوم الحساب

و حيل بين المصطفى غنوة *** و بين أن يكتب ذاك الكتاب

ص: 213


1- سامي شيا ، أقوال مأثورة، دار النهار . بيروت، 1981، ص150.

لو لا خميس الشؤم ما وجهت *** في كربلاء نحو الحسين الحراب(1)

إنها أبيات ثلاثة تلخص لنا ما جاء من أقوال و شواهد لكبار المفكرين والأدباء في هذا الفصل حول مقدمات الفاجعة و بذورها.

و بقي علينا أن نقول إننا في هذا الفصل لم نقصد الإساءة-لا سمح الله - لأي شخص من كبار الصحابة، و لم يكن هدفنا التشهير أو التجريح بمشاعر أي من إخواننا السنة على الإطلاق، والدليل على ذلك هو أنني استشهدت في هذا البحث بالكثير من آراء علمائهم و مفكريهم من أصحاب العقول الراجحة والآراء السديدة.

و من جهة أخرى، فعندما أذكر ما فعله فلان أو فلان، فأنا لا أقصد تقييمه أبدا، و إنما أقصد تقييم الفعل الذي بدر منه، فأنا أقيم أحداثا لا أشخاصا.

و لذلك، أرجو من القارئ الكريم - خاصة إذا كان من إخواننا الستة- أن يعذرني في تقييمي للأحداث الحساسة، فالحقيقة هي الشيء الوحيد الذي يجب أن يكون فوق أي اعتبار، و علينا أن ندرك دائما و أبدا أن الرجال يعرفون بالحق و ليس الحق يعرف بالرجال.

ص: 214


1- السيد حسين الصدر، لغة الطفوف، مجلة (الموسم) العدد /12/ مصدر سابق ص420

عصر الإمام الحسين علیه السلام

إن الكلام عن عصر الإمام الحسين علیه السلام هو كلام عن المجتمع الإسلامي الذي هیاه معاوية لابنه يزيد، إنه كلام عن المجتمع الذي صاغه معاوية وفق رؤيته الأموية الخاصة والبعيدة كل البعد عن الرؤية الإلهية المتجلية في قرآنه الحكيم و في سنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

و إذا أردنا أن نتكلم عن مجتمع ما، فربما كان بالإمكان تخيل صورة ذلك المجتمع من خلال معرفة صفات و خصائص الشخص المسؤول والحاكم لذلك المجتمع، و قد حدثنا التاريخ، قديما و حديثا، أن الحاكم العادل والصالح يستطيع أن يؤسس لحياة كريمة في المجتمع الذي يحكمه بحيث يرتقي بأفراد مجتمعه، من خلال عدله و صلاحه، إلى مستوى لائق من الإنسانية والحضارة الراقية التي من المحتمل جدا أن تفتقر إليها بقية المجتمعات التي يحكمها حكام طغاة عتاة لا يعرفون شيئا من فنون الحكم والقيادة إلا فن الحكم بالسيف والنار.

نعم، ربما يأتي حاكم نزيه و عادل يريد أن يعم العدل والسلام والصلاح كل أرجاء دولته و لكنه لا يفلح في ذلك على الرغم من شدة نزاهته و مبلغ عدله و صلاحه، فما السر في ذلك؟!

الجواب، و بكل بساطة، أخطاء الرجال والأجداد يدفع ثمنها الأبناء والأحفاد.

فالحاكم الجيد هو حاكم جيد بذاته و لكن قد لا يستطيع أن يحكم مجتمعه

ص: 215

الملوث بالطريقة التي يريدها، إذن، المشكلة هي أساسا في المجتمع الذي بات ملوثا من جهة و في الحاكم السابق الذي لعب دور العامل الملوث من جهة ثانية.

فالقيم السلبية والمفاهيم الخاطئة والممارسات الملتوية التي فرضها و أقرها الحاكم السيئ السابق و جعلها مرتبطة بحركة المواطن و بتفاعله مع المجتمع لدرجة أنه بات يمارس الأخطاء و كأنها أعمال مشروعة و مبررة، شأنها في ذلك شأن اكتساب القمة الخبز اليومية، إن كل ذلك يجعل من الحاكم اللاحق، و إن كان صالحة و عادلا، يواجه الكثير من المتاعب والمشاكل في عملية إدارة دفة الحكم، و في عملية إعادة القيم الإيجابية المغيبة لأخذ دورها من جديد في ساحات العمل و في إعادة استنباتها في عقول و ضمائر الأفراد والجماعات بعد أن يتم اقتلاع القيم والمفاهيم السلبية السابقة من تلك الضمائر والعقول، فالمزارع النبيه لا يلقي ببذاره في أرض مليئة بالأشواك إلا بعد أن يقتلعها و ينظف التربة منها و من بقية الأعشاب الضارة الأخرى.

إن هذا الكلام يصدق بشكل كبير على وضع مجتمع كان محكوما سابقة من قبل حاکم سلبي سيي لفترة مديدة من الوقت إلى أن شاءت الظروف أن تأتي بحاكم آخر لكنه حاكم صالح و إيجابي و مناقض للحاكم السابق في الميدان الحضاري والإنساني و في ميزان الصفات الشخصية والمزايا الذاتية.

و إذا كان هذا هو حال المجتمع الذي يتعاقب عليه حاکمان متناقضان ما بين السلب والإيجاب، فما هو حال المجتمع الذي تتعاقب عليه جماعة من الحكام الذين يسجدون صباحا و مساء لكرسي الحكم و يقيمون صلواتهم للدينار والدرهم، يتخذون من مساجدهم أو کار فتن، و من قصورهم دور فساد وبغاء، و من بطانتهم أهل سوء واستعلاء، يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف، قلوبهم عامرة إلا من الإيمان،

ص: 216

و عقولهم منقاده لحبائل الشيطان، و ليس عندهم غريب القرآن، المؤمن بينهم غریب، والفاسق عندهم قريب، من ذکرهم بما فيهم ظلموه و منعوه، و من مدحهم بما ليس فيهم أعطوه و وصلوه؟!

و لا أعتقد أنني جانب الصواب أو ابتعدت عن الحقيقة القاسية عندما قصدت بكلامي هذا بني أمية عموما و معاوية و ابنه يزيد اللعين خصوصا.

فالعالم الإسلامي ابتلي بالكثير من حكام الشوء ممن اتخذوا لقب (الخليفة) ستارا لهم يتحكمون بالبلاد والعباد کیفما يشاؤون باسم الدين و باسم الإسلام، بل باسم (خليفة) رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في الوقت الذي أعلن فيه الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؛ نفسه براءته العلنية منهم و من أتباعهم و أصحابهم إلى يوم الدين.

و لذلك، نرى لزاما علينا أن نقدم للقارئ الكريم بعضا من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين لنا موقف الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم من معاوية بن أبي سفيان، ذلك الحاكم الأموي الداهية الذي أوصل المجتمع الإسلامي لاحقا إلى حالة من الجفاف الروحي واليباب العقائدي و ذلك بعد أن قام بحملة إعلامية تضليلية دهياء أفرغ من خلالها الإسلام من كل مضامينه الجوهرية و حوله إلى مجرد قناع يتستر به و يخفي وراءه الكثير من الدسائس والمؤامرات، لقد حوله إلى مجرد جسد مفتقد إلى العقل والروح و إلى الكثير من المضامين الإنسانية.

إذن، دعونا الآن نتعرف على شخصية معاوية كما يراها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لنتقل بعد ذلك إلى صورة المجتمع الإسلامي الذي هيأه معاوية إلى ابنه يزيد من أجل إحكام السيطرة على المجتمع بكافة أطيافه، و بشكل خاص على الإمام الحسين عليه السلام و أهل بيته، و أتباعه، ممن ثبتوا على ولاية أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و ذلك من خلال

ص: 217

الالتزام بتعاليم الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ووصاياه المتعلقة بضرورة التمسك بالثقلين العظيمين: القرآن الكريم و أهل البيت عليهم السلام الذين لا يقاس بهم أحد من الخلائق و لا يحيط بمعرفتهم أحد من أهل الحقائق.

و على كل حال، و حتى لا نسهب كثيرا في الكلام، دعونا أيها الأحبة نستعرض طائفة صغيرة من الأحاديث الواردة بشأن معاوية الذي مهد طريق لابنه يزيد قاتل الإمام الحسين عليه السلام و هاتك حرمات المسلمين.

جاء في كتاب (میزان الاعتدال) للحافظ شمس الدين بن محمد بن أحمد المعروف بالذهبي قوله: عن أبي برزة قال: كنا مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فسمع صوت غناء فإذا عمرو (بن العاص) و معاوية يتغنيان، فقال: «ارکسهما في الفتنة ركسا و دعهما إلى النار دعا»(1).

و جاء أيضا في كتاب (کنز العمال) للمتقي الهندي، و أصل هذا الكتاب هو (جمع الجوامع) للحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي المشهور، فقام المتقي الهندي بتبويبه على نهج الكتب الفقهية و سماه بكتاب (کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)، وقد جاء فيه:

عن شداد بن أوس أنه دخل على معاوية و هو جالس، و عمرو بن العاص على فراشه، فجلس شداد بينهما، و قال: هل تدریان ما يجلسني بينكما؟ إني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما، فوالله ما اجتمعا إلا على غدرة»، فأحببت أن أفرق بينكما؟(2).

ص: 218


1- الحافظ شمس الدين بن محمد المعروف بالذهبي، ميزان الاعتدال، مطبعة السعادة .مصر، طبع 1325ه، ج3 ص311.
2- المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مطبعة دائرة المعارف النظامية . حیدر آباد .دکن، 1312ه، ج6 ص88.

و يكفي أن نذكر أيضا القول المشهور للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و هو حديث ثابت في الكثير من كتب السنة، يقول صلی الله علیه و آله و سلم فيه مخاطبا عموم المسلمين:

«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»(1)

و من خلال مضمون هذا الحديث النبوي تحديدا، و من خلال الأحاديث السابقة التي ذكرناها قبله، والأحاديث النبوية الأخرى التي سنذكرها لاحقا، نستطيع أن نتخيل عمق المأساة التي عصفت بالمجتمع الإسلامي عقب اغتصاب معاوية لكرسي الخلافة واجترائه على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

فالأعمال السوداء التي قام بها معاوية خلال فترة حكمه والرذائل التي أشاعها في صفوف الناس وروج لها، والفتن التي استنبتها في عقول الناس، كل ذلك أذى بالمجتمع الإسلامي إلى فقدان تماسكه الروحي والاجتماعي، و إلى اتخاذ الدين وسيلة رخيصة لتحقيق غايات شخصية و مصالح دنيوية تتعارض في الكثير من جوانبها مع المبادئ الإلهية والتعاليم النبوية النبيلة.

فمجرد قول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و هو الرسول الإلهي الذي لا ينطق عن الهوى: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»، هو أكبر و أوضح دليل على أن المجتمع

ص: 219


1- راجع على سبيل المثال ما جاء في: أ. الحافظ الذهبي ، ميزان الاعتدال، مصدر سابق ج2 ص17 + ج2 ص 129. ب. الحافظ المنادي والشافعي، كنوز الحقائق، مصدر سابق، ص15. ج . الحافظ شهاب الدين العسقلاني المعروف ب (ابن حجر)، تهذيب التهذيب، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية . حیدر آباد .دکن، 1325ه، ج5 ص110. د. السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، طبع دار الثقافة . قم، 1412ه، ص58 + ص261.

الإسلامي سيكون في الدرك الأسفل، روحيا واجتماعية، في حال قبل المجتمع بوجود خليفة أو حاكم عليه كمعاوية أو حتى غيره من أمثاله و نظرائه.

و من أجل أن ندرك حجم الكارثة التي حلت بالصف الإسلامي نتيجة الفتن التي زرعها معاوية بين صفوف المسلمين عموما، يمكننا أن نذكر عدة أحاديث أخرى قالها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بحق معاوية منطلقا في ذلك من قوة بصيرته في قراءة الأحداث المستقبلية، و من نفاذ حدسه الثاقب لأعماق الشخصيات التي عاصرته صلی الله علیه و آله و سلم و عاشت معه عن قرب، فاستطاع بذلك أن يدرسها و يحللها و يستخلص النتائج الدقيقة التي ستظهر لاحقا و بشكل واضح و جلي على صفحات کتاب المستقبل.

فعندما يقول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على رؤوس الأشهاد، بعد معرفته العميقة و دراسته الدقيقة لشخصية معاوية و أفعاله: «إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درک منها، ينادي يا حنان یا منان، الآن و قد عصي قبل و كنت من المفسدين»(1).

فعندما يقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ذلك، بإمكاننا أن ندرك أن الإسلام قد انحرف عن مساره المرسوم له بشكل مخيف جدا و بشكل مختلف كليا، فالإسلام لم يعد ذلك النهج العملي الذي أراد للإنسان أن يكون متحررا من كل أنواع العبودية و منعتقا من كل أصناف التبعية إلا التبعية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والعبودية لله وحده فقط، لقد أصبح وجه الإسلام مشوها عمدة و بفعل فاعل، بدأت عملية التشويه في وقت مبكر جدا واستمرت بقوة إلى ما بعد ذلك، و بلغت ذروتها عند معاوية في عصر الدولة الأموية.

إن هذه الأجواء هي صورة موجزة و مختصرة جدا عن الصورة الشاملة للأجواء

ص: 220


1- السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، مصدر سابق ص262.

التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام و عاصرها بكل تفاصيلها المؤلمة، بل يمكننا أن نضيف أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام کا على معرفة كاملة بأن معاوية قد تجاوز في غيه و ضلاله كل حد و خرج في جهله و جاهليته و جهره بالعداء للإسلام من كل سنة نبوية شريفة و دخل في كل بدعة جاهلية ذميمة، ناهيك عن أنه، و كما هو معروف للجميع، قد ناصب هو و أبوه الإسلام العداء و لم يدخرا جهدا في محاربة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تنفير الناس منه و من رسالته حتى أن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم قد رأى يوما أبا سفيان مقبلا على حمار و معاوية يقود به ویزید ابنه يسوق به، فقال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «لعن الله القائد والراكب والسائق»(1).

و يكفي معاوية خزيا في تلك الفترة أنه قاتل أمير المؤمنين عليا عليه السلام دون أي وجه حق مع معرفته الكاملة أن عليا عليه السلام و قومه هم آية الجنة، و أنه هو و قومه هم آية النار، و ذلك حسب نص حديث نبوي شريف يعرفه العامة والخاصة على حد سواء.

فقد أورد الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد) ما جاء عن عمرو بن حمق الخزاعي حيث قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سرية (إلى أن قال) ثم هاجرت إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فبينا أنا عنده ذات يوم قال لي: «يا عمرو هل لك أن أريك آية الجنة تأكل الطعام و تشرب الشراب و تمشي في الأسواق؟».

قلت: بلی، بأبي أنت، قال: هذا و قومه و أشار بيده إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، و قال لي: «يا عمرو هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام و تشرب الشراب و تمشي في الأسواق؟».

قلت: بلى بأبي أنت، قال: هذا و قومه آية النار، و أشار إلى معاوية.

ص: 221


1- نفس المصدر السابق ص261.

فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ففرت من آية النار إلى آية الجنة...(1)

إذن، فالمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت الذي كان فيه معاوية حاكما و متحكما برقاب المسلمين كان مجتمعا يسير القهقرى باتجاه الجاهلية البغيضة التي حاربها الله و رسوله صلی اله علیه و آله و سلم، و لم تكن صورة شخصية معاوية في تلك الفترة السوداء من تاريخ الإسلام إلا التجسيد الواقعي والأمثل لشخصيته و لنواياه السلبية التي عجز عن تحقيقها قبيل دخوله الإسلام و تظاهره باعتناقه.

و حتى تتضح الصورة أكثر في ما يتعلق بالعصر الذي كان الإمام الحسين علیه السلام شاهدا حيا عليه، علينا أن نعرف أن معاوية قد أباح المحارم لمن ارتكبها و منع الحقوق أهلها، ثم إنه عمد إلى قتل خيار صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتابعين و أهل الفضل والديانة مثل عمرو بن الحمق الخزاعي و حجر بن عدي الكندي.

و غني عن القول قتله لعمار بن یاسر (رضی الله عنه) في عهد سيدنا علي عليه السلام، و مما استحق به اللعنة من الله و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم ادعاؤه زیاد بن سمية، والله سبحانه و تعالى يقول: «ادْعُوهُمْ لِابَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ»(2)، والرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «ملعون من ادعى إلى غير أبيه»، هذا بالإضافة إلى تأكيده صلی الله علیه و آله و سلم على ناحية شرعية أخلاقية هامة هي أن «الولد للفراش و للعاهر الحجر»، فخالف بذلك معاوية حكم الله عز وجل وسنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم جهارا و جعل الولد لغير الفراش والعاهر لا يضره عهره.

و باختصار شديد، لقد قام معاوية بكل ما من شأنه أن يمهد الطريق أمام ابنه يزيد

ص: 222


1- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، عني بنشرها صاحب مكتبة القدس حسام الدين القدسي . مصر، 1352ه، ج9 ص405.
2- سورة الأحزاب: الآية 5.

اللعين عند مجيئه و إعطائه مقاليد الحكم للتحكم برقاب العباد و مصالح البلاد.

و قد صدق (الحسن البصري) عندما لخص لنا الخطوط العامة لسياسة معاوية السفيانية والتي أرادها من بعده نهجا و دستورا لابنه يزيد و لكل من يأتي بعده من حكام أمويين لا يعرفون عن الإسلام غير الاسم و من القرآن غير الرسم.

يقول الحسن البصري: (أربع خصال كن في معاوية، و لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه يزيد، سکيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير، وادعاؤه زیادا، و قد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الولد للفراش و للعاهر الحجر»، و قتله حجر بن عدي و أصحابه، فيا ويله من حجر و من أصحاب حجر»(1).

نعم، إن هذه الموبقات الأربع، بل الأربعين، لأن كل واحدة منها تتفرع على ما لا يقل عن عشر موبقات أخرى، هي الخطوط العامة والملامح الأساسية لسياسة معاوية في صفوف المسلمين و في تعامله مع مبادئ و قيم الرسالة الإسلامية.

و في الحقيقة، لقد كان معاوية يدرك ما يفعل تماما، فالشيء الذي كان يخطط له و يقوم به كان عبارة عن عملية وضع منهاج كامل و متكامل في كيفية هدم الإسلام من الداخل، و ما على الخلفاء الأمويين الذين سيأتون بعده و بعد ابنه اللعين يزيد إلا أن يتمثلوا و يستوعبوا منهاج تلك المدرسة القائم على استبدال سياسة الكلمة الطيبة بالسيف الظالم، والقيم الإسلامية بالعادات الجاهلية، والسنة النبوية بالبدع الأموية.

ص: 223


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية . القاهرة، ط 1959/1 ، راجع ج2 ص262.

و لذلك فنحن لا نستغرب من كيفية نظر الكثير من المفكرين المسلمين السنة والباحثين المسيحيين، سواء كانوا مستشرقين أم غير مستشرقين، إلى طبيعة الحكومات الأموية التي تعاقبت على الساحة الإسلامية.

فالكثير من أولئك المفكرين والباحثين لا يرون في الدولة الأموية دولة عدل قائمة على أساس ديني متين، بل هي مجرد إمبراطورية عربية اتخذ حكامها و قادتها الدين ستارا لتحقيق منافع شخصية و مكاسب ذاتية على المستويين الداخلي والخارجي.

أما في ما يتعلق بالميدان الروحي تحديدا، فالكل قد أجمع- خاصة بعد أن قرأوا عن الحسين واستشهاده في كربلاء في سبيل الحق- على أن الحكومات الأموية عموما، و حكومة معاوية و من بعده حكومة ابنه يزيد خصوصا، كانت حكومات دنیوية بحتة و ليس لها أدني علاقة برسالة الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و هذا ما كان يدفع بهم دوما إلى التخلص من كل من كان يدعوهم للعودة إلى الدين القويم.

و حتى ندرك حجم المأساة التي خلفها معاوية على العالم الإسلامي من خلال وضعه لمنهاج مدرسته الخاصة في الحكم والذي ورثه لاحقا لابنه يزيد و للخلفاء من بعده، و حتى ندرك أيضا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة مدرسة معاوية الهدامة للإسلام و لقيمه و مبادئه،علينا أن نورد بعض الشهادات الدامغة حول طبيعة الدولة الأموية التي تأسست على انتهاك الحقوق، و على سفك الدماء، والأهم من ذلك، على تشويه رسالة الله الأخيرة و تحويلها - عملية-من رسالة سماوية سامية إلى مجرد تعاليم سطحية جوفاء يتلاعب بها الخليفة الأموي كيفما يشاء و يطبقها كيفما يريد.

ص: 224

و على كل حال ها نحن نقدم مجموعة صغيرة من الآراء بالدولة الأموية التي سارت، من خلال حكامها، على النهج الذي وضعه لها معاوية و إن لم يكن هو الأول والوحيد الذي وضع أسس و قواعد ذلك النهج المنحرف والسقيم.

يرى المفكر الفرنسي (روجيه غارودي) أن مجيء الأمويين إلى السلطة و تركيز اهتمامهم على السياسة فقط دون المغزى الديني هو (طعنة قاتلة في صميم الإسلام)(1).

و يضيف (غارودي) في كتابه (ما يعد به الإسلام) قائلا إن الحكم الأموي كان حكما بعيدا عن الجوهر الديني و متنكرة له من حيث مبدأ (الأمة الإسلامية)، بل لم يكن في حقيقته أكثر من حكم أموي متعصب(2).

أما المستشرق الألماني (يوليوس قلهاوزن) فيرى في كتابه (تاريخ الدولة العربية) أن الأمويين كانوا منذ البداية أخطر أعداء النبي محمد (عليه وآله السلام) و أنهم لم يعتنقوا الإسلام إلا في الساعة الأخيرة مكرهين و لكنهم عرفوا بعد ذلك كيف يجنون لأنفسهم ثمرة انتصاره و سيادته، و ذلك من طريق استغلال ضعف عثمان أولا، و من طريق المهارة في استغلال مقتله بعد ذلك(3)

و يتابع المستشرق (قلهاوزن) مؤكدا على حقيقة أن أصل الأمويين لا يجعلهم أهلا لقيادة الأمة المحمدية، فهم كانوا مغتصبين للخلافة عن طريق القوة الخاصة التي

ص: 225


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، مصدر سابق ص70.
2- نفس المصدر السابق ص72.
3- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، ترجمة: الدكتور محمد هادي أبو ريدة، نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر في إدارة الثقافة العامة . القاهرة، 1968، ص59.

كانوا يمتلكونها، قوة أهل الشام، و لكن قوتهم تلك لم تستطع أن تصير حقا شرعيا(1).

و لا يختلف رأي المستشرق والفلكي الفرنسي (جان جاك سيديو) (Sedillot ) (م 1777- 1832) كثيرا عن رأي المستشرق الألماني (قلهاوزن)، فقد درس (سیدیو) تاريخ العرب والحضارة الإسلامية، كما أنه درس تاريخ العلوم الفلكية عند العرب.

و قد اشتهر هذا المستشرق بكتابه المعروف ب (تاريخ العرب) الذي ترجم من قبل العديد من المترجمين و قد طبع مرات عديدة نظرا لثراء معلوماته و لقيمته الفكرية العالية، و ما يهمنا في كتابه المذكور هو رؤيته للحكام الأمويين الذين تربعوا على عرش الخلافة.

يرى العلامة (سيديو) أن عصر معاوية هو عصر الفتن والمصائب و سفك الدماء والهلع الذي زرعه معاوية و أعوانه في قلوب المسلمين(2).

و يرى العلامة (سيديو) أيضا أن حكام بني أمية قد استغنوا بالسياسة عن الدين الإسلامي و تجاوزوا في تعاملاتهم الحدود الشرعية و أعرضوا عن إحياء أمر القرآن حتى بلغ الأمر بالخلفاء الأمويين أنفسهم أنهم أصبحوا قدوة لغيرهم في تجاوز الدين و مخالفته(3).

و لا يختلف رأي العلامة (سيديو) عن رأي المستشرق (دومينيك سوردیل) الإسلام في القرون الوسطى) على الإطلاق، بل على العكس من ذلك تماما، فهناك تشابه كبير في وجهات النظر حتى أنها تبلغ أحيانة درجة التطابق التام.

ص: 226


1- نفس المصدر السابق ص60.
2- العلامة سيديو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة المرحوم محمد أفندي بن أحمد عبد الرزاق (وآخرون)، دار الآثار . بيروت، ط 2/ 1400 ه، ص90.
3- نفس المصدر السابق ص91.

فعلى المستوى العقائدي، يرى (سوردیل) أن خلفاء بني أمية كانوا يحملون الناس على الاعتقاد بمبدأ الجبرية أو المشيئة الإلهية المطلقة التي لا تترك أي هامش لمشيئة الإنسان و إرادته، و تفسير ذلك عند (سوردیل) هو أن التقليل من مسؤولية الفرد يعني أيضا التقليل من مسؤولية الخليفة، و بالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته(1).

هذا بالإضافة إلى أن (سوردیل) يرى أن نظام الحكم الأموي، و خاصة الخلفاء منهم، كانوا دائما متهمين بالكفر حيث يؤخذ عليهم التعلق بالحكم والسياسة والتخلي الكامل عن مقتضيات الرسالة القرآنية(2).

و قبل أن نكمل إيراد بقية الشواهد الاستشراقية عن الحكومات الأموية التي خطط لسياستها معاوية و تلامذته المقربون، لابد لي من لفت انتباه القارئ الكريم إلى نقطة على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، و هذه النقطة الهامة تتجلى بقولنا إن استشهادنا بهذه الأقوال للمستشرقين لا يعني لنا أن كل هؤلاء المستشرقين كانوا حياديين و منصفين في تقييمهم للرسالة الإسلامية و للأحداث المفصلية الهامة التي حدثت على امتداد تاريخها، بل إن معظم من دخل دائرة الاستشراق لم يستطع أن ينجو من العصبية أو من عدم النضوج في إطلاق الأحكام النهائية على شخصية ما أو حادثة ما.

أما القلة القليلة من أولئك المستشرقين فهي التي استطاعت، و بعد جهد جهيد، أن تنجو بنفسها من التلوث بأقذار العصبية، و أن تنتهج نهجا سليما في الوصول إلى النتائج المنطقية الصائبة.

ص: 227


1- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، ترجمة: علي المقلد، دار التنوير. بيروت،1983، ص90.
2- نفس المصدر السابق ص90.

و على كل حال، فقد ناقشت هذه النقطة الحساسة في كتاب سابق لي يحمل عنوان (الإسلام والغرب بين حوار الحروف و صدام السيوف)، حيث تمت المناقشة والدراسة بشكل مفصل و دقيق(1)، و كان من نتائج تلك الدراسة هو أنه حتى أولئك المستشرقون المتعصبون الذين كتبوا عن الإسلام و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم و رسالته بطريقة تعصبية واضحة، فقد فشلوا في إخفاء و تبرير الأعمال المخزية والجرائم السوداء البشعة التي ارتكبها الحكام الأمويون بحق الرسالة الإسلامية و بحق أهلها من المسلمين.

و لئن كان المستشرق الفرنسي (بول كازانوفا) (1861- 1926) يعد واحدا من المفكرين والمستشرقين القلائل الموصوفين بالاعتدال والحيادية في طروحاتهم الفكرية و في دراساتهم الأكاديمية، فقد كان له أثر واضح في العديد من الأبحاث الهامة عن الإسلام، بالإضافة إلى أنه كان - سابقا - أستاذا لمادة أصول اللغة العربية في الجامعة المصرية.

و باختصار شديد، فقد أجاد المستشرق (کازانوفا) في وصفه للخلفاء الأمويين عندما قال عنهم بكل جرأة و صراحة: (كانت نفسية) الأمويين على الإطلاق مركبة على الطمع في الغنى إلى حد البشم (أي التخمة المفرطة)، و حب الفتح بقصد النهب، والحرص على التسؤد للتمتع بملذات الدنيا)(2).

و هنا تحديدا، سأتوقف قليلا مع عبارة المستشرق (کازانوفا) عن طبيعة الحكام

ص: 228


1- راجي أنور هيفاء الإسلام والغرب بين حوار الحروف و صدام السيوف، طبع دار العلوم . بيروت، ط 1/ 2004م، راجع الفصل الثاني، ص57 حتى ص103.
2- جورج جرداق، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، ج4 (علي و عصره)، منشورات دار و مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ص47.

الأمويين المركبة على (حب الفتح بقصد النهب)، و أقول تعليقا على هذه العبارة التي أطلقها قلم مسيحي من الغرب، إن هذه العبارة صحيحة بنسبة عالية جدا.

فالحكام الأمويون لم يكن عندهم هاجس نشر الدين أساسا، بل كان هاجسهم الأول هو إيجاد ضحايا جدد من العباد والبلاد بقصد استعبادهم و نهب ثرواتهم و خيراتهم، وأذكر تماما كم كانت هذه الحقائق التي أكتبها الآن تهز کيان الكثير من أصدقائي المسلمين السنة و كم كانت تدهش أيضا أصدقائي من المسيحيين الذين كانت دهشتهم تزداد أكثر فأكثر، هم والأخوة من السنة، عندما كنت أعمد إلى كتب التاريخ المعتبرة، كتاريخ الأمم والملوك للطبري أو تاریخ الخلفاء للحافظ السيوطي الشافعي أو الإمامة والسياسة للدينوري و إلى غيرها من كتب الحديث والتراجم وأستخرج لهم فضائح الحكام الأمويين من بين صفحاتها مما لا يدع مجالا للشك بصدق ما جاء فيها بحقهم من ذكر للمآسي والفظائع التي ارتكبوها بحق الرسالة الإسلامية و مبادئها من جهة، و بحق المسلمين عموما من جهة أخرى، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يقول المفكر السوري المعاصر (سليمان الخش) في كتابه (الفتح العربي الإسلامي): (إن الحكام الأمويين الظالمين، هم و عمالهم، لا يمثلون إرادة الله في العدل، بل هم ظل الشيطان و أعداء الرحمن لأنهم يأمرون بالشر، و يرتكبون الظلم)(1).

و بالطبع، فإن هذا القول من الأديب والمفكر السوري الأستاذ (الخش) لم يأت من فراغ و لم يأت من باب التجني على الحكام الأموين أبدا.

ص: 229


1- سليمان الخش، الفتح العربي الإسلامي، دار ریاض نجيب الريس للكتب والنشر . لندن، ط 1/ 1994 ، ص189.

بل على العكس من ذلك تماما، فالأستاذ (الخش) (1926- 1991) کان دارسا جيدة للتاريخين العربي والإسلامي، هذا بالإضافة إلى عمله الأساسي كأستاذ محاضر في آداب اللغة العربية في جامعة دمشق، و قد شغل عدة مناصب و زارية هامة حيث عين وزيرا للثقافة ثم للإعلام ثم للتربية، و قد مكنته تلك المناصب الوزارية من الاطلاع على الكثير من القضايا الثقافية والتراثية الهامة، و لعل هذا هو أحد أهم الأسباب التي دفعته للكتابة عن تاريخ العرب والمسلمين بهدف کشف النقاب عن الكثير من الحقائق الخطيرة المدفونة تحت رمال التاريخ.

و نعود ثانية و نقول إن الأستاذ (الخش)، و هو بالطبع ليس شيعيا، قد تحدث بإسهاب عن الحكم الأموي الفاسد، والذي كان من نتائج حكامه الأوائل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في الشهر الحرام على بطاح كربلاء، و لم يكتف الأستاذ (الخش) بذكر مساوئ و مثالب تلك الدولة الجائرة، بل راح يشير إلى نقطة على غاية من الأهمية والخطورة و على درجة كبيرة من الدقة والصحة، إنها النقطة التي تسمى بالفتح الإسلامي في العصر الأموي.

و عن هذه النقطة الحساسة، فقد كتب الأستاذ (الخش) تحت عنوان (المجاهدون يدينون التوسع الإمبراطورية العربي) ما يلي:

(عاش الكثيرون من المحماة (أي المحاربين) العرب الذين انزلقت أقدامهم في جيوش التوسع طلبا للرزق أو الثراء، ثم اكتشفوا أنفسهم و قد خانوا مبادئ الإخاء العالمي الذي و عد به الإسلام، فانكفأوا على أنفسهم يلومونها، و طفقوا يراجعون تلك الخطوات التي طوها بعيدا عن القضايا الكبرى للإنسان العربي)(1).

ص: 230


1- نفس المصدر السابق ص130.

إذن، ليس هناك في الإمبراطورية الأموية شيء يدعى الفتح الإسلامي لنشر نور الرسالة الإسلامية، بل هناك شيء واضح يتعلق بطبيعة الحروب التي خاضتها تلك الإمبراطورية الشرسة، إنه التوسع بحد السيف تحت غطاء إسلامي بهدف خلق حركة استعمارية تمد أذرعها الأخطبوطية إلى كل مكان من الأمكنة في العالم الرحيب المثقل بالخيرات والثروات والفتيات الكواعب الحسان.

و غني عن القول إن هذا الرأي الجريء والصائب الذي باح به المفكر الأستاذ (الخش) ليس بالرأي الجريء الوحيد على ساحة الفكر، فهناك الكثير والكثير جدا من رجال البحث والفكر والأدب ممن صحوا، و بكل جرأة و قوة، بمواقفهم و آرائهم حول طبيعة الحكم الأموي الغاشم الذي أذل المسلمين في الداخل واستباح حرمات الناس في الخارج تحت عناوین شتی و بشعارات مختلفة، مثل (الجهاد في سبيل الله) و (الفتح الإسلامي) و(نشر الرسالة الإسلامية) و إلى غير ما هنالك من شعارات و عناوين مترهلة في شكلها و معانيها على جسد و طبيعة الحكومات الأموية.

و بطبيعة الحال، ليس بإمكاننا أن نذكر كل أولئك الكثيرين الذين أدلوا بآرائهم الصريحة و بوجهات نظرهم الجريئة بخصوص أهل الشجرة الملعونة في القرآن، تلك الشجرة التي حاولت جاهدة أن تمد أغصانها شرقا و غربا لفرض ظلالها المظلمة المرعبة على كل من تطاله تلك الأغصان الشيطانية الخانقة.

و لكن، للتأكيد فقط، يكفي أن نذكر من ذلك الكم الهائل من المفكرين الذين يتفقون في الرأي مع رأي المفكر السوري (سليمان الخش) المفكر والعلامة المصري (محمد الغزالي) صاحب عشرات المؤلفات في ميدان الفكر والدين والسياسة والاقتصاد والفلسفة الإسلامية.

ص: 231

فالأستاذ (الغزالي)، و إن تعددت الميادين التي كتب فيها، إلا أنه يبقى قبل كل شيء مفكرة إسلامية بارزة في الزمن المعاصر حيث اصطبغت كل مؤلفاته الفكرية بالصبغة الإسلامية الواضحة و هذا ما جعل منه و من مؤلفاته مرجعا هاما و أساسيا لكل الذين يريدون أن يدرسوا الإسلام و علاقته بالحياة من خلال رؤية إسلامية معاصرة.

و حتى لا نبتعد كثيرا عن محور النقطة المطروحة الآن، نقول إن الأستاذ (الغزالي) قد كرس معظم وقته وجهده لدراسة الإسلام و مسيرته التاريخية والروحية، و درس بإمعان و روية الحروب الإسلامية الداخلية والفتن المحلية التي مزقت صفوف المسلمين و شتت شملهم و أزهقت أرواح الآلاف منهم.

و قد درس أيضا تفاصيل ما حدث مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء والأسباب التي علیه السلام علي للخروج والهجرة مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه المخلصين إلى أرض الشهادة والخلود.

و لم يقصر الأستاذ (الغزالي) في دراسة كل الحروب الداخلية التي سبقت واقعة کربلاء، و ربما استوقفته حرب صفين بين الإمام علي عليه السلام و معاوية أكثر من غيرها من بقية الحروب، و لذلك فعندما طلب منه رأيه في ما حدث في صفين بين جيش الإمام علي عليه السلام و جيش معاوية، أجاب مقسما بالله العظيم إنه يحب عليا عليه السلام كثيرة و يود لو كان له شرف الاستشهاد بين يديه في صفين(1).

أما عن موقفه من الإمام الحسين عليه السلام و ما حدث معه في كربلاء فسنأتي على ذكره في المكان المناسب.

و نعود للتأكيد ثانية على أن الأستاذ (الغزالي) واحد من بين الكثيرين الذين رأوا

ص: 232


1- محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، مكتبة الأمل. الكويت، 1967، ص336.

في الحكومات الأموية رمزا للإمبراطورية التوسعية التي وضعت الدنيا أمام عينيها و ألقت بالآخرة وراء ظهرها.

و من هنا يتساءل الأستاذ (الغزالي) عن أهداف العرب الأمويين من غزو العالم، و عن سبب فشلهم في حمل لواء الإسلام كما يدعون.

و ها هو يقول متسائلا:

ماذا صنع العرب (الأمويون) في الأندلس ؟!

و يجيب هو مباشرة على هذا السؤال بقوله:

فشل هؤلاء في إقناع الجماهير المشدوهة أن محمدا رحمة للعالمين !!

فشلوا في استثارة أشواق الأمم الضخمة إلى قبول الإسلام عن حماسي و رغبة!

كانت أجهزة الدعاية الإسلامية القائمة على البصر والعلم قد تعطلت في ظل ولاة جورة، و ملوك فسقة، فانحسر الإسلام عن الأندلس، بعدما أفسد الترف الخاصة والعامة، و بعدما أنشئت فيها بحيرات من المسک على شطآنها أوحال من العنبر(1).

إذن، و باختصار شديد، يرى الأستاذ (الغزالي) أن العرب الأمويين قد نقلوا معهم الفساد الاجتماعي والتردي الديني إلى العديد من بقاع الأرض و على رأسها بلاد الأندلس، و هذا ما جعل أهل الأندلس و غيرهم يشككون بصدق الرسالة الإسلامية من جهة، و بصدق أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم هو فعلا رسول الرحمة للإنسانية جمعاء من جهة أخرى.

و رب قائل يقول مستنكرا أو مستفسرة:

و لكن ما دخل هذه الأحداث المتأخرة بعصر الإمام الحسين عليه السلام؟!

ص: 233


1- محمد الغزالي، نظرات في القرآن، دار الكتب الحديثة . القاهرة، ط 3/ 1962 ص228.

فهو لم يعاصر إلا شطرا يسيرا منها، فلماذا نأتي على ذكرها؟!

و يمكننا الإجابة على أسئلة كهذه بقولنا: نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام لم يعاصر من الحكام الأمويين إلا القلة القليلة جدا، و لكن هذا لا يمنع من ضرورة إعطاء صورة متكاملة عن طبيعة الحكم الأموي العام الذي عاش الإمام الحسين عليه السلام الجزء الأخير من حياته الشريفة فيه إلى أن استشهد في ظل ذلك الحكم الجائر.

فالإمام الحسين عليه السلام شهد من الحروب أقواها، و عاصر من الفتن أدهاها و عانی من المصائب أقساها، و كان علیه السلام يدرك في قرارة نفسه، و بالاعتماد على اخبار جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بما ستؤول الأمور إليه بعده، أن بني أمية سيملكون الأمر بيد من حديد و سيحكمون المسلمين بسيف من نار لا يعرف العدل و لا الرحمة.

و لذلك، فالإمام الحسين عليه السلام عاش، بالفعل، هاجس الخوف والقلق مما سيقدم عليه الأمويون لاحقا من أجل إطفاء نور الله و إسقاط راية محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يعش هاجس الخوف والقلق على ذاته و نفسه أبدا، و إلا لما خرج بقوة و شجاعة و إيمان إلى ساحة كربلاء، و لكن خوف الإمام الحسين عليه السلام و قلقه كان على مصير رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم من بعده، و لذلك فعندما نقوم نحن الآن بإعطاء صورة متكاملة لطبيعة الحكم الأموي عموما، فإننا نقصد من وراء ذلك تأكيد صدق الهواجس التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام و أحس بها يقينا قبل حدوثها على مدى عقود عديدة.

و من أجل أن نعيش بعدة هاما من أبعاد عصر الإمام الحسين عليه السلام ، علينا أن نتوقف مع حدث هام تعمدنا إرجاء الكلام عنه سابقة، و نرى الآن أن الوقت قد حان فعلا للكلام عنه هنا بالتحديد، إنه صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية و معاهدة

ص: 234

التعايش السلمي بين المعسكرين.

فمن المعروف للجميع أن الإمام الحسين عليه السلام قد شهد ما آلت إليه أمور المسلمين قبيل استشهاد الإمام علي عليه السلام نتيجة خروج معاوية عن طاعة الإمام و إحداث شرخ عريض في صفوف المسلمين واستغلاله حادثة مقتل قريبه عثمان بن عفان الذي شارك هو شخصيا في تسريع عملية مقتله والتخلص منه كي يصفو له الجو بعد ذلك من أجل تنفيذ مخططاته الخاصة التي وضعها هو والمقربون منه كعمرو بن العاص و غيره ممن كان لهم باع طويل في محاربة الرسالة والرسول صلی الله علیه و آله و سلم قبل إظهار إسلامهم.

لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام- شأنه في ذلك شأن أخيه الإمام الحسن المجتبی عليه السلام- أن الإسلام بات على مرمى من حجر من الدخول في دائرة التيه والضياع والوقوع فريسة سهلة و لقمة سائغا في فم الروم و سواهم من الأعداء الخارجيين المتحفزين في كل لحظة للوثوب على الأمة الإسلامية الصغيرة والحديثة الولادة قياسا بالإمبراطوريات والممالك الأخرى القوية والعريقة المحيطة بها.

نعم، لقد أدرك الإمامان السيدان الحسن والحسين عليهماالسلام هذه الحقيقة المرة والتي لا سبيل إلى تجاهلها أو الإغضاء عنها إلا بمجابهتها وجها لوجه و ذلك عن طريق دراستها و تحليلها و من ثم استخلاص النتائج المترتبة عليها، و بالتالي و جوب القيام بالتصرف المطلوب بغية الوصول إلى أي هدف من شأنه أن يحفظ الرسالة السماوية الجديدة، و أن يقلص الهوة بين المسلمين في الداخل و لفت أنظارهم إلى عدوهم المتربص بهم شرا في الخارج.

و كان من الطبيعي أن يكون القرار الحاسم والخطير بشأن تلك المسألة في يد

ص: 235

الإمام الأكبر، الإمام الحسين عليه السلام الذي كان -كما تصفه كتب المسلمين عموما - أشبه الناس بجده النبي المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم خلقا وخلقا.

و لما كان الرسول المصطفى صی الله علیه و آله و سلم قد بعثه الله سبحانه و تعالى رحمة للعالمين، كان من الطبيعي و من المنطقي تماما أن يحذو حفيده الإمام الحسن عليه السلام حذوه في طلب الرحمة والرفق والسلام والمحبة للجميع من مسلمين و حتى غير مسلمين طالما أنهم لا يناصبون الحق العداء الدامي و لا يتربصون بهم دوائر السوء.

و بما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم قد صرح في أكثر من مناسبة قائلا عن حفيده الإمام الحسن علیه السلام: «إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1).

فقد كان من الطبيعي تماما أن يقبل الإمام الحسن عليه السلام الصلح الذي عرضه عليه معاوية مع التحفظ الكامل على بعض بنود الصلح المكتوبة بوجود الشهود من کلا الطرفين المتنازعين.

و لا ريب أيضا في أن الإمام الحسين عليه السلام كان له رأيه في بنود ذلك الصلح،

ص: 236


1- راجع على سبيل المثال، لا الحصر، ما جاء في الكتب التالية: أ. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، منشورات الشريف الرضي. قم، 1418، ص177. ب . العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مؤسسة البلاغ . بيروت، 1999، ص227. ج. العلامة ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مؤسسة الأعلمي . بيروت، د.ت، ص153. د. الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بيروت، د.ت، ص133. ه . الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاريخ الخلفاء، دار الفكر - بيروت، د.ت، ص176. و محمد رضا (المصري)، الحسن والحسين، المكتبة العصرية . صيدا ، ط1/ 2004 م، ص35.

و كان له بنفس الوقت حضوره الشخصي الذي يمثل دور الإمام الشاهد الذي سيذکر المسلمين لاحقا أن أخاه الإمام الحسن عليه السلام لم يقبل الصلح إلا لقلة ناصريه الحقيقيين من جهة، و ليبين لهم أيضا أن معاوية رجل غدر و مكر لا يقيم للعهود أي وزن و لا يقيم للدين و مواثيقه أي اعتبار، أما الشيء الآخر والذي لا يقل أهمية عما سبق هو إرادة الحسين عليه السلام الواضحة في النزول عند رغبة أخيه الإمام الحسن عليه السلام بعقد الصلح مع معاوية - بعد التأكد من رغبة العدد الأكبر من الأتباع في الإعراض عن المواجهة المباشرة والميل الواضح إلى المهادنة - ليذكرهم لاحقا أن للصلح زمان و للثورة زمان، و لا معنى للثورة ما لم يكن هناك ما يبرر القيام بها من أسباب و ظروف و رياح زمنية مؤاتية و بعد الاستنفاد الكامل لكل الوسائل والسبل السلمية في كيفية التعامل مع جوهر المشكلة و أسباب النزاع.

و من أجل أن تبدو الصورة أكثر وضوحا في ما يتعلق بصلح الإمام الحسن علیه السلام المبرم مع معاوية، والذي كان الإمام الحسين عليه السلام شاهدأ حيا و حيويا على أسباب و ظروف انعقاده و علی بنوده و شروطه، و من ثم على مصيره و نتائجه اللاحقة، نری من الواجب علينا أن نذكر الآن أهم بنود هذا الصلح كما سجلته كتب التاريخ عند كل الأطراف، و خاصة السنية، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود بعض الاختلافات اليسيرة بين الكتب والمراجع المعتبرة.

و نحن بدورنا، بإمكاننا الآن أن ننسق و نختصر صورة مواد ذلك الصلح و نوردها بالشكل التالي:

1- تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله و بسنة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم و بسيرة الخلفاء الصالحين.

ص: 237

2- أن يكون الأمر للإمام الحسن عليه السلام من بعده، فإذا حدث له مكروه فيكون الأمر لأخيه الحسين عليه السلام .

3- ليس لمعاوية الحق في أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده .

4- أن يتوقف عن أمير المؤمنين علي عليه السلام والقنوت عليه بالصلاة، و أن لا يذكر عليا إلا بخير.

5- على معاوية أن يحمل إلى الحسين عليه السلام ألفي ألف درهم لتوزيعها على فقراء الشيعة، و أن يفرق معاوية الأموال في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين علي عليه السلام يوم الجمل، و أولاد من قتل معه بصفين أيضا.

6- على معاوية أن يجعل الناس آمنين حيث كانوا من أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم و يمنهم، و أن يؤمن الأسود والأحمر، و أن لا يتبع أحدا بما قد مضى، و لا يأخذ الناس بالهفوات، و أن يعطي أصحاب علي عليه السلام الأمان حيث كانوا، و أن لا ينال أحدة من شيعة على علیه السلام بمكروه، و أن يكونوا آمنين جميعا على أنفسهم و أموالهم و أعراضهم و أولادهم، و أن لا يتعقب عليهم شيئا و لا يتعرض لأحد منهم بسوء، و يوصل إلى كل ذي حق حقه.

و على معاوية أيضا أن لا يبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لا لأحد من أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، غائلة سرا و لا جهرة، و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق(1).

ص: 238


1- راجع ما جاء في الكتب التالية، مع ضرورة ملاحظة أن البعض منها قد اقتصر على ذكر بعض البنود فقط في حين أن البعض الآخر حاول أن يذكر معظم البنود أو أهمها: أ. العلامة الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، مصدر سابق، ص133. ب. العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مصدر سابق، ص. 240. ج. الإمام العلامة ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مصدر سابق، ص163. د. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق، ص180. ه. العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج2 ص117. و . العلامة غريغوريوس الملطلي المعروف ب (ابن العبري)، مختصر تاريخ الدول، طبع مؤسسة نشر منابع الثقافة الإسلامية . مدينة قم، د.ت، ص108. ز. محمد رضا، الحسن والحسين، مصدر سابق ص48. ح. أسعد وحيد القاسم (الفلسطيني)، حقيقة الشيعة الإثني عشرية، طبع و نشررابطة أهل البيت علیهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، ط 1991/1 ، ص75. ط. محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن، دار المثقف المسلم . قم، د.ت، ص130.

هذه هي، بإيجاز، بنود الصلح بين الإمام الحسن علیه السلام و معاوية والتي عمل من خلالها الإمام الحسن المجتبى علیه السلام علی حقن دماء المسلمين كما كان قد تنبأ له جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بذلك قبيل رحيله إلى الملأ الأعلى بوقت ليس بالقصير.

و هذا الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام و معاوية هو صفحة هامة من الصفحات التي قرأها الإمام الحسين عليه السلام بإمعان و حللها بروية و إتقان، و من ثم استخلص النتائج المنبثقة عنها واحتفظ بتلك النتائج الهامة المستخلصة إلى حين وجوب إظهارها و شرحها و تبيانها إلى عموم المسلمين في الوقت المناسب.

و لعل من أهم النتائج الشريعة التي استخلصها المسلمون عموما و دون انتظار شرحها من الإمام الحسن عليه السلام أو أخيه الإمام الحسين عليه السلام هي حقيقة أن معاوية لا يمكن أن يكون إلا أحد أهم الأغصان في الشجرة الملعونة في القرآن

فمعاوية الذي أعطى الإمام الحسن علیه السلام العهود والمواثيق و أغلظ له الوعود بالوفاء له بها لم يلبث إلا سويعات قليلة على و عوده و عقوده التي استشهد الله عليها حتى انقلب على عقبيه و نکص مرتدا عن كل ميثاق غلیظ و راح يهدم في بناء الإسلام حجرة وراء حجر و كأنه نسي أن أول بند من بنود صلحه مع الإمام الحسن المجتبی

ص: 239

علي السلام هو أن يعمل في الرعية بكتاب الله و سنة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

إذن، كانت هذه الحادثة المشهورة إحدى الصفحات الهامة التي عاصرها الإمام الحسين عليه السلام و عایشها عن قرب و استمد منها دروسا عظيمة في كيفية التعامل معها كل أنواع أعداء الرسالة في المستقبل القريب.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم تنبأ لحفيده الإمام الحسن عليه السلام بأنه سيكون السيد العظيم الذي سيحقن بأخلاقه و حكمته و حلمه دماء المسلمين، و قد حدث بالفعل ما تنبأ به الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و كأنه كان يقرأ كتاب الغيب و هو بين يديه الكريمتين.

و هنا لنا أن نتساءل قائلين: نعم، لقد صدق الرسول المصطفی صلی اللهعلیه و آله و سلم بشأن ما سيحدث مع أول ريحانتيه العطرتين بشأن حقن دماء المسلمين، و لكن ما هو موقفه صلی الله علیه و آله و سلم مما سيحدث لثاني ريحانتيه عندما يرفض المسلمون الذين حقنت دماؤهم بفضل أخيه عليه السلام أن يحقنوا دمه الزكي و دم عياله و أهل بيته و أصحابه المخلصين المدافعين عن أحد سيدي شباب أهل الجنة ؟!

أي تناقضي عجيب هذا!!

الإمام الحسن علي السلام يخطط لحقن دماء المسلمين، والمسلمون من وراء قادتهم ينساقون لسفك دماء أخيه الإمام الحسين علیه السلام؟!

أي مفارقة غريبة تلك!!

المسلمون يرفعون أصواتهم بالصلاة والسلام على محمد و أهل بيت محمد خمس مرات في اليوم، و من ثم يعودون فيرفعون أياديهم بالسيوف والرماح ليوقعوها على رقاب أولاد و أحفاد محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته، و هم يرجون - بعد ذلك - شفاعته؟!

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 240

جذور الثورة و دوافع النهضة

تحدثنا في الفصل السابق من هذا الكتاب عن نقطتين أساسيتين و هما: عصر الإمام الحسين عليه السلام والأحداث الهامة التي شهدها كلها حيث كان عليه السلام الشاهد الفعال في معايشتها و في التعامل مع تبعاتها لاحقا، أما النقطة الثانية التي تحدثنا عنها أيضا هي التعريف الموجز بالشجرة الملعونة التي ما برحت تناصب الإسلام والرسول صلی الله علیه و آله و سلم العداء والبغضاء منذ انبلاج الخيوط الأولى لأشعة الرسالة و حتى اندثار دولتهم التي أسست على الغدر والخيانة و على أمل إعادة الحياة إلى الروح الوثنية والقيم الجاهلية في المجتمع الجديد.

و غني عن القول إن هذا الفصل جزء لا يتجزأ عن الفصل السابق، بل يمكننا القول إن هذا الفصل هو الامتداد الفكري الطبيعي للفصل السابق بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر أبدا.

و لذلك، و قبل أن ندخل في دراسة و تحليل جذور الثورة الحسينية و دوافع تلك النهضة المباركة التي لا تزال تداعب ضمائر الأحرار وقادة الثورات الكبرى في العالم حتى وقتنا الراهن، علينا أن نذکر ثانية بحقيقة أن معاوية بن أبي سفيان الذي تكلمنا عن بعض موبقاته في الفصل الماضي، كان يمثل و بجدارة الطعنة القاتلة التي استقرت في صدر الإسلام.

لقد كان الشيخ الأزهري، العلامة (محمود أبو رية) على حق حين اختصر الكلام

ص: 241

عن معاوية في كتابه (شيخ المضيرة أبو هريرة) و أثره على غير المسلمين من أوروبيين و غير أوروبيين بقوله إن أحد كبار علماء الألمان في الآستانة قال يوما لبعض المسلمين -و فيهم أحد شرفاء مكة المكرمة:

إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا في عاصمتنا برلين، فقيل له: لماذا؟ قال: لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية، و لولا لذلك لعم الإسلام العالم كله، و إذن لكنا نحن الألمان و سائر شعوب أوروبا عربة مسلمين)(1).

و لا ريب في أن هذا الكلام صحيح تماما، فمعاوية، و غيره ممن لقبوا أنفسهم بالخلفاء، كان لهم الدور الأبرز في إبعاد الناس عن الإسلام، بل و في تنفيرهم من المسلمين عموما.

فالإسلام من حيث إنه رسالة سماوية أخيرة موجهة بواسطة نبي مرسل إلى عموم أهل الأرض لم يكن بالنسبة إلى معاوية وأمثاله أكثر من ستار عريض يخفون وراءه كل ما يكنون من مطامع شخصية و رغبات ذاتية دنيوية لا تمت للدين الإسلامي بأدنی صلة، و يكفي أن نذكر على سبيل المثال أن المستشرق (هنري ماسيه) المعروف بتشنجه تجاه العديد من المسائل الإسلامية، لم ير حرجا في ذكر تلك الحقيقة الواضحة عن طبيعة الحكام الأمويين عموما، فقد قال الأستاذ (ماسیه) بالحرف الواحد في كتابه الذي يحمل عنوان (الإسلام) ما يلي:

(إن الأمويين رأوا أن اعتناق الإسلام ينقص مدخول الضرائب فوضعوا العوائق

ص: 242


1- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، دار المعارف بمصر . القاهرة، ط3/ 1969، ص185.

أمام اعتناق الإسلام، و كان عمالهم يعاملون هذه الشعوب (غير العربية)، التي هي وارثة لمدنيات قديمة يسرها تذکرها، كطبقة أدنى، و يضغطون عليها و يسيئون معاملتها)(1).

إذن، أن تدفع لهم حفنة من المال أفضل عندهم من أن تصبح أخا لهم في الإسلام.

و يبدو أن قدر أهل البيت عليه السلام، الحملة الحقيقيين لرسالة الله في أرضه، أن يكونوا دائما هدفا مباشرا لعداوة أهل البيت الأموي، ذلك البيت الذي لم يؤمن أفراده بالإسلام إلا خوفا أو طمعا، و لم يدخروا جهدا في محاولاتهم إعادة الناس إلى ما كانوا عليه في عصر الجاهلية من الوثنية والعصبية والروح الأعرابية التي تتعارض مع المبادئ الإسلامية والقيم المحمدية في الكثير من جوانبها و غاياتها.

و قد صدق شاعر الفلاسفة و فيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) عندما وصف تلك العداوة الدائمة بين الحق والباطل، الخير والشر، بقوله:

عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حربا يشيب فيها الوليد

فابن حرب للمصطفی، وابن هند لعلي، و للحسين يزيد(2)

إذن، العداوة بين هذين البيتين قائمة دائما و أبدا، بیت یرید أهله أن يحملوا بشائر النور إلى العالمين ليهدي الإنسان إلى سراج الحق والخير والفضيلة، و بيث ثان يريد أهله أن يطفئوا ذلك النور بأفواههم ليعودوا بالإنسان إلى كهوف الظلم والظلام والرذيلة.

ص: 243


1- هنري ماسية، الإسلام، ترجمة: بهيج شعبان، منشورات عويدات. بيروت، 1960، ص73.
2- آية الله محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، دار الملاك . بیروت، ط1/ 1997، ص216.

نعم، إن كل الخلفاء الأمويين عموما، ومعاوية وابنه يزيد خصوصا، قد رفعوا شعارات إسلامية براقة و حاولوا دائبين إيهام المسلمين أنهم يعملون بكل تقوی و إخلاص لتحقيق تلك الشعارات والعناوين العريضة التي من شأنها أن تضفي عليهم شرعية لقب (الخليفة) و تبعد عنهم بنفس الوقت لقب (الملك) أو حتى (الإمبراطور).

و بالطبع، لم يكتفوا بذلك بل راحوا يغدقون الأموال الطائلة لأصحاب الأقلام المأجورة والضمائر المهجورة كي يشوهوا معالم الرسالة و سيرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وذلك بهدف تبرير ما يقومون هم به من أفعال دنيئة و آثام رديئة يترفع عن ارتكابها حتى الإنسان العادي من عموم المسلمين.

لقد أوحى (خلفاء) بني أمية - من خلال مؤرخيهم و رواتهم - أن النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم غیر معصوم حتى عن الكبائر، بل يمكن له أحيانا أن ينسی آیات من القرآن، و يمكن له أن يظلم في القضاء بحجة أن بعض الناس يكونون أقوى في حجتهم من البعض الآخر و لو كانت تلك الحجة مكذوبة.

و يمكن للرسول صلی الله علیه و آله و سلم أن يعيش طويلا مع ملذاته حتى أنه لا يصبر على عدم مجامعة أزواجه، فيباشر البعض منهن و هن حائضات.

والأدهى من ذلك أن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم کان یشرب الخمر أحيانا دون حرج مع معرفته المسبقة به أنه خمر و مسكر، و لذلك، ما على القارئ الكريم، إذا أراد أن يتأكد من ورود هذه الصفات الذميمة التي ألصقت بالنبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم زورا و بهتانا، إلا أن يعود إلى قراءة (صحاح) المسلمين ليرى ذلك بأم عينه و خصوصا تلك الأحاديث الكثيرة الزائفة التي وردت على لسان شيخ المنافقين (أبي هريرة)، ذلك الراوي الكاذب الذي نهاه عمر بن الخطاب عن رواية الحديث، و عزله عن ولاية البحرين

ص: 244

لعدم أمانته، بل وقام أيضا بجلده بقسوة حتى أدمى ظهره(1).

و رب قائل يسأل هنا مستفسرا عن سبب إلصاق هذه التهم الباطلة بالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و ما الحكمة في ذلك.

و يكون الجواب، و بكل بساطة، أنهم كانوا يلصقون تلك الافتراءات الباطلة والتهم المشينة بصورة الرسول المصطفى صلی اله علیه و آله و سلم ليكون ذلك مخرجة منطقيا لهم من الأفعال السوداء التي كانوا يمارسونها على مسمع و مرأى من عامة المسلمين.

هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فقد غرسوا في أذهان الناس فكرة (الجبرية) في الأفعال.

فالخليفة- وفق تلك النظرية الدخيلة على الفكر الإسلامي السليم- سيتمكن من قتل كل معارضيه و تصفيتهم لأن الإرادة الإلهية أجبرته على ذلك، والخليفة أيضا سيكون قادرا وفقا لنفس النظرية السابقة -على ارتكاب كل ما تطيب له نفسه من آثام و موبقات دون أن يحاسبه أحد و ذلك لسبین جوهريين و هما: أولا، إن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ذاته كان - وفق مروياتهم الملفقة - معرضا لارتكاب كل أنواع الأخطاء والمعاصي، و بالتالي فمن الطبيعي أن يخطئ الخليفة كما أخطأ الرسول.

ثانية، إذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي إجبار العبد على فعل المعاصي، فلا يجوز لأحد من الخلائق أن يعترض على ما يقوم به الخليفة من جرائم و آثام حتى و لو كانت تلك الجرائم بحق الإسلام ذاته.

و هكذا كان الخليفة أو الحاكم منهم يريد إسلاما خاصة على شاكلته و على مقتضيات احتياجاته و متطلباته، فقد أصبح الإسلام بالنسبة إليهم أشبه ما يكون بقطعة

ص: 245


1- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، مصدر سابق ص105.

من القماش يقوم الخليفة بقصها وتفصيلها وفقا للشكل الذي يريده وتبعا للمقاس المطلوب.

فهو رب الرعية في النهار، لكنه، بنفس الوقت، هو رب الغانيات في الليل، و هو الذي يخطب بالمسلمين في أيام الجمعة و يقول لهم محذرا من الظلم و مذكرا إياهم بالحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الرحمة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فما أطعمتها و ما تركتها تأكل من خشاش (أي حشرات) الأرض.

نعم، هو يحذر المسلمين في خطب الجمعة من ظلم الهرة و ربما أدنى من ذلك، لكنه يحض المسلمين في نفس الخطب على وجوب قتل أهل بيت محمد عليهم السلام و إراقة دمائهم و دماء أتباعهم أينما وجدوا!!

إنهم يرفعون أصواتهم بالصلاة على محمد خمس مرات في اليوم، و بعد الصلاة يتقربون إلى الله بتقتيل أبناء و ذرية ذلك الرسول الذي كانوا منذ قليل يرفعون أصواتهم بالصلاة عليه !!

و على أي حال، و من أجل عدم الخروج عن محور بحثنا، دعونا الآن نبحث في الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام للقيام بثورته، أو بالأصح، بنهضته في مواجهة و مقارعة رؤوس الإمبراطورية الأموية مع معرفته المسبقة بالثمن الباهظ الذي سیدفعه لقاء ذلك.

و قبل كل شيء، دعونا نقف قليلا مع كلمات قليلة و معبرة قالها المفكر والدكتور السوري (شبلي شميل) (1917-1853) عن مفهوم الثورة و ضروراتها.

يقول الدكتور (شمل): (إن المجتمع لا بد له في بعض الأحوال من ثورة تخلصه

ص: 246

من خطر الهلاك، و يلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعداد باطن كأنها اتفاق خفي بين أعضائه، موافقة لأمياله، أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكون قانونية و إلا انقلبت شا عليه)(1).

و يرى هذا الدكتور و(الفيلسوف) - كما جاء وصفه في العديد من المراجع والموسوعات - أن الثورة يجب أن يكتب لها النصر بطريقة أو بأخرى و إلا فإنها ستذهب جهودها أدراج الرياح و تتحول إلى رماد في مهب العواصف و على كثبان الرمال.

و لا ريب في أن هذا الكلام لا يخلو من الصدق والصحة و إن كان لدينا بعض التحفظات على تحليل تفاصيل بعض العبارات، فالثورة حركة، والحركة حياة، والحياة نقيض الموت والهلاك، و بالتالي فإن الثورة أو النهضة هي اختلاجات حياة جديدة في جسد أنهكه السقم.

أو لنقل: إنها جنين متمرد على رحم بدا و كأنه أصيب بالعقم أو السقم.

و هنا علينا أن نؤكد على مسألة هامة جدا عند البحث عن جذور و أسباب النهضة الحسينية، علينا أن نؤكد مرارة على حقيقة أن الإمام الحسين عليه السلام و أتباعه المخلصين لم يختاروا و لم يفضلوا السيف على الكلمة، بل على العكس من ذلك تماما، فالنهضة الحسينية كانت في حقيقتها و في جوهرها حركة ممانعة قائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوة الكلمة لا بقوة السيف.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يختر الحرب بداية لإحياء دین جده الرسول المصطفى

ص: 247


1- محمد زكي عبد القادر، الحرية والكرامة الإنسانية، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1959، ص74.

صلی الله علیه و آله و سلم، بل نهض کما نهض جده صلی الله علیه و آله و سلم من قبله يدعو الناس إلى إصلاح المجتمع بالكلمة الطيبة و يدعوهم إلى الدين السماوي الجديد والأخير بالحكمة والموعظة الحسنة.

و لو قرأنا بإمعان و روية رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، و ذلك قبل خروجه بأهله و أصحابه إلى كربلاء، لأدركنا أن الإمام الحسين عليه السلام قد جعل الأفضلية في الحوار مع الآخر لسلطة الكلمة أولا، أما اللجوء للحوار بالسيوف فهو الحالة الاضطرارية التي قد يجبره الطرف الآخر إلى اللجوء إليها والعمل بها.

و كما وعدنا القارئ في الفصل الأول، ها نحن نعود لوصية الحسين عليه السلام مرة أخرى من أجل شرحها و توضيحها هنا، و ننقلها ثانية بكل أمانة كما جاءت في كتاب (مقتل الحسين) لمؤلفه السني المعروف (أبي المؤيد الموفق بن أحمد المكي المعروف بأخطب خوارزم الحنفي)- و يقول نص الرسالة الذي تعترف به كل المراجع الإسلامية والتاريخية المعتبرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله جاء بالحق من عند الحق، و أن الجنة والنار حق، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، و أن الله يبعث من في القبور، إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنما خرجت أطلب الإصلاح في أقة جدي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدي محمد، و سيرة أبي علي بن أبي طالب و سيرة

ص: 248

الخلفاء الراشدين فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، و من رد علي هذا صبرت حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و يحكم بيني و بينهم و هو خير الحاكمين، هذه وصيتي إليك يا أخي و ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب والسلام عليك و علی من اتبع الهدى و لا قوة إلا بالله العلي العظيم)(1).

إذن، هذا هو مجمل نص الرسالة الموجهة من الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، و هي رسالة قصيرة و معبرة جدا، و لها دلالات واضحة تدل على أن الهدف الأول للإمام الحسين عليه السلام من ثورته النهضوية هو- كما قال - «أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلی الله علیه و آه و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر...»، و هذا يعني بشكل بديهي تماما أن الحوار الذي كان يريده الإمام الحسين عليه السلام مع خصمه هو الحوار النابع من جذور الكلمة الطيبة والحجة البرهانية الناضجة والقادرة على إقناع الطرف الآخر دون الحاجة للجوء إلى منطق القوة أو إلى المبدأ القائل إن القوة هي الحق.

فالحق في فلسفة النهضة الحسينية هو القوة و ليس العكس، و لذلك فإن الحق يكتسب قوة ذاتية من كونه المبدأ الذي يقف موقف النقيض مما هو باطل و لأن الحق عند الإمام الحسين عليه السلام هو القوة، فإن هذه القوة يجب أن تنطلق أولا من قاعدة الكلمة والحوار، من قاعدة العقل والمنطق، من قاعدة الحجج والبراهين، لا من قاعدة الفوضى والانفعالات، أو من قاعدة التعصب والتعنت، أو حتى من منطلق اللجوء في حسم الخلافات والنزاعات إلى سلطة السيف والنار.

فلو تدبرنا قليلا قول الإمام الحسين عليه السلام في الرسالة السابقة «و من رد علي هذا

ص: 249


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق ج1 ص189.

أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق، و هو خير الحاکمین»، نرى أنه عليه السلام لا يريد لأصحابه و لمن كان معه من أهل بيته أن يكونوا هم البادئين بالقتال لأنه علیه السلام لا یرید بالأساس أن يتحرك في حواره مع المعسكر الآخر من خط العنف والحوار بلغة الدماء، بل يريد قبل كل شيء أن يسير وفق نهج الرفق واللين الذي رسمه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لسياسته الأخلاقية في تعامله مع الآخرين.

و اعتمادا على ذلك، يمكن أن نعتبر أن الإمام الحسين لم يخرج محاربا بمعنى أن هدفه الأساسي كان الحرب والاقتتال، بل خرج مصلحا، و ثائرا لتغيير وجه الواقع الذي لم يعد يعكس الصورة التي أرادها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم له.

فهو علیه السلام، إذن، داعية للحق و طالب للإصلاح في مجتمع أراد له القائمون عليه أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يعيده إلى تطبيق المبادئ و إظهار القيم التي نادى بها رسول الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم ابن وابن عمه الإمام علي عليه السلام منذ الخيوط الأولى لفجر الرسالة.

و هنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطة هامة وردت في رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد ابن الحنفية والتي ذكرناها سابقا و تتعلق هذه النقطة بقول الإمام الحسين عليه السلام : «... وأسير بسيرة جدي محمد و سيرة أبي علي بن أبي طالب و سيرة الخلفاء الراشدين».

فالإمام الحسين عليه السلام بالاعتماد على الكثير من المراجع والمصادر السنية المتقدمة والمتأخرة، لم يقل هذه العبارة كما هي، بل وردت في معظم المصادر والمراجع دون عبارة (وسيرة الخلفاء الراشدين)، و لكنني تعمدت أن أذكر هذه العبارة كما وردت حرفيا ضمن الرسالة التي أخذتها من كتاب مقتل الحسين لمؤلفه (أخطب خوارزم الحنفي) للتأكيد على أن الرواة في زمن الحكومات الأموية المتعاقبة كانت

ص: 250

تسعى جاهدة لوضع السم في الدسم، و من ثم لتضليل الرأي الشعبي العام و لتشويه الحقائق حتى تغدو، مع مرور الزمن، تلك الحقائق أكاذيب، و تتحول الأكاذيب في مؤلفاتهم إلى حقائق.

و بالطبع، لا أقصد هنا الإساءة إلى (أخطب خوارزم الحنفي)، فهو من رجال الفكر الديني الذين يتميزون بمكانة لائقة حتى عند الشيعة، و لكن ما قصدت قوله هو أن السياسة الفكرية والإعلامية الأموية كانت ذات نهج سياسي إعلامي واضح يقوم على مبدأ: اكذب الآن واستمر في الكذب حتى تصدقك الأجيال القادمة.

و على كل حال، لو أردنا أن نتعمق أكثر في تحليل تلك الرسالة السابقة التي وجهها الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن الحنفية عليه السلام لعرفنا و أدركنا أن الإمام الحسين عليه السلام لم يخرج لمقابلة أعداء الإسلام إلا و هو مسلح بالإيمان الكامل و بقوة الكلمة الطيبة التي يمكن أن تثمر سلاما و خيرا و محبة بين الجميع.

و لذلك، فعندما يقول الإمام الحسين علیه السلام: «لم أخرج أشرا»، فإنه يعني بذلك أنه لم يخرج طلبة للشر، و لا لزرع الشقاق بين صفوف المسلمين، و لكنه خرج بقوة الإيمان الكامل لتذكير المسلمين عموما بثوابت دينهم و بأسس و أخلاقيات عقيدتهم و رسالتهم.

فخروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء هو خروج محمد صلی الله علیه و آله و سلم ذاته، و لكن هذه المرة من خلال حفيده الحسين عليه السلام إلى أمة المسلمين ليذكرهم من جديد بقول الله سبحانه و تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(1)، قاصدا بذلك الابتعاد عن العنف من جهة، و إيجاد الضمان المبدئي لقيامه بواجبه الشرعي، كإمام

ص: 251


1- سورة الأنبياء: الآية 92.

مفترض الطاعة، بتذكير المسلمين بواجباتهم الشرعية و بضرورة العودة إلى دائرة الحق والالتزام بوصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و بقيمه و مبادئه السماوية السامية من جهة أخرى.

و عندما يؤكد الإمام الحسين على قوله «لم أخرج أشرا» بقوله: «ولا بطرا»، فإن أبسط ما يمكن أن يفهم من هذه العبارة هو أنه عليه السلام لم يخرج طلبا للاستعلاء و لا للغطرسة أو للتحكم والتسلط على الآخرين، بل إن أول هدف من أهداف خروجه العديدة هو التصدي لاستعلاء الآخرين و لإيقاف تغطرسهم و تحكمهم في رقاب الناس و في مصائرهم و سائر أحوالهم.

و كما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عاش من جديد في نهضة حفيده الإمام الحسين عليه السلام ، كذلك معاوية قد عاش من جديد أيضا، هو و من والاه، في نهج ابنه يزيد قاتل أبناء الأنبياء.

و قد رأينا في الفصل السابق من هذا الكتاب كيف أن معاوية و أمثاله من المقربين منه قد أرادوا بكل ما أوتوا من قوة و بأس أن يطفئوا نور الله بأفواههم و أن يخنقوا الإسلام و هو ما زال فتيا و ذلك من خلال تفريغه التام من کامل محتواه الروحي و من كل قيمة الإنسانية و تعاليمه الرسالية، و قد رأينا في الفصل السابق كيف أن معاوية قد تربع على عرش الملك بعد أن افترش الأرض دماء و عظام جماجم ضاربة بتعاليم الإسلام عرض الحائط.

و ربما كان الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) من أكثر الأدباء والشعراء توفيقا في وصفه لمعاوية و للطريقة التي جاء بها يتحكم من خلالها في رقاب المسلمين، و ها هو يقول في ملحمته الغراء (عيد الغدير) معبرا عن ذلك:

ص: 252

إن ملكأ يشاد من دمع ثكلى *** و دماء الشيوخ والفتيان

هو صرح أوهی من الكذب أسأ *** فجذور الفناء في البنيان

بسم الحظ يا معاوي فاجلس *** فوق عرش من المآثم قان(1)

ثم يتابع الأستاذ (سلامة) و صفه الصائب والدقيق للنهج الذي رسمه معاوية لكل عماله و ولاته على الأمصار والبلدان قائلا:

إن عمالك الطغاة نمور *** مرهفات النيوب للرعيان

فاستطالت على الرعية إجراما *** و نهبا منوع الألوان

اتخذوا خلقك المزيف نهجأ *** إن كل المقال في العنوان

ففي ز من معاوية انتشرت الرذائل بكل أنواعها و تفشت النقائص بكل أصنافها، حتى أن المؤمن بات يخاف من إظهار إيمانه و حبه لأهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكأنه يجني إثما عظيما أو كأنه يرتكب ما لا كفارة له أبدا.

و لذلك، فعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام إنه قد خرج إلى كربلاء من أجل (طلب الإصلاح) في أمة جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، علينا أن ندرك أن الإصلاح هو لغة الأنبياء والرسل والأوصياء، بل هو أيضا لغه المصلحين والمرشدين الروحيين عبر مختلف العصور.

فالإصلاح هو إعادة الاعتبار إلى عملية إرشاد المجتمع و توجيهه إلى الفضيلة والحق والخير والسعادة، و إلى كل قيمة من القيم الإنسانية النبيلة التي من شأنها أن تصقل الجانب الإيجابي الخير في كل إنسان.

و ليس هذا فحسب، بل إن الإصلاح أيضا هو عملية ثورية ذاتية تقوم بنفس الوقت

ص: 253


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص194.

بالوقوف والتصدي لكل قوى الجهل والظلام، و مجابهة شتی وجوه الشر والظلم والفساد.

و لو أردنا أن نتوقف قليلا مع مبدأ الإصلاح الذي اعتمده الإمام الحسين عليه السلام في نهضته، و عرضنا ذلك المبدأ على ميزان القرآن الكريم، فماذا عسانا أن نرى ونستنتج؟!

لا ريب في أن الحصول على الجواب المطلوب ليس بالشيء العسير أو حتى الصعب، و لكن دعونا الآن نستعرض سوية بعض الآيات القرآنية المباركة التي تتحدث عن الإصلاح والمصلحين في المجتمع و من ثم ننتقل إلى الجواب المطلوب.

يقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الحكيم: «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»(1)، و يقول سبحانه في مكان آخر أيضا: «فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(2)، و يمكننا أن نقرأ أيضا عن الأنبياء المصلحين قوله سبحانه و تعالى في سورة الأعراف: «وَ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَ لَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ»(3)

إذن، فالإصلاح رسالة النبي والرسول والوصي، و هو أيضا مسؤولية فردية يمكن أن تقع على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع، فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم أخبرنا في أكثر من موضع و في أكثر من مناسبة أنه على كل واحد منا إذا رأى منكرا في مجتمعه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، و إن عجز عن ذلك فعليه أن يستنكره بقلبه و ذاك أضعف الإيمان.

ص: 254


1- سورة الشورى: الآية 40.
2- سورة الأعراف: الآية 35.
3- سورة الأعراف: الآية 142.

و من هنا كانت انطلاقة الإمام الحسين عليه السلام في نهضته انطلاقة قرآنية صادقة لا تشوبها شائبة و لا تعيبها عائبة، فالنهوض كان منطلقة أساسيا من أجل تطبيق أحكام الله بين عباده والعودة بأولئك العباد إلى جادة الحق والالتزام بمبادئ السماء التي تنص أساسا على عدم اتباع ولاة السوء و أئمة أهل النار، بل تنص على مجابهتهم والتصدي لهم، و على استنكار أفعالهم و سوء أعمالهم و على العمل الدؤوب من أجل اجتثاث الفساد من جذوره و من ثم الانكفاء على غرس مفاهيم الإصلاح في تربة ذلك المجتمع الذي تم تلويثه و تلويث بيئته العامة بشتى أنواع الشرور والفساد.

و رب قائل يقول:

لقد عرفنا، من خلال ما سبق، الكثير عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام و عن مكانته من الرسالة الإسلامية و من جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلقه و خاتم رسله علیهم السلام، و عرفنا، بنفس الوقت، الكثير والكثير عن معاوية بن أبي سفيان و عن سوء سيرته و سريرته كما جاء في الكثير من كتب المسلمين الأوائل على مختلف مشاربهم و مذاهبهم، بل و حتى في دواوين و كتب من هم من غير المسلمين أيضا، نعم، لقد عرفنا كل هذا، و لكن حتى الآن لم نعرف الكثير عن شخصية يزيد بن معاوية الذي كان هو المرتكب الفعلي لفاجعة كربلاء بحق الإمام الحسين و أهل بيته عليهم السلام و أصحابه، بل و بحق الله والإسلام والقرآن أيضا.

هنا، يمكننا أن نقول لكل من يقول ذلك إنك على حق في ما تقول و تطلب، و لكن يمكننا أن نعطيك الصورة المتكاملة عن شخصية يزيد (لعنة الله به) من خلال هذا الفصل والفصول التي تليه من هذا الكتاب، فلنصبر إذن حتى نكمل تحليل وصية الإمام الحسين عليه السلام .

ص: 255

فلو حللنا قول الإمام الحسين علیه السلام: «أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر»، لأدركنا و عرفنا العديد من السمات التي تتصف بها شخصية يزيد بن معاوية سليل الغدر والمكر.

فيزيد عبارة عن نسخة طبق الأصل عن والده معاوية في كل صفاته و نعوته، و ربما فاق الأب أباه في بعض الصفات، و لذلك فعبارة الإمام الحسين عليه السلام التي توضح هدفه الأساسي في الإصلاح القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها الكثير من الدلالات على شخصية معاوية وابنه يزيد السائر على نهجه و خطاه.

و ليس هناك من حجة على ما نقول أقوى من تلك الوصية الشهيرة التي أوصى معاوية ابنه يزيد بالعمل بها بعد أن يستتب الأمر له من بعده.

و لا حاجة لنا إلى ذكر كل تلك الوصية السوداء الشائنة، و لكن لا بأس بذکر مقدمتها فقط و ذلك لأن المقدمة تفصح بحد ذاتها عن بقية مضمون الوصية من حيث الروح والمحتوى العام.

يقول معاوية في مقدمتها: (يا بني إني كفيتك الرحلة والترحال، و وطأت لك الأشياء، و ذللت لك الأعداء، و أخضع لك أعناق العرب)(1)، و قد علق الأستاذ الباحث (أنطون بارا) على هذه الوصية الخرقاء بقوله، في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي)، إنها: (وصية مغرورة متراخية تقطر لؤما و لا أخلاقية قدمها طاغية مريض لابن فاسق ينبئه فيها بصفاقة ما بعدها صفاقة، بأنه ذلل له الأعداء، وأخضع له أعناق العرب)(2)

ص: 256


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص150.
2- نفس المصدر السابق ص151.

و هذا يعني أيضا أن معاوية لم يدخل الإسلام حبا بالإسلام و لا إيمانا منه بالرسالة أو الرسول صی الله لیه و آله و سلم، و لم يكن سببا مباشرة في اقتتال المسلمين في ما بينهم نتيجة لمبدأ أو القيمة أخلاقية يعتقدها و يدافع عنها، بل إن دخوله الإسلام و قتاله لأهل الإسلام كان نابعا من مصالح شخصية و مطامع ذاتية لا تمت إلى الإسلام و رسالته بأدنى صلة، و ما المقدمة التي أوردناها نقلا عن وصيته إلا الدليل الأقوى على أنه كان يحاول جاهدة أن يعود بالأمور إلى عصر الجاهلية و أن يوطد أركان الحكم والملك لأهله من بني أمية منفذة بذلك وصية أبيه، أبي سفيان، المعروفة للجميع.

أما سياسة معاوية العامة مع المسلمين، و هي السياسة التي أراد معاوية من ابنه يزيد أن ينتهجها في حياته مع الرعية، فيمكن التعرف عليها بشكل واضح من خلال قراءة وصيته التي أوصى بها قائده بسر بن أرطأة حين وجهه إلى الحجاز واليمن، حيث أمره فيها قائلا: (سر حتى تمر بالمدينة فاطرة الناس، وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا... و أرهب الناس عنك فيما بين المدينة و مكة، واجعلها شردة)(1).

و غني عن القول إن يزيد كان، بالفعل، ولدا مطيعا لوصايا أبيه معاوية اللاأخلاقية ولآدابه الجاهلية اللاإسلامية، و ربما بإمكاننا القول إن يزيد الابن قد تفوق على أبيه في العديد من المواقف من ناحية تغييب الضمير واغتيال المشاعر والأحاسيس و وأد الخير والعدل والفضيلة.

و لذلك، يمكننا القول الآن أنه إذا كان الهدف الأول من الثورة الحسينية هو

ص: 257


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ج2 ص7

النهضة الإصلاحية القائمة على مبدأ الحوار واللاعنف في مواجهة (الآخر)، فإن الهدف الثاني، بلا ريب، هو التأكيد على أن الحاكم أو الخليفة يجب أنيكون قدوة المجتمع في الأخلاق والفضائل والخصال الحميدة العامة بحيث يكون هو الحصن المنيع والدرع الصلب الذي يحمي قيم المجتمع وآدابه، و يصون جملة المبادئ والتعاليم التي حملتها رسالة الماء إلى أهل الأرض.

و من هذه النقطة بالتحديد، يمكن لكل واحد منا أن يسأل السؤال التالي:

أين موقع يزيد من هذا الكلام المتعلق بخصال و صفات الحاكم أو الخليفة؟ و ربما قادنا هذا السؤال المطروح إلى أسئلة عديدة أخرى لا تقل أهمية عن السؤال الأول، و لذلك، فإن أول ما يمكن أن نقدمه للقارئ في هذا المجال هو إعطاؤه الصورة المتكاملة عن شخصية يزيد و سلوكياتها كما وردت في الكثير من كتب المسلمين والمسيحيين على حد سواء، أما ما يتعلق بالإجابة عن السؤال الذي طرحناه منذ قليل و قدرنا أن يسأله أي قارئ أيضا، فسنترك الإجابة عليه للقارئ الكريم بعد أن يقرأ بعض ما جاء في وصف یزید بن معاوية، حفيد أبي سفيان.

و على كل حال، والتزامة مني بعنوان الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن والذي يدل على دراسة فاجعة کربلاء من وجهة نظر الضمير العالمي (الحدیث) فقط، فسوف نقتصر في تحليلنا لشخصية يزيد على ما يقوله رجال الفكر والأدب في العصر الحديث، أما ما يقوله عنه القدماء فهذا مما لا يسعنا ذكره هنا بشكله المناسب و ذلك لضيق المقام من جهة، و لضيق الوقت من جهة ثانية.

و لذلك دعونا الآن نبدأ رحلتنا في التعرف على شخصية يزيد و موقعها من الأخلاق الإسلامية والآداب المحمدية، مع الأديب والمفكر اللبناني الأزهري (عبد

ص: 258

الله العلايلي) صاحب كتاب (الإمام الحسين) الذي بلغت شهرته الآفاق الإسلامية، بل و طرقت أبواب الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين حتى قال فيه المفكر والأديب المسيحي (كرم قنصل): (كتاب واحد فحسب قرأته، فوجدت فيه ضالتي في فهم شخصية الحسين و ثورته، ألا و هو كتاب (الإمام الحسين) للشيخ العلامة عبد الله العلايلي)(1).

و في كتاب (الإمام الحسين) يقول الشيخ العلامة (العلايلي) واصفا شخصية يزيد بالاعتماد على أوثق المصادر التاريخية لأهل السنة:

(و بالجملة، كان (یزید) موفر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء و كلاب الصيد حتى كان يلبسها الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه و يهب لكل كلب عبدا يخدمه، و ساس الدولة سياسة مشتقة من شهوات نفسه، و كانت ولايته ثلاث سنين و ستة أشهر، ففي السنة الأولى قتل الحسين بن علي، و في السنة الثانية نهب المدينة و أباحها ثلاثة أيام ثم قتل فيها سبعمائة من المهاجرين والأنصار و لم يبق بدري بعد ذلك، و قتل عشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين، و افتضاض ألف عذراء)(2).

فأين، إذن، موقع يزيد من أخلاقيات الرسالة و من آداب صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله و سلم؟!

بل أين أخلاق یزید- في حال وجودها - من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام ؟!

و من هنا، رأى العلامة (العلايلي) أن (الحسين عليه السلام لم يخرج على إمام و إنما

ص: 259


1- راجع: أ. ما جاء في مقالة للأستاذ كرم قنصل في مجلة (الكلمة) السورية عدد (14) لعام 1979. ب. أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص365
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة التربية . بيروت، 1986، ص346.

خرج على عاد فرض نفسه فرضا أو فرضه أبوه بدون ارعواء)(1) مع معرفة معاوية الكاملة أن ابنه يزيد كائن بشري مجرد من كل الأخلاق والصفات التي تؤهله ليكون إنسانا مسلما قبل أن يكون خليفة على المسلمين.

أما المفكر والأديب (عباس محمود العقاد) (1889- 1964) صاحب المؤلفات الفكرية والأدبية التي بلغت (83) کتابا في أنواع مختلفة من الثقافة الرفيعة، فقد كانت له صولة قوية في رحاب كربلاء حيث ألف كتابا خاصا عن سيد الشهداء عليه السلام و قد أسماه (أبو الشهداء الحسين بن علي)، و يعتبر من أهم الكتب التي تتناول دوافع الثورة الحسينية.

و يرى الأستاذ (العقاد) في كتابه (أبو الشهداء) أن المقارنة بين الإمام الحسين عليه السلام و بين يزيد هي مقارنة غير جائزة أساسا و ذلك لفقدان التكافؤ بين الطرفين.

و يؤكد (العقاد) ذلك بقوله: (... الموقف الحاسم بينهما موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح، و قد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه و أبعد غايتيه فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق و كراهة للنفاق والمداراة، وانتصر یزید بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع و مراء و خنوع لصغار المتع والأهواء)(2).

و للتأكيد على سوء خلق يزيد الذي استباح كل الحرمات في الإسلام، يتابع الأستاذ (العقاد) وصفه ليزيد قائلا: (... من كان کلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، و كان و لعه بالصيد شاغلا يحجبه عن

ص: 260


1- نفس المصدر السابق ص344.
2- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص16

شواغل الملك والسياسة، و كانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه (أبا قیس) يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب والفضة و يحضره مجالس الشراب...)(1)

و لعل أبلغ ما نقله (العقاد) لنا عن يزيد هو القول المشهور لعبد الله بن حنظلة: (والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح الأمهات والبنات والأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا)(2).

و يبدو أن موقف العلامة الشيخ (محمد عبده) (1849- 1905) جاء أكثر جرأة و قوة من موقف الأديب المفكر (العقاد) و ربما من مواقف الكثير من الأدباء والمفكرين الآخرين الذين أدلوا بدلائهم في بحر الحديث عن أسباب نهضة الإمام الحسين عليه السلام والعوامل التي دفعت به بشكل مباشر أو غير مباشر للخروج إلى أرض کربلاء

و قبل أن نذكر موقف الإمام العلامة (محمد عبده) من مسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، لابد لنا من تذكير القارئ بالموقع الفكري والديني الذي كان يشغله هذا العلامة المصري البارز.

فالعلامة (عبده) كان واحدا من أبرز المصلحين الدينيين في عصر النهضة الذي حاول فيه العرب أن يقلدوا الغرب في إصلاحاتهم و نهضتهم، و كان العلامة (عبده) - إلى جانب صديقه السيد جمال الدين الأفغاني الأسترابادي- من أبرز الذين نادوا

ص: 261


1- نفس المصدر السابق ص60
2- نفس المصدر السابق ص60.

بتجديد الدين و تنقيته من كل الشوائب التي علقت به على مر السنين والعصور.

و قد تولى العلامة (عبده) الإفتاء في الديار المصرية عدة سنوات، و له العديد من الآثار الفكرية و من أشهرها شرح کتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ، و له رسالة و جيزه كان قد وجهها في (18) نیسان عام (1904) إلى الأديب الروسي الكبير (ليو تولستوي) (1828- 1910) عندما ثارت ضده و ضد تعاليمه الكنيسة الروسية و حكمت عليه ب (الحرمان)، و هي رسالة موجزة و مؤثرة حيث يصف العلامة (عبده) فيها الأديب الروسي الكبير بالحكيم الجليل لأنه ثار على الدين التقليدي و مزق حجب الأعراف البالية التي لا تقبلها الفطرة السليمة و لا العقول النيرة البصيرة، و من جملة ما جاء فيها، قوله مخاطبا (تولستوي): (فما كنت بقولك هاديا للعقول، كنت بعملك حائا للعزائم والهمم، و كما كانت آراؤك ضیاء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمامة يقتدي به المسترشدون، و كما كان وجودك توبیخا من الله للأغنياء، كان مددا من عنايته للفقراء )(1).

إذن، فالعلامة الإمام (محمد عبده) كان له سعة اطلاع على الحركات الدينية والتيارات الفكرية التي كانت تتصارع من أجل شق طريقها الأمن إلى الوجود، و من هنا تبرز أهمية وجهة نظر العلامة (عبده) في تقييمه لمسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام بمبادئه و قيمه على مبادئ یزید- في حال وجودها- و على أسلوبه في إدارة العباد والبلاد.

و ربما لأن العلامة (عبده) كان واحدا من أبرز أعلام النهضة والإصلاح، فقد كان الأقدر على دراسة و تحليل و تقييم نهضة الإمام الحسين عليه السلام في زمن قلت فيه القيم

ص: 262


1- محمد عبده، مختارات، إعداد و نشر وزارة الثقافة، دمشق، 2005م، ص189.

و نضبت فيه الضمائر الحية والوفاء بالأمم، و من هذه النقطة، فقد أطلق العلامة (عبده) حكمه قائلا في (تفسير المنار): (إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، و حكومة جائرة تعطله، وجب على كل مسلم نصر الأولى... و من هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلی الله علیه و آله و سلم على إمام الجور والبغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمنكر، یزید بن معاوية خذله الله و خذل من انتصر له)(1).

و لا ريب في أن العلامة الإمام (محمد عبده) و غيره من أعلام الفكر والدین والأدب المعاصرين الذين كتبوا عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام و عن نهضته الإصلاحية الشاملة قد قرأوا الكثير عنها و عن آراء الكثير من الأعلام المتقدمين الأوائل الذين كتبوا بغزارة في هذا المجال آخذين بعين الاعتبار ضرورة إعطاء القارئ لكتبهم و مؤلفاتهم الصورة الكاملة والمتكاملة عن شخصية يزيد و سياسته و ممارساته السوداء، والتي كان لها الدور الأبرز في عملية خروج الإمام الحسين عليه السلام لإحياء دین جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم.

فمما لا شك فيه أن العلامة (عبده) و غيره قد اطلعوا على ما جاء في الكثير من الكتب الإسلامية المتقدمة بشأن شخصية يزيد و سوء فعاله، وعلى سبيل المثال، يقول (الهيثمي) في كتابه (الصواعق المحرقة): «إن الإمام أحمد بن حنبل لما سأله ابنه عبد الله عن لعن یزید، قال: كيف لا يلعن من لعنه الله في كتابه ؟! فقال عبد الله: قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن یزید، فقال الإمام أحمد: إن الله عز وجل يقول: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ

ص: 263


1- العلامة السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مطبعة أمير . قم، ط1/ 1999، ص100.

اللَّهُ »(1)

صدق الله العلي العظيم، و لدي، أي فساد و أي قطيعة أشد مما فعله یزید، و لما قال له ولده: إن قوما ينسبوننا إلى تولي يزيد؟ قال: يا بني، و هل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله ؟!(2).

فلا شك في أن العلامة الشيخ (محمد عبده) قد قرأ هو و غيره هذا الحديث الهام عن موقف الإمام أحمد ابن حنبل من يزيد و من أفعاله العامة و سلوكياته الخاصة التي اكتسب قسما كبيرة منها عن طريق التربية البيتية الفاسدة التي غرسها فيه والده معاوية حرصا منه على أن يتابع ابنه يزيد تنفيذ المخطط الجهنمي المرسوم من قبله هو شخصية بحيث يكون ابنه يزيد، بعد تعيينه حاكما على المسلمين، الضربة القاضية التي تقصم ظهر كل من بقي على الإسلام من المؤمنين الحقيقيين.

و على الرغم من ضيق المقام و قصر الوقت، إلا أننا نجد من الضروري أن نذكر شيئا إضافيا عن أفعال یزید و عن سلوكه الذي يعكس فساد طینته و سوء سريرته التي تثبت و بالدليل القاطع أنه لم يكن مسلمة على الإطلاق، بل كان مجرد رجل أعرابي و ثني جاهلي لم يعرف من الإسلام إلا الاسم و من القرآن إلا الرسم.

ففي حديث نبوي شريف رواه (مسلم)، و ذكره الحافظ (جلال الدين السيوطي الشافعي) في كتابه (تاریخ الخلفاء)، يقول فيه: قال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، و عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(3).

و بالطبع، فإن الحافظ (السيوطي الشافعي) قد ذكر هذا الحديث النبوي الشريف في معرض حديثه عن قبائح يزيد و سوء أفعاله و كيف أنه هجم على مدينة رسول الله

ص: 264


1- سورة محمد : الآية22- 23.
2- نفس المصدر السابق ص95.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق ص195.

صلی الله علیه و آله و سلم و قتل فيها خلقا كثيرة من الصحابة و من غيرهم، و كيف أنه نهب المدينة وافتض فيها بکارة ألف فتاة عذراء غير آبه بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و لا بتعاليم رسالته السماوية.

و يتابع (السيوطي) حديثه عن يزيد و فعائله السوداء، مستشهدا بما جاء في كتب الإمام (الذهبي) و غيره من الأعلام، و مؤكدا على حقيقة أن يزيد لم يكتف بما فعله بمدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل راح يحشد الجيوش الجزارة لتوجيهها إلى مكة، و كيف أنه- لعنه الله- قد رمى الكعبة المشرفة بالمنجنيق و حرق أستارها و سقفها(1) مع معرفته الأكيدة بعظيم مكانتها و سمو قداستها عند عموم المسلمين.

و لا أعتقد أن هناك حاجة لإيراد المزيد من ذكر الفظائع المشينة التي ارتكبها يزيد بحق الرسالة و أهل الرسالة أيضا، و لا أرى أن هناك من حاجة إضافية، بنفس الوقت، کی نذكر المزيد من أسماء الكتب والمراجع المتقدمة زمنيا والتي تذكر و تؤكد بالحجج والبراهين وبالدلائل القاطعة على أن يزيد لم يكن أكثر من شيطان في هيئة بشرية.

فالكتب التاريخية العامة، سواء منها الإسلامية أم غير الإسلامية، لم يجد مؤلفوها حرجا في ذكر الكثير والكثير من مساوئ یزید و أبيه معاوية، بل و من ذكر مساوئ و فضائح عموم الحكام الأمويين الذين اتخذوا الإسلام مطية لهم و لكل من يصفق لهم مؤيدا لحكمهم و مبررا لظلمهم.

و حتى لا نستطرد كثيرا في حديثنا، دعونا نعود إلى شخصية يزيد و إلى بعض التعليقات الفكرية الهامة عليها، تلك التعليقات والتحليلات المهمة التي رأت أن

ص: 265


1- نفس المصدر السابق ص195.

مجرد وجود شخصية إجرامية كشخصية يزيد تتربع على كرسي الحكم و تتحكم بمصير العباد والبلاد هو وحده كفيل بإعلان الثورة عليه و إسقاطه بكافة الوسائل الممكنة.

و مما يمكن أن نذكره الآن هنا، هو موقف الأديب والمفكر المصري الدكتور (طه حسین) (1889- 1973) من طبيعة حكومة يزيد والموقف الذي يجب اتخاذه تجاهها، و لكن قبل أن نذكر المآخذ التي سجلها الدكتور (طه حسين) على شخصية یزید وحكومته السوداء، علينا أن نتذكر سوي أن الدكتور (طه حسين) لم يكن مجرد رجل أدب فقط كما يظن البعض، بل كان أيضأ ناقدا و مفكرا عربيا تناول في مؤلفاته المتعددة الكثير من القضايا والمسائل الفكرية والثقافية المتنوعة.

و بسبب ثقافته العامة وسعة اطلاعه الفكري و إتقانه للعديد من اللغات عن أستاذة في الجامعة المصرية، فعميدا لكلية الآداب، ثم اختير وزيرا للمعارف سنة (1950)، و قد كان يدعو باستمرار إلى حرية البحث والتحليل، واعتبر أن العقل هو الأداة الأساس للمعرفة، كما أنه دعا - و هذا هو الأهم- إلى دراسة تاريخنا و تراثنا في ضوء منهج علمي متسلح بالمنطق و بعيد عن التعصب والتشنج.

فالدكتور (طه حسين) یری، قبل كل شيء، أن (أمور المسلمين قد صارت أيام معاوية و ابنه يزيد إلى شر ما كان يمكن أن تصير إليه)(1)، والدليل على ذلك هو المخطط الآثم الذي سارع یزید بن معاوية إلى تنفيذه على أرض الواقع بعد أن كان حلما يدغدغ خيال أبيه معاوية من قبل.

و يذكر الدكتور (طه حسين) لنا كيف أن يزيد قد جهز جيشا عظيما بإمرة (مسلم

ص: 266


1- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، مصدر سابق ج2 ص245.

بن عقبة المري) لغزو مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و كيف أنه أوصى (مسلما) إذا انتصر على عدوه في المدينة أن يبيحها ثلاثة لأهل الشام يصنعون بأهلها ما يشاؤون و ينهبون من أموالهم و متاعهم كل ما يحبون و يرغبون، و بعد ذلك، ينتقل الدكتور (طه حسين) إلى تصویر نتائج المعركة الدامية التي أمر بها یزید، فيقول: (و قتل منهم (أي من أهل المدينة) في الموقعة خلق كثير.

ثم أباح المدينة ثلاثة لجنده فقتلوا ونهبوا، واستباحوا من محارم الناس ما عصم الله، ثم أخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة، لا على كتاب الله و سنة رسوله كما تعود المسلمون أن يبايعوا، و لكن على أنهم خول ليزيد، فمن أبي منهم هذه البيعة المنكرة أمر به فضربت عنقه)(1).

و هنا يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا، بما في ذلك ذهن الدكتور (طه حسین)، السؤال التالي:

ألا يكفي أن يكون أخ البيعة بالقوة من أهل المدينة على أنهم حول لیزید الطاغية سببا كافية للثورة على ذلك الحاكم المفتقر إلى أبسط المقومات الأخلاقية والإنسانية؟!

بل ألا يذكرنا ما فعله يزيد بالمدينة المنورة و بمكة المكرمة بالحديث الجوهري الهام الذي نقله لنا (الطبري) في (تاريخه) عن الإمام الحسين عليه السلام والذي يقول فيه: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «من رأى سلطان جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفة لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا

ص: 267


1- نفس المصدر السابق ج2 ص247

قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله)(1)؟!

و من هذا الحديث النبوي الشريف نستنتج، و بوضح کامل، أن سبط الرسول الكريم عليه السلام كان قد خرج على يزيد بهدف التغيير قولا و عملا في النهج الذي كانت تسلكه الحكومة اليزيدية في الأمة الإسلامية، ذلك النهج اللاأخلاقي القائم على مخالفة سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من جهة، و على العمل بالإثم والعدوان من جهة أخرى.

و لذلك نرى أن هناك الكثير من المستشرقين و غيرهم من رجال الفكر والأدب في الشرق والغرب قد رأوا أن يزيد قد تجاوز كل المعايير الأخلاقية في غطرسته و في ضلاله و كفره مما قاد الناس عموما، بعد عملية إحراقه للكعبة المقدسة، إلى رمي بني أمية بالكفر كما يقول المستشرق (کلود کاهن)(2).

و ليس هذا الرأي هو رأي المستشرق (کلود کاهن) فقط، بل هو رأي كل المستشرقين تقريبا على الرغم من تحامل و تجني الغالبية العظمى منهم على الإسلام و على رموزه الطاهرة النقية.

فللمستشرق (دوایت رونلدسن) رأي لا يختلف كثيرا عن رأي (كلود کاهن) حول طبيعة يزيد و حول حقيقة أفعاله المخزية بحق المسلمين والمقدسات الإسلامية.

و بإمكاننا أن نقرأ الكثير عن تلك الأفعال المخزية في كتاب المستشرق (رونلدسن) (عقيدة الشيعة) والذي يصف فيه تلك الفعائل السوداء بعد أن يوردها في كتابه المذكور معتمدة في ذلك على أوثق المصادر التاريخية الإسلامية السنية.

فقد كتب (رونلدسن) عدة صفحات عن تلك الأفعال التي تعكس بصدق صورة

ص: 268


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق ج5 ص403.
2- کلود کاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ترجمة: الدكتور بدر الدين القاسم، دار الحقيقة . بيروت، 1972، ص43.

یزید و شخصيته المشوهة نفسية و روحيا، لقد كتب عن إحراق يزيد للكعبة و عن استباحة مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاثة أيام، و عن أخذ البيعة من الناس ليزيد على أنهم عبيد له (1) و خدم له في دولته، و قد وصف (رونلدسن) مجمل هذه الأفعال التي قام بها یزید، والتي تلعب دور المرآة العاكسة لصورة شخصيته الباطنية، بأنها أفعال شائنة(2).

أما المستشرق الهولندي (راینهارت دوزي) (1820- 1883) صاحب المؤلفات العديدة عن الإسلام، و بشكل خاص عن الأندلس و علاقتها بالإسلام، يرى أن الوصول إلى معرفة شخصية يزيد يتم عن طريق معرفة أعوانه و عماله على البلدان، فمن خلال الحاشية تستطيع التعرف على شخصية الحاكم لأنه هو المسؤول عنها أولا و أخيرا.

و لذلك، فهو يصف لنا شخصية (مسلم بن عقبة) الذي استباح المدينة المنورة ثلاثة أيام أمام جنده بأمر مباشر من سيده يزيد قائلا: (ربما لا يكون هناك أحد يمثل العصر القديم والروح الوثنية كما يمثلها مسلم بن عقبة، فلم يكن فيه أقل ظل للعقيدة الإسلامية، و لا كان يقدس شيئا مما يقدسه المسلمون، و لذلك كان أشد إيمانا بالخرافات الوثنية)(3).

ثم ينتقل (دوزي) بعد ذلك لإعطائنا خلاصة وجهة نظره تجاه یزید و تجاه التيار الذي يمثله يزيد بشكل مباشر.

يقول (دوزي) متابعا: (و كان يزيد بوصفه أنه كان ممثل الأرستقراطية القديمة في مكة، قد ثأر لمقتل عثمان وللهزيمة التي ألحقها بجده أبي سفيان أهل المدينة تحت

ص: 269


1- دوایت رونالدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص116.
2- نفس المصدر السابق ص116
3- يوليوس قلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص155.

راية محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و كان رد الفعل من جانب الوثنيين ضد الفكرة الإسلامية قاسيا لا هوادة فيه، و لم يشف الأنصار قط من هذه الضربة... و ظلت مدينتهم، بعد أن كادت تخرب، مأوى للكلاب حينا من الدهر... و كان الأمويون ينتهزون كل فرصة لكي يشعروهم ببغضهم و احتقارهم لهم، لكي يضايقوهم و يجعلوا حياتهم مريرة)(1).

و من خلال هذه الجمل القليلة والمعبرة نستطيع أن نستخلص وجهة نظر المستشرق (دوزي) تجاه التيار الفكري الذي كان يترأسه یزید.

فيزيد الأرستقراطي، بالنسبة لي (دوزي)، كان رمزا للتيار الوثني الذي ما برح يحاول الانقلاب على التيار الإسلامي الذي يمثله محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنصاره المخلصون، و لذلك، فإن يزيد لم يدخر جهدا خلال فترة حكمه القصيرة في أن يغتال كل من يريد أن يحمل راية الإسلام الحقيقي بدءا بالإمام الحسين عليه السلام وانتهاء بالمخلصين من الأنصار الذين بذلوا كل ثمين و رخيص في سبيل نصرة محمد صلی الله علیه و آله و سلم و إعلاء شأن رسالته السماوية الخالدة.

و على ما يبدو، فإن هناك تطابقا غير طبيعي بين رؤية المستشرق (دوزي) و رؤية المستشرق (موللر) حول إمكانية التعرف على شخصية يزيد المريضة روحية من خلال التعرف على كبار قادته و عماله، فها هو-موللر- يقول عن مسلم بن عقبة الذي كان يمثل دور الذراع الأيمن ليزيد في عملية استباحة المدينة: (كان في نفس مسلم بن عقبة على الإسلام، خصوصا على المسلمين الأولين، من الحقد ما كان في نفس شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين)(2).

ص: 270


1- نفس المصدر السابق ص158.
2- نفس المصدر السابق ص156

أما المستشرق (فان فلوتن) ( 1903- 1866 )، الهولندي الأصل، فلم يركز وصفه على شخصية يزيد، بل اعتبر في وصفه العام أن كل حاكم أموي هو صورة طبق الأصل عن بقية الحكام.

و باختصار شديد، پری (فلوتن) في كتابه (أبحاث في السيطرة العربية) أن الحكام الأمويين عموما، و حتى صغار موظفيهم، لم يكونوا أكثر من مجموعة من اللصوص الذين لم يكن عندهم أي شاغل أكثر من الاغتناء على حساب بيت مال المسلمين، و هذا ما دفع بصغار الموظفين عندهم للاقتداء برؤسائهم و حكامهم والتفوق عليهم و ذلك باستلاب ما يقع في أيديهم من أموال الدولة(1).

و أعتقد أنه من الأفضل لنا أن نتوقف، و لو بشكل مؤقت، عن ذكر المزيد من أقوال المستشرقين الغربيين حول شخصية يزيد واهتزازها الروحي والنفسي، و دعونا الآن ننتقل إلى رحاب الشعر في الشرق كي نرى و نقرأ سوية ما قاله شعراؤنا المعاصرون في يزيد بن معاوية قاتل أبناء الأنبياء علیهم السلام.

و لتكن محطتنا الأولى مع الأديب والشاعر المسيحي اللبناني (بولس سلامة) الذي سبق و تحدثنا عنه في صفحات سابقة من هذا الكتاب بشكل موجز بعض الشيء.

يقول الشاعر (سلامة) في كتابه (عيد الغدير) مصورا مجلس یزید الفاسق:

رافع الصوت داعيا للفلاح *** اخفض الصوت في أذان الصباح

و ترفق بصاحب العرش *** مشغولا عن الله بالقيان الملاح

ألف (الله أكبر) لا تساوي *** بين كفي يزيد نهله راح

ص: 271


1- ثان فلوتن، أبحاث في السيطرة العربية، ترجمة الدكتور إبراهيم بيضون، و هذا الكتاب ملحق بكتاب الدولة الأموية والمعارضة، تأليف المترجم نفسه، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. بيروت، 1985، ص89

فسلیب النهي صريع الغواني *** نذر العمر للغرام السفاح(1)

و برأيي الشخصي أن هذه الأبيات الشعرية القليلة هي أصدق ما قيل في تصوير شخصية يزيد المنغمسة في الملذات والمحرمات حتى الثمالة، و بالفعل، فإن ألف نداء لتوحيد الله کنداء الأذان (الله أكبر) لا يعني روحيا أي شيء ليزيد، بل على العكس من ذلك، فكاس واحد من الخمر المعتق يشربه من كف غانية فاتنة عاهرة تتلوى بين أحضانه کالأفعى الرقطاء أفضل عنده من الدعوة للصلاة لله والامتثال لأوامره و نواهيه.

و لو انتقلنا الآن من كتاب (عيد الغدير) للشاعر العملاق (بولس سلامة) إلى (ملحمة الحسين) لشاعر مسیحی آخر هو الأديب اللبناني المعاصر (جورج شكور)، فماذا عسانا نجد في جعبته من لآلى الشعر العربي الأصيل، تلك اللآلئ الثمينة والجميلة التي ما برحت تستمد بريقها من وهج العشق الحسيني النبيل الذي يسكن القلوب التي تشرع نوافذها الشفافة النقية لابنة النهار؟!

في الحقيقة، و من خلال كلام الأستاذ الأديب (شكور) و حديثه العام عن ملحمة کربلاء، يمكننا أن نلاحظ بوضوح أنه يترفع في حديثه الشعري عن ذكر فعائل یزید و قبائحه لأن يزيد والكلام عنه و عن فظائعه لن يزيده انحطاطا في عيون الناس و ذلك لسبب واحد و هو أن يزيد هو الانحطاط ذاته، بل كاد أن يكون هو الشر المطلق عينه.

وانطلاقا من ذلك، فإن الأديب الشاعر (شکور) يختصر الكلام عن یزید، و نراه يسارع إلى التركيز على عملية المحاولة الفاشلة لانتزاع اعتراف رسمي من الإمام الحسين عليه السلام يقر بشرعية خلافة يزيد الخليع على المسلمين، فمعاوية و يزيد يريدان انتزاع اعتراف واضح و صريح من الإمام الحسين عليه السلام أمام المسلمين ينص على أن

ص: 272


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص204 205.

يزيد هو الرجل المؤهل و هو الخليفة الشرعي المستحق لقيادة الأمة الإسلامية.

و لذلك، فأول ما يتناوله الأديب (شکور) في قصيدته المطولة (ملحمة الحسين) هو وصف الإمام الحسين علیه السلام، لا وصف يزيد الفاسق، و بعد ذلك ينطلق إلى وصف موقف الإمام الحسين علیه السلام من محاولة انتزاع الاعتراف الرسمي منه بولاية يزيد على المسلمين.

يقول الأستاذ (شکور) مستفسرا استفسار العارف عن مكانة الإمام الحسين علیه السلام

أما (الحسین) ربيب للنبي، أما *** له في فؤاد الجد إيثار؟

سماه ریحانة الشبان، حالية *** على الجنان، شذا الريحان معطار

و قبل الثغر يحبو روحه نسما *** کما تفاوح في الأسحار أزهار

أما (الحسين) وريث (للعلي) فتی *** الفتيان، من نهجه في السر أسرار؟(1)

و بعد أن يذكر الأستاذ (شکور) باقة من فضائل الإمام الحسين علیه السلام، سليل النبوة و معدن الرسالة، فإنه يتحرك للكلام عن المبدأ الأخلاقي الذي يكافح الإمام الحسين عليه السلام من أجله ضد ضغمة حاكمة مجردة من كل قيمة أخلاقية ومن كل فضيلة إنسانية.

و هنا يركز الأستاذ (شکور) على رد فعل الإمام الحسين علیه السلام من مسألة الاعتراف بولاية يزيد و بمبايعته خليفة على العباد والبلاد.

فمن المعروف للجميع أن الإمام الحسين عليه السلام قال بعد أن هدده رجال یزید

ص: 273


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، طبعة مصورة و موزعة من قبل المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية بدمشق، 2002م، ص 1 ، و قد طبعت تلك القصيدة المطولة بشكل كتاب مستقل في بيروت و هو يحمل نفس عنوان القصيدة

بالقتل إن لم یبایعه: «إنا أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الرحمة، بنا فتح الله و بناتم، و يزيد رجل فاسق شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع لمثله، و لكن نصبح و تصبحون، و ننظر و تنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»(1).

لقد استرعى هذا الموقف الرجولي انتباه الأستاذ الشاعر (شکور) مما دفعه لتصويره شعرا بقوله:

هذا (یزید) دعي الحكم ينذره *** و هل يبايع بالأحكام فجار؟!

رد (الحسين) ب (لا) كالسيف صارمة *** و سيد الحق ب (اللاءات) زأار

سمعت جدي رسول الله حرمها *** فلا خلافة في (سفيان) تشتار

المبدأ الحر سر لا أدنسه *** مقدس، وحماة السر أحرار(2)

ولئن صور هذا الشاعر المسيحي موقف الإمام الحسين عليه السلام بهذه الصورة الثورية الملتهبة، فإن الشيخ الأزهري (عبد الله العلايلي) قد علق على نفس الموقف الصادر من الإمام الحسين عليه السلام ، في رده الواضح على عدم إعطاء البيعة ليزيد، بقوله في كتابه (الإمام الحسين): (هذه الكلمات المعدودة (التي قالها الإمام الحسين عليه السلام والتي ذكرناها قبل قليل) تحوي برنامجا خطيرا و دستورا عمليا واسعا، و يمكننا أن نسميه (ناموس الثورة)، والحق أن فيه المبادئ العالية لإعلان الثورة)(3).

و كما ذكرنا سابقا في العديد من الصفحات السابقة، فإن أحد أهم دوافع النهضة

ص: 274


1- أ. الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق، ج1 ص184. ب. عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص92.
2- جورج شکور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، ص 1.
3- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص92.

الحسينية و أحد أهم أهدافها المباشرة هو تحقيق و إحياء مبدأ القيمة الأخلاقية في المجتمع الإسلامي الحديث الولادة، نسبيا، والذي تعرض لعدة نكسات متتابعة نتيجة الابتعاد المتعمد عن النهج الرسالي القويم الذي رسمه الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم لمجتمع الإنسانية عموما.

و عندما نقول و نؤكد على أن أحد الأهداف الأساسية للثورة الحسينية هو إحياء القيم الأخلاقية الرفيعة التي نادت بها رسالة الماء الأخيرة، فإن هذا لا يعني أن يزيد هو الوحيد الذي خرق تلك القيم و شؤهها و استعاض عن المحامد بالمفاسد، و لا يعني هذا أيضا أن يزيد هو أول من سعی لاغتيال صوت الله في ضمير الإنسان، بل إن المسألة أعقد من ذلك بكثير.

فيزيد الخليع لم يكن إلا صورة واحدة من مجموعة صور لشخصيات عديدة سبقته و كانت مثالا في الكفر والفسوق والعصيان على الرغم من تظاهرها بالإسلام و بالتمسك به بطريقة تضحك الثكالى والأيتام.

و على ما يبدو، فإن هذه الحقيقة، لم تغب عن ذهن الكثير من المفكرين والباحثين في مشارق الأرض و مغاربها، فهناك خلل واضح في جسد الأمة الإسلامية يهددها بالفناء والهلاك، و لابد من ثائر مؤمن يثور و يغضب لرسالة الماء، و يقوم و ينهض لإصلاح الخلل الذي راح يزداد اتساعا في جسد الأمة حتى بات أشبه ما يكون بتورم سرطاني ينتشر في شتى أعضاء الجسد مما ينذر باقتراب الكارثة و بداية الفناء.

إذن، فالدافع الأخلاقي في النهضة الحسينية دافع لا يستهان به، بل هو- على أقل تقدير - الدافع الأكثر أهمية و صاحب الأولوية في عملية الخروج على الحاكم الجائر والفاسد يزيد و على حكومته، تلك الحكومة الغاشمة التي أبت أن تسير إلا على النهج

ص: 275

الذي رسمه معاوية و زبانيته الرجيمة للقضاء على النور الإلهي الممثل خير تمثيل بمحمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و بأهل بيته الكرام عليهم السلام الذين عبر عنهم الإمام الحسين علیه السلام أفضل تعبير بوصفهم قائلا: (نحن سفينة النجاة و عين الحياة والمعاني التي أشرقت من حضرة الأزل، و لم تزل، والأنوار التي بسرها ظهر الوجود و بها عرف العابد من المعبود، والشجرة الإلهية التي منها انفجرت ينابيع الفيض والجود)(1).

و على كل حال، لو أردنا أن ننتقل الآن إلى دافع آخر من دوافع نهضة الإمام الحسين عليه السلام، فيمكننا القول - و بكل جرأة - إن هناك دافعا اقتصادية واضحا لتلك النهضة غفل عنه الكثير من الدارسين والباحثين عن عمد أو ربما عن غير عمد.

فمن خلال أقوال الإمام الحسين عليه السلام و خطبه الموجهة لعموم المسلمين، و من خلال تلك المراسلات والمواجهات الكلامية المباشرة بين الإمام الحسين عليه السلام من جهة و معاوية و ابنه يزيد من جهة أخرى، نستطيع أن نتبين بشكل قاطع أن للإمام الحسين عليه السلام رؤية خاصة بشأن وضع المسلمين العام في ظل حكومة معاوية و في ظل الحكومة المرتقبة التي سيتسلمها یزید بالوراثة عن أبيه بعد وفاته.

فكل أقوال الإمام الحسين عليه السلام و كل رسائله تشير إلى أنه كان يستنفر العقول و يستحث القلوب و يشحذ الهمم والنفوس لنفض و إزالة غبار الجهل بالواقع عن كاهل الأمة الإسلامية.

فالمستوى العام للمسلمين، كأمة إسلامية حديثة الولادة نسبيا، دون المستوى المطلوب في مواجهة كافة تيارات الانحراف العاتية التي أشاعها معاوية في جسد

ص: 276


1- الشيخ كاظم حمد الإحسائي النجفي، السفينة السائرة في فضائل العترة الطاهرة، مؤسسة الهادي . بيروت، 1999، ص62.

الأمة، و تعتبر هذه الحالة حالة مرضية خطيرة جدا ظهرت بشكلها المخيف من خلال الميل إلى السكون والتثاقل والانجذاب نحو المصالح الخاصة و غياب الشعور بالمسؤولية الجماعية عن المسرح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، و قد أخذت تلك الظاهرة الخطيرة بالتبلور عن طريق تكديس الأموال الطائلة في أيدي القيادات العليا والسلطات المتنفذة في المجتمع الإسلامي بشكل يبعث على الدهشة والاستغراب.

و إذا كان أصحاب السلطة و أرباب الحكم في الأمة قد استغلوا نفوذهم و سلطتهم القاهرة لجمع المال و تكديس الثروات و مضاعفة العوائد والأرباح، فإن شرائح الأمة عاقة قد عانت الأمرين من سوء تلك السياسة التي انعكست على اقتصاد عموم الطبقات والفئات بشكل سيء للغاية مما جعل الكثير من المسلمين يعيشون في مجتمعهم و كأنهم عبيد يعملون في خدمة أسيادهم.

و غني عن القول و عن التفصيل فيه أن معظم أولئك الفقراء الذين كانوا يعاملون معاملة العبيد والإماء هم أتباع أهل البيت عليهم السلام و شيعتهم المخلصون.

و على سبيل المثال، يرى الدكتور المصري (حامد حفني داود)، الرئيس الأسبق القسم الأدب العربي بجامعة عين شمس، و صاحب المؤلفات العديدة في الأدب والفكر، أن أعداء الإمام علي والإمام الحسين علیه السلام هم أعداء محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و أعداء أهل البيت علیهم السلام والرسالة الإسلامية بكل ما فيها من قيم و مبادئ إنسانية سامية.

و لذلك، فلا مانع في نظرهم - كما يقول الدكتور (داود) - من اصطناع الكذب والخيانة والرشوة و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ليصلوا إلى دنيا هم بالطريق غير

ص: 277

المشروع(1).

و ما من شك في أن كل هذه الأعمال الدنيئة كانت تنفذ بحق أتباع أهل البيت علیهم السلام و محبيهم و ذلك بغية إضعافهم ماديا واقتصادية مما يدفعهم - برأي معاوية و يزيد و أتباعهم- إلى التخلي عن ولاية أهل البيت عليهم السلام والدفاع عن حقوقهم و عن مبادئهم الرسالية، و بالتالي يدفعهم ذلك أيضا للانضمام لاحقا إلى زمرة الطغيان بعد أن يكونوا قد و صلوا حقا إلى حدود الترجمة العملية لمقولة (كاد الفقر أن يكون كفرا).

و على الرغم من أن رأي الدكتور المصري المسيحي (نظمي لوقا) يبدو رأيا بسيطا بعض الشيء بالمقارنة مع رأي الدكتور (داود)، إلا أن ذلك لم يمنع الدكتور (لوقا) من الاعتراف العلني والواضح بأن أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم كانوا على الدوام ضحايا الظلم والجور من قبل أعدائهم حتى أنهم أوذوا كثيرا بسبب قيامهم بأعباء الرسالة التي جاء بها رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم، فقد (أوذوا في أرزاقهم، و في أعمالهم، و في أشخاصهم، و تعرضوا لما تعرض له من التهلكة أكثر من مرة)(2).

وإذا كان الكاتب الفرنسي (جان دولابروییر) ( J.de Bruyere) (1645 -1996) يقول: (لا وطن مع الظلم)(3)، فإن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال قبل ألف و أربعمائة عام تقريبا: «الفقر في الوطن غربة»(4)، و بالفعل، هذا ما أراد معاوية و ابنه

ص: 278


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مصدر سابق، ص97.
2- الدكتور نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، الشركة العربية للطباعة . القاهرة، 1959، ص109.
3- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج2 يحمل عنوان (بين علي والثورة الفرنسية)، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج2 ص132.
4- الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، الدار الإسلامة . بيروت، 1992، ج4 ص 531.

یزید تحقيقه في المجتمع الإسلامي و ذلك عن طريق إحداث خلل اقتصادي كبير بين أبناء المجتمع الواحد، فللذين يتعامون عن انتهاك السلطة للمحرمات كل الامتيازات الاقتصادية والتسهيلات المالية في ظل حياة مادية مريحة مقابل مباركتهم لما يقوم به الحاكم و رجاله المقربون من تجاوزات علنية للشريعة السماوية وانتهاكات وحشية الأبسط حقوق الكرامة الإنسانية، فللمواطن، في هذه الحالة، الحق في أن يعيش بسلام على أرضه، يأكل و يشرب و ينام و يدعو للحاكم بطول العمر والتوفيق و بالنصر على أعدائه المشاغبين!!

أما بالنسبة لأولئك الذين لا يقبلون بالباطل و لا يسكتون على المظالم التي تقع على نسبة لا يستهان بها من أبناء المجتمع، فأولئك ليس لهم أدنى حق في التمتع بأبسط متطلبات الحياة.

و على هذه الفئة أن تختار، و بشكل واضح و حاسم، بين أن تكون موالية للسلطة، مساندة لها، ساكتة عن جرائمها، و بين أن تكون في الطرف الآخر من المعادلة، ثائرة على السلطة، معادية لسياستها، فاضحة لجرائمها.

و من البديهي تماما أن يكون نصيب كل من يقف في الطرف الآخر المناوئ لسلطة التجويع والترهيب والقتل والتشريد، و في أفضل الحالات التضييق عليه و على عياله حتى يدرك في قرارة نفسه أنه ليس هناك شعور بالمواطنة و لا إحساس بالإنسانية مع الظلم، و بالتالي سيدرك أيضا أن الحق مع أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما أكد قائلا إن الفقر في الوطن غربة، فالغربة الحقيقية هي غربة الذات لا غربة الجغرافيا والمكان.

فسياسة الحكام (الخلفاء) الذين حكموا الأمة كانت في مجملها سياسات جائرة تستمد وجودها من سطوة السيف و تحافظ على استمرار ذلك الوجود من ظلام الفكر

ص: 279

الخارج من كهوف و مغاور علماء و فقهاء السوء الذين يأكلون من مائدة الحاكم و يضربون بسيفه و يسارعون إلى إصدار الفتاوى التي تخدم عرش الحاكم و تثبت له دعائم الكرسي فوق أشلاء الفقراء والمساكين والذين لم يرتضوا أن تكون الشمس سجينة وراء القضبان في زنزانة (الخليفة) القابع في مخدعه مع جواريه و غلمانه يناقشون واقع الأمة و مشاكلها على صوت مغنية مغناج لعوب و على وقع نقر كؤوس الخمر بعضها ببعض بين أكف القائمين على أمر الأمة!!

إذن، لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام أن السلطة الأموية الجائرة قد ربطت القوة الاقتصادية و ثروات الأمة بالفساد السياسي والانحلال الأخلاقي والديني، فالمناصب تشتری و تباع دون إقامة أي وزن للمؤهلات والكفاءات، والانحلال الأخلاقي في المجتمع ضرورة سياسية لإلهاء الشعب عن كل ما تقوم به السلطة من خرق للقيم والمبادئ، فعلى السلطة تخدير أكبر شريحة من المجتمع عن طريق تشجيع ارتکاب المحرمات و ارتكاب الفواحش من خلال غض الطرف عن مرتكبيها و تسهيل السبل لهم لنشرها أفقيا في شتى أرجاء البلاد مما يسهل للحكومة لاحقا أمر قيادتهم و توجيههم و إسكات أفواههم بعد أن تكون قد اشترتهم بقليل من المال و بتسهيل الانحلال.

فالإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يفكک رموز شيفرة السياسة الأموية بأدق تفاصيلها، فالقوة الاقتصادية طريقة ناجحة لشراء النفوس المريضة و جذبها إلى مستنقع الموالاة للسلطة، والقوة الاقتصادية ورقة قوية أيضا و رهان ناجح في كثير من الأحيان في إثارة الشقاق والفتن في صفوف المعارضة، خاصة إذا كان ذلك مسبوقا بزراعة الجواسيس و ناقلي الأخبار و مروجي الإشاعات الكاذبة بين الصفوف.

ص: 280

و هنا تحديدا، تحضرني فكرة مفيدة قالها الفيلسوف والمفكر اللبناني (أمين الريحاني) (1876- 1940) والتي تدل على أن السلطة الأموية التي كان يمثلها و قتذاك معاوية، و من بعده ابنه يزيد، كانت حقا سلطة ظلم و ظلام، وكان الإمام الحسين عليه السلام جديرا بالثورة عليها واقتلاعها من جذورها.

يرى هذا المفكر اللبناني المسيحي، والذي هو أحد أهم أقطاب الإصلاح والتجديد و صاحب المؤلفات الفكرية الثقافية الغزيرة، أن زيادة (الخراج) والثروات في خزانة الخليفة أو الحاكم ليست مقیاسا دقيقا لسلامة الدولة و صحتها، والسبب في ذلك هو أنه يجب علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:

كيف كان يصرف ذلك الخراج؟

و يجيب الفيلسوف المسيحي (الريحاني) على هذا السؤال بتأكيده في كتابه (النكبات) على أن الخلفاء الأمويين، و لاحقة العباسيين، كانوا يأخذون الخراج لأنفسهم و لأهلهم و محظياتهم و عبيدهم والمقربين منهم، أما بالنسبة لمعاوية بن أبي سفیان (فبيت المال في نظره إنما هو لشراء الأنصار)(1).

و بما أن الشيء يذكر، و بما أننا أيضا في معرض الحديث عن الدافع الاقتصادي الهام لثورة الإمام الحسين عليه السلام على الحكومة الأموية اللاشرعية التي اتخذت بيت مال المسلمين وسيلة لتعزيز كرسي الملك و لشراء النفوس و قتل الضمائر و إشاعة الفساد في حمى الإسلام، فإنني لا أنسى تلك العبارات القوية التي سمعتها من الكاتب السوري (عبد البديع محجازي) خلال لقاء طويل جرى بيننا عند أحد الأصدقاء في مدينة اللاذقية في يوم من أيام ربيع عام / 2005/.

ص: 281


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج2 ص172

فالأستاذ (محجازي) كاتب و مفكر من مدينة اللاذقية، و هو أحد إخواننا السنة، و قد سررت بالتعرف عليه عن قرب عن طريق أحد الأصدقاء من أصحاب المكتبات.

و على الرغم من أن ذاك اللقاء كان اللقاء الأول بيننا، إلا أنه كان حقا لقاء مميزا جدة نظرا لما حمل من معطيات فكرية و قيم ثقافية ناضجة تأبي الانغلاق على ذاتها في مواجهة الحقائق والوقائع.

والجانب الذي يهمنا الآن من جوانب الحديث المطول الذي دار بيننا على نار هادئة بعيدة عن الانفعال و عن لغة الهيجان والعاطفة هو ذلك الجانب المتعلق بالسلطة الأموية و بمعاوية و يزيد من جهة، و بالإمام علي عليه السلام و بالإمام الحسين عليه السلام من جهة ثانية، فقد أكد الأستاذ (محجازي) في حديثه على أن الإمام علي عليه السلام هو ضمير الإسلام الحي، وأن الإمام الحسين عليه السلام هو صورة الإمام علي عليه السلام و صورة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، ولذلك فإن ثورة الحسين عليه السلام هي استمرار و ديمومة الثورة الإمام علي عليه السلام الذي أبي و رفض إلا أن يبقى الإسلام إنسانيا كما أراده نبي الرحمة محمد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

و من أجل أن يؤكد لي عمق الصدق في كل كلمة كان يقولها، فقد أهداني نسخة جديدة من كتابه القيم (المساواة والاشتراكية في الإسلام)، و بالفعل، فبعد أن قرأت ذلك الكتاب قراءة متروية وجدت أنه كاتب يحاول جاهدة أن يكون عقلانيا و منطقيا في كل موضوع يطرحه على بساط البحث، هذا بالإضافة إلى ابتعاده الواضح عن العصبية المذهبية و عن التحيز المقيت.

و على سبيل المثال، فمعاوية بالنسبة إليه عبارة عن رجل خارج عن روح

ص: 282

الإسلام، بل أول الخارجين عن روح الإسلام(1)، و هو واحد من أولئك الذين يكنزون الذهب والفضة و لا ينفقونها في سبيل الله، و لهذا كان هو و أسياده و أصحابه على عداوة دائمة مع الصحابي الجليل الصادق أبي ذر الغفاري (رضی الله عنه) الذي قال عنه رسول الله : «ما أظَلَّتِ الخَضراءُ، وَ لا أَقلَّتِ القفراء أَصْدَقَ لَهْجَةٍ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»(2).

و ليس هذا فحسب، بل يرى الأستاذ (محجازي) أن الإمام عليا عليه السلام خليفة ثوري لا يقبل أنصاف الحلول في التعامل مع مبادئ الإسلام و ثوابته، فهو عليه السلام ثوري بأقواله و أفعاله و بمواقفه التي لا تزال تهز عروش الحكام المسلمين ليلا و نهارا حتى يومنا هذا، تدعوهم للقيام بواجباتهم نحو الله و نحو الأمة كما قام هو بواجبه على أكمل وجه.

و قد عبر الأستاذ (محجازي) عن موقف الإمام علي علیه السلام من السلطة الأموية الحاكمة المستأثرة بالمال و باقتصاد الأمة و بثرواتها و مغانمها بقوله:

(و لما آلت إليه (إلى الإمام علي علیه السلام) إمرة المسلمين بعد تحكم العصبية الأموية بدين الله باسم عثمان و كان لهذه العصبية من الجرأة على دين الله و على حقوق المسلمين ما سرق معها الكثير من أموال المسلمين،... أعاد الأموال التي سرقها الأمويون جميعا و لم يدع من المسروقات شيئا إلا و أعاده حتى الذين تزوجوا بالأموال المسروقة فقد رد زواجهم)(3).

و من هنا كانت ثورة الإمام الحسين علیه السلام استكمالا طبيعيا و امتدادا منطقيا لثورة

ص: 283


1- عبد البديع محجازي، المساواة والاشتراكية في الإسلام، مطبعة الإرشاد . اللاذقية، 2005، ص67.
2- نفس المصدر السابق ص67 في هامشها.
3- نفس المصدر السابق ص96

الإمام علي عليه السلام على الجاهلية الجديدة التي أطلت برأسها من جديد و بأشكال مختلفة فور وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فما من يوم مر على الإمام علي عليه السلام دون مشاكل و فتن و هموم، و ما من ليل مر عليه دون قلق و سهاد و أحزان، فالإسلام، على حداثة ولادته، قد دخل دائرة الخطر و قد بلغ ذلك الخطر حده الأقصى عندما تولى معاوية كرسي الخلافة في الشام ضاربا بمبادئ الإسلام و أخلاقه عرض الحائط.

و لم يكن الحال عند الإمام الحسين عليه السلام بأفضل من الحال عند الإمام علي عليه السلام في زمنه، فيزيد خريج مدرسة معاوية فضلا عن أنه ابنه و معاوية-كما يصفه المفكر المسيحي (نصري سلهب)- كان تلميذ الشيطان الذي راح يعيث في الأرض فسادا(1)، و لذلك كان من الواجب الشرعي على الإمام الحسين أن يواجه الطاغيتين معاوية و يزيد بكل الوسائل الممكنة و أن يستكمل إزكاء نار الثورة ضد الوثنية الجديدة التي تتمثل بعبادة كرسي الحكم مع ما يرافقها من طقوس الظلم والفساد و تقديم الدين والقيم والمبادئ أضحيات و قرابين من أجل شهوة السلطة و استمرار الحكم الأموي البغيض.

و لم تغب هذه الحقيقة المؤكدة عن الكثير من أرباب الفكر والثقافة في الشرق والغرب، فالنهضة الحسينية نهضة عريقة تمتد بجذورها إلى الأفكار الثورية الإصلاحية التي عمل الإمام علي عليه السلام على تطبيقها و ترجمتها على أرض الواقع طوال حياته، و من هنا يرى الباحث الفرنسي (یان ریشار) أن كلا الإمامين، علي عليه السلام والحسين عليه السلام، كانا ثورة لا تنطفئ جذوتها في وجه الظلم والعنف لدى الأمويين

ص: 284


1- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص54.

الذين كانوا يتنكرون لكل القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية للرسالة الإسلامية(1).

و لا يبتعد رأى هذا المستشرق الفرنسي المعاصر عن رأي المفكر اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني) كثيرا، بل إن هناك الكثير من التقارب والتوافق بين وجهات النظر حول وحدة الأهداف العامة التي نهض أهل البيت علهم السلام جميعا لتحقيقها بشكل جماعي تارة و بشكل فردي تارة أخرى.

و على سبيل التوضيح، يرى الأستاذ (كتاني): (إن أهل البيت هم الوصية المقصودة لتناول الإرث الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقية ما شهدت الأرض نظيرها من الملاحم)(2).

و يرى أيضا، من خلال استدراکه لهذه العبارة التي ذكرناها الآن، أن الحسن والحسين علیه السلام هما سليلا نور النبوة و ألق الإمامة، و لذلك كانا دائما الأمل الحي في إكمال ما انعقدت عليه أهداف الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آزره في تبليغها الوصي علیه السلام.

و من هنا نستطيع أن نفهم قول الأستاذ (كتاني) عن مهمة الإمام الحسين علیه السلام و أهدافه، إلى جانب أهداف أخيه الإمام الحسن علیه السلام، على أن هناك وحدة في الأهداف الرسالة لأن هناك، بالأساس، وحدة في الأنوار النبوية الإمامية، و هذا ما قصده ذلك المفكر المسيحي اللبناني بقوله في كتابه الثمين (الإمام الحسين في حلة البرفير) عن الحسن والحسين علیهماالسلام: (ما كانا يشربان إلا كوثرا صرفا سيكون به تحقیق الميراث، و تحقيق الوصية، و تحقيق الإمامة، و تحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما

ص: 285


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص 264
2- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص28

انفکت ملحمة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ربها الرحمن الرحيم)(1).

لقد تبين جلية للإمام الحسين عليه السلام أن المبادئ المنهجية التي آمن بها أميرالمؤمنين علي عليه السلام إنما هي كلها جواهر من صلب الرسالة التي قدمها جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم للمجتمع الإنساني عامة هدية سماوية و بركة إلهية تتجاوز الأجناس والأعراق و تتخطى حدود الجغرافيا و عتبات التاريخ، فهي رسالة السماء للإنسان، نعم، إنها دعوة الله لمن يريد أن يكون جديرا بحمل كلمة (إنسان).

و لو أردنا أن نفارق الأديب والمفكر اللبناني المسيحي (سليمان كتاني) على أمل العودة إليه في الوقت المناسب، و اتجهنا في رحلتنا هذه إلى عالم المفكر والمؤرخ المعروف عالميا (فيليب حتي) (Philip Hiti) (1886 - 1978)، فماذا عسانا نجد في جعبته من وجهات نظر عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام الإنسانية و ثورته الإصلاحية ؟!

قبل أي شيء، نقول إن المؤرخ (فيليب حتي) مؤرخ و مفکر لبناني مشهور، علم في الكثير من الجامعات الأمريكية لفترات طويلة حتى بات علما بارزا في ميدان التأريخ، له العديد من المؤلفات باللغتين العربية والإنكليزية، منها: (تاريخ العرب)، (تاريخ سورية)، (تاریخ لبنان)، بالإضافة إلى الكثير من الأبحاث التاريخية الأخرى.

يرى هذا المفكر والمؤرخ المسيحي في كتابه الشهير ( History of The Arabs) أن الإمام الحسين عليه السلام كان يسير بخطى ثابتة على نفس النهج الذي سار عليه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم والإمام المرتضى علیه السلام، فالأهداف واحدة والغاية النهائية أيضا واحدا.

ص: 286


1- نفس المصدر السابق ص28.

و ليس هذا فحسب، بل إن عموم المسلمين، و ليس الشيعة فقط، كانوا في حالة تفاعل و تعاطف مع أهل بيت النبي علیهم السلام و بشكل خاص مع الإمام علي عليه السلام و الإمام الحسين علیه السلام، و قد أكد الأستاذ (حتي) على ذلك بقوله في الكتاب المذكور أعلاه: (إن القلوب المليئة بالتقوى تجاه ذرية النبي عليه السلام جعلتهم مرکزا للتعاطف العام معهم، و قد انضم إلى معسكرهم الكثير من الناس الذين لم يكونوا راضين سياسيا واقتصادية أو حتى اجتماعية عن الدور الذي يلعبه بنو أمية)(1).

و بالتالي، فإن مجمل هذه الأسباب قد لعبت دورا حاسما في الثورة والوقوف بثبات و إيمان أمام الطغيان الأموي الذي كان يشكل، بحق، آفة الإسلام و علته.

و من الممكن هنا أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا السؤال المنطقي التالي:

هل كانت حياة الإمام الحسين عليه السلام، أو حتى حياة أمير المؤمنين علي علیه السلام، رهنا للصدام والتصدي لبني أمية و لطغيانهم و عتوهم في الأرض؟!

أو بتعبير آخر أيضا، هل كان هدف الحسين عليه السلام من الخروج إلى أرض کربلاء هو عبارة عن وجه آخر لجهاد الإمام علي عليه السلام ضد الحكم الأموي المستبد واللاشرعي؟!

في الحقيقة، إن أسئلة من هذا النوع هي في المحصلة أسئلة منطقية و عقلانية، بل و ربما هي أسئلة جوهرية تنطوي على الكثير من الوعي الفكري والنضج الثقافي، و لذلك، فمن الواجب على الجواب أن يرتقي إلى مستوى السؤال المطروح.

فالإمام الحسين عليه السلام شأنه شأن الإمام علي عليه السلام، لم يكرس نفسه و لم يسخر قدراته الروحية والفكرية لمواجهة الباطل الأموي فحسب، بل كان في كل حركة من.

ص: 287


1- Philip Hitti History of The Arabs Macmillan Newyork 1958 p.282 )

حركاته و في كل لحظة من لحظاته شمعة يزداد نورها تألقا كلما ازداد ذوبانها في محراب الدفاع والذود عن شرف الرسالة السماوية والكلمة الإلهية ضد كل أنواع الكفر والطغيان والباطل سواء كان ذلك الانحراف والباطل من مصدر أموي أم من مصدر آخر لا يم إلى الأمويين بأي صلة.

فللحق وجه واحد وللباطل وجوه عديدة، و لذلك كان الإمام علیهم السلام هو وجه الحق الذي يجب عليه دائما و أبدا أن يصارع وجوه الباطل و يصرعها مهما تعددت و تباينت تلك الوجوه الباطلة والتي يحاول البعض منها ارتداء قناع الحق ولو إلى حين.

فلا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام هو تلميذ أمير المؤمنين علي عليه السلام في مدرسة الحق والخير والفضيلة، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يحذو الإمام الحسين عليه السلام حذوه في السير على الصراط المستقيم الذي يستوحش الكثير من الناس السير عليه لصعوبته و لقلة سالكيه.

فالإمام علي عليه السلام ، الملهم الأول للثورات ضد الباطل عبر كل العصور، قد أجبر الكثير من أعدائه على الاعتراف بفضله و بقيمه و مبادئه الإنسانية النبيلة، و قد أجبرهم أيضا على الإقرار بأن ثورة الإمام الحسين عليه السلام و كل الثورات اللاحقة كانت تستمد ضياءها من سراج ثورته (العلوية المحمدية) التي ابتدأت منذ ما يقارب أربعة عشر قرنا و لا يزال لهيبها متقدا بعنفوان الحق في صدور الأحرار في العالم.

و يكفي أن أذكر هنا مثالا واحدة أو ربما مثالين على أن المدرسة التي تخرج منها الإمام الحسين علیه السلام،-و نقصد بذلك مدرسة الإمام علي عليه السلام- قد فرضت نفسها حتى على الفكر اليهودي المعاصر.

فمثالنا الآن هو المفكر اليهودي المعاصر الدكتور (إسرائيل و لفنسون)، ذلك

ص: 288

المفكر الذي استفاض في مؤلفاته الفكرية المتنوعة عن علاقة اليهود في الجزيرة العربية بالإسلام، و ربما كان أشهر کتاب له في هذا المجال هو كتابه (تاریخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية و صدر الإسلام) والذي ترجم إلى اللغة العربية و لغات أخرى أيضا.

و يرى هذا المفكر، و على الرغم من أنه يهودي حتى العظم، أن الإمام عليا علیه السلام كان مثالا للرجل الثائر في سبيل الإيمان بما دعته إليه الماء، فعلي عليه السلام هو السند الأول والأخير لابن عمه الرسول محمد صلی لله علیه و آله و سلم عند الملمات والخطوب، و لذلك فقد كان الإمام علي عليه السلام هو الثورة الحقيقية في مواجهة كل أنواع المصاعب التي كانت تعترض طريق الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في عملية تبليغ رسالته بين عموم القبائل والعشائر.

و هنا يورد هذا المفكر اليهودي (و لفنسون) الدور الجوهري الهام الذي قام به الإمام علي عليه السلام في غزوة خيبر الشهيرة، تلك الغزوة التي لا يزال ذكر أمير المؤمنين علي عليه السلام فيها يبعث الرعب والحقد في قلوب اليهود إلى يومنا هذا.

و يذكر الدكتور (ولفنسون) دور الإمام علي عليه السلام في الدفاع عن رسالة الإسلام و تجلي هذا الدفاع في الدور المتميز الذي قام به في عملية الفتح المبين لذلك الحصن اليهودي المنيع والعصي على كل المهاجمين الغزاة.

فالإمام علي عليه السلام تسلم قيادة الجيش بأمر مباشر من ابن عمه محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن فشل كبار الصحابة في تحقيق أي نصر و لو كان نصرة معنويا بسيطا.

و هنا يصور هذا المفكر اليهودي الإمام عليا عليه السلام و هو يشن هجومه الساحق على ذلك الحصن المنيع و يكتسحه اكتساحة بطولية باهرا غير مبال بالأخطار المحدقة

ص: 289

به من كل جانب إيمانا منه بأنه يستبسل من أجل الحق والرسالة في مواجهة كل ما من شأنه أن يسيء إلى الرسالة أو إلى صاحبها صلی الله علیه و آله و سلم.

و يختتم ذلك المفكر اليهودي حديثه عن تلك المواجهة الدامية بين إمام المسلمين، الإمام علي عليه السلام، و بين كبار محاربي اليهود المتحصنين في حصن خيبر بتأكيده - من خلال اعتماده على كتاب (تاریخ الخمیس) - أن الإمام عليا علیه السلام استطاع أن يقتلع باب حصن خيبر بقوة إعجازية تثير الدهشة والاستغراب حتى أنه قد اجتمع سبعون رجلا محاربا ليحركوا ذلك الباب من مكانه بعد أن اقتلعه الإمام علي علیه السلام بيده المباركة و تترس به فما استطاعوا بجمعهم أن يحركوه من مكانه الذي ألقاه فيه علي علیه السلام(1).

إذن، و من خلال ما ذكره هذا المفكر اليهودي المعاصر، نستطيع أن نخرج بنتيجة هامة جدا على الرغم من بساطتها و وضوحها، و تتجلى هذه النتيجة بالقول إن الإمام علي عليه السلام كان يمثل الوجه الثوري في الإسلام ضد كل الجبهات المناوئة والمعلنة عداءها و كيدها لرسالة السماء، سواء كانت تلك الجبهات أموية أم و ثنية أم يهودية أم غير ذلك.

فالإمام علي عليه السلام، الذي هو معلم الإمام الحسين عليه السلام و دليله إلى رسالة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، لم يكن مشروعه الثوري، كما يتوهم البعض من أنصاف المثقفين، مقتصرا على مقارعة الباطل الأموي والإطاحة بذلك البيت الملعون في القرآن، بل كان مشروعه، الذي ورثه لاحقا للإمام الحسين عليه السلام، أكبر و أشمل من

ص: 290


1- د. إسرائيل و لفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية و صدر الإسلام، طبع دار النافذة . القاهرة، ط 1/ 2006 ، ص194.

ذلك بكثير.

لقد كان مشروعه التغييري عبارة عن حركة ديناميكية دائمة لا تعرف حدودا للتغيير المستمر نحو قيم السماء و تعاليم آخر الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم، و لذلك، فعندما يقول الرسول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم مخاطبة أمير المؤمنين عليا عليه السلام على مسمع من الناس:

«أنت الصديق الأكبر و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل»(1)، فإن هذا يعني أن حجر الأساس في مشروع علي عليه السلام الثوري هو أن صاحب ذلك المشروع هو الفاروق الحقيقي القادر على معرفة الحق والباطل من جهة، و هو القادر أيضا على مجابهة الباطل بقوة الحق من جهة أخرى.

فالمدرسة الثورية العلوية التي تخرج منها الإمام الحسين عليه السلام هي تلك المدرسة التي تنادي بالنهوض والثورة الدائمين في كل زمان و مكان و على أكثر من مستوى و بعد، فهناك الثورة والنهوض على المستوى العمودي، و هناك أيضا الثورة والنهوض على المستوى الأفقي.

و نحن، بطبيعة الحال، لا نريد أن نتشعب في حديثنا كثيرا حول فلسفة هذين المستويين من الحركة الثورية النهضوية في فكر أهل البيت عليهم السلام عموما، و لكن بإمكاننا أن نختصر الكلام و نقول إن الثورة (العلوية الحسينية) العمودية هي تلك الثورة الحية التي تبدأ من الثورة على الذات نفسها لتخليصها من (النفس المسؤلة) و(النفس الأمارة بالسوء) و من شتى الأصنام والأوثان الداخلية، والتي ينتهي بها المطاف إلى حالة التألي من حيث التأدب بآداب الله سبحانه و تعالى والامتثال لكل أوامره والانتهاء عن كل نواهيه.

ص: 291


1- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج 1 ص 61.

و في هذا المستوى العمودي من الثورة على الذات والنهوض بها إلى مستوى الآداب الإلهية السامية يصل صاحب هذا المستوى من الثورة إلى المرتبة الكمالية العالية التي وصفها الله سبحانه و تعالى في حديثه القدسي المقدس قائلا: (يا بن آدم، أنا غني لا أفتقر أطعني فيما أمرك أجعلك غنيا لا تفتقر، یا بن آدم، أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيا لا تموت، أنا أقول للشيء کن فیکون أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون)(1).

أما المستوى الثاني، أو لنقل البعد الثاني من الثورة، فهو البعد الأفقي الممتد من داخل الذات إلى خارجها ليتصل بكل مفردة من مفردات الوجود المحيطة بتلك الذات الفاعلة والمنفعلة بأن معا، فالثورة النهضوية، بهذا المفهوم، هي حركة إيجابية فاعلة في المجتمع، نعم، ربما لا يكتب لكل الثورات و لكل الحركات النهضوية النصر أو النجاح في مساعيها، و لكن هذا لا يعني أن يقف الإنسان الذي هو، عمليا، خليفة الخالق في الخليقة مكتوف اليدين مستكين النفس مكبل الأحاسيس والمشاعر تجاه أية ظاهرة سلبية في المجتمع مهما كان نوعها و عيارها.

فالامتداد الأفقي للثورات الإنسانية يجعلنا نراجع تاريخ المصلحين والأنبياء علي علیهم السلام مر العصور حتى نتعرف على علاقتهم بواقعهم و مجتمعاتهم التي يعيشون فيها.

فما هي حقيقة تاريخ المصلحين

هل تاريخهم تاريخ الخوف والهلع من السقوط في مهاوي الابتلاء والنكبات؟

هل تاريخهم تاريخ الجزع والتخوف من دخول السجون والمعتقلات و من ثم

ص: 292


1- الشهيد السيد حسن الشيرازي، كلمة الله، دار الصادق . بيروت، 1969، ص140.

التعذيب، و ربما أحيانا الموت تحت سياط الجلاد والسجان؟!

هل هذا هو تاريخهم الحقيقي، أم أن التاريخ الحقيقي لأولئك المصلحين كان تاريخ التخلص من الخوف والتحرر من عقدة الابتلاء التي تكمن لهم في كل حركة يقومون بها و هم في طريقهم إلى تحقيق التغيير المنشود؟!

فتاريخهم كان بالفعل تاریخ سجون بلا خوف، و تعذيب بلا جزع، و إقدام بلا إحجام، و كفاح بلا هوادة، و ضحايا على طريق الشهادة.

فالله جل جلاله يقول في محكم تنزيله الحكيم: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...»(1)، و(الربي) هو المنتسب إلى (الرب) أي إلى الله سبحانه و تعالى، و بالتالي، فإن الرب هو الرجل المنتسب فكرا و عملا إلى السماء، و هو الناهض والثائر دوما من أجل سيادة مبادئ الماء، فهو ثائر في سبيل الحق والعدل والخير والفضيلة و في سبيل تحقيق إنسانية الإنسان و صون كرامته، إنه الثائر أيضا في سبيل فك حبال الذل عن رقاب المعذبين والمستضعفين، إنه الثائر الناهض في وجه فراعنة كل العصور و طغاة كل الدهور حيث لا يعترف لهيب الثورة في صدره بحواجز التاريخ و لا حدود الجغرافيا، و لا حتى بالألوان والأجناس والأعراق، فثورته ثورة شاملة ضد كل الانحرافات والمخاطر التي تهدد الهوية الإنسانية في جذورها و أعماقها، و بالتالي، فالثورة رصد و مواجهة مع صور الباطل والطغيان أينما بات و وقتما كانت.

أما المثال الثاني عن الرؤية اليهودية المعاصرة للمدرسة العلوية الثورية فقد أخذناه من أحد مؤلفات المفكر اليهودي الشهير (ليوبولد فايس) ( Leopold Weiss) النمساوي الأصل.

ص: 293


1- سورة آل عمران: الآية 146.

و عن هذا المفكر اليهودي الخطير الشأن يقول الباحث الأستاذ (محمد شاكر عضيمة) في كتابه الجريء (كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية): (هو سليل الحاخامية، أعده والده ليكون حاخاما لحفظ التراث الرباني للعائلة التي احتفظت به أجيالا، و لكن (إحدى الجهات) ساقته إلى السعودية وجعلته مسلما)(1).

و يذكر الأستاذ (عضيمة) أيضا كيف أن ذلك اليهودي الخطير قد تظاهر باعتناق الإسلام و كيف بدل اسمه من (ليوبولد فايس) إلى (محمد أسد) و كيف استطاع بدهائه و بمكر روحه اليهودية أن يصل إلى أعلى المناصب الإسلامية بتوجيهات من بعض الجهات المسؤولة في المملكة السعودية حتى أنه تسلم المناصب التالية و هو لا يزال يهوديا في صميمه حتى العظم:

1. تولى إصدار مجلة (عرفات) الإسلامية في باكستان.

2- تولى رئاسة معهد الدراسات الإسلامية في لاهور.

3. تولى دائرة إحياء الإسلام في باكستان.

4. عمل كمندوب لباکستان في هيئة الأمم المتحدة.

و مما يدل، بالفعل، على مكره و على عبقريته بنفس الوقت هو أنه - كما يقول عنه الأستاذ (عضيمة)- كان يعرف عن الإسلام أضعاف ما يعرفه أي شيخ في السعودية، و كان، بالإضافة إلى ذلك، يتكلم اللغات التالية: العبرية والآرامية والعربية والألمانية والإنكليزية والبولونية والفرنسية(2)

إذن، إن هذا المفكر اليهودي كان على دراية كافية بكل التاريخ الإسلامي و بكل

ص: 294


1- محمد شاكر عضيمة، كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية، مطبعة الكشاف . اللاذقية طبعة أولى، 1969، ص231.
2- نفس المصدر السابق ص231.

رموزه و أعلامه، و لذلك فقد عرف كيف يمكن وضع السم في الدسم، والذي يقرأ مؤلفاته المتعددة سيدرك هذه الحقيقة بلا أدنى شك أو ریب.

و لكن، و على الرغم من كل ذلك، لم يستطع ذلك اليهودي المتظاهر بالإسلام أن يحجب بعض الحقائق المتعلقة بالروح الثورية عند أهل البيت عليهم السلام، و لكن يكفي أن نذكر من كل هذا تأكيده على أن العصر الذهبي للإسلام بدأ بالتراجع بعد عملية اغتيال الإمام علي علیه السلام.

فالإمام علي علیه السلام، بنظر ذلك اليهودي المتعصب، هو حقا (شهيد)(1) الإسلام، و باستشهاد ذلك الإمام عليه السلام دفاعا عن المبادئ والقيم الرسالية بدأ الإسلام بالتراجع والابتعاد عن الروح الإسلامية التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم والتي هي في جوهرها روح الثورة والتغيير.

و هكذا نرى أنه حتى الفكر اليهودي المعاصر لم يستطع أصحابه إخفاء إعجابهم الواضح بشخصية الإمام علي عليه السلام و بالمبادئ والأهداف التي كان يدافع عنها طوال حياته دون كلل أو ملل، و هو أيضا إعجاب و تقدير للشخصية الإنسانية الملهمة للكثير من النهضات والثورات العالمية و على رأسها ثورة ابنه الإمام الحسين علیه السلام.

و ليس الفكر المسيحي المعاصر ببعيد عن الرؤية اليهودية السابقة في ما يتعلق بالروح الثورية عند أمير المؤمنين علي عليه السلام، تلك الروح التي غرست في ضمير الإمام الحسين عليه السلام ثورة كربلاء، بل والعديد من الثورات اللاحقة الأخرى في شتى بقاع الأرض طلبا للعدالة والحق و رفضا للبغي والظلم، و ها هو أحد المفكرين

ص: 295


1- ليوبولد فايس (محمد أسد)، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة: منصور ماضي، دار العلم للملايين . بيروت، 1957، ص64.

المسيحيين المعاصرين يعبر عن هذه الفكرة ذاتها بقوله و تأكيده على أن اسم الإمام علي عليه السلام قد أصبح مبعث أمل لكل مغصوب، و صيحة تتردد على لسان كل مظلوم، و حصنا يفزع إليه كل من ضاقت عليه الحال والحياة، و يتابع ذلك المفكر المسيحي قوله: (فما من طالب إنصاف في هذا التاريخ إلا اسم علي ملاذه، و ما من غاضب على ظالم إلا و اسم علي درعه، و ما من ساخط على رشوة أو فساد أو جور إلا وله من علي و تراثه حافز على الثورة)(1).

إذن، لا يختلف اثنان في أن أهداف الإمام الحسين عليه السلام في ثورته و في نهضته الكربلائية هي نفس الأهداف العلوية المستوحاة بشكل مباشر من الرسالة الإسلامية التي جاء بها الرسول المصطفى خير البرية صلی الله علیه و آله و سلم

فالمنطلق واحد والمبدأ واحد، و لا ريب في أن الهدف أيضا واحد، و ليس هذا الأمر بخافي على أحد، بل على العكس تماما، إن كل صاحب بصيرة يدرك دونما أدني شك أن الإمام الحسين عليه السلام، من خلال ثورته على كل مظاهر الخلل في الأمة، قد استكمل و ترجم عمليا النهج الذي رسمه أمير المؤمنين علي عليه السلام لصون و حفظ تعاليم المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بعد ما عمل العاملون جاهدين على محو معالمها و طمس مبادئها غير آبهين بتحذير النذير و لا بخلجات الضمير.

فالإمام الحسين عليه السلام- كما يقول عنه المفكر الفرنسي الشهير (روجيه غارودي) ۔ قد قدم كل ما يملك من أجل أسمى مفهومين في الوجود، الحق والإيمان(2)، و بهذا يكون الإمام الحسين عليه السلام قد استكمل بالفعل ما أراد أمير المؤمنين علي علیه السلام

ص: 296


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق ج5 ص186.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص48.

تحقيقه على أكمل وجه و لو من خلال الأئمة الأطهار علیهم السلام من بعده، سواء من الإمام الحسين عليه السلام أم من غيره لأن الجميع، في المحصلة، ينشدون نفس الأهداف والغايات على حد سواء.

و هنا تحديدا أريد أن أتوقف قليلا مع نقطة هامة أخرى تتعلق بدواعي و أسباب خروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، و على ما يبدو فإن هذه النقطة أيضا قد أغفل ذكرها كل الباحثين في مسألة النهضة الحسينية و أسباب الثورة على حكومة يزيد.

فهناك سبب جوهري لا يقل أهمية عن كل الأسباب والدواعي التي ذكرناها في هذا الفصل من الكتاب، إنه السبب المتعلق بالتفريط العلني والمتعمد بالكرامة و بالأرض.

فالحاكم الذي يقبل التفريط بالأرض إنما هو حاکم بائع للكرامة والعرض، و هذا ما حدث بالضبط مع يزيد و مع أبيه معاوية من قبله و مع غيره من بعض الخلفاء الأمويين من بعده.

فمعاوية شخصية معروفة بمكرها و دهائها، بل و بقذارتها على كافة المستويات الدينية والدنيوية، و لذلك ليس هناك من داع لنعيد الآن فتح ملفات ذلك الحاكم الذي كان يحكم دائما بعكس حكم الله في العباد والبلاد.

و لكن الشيء الذي قد لا يعرفه الكثير من القراء عن معاوية هو أنه كان صاحب مخطط خطير يقوم على المتاجرة بكل شيء مقدس و غير مقدس من أجل الحفاظ على كرسي الحكم دون حدوث أي شغب أو اضطراب.

و على ما يبدو، فإن ابنه يزيد كان بارا بتعاليم والده و بنهجه في التعامل مع الأحداث والوقائع منطلقا في ذلك من ضرورة الحفاظ على مقاليد الحكم والتشبث

ص: 297

بكل ما أوتي من قوة و سلطان بكرسي الحكم المطلق القادر على أن يختصر شخصية الأمة بشخصه و أن يكثف مساحة تلك الأمة أيضا إلى حدود مساحة كرسيه المنتصب عالية على جماجم المظلومين وأشلاء البؤساء والمستضعفين.

فيزيد الذي ورث منصب (الإمبراطور) من أبيه معاوية الذي ذلل له الكثير من الصعاب و أزال له من طريقه العديد من العوائق الخطيرة التي كان من الممكن لها أن تعيق و صوله إلى كرسي الحكم، بدا و كأنه، منذ الأشهر الأولى لحكمه، لا يمت إلى الإسلام بأدنى صلة و لا يرتبط بمبادئه و قيمه بأوهی رباط، و هذا شيء لا ندعي معرفتنا به دون سوانا من الدارسين والباحثين، و لكن ربما كان هناك أشياء أخرى أعمق من الانحطاط الأخلاقي والتردي الديني الذي ورثه يزيد عن أبيه معاوية.

فمسألة المعاهدات التي كان يعقدها معاوية مع أعداء الإسلام الذين كانوا يتربصون الدوائر بالأمة الإسلامية عموما، كانت معاهدات جائرة بحق الإسلام والمسلمين، و لم يكن عند معاوية أي مبرر لعقد مثل تلك المعاهدات إلا توفير الأمن والاستقرار لكرسيه الخاص و ليس للبلاد التي يحكمها.

و تذكر كتب التاريخ السياسي أن معاوية قد رسم سياسة عقد المعاهدات الجائرة مع الأعداء على حساب المسلمين عند الشعور بأن هناك خطرا ما يتهدد الكرسي الذي يتربع عليه، و تذكر تلك الكتب التاريخية أيضا أن ابنه يزيد و بعض الحكام الأمويين قد ساروا على نهجه واقتفوا أثره في عقد معاهدات مخزية مشابهة للمعاهدات التي أبرمها معاوية مع أعداء إسلام الرسالة والرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

و لعل أبشع تلك المعاهدات الجائرة و غير المتكافئة هي تلك المعاهدة التي عقدها معاوية -بمحض اختياره و إرادته- مع الأمير البيزنطي (كونستانس الثاني) في

ص: 298

عام / 39ه ، فدفع معاوية - بموجبها و وفقا لمستلزماتها - الجزية المطلوبة لذلك الأمير البيزنطي المذكور(1).

إذن، إن هذا (الخليفة) الذي استعدي على الإسلام و علی رسوله صلی الله علیه و آله و سلم لم يكتف بضرب المسلمين بعضهم ببعض بشتى الوسائل والطرق، والقيام بمختلف المؤامرات الدنيئة للمحافظة على سلطانه و عرشه، بل راح يحالف أعداء الإسلام علانية على حساب المصلحة الإسلامية العليا.

و قد نهج ابنه يزيد نفس النهج الذي اختطه له أبوه معاوية، فراح يزيد يتاجر بمبادئ الأمة و بشرف الرسالة و بكرامة الضمير الإنساني، هذا بالإضافة إلى عقده عدة معاهدات مع أعداء الإسلام شبيهة بتلك المعاهدات التي عقدها أبوه معاوية مع الأمير (كونستانس الثاني) و مع غيره من الأمراء الأعداء.

و لذلك، فمن الطبيعي أن ينتبه الإمام الحسين عليه السلام إلى تلك الظاهرة الخطيرة التي باتت تهدد الإسلام ذاته في نقطتين:

النقطة الأولى تتمثل في الامتداد الجغرافي للإسلام الذي بات مهددا بفعل عقد معاهدات جائرة يقوم بها الحاكم من أجل مصالح شخصية و مكاسب ذاتية.

والنقطة الثانية تتمثل في إضعاف ثقة المسلمين بأنفسهم من خلال معرفتهم بأن (الخليفة) ضعيف و ذليل، مع وجود دليل على ذلك و هو أن الخليفة يدفع الجزية للآخرين صاغرا و ذليلا بعد أن كان الآخرون هم الذين يعيشون بأمان واطمئنان بين ظهراني المسلمين مقابل دفعهم مبلغا بسيطا من المال مقابل ذلك العيش الهادئ، هذا

ص: 299


1- د. نوري جعفر، الصراع بين الأمويين و مبادئ الإسلام، مطبوعات النجاح. القاهرة، 1978، ص87.

بالإضافة إلى إسقاط واجب حملهم للسلاح و قتالهم في صفوف المسلمين في حال نشوب حرب بين المسلمين و أعدائهم.

لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام أن تعالیم معاوية سوف تسري کالنسغ في أوعية الشجرة الأموية، و سيأتي حكام من بعده يسيرون على نهجه في سياسة المبادئ اللاأخلاقية و سيفرطون بحقوق الأمة مثلما فعل هو بحقوق الأمة و بحقوق الرسالة.

و قد صدق حد الإمام الحسين عليه السلام بشأن ذلك وحدث ما كان يتوقعه تماما، فقد سار لاحقا عبد الملك بن مروان على منهاج معاوية وحذا حذوه عندما عقد معاهدة جائرة و غير متكافئة مع الأمير البيزنطي (جوستنیان الثاني) في عام / 70ه / فدفع الجزية صاغرا للبيزنطيين و تنازل لهم عن كل من أرمينيا و قبرص(1).

إذن، فظاهرة التغير الجغرافي - السياسي (الجيوبوليتيك) كانت ظاهرة جديدة و خطيرة تنذر بتداعيات أخرى أشد خطورة على الواقع الإسلامي و قتذاك، فالإسلام، کرسالة و كنهج عام في الحياة، لا يخول الخليفة أو الحاكم التصرف في حقوق الأمة كيفما يشاء، و لا يعطيه الحق في التفريط بأي شبر من البلاد الإسلامية أو بأي شيء آخر من أجل الحفاظ على كرسي الحكم أو من أجل تحقيق أي مكسب شخص آخر.

فعندما يفرط الخليفة بكرامة الأمة أو بمستحقاتها، فإن أول ما يعنيه هذا التصرف هو أن ذاك الخليفة ليس هو بالخليفة الحقيقي بل هو مجرد حاكم قد استولى على كرسي الخلافة بغير حق و قد تطاول على منصب (الخلافة) دون أي وجه من وجوه الاستحقاقات الشرعية المتعارف عليها.

و من الطبيعي تماما - عندئذ أن يقوم ذلك الحاكم الفاسد، الذي اغتصب الخلافة

ص: 300


1- نفس المصدر السابق ص88.

من أهلها وألب الناس على الخليفة الحقيقي بقوة السيف تارة و ببريق الدنانير تارة أخرى، بممارسة كل أنواع الفساد والطغيان في الأمة و سلاحه في ذلك سيف بيمينه و دینار بیساره و جيش إعلامي ضخم من المحدثين والرواة الكذبة الذين يلعبون دور البواقين له، المهللين لمآثره الجوفاء والمصفقين لجرائمه النكراء، والجاهدین دون كلل أو ملل لإقناع العامة من الناس أن ذلك الحاكم هو الخليفة الفعلي الذي اختاره الله عز وجل و نصبه خليفة عليهم، و بالتالي ليس لديهم الحق في الاعتراض على أفعاله و تصرفاته لأنها أفعال و تصرفات موحى بها إليه من الإله الذي شاء و أبى إلا أن يجعله خليفة عليهم لا يسأل عما يفعل بهم و هم يسألون!!

و أمام هذه الحقيقة المرة، كان لابد للإمام الحسين عليه السلام من أن يخرج و يذكر و يحذر، بل - إن اقتضى الأمر-أن يضحي بأثمن ما يملك من أجل إعادة الحق إلى نصابه واستئصال الباطل من منبته.

و قد أصاب الأستاذ الباحث (أحمد عباس صالح) عندما تحدث عن هذه المسألة الهامة والجوهرية، مسألة الخروج و تقديم الفدية العظيمة التي تتناسب في عظمتها مع عظمة الهدف المطلوب، فأشار معبرا عن ذلك بقوله:

(و لكن الحسين كان يعلم أنه لابد من فدية ضخمة، فدية تتوهج بالدم، و كان هو الوحيد الذي يملك أن يتقدم كفدية تهز الضمير شبه الميت في قلب الأمة)(1).

و لو توقفنا هنا قليلا مع الأستاذ (صالح) لنسأله سؤالا واحدة حول مقولته السابقة التي أوردناها للتو، و قلنا له:

لماذا اعتبرت أن الإمام الحسين عليه السلام هو الفدية الضخمة، و أنه هو علیه السلام الوحيد

ص: 301


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص162.

القادر على أن يتقدم كفدية تتوهج دمة لتهز الضمير شبه الميت في قلب الأمة ؟!

فلو سألناه هذا السؤال، فسيأتي جوابه واضحا و مكثفا في عمق المعاني من خلال قوله: (إنه رجل يمثل الثورة المثلى للإسلام)(1).

إذن، و بالاعتماد على ما سبق، نستطيع أن نقول إن الإمام الحسين عليه السلام هو ضمير الإسلام الحي و هو الصوت الإلهي الباقي في صدور تلك الثلة من المؤمنين والمؤمنات الذين خرجوا معه لإعادة الإسلام الرسالي إلى عالم الحياة والنور بعد أن استبد به الطغاة والبغاة محاولين جاهدين سحبه إلى عالم الظلام والفناء حيث لا أذان يرفع و لا توحيد يسمع.

و ليس هذا فحسب، بل لو أننا أجرينا مقارنة بسيطة و سريعة بين ما قاله هذا الباحث المسلم السني (أحمد عباس صالح) و بين ما قاله أحد أبرز الأدباء والباحثين المسيحيين المعاصرين حول طلب الإمام الحسين عليه السلام للحق و ارتباطه به لدرجة التماهي معه، فماذا يمكننا أن نجد؟!

بالطبع، لن أكون أنا من يجري المقارنة، فأنا أفضل أن أبقى على الحياد، و لكن الشخص الذي سيقوم بإجراء المقارنة هو القارئ نفسه والذي من المفترض له أن يخرج بغلال و فيرة من بيادر الحصاد.

لقد ذكرنا منذ قليل ما قاله الأستاذ الباحث (أحمد عباس صالح) عن فدية الإسلام الدامية و عن الصورة المثلى لذلك الدين السماوي العظيم، و لذلك لا داعي التكرار ما ذكرنا من عبارات و شواهد، و بالتالي، فسنذكر الآن ما قاله ذلك الباحث المسيحي العبقري عن نفس النقطة التي عالجها الأستاذ (أحمد عباس صالح).

ص: 302


1- نفس المصدر السابق ص163.

يقول ذلك الباحث المسيحي تحت عنوان (إنه هنا الحسين):

(إن العقل وحده عند الحسين هو الذي اكتشف الحقيقة التي تتغلف بها القضايا الكبيرة في الوجود - و لقد اكتشف أن الحق هو الذي يبني القضية و أن القضية التي هي الحق، لا يكون عمرها بالساعات، بل إنها الأبقى من الدهر... وجد نفسه أمام حقيقة الإدراك بأنه منتدب لتعقد الحق، و سيقوم بحقيقة التعهد- فإما يكون له الظهور، و إما يكون له بروز العنفوان الذي يبني الإنسان- لا للذل- بل للحياة.

أما الأمة التي هي من بنية جده، فهي التي تبقى أبدا تنظر إليه - و لو بعد ألف حين - بأنه العنفوان الذي: إذ ما تفتش عنه الأم تجده في حقيقة ذاتها- و ذلك هو جوهر الإنسان الذي بذل له جده و أبوه عرق العمر !!)(1).

لن أعلق على كلام هذا الباحث المسيحي و لو بكلمة واحدة، بل سأترك أمرالتعليق والمقارنة - كما ذكر منذ قليل - للقارئ الكريم عسى أن يخرج بما لم نحط به علما.

و على كل حال، مهما حاولنا أن نبحث و نخوض بعمق و قوة في دراسة دواعي و أسباب النهضة الحسينية، فسنبقى عاجزين تماما عن الإحاطة بها کليا، فهي ثورة نهضوية لا كالثورات الأخرى التي عرفها مسرح الحياة الإنسانية، فكربلاء ثورة أهل السماء على طغاة أهل الأرض، بل هي في حقيقتها و جوهرها ثورة القرآن على أتباع الشيطان.

و لذلك، مهما كتبنا و مهما أتينا بالكثير من الآراء و وجهات النظر لكبار رجال الفكر والأدب والدین، من مختلف الأديان والمذاهب، حول دوافع خروج الإمام

ص: 303


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص83

الحسين عليه السلام إلى أرض كربلاء، فسنبقى ضمن دائرة العجز عن بلوغ المرام و لو طال بنا المقام، و لكن، و على الرغم من كل ذلك، نرى أنه من الواجب علينا أن نستمر في إيراد المزيد من وجهات النظر والآراء الجديدة و ذلك بهدف إعطاء صورة تقريبية واضحة المعالم والخطوط عن طبيعة تلك الثورة التي لم يخمد لهيبها حتى الآن.

و على سبيل المثال، يرى الأستاذ (محمد رضا) في كتابه (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أن خروج الحسين إلى كربلاء هو عين الحق والحكمة، و يری الأستاذ (رضا) أيضا، و هو مسلم سني، أن الإمام الحسين عليه السلام : (إنما قام مجاهدا لتغيير الأحكام التي كانت تجري على خلاف أوامر الله سبحانه و سنة رسوله، فإن الحكام كما قال (الحسين عليه السلام): لزموا طاعة الشيطان و ترکوا طاعة الرحمن، و هو أحق من غيره بوضع الأمور في نصابها و إقامة العدل، و قد روي أن الفساد والمجون و إباحة المحرمات ظهرت في المدينة، دار هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وامتدت إلى غيرها من البلدان، فإذا لم يكن الحسين هو الذي يغار على الدين، فمن ذا الذي يغار عليه؟!)(1).

و بالفعل، فقد صدق الأستاذ (رضا) في قوله متسائلا:

إذا لم يكن الحسين عليه السلام هو الذي يغار على الدين، فمن ذا الذي يغار عليه؟!

و لعل هذا القول الاستفساري من قبل الأستاذ (رضا)، و هو عارف بالجواب الأكيد، يقابله قول آخر للأستاذ الأزهري (خالد محمد خالد) في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء) حيث قال ملخصا أحد أهم الأسباب لإشراق شمس الثورة الحسينية في

ص: 304


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، المكتبة العصرية . صيدا، ط 1/ 2004 ، ص132.

ليل الأمة:

(وإذا كانت الطبول تدق في دمشق معلنة قيام خلافة كاذبة لحفيد أبي سفيان، فلابد أن يجد الإسلام من يدفع عنه الكارثة...

و لابد أن يجد المسلمون من يدرأ عنهم الطوفان...)(1).

و لو أردنا أن نواصل رحلتنا في سبر أغوار الثورة الحسينية المباركة و أسبابها الكثيرة المباشرة، فسيطول بنا المقام بلا أدنى شك، و لكن ذلك لا يمنعنا من الاستمرار في عملية استكشاف المزيد من الآراء والأفكار الصادرة عن أرباب الفكر والمعرفة، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإيجاز والاختصار خوفا من أن يتسلل الملل إلى نفوس قرائنا الأعزاء.

و لذلك، فسنحاول جاهدين إيجاز ما جاء في أحد الكتب الهامة عن سيرة و ثورة ريحانة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، الإمام الحسين علیه السلام، و هو كتاب طبع منذ عدة عقود في مصر.

فالكتاب يحمل عنوان (الثائر الأول في الإسلام) لمؤلفه العالم الأزهري المعروف (محمد عبد الباقي سرور) صاحب العديد من الكتب والمؤلفات الإسلامية، فقد ذكر الأستاذ (سرور) في كتابه المذكور وجهة نظره الخاصة حول دواعي خروج الإمام الحسين عليه السلام لإسقاط حكومة يزيد الأموي اللاشرعية، بالإضافة إلى ذكره الأسباب الوجيهة التي دعت الإمام الحسين عليه السلام إلى عدم مبايعة یزید مهما كان الثمن و مهما بلغت التضحيات، تلك التضحيات العظيمة التي سيقدمها الإمام الحسين عليه السلام والتي ستكون بمثابة الضريبة الكبرى التي سيدفعها سيد الشهداء مقابل كلمة (لا) للذل والعبودية والطغيان.

ص: 305


1- خالد محمد خالد ، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص102.

و ها هو الأستاذ الأزهري (سرور) يقول حرفيا:

(فلو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر، والذي أباح الخمر والزنى، و حط بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات و عقد حلقات الشرب في مجلس الحكم، والذي ألبس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب، و مئات الألوف من المسلمين صرعی الجوع والحرمان، فلو بايع الحسين عليه السلام يزيد أن يكون خليفة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على هذا الوضع لكانت فتيا من الحسين بإباحة هذا للمسلمين، و كان سكوته هذا أيضا على هذا رضى، والرضى عن ارتكاب المنكرات و لو بالسكوت إثم و جريمة في حکم الشريعة الإسلامية)(1).

و لم يكتف الأستاذ (سرور) بهذا القول الصائب، بل راح يحاول تفسير كل فكرة بشكل مستقل، و لذلك فقد أضاف قائلا: إن الحسين عليه السلام بوضعه الراهن في عهد یزید هو الشخصية الأولى المسؤولة في الجزيرة العربية بل في البلاد الإسلامية كافة عن حماية التراث الإسلامي لمكانته في المسلمين و لقرابته من رسول رب العالمين، و لكونه بعد موت كبار المسلمين أعظم المسلمين في ذلك الوقت علما و زهدا و حسبةا و مكانة.

فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤولية تناديه و تطلبه لإيقاف المنكرات عند حدودها، و لاسيما أن الذي يرتكب هذه المنكرات و يشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، هذا أولا، و ثانيا: أنه عليه السلام جاءته المبایعات بالخلافة من جزيرة العرب و جاءه ثلاثون ألفا من الخطابات من ثلاثين ألفا من العراقيين من سكان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة العربید یزید بن معاوية،

ص: 306


1- محمد عبد الباقي سرور، الثائر الأول في الإسلام، طبع القاهرة - مصر، ص79.

وألحوا في تكرار هذه الخطابات، حتى قال رئيسهم عبد الله بن أبي الحصين الأزدي): یا حسین سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلب طلبنا و تقوم لنجدة الإسلام، و كيف والحسين ذو حمية دينية و نخوة إسلامية، والمفاسد تترى أمام عينيه، كيف لا يقوم بتلبية النداء!!

و بالطبع، فإن الإمام الحسين عليه السلام لا يستطيع أن يقاوم تلبية نداء إغاثة الرسالة و إنقاذ ما تبقى من نور الله في صدور المؤمنين، فهو ابن أمير المؤمنين عليه السلام ، و هو وليهم، و نحن نعلم أن المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه، فأبوه النور و أمه الرحمة، و بالتالي، كيف لا يستجيب الإمام الحسين عليه السلام لنداء الرسالة، و كيف لا يكون غيورا على إخوانه المؤمنين ؟!

و على الرغم من أننا قاربنا الانتهاء من دراسة هذا الفصل الهام من كتابنا، و هو الفصل المتعلق بأسباب و دواعي النهضة الحسينية المظفرة، إلا أننا لا نزال نملك في جعبتنا الكثير والكثير من الآراء والتقييمات المتفاوتة في القيمة حول أسباب الخروج و إطلاق شرارة الثورة في وجه يزيد الذي لم يدخر جهدا في تكبيل الشمس بآلاف القيود والزج بها في زنزانة قصره الذي هیاه له أبوه و لتبقى الرعية حية في ظلام حالک لا يعرف ليله للنور و للصباح طريقا.

و قد بقي علينا أن نذكر هنا أن هناك بعض الدارسين لأسباب الثورة لم يسيروا في دراستهم على نفس الخط أو النهج الذي سار عليه عموم الأدباء والمفكرين، بل كان لهم نهج خاص في دراسة و تحليل أسباب النهوض والخروج إلى ساحات كربلاء المواجهة حكومة و جيوش الظلام الذي يمثل الامتداد الطبيعي لنهج معاوية.

فهناك من الأدباء والمفكرين من رأى أن خير وسيلة لفهم الدوافع الحقيقية لثورة

ص: 307

الإمام الحسين عليه السلام هي دراسة و تحليل الرسائل العديدة المتبادلة بينه و بين يزيد أو معاوية، فمن خلال الرسائل و تحليل ما ورد فيها يستطيع الدارس أن يحلل شخصية کاتبها من جهة، و يستطيع أن يدرس بعمق الدوافع الأساسية التي دعته لكتابتها أو لاتخاذ أي موقف إجرائي مبني على ما ورد فيها من جهة أخرى.

و من هؤلاء المفكرين الذين نهجوا هذا النهج في دراسة الأسباب المباشرة للثورة الحسينية الكاتب المصري (توفيق أبو علم) صاحب المؤلفات العديدة من أعلام أهل البيت علیهم السلام ، فالأستاذ (أبو علم) يرى أنه من خلال دراسة و تحليل الرسائل المتبادلة بين الإمام الحسين عليه السلام من جهة و أعدائه من جهة أخرى، يمكننا الوصول إلى معرفة الكثير من الوقائع والحقائق، ليس على مستوى معرفة دوافع الثورة فحسب، بل أيضا على مستوى معرفة كوامن النفوس و غايات أصحابها سواء كانت تلك الكوامن والغايات المنعكسة في الرسائل سلبية أم إيجابية.

و بالفعل، فقد ذكر الأستاذ (أبو علم) رسالتين هامتين متبادلتين بين الإمام الحسين عليه السلام و معاوية بن أبي سفيان تعكسان الكثير من الحقائق و تبينان المزيد من العوامل النفسية والدوافع الذاتية التي كان يتصف بها كل طرف من الطرفين المتعارضين.

و لو لم يذكر الأستاذ (أبو علم) إلا رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية لکان ذلك كافيا من أجل إعطاء الصورة المتكاملة عن الأهداف والمساعي التي يسعی لتحقيقها كل منهما، هذا بالإضافة إلى إعطاء الإطار العام والخطوط العريضة لما تتصف به كل شخصية منهما بشكل متناقضي كليا مع الشخصية الأخرى، علما أن هذه الرسالة تمثل تأكيد رفض الإمام الحسين ليزيد و لمعاوية الذي عزم على استخلافه .

ص: 308

و ها نحن نذكر تلك الرسالة التي رد بها الإمام الحسين عليه السلام على مزاعم معاوية، و هي الرسالة التي أوردها الأستاذ (أبو علم) في كتابه (الحسين بن علي) بسبب أهميتها و أهمية الحقائق الواردة فيها من جهة، و بسبب إمكانية استخلاص الكثير من الصفات التي تتعلق بالمرسل و بالمرسل إليه من جهة ثانية.

يقول الأستاذ (أبو علم): فلما وصل الكتاب (أي رسالة معاوية) إلى الإمام الحسین (رضي الله عنه)، كتب إليه الحسين:

«أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب و أنا بغيرها عندك جدير، فإن الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد إليها إلا الله تعالى، و أما ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنه إما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، المفرقون بين الجمع، و کذب الغاوون، ما أردت لك حربا و لا عليك خلافا، و إني لأخشى الله في ترك ذلك منك و من الإعذار فيه إليك و إلى أوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة و أولياء الشياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا کندة و أصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و لا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما و عدوانا من بعدما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك و بينهم جرأة على الله و استخفافا بعهده؟

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه فقتلته بعدما أمنته و أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟ أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش

ص: 309

عبيد من ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك، و قد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركت سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تعمدا و تبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم و يسمل أعينهم و يصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك؟ أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين علي، فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم و مثل بهم بأمرك، و دين علي هو دين ابن عمه صلی الله علیه و آه و سلم الذي كان يضرب عليه أباك و يضربك، و به جلست مجلسك الذي أنت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك بخثم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، و قلت فيما قلت (أي في إحدى رسائل معاوية للحسين عليه السلام) (انظر لنفسك و لدينك و لأمة محمد، واتق شق عصا هذه الأمة، و إن تردهم إلى فتنة)، و إني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله و إن تركه فإني أستغفر الله لديني و أسأله توفيقه لإرشاد أمري، و قلت فيما قلت: (إن أنكرتك تنكرني و إن أکدک فكدني ما بدا لك)، فإني أرجو ألا يضرني كيدك و ألا يكون على أحد أضر منه على نفسك لأنك قد ركبت جهلك و تحرصت على نقض عهدك و لعمري ما و فيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا و قتلوا، و لم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا، فابشر یا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن الله تعالی كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و ليس الله بناس لأخذک بالظنة و قتلك أولياءه على التهم و نفيك

ص: 310

أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، و أخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الشراب و يلعب بالكلاب، ما أراك إلا قد خسرت نفسك، و بترت دينك و غششت رعيتك، و أخربت أمانتك، و سمعت مقالة التنفيه الجاهل و أخفت الورع التقي، والسلام)(1).

و غني عن القول والتفصيل في الشرح أن هذه الرسالة البليغة والمفضلة من الإمام الحسين عليه السلام وردت في الكثير من المصادر والمراجع الإسلامية المتقدمة والمعتبرة عند الفريقين، بل و قد وردت أيضا في العديد من المراجع اللاحقة عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء أيضا.

و أنا شخصيا أؤيد فكرة أن الرسائل والمكاتبات هي إحدى الطرق والوسائل الهامة في إعطاء و رسم صورة واضحة المعالم عن طبيعة الشخص المرسل من جهة و طبيعة الشخص المرسل إليه من جهة ثانية، فالرسالة سفير المرسل، و هي لسانه الناطق لما ينطوي عليه الفكر والقلب، و هي بنفس الوقت دليل المرسل و عينه وعونه في معرفة الكثير عن مكنونات الطرف الآخر لها.

و بالطبع، لا نريد أن ندخل في ميدان التحليل النفسي و لا أن نخوض في مجال البحث عن الارتباط الوثيق بين الإنسان و أقواله و أفعاله و آثاره، سواء كانت تلك الآثار منطوقة أم مكتوبة أم حتى مرسومة، فکل ما نقوله أو نكتبه أو نقوم بعمله له آثار و دلالات واضحة تدل على بنيتنا الفكرية و دوافعنا النفسية، و بالتالي له مؤشرات واضحة تدل على طبيعة شخصيتنا و على الحاجات والمبادئ والدوافع التي تحركنا

ص: 311


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي (سلسلة أهل البيت)، دار المعارف بمصر، ط 1982/2 ، ص091

ضمن خط مسيرة الحياة.

و على كل حال، و من باب لفت النظر فقط، نقول إن الباحث المسيحي الأستاذ (أنطون بارا) قد أورد الرسالة السابقة أيضا، والتي قد ذكرناها منذ قليل، و قد علق على تلك الرسالة الحسينية في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) تعليقا يليق بمحتوى الرسالة و بالحقائق التي تتضمنها.

و لكنه، بنفس الوقت، اختصر الكلام عن إيضاح الفرق بين الشخصيتين أو الطبيعتين الحسينية واليزيدية - تلك الشخصية التي ورثت الكثير من صفات معاوية المعادية للإسلام و لرسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد أورد الأستاذ (بارا) بيتين من الشعر القوي المعبر، أكد من خلالهما على أن خروج الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، و من قبله على معاوية، لم يكن إلا من أجل إعادة النبض إلى جسد الإسلام بعد أن نفث فيه يزيد كل سمومه بناء على أوامر و مخططات والده معاوية، فيزيد الذي تظاهر بالإسلام، كأبيه من قبل، لم يتجاوز إسلامه حدود شفتيه و لسانه، و لو كان الأمر عكس ذلك لما حمل یزید سیف البغي للفتك بأهل الرسالة وأنوارها!!

و ها هو الأستاذ (بارا) يحدثنا عن يزيد الفاتك برسالة التوحيد:

لئن جرت لفظة التوحيد في فمه *** فسيفة بسوى التوحيد ما فتكا

قد أصبح الدين منه يشتكي سقما *** و ما إلى أحد غير الحسين شکا(1)

إذن، بدأت رسالة السماء تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد يزيد الذي أظهر الإسلام بلسانه و ناصبه العداء والحقد بقلبه و بجوارحه حتى لكأن هناك عداوة قديمة بينهما

ص: 312


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص223.

تمتد إلى عقود مضت من السنين.

و لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو السؤال التالي:

لماذا يحمل معظم المسلمين يزيد مسؤولية كل ما حدث على الساحة الإسلامية من مصائب و نكبات؟

و هل يزيد إلا مجرد تلميذ تعمد حفظ الدروس التي تلقاها عن آبائه و عن أساتذته الذين سبقوه زمنيا في اعتلاء کرسي الخلافة واغتصابها مجتهدين في قطع شرايين الإسلام بهدف فصله عن معانيه السماوية و عن جوهر تعاليمه الإلهية؟! فلماذا نلوم التلميذ و لا نلوم الأستاذ و من وضع المناهج والخطط؟!

سنترك أمر الإجابة على هذه الأسئلة لمن يريد أن يجعل من عقله سراجا عند الإجابة عليها و على غيرها من الأسئلة الهامة التي تحاول أن تشق طريقها إلى النور.

و مهما يكن من أمر، و مهما تعددت الأسباب في نهوض الإمام الحسين علیه السلام و إعلان رفضه الكامل للباطل بكل صيغه و أشكاله، فقد صدق الكاتب والباحث المغربي المعاصر (أحمد بوعود) عندما قال في حديثه عن دواعي التغيير في ثورة الحسين عليه السلام الخالدة: (لا بد من التغيير، و لن يغير إلا من كان في مستوى المهمة، و رعا و علما و تشبثا بالسنة، و قربا من النبوة، فاختار القدر الإلهي الإمام الحسين بن علي عليه السلام ليغير)(1).

والحقيقة، فإني لا أعلم لماذا تذكرني هذه المقولة التي أوردتها الآن للأستاذ الباحث (أحمد بوعود) بمقولة أخرى مميزة للشاعر والأديب العالمي (أدونيس) الذي

ص: 313


1- أحمد بوعود ، دواعي التغيير في قومة الحسين، مجلة النور، العدد 107 نيسان 200، إصدار دار النور للنشر. لندن، ص79.

سنقدم تعریفا موجزا عنه في المكان المناسب في هذا الكتاب، و يقول (أدونيس) فيها: (و بديهي أن سياسة النبوة كانت تأسيسا لحياة جديدة و نظام جديد، و أن سياسة الإمامة، أو الولاية، اهتداء سياسة النبوة، أو هي إياها، استلهامة لا مطابقة، ذلك أن لكل إمامة أو ولاية عصرة خاصة، و أن لكل عصر مشكلاته الخاصة، هكذا تكمن أهمية سياسة الإمامة، بل مشروعيتها في مدى طاقتها على الاجتهاد لاستیعاب تغير الأحوال، و تجدد الوقائع بهدي سياسة النبوة)(1).

و ربما أن القاسم المشترك بين هاتين المقولتين هو أن الإمام الحسين عليه السلام الذي ورث مشروعية النهوض والإصلاح عن جده المصطفى عليه السلام و أبيه المرتضی علیه السلام كان هو، بالفعل، الإمام الذي اختارته إرادة السماء - بالاعتماد على ما يمتلك من خصائص و مقومات - ليكون المثال الواقعي والرمز الحي المعبر عن الأهمية الحقيقية لمعنى الإمامة والولاية في الإسلام، تلك الإمامة السائرة على خط النبوة و هديها، والقادرة على الاجتهاد والتجديد وفقا لكل عصر و ما يعاني من مستجدات و مشکلات خاصة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.

و في نهاية مطافنا هذا في ربوع دوافع الثورة الحسينية و مقوماتها، نرى أنه قد آن الأوان لنختم کلامنا و ننهي حديثنا في هذا الموضوع، خاصة و نحن ندرك تمام الإدراك أن الكلام في هذا المجال يطول و يطول مع كل ما فيه من عنفوان الرجولة و كرامة القيم و نبل المبادئ و أحزان السماء على ما أصاب صفوة الخلق بين أهل

ص: 314


1- راجع هذا القول لأدونيس فی: أ. د. صادق جلال العظم، الاستشراق والاستشراق معكوسا، دار الحداثة . بيروت، 1981، ص42. ب. مجلة (مواقف) العدد رقم 34، شتاء عام 1979، راجع المقولة في الصفحة 158.

الأرض.

و ليس لنا أن نقول الآن أي شيء، أو أن نضيف أي شيء على ما أسلفنا ذكره غير قولنا الحالي الذي نؤكد من خلاله على صدق و صواب قول القائل العارف عن حقيقة الإمام الحسين عليه السلام: (إن نور الإله و مرآة تجلي الحق و نور الهدى نور الحسين لا سواه، و سر الولاء و لؤلؤ الحق المتوهج و مظهر الواهب المعطي إنما هو الحسين، و لقد كان سر الهوية الذي تجلى هو الضوء الساطع لنور الحسين)(1).

نعم، هذا هو الحسين عليه السلام ، بل هذا قبس ضئيل من وهج ضيائه العظيم.

إنه الإمام الحسين عليه السلام الذي أحرق فراشة الروح في حرم العشق الإلهي حبا و شوقا للوصول إلى سراج الذات الذي لا يعرف الظلام أبدا.

ص: 315


1- آية الله السيد محمد الحسيني الطهراني، لمعات الحسين عليه السلام ، طبع دمشق .2002م، ص53.

تبوءة أهل البيت عليهم السلام بفاجعة كربلاء

لا ريب في أن عنوان هذا الفصل الجديد يبدو غريبا و مثيرا بآن واحد، و لاريب أيضا في أن الخوض في هذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من الأقوال والشواهد التي تدعم الحديث عن حقيقة التنبؤ بفاجعة كربلاء الدامية التي اهتز لها عرش الرحمن استنكارا لوحشية الإنسان.

و لكن قبل الدخول في جوهر بحثنا هذا، هناك بعض النقاط المتفرقة علينا أن نستعرضها سوية بهدوء كي تكون مدخلا مناسبا لنا للدخول إلى عالم النبوءات و إلى الحديث عن غوامض المستقبل و أسراره الضبابية الغامضة.

كلنا يعلم أن العلم في الآونة الأخيرة، و بالتحديد منذ منتصف القرن العشرين تقريبا، أصبح عرضة للتجاذب بين مسألتين هامتين هما (المادة) و(الروح) أو ما يسميه البعض ب (الفكر) بدلا من كلمة الروح التي لا تروق لهم بسبب غموض معانيها.

و على الرغم من أن الغلبة كانت راجحة لصالح المادة، أو على الأقل لمن كان ينادي بأسبقية و أهمية المادة على حساب الطرف الآخر، إلا أن العلم مؤخرا بدأ و بشكل جدي بدراسة الكثير من الظواهر الروحية و بتحليل الكثير أيضا من القدرات الخفية الخارقة عند الإنسان، تلك القدرات الهائلة التي لا يمكن للمادة أن تكون هي السبب الأساسي والجوهري في وجودها و إطلاقها.

و سأذكر الآن عدة أقوال هامة لبعض العلماء تتعلق بقوى الروح و بتفوقها على

ص: 316

المادة من حيث القدرات و من حيث تجاوز الزمان والمكان والقفز فوقهما و إمكانية قراءة سطور المستقبل و تفكيك رموزه و إشاراته.

يرى الباحث والعالم (آرثر کو جبتون)، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الذرية والرئيس السابق للمجمع العلمي الأميركي، أن الروح تبقى حية بعد فناء الجسد المادي للإنسان، و يقول العالم (کوجبتون) بالحرف الواحد: (فلو أني أوقدت شمعة ثم أطفأتها على الفور بنفخة من فمي فإني لا أكون قد أبدت ضوءها، إنك لن ترى هذا الضوء بعينك الفيزيقية، و لكن لهب هذه الشمعة الضئيل يظل مجنحا في الفضاء لمدى سنين ضوئية لا نهاية لها، فإذا كنت لا أستطيع أن أبيد ضوء شمعة أوقدتها أنا بنفسي ثم أطفأتها، فكم يكون سخيفا أن نظن أن شخصية الإنسان تنعدم وتبيد بسبب ذلك الموت الفيزيقي)(1).

و بعد هذا الكلام الجميل عن علاقة الشخصية الإنسانية بالمادة والروح، ينتقل العالم (کوجبتون) للكلام عن قوة الروح و ما تحمله من أفكار و قيم تنتقل معها و تنقيها من العلائق والشوائب حتى تغدو جوهرا نقيا صافيا لا يخضع للقوانين الفيزيائية الأرضية و لا تتأثر بما يتأثر به الجسد المادي من الارتباط والوقوع تحت تأثیر عاملي الزمان والمكان.

و بالطبع، فإن هذا الكلام أول ما يعنيه هو أن الروح يمكن أن يتكشف لها الكثير من الحقائق والمعارف بقدر ابتعادها عن عالم المادة و قيودها.

و لا يختلف هذا الكلام من العالم (آرثر کو جبتون) عن زميله العالم البيولوجي

ص: 317


1- عبد الحميد الجوهري، الشفاء بالتنويم المغناطيسي والطاقة الروحية، نشر: إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1988، ص139.

(ألفريد راسل والاس) صاحب نظرية خاصة بالتطور، و هي نظرية مكملة لنظرية التطور التي أعلنها العالم (لامارك)، و قد حاول (والاس) التوفيق بين نظرية التطور و بين كشوفاته الروحية، مؤكدا على حقيقة أن من يتأمل في وجود جسد أثيري للإنسان يتبين له ناموس التطور والارتقاء، خاصة و أن هذا الجسد الأثيري الراقي يحمل عقل الإنسان ذاته.

و بما أن الجسد الأثيري أرقى من الجسد العادي الرهين في سجن المادة، فهو الجسد الأقدر على التحرر من سلطة الزمن عليه، و بالتالي تكون له القدرة على التنقل في بعض الظروف بين الأعماق المختلفة للزمان.

و مما يؤكد هذه الرؤية حديثا هو علم الباراسيكيولوجي الذي بدأ يحظى باهتمام عظيم في معاهد و جامعات الغرب.

فهناك نظرية جديدة هامة تسمى نظرية (الجلاء البصري) أو (الاستشفاف)، و بالطبع، لا يسعنا الآن أن نشرح الأسس التي تقوم عليها هذه النظرية الهامة، و لكن يمكننا أن نقول إن هناك نوعين من الجلاء البصري: الجلاء البصري البسيط أو القريب، والجلاء البصري البعيد.

و ما يهمنا هنا الآن هو الجلاء البعيد، و هذا النوع من الجلاء البصري هو حالة يمكن للشخص الموهوب أن يرى من خلالها الأشياء البعيدة عن متناول النظر العادي، ويتم ذلك عن طريق استخدام ذلك الشخص لما يسمى بالتلسكوب الأثيري، و هو بالطبع تلسكوب افتراضي، و تختلف قوته من شخص لآخر، و تقوم الفكرة الأساسية على أن الإنسان يكون تیارة فكريا أثيرية و ذلك باستخدام قوته الحيوية، و هذا التيار يسهل مرور الذبذبات الأثيرية مهما كانت ضوئية أو صوتية أو حتى فكرية،

ص: 318

و بعبارة أكثر وضوحا، فإن الشخص الوسيط من خلال تكوينه هذا التيار، فإنه يرفع من ذبذبته حتی توافق ذبذبة الشيء المطلوب الاتصال به.

و لكن تبدو هذه العملية أكثر تعقيدا من العملية الأخرى التي تعرف باسم (الطرح الروحي)، و هي قدرة الشخص الوسيط على طرح جسمه الأثيري إلى المكان المطلوب رؤيته، فيراه كما هو ثم يعود بالأخبار المطلوبة مخترقة كل الحواجز.

والجلاء البصري موهبة معروفة منذ القدم، و هي موهبة فطرية يمكن لها أن تنمو و تتعاظم بالتعبد والطاعة و صقل النفس، و أحيانا باعتزال الناس أيضا.

و يرى العلم الحديث، بعد ظهور نظرية النسبية لصاحبها (ألبرت أينشتاین)، أنه بالإمكان القول إن جميع الحوادث المستقبلية موجودة في مكان ما في الكون، و لكن لم تصبح بعد في حيز الواقع الحاضر، و كما أن هناك في الهندسة مسافات سالبة و أخرى موجبة، فكذلك الزمن، فنحن نقول الآن هناك (ماضي) و (مستقبل)، و هكذا توجد أيضا حوادث (شفوية) لم تترجم بعد، و حوادث (فعلية) أخذت نصيبها من الواقع الفعلي على مسرح الوجود.

و هنا يأتي دور الأفراد الموهوبين في عملية الجلاء البصري البعيد، حيث يكونون قادرين على استجلاء الكثير من الحقائق والأحداث (النظرية) التي ستأخذ طريقها إلى الواقع و لو طال بها الزمان في وصولها إلينا.

و علينا أن لا نغفل عن أن تعبير الجلاء البصري هو تعبير عام، فهناك الجلاء السمعي والجلاء الشمي و غير ذلك أيضا، و خير مثال على الجلاء الشمي، هو ما ورد في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم، حيث قال الله سبحانه و تعالى: «وَ لَمّا

ص: 319

فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ»(1)، و هذا يعني أن والد يوسف عليه السلام وصل إلى حالة الجلاء الشمي، فعرف ابنه يوسف و عرف أنه كان موجودا على الرغم من أنه - كما نعلم كلنا- كان كفيف البصر من البكاء عليه.

و من هنا يمكننا الدخول إلى جوهر بحثنا الحالي، مع إمكانية العودة إلى الكلام عن الظواهر والقدرات الروحية الخارقة والاستشهاد ببعض الحوادث منها، و دراستها على ضوء علم (الباراسيكيولوجي) الحديث.

و أول ما يمكن لنا أن نقوله الآن هو طرح السؤال التالي على أنفسنا:

إذا كان الإنسان العادي، الموهوب روحيا، والبعيد عن عالم النبوة والاصطفاء من الله، قادرة على قراءة العديد من الحوادث المستقبلية واستجلائها عن بعد، فكيف الحال، إذن، عند الرسل والأنبياء عليهم السلام الذين اختصوا بعلم النبوة و أسرارها، و هم الأقرب روحا و نورا إلى نور الله سبحانه و تعالى؟!

و لذلك، من الطبيعي جدا أن يتحدث الأنبياء والرسل علیهم السلام عن علوم الغيب و أن یشيروا بطريقة التصريح أو التلميح إلى العديد من الحوادث الغيبية الهامة التي ستحدث لاحقا على أرض الواقع والتي ستكون بمثابة الترجمة الحرفية الصادقة لما أشار إليه هذا الرسول أو ذاك النبي.

و انطلاقا من هذه المقدمات المتعلقة بمضمون بحثنا، دعونا الآن نخطو الخطوات الأولى باتجاه بوابة علم غيب الأنبياء السابقين عليهم السلام كي نقرأ سویة ما جاء على ألسنتهم الناطقة و في كتبهم الصادقة من أحاديث و أقوال و أدعية تتعلق بمأساة کربلاء، و فجيعة محمد و علي و فاطمة عليهم السلام بابنهم الحسين عليه السلام، سيد الشهداء

ص: 320


1- سورة يوسف: الآية 94.

و أمثولة التضحية والفداء.

و أول ما سنبدأ به الآن، هو ذكر أهل البيت علیهم السلام عموما في كتاب التوراة و معرفة كبار أحبار اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه و آل و سلم بذلك، و كتمانهم تلك المعرفة إما كرها بالرسالة الجديدة أو خوفا من بطش اليهود و كيدهم لهم في حال إذاعة تلك الأسرار الخطيرة المتسربة من عمق كتبهم و تفاسيرهم العميقة لها.

فمن المعروف أن الإمام عليا عليه السلام قام بمعجزة عظيمة أدهشت الألباب يوم قام بفتح حصن خيبر المنيع، و قد قال عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك: ما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي، و لكن عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه، أربعين ذراعا، و لقد تكلف حمله أربعون رجلا فما أطاقوه.

و عندما سئل أمير المؤمنين عليه السلم عن ذلك، أجاب:

«والله ما قلعت باب خیبر و رميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية و لا حركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية و نفسي بنور ربها مضيئة»(1)، و قال عليه السلام أيضا في مناسبة أخرى عن نفس الحادثة: «والله ما قلعت باب خیبر بقوة جسمانية و لكن بقوة إلهية»(2)، أي بمدد إلهي مباشر.

والمهم في الأمر، هو ما رواه عبد الله بن أبي أوفي و غيره عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه لما تم فتح حصن خيبر، قالوا له: إن بها حبرا قد مضى له من العمر مئة سنة و عنده علم التوراة، فأحضر بين يديه، و قال صلی الله علیه و آله و سلم له: « أصدقني بصورة ذكري في التوراة و إلا ضرب عنقك». قال: فانهملت عيناه بالدموع و قال له: إن صدقتك قتلني قومي و إن

ص: 321


1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مؤسسة الأعلمي . بيروت، 1980، ص415.
2- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، أجوبة المسائل العلوية، مؤسسة المجتبی، بيروت، 2003، ص260.

كَذَبتُكَ قَتَلتَني. قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «قل و أنت في أمان الله و أماني»، قال له الحبر: أريد الخلوة بك، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «أصدقني بصورة ذكري في التوراة و إلا ضربت عنقك»، قال: فانهملت عيناه بالدموع و قال له: إن صدقتك قتلني قومني، و إن كَذَبتُكَ قَتَلتَني، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «قل و أنت في أمان الله و أماني». قال له الحبر: أريد الخلوة بك، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «أريد أن تقول جهرا»، قال: إن في سفر من أسفار التوراة اسمك و نعتك و أتباعك، و أنك تخرج من جبل فاران و ينادي بك باسمك على كل منبر، فرأيت في علامتك بين كتفيك خاتمة تختم به النبوة، أي لا نبي بعدك، و من ولدك أحد عشر سبطا يخرجون من ابن عمك واسمه على و يبلغ ملكك المشرق والمغرب و تفتح خيبر و تقلع بابها ثم يعبر الجيش على الكف والزند فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك و أسلمت على يديك.

قال رسول الله صلی الله لیه و آله و سلم: «أيها الحبر، أما الشامة فهي لي، و أما العلامة فهي لناصري علي بن أبي طالب»، قال: فالتفت إليه الحبر و إلى علي عليه السلام و قال: أنت قاتل مرحب الأعظم؟!

قال علي عليه السلام : «بل الأحقر، بل جدلته بقوة الله و حوله، و أنا معبر الجيش على زندي و كفي»، فعند ذلك قال: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و أنك معجزة، و أنه يخرج منك أحد عشر نقيبا، فاكتب لي عهدا لقومي فإنهم كنقباء بني إسرائيل أبناء داود عليه السلام، فكتب له عهدا بذلك(1).

و بالطبع، فإن هذه المسألة لا تتوقف عند حدود التوراة اليهودية، بل إنها تتجاوزه إلى حدود الوصول إلى كتاب الإنجيل ذاته، أو ما يعرف باسم العهد الجديد.

ص: 322


1- نفس المصدر السابق ص260.

و ليس من الغريب أبدا أن نقرأ عن الكثير من الأدباء والمفكرين والباحثين المسيحيين أنهم كتبوا واستفاضوا في الكتابة عن مآثر الرسالة الإسلامية و عن فضائل و خصال الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و ليس هذا فحسب، بل هناك العديد منهم أيضا راح يقرأ الإنجيل بروية مرة تلو أخرى، و راح يغوص أيضا في بحر من المخطوطات والرسائل المسيحية الغنوصية العميقة بغية الوصول إلى حقائق معرفية جديدة تتجاوز كل حدود المعارف المسيحية الكلاسيكية التي تتبناها مختلف النظم الكنسية اليوم.

و بالطبع، لا يمكننا أن نورد هنا كل أسماء أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين الذين تجاوزوا حدود المعرفة التقليدية، فلا الوقت و لا عنوان کتابنا يسمحان لنا بذلك، بل ربما سيكون هذا الموضوع هدفا لنا في كتابة كتاب مستقل لا حقا عن هذا الغرض الجديد والمثير.

و لكن يكفي أن نذكر هنا، الآن، عدة آراء و مواقف للبعض من أولئك الرجال الذين اغتسلوا برحيق المعرفة و شربوا من كؤوس النور.

و لذلك، دعونا الآن نشارك المفكر والباحث (أنطون بارا) في شرب الكأس الأول من كؤوس النور في محراب البيت المعمور.

يقول الأستاذ (بارا) عن تبشير عيسى المسيح عليه السلام بمجيء أخيه محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم من بعده: (ما من نبي إلا وتنبأ مبشرا بقدوم نبي بعده، و ما من شهيد إلا و تنبأ أيضا بالشهيد الذي سيليه، و لم يكن عيسى عليه السلام ليشذ عن هذه الحكمة الإلهية، لا تغافلا عن تبشير الناس بقدوم النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم و لا رها لهذا التبشير أو هذا القدوم، حاشا لله، و عيسی رسول المحبة والسلام، والمبشر بالحب حتى للأعداء

ص: 323

والمبغضين، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بنبي بعده، ختم الله به الأنبياء، و برسالته الديانات)(1)؟!

إذن، يرى الأستاذ (بارا) أن يسوع عيسى المسيح علیه السلام قد تنبأ بمجيء الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لإكمال الرسالات برسالته و لختم الأنبياء بنبوته.

و لكن الأمر لا يتوقف عند الأستاذ (بارا) على هذا المستوى من المعرفة اليقينية، بل إنه يتجاوزه إلى أعمق من ذلك بكثير، و لذلك فإن وقوفنا في واحة الأستاذ (بارا) الفكرية سيطول قليلا، و سنعود إلى تلك الواحة الغنية حينا بعد حين كلما دعتنا الحاجة إلى ذلك.

و من الأفكار الجريئة والمسائل الحساسة التي تناولها الأستاذ (بارا) في معرض حديثه عن مكانة كربلاء و عن الفاجعة التي حدثت فوق رمالها الحزينة، نراه يؤكد دائما على أن لتلك الفاجعة الإنسانية الدامية مكانة عظيمة في قلوب كل الأنبياء عليهم السلام الذين سبقوا مجيء خاتم الرسل محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد كتب الأستاذ (بارا) تحت عنوان (المسيح... هل تنبأ بالحسين...؟) قائلا: (لقد لعن المسيح قاتلي الحسين و أمر بني إسرائيل بلعنهم، و قال (أي المسيح): من أدرك أيامه فليقاتل معه، فإنه کالشهيد مع الأنبياء مقبلا غير مدبر، و كأني أنظر إلى بقعته، و ما من نبي إلا وزارها، و قال إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يدفن القمر الزاهر(2)، و بالطبع، فإننا سنتوقف لاحقا لشرح هذا الحديث في فصل (الحسين وارث الأنبياء).

ص: 324


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص31
2- نفس المصدر السابق ص295.

و بالفعل، ففي هذا الإيراد ثلاث نقاط على درجة عالية من الدلالة والأهمية، و هذه النقاط الهامة المتجلية في معاني هذا الحديث العيسوي هي:

1- لعن السيد المسيح عليه السلام لكل من شارك في جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، و أمره لبني إسرائيل بلعنهم جميعا.

2- الحث على القتال معه والدفاع عنه، مع بيان أن الاستشهاد والموت بين يديه عليه السلام هو كالاستشهاد بين أيدي الأنبياء تماما.

3- التأكيد بقوة على زيارة كل الأنبياء عليهم السلام الأرض کربلاء، مسرح الفاجعة، والجزم التام على أنه (ما من نبي) إلا و قد زارها نتيجة لمعرفته السابقة بما سيحدث عليها من فواجع و هموم و آلام و سفك مخيف لدماء أبناء خير الأنبياء والأوصياء.

و ليس هذا فحسب، بل بإمكاننا أن نلاحظ عمق إيمان الأستاذ (بارا) بمسألة تنبؤ كل الرسل والأنبياء بفاجعة كربلاء، بل و زيارتهم لها و مجيئهم إليها من مناطق مختلفة من أرض الرسالات لإقامة مراسم العزاء عليها و للبكاء فوق رمالها الحارقة مواساة للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على ما سيحل بحفيده الحسين و أهل بيته عليهم السلام من بعده.

و قد رد هذا المفكر المسيحي على المشككين الذين رفضوا فكرة أن يكون السيد المسيح عليه السلام قد غادر أرض فلسطين إلى كربلاء أو إلى أية منطقة أخرى، قائلا:

(هؤلاء فاتهم تلك الفترة الغامضة منذ يفاعة عيسى حتى سنه العشرين، إذ لم تذكر التواريخ، و لا حتى الإنجيل المقدس، أين أمضى عيسي طفولته و بعضا من سني شبابه المبكر... إذ هناك روايات تتحدث عن سفره إلى (التبت) لنهل الحكمة والطب الروحي، و ثمة رواية أخرى تحدثت عن تنقله في كل بقاع الأرض لاختيار المواطن

ص: 325

المناسبة لبعث ديانته و نشرها بعد نزولها عليه في فلسطين)(1).

و هنا أريد أن أذكر شيئا هاما جدا يتعلق بالكتاب المقدس، و تحديدا بكتاب العهد القديم - کتاب اليهود- و لذلك سنتوقف قليلا مع مراثي و نبوءات نبي الله (إرميا) علیه السلام التي هي الركن الأساسي الآن في الحديث عن التنبؤ بأحداث الفاجعة.

والحقيقة، ما كنت أريد أن أناقش ما ورد في كتاب اليهود (العهد القديم) عن فاجعة كربلاء في هذا المكان من الكتاب، و لكن رأيت أن أذكر تلك المعلومات الهامة الآن نظرة للمقارنة التي أحببت أن أجريها بین ما قاله الأستاذ (بارا)، ذلك المفكر والباحث المسيحي، و بين ما قاله الأستاذ الباحث (تامر میر مصطفی) ذلك الباحث المتخصص بدراسة الأديان المقارنة، و صاحب سلسلة (دراسات مقارنة في التوراة والإنجيل).

فعندما نفتح الكتاب المقدس و نقرأ في العهد القديم، يصادفنا ما يعرف بعنوان (مراثي إرميا)، فما هو الشيء الذي يستوقفنا في هذه المراثي؟! و ماذا يمكننا أن نقرأ فيها؟!

أول ما يمكننا أن نقرأ فيها، و تحديدا في بداية الإصحاح السادس والأربعين، أن هناك صراعا مريرا بين المصريين والبابليين، و لكن سرعان ما نقرأ أشياء غريبة و غامضة، بل و متناقضة مع ما يقول به التاريخ والمختصون بالأبحاث التاريخية.

بل، وفوق هذا أيضا، يمكن لبعض الباحثين والمتخصصين بالدراسات الدينية المقارنة أن يروا فيها إشارات و دلالات على حدث هام لم يحدث زمن (إرميا)، غير أنه في طريقه إلى الحدوث في المستقبل اللاحق، و لكن مع الإقرار بعدم القدرة على

ص: 326


1- نفس المصدر السابق ص91.

تحديد ذلك الزمن المستقبلي الذي لم ترد عنه أية إشارة زمنية محددة في الإصحاح السادس والأربعين.

و لكن بفضل المقارنات الكثيرة التي أجراها أولئك الباحثون، و بفضل الرجوع إلى الكثير من المراجع التاريخية والكتب الدينية الخاصة التي لم تتناولها أيدي التحريف والتزوير، فقد استطاعوا الوصول إلى العديد من الحقائق المدهشة المتعلقة بأحداث مستقبلية لاحقة للزمن الذي وجد فيه أنبياء بني إسرائيل.

و ذلك، دعونا الآن نورد ما جاء حرفيا في كتاب العهد القديم، في الإصحاح السادس والأربعين من مراثي (إرميا)، و بعد ذلك سنأتي بما قاله التحليل الديني المقارن عن ذلك الإصحاح و عن علاقته بفاجعة كربلاء على شط الفرات، و عن المنتقم لا حقا من القتلة.

فقد جاء في (إرميا 46) مايلي: (أعدوا المجن والترس و تقدموا للحرب، أسرجوا الخيل واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالنموذ، اصقلوا الرماح، البسوا الدروع، لماذا أراهم مرتعبين و مدبرين إلى الوراء و قد تحطمت أبطالهم و فروا هاربين و لم يلتفتوا بالخوف حواليهم يقول الرب: الخفيف لا ينوض والبطل لا ينجو، في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا و سقطوا، من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواهها... اصعدي أيتها الخيل و هيجي أيتها المركبات و لتخرج الأبطال... فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه فيأكل السيف و يشبع و يرتوي من دمهم لأن للسيد الرب ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات)(1).

ص: 327


1- الكتاب المقدس . العهد القديم . راجع مراثي (إرميا)، الإصحاح السادس والأربعين، إصدار دار الكتاب المقدس في العالم العربي . بيروت، 1982، ص1150.

هذا ما ورد في مراثي إرميا عليه السلام في كتاب العهد القديم، و لأخذ العلم فقط، فإن إرميا عليه السلام كان نبيا من كبار أنبياء بني إسرائيل الذي عاش نحو (650- 585 ق.م) و هو النبي المعروف باسم النبي البكاء، لكثرة بكائه، و كان هذا النبي الحكيم واحدة من الأنبياء الذين تنبؤوا بملحمة أهل البيت علیه السلام في كربلاء، و يقتل الإمام الحسين عليه السلام ذبحا على رمالها قرب شط الفرات، كما أنه تنبأ أيضا بقيامة الإمام المهدي المنتظر عليه السلام من أجل الانتقام له، و ما الأحداث التي ورد ذكرها في (إرميا 46) إلا الوصف الطبيعي للأحداث التي ستجري لا حقا على يد الإمام المهدي عليه السلام انتقامة إلهيا من الطغاة الذين قتلوا الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام و أصحابه، و من أولئك الذين هم من ذرياتهم الذين رضوا بمقتله و مقتل أهل بيته علیهم السلام و لم يستنكروا أبدا ما قام به آباؤهم وأجدادهم من ظلم و قتل لأهل بيت آخر الأنبياء علیهم السلام.

و لو دخلنا الآن، بشيء من التفصيل، إلى ما أفضت إليه الدراسات المقارنة بشأن ما أوردناه عن النبي (إرميا) علیه السلام، فماذا يمكننا أن نجد فيها؟

إنه، و قبل كل شيء، وصف مثير لحرب مهلكة يتنبأ بوقوعها نبي الله إرميا عليه السلام حيث سيقوم الله سبحانه و تعالى بالانتقام فيها من أعدائه انتقاما شديدا و مخيفا، و لو تساءلنا عن السبب الذي سيقود السماء إلى ذلك الانتقام الإلهي الرهيب، فماذا سيكون الجواب؟!

الجواب الواضح هو ما قاله نبي الله إرميا علیه السلام: «لأن للسيد رب الجنود (أي الله) ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات».

و في الحقيقة، لم يتفق بعد علماء أهل الكتاب و مفسرو العهد القديم حول معاني هذه المرئية والنبوءة، فمنهم من افترض أنها نبوءة بغزو مصر من قبل جيوش (نبوخذ

ص: 328

نصر) ملك بابل، و لكن معظم علماء أهل الكتاب قالوا بأن النبوءة - نبوءة إرميا - قد قيلت بعد اجتياح نبوخذ نصر لمصر، و بذلك بطل الادعاء الأول(1).

والبعض الآخر من علماء أهل الكتاب و مفسروه رأوا أن هذه النبوءة التي جاءت على شكل مرثية، إنما جاءت بخصوص خروج فرعون مصر لتحرير مدينة القدس، أو ما كانت تعرف قديما باسم (أورشليم) من أيدي المحاربين البابليين، و بحسب هذا الافتراض، يكون الله قد انتقم من الجيوش البابلية على أيدي الجيوش المصرية.

و لكن الدراسات التاريخية والوثائق القديمة كلها تقول بعكس ذلك، فالنصر الحاسم كان في تلك المعركة الضروس لصالح الجيوش البابلية، في حين أن الخسائر الجمة والهزيمة والدمار كان من نصيب الجيش المصري و فرعونه.

و تبعا لذلك، فقد ثبت عدم صحة تلك التأويلات المختلفة التي تتعلق بتفسير نبوءة النبي إرميا علیه السلام عن الحرب والذبيحة الإلهية والانتقام السماوي الرهيب.

غير أن الدراسات القائمة على ربط الوثائق بالوقائع، والتحليلات المقارنة بين الأديان و نبوءات رسلها و أنبيائها تدل على نقطتين هامتين أشارت إليهما نبوءة نبي الله إرميا علیه السلام، و هما:

النقطة الأولى: إن هناك وليا عظيما لله سبحانه و تعالى، و يحظى عنده بمكان جليل و مقام رفيع قد تم قتله ذبحا من قبل أعداء الله على جانب شط نهر الفرات في العراق.

النقطة الثانية: إن الله، المنتقم الجبار، سينتقم انتقاما رهيبة لذبيحته المقتولة ظلما بواسطة ولي ثان من أوليائه، مؤيد من قبله مباشرا بحيث يهب للانتقام من أعداء الله

ص: 329


1- تامر مير مصطفى، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار (سلسلة دراسات مقارنة في التوراة والإنجيل)، الكتاب رقم (1)، الغدير للدراسات والنشر، بيروت، ط1998/1 ، ص239.

الظالمين والقاتلين للولي الأول بغير وجه حق، وستكون انطلاقة الولي الثاني المنتقم كانطلاقة نهر هادر لايترك في طريقه شيئا على الإطلاق طلبا للثأر من الكفار الذين شاركوا وقتها في الجريمة أو رضوا لاحقا بها عند سماعهم بأخبارها مما يجعلهم قد شاركوا بالفعل في جريمة (ذبيحة الرب عند نهر الفرات).

و من المعروف تماما، و كما تؤكد الدراسات الدينية المقارنة، أنه لم يذكر في الكتب المقدسة عند كل من اليهود والنصارى، و لا حتى في أي كتاب من كتب التاريخ التي رصدت تاريخ بلاد الرافدين أن هناك نبيا من أنبياء الله أو وليا من أوليائه قد تم قتله ذبحة على شاطئ نهر الفرات في العراق غير سبط رسول الله المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم و ريحانته و سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي المرتضى عليه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام(1)

و هكذا نرى أنه بالنظر إلى عظمة الإمام الحسين علیه السلام و سمو مكانته الرفيعة عند الله سبحانه و تعالى و عند أهل سمائه جميعا، و نظرا لعظمة فاجعة كربلاء التي لم تشهد ساحة البشرية لها مثيلا أبدا، فقد رثاه نبي الله إرميا عليه السلام و بکی لمصابه و سماه قبل حوالي اثني عشر قرنا من استشهاده ب (ذبيحة الرب عند نهر الفرات).

و بالعودة إلى واحة الأستاذ (أنطون بارا) الفكرية، نستطيع أن نقرأ و بوضوح وجهة نظره، کمفکر و باحث، حول نبوءة نبي الله إرميا علیه السلام.

فالأستاذ (بارا) يرى أن الأحداث الواردة في الإصحاح السادس والأربعين من مراثي إرميا غريبة و ضبابية إذ ليس هناك من إطار واحد يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من تلك المعلومات الواردة في الإصحاح المذكور، و لذلك يرى أنه من الممكن تماما

ص: 330


1- نفس المصدر السابق ص240.

أن يكون نبي الله إرميا عليه السلام قد أشار بالفعل إلى فاجعة عالمية تهز الضمير الإنساني و سيكون مسرح أحداثها أرض كربلاء قرب نهر الفرات(1).

و لم يكتف ذلك الباحث المسيحي بذلك، بل راح يدرس الأعماق الروحية و يستلهم الدروس والعبر من تلك الفاجعة التي فاقت بفظاعتها أية فاجعة أخرى حلت بالساحة الإنسانية، فوجد، بعد طول دراسة و بحث، أن كربلاء كانت عبارة عن حادثة مكتوبة في الكتب الإلهية السابقة.

و ها هو يؤكد هذا الكلام بقوله: (و ثورة الحسين عليه السلام ليست وليدة ساعتها، بل هي في سفر الوصايا الإلهية، نقشت عليه قبل نزول الرسالة المحمدية، و علم ذلك عند رب الأكوان و باعث الرسالات، إذ كان يعلم تعالی بما ستتعرض له هذه الرسالة من اهتزاز بعد نزولها على محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فهيأ لها الحسين قبل أن يكون)(2).

و حتى يؤكد الأستاذ (بارا) صدق أقواله ودقة رؤيته للمسألة المطروحة راح يستشهد بالعديد من أقوال الإمام الحسين عليه السلام التي تؤيد الفكرة القائلة بأن الحسين عليه السلام كان يعلم مسبقا بخروجه و بمقتله في كربلاء على يد أظلم وأكفر الناس أجمعين.

و من جملة تلك الأقوال التي تم الاستشهاد بها، قول الإمام الحسين عليه السلام لعبد الله بن جعفر: «إني رأيت رسول الله في المنام و أمرني بأمر أنا ماض له».

و قوله أيضا لمن كان معه في بطن العقبة: «ما أراني إلا مقتولا، فإني رأيت في المنام کلاب تنهشني، و أشدها على كلب أبقع».

ص: 331


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص316
2- نفس المصدر السابق ص96.

و قوله عليه السلام في مرة أخرى و هو في مكة حينما عقد العزم على السفر منها إلى العراق:

«كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان (أي ذئاب) الفلوات بين النواويس و كربلاء، فيملان مني أكراشا جوفا و أجربة شغبة، لا محيص عن يوم خط بالقلم».

غير أن أكثر الأقوال تأثيرا في النفوس و أقواها حجة في تأكيد معرفة الإمام الحسين عليه السلام بالمصير المرير الذي ينتظره هو و أهل بيته عليهم السلام و أصحابه الغر الميامين، هو ذلك القول المؤئر الذي أورده الأستاذ (بارا) في الصفحة (93) من كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) حيث يقف الإمام الحسين عليه السلام مخاطبا السيدة أم سلمة (رضي الله عنه) مخبرا إياها بنهايته المحتومة في حال عدم نجاح مساعيه السلمية في عملية الإصلاح و إرجاع الحق إلى نصابه، و ها هو يعلم أم سلمة (رضي الله عنه) بذلك قبل خروجه إلى كربلاء قائلا:

«إني أعلم اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها، و أعلم من يقتل من أهل بيتي و أصحابي، أتظنين أنك علمت ما لم أعلمه...؟ و هل من الموت بد؟ فإن لم أذهب اليوم ذهب غدا».

و برأيي الشخصي إن هذا الكلام المباشر من الإمام الحسين عليه السلام إلى أم سلمة (رضي الله عنه) له دلالات كثيرة و خطيرة.

فالدلالة الأولى هي معرفة الإمام الحسين عليه السلام المسبقة بعدم قبول الطرف الآخر لأي مسعى من مساعيه الداعية إلى الإصلاح في أمة جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

والدلالة الثانية هي أيضا معرفة الإمام المسبقة بأن الرفض من المعسكر الآخر لن يكون رفضا سلميا لمطالبه الإصلاحية و حسب، بل إن الرفض المبدئي سيكون معززا

ص: 332

بقوة عسكرية تسحق كل من يقف في طريقها بحيث لا يجرؤ أحد بعد الإمام الحسين عليه السلام على طلب الإصلاح أو ما شابه ذلك بين المسلمين، فمجرد الإشارة إلى الخطأ هو خطأ لا يغتفر

والدلالة الثالثة هي ثبوت أن يزيد و جماعته سيكون همهم الأكبر هو القضاء على الإمام الحسين عليه السلام ذاته إذ أن مكانته من الله و رسوله صلی الله علیه وآله و سلم لن تشفع له بشيء عندهم، و بالتالي، فإن الردع العسكري الأموي لن يتوقف حتى يظفروا برأس الحسين عليه السلام .

والدلالة الرابعة هي قدرة الإمام الحسين عليه السلام على الكشف والاستبصار الغيبي عن طريق مؤهلاته الذاتية من جهة، و عن طريق إخبار الرسول صل الله علیه و آله و سلم له من جهة أخرى، و في هذا مصداق لقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله العزيز «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(1).

أما الدلالة الخامسة والأخيرة، فتتجلى في قوله لأم سلمة (رضي الله عنه): «أتظنين أنک علمت ما لم أعلمه؟»، ففي هذا القول من الإمام الحسين عليه السلام دلالة أكيدة على أن أم سلمة (رضي الله عنه) كانت تعلم أيضا بما سيحدث في كربلاء

و من هذه الدلالة الأخيرة، يبرز السؤال التالي:

كيف عرفت أم سلمة (رضي الله عنه) بذلك، و من هو الذي أخبرها بأحداث الفاجعة واستشهاد الإمام الحسين علیه السلام؟! .

و يأتي الجواب المطلوب ردا على هذا السؤال من خلال العودة إلى كتب السنة المتقدمة زمنيا، بل والمعاصرة أيضا، فهناك يكمن الجواب الشافي.

ص: 333


1- سورة الجن الآيتان 26. 27.

فقد جاء في كتاب (مقتل الحسين) لمؤلفه الموفق بن أحمد المكي الحنفي مذهبا، والمعروف بلقب (أخطب خوارزم) والمعروف أيضا، اختصارة، ب (الخوارزمي) أن ملاكا من ملائكة الفراديس جاء إلى النبي و قال له: يا حبيب الله تقتتل على هذه الأرض فرقتان من أمتك، إحداهما ظالمة متعدية فاسقة تقتل فرخك الحسين ابن ابنتك بأرض کرب و بلاء، و هذه التربة عندك.

و ناوله قبضة من أرض كربلاء و قال له: تكون هذه التربة عندك حتى ترى علامة ذلك، ثم حمل ذلك الملك من تربة الحسين في بعض أجنحته فلم يبق ملك في سماء الدنيا إلا شم تلك التربة و صار لها عنده أثر و خبر. و قال (راوي الحديث): ثم أخذ النبي تلك القبضة التي أتاها بها الملك فجعل يشمها ويبكي و يقول في بكائه: «اللّٰهُمَّ لا تُبارِك في قاتِلِ وَلَدِي، وأصلِهِ نارَ جَهَنَّمَ»، ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة و أخبرها بقتل الحسين بشاطئ الفرات، و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «یا أم سلمة، خذي هذه التربة إليك فإنها إذا تغيرت و تحولت دما عبيطا فعند ذلك يقتل ولدي الحسين».

فلما أتى على الحسين من ولادته سنة كاملة هبط على رسول الله اثنا عشر ملكا... قد نشروا أجنحتهم و هم يقولون: يا محمد سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابیل من قابيل، و سیعطی مثل أجر هابيل، و یحمل على قاتله مثل وزر قابيل، قال و لم يبق في السماء ملك إلا و نزل على النبي يعتريه بالحسين و يخبره بثواب ما يعطي و يعرض عليه تربته، والنبي يقول: «اَللهُمَّ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَ اقْتُلْ مَنْ قَتَلَهُ وَ لا تُمَتِّعْهُ بِما طَلَبَهُ»(1)

إذن، هذا هو نص الحديث الذي نقله لنا (أخطب خوارزم) الحنفي مذهبا بطرق متعددة و بأسانيد مختلفة، و كلها تدل على نفس الجوهر والمضمون.

ص: 334


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق ج1 ص163.

و لكن، ژب قائل يقول: نعم، نحن لا ننكر أن ذلك الخوارزمي الحنفي قد أورد أكثر من عشرين حديثا في كتابه (مقتل الحسين) عن إخبار الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بمصرع سبطه الحسين عليه السلام على بطاح كربلاء، و لكن هل هذا يكفي للاطمئنان إلى صحة هذه الأحاديث دون الرجوع إلى غير الكتاب المذكور من المراجع والمصادر المعتبرة؟!

هنا، يمكننا أن نقول لذلك المتسائل: نعم، إنك على حق في ما تقول، و لذلك سنوفر عليك عناء البحث في العديد من الكتب والمراجع القديمة عن الموضوع المطلوب، و بالتالي، سنحيلك إلى كتاب معاصر قد اعتمد في توثيق معلوماته المقتبسة على العديد من المصادر القديمة المشهورة، و بإمكانك العودة إلى هذا الكتاب، فهو معروف و معتمد، و من اليسير الحصول عليه بسبب طباعته المتكررة باستمرار.

فالكتاب يحمل عنوان (السيدة زينب) للباحثة الإسلامية الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) المعروفة بلقب (بنت الشاطی)، تلك الباحثة التي كتبت الكثير من الكتب في المجالات الفكرية المختلفة، غير أن شهرتها الأوسع جاءت نتيجة كتاباتها في الميدان الفكري الإسلامي القائم على معرفة الكثير من الحقائق عن طريق دراسة التراجم والأعلام.

و حتى لا نطيل الحديث كثيرا، نقول إن الدكتورة (بنت الشاطئ) أكدت في كتابها الذي ذكرناه منذ قليل أن حدیث قارورة أم سلمة (رضي الله عنه) هو حديث صحيح، و أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد أخبر، بالفعل، عن طريق جبريل عليه السلام أن حفيده الحسين عليه السلام سيواجه الموت مع آل بيته في كربلاء دون رحمة من أعدائه.

و ها هي الدكتورة تقول في كتابها المذكور: (ففي سنن ابن حنبل ج 1 ص58 أن

ص: 335

جبريل أخبر محمدا صلی الله علیه و آله و سلم بمصرع الحسين و آل بيته في كربلاء)(1).

و لم تكتف تلك الباحثة بالأخذ عن (سنن ابن حنبل)، بل تجاوزته في أخذ تلك المعلومات إلى مصدر آخر له قيمته التاريخية أيضا.

و ها هي أيضا تذكره في معرض حديثها قائلة: (و ينقل ابن الأثير في (الكامل) أن الرسول أعطى زوجه أم سلمة ترابا حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين، و قال لها صلی الله علیه و آله و سلم: «إذا صار هذا التراب دما فقد قتل الحسين»، و أن أم سلمة حفظت ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قتل الحسين صار التراب دما، فعلمت أن الحسين قتل، و أذاعث في الناس النبأ)(2).

و لو تركنا الآن موضوع قارورة أم سلمة (رضي اله عنه) جانبا، واستعرضنا سوية الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في الكثير من المؤلفات الفكرية والتاريخية و في الدواوين الشعرية أيضا، والتي تتمحور كلها حول تنبؤ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بمقتل حفيده السبط الحسين علیه السلام، فماذا يمكننا أن نجد في تلك المؤلفات الفكرية المعاصرة؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نجد الشيء الكثير في تلك المؤلفات والدواوين، و لذلك دعونا نحلق سوية في فضاءات الأستاذ (توفيق أبو علم) الفكرية كي نرى ما تحتوي تلك الفضاءات من مشاهد و حقائق مأخوذة من عمق التاريخ و فجر الرسالة.

و أول ما يمكننا أن نصادفه في فضاء كتابه (الحسن بن علي) قوله المباشر والواضح عن الأحداث الأليمة والفواجع الجسيمة التي تنبأ بها الرسول المصطفى

ص: 336


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، دار الكتاب العربي . بيروت، 1985، ص29.
2- نفس المصدر السابق ص 29.

صلی الله علیه و آله و سلم لأهل بيته الكرام، و عن النهايات الدامية التي سیلاقونها من بعده.

و قد كتب الأستاذ (أبو علم) تحت عنوان (الرسول والحسن والحسين) ما يلي:

(كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يخاطب الحسن والحسين فيقول: «اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا»، و يقول: «أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم»، و يبتهل قائلا: «اللهم أحب من أحبهم وابغض من أبغضهم، و وال من والاهم و عاد من عاداهم، و أعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل دنس، معصومين من كل ذنب»، و يحق للرسول صلی الله علیه و آله و سلم أن يتأثر بما يعرفه عن الطوايا والنوايا نحو آله فيبكيهم أحياء لأنه بصفاء نفسه قد انكشف له الغطاء عن أمور صدقها الوحي، فأجاز لنفسه أن يبكي و قد أقبل عليه الحسن و أن يقول: «إِلَيَّ إِلَيَّ يَا بُنَيَّ»- ثم يدنيه و يجلسه على فخذه و يعدد ما ينزل بآله من البلاء والتقتيل والتشريد والتنكيل)(1).

و غني عن القول أن الأستاذ (أبو علم) لم يقتصر في ذكره لأحاديث الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عن فجائع أهل بيته علیهم اسلام وآلامهم على كتاب (الحسن بن علي)، بل إنه أورد العديد من هذه الأحاديث النبوية في معظم كتبه، و بشكل خاص في كتابه (الحسين بن علي) الذي يعتبر بمثابة الكتاب المكمل للكتاب السابق (الحسن بن علي).

و من خلال قراءتنا للصفحات الأولى من كتابه (الحسين بن علي)، نشعر أننا أمام کاتب نبيل يحاول - قدر إمكانياته - أن ينقل للقارئ الكثير من الحقائق والوقائع عن تاريخ أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة علیهم السلام، و على ما يبدو، فإن عمله السابق، وکیل أول في وزارة العدل، جعل منه رجلا باحثا عن الحق، معتيقا للصدق، طالبا للعدل في

ص: 337


1- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، مصدر سابق ص25.

إطلاق كل الأحكام التي يصدرها على المواضيع المطروحة للبحث والنقاش.

و حتى لا نسهب كثيرا في دراسة أعماله الفكرية و تحليلها، دعونا نلقي نظرة سريعة على نبوءات الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم حول مصائب أهل بيته علیهم السلام من بعده: تلك النبوءات التي كان صلی الله علیه و آله و سلم يتفوه بها أمام الناس دون خوف أو وجل لأنه كان يدرك تمام الإدراك أن الأمة لن تحترم وصاياه و لن تتمسك، من بعده، بالثقلين أبدا.

و هذا هو ابن عباس يخبرنا قائلا في حديث مطول له، نقله لنا الأستاذ (أبو علم) في كتابه (الحسين بن علي):

(كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جالسا إذ أقبل الحسن عليه السلام ، فلما رآه بکی، و قال: إلي إلي، فأجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين عليه السلام ، فلما رآه بکی، و قال مثل ذلك، فأجلسه على فخذه اليسرى، ثم أقبلت فاطمة علیهاالسلام، فرآها فبكى و قال مثل ذلك وأجلسها بين يديه، ثم أقبل علي عليه السلام فرآه فبكى و قال مثل ذلك فأجلسه إلى جانبه الأيمن، فقال له أصحابه: یا رسول الله ما ترى واحدة من هؤلاء إلا بكيت؟

فقال: «ما على وجه الأرض نسمة أحب إلي منهم، و إنما بكيت لما يحل بهم من بعدي و ذكرت ما يصنع بهذا ولدي الحسين، كأني به و قد استجار بحرمي و قبري فلا يجار، و يرتحل إلى أرض مقتله و مصرعه أرض كربلاء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك سادات شهداء أمتي يوم القيامة، فكأني أنظر إليه و قد رمي بسهم فخر عن فرسه صريعا ثم يذبح الكبش مظلوما»، ثم انتحب و بكى و أبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام صلی الله علیه و آله و سلم و هو يقول: «اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي»(1).

ص: 338


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص28.

و ليس هذا فحسب، بل إن الأستاذ (أبو علم) قد ذكر في كتابه حديثا آخر لا يقل أهمية عن الحديث الأول حول إخبار الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم عن إراقة دم الحسين عليه السلام ظلما و عدوانا.

و بإمكان القارئ و هو يقرأ الحديث الثاني الذي سنذكره الآن أن يتخيل الصورة الدراماتيكية المأساوية للسيدة البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام و هي تشكو للإله العظيم ما حل بأبنائها الأطهار من بعدها.

و هذا هو نص الحديث الشريف كما أورده الأستاذ (أبو علم): (قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة و معها ثياب مصبوغة بدم، فتتعلق بقائمة من قوائم العرش، فتقول: يا عدل يا جبار احكم بيني و بين قاتل ولدي»، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «فَيَحْكُمُ الله لاِبْنَتِي وَ رَبِّ اَلْكَعْبَةِ»(1).

و لاريب في أن هذه الأحاديث النبوية الشريفة المتحدثة عن أحداث ملحمة کربلاء لم تأت من فراغ، و من الواضح أيضا أن هذه الأحاديث التي ذكرها الأستاذ (أبو علم) لم يكن مصدرها كتب المسلمين الشيعة، بل إنه قد أخذها عن العديد من کتب السنة الهامة، تلك الكتب التي تلقى الكثير من الاحترام والتقدير في صفوفهم.

و كما أوضحنا سابقا كيف أن الباحثة والمفكرة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) قد استعانت بالكثير من المصادر والمراجع السنية في معرض حديثها عن نبوءة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بآلام و فجائع کربلاء، فإننا نوضح الآن أيضا أن الكلام نفسه ينطبق على الأستاذ الباحث (توفيق أبو علم) و على غيره من جهابذة الفكر من السنة والمسيحيين و غيرهم.

ص: 339


1- نفس المصدر السابق ص29.

فلا ريب أبدا في أن الأستاذ (أبو علم)، و غيره أيضا، قد قرأوا ما جاء في كتاب (نور الأبصار) للعلامة الشيخ (مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي)، الشافعي مذهبا، حول معرفة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المسبقة باستشهاد سبطه الحسين عليه السلام على يد أعداء الإسلام، حيث روى (الشبلنجي) الحديث نقلا عن (البغوي) بسند مرفوع إلى أم سلمة (رضي الله عنه) أنها قالت: (كان جبريل عليه السلام عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم، والحسين معي، فغفلت عنه فذهب إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم؛ فأخذه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و جعله على فخذه، فقال له جبريل علیه السلام: أتحبه با محمد؟ قال: «نعم»، قال: إن أمتك ستقتله، و إن شئت لأريتك تربة الأرض التي يقتل بها، ثم بسط جناحيه إلى الأرض و أراه أرضا يقال لها كربلاء، تربة حمراء بطف العراق)(1).

و لا شك في أن أولئك المفكرين والباحثين قد قرأوا بأنفسهم الحديث الهام الذي دار بين أم سلمة (رضي الله عنه) والحسين عليه السلام حول إخبار الرسول صلی الله علیه و آله و سلم إياهما بالحدث الجلل الدامي الذي سيلاقيه الحسين و أهل بيته الأطهار عليهم السلام على يد عصابة الشيطان، فلاشك في أنهم قد قرأوا ذلك الحوار الهام في العديد من كتب السنة و مؤلفاتهم الأخرى حتى أن المفكرين والباحثين الشيعة راحوا يستشهدون في كتبهم و مؤلفاتهم عن نبوءة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بكربلاء و أهوالها من خلال ما جاء من أحاديث عديدة في كتب إخوانهم السنة المتقدمين والمعاصرين.

و يكفي أن نقول إن العلامة (جمال الدین محمد بن يوسف الزرندي)، الحنفي مذهبا، ذكر في كتابه القيم (نظم درر السمطين) أكثر من عشرة أحاديث متنوعة عن إخبار الرسول صلى الله عليه و آل و سلم بملحمة كربلاء و أهوالها التي تنتظر أهل بيته عليهم السلام بعد رحيله

ص: 340


1- الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بيروت / د.ت ص139.

صلی الله علیه و آله و سلم

و حتى لا يتهمنا أحد ما بالتقصير في ذكر المزيد من الأحاديث حول هذه المسألة : المتعلقة بقراءة غيب الأحداث و خرق حجب أستارها، دعونا نقدم إليكم حديثا واحدا من الأحاديث العديدة التي أوردها العلامة (الزرندي) الحنفي في كتابه المذكور سابقة.

و نص الحديث الذي سنذكره الآن ليس للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، و إنما هو لابن عباس، غير أن هذا الحديث يعكس بصورة فعلية المعرفة المسبقة بحدوث الفاجعة و ذلك عن طريق إخبار الرسول صلی الله علیه و اله و سلم عموم الناس بها.

و ها هو نص الحديث الذي يقول عنه (الزرندي) الحنفي أنه أخذه عن کتاب (مسند الإمام أحمد بن حنبل):

(قال ابن عباس: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يرى النائم نصف النهار و هو قائم أشعث أغبر، بیده قارورة فيها دم يلتقطه أو يتتبع فيه شيئا، فقلت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله، ما هذا؟!

قال: «دم الحسين و أصحابه و لم أزل أتتبعه منذ اليوم».(1)

و أضاف العلامة (الزرندي) الحنفي معلقا على هذا الحديث الذي أخذه عن (مسند الإمام أحمد بن حنبل)، بقوله إن هناك رواية أخرى عن نفس الرؤيا التي رآها ابن عباس، و هي (أن ابن عباس كان في قايلة له (أي قيلولة)، فانتبه من قابلته و هو يسترجع (ما رآه) ففزع أهله، فقالوا: ما شأنك، ما لك؟!

ص: 341


1- جمال الدين محمد الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، مكتبة نينوى الحديثة . طهران / د.ت ص218.

قال: رأيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو يتناول من الأرض شيئا، فقلت: بأبي و أمي يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما هذا الذي تصنع؟ قال: «دم الحسين أرفعه إلى السماء»(1).

و بالطبع، فإن هذه الرؤيا التي شاهدها ابن عباس، والتي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده)، لم تكن في حقيقتها إلا مجرد صدي أو تثبيت لواقعة نفسية معينة انتقلت من ساحة الوعي والشعور إلى ساحة اللاوعي واللاشعور فتجسدت بشكل رؤيا صادقة نتجت عن حدث مسبق سمعه ابن عباس نفسه من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، الأمين، والصادق في كل ما يفعله و ما يقول و يخبر.

و ما يؤكد أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم يجعل خبر کربلاء سرا و حكرا على بعض المقربين منه، هو أن الكثير من الأصحاب و من عموم الناس كانوا يتناقلون أخبار تلك الفاجعة المرتقبة، تارة باستنكار و تارة باستغراب.

فقد روى، على سبيل المثال فقط، الشيخ (عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي)، و هو من العلماء السنة المعاصرين، أحاديث عديدة تؤكد حقيقة شيوع خبر فاجعة كربلاء بين عموم الناس قبل حدوثها.

فقد روى الشيخ (حسونة الدمشقي) في كتابه (الحسين حفيدا و شهيدا) حديثا مرفوعا إلى (العريان بن الهيثم) قال فيه: (كان أبي يتبدى، فينزل قريبا من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك، فقال له: إني أراك ملازمة هذا المكان، فقال: بلغني أن حسينا يقتل ها هنا، فأنا أخرج لعلي أصادفه فأقتل معه.

فلما قتل الحسين، قال أبي: انطلقوا نظر هل الأسدي فيمن تل، و أتينا المعركة

ص: 342


1- نفس المصدر السابق ص218.

فَطَوَّفنا، فإذا الأسدي مقتول)(1).

و هنا علينا أن نلفت الانتباه إلى أن هناك بعض المستشرقين الذين كبر عليهم أن يعتبروا الرسول محمدا رسولا سماويا و إنما هو مجرد مصلح اجتماعي لا أكثر من ذلك، رأوا أن تلك النبوءات من محمد صلی الله علیه و آله و سلم مجرد وهم أو خيال لا أساس له من الصحة، في حين أن المنصفين منهم اعتبروا ذلك من کرامات الرسول صلی الله لیه و آله و سلم، أو على الأقل، من قوة بصیرته و شفافية نفسه النقية الطاهرة.

أما المؤرخون المسلمون، فما يشك أكثرهم في أن تلك المرويات كلها صادقة لا ريب فيها(2)، و على ما يبدو، ليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا تلك الروايات عن الريب والشك، بل إن هناك من کتاب العصر الحاضر من لا يقل عن المؤرخين والكتاب الأقدمين إيمانا بتلك الظلال الحزينة التي أحاطت بمولد (السيدة زينب) بنت علي و فاطمة (عليهم السلام جميعا).

فها هو الكاتب الهندي (محمد الحاج سالمين) المعروف بثقافته و بسعة اطلاعه يصف في الفصل الأول من كتابه النفيس (Sayyida Zeinab) (السيدة زينب) كيف تم استقبال ولادة السيدة زينب علیهاالسلام بالآهات الحارقة و بالدموع والهموم بدل أن يتم استقبالها بالحبور والفرح والسرور.

ثم يتابع ذلك الكاتب الهندي (سالمين) نقله لبعض الأحاديث والمرويات عن النبوءة الحزينة، و ينتقل بعد ذلك ليصور لنا النبي العظيم وقد انحنى على حفيدته زینب (روحي لها الفداء) يقبلها بقلب منکسر حزين تعتصره اللوعة و تحرقه الحسرة، و يحنو

ص: 343


1- الشيخ عرفان بن سليم العشا حسونة، الحسين حفيدا و شهيدة، المكتبة العصرية . بيروت و صيدا، ط 2005/1 ، ص68.
2- عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي . بيروت، د.ت ص 662.

عليها بعينين دافئتين دامعتين، عالما بتلك الأيام والليالي السوداء التي تنتظرها وراء الحجب(1).

و يمضي ذلك المفكر الهندي الكبير متسائلا:

(ترى إلى أي مدى كان حزنه صلی الله علیه و آله و سلم حين رأی بظهر الغيب تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر سبطه الغالي ! و كم اهتز قلبه الرقيق الحاني و هو يطالع في وجه الوليدة الحلوة (زينب علیهاالسلام) صورة المصير الفاجع المنتظر؟!)(2).

و لا أريد أن أخفي عليكم أيها الأحبة القراء أمرا كنت قد قررت أن أبقيه سرة بيني و بين نفسي، و لكن الصدور تضيق بالأسرار، ثم ما الفائدة من سر تحمله في صدرك إن كانت العيون تبوح به؟!

فأنا الآن أجلس وحيدا في غرفتي، و رياح الليل تصفع قامات شجر الصنوبر العالية فتسمعك صوتا شجية أشبه بصوت النواح على فراق حبيب أو وداع قتیل بريء.

أجلس وحيدا، أقرأ و أكتب، وأتخيل محمدا و عليا و فاطمة علیهم السلام و قد أحاطوا بالوليدة الصغيرة الحلوة (زینب) علیهاالسلام يستقبلون ولادتها بالدموع بدل الشموع.

أتخيل محمدا، رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يقول هامسا، و هو ينظر تارة إلى علي و فاطمة عليهماالسلام، و تارة إلى أحفاده عليهم السلام الصغار: ماذا سيحل بالثقلين من بعدي؟!

ماذا سيحل بأخي علي الذي حبه عنوان صحيفة المؤمن؟

ماذا سيحل ببضعتي فاطمة الزهراء التي يغضب الله لغضبها و يرضى لرضاها؟

وأتخيله يقول في عمق نفسه متوجها إلى الزهراء علیهاالسلام بكل جوارحه:

ص: 344


1- نفس المصدر السابق ص663.
2- نفس المصدر السابق ص663.

آه یا فاطمة، كم أنا سعيد لأنك ستكونين أول الناس لحاقة بي، فأنا في غاية السعادة يا ابنتي لأنك ستموتين و تلتحقين بي قريبا و لن تشاهدي أبناءك و هم يقتلون الواحد تلو الآخر على يد شرار الأمة، لا لشيء ارتكبوه إلا لذنب واحد لا يغتفر بنظر أولئك القتلة، فذنبهم الوحيد أنهم أبناء الرسالة.

نعم، أنا الآن أتخيل هذا و أشياء أخرى غير هذا و أكثر عمقا من هذان و لكن ما أريد قوله - والله يشهد علي بذلك- أنني الآن أكتب هذه السطور عن ولادة زينب علیهاالسلام، شقيقة الحسين عليه السلام وحاملة لواء نهضته من بعده، و دموعي تبلل الورق الذي بين يدي الآن.

نعم، أنا الآن أبكي ولا أخجل من البوح بهذا، فدموعي عزيزة علي كثيرا و لكنها مبذولة لمصائب آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أنا أبكي، و لكنني على يقين ثابت أن المكان الذي تجري عليه الدموع اليوم لن تمسه النار غدا.

و أنا أعرف الآن أن البعض يمكن أن يتساءل قائلا:

کیف ذرف الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم الدموع السخية على الوليدة زينب عليهاالسلام لحظة ولادتها و لم يذرف الدموع على أخيها الحسين عليه السلام صاحب الفاجعة الأول، لحظة ولادته، و هو الرسول العارف بمصير ذلك السبط الوليد؟!

نقول لكل من يتساءل عن ذلك: إنك، بلا ريب، على حق في تساؤلك، و لكن لا تستعجل في حسم الأمور والحكم عليها سريعا دون الإحاطة بالموضوع من كافة أطرافه.

و لذلك دعنا، الآن، نقوم برحلة قصيرة سوية لنرى ما قام به الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ساعة ولادة حفيده الحسين عليه السلام، و لنتأكد-بنفس الوقت- من أن التاريخ قد بين لنا أن

ص: 345

هناك مجالس للعزاء أقيمت على شهید کربلاء الحسين بن علي عليه السلام، فقد أقام جده الرسول المصطفی صلى الله عليه و آل و سلم العزاء عليه يوم ولادته بدلا عن إقامة الأفراح و إعلان السعادة والسرور.

و قد أقيم أول مأتم للحسين عليه السلام في أول ساعة من ولادته، كما أخرج الحديث شیخ السنة الحافظ (أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي)، فقال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر،... عن علي بن الحسين عليه السلام، قال: «حدثتني أسماء بنت عميس، قالت: قبلت جدتك فاطمة عليهاالسلام (أي أشرف عليها) بالحسن والحسين علیهماالسلام... فلما كان بعد حول من مولد الحسن ولدت الحسين، فجاءني النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: یا أسماء هاتي ابني، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذن في أذنه اليمني، و أقام في اليسرى، ثم وضعه في حجره، و بکی صلی الله علیه و آله و سلم، قالت أسماء: فقلت: فداك أبي و أمي، مم بكاؤك؟!

قال: على ابني هذا، قلت: إنه وليد الشاعة؟! قال: يا أسماء، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي، ثم قال: يا أسماء، لا تخبري فاطمة بهذا الخبر، فإنها قريبه عهد بولادته»(1).

و لاشك في أن أول مأتم للحسين عليه السلام کان یوم ولادته في دار جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلق الله و خاتم رسله، و مما لا شك فيه أيضا هو أننا لم نسمع قبل هذا على الإطلاق أن ينعقد لمولود- غير ابن فاطمة الزهراء علیهاالسلام - مأتم عوضا عن إقامة حفلات الفرح والسرور و تقبل التهاني.

و بالفعل، لم يحدثنا تاريخ الإنسانية العام، من زمن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء

ص: 346


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج1 ص88

محمد صلی اله علیه و آله و سلم، عن والد تصله هدية خاصة بمناسبة مولوده الجديد عبارة عن حفنة من تربة مذبح ولده الحبيب!!

و هنا تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة حول مجيء جبريل الأمين عليه السلام بتربة من أرض كربلاء إلى الجد الذي سيفجع لا حقا بحفيده عليها.

فجبريل الأمين عليه السلام لم يأت لزيارة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم محملا بحفنة من تراب كربلاء مرة واحدة فقط، بل إنه جاءه أكثر من مرة حاملا إليه قبضة من تلك التربة التي تنتظر قدوم الحسين علیه السلام إليها لتضمه إلى صدرها كي ينام بطمأنينة و هدوء كما كان ينام و هو طفل على ذراع أمه الزهراء علیهاالسلام.

و مما يؤكد مجيء جبريل عليه السلام إلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم أكثر من مرة حاملا معه حفنة من تراب كربلاء المقدسة هو جملة الأحاديث المتواترة والواردة في الكثير من كتب إخواننا السنة.

و على سبيل المثال، أخرج الحافظ (أبو القاسم الطبراني) في الجزء الثالث من كتابه (المعجم الكبير) لدى ترجمة الحسين عليه السلام ما يلي:

قال: (حدثنا أحمد بن رشيد... عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي (رضي الله عنه) على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هو يومئ إليه حتى صعد على ظهره و هو يلعب، فقال جبرائيل لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أتحبه یا رسول الله؟

قال: «يا جبرائيل، و ما لي لا أحب ابني!».

قال: فإن أمتك ستقتله من بعدك، فمد جبرائیل علیه السلام يده فأتاه بتربة بيضاء، فقال: یا رسول الله، في هذه الأرض يقتل ابنك هذا، یا محمد واسمها (الطفت)، فلما ذهب جبرائیل علیه السلام من عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتربة في يده و هو يبكي، فقال: «ياعائشة، إن

ص: 347

جبرائیل أخبرني أن الحسین علیه السلام مقتول في أرض الطف، إِنَّ أُمَّتِي سَتُفْتَنُ بَعْدِي» .

ثم خرج إلى أصحابه، و فيهم علي و أبو بكر و عمر و حذيفة و عمار و أبو ذر و هو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟!

فقال: «أخبرني جبرائيل أن ابني الحسين عليه السلام يقتل بعدي بأرض الطف و جاءني بهذه التربة، و أخبرني أثر فيها مضجعه»(1).

و بالاعتماد على هذا الحديث و على غيره من الأحاديث الأخرى التي تفيض بها كتب المسلمين المتقدمين عموما، يمكننا القول إن جبرائيل عليه السلام أخبر محمدا و عليا و فاطمة علیهم السلام بمصير ابنهم الحسين عليه السلام المأساوي لحظة ولادته، و كانت تلك هي المرة الأولى، و لكن ذلك لا يعني أن جبرائيل عليه السلام لم يكرر الحادثة والإعلان عن طريقة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، بل على العكس، فقد قام جبرائیل علیه السلام بجلب تراب من كربلاء إلى الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم أكثر من مرة و لا نستبعد أن يكون الهدف من ذلك هو تذكير المسلمين الدائم بضرورة تحديد موقف كل واحد منهم من الفتن المظلمة التي ستأتي بعد غياب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كقطع الليل الحالك، و بشكل خاص الفتن الأموية التي ستحاول أن تطيح بالرسالة الإسلامية و بكل فرد من أفراد أهل البيت عليهم السلام و على رأسهم الإمام الحسين عليه السلام الذي أخبر عنه و عن ثورته رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بشكل مسبق.

إذن، في كل مرة كان جبرائيل عليه السلام يزور فيها محمدا صلی الله علیه و آله و سلم حاملا له حفنة من تراب المذبح الكربلائي، كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يخبر أصحابه و كل من هو حوله بمصير ابنه الحسين عليه السلام المحتوم من بعده عسى أن يدافع عنه كل من يدركه، و بذلك تكون

ص: 348


1- العلامة السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مصدر سابق ص122.

الحجة قد قامت، بالفعل، على كل من سمع بتلك الأحاديث من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عن کربلاء و لم يسع لنصرة الإمام الحسين عليه السلام في ساعة شدته والوقوف معه في صفه ضد جيش الكفر والنفاق.

و ما يعزز و يؤكد هذا الكلام، هو الكلام الذي رواه الكثير من الرواة الثقاة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد روي عن عبد الله بن يحيى أنه قال: رحلنا مع الإمام علي عليه السلام إلى صفين، فلما حاذی نینوی، نادی: «صبرا أبا عبد الله» (يعني ابنه الحسين عليه السلام )، ثم قال عليه السلام (شارحا سبب قوله ذاك): «دخلت على رسول الله و عيناه تفيضان دموعا، فقلت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما لعينك تفيض، أأغضبك أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرائیل، فأخبرني أن الحسين يقتل بشاطئ الفرات، و هذه قبضه من تربته أشمنيها، فلم أملك عيني أن فاضتا، و اسم الأرض (كربلاء) بشط الفرات التي يقتل فيها، و كأني أنظر إليه و إلى مصرعه و مدفنه، و كأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا، و يهدی رأسه إلى یزید.

ثم صعد صلی الله علیه و آله و سلم المنبر مغموم مهموما، حزينا كئيبا باكيا، و أصعد معه الحسن والحسين عليهماالسلام، و وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس الحسين، و قال: اللهم إن محمدا عبدك و رسولك، و هذان (أي الحسن والحسين) أطائب عترتي و خيار أرومتي و أفضل ذريتي و من أخلفهما من أمتي، و قد أخبرني جبرائيل أن ولدي هذا (الحسن) مخذول مقتول بالسم، والآخر (الحسین) شهید مضرج بالدم، اللهم فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء، اللهم، و لا تبارك في قاتله و خاذله، و أصله حر نارك، واحشره في أسفل درك الجحيم»، (قال): فضج الناس بالبكاء والعويل، فقال لهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم: أتبكونه و لا تنصرونه؟ اللهم، فكن أنت له وليا

ص: 349

و ناصرا» .

ثم رجع صلی الله علیه و آله و سلم و هو متغير اللون محمر الوجه، فخطب خطبة أخرى موجزة و عيناه تهملان دموعا، ثم قال: يا قوم إني مخلف فیکم الثقلين : كتاب الله، و عترتي و أرومتي و مزاج مائي و ثمرة فؤادي و مهجتي، لن يفترقا حتی یردا علي الحوض، ألا و إني لا أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي (أسألكم المودة في القربی) واحذروا أن تلقوني على الحوض غدا و قد آذيتم عترتي و قتلتم أهل بيتي و ظلمتموهم»(1).

إذن، إقامة الحجة على المسلمين هي الحجر الأساس في عملية تكرار زيارة جبرائیل عليه السلام لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم و تذكيره بمصير سبطه الحسين عليه السلام مما يستدعي أن يقوم الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم بدور مماثل و هو تذكير صحابته والمسلمين عموما بضرورة نصرة أهل بيته عليهم السلام والوقوف معهم في شدائدهم و مصائبهم والقضاء على كل فتنة من شأنها أن تطفئ أنوار رسالة الحق بين صفوف الخلق.

فهل كان المسلمون عند حسن ظن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بهم؟

و هل احترموا محمدا صلی الله علیه و آله و سلم وحفظوه جيدا في أهل بيته؟

والأهم من ذلك كله، هل استجاب المسلمون لوصية نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم في مسألة نصر الإمام الحسين عليه السلام والدفاع عنه و عن حرمات أهله والوقوف بثبات و إيمان أمام الإعصار الأموي الحاقد؟!

أعتقد أن الحقائق والوقائع الموجودة في الصفحات القادمة من هذا الكتاب هي التي ستجيب بكل صراحة و وضوح على كل تلك الأسئلة.

ص: 350


1- لبيب بيضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مطابع ابن زيدون . دمشق، 1974، ص53.

و قبل أن ندخل الآن في الأجواء الفكرية المسيحية لنتعرف على وجهات نظر العديد من المستشرقين والمفكرين والأدباء المسيحيين حول نبوءات الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عن أحداث کربلاء، دعونا نجيب على سؤال قد يطرحه أحد ما علينا حول تنبؤ أفراد أهل البيت المحمدي عليهم السلام بما سيحدث للحسين و أهل بيته علیهم السلام بعد سنوات في كربلاء و قرب شط الفرات.

فمن الممن أن يتساءل أي واحد منا قائلا:

حسنا، ها قد قرأنا العديد من الأحاديث النبوية عن مسرح الفاجعة، و لكن هل هناك من أحاديث مشابهة وردت عن السنة أخرى غير لسان النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؟!

و سنترك الجواب على هذا السؤال للمفكر الأزهري البارز الأستاذ (خالد محمد خالد) لنرى ما سيقوله لنا في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء).

يحدثنا هذا الكاتب المتميز عن عمق بصيرة الإمام علي عليه السلام التي لا تقل في صفائها و نقائها عن بصيرة أخيه وابن عمه محمد الرسول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو الأستاذ (خالد) يقول في الصفحات الأولى من كتابه المذكور:

(ولكأنما كان الإمام علي بری ببصيرته الثاقبة كل ذلك المصير!!

فذات يوم أثناء مسيرة مع جيشه إلى صفین، بلغ به السير هذه الرقعة من الأرض، فتمهل في سيره ثم وقف يتملي مشهد الفضاء الرهيب، وسالت عبراته من مآقيه، واقترب منه أصحابه صامتين واجمين، لا يدرون ماذا أسال من مقلتي الأسد الدموع..!!

ثم سألهم و يمناه ممتدة صوب تلك الأرض التي تعلقت بها عيناه:

- «ما اسم هذا المكان؟!».

ص: 351

قالوا: كربلاء.

قال: «هنا محط رحالهم و مهراق دمائهم...!»(1).

و بعد هذا الكلام الذي أورده الأستاذ (خالد) عن لسان الإمام علي علیه السلام، يتابع الأستاذ (خالد) کلامه متسائلا العديد من الأسئلة التي أخذت تتزاحم بكثرة في ساحة فكره المتعطش إلى الحقيقة والمعرفة، فقال:

تری من كان يعني... و من كان ينعی...؟!

أكان يعني قرة عينه الحسين و من كان معه من إخوة له و أبناء...؟!

أكان يعني أولئك الأبطال الذين ستشهد هذه الأرض ذاتها استشهادهم الرهيب والمهيب بعد عشرين عامة لا غير من هذه النبوءة الصادقة...؟!

و بعد طرحه المباشر لهذه الأسئلة الساخنة، نراه يجيب عليها بنفسه مؤكدا على حقيقة أن الإمام عليا عليه السلام لم يكن ينعى ابنه الحسين فحسب، و إنما كان ينعى معه كل الشهداء الكربلائيين الذين سيسقطون مع الإمام الحسين عليه السلام فوق بطاح كربلاء.

أما عن كيفية معرفة الإمام علي عليه السلام لهذه الأحداث الغيبية، فيعل الأستاذ (خالد) ذلك بقوله: (و حين يحتدم في البصائر النقية و لاؤها لحق مقدس، أو لمبدأ جليل، فإن هذا الاحتدام يتلقى في لحظة إشراق روحي مددا من الرؤية غير منظور، يكشف الغيب و يجذب إلى دائرة الاستشراف أحداث الزمن البعيد، ولعل شيئا كهذا، حدث ذلك اليوم، فرأى الإمام التقي النقي بلاء أبنائه و حفدته، رأی بلاءهم العظيم في سبيل القضية التي حمل لواءها، و رأى (محط رحالهم، و مهراق دمائهم)(2).

ص: 352


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص35.
2- نفس المصدر السابق ص36

أما الأستاذ الكاتب (محمدرضا)، و هو أيضا من علماء السنة المعاصرين البارزين، فقد روي عن (الأصبغ) قوله: أتينا مع علي فمررنا على قبر الحسين (قبل مقتله) فقال علي علیه السلام: «ها هنا مناخ ركائبهم، و ها هنا موضع رحالهم، و ها هنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم»(1)

و قد فسر الأستاذ (رضا) معرفة الإمام علي عليه السلام بالغيب و قدرته على قراءة صفحاته المستقبلية على أساس أن ذلك كله كرامة من كرامات علي عليه السلام أفاضها الله عز و جل عليه لاستحقاقه لها، بالإضافة إلى تسخير البعض من ملائكة السماء لخدمة آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة.

و نعتقد الآن أن الوقت قد حان فعلا للدخول في عالم الفكر المسيحي لنستطلع معا ما جاء في كتبهم و دواوينهم من روايات و أخبار عن النبوءات بواقعة كربلاء المقدسة.

و كما وعدنا القراء الكرام سابقا بالعودة إلى واحة المفكر المسيحي (أنطون بارا) عند الضرورة، فها نحن الآن نفي بوعدنا و نعود إليه ثانية بموجب الضرورة التي فرضت ذاتها الآن علينا.

و هنا تحديدا، يروق لنا أن نتوجه بالسؤال التالي إليه، أو دعونا نقول نتوجه بالأسئلة التالية إليه:

هل كان الإمام الحسين علیه السلام على معرفة مسبقة بنهايته المأساوية الدامية؟ و كيف كان الحسين عليه السلام يستوحي مقتله؟

و إذا كان الإمام الحسين عليه السلام على دراية كاملة بما ينتهي الأمر إليه، فلماذا

ص: 353


1- محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب، دار الكتب العلمية . بيروت، د.ت ص18.

اصطحب معه أهله و عياله إلى أرض الكرب والبلاء؟

و ربما كان لدينا أسئلة عديدة أخرى، لكننا سنرجي طرحها إلى الزمان والمكان المناسبين في هذا الفصل من الكتاب.

قبل كل شيء، يرى الأستاذ (بارا) أن الحسين عليه السلام كان على اطلاع مسبق بما ينتظره من مصاعب و أهوال في نهضته لإجلاء الرمال والغبار عن وجه رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بعد أن دنستها الأيدي الأموية الجائرة.

و يرى أيضا أن هناك الكثير من الشواهد التي تدل و تؤكد على معرفته بتلك المأساة الدامية التي تنتظره هو و أهل بيته علیهم السلام مع قلة ناصريه والمدافعين عنه.

و قد أورد الأستاذ (بارا) خطبة مطولة للإمام الحسين عليه السلام ينعی بها نفسه و أهل بيته عليهم السلام قبل خروجه من مكة حيث وقف يخطب بما أوحي إليه في قصة استشهاده حتى لكأنه يقرأ قدره أمام ناظريه، فقال علیه السلام أمام حشد من الناس:

«الحمد الله و ما شاء الله و لا قوة إلا بالله و صلى الله على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، و ما أولهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس و كربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حضيرة القدس تقر بهم عينه و ينجز بهم وعده، ألا و من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى»(1).

ص: 354


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص101.

و بالطبع، لا يغيب عن ذهن ذلك المفكر المسيحي أن يعرض العديد من الصور المؤثرة عن تفاصيل خروج أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام معه إلى أرض كربلاء، و لا يغيب عن ذهنه الوقاد أيضا أن يذكر لقارئه وجهة نظره عن أسباب خروج أهل بيته عليهم السلام معه إلى ساحة الموت والشهادة من جهة، وإلى حالة السبي والأسر من جهة أخرى.

فالموت أو الشهادة في ساحة كربلاء نهاية حياة لكنه ليس نهاية إنسان، فالحياة الحقيقية للإنسان لا تقاس بالأعوام والعقود، بل تقاس بالمآثر الجليلة و بالفعائل الفضيلة والخصال النبيلة التي يخلفها ذلك الإنسان للإنسانية بعد رحيله و انتقاله من هذه الحياة إلى حياة أخرى لا تنفد أيامها و أعوامها.

والأسر والسبي في كربلاء له دوره أيضا في أحداث تلك الفاجعة ذات الأثر الإنساني العام، و لذلك يرى ذلك المفكر المسيحي الذي كرس وقتا طويلا من حياته في دراسة سيرة أهل البيت عليهم السلام عموما، و سيرة الإمام الحسين عليه السلام خصوصا أن إخراج أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء له الكثير من المعاني والأهداف المكملة لأهداف نهضة الإمام الحسين عليه السلام ذاتها.

و من هنا يرى الأستاذ (بارا) أن هناك حكمة إلهية في وقوع البعض من أفراد أهل البيت عليهم السلام المطهرين من الرجس أسري و سبايا بيد أعدائهم و أعداء دينهم، و عن تلك الحكمة الإلهية يقول: (و إنها لحكمة إلهية أيضا أن يسار بالسبي إلى الكوفة و دمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال... فيرى الناس في السبايا من الفجيعة، أكثر مما رأوا أو سمعوا في قتل الحسين، و هذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء

ص: 355

والأطفال والرضع ليكونوا شهودا وألسنة تنطق بمظلمته)(1).

و من نافلة القول إن الاستشهادات والدلائل التي يذكرها المؤلفون والأدباء المسيحيون عن معرفة الإمام الحسين عليه السلام بمصيره من جهة، و عن الحكمةمن خروجه بأهله الأطهار علیهم السلام من جهة أخرى، هي أحادیث و روایات قوية و ثابتة لها وجود و قيمة كبيرة في الفكر الإسلامي السني أيضا، و هذا يعني أن أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين لم يتجاوزوا المؤلفات الإسلامية السنية في اعتمادهم على تلك الأحاديث والروايات المهمة عن التنبوء بما سيحل بعترة أهل بيت الرسول السماوي الأخير صلی الله علیه و آله و سلم وجه هذه الأرض.

و على سبيل المثال، فإن مسألة الحكمة من الخروج بأهل البيت علیهم لسلام إلى كربلاء، تلك الحكمة التي ذكرها الأستاذ (بارا) هي في واقعها و أساسها حكمة إلهية أشار إليها الإمام الحسين عليه السلام نفسه قبل خروجه مباشرة إلى كربلاء، و لم تبخل المراجع الإسلامية السنية المعاصرة بذكر ذلك نقلا عن لسان الإمام الحسين علیه السلام.

ففي كتاب (الحسين بن علي) الذي ذكرناه في الصفحات السابقة، ينقل لنا مؤلفه حوارة ثنائيا بين الإمام الحسين عليه السلام وأخيه من أبيه (محمد بن الحنفية) حول الخروج إلى أرض کربلاء، و لا يمكننا القول إلا أن ذلك الحوار يكشف لنا الكثير من الحقائق حول التكليف الإلهي للإمام الحسين عليه السلام بضرورة خروجه مع عموم أهل بيته علیهم السلام.

و بإمكان القارئ أن يستخلص هو شخصيا النتائج المترتبة على نص هذا الحوار الذي سنذكره الآن مباشرة.

فأثناء تجمع القافلة و بدء المسير، يأتي محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) إلى أخيه

ص: 356


1- نفس المصدر السابق ص129.

الحسين عليه السلام مهرولا، و يقف بين يديه مخاطبا:

- ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

فأجاب الحسين: «بلی».

فقال محمد: فما الذي حملك على الخروج عاجلا؟

قال الحسين: «أتاني رسول الله بعدما فارقتك، و قال: يا حسين اخرج إلى العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلا مخضبا بدمائك».

فقال محمد متألما باكيا: إنا لله و إنا إليه راجعون، فإذا علمت أنك مقتول فما معنی حملك هؤلاء النسوة والأطفال؟

قال الحسين علیه السلام: «ولقد قال لي جدي: إن الله عز وجل قد شاء أن يراهن سبايا مهتكات يسقن في أسر الذل، و هن أيضا لا يفارقني ما دمت حيا»(1).

و ما ينطبق على هذا الحديث ينطبق على غيره أيضا من بقية الأحاديث التي اعتمد عليها المفكرون والأدباء المسيحيون واستشهدوا بها في كتبهم و دواوينهم من خلال الاعتماد المباشر على المراجع والمصادر الإسلامية السنية المتقدمة والمعاصرة.

و من جملة الأحاديث الهامة الأخرى التي اعتمد عليها المفكرون المسيحيون في مؤلفاتهم الفكرية والأدبية هو ذلك الحديث البارز والمهم الذي ورد في كتاب (تاریخ الطبري) و في غيره من المصادر المتقدمة، والذي يأتي ذكره دائما في المراجع السنية المعاصرة عند الحديث عن حادثة كربلاء والتهيوء المسبق لها.

فالمراجع المعاصرة تنقل عن (الطبري)، و هو بدوره ستي، قوله:

و رحل الحسين من قصر بني مقاتل، و بينما هم يسيرون إذ سمع الحسين يقول:

ص: 357


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص118.

«إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين»، و كرره - فسأله علي الأكبر عن استرجاعه و قال له: «يا أبت جعلت فداك، مم حمدت واسترجعت؟».

فقال الحسين و هو يزفر زفرة طويلة: «يا بني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس و هو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها نفسنا و إلينا»(1).

و بالفعل، ما أن يصل الإمام الحسين علیه السلام بأهله الأطهار علیهم السلام و بصحبة الأخيار (رضي الله عنه) إلى أرض الكرب والابتلاء، حتى يقف الإمام الحسين عليه السلام و يسأل عن اسم المنطقة التي وصل إليها، فيجيبه (زهير ابن القين):

- سر راشدا و لا تسأل عن شيء حتى يأذن الله بالفرج، إن هذه الأرض تسمی الطفت.

فقال الإمام الحسين عليه السلام : «و هل لها اسم غيره؟».

قال: تعرف بكربلاء.

فدمعت عيناه و قال عليه السلام : «اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء، ها هنا محط رکابنا و سفك دمائنا و محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله»(2)

فكل هذه الأحاديث الهامة والمتميزة التي وردت في كتب إخواننا السنة قديما وحديثا لعبت دورا كبيرا في بلورة الفكر المسيحي تجاه الكثير من المسائل الهامة المتعلقة بقضايا وشؤون أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام.

و بالعودة إلى الفكر المسيحي، بإمكاننا أن نلاحظ في كتاب (السياسة الإسلامية) للمستشرق الألماني (ماربين) أن هذا المستشرق قد أجاد تحليل و دراسة القضايا

ص: 358


1- نفس المصدر السابق ص129
2- نفس المصدر السابق ص130

الهامة التي كانت تشغل فكر أهل البيت عليهم السلام، و رأي أيضا أن الإمام الحسين علیه السلام، تحديدا، كان على معرفة مسبقة باستشهاده من أجل نصرة الحق(1).

أما في ما يتعلق بخروج الإمام الحسين عليه السلام بأهل بيته علیهم السلام لملاقاة آلاف المقاتلين من الجيش الأموي الباغي، فيقول عنه (ماربین):

(إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان و عز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، و يحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة)(2).

و بالطبع، فالمقصود من كلام (ماربين) عن النصر الآجل بعد موت الحسين علیه السلام، هو معرفة المسلمين لاحقا أن الحسين قد خرج بأهل بيت النبوة و مهبط الرسالة من أجل إحياء الدين و تخليصه من براثن الذئاب الأموية، في حين أن الأمويين- بفظائعهم التي سيرتكبونها بحق أهل البيت- ستثبت للعالم بأسره أنهم أعداء محمد صلی اله علیه و آله و سلم وأعداء الرسالة، و أنهم أيضا بلا دين و لا أخلاق تردعهم عن ارتكاب أفظع المجازر بحق أهل بیت نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم الذي أوصى في أكثر من مناسبة قائلا و مذكرا:

-«النجوم أمان لأهل السماء، و أهل بيتي أمان لأمتي»(3).

- «شفاعتي لأمتي، من أحب أهل بيتي»(4).

- «اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي»(5).

ص: 359


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص58.
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص67.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص 49.
4- نفس المصدر السابق ص61.
5- نفس المصدر السابق ص65.

و إذا كان الفيلسوف والمستشرق الألماني (ماربين) قد علل سبب خروج الإمام الحسين عليه السلام بأهله لمقابلة جيش يزيد اللعين، فإن المستشرق الإنكليزي المعروف (دوایت رونلدسن) قد أغفل في كتابه (عقيدة الشيعة) ذكر خروج الإمام الحسين علیه السلام بأهله و عياله، لكنه لم يغفل ذكر العديد من الروايات التي تقول إن الملائكة جاءت بتراب من بيت المقدس إلى كربلاء ليدفن فيها الإمام الحسين عليه السلام، و أنهم هم شخصيا من هيا للحسين عليه السلام قبره قبل مقتله بألف عام(1).

و ليس هناك من حاجة للاستفاضة في القول إن العديد من المستشرقين لم يذكروا في مؤلفاتهم و مصنفاتهم أي شيء عن النبوءات بحادثة كربلاء، و لا حتى عن أسباب الخروج بالنساء والأطفال، و إنما اكتفوا بوصف الفاجعة ذاتها مركزين على الأفعال الأموية السوداء بحق أهل البيت عليهم السلام، و خير مثال على هذا النوع من المستشرقين الذين نهجوا هذا النهج العلامة الفرنسي (سيديو) في كتابه الشيق (خلاصة تاريخ العرب)(2).

و لم يبتعد المستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) في نهجه الفكري كثيرا عن نهج الأستاذ (سیدیو)، لكنه تميز عنه بالمرور سريعا على مسألة معرفة الإمام الحسين عليه السلام المسبقة بنهايته المؤثرة على يد جيش الطاغوت، و قد أورد الأستاذ (کونسلمان) تلك الحادثة عن معرفة الإمام الحسين عليه السلام بمصيره الأليم قائلا: فیروی أنه (أي الحسين عليه السلام ) رأى في منامه أن النبي قد ظهر له و قال: «في الليل ستكون عندنا في الجنة، والانتقال من الحياة إلى الموت ليس مهما، فالموت ينهي كل الآلام،

ص: 360


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص108
2- العلامة سيديو، خلاصة تاريخ العرب، مصدر سابق ص88.

و قد بشرتك ذات يوم بالجنة، كلمتي ستعطيك ثقة و سوف تقودك»(1)، و كان من نتيجة ذلك أن بكت النساء وانتحبن لهذا الكلام.

و في الحقيقة، فإن هذا المستشرق الألماني المعاصر لم ينف و لم يستبعد قصة الرؤيا التي شاهدها الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده، وإنما أوردها في كتابه (سطوع نجم الشيعة) كجزء طبيعي من نسيج و سياق الفاجعة المرتقبة على أرض کربلاء.

فالحلم أو الرؤيا لها دور أساسي في حياتنا اليومية، فما نشاهده في النوم قد يكون مرتبطة بخبرات الماضي البعيد، و لكن بنفس الوقت، قد يكون مرتبطا بكشف غیب المستقبل سواء بطريقة الاستبصار أم بطريقة أخرى لم يكتشفها علم النفس بعد.

و ها هو الباحث النفسي المعاصر (جون كيهو) ينقل لنا في كتابه (العقل الباطن) مقولة هامة لعالم النفس الشهير (كارل يونغ)، صاحب نظرية اللاوعي الاجتماعي، يقول فيها عن حقيقة الأحلام ما يلي:

(تبين لكم الأحلام أين أنتم، والطريق الذي تسلكونه، و تفتح أمامكم صفحة قدركم المكتوب)(2).

و لو أردنا أن نقفز الآن فوق عالم الاستشراق من أجل الوصول إلى عالم الفكر المسيحي المعاصر في الشرق، فماذا عسانا نجد فيه من علوم و معارف عن عوالم النبوءات والرؤى حول الخروج بالأهل والعيال إلى ساحة الشهادة المقدسة فوق الرمال التي تنتظر أن تروى بدمائهم الطاهرة بدل أن روی من ماء الفرات؟!

ص: 361


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق ص57.
2- جون كيهو، العقل الباطن، ترجمة: د. مصطفى دليلة، دار الحوار . اللاذقية، 2001، ص71.

قبل كل شيء، يرى المفكر والأديب المسيحي اللبناني (سلیمان کتاني) في كتابه (الإمام زين العابدین عنقود مرصع) أن الغدر الدائم بأهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم سمة بارزة عن البيت الأموي الذي ما برح يدبر المكائد والدسائس والفتن للتخلص الكامل والنهائي من كل أفراد البيت المحمدي الرسالي(1).

و على الرغم من كل تلك الفتن والمكائد الخسيسة التي حاكتها الأيادي الأموية الآثمة، فقد قرر الإمام الحسين عليه السلام الخروج بأهله و عياله لإقامة الحجة الإلهية البالغة، ليس على الأعداء فحسب، بل أيضا على كل مسلم سمع بخروجهم لطلب الحق و إنقاذ الرسالة و لم ينصرهم و يشد من أزرهم.

و يرى الأستاذ (كتاني) أيضا أن إرادة الإمام الحسين عليه السلام جزء لا يتجزأ من إرادة الله سبحانه و تعالى، فالحسين عليه السلام كان محقا تماما عندما عبر عن إرادة الله الحكيم الخبير بقوله لأخيه الحبيب محمد بن الحنفية عليه السلام قبل الخروج:

«أتاني منذ لحظة رسول الله و قال لي: يا حسين اخرج، فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا-و إن الله قد شاء أن يرى نسائي سبایا»(2).

فالرؤيا، بشكلها الأشمل، و بمضمونها و معناها الأعمق، تحمل في ذاتها- كما يقول عنها المفكر والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) - بذور الثورة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أي أنها تغيير الإنسان بشكل كامل و شامل(3).

و لا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام كان يمتلك رؤيا غيبية شاملة المعاني و متعددة الأبعاد، و لذلك فعندما يقول عليه السلام قبيل خروجه بوقت قصير: «رأيت رؤيا

ص: 362


1- سلیمان کتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، مصدر سابق ص148.
2- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص151
3- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص168.

فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أمرث فيها بأمر أنا ماض له»(1)، فعندما يقول الإمام الحسين علیه السلام هذا الكلام، فهو لا يقصد مجرد الرؤيا التي تأتي الإنسان في حالة النوم فقط، بل يعني أيضا تلك الرؤيا القلبية الإشراقية التي تتجلى للنفس الطاهرة النقية الجوهرية بشكل صور حية مثلما تتجلى الصور والحركات على صفحة المرأة الصقيلة والصافية.

و إذا كان الفكر المسيحي المعاصر قد رأى في الإمام علي عليه السلام صورة الإمام الجامع لصفات الرسل والأنبياء عليهم السلام، و أن الإرادة الكونية- كما يقول المفكر (جورج جرداق)- هي التي شاءت أن يكون الإمام علي عليه السلام شيئا من ذات الرسول(2)، فإن الإمام الحسين عليه السلام ، بالنسبة للكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين، هو الوارث أيضا لكل صفات و خصال الإمام علي عليه السلام، و بالتالي هو أيضا و ريث شرعي لكل رسول و نبي و وصي.

و قد رأينا، سابقة، كيف أن الأديب والشاعر المسيحي (جورج شکور) قد عبر خير تعبير في ديوانه (ملحمة الحسين) عن الإرث الحسيني العظيم، بقوله:

أما الحسين و ريث (للعلي) فتی *** الفتيان، من نهجه في السر أسرار؟

و ها هو الآن يكمل حديثه الرقيق عن الإرث العظيم الذي ورثه الإمام الحسين علیه السلام عن جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم أيضا، و كيف أن ذلك الجد المبعوث برسالة السماء قد تراءى له في المنام و قد أمره بالخروج إلى كربلاء سريعا لأن أهل السماء قد اشتاقوا إلى لقائه القريب حالما يتحول إلى (ذبيحة مظلومة لله عند شط الفرات)، حيث تكون

ص: 363


1- محمد رضا، الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص117.
2- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج1 ص65.

دماؤه الطاهرة الزكية معراجه للقاء جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و أبيه المرتضی علیه السلام و أمه البتول الزاهرة علیهاالسلام و أخيه المجتبى عليه السلام و كل الأحبة والأهل الذين رفعتهم دماؤهم المبذولة و أنوار جواهرهم المصقولة إلى قدس الأقداس حيث لا عين رأت و لا أذن سمعت.

و الآن، دعونا نستمع سوية إلى هذا الأديب المسيحي (جورج شكور) و هو يقول:

سار (الحسين) إلى ترب النبي تقى *** مستلهما سره، للقبر إسرار

صلى مليا، فأغفی، راؤدته رؤى *** أن جده قال، ما في القول إضمار

إني أراك ذبیح (الطف) منطرحا *** في (كربلاء)، و منك الدم قوار

و هنا ينتقل الشاعر إلى وصف الإرادتين المتكاملتين في ضرورة طلب الشهادة من أجل إعلاء راية الحق والنور فوق الدروب المرسومة بالدماء صعودا إلى ممالك السماء و مواطن الأنوار.

فالإرادة المحمدية تخاطب الحسين عليه السلام بالقول (أقدم، حسین)، فيأتي الرد من الإرادة الحسينية هادئا مطمئنا بالقول (مشيناها خطى کتبت)، و هنا تجتمع الإرادتان لتتوحدا في ظلال الأمر الإلهي الذي شاء أن يقيم الحجة على الأمة بعد أن يرى الإمام الحسين عليه السلام قتيلا مضرجا بدمائه دون معين و لا ناصر من الأمة التي ترجو شفاعة جده المصطفي صلی الله علیه و آله و سلم يوم الحساب، و ها هو الأستاذ (شکور) يتابع قائلا عن دعوة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم:

أقدم، (حسين)، حبيبي، أهلك اشتعلوا *** شوقا إليك، غدا للشوق أبصار

مدارج الجنة العليا توزعها *** روح الشهيد، و أبرار و أطهار

ص: 364

قال (الحسين): (مشيناها خطی کتبت) *** إلى الجهاد، و إلا هدنا العار(1)

لقد استطاع هذا الشاعر المحلق أن يختصر قول الكثير من خلال هذه الأبيات الشعرية القليلة، و هنا يكمن وجه من وجوه الإبداع في عملية الصناعة الشعرية حيث يمكن إعطاء الكثير من المعاني والصور في أقل عدد ممكن من الكلمات والتعابير .

و لا أعتقد أن هناك من يختلف معنا في أين هذا الكلام ينطبق أيضا على الشاعر (بولس سلامة) الذي استطاع أن يبرهن لنا أن الشعر رسالة و أن الشاعر الحقيقي هو ذلك الإنسان الذي يتحول إلى رسول للفكر يحمله على أجنحة البيان والصور والموسيقى إلى عقول الناس وأفئدتها.

و كما ذكرنا مرارا، فإن شاعرنا (سلامة) ليس مجرد شاعر فحسب، بل هو أيضا أديب مبدع تشهد له مؤلفاته بذلك، و لذلك، فعندما يحدثنا هذا الأديب والشاعر عن أحداث کربلاء، فإننا نلاحظ بوضوح كيف أنه يقدم مادته الفكرية للقارئ بطريقتين ممتعتين: طريقة الرواية النثرية، و طريقة الرواية الشعرية.

و لذلك، فإن مسألة تنبوء أهل البيت علیهم السلام بما سيحل بهم عموما، و بالإمام الحسين علیهم السلام خصوصا، هي مسألة هامة جدا في فكر الأديب والشاعر (سلامة)، و بالتالي فهي تستحق أن تنقل إلى القارئ بالطريقتين اللتين أشرنا إليهما، الطريقة النثرية والأخرى الشعرية.

و ها هو يحدثنا نثرا عن تلك المسألة، فيقول بلسان مليء بالثقة والصدق واليقين، مصورا وصول الإمام الحسين بأهله علیه السلام إلى أرض كربلاء:

ص: 365


1- جورج شکور، ملحمة الحسين، طبع شركة ساب إنترناسيونال . بيروت، ط 2003/1 ، ص15 +16

فقال (أي الحسين عليه السلام): ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلاء، قال: هذا موضع کرب وبلاء، انزلوا، ها هنا محط ركابنا، و سفك دمائنا، و هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله، فصرخت زینب أخت الحسين: واثكلاه!!

ينعى الحسين نفسه، ليت الموت أعدمني الحياة، ماتت أمي فاطمة، و أبي، و أخي الحسن، و لم يبق غيرك يا خليفة الماضين و ثمال الباقين... فقال الحسين: تعزي یا أختاه بعزاء الله ، فإن سكان السماوات يفنون و أهل الأرضكلهم يموتون.

ثم قال: يا أختاه، یا أم كلثوم، و أنت یا زینب، و أنت يا فاطمة، و أنت يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشقن علي جيبا و لا تخمشن وجها و لا تقلن هجرا)(1).

و كما ذكرنا منذ قليل، فإن الأديب (سلامة) لم يكتف بذكر النبوءة نثرا، بل راح يؤكد للقارئ و قوعها و ذلك من خلال إعادة صياغتها شعرا و تقديمها إليه بأسلوب جديد يدخل إلى العقول والقلوب و يتغلغل فيهما و يداعبهما مثلما تتغلغل و تداعب النسيمات اللطيفة الناعمة أوراق شجر الغار والحور والسنديان.

إذن، دعونا الآن نستمع إليه و قد نقل لنا نفس الفكرة السابقة و لكن بأسلوبه الشعري المميز، و هو الآن يصور وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض كربلاء التي سترتوي من دمه و دم أهل بيته عليهم السلام قريبا:

قال: ما هذه البقاع؟ فقالوا: *** كربلاء، فقال: ویحک دارا

هاهنا يشرب الثری من دمانا *** و يثير الجماد دمع العذاری

بالمصير المحتوم أنبأني جدي *** و هيهات أدفع الأقدارا(2)

ص: 366


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص250.
2- نفس المصدر السابق ص251

إنها الحكمة الإلهية التي تأبى أن تتكشف عنها كل الأستار والحجب حتى يدرك الإنسان العاجز العمق الكامل والبعد الحقيقي وراء تلك الحكمة التي جعلت الأقدار المقترنة بالأسباب تقود الإمام الحسين و أهله و عياله عليهم السلام إلى مذبح الحب الإلهي العظيم.

فيا لله !! ما هذا الحب الإلهي الذي يقود المحب إلى الأبح؟!

أليس هذا الحب أيضا هو الذي قاد معظم الرسل والأنبياء والأوصياء والأولياء إلى نفس المصير؟!

ألم يكن سيدنا إسماعيل عليه السلام قاب قوسين أو أدنى من حد السكين من أجل حب الله و مرضاته، و عدم الخروج عن إرادته و حكمته الخفية؟!

لقد صدق فيلسوف الباكستان و شاعرها الأعظم (محمد إقبال) عندما أوجز الكلام في ذلك شعرا، فقال:

في الكعبة العليا و قصتها *** نبأ يفيض دما على الحجر

بدأت بإسماعيل عبرتها *** و دم الحسين نهاية العبر(1)

نعم، والله، فدم الحسين و أهل بيته عليهم السلام نهاية العبر و أبلغها و غایتها.

بل، هل هناك عبرة أعظم من أن يقتل الإمام الحسين علیه السلام بسيوف أناس يمزقون جسده الشريف إربا إربا و يرجون دخول الجنة غدا على يدي جده صلی الله عله و آله و سلم يوم الحساب !!

ص: 367


1- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين عليه السلام على طريق الشهادة، مصدر سابق ص331.

نبوءات الأنبياء علیهم السلام بفاجعة کربلاء

رأينا في الفصل السابق من هذا الكتاب كيف أن أهل البيت عليهم السلام قد تحدثوا عن المآسي الدامية التي ستشهدها أرض كربلاء، و كيف أن تلك الأرض سترتوي من دماء الإمام الحسين عليه السلام و من دماء نسائه و أطفاله علیهم السلام و أصحابه الكرام الذين سيثبتون معه حتى النهاية و كأنهم أسود تدافع عن حرمة عرينها غير خائفين من بريق السيوف و لا و جلين من كثرة مشاهد الدماء المتماهية مع صوت صراخ أطفال الحسين عليه السلام، فلا يزيدهم ذلك إلا إيمانا بالله و برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يزيدهم إلا إصرارا على إثبات حق الحسين عليه السلام في الخروج من أجل طلب الحق في أمة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و إعلان الثورة على شیطان و فرعون العصر یزید بن معاوية، سليل شجرة الغدر والفجور.

أما الآن، فإننا سنتوقف مليا عند الرسل والأنبياء عليهم السلام و نبوءاتهم الإلهية التي أوحاها الله سبحانه و تعالى إليهم عن طريق وحيه الأمين جبرائيل عليه السلام الذي كان يخبر كل نبي و رسول بما سيحدث لخاتم الأنبياء صلی الله عیه و آله و سلم و لذريته الطاهرة المقدسة من بعده، و كيف سيرتبط خلود ذكر تلك الأرية بدموعهم المسكوبة و بدمائهم المسفوحة تحت رايات التوحيد الإلهية والمبادئ والقيم الرسالة السماوية.

و لا ريب في أن مصير الإمام الحسين عليه السلام و ما سيحل به و بأهل بيته من نساء و أطفال كان هو المشهد الأكثر تأثيرا و الأ عمق ألما و هما في قلوب و نفوس أمناء رسائل السماء إلى أهل الأرض.

ص: 368

و قبل أن ندخل في جوهر بحثنا الآن، علينا أن نذكر دائما أن هناك الكثير، بل الكثير جدا، من المفكرين والأدباء الذين ينتمون إلى أديان أخرى غير الدين الإسلامي، يحترمون و يبجلون أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم كثيرا حتى أنك لتحسبهم من أتباعهم و أشياعهم المخلصين و من جنودهم الصادقين الصابرين.

و ربما كان أهم عامل من عامل محبتهم لأهل البيت عليهم السلام و تعلقهم بهم هو التعاطف الوجداني الناتج عن الكوارث القاسية والأليمة التي أنشبت أظفارها الحادة في وجوه أفراد تلك الذرية الطاهرة التي لم يكن لديها أي هم إلا العمل على ترسيخ قيم الحق والخير والفضيلة في مملكة الإنسان التائه الذي كان يبحث عن واحة ظليلة يلتجئ إليها هربا من رمضاء القيم الجاهلية والاعتقادات الوثنية الغريبة التي تتعارض مع طبيعة الفطرة السليمة.

فالإسلام الذي نادى به الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و أهل بيته الكرام علیهم السلام من بعده، هو الدين القائم على تحرير الإنسان من عبوديته لكل شيء إلا لله ذاته فقط، فبقدر ما يكون الإنسان مستهلكا ذاته في خدمة سيده الأوحد جل وعلا، بقدر ما يكون حرا طليقا من كل القيود والأصفاد التي تربطه بعبوديته للكثير من الأوثان والأصنام الدنيوية القادرة حقا على اجتذابه واستعباده بعد أن يسلم زمام أموره إلى النفس المسؤلة أو إلى شقيقتها النفس الأمارة بالسوء.

فالشاعر والفيلسوف الألماني الشهير (یوهان غوته) (1769- 1832م) أدرك هذه الحقيقة عن الإسلام، بل أدرك الكثير من الحقائق عن طبيعة الرسالة الإسلامية و عن الدور العظيم الموكل إلى أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فأهل البيت عموما، و علي و فاطمة عليهماالسلام خصوصا، هم الأيادي الطاهرة التي استلمت رسالة السماء و حولتها إلى

ص: 369

عبير عطر يمتد بشذاه الزكي إلى كل الناس في كل زمان و كل مكان.

و قد وضع هذا الشاعر الفيلسوف مسرحية شعرية على لسان علي و فاطمة عليهماالسلام يظهر فيها قوة النبي الروحية و إيمانه العميق بالغيب، و يظهر فيها أيضا تفاعل كل الكائنات والموجودات معه و مع رسالته القادمة من عمق الأزل لتكون خاتمة للرسالات السماوية الأخرى التي سبقتها و معراج للإنسان إلى مدارج الصفاء والكمال.

و قد اختمرت هذه الفكرة الثيرة في ذهن (غوته) المتقد حبا و إعجابا بمحمد خاتم الرسل والأنبياء عليهم السلام و بأهل بيته عليهم السلام الذين أكملوا ما بدأه من نشر للمبادئ الإنسانية المثلي، و أقدموا على بذل أغلى ما يملكونه من أجل تحقيق ذلك كله.

و بالفعل، فقد وضع (غوته) مشروع تلك المسرحية الشعرية، فبدأ روايته للأحداث بنشيد ينشده محمد صلی الله علیه و آله و سلم في الليل تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم المتلألئة شاعرا بنفسه الشفافة تسمو إلى عوالم السماء و حجب الغيب فيكاشف زوجته الطاهرة خديجة (رضي الله عنها) بذلك فتؤمن به حالا، ثم في الفصل الثاني يناصره الإمام علي عليه السلام بالدعوة إثر إيمانه المباشر بها، ثم يناوئه الخصوم والأعداء فيضطر إلى الرحيل والهجرة، و في الفصل الثالث ينتصر محمد صلی الله علیه و آله و سلم و يطهر الكعبة من كل الأوثان، و في الفصل الرابع يتابع محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم نشر دعوته السماوية، أما في الفصل الخامس فيبلغ فيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم أوج الكمال و تتجلى عظمته الروحية.

ولكن-و للأسف الشديد- بقيت هذه المسرحية الشعرية عند حدود المشروع(1)، و لم تسعفه الظروف في تحقيق هذا المشروع المميز مما أدى به إلى الوقوف عند

ص: 370


1- جميل جبر، من الأدب الألماني، دار الريحاني للطباعة والنشر . بیروت، د.ت، ص17.

حدود وضع المقدمة والخطوط العريضة فقط.

و ليس هذا بالغريب عن (غوته)، فمن المعروف عنه أنه غني بالشرق والإسلام منذ صباه، فتغنى بر وائعه و لاسيما اللغة العربية، و قد اهتم خصوصا بشخصية النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم و بأهل بيته الذين آزروه و بذلوا له يد العون في مختلف مراحل رسالته، و قد دافع أيضا عن قداسة القرآن و وقف ضد الأقوال التي كان يرددها بعض الغربيين بشأن كتاب المسلمين(1).

و ما أريد أن أقوله الآن، بعد هذا الحديث عن الفيلسوف والأديب الألماني (غوته)، هو أن الدارس والمحلل لمؤلفات هذا الأديب العملاق يستطيع أن يستخلص فكرة هامة جدا عن رؤيته للإسلام، فالذي يقرأ ما كتبه (غوته) أو ما کتب عنه بشكل دقيق و مفصل، مثلما فعلت الباحثة الألمانية المعاصرة (كاتارينامو مومزن)، أستاذة الأدب الألماني في جامعة استانفورد الأمريكية، سيخرج بنتيجة هامة مفادها أن (غوته) يؤمن إيمانا حاسما بأن الإسلام عمي في وجوده و جوهره، فهو يمتد إلى ما قبل ظهور محمد صلی الله علیه و آله و سلم کرسول أرسلته إرادة السماء محملا برسالة الإسلام، فالإسلام بالنسبة للفيلسوف (غوته) هو دين الإنسان المرافق لوجوده القديم على الأرض، و لذلك فهو ممتد في جذوره إلى عمق الوجود الإنساني حتى قبل ظهور النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي، فإن (غوته) لا يتردد في القول خلال مؤلفاته العديدة: (إنا أجمعين نحيا و نموت مسلمين)(2).

و بالطبع، فهو عندما يؤكد في قوله (إننا أجمعين)، فهو لا يقصد بذلك الإنسان

ص: 371


1- نفس المصدر السابق ص15.
2- كاتارينا مومزن، غوته والعالم العربي، ترجمة: الدكتور عدنان عباس علي، (سلسلة عالم المعرفة)، العدد 194 ، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت . شباط 1995 ص177.

الألماني أو الإنسان الأوروبي، بل يقصد بذلك الإنسان عموما في القديم والحاضر والمستقبل و في شتى بقاع الأرض طالما عند ذلك الإنسان بذور الإيمان بما جاء به الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بشكله الأكمل والأشمل

و إذا كان هذا هو حال شاعر و فيلسوف استطاع أن يكتشف شيئا من عالمية الإسلام و عن عمق وجوده الزمني والروحي و هو مجرد شاعر و فيلسوفي مبدع، لكنه غير مؤيد باستبصار نبوي، أو غير قادر على كشف بعض حجب الغيب كالرسل، فما بال الرسل والأنبياء الذين استطاعوا أن يتحدثوا عن الرسالة العالمية للشريعة الإسلامية و عن إنسانية مبادئها و عن رموزها المقدسة التي ستلاقي الكثير من الأهوال والمصائب في سبيل نشرها و جعلها الجناح الدافي الذي يحتمي به كل المؤمنين والمستضعفين و طلاب الحقيقة الخالدة أيا كان لونهم أو عرقهم أو وطنهم؟!

و من هنا نستطيع الآن أن نبدأ رحلتنا مع حديث الرسل والأنبياء علیهم السلام عن أحد رموز الرسالة الإسلامية، ذلك الرمز الذي فجر ثورة روحية حقيقية في ضمير الإنسان والأديان.

دعونا الآن، إذن، نبدأ حديثنا عن الإمام الحسين عليه السلام و ثورة كربلاء التي أبی الأعداء إلا أن يجعلوا منها نهرا من الدماء يسير جنبا إلى جنب مع نهر الفرات.

و لنسأل أنفسنا هنا:

هل كان النبي آدم عليه السلام ، أبو الأنبياء جميعا عيهم السلام، على علم و معرفة بما سيحدث للإمام الحسين عليه السلام سبط آخر نبي من أنبياء الله ؟!

و هل هناك من علاقة قديمة ذات طابع نوراني بين آدم عليه السلام أول الأنبياء و بين أهل بيت آخر الأنبياء علیه السلام؟!

ص: 372

ثم، ما تأويل قوله تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)؟! وما هي حقيقة تلك الكلمات الإلهية؟!

في الحقيقة، إن مفتاح الإجابة على كل هذه الأسئلة هو تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة كما ورد في كتب العلماء من إخواننا السنة، فالعلاقة المباشرة بين آدم علیه السلام والكلمات الإلهية التي كانت السبب الأكيد في توبة الله سبحانه و تعالى عليه هي بوابة العبور إلى جوهر بحثنا.

فقد جاء في كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الكبير الشيخ (سليمان القندوزي الحنفي)، و في غيره من كتب السنة المعتبرة، أن الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد فسر الآية الكريمة المذكورة عن آدم عليه السلام بقوله أمام الملأ من الناس:

«يا عباد الله، إن آدم عليه السلام لما رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله تعالی نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره (ظهر آدم) رأى النور و لم يتبين الأشباح، فقال: يا رب، ما هذه الأنوار؟

قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلى ظهرك، و لذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت و عاء لتلك الأشباح.

فقال آدم عليه السلام : يارب، لو بينتها لي، فقال الله عز وجل: انظر یا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السلام و واقع أنوار أشباحنا من ظهر آدم علیه السلام على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح یا رب؟ قال الله تعالى: يا آدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقي و برياتي، هذا محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنا المحمود في أفعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا علي، أنا العلي العظيم، شققت له اسما من

ص: 373


1- سورة البقرة: الآية 37.

اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل القضاء، و فاطم أوليائي مما يبيرهم ويشينهم، شققت لها اسما من اسمي، و هذا الحسن و هذا الحسين و أنا المحسن المجمل و مني الإحسان شققت اسميهما من اسمي و هؤلاء خيار خلقي و کرائم بريتي، بهم آخذوبهم أعطي، و بهم أعاقب و بهم أثيب، فتوسل بهم إلي يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم شفعاؤك فإني آليت على نفسي قسما لاحقا لا أخيب لهم آملا و لا أرد لهم سائلا، فذلك حين صدرت منه الخطيئة دعا الله عز وجل فتاب علیه و غفر له»(1).

إذن، هناك معرفة مسبقة في عوالم الأنوار بين آدم عليه السلام و أهل البيت علیهم السلام، و بالتالي، ليس من الغريب أن يعرف آدم عليه السام الكثير عن أفراد ذلك البيت النبوي المقدس والذين يمثلون تلك الكلمات الإلهية التي تلقاها من ربه فتاب بها عليه.

و قد جاء في الأثر الصحيح في تفسير قوله تعالى: «فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...»(2) أن آدم عليه السلام رأی ساق العرش وأسماء النبي والأئمة عليهم السلام فلقنه جبريل قل: يا حميد بحق محمد، یا عالي بحق علي، یا فاطر بحق فاطمة، یا محسن بحق الحسن والحسين و منك الإحسان.

فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، و قال: يا أخي جبریل، في ذکر الخامس ينكسر قلبي و تسيل عبرتي؟!

قال جبريل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: يا أخي، و ما هي؟

ص: 374


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص95.
2- سورة البقرة: الآية 37.

قال: يقتل عطشان غريبا وحيدا فريدا ليس له ناصر و لا معين، و لو تراه یا آدم و هو يقول: واعطشاه.. واقلة ناصراه.. حتى يحول العطش بينه و بين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلا بالسيوف، و شرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، و ينهب رحله أعداؤه، و تشهر رؤوسهم هو و أنصاره في البلدان و معهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان، فبکی آدم و جبريل بكاء الثكلى(1).

هذا ما كان من شأن سيدنا آدم عليه السلام و علاقته بكلمات الرحمة والمغفرة، و معرفته المسبقة بما سيحدث للإمام الحسين عليه السلام على بطاح كربلاء، فمن من الأنبياء كان على اطلاع أيضا على مصير سيد الشهداء عليه السلام في كربلاء؟!

إله النبي نوح علیه السلام، نعم، لقد كان نوح علیه السلام من العارفين بأحداث ملحمة الخلود التي سيكون بطلها سبط النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أول خلق الله و خاتم رسله.

و من المعروف عن نبي الله نوح عليه السلام أنه كان من أولي العزم من الرسل، و قد مکث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، صابرا على أذاهم، صامدا أمام كفرهم و حماقاتهم، و ما كانوا ليزدادوا على مر الأيام إلا كفرا و عتوا، و لما رأى أن الله قد حقت كلمته، و قضى وحيه أنه لن يؤمن أحد بعد، نفذ صبر نوح عليه السلام وتوسل إلى الله أن لا يبقي على الأرض من كفار قومه دیارا.

فاستجاب الله دعاءه و أوحى إليه أن يصنع الفلك العظيم، فسارع نوح واتخذ مكانا قصيا عن المدينة و بدأ العمل وسط سخرية القوم واستهزائهم، خاصة و أن مكان صناعة تلك السفينة العظيمة كان بعيدا عن البحار والأنهار التي ستحملها على سطوح أمواجها فور الانتهاء من صنعها.

ص: 375


1- توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، انتشارات لاله کویر. یزد، 1421ه، ص6.

وبعد أن أوحى الله إلى نوح ما أوحي، تفتحت أبواب السماء بالماء، و تفجرت عيون الأرض، و بلغ السيل المخيف قمم الربي والجبال، و في ذلك الحين كان نوح عليه السلام و من معه داخل السفينة في مأمن من غضب الله و غضب الطبيعة.

و لما بلغ الشوط غايته، و أصبح قوم نوح عليه السلام من الغابرين، أمسكت السماء ماءها، وابتلعت الأرض ما تبقى منه على وجهها، و كان لا بد قبل ذلك بقليل أن ترسو سفينة نوح في مكان جديد لتبدأ صفحة جديدة من صفحات الحياة على اليابسة، فما الذي حدث، و كيف استوت السفينة على جبل الجودي؟!

فالذي حدث و قتذاك هو أن نوحا عليه السلام لما ركب في السفينة طافت به الكثير من الأماكن والأصقاع، و لما مرت به بكربلاء أخذته الأرض و خاف نوح وقتها الغرق، فدعا ربه، و قال: إلهي، طفت جميع الدنيا و ما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض، فنزل جبرائيل عليه السلام و قال: یا نوح، في هذا الموضع يقتل الحسين عليه السلام سبط محمد خاتم النبيين وابن خاتم الأوصياء، فقال: و من القاتل له يا جبرائیل؟

قال: قاتله لعين أهل سبع سماوات و سبع أرضين، فلعنه نوح أربع مرات فسارت السفينة حتى بلغت الجودي واستقرت عليه الوقت الذي كان يبني فيه سفينته قبل الطوفان و قبل أن تمر فوق أرض كربلاء، و أن الذي أخبره بذلك هو جبرائیل علیه السلام ، راجع المصدر المذكور أعلاه ص27. (1).

ص: 376


1- يرجى الرجوع إلى: أ. المصدر السابق نفسه ص7. ب. المنبر الحسيني، العدد الثاني، إصدار دار السيدة زينب الثقافية . بيروت، عدد آذار، 2001، ص28، و قد ورد في هذا المصدر أيضا حديث ذو طابع رمزي يوحي لمن يطلع عليه أن لسفينة نوح عليه السلام معنى مجازيا رمزيا بالإضافة إلى معناها الحقيقي والمباشر، فقد روی (أنس بن مالك) عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم حديثا مطولا يرمز من خلاله إلى أن أهل البيت المطهرين علیهم السلام هم أمان السفينة إذ لا أمان و لا سفينة دونهم، فهم . تبعا لتحليل رموز ذلك الحديث النبوي الشريف . عين استمرار الحياة و هم سفينة النجاة، و جاء في نفس الحديث النبوي الشريف أيضا أن نبي الله نوحا عليه السلام تعرف على قصة الحسين عليه السلام و ملحمته الدامية في

و علينا أن ندرك هنا أن للرمز دورا هاما في قصة سفينة نبي الله نوح عليه السلام، و علينا أيضا أن نربط أحداث هذه القصة القرآنية مع الحديث النبوي الشريف الذي تتناوله كتب المسلمين عموما، و حتى كتب بعض المفكرين والأدباء المسيحيين أيضا، إنه ذلك الحديث النبوي المشهور الذي ردده الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في أكثر من مناسبة قائلا: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا، و من تخلف عنها غرق»(1).

و سنترك أمر الدراسة التحليلية المفضلة واستخلاص النتائج للقارئ اللبيب عساه أن يصل إلى شيء من الأسرار الثمينة والكنوز الدفينة.

و قبل أن نورد الآن النبوءة التي تلقاها سيدنا إبراهيم خليل الله علیه السلام عن جبرائیل علیه السلام حول فجيعة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله و سلم بسبطه الحبيب الإمام الحسين عليه السلام، دعونا نتكلم قليلا عن هذا النبي العظيم علیه السلام.

ولد النبي إبراهيم عليه السلام في بلدة فدام آرام في الدولة البابلية(2) زمن الملك الضال

ص: 377


1- راجع على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في: أ. الحافظ جلال الدين السيوطي (الشافعي)، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص 51. ب. العلامة الشيخ سليمان القندوزي (الحنفي)، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص26. ج . الحافظ ابن المغازلي (الشافعي)، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص132. د . الشيخ محمد بن علي الصبان (الشافعي)، إسعاف الراغبين، دار الفكر . بیروت، د.ت، ص120. و قد أوردنا الحديث المذكور أعلاه عن معنى سفينة نوح عليه السلام في أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم في فصل سابق من هذا الكتاب و قد ذكرنا العديد من المصادر السنية الأخرى التي ذكرته، لذا يرجى العودة إليه للاطلاع على المصادر الأخرى التي لم نكرر ذكرها هنا.
2- محمد أحمد جاد المولى ، قصص القرآن، دار الهجرة، 1984، ص31

نمرود بن کنعان بن كوش، و قد نصب ذاك الملك نفسه إلها على الناس و دعا الجميع إلى عبادته و تعظيمه.

أما إبراهيم عليه السلام فقد كان مشبع النفس بالإيمان بربه، و راجح العقل في دراسة الأمور والمسائل المصيرية الهامة، و لذلك فقد كان شديد الإيمان بما أوحي إليه، من بعث الناس بعد موتهم، و حسابهم في حياة أخرى بشكل عادل تماما، و قد طلب الآية البينة من ربه على البعث والنشور، فأعطاه الله عز وجل ما أراد.

و لم يبدأ إبراهيم بن تارخ عليه السلام دعوته مع قومه بتسفیه معبوداتهم و تحقير آلهتهم، بل اتبع معهم أسلوب الاستدراج المنطقي في الوصول إلى النتيجة المطلوبة، و كان مما فعله هو أنه حطم الأصنام التي يعبدها قومه، و عندما اتهموه بذلك العمل الذي هز كيانهم الروحي، قال لهم- على سبيل تنبيههم من غفلتهم- : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون!!

عندئذ، أدركوا في قرارة نفوسهم أنهم خسروا المعركة الإيمانية معه، لكنهم لم يستسلموا، فقرروا معاقبته عقوبة تتحدث عنها كل الأجيال اللاحقة، و بعد مشاورات طويلة وقع اختيارهم على إحراقه بنار عظيمة تلتهمه بثوان قليلة و ينتهي أمره.

و راحوا يجمعون الحطب الكثير طوال أيام و ليال، و جعلوا ذلك قربانا لآلهتهم، و نذرا لإرضائهم، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت نذرت قائلة لتلك الآلهة الصماء:

إن عوفيت، لأجمعن حطبا لحريق إبراهيم(1).

و بعد أن جمعوا أكداسة عظيمة من الحطب اللازم، أشعلوا النار فيها، فاضطرمت

ص: 378


1- نفس المصدر السابق ص 41.

و تأججت و علا صوت لهيبها كصوت الرعد القاصف، و عندها، ألقي إبراهيم في جحيم تلك النار المستعرة التي لا يرحم لهيبها بعضه بعضا. فماذا فعلت تلك النار المستعرة بإبراهيم علیه السلام؟

لقد أحرقت منه قيوده، فصار حرا طليقا، و أذهب الله منها حدتها و حرارتها، فصار الهيبها علیه بردا و سلامة.

لاريب في أن ما حدث آية كبرى و حجة عظمى لا تقل عن آیات و حجج بقية الأنبياء والمرسلين علیهم السلام.

و هنا، لنا أن نسأل مستفسرين: و هل كان إبراهيم عليه السلام على إطلاع مسبق بمجيء رسول في آخر سلسلة الرسل والأنبياء يدعى محمدا؟! .

و هل كان على معرفة أيضا بملحمة سبطه الخالدة التي تدمي قلوب الملائكة و تهز ضمير الكون على مر العصور؟!

و يأتي الجواب واضحا و صريحا: نعم، لقد كان إبراهيم عليه السلام على اطلاع مسبق بمجيء رسول کریم يدعى محمد صلی الله علیه و آله و سلم، شجرته خير الشجر، و عترته خير العتر.

وكيف لا يعرف إبراهيم عليه السلام بمجيء ذلك الرسول العظيم و هو النبي المعروف بلقبه المبارك (الخليل)، و هل يخفي الله سبحانه و تعالى عن خليله أمر مجيء الرسل والأنبياء عليهم السلام من بعده؟!

فهناك العديد من الرسل والأنبياء بعد إبراهيم عليه السلام و لا شك في أن الله سبحانه و تعالى قد أطلعه عليهم و على سيرتهم و أسرارهم و آثارهم.

و قد ورد عن أئمة الحق عليهم السلام قولهم: «اتَّخَذَ اللّهُ عز و جل إِبْراهِيمَ خَلِيلًا،

ص: 379

لِکثرَةِ صَلاتِهِ عَلی مُحَمَّدٍ و أهلِ بَیتِهِ صلوات الله علیهم»(1).

و قد جاء أيضا عن الإمام علي الرضا عليه السلام أنه قال: «لما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يذبح الكبش الذي نزل عليه بدلا من ابنه إسماعيل علیه السلام، تمنى إبراهيم عليه السلام أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده و أنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعز ولده عليه بيده فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله عز وجل:

-يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟

فقال: يا رب: ما خلقت خلق هو أحب إلي من حبيبك محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فأوحى الله إليه: أفهو أحب إليك أم نفسك؟

قال: بل هو أحب إلي من نفسي.

قال: فَوُلْدُهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ وُلْدُكَ؟

قال: بل وَلده.

قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا رب ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، إن طائفة تزعم أنها من أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما و عدوانا كما يذبح الكبش و يستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم بذلك، و توجع قلبه، و أقبل يبكي...»(2).

ص: 380


1- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط 1988/1 ، ج1 ص49.
2- توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص9.

و تأكيدا على ما جاء من قصة وحي الله سبحانه و تعالى لسيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام بشأن فاجعة كربلاء و مصاب الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده على يد طائفة تزعم أنها من أمة جده محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، فقد جاء في الروايات أن الله عز وجل أوحى إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مرة ثانية- عن طريق جبرائيل الأمين عليه السلام - أن کربلاء قادمة لا محالة و أن (یزید) اللعين هو الممثل لتلك الطائفة التي تزعم أنها من المسلمين.

فقد روي أن إبراهيم عليه السلام مر في أرض كربلاء و هو راكب فرسا، فعثر به و سقط، وشج رأسه و سال دمه، فأخذ في الاستغفار...

و قال: «إلهي أي شيء حدث مني؟».

فنزل إليه جبرائیل عليه السلام و قال: «يا إبراهيم، ما حدث منك ذنب، و لكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه»(1).

والحديث طويل نسبيا، و قد اقتصرنا على موضع الحاجة منه فقط.

و من الممكن هنا أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا التساؤل التالي:

ورد معنا في الصفحات السابقة من هذا الكتاب أن الكلمات الإلهية التي تاب الله سبحانه و تعالى بها على سيدنا آدم علیه السلام هي أهل البيت علیهم السلام، و قد وردت هذه الحقيقة الخالدة في العديد من كتب إخواننا السنة، والسؤال الآن هو:

هل هناك من علاقة بین کلمات سیدنا آدم عليه السلام و كلمات سيدنا إبراهيم علیه السلام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة البقرة: «وَإ ِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي

ص: 381


1- راجع ما جاء في (المنبر الحسيني)، العدد الثاني، مصدر سابق ص28.

الظَّالِمِينَ»(1)؟!

الجواب على هذا السؤال يمكننا الحصول عليه من العلامة (الحنفي) سليمان البلخي القندوزي الذي ذكر تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة في كتابه المعروف (ينابيع المودة): (هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، و هو أنه قال: یا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم)، وأكمل (القندوزي الحنفي) هذا الحديث بالقول إن المفضل سأل الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام عن معنى قوله تعالى: «فَأَتَمَّهُنَّ»، فأجابه الإمام الصادق عليه السلام: «يعني أتمهن إلى القائم المهدي اثنا عشر إماما، تسعة من ولد الحسين علیه السلام»(2).

و قبل أن نكمل حديثنا عن رحلة الرسل والأنبياء في أحداث فاجعة كربلاء، أود أن أؤكد على عدة نقاط هامة كنت قد ركزت عليها كثيرا في كتابي السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر).

و من جملة تلك النقاط التي أريد أن أؤكد عليها الآن هي مسألة فهم حقيقة الموقع الروحي للرسالة الإسلامية بين بقية الأديان، فالإسلام ليس رسالة سماوية مبنية على فراغ، و لا هو رسالة سماوية نزلت على الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم كي يلغي كل القيم والآداب والمعارف الواردة في الرسائل الأخرى التي سبقت رسالته.

فالإسلام رسالة تصحيح لا رسالة هدم و إلغاء لكل القيم السابقة، و لذلك، عندما ذكرت في كتابي السابق أن الشريعة الإسلامية هي خاتمة و تاج بقية الشرائع والرسائل،

ص: 382


1- سورة البقرة: الآية 124
2- سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص95.

فإنما قصد بذلك أن هذه الرسالة التي شبهتها بالتاج الذي يوضع على الرأس إنما هي ذات قدرة تصحيحية عالية الحيوية والفعالية من حيث دقة واستقامة ومجاراة تعاليمها للنفس الإنسانية عموما.

و ما يؤكد وجهة نظري هذه آراء و أقوال الكثير من المفسرين والأدباء الذين لا ينتمون إلى العقيدة الإسلامية سواء من المسيحيين أم من غيرهم.

و على سبيل المثال، يقول المفكر المصري المسيحية، الدكتور (نظمي لوقا) في كتابه ( محمد الرسالة والرسول): (لم يبق شك في أن رسالة الإسلام جاءت مناسبة لطور البشرية الطبيعي، جاءت رسالة الإسلام متلافية أوجه الغموض في العقيدة الإلهية و أوجه العسر والعنت و أوجه إغفال الدنيا و فطرة البدن والروح في كيان واحد)(1).

و من الواضح تماما أن رأي المفكر والأديب المسيحي اللبناني الأستاذ (سليمان كتاني) لا يختلف في مضمونه أبدا عن رأي أخيه في المسيحية، الدكتور المسيحي المصري (نظمي لوقا).

فالأستاذ (كتاني) يطرح على قارئه السؤال التالي:

من بإمكانه القول إن رسالة الإسلام صعبة الفهم و عصية المنال؟

و على ما يبدو، فإن الأستاذ (كتاني) يريد أن يوفر الوقت والجهد على قارئه، و لذلك فهو يختصر عليه الطريق بالقول مباشرة:

(أي شيء هي الرسالة غير التوحيد، غير نشر الخالق في المخلوق: عدلا: وحبا، و نبلا، و شکرانا، و وفاء، و وعدا بنعيم يستحقه الصادقون، و إنذارة بجحيم يشوى بها

ص: 383


1- د. نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، مصدر سابق ص104.

المارقون؟! أليست الأرض في مجموع أممها هي التي تبني إنسانها بمثل هذه الشرائع التي يسميها الناس مقدسة و هي - فعلا - مقدسة في بناء مجتمع الإنسان ؟!)(1).

و لكن ما يختلف فيه الأستاذ (كتاني) عن الدكتور (لوقا) في رؤيتهما الصائبة عن الإسلام هو أن الدكتور (لوقا) يتحدث في العموميات دون التركيز على الرموز الحقيقية الحية للرسالة الإسلامية، في حين أن الأستاذ (كتاني) لا يجد أي حرج في ذكر تلك الرموز المقدسة و في إعطائها، و لو شيئا، من حقها الذي حاول بعض المسلمين أنفسهم مصادرة ذلك الحق و دفنه تحت رمال صحاريهم الفكرية العقيمة.

و على سبيل المثال، عندما يتحدث الأستاذ (كتاني) عن معاني رسالة الإسلام و عن أهدافها و غاياتها، و عن الأشخاص الذين شقوا الطريق لها و حملوا راياتها بين الناس، نراه يشير إليهم بالتصريح لا بالتلويح، و بالعبارة لا بمجرد الإشارة، و ها هو يربط هنا بين الرسالة و بين أحد أهم رموزها و حملة راياتها، فيقول: (تلك هي الرسالة في تركيزها الفلسفي و في ميزانها الاجتماعي الرائع، و تلك هي التي نزلت نقشا في وجدان الحسين، والتهبت بها مشاعره- أما الذي أنزلها نقشا، و أججها لهبا في أسلاك النفس، فهو ذاته الذي اقتنصها من بحبوحة الفيض، و خص بها آل البيت ليكونوا ركيزة القيمومة، وعدة الإمامة في مطلع الغد)(2).

و من النقاط المهمة أيضا، والتي أريد أن أتوسع قليلا في الحديث عنها قبل أن تعود إلى موضوعنا الأساسي في هذا الفصل، و هو حديث الرسل والأنبياء عليهم السلام عن ملحمة كربلاء، هي نقطة خروج الحسين عليه السلام بأهله إلى ساحة الوغی و میدان الموت

ص: 384


1- سلیمان کتاني، الإمام زين العابدين عنقود مرصع، مصدر سابق ص59.
2- نفس المصدر السابق ص60.

مع أرجحية معرفته بما ستؤول إليه الأمور في نهاية الرحلة المريرة.

هذه النقطة بالتحديد يجب أن تعطي كامل أبعادها عند أي حديث عن الإمام الحسين عليه السلام أو عن نهضته، و خروجه إلى أرض كربلاء

و على الرغم من أننا ناقشنا هذه المسألة الهامة في الفصل السابق من هذا الكتاب، إلا أن الضرورة ذاتها تفرض علينا التوسع في الحديث عنها طالما أن لدينا الكثير من الآراء و وجهات النظر لرجال فكر و أدب من مختلف الأديان والأطياف.

فالكاتب المصري (محسن محمد) تناول مسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام بأهله إلى مصارعهم، و عمد إلى تحليل تلك المسألة بشكل موجز و دقيق، و قد لخص النتيجة الهامة التي توصل إليها بالقول:

(عز عليه - على الحسين - النصر العاجل... وابتغى النصر الآجل بعد موته.. ليحيي بذلك قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة... و قد رفض الحسين إلا أن يصحب أهله ليشهدوا الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرره دين و لا وازع من إنسانية، فلا تضيع قضية مع دمه المراق في الصحراء)(1).

فما هي القضية التي حملها الحسين عليه السلام و دافع عنها طوال حياته؟

و ما هي تلك القضية الجوهرية التي جعلت الإمام الحسين عليه السلام يضحي بكل ما يملك من غال و نفيس في سبيلها لدرجة أنه أصبح هو و ملحمته الحزينة الدامية حديثا مؤثرا و نبوءة أليمة في عالم الملائكة والرسل والأنبياء السابقين؟!

في الواقع، إن العقيدة النبيلة والقيمة الروحية السامية التي يحملها صاحبها يمكن

ص: 385


1- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، انتشارات الشريف الرضي .قم، 1417ه ص265.

أن تصهره و تتماهي معه لدرجة تجعله وحدة متلاحمة متكاملة مع كل معاني السمو والكمال.

و الإمام الحسين عليه السلام ، صاحب قيم و مبادئ، و هذه القيم والمبادئ منصهرة فيه و متماهي مع ذاته التي تمثل الانعكاس الصادق والصافي الشخصية جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لشخصية أبيه أيضا، الإمام علي المرتضی علیه السلام.

فالحسين عليه السلام من علي عليه السلام كشعاع الشمس من قرصها، والحسين عليه السلام من جده الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كمعنى الكلمة من حروفها(1).

و لذلك، فمن الطبيعي تماما أن يكون الإمام الحسين عليه السلام هو الامتداد الفكري والروحي لنور الرسالة المحمدية المؤيدة بحقيقة القدرة العلوية التي جاءت مع کل رسالة و رسول سرا، و لكنها جاءت مع رسالة محمد المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم جهرا، و قد عرفت عند الأمم والشعوب والأديان بأسماء مختلفة وألقاب شتی.

ألم يقل الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في حديثه النبوي الشريف:

«يا علي كنت مع كل نبي سرة و معي جهرا» ؟!(2)

ألم يؤكد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أيضا على جوهر هذا الحديث عندما خاطب المسلمين و أخبرهم أن الروح الأمين جبرائيل عليه السلام قد نزل عليه و خاطبه قائلا بلسان عربي مبين:

«الحق يقرئك السلام و يقول لك: إني لم أبعث نبيا قط إلا جعلت عليا معه سرا،

ص: 386


1- هذه العبارة، و كل عبارة أخرى تتحدث عن الحقيقة (المحمدية . العلوية) وردت في هذا الكتاب، أخذناها من كتابي المخطوط (مقدمة في معرفة أهل البيت عليهم السلام بالنورانية) الذي سيأخذ طريقه إلى النور في الوقت المناسب إن شاء الله تعالى.
2- العلامة الشيخ أحمد محمد حیدر، الحيرات، دار الشمال . طرابلس لبنان، 1991، ص178.

و جعلته معك جهرا» ؟!(1)

ثم، ألم يذكر العلامة الكبير والحجة المجاهد المرحوم (عبد الحسين أحمد الأميني النجفي) في كتابه الشهير (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) القصيدة المذهبية للشاعر (أبي محمد العوني)، من أعلام القرن الهجري الرابع، والتي يذكر فيها الكثير من الأسماء والألقاب والصفات التي عرف بها أمير المؤمنين علي عليه السلام عند مختلف الأمم والأديان والشعوب(2) مما يؤكد على عظمة مكانته و على قدم و جوده النوراني المتماهي أساسا مع النور المحمدي، على هيئة نور واحد، و هو أول و أعظم خلق الله في عالم الأنوار؟!

و لذلك، فالإمام الحسين عليه السلام حمل لواء الدفاع عن رسالة ذلك النور الإلهي الخالد الذي شاء الله سبحانه و تعالى أن يكون نورا رسالیا و حبلا إلهيا متينا يصل الخلافة الآدمية على الأرض بأبواب الفردوس في السماء

فالإمام الحسين عليه السلام قبل، من خلال مسيرته الفدائية الدامية، أن يصافح السيوف بيده و قلبه، و أن يعانق الرماح بصدره و نحره، و قدم القرابين تلو القرابين من أجل عقيدة أبيه عليه السلام وجده صلی الله علیه و آله و سلم، تلك العقيدة التي تمثل في حقيقتها و جوهرها رسالة جميع الشرائع والأديان التي جاء بها و دعا إليها جميع الأنبياء المرسلين.

نعم، إن الكاتب والأديب المسيحي (نصري سلهب) يقول عن سيد و معلم الشهداء، الإمام علي علیه السلام: «... أما علي، فقد خلقه الله ليكون الشهيد، أبا الشهداء،

ص: 387


1- الحافظ رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط10، د.ت ص85.
2- العلامة عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، دار الكتب الإسلامية . طهران، 1374ه.ش، راجع القصيدة المذهبة في الجزء الرابع من ص 131 حتى ص137.

غاسلي الأرض من أرجاسها بدمائهم، فاتحين في السماء أبوابا ليدخلها المؤمنون أفواجة»(1)، نعم، إن دماء معلم الشهداء علي عليه السلام قد غسلت الأرض من أرجاسها و نصبت للأرواح الطاهرة التقية معراج الخلاص و رسمت لها طريق الوصول إلى حظيرة القدس الإلهي.

و ما كان للإمام الحسين عليه السلام إلا أن يسير على طريق معلمه و قائده و أبيه و سیده، أمير المؤمنين علي علیه السلام في تلوين صدر السماء باللون الأحمر القاني إيذانا منه بأن اللون الأحمر هو اللون الأكثر قدرة على اختراق زرقة السماء، و أنه هو أيضا اللون الذي يشكل الخط الأكثر استقامة و قصرة في وصول الفراشة العاشقة المتعبة إلى حمی مصباح العشق الإلهي ذي الشعلة الأزلية الخالدة.

إن هذه الحقائق عن معاني الرسالة الإسلامية و عن فلسفة أهل البيت عليه السلام في فهم الحياة بطرفيها المادي العملي والروحي المعنوي هي التي دفعت بالكثير من أئمة الفكر والثقافة إلى تقديم فروض الاحترام للإسلام الذي مثله أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم خير تمثيل.

فالمهاتما (غاندي) الذي عشق فلسفة الإمام الحسين عليه السلام في معنى السلام والثورة -و هذا ما سنتحدث عنه بإسهاب و تفصيل في الفصل الأخير من هذا الكتاب- قدم فروض الاحترام والتقدير للإمام الحسين عليه السلام من جهة، و للينبوع الذي استقى منه الإمام الحسين عليه السلام مبادئه و قيمه من جهة أخرى.

و ها هو المفكر الهندي الهندوسي (ج.ن. راغهافان) يقول عن المهاتما العظيم (غاندي): (و إن كان غاندي هندوسيا من أعمق أعماق وجوده، فهو لم يكن ممارسا

ص: 388


1- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص382.

العقيدة أو طقوس أو تقاليد دينية معينة)(1).

فماذا يعني هذا الكلام؟

يعني هذا الكلام - و كما يقول، هذه المرة - غاندي نفسه-: (كل الأديان عزيزة علي مثل هندوسيتي، أنا أحترم العقائد الأخرى مثل احترامي لعقيدتي)(2)

و بالفعل، فإن ذلك الزعيم الهندوسي الكبير كان يحترم العقائد والأديان، و كان يظهر احترامه و تقديره للإسلام من خلال كتاباته و من خلال خطبه و أقواله، هذا بالإضافة إلى أن هناك العديد من المواقف العملية التي عاشها قد أثبتت حبه و احترامه للرسالة الإسلامية بشكل كبير و واضح.

و يكفي أن نذكر من هذه المواقف المشهودة أن (غاندي) عندما أودعوه السجن و بات أسيرة وراء القضبان، كان يمضي وقته بقراءة كتاب (الجيتا) الهندوسي صباحا، و كان يمضي فترة الظهر بقراءة آيات عديدة و سور من القرآن الكريم باللغة الإنكليزية(3).

فهل كان ذلك الزعيم الهندي الهندوسي يقوم بذلك إلا من منطلق الاحترام والتقدير لرسالة الإسلام عموما، و للإمام الحسين عليه السلام خصوصا بعد أن رأى فيه المثل الأعلى بين المسلمين جميعا؟!

فمعظم الذين درسوا سيرة حياة (غاندي) و قاموا بتحليلها بشكل مفصل و دقيق، معتمدين في ذلك على أحداث حياته و على أعماله و أقواله، توصلوا إلى القول في نهاية دراستهم: (و هكذا تأثر محرر الهند بشخصية الإمام الحسين تأثرا حقيقية، و عرف

ص: 389


1- جین راغهافان، تقديم الهند، مصدر سابق ص86.
2- نفس المصدر السابق ص86
3- لويس فيشر، غاندي الثائر القديس، مصدر سابق ص81.

أن الإمام الحسين علیه السلام مدرسة الحياة الكريمة و رمز المسلم القرآني، و قدوة الأخلاق الإنسانية، و قيمها، و مقياس الحق)(1).

و لاريب في أن المهاتما (غاندي) كان محقا تماما في اعتبار الإمام الحسين علیه السلام رمز المسلم القرآني، و قدوة الأخلاق، و مقياس الحق بين الخلق، فالإنسان المثقف فكريا والمستنير روحية، سواء كان مسلما أم مسيحيا أم هندوسيا أم حتى غير ذلك، سيدرك بعقله و في قرارة نفسه أن الإمام الحسين عليه السلام كان حقا كذلك مثلما وصفه الزعيم الهندي (غاندي).

فالإمام الحسين عليه السلام، بإيمانه و أخلاقه و مبادئ نهضته، كان حجة عظيمة لله على خلقه، و لذلك، فإن الله سبحانه و تعالی عرف الرسل والأنبياء السابقين عليهم السلام بالحسين عليه السلام ، و عرفهم أيضا على ما سيحدث له قرب الفرات على رمال كربلاء.

و يمكننا أن نقف على هذه الحقيقة الثابتة من خلال بعض خطب الإمام الحسين علیه السلام التي قالها قبيل استشهاده بزمن قصير.

فالإمام الحسين عليه السلام يرد على من طلب منه عدم الخروج إلى كربلاء قائلا:

و إذا أقمت مكاني، فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس، و بماذا يختبرون، و من ذا يكون ساکن حفرتي بكربلاء، و قد اختارها الله يوم دحي الأرض و جعلها معقلا لشيعتنا، و تكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة؟!(2).

و لذلك، فالعبارة التي ذكرها المستشرق الإنكليزي (دوایت رونلدسن)، والتي يقول عنها إنها مكتوبة على ضريح العباس عليه السلام في كربلاء، هي عبارة ذات دلالة

ص: 390


1- عبد الله عدنان المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد (50) إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، عدد تموز وآب، 1993، ص44.
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين عليهه السلام على طريق الشهادة، مصدر سابق ص75.

عميقة على معرفة عالم الملأ الأعلى بأحداث الملحمة الحسينية الخالدة.

فالعبارة المنقوشة على الضريح تقول مخاطبة كل زائر لتلك البقعة المقدسة: (لا تتبختر على هذه الأرض التي طالما عفر بها الملائكة والملوك جباههم)(1).

و بالتالي، يمكننا القول إنه مثلما أن الرسل عليهم السلام هم حجج الله على خلقه من خلال رسالاتهم، فالإمام الحسين عليه السلام هو أيضا حجة بليغة لله على خلقه من خلال خروجه و نهضته و طلب الإصلاح في أمة جده صلی الله علیه و آله و سلم.

و من الدلائل القوية على صحة هذا الكلام، هو الحديث الهام الذي تناقلته كتب إخواننا السنة عن جزاء من رأى الحسين عليه السلام في كربلاء و لم ينصره.

فقد روى الشيخ (عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي) في كتابه (الحسين (رضي الله عنه) حفيدا و شهيدا)، نقلا عن (ابن عساكر الشافعي)، حديثا هاما مرفوعا إلى هرثمة بن سلمي، قال فيه: خرجنا مع علي في بعض غزوه فسار حتى انتهى إلى کربلاء، فنزل إلى شجرة فصلى إليها (أي إلى جانبها)، فأخذ تربة من الأرض فشمها ثم قال: «واها لك تربة ليقتلن بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب».

قال: فقفلنا من غزواتنا، و قيل علي، و نسيت الحديث، قال: و كنت في الجيش الذي ساروا إلى الحسين، فلما انتهيت إليه نظرت إلى الشجرة، فذكر الحديث، فتقدمت على فرسي لي، فقلت: أبشرك يا بن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحدثته الحديث، قال: معنا أو علينا؟ قلت: لا معك و لا عليك، تركت عیالا و...

قال: أما لا، فول في الأرض، فوالذي نفس حسين بيده لا يشهد قتلنا اليوم رجل

ص: 391


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشريعة، مصدر سابق، ص111.

إلا دخل جهنم، قال: فانطلقت هاربة موليا في الأرض حتى خفي علي مقتله(1).

و نحن، بالإضافة إلى صاحب كل عقل سليم و منطق قويم، لا نشك طرفة عين في صدق قول الإمام الحسين عليه السلام : «لا يشهد قتلنا اليوم رجل إلا دخل جهنم»، و ذلك لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، و لأن لقاء الإمام الحسين عليه السلام بالجيوش الأموية الجرارة التي أرسلها يزيد لقتاله، هو صورة مستنسخة عن لقاء الإمام علي عليه السلام مع عمرو بن ود العامري، ذلك اللقاء التاريخي الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قولته المشهورة والتي يعترف بها المفكرون والأدباء المسيحيون مثلما يعترف بها المفكرون والأدباء المسلمون.

إنها العبارة النبوية الخالدة التي تصف خروج الإمام علي عليه السلام إلى لقاء عمرو بن ود العامري: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»(2).

فالإمام الحسين عليه السلام ، مثله مثل أبيه وجده صلی الله علیه و آله و سلم، إيمان كله، و بالمقابل أيضا، یزید، مثله مثل أبيه وجده، شرك كله، و لذلك، فمن الطبيعي تماما أن يدخل النار كل من شهد الإمام الحسين عليه السلام في محنته و لم ينصره على أهل الكفر والشرك.

والمتعمقون في دراسة شخصية الإمام الحسين عليه السلام و في تحليل مبادئ و خطوات نهضته، يدركون أنه استطاع بفضل إيمانه و صبره و مبادئ نهضته الإنسانية إقامة الحجة الدامغة على أعدائه بشكل يحتم عليهم دخول النار و لقاء مصيرهم الأسود هناك.

فالإمام الحسين عليه السلام، حتى في اللحظات الأخيرة قبل دخول میدان القتال،

ص: 392


1- الشيخ عرفان بن سليم حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص72.
2- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص129.

يقف أمام جموع جيوش الأعداء و يخاطبهم مذكرا إياهم بهويته و حقيقته عسى أن يعودوا إلى رشدهم و صوابهم و عسى أن ينجوا من إقامة الحجة عليهم.

فها هو عليه السلام يقف في مواجهتهم رافعا صوته بالقول الواضح المبين:

«أنشدكم الله هل تعرفونني؟».

قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و سبطه.

فقال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب علیه السلام؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت رسول الله؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: « أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلام؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا مُتَقَلِّدُه؟».

قالوا: اللهم، نعم.

ص: 393

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن عليا كان أول القوم إسلامة، و أعلمهم علما، و أعظمهم حلما، و أنه ولي كل مؤمن و مؤمنة؟».

قالوا: نعم.

قال: «فم تستحلون دمي و أبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، و لواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!».

قالوا: قد علمنا ذلك كله و نحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا(1).

و بالفعل، و كما سنرى لاحقا، فإنهم لن يتركوه حتى يذيقوه الموت مرارا و مرارا، و ما الموت عطشا إلا ميتة من الميتات التي تفتقت عنها العبقرية الأموية.

و لسنا وحدنا الذين نقول ذلك عن بني أمية، و حكوماتهم الجائرة، بل إن الكثير من المستشرقين يوافقوننا الرأي بشأن تلك المسألة التي باتت من البديهيات عند الجميع.

فالمستشرق الإنكليزي (رینولد ألين نيکلسون) (R. Nicholson) (1868 - 1945)، ذلك المستشرق الذي أتقن اللغتين العربية والفارسية، و برع في دراسة علم التصوف الإسلامي، و كتب كتاب (متصوفو الإسلام) و (تاریخ الآداب العربية) و ترجم (المثنوي) لجلال الدين الرومي، قد کان له وجهة نظر ثاقبة في فهم حقيقة الحكام الأمويين و في فهم و تحليل الأسس التي قامت عليها إمبراطوريتهم الآثمة.

و ها هو يشاطرنا الرأي بشأن بني أمية قائلا: (و كان الأمويون في نظر الدین طغاة

ص: 394


1- الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين قتيل العبرة، دار الذخائر . قم، 1411ه، ص63.

مستبدين لانتهاكهم قوانين الإسلام و شرائعه، و امتهانهم لمثله العليا و وطئها بأقدامهم... و على هذا الأساس يحكم التاريخ، بحق، بإدانة الأمويين (في مصرع الحسين))(1)

و عندما يحدثنا المفكر الفرنسي المعاصر (جان موریون) عن رأي المستشرق الشهير (لويس ماسينيون) (L.Massignon)، الذي عرفنا به سابقا، حول حقيقة الحكومات الأموية المتعاقبة، نستطيع أن نقف على رأي الأستاذ (ماسينيون) بوضوح لا لبس فيه.

فالمستشرق (ماسینیون) الذي أفنى سنوات طويلة من نعمره في دراسة الإسلام و تاريخه، استطاع أن يتوصل إلى الكثير من الحقائق التي تحتاج إلى جرأة في الإعلان.

فالمذهب الشيعي ازداد تألقا و ثباتا بسبب دم أولئك الشهداء من أهل البيت علیهم السلام، والمذهب الشيعي، بالنسبة لماسینیون، بريء من التهم القذرة التي يحاول البعض إلصاقها به للنيل منه و من حملته، و ليس هذا فحسب، بل إن (ماسینیون) قد أفرد مكانا بارزة للفكر الشيعي الذي ينتظر أتباعه مجيء الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الذي يحكم بالعدل و ينتقم، بحق، لمجزرة كربلاء(2) و شهدائها الذين قضوا في سبيل الحق والخير والفضيلة.

فالإمام الحسين عليه السلام ، الذي تنبأت و تحدثت كل الملائكة والأنبياء المرسلین عن ملحمته التراجيدية الدامية، كان يمثل دور السفير إلى الجنة، في حين أن یزید بن معاوية كان، بالمقابل، يمثل دور الشيطان الذي هو السفير إلى جهنم

ص: 395


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص64.
2- جان موريون، لويس ماسينيون، مصدر سابق ص72.

و عندما يكون الإمام الحسين عليه السلام السفير إلى الجنة، و يزيد السفير إلى جهنم، فما على المرء إلا أن يختار طريقه الخاص إلى إحدى السفارتين المذكورتين.

و حتى لا يتهمنا أحد من القراء بالابتعاد عن محور بحثنا المتعلق بنبوءات الأنبياء والرسل عليهم السلام بملحمة الحسين و أهل بيته عليهم السلام، نرى من الواجب علينا الآن أن نعود مباشرة إلى محور البحث الأساسي وأن نكمل الحديث عن بقيةالرسل والأنبياء و ما عرفوه عن تلك الملحمة الإنسانية الخالدة.

فالنبي موسى عليه السلام واحد من أنبياء بني إسرائيل، و هو واحد من أولي العزم من الرسل، و قد بعثه الله في بني إسرائيل بعد أن تمادى فرعون مصر في غيه، و علا في الأرض و سفك الكثير من دماء الأبرياء، و دعا الناس إلى عبادته والسجود له(1).

و في أحد الأيام، يذهب أحد الكهان إلى فرعون و يقول له محذرا: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده.

و يجن جنون فرعون، و يأمر شرطته أن يذبحوا كل مولود يولد في بني إسرائيل، فذبح ألوف من الأطفال أمام عيون آبائهم و أمهاتهم، و كان اليوم الذي يولد فيه مولود في بني إسرائيل يوم تعزية و رثاء و يوم حزن و بلاء.

و أراد الله أن يقع ما كان فرعون يخافه و يحذره، فولد موسی بن عمران علی رغم فرعون و جنوده، و لكن الله سبحانه و تعالى أوحي إلى أم موسى أن تضعه في صندوق و تلقيه في النيل و بعد فترة يصل الصندوق إلى قرب قصر الفرعون، فتأخذه زوجة الفرعون و تربيه حتى يصبح شابا، و تشاء الأقدار أن يقتل موسى أحد المصريين عن غير قصد، فيهرب بروحه إلى أرض مدين، و هناك يتزوج موسی من إحدى بنات

ص: 396


1- أبو الحسن الندوي، قصص النبيين، مؤسسة الرسالة . بيروت، ط/20، 1996، ص144.

شعیب، و بعد أن يقضي الأجل، يسير موسى بأهله خارج مدين وسط البرد والظلام، و عندما أراد موسى عليه السلام أن يلتمس لأهله نارا، بدأت معه قصة الوحي والرسالة، و بدأ معه التكليف العملي القائم على إنذار فرعون و إيقافه عند حده، و بعد أن كان ما كان من قصة موسى عليه السلام مع سحرة فرعون و إيمانهم بدعوته و بدء الصراع بين موسی و فرعون ما نتج عنه من هرب موسى علیه السلام بأتباعه و وصولهم إلى شاطئ البحر الأحمر، و لحاق فرعون به و غرقه مع جنوده و انتهاء أمرهم للأبد، تبدأ مشاكل موسی عليه السلام و أخيه هارون عليه السلام مع بني إسرائيل أنفسهم.

و بسبب خذلانهم لموسى و لأخيه موسی علیه السلام و عدم الاستجابة لهما بدخول مدينة (أريحا) لإخراج الحثيين والكنعانيين منها، فإن الله يبتليهم بالتيه في الصحراء أربعين عاما، و لا يخفى على القارئ المطلع أن هناك الكثير من القصص عن موسی و بني إسرائيل، و قد ذكر القرآن الكريم قصصا عديدة من سيرة حياته علیه السلام، كقصته مع الخضر عليه السلام، و قصته مع بقرة بني إسرائيل، و قصته مع قارون، و قصته مع عبدة العجل من بني إسرائيل، و إلى غير ما هنالك من القصص والأحاديث.

و يكفي أن نقول إن العلاقة الروحية الإيمانية بين موسى عليه السلام و أخيه هارون عليه السلام كانت علاقة مميزة قل نظيرها في مسيرة الرسل والأنبياء، و لذلك فعندما أراد الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم أن يبين للناس مدى عمق العلاقة الإيمانية النورانية بينه و بين الإمام علي عليه السلام ، خاطبه أمام الناس قائلا عند الخروج إلى غزوة تبوك:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).

ص: 397


1- راجع، على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في الكتب التالية عن الحديث المذكور: أ. محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق ج3 ص104. ب. الحافظ الخطيب ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص36. ج. الإمام الشيخ ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مصدر سابق ص42. د. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق ص28. ه . الإمام العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مصدر سابق ص88. و. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق ج2 ص301. ز . مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة بولاق . مصر، 1292ه. (باب فضائل الصحابة) و قد جاءت روايته بعدة طرق. ح. محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، المطبعة الخيرية بمصر، 1320ه، راجع باب (کتاب بدء الخلق) و قد ورد الحديث بطرق عديدة. ط . الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك الصحيحين، طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد دکن، 1324ه، ج2 ص337. ي. مسند الإمام أحمد بن حنبل، مصدر سابق ج 1 ص 173 (رواه بطرق عديدة) ك . الحافظ النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص14. ل. عبد الرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين، مكتبة غريب. القاهرة، د.ت ج1 ص27. م. أحمد مظهر العظمة، علي بن أبي طالب، مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، طبع عام 1959، ص34. ن. محمد إبراهيم الأحمد، رابع الخلفاء علي بن أبي طالب، دار الرضوان . حلب، 2004، ص 41. س . نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص74.

و يعتبر هذا الحديث النبوي الشريف من أعظم الحجج والأدلة على أن الإمام عليا عليه السلام هو الخليفة الحقيقي والشرعي للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فكما أن موسی استخلف أخاه هارون عليه السلام على قومه من بعده، فكذلك الحال بالنسبة لاستخلاف الإمام علي عليه السلام على أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم من بعده.

و على كل حال، ما يهمنا الآن، هو أن موسى عليه السلام الذي ذاق الأمرين من قومه

ص: 398

هو و أخوه هارون علیه السلام، كان على معرفة بمجيء رسول من بعده يدعى محمدا صلی الله علیه و آله و سلم، و كان على معرفة أكيدة بما سيحدث له و لذريته الطاهرة أيضا.

و قد روي أن موسى عليه السلام كان ذات يوم سائرا و معه يوشع بن نون عليه السلام، فلما دخلا أرض العراق و مرا بأرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، و دخل الحسك (نوع من الأشواك النباتية الحادة) في رجليه، و سال دمه، فقال: إلهي، أي شيء حدث مني؟

فأوحى الله إليه أن ها هنا يقتل الحسين عليه السلام و هنا يسفك دمه، قال دمك موافقة لدمه.

فقال موسى عليه السلام : «رب، و من يكون الحسين؟».

فقيل له: «هو سبط محمد المصطفی، وابن علي المرتضی».

فقال: «و من يكون قاتله؟».

قيل له: «هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء».

فرفع موسی یدیه و لعن یزیدا و دعا عليه و أمن يوشع بن نون على دعائه و مضى لشأنه(1)

و بالطبع، ليس نبي الله موسى عیه السلام هو آخر الرسل والأنبياء معرفة بمصير سبط الرسول الأخير صلی الله علیه و آله و سلم إلى الأسرة الآدمية، فهناك أيضا العديد من الرسل والأنبياء الذين

ص: 399


1- راجع: أ. العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، دار الكتب الإسلامية . طهران، 1365ه، الجزء 44، راجع الباب المخصص بالكامل عن حديث الرسل والأنبياء عليهم السلام عن الحسین علیه السلام ب. توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص10. ج. المنبر الحسيني، مصدر سابق ص30.

عرفوا الكثير من الحقائق عن محمد صلی الله علیه و آله و عن أسرار أهل بيته الأخيار الأطهار علیهم السلام .

فالنبي سليمان الحكيم عليه السلام ، شأنه شأن موسى و إبراهيم و آدم وغيرهم من الرسل و الأنبياء عليهم السلام، كان من العارفين بما ستؤول إليه الأمور في عصر الرسول الأخير صلی الله علیه و آله الذي سيلاقي من قومه ما لم يلقه قبله أي رسول آخر.

و من المعروف عن النبي سليمان عليه السلام أن الله سبحانه و تعالى قد منحه الذكاء و الفطنة، و إصابة الحكم منذ صباه، و قد جمع الله له الملك و الحكم و النبوة.

و من نعم الله عليه أيضا أن الريح الشديدة صارت مسخرة له، تحمل بساطه و تجري بأمره إلى الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، فتستغرق وقت الذهاب مسيرة شهر، و مثلها في وقت الرجوع.

و قد ذكر القرآن الكريم أن بعض الشياطين أصبحوا تحت سيطرته و إمرته، فيغوصون له في البحار و يستخرجون اللآلى و الأحجار الكريمة النادرة، و يعملون له العديد من الأعمال الغريبة الأخرى التي يعجز الإنسان العادي عن الإتيان بمثلها.

و قد بين لنا القرآن أيضا أن الله أسال لسليمان (عين القطر) و هو النحاس المذاب(1) و مثلما سخر الله له بعض الشياطين لخدمته، سخر له أيضا الجن ليعملوا له ما يشاء من المباني العظيمة و التماثيل و القدور الكبيرة جدا لصنع الطعام فيها للضيوف و المحتاجين.

و من نعم الله عليه أيضا، علمه بمنطق الطیر عامة، و بمنطق بعض المخلوقات الأخرى، و باختصار شديد، كان سليمان عليه السلام نبيا لا يمكن وصف حاله لكثرة الهبات و النعم الإلهية التي أغدقها الله عليه.

ص: 400


1- علي فكري، أحسن القصص، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط5/1975، ج1 ص137.

و قد جاء في الروايات عن هذا النبي العظيم عليه السلام أنه كان في أحد أسفاره جالسا على بساطه و البساط يسير به في الهواء، فمر به البساط فوق أرض كربلاء، فاضطرب البساط، و أدارت الريح بساطه ثلاث دورات، حتى خاف سليمان عليه السلام و من معه السقوط، فسكنت الريح و نزل البساط في أرض کربلاء...

فقال سليمان للريح (و في الحقيقة للملك الموكل بالريح): «لم سکنت؟».

فقالت: إن هنا يقتل الحسين علیه السلام .

فقال: «و من يكون الحسين؟»..

قالت: هو سبط محمد المختار، و ابن علي الكرار.

فقال: «و من قاتله؟».

قالت: لعين أهل السماوات و الأرض یزید، فرفع سليمان يديه و لعنه و دعا عليه، و أمن على دعائه الإنس و الجن، فهبت الريح و سار البساط(1).

و هنا أريد أن أعود و أؤكد على مسألة حساسة لا يمكن تجاوزها أو، على الأقل، تجاوز الإشارة إلى خطوطها العريضة و العامة، إنها مسألة (الرمزية) في الروايات و الأحاديث الدينية.

فمنذ أن أدرك الإنسان ذاته و محيطه، و منذ أن عرف الأنواع البدائية من الفنون و الآداب، و حتى الطقوس و العبادات الخاصة، كان ميالا إلى استخدام الرمز في مختلف فعالياته الفكرية و الروحية، و قد استمرت هذه الحالة معه عبر العصور و الأجيال، و عبر مختلف الديانات الوضعية و السماوية، بما في ذلك الديانة الإسلامية،

ص: 401


1- المنبر الحسيني ، مصدر سابق ص30، و قد جاء في نهاية الرواية أن هذا الحديث مأخوذ عن كتاب (البحار) دون تحديد الجزء، و لكن من المؤكد أن الرواية مأخوذة من الجزء /44/ من الكتاب المذكور لمؤلفه العلامة (المجلسي).

و قد تنبه الكثير من الباحثين في مجال علم دراسة الإنسان (Anthropology) و علم اللاهوت (Theology)، و حتى علم الأساطير (Mythology) إلى الدور الكبير الذي يلعبه الرمز في حياة الإنسان على كافة المستويات، و بشكل خاص المستويين الأدبي و الروحي.

فالرمز يمكن أن يكون حرفا، و يمكن أن يكون رقما أو إشارة، أو حتى لونا، و يمكن للرمز أن يتحول من حالة الحرف إلى حالة النص الكامل سواء في الحديث أو القصة أو المسرحية، و يمكن للإشارة أو اللون أن يتحول من مجرد إشارة مفردة أو لون أصم إلى لوحة فنية كاملة مليئة بحيوية الألوان و الرموز.

و نحن نعلم أن العصر الحديث قد أفرز و بلور العديد من المدارس الرمزية التي تتناول جوانب مختلفة من ميادين العلوم الإنسانية كالرسم و النحت و الشعر و القصة و المسرح، و قد أفرز أيضا بعض التيارات الفكرية و الفلسفية و الروحية التي تميل إلى النزعة الصوفية القائمة أساسا على تقدير الرمز و احترامه و إعطائه القيمة الفكرية الكبرى باعتباره أحد الطرق الأساسية للوصول و الوقوف على الحقائق العليا في الوجود.

و على سبيل المثال، يقول الباحث السوري (صهيب سعران) في كتابه (مقدمة في التصوف): (القرآن و عوالمه اللانهائية كان الأساس الذي قامت عليه الرمزية في الفكر الإسلامي بشكل عام، و الغنوص الشيعي، و من ثم الصوفي بشكل أكثر خصوصية).(1)

و من أجل إزالة أي نوع من الالتباس أو سوء الفهم حول قوة الرمز و تأثيره، ها هو يوضح معنى العمق الروحي و المعرفي للكلمة (الرمز) في القرآن الكريم ذاته، بقوله:

ص: 402


1- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة. دمشق، 1989، ص026

(فالكلمة في الإسلام، مصدر وحي و إلهام، نور يمد قلب المسلم بينابيع الحكمة، إنها طريق وصول إلى عين اليقين لأن القرآن، و هو المصدر الروحي الأكبر للمسلم، هو اللوح المحفوظ الذي حطت عليه الإرادة الإلهية كلمتها، بل إن الإعجاز القرآني الغنوصي احتوى سرية الكلمة في الحرف (مفاتيح السور: آلم، آلر، طسم...)(1).

و انطلاقا من هذه الحقيقة الثابتة، نستطيع القول إن القصص و الروايات العديدة الواردة في القرآن الكريم عن الرسل و الأنبياء السابقين عليهم السلام و عن الأمم و الشعوب الغابرة لها أكثر من عمق في المعاني و الدلالات، و بالتالي، يجب علينا عدم التوقف و الثبات عند المعنى الظاهري لها فقط.

و على كل حال، ربما سيكون لنا عودة ثانية لإكمال الحديث عن هذه المسألة الحساسة و التي هي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من علوم دراسة الكلمة القرآنية المخاطبة العقول البشرية على مختلف مستوياتها الفكرية و استعداداتها الروحية.

و حتى لا نسهب كثيرا في الكلام حول هذه المسألة هنا، دعونا الآن نكمل رحلتنا الشيقة و المثيرة لكوامن النفس، تلك الرحلة التي نخترق من خلالها حجب الزمن الغابر کي نلتقي بالرسل و الأنبياء عليهم السلام الذين هم بدورهم اخترقوا حجب الزمن المستقبلي القادم كي يروا و يعلموا ما سيحدث لسبط آخر نبي على وجه هذه الأرض المثقلة بالهموم و الأحزان، و التي لا يزال قابيل يقتل فيها أخاه المظلوم هابيل في كل مكان و زمان.

و ها نحن الآن نقلب صفحات الماضي و نطوي الأيام و الأعوام و القرون، و ها نحن نصل أخيرا بعد طول العناء، و نحط رحالنا قرب نبی کریم من أنبياء الله يدعى

ص: 403


1- نفس المصدر السابق ص25.

(إسماعيل بن حزقیل)، إنه نبي بعثه الله في قومه يدعوهم ليلا و نهارا إلى عبادة الله الواحد القهار و الحليم الغفار، و يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يذكرهم باليوم الذي لا ينفع فيه مال و لا بنون إلا من يأتي الله بقلب سليم.

فماذا كانت عاقبة ذلك النبي في قومه؟

و كيف كان رد فعله على ما قاموا به ضده؟ و كيف واسی نفسه على كل ما لاقاه من قومه الظالمين؟

إن الجواب على ذلك كله موجود عند الإمام الصادق علیه السلام الذي يخبرنا قائلا: «إن إسماعيل الذي قال الله عزوجل في كتابه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا»(1)، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عزوجل إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه، فأتاه ملك، فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين علیه السلام»(2).

نَعَم، نِعمَ الأسوة الحسين علیه السلام، ليس للناس العاديين فحسب، بل أيضا لكل الرسل و النبيين، فالحسين علیه السلام مصباح تألقت شعلته في أرض كربلاء، فأضاءت بنورها عوالم السماء.

و ها هو الفكر الإسلامي السني المعاصر يصور هذه الحقيقة المؤكدة بطريقة تراجيدية مهيبة و كأنها جزء من مسرحية كونية كتبتها السماء بقطرات من المطر و الندى، فحولتها الأرض إلى قطرات من الدموع والدماء.

ص: 404


1- سورة مريم: الآية54.
2- الشيخ الصدوق (ابن بابويه القمي)، علل الشرائع، مصدر سابق ج1 ص98.

هذا هو الفكر السني الحر يقول:

و بينما الحسين في سبحاته القدسية و نجواه المائجة بروح الاصطفاء، تبدی لناظريه في وجهة قلبه أطياف يشتملها الرضى و تلفعها نشوة الاغتباط، و هي تبارکه و تشد عزمه و تهيب به إلى الوثبة، الوثبة الكبرى، فهتف مستبشرا:

«رباه! ماذا أرى؟ إنها أطياف جدي المصطفى، و أبي الشهيد، من ورائهما الملائك تدعوني إلى الله، إلى التضحية العظمى».

كان الكبش، في يوم، فداء نبي...

و لكن النبي الأعظم، إنما يكون له الفداء الأعظم...

و حبيب إلى نفسي أن أكون ذلك الفداء...)(1).

ألم يقل الفكر السني المعاصر، و هذه المرة، على لسان العالم الأزهري الفذ (خالد محمد خالد):

إن أهل البيت عليهم السلام جميعا لم يأتوا إلى الوجود إلا من أجل فداء رسالة سید الوجود!!

ألم يقل عنهم أيضأ ذلك القلم النابض بالحب و الوفاء:

(لقد كرسوا حياتهم للحق، أعظم ما يكون التكريس...

و ضحوا في سبيله، أصدق ما تكون التضحية...

... إنهم للتضحية خلقوا.. و للفداء عاشوا..)؟!(2)

فهل هناك أدنى شك أو ريب في هذا الكلام العذب المتدفق من يراع کریم

ص: 405


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص553.
2- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص 20،21.

أخلص الود لأهل المودة عليهم السلام عند حديثه عن معاني البطولة و التضحية و الفداء؟!

فالبطولة عند أهل البيت علیهم السلام ليست فقط أن تحمل السيف و تصرع الأبطال الواحد تلو الآخر، و لا أن تبدد جموعهم و تفتك بهم كما يفتك الأسد القسورة بالفرائس المستنفرة، و لكن البطولة الحقيقية هي أن تسخر قوة السيف من أجل سلامة المبدأ و نبالة العقيدة، البطولة الحقيقية هي أن تثبت على ما أنت عليه من الحق و لو كلفك ذلك خوض اللجج و سفك المهج.

البطولة الحقيقية هي أن تدخل في الحياة على الأرض من الباب الضيق، و من بعده تعرج بروحك عاليا لتدخل أوسع الأبواب في مملكة السماء.

فالسيد المسيح عليه السلاميقول: «ادخلوا من الباب الضيق، فما أوسع الباب و أسهل الطريق المؤدية إلى الهلاك، و ما أكثر الذين يسلكونها، لكن ما أضيق الباب و أصعب الطريق المؤدية إلى الحياة، و ما أقل الذين يهتدون إليها»(1).

و لا نعتقد أن هناك من هو أقدر على معرفة الباب الضيق و الطريق المؤدية إلى حياة الخلود من أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا هم، بحقيقتهم، کالباب الضيق أو باب حطة الذي من دخله غفر له، و من استمسك به وثبت على اختياره له فقد تحصن بحصن الله، و من تحصن بحصن الله فقد أمن عذابه، و لذلك، فعند ما نقول و نؤكد على أن أهل البيت علیهم السلام عموما كانوا المثال الأعلى و القدوة الأنبل في البطولة و التضحية و في الثبات على المبادئ و القيم التي ورثوها عن سيد الرسالة و صاحبها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله، فإن ذلك لا يعني أن هذا الكلام هو كلامنا فقط، و إنما هو كلام أولئك الذين درسوا سيرة أهل البيت عليهم السلام و حللوها التحليل الدقيق و المفضل،

ص: 406


1- الإنجيل المقدس، إنجيل متی ج 7 ص 13.

فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من خلاصات و نتائج تتفق جميعها على أنهم علیهم السلام هم أول من رسم طريق الفناء في الله، حيث يكون الفناء في الله هو عين الخلود و البقاء.

و قبل أن ننتقل إلى و احتنا الأخيرة، مع نبي آخر، لنتعرف على نبوءته و معرفته بملحمة الحسين علیه السلام، دعونا الآن نورد شيئا قليلا مما قاله الأديب و المفكر المصري الراحل (أحمد أمين) عن تضحيات و محن أهل البيت عليهم السلام في سبيل الثبات على مبادئ رسالة السماء، و قد أحببنا أن نورد هذه السطور القليلة للأستاذ (أمين) كتأكيد على ما قلناه منذ قليل عن معاني البطولة و الفداء عند أهل بيت النبي المصطفی صلی الله علیه و آله .

و لا أعتقد أن هناك حاجة كبيرة لتعريف القارئ الكريم بالأستاذ (أحمد أمين)، فهو أديب و مفكر مشهور، و لكن لا بأس بتقديم بعض النقاط الضرورية عنه.

ولد أحمد أمين عام (1878)، و تعلم مدة قصيرة في الأزهر، عين مديرا ثقافيا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية إلى أن توفي عام (1954)، كان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق و مجمع اللغة في القاهرة، له الكثير من المقالات و الكتب في ميادين مختلفة، من أشهرها: (فجر الإسلام)، (ضحى الإسلام)، (ظهر الإسلام)، (يوم الإسلام)، (قاموس العادات)... و كتب أخرى عديدة.

و من اللافت للانتباه في مؤلفات هذا الكاتب هو التحول الملحوظ في فكره بشأن نشأة التشيع و الفكر الشيعي المرتكز على تعاليم أهل البيت عليهم السلام الرسالية.

فمن المعروف عن هذا الأديب و المفكر أنه كان دائم التحامل على الشيعة و على الفكر الشيعي، بل كان من المتحاملين أحيانا، في بعض كتبه، على أهل البيت ذاتهم علیهم السلام.

و قد ذكر العلامة السيد (محسن الأمين) في كتابه الثمين (أعيان الشيعة) الشيء

ص: 407

الكثير من تحامل هذا المفكر على المذهب الشيعي(1)

و مع ذلك، فقد تغيرت بعض آرائه عن الشيعة في الفترة الأخيرة من حياته، وراح يدافع، في ما يكتب، عن أهل البيت عليهم السلام و عن البعض من حقوقهم و مبادئهم التي عاشوا لها و قضوا من أجلها، حتى لتحسب أن الذي يدافع عنهم اليوم لم يكن مناوئا لهم بالأمس.

و على كل حال، ها هو يصور، بشكل إجمالي، ما لاقاه أهل البيت عليهم السلام، سواء في کربلاء أو في غيرها، من ظلم أموى و عباسي مما لا يطيقه قلب بشر أو تحتمله الفكر، و قد كتب عن ذلك يقول:

(إن الدولتين الأموية و العباسية أخذتا بالعنف و عاملتا هما بأقصى مما يعامل الكفرة الملحدون، فمن حين إلى حين تحدث مجزرة، و لا يكاد يجف منهم دم حتى يسيل دم، و تفتنا في ذلك فقتل و صلب و إحراق و تذرية و إماتة بطيئة في السجون بحرمانهم من النور و الهواء و الأكل و الماء، و كل هذا و أقل منه ما يستنزف الدمع و يذيب القلب)(2).

و بالطبع، و كما ذكرنا منذ قليل، فإن هذه المجازر التي ارتكبت ضد أهل البيت النبوي الشريف عليه السلام لم تكن فيها فاجعة كربلاء الفاتحة و لا الخاتمة، و إنما كانت حلقة من سلسلة من الحلقات الدامية التي تجعل كل يوم من أيامهم کربلاء جديدة متجددة في جراحها و نزيفها.

و إليكم الآن قصة نبي عزيز لاقي من قومه الكثير و الكثير من الظلم و الجور

ص: 408


1- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، مطبعة الإنصاف . بيروت، ط4،1960، ج1 ص89.150.
2- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم . بیروت، 1982، ص69.

و الهوان حتى لتحسبه هو و ابنه الغالي الحبيب، و ما لاقاه هو أيضا من نفس القوم، نسخة ثانية مما لاقاه رسول الله صلی الله علیه و آله و أهل بيته الكرام علیهم السلام من قومهم.

فمن منا لم يسمع بنبي الله زكريا عليه السلام و بابنه النبي يحيى عليه السلام ؟!

و من منا لم يقرأ في القرآن الكريم تلك الآيات المباركات التي تصفهما و تصف فيهما الزهد و التقوى و الإيمان؟!

و لكن، هل كلنا يعلم قصة هذين النبيين الكريمين و ما حدث معهما في قومهما؟!

و هل هناك من يعلم ما علاقة هذين النبيين برسولنا الكريم صلی الله علیه و آله و بابنه الحسين علیه السلام؟!

و للإجابة على هذه الأسئلة، دعونا نلقي الضوء على المختصر المفيد من سيرة هذين النبيين الكريمين عليه السلام وعلى ما حدث معهما في قومهما.

فمن المعروف عن النبي زكريا عليه السلام أنه ابن (برخیا) و هو من ذرية النبي سليمان عليه السلام ، و كان زكريا عليه السلام الحبر الكبير في بني إسرائيل، و هو الذي يقرب القربان في بیت المقدس، و يتلو عليهم التوراة، و كان متزوجا من امرأة فاضلة هي أخت (حنة) زوجة (عمران بن ماثان) أحد كبار بني إسرائيل، و كانت(حنة) قد حرمت الولد حتى يئست، فتوسلت إلى الله الكريم أن يمن عليها و يرزقها ولدا، و قد نذرت لله أن المولود المنتظر سيكون مكرسا لعبادته و خدمته وحده سبحانه و تعالى، فاستجاب الله لها و أصبحت حاملا، و لكن توفي زوجها (عمران بن ماثان) و هي حامل، فلما وضعت (حنة) حملها، كان مولودها أنثى و لم يكن ذکرا، و مع ذلك: فقد بقيت (حنة) محافظة على نذرها و أرادت أن تفي لله به. أخذت (حنة) ابنتها الصغيرة التي أسمتها (مریم) إلى الأحبار من أبناء (هارون) و قالت لهم: دونكم هذه المولودة التي نذرتها لله، فما كان

ص: 409

منهم إلا التنافس على الفوز بها و تربيتها التربية اللائقة لأنها بنت إمامهم و كبيرهم و صاحب قربانهم.

فلما ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ارتفع قلم زکریا علیه السلام فوق الماء ورسبت أقلامهم، عندئذ أخذها زکریا علیه السلام و ضمها إلى خالتها. أي زوجته. و رباها أحسن تربية حتى كبرت و بلغت ما تبلغه النساء، و حتى يكتمل نذر والدتها (حنة)، فقد بنى لها زکریا علی السلام محرابا خاصا، فاعتكفت فيه و صارت تتعبد الله ليلا و نهارا، و لم يكن يدخل عليها أحد غير زکریا علیه السلام .

و لما رأی زکریا علیه السلام من کرامات (مریم) علیها السلام ما رأي، و كان قد بلغ من العمر قرابة مئة و عشرين سنة(1)، و لم يرزقه الله ولدا من امرأته العاقر (أليصابات)، دعا ربه أن يرزقه من زوجته ذرية طيبة مباركة.

و دعا زکریا علیه السلام ربه دعاء خفيا لا علنيا، و قد أخبرنا القرآن الكريم بدعائه الخفي و ماذا قال فيه، و كان من جملة ما نادى به ربه هو: یا رب لقد و هن عظمي، و اشتعل الرأس شيبا، و إني أخاف بني عمي و عصبتي من بعدي أن يرثوني بعد حياتي فلا يحسنون خلافتي، فامنحني يا إلهي من فضلك وليا من صلبي يخلفني و يرثني و يرث من آل يعقوب العلم و النبوة (لأن زكريا عليه السلام كان من ذرية يعقوب علیه السلام).

فاستجاب الله سبحانه و تعالى له و بشره بغلام من زوجته العاقر (أليصابات)، و أوحى إليه إنا نبشرك بغلام اسمه (یحیی) لم نجعل له شبيها و لم يسم باسمه أحد من قبل، و سيكون أيضا سيد القوم حليما تقيا، و من الأنبياء الأطهار الصالحين.

و بالفعل، و بعد فترة و جيزة من الزمن، تبين أن (أليصابات) حامل، و أنها ستلد ما

ص: 410


1- علي فكري، أحسن القصص، مصدر سابق ج 1 ص 162.

كان زكريا عليه السلام يرجوه و يتمناه، و بعد ستة أشهر من بدء حملها يأتي يحيي علي فيكون قرة عين لأبويه و خليفة لوالده العظيم، فيضطلع بأعباء الدعوة إلى الله، و تظهر عليه آثار النجابة منذ الصغر، و يؤيده الله سبحانه و تعالى بالعلم و قوة الحكم بكتاب التوراة، و يمتاز عن أقرانه أيضا بالبر بوالديه و بالحب و الحنان و الصلاح و التقوى و هو ما يزال شابا في ميعة الصبا.

أما عن قصة استشهاد هذا النبي، فهناك إجماع عام بين الروايات التاريخية على طريقة و أسباب مقتله، و لكن هناك بعض الاختلافات في بعض النقاط التفصيلية التي تتعلق بالعمل الذي قام به الحاكم الآثم في المدينة التي كان يقطنها يحيى عليه السلام ، فهناك من يقول إن الحاكم الروماني (هيرودس) المسؤول عن ولاية منطقة (اليهودية) في فلسطين القديمة وقع في غرام زوجة أخيه (فيليبس) - و تدعی هیرودیا ۔ فأغواها و زنی بها.

و هناك رواية ثانية تقول إنه وقع في غرام ابنة أخيه، أما الرواية الثالثة فتروي أنه وقع في غرام ابنة شقيقته (هیرودیا) و على الرغم من أننا لا نستطيع أن نرجح رواية على أخرى، إلا أننا نورد هذه القصة التي كل ما يهمنا منها هو العبرة من خاتمتها.

و تقول هذه الرواية، و باختصار شديد، إن عیسی ابن مریم علیه السلام بعث یحیی بن زکریا علیه السلام في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس و ينهونهم عن نكاح ابنة الأخت، و كان هناك ملك من الرومان في بعض نواحي فلسطين يدعى (هیرودس) وقع في غرام ابنة أخته (هیرودیا)، و كان يريد أن يتزوجها، فلمابلغ أمها (هیرودیا) أن يحيى عليه السلام نهى عن مثل هذا الزواج، أضمرت له في نفسها شرا مستطيرا، و سخطت عليه سخطا عظيما، و بعد مدة من الزمان هیأت (هیرودیا) ابنتها (سالومي) و قالت لها:

ص: 411

أريد أن آتي بك إلى الملك، فإذا واقعك و نال مراده منك، سيسألك عن حاجتك، فقولي له: حاجتي أن تذبح یحیی بن زکریا، و بالفعل، فقد حدث ما قالته الأم (هیرودیا)، و لكن الملك امتنع في بداية الأمر، لكنه سرعان ما استجاب لطلبها طمعا في إرضائها و الفوز الدائم بجمالها، فأمر بطشت ثم دعا یحیی بن زکریا علیه السلام إلى قصره، و ما هي إلا لحظات حتى ذبح يحیی کما تذبح الخراف و امتلأ الطشت بدمه، و سقطت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تفور و تعلو حتى بعث الله (بختنصر) عليهم، فقتل منهم سبعين ألفا حتى سكن ذلك الدم(1).

و هنا، علينا أن نعلم أن زكريا عليه السلام ذلك النبي الصابر الذي دعا الله صباحا و مساء من أجل أن يرزقه الله ولدا تقر به عينه، قد سمع بما فعله الملك الآثم بابنه الوحيد يحيى عليه السلام ، و لم يتوقف ذلك الأمر المرير عند ذلك الحد، بل إن المأساة قد امتدت بمرارتها لتصل إلى زکریا عليه السلام نفسه، فبعد سماع زكريا عله السلام بفاجعة ابنه الوحيد یحیی علیه السلام، فر هاربا من سطوة الملك، فدخل بستانا عند بیت المقدس فاكتشف الملك أمره و أرسل في طلبه، و قتله فورا، فقضى نحبه بعد طول السنين شهيدا كابنه الحبيب يحيى عليه السلام (2).

و من المؤكد أن هذه القصة المؤثرة عن التبيين الشهیدین زکریا عليه السلام و يحيى عليه السلام ستقودنا إلى السؤال التالي:

ما علاقة هذه القصة الحزينة بقصة كربلاء، و ما علاقة زکریا عليه السلام و ابنه يحيى عليه السلام بمحمد المصطفى صلی الله علیه و اله و ابنه الحسین علیه السلام؟!

ص: 412


1- السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، دار البلاغة . بيروت، ط 1993/2 ، ص430.
2- علي فكري، أحسن القصص، مصدر سابق ج1 ص167.

و ربما يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر لا يقل عنه أهمية، و هو:

كيف رزق الله سبحانه و تعالى النبي زكريا عليه السلام ولدا بعد أن تجاوز عمره المئة و العشرين عاما، و كانت زوجته عاقرا، و لماذا فجعه الله به بعد أن رزقه إياه؟!

إنها، بلا ريب، أسئلة حساسة تتطلب الإجابة عليها بشكل يؤكد فعلا وجود علاقة قوية بين مأساة زکریا و یحیی من جهة و مأساة محمد و الحسين من جهة أخرى.

و للوقوف على الجواب الشافي على كل هذه التساؤلات المنطقية، علينا أن نقرأ ما جاء في كتاب (الاحتجاج) للعلامة (الطبرسي)، و في غيره من الكتب المعتبرة الأخرى.

و قد جاء في تلك الكتب أن سعد بن عبد الله سأل الإمام المهدي القائم المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف) عن تأويل قوله تعالى: (كهيعص)، فقال الإمام القائم علیه السلام:

«هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع عليها عبده زکریا ثم قصها على محمد صلی الله علیه و آله ، و ذلك أن زکریا علیه السلام سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط الله عليه جبرائیل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذکر محمدا صلی الله علیه و آله و عليا و فاطمة والحسن عليهم السلام سری عنه و انجلی کربه، و إذا ذكر الحسين علیه السلام خنقته العبرة و وقعت عليه البهرة - أي صعوبة الزفير - و تابع التفس، فقال (زکریا) عليه السلام ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي، و إذا ذكرت الحسين علیه السلام تدمع عيني و تثور زفرتي، فأنبأه الله تعالى عن قصته فقال: (كهيعص)، فالكاف اسم کربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد و هو ظالم الحسين علیه السلام ، و العين عطشه، و الصاد صبره، فلما سمع بذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام و منع فيهن الناس من الدخول عليه

ص: 413

و أقبل على البكاء و النحيب»(1).

و بالطبع، ليس هذا كل شيء بالنسبة لنبي الله زکریا علیه السلام، بل إن زکریا علیه السلام کان يرثي لحال الحسين علیه السلام و لحال جده المصطفی صلی الله علیه و آله ، خير الأنبياء و آخرهم.

و من خلال معرفتنا بالدعاء الذي كان ينادي به زکریا علیه السلام ربه، نستطيع أن ندرك لماذا رزقه الله سبحانه و تعالى على كبر سنه ولدا نبيا تقر به عينه ثم ما لبث أن فجعه به بطريقة مأساوية مؤسفة تتفطر لذكرها القلوب.

و ها هو الإمام القائم المنتظر عليه السلام يتابع كلامه مخاطبا سعد بن عبد الله و شارحا له طبيعة الدعاء و الرثاء الذي كان يخاطب به زکریا علیه السلام ربه:

«كان (زکریا) يرثيه و يقول: إلهي، أتفجع خير خلقك بولده؟ إلهي، أتنزل بلوی هذه الرزية بفنائه؟ إلهي، أتلبس عليا و فاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحل کربة هذه المصيبة بساحتهما؟ ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده، فرزقه الله يحيي عليه السلام و فجعه به، و كان حمل يحيى عليه السلام ستة أشهر، و حمل الحسين علیه السلام كذلك»(2)

ص: 414


1- راجع ما جاء في: أ. أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مؤسسة الأعلمي . بيروت، 1983، ج2 ص 464. ب. السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، مصدر سابق ص428. ج. توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص11.
2- راجع أيضا ما جاء في : أ. أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق ص464. ب. السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، مصدر سابق ص428. ج. توفيق فتح الله، عاشوراء وكلمات خالدة، مصدر سابق ص12.

و هنا، و قبل أن نختتم هذا الفصل المؤثر بكل ما فيه من نبوءات و أحزان نبوية کربلائية، أريد من القارئ الكريم أن يعود مرة ثانية و يقرأ ما جاء في دعاء نبي الله زکریا عليه السلام و أن يتأمله جيدا و يفكر فيه مليا، عسى أن تسقط من عينيه دمعة أو دمعتان تمنعان حر النار أن يمس وجهه يوم نصب الميزان و لقاء الرحمن.

ألا تعتقد معي ياصديقي القارئ أن القلوب التي تحترق اليوم على الأرض كالشموع بنار الصبر و العشق ستصبح غدا أنوارا بلا نار في سماوات کشف بلا استتار؟!

ألا تعتقد معي، أيضا، أن هناك نيرانا لا تطفئها كل مياه البحار و المحيطات، و لكن تطفئها فقط دموع العاشقين الصابرين؟!

فها قد رحل الليل و تنفس الصباح و ما علينا إلا أن نمسك عن الكلام المباح.

ص: 415

صور من الفاجعة الرهيبة

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الشريف: ... «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1)

فما هو الشيء الجوهري الذي يمكننا أن نفهمه من هذه الآية القرآنية المباركة؟!

إن أبسط ما يمكن أن نفهمه من هذه الآية المباركة هو أن الرحمة عمل من عمل الرحمن، في حين أن القتل أو العنف عمل من عمل الشيطان، فكل عمل مرتبط بالعنف لسبب غير معقول إنسانيا هو عمل يسير، بلاشك، على نهج شيطاني لاعلى نهج رحماني.

بل كيف لا يكون ذلك العمل عملا شیطانيا، و الله يدعونا دائما للسلم و الرحمة و المحبة، حتى أنه عز وجل قد أسمى نفسه (السلام) و وصف نفسه أيضا في مبدأ كل سورة من سور كتابه الكريم ب (الرحمن) و(الرحیم)؟ و هل الرحمة غير السلام و المحبة ؟!

فمسألة العلاقة بين السلم و العنف، بين الرحمة و النقمة، بين الإحياء و القتل، هي علاقة واضحة المعالم في الفكر الإسلامي عموما و في فكر أهل البيت عليهم السلام خصوصا، إذ أنها علاقة تستمد وجودها من عمق الآداب الإلهية و الأخلاق الرسالية.

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 32.

و من هنا نقول، إن الحديث عن فاجعة كربلاء، بل عن كل الفجائع التي أصابت أهل البيت علیهم السلام، لابد أن يمر عبر مفهوم السلام في الإسلام، فالإسلام بحقيقته الروحية و بمنظومته الأيديولوجية قائم على الحوار بالكلمة الطيبة و الحجة البينة و مهما حاول البعض من المستشرقين أن ينالوا من سماحة الإسلام و من رسالته الإنسانية، فإن تلك المحاولة لا تعدو كونها زوبعة في فنجان.

فالكثير من المفكرين و الأدباء، و معظم المستشرقين أيضا، حاولوا أن يكتبوا عن إنسانية محمد صلی الله علیه و آله و عن رسالته السمحاء بأسلوب نزيه و بعيد عن التعصب للقوميات أو للدين المسيحي الذي ينتمون إليه في بلدانهم الغربية المختلفة، و لو لا ضيق المجال هنا، لأورد العشرات من الأمثلة المختلفة للتأكيد على مصداقية ما نقول.

و أنا أعرف الآن أن هناك من القراء من يتساءل قائلا: و ما علاقة هذا الحديث بالحديث عن عنوان هذا الفصل (صور من الفاجعة)؟!

و يمكننا الإجابة على هذا السؤال المحتمل بالقول: إن حديثنا الآن عن إنسانية محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و عن رسالته هو بداية الكلام عن تلك الفاجعة المليئة بالصور المؤثرة.

و قد علمتني القراءة، شخصيا، أنه على الذي يريد أن يوصل فكرة ما إلى أذهان الناس، عليه أولا أن يحدثهم عن نقيضها، فالمفاهيم و الأفكار و حتى الكثير من المفردات في الوجود لا يمكن أن تعرف حق معرفتها إلا من خلال نقيضها أو ضد ها.

فعند ما أتحدث عن النور و صفاته، لابد أن أتحدث أيضا عن الظلمة و صفاتها، و عندما أتحدث عن اللون الأبيض و عن رمزه (الثلج) مثلا، فمن الأفضل أن أتحدث بنفس الوقت عن اللون الأسود و عن رموزه أيضا، و هكذا، فالكلام عن الجنان

ص: 417

الخضراء يستلزم الكلام عن الصحراء، و الكلام عن الجنة يتطلب الكلام عن جهنم، و الحلم عن اليقظة، و الحياة عن الموت، و هكذا إلى ما هنالك من متناقضات و أضداد في هذا الوجود.

و لكن من الممكن أيضا أن تتبادر إلى ذهن كل واحد منا هذه الفكرة الأصيلة:

إذا كنا نحن متأكدين من حقيقة أن الإسلام دين السلام، فمن أين ولد العنف في الإسلام، و من أين جاءنا هجوم بعض المستشرقين علينا و إلصاق تهمة عطش الإسلام الدائم إلى القتل و النهب و سفك الدماء البريئة ؟!

في الواقع، هناك فرق كبير و فجوة عظيمة بين ثقافة الإسلام و ثقافة المسلمين، فالإسلام - كما يقول عنه المفکر السويسري (مارسيل بوازار) في كتابه (إنسانية الإسلام) - هو دين قائم على احترام حقوق الإنسان، باعتبار أن (الإنسان يمثل جوهر الإسلام).(1)

و هذا يعني أن الإنسان في الشريعة الإسلامية هو الغاية من هذا الوجود الذي أفاضه الله سبحانه و تعالى، فكل ما في الوجود خلق من أجله هو، أما هو فقد خلق ليتذكر، و يتعلم، و يعمل، و يتعبد لمن كان السبب في وجوده.

و لكن للأسف، فقد افترقت ثقافة الكثير من المسلمين عن ثقافة الإسلام منذ اللحظات الأولى لغياب الرسول الكريم صلی الله علیه و آله، و قد أوضحنا في فصل سابق کيفية حدوث الكثير من الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في العصر الراشدي و ما بعده، و أوضحنا أيضا كيف أن حادثة كربلاء المفجعة هي من الناحية النظرية وليدة حادثة

ص: 418


1- مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، دار الآداب . بیروت، 1980، ص99.

السقيفة المشؤومة، و لكن يرى البعض أن حادثة كربلاء، و هذه المرة من الناحية العملية، هي ثمرة الثقافة الإسلامية المزيفة التي أوجدها و اعتنقها بعض كبار الصحابة من المسلمين و التي انعكست سلبا في علاقتهم مع ذاتهم و مع الآخرين.

و على سبيل المثال، يؤكد المستشرق الهولندي (فان فلوتن) (Van Vloten) في كتابه (السيطرة العربية) على أن الذين قاموا بفتوحات عسكرية تحت اسم الفتح الإسلامي لا يمكن اعتبار ما قاموا به انتصارا روحيا لدعوة ما، و لكنه كان يمثل احتلالا مسلحا ما لبث أن تبلور بوضوح في سلوك الخليفة الثاني عمر و تصعيده الحركة الفتوح)(1).

و يعني هذا الكلام من المستشرق (فلوتن) أن المسلمين الأوائل لم يكونوا - برأيه - على مستوى لائق من الثقافة الروحية التي تؤهلهم للتفاهم بالكلمة الطيبة مع بقية الشعوب التي غزوها، و بالتالي، فقد كانت لهم ثقافتهم الخاصة التي قامت على تبرير الحروب التي يشنونها تحت شعارات مختلفة و غايات شتى.

و على كل حال، ما أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إليه هو أن المستشرق (فلوتن) له آراؤه الخاصة بالكثير من القضايا الإسلامية، و لا يعني استشهادنا ببعض أقواله إخراجه من دائرة بعض المستشرقين المتعصبين، فعنده العديد من الآراء و وجهات النظر الغريبة التي لا نتفق معه بشأنها بأي حال من الأحوال.

و لكن، و مهما يكن من أمر، فإنه لا يمكننا أن نتجاوز فكرة التعدي على العديد من الأفكار و الثوابت الإسلامية الإنسانية من قبل بعض كبار الصحابة، و هذا الكلام، و كما ذكرنا سابقا، ليس من عندنا، بل هو كلام وارد في كتابات و مؤلفات الكثير من الباحثينفاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث

ص: 419


1- فان فلوتن، السيطرة العربية، مصدر سابق ص77.

و المفكرين الذين لهم باع طويل في دراسة و تحليل صفحات و أحداث التاريخ الإسلامي من جهة، و في دراسة و تحليل سيرة الشخصيات الإسلامية البارزة من جهة أخرى.

فالمفكر و الباحث المسيحي (سلیمان کتاني)، الذي تجاوزت مؤلفاته حول الإسلام العشرين مؤلفا تقريبا، يرى أن هناك فارقا كبيرا بين ثقافة الرسالة الإسلامية و بين ثقافة المسلمين من بعض الصحابة، و يرى هذا الباحث أنه في الوقت الذي استطاعت فيه الرسالة الإسلامية إثبات جوهرها الإنساني، حاول بعض كبار الصحابة، و على رأسهم عمر بن الخطاب، أن يعيد الروح القبلية و الجاهلية إلى المسلمين و ذلك عن طريق تمهيد الخلافة لصاحبه أبي بكر مع معرفته الكاملة أن صاحبه لن ينسی له ذلك الصنيع و سوف يعيد الخلافة إليه عند أول فرصة سانحة له بذلك، (1)و قد اعتبر الأستاذ (كتاني) أن هذا التصرف من هذين الصحابيين التفاف واضح منهما على ثقافة السماء التي قضت بالفعل أن تكون الخلافة الشرعية الحقة في علي عليه السلام و أبنائه الكرام من السيدة فاطمة عليها السلام.

و حتى المستشرق اليهودي المعروف (ليوبولد فايس)، و الذي تظاهر بالإسلام لاحقا، أكد أيضا على الفجوة الموجودة بين ثقافة السماء و ثقافة بعض الصحابة التي كانت على نقيض مع ما أرادته ثقافة السماء، فالأستاذ (فايس) يقر بخلود رسالة الإسلام و بانفتاحها الكلي أمام العقل الإنساني و ذلك من خلال ما تختزنه من كنوز و حكمة في القرآن الكريم.(2)

ص: 420


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص44.
2- ليوبولد فايس (محمد أسد)، منهاج الإسلام في الحكم، مصدر سابق ص60.

و لكن بنفس الوقت، يرى ذلك المستشرق اليهودي أن الصحابي عثمان بن عفان قد وقع في تصرفات كانت و خيمة العواقب و قد انعكست لاحقا بشكل سلبي على وجه التاريخ الإسلامي.(1)

و هذا ما يؤكد على أنه انتهج نهجا خاصا انحرف به عن الصراط المستقيم إلى مسالك أخرى أودت به و بالأمة لاحقا إلى المهالك و الضعف و التفكك، و على ما يبدو، فإن رأي الأديب و المفكر المصري الشهير الدكتور (طه حسين) لا يختلف كثيرا عن رأي المستشرق الهولندي (فلوتن) بشأن ابتعاد عثمان بن عفان عن ثقافة السماء مما تسبب بضعفه و انهياره، غير أن رأي الدكتور (طه حسين) جاء بطريقة جريئة بعيدة عن الأسلوب الدبلوماسي و عن المحاباة، فقال في وصفه لعثمان: (كان عثمان يقاد كالثور.(2)

إذن، إن ابتعاد بعض كبار الصحابة عن ثقافة الرسول صلی الله علیه و اله و الرسالة، و انتهاجهم نهجا شخصيا خاصا بهم مبنيا على رواسب الثقافة و الأعراف القديمة، جعل منهم و من أعمالهم . كما يقول عنهم من درسهم - السبب المباشر لتبرير أعمال العنف التي يمارسها بعض المسلمين منذ ذلك التاريخ و حتى يومنا الحاضر، هذا بالإضافة إلى أنهم هم السبب المباشر أيضا في غياب روح الشورى، أو الديمقراطية، في حكومات الأمس و اليوم بعد كل ما قام به أولئك الصحابة الكبار من تجاوزات واضحة في هذا المجال، كما يقول و يؤكد على ذلك بعض الدارسين و الباحثين(3).

ص: 421


1- نفس المصدر السابق ص110.
2- السيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، مطبوعات مكتبة النجاح . القاهرة، 1979، ص198.
3- خليل عبد الكريم، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، مصدر سابق ص 12.11.

إذن، من هناك، منذ ذلك التاريخ، و منذ حدوث تلك التجاوزات الخطيرة التي كانت على حساب قيم و مبادئ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و على حساب تعاليم رسالته الإنسانية السمحاء، بدأت المجازر و بدأ العنف، و غدا سفك الدماء يتحول من ظاهرة فردية شاذة و عابرة إلى ظاهرة جمعية عامة و طبيعية تغذيها أيديولوجيا دموية قوية قائمة على الإقتداء بما فعله الآباء و الأجداد الأولون من قتل و تغييب للكثير من المفاهيم و القيم الإسلامية الإنسانية الراقية.

و من تلك التجاوزات العملية الخطيرة بدأت المأساة تنسج خيوطها السوداء القوية حول كل ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، فالهدف الأول هو أهل بيت النبي علیهم السلام و ما يحملونه من أفكار رسالية تمثل العمق الروحي و الأفق الأيديولوجي لفكر الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله ، لقد غاب الرسول صلی الله علیه و آله عن الساحة، و رحلت ابنته العزيزة فاطمة عليها السلام متأثرة بجراحها، و قتل الإمام علي عليه السلام غيلة في مسجد الكوفة، و لم يسلم الإمام الحسن عليه السلام من المكيدة الأموية التي قضت بالتخلص منه بجرعة من السم النقيع عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث، فهل بقي من أهل البيت عليهم السلام و من أهل الكساء من أحد؟!

لا، لم يبق أحد من أعمدة أهل البيت المطهرين من الرجس إلا الإمام الحسين علیه السلام الذي ستستمر رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله من خلاله و من خلال ذريته الطاهرة.

و لأنه لم يبق من أهل الكساء و من أهل المباهلة إلا الإمام الحسين علیه السلام، ريحانة جده الرسول صلی الله علیه و آله، فمن الواجب القضاء عليه فورا قبل أن يكون قادرا على نقل أفكاره و مبادئه النهضوية إلى ابنه الصغير الإمام علي زين العابدین علیه السلام .

و بالفعل، ها هي الغيمة السوداء تقبل مكفهرة، كالحة الوجه، محمولة على

ص: 422

أجنحة الريح الصفراء العاتية میممة وجهها شطر أرض كربلاء المقدسة، أرض العزة و الكرامة، أرض الإيمان المعجون بالدماء و الدموع و الآهات و التراب الحزين.

و ها هي بعض الصور الفجائعية المؤثرة التي خلفتها تلك الغيوم المكفهرة الغاضبة و الرياح العاتية التي ولدت من رحم الإعصار الأموي الدامي الهادف إلى اقتلاع الإسلام من جذوره في أرض الذبائح المقدسة.

و غني عن القول إن التسلسل الزمني للأحداث و الصور المؤثرة ليس مهما هنا، فالشيء المهم هو الحدث ذاته و الصورة ذاتها، أما السياق الزمني فيعتبر غير ذي أهمية في هذا المجال، و ها نحن الآن نبدأ بعرض بعض هذه الصور معتمدين في ذلك، و كما هو واضح من مقدمة كتابنا، على المراجع الفكرية المعاصرة.

و دعونا نبدأ الآن، أيها الأحبة، مع قصة توبة (الحر بن یزید الرياحي) أحدأعظم القادة في الجيش الأموي القادم لسحق الحسين علیه السلام و محو ذكره إلى يوم الدين، فما هي قصة توبة ذلك القائد الأموي الكبير؟! .

تبدأ قصة هذا القائد القوي و الخطير عندما كان من أوائل المعادين المعاندین للإمام الحسين علیه السلام ، فبعد أن كان من أوائل الذين كاتبوا الإمام الحسين علیه السلام و راسلوه من أجل الخروج و المجيء إلى كربلاء، عاد و أنكر أمام الحسين علیه السلام أنه قد بعث إليه بأي رسالة، بل و فوق ذلك راح يجند نفسه لخدمة قادة الجيش الأموي طمعا ببعض المكاسب و المناصب.

و بالفعل، يحظى الحر بمرتبة لا بأس بها في جيش عبيد الله بن زیاد مما يدفع با بن زیاد إلى إرسال کتاب إليه يأمره فيه بمراقبة الحسين علیه السلام قبل وصول موكبه إلى کربلاء، و يأمره أيضا بالتضييق عليه و إزعاجه في كل خطوة يخطوها.

ص: 423

و عندما يلتقي الإمام الحسين علیه السلام بالحر بن یزید الرياحي وجها لوجه، يدور بينهما حديث قصير يفهم من خلاله أن الحر لن يترك الإمام الحسين علیه السلام طليقا، بل إنه مأمور بأخذه إلى عبيد الله بن زیاد، فيرفض الإمام الحسين علیه السلام ذلك الطلب رفضا شديدا و يبقى ثابتا على موقفه مع معرفته التامة بمدی حساسية الموقف.

و تتسارع الأحداث تباعا، و ما هي إلا فترة و جيزة حتى يتقابل الجيشان وجها لوجه، فجيش الإمام الحسين علیه السلام لا يتعدى السبعين شخصا إلا قليلا، و منهم النساء و الأطفال و الشيوخ، في حين أن جيش يزيد قد تجاوز عدده الأربعة آلاف مقاتل شرس، و تذهب بعض الروايات إلى أنه كان أكثر من ذلك بكثير.

و هنا يدرك الإمام الحسين علیه السلام أنهم لن يقبلوا منه ما يدعوهم إليه من إصلاح و عودة لأسس و منهاج الإسلام القويم، و لن يقبلوا منه أيضا طلب العودة سالما مع أهله و صحبه إلى المكان الذي جاء منه، فالشيء الوحيد الذي سيقبلون به هو الاحتكام إلى منطق السيف ولغة النار.

و عندما أدرك الإمام الحسين علیه السلام كل هذا، كان لابد أن يقف محذرا و مذكرا و مقيما الحجة على من لا حجة لهم عليه، فالبرهان و الإيمان هما سلاح الإمام الحسين علیه السلام أمام هذه الحشود التي ما جاءت إلا لتفتك به و بأهله و أتباعه، و بالتالي التطلق رصاصة الخلاص على قلب الرسالة الإسلامية و جوهرها الثمين.

و ها هي كتب إخواننا المسلمين السنة و المسيحيين تسجل تفاصيل ذلك الموقف الرهيب و كيف كانت عاقبة القائد الحر بن یزید الرياحي قبيل اندلاع المعارك.

تذكر تلك المؤلفات و الأبحاث المعاصرة أن الإمام الحسين علیه السلام وقف في تلك اللحظات الحاسمة محيلا طرفه بين الحشود المدججة بالسلاح، فحمد الله و أثنى

ص: 424

عليه، ثم خاطبهم قائلا:

«أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها و انظروا، هل يصلح و يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، و ابن وصيه و ابن عمه و أولى المؤمنين بالله؟ أولي حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أولم قول مستفيض أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال لي و لأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة و قرة عين أهل السنة؟ أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟».

فلما لم يلق القوم إليه سماعهم، قال:

«فإن كنتم في شک مما أقول، أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري».

فلم يجبه منهم مجيب، و استطرد يسأل:

«أتطلبون بقتيل منكم قتلته، أو بما استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟».

فسكتوا لا يحيرون جوابا... فتمزقت كلماته بددا، لم يكد يصغي إليها من القوم سوى الحر بن یزید، فإنه قام إلى قائده عمر بن سعد يسأله:

- أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه عمر: أي والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس و تطيح الأيدي.

قال الحر: أفما لكم في واحدة من الخصال الثلاث التي عرض عليكم رضی؟

قال عمر: و الله لو كان الأمر إلي لفعلت، و لكن أميرك قد أبى ذلك.

فلم يزد الحر، و انثنى يدنو نحو الحسين قليلا قليلا و قد أخذته رعدة، و لمحه رجل من قومه فقال:

- و الله إن أمرك لمريب!! و الله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن، و لو

ص: 425

قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك!!

فقال له الحر:

- إني و الله أخير نفسي بين الجنة و النار، و لا أختار على الجنة شيئا و لو قطعت و حرقت!!

ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين و قال له:

جعلني الله فداك يابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع و سايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان، و الله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا... و و الله لو ظننت أنهم لا يقبلون منك الذي سألتهم، ما ركبتها منك، و إني قد جئتك تائبا إلى ربي مما كان مني، مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك)(1)

و هنا يصور الأستاذ (خالد محمد خالد) تتمة هذا المشهد التراجيدي المؤثر، فيقول: و نزل (الحر) من فوق جواده، يعانق الحسين و دموعه تتفجر من مآقيه، و يقول

ص: 426


1- راجع على سبيل المثال ما جاء في الكتب التالية، مع مراعاة وجود بعض الاختلافات اليسيرة: أ. د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص120. ب. خالد محمد خالد ، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص162. ج. الشيخ عرفان العشا حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص160. د. محمد عبد الله المنفلوطي، ريحانة أهل البيت السيدة زينب الكبرى، مكتبة الإيمان . القاهرة، 2007، ص77. ه . محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق، أوردها باختصار، ص144. و. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، أوردها شعرا، ص268. ز. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق أوردها باختصار، ص 131.

- قد كان مني بالأمس ما كان، و قد استبان لي حقك، فجئتك أفتديك بنفسي، أفترى في ذلك توبة لي مما صنعت؟

و أجابه البطل (أي الحسين علیه السلام) و هو يضمه إلى صدره النبيل:

«إنها خير توبة، فأبشر... فأنت الحر في الدنيا... و أنت الحر في الآخرة إن شاء الله»(1)

و هنا يبدي الأستاذ (خالد) استغرابه الشديد من تصرفات الجيش الأموي الآثم، و أكثر ما كان يثير استغرابه هو أن أفراد ذلك الجيش و قادثه كانوا إذا حان وقت الصلاة يصلون و يقولون في آخر صلاتهم: (اللهم صل على محمد و على آل محمد)، فإذا ما انتهوا من صلاتهم قاموا ليحصدوا بسيوفهم الحاقدة آل محمد صلی الله علیه و آله !!(2)

أما الأديب المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، فقد أجاد وصف تلك الأحداث المؤثرة في روايته الشهيرة (فاجعة كربلاء)، و قد صاغ وصف حادثة توبة الحر بن یزید الرياحي بأسلوب أدبي رصين بعيد عن لغة المبالغة في العواطف و الانفعالات، و قد استطاع الأديب (الأشقر) أن يقنع القارئ أن الحر بن یزید الرياحي عاد إلى رشده و انضم إلى جيش الإمام الحسين علیه السلام لأنه كان، بالأساس، يمتلك بذور الخير في صدره، و قد استطاع الإمام الحسين علیه السلام أن يستنبت تلك البذور النائمة من خلال الخطب الهامة التي كان يلقيها أمام العدو بين الحين و الآخر من أجل تذكيرهم بما أوصاهم به جده رسول الله صلی الله علیه و آله ، و قد ذكر الأستاذ (الأشقر) العديد من تلك الخطب الحسينية المشهورة، بل وزاد عليهاأيضا تلك الصورة الحزينة التي وصف من خلالها

ص: 427


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص163.
2- نفس المصدر السابق ص160.

الإمام الحسين علیه السلام و قد دعا بمصحف فوضعه أمامه، ثم رفع عينيه الحزينتين إلى السماء، ثم قال بصوت شجي مسموع ضارعا إلى الله تعالى:

«اللهم أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي في كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي عون وعدة ... كم من هم يضعف فيه القلب و تقل فيه الحيلة و يخذل فيه الصديق و يشمت به العدو، شکوته إليك ففرجته و کشفته، إنك ولي كل نعمة و منتهی کل رغبة»(1).

و إذا كان هذا الأديب المسيحي قد أبدع في وصف الأحداث الأليمة بأسلوب قصص جذاب و بديع، فإن الأديب الشاعر الأستاذ (بولس سلامة) قد حلق عاليا جدا في سماء الشعر الوجداني النبيل، ثم عاد فهبط إلينا محملا بالكثير من الكنوز الشعرية الثمينة التي يعجز الكثير من شعراء هذا العصر عن الإتيان بمثلها.

و لنستمع إليه الآن سوية و هو يصور لنا الدفاع المستميت الذي أظهره الحرالرياحي بين يدي الإمام الحسين علیه السلام و ذلك بعد إعلان توبته مما كان عليه.

يقول الأستاذ الأديب (سلامة):

و يقول الحسام للغمد و دعني *** فلن أرتضيك بعد قرابا

سوف أبقى في راحة (الحر) مسلولا *** فإن غبت في المفاخر غابا

فأجاب الحسين يا حلا تجزع *** فإن الكبير ينسى العتابا

نحن أهل الرسول أورثنا جدي *** صدورا على الخطوب رحابا

حسبنا دمعه الندامة نزجيها *** إلى الله قربة واحتسابا

دمعة تغسل القلوب و تجلوها *** كما يصهر الشعاع الضبابا

ص: 428


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس . بیروت، 1965، ص10.

يغفر الله ما أتيت، فطب نفسا *** و لا تلبس الهموم ارتياب(1)

فرحمة الله عليك يا بولس سلامة، و حشرك الله مع من أحببت من الأنبياء و الشهداء و الصديقين و الصالحين، فوالله ما قرأت في ملحمتك الخالدة (عيد الغدير) قصيدة قط إلا و ازددت في أهل البيت عليهم السلام حبا على حب، و صبرا على صبر.

أما إذا أراد القارئ الكريم أن يعرف كيف كانت نهاية ذلك البطل (الحر)، فنقول له إن كل الروايات من كتب المتقدمين على مختلف مشاربهم قد أجمعت على أن (الحر) قد قتل عند اندلاع المعركة أكثر من أربعين رجلا من جيش الأعداء، و بقي يقاتل مدافعا عن الإمام الحسين علیه السلام إلى أن حملت الرجالة عليه و تكاثروا على قتله، فحمله أصحاب الحسين عليه السلام و هو مضرج بدمائه و وضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه، و هكذا كان يؤتي بكل قتيل إلى هذا الفسطاط و الحسين علیه السلام يقول:

«قتل مثل قتلة التبين و آل التبين»(2)، ثم التفت إلى (الحر) و كان به رمق، فقال له و هو يمسح الدم عنه: «أنت الحر کما سمتك أمك، حر في الدنيا والآخرة»، و هنا يعطينا الإمام الحسين علیه السلام المعنى الحقيقي لمفهوم الحرية، و ذلك بأن الحر هو ذلك الشخص الذي يملك إرادته و قراره و موقفه.

فالحرية بالمفهوم الحسيني ليست حركة قادمة من خارج الإنسان، بل هي حركة نابعة من داخله و من عمق كيانه.

و هذا هو المعنى الذي يريده الإمام الحسين علیه السلام من كل واحد منا، إنه علیه السلام یریدنا أن نملك حرية القرار و إرادة الموقف، و أن لا نستسلم لأي ضغط داخلي نابع

ص: 429


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص269.
2- السيد عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسين ، مطبعة النجف ط 1963/3/ ص302.

من طمع أو رغبة عمياء، و لا لطمع خارجي ناتج عن خوف أو ضغط أو ما شابه ذلك.

و هذا المعنى هو الذي يؤكده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله: «إن الحر حر في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، و إن تداکت عليه المصائب لم تكسره و إن أسر و قهر»(1).

و بالطبع، لم يكن (الحر الرياحي) هو البطل الوحيد الذي عاد إلى جادة الحق و اختار الآخرة على الدنيا، بل هناك أيضا شخص آخر له وزنه و مكانته، إنه زهیر بن القين البجلي المجاهر بكراهيته للإمام الحسين علیه السلام، و تؤكد الأخبار أن زهیر بن القين كان قد حج في السنة التي خرج فيها الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق، و كان زهير عثماني الهوى و أموي الميول، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين علیه السلام، و كان لشدة تمسكه بعثمانيته يكره مسايرة الحسين و النزول معه في منزل واحد، و في يوم ما لم يجد بدا من النزول معه و الاجتماع به، حدث التحول الخطير.

فماذا حدث، و ماذا نتج ؟!

تجمع الروايات على أن الإمام الحسين علیه السلام عرف بوجود زهير، فأرسل رسولا إليه يدعوه للمجيء إلى عنده، فقالت له امرأته (دلهم بنت عمرو): سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟ فلو أتيته.

فأتاه زهیر استجابة لرغبة زوجته، و لكن على كره منه، و ذهب للقاء الحسين علیه السلام و التقى به، ثم ما لبث أن عاد إلى جماعته مستبشرا و قد أشرق وجهه، و حول متاعه و ثقله إلى الحسين علیه السلام، و قال لزوجته (دلهم) أنت طالق، فإنني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير، و قد عزمت على صحبة الحسين علیه السلام لأفديه بروحي و أقيه

ص: 430


1- محمد باقرالمجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق ج68 ب62 ح3.

بنفسي، ثم أعطاها مالها و سلمها إلى بعض بني عمها ليوصلوها إلى أهلها، فقامت إليه و ودعته و هي تبكي، ثم قالت له قبل الفراق: خار الله لك، أسألك أن تذكرني بخير يوم القيامة عند جد الحسن عليه السلام ، ثم نادی زهير أصحابه قائلا: من أحب منكم أن يتبعني و إلا فهو آخر العهد مني به.

و هنا يقول العلامة الأزهري (عبد الله العلايلي) إن زهيرا قال لأصحابه قبل مفارقتهم: إني سأحدثكم حديثا، إنا غزونا (بلنجر) و هي من بلاد الخزر، ففتح الله علينا و أصبنا غنائم ففرحنا، فقال لنا سلمان الفارسي: (إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم)، فأما أنا فأستودعكم الله(1).

و بالفعل، فبعد أن ترك زهير زوجته و غادر أصحابه، التحق بالإمام الحسين علیه السلام، و بقي معه إلى أن نشبت المعارك، فقاتل قتال الأسود الكواسر إلى أن نال كرامة الشهادة بين يدي الإمام الحسين علیه السلام، فقال له الإمام علیه السلام حين رآه صريعا غارقا في دمائه:

«لا يبعدنك الله يا زهير، و لعن الله قاتلك، لعن الذين مسخهم قردة و خنازير»(2).

و مهما حاولنا أن نختصر الحديث عن هذه المشاهد المؤثرة على ساحة کربلاء، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز بعض ما قاله عظماء الفكر و الأدب، و على سبيل المثال، كيف لنا أن نتجاوز ذلك الوصف الرائع لانقلاب زهیر ابن القين كما جاء على قلم الأديب الكبير (سلیمان کتاني)، ذلك الأديب المسيحي الذي نذر نفسه و قلمه لخدمة آل بيت محمد صلی الله علیه و آله ؟!

ص: 431


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص130.
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص251.

انظروا معي إلى هذين المشهدين المسرحيين الرائعين، ألا يستحق كل مشهد منهما أن يكون مسرحية قائمة بحد ذاتها؟! ألا يعطينا كل مشهد منهما- علی رغم قصرهما الشديد - دروسا لا تنسي في البطولة و الكرامة و الفداء و الوفاء؟!

دعونا الآن نقرأ سوية المشهد الأول من خلال الحوار الدائر بين زهير و زوجته دلهم بعد أن عرفا أن الحسين علیه السلام قد وصل إلى منطقة (واقصة) التي ملأها یزید اللعين بمئات الجواسيس، و الأصعب من ذلك أن الحسين علیه السلام يريد أن يأتيه زهير على جناح السرعة و دون أي تأخير مهما كانت الأسباب و الظروف.

و هنا يبدأ المشهد بدخول زهير إلى منزله بشكل سريع، فيدخل و يقفل الباب وراءه، ليجد زوجته الحبيبة و الجميلة واقفة و في عينيها فرحة عيد - و لكنها هدأت روعه و هي تسأل:

دلهم - ماذا يروعك؟

زهير - ألم تسمعي بنزول الحسين محطة (و اقصة)؟

دلهم-إنها البشري مني إليك، هل أنت سعيد؟ أم أنك الجازع؟

زهير- و لكني الجازع یا دلهم، لقد سد المنافذ كلها (الخليفة) یزید، و لا أظن الحسين، و لا كل من يشد بحبل الحسين، ناجيا من كف يزيد و قبضة الوالي ابن زیاد!!

دلهم- ألا تحب الحسين؟ و أبا الحسين؟ و أم الحسين؟ و أخا الحسين؟ وجد الحسين؟

زهیر - و كيف أهرب من یزید؟ و قرود یزید؟ و من زیاد؟ و ابن زیاد؟

دلهم - و هل تبدل السعود بالقرود؟ و النعيم بالجحيم؟ و البطولة بالجبانة؟ و من يصدقك بعد الآن و أنت على نفسك تكذب؟!

ص: 432

زهير -... الخوف من الظلم!!

دلهم -... إنه الموت تحت حوافره!!

ما كاد ابن القين یری وجه زوجته دلهم كيف يموج بما تقول، حتى هب من مكانه إلى الخارج.(1)

فإلى أين ذهب ابن القين تحت تأثير هذه الكلمات السحرية من زوجته الغالية (دلهم)؟!

الجواب على هذا السؤال يمكن العثور عليه بسهولة عند قراءتنا للمشهد الثاني من الحوار الثنائي الذي يلخص ما يمكن أن تفعله المرأة المؤمنة بزوجها الذي يمتلك بداخله بذور الخير و الإيمان، و لكنه بحاجة إلى من يوقظ هذه البذور من سباتها الطويل و يحولها إلى غراس خضراء تتفاعل مع قيم الإيمان و الحياة.

و ها هو المشهد الثاني يبدأ بدخول زهير على الإمام الحسين علیه السلام و بين يديه عدد من المقربين منه، و منهم محمد و عون ابنا جعفر الطيار عليه السلام ، فيقف بخشوع أمام الحسين علیه السلام.

الحسين - «و ما اسمك؟».

زهیر - زهير بن القين، و لكن زوجتي اسمها دلهم.

الحسين - «و تحبها؟».

زهیر - کالعبادة.

الحسين- «يا لها من امرأة رائعة - أراها كتبتك حرفا رائعا على شفرة السيف، أتراني حزرت؟».

ص: 433


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص163.

زهير - و لكني طلقتها، إني آت من عند الشيخ الذي عقد زواجي، و ها إنتي الآن قد فككته عنده.

الحسين -«و كيف يمكن ذلك؟».

زهير - و لقد خصصتها بكل ثروتي.

الحسین - «لأنك جئت تنضم إلي؟».

زهیر - حتى لا تكون أرملة من بعدي، و حتى لا تلقطها الحاجة.

الحسین - «يبدو أنك صممت أن تستشهد معي!! ».

زهیر - إنها دلهم يا سيدي، أحبت أن أربط شأني بقدرك!!

الحسین - «وأنت؟!».

زهیر - كان سيفي مقصوفا و أصبح الآن لا يقصف(1).

و قد أثبت زهير بالفعل أن سيفه لا يقصف طالما هو باق على قيد الحياة، و قد أثبت لنا زهير و زوجته (دلهم) أيضا أن الانضمام إلى الحسين علیه السلام هو الانضمام إلى سفينة نوح و مركب الأمان و الإيمان، ألم يقل رسول الله صلی الله علیه و آله :

«الحسین مصباح الهدى وسفينة النجاة»(2)... قاصدا بذلك النجاة في الدنيا والآخرة؟!

فزهير الذي استضاء بنور الحسين علیه السلام و اعتصم بموكبه و مركبه، كانت آخر عبارة قالها للحسين عليه السلام بعد أن خيره الحسين علیه السلام بين الانصراف عنه أو البقاء معه، هي قوله: (و الله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة و أن

ص: 434


1- نفس المصدر السابق ص164.
2- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى و سفينة النجاة،انتشارات المدرسي . طهران، 1414، ص59.

الله عز وجل يدمع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك»(1)

و هذه العبارة الأخيرة التي قالها الشهيد السعيد زهير بن القيم تذکرنا بما حدث في التاسع من محرم، أي قبل الفاجعة بيوم واحد فقط، ففي اليوم التاسع من محرم، جمع الحسين علیه السلام أصحابه عند المساء قبل مقتله بليلة واحدة و خطب فيهم قائلا:

«أثني على الله أحسن الثناء و أحمده على السراء و الضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا بالقرآن و فقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدا و لم تجعلنا من المشركين - أما بعد، فإني لا أعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي، و أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا، و قد أخبرني جدي رسول الله صلی الله علیه و آله بأني ساساق إلى العراق فأنزل أرضا يقال لها عمورا و کربلا و فيها أستشهد و قد قرب الموعد.

ألا و إني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا و إني قد أذن لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، و هذا الليل قد غشیکم فاتخذوه جملا، و ليأخذ كل رجل منکم بید رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعا خيرا، و تفرقوا فيسوادكم و مدائنکم فإن القوم إنما يطلبونني، و لو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري»(2).

هذه هي الخطبة الشهيرة التي قالها الإمام الحسين علیه السلام قبيل استشهاده بیوم واحد فقط، و هي خطبة معروفة للجميع بقوتها وبنبل معانيها، خاصة في الموضع الذي يخير الإمام الحسين علیه السلام أصحابه الكرام بين الثبات و البقاء معه و بين ترکه وحيدا في ساحة الوغى للقاء مصيره المأساوي المحتوم وحيدا تحت قبة السماء التي

ص: 435


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص138.
2- نفس المصدر السابق ص137.

ستحمر خجلا و غضبا لمقتل هذا السبط الطاهر الزكي على أيدي شذاذ الآفاق من بني أمية!!

و ما يهمنا الآن من المعاني النبيلة لهذه الخطبة العصماء هو ردود فعل أصحابه عليها و على الخيارين اللذين وضع الإمام الحسين علیه السلام أولئك الأصحاب أمامهما، أي إما البقاء و الثبات و إما الهروب و الإفلات.

فيا ترى ماذا كانت ردود فعل أولئك الأصحاب الذين قال فيهم الإمام الحسين علیه السلام منذ قليل «فإني لا أعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي ؟!».

فهل كانوا على مستوى هذا القول الرائع من الإمام الحسين علیه السلام حين وصفهم بذلك ؟!

و هل كانوا على مستوى تحمل أعباء تلك المسؤولية في وقوفهم معه؟!

و بماذا أجابوه في نهاية المطاف؟!

فالجواب الشافي على كل تلك الأسئلة يمكننا العثور عليها في كتب إخواننا السنة و أيضا في كتب و دواوين العديد من المفكرين و الأدباء المسيحيين الكبار.

دعونا، الآن، إذن نقلب بعض کتب إخواننا السنة المعاصرين لنرى طبيعة ردود الأفعال من قبل أصحاب الحسين علیه السلام الذين أصبحوا في حل من أمرهم في مسألة البقاء معه و الدفاع عنه أمام السيوف الأموية التي تنظر شذرا إلى قلب الحسين علیه السلام و تحره.

و أول رد فعل من أصحابه و أهله علیهم السلام، كان من بني عقيل، فقد أجابوه قائلين:

(فما يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شیخنا و سيدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرم معهم بسهم و لم نطعن معهم برمح و لم نضرب معهم بسيف و لا ندري ما صنعوا!!

ص: 436

لا و الله لا نفعل و لكن نفديك بأرواحنا و أموالنا و أهلنا و نقاتل معك حتى ترد موردك، قبح الله العيش بعدك)(1).

أما صاحبه (مسلم بن عوسجة الأسدي)، فقام قائلا:

(أنحن نتخلى عنك و لما نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما و الله حتى أكسر في صدورهم رمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي و لا أفارقك، و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت)(2)

و قال (سعيد بن عبد الله الحنفي) رافعا صوته بكل ثقة و إيمان:

(و الله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا عيبة رسول الله صلی الله علیه و آله ، و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقي جمامي دونك!! فكيف لا أفعل ذلك و هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)(3)

و قد سجلت كتب إخواننا السنة أيضا موقف (العباس بن علي)، و ما أدراك ما العباس !!

إنه أخ للإمام الحسين علیه السلام من أبيه أمير المؤمنين علي علیه السلام و أمه فاطمة بنت حزام الكلابية، و قد ولدت للإمام علي عليه السلام أربعة أولاد، فسميت لذلك (أم البنين) و هم: العباس و جعفر و عثمان و عبد الله، و قد استشهدوا جميعا في أرض كربلاء دفاعا عن أخيهم الحسين علیه السلام و من ألقابه عليه السلام : (السقاء) و (ساقي العطاشی بكربلاء) لأنه استسقى الماء لأهل البيت عليهم السلام يوم الطف.

ص: 437


1- محمد رضا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص147.
2- نفس المصدر السابق ص147.
3- نفس المصدر السابق ص148.

و (أبو الفضل) لأنه كان له ولد اسمه الفضل، و (باب الحوائج) لكثرة ما صدر عنه من الكرامات يوم كربلاء و بعده، و(قمر بني هاشم) لجمال هيئته و وسامته و هيبته.

و قد وقف (أبو الفضل العباس) عليه السلام موجها كلامه إلى أخيه الإمام الحسين علیه السلام قائلا: «معاذ الله و الشهر الحرام... و ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم ؟! نقول: ترکنا سیدنا و ابن سیدنا غرضا للنبال و دريئة للرماح و حرزا للسباع.. و فرزنا عنه رغبة في الحياة؟! معاذ الله .. معاذ الله .. بل نحيا بحياتك.. و نموت معك»(1).

يا لها من كلمات تستنزل الدموع من عيون ملائكة السماء !!

يا لها من تعابير تضج بأنغام اليقين و تصدح بألحان العزة و الكرامة و الوفاء !!

فأين أنت يا فاطمة الزهراء علیها السلام لتري ماذا سيحل بابنك الحبيب الحسين علیه السلام و بأبنائه و أهل بيته الأطهار؟! و لو أنک رأيت ما حدث لابنك الحسين علیه السلام أمام عينيك، فماذا ستقولين غدا لأبيك المصطفی رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

لقد صدقت يا سيدتي عندما قلت بعد فقدک لأبيك المختار صلی الله علیه و آله:

ماذا على مَن شَمَّ تربة (أحمد) *** ألا يشم مدى الزمان غواليا

صُبَّت عليَّ مصائبُ لو أنَّها *** صُبَّت على الأيام عدنَ لياليا

و إذا كانت كتب السير و الأخبار قد وصفتک قائلة: (فما يذكر التاريخ أن فاطمة ضحكت بعد وفاة و الدها حتى لحقت به)(2)، فكيف سيكون حالك يا سيدتي و مولاتي لو أنك رأيت ابنك الإمام الحسن عليه السلام و هو يلفظ أحشاءه من جوفه دما بعد أن جرعوه السم الزعاف؟!

ص: 438


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص156.
2- عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص38.

و كيف سيكون حالك يا سيدتي لو أنك رأيت ابنك الحسين علیه السلام و هو مقطع الأوصال فوق الرمال الحارقة قرب الفرات؟!

و ما هو موقفك يا سيدة نساء العالمين لو أبصرت عيناك المكتحلتان بالحزن و بسواد الليل أحفادك الأطفال الصغار و هم يذبحون من الوريد إلى الوريد بعد أن حرق عليهم أعداؤهم الخيام في ساحة كربلاء، ثم راحوا يصطادونهم بالسهام الواحد تلو الآخر كالعصافير الصغيرة التائهة التي فقدت أبويها الحنونين فراحت تهيم على وجهها في كل مكان و قلوبها الصغيرة تنبض بالرعب و الذهول؟!

و على كل حال يا سيدتي البتول عليها السلام ، ها هو ابنك الحسين علیه السلام يقف خطيبا في الناس غداة اليوم الذي استشهد فيه، فها هو يحمد الله و يثني عليه ثم يقول ناصحا و مذکرا: «عباد الله، اتقوا الله و كونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت لأحد و بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحق بالبقاء، و أولى بالرضا و أرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، و خلق أهلها للفناء، فجديدها بال و نعيمها مضمحل، و سرورها مكفهر، و المنزل بلغة، و الدار قلعة، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، و اتقوا الله لعلكم تفلحون»(1).

و هنا لنا أن نتساءل قائلين:

كيف استقبل الجيش الأموي و قادته هذه الخطب البليغة التي حاول الإمام الحسين علیه السلام من خلالها تذكيرهم بالحق و إيقاظ ضمائرهم النائمة؟!

إن الجواب على هذا السؤال الذي يمكن أن يفرض نفسه علينا يبين - و بكل أسف- أن ضمائر أفراد الجيش الأموي، و بشكل خاص ضمائر قادته، لم تكن نائمة أبدا، بل

ص: 439


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص69.

كانت في حالة موت تام لانهوض بعده على الإطلاق، و لذلك، فإن خطب الإمام الحسين علیه السلام زادت الكافرين عتوا و طغيانا، و بنفس الوقت أيضا، زادت المؤمنين ثباتا و إيمانا.

فالحجة قامت، و البينة ثبتت، و الأقلام جفت، و الصحف رفعت.

فعمر بن سعد و عبيد الله بن زياد، و حتى يزيد نفسه، لا يمكن لهم أن يتأثروا بأي كلمة من الحسين علیه السلام، أو حتى من جد الحسين ذاته صلی الله علیه و آله، فالحكمة لا تنفع مع هؤلاء أبدا، بل كيف يمكن للكلمة الإلهية الطيبة أن تؤثر في قلوب هؤلاء، و قلوبهم أقوى و أقسى من الصخر الصلد الأصم؟!

ألم نقرأ في كتاب الله تعالى قوله: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»(1)؟!

فلماذا، إذن، لم يصدع هؤلاء بالحق و هم يقفون أمام القرآن بكل ما يمتلك من حجج و براهين و آیات حق و منزلة عظيمة ورثها عن جده رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

و أعتقد، شخصيا، أن مقارنة بسيطة بين الحسين علیه السلام و تربيته من جهة،و بين یزید و تربيته من جهة أخرى، ستعطينا الجواب الواضح على السؤال المطروح.

و يكفي أن نجري تلك المقارنة السريعة من خلال طرح هذه الأسئلة البسيطة التالية و سنترك أمر الإجابة عليها للقارئ الكريم:

- من هو والد الإمام الحسين علیه السلام ، و من هو والد یزید؟!

- من هي والدة الإمام الحسين علیه السلام، و من هي والدة يزيد؟!

- من هو جد الإمام الحسين علیه السلام ، و من هو جد یزید؟!

ص: 440


1- سورة الحشر: الآية 21.

- من هي جدة الإمام الحسين علیه السلام، و من هي جدة يزيد؟!

- من هم أفراد جيش الحسين علیه السلام، و من هم أفراد وقادة جيش يزيد؟!

- ما هي المدرسة التي تخرج منها جيش الحسين علیه السلام ، و ما هي المدرسة التي ينتمي إليها جيش يزيد؟!

من خلال هذه المقارنة السريعة المعتمدة على الأسئلة المذكورة أعلاه، ستتضح لنا هوية كل من الطرفين، و ستتجلى فلسفة الصراع عند كل منهما و ذلك من خلال إدراك الأهداف و الغايات التي ينشدها كل من قادة المعسگرین، و لا ريب في أنه سيتوضح لنا أيضا السبب الذي يمنع أولئك الأجلاف من الرضوخ للحق و الاعتراف به.

وليت الأمر يتوقف عند حد عدم الاستماع لكلام الإمام الحسين علیه السلام، و عدم الاستجابة له في عملية نفخ الروح في الضمير الذي فقد القدرة على الحياة، بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد راح قادة الجيش الأموي يتمادون في غيهم و ضلالهم إذ أنهم عمدوا إلى أسلوب قتل الإمام الحسين علیه السلام و إماتته بطريقة القتل البطيء.

فكيف عمدوا إلى قتله ببطء شديد؟!

و هل هناك أصعب و أمر من أن يرى الأب أهل بيته و أطفاله الصغار يموتون عطشا أمام عينيه، و هو على بعد أمتار من الفرات، و لا يستطيع عمل شيء؟!

و هل هناك أم و أدهى من أن يهدد الرجل الكريم بالإغارة على حرمه و هتک عرضه، و أسر نسائه و تحریق أطفاله القاصرين؟!

ثم، أليس الأصعب من هذا كله أن يهدد كل هؤلاء بالموت عطشا في حين أن

ص: 441

جدهم الرسول المصطفى صلی الله علیه و اله هو صاحب نهر الكوثر و ساقي المؤمنين العطاش يوم المحشر ؟! حقا، إن الظلم الحقيقي هو أن يعطش الإنسان في فصل الشتاء؟!

نعم، لقد منع الجيش الأموي الإمام الحسين و أهله عليهم السلام و أصحابه من شرب الماء من نهر الفرات، ذلك النهر الذي كان ماؤه مباحا لكل الناس من مسلمين و غير مسلمين، من مؤمنين و كافرين، و حتى للكلاب و الخنازير.

فالماء مباح للجميع إلا للحسين و أهله علي و أصحابه الأطهار الصادقين الصابرين، فهو محرم عليهم و لو ماتوا جميعهم عطشا ما لم يبايع الإمام الحسين علیه السلام يزيد الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين.

و ما هي كتب السنة و المسيحيين المعاصرين تذكر أن عمر بن سعد قد قام بتوجيه الأوامر إلى عمرو بن الحجاج (أن يسير في خمسمائة راكب، فينيخ على الشريعة (مورد الناس للاستسقاء) و يحولوا بين الحسين و أصحابه و بين الماء، و ذلك قبل مقتله بثلاثة أيام، فمكث أصحاب الحسين عطاشا)(1).

و كانت تلك الأيام العصيبة مأساة حقيقية بحد ذاتها، فقد أصبح الإمام الحسين علیه السلام محكوما بالوحدة و الوحشة و الغربة و الظلم و الجوع و العطش و قلة الأصحاب و الناصرين.

و بالرغم من كل ذلك، إلا أنه علیه السلام ثبت في ساحة الامتحان الإلهي حتى آخر لحظة له على وجه هذه الدار، دار البلاء و الاختبار، و قد أجاد المفكر اللبناني المعاصر الدكتور (عمر فروخ) ( 1987-1906) عند ما قال شعرا يذكر المسلمين من خلاله بأيام الحسين علیه السلام الخالدة:

ص: 442


1- محمد رضا علیه السلام، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص142.

أفي كل يوم لنا وقفة *** و ركب الحياة بنا یعبر؟

و نحن عن الدهر في غفلة *** و للدهر مکر بنا منکر؟

ذكرناعلى الدهر يوم الحسين *** و یوم الحسين هدی نیر

له زجل في ثنايا الزمان *** و عصف على الظلم لا يفتر

و عود کعود الهلال الجديد *** و طيب كعرف الندي خير

إذا جدر الحزين بعد الحسين *** فإن التأسي به أجدر(1)

لقد تحولت تلك الأيام العصيبة في حياة الإمام الحسين علیه السلام إلى مجموعة رموز نبيلة خالدة في الضمير العالمي الباحث دائما عن مثل عليا تنتشله من أوهام الحاضر و أوحاله التي كادت تقضي عليه تحت عناوین مزيفة و شعارات براقة جوفاء تخفي وراء ستائرها السميكة الكثير من الذل و الهوان للنفس الإنسانية السوية المتعطشة في ذاتها لكل قيم الخير في الوجود و لكل لمسة دفء و حنان من فيض ينابيع مبادئ السماء.

و هنا تجدر الإشارة إلى أن الأديب و المفكر المسيحي (بولس سلامة) قد أشار في أكثر من موضع في ملحمته الشعرية (عيد الغدير) إلى عطش الحسين علیه السلام، و لكنه لم يتحدث بالتفصيل عن الآلام المريرة التي عاناها هو و أهله و صحبه، بل سرعان ما ربط ما بين العطش من جهة و إقامة الحجة على الأعداء من جهة أخرى و ذلك عن طریق تذكيرهم بحقيقة مقامه و علو مكانه.

فبعد أن يصور الأديب (سلامة) عطش الإمام الحسين علیه السلام بشكل سريع من

ص: 443


1- الدكتور عمر فروخ، المأساة و التأسي، مجلة (الموسم) العدد /12/ المجلد/3/ إصدار:المركز الوثائقي لتراث أهل البيت عليهم السلام . أكاديمية الكوفة، هولندا (1991)، راجع ص 21.

خلال قوله:

وقف الظامئُ الحسين و نادى *** يا جنود العراق عوا كلماتي

نراه يتحول بشكل مفاجئ إلى تصوير الإمام الحسين علیه السلام و هو واقف قبيل المعركة رافعا صوته بحديث مطول يذكر الناس من خلاله بهويته الروحية المتميزة:

أوليس الرسول جدي، و أمي *** خير بنت و أطهر الزوجات

أمها جدتي خديجة كانت *** وردة المشرقين في السيدات

بيتها مهبط النبوة، إذ جبريل *** يأتي بالوحي و الآيات

أوليس الضرغام حمزة عمي *** أسد الله، كاشف الكربات

أوليس الشهيد جعفر عمي *** لقن الدهر آية في الثبات

أولست الحسین نجل علي ***و علي أنشودة للحداة

و هنا يأتي هذا الشاعر المسيحي العملاق بالمفارقة الغريبة عند تصويره للإمام الحسين بصورة الفارس (الظامی)المتعطش و لو إلى شربة قليلة من ماء الفرات في حين أن أباه عليا أميرالمؤمنين عليه السلام هو الذي:

يمنع الحوض غب هول و حشر *** يوم تأتي النفوس مبتردات(1)

فالحسين الظامئ على رمال كربلاء و المتعطش إلى شربة ماء، سيكون أبوه علي عليه السلام هو صاحب الحوض و ساقي المؤمنين العطاش غدا عند المحشر و هو المطلع في عالم السماء !!

و حتى نكون واقعيين في كلامنا حول تفاصيل الفاجعة، علينا أن نقول - و ذلك من باب لفت النظر و الصدق في الكلام - إن بعض الذين كتبوا و تحدثوا عن مأساة كربلاء

ص: 444


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص260.

لم يعالجوا التفاصيل و لم ينقلوا لنا صورة الأهوال الحقيقية للفاجعة، و إنما اكتفوا بذكر الخلاصة العامة لمجريات الأحداث العامة، و هذا ما نجده جليا في كتاب (History Of The Arabs) للمفكر المسيحي (فيليب حتي) (PH. Hitti) الذي تحدث عن فاجعة كربلاء بأسلوب المؤرخ المسجل للأحداث العظيمة التي تترك عظيم الأثر على حركة التاريخ و على النفوس و العقائد و التيارات الروحية و الفكرية معا.

و إذا كان هذا هو الوضع مع المؤرخ (فيليب حتي)، فإن الوضع مع الأديب و المؤرخ المسيحي اللبناني (جرجي زيدان) يختلف تماما، خاصة في ما يتعلق بتصوير تفاصيل أحداث الفاجعة و وقائعها الدامية في شهر محرم الحرام.

و قبل الدخول في الكلام عن بعض الصور و التفاصيل الخاصة بوقائع مأساة کربلاء لا بد من إعطاء القارئ فكرة موجزة عن الأديب و المؤرخ (جرجي زيدان) صاحب الرواية التاريخية المعروفة (غادة كربلاء).

فالأستاذ جرجي زيدان (1861-1914) أديب و مؤرخ لبناني، ولد و تعلم في بیروت و توفي في القاهرة، يعتبر واحدا من رجال النهضة، و قد أسس في القاهرة مجلة شهيرة هي مجلة (الهلال) عام 1892، و دار الهلال للنشر، له العديد من المقالات اللغوية و التاريخية المتميزة، من كتبه (تاريخ التمدن الإسلامي) و (تاریخ آداب اللغة العربية) و سلسلة (روایات تاريخ الإسلام)، و تعتبر رواية (غادة كربلاء) واحدة من أهم الروايات التاريخية في السلسلة المذكورة.

و غادة كربلاء هو لقب أطلقه ذلك المؤرخ المسيحي على فتاة من شيعة أهل البيت عليهم السلام، اسمها الحقيقي (سلمى بنت حجر بن عدي الكندي المقتول ظلما على

ص: 445

يد الطاغية معاوية في مرج عذراء قرب دمشق لأنه رفض البراءة من ولاية علي أمير المؤمنين علیه السلام.

ولئن قصر ذلك المفكر المسيحي بعض الشيء في إعطاء القارئ الوصف المطلوب لشخصية الإمام الحسين علیه السلام و للبواعث الأساسية لنهضته الكربلائية المباركة، فقد استطاع أن يتجاوز حالة التقصير في وصف الكثير من مآسي الفاجعة و تصوير مجريات أحداثها التراجيدية المؤثرة.

و يكفي أن نذكر من تلك القصص المؤثرة التي أوردها في روايته الطويلة تلك القصة المتعلقة بأحد أطفال الإمام الحسين علیه السلام، و هو الطفل المعروف باسم (عبد الله الرضيع).

و ها نحن نورد هذه القصة المؤثرة من قصص المأساة كما رواها المؤرخ و الأديب (زیدان) مع شيء من التصرف و الاختصار خوفا من أن يشعر القارئ الكريم بالملل والضجر.

ففي الربع الأخير من رواية (غادة كربلاء) يصور لنا المؤلف أجواء المعركة العنيفة بين الطرفين غير المتكافئين في العدد و العتاد، و في خضم تلك الأحداث الدامية تبرز بطلة الرواية (سلمى بنت حجر بن عدي) و هي تحمل (عبد الله الرضيع) ابن الإمام الحسين علیه السلام الذي لم يتجاوز عدة شهور من عمره، و تبتعد به عن بؤرة الأحداث و ساحة الصراع الدامي، و لم تستطع سلمى البقاء هناك خوفا على الطفل الرضيع من نبل يصيبه، فعادت إلى الخيمة فرأت زینب و سكينة و فاطمة آل الحسين يبكين بمرارة و حسرة بجانب فراش علي بن الحسين علیه السلام المريض.

و لما رأى علي بن الحسين، و هو الملقب بعلي زين العابدین علیه السلام، سلمى مقبلة

ص: 446

نحوه و أخوه عبد الله الرضع يبكي بين ذراعيها و يتلوى من حرقة العطش، قال لعمته و أخته: «قمن، فاشتسقين له».

فصاحت زينب عليها السلام: «و من أين نستسقي له؟ و من يسقينا؟ ... يا ليته يشرب الدمع فنسقيه من آماقنا»، قالت زینب علیها السلام ذلك و نهضت إلى الطفل الصغير فتناولته و راحت تقبله و هي تبكي و تضمه برفق و حنان إلى صدرها المليء بالحسرات و الأحزان.

و في هذه اللحظة ينتقل بنا (جرجي زيدان) إلى صورة جديدة من الأحداث قبل إكمال قصة مأساة عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين علیه السلام، و لا ريب في أن التداخل المتعمد بين هاتين الصورتين له هدف واضح تماما، و هو إظهار الوجه الإيماني للحسين عليه السلام و جيشه الصغير من جهة، و إظهار الوجه الشيطاني لجيوش یزید و أعوانه من جهة أخرى.

فالصورة الجديدة المؤثرة المتداخلة مع قصة مأساة ابن الحسين الرضيع الذي سيفارق الحياة دون أن يرتوي من الماء، تقوم على تصوير الإمام الحسين علیه السلام و قد جمع ما تبقى من جيشه الصغير يأمرهم بالصلاة رغم الخوف والقتل و العطش.

و يستجيب الرجال له فيجتمعون معه و يقفون وراءه و النبال تتساقط عليهم من كل جانب و صلى فيهم الحسين علیه السلام صلاة حارة يخشع لها قلب الجماد(1).

فلما فرغوا من الصلاة، تجددت آمالهم و اطمأنت قلوبهم، تقدم أحد رجال الحسين علیه السلام علي و رفع صوته قائلا: (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب... یا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد... یا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحقكم الله بعذاب، و قد خاب من افترى، قال ذلك و هجم و هو يقاتل کالأسد الضاري حتى قتل، و ما زال

ص: 447


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص219.

رجال الحسين يقاتلون و يقتلون حتى لم يبق منهم إلا أهل بيته خاصة.

إنها بلا ريب لفتة ذكية من الأستاذ (زیدان) عند ما قرن مشهد الطفل الصغيرالظامئ مع مشهد صلاة أبيه الحسين علیه السلام من جهة، و مع ظلم و طغيان الجيش الأموي من جهة أخرى ذلك الجيش الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة حتى مع أبناء الرسل و الأنبياء

و لذلك، نرى أن الأستاذ (زیدان) يعود ثانية لإكمال ما حدث للطفل الرضيع الظامي الذي يتلظى قلبه الصغير لشربة ماء عذب تبعد عنه شبح الموت عطشا قرب نهر الفرات.

و هنا يكمل ذلك المؤرخ المسيحي رسم الخطوط الأساسية لصورة تلك المأساة القاسية على قلب الحسين علیه السلام و على قلوب أحباب الحسين علیه السلام ، بل و على قلوب كل من كان لهم ضمائر حية في نفوسهم، و قيم إنسانية و إيمانية في صدورهم، و ها هو يتابع مجريات الحدث بقوله إن سلمى قد جزعت كثيرا على الطفل، فأرادت أن تلجأ به إلى الخباء... فرآها الحسين و الطفل يحترق من ألم العطش بين يديها المتعبتين، فأشار إليها أن تأتي، فأتت إليه و الطفل يتلوى من العطش، و قد بح صوته و تعب صدره و هي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من بين ذراعيها و أسرع نحو المعركة، و لم تفهم سلمي معنى ذلك و لم تعرف ماذا تعمل...

فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة و الطفل مرفوع بين يديه باتجاه السماء، كأنه يشير إليهم و يقول: يا أهل الكوفة خافوا من الله و اسقوا هذا الطفل الصغير... یا قوم خافوا من الله و اذكروا عذاب يوم أليم.

فتأثرت سلمي من هذا الكلام كثيرا و ظنته يعطي ثماره، فيحن أولئك القوم على

ص: 448

الطفل الرضيع فيسقونه و لو قليلا من الماء... و لكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلا من النبالة قد أوتر قوسه و رمی به نحو الحسين و هو يقول له: (خذ اسقه)، فوقع السهم في قلبه و هو بين يدي أبيه الحسین، فصاح الرضيع صيحة الألم العظيم الذي أنساه ألم العطش إلى الماء، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم قد أصاب قلبها لا قلب ذلك الطفل الرضيع البريء الذي ليس له ذنب بنظر أعدائه إلا أنه ابن الحسين .

و تركض سلمى إلى الحسين و ترى الطفل يختلج بين يديه و هو يئن، و قد تدلی رأسه على صدره و الدم يقطر منه... فصاحت: (ويلاه ما أظلمهم، ويلاه ما أقسى قلوبهم، قتلوا الطفل!!)، ثم همت بتناوله فمنعها الحسين من ذلك و قال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده و عمه و أهله الصالحين».

ثم رفع يديه و الغلام القتيل بينهما، و شخص ببصره إلى السماء وقال: «إن تكن حبست عتا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، و انتقم لنا من القوم الظالمين»، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته، و فيهم إخوة الحسين و أولاده و أبناء عمه و أبناء أخيه الحسن(1).

هذه هي القصة التي رواها الأستاذ (جرجي زيدان) حول مصرع عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين عليه السلام بين يديه المتوجهين به إلى السماء و كأنه عليه السلام يقول لله السميع العليم: إلهي، انظر ماذا يفعل القوم بي و با بني الرضيع، و ها أنا أرفعه قربانا إليك فداء للرسول محمد صلی الله علیه و آله و لرسالته السماوية، رسالة الإنسانية و الرحمة.

هذه هي القصة بخطوطها الأساسية كما وردت في رواية (غادة كربلاء)، و لكننا

ص: 449


1- نفس المصدر السابق ص220.221.

تصرفنا فيها بعض الشيء حيث قمنا باختصار بعض التفاصيل من جهة، و أضفنا إليها بعض التعابير و الجزئيات التي أخذناها من بعض كتب و روايات إخواننا السنة، و من بعض مؤلفات المفكرين و الأدباء المسيحيين التي سنذكر عناوينها في هذا الفصل بعد قليل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التعديلات الطفيفة التي ذكرناها لم تؤثر على جوهر القصة الحقيقية التي نقلناها عن قصة الأستاذ (جرجي زيدان).

و على كل حال، نحن لا نشك أبدا في أن القارئ الذي يقرأ قصة استشهاد الطفل الصغير عبد الله الرضيع عليه السلام سيتأثر بها إلى حد كبير و ربما سيذرف ذلك القارئ - ايا كان دينه و مذهبه . الكثير من الدموع الحارة على مصير ذلك الطفل الذي قضى عطشا و ألما بعد أن سقوه من دمه الطاهر كؤوس المرارة و العذاب.

و لا شك أيضا في أن ذلك القارئ المتأثر بما حدث قد يتساءل قائلا:

هل من المعقول أن تصل وحشية الإنسان إلى هذا الحد الذي يجعله يفقد معه كل شعور بالإنسانية و بالشفقة و الرحمة؟!

نقول: نعم، إن الإنسان، و ربما المجتمع بأكمله، قد تصل به الحال إلى ذلك الحد السلبي السيئ، و ما المجتمع الأموي عموما إلا أوضح مثال على ذلك، فالأمويون- كما يقول عنهم المستشرق الفرنسي (كازانوفا)- لم يكن عندهم أي هم وأي هدف من وراء حروبهم إلا الفتك بالآخرين بهدف السلب و النهب و إشاعة الخراب و التفسخ و التلذذ المفاسد و الشهوات(1)

و بالتالي، فمن الطبيعي تماما أن يصل الحال بهذا المجتمع الفاسد إلى مستوى تقدیس الرزيلة و وأد الفضيلة.

ص: 450


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق ج4، ص47.

و إذا كنا قد ذكرنا تفاصيل قصة استشهاد رمز الطفولة و الطهارة عبد الله الرضيع عليه السلام ، فإننا لن ننسى أيضا قصة استشهاد القاسم ابن الإمام الحسن عليه السلام المعروف بلقب (فلقة القمر) لشدة هيبته و جماله، و قد كان شابا صغيرا لا يزال في مدارج الصبا.

و ها هي الكتب و المراجع المعاصرة تصفه و تصور دوره في معركة كربلاء قائلة:

و اندفع أصغرهم سنا ۔ القاسم بن الحسن - يهز السيف في الهواء الساخن، ثم يهوي به فوق الأعناق الضالة الظالمة، حتى نالته سيوفهم فهوی کالنجم، ينادي: یا عماه (قاصدا بذلك عمه الحسین)...!!

و نسي الحسين ما حوله من هول، و انطلق كالصقر صوب قاتل ابن أخيه، حيث شد عليه شدة الليث و ضربه بسيفه، فبتريده الشقية ثم طرحه أرضا، حيث داسته خيل جيش ابن زیاد، فهلك تحت حوافرها...

و انثنى البطل نحو ابن أخيه يضمه، و يشتمه، و يتملی رونق الزهور في وجهه و في جسده الفتي المثخين بالجراح.

و لأول مرة سالت عبرات الأسد، و قال يخاطب الجثمان المسجى بالمجد:

«عزيز و الله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك، فلا ينفعك في يوم كثر واتره.. و قل ناصره..!!(1)

ثم أسرع إليه عمه الإمام الحسين علیه السلام، فحمله و وضع صدره على صدره، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر و القتلى من أهل بيته علیهم السلام، ثم رفع طرفه إلى السماء و قال عليه السلام: «اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَداً وَ اقْتُلْهُمْ بَدَداً وَ لَا تُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَداً وَ لَا تَغْفِرْ لَهُمْ

ص: 451


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص176.

أبداً»(1)

و صاح الحسين علیه السلام في تلك الحالة الأليمة: «صَبْراً يَا بَنِي عَمُومَتِي ، صَبْراً يَا أَهْلِ بَيْتِي ، فَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتُمْ هَوَاناً بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَبَداً».

و قد علق العالم الأزهري الفذ (خالد محمد خالد) على هذا المشهد الدامي من کربلاء بقوله مخاطبا أبا عبد الله الحسین:

(لك الله، أبا عبد الله !!

و هل اختارتك المقادير لهذا العبء الذي يدغدغ الجبال، إلا و أنت له كفءٌ و به جدير؟ ألا صبر آل محمد... فهذا دوركم في الحياة، و حظكم من الدنيا.. یا سادة الآخرة، و يا ملوك الجنة..!!).(2)

نعم، إنهم بلا ريب سادة الآخرة و ملوك الجنة، و لكن هل كان عليهم علیهم السلام أن يدفعوا جميعا تلك الضرائب الباهظة على الأرض كي يحتلوا تلك المكانة الرفيعة في السماء؟!

و هل حفظ مسلمون رسولهم الكريم صلی الله علیه و آله في أهل بيته الأطهار عليهم السلام كما أوصاهم في الكثير من خطبه و أحاديثه و مواعظه؟!

ألم ينقل لنا (أبو بكر) الحديث التالي، و قد أخرجه (البخاري) عنه:

«أرقبوا ( أَيْ احْفَظُوا ) مُحَمَّداً صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»؟!(3)

ص: 452


1- لبيب بيضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص271، و قد نقل الأستاذ (بيضون) كامل القصة عن استشهاد القاسم بن الحسن عليه السلام من كتاب (مقتل الحسين) للخوارزمي الحنفي ج2 ص28، يرجى مراجعة الكتاب المذكور لزيادة الثقة.
2- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص177.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص40.

ألم يخبرنا (ابن عمر) أن آخر ما تكلم به رسول الله صلی الله علیه و آله هو قوله:

«أخلِفُوني فِي أَهْلِ بَيْتِي»؟!(1)

ألم يوصنا نبي الهدى و الرحمة قائلا: «اجْعَلُوا أَهْلِ بَيْتِي مِنْكُمْ مَكَانَ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ ، وَ مَكَانَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ»؟!(2)

نعم، إنه صلی الله علیه و آله أوصانا و أوصى كل المسلمين بذلك، و ما الأحاديث النبوية الشريفة التي أوردناها الآن إلا غيض من فيض مما جاء في كتب إخواننا السنة و في بعض کتب و مؤلفات المفكرين المسيحيين أيضا.

و حتى نعرف تمام المعرفة كيف حافظ المسلمون، أو بالأصح من ادعوا أنهم مسلمون، على أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و كيف حفظوا وصاياه فيهم عليهم السلام، دعونا نسأل التاريخ السؤال التالي:

كيف انتهت حياة كل فرد من أفراد أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة؟!

كيف انتهت حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، و ماذا حل بها بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و آله؟!

كيف أمضى أمير المؤمنين علي عليه السلام رحلة الحياة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و كيف غاب عن عالم لا يستحقه و لا يستحق وجود ذلك الإمام العظيم فيه؟!

و هل هناك من حاجة لذكر الطريقة التي انتهى بها الإمام الحسن عليه السلام؟!

أما الإمام الحسين علیه السلام، فلا داعي لطرح السؤال عن كيفية نهايته، فنحن ما زلنا نتحدث عن أهم التفاصيل في نهضته الإنسانية و رحلته الاستشهادية كما يراها أرباب

ص: 453


1- نفس المصدر السابق ص46.
2- الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، الشرق المؤيد لآل محمد، مكتبة دار المستقبل . حلب ط 2006/1، ص50.

الأدب و الفكر و السياسة و الدين في الثقافة العالمية المعاصرة.

و لكن، و مع ذلك، نقول دائما و أبدا إن اللسان و القلم يعجزان تماما عن إعطاء البعد الحقيقي و الصورة الواقعية للمصائب التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام في حياتهم و حتى بعد غيابهم، و الشيء الذي يؤسف له هو أن تلك المصائب قد جاءت بشكلها المخيف السافر من مصدر واحد، من المسلمين أنفسهم و ليس من مصدر عدواني آخر.

و لكن، و من أجل أن نكون منصفين في كلامنا، علينا أن ندرك أن هناك فرقا واضح بين (السني) و (الأموي)، نعم، من الممكن أن يكون كل أموي معاديا في فكره و منهجه لفكر و منهج أهل البيت عليهم السلام، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل سني أموي الهوى أو أن يكون معاديا لفكر و نهج أهل البيت عليهم السلام.

و لعل الراهب الفرنسي (لويس غارديه) (Louis Gardet)(1904-؟) من المستشرقين القلائل الذين انتبهوا إلى تلك الملاحظة الهامة حول التفريق بين معنی كلمة (سني) و كلمة (أموي) و ذلك من خلال دراساته المكثفة للفكر و التاريخ الإسلامي بكل جوانبه و نواحيه، بما في ذلك الجانب المأساوي العنيف الذي لحق بأهل بيت الرسول صلی الله علیه و آله على يد الأمويين و من بعدهم على يد العباسيين أيضا.

و لذلك، فإن هذا الراهب و المستشرق الفرنسي كان يرى على الدوام (أن العديد من المؤرخين السنة، على مر الأجيال، أدانوا بشدة سياسة معاوية، و أكثر منها، شخص و دور ابنه يزيد المسؤول عن هزيمة و مقتل الحسين في كربلاء)(1).

و قد ذكر هذا الراهب كل ما توصل إليه من حقائق و معارف في الكتب المتنوعة

ص: 454


1- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص265.

التي كتبها عن الإسلام، مثل (الحاضرة الإسلامية) و كتاب (الإسلام دين و جماعة) و كتابه الأخير (أهل الإسلام).

و من المعروف عن هذا المستشرق أنه أخصائي في البنى الاجتماعية للحياة الإسلامية، و قد درس في معهد (تولوز) الدولي للفلسفة مادة الفلسفة المقارنة من عام 1957 إلى عام 1972، و قد ألقى العديد من الدروس و المحاضرات الهامة في جامعات الرباط و الجزائر و القاهرة، و سنعرف القارئ عليه بشكل أكبر في الفصول القادمة.

و حتى لا يفوتنا الوقت، و حتى لا تسرقنا الفكرة تلو الفكرة، و تبعدنا عن محور بحثنا، دعونا ننتقل إلى فصل جديد من هذا الكتاب، و هو فصل لا ينفصل و لا يتجزأ عن هذا الفصل الذي هو الآن بين أيدينا، إنه الفصل الذي يستمر في تصوير المأساة بعد أن وصلت إلى ذروتها.

إنه الفصل الذي يتحدث عن استشهاد أبي الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام عليه، بعد أن خذله الخاذل و قل عنه الناصر و استشهد بين يديه المدافع الصابر.

فالمأساة لم تتوقف عند حدود قتل الحسين و لا عند حدود قتل أصحابه و أبنائه،بل هناك الكثير و الكثير من المشاهد و المواقف التي يقطر لها القلب دما، قد حدثت على ساحة كربلاء بعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام مكسور القلب، وحيدا، غريبا، مظلوما، عطشانب، مذبوحا من الوريد إلى الوريد على ضفاف نهر الفرات.

إذن، هيا بنا الآن إلى الفصل الجديد من ملحمة الزمان، إلى ملحمة العاشر من محرم الحرام، إلى الحدث العظيم الذي كاد أن يتوقف عنده الزمان عن المسير حتى يصبح معه كل يوم من أيام الثائرين عبر الأجيال عاشوراء، و حتى تصبح لهم كل أرض

ص: 455

من بقاع العالم كربلاء.

فهيا بنا الآن إلى قراءة صفحة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام و انتصاره على الموت و الفناء.

و بالطبع، فإننا لن ننسى قراءة بقية الصفحات الأخرى المتعلقة باستمرار تتابع الفجائع المريرة على من تبقى من أهل البيت علیهم السلام حتى بعد استشهاد ريحانة رسول السماء الأخير صلی الله علیه و آله.

ص: 456

استشهاد الحسين علیه السلام و استمرار الفاجعة

يقول الباحث و المفكر البريطاني الدكتور (ك. شیلدريك) (K.Sheldrake) في حديثه عن موقعة كربلاء: (لم يزحف الحسين بأصحابه القلة طلبا للمجد و لا للسلطة و لا للثراء، بل طلبا لأسمى تضحية، و إن كل واحد من تلك العصبة الشجاعة، رجلا كان أم امرأة، قد عرف أن أعداءهم لا يهزمون و أنهم (أي العدد) لم يأتوا ليقاتلوا فقط بل ليقتلوا، و مع أن هذه العصبة قد منعت من الماء حتى الأطفال منها، و أقامت تتحرق تحت الشمس الساطعة و بين الرمال اللاهبة، فإن التخاذل لم يتسرب إلى واحد منهم، بل واجهوا بشجاعة أعظم الشدائد بثبات).(1)

و بالفعل، و كما رأينا في الفصل السابق، فقد واجه أصحاب الحسين و أهل بيته علیهم السلام كل أصناف الضغوط و الشدائد دون أن يتسرب الخوف أو التخاذل إلى قلب أي واحد منهم.

و ها هم قد تساقطوا حول الحسين عليه السلام كأوراق الخريف التي عصفت بهاریج هوجاء مبکرة فجعلتها تتناثر هنا و هناك بلا حراك و لا حياة منذرة بمجيء شتاء قاس و طويل مصحوبا بعواصف و فجائع و كوارث كقطع الليل الحالك لا بقي و لا تذر.

و ها هو الإمام الحسين علیه السلام يلتفت حوله يمينا و يسارا فلا يرى أحدا ينصره، و ها هو ينظر إلى أهله و صحبه مذبوحين و مقطعين كالأضاحي و القرابين على مذبح العشق

ص: 457


1- http:H//en.Wikipedia.Org/wiki/Husayn-ibn-Ali

الإلهي العظيم.

لقد هدأ كل شيء، و لم يعد أحد يسمع صوت قعقعة السلاح، و لكن بقي صوت واحد يعلو و يعلو و يرتفع حتى يشق عنان السماء... إنه بكاء الأيامي و صراخ الأطفال في خيام الحسين علیه السلام خوفا و ذعرا و عطشا.

إنها الحجة الأخيرة على الناس، و ها هو الحسين يطلقها قائلا و مناديا بأعلى صوته: أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟! أما من طالب حق ينصرنا؟! أما من خائف من النار فيدافع عنها؟!

لقد قامت الحجة على الجميع و ما من مجيب، فتقدم الإمام الحسين علیه السلام نحو القوم مصلتا سیفه کارها للحياة، طالبا للجنة، مستبشرا بلقاء جده صلی الله علیه و آله و أمه عليها و أبيه عليه السلام و بصحبه و أهله و بنيه عليهم السلام، و دعا الحسين علیه السلام القوم إلى المبارزة، فلم يزل يقتل كل من برز إليه من الرجال، ثم حمل على الميمنة و من ثم على الميسرة و هو يقول:

أنا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثنی

أحمي عيالات أبي *** أمضي على دين النبي

و قد وصفه عبد الله بن عمار بن يغوث بقوله: (فما رئي مکسورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه، أربط جأشأ منه و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما)(1).

و حين قاربت ساعة النهاية، اندفع العديد من رجال جيش ابن زیاد إلى خيام الإمام الحسين علیه السلام الذي فيه عياله و متاعه لينهبوه، فردتهم صيحة الإمام عليه السلام الذي كان يقاتل وحده: «وَيلَكم! إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في الدنيا، فرحلي لكم

ص: 458


1- د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص124.

عن ساعة مباح»!!(1)و بالفعل، فقد انتهبوا رحله و متاعه بعد ساعة!!

و قبل أن ينتبهوا رحله و متاعه بلحظات قليلة، وقفت أخته زينب عليها السلام غير بعيدة تملأ عينيها من أخيها الحسين علیه السلام قبل أن يمضي مخضبا بدمائه شاكيا إلى ربه، حتى إذا أثخنته الجراح في كل شبر من جسده الشريف و كاد أن يهوي على صعيد کربلاء، خانتها قواها فلم تعد تقوى على النظر إليه، فوضعت يديها على عينيها حتى لا ترى كيف ستهوي ريحانه الرسول صلی الله علیه و آله إلى الأرض.

و عندها صاح عمر بن سعد برجاله: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب.

أما السيدة زينب عليها السلام فكان آخر ما سمعته من أخيها الحسين علیه السلام صيحته الأخيرة في الألوف المجتمعة عليه لقتله و سلبه و التمثيل به:

«أعلى قتلي تجتمعون؟! أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم لقتله مني، وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما و الله لو قتلتموني لألقى الله بأسکم بینکم و سفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم»(2).

و قصده القوم و اشتد القتال و قد اشتد به العطش أيضا، فحمل من نحو الفرات على القوم، فكشفهم عن الماء و اقتحم بفرسه الماء، و لما مد يده ليشرب ناداه رجل:

أتلتذ بالماء و قد هتکت حرمك ؟!

فرمي عليه السلام الماء من يده و لم يشرب أبدا، و لوی عنق فرسه و اتجه إلى الخيام

ص: 459


1- د. عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي . بیروت، د.ت ص756.
2- نفس المصدر السابق ص757.

مسرعا، و بينما هو يشق الصفوف في طريق عودته، أصابه أحد السهام الحاقدة في صدره الشريف، فمال الإمام الحسين علیه السلام عن ظهر فرسه ثم تمالك نفسه و وقف على رجليه و قد أحاط به العدو من كل مكان كما يحيط القيد بالمعصم.

و بالرغم من كل ما أصابه من جراح و طعنات في جسده كله، ثبت في مكانه و استخرج السهم الذي أصابه في صدره و رماه بعيدا، ثم وضع يده تحت الجراح فلما امتلأت دما رمی به نحو السماء و قال: «هَوَّنَ عَلَى مَا نَزَلَ بِي إِنَّهُ بِعَيْنِ اللَّهُ»، ثم وضعها ثانية، و العدو ينظر إليه ما يفعل، فلما امتلأت من جديد لطخ بالدم رأسه و وجهه و لحيته و قال:

«هَكَذَا أَكُونُ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ وَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ أَنَا مخضب بدمي وَ أَقُولُ : يا جَدْيُ ، قَتَلَنِي فُلَانُ وَ فُلَانُ».(1)

ثم إنهم تركوه لوحده هنيهة، و عادوا إليه من جديد و أحاطوا به و هو صريع على حر الرمال لا يستطيع النهوض، فنظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن عليه السلام ، و كان فتی صغيرا له من العمر إحدى عشرة سنة فقط، فأقبل يشتد نحو عمه الحسین علیه السلام و أرادت زینب علیها السلام منعه فأفلت منها و جاء راكضا إلى عمه المخضب بالدماء محاولا أن يبعد عنه شبح الموت الذي راح يتراقص حوله على أسنة الرماح و رؤوس السيوف الحاقدة.

فماذا كانت النتيجة؟ و هل أفلح ذلك الفتى الصغير في إبعاد شبح القتل و التمثيل بعمه الحسین علیه السلام؟ و هل شفعت له حداثة سنه في إلغاء أو تأجيل ذلك المشهد الدامي من تلك المأساة؟!

ص: 460


1- السيد هادي المدرسي، کتاب عاشوراء، دار و مكتبة الهلال . بيروت، 1985، ص195.

و للجواب على تلك الأسئلة، دعونا، أولا، نسأل المؤرخ (الطبري) لنرى ماذا جاء في كتب المؤرخين المتقدمين عن تلك الصفحة من صفحات السفر الكربلائي الحزين.

ينقل لنا (الطبري) عن العديد من الرواة أن ذلك الغلام الصغير قد جاهد في الوصول إلى عمه الحسين علیه السلام الغارق بدمائه، و قد قام إلى جنبه، و في تلك اللحظة الحاسمة يهوي بحر بن کعب بن عبيد الله إلى الحسين علیه السلام عليه بالسيف يريد قتله تماما، فقال الغلام: يا بن الخبيثة، أتقتل عمي الحسين علیه السلام!!

فما كان من بحر بن کعب إلا أن وجه سيفه القاطع إلى رقبة ذلك الغلام الصغير، فاتقاه الغلام بيده، فقطعها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يا أمتاه!!

فأخذه الحسين علیه السلام فضمه إلى صدره، و قال له: «یا بن أخي، اصبر على ما نزل بك، و احتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله صلی الله علیه و آله ، و علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن بن علي، صلى الله عليهم أجمعين»(1).

و تحرك الإمام الحسين علیه السلام قليلا، و رفع يديه المتعبتين إلى السماء قائلا:

«اللَّهُمَّ إِنَّ مَتَّعْتَهُمْ إِلى حِينٍ ، ففرقهم تَفْرِيقاً بَدَداً وَ اجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَداً وَ لَا تَرْضَ الْوُلَاةِ عَنْهُمْ أَبَداً ، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لینصرونا ثُمَّ عَدُوّاً عَلَيْنَا يُقاتِلونا ».

و هنا يتقدم (حرملة بن كاهل) و يرمي الغلام الصغير بسهم فيذبحه و هو في حجر عمه الحسين علیه السلام ... و أمه واقفة بباب الخيمة تنظر إلى ما فعلوا به و هي عاجزة عن فعل أي شيء له.

و حتى تكتمل صورة العمل الوحشي الذي قام به أعداء أهل البيت عليهم السلام، علينا أن

ص: 461


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص451.

نقرأ بروية ما حدث للإمام الحسين علیه السلام في اللحظات الأخيرة من المواجهة.

الإمام الحسين علیه السلام ملقى على الأرض، و جراحه النفسية لا تقل ألما عن جراحه الجسدية، و إذا مررت به تكاد لا تعرفه من كثرة الدم الذي خضب وجهه و جسده و کامل ثيابه، لقد نزف معظم دمه و لم يبق في عروقه دم إلا مثلما يبقى في المصباح من قطرات زيت تبقي شعلته حية للحظات قليلة قبل أن يعم الظلام.

السهام لا تزال مغروسة عميقا في جسده و كأنها تعبر بألمها الحاد عن مدى حقد ها عليه، أما العطش، فلا يمكن لأحد أن يتخيل الحد الذي و صل الحسين علیه السلام إليه مع حالة العطش الشديد التي لا تحتملها حتى رمال كربلاء اللاهثة.

و بالرغم من هذه الحالة المأساوية المزرية التي بينت للجميع أن مصير الإمام الحسين علیه السلام بات محسوما نهائيا بحيث لم يعد يشكل أدنی خطر على مهاجميه من الأعداء، نرى الإمام الحسين علیه السلام ينظر بثبات في وجوه من هم حوله من الأعداء و كأنه يريد أن يقول شيئا أو أن يطلب شيئا.

و يا ترى ما هو ذلك الشيء الذي يريد أن يقوله أو أن يطلبه؟!

إنه يريد منهم شيئا بسيطا جدا، نعم إنه بسيط جدا لكن معانيه عميقة جدا أيضا، إنه عليه السلام يريد منهم قدحا من الماء !!

و يا للعجب!! إنهم يلبون طلبه و يأتونه بقدح من الماء العذب الفرات، ماذا حدث؟ هل عادوا إلى رشدهم؟ هل ندموا على فعلتهم؟ هل تابوا إلى الله من سوء ما قاموا به و تذكروا الحديث القدسي القائل: «أنين المذنبين أحب إلي من تسبیح المسبحين»؟!(1)

ص: 462


1- آية الله السيد عبد الحسين دستغيب، الثورة الحسينیة، دار التعارف. بیروت، دت ص46.

و حتى لا نقحم أنفسنا في متاهات لا طائل منها، و حتى لا نتأول ما حدث، دعونا نقرأ النوايا الخفية لإعطائهم الإمام الحسين علیه السلام قدحا من الماء العذب قبيل استشهاده بلحظات.

تنقل لنا بعض الكتب المعاصرة - نقلا عن الكتب المتقدمة- أن القوم لم يعطوا الإمام الحسين علیه السلام قدحا من الماء الفرات رحمة به أو شفقة عليه، و إنما أعطوه إياه إمعانا منهم في تعذيبه و محاولة إذلاله حتى آخر لحظة من حياته الكريمة.

فعندما استلم الإمام الحسين علیه السلام قدح الماء منهم و أراد وضعه على شفتيه المتشققتين من العطش، رماه (الحصين بن نمير) بسهم غادر فدخل السهم في فمه و حال بينه و بين الماء، فامتلأ فمه دما و سقط القدح من يده(1).

و بسقوط القدح الدامي من يد الإمام الحسين علیه السلام كانت قطرة الزيت الأخيرة في المصباح تزداد تألقا في اشتعالها معلنة بذلك اقتراب النهاية و إسدال الستار.

و يحدثنا التاريخ المتقدم و المعاصر، و رواته من مسلمين و غير مسلمين، أن عمر بن سعد نادي في أصحابه قائلا: من ينتدب للحسين و یوطئه فرسه؟! فانتدب له عشرة فرسان يدوسون صدره و يمزقون جسده.(2)

ص: 463


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابقص145.
2- راجع على سبيل المثال: أ. الأمير أحمد حسین بهادرخان الهندي، تاريخ الأحمدي، أشرف على الترجمة: السيد محسن الخاتمي، مركز الدراسات و البحوث العلمية. بيروت، 1988، ص294. ب. محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص453. ج.د. عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، مصدر سابق ص758. د.د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص126. ه . أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص267. و. إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص30. ز. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 278. ح. جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص225. ط. عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، مصدر سابق ص384.

و لكن علينا أن نعرف أن الأمر بتمزيق جسد الحسين علیه السلام لم يأت هكذا فجأة و إنما جاء أيضا بعد عدة مشاهد عنيفة أخرى قبیل استشهاده بعدة دقائق فقط.

و إليكم ما حدث بالتفصيل نقلا عن ما جاء في كتب إخواننا السنة و في كتب و دواوين الأدباء و المفكرين المسيحيين المعاصرين، و نحن عندما نورد وصف تلك اللحظات الحاسمة و الأليمة بشكلها الكامل في هذا الفصل من الكتاب، فإننا نورده کاملا و مفصلا من أجل إكمال الإطار العام للصورة الهمجية و الإنسانية التي واجهها الإمام الحسين علیه السلام في دقائقه الأخيرة بكل صبر و إيمان و رضى بقضاء الله و قدره.

لقد أجمعت المؤلفات المعاصرة على أن الإمام الحسين علیه السلام بقي مكبوبا على الأرض ملطخا بدمه ثلاث ساعات و هو يقول: «صَبْراً عَلَى قَضَائِكَ ، لا إِلهَ سِوَاكٍ ، یا غیاث الْمُسْتَغِيثِينَ»، فابتدر إليه أربعون رجلا كل منهم يريد حز رأسه الشريف.

و كان أول من ابتدر إليه (شبث بن ربعي) و بيده السيف، فدنا منه ليحتز رأسه، فرمق الحسين علیه السلام بطرفه، فرمی بعدها السيف من يده و ولى هاربا و هو يقول:

«وَيْحَكَ يَا بْنِ سَعْدٍ ، تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَرِيئاً مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنُ وَ إِحْرَاقُ دَمِهِ ، وَ أَكُونَ أَنَا مَطَالِبِ بِهِ ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِدَمِكَ يَا حُسَيْنٍ).

فأقبل (سنان بن سنان) و قال: ثكلتك أمك و عدموك قومك لو رجعت عن قتله، فقال (شبث): (يا ويلك إنه فتح عينيه في وجهي فأشبهتا عيني رسول الله صلی الله علیه و آله ، فاستحييت أن أقتل شبيها لرسول الله)، فقال له: يا ويلك، أعطني السيف فأنا أحق منك بقتله، فأخذ السيف و هم أن يعلو رأسه، فنظر إليه الحسين علیه السلام علي فارتعد، و سقط

ص: 464

السيف من يده و ولى هاربا، و هو يقول: معاذ الله أن ألقى الله بدمك یا حسین.

فأقبل عليه (شمر بن ذي الجوشن) و قال: ثكلتك أمك ما أرجعك عن قتله؟

فقال: يا ويلك، إنه فتح في وجهي عينيه، فذكرت شجاعة أبيه، فذهلتُ عن قتله.

فقال (الشمر): يا ويلك، إنك لجبان في الحرب، هلم إلي بالسيف، فوالله ما أحد أحق مني بدم الحسين ، إني لأقتله سواء شبه المصطفی أو علي المرتضی،فأخذ السيف من يد (سنان) و ركب على صدر الحسين علیه السلام فلم يرهب منه، و قال: لا تظن أني کمن أتاك، فلست أرد عن قتلك يا حسين

فقال له الحسين علیه السلام : «مَنْ أَنْتَ وَيْلَكَ ، فَلَقَدْ ارتقيت مُرْتَقًى صَعْباً طَالَمَا قَبْلَهُ النَّبِيِّ صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ».

فقال له: أنا الشمر الضبابي، فقال الحسين علیه السلام: «أما تعرفني؟»، فقال: بلی أنت الحسين و أبوك المرتضى و أمك الزهراء و جدك المصطفى و جدتك خديجة الكبرى.

فقال له الحسين علیه السلام: «وَيْحَكَ إِذْ عَرَّفْتَنِي فَلَمْ تَقْتُلُنِي؟!»، فقال له: أطلب بقتلك الجائزة من يزيد، فقال له الحسین علیه السلام: «أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ . . . شَفَاعَةَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ أَمْ جَائِزَةُ يَزِيدُ؟»، فقال: كان من جائزة يزيد أحب إلي منك و من شفاعة جدك و أبيك، فقال له الحسين علیه السلام: «إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِي فاسقني شَرْبَةِ مَاءٍ».

فقال: هيهات هيهات، و الله ماتذوق الماء أو تذوق الموت غضة بعد غصة و جرعة بعد جرعة، ثم قال: يا ابن أبي تراب ألست تزعم أن أباك على الحوض يسقي من أحب؟ اصبر قليلا حتى يسقيك أبوك، ثم قال له: و الله لأذبحنك من القفا.

ثم أكبه على وجهه الشريف و جعل يحز أو داجه بالسيف، و كان كلما قطع منه عضوا، نادي الحسين علیه السلام: «وا محمداه، وا علياه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه،

ص: 465

وا عقيلاه، وا عباساه، وا قتيلاه، وا قلة ناصراه، وا غربتاه».

فاحتز (الشمر) رأسه الشريف، و رفعه على رمح طويل، فكبر العسكر ثلاث تكبيرات(1).

و اسود وجه النهار و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة...

و مالت الشمس للغروب و هي تنتحب تاركة وراءها شفقا غريبا بحمرته الدامية التي ازدادت في ذلك المساء الحزين تألقا و كأن السماء قد حسدت الأرض و غارت منها لأن الحسين علیه السلام أعطاها دمه، فأبت عليها إلا أن تأخذ شيئا من دم الحسين علیه السلام و ترفعه إليها كي تلون الأفق الفسيح بشفق جدید و بلون جدید و بحمرة جديدة، إنها حمرة دم الحسين علیه السلام.

و قد أجاد شاعر الفلاسفة و فيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) (973-1057م) عند ما قال عن استشهاد الإمام علي عليه السلام و عن نجله الإمام الحسين علیه السلام:

وَ عَلَى الْأُفُقِ مِنْ دِمَاءِ الشهيدين *** عَلِيُّ وَ نجله شاهدان

فهما فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ فجران *** وَ فِي أولیاته شفقان(2)

ص: 466


1- راجع ما جاء في الكتب التالية، مع مراعاة وجود بعض الفوارق في دقة و عمق التفاصيل: أ. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص 266.265. ب. عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرة، شهيدا، مصدر سابق ص383.385. ج. عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص169.170. د. الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص 181. ه. خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص179. و . توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص159.
2- عباس محمود العقاد، حياة قلم، دار الكتاب العربي . بيروت، 1969، ص184.

و برأيي الشخصي، فإن كلام الأستاذ خالد محمد خالد) عن لحظة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء لا يقل قوة و بلاغة عن قوة و بلاغة ما قاله الفيلسوف الأديب (أبو العلاء المعري).

ففي السطور الأخيرة من الفصل الذي يحمل عنوان (المأساة و العظمة)، کتب الأستاذ (خالد) يقول:

و قد امتد (الشفق) على طول الأفق، و كأنه بساط وضع و مهد لتعرج عليه إلى جنان الله أرواح الشهداء...!!

و على غير عادة الطقس و المناخ في ذلك الحين و في تلك الأرض، دوت طلقات قوية صادعة كأصوات الرعود.

و لقد حسبها المجرمون نذيرا لهم.. ولكن لا، فهم أهون على الله من ذلك..

إنما هي السماء، كانت تطلق مدافعها تحية..!! تحية إجلال للمهمة التي أنجزها الشهداء.. و تحية استقبال للأرواح التي كانت قد بدأت رحلة خلودها.. حيث تتلقى من يمين الرحمن ما أعده لها من مثوبة، و نعيم، و عطاء..!!(1)

و إذا كان الله سبحانه و تعالى قد قضى على الشهداء بالمثوبة و النعيم و العطاء، فبماذا قضى المجرمون على كل ما تبقى من أهل البيت عليهم السلام و على الحسين بعد أن قتلوه؟!

و على هذا السؤال، يجيبنا المؤرخ (الطبري) قائلا: (... و مال الناس على نساء الحسين و ثقله و متاعه، فكانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب

ص: 467


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص180.

به عنها)(1).

و بالطبع، ليس المؤرخ (الطبري) هو الوحيد الذي ذكر تفاصيل تلك الحادثة من المؤرخين و الرواة المتقدمين، بل هناك العديد غيره مثل (ابن الأثير) في كتابه (الكامل في التاريخ) ج 4 ص 80.79، و (المقريزي) في كتابه (المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار) الذي ذكرالكثير من التفاصيل المؤلمة التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين علیه السلام سواء ما يتعلق بسلب و نهب و أسر ما تبقى من أهل بيت النبوة، أو ما يتعلق بسلب الإمام الحسين نفسه عليه السلام و وطء الخيول جسده الشريف.

و لكن، و كما ذكرنا سابقا، فإن ما يهمنا في هذا الكتاب هو إيراد و تحليل ما جاء في صفحات الكتاب و الدواوين و المؤلفات الفكرية المعاصرة، و لذلك دعونا نقوم الآن بجولة سريعة في رحاب بعض تلك الكتب و الدواوين لنرى إن كان هناك ذكر جلي لتلك الحادثة المخزية التي قام بها أعداء الله و أعداء أهل بیت رسوله المصطفی المختارصلی الله علیه و آله.

يذكر المؤلف الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) ما حدث قائلا:

(و سلب الحسين ما كان عليه فأخذت سراويله و قطيفته و نعلاه، و مال الناس على الإبل و الخيل و انتهبوها)(2).

أما الأستاذ المصري (توفيق أبو علم) المتخصص في دراسة تاريخ و تراث أهل البيت علیهم السلام، فيقول: (لما قتل الإمام الحسين مال الناس على ثقله و متاعه و انتهبوا ما

ص: 468


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص453.
2- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابقص170.

في الخيام و أضرموا النار فيها و تسابق القوم على سلب حرائر الرسول، و انتهى القوم إلى علي بن الحسین (زین العابدین علیه السلام) و هو مريض على فراشه لا يستطيع النهوض، و جرد (الشمر) سيفه يريد قتله، فقال له (حمید بن مسلم): يا سبحان الله أتقتل الصبيان؟! إنما هو صبي مريض، فقال: إن ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين ...

و أمر ابن سعد بالرؤوس فقطعت و اقتسمتها القبائل لتتقرب بها إلى ابن زیاد)(1).

إذن، هذا هو مصير أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ، و هذه هي المودة في القربي التي ارادها الله و رسوله من المسلمين!!

و لا يسعني، و أنا أورد هذه الصور و المشاهد عن مآسي أهل البيت عليهم السلام و محبيهم في حادثة كربلاء، إلا أن أذكر حديثة مؤثرا سمعته من الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، و هو ابن الأديب و الشاعر (بولس سلامة) صاحب ملحمة (عيد الغدير) التي لا تزال تطبع منها آلاف النسخ كل عام.

و من المعروف عن الأستاذ (رشاد سلامة) أنه شخص مهتم بالأدب و الثقافة، هذا بالإضافة إلى اهتماماته الاجتماعية و السياسية على الساحة اللبنانية.

ففي تاريخ 18 ذي الحجة من عام 1420ه الموافق ل 22/3/2000م أجرت قناة المنار التلفزيونية لقاء مطولا متعدد الجوانب و المواضيع مع الأستاذ (رشاد)، و قد تحدث الأستاذ (رشاد) في ذلك اللقاء عن علاقة والده الراحل (بولس) بفكر و تراث أهل البيت عليهم السلام بشكل يبعث على الدهشة و الاستغراب.

و كنت كلما سمعت شيئا جديدا منه عن عمق حب والده لكل أفراد أهل البيت النبوي الشريف، كلما ازدادت دهشتي و حيرتي، و كنت أسأل نفسي مستغربا:

ص: 469


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص160.

كيف يمكن لذلك المسيحي المعاصر أن يحب أهل البيت أكثر بكثير من أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم مسلمين على زمن رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

و كيف يمكن لهذا الأديب و الشاعر الذي يفخر بهويته المسيحية أن يحب الإمام الحسين علیه السلام و يتعاطف معه في ما أصابه في الوقت الذي كان فيه الإمام الحسين علیه السلام ضحية لغدر أولئك الكفرة الذين كانوا يعدون أنفسهم سادة و قادة المسلمين؟!

و على كل حال، كان أكثر ما أثر في نفسي هي تلك القصة التي رواها الأستاذ (رشاد) و التي حدثت معه شخصيا عندما كان والده في المراحل الأخيرة من نظم ملحمة (عيد الغدير).

يقول الأستاذ (رشاد): في صباح أحد الأيام كنت أرتب سرير والدي بعد استيقاظه صباحا، و كانت صحة أبي وقتها ليست على ما يرام تماما، و بينما كنت أقوم بترتيب الوسادة، لاحظت أن تلك الوسادة كانت مبللة بالماء بشكل واضح على أحد جانبيها فتعجب من ذلك و اعتقدت أن أبي قد سقط منه كأس الماء- نتيجة ضعفه- على تلك الوسادة مما أدى إلى بلل جزء يسير من أحد وجهيها، و لما عاد أبي و دخل إلى الغرفة من جديد، سألته: هل سكبت الماء، عن غير عمد، على الوسادة و أنت تشرب الماء ليلا؟

فقال أبي: لا، لم أسكب الماء.

فقلت له: فمن أين جاء الماء، إذن، على الوسادة؟!

فسكت أبي لحظة ثم نظر إلي بحسرة و قال: يا بني، إن هذا ليس ماء بل دموعا.

فالبارحة ليلا كنت أكتب قصيدة مطولة عن وقائع استشهاد الإمام الحسين و أهل بيته عليهم السلام في كربلاء، فكتب القصيدة و وضعت رأسي على الوسادة، و هذا ما تبقى من

ص: 470

دموع الليل.

و ما كان الأستاذ (رشاد سلامة) ينتهي من رواية تلك القصة عن والده و عن علاقته الوجدانية العميقة بأهل البيت عليهم السلام عموما، و بالإمام الحسين علیه السلام خصوصا نتيجة للمصائب و للأهوال التي تعرض لها في كربلاء، حتى رحت أسأل نفسي قائلا:

أليس هذا المسيحي أفضل من آلاف المسلمين الذين كانوا يصلون على النبي و يطلبون شفاعته عقب كل صلاة، حتى إذا قاموا من صلاتهم تفرغوا لإبادة أهل بيته علیهم السلام قتلا و تنكيلا و تهجيرا في كل زمان و مكان؟! أليس المسيحي الحقيقي أخا للمسلم الحقيقي في إنسانيته و روحانيته؟!

أليس من الخطأ أن نفهم الإسلام الحقيقي على أنه مجرد لفظ الشهادتين، و إنما الصواب هو أن نفهم الإسلام على أنه المبدأ القائم أساسا على سلامة الناس من يد و لسان الإنسان المسلم؟!! و بالتالي، فقد يكون هناك مسلمون من غير الدائرة الإسلامية يوحدون الله و يسلم الناس من شرور أيديهم و ألسنتهم، و بنفس الوقت، قد يكون هناك من نطق لسانه بالشهادتين، و لكنه هو الشيطان بعينه؛ إذ لم يدخر جهدا في إلحاق أسوأ أنواع الأذى بالناس عموما من مسلمين و غير مسلمين؟!

و كان من الطبيعي أن يكون الأرق هو ضيفي الثقيل في تلك الليلة المثقلة بالذكريات و الهموم، و بالأسئلة و التأملات العميقة، و لم يغادرني في ضيفي إلا عندما رأى أن السماء قد مزقت نقابها عن وجهها المضيء، ذلك الوجه الذي بدأ ينثر الضوء الخجول شيئا فشيئا ليقبل وجه الأرض النائمة تحت عباءة الليل.

و على أي حال، و من أجل التأكيد على مصداقية حديث الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، دعونا نقرأ الشيء اليسير مما كتبه والده الراحل عن أيام الحسين علیه السلام.

ص: 471

و لأن المجال لا يتسع لذكر كل ما قاله في الحسين و أهل بيته الكرام علیهم السلام، دعونا نقتطف بعض الأبيات الشعرية عن اليوم الأخير في عاشوراء شهر محرم الحرام.

فبعد أن يصف الشاعر (سلامة) و قائع القتال المرير الذي خاضه الإمام الحسين علیه السلام ضد جيوش يزيد اللعين و كيف استطاعت تلك الجيوش الجرارة أن تحيط به و تمطره بوابل من الرماح و السهام التي استقرت في جميع أعضاء جسمه، من رأسه حتى قدميه، فبعد أن يصف الأستاذ (سلامة) ذلك الموقف، نراه ينتقل لتصوير اللحظة التي سقط فيها جسد الإمام الحسين علیه السلام على الرمال، فيقول عن ذلك:

فَتَحَ الرَّمْلِ قَلْبِهِ مستهاماً *** يَتَلَقَّى مِنْ الحسین الدِّمَاءِ

يَتَلَقَّى دِمَاءَ طه كنوزا *** سائلات فتستفيض ثراء

وَ یباهي فِي الْأَرْضِ ، كُلُّ بِقَاعِ *** الْأَرْضِ ، حتی یکاد یغزو السَّمَاءِ

وَ يُبَاهِيَ ، فَكُلْ حَبَّةٍ رَمْلِ *** دُونَهَا حِلْيَةُ الْمُلُوكِ غَلَاءٍ(1)

إذن، فكل حبة رمل قد تحولت بفعل دم الحسين علیه السلام إلى عقيق أحمر لا تدانيها تيجان الملوك تألقا و جمالا.

أما عن الفظائع التي ارتكبت بحق الحسين علیه السلام بعد استشهاده، فيقول:

وَ انبرى ( الشِّمْرِ ) يَذْبَحُ السِّبْطِ ذِبْحاً *** لَيْتَ كَانَتْ يَمِينُهُ شَلَّاءَ

فَصَلِّ الرَّأْسِ عَنْ قتیل شهید *** فَعَنْ الشَّمْسَ قَدْ أَزَالُ الضِّيَاءِ

يبتغيه هَدِيَّةُ لِ ( عُبَيْدُ اللَّهِ ) *** يَرْجُو نواله وَ الثَّنَاءُ

و أما عن عملية السلب و النهب، فيقول واصفا ذلك العمل الدنيء:

ص: 472


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص282.

نَزَعْتَهَا عَنِ الشَّهِيدِ لُصُوصٌ *** وُلِدُوا يَوْمٍ أَ سَقَطُوا أدنياء

و يتابع الأستاذ الأديب (سلامة) وصفه الدقيق لكل تفاصيل الفاجعة و استمرارها المؤثر حتى بعد الانتهاء من قتل الإمام الحسين علیه السلام، و من جملة المآسي التي ذكرها ذلك الأديب و الشاعر المسيحي (سلامة)، عملية تمزيق جسد الحسين علیه السلام تحت نعال الخيول الهائجة، و عملية سلب حريم الحسين علیه السلام و هتك سترهن بعد أن غاب عنهن كل مدافع و نصير في أرض الوحدة و الغربة.

و ها هو يصف تلك الفجائع المؤسفة بقوله:

أوطأوا الْخَيْلِ ظَهْرِهِ فَاسْتَعَاذَ *** الطَّلَبِ وَ انْقَضَتْ الحنايا الْتِوَاءِ

أَ نِعَالِ الْأَفْرَاسِ داست حُسَيْناً؟ *** یابن ( سَعْدُ ) هَلَّا قَضَيْتَ حَيَاءً

مَا كفاهم سُلِبَ الْحُسَيْنِ فَرَاحُوا *** يسلبون الْمُخَدَّرَاتُ النِّسَاءِ

رَبِّ أنثی تسترت بِرِدَاءٍ *** وَ اسْتِغَاثَةُ ، فجاذبوها الرِّدَاءَ

هَدَّها مَصْرَعِ النُّسُورُ فذابت *** فِي الشرارات شَمْعَةُ صَفْرَاءُ (1)

و بالطبع، فإننا سنرجئ مسألة السبي و موضوع المسير بالرؤوس إلى الفصل الجديد القادم، و لكن تحضرني الآن عبارتان عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام و عن التمثيل به و بالقتلى من أهل بيته و أصحابه، و تحریق خيامه و هتک ستر بنات رسول الله صلی الله علیه و آله أمام عيون الفجار و الكفار.

و العبارة الأولى هي تلك التي قالها الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز) في معرض حديثه عن المصائب التي أحاطت بأهل بيت الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله ، و بشكل خاص عن مصائب الإمام الحسين علیه السلام و مقتله ظلما في ساحة كربلاء.

ص: 473


1- نفس المصدر السابق ص284.

يقول ذلك الخليفة الأموي: (لو كنت من قتل الحسين و أمرت بدخول الجنة لما فعلت حياء أن تقع علي عينا رسول الله صلی الله علیه و آله)(1)

أما العبارة الثانية، فهي عبارة عن مقولة موجزة قالها العالم و المؤرخ (البيروني) ( 1048-973) عن وحشية الروح الأموية و كيفية تعاملها مع الشهداء من أهل البيت علییهم السلام.

فقد ذكر ذلك العالم و المؤرخ أن ما فعلته تلك الطغمة الآثمة بوطئها الخيل جسد الحسين، إنما هو عمل فظيع و شنیع لم يفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق،من القتل بالسيف و الرمح و الحجارة و إجراء الخيول على جسد الضحية.(2)

و خلاصة القول عند (البيروني)، و هو المؤرخ الذي خبر بأحوال الكثير من الأمم و الشعوب، أن كل الأمم التي درس عنها و عرف أحوالها لم تعامل المجرمين و شذاذ الآفاق بتلك الطريقة الوحشية التي عامل بها العرب المسلمون سبط رسولهم صلی الله علیه و آله و ريحانته من الدنيا.

و بما أننا كنا قبل قليل مع الشاعر المبدع (بولس سلامة)، و ذلك قبل إيراد عبارتي (عمر بن عبد العزيز) و(أبو ریحان البيروني) عن حياء و خجل الضمير الإنساني الحي مما فعله طغاة بني أمية بالعترة النبوية الطاهرة علیهم السلام التي أوصى بها الرسول الكريم و خيرا و أمر المسلمين عموما بالتمسك بها و بالقرآن العظيم، نری من الأفضل أن نبقى الآن أيضا مع محطة شعرية أخرى لها مساهمتها الخاصة في الحديث عن عنفوان النهضة الحسينية و عن الإمام الحسين علیه السلام الذي كان، و لا يزال، منارة مضيئة لكل

ص: 474


1- راجع مجلة (الموسم)، مصدر سابق، العدد /13/ المجلد /4/، 1992، ص258.
2- أبو ریحان البيروني، الجماهر في الجواهر، نشر مكتب التراث المخطوط . طهران، 1995، راجع المقدمة بقلم المحقق: يوسف الهادي، ص55.

الثوار و الأحرار في العالم على مدى العصور و الدهور.

إن محطتنا الشعرية الجديدة هي محطة هامة مع أحد الأدباء و الصحافيين المسيحيين الكبار في عصره، و قد ولد ذلك الأديب المسيحي (إدوار مرقص) في مدينة اللاذقية و تعلم فيها، و كتب في كبريات الصحف و المجلات المصرية و السورية و اللبنانية.

و قد أجاد الكتابة و البحث و الغوص في فقه اللغة و أدبياتها و فنونها، و له مؤلفات و كتب كثيرة منها: (كفيل البيان و الشعر)، (ذخيرة المتأدب)، (في سبيل العربية)، (دیوان إدوار مرقص)، و كانت وفاته عام (1372 ه- 1952 م).

و كان من جملة ما قاله الأديب (مرقص) في ديوانه عن الإمام الحسين علیه السلام، سيد الثوار و منارة الأحرار:

رَكِبَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْفَخَّارِ الْخَالِدِ *** بَيْضَ الصفاح فَكَانَ أَكْرَمَ رَائِدُ

حَشَدَ الطُّغَاةُ عَلَيْهِ كُلَّ قواهم *** وَ حَمُّوا عَلَيْهِ وَرَدَ مَاءٍ بَارِدُ

تَأَبَّى البطولة أَنْ يُذِلَّ لبغيهم *** مَنْ لَمْ يَكُنْ لسوى الْإِلَهُ بساجد

قَدِمَ الزَّمَانِ وَ ذَكَرَهُ متجدد *** فِي كُلُّ قَلْبٍ بِالْفَضِيلَةِ حاشد

وَ خُلُودُ كُلِّ فَضِيلَةٍ بخلود مِنْ *** لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنِ الزَّمَانِ بخالد

إِيهِ دَمُ الشُّهَدَاءِ سَلْ متدفقا *** وَاسْقِ الْقُلُوبِ ببارق وَ براعدِ

إِنَّ الْقُلُوبَ الممحلات إِذَا ارتوت *** مِنْهُ زَهَتْ بِمَكَارِمِ وَ مَحَامِدِ(1)

ص: 475


1- راجع ما جاء في الكتب التالية: أ. جواد شبر، أدب الطف، مؤسسة التاريخ العربي . بيروت، 2001، ج10 ص 43. ب . علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين علیه السلام، دار المرتضی . بیروت، 2004، ص305. ج. الموسم، مصدر سابق، العدد 13 المجلد 4، إصدار 1992، ص330.

و غني عن القول إن هذه الأبيات الشعرية عن الإمام الحسين علیه السلام ليست هي كل ما قاله الأديب (إدوار مرقص) عن توصيف نهضة و شخصية الحسين الثائر علیه السلام و لذلك ستكون لنا وقفات و محطات جديدة أخرى مع الأديب المسيحي (مرقص) في الفصول القادمة إن شاء الله تعالی.

أما الآن، أيها الأحبة الكرام، فإننا سننتقل سوية إلى أديب و شاعر مسيحي آخر له شأن عظيم في محبة أهل البيت علیهم السلام، إنه شاعر و أديب، و رجل سياسة متميز في عطاءاته، ولكنه - و للأسف الشديد - لم يتم تسليط الأضواء عليه بما فيه الكفاية حتى يعرفه الناس جيدا و يتدارسون نتاجاته الأدبية الوجدانية الراقية التي تفجرت باكرا في صدر إنسان نبيل ضحى بالكثير من مغريات الحياة في سبيل نشر و نصرة فكر أهل البيت المحمدي علیهم السلام على الرغم من كونه مسيحي الولادة و النشأة و التربية.

و لذلك، فليعذرني القارئ الكريم إن كنت سأطيل عليه رواية بعض النقاط الهامة في حياة هذا الشاعر المسيحي النبيل (حبيب غطاس) و الذي اعتمدنا في سرد سيرته على كتاب (ماذا في التاريخ) لمؤلفه العلامة الشيخ محمد حسن القبيسي).

ولد الأديب الأستاذ (حبيب غطاس) عام (1890)، و نشأ و ترعرع في بيروت، و بعد أن تلقى علومه في مدينة بيروت، دخل الشاب (غطاس) سلك الجيش اللبناني، و راح يترقی و يعلو من رتبة إلى أعلى و من درجة إلى أرقى حتى استحق و سام الأرز الرفيع و نال رتبة (كولونيل) في الجيش اللبناني.

و كان الكولونيل (غطاس) محبا للقراءة و مهتما بالثقافة إلى حد كبير، و لذلك لم يشغله منصبه العسكري العالي عن القراءة و الاطلاع و البحث عن الحقائق، و بعد

ص: 476

رحلة طويلة و شاقة من البحث و الدراسة، آمن الكولونيل (غطاس) برسالة الإسلام، و أعلن إسلامه عام (1960) على رؤوس الأشهاد، و كان رئيس جمهورية لبنان و قتذاك الرئيس (فؤاد شهاب).

و لما بلغ الخبر الرئيس (شهاب) أرسل في طلبه حالا، ثم قال له لما مثل بين يديه: إذا كان الأمر كما سمعت عنك، فيلزمك إما أن تتنازل عن رتبتك إلى درجة يستحقها المسلمون من وظائف الجيش، أو تستقيل نهائيا من سلك الجيش اللبناني، و لك الخيار في ذلك لأن المرتبة التي أنت فيها من مختصات المسيحيين دون المسلمين حسب اتفاق الاستقلال اللبناني عند تسلمه من الفرنسيين و ما ينص عليه دستور لبنان، و بإمكانك أيضا أن ترجع عن إسلامك إلى دينك السابق فتبقى على مقامك و لك المزيد من المراتب و الإكرام.

و هنا تأتي اللحظة الحرجة، و هنا يأتي القرار الحاسم و الخطير .

هل يبقى على دينه الجديد و يخسر رتبته العسكرية العالية و يفقد كل الجاه و المكاسب و الامتيازات؟

أم أن الحكمة تقتضي أن يعود إلى دينه السابق مقابل أن يبقى ضابطا رفيع المستوى، مهاب الجانب، مسموع الكلمة، مطاع الأوامر؟!

و ربما كان السؤال الأصعب و الاستفسار الأقسى الذي يواجهه الكولونيل (حبيب) هو:

إذا كنت قد امتلك الحقيقة بعد أن عانيت الكثير للوصول إليها، فهل أكون قد خسرت الكثير إذا فقدت رتبتي العسكرية و امتيازاتي و وجاهتي الاجتماعية؟!

و بما أن الإيمان كان قد تغلغل إلى كل خلية فيه، و إلى كل نفس من أنفاسه، فقد

ص: 477

تقدم، بكل رغبة و ثبات، إلى الرئيس بأوراق استقالته من الخدمة في الجيش متنازلا عن رتبته و مكانته لمسيحي آخر يخلفه وفقا للقانون اللبناني و لدستوره.

و عاش الأستاذ (غطاس) بقية حياته حرا نزيها عزيزا مترفعا عن طلب أي شيء إلا العلم و المعرفة و الثبات على ولاية أهل البيت عليهم السلام، و كان من ثمار تعلقه بهم علیهم السلام أن كتب فيهم العديد من القصائد الرقيقة الشفافة التي ذكرتها بعض الكتب و المجلات اللبنانية و غير اللبنانية، و لعل الفضل الأكبر في نشر معظم قصائده يعود للعلامة الشيخ (محمدحسن القبيسي) الذي ذكر سيرة حياة هذا المجاهد الحقيقي و عرف القراء على الإبداعات الشعرية لهذا الرجل الذي امتلأ قلبه حبا لأهل البيت عليهم السلام، حيث ذكره العلامة (القبيسي) و ذكر العديد من قصائده في عدة مواضع في كتابه (ماذا في التاريخ) و الذي يبلغ عدد مجلداته (75) مجلدا، و قد طبع في بيروت على عدة مراحل متتابعة.

و من الطبيعي أن نذكر لهذا الأديب بعض الأبيات الشعرية التي قالها في الإمام الحسين علیه السلام، و لكن قبل أن نذكر تلك الأبيات الشعرية، أرى من المناسب أن أورد الآن له بعض الأبيات الشعرية في الإمام علي عليه السلام، حيث جاءت تلك الأبيات حاملة لنا بعض نفحات إيمانه و لواعج مصائبه و أحزانه التي لاقاها في مسيرة حياته الحافلة بالأحداث الجسام، شأنه في ذلك شأن كل موال حقيقي لأهل البيت علیهم السلام، أهل الحق و الخير و الفضيلة.

و ها هو يبث شكواه و حزنه إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام قائلا و معبرا عن عمق آلامه و آماله:

أَنِينَ أَمْ صُرَاخَ الموجعين *** عَلَى جَمْرِ الْغَضَا نَامُوا السنينا

أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ اللَّيَالِي *** أَرَادَتْ أَنْ نَكُونَ معذبينا

ص: 478

فَمَا لَانَتْ قَنَاتِي وَ رَبِّ (عیسی) *** وَ لَكِنَّ زِدْتَ إِيمَاناً وَ دِيناً

وَ جِئْتُ لبابك الْعَالِي أُنَادِيَ *** أَغِثْنِي يَا أَمِيرَ المؤمنينا

أَغِثْنِي يَا أَبَا الْحَسَنَيْنِ إِنِّي *** بِبَابِكَ وَاقِفُ عَبْداً أَمِيناً

فَمَدَّ إِلَيَّ باعک وَ انتشلني *** فَقَدْ أُوتِيتَ سُلْطاناً مُبِيناً

وَ زِدْنِي مِنْ عَطَائِكَ مَا يُقَوِّي *** عَلَى طُولِ الْمَدَى قَلْبِي الحزينا

فَأَلْقَى وَجْهِ رَبِّي وَ هُوَ رَاضٍ *** وَ وَجْهَكَ عندما أَجِدُ المنونا(1)

أما القصيدة الثانية التي أود ذكرها الآن، فهي القصيدة التي تبدأ بقوله: (روحي فداك حسين)، و هي مثال رائع لقصائد الرثاء في الشعر العربي المعاصر، و لن نعلق على ما جاء فيها من صور و من عبارات مؤثرة، و إنما سنترك أمر التعليق عليها لمن يريد ذلك.

و لنستمع الآن سوية إلى قول الشاعر (حبيب الغطاس) و هو يخاطب الإمام الحسين علیه السلام قائلا:

رُوحِي فِدَاكَ حُسَيْنُ مَا بَدَا قَمَرُ *** بِاللَّيْلِ أَوِ أَشْرَقَتْ فِي الصُّبْحِ أَنْوَارٍ

أَنْتَ الشَّهِيدِ الَّذِي أَ دَمِيَتْ أَفْئِدَةً *** لَوْلَاكَ لَمْ يَذُمُّهَا وَ اللَّهِ بتار

صَدُّوك عَنْ مَوْرِدَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ *** فلاسالك بِأَرْضِهِمْ سحب وَ أَنْهَارُ

يا كربلاء سَقَتکِ الْمُزْنِ هَاطِلَةً *** عَلَى رفاة الْحُسَيْنِ فَهُوَ مغوار

يَلْقَى الْمَنِيَّةِ عَطْشَاناً وَ مُبْتَسِماً *** إِنَّ الْمَنِيَّةَ فِي عَيْنَيْهِ أَقْدَارٍ

ص: 479


1- راجع موقع: http://www.14masom.Com/mostabsiron/F151.htm و قد اعتمد هذا الموقع في ذكره لسيرة حياة (حبيب الغطاس) و لتراثه الشعري على كتاب (ماذا في التاريخ؟) لمؤلفه العلامة الشيخ محمدحسن القبيسي) الذي أسلفنا ذكره.

صَلَّى عَلَيْهِ إِلَهَ الْعَرْشِ مَا بزغت *** شَمْسُ وَ مَا طَلَعَتْ بِاللَّيْلِ أَ قِمَارٍ(1)

و بقي أن نذكر الآن أن الأستاذ الأديب (حبيب غطاس) قد انتقل إلى جوار ربه الكریم عام (1965) في المشفى العسكري في بيروت بتاریخ 27/8/ من العام المذكور.

و لو لا خوفي من احتمال شعور القارئ الكريم بالملل لأوردت العديد من القصائد الشعرية الأخرى للمغفور له الأديب الشاعر (حبيب غطاس)، و لكن ستكون لنا معه وقفات شعرية أخرى في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

و ربما سيأتي الكم الأكبر من القصائد الشعرية للكثير من الشعراء الكبار عربيا و عالميا ضمن فصل خاص عن الحسين علیه السلام و كربلاء في الأدب العالمي الحديث، و بالتحديد في القسم الخاص بالشعر.

و على كل حال، دعونا نعود الآن إلى آخر ما يمكن أن نتحدث عنه بشأن استشهاد الإمام الحسين علیه السلام و التمثيل به و التنكيل بمن تبقى من أهل بيته من النساء و الأطفال.

فبعد أن داست الخيول العشرة صدر الإمام الحسين علیه السلام و مزقته تمزيقا، و بعد أن قطع الأعداء الطغاة رأسه الشريف مع باقي رؤوس الشهداء أمام نظر الأطفال و النساء الحرائر، مال العدو على الخيام فأحرقوها و أطلقوا أياديهم الآثمة سلبا و نهبا و ضربا لنساء أهل البيت علیهم السلام، و قد تحدثنا عن كل ذلك في الصفحات الماضية من هذا الفصل.

و ما يهمنا الآن هو مصير رأس الإمام الحسين علیه السلام ، فمن الذي أخذه، و لماذا؟

و ماذا حدث بالتفصيل مع ذلك الشخص الذي استأثر به؟!

ص: 480


1- مجلة الموسم، مصدر سابق، العدد 12، المجلد 3، إصدار عام 1996، ص151.

و عن هذه الأسئلة يجيبنا الكاتب المصري (محمد رضا) في كتابه (الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة)، و يؤكد الأستاذ (رضا) في كتابه المذكور على أن الشخص الذي استأثر برأس سيد الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام، هو (خولی بن یزید الأصبحي)، أما السبب الذي جعله يستأثر بالرأس الشريف فهو الأمل بالحصول على جائزة مالية كبيرة من سيده عبيد الله بن زیاد.

و هنا تحديدا، ينقل لنا ذلك الكاتب، و هو كما ذكرنا سابقا من إخواننا السنة، ما دار من حديث بين (خولي ابن يزيد الأصبحي)، و بين زوجته (النوار بنت مالك) حول رأس الحسين علیه السلام.

و يبدأ الحديث بدخول (خولي) على زوجته (النوار) و هو مسرور و منفرج الأسارير، فتخاطبه زوجته قائلة له: ما الخبر؟ ما عندك؟

فرد عليها (خولي) قائلا: (جنتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين مع في الدار)، و بالطبع فإنه قد قال ذلك لأنه كان يرجو أن يكافئه (عبيد الله) مكافأة عظيمة لا تخطر على بال أحد أبدا.

فقالت له (النوار): (و يلك، جاء الناس بالذهب و الفضلة و جئت أنت برأس الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله !! لا و الله لا يجمع رأسي و رأسك بيت واحد أبدا).

ثم قامت (النوار) من فراشها و خرجت إلى الدار حيث كان رأس الحسين علیه السلام موضوعا تحت الإجانة (و عاء كبير) و جلست تنظر ناحيته.

فماذا رأت (النوار)؟!

تقول (النوار) نفسها: (فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء

ص: 481

إلى الإجانة، و رأيت طيرا بيضا ترفرف حولها).(1)

و هذه بلا ريب شهادة قوية من (النوار بنت مالك) زوجة (خولي بن یزید الأصبحي)، ذلك الرجل الآثم الذي شارك في قتال الإمام الحسين علیه السلام، و من ثم في الاستئثار برأسه الشريف طلبا للجاه و للثروة العظيمة عند أحد طغاة بني أمية المتجبرين.

و لكن يرى الكثير من الأدباء و المفكرين من إخواننا المسلمين السنة و من المسيحيين أيضا، بالإضافة إلى بعض الهندوس و الصابئة، أن الكرامات الحقيقية للإمام الحسين علیه السلام تجلت و ظهرت بعد استشهاده و لا يمكن لأحد أن ينكر ذلك لسبب واحد و هو أن ما وصل إليهم اليوم من روايات كثيرة متطابقة في معناها عن تلك الكرامات الحسينية إنما هي روایات صحيحة جاءت أول ما جاءت في كتب و مؤلفات لم يكن أصحابها على مذهب أهل البيت عليهم السلام، و هذا ما يعزز مصداقية تلك الروايات المتواترة.

و إذا كنا في نهاية المطاف قد ذكرنا العديد من الحوادث، و نقلنا أيضا العديد من الصور المحزنة عن مصائب الإمام الحسين علیه السلام و مآسي أهله و عياله و أصحابه المخلصين الذين ثبتوا معه على الحق فوق رمال كربلاء، فعلينا أن نذكر أيضا أن هناك العديد من الأبطال الذين ذاقوا مع الإمام الحسين علیه السلام مرارة الآلام في سبيل إحياء الإسلام على الرغم من أنهم لم يكونوا معه عليه السلام في كربلاء، بل كانوا ينتظرون الأخبار بكل صبر و رضى في المدينة المنورة التي كانت تستعد لارتداء السواد عما قريب.

ص: 482


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص161.

و على الرغم من ضيق المجال لذكر بعض تلك المشاهد المؤثرة التي شهدتها مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله بعد وصول خبر استشهاد الإمام الحسين علیه السلام مع أهله و أصحابه و تسيير ما تبقى من النساء و الأطفال سبايا إلى یزید ابن معاوية في دمشق، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى ذكر بعض تلك المواقف المؤثرة لأبطال حقيقيين جاهدوا و ناصروا الإمام الحسين علیه السلام و ضحوا من أجله و أجل إحياء معالم دین جده المصطفى صلی الله علیه و آله بأغلى ما يملكون.

و سأكتفي هنا بذكر واحد من أولئك الأبطال الذين كانت أرواحهم النورانية لصافية ترفرف برفق و خشوع حول الإمام الحسين علیه السلام في وحدته و غربته.

و قد يفاجأ القارئ الكريم إذا قلنا له إن ذلك البطل العظيم الذي سنتحدث عنه الآن من خلال هذه السطور القليلة هو امرأة و ليس رجلا.

نعم، إنها امرأة.

فهل سمعت بامرأة اسمها (فاطمة بنت حزام العامرية الكلابية)؟!

و هل عرفت، أيها القارئ الكريم، ماذا قدمت تلك المرأة الفاضلة (رضی الله عنها) للحسين عليه السلام ولدين الحسين و دين أبيه و جده علیهما السلام؟!

اسمع، إذن.

(فاطمة بنت حزام) هي زوجة أمير المؤمنين علي عليیه السلام بعد وفاة السيدة (فاطمة الزهراء) عليها السلام، و قد تزوجها الإمام علي عليه اللسام لاحقا كي تعتني بأولاده بعد غياب أمهم الزهراء عليها السلام، و قد رزقت فاطمة بنت حزام من أمير المؤمنين علي عليه السلام بأربعة أولاد ذكور، و هم: (عبد الله) و (جعفر) و(عثمان) و(العباس) الملقب بأبي الفضل و هو أكبرهم.

ص: 483

و كانت تلك المرأة الفاضلة مثالا في الشرف و الإخلاص و الطاعة، و كانت أما حقيقية لأولاد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

و من المعروف عن تلك السيدة الفاضلة (رضی الله عنها) أنها جاءت ذات يوم إلى أميرالمؤمنين علي عليه السلام بعد زواجهما و قالت له بكل أدب و احترام:

- لي إليك حاجة.

فقال عليه السلام لها: «قولي ما عندك».

قالت: أنا أطلب منك أن تغير اسمي فعندما تناديني يا فاطمة، أرى الانكسار باديا على وجوه الحسن و الحسين و زينب، فإنهم يذكرون أمهم فاطمة الزهراء و يتألمون، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلا أن استجاب لها و غير اسمها و سماها (أم البنين).(1)

هذه هي (أم البنين)، و هذه هي شهامتها و سماحتها و ثب أخلاقها و تربيتها التي تلقتها في مدرسة فاطمة الزهراء عليها السلام و خديجة الكبری (رضی الله عنها).

أما إذا أردنا أن نعرف كيف كانت تلك المرأة بطلة من أبطال و بطلات کربلاء على الرغم من عدم وجودها الفعلي في ساحة المعركة، فما علينا إلا أن نتوقف قليلا و نقرأ السطور القليلة التالية عنها.

لقد انتشر خبر استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء في جميع أرجاء الأرض الإسلامية، و قد عرف الناس في المدينة بمقتل الإمام الحسين علیه السلام عن طريقين.

فالطريق الأول، كان من خلال فوران التراب بالدم في القارورة التي أعطاها رسول الله صلی الله علیه و آله إلى أم سلمة (رضی الله عنها) و إعلامه لها بأن الحسين علیه السلام سيقتل في كربلاء وستمتلئ القارورة بدم عبيط يختلط مع التراب في الساعة التي يقتل فيها على يد

ص: 484


1- سلمان هادي طعمة، أم البنين، دار البقيع . طهران، 1996، ص21.

أعدائه الضالين، ولم تعلن أم سلمة (رضی الله عنها) الخبر إلا للخواص فقط.

أما الطريق الثاني، فقد كان من خلال (بشر بن حذلم) الذي نعي الحسين علیه السلام إلى عموم أهل المدينة، و قد كانت أم البنين (رضی الله عنها) في طليعة المستقبلين له، و كانت تحمل على كتفها طفلا صغيرا لولدها أبي الفضل العباس عليه السلام حيث كان قد ترکه عندها لأسباب و ظروف خاصة به اقتضت منه ذلك.

إذن، لقد استقبلت تلك المرأة المجاهدة (بشر بن حذلم) و هو ينعى الحسين علیه السلام و ينادي برفیع صوته قائلا لأهل المدينة:

يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ بِهَا *** قُتِلَ الْحُسَيْنُ فأدمعي مِدْرَارِ

الْجِسْمِ مِنْهُ بِكَرْبَلَاءَ مضرَّجٌ *** وَ الرَّأْسَ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةَ يُدَارُ

و لما وقع بصرها على الناعي لم تسأله عن مصير أحد من أولادها الأربعة، و إنما سألته فقط عن حال الحسين علیه السلام و ما جرى معه، و قد علت الدهشة وجه بشر بن حذلم عند ما عرف أن هذه المرأة هي فاطمة بنت حزام العامرية، و هي أم البنين كيف لا تسأله عن مصير أولادها في المعركة!! و قد ظن (بشر) أن الصدمة قد جعلتها تغفل عن ذكر أولادها، فراح يعددهم لها الواحد تلو الآخر، و في كل واحد منهم كان يعزیها و يقول لها بكل إكبار و خشوع: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر، فتقول له بلهفة: و هل سمعتني أسألك عن ابني جعفر؟! أخبرني عن ولدي الحسين، إني أسألك عن الحسين .

و لم يصدق (بشر) ما يسمع و ما يرى، و لذلك راح يخبرها عن حال بقية أولادها إلى أن وصل إلى خبر ابنها العباس، فما كاد يخبرها بقوله:

(يا أم البنين، عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس)، حتى اعتراها

ص: 485

اضطراب شديد في اللحظة التي سمعت فيها نبأ مصرع ابنها أبي الفضل العباس عليه السلام ، بحيث اهتر بدنها حتى أن الطفل الصغير الذي كانت تحمله على كتفها قد سقط إلى الأرض و لم تقو على حمله ثانية، و لكنها تمالكت نفسها و استمرت في إلحاحها على (بشر) قائلة له: أخبرني يا (بشر ) عن حال ولدي الحسين..

يقول بشر: و حينما أخبرتها بمقتل الحسين و مصرعه، صرخت و نادت:

وا حسيناه..، وا حبيب قلباه.. يا ولدي يا حسين.. نور عيني يا حسين

و قد شاركها الجميع بالبكاء و النحيب على الحسين علیه السلام، و لم تذكر أبناءها إلا بعد أن ذكرت الحسين باكية عليه(1).

و تحدثنا المؤلفات المعاصرة أن تلك البطلة المجاهدة بأولادها فداء لدین جد الحسين صلی الله علیه و آله، كانت تخرج إلى البقيع فتبكي بنيها الأربعة (عبد الله و جعفرا، و عثمان، و أبا الفضل العباس) - و قد قتلوا جميعا في كربلاء، و تندبهم أشجی ندبة و أحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، حتى أن مروان بن الحكم- عدو الطالبيين - كان يجيء أيضا فيمن يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها و يبكي(2).

و كما ذكرت سابقا، فإنني سأكون ضنينا بذكر الأبطال الكبار الذين ضحوا بكل ما يملكون من غال و رخيص في سبيل إحياء معالم دین رسول الله صلی الله علیه و آله الذي حاول الملوك الأمويون إزالته و محو آثاره و العودة بالناس إلى عصر الجاهلية بكل ما فيه من سلبيات و تناقضات، و لكن هذه المرة بثوب جديد و بأسلوب جديد، إنه الأسلوب القائم على حكم القبائل و العشائر من خلال حكم مركزي واحد هو النظام الملكي

ص: 486


1- نفس المصدر السابق ص20.
2- د.عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص 151.

الفردي المطلق حيث يكون الملك فيه هو الحاكم و المشرع الوحيد و ليس هناك أي اعتراف بقوانین و شرائع أخرى حتى و لو كانت تلك القوانين مستمدة من شريعة السماء.

و لذلك أعود ثانية و أقول: إن ذكر الأبطال المميزين في واقعة كربلاء مثل (أم البنين) و (مسلم بن عقیل) و (هاني بن عروة) و (بریر بن خضير) و حتى (السيدة زينب عليها السلام) نفسها و غيرهم من الأبطال الذين شهدوا كربلاء أو لم يشهدوها بشكل مباشر، مثل (أم البنين)، لم أغفل عن ذكرهم سهوا، و لم أتوسع في ذكر بعض النقاط الهامة من بعضهم إلا من أجل مشروع فکري متكامل يتناول أولئك الأبطال بشكل مفصل بحيث يكون نصيب كل واحد منهم کتابا مستقلا نتناول فيه سيرة حياة ذلك البطل أو البطلة و نستعرض من خلاله كل ما قدمه و ما قام به من مآثر و تضحيات من أجل إبقاء (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) شهادة حية تملا الآفاق و الأكوان بعبير الفضيلة و حرارة الحق و بشائر الفرقان.

أما الآن، فقد آن الأوان لنجمع متاعنا و نرحل عن أرض كربلاء التي امتزجت فيها دموعنا مع دماء أحبتنا فوق رمالها الصفراء التي ارتوت من تلك الدموع السخية و الدماء الزكية، و ها نحن نبتعد عنها الآن و قد تركنا فوق ترابها الكئيب الذاهل مما جرى فوقه جثث أولئك الأحبة بلا رؤوس و لا أياد و لا أصابع.

و أكثر ما يشجينا الآن، و نحن ننظر إلى الوراء، هو منظر جسد سيدنا الإمام الحسين علیه السلام ممددا على التراب بلا رأسي و قد مزقته الخيول و عجنت لحم صدره و نحره اللذين كان يقبلهما رسول الله صلی الله علیه و آله باستمرار بتراب أرض الفاجعة،و على الرغم من تمزيق جسده الشريف إلا أننا نستطيع أن نرى يده لا تزال ممدودا باتجاه

ص: 487

إحدى الخيام المحروقة و كأن أصابعها كانت تريد أن تستقر برفق و حنان على رأس جثة طفل لم يتجاوز الأشهر من عمره.

أما الطفل الرضيع، و على الرغم من أنه كان جثة هامدة قد مزقتها السهام، إلا أن عينيه كانتا مفتوحتين و متجهتين إلى جهة جثة الأب تبحثان عن الرأس المقطوع، تبحثان عنه بلهفة و شوق، تبحثان عنه لتسألاه بکل دهشة و استغراب، و بكل ما في سؤال الطفل من براءة:

. أبي... يا أبي... أنا طفل صغير، فلماذا قتلوني؟!

ص: 488

رحلة الآلام من كربلاء إلى الشام

مع غروب الشمس العاشر من المحرم الحرام، كان وجه السماء يزداد حمرة خجلا مما فعلته الأيادي الآثمة على الأرض، و كانت الشمس قد ودعت أشلاء الضحايا بصمت مهيب و هي تقول في قرارة نفسها.

قتل الإنسان ما أكفره!! وتبا لحظي العاثر التعيس!! أما يكفيني أنني قد شاهدت أول جريمة في تاريخ الإنسان الأول على الأرض عندما هشم قابيل رأس أخيه هابيل التقي بلا هوادة و لا رحمة؟!

أما يكفيني ما رأيت من الفظائع و المجازر التي ارتكبت بحق الرسل و الأنبياء،و بحق الأوصياء و الأولياء، و كيف لي أن أنسى ما فعل القتلة الآثمون بالنبي يحيى عليه السلام و بأبيه النبي زكريا عليه السلام، و كيف ساموا إبراهيم عليه السلام و عيسی عليه السلام و محمدا صلی الله علیه و آله سوء العذاب؟!

و ربما كان أكثر ما يشجي الشمس و يحزنها و قد لملمت آخر خيوطها عن أرض المذبحة هو أنها شهدت - و للمرة الثانية - جميع مآسي أولئك الرسل و الأنبياء مجتمعة من جديد في مجزرة جديدة اسمها كربلاء الحسين علیه السلام.

إذن، غابت شمس العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين، و أرض کربلاء غارقة في الدماء، قد تبعثرت فيها أكرم الأشلاء، و ما هي إلا ساعة أو أكثر قليلا حتى لاح القمر من وراء الغيوم خابي الضوء، و قد أرسل ما تبقى من ضوئه الشاحب إلى أرض

ص: 489

القربان العظيم ليعانق برفق و حنان تلك الأشلاء النبوية المبعثرة هنا و هناك.

و في سكون الليل المهيب، و تحت ضوء القمر الكئيب، كان هناك مشهدان متناقضان، بل مشهدان يمثلان فلسفة الحياة و طبيعتها الغريبة الغادرة.

و إذا أردنا أن نتعرف على كل من المشهدين، فلنترك الحديث للكاتبة و الباحثة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) المتخصصة بالدراسات الإسلامية العميقة و الجادة.

و ها هي تلك الكاتبة الملتزمة بالقضايا الإسلامية تصف لنا المشهدين الغريبين و المتناقضين بقولها المليء بالصور و التعابير المؤثرة:

(و على ذلك الضوء الشاحب بدت (زینب) في نفر من الصبية و جمع من الأرامل و الثواكل، عاكفات على تلك الأشلاء، يلتمسن فيها ذراع ولد حبيب، أو كتف زوج عزيز أو قدم أخ غال.

و غير بعيد منهن، كان عسكر (ابن زیاد) يسمرون و يشربون و يحصون على ضوء المشاعل ما قطعوا من رؤوس و ما انتهبوا من أسلاب)(1)، إنها مقارنة غنية كل الغني عن الشرح و التوضيح.

و ما أن خيم الظلام تماما و توارى القمر وراء الغيوم الكثيفة على صدر السماء المكفهرة حتى كانت رؤوس الشهداء الأبرار و المؤمنين الأحرار تحمل على رؤوس الرماح إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، أما السبايا فلم يؤخذوا إلا عند زوال اليوم التالي.

و سار الجميع صامتين میممين وجوههم شطر الكوفة، و هذا هو الحسين بن علي علیه السلام، الفتى المريض، يسير صامتا أيضا و قد أثقلته السلاسل و الأغلال في يديه

ص: 490


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص126.

و رجليه و حول عنقه، أما نساء أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله فلم يكن حالهن أفضل من حال سبايا الحروب و أسيرات المعارك و الغارات.

أما السيدة زينب عليها السلام، شقيقة الحسين علیه السلام و حاملة راية الثورة من بعده، فقد كانت تتقاذفها الأفكار و تتجاذبها الصور و الذكريات، إن ملامح وجهها المبارك الآن کملامح وجه شقيقها الحسين علیه السلام لها تأثير كبير في إثارة الأحزان و کوامن نفس الإنسان النقي الطامح للحاق بمواكب أهل السماء، و لذلك يذكر عن جدها رسول الله صلی الله علیه و آله و عن أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام و عن أمها الزهراء فاطمة عليها السلام بأنه كلما كان يقع نظرهم عليها، أو احتضنوها، أو قبلوها، اغرورقت عيونهم بالدموع، و انحدرت سخية على صفحات خدودهم، حتى كأنهم عليهم السلام كانوا يرون برؤيتها كل ما سيجري من المصائب عليها، أو كانوا يرون منها مواضع ضرب السياط، و غمد السيوف، و كعب الرماح، فيتذكرون أسرها و يشاهدون في عينيها الذابلتين صور الفجائع و المصائب و السبي من كربلاء إلى الكوفة و منها إلى الشام(1) .

إذن، عند زوال الشمس الحادي عشر من الشهر المحرم ارتحل (ابن سعد) إلى الكوفة و معه رتل السبايا من نساء أهل البيت عليهم السلام بقيادة العقيلة زينب علیها السلام، سیروهن على أقتاب الجمال بغير وطاء کالأسيرات و هن ودائع خير الأنبياء صلی الله علیه و آله.

و قبل أن تودع زینب علیها السلام علي أرض الشهادة و الكرامة، وقفت قليلا قرب جسد شقيقها الإمام الحسين علیه السلام المرمل بالدماء، و بسطت يديها تحت بدنه المقدس و الممزق، و حركته و رفعته قليلا نحو السماء، و قالت منادية الله سبحانه و تعالى بصوتها

ص: 491


1- السيد نور الدين الجزائري، الخصائص الزينبية، منشورات الشريف الرضي . قم، 1998، ص49.

المبحوح الشجي:

«إِلَهِي ، تَقَبَّلْ مِنَّا هَذَا الْقُرْبَانِ»(1)، و في رواية أخرى: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذَا الْقُرْبَانِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ»(2).

نعم، إن الإمام الحسين أعظم قربان قدم نفسه فداء لرسالة أعظم الأديان السماوية و آخرها، و إن دمه هو زيت المصباح المحمدی الذي أبقي شعلته متقدة على مر الأجيال و العصور، و ما من ثائر في الإسلام ضد الظلم و الطغيان إلا وفي وريده قطرات من دم الحسين علیه السلام.

و على كل حال، سار (عمر بن سعد) بالسبايا المشار إليهم، فلما قاربوا مدينة الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهم، فتقدمت امرأة من الكوفيات و قالت:

من أي الأسارى أنتن؟!

فأجابت بنات علي علیه السلام: «نَحْنُ أساری آلِ مُحَمَّدٍ».

و يا له من جواب بليغ يبكي الحجر و يستنطق العبر.

و أي عبرة بعد هذا الجواب(نحن أساری آل محمد)؟!

ثم ألا يذكرنا هذا الجواب منهن (عليهن السلام) بنداء السيدة زينب عليها السلام عند ما جاءها الأمر بالمسير في موكب الأسيرات المحمديات حيث وقفت و رفعت يديها الطاهرتين إلى السماء و نادت بحرارة و حرقة نابعة من أعماق القلب الكسير:

یا محمداه.. صلى عليك ملائكة السماء.. هذا حسين بالعراء.. مرمل بالدماء.. مقطع الأعضاء.. و بناتك سبايا .. و ذريتك مقتلة.. تسفي عليها الضبا»؟!(3) فأيه عبرة

ص: 492


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص314.
2- عبد الرزاق کيلو، السيدة زينب بنت علي، دار المنارة . اللاذقية، 1995، ص36.
3- محمد عبد الله المنفلوطي، ريجانة أهل البيت السيدة زينب الكبرى، مصدر سابق ص85.

أعمق من هذه العبرة؟ !!

لقد صدق فیلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) عند ما قال عن عمق تلك العبرة:

أَرَى الْأَيَّامِ تَفْعَلْ كُلِّ نکر *** فَمَا أَنَا فِي الْعَجَائِبِ مُسْتَزِيدٍ

أَلَيْسَ قریشکم قُتِلَتْ ( حُسَيْناً ) *** وَ كَانَ عَلَى خلافتکم (یزید)؟!

و مهما يكن من أمر، فقد سار الركب و وصل أخيرا إلى الكوفة، و اجتمع الناس حول ذلك الموكب يضجون بالواح و البكاء حتى بکی لمرآهم كل عدو و صديق.

و يذكر الكاتب المصري المعاصر (محمد عبد الله المنفلوطي) أن الإمام علي زين العابدین علیه السلام لما سمع بكاء أولئك الناس، أنشد قائلا:

يَا أَمَةَ السَّوْءِ لَا سُقْيَا لربعِکُمُ *** یا أُمَّةُ لَمْ تُراع أَ حَمْداً فِينَا

لَوْ أَنَّنا وَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْمَعُنَا *** يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، مَا کنتم تقولونا؟!

تسیرونا عَلَى الْأَقْتَابَ عَارِيَّةً *** كَأَنَّنَا لَمْ نشید فیکم دینا؟

ثم يتابع زین العابدين عليه السلام قوله مخاطبا بني أمية:

تصفقون عَلَيْنَا كفكم فَرَحاً *** وَ أَنْتُمْ فِي فِجَاجِ الْأَرْضِ تسبونا !

أَلَيْسَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ وَلِيُّكُمُ *** هَادِيَ الْبَرِيَّةِ مِنْ سُبُلِ المضلينا ؟

یا وَقَفْتَ الْطُفْ قَدْ أورثتني حُزْناً *** وَ اللَّهِ يَهْتِكُ أَسْتَارِ المسيئينا (1)

و يذكر الأستاذ (المنفلوطي) أيضا، هو و غيره من الكتاب المعاصرين، أن السيدة زینب علیها السلام علي لم تطق وقتها أن ترى أهل الكوفة يبكون الحسين و آله و هم ضحايا و يرثون حال الأسيرات من بنات الرسول صلی الله علیه و آله، و ما انتهک من حرمتهن، فأشارت عليها السلام إليهم أن اسكتوا، فسكتوا و طأطأوا رؤوسهم خزيا و ندما، على حين مضت هي

ص: 493


1- نفس المصدر السابق ص86.

تقول مؤنبة:

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الخذل، أتبكون؟! فلا سكنت العبرة و لا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، و إن فيكم الصلف و الصنف وداء الصدر الشنف.. ألا ساء ما تزرون.

أي والله فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبدا، و كيف ترحضون قتل سليل خاتم النبوة و معدن الرسالة، و مدار حجتكم و منار محجتكم، و هو سيد شباب أهل الجنة ؟! لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء.

و يلكم يا أهل الكوفة أتعجبون لو أمطرت دما؟! ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، و أي دم له سفكتم، و أي كريمة له أبرزتم؟!

لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا»(1).

و ما أن أتمت عليها السلام كلامها و توبيخها، حتى ضج الناس بالبكاء، و ذهلوا، و سقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء التي ما استفاقوا من صدمتها بعد.

ثم لوت رأسها المتعب عنهم، و مضت قدما إلى حيث أريد لها أن تمضي، هي و السبايا من آل البيت النبوي الشريف علیهم السلام غير آبهة بما یکون.

و مضت علیها السلام حتى بلغت دار الإمارة في قلب الكوفة، فأحست حرقة البكاء تجري في حلقها و مرارة المهانة و القهر تعتصر أعماق قلبها الذي لم يعرف الفرح في حياته أبدا.

ص: 494


1- نفس المصدر السابق ص87.

و كيف لا تبكي و كل حجر من أحجار دار الإمارة تذكرها بأبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام!!

و كيف لا يتصدع قلبها الكبير هما و لوعة و هي تسترجع في ذاكرتها أيام الصبا مع شقيقيها الحسن والحسين علیه السلام في تلك الدار التي كانت تتلألأ بأنوار النبوة و الهداية و تفيض على الناس علما و حكمة و رحمة!

و تماسكت جيدا، و تمالكت أعصابها مستمسكة بحبل الصبر و الإيمان، و لكن و بالرغم من هذا، فقد ازدادت دقات قلبها و شعرت بمزيج من القرف و الغضب و الأسى حين رأت الدعي الفاجر (عبيد الله بن زیاد) جالسا في المكان الذي كان أبوها علي علیه السلام يجلس فيه ليحكم بين الناس بشريعة و عدالة السماء.

كانت بالأمس القريب معروفة ب (العقيلة زينب)، و العقيلة كلمة تعني السيدة العزيزة و الكريمة في قومها، و ها هي اليوم تدخل على (ابن زیاد) أسيرة يتيمة ثكلى، لقد فقدت الأب و الأم و الولد و الشقيق و الكثير من الأعزاء و الأحبة الغوالي.

نعم، لقد فقدت السيدة زينب عليها السلام كل ذلك، لكنها قررت أن لا تفرط بعزتها و كرامتها و كبريائها أمام جبروت ذلك الطاغوت الأموي، لقد قررت ذلك و هي تسترجع في نفسها قول الله عز وجل بأن العزة لله و لرسوله و للمؤمنين.

و وقفت العقيلة العلوية زينب عليها السلام أمام الطاغية ابن زیاد غير آبهة به و مترفعة عن النظر إليه، و عندئذ نظر ابن زیاد إليها مليا ثم سألها: (من تكون؟ فلم تجبه...

و أعاد السؤال عليها أكثر من مرة، و هي لا تجيب عليه، احتقارا لشخصه اللئيم و استصغارا لخلقه الذميم، و عندئذ قيل له إنها زينب ابنة علي و فاطمة علیهما السلام.

و هنا يحدثنا الأديب و المؤرخ (إميل حبشي الأشقر)، و غيره من الأدباء

ص: 495

و المفكرين المعاصرين، عن الحوار الساخن بين العقيلة زينب عليها السلام و عبيد الله بن زیاد.

فبعد أن عرف ابن زیاد أن تلك السيدة الجليلة التي تنزه عينيها الكريمتين عن النظر إليه هي السيدة زينب حفيدة رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال لها بلهجة المغتاظ الحاقد:

- الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم.

فأجابته بكل هدوء و روية:

-«الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِمُحَمَّدٍ وَ طَهِّرْنَا تَطْهِيراً . . إِنَّما يَفْتَضِحُ الْفَاسِقِ وَ يُكَذِّبُ الْفَاجِرِ!!».

قال: ألم تري ما صنع الله بأهل بيتك؟!

قالت: «كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَخَرَجُوا إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ یا بْنِ زیاد ، فتختصمون عِنْدَهُ ».

فغضب قائلا: لقد شفي الله غيظي من أخيك و أصحابه العصاة.

فبكت و جعلت تقول: «لَعَمْرِي ، لَقَدْ قَتَلَتْ مِنْ قُتِلَتْ، فَإِنْ يشفك هَذَا فَقَدْ اشتفيت ».

ثاب: إنك شجاعة، و لقد كان أبوك شجاعا..

ثم التفت إلى (علي) فقال: ما اسمك؟

-«علي بن الحسين ».

- أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟

فسكت.

قال: ما لك لا تتكلم؟

قال: «كَانَ لِي أَخُ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ فَقَتَلَهُ النَّاسِ».

ص: 496

- بل قتله الله.

و هنا يصور لنا ذلك الأديب و المؤرخ (الأشقر) الحوار الدائر في مجلس ابن زیاد بأسلوب أدبي بارع، و بمحاولة جادة منه على نقل جوهر ذلك الحوار الهام بكل أمانة و إخلاص، و لذلك نراه يتابع تصوير الأحاديث و الأحداث في ذلك المجلس بقوله:

فرأى الغلام (زین العابدين) أن السكوت أولی.

فقال الطاغية: أتكلم فتسكت؟!

قال: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حین مَوْتَهَا ، وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ».

فقال الطاغية: و ستموت أنت بإذنه.

ثم قال لابن معاذ الأحمري: اقتل هذا الغلام یا بن معاذ.

فقال علي: «و من توكل بالنساء؟».

و قامت زینب فقالت: «یا بْنِ زیاد ، حَسْبُكَ مِنَّا . . أَمَّا رویت مِنْ دِمَائِنَا . . وَ هَلْ أَبْقَيْتَ مِنْ آلِ الْحُسَيْنِ أَحَداً؟»

ثم اعتنقت ابن أخيها و قالت:

«أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِناً ، یا بْنِ زیاد ، أَنْ تَقْتُلَنِي إِذَا قَتَلَتْهُ فَأَنَا لَا أَرْغَبُ فِي الْحَياةِ بَعْدَهُ»

ثم قال علي: «إِنْ كانَتْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُنَّ قَرَابَةُ فَأَرْسَلَ مَعَهُنَّ رَجُلًا تَقِيّاً يصحبهن بِصُحْبَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشَّامِ ».

فجعل (الطاغية) ينظر إلى زينب ثم قال:

عجبا للرحم، فوالله لقد آثرت أن تموت معه.. دعوا الغلام ينطلق مع نسائه و لا

ص: 497

تقتلوه.

ثم أمر منادیه، فنادى: الصلاة جامعة.

فاجتمع الناس، ثم خرج حتى صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله، و نصر أمير المؤمنين و رجاله، و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شیعته.

و كان عبد الرحمن بن الحصين في المسجد يسمع الخطبة و قد قضى يومه في الأحياء و عند القصر، و لم يرجع إلى المنزل.

و كذلك قضى اليوم الثاني، ليرى بعينيه نساء الحسين و صغاره، الذين بلغ أهل الكوفة، أنهم سينتهون إليها مع عمر بن سعد.

و قد هم بأن يجيب ابن زیاد و يلعنه على مسمع من الناس، و لو أمر بعد ذلك بضرب عنقه.

و لكن عبد الله بن عفيف الأزدي، كان أسبق منه فقد سمعه القوم يقول:

يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك، و الذي ولاك و أبوه، أتقتلون أبناء الأنبياء و تتكلمون بكلام الصديقين؟!

و كان عبد الله ضريرا، ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل مع علي، و ذهبت الأخرى مع علي أيضا بصفين.

و هو لا يفارق المسجد، يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف.

فلما سمعه ابن زیاد قال: علي به.

فحملوه إليه، فنادى الرجل بشعار قومه (الأزد) يقول:

- يا مبرور...

ص: 498

فوثب إليه فتية منهم فانتزعوه و ذهبوا به.

فصبر ابن زیاد ساعة ثم أرسل رجال الشرط فقبضوا عليه.

فلما لقيه قال: يا بن عفيف، أنا و أبي، و أمير المؤمنين و أبوه، مع الكذبة؟

- نعم، أنتم و من يخضع لكم من الناس...!

- تقول هذا و أنت أعمى فماذا كنت تصنع لو كنت مبصرا؟!

- كنت أحمل السيف في وجهك و وجه یزید.

- ثم تموت كما مات الحسين..!

- أجل، فالموت مع حفيد رسول الله خير من العيش في ظلك يا بن مرجانة اللعين الظالم.

- إذن فاعلم أنك لاحق بمولاك

- قال: هنيئا لي فسأدخل الجنة.. اضرب یا ابن مرجانة فالعيش لا يطيب لك إلا إذا غاصت يداك في الدماء.

فقال الأمير لجلاده: سيفك..

فبري الجلاد عنقه بضربة واحدة، و أهل الكوفة ينظرون.

ثم قال: اصلبوه في المسجد! فصلب، و الرهبة تملأ نفوس الناس.

ثم قال: علي برأس الحسين ، فلما أتوا به، قال: اجعلوه على خشبة و طوفوا به في الكوفة(1).

و غني عن القول إن تصوير هذه الأحداث الساخنة في مجلس ابن زیاد لم ينفرد بها الأديب و المؤرخ المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، بل إن هناك العشرات من الأدباء

ص: 499


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص50.52.

و الباحثين و المفكرين المسلمين و المسيحيين المعاصرين الذين ذكروا هذه التفاصيل في كتبهم و مؤلفاتهم، وحتى في دواوين الشعراء منهم، معتمدين في تسجيلهم لتفاصيل تلك الأحداث على أهم وأقدم المصادر الإسلامية السنية المعتبرة.

وهنا تحديدا أريد أن أتوقف عند نقطة هامة جدا، و قد تعمدت أن أذكرها الآن في مكانها المناسب حتى لا يتهمني القارئ الكريم بالإهمال لذكرها و توضيحها نظرا لما تحمله من معان و مقاصد لا تخفى عن ذهن كل إنسان عاقل و لبيب.

وتتعلق هذه النقطة الهامة بمصير رأس الإمام الحسين علیه السلام عند الدخول به إلى مجلس عبيد الله بن زیاد.

فماذا كان مصير الرأس الشريف، رأس ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، في مجلس ابن زیاد، و كيف تصرف ابن زیاد معه حين وضع بين يديه القذرتين ؟!

إن الجواب الأكيد على هذا السؤال الحساس ليس بالصعب و لا بالغامض، بل هو واضح في تفاصيله وضوح الشمس في رابعة النهار، و لكن، و بالرغم من وضوحه في كافة المراجع و المصادر الإسلامية و غير الإسلامية، إلا أننا سنجيب عليه مستخدمين في ذلك كتاب نفيسا لأحد علماء جامعة الأزهر الشريف في مصر، و عنوان الكتاب هو (الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهداء) لمؤلفه العالم الأزهري (محمد عبد الباقي سرور نعیم)، وهو بالطبع واحد من إخواننا السنة، و قد طبع الكتاب المذكور في أواسط القرن الماضي و هو من الكتب النادرة، بل و المفقودة، و قد وفقني الله سبحانه و تعالى في الحصول على نسخة أصلية منه بطريق المصادفة، ولكن ذلك لم يمنع استغرابي و دهشتي من عدم إعادة طباعة هذا السفر الرائع على الرغم من أن طبعته الأولى قد قارب عمرها أكثر من نصف قرن تقريبا.

ص: 500

و حتى لا نخرج عن جوهر السؤال المطروح، دعونا نقرأ عن كيفية تعامل ابن زیاد مع رأس الإمام الحسين علیه السلام عند ما أحضر إليه في مجلسه، و ماذا نتج عن ذلك؟.

يقول ذلك العالم الأزهري (محمد عبد الباقي سرور نعیم) في كتابه المذكورسابقا:

(لما أصبح ابن زیاد، جلس في قصر الأمارة و أذن للناس با لدخول، و أمر بإحضار الرأس الشريف بين يديه و أخذ ينظر إلى رأس الحسين و تبسم، و كان في يده قضيبا فأخذ ينكث به ثنايا الحسين رضي الله عنه و الناس ينظرون و لا يتكلمون.

و كان بجواره (زيد بن أرقم) و هو البقية الباقية من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقال له:

یا بن زیاد، أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت رسول الله يلثمهما، ثم بکی، فقال له ابن زیاد: و الله لولا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضرب عنقك الآن.

فقام ابن الأرقم و خرج لتوه من مجلسه و هو يقول للمسلمين الذين ينظرون و لايتكلمون: و الله يا معشر المسلمين إنكم لعبيد بعد اليوم، فقد قتلتم ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله، و أمرتم عليكم ابن مرجانة يقتل خياركم و يستعبد شراركم، فما أنتم بأحرار بعد اليوم)(1)

و هنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطة هامة و هي أن بعض الروايات المعاصرة تنقل لنا أن (ابن الأرقم) لم يقل: (و الله يا معشر المسلمين إنكم لعبيد بعد

ص: 501


1- محمد عبد الباقي سرور نعيم، الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهدا، نشر: مكتبة الجمهورية المصرية . القاهرة، د.ت ص116.

اليوم)، و إنما قال: (و الله يا معشر العرب إنكم لعبيد بعد اليوم)(1)، و الفرق كبير و واضح بين هذين التعبيرين، وأنا شخصيا أرجح القول الأخير.

و بعد هذه المحطة القصيرة في الكوفة، بعث عبيد الله بن زیاد إلى یزید بن معاوية في دمشق يخبره بقتل الحسين علیه السلام و من معه، و أن عياله في الكوفة، ينتظر أمره فيهم، فعاد إليه الجواب من يزيد يأمره فيه بحملهم إليه و الرؤوس معه.

و عندئذ أمر ابن زیاد جماعة من أعوانه بحمل رأس الحسين علیه السلام و رؤوس من قتل معه إلى يزيد، و سرح في أثرهم الإمام علي بن الحسين علیه السلام مغلول اليدين، مقید القدمين، و الجامعة حول عنقه، و عياله معه في أسوأ حال يمكن أن يخطر على بال.

و تذكر كل كتب التاريخ أن يزيد أمر عبيد الله بن زياد أن يسير بركب السبايا سالكا الطريق الشمالية الطويلة إلى الموصل ثم إلى حلب و منها إلى دمشق، مع العلم أن هناك طريقا صحراويا مباشرا و قصيرا يربط ما بين الكوفة و دمشق.

فلماذا فظل يزيد الطريق الطويل للسبايا على الطريق القصير؟!

لقد كان بوسع ابن زیاد أن يعبر الطريق القصير المؤدي مباشرة إلى دمشق، لكنه كان يهدف، هو و سيده يزيد، إلى التشهير بمقتل الحسين علیه السلام و إلى نشر خبر مقتله في كل الأصقاع و الآفاق كي يعلم الناس بقتله و كيفية نهايته الأليمة حتى لا يبقى لأي مدافع عن الحق في صفوف المسلمين أي أمل في مقاومة يزيد و أعوانه.

و لذلك، فقد رأی یزید أن من أبلغ أنواع الأخبار بمقتل الحسين علیه السلام أن يرى الناس رأس الحسين علیه السلام يطوف به في البلاد، و أن تری نساؤه و بناته و صبيانه سبايا يسار بهم في البلدان و الأمصار، و يشهر أمهم في كل مكان يأتونه، و لذا سلكوا به

ص: 502


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص41.

الطريق العامر بالبلدان و الآهل بالسكان، و هو الطريق من الكوفة إلى الموصل ثم إلى حلب، فحماه، فحمص، و أخيرا وصولا إلى قصر يزيد في دمشق.

و بالطبع، فإننا لا نريد أن نحول هذا الكتاب إلى كتاب تاريخي يروي قصة مسيرة الرؤوس و السبايا بشكلها الدقيق والمفضل، و إنما نريد أن نذكر بعض النقاط الهامة في تلك المسيرة الفجائعية الحزينة على درب الآلام من مسرح الفاجعة إلى عاصمة الشام.

و أول نقطة لافتة للنظر في تلك المسيرة الملهبة للمشاعر الإنسانية و العواطف الوجدانية هي تلك النقطة المتعلقة بردود فعل المسيحيين الأوائل الذين عاصروا وقائع تلك الفاجعة و كانوا . جغرافيا - على مقربة من مكان الحدث.

فقد نقلت الكتب المعاصرة عن كتب المتقدمين أن عبيد الله بن زیاد دعا شمر بن ذي الجوشن، و شبث بن ربعي، و عمرو بن الحجاج، و ضم إليهم ألف فارس، و أمرهم بإيصال السبايا و الرؤوس إلى الشام حيث يقيم یزید.

و تذكر تلك الكتب أيضا أن الركب مر في طريقه بمدينة (تکریت)، و كان فيها العديد من النصارى، فلما حاول الركب أن يدخلها بالسبايا و الرؤوس (اجتمع القسيسون و الرهبان في الكنائس، و ضربوا النواقيس حزنا على الحسين، و قالوا: إنا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم، فلم يجرؤوا (أصحاب الركب) على دخول المدينة، و باتوا ليلتهم في البرية)(1).

و بتحليل بسيط لهذه السطور القليلة عن رد فعل المسيحيين تجاه أحداث الفاجعة، نرى أن بذور الثورة ضد الحكم الأموي قد أخذت طريقها إلى النور في

ص: 503


1- محمد جواد مغنية، الحسين و بطلة كربلاء، مصدر سابق ص230.

التربة المسيحية على شكل استنكار و استهجان، بل و معارضة شديدة ضد تلك الحكومة الأموية الجائرة التي تأمر بقتل و سبي أبناء و بنات الأنبياء.

و إذا كان هذا هو رد فعل القساوسة و الرهبان المسيحيين على جريمة قتل الإمام الحسين علیه السلام ظلما، و التمثيل به و بالقتلى من أهل بيته، وسبي نسائه و بناته، فعلينا أن لا نستغرب اليوم من وجود الكثير من رجال الفكر المسيحي الذين جعلوا من أقلامهم الحرة وسيلة لتبليغ عموم الناس، في كل زمان و مكان، أن كل ما حدث في كربلاء للإمام الحسين و لأهل بيته عليهم السلام لم يكن في جوهره و ذاته إلا محاولة أموية جادة لسحق محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و ذاته، و لطعن المبادئ الأخلاقية و الإنسانية التي كانت متجسدة بأبهى صورها، و بأعلى كمالاتها في شخص الإمام الحسين علیه السلام ، حفيد النبوة و ابن الرسالة.

و حتى تتضح هذه الصورة أكثر في مخيلة القارئ، دعونا نقرأ الآن سوية ما يراه الأديب و الصحافي المسيحي (أنطون بارا) في معاني التشيع و في شخصية الإمام الحسين علیه السلام حيا و شهيدا.

يرى الأستاذ (بارا) (أن التشيع للإمام عليه السلام هو بمعنى التحلي بأعلى درجات العشق الإلهي، و أن الإمام الحسين علیه السلام ليس مختصا بالشيعة أو المسلمين لوحدهم، بل (الحسين) علیه السلام للعالمين أجمعين، فالحسين عنده (جوهر الأديان)(1).

و بطبيعة الحال، فإن هذه الرؤية للأستاذ (بارا) تجاه الإمام الحسين علیه السلام و موالاته لدرجة العشق و الوجد لا تمثل وجهة نظر خاصة و لا حتى رؤية شخصية

ص: 504


1- راجع نص المقابلة الصحفية مع الأديب و المفكر (أنطون بارا)في العدد الخامس و الخمسين من مجلة (رسالة الثقلين) عدد (صفر . ربيع الأول) 2007، و هي تصدر عن المعاونية الثقافية في طهران.

ذاتية اختص بها الأستاذ (بارا) دون غيره من الأدباء و المفكرين المسيحيين و غير المسيحيين، بل هي رؤية عامة و نظرة إنسانية شاملة نكاد نراها جلية واضحة في آثار و مؤلفات كل من خاض في ميدان دراسة أحداث الفاجعة مقرونة بطبيعة و بمقومات شخصية الإمام الحسين علیه السلام المعروف عند القاصي و الداني، عند المؤالف و المخالف ب (ريحانة الرسول)، و(سيد شباب أهل الجنة)، بل و المعروف عند الكثيرين منهم بلقب (وارث الأنبياء)، و هو ما عبر عنه الأستاذ المسيحي (أنطون بارا) بقوله السابق (الحسين عنده جوهر الأديان).

و بما أننا لا نزال في معرض حديثنا عن رحلة الآلام إلى الشام، دعونا الآن نقرأ بهدوء و روية ما جاء في كتاب بالغ الأهمية يتناول في مجمله سيرة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، إنه کتاب (تذکرة الخواص) لمؤلفه العلامة (سبط ابن الجوزي الحنفي)، فقد روي هذا العلامة - الحنفي مذهبا . نقلا عن كتاب (سيرة ابن هشام) حديثا هاما و متميزا عن رحلة رأس الإمام الحسين علیه السلام إلى دمشق.

فقد روى العلامة (ابن الجوزي) الحديث المشار إليه مرفوعا إلى (ابن هشام النحوي البصري) قائلا:

(لما أنفذ ابن زیاد رأس الحسين علیه السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأساری موثقين في الحبال، منهم نساء و صبيان و صبيات من بنات رسول الله صلی الله علیه و آله على أقتاب الجمال موثقين، مکشفات الوجوه و الرؤوس، و كلما نزلوا منزلا أخرجوا الرأس من صندوق أعدوه له فوضعوه على رمح و حرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل ثم يعيدوه إلى الصندوق و يرحلون.

فنزلوا بعض المنازل و في ذلك المنزل دير فيه راهب، فأخرجوا الرأس على

ص: 505

عادتهم و وضعوه على الرمح و حرسه الحرس على عادته و أسندوا الرمح إلى الدير، فلما كان في نصف الليل رأى الراهب نورا من مكان الرأس إلى عنان السماء، فأشرف على القوم و قال: من أنتم؟!

قالوا: نحن أصحاب ابن زیاد.

قال: و هذا رأس من؟

قالوا: رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله .

قال: نبيُّكم؟!

قالوا: نعم.

قال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد لأسكناه أحداقنا.

ثم قال (مجددا): هل لكم في شيء؟

قالوا: وما هو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار تأخذونها و تعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، و إذا رحلتم تأخذونه.

قالوا: و ما يضرنا؟!

فناولوه الرأس و ناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسله و طيبه و تركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كله، فلما أسفر الصبح، قال:

يا رأس لا أملك إلا نفسي، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن جدك محمدا صلی الله علیه و آله رسول الله، و أشهد الله أنني مولاك و عبدك.

ثم خرج عن الدير و ما فيه و صار يخدم أهل البيت، ثم إنهم أخذوا الرأس و ساروا، فلما قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض:

ص: 506

تعالوا حتى نقسم الدنانير لا يراها يزيد فيأخذها منا.

و أخذوا الأكياس و فتحوها و إذا الدنانير قد تحولت خزفا و على أحد جانب الدينار مکتوب«وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»(1)، و على الجانب الآخر«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2) ، فرموها في بردی (وهو نهر في دمشق)(3).

و لو أردنا أن ندخل هنا في بعض التفصيلات الدقيقة التي وردت في الكثير من الكتب و المؤلفات عن بعض المواقف المؤثرة، فبإمكاننا الوقوف مليا عند هذه القصة المؤسفة التي لا تحتاج إلى أي شرح أو تعليق.

و تقول هذه القصة المحزنة أن القوم ساروا برأس الحسين علیه السلام و رؤوس أهله و الأسرى من نسائه و عياله، فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم عليها السلام من شمر و كان من جملتهم، فقالت له: «لي إليك حاجة!!».

قال: ما حاجتك يا ابنة علي؟!

قالت: «إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في طريق قليل النظارة و تقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين الحوامل و ينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا و نحن في هذه الحال».

فأمر في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيا منه وكفرا و سلك بهم بين النظارة حتى أتي بهم باب دمشق و جاء شیخ و دنا من نساء الحسين علیه السلام و عياله و هم في ذلك الموضع، فقال:

ص: 507


1- سورة إبراهيم: الآية 42.
2- سورة الشعراء: الآية227.
3- العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق ص237.

الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم و أراح البلاد من رجالکم وأمكن أمير المؤمنين یزید منكم!!

فقال علي بن الحسين: «يا شيخ هل قرأت القرآن؟».

قال: نعم.

قال: «هل عرفت هذه الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربی؟».

قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلک.

فقال علي علیه السلام: «فنحن القربی یا شیخ، فهل قرأت في سورة بني إسرائيل: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ»؟(1)

فقال الشيخ: قد قرأت.

فقال علي بن الحسين علیه السلام: «فنحن القربی یا شیخ، فهل قرأت:«وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي القُربی»؟(2)

قال: نعم.

فقال علي بن الحسين: «نَحْنُ القربی ، فَهَلْ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةِ : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرِ؟!».

قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال علي علیه السلام: «فَنَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ الَّذِي خَصَّنَا اللَّهُ بِآيَةِ التَّطْهِيرِ».

فبقي الشيخ نادما على ما تكلم به، و التفت إلى زين العابدين وقال: بالله عليك أنتم هم ؟!

ص: 508


1- سورة الإسراء: الآية26.
2- سورة الأنفال: الآية 41.

فقال الإمام: «إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَ حَقُّ جَدِّنَا رَسُولِ اللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ».

فبكى الشيخ و رمی عمامته ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إنا نبرأ إليك من عدو آل محمد من جن و إنس.

ثم قال: هل لي من توبة؟

قال عليه السلام : «نَعَمْ ، إِنَّ تُبْتُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ أَنْتَ مَعَنَا».

قال: أنا تائب.

فبلغ یزید بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل.(1)

وغني عن القول إن هذه المواقف و الأحداث المؤثرة لم يقتصر ذکرها على المصادر المتقدمة زمنيا، و إنما يمكن الوقوع عليها في الكثير من المراجع التاريخية و المؤلفات الفكرية الحديثة و المعاصرة.

و على سبيل المثال، فالحادثة التي سنذكرها الآن هي واحدة من أهم و أشهر الحوادث التي تزامنت مع وصول رأس الإمام الحسين علیه السلام و السبايا إلى قصر یزید في دمشق، و هي حادثة تجاوزت في ذكرها و ثبوت حدوثها حدود المذهب والدين.

إنها حادثة مأساوية راح ضحيتها - هذه المرة - رجل مسيحي نصراني لم يكن له ذنب قد ارتكبه إلا قوله الحق و حبه الصادق للإمام الحسين علیه السلام و لأهل بيته الكرام المظلومين بغيا و عدوانا.

لقد أجمعت المراجع الإسلامية بكل أطيافها و مذاهبها، و كذلك المؤلفات المسيحية المعاصرة على أنه كان هناك تزامن قد حدث بالصدفة بين إدخال رأس الإمام الحسين علیه السلام إلى مجلس یزید و بين وصول رسول قیصر إلى نفس المجلس.

ص: 509


1- الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين علیه السلام قتيل العبرة، مصدر سابق، ص157.

فماذا جرى و قتذاك في ذلك المجلس الذي كان يغص بالزوار و الوافدين ؟!

تجمع معظم المراجع المعاصرة، على مختلف مشارب مؤلفيها، على حدوث ما سنذكره، و سوف نذكر بالتفصيل بعضا من تلك المواقف التي سبقت الحوار الذي دار بین یزید و رسول قيصر الروم إليه، وها هي العديد من المراجع و الكتب المعاصرة تنقل لنا صورة الأحداث، فتقول:

و انتقلوا (أي الفرسان مع السبايا) إلى دمشق، و قبل أن يدخلوهم إلى مجلس یزید أتوهم بحبال فربقوهم (ربطوهم) بها، فكان الحبل في عنق زین العابدین إلی زینب و أم كلثوم و باقي بنات رسول الله، و كلما قصروا عن المشي ضربوهم حتى أوقفوهم بين يدي يزيد و هو على سريره.

فقال له علي بن الحسين: «مَا ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللَّهِ لَوْ يَرَانَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟!».

فبكى الحاضرون و أمر يزيد بالحبال فقطعت و وضع الرأس المقدس بين يدي يزيد.

والتفت يزيد إلى الإمام السجاد علیه السلام و قال:

كيف رأيت صنع الله يا علي بن الحسين؟

فقال: «رَأَيْتَ مَا قَضَاهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضِ».

و شاور یزید من كان حاضرا عنده في أمره فأشاروا عليه بقتله.

فقال زین العابدین: «یا یَزید لَقَدْ أَشَارَ عَلَيْكَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا أَشَارَ بِهِ جُلَسَاءُ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ حِينَ شاوِرْهُمْ فِي مُوسى وَ هارُونَ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَهُ : أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ لَا يُقْتَلُ الْأَدْعِيَاءُ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَ أَبْنَاءَهُمْ».

فقال يزيد: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.

ص: 510

و قال علي بن الحسين علیه السلام: «مَا هَذِهِ فِينَا نَزَلَتْ ، إِنَّما نَزَلَ فِينَا «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ»(1)، فَنَحْنُ لَا نأسى عَلَى مَا فاتنا وَ لَا نَفْرَحُ بِمَا آتَانَا»(2)

و تؤكد المراجع المعاصرة ذاتها، إسلامية و غير إسلامية، أن الإمام علي بن الحسين علیه السلام وقف في مجلس یزید و خطب بالناس خطبة بليغة . كنا قد ذكرها سابقا قسما يسيرا منها - يقول فيها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا بداية لَهُ وَ الدَّائِمِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ ، وَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَا أَوَّلِيَّةِ لَهُ وَ الْآخِرِ الَّذِي لَا آخرية لَهُ ، وَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخُلُقِ ، قَدَّرَ اللَّيَالِي

ص: 511


1- سورة الحديد: الآية 23
2- أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص167. ب . محمد عبد الباقي سرور نعيم، الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهداء، مصدر سابق ص119. ج . عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص181، ذكرها باختلافات يسيرة. د. محمدرضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص169، مع بعض الاختلاف. ه . الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص274 مع بعض الاختلاف. و. خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص190 ذكر الحادثة باختلاف یسیر. ز. عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص46 ذكر الحادثة باختلاف يسير. ح. جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص239 ذكر الحادثة باختلاف يسير. ط . عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص156 ذكره باختلاف. ي . بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق هامش ص290 مع اختلاف يسير.

وَ الْأَيَّامِ وَ قَسَمَ فِيمَا بَيْنَهُمْ الْأَقْسَامِ ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ..»إلى أن قال:

«...أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرِّفْنِي وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَ نَبَّأْتَهُ بحسبي وَ نَسَبِي ،أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَ مِنِّي ،أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَ الصَّفَا ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ الرُّكْنِ بِأَطْرَافِ الرِّدَا ،أَنَا ابْنُ خیر مِنْ ائْتَزَرَ وَ ارتدی وَ خیر مَنْ طَافَ وَ سعی وَ حُجَّ وَ لُبِّيَ ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَ بَلَغَ بِهِ جبرائیل سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَكَانَ مِنْ رَبِّهِ كَقَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، أَنَا ابْنُ مَنْ صَلَّى بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ ، أَنَا ابْنُ مِنْ أَوْحَى إِلَيْهِ الْجَلِيلُ ما أَوْحى ، أَنَا ابْنُ مَنْ ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِبَدْرٍ وَ حُنَيْنٍ وَ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، أَنَا ابْنُ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ وَارِثِ النَّبِيِّينَ وَ يَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَ نُورُ الْمُجَاهِدِينَ وَ قَاتَلَ النَّاكِثِينَ وَ الْقَاسِطِينَ وَ الْمَارِقِينَ وَ مَفْرِقِ الْأَحْزابِ ، أربطهم جأشا وَ أمضاهم عَزِيمَةُ ، ذَاكَ أَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ،أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ وَ ابْنَ خَدِيجَةَ الْكُبْرى ،أَنَا ابْنُ المرمل بِالدِّمَاءِ ،أَنَا ابْنُ ذبیح کربلاء ، أَنَا ابْنُ مَنْ بَكَى عَلَيْهِ الْجِنِّ فِي الظَّلْمَاءِ وَ نَاحَتْ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ»(1).

و على الرغم من أن الكثير من الكتب و المراجع المعاصرة قد أوردت هذه الخطبة العصماء للإمام علي زين العابدين عليه السلام بهذه الطريقة، إلا أن البعض من تلك المراجع قد أثبتتها بالفعل و لكن بطريقة أخرى لا تقل بلاغة و فصاحة و حجة عن الخطبة التي ذكرناها منذ قليل و إن كانت لا تختلف عنها في المعنى والجوهر.

و نظرا لبلاغة و قوة تلك الخطبة التي وردت بطريقة أخرى، فقد رأينا أنه من الأصوب أن نذكرها هنا أيضا و ذلك من باب التأكيد على الحجج التي أوردها الإمام زین العابدين عليه السلام في مجلس يزيد الذي كان يغص بالناس و بأعیان الشام، و ذلك

ص: 512


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص168.

داخل مسجد دمشق.

فقد ذكر الكاتب و الأديب المصري (عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) أن الناس اجتمعوا في مسجد دمشق، و جلس علي بن الحسين بالقرب من یزید، فارتقى رجل المنبر و جعل يسب الحسين، فقام علي زين العابدین و سار إلى المنبر و التفت إلى الرجل و قال:

-«بِاللَّهِ عَلَيْكِ إِلَّا مَا أَذِنْتَ لِي أَنْ أَصْعِدْ الْمِنْبَرِ ، وَ أَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ فِيهِ رِضَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ؟!».

فقال الرجل: اصعد و قل ما بدا لك.

فصعد المنبر و تكلم بعذوبة لساني و فصاحة و بلاغة، فأعاره الناس أسماعهم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرِّفْنِي ، وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَعْرِفُهُ بِنَفْسِي ، أَنَا عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَجَّ وَ لُبِّيَ ، أَنَا ابْنُ مَنْ طَافَ وَ سَعْيُ ،أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَ الصَّفَا ، أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ ، أَنَا ابْنُ الْعَطْشَانُ حَتَّى قَضَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ مُنِعُوهُ مِنَ الْمَاءِ وَ أَ حُلْوَهُ عَلَى سَائِرِ الوری ، أَنَا ابْنُ مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ رَاحَةٍ أَنْصَارُهُ تَحْتَ الثَّرَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ غُدَّةُ حَرِيمَهُ أَسْرَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ ذَبَحْتَ أطفاله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، أَنَا ابْنُ مِنْ أَضْرَمَ الْأَعْدَاءِ فِي خَيْمَتُهُ لَظَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ أُضَحِّي صَرِيعاً بالعرا ، أَنَا ابْنُ مَنْ لَا لَهُ غَسْلُ وَ لَا كُفِّنَ یری».(1)

و ضج الناس بالنحيب و البكاء و علت الأصوات داخل المسجد، فخاف يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن أن يقطع عليه خطبته، فصعد المؤذن، فقال:

- الله أكبر.

ص: 513


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص184.

فقال علي بن الحسين علیه السلام : «كَبَّرْتَ كَبِيراً وَ عَظُمَتْ عَظِيماً وَ قُلْتُ حَقّاً».

قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله.

فقال علي: «أَشْهَدُ بِهَا مَعَ كُلِّ شَاهِدُ».

قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله .

فبكى علي عليه السلام و قال: «یا یزید ، سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ مُحَمَّدُ جَدِّي أَمْ جَدُّكَ ؟!».

فقال یزید: جدك.

قال علي: «فَلَمْ قَتَلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ ؟».

فأفحم يزيد و قام و قد ظهر عليه الغضب و الضيق و دخل داره.

ولكن لا يحسب القارئ الكريم أن رجلا مثل يزيد يمكن أن ينهزم بسهولة أمام عامة الناس أو أن يقبل الفضيحة و العار دون أن يلجأ إلى الانتقام من خصمه و لو بأقذر الطرق و الأساليب.

فيزيد لم يغادر المسجد و يدخل داره إلا بعد أن انتقم من محمد صلی الله علیه و آله و من ذريته شر انتقام أمام رؤوس الأشهاد و الأعيان.

فماذا فعل یزید کی یرضى النار التي تأكل قلبه حقدا و بغضا لآل محمد علیهم السلام؟!

الجواب بكل بساطة هو ما جاء في معظم الكتب و المؤلفات المتقدمة و المعاصرة حيث ذكرت أن حقد يزيد و بغضه لمحمد وآل محمد علیهم السلام تجلى واضحا من خلال إصدار أوامره بکشف الغطاء عن رؤوس الشهداء و انثنائه يعبث بقضيب كان في يده بثنايا الإمام الحسين علیه السلام و هو يقول منشدا:

لَيْتَ أشياخي بِبَدْرٍ شَهِدُوا *** جَزِعَ الْخَزْرَجِ مَنْ وَقَعَ الأسل

ص: 514

لأهلوا وَ استهلوا فَرَحاً *** ثُمَّ قَالُوا : یا یزید لَا تَشَلُّ (1)

وهنا يقف (أبو برزة الأسلمي) مستنكرا لما كان من يزيد و يقول على مسمع من الناس:

(أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه و ثنايا أخيه الحسن و يقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما و لعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا).

فغضب يزيد منه و أمر به فأخرج من مجلسه أمام عيون الناس سحبا.(2)

و على الرغم من الاشمئزاز المنطوي على الكثير من الاستنكار الذي أبداه المفكرون و الأدباء تجاه ما قام به یزید و ما فعله برأس الحسين علیه السلام على رؤوس الأشهاد، فإننا لا نرى أي غرابة في كل ما فعله برأس الإمام الحسين علي و ببقية بيت النبوة و مهبط الرسالة.

فأبوه معاوية كان معلما له في تتبع أهل البيت عليهم السلام و أتباعهم المخلصين من أجل اجتثاثهم من الوجود و من أجل استئصال رسالتهم و قيمتهم، و جده أبو سفيان فعل كل ما سولت له نفسه برأس الشهيد العظيم (حمزة) بعد أن مضغت زوجته (هند) كبده الذي مزقته بأظفارها و أنيابها إمعانا في حقدها على أصحاب الرسالة السماوية الجديدة.

و من الأدباء و الشعراء الذين انتبهوا إلى هذه الملاحظة التاريخية الهامة الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) الذي لخص تلك الملاحظة التي تربط بين الجڈ و الحفيد من حيث الخسة والندالة بقوله: (الأرجح ما رواه بعض المؤرخين من أنه

ص: 515


1- د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص141.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص169.

(أي يزيد) نكت رأس الحسين علیه السلام بالقضيب شامتة كما فعل جده صخر (أبو سفيان بأسد الله حمزة)(1).

و لم يكتف الأديب (سلامة) بالكلام عن تلك النقطة نثرا، بل راح ينسجها قصيدة عصماء تخلد رذائل الأمويين أبد الدهر و تنشر فضائحهم ما بقي الليل و النهار، و ها نحن ننقل بيتين شعريين فقط من تلك القصيدة الرائعة التي تحمل عنوان (التطواف) لنؤكد على أن هناك من سبق يزيد في التمثيل بجثث الشهداء و بالأولياء، و بأهل البيت علیهم السلام، و لذلك فإنهم لم يستغربوا أبدا ما قام به یزید بحق الشهداء الأطهار الأبرار من أهل البيت المحمدي الكريم عليهم السلام، و إن كانوا استنكروا ذلك العمل أشد الاستنكار.

يقول بولس سلامة في قصيدته (التطواف):

جِي ءَ بِالرَّأْسِ هَامَّةِ السِّبْطِ تلقی *** بین کَفَیِّ یزید بِئْسَ الدَّانِقُ

يتلهّى بِضَرْبِ رَأْسِ حُسَيْنِ *** هَكَذَا ( الْجَدُّ ) رَأْسُ ( حَمْزَةَ ) خازق(2)

و بالطبع، فإن الأستاذ (سلامة) يعني بقوله (هكذا الجد رأس حمزة خازق) أن أبا سفیان، جد یزید، كان قد مزق رأس أسد الله (حمزة) بعد استشهاده دفاعا عن رسالة السماء التي جاء بها محمد المصطفى المختار صلی الله علیه و اله و حيا عن رب العالمين.

إذن، حتى الكثير من رجال الفكر و الأدب من المسيحيين يعرفون أن البيت السفياني بيت غدر وخيانة، و يعرفون أيضا أن داء الإسلام الخطير هو بنو أمية الذين دخلوا و تغلغلوا في الإسلام كما تتغلغل الخلايا السرطانية المهلكة في الجسم المعافی والسليم.

ص: 516


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق راجع هامش الصفحة 297.
2- نفس المصدر السابق ص303.

و بالمقابل أيضا، فإن كل واحد من أولئك المفكرين المسيحيين الذين أضاؤوا عقولهم بأنوار المعرفة و اتخذوا الحق سلاحا ماضيا في محاربة التعصب و الجهل و الانغلاق، قد أدركوا أيضا أن أهل البيت علیهم السلام هم طريق الخلاص و سبيل الأمان لأهل الإيمان في كل زمان و مكان من هذا الوجود.

و لعل الشاعر المسيحي المتقدم (زینبا بن إسحاق الرسعني الموصلي) قد أجاد القول شعرا عندما عبر عن حقيقة أهل البيت علیهم السلام من حيث إنهم هم قوة الحب السارية في الكون بكل موجوداته و مفرداته، فقال شعرا:

يَقُولُونَ مَا بَالُ النَّصَارَى تحبهم *** وَ أَهْلُ النُّهَى مِنْ أُعْرِبَ وَ أعاجم

فَقُلْتُ لَهُمْ إِنِّي لأحسب حُبَّهُمْ *** سَرَّى فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ حَتَّى الْبَهَائِمِ(1)

و أعتقد أننا وصلنا الآن إلى المكان المناسب لذكر قصة ذلك الرجل المسيحي النبيل الذي دفع حياته ثمنا لحب الحسين و أهل بيته الأبرار عليهم السلام.

و قد سبق لنا أن ذكرنا أن ذلك المسيحي كان رسول قيصر الروم إلى يزيد، و قد كان حاضرا و شاهدا على كل ما دار و جرى من أقوال و أحداث في مجلس يزيد الذي كان يضم سبايا أهل البيت عليهم السلام من جهة، و أنصاره و أعوانه من جهة ثانية .

فماذا حدث لذلك الرسول المسيحي الذي كان ضيفا على يزيد؟!

فبعد أن سمع ذلك الرسول الذي بعثه قيصر الروم إلى يزيد كل ما دار في ذلك المجلس من حوارات عنيفة، و بعد أن شاهد بأم عينه ما فعل یزید برأس الإمام الحسين علیه السلام، وقف وقال مخاطبا یزید: (إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عیسی علیه السلام علی

ص: 517


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين ،راجع: نشرة(الغدير)، العدد /59/ تصدر عن مركز الإمام الخوئي . لندن، عدد آذار، 2003، ص5.

و نحن نحج إليه في كل عام من الأقطار و نهدي إليه النذور و نعظمه كما تعظمون کتبكم، فأشهد أنكم على باطل) فأغضب یزید هذا القول، و أمر بقتله(1).

فماذا كان رد فعل رسول قيصر الروم عندما سمع یزید یأمر بقتله؟!

الجواب و بكل وضوح هو أنه قام إلى الرأس الطاهر و قبله و تشهد الشهادتين،و عند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتا عاليا فصيحا يردد (لا حول و لا قوة إلا بالله).(2)

و لا يحسب القارئ الكريم أننا أوردنا هذه القصة المؤثرة عن ذلك الرسول المسيحي من خلال مرويات كتب المسلمين الشيعة، أبدا، بل لقد أوردناها من خلال ما وقعنا عليه من مرويات كتب المسلمين السنة و كتب المسيحيين على حد سواء.

و بالفعل، فإنه من البديهي تماما بالنسبة للفكر الإنساني المطلع على سيرة سيد الشهداء علي أن يحرك نوازع الحب و الإيمان في ضمير و وجدان كل إنسان يبحث في ذاته عن بذور النقاء و الطهر و الارتقاء إلى عوالم السماء.

ففي أعماق كل إنسان يبحث عن إنسانيته الحقيقية شمعة مطفأة تنتظر من يوقد فيها النار کي تتألق نورا ومعرفة، و من کالإمام الحسين علیه السلام يقدر أن يوقد تلك الشموع المطفأة في كهوف نفوسنا!!

ففي الكثير من كتب المفكرين و الأدباء المسيحيين نستطيع أن نقرأ عشرات القصص و الأحاديث عن كرامات رأس الإمام الحسين علیه السلام خلال تطوافه في البلدان الإسلامية ذهابا و إيابا، و على سبيل المثال، لا الحصر، يمكننا أن نذكر هذه الحادثة

ص: 518


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص169.
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص86.

الغريبة التي جرت مع راهب مسيحي كان معتكفا في صومعته يتعبد الله وحيدا.

فعندما مر الركب بجوار صومعته، نزل ذلك الراهب إليهم راكضا يستطلع حال الرأس المعلق على الرمح و حال السبايا المكبلات بالسلاسل و الأغلال، و في أثناء الليل رأی نورا عظيما ساطعا من الرأس المطهر، و سمع قائلا يقول: «السلام عليك يا أبا عبد الله»، فتعجب و ذهل مما سمع و رأي.

و ما أن أسفر الصباح عن وجهه، حتى عاد و استخبر القوم ثانية عن حقيقة الرأس المرفوع على الرمح، فقالوا له: إنه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت النبي محمد صلی الله علیه و آله فقال لهم: (تبا لكم أيتها الجماعة، صدقت الأخبار في قولها إذا قتل تمطر السماء دما.(1)

و هنا بالتحديد أجد نفسي مضطرا للخروج عن المنهج الذي رسمته في تقديم أو صياغة أفكار هذا الفصل من الكتاب، إنه بلا ريب خروج بسيط عن المخطط المرسوم و لكنني أراه ضروريا الآن في هذا المكان.

إن هذا الخروج الطفيف يتعلق بالسيدة زينب عليها السلام، عقيلة بني هاشم و حاملة اللواء الحسيني بعد الفاجعة، فقد ذكرت سابقا أنني لن أتحدث كثيرا عن شخصيات عديدة شهدت وقوع الفاجعة، بل ونالت قسما عظيما منها، و أوضحت، بنفس الوقت، أن عدم ذكري لتلك الشخصيات مثل (مسلم بن عقيل) و(هاني ابن عروة)، و حتى السيدة (زينب عليها السلام) نفسها، نابع من الرغبة في كتابة كتب مستقلة عن كل شخصية من هذه الشخصيات الهامة بغية توضيح دورها الفعال في سرعة تفعيل مبادئ النهضة الحسينية المباركة، و لكنني الآن أجد نفسي مرغما على ذكر بعض المواقف المميزة

ص: 519


1- نفس المصدر السابق ص86.

للسيدة زينب عليها السلام والتي سيبدو كتابنا هذا، دون ذكر تلك المواقف المميزة، ناقصا و غير ناضج في بعض جوانبه و معالمه.

فمواقف السيدة زينب عليها السلام، ريحانة آل محمد صلی الله علیه و آله، تتجلى بقوة و صدق و إيمان منذ لحظة انطلاق الإمام الحسين علیه السلام و توجهه إلى كربلاء، و تزداد تلك المواقف قوة و صلابة عند وقوفها بين يدي الطاغية عبيد الله بن زیاد و قولها له بعد أن بادرها قائلا: (الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم...)، فترد عليه قائلة بفصاحة لسان أهل بيت النبوة و معدن الرسالة:

«بَلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ ، وَ طَهِّرْنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً ، وَ إِنَّمَا يفضح اللَّهِ الْفَاسِقِ ، وَ يُكَذِّبُ الْفَاجِرِ ، وَ هُوَ غَيْرِنَا یا بْنِ زِيَادٍ»، فتغلي مراجل الغضب في عروقه لكنه يعود و يسألها: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟

فتجيبه بعمق الإيمان الذي لا يبرد و لا يلين: «کتب عَلَيْهِمُ الْقِتالُ فبرزوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَكَ ! فتختصمون عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).

و يرى الكاتب و الأديب (عبد الرزاق کیلو)، و هو أحد إخواننا السنة، أن أحد وجوه البطولة في سيرة السيدة زينب عليها السلام مع أخيها الإمام الحسين علیه السلام هو وقوفها البطولي في وجه يزيد الآثم الباغي، و قولها له على رؤوس الأشهاد، بعد أن شکک بصدق رسالة جدها المصطفى صلی الله علیه و آله، و بعد أن شتم أهل بيت النبوة علیهم السلام:

«إنك أمير متسلط، تشتم ظالما و تقهر بسلطانك! أظننت با یزید أن بنا هوانا على الله و أن بك عليه كرامة!.. فشمخت بأنفك حين رأيت الدنيا مستوثقة إليك!

ألا إن الله إن أمهلك فلأنه يقول: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ

ص: 520


1- عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص38.

لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ »(1) لتردن على الله غدا یا یزید! و أنت تود لو كنت أبكما أعمى، و لتجدننا عليك مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة (أي ابن زیاد)، و يستصرخ بك، و لتعلمن يوم يحكم الله بيننا، أینا شر مكانا و أضعف جندا!!»(2).

و لا يختلف رأي الأديب و المفكر المصري المعروف (عباس محمود العقاد) كثيرا عن رأي الأستاذ (عبد الرزاق کیلو) حول بطولات و مآثر السيدة زينب علیها السلام في مجلس ابن زیاد و مجلس یزید، و لكن ما أراد أن يلفت الأستاذ (العقاد) أنظارنا إليه هو ذلك التشابه في الأحداث في مجلس ابن زیاد و مجلس یزید عندما وضع رأس الإمام الحسين علیه السلام بين يدي كل منهما.

و قد قال الأستاذ (العقاد) حرفيا عن ذلك الموضوع: (و تكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند یزید.. و لا نستغرب أن يتكرر بعضه حتى يظن أنه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين)(3)، و بالطبع، فإن الأستاذ (العقاد) لم يقصد فقط تلك المواقف البطولية للسيدة زينب علیها السلام في مواجهتها للطاغيتين ابن زیاد و یزید، و إنما قصد أيضا ما فعله كل منهما برأس الإمام الحسين علیه السلام من تمثیل به و إهانة له.

و مهما تحدثنا عن السيدة زينب عليها السلام و عن مواقفها البطولية في النهضة الحسينية فسيبقى القلم عاجزا تماما عن الوفاء لها بحقوقها، و سيبقى مقصرا أيضا عن الإحاطة بعظمة شخصيتها الاستثنائية التي جمعت بين أنوار النبوة و أنوار الإمامة فأمسكت بذلك بالمجد من أطرافه.

ص: 521


1- سورة آل عمران: الآية178.
2- نفس المصدر السابق ص44.
3- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص154.

و حتى لا نسهب كثيرا في الحديث عن السيدة زينب علیها السلام، و هي التي تستحق أن يكتب عنها الكثير من المؤلفات و الدراسات التخصصية، يكفي أن نقول إن السيدة زینب علیها السلام كانت، و ستبقى، في عيون المسلمين وفي عيون المفكرين المسيحيين في الشرق و الغرب رمزا حيا و مثالا بارزا يحتذى به للمرأة المسلمة المؤمنة و المجاهدة الثائرة من أجل إعلاء شرف الكلمة، و في سبيل حمل راية الدفاع عن قيم السماء الجليلة و فضائل الرسالة النبوية النبيلة.

و كيف لا تكون السيدة زينب عليها السلام كذلك، و هي ابنة الزهراء فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين ؟!

و كيف لا تكون زينب عليها السلام ، كأمها الزهراء عليها السلام، المثال الأكمل للمرأة المؤمنة الخالدة، في عيون المسلمين و المسيحيين، و هي ربيبة الوحي و ابنة علي عليه السلام الذي كان يرى دائما أن السعادة الحقيقية هي في فناء الفاني بالخالد الباقي ؟!

و لكن، و قبل الانتقال إلى الصفحات الأخيرة من هذا الفصل التراجيدي الحزين الذي سطرت أحداثه و نسجت صوره أقلام الأدباء و المفكرين بمداد من الصدق الممتزج بألام الفاجعة، دعونا نقدم لكم الآن . و لو سطورا قليلة. عن الصورة المشرفة للسيدة زينب عليها السلام كما يراها الفكر المسيحي الحديث.

فالفكر المسيحي الحديث يرى فيها صورة مستنسخة عن أمها الزهراء فاطمة عليهاالسلام مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة التي عاشتها كل منهما، فلو أن السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام كانت في مكان ابنتها السيدة زينب عليها السلام لتصرفت كما تصرفت زینب علیهاالسلام تماما.

و بالمقابل أيضا، لو أن السيدة زينب عليها السلام عاشت الظروف التي عاشتها أمها

ص: 522

الزهراء عليها السلام لتصرفت مثلها تماما دون أدنى شك.

و على كل حال، و منعا للإطالة، سنكتفي الآن بإبراز صفحة واحدة من صفحات سيرة السيدة زينب علیها السلام قبل رحلتها الجنائزية الأليمة إلى دمشق حيث وقفت أسيرة بين يد اللعين یزید تدافع عن رسالة جدها المصطفى صلی الله علیه و آله و عن بقية آل بيته عليهم السلام الذين قضوا ما بين قتيل و أسير.

فقبل أن يصور الأديب و المفكر المسيحي (بولس سلامة) الأهوال التي لاقاها ركب السبايا في تلك المرحلة المضنية للروح قبل الجسد، و قبل أن ينقل لقارئه صورا مخزية عن الفعائل الأموية السوداء برأس الإمام الحسين علیه السلام في مجالس الشؤم و الغدر، نراه يعمد مباشرة لتسليط الأضواء على الدور الأنثوي في واقعة كربلاء

فالسيدة زينب عليها السلام هي العنصر الأنثوي الأبرز في أحداث الفاجعة، و لكن لهذا العنصر الأنثوي دور إيجابي و فعال في استمرار لهيب الثورة من جهة، و في حماية البقية الباقية من آل بيت النبوة من جهة ثانية.

و لذلك، فإن هذا المفكر و الأديب الشاعر (بولس سلامة) يركز الأضواء و يسلطها على دور السيدة زينب عليها السلام الفعال و محاولاتها المستميتة في منع ابن زیاد من قتل الإمام علي بن الحسين، الملقب بزین العابدین علیه السلام ، في مجلسه بالكوفة مع معرفتها الكاملة بأن محاولاتها الجريئة لمنع ابن زیاد من تنفيذ غايته بقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قد يكلفها حياتها هي بالذات.

إذن، فهي مستعدة و قادرة على أن تفني ذاتها في رضي ذات الله مستذكرا بذلك تلك الدروس العظيمة التي كانت تتلقاها في مدرسة أبيها الإمام علي عليه السلام.

و ها هو الأستاذ الأديب (سلامة) يصور العقيلة الهاشمية عليها السلام و موقفها البطولي

ص: 523

عندما سمعت ابن زیاد يأمر بقتل زین العابدین، الإمام علي بن الحسين علیه السلام ، بقوله واصفا إياها، ثم ناقلا لنا ما قالته لابن زیاد بطريقته الشعرية المؤثرة

صَرْخَةً كاللبوءة السَّمْحَةُ *** التزار مَجْرُوحَةٍ بِدُونِ ضماد

اقتلوني قبل الغلام و هذا الصدر السمح فاستفتحوا بفؤادي

اقتلوا بنت فاطم، فدم الزهراء غال على السيوف الحداد (1)

و بعد إكباره لهذا الموقف الزينبي الفدائي التبيل، يعود الأستاذ (سلامة) و يخاطبها قائلا:

زینب الْعَرَبِ ماأعز المفدى *** فِي الضَّحَايَا وَ مَا أَجَلَّ الفادي

فروح الأبيات الشعرية التي تتحدث عن السيدة زينب عليها السلام في هذه القصيدة التي خطها و أبدعها يراع مسيحي ناطق بالحق و صادح بالصدق، تبين لنا أن الحسين علیه السلام الذي قبل أن يفدي الإسلام بروحه قد جاء بعده من يفدي أيضا المبادئ و القيم التي عاش هو من أجلها، فالسيدة زينب عليها السلام هي الفادي لمبادئ الإمام الحسين علیه السلام و هي الفادي للإمام علي بن الحسين علیه السلام، مستودع نسل و فكر الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و وعاء أسرار رسالته، إنها زينب عليها السلام العقيلة التي تستحق بجدارة ما نقوله عن دورها الفدائي الخالد في حفظ رسالة أهل بیت رسول السماء صلی الله علیه و اله:

فإذا كان الإسلام محمدیا في وجوده و میلاده،

فهو علوي في نبضه و دمائه،

و حسيني في خلوده و بقائه،

و زينبي في سموه و ارتقائه .

ص: 524


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص292.

و لكن، و بما أننا الآن في معرض حديثنا عن الدور الجهادي للمرأة المؤمنة في النهضة الحسينية المباركة، علينا أن لا نغفل عن الدور العظيم و الفعال الذي لعبته تلك الطفلة الصغيرة التي لم يكن قد تجاوز عمرها ثلاث سنوات.

إنها نجمة صغيرة أضاءت بنورها اللطيف سماء دمشق لكنها سرعان ما هوت صريعة بلا حراك في براثن الحقد و الظلم و الظلام الأموي الذي أراد إطفاء نور فاطمة و أبيها و زوجها و بنيها عليهم السلام و لكن إرادة الله القهار كانت دائما و أبدا فوق إرادتهم، بل كيف لا تكون إرادته عز وجل فوق إرادتهم و فوق ظلمهم و طغيانهم و هو القائل - سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الحكيم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1)

إن تلك البطلة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها عمر الزهور هي السيدة (رقية بنت الحسين علیه السلام)، إنها الطفلة الصغيرة، الجائعة، الظامئة، الغريبة، الأسيرة، اليتيمة، الصابرة، إنها الطفلة الصغيرة التي تحاكي الزنابق جمالا و طهارة و نقاءً، و قد جاء بها الطغاة من الكوفة إلى دمشق و هي ۔ على صغر سنها- مكبلة بالقيود و السلاسل الثقيلة التي تركت أثرها الواضح حول رقبتها و حول معصميها و قدميها الصغيرتين الحافيتين.

فهل يتخيل عقل بشري سوي فداحة هذا الخطب العظيم الذي تجسد في كربلاء عموما دون أن يرث بداخله و في أعماق نفسه شيئا من آلام الفاجعة؟!

أعتقد شخصيا أن كل باحث عن الحق، و كل إنسان جاد في التنقيب عن جوهر و معدن الإنسانية الحقيقية بداخله، سيدرك بطريقة أو بأخرى أنه أحد الورثة الحقيقيين لمصيبة هابیل عليه السلام و مأساة سقراط و عذاب المسيح عليه السلام و هموم علي عليه السلام

ص: 525


1- سورة التوبة: الآية 32.

و فاجعة الحسين علیه السلام .

أما عن طريقة استشهاد تلك الطفلة الطاهرة فتحدثنا كتب السيرة و التاريخ قائلة أنه بعد وصول تلك الطفلة الصغيرة مع موكب السبايا إلى دمشق، بقيت منهكة القوى، سقيمة البدن، کسيرة القلب، و آثار القيود و الأغلال واضحة المعالم، أما آثار السياط اللاهبة فقد بقيت بارزة على ظهرها الصغير حتى لحظة مفارقتها للحياة.

و تؤكد كتب التاريخ أيضا: أنها عليها السلام قامت في إحدى الليالي مرعوبة فزعة من منامها و قالت باكية: أين أبي الحسين علیه السلام؟ فإني رأيته الساعة في المنام مضطربا شديدا، فلما سمعن النساء بكين و بکی معهن سائر الأطفال وارتفع العويل، فانتبه یزید من نومه، و قال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة و قصوها عليه، فأمر - بكل الحقد الذي يكنه لأهل بيت النبوة عليهم السلام - أن يؤخذ إليها رأس أبيها الحسين علیه السلام مغطى بمنديل،فوضع الرأس المغطى بين يديها و شف الغطاء عنه، و ما أن أزاحت التراب عن وجهه المشرق النير حتى عرفته، و ما أن عرفته حتى شهقت شهقة عظيمة و ازداد نحيبها و راحت تصيح بعد أن أخذت ذلك الرأس الطاهر، رأس أبيها عليه السلام ، و ضمته إلى صدرها الحنون و هي تبكي بكاء مرا و تصيح:

يا أبتاه من ذا الذي خضبك بدمائك؟

يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟

يا أبتاه من ذا الذي يتمني على صغر سني؟

يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟

يا أبتاه من للعيون الباكيات؟

يا أبتاه من بعدك؟ واخيبتاه!!

ص: 526

يا أبتاه من بعدك؟.. واغربتاه !!

يا أبتاه ليتني لك الفداء.

ثم وضعت فمها على فم الشهيد الشريف عليه السلام و بكت عليه حتى غشي عليها،فلما حركوها فإذا قد فارقت روحها الحياة الدنيا و يداها الصغيرتان ممسکتان برأس أبيها الإمام الحسين علیه السلام، فلما رأى أهل البيت عليهم السلام ما جرى عليها ارتفعت أصواتهم بالبكاء و النحيب و استجدوا العزاء و كل من حضر من أهل دمشق، فلم ير ذلك اليوم إلا باك و باكية.(1)

و بعد أن أوردت هذه القصة المؤلمة عن السيدة رقية بنت الإمام الحسين علیه السلام، لا يسعني إلا أن أطلب من القارئ الكريم طلبا بسيطا و سهلا.

أطلب منك أيها القارئ العزيز أن تغلق الكتاب الذي بين يديك الآن و تضعه جانبا، ثم بعد ذلك أطلب منك أن تغمض عينيك و تسترخي استرخاء تاما، ثم تخيل ما يلي:

تخيل أن ابنتك المدللة أو أختك الصغيرة قد أخذت منك أسيرة مغلولة العنق واليدين و القدمين و هي تساق تحت ضرب السياط المؤلمة دون رحمة بها أو شفقة على صغر سنها.

ص: 527


1- راجع ما جاء في كل مما يلي مع وجود بعض الفوارق البسيطة: أ. حسن الشاهرودي، يتيمة الحسين علیه السلام، مؤسسة السيدة زينب الخيرية . بيروت، 1998، ص20. ب. الشيخ عباس القمي، نفس المهموم، طبع دمشق، د.ت ص416. ج . علي زراع، رقية بنت الإمام الحسين علیه السلام، مجلة (أهل البيت عليهم السلام)، العدد الخمسون تصدرها رابطة أهل البيت عليهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، عدد نیسان 1999م، ص49.

فما هو موقفك، و ما هو رد فعلك على من ظلمها و أسرها و أذلها ثم أزهق روحها؟!

و سأترك لك الآن أمر الخيال بكل تفاصيله، و سأدع لك أيضا أمر الجواب عن موقفك و عن ردود أفعالك تجاه الموضوع المتخيل في ذهنك بكل خصوصياته و أبعاده.

و بعد العودة من عالم التخيل إلى عالم الواقع المعاش لابد أن ندرك أن المشاكل التي تصادفنا في حياتنا، و التي قد تصل أحيانا إلى حد المحن و الخطوب، ما هي إلا مشاكل و من يسيرة أمام المحن و الخطوب العظيمة التي تعرض لها أهل البيت علیهم السلام في مسيرة حياتهم التي تلونت في معظمها باللون الأحمر القاني.

و لذلك نقول و نؤكد على أن قلب الإنسان وعاء، و أن هذا الوعاء قد ينكسر في أية لحظة من اللحظات تحت تأثير الضغوط و الهموم و الآلام، و لكن هذا الانكسار في القلب قد لا يخلف وراءه أي أثر إيماني في النفس أو الروح و ذلك لأن الانكسار قد يكون من أجل أمر دنيوي رخيص لا يمت بأدنى صلة إلى عملية صقل النفس أو إلى تنقية الروح و العودة بها إلى أصالتها الحقيقية.

إلا أن ذات تلك الهموم و الغصات و الآهات يمكن أن تتحول إلى حالات نفسية محمودة إذا اختلف الهدف الذي ظهرت من أجله، فإذا كانت الغصة أو الدمعة - على سبيل المثال - من أجل مصائب الإمام الحسين و أهل بيته الأبرار عليهم السلام. فإن ثوابها لا يقل أبدا عن ثواب المسبح و المستغفر بالأسحار، فقد أجمع الأئمة من أهل البيت النبوي الكريم عليهم السلام علی قول: «نفس المهموم لهمنا تسبیح»،(1) و هذا يعني أنك عند ما

ص: 528


1- آية الله دستغيب، الثورة الحسينية، مصدر سابق ص65.

تبكي و تسقط دمعة من عينك حزنا على ما أصاب الحسين علیه السلام، بل و على ما أصاب أهل البيت عليهم السلام عموما، فهذا يعني أن تلك (الأه) التي انطلقت من فمك أو تلك الدمعة التي سقطت من عينك إنما هي التعبير الصادق عن وجود الحسين علیه السلام بداخلك، نعم، فأنت عند ما تبكي و تتساقط الدموع من عينيك بسخاء استذكارا لما حدث في كربلاء، فهذا يعطيك مؤشرا على أن الحسين علیه السلام الداخلي الذي يعيش فيك هو الذي يبكي، و هو الذي يمدك بحرارة الإيمان و بحرقة البكاء، و ذلك لأن القلب السليم في رحلته الشاقة نحو المعرفة و الإيمان لا يمكن أن يصل إلى شاطئ الحقيقة و اليقين إلا من خلال المرور في دروب الأحزان الموحشة المفروشة بالقلق و الخوف و بالآهات و الدموع و الغصص المريرة.

فعندما تعبر نفس المرء و تجتاز بوابات الهموم و الأحزان تصبح نفسا وضيئا صقيلة كالذهب النقي الصافي الذي تحرر، بفضل النار و الاكتواء بها، من کل شائبة و من كل عيب، فالقلب المسكون بالأحزان هو خير و عاء لمعرفة الرحمن.

فللمؤمن قلبان: قلب يتأمل و قلب يتألم، و قد صدق نبي الله سليمان الحكيم علیه السلام عندما قال: (في كثرة الحكمة كثرة الغم، و الذي يزيد علما یزید حزنا).(1)

و هكذا نرى أن القلب المنكسر في مرضاة الله و المتعاطف مع مصائب و آلام أولياء الله هو حقا ذلك القلب الذي يستحق لقب (خزينة الله) و (وعاء النور) و(عرش الرحمن)، ومن هنا يمكننا القول أنه إذا تألم قلب المؤمن و ارتعش خوفا و حزنا على ما أصاب الإمام الحسين وأهل بيته الأطهار عليهم السلام فإن عرش الرحمن يهتز لذلك.

ص: 529


1- متري هنري، سفر الجامعة، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية . القاهرة، 1924، ص27.

فما حدث في كربلاء ألهب الضمير العالمي شرقا و غربا، و ما الأثر العميق الذي خلفته تلك الفاجعة الأليمة في الآداب العالمية عموما، و التي أفردنا لها بابا خاصا بها، إلا الدليل الأقوى على أن كربلاء و شهداءها هم الضمير الحي للإنسان في شتى الأديان، و ما من قائد ثوري في هذا العالم إلا و نجد في ثورته على الظلم رؤی و مطالب من ثورة الحسين علیه السلام.

فعند ما تقول الباحثة و الراهبة الكاثوليكية (کارین آرمسترونغ) في كتابها (الإسلام في مرآة الغرب) إن الإمام الحسين علیه السلام كان يسير على خطى جده الرسول صلی الله علیه و آله و كان يستنكر كل الأفعال التي تتنافى مع تعاليم کتاب الرسالة، و كان يحتج على مساوئ الأمويين و مظالمهم التي لا تحتمل، فإن كلامها صحيح لا ريب فيه، بل إن كلامها الحر في القائل: (ظهر احتجاج جسده حفيد محمد، الحسين، الذي رفض القبول بالخلافة الأموية فقتل بطريقة وحشية هو و من معه في معركة كربلاء على يد الخليفة يزيد)(1)، هو كلام دقیق و صحيح، ويعكس هذا الكلام تعاطف تلك الباحثة و الراهبة الكاثوليكية مع فجيعة الحسين و أهل بيته علیهم السلام الذين وصفت طريقة مقتلهم بأنها (طريقة وحشية) أمر بها يزيد رجاله، و هي طريقة أراد بها يزيد أن يجتث الحسين علیه السلام من جذوره جسديا و فكريا، و لذلك فعل ما فعله انتقاما من الحسين علیه السلام و ثارا من جده و من رسالته.

فما حدث في العاشر من محرم الحرام مع كل ما في ذلك الحدث من صورمحزنة و مخيفة قد زرع في أذهان الناس على مختلف مشاربهم و مذاهبهم فكرة

ص: 530


1- كارين أرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة: محمد الجورا ، دار الحصاد . دمشق، ط2002/1 م، ص304.

جوهرية على درجة عظيمة من الأهمية و الجدية، و تتجلى هذه الفكرة بالقول إن المصائب التي حلت بالإمام الحسين علیه السلام ، بما في ذلك استشهاده في ساحة المعركة، جعلت منه منارا للثائرين على الظلم من بعده و مثالا أعلى يقتدی به شهيدا مثلما يقتدى به إماما حيا.

فعظمة الحسين علیه السلام الحقيقية وصلت إلى ذروتها لحظة هجرته إلى الله على رأس موكب مهيب من الربانيين من أصحابه و أهل بيته عليهم السلام الذين رأوا أن الحياة الحقيقية هي أن يموتوا قاهرين، و أن الموت الحقيقي هو أن يعيشوا مقهورين، ففضلوا بذلك الموت على الحياة من أجل رسالة السماء و كرامة الإنسان و رفعة كل فضيلة من الفضائل النبيلة التي لا غنى عنها لكل جيل من الأجيال.

و قد أصاب البحاثة و الأديب المسيحي الموصلي (يوسف يعقوب مسكوني) (1903-1971) عند ما قال معلقا على هذه النقطة المتعلقة باستشهاد الإمام الحسين علیه السلام و بعظمته التي هي في جوهرها امتداد لعظمة و مبادئ أبيه الإمام علي عليه السلام ، و لئن كان الإمام الحسين علیه السلام- كما يقول الأديب (مسكوني) - (أول بطل من أبطال الاستشهاد من أجل صرح الحق و الفضيلة، فإن أباه عليا قد ذاق من طعم هذا الجور، فكان استشهاد الأب خير مثالي لاستشهاد الابن و كلاهما ضحية انتصار للحق و إزهاق للباطل)(1).

إذن، ففاجعة كربلاء لا تستمد عمقها التراجيدي من مجرد أنها حادثة مأساوية حدثت لجماعة من الناس الأبرياء الذين لم يرتكبوا أي ذنب یذكر فأبيدوا عن آخرهم

ص: 531


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، نشرة الغدير العدد /59/ مصدر سابق راجع الصفحة 5.

تقريبا بطريقة و حشية لم يعرف لها التاريخ مثلا، و إنما هي تلك الفاجعة التي تستمد عمقها التراجيدي من كونها تمثل و تجسد صراعا أبديا بين قوى الخير و قوى الشر، بين ثقافة الكلمة عند أهل السماء و منطق السيف عند أهل الدنيا، إنها ثنائية النور و الظلام و دوام الصراع الوجودي بينهما.

و بما أن كربلاء تمثل ملحمة الصراع الوجودي الدائم بين الخير و الشر، و بين النور و الظلام، فمن الطبيعي أن يتعاطف أصحاب الضمائر الحية النيرة مع الجانب الخير و المنير في ساحة تلك المعركة سواء كان ذلك المتعاطف مع الجانب النوراني الخير مسلما سنيا، أم مسيحيا، أم هندوسيا، أو حتى صابئيا أيضا.

و لو توقفنا هنا قليلا و توجهنا بالسؤال التالي إلى كل قارئ، و بالتحديد إلى كل قارئ من إخواننا المسلمين السنة، و طلبنا منه الإجابة عليه بكل صدق و أمانة، فماذا سيكون جوابه على هذا السؤال؟

و السؤال هو: ماذا تعرف عن أقوال أئمة المذاهب السنية الأربعة حول فاجعة کربلاء؟

هل تعرف ما قاله الإمام الشافعي نثرا و شعرا؟

و هل تعرف موقف الإمام أبي حنيفة من أحداث تلك الملحمة الحسينية؟

و هل قرأت مواقف و أقوال الإمام مالك عن شخصية و نهضة الإمام الحسين علیه السلام؟

و هل توقفت و درست بروية و إمعان موقف الإمام أحمد بن حنبل من يزيد و ما فعله بأنوار البيت المحمدي الشريف عليهم السلام؟

و بالطبع، فإننا لن نجيب على هذه الأسئلة نيابة عن قارئنا الكريم، بل إننا سنترك

ص: 532

أمر الإجابة على هذه الأسئلة له، فهو صاحب الحق في أن يجيب عليها بكل أمانة و صدق.

و لكن، و خدمة منا لبقية القراء من مسلمين و غيرهم، سأقدم إليكم الآن بعض المقتطفات الشعرية من حديقة الإمام الشافعي، أحد أهم أئمة المذاهب السنية الأربعة، و قد اخترت أن تكون تلك المقتطفات شعرا لا نثرا لأنني على ثقة أكيدة من أن معظم القراء سيحفظون هذه الأشعار عن ظهر قلب.

فمن المعروف عن الإمام الشافعي (محمد بن إدريس بن العباس بن شافع(204-150ه-)ه) أنه قال العديد من القصائد الرقيقة في مدح أهل البيت عليهم السلام و تمجيد خصالهم و فضائلهم حتى أصبحت بعض قصائده فيهم عليهم السلام عنوانا لمدحهم و مثلا لذكر علو مكانتهم و سمو فضلهم.

و لعل أشهر ما قاله الإمام الشافعي في مدح عموم أهل البيت عليهم السلام هو قوله في دیوانه:

یا آلِ بیت رَسُولُ اللَّهِ حبکم *** فَرْضُ مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْزَلَهُ

يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الْفَخْرِ أَنَّكُمْ *** مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لَا صَلَاةَ لَهُ (1)

و من المعروف عنه أنه كان متعاطفا مع أهل البيت علیهم السلام حتى اتهمه البعض بالتشيع و بأنه أصبح (رافضيا)، فلما بلغته الأخبار بشأن هذه التهم الموجهة إليه أجاب قائلا:

يا رَاكِباً قِفْ بالمُحُصَّبِ مِنْ منی *** وَ اهْتِفْ بقاعد خيفها وَ الناهض

ص: 533


1- راجع ديوان الإمام الشافعي، جمعه و علق عليه: سليمان سليم البواب، دار الحكمة . دمشق ص57.

حُرّاً إِذَا فَاضَ الْحَجِيجَ إِلَى مِنًى *** فيضأ كملتطم الْفُرَاتِ الفائض

إِنْ كَانَ رفضا حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ *** فَلْيُشْهِدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي ( رَافِضِيُّ ) (1)

هذا هو، و باختصار شديد، موقفه من آل بيت النبوة و مهبط الوحي و معدن الرسالة.

و لكن بقي علينا أن نبين موقفه من أحداث ملحمة كربلاء و من طرفيها المتناقضين و الطرف الحسيني المحمدي و الطرف اليزيدي السفياني.

و كي نتبين موقفه بوضوح کامل، يكفي أن نذكر هنا هذه القصيدة العصماء التي تستثير کوامن النفوس الصافية و تحرك فيها أنبل وأرق المشاعر الإنسانية التي سرعان ما تستنكر الظلم و الطغيان و القهر الذي وقع على الإمام الحسين و أصحابه و أهله علیهم السلام

و ها هو الإمام الشافعي يقويل واصفا حزن الدنيا على مصاب الحسين علیه السلام:

تأوب هَمِّي وَ الْفُؤادَ كَئِيبُ *** وَ أَرِقْ نَوِّمِي وَ الرُّقَادِ غریب

فَمَنْ مَبْلَغَ عَنِّي الْحُسَيْنِ رِسَالَةُ *** وَ إِنْ كَرِهْتَهَا أَنْفُسٍ وَ قُلُوبُ

قتیل بِلَا جُرْمٍ كَأَنَّ قَمِيصِهِ *** صبيغ بِمَاءِ الْأُرْجُوَانِ خضيب

وَ لِلسَّيْفِ أعوال وَ للرمح رَنَّةِ *** وَ لِلْخَيْلِ مِنْ بَعْدِ الصَّهِيلِ نحيب

تَزَلْزَلَتِ الدُّنْيَا لآِلِ مُحَمَّدٍ *** وَ كَادَتْ لَهُمْ صُمِ الْجِبَالِ تَذُوبُ

وَ غَارَتْ نُجُومٍ وَ اقْشَعَرَّتْ کواکب *** وَ هَتَكَ أَسْتَارِ وَ شَقِّ جُيُوبٍ

يُصَلَّى عَلَى الْمَبْعُوثُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** وَ يغزی بَنُوهُ إِنَّ ذَا لعجيب

لَئِنْ كَانَ ذَنْبِي حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ *** فَذَلِكَ ذَنْبٍ لَسْتُ عَنْهُ أَتُوبُ

ص: 534


1- نفس المصدر السابق ص43.

هُمْ شُفَعَائِي يَوْمَ حَشْرِي وَ مَوْقِفِي *** إِذا ما بَدَتْ لِلنَّاظِرِينَ طوب (1)

و لا أعتقد أنني أجانب الصواب إذا قلت إن موقف كل أئمة المذاهب السنية الأخرى لا تختلف في جوهرها عن موقف الإمام الشافعي أبدأ، بل إن البعض من المفكرين و الأدباء المعاصرين الذين يعتنقون المذهب (الوهابي) لم يجدوا حرجا في سب ولعن قاتلي الإمام الحسين و أهل بيته الأطهار عليهم السلام و من مثل بهم و أخذ ما تبقى منهم في رحلة سبي طويلة و شاقة لم تنته أهوالها و متاعبها حتى بعد وصول موكب السبايا الأسرى إلى قصر الطاغية يزيد في دمشق.

-و خير مثال على قولنا هذا، الداعية الوهابي و الشاعر السعودي (عائض القرني) أحد أشهر ممثلي المذهب الوهابي في عصرنا هذا، و قد كتب هذا الأديب و الداعية الوهابي قصيدة متميزة في تصوير موقفه من المآسي و المصائب التي تعرض لها الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام.

و لم يخف هذا الداعية موقفه أيضا من قتلة ريحانة الرسول صلی الله علیه و آله و سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.

و هذه باقة صغيرة من تلك القصيدة (الوهابية) والتي جعل الداعية (القرني) عنوانها (أنا سني حسيني)، و يقول (القرني) فيها:

بَكَى الْبَيْتِ وَ الرُّكْنَ الْحَطِيمَ وَ زَمْزَمُ *** وَ دَمْعِ اللَّيَالِي فِي محاجرها دَمُ

وَ شَقَّ عَلَيْكَ الْمَجْدِ أَثْوَابٍ عِزِّهِ *** وَ وَجْهُ الضُّحَى مِنْ بَعْدِ قَتَلَكَ أَدْهَمُ

فَيَا لَيْتَ قَلْبِي كَانَ قَبْرِكَ مُعَلَّماً *** تُكَفَّنُ فِي أَجْفَانِ عَيْنِي وَ تُكْرَمَ

وَ يا لَيْتَ صَدْرِي کان دُونَكَ سَاتِراً *** بِهِ کل رُمْحٍ مِنْ عداك يَحْطِمُ

ص: 535


1- لبيب بیضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص365.

أَ رَيْحَانَةُ الْمُخْتَارِ صِرْتُ قَضَيْتَ *** وَ أَصْبَحَتِ للأحرار نَعَمِ الْمُعَلَّمُ

وَ لَكِنَّنِي وَافَقْتُ جَدُّكَ فِي العزا *** فأخفي جراحي يَا حُسَيْنُ وَ أَ كَتَمَ

أَصَبْنَا بِيَوْمٍ فِي الْحُسَيْنِ لَوْ أَنَّهُ *** أَصَابَ عُرُوشِ الدَّهْرِ أضحت تَهْدِمُ

ثم ينتقل الشاعر السعودي الوهابي (القرني) إلى تحديد موقفه من قتلة الإمام الحسين علیه السلام بقوله في نفس القصيدة:

أَ لِابْنِ زیاد سُودُ اللَّهُ وَجْهَهُ *** معاذير فِي قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَتَعَلَّمَ ؟

يقاضيه عِنْدَ اللَّهُ عَنَّا نَبِيِّهِ *** بِقَتْلِ ابْنِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَى وَ أحکم

عَلَى قَاتِلِيهِ لَعْنَةُ اللَّهُ كُلَّمَا *** دجا اللَّيْلِ أَوْ نَاحَ الْحَمَّامِ المرنم(1)

و بالطبع، ليست هذه الأبيات الشعرية هي القصيدة بكاملها، و لكننا سنعود لاحقا لذكر بقية الأبيات الهامة منها في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب.

و هكذا نرى أن القلب الذي تزداد نوافذه انفتاحا على عوالم فضائل و أسرار أهل البيت عليهم السلام، سيزداد تألقا و بريقا، بل و سيزداد أيضا معرفة بحكمة الحياة و طبيعة تناقضاتها الحادة، فالعشق الحسيني باب من أبواب المعرفة و سبيل من سبل الرشاد.

نعم، نحن لا نشك أبدا في مصداقية قول الإمام جعفر الصادق علیه السلام: «إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَبْرُدُ أَبَداً».(2)

فو الله حرارته لا تبرد أبدا، و لن تبرد أبدا...

ولكن هل سألنا أنفسنا يوما عن مصدر تلك الحرارة المتقدة في قلوبنا؟

ص: 536


1- راجع جريدة (الحياة)، العدد / 16077/ بتاريخ 11 نيسان 2007، ص17، القصيدة موجودة بالكامل.
2- الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت. قم،1408ه، ج10 ص318.

و هل تساءلنا أيضا عن سبب استمرارية تلك الحرارة بنفس القوة و الوتيرة؟!

إن أبسط ما يقال عن مصدر تلك الحرارة في قلوب المؤمنين من عشاق الحسين علیه السلام، من مسلمين و مسيحيين و غيرهم، هو حب الثورة على كل من يريد أن يغلق النوافذ بوجه ثقافة السماء، فالحرارة حرارة الإيمان بالكلمة و بمن يحمل ثقافة الكلمة و محتواها الروحي و المعنوي، و لذلك، فإن تلك الحرارة التي تسکن القلوب هي تلك الطاقة التي نستمدها من سلطان الكلمة و من وهجها الأقدس.

و طالما هنالك حياة و موث، هناك خير و شر، و طالما هنالك في وجودنا خيرو شر، هنالك أيضا صراعات لا حصر لها بين هذين القطبين المتضادين المتنافرین.

و لأن الصراع موجود في كل حركة من حركات الحياة، فإن الألم أيضا موجود كنتيجة طبيعية من النتائج المترتبة على ذلك الصراع المرير في وجودنا، و ربما يصل الأمر ببعض أولئك الذين يقضون أعمارهم في حالة صراع مع قوی و مظاهر الانحراف و الانحطاط في المجتمع أن يتحولوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم (الجوهر المتألم).

فالمسيح عليه السلام جوهر متألم، و الحسين علیه السلام أيضا جوهر متألم، أما نحن البشر العاديين فيمكن أن نسمی- في حال تعاطفنا القوي و صراعنا إلى جانب الحق و الخير ضد الباطل و الشتر - بأصحاب (الألم الجوهري).

فأهل (الألم الجوهري) هم أولئك الناس الذين يصارعون و يقارعون مظاهر الخلل و الانحراف و يدفعون ضريبة ذلك الصراع ألم و دما من أجل مبادئ و قيم جوهرية نبيلة، في حين أن أهل (الجوهر المتألم) هم بحد ذاتهم جواهر و قيم مبدئية سامية وجدت بيننا لتكون مثلا عليا لنا، و مع ذلك فهي ترفض أن تبقى في حالة سكون

ص: 537

أو في حالة ركود كمنظومة من المبادئ الأخلاقية الجامدة التي تنتظر من يجيء و يدافع عنها دون أن تبدي هي أي حراك، إنها جواهر أخلاقية و قيم إنسانية متجسدة في أشخاص محددين، و قد قبل أولئك الأشخاص (الجواهر) أن يتجسد الألم في كل تفسير من أنفاسهم نتيجة همتهم التي لا تفتر و لا تبرد في مقارعة الباطل و في قطع دابر الشرور من وجودهم.

فالحسين علیه السلام - على سبيل المثال ۔ ابتدأت ولادته بمجلس عزاء وانتهت حياته بفاجعة أبكت أهل الأرض و السماء، و ما من يوم مر على الحسين علیه السلام دون هم و ألم أو دون هواجس و مخاوف أرقت ليله و أقلقت نهاره، إنها غربة الروح السماوية في مجتمع سرعان ما يتنکر لوصايا الأنبياء و مبادئ الرسل و قيم الرسالات.

لقد أصبحت روح الإمام الحسين علیه السلام صدی دائم الترديد للفظة (الآه) الخارجة من عمق القلب الإنساني المقهور، من عمق القلب الشجي الذي يمثل عرش الرحمن بعلو مكانه و سمو مقامه، و بالمقابل، فإن لفظة (الآه) أصبحت هي النغمة القدسية الحزينة التي تتغنى بها روح الإمام الحسين علیه السلام آناء الليل و أطراف النهار .

و لا أعتقد أن هناك أية قصة أبلغ من القصة التي ذكرها الكاتب و الأديب اليوناني المعاصر (نیکوس کازانتزاکیس) عن العلاقة بين (الآه) و(الله).

يذكر هذا الأديب العظيم (کازانتزاکیس) ذو النزعة الصوفية الحاضرة دائما في كل رواياته و مؤلفاته أن أحد الأدباء المسيحيين مر ذات يوم بأحد الدراويش المسلمين الذين استوطنوا في جزيرة (کریت) و سأله قائلا:

أي اسم تطلقه على الله؟

فأجاب الدرویش:

ص: 538

- ليس لله اسم، إنه أكبر من أن تحتويه الأسماء، الاسم سجن و الله حر.

و لكن الأب أصر على سؤاله قائلا:

-و لكن إذا شئت أن تناديه حين تكون هناك حاجة فأي اسم تستخدمه؟!

أطرق الدرویش مفكرا ثم افترقت شفتاه:

- آه! هكذا أناديه، ليس الله، بل (آه).

و أربك هذا الكلام الأب فتمتم: إنه على حق. (1)

و بالفعل، فإن ما يناسب هذا المقال في هذا المقام هو ما وردنا عن الأئمة الأطهارعليهم السلام من أن كليم الله موسى عليه السلام ناجي ربه مرة فقال: إلهي، أين نجدك؟

فأوحى سبحانه و تعالى إليه مجيبا: أنا عند المنكسرة قلوبهم...

و هكذا نرى أن المآسي و الفجائع المريرة التي وقعت على أهل البيت النبوي الطاهر عليهم السلام لم تقع على غيرهم بنفس القساوة و المرارة، بل إننا لم نقرأ في التاريخ الإنساني أن نبيا رسولا قد تعرض أهل بيته للمجازر و المذابح من أجل القيم و المبادئ مثلما تعرض له آل بيت محمد.

و قد صدق الكاتب و الباحث المعاصر (عمر فروخ) عند ما أكد على مصداقية هذه الحقيقة الثابتة بقوله: (لم يعرف التاريخ مأساة شغلت الإنسانية كمأساة الحسين بن علي عليه السلام، و عهد الإنسانية بالمآسي أنها نوع من المصائب التي تظهر فجأة عظيمة فادحة ثم تتضاءل و يخف أثرها في كتب التواريخ: تلك هي بلا ريب المآسي الشخصية الفردية التي لا تنطوي في أول أمرها إلا على إشفاق من نزلت بهم المصيبة وإلا على

ص: 539


1- نيكوس كازنتزاكي، تقرير إلى غريكو، ترجمة: ممدوح عدوان، الجندي للطباعة و النشر. دمشق، د.ت، ج1 ص152.

عاطفة عارضة في من اتفق له أن شهدها، أما مأساة كربلاء فكانت من نوع آخر).

فما هو هذا النوع الآخر من المآسي الذي تندرج تحته مأساة كربلاء؟!

إنه- و الكلام أيضا للدكتور (فروخ) - (الاستشهاد في سبيل مبدأ إنساني قويم، و لكن فكرة تلك المأساة لم تزل، بل لقد قوي أثرها و اتسع صداها، و المسلمون لن ينسوا الحسين بن علي بن أبي طالب ذلك الشهيد الذي أصبح المثل الأعلى للاستشهاد في سبيل الدفاع عن المبدأ الحق و كان القدوة الصحيحة لطالبي المثل العليا).(1)

و كدليل أكيد على أن حجم المأساة في كربلاء، قد تجاوز كل المقاييس و المعايير التي يمكن أن يتقبلها العقل البشري، و أنه قد تجاوز أيضا الحدود و الحواجز المحلية إلى درجة أن جعل منها مأساة إنسانية ذات أبعاد عالمية تتردد أصداؤها في كل بقعة من بقاع الأرض، هي القصة المثيرة التالية التي وردت أساسا في العدد الثامن من مجلة (لواء الإسلام) الصادرة في القاهرة بتاريخ شباط عام (1948).

فقد وردت في الصفحة / 67/ من المجلة المذكورة القصة التالية، و هي قصة تتعلق بالرئيس الأميركي الأسبق (فرانکلن روزفلت) (1882-1945) و الذي استلم كرسي الرئاسة من عام (1933) و حتى عام (1945)، أي حتى عام وفاته.

و قد كتب محرر تلك القصة قائلا: (لقد حدثنا أحد كبار الرجال من الأقطار الشقيقة، من غير الشيعيين، أنه التقى بمستر (روزفلت الصغير)، فدار الحديث بينهما عن الحرب و ويلاتها، و أخذ يشرح له آداب الحرب في الإسلام، و يقارنها بوحشية الحروب بين الدول الغربية، فقال له (روزفلت): مهما بلغ المحاربون من الوحشية

ص: 540


1- راجع مجلة الموسم، العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص17.

و الاعتداء، فإننا لم يسمع عنا أننا قتلنا ابن نبي نتسب إليه، و لا جردنا بنات النبي و آله من ثيابهم و أخذناهم سبايا غير مكرمين، قال محدثنا: فوجمت و لم أتكلم).(1)

و يحق لهذا المسؤول العربي الذي لم يشأ محرر الخبر أن يذكر اسمه أن يسكت عن الكلام و أن يصمت كليا أمام ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق (روزفلت).

فكيف يتكلم قوم عن آداب الحرب و عن ادعائهم التمسك بأخلاقياتها و هم الذين قتلوا ابن بنت نبیهم و سبوا حريمه و نساءه و ساقوهم أساری کالعبيد من بلد إلى آخر دون ذنب أو جريرة؟!

و على كل حال، بقي علينا أن نبين للقارئ أنه ربما المقصود من اسم (روزفلت الصغير) الوارد في الخبر هو الرئيس (فرانکلن روزفلت) تمييزا له عن الرئيس الأمريكي (تیودور روزفلت) (1858-1919) الذي حکم أمريكا من عام (1901) و حتى عام (1909)، و الحائز على جائزة نوبل للسلام عام (1906).

و بما أننا قاربنا الانتهاء من الكلام عن آلام أهل بيت الإمام الحسين علیه السلام في رحلتهم الملحمية من الكوفة إلى الشام، و بما أننا أيضا قد عرضنا كل ما يمكن عرضه من آراء و مواقف حول الصور المؤثرة و الأحداث المؤسفة التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في ساحة المعارك الضارية، نرى الآن أنه من الأفضل لنا أن نحث الخطى و نسدل الستار على آلام الحسين علیه السلام و على مصائب آل و أبناء و أصحاب الحسين علیه السلام. و لكن، و قبل أن نسدل الستار على تلك الآلام و الجراح التي عصفت في كربلاء

ص: 541


1- راجع مجلة الموسم، العدد /12/ المجلد (3) مصدر سابق ص64 ، وقد تم نقل الخبر عن مجلة (لواء الإسلام) العدد /8/ ربيع الثاني 1367ه . فبراير 1948 ، إصدار القاهرة ص67.

بالبقية الباقية من أهل بيت النبوة، علينا أن نؤكد للجميع أن العقول النظيفة و الأقلام الواعية، أيا كانت هوية تلك العقول و الأقلام، لا ترى في كربلاء أنها مجرد ملحمة شيعية تراجيدية، أو أنها عبارة عن موروث روحي مكتوب بدماء جماعة من شيعة علي عليه السلام و ابنه الحسين علیه السلام، بل ترى تلك العقول و الأقلام أن تلك الملحمة الحسينية هي بحد ذاتها إرث بشري عام كتبه الإمام الحسين علیه السلام بدمائه و دماء أبنائه و أهله ليكون إنجيلا جديدا يبشر بخلاص كل المظلومين و المستضعفين في الأرض على مر العصور و الأجيال.

فالمفكر و الأديب المسيحي (أنطون بارا) سئل ذات مرة عن عالمية الملحمة الحسينیه السلامية، فأجاب قائلا: (ليست الملحمة الحسينية مختصة بالشيعة و السنة و المسلمین فحسب، بل إنما هي لكل مؤمني، كما جاء في ذلك الحديث: (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)، و لم يقل: (في قلوب المسلمين)، بل يشمل كل إنسان حر آمن بخطى الحسين و طريقه، و لذا نرى أن المفكرين و أهل العالم یأسرهم حب الحسين عند ما يطلعون على سيرته، تماما كما صاروا من المعجبين و المحبين لطريق علي بن أبي طالب عليه السلام و لسلوكه).(1)

و بالفعل، فإن صناع التاريخ من رسل و أنبياء وحكماء و أبطال و علماء و قادة فكر ليسوا حکرا لشعب دون شعب و ليسوا وقفا لدين دون آخر، إنهم كالشموع التي تضيء بنورها كل الزوايا المظلمة دون استثناء، إن تلك الشمعة أو الشمس لا تضيء لفرد دون فرد و لا لشعب دون شعب آخر، فالنور يغمر الجميع، و على الجميع أن يستحموا بنور المعرفة و الحقيقة.

ص: 542


1- راجع المقابلة الصحفية مع المفكر و الأديب (أنطون بارا) في مجلة (رسالة الثقلين)، العدد /55/ مصدر سابق ص111.

الفهرس

الإهداء...5

شعاع من وهج الحقيقة والتاريخ...6

أهل البيت عليهم السلام عماد الوجود ورحمته...31

يحدثونكم عن الحسين علیه السلام... 77

فاجعة كربلاء و مأساة السقيفة...156

عصر الإمام الحسين علیه السلام ...215

جذور الثورة و دوافع النهضة...241

نبوءة أهل البيت عليهم السلام بفاجعة كربلاء...316

نبوءات الأنبياء عليهم السلام بفاجعة كربلاء...368

صور من الفاجعة الرهيبة...416

استشهاد الحسين علیه السلام و استمرار الفاجعة....457

رحلة الآلام من كربلاء إلى الشام...489

الفهرس...543

التنضيد و الإخراج الفني الكوثر

Agsatri@yahoo.com

ص: 543

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.