مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 14

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 14/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

مَواهِبُ الرَّحْمَنْ في تَفْسیرِ القُرْآنِ

تالیفُ : فَقیهِ عَصْرِه آیَةِ اللهِ العُظْمی

السَّیِّد عَبْدِ الأَعْلی المُوسَویّ السَّبْزَوارِیِ قدِّس سِرُّه

الجزءُ الرَّابِعَ عَشَر

ص: 2

مَواهِبُ الرَّحْمَنْ في تَفْسیرِ القُرْآنِ

تالیفُ: فَقیهِ عَصْرِه آیَةِ اللهِ العُظْمی

السَّیِّد عَبْدِ الأَعْلی المُوسَویّ السَّبْزَوارِیِ قدِّس سِرُّه

الجزءُ الرَّابِعَ عَشَر

ص: 3

قم - خیابان معلم - ميدان روح ا... - تلفن : 7744212 منشورات دار التفسير

مواهب الرّحمن في تفسير القرآن ج /14

آية الله العظمى السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدّس سرّه

الطبعة الخامسة 1431 ه- = 2010م

المطبعة: نگین

الكميّة: 2000 دورة (14-1)

رقم الايداع الدّولي للدورة ISBN Vols: 978-964-535-051-0

رقم الايداع الدولي للجزء الرابع عشر 9-087-535-964-978 :14 ISBN Vol

1- لا يجوز طبع هذا الكتاب الّا باذنِ خاص من مكتب السيد السبزواري في النجف الأشرف. 2 - يوزع هذا الكتاب:

العراق - النجف الأشرف، سوق الحويش، مكتبة المهذّب، الجوّال 07801541523

ایران - قم شارع معلم میدان روح الله انتشارات دارالتفسير، تليفون 7741621

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

سورة الأنعام، الآیة 74-83

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الآیة 74-83

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامَاً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبَاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةٌ قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)» .

الآيات الكريمة تبيِّن أحد المصاديق المعدودة لعقيدة التوحيد ودين الفطرة، وهو إبراهيم الذي يعتبر فرداً كاملاً قد جاهد في تكميل نفسه في هذا السبيل، حتّى أصبح خليل الرحمن ، ولقي في جهاده المرير أشدّ المعاناة في سبيل

ص: 5

نشر عقيدة التوحيد بين الناس، وترغيبهم إلى التوحيد الخالص، والتنزّه عن الشرك وتضليل عبادة الأصنام، والازدراء بالوثنية، وإرساء قواعد الإيمان الصحيح الحقّ، حتّى سُمِّيت دعوة التوحيد باسم إبراهيم علیه السّلام، وقد آتاه الله تعالى الحجج القويمة والبراهين السديدة لإثبات التوحيد وعبادة الواحد الأحد، والتنزيه عن الشرك، وعبادة غير الله تعالى، وإبطال الوثنيّة البغيضة، وكانت حججه أقرب إلى الفطرة وعقول الناس الذين خالطهم برهة من عمره الشريف ولكنّه لم يدخل في عقيدتهم وعاداتهم فطهّر سرّه من آثار الشرك. فهداه الله تعالى إلى التوحيد الخالص، وكانت دعوته ابتداءً إلى أقرب الناس إليه، ثمّ إلى قومه الذين اجتمعوا على الشرك، واشتهرت دعوته بين الأُمم. وقد تميّزت بأنّها تدعو إلى دين الفطرة والتوحيد الذي تقرّ بها العقول الصافية ، كما تميّزت الحُجج التي تمسّك بها في هذا السبيل، بخلوّها من التعقيد والتعسّف والتكلّف، فكانت أقرب البراهين إلى أذهان الناس، وامتازت بأنّها مؤثّرة، في النفوس ممّا جعلت المخالف مبهوراً حائراً لا يستطيع الردّ عليها ، لأنّها حجج إلهية أفاضها الله تعالى على إبراهيم علیه السّلام رائد دعوة التوحيد، وقائد الحملة المضادة على الوثنية والشرك، وقد أمر الله سبحانه خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله أن يتّخذها وسيلة في دعوته، ويلقنها إلى أُمّته، والتأكيد على مراعاتها بتكرار لفظ (قل) في هذه السورة المباركة قبل هذه الآيات وبعدها أربعين مرّة ، لأنّ في تلقينها لهم هداية إلى دين الفطرة، وتبصرة إلى ما أتى به رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله .

وتظهر أهمّية هذا النبيّ العظيم صلّي الله علیه و آله أنّه قد ورد اسمه الشريف بعد الآيات التي يیّنت أُصول الدِّين، وأثبتت قواعد التوحيد وذكرت صفات الإله الواحد الأحد الذي استحقّ بها الأُلوهيّة العظمى والربوبيّة الكبرى، وتضمّنت محاجّة المشركين ممّا ظهر استحقاقه العبادة والخضوع والتذلّل له سبحانه وتعالى دون

ص: 6

غيره، فأصبح علیه السّلام مصداقاً حقيقياً لعقيدة التوحيد، ومظهراً للعبودية الحقّة، فصار مورد إجلال جميع الأديان الإلهيّة الكبرى ، وموضع تقدير شريعة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، واحترمته جميع الأُمم التي نبذت الشرك والوثنية.

الآيات الشريفة تحكي حياة إبراهيم علیه السّلام

والآيات الشريفة تحكى حياة إبراهيم علیه السّلام في خصوص الجانب العقائدي منها التي مرّت بمراحل فكان ابتداؤها بتطهير سرّه عن الشرك والتنزّه عن عبادة غير الله ، ثمّ البحث عن التوحيد وعبادة الإله الواحد الأحد، بعد أن أراه الله تعالى ملكوت السماوات والأرض، ثمّ إلهامه بالفهم الثاقب، فنظر في خلق السماوات والأرض لاسيّما الكواكب والشمس والقمر، ورأى أنّها جميعاً تدلّ على التوحيد ونفي الشريك، فحاجّ أقرب الناس إليه أباه وقومه المشركين، فسرد الحجج الواضحة الدامغة الخالية عن التعقيدات النابعة عن الإحساس الفطري، لأنّه إنسان مفطور على الجبلّة الأصلية، يرى الأشياء بذهن خال عن تشكيكات المشككين، وتلبيسات المداهنين ، وتضعيفات المتعلّمين ، وقد عاش عيشة بسيطة. ويظهر من استعلامه حال المجهولات أنّه يبحث عمّا يناسب تلك المعلومات الأوّلية البديهية عنده ، فكانت نظراته المتعدّدة في الكواكب والنجوم - لأنّ قومه من أهل التنجيم وكانوا يعتقدون بتأثير الكواكب في السفليات والحوادث الجارية فيها - واستنتج من التحوّلات والتبدّلات الطارئة عليها، أنّها لا تصلح أن تكون آلهة تُعبد، كما لا تصلح الأصنام والأوثان المصنوعة بيد الإنسان آلهة لصنّاعها، وبعد ذلك الجهاد العظيم استخلص التوحيد الخالص عن كلّ شوائب الشرك، واعتنقه إيماناً به وإذعاناً لخالقه تعالى، فقال: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (1)، ثمّ واجه

ص: 7


1- سورة الأنعام: الآية 79

قومه بتلك العقيدة الصحيحة، وحاججهم بالبراهين التي تعتبر حُججاً ربّانية أمر سبحانه نبيّه الكريم خاتم الأنبياء والمرسلين صلّي الله علیه و آله أن يذكرها لقومه للإهتداء بها، وقد نال إبراهيم بها وبجهاده في إرساء قواعد التوحيد الدرجات العالية، كلّ ذلك كان بتوجيه إلهي وعناية ربّانية، لأنّه الحكيم الخبير .

***

التفسير

قوله تعالى : «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ».

أُسلوب قرآني خاص يتكرر في القرآن كثيراً بداعي الإيقاظ والتذكير وإتمام الحجّة ، فتكون جملة استئنافية ، والمعروف عند المفسِّرين أنّها منصوبة مفعولٌ به لفعل مضمر خوطب به النبيّ صلّي الله علیه و آله، تقديره ( أذكر) معطوف على جملة «قُلْ أَنْدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ» . ولكنّه مع كونه تطويلاً بلا طائل تحته، إنّما هو تطبيق القرآن على ما أسّسوه من القواعد ، وقد ذكرنا مراراً أنّ الأمر إنّما هو على العكس تماماً. فإنّ القرآن الكريم قائمٌ بنفسه له أسلوبه الخاصّ، فما وافقه يؤخذ به، والمخالف له يكون شاذّاً .

وأمّا إبراهيم فهو عَلَم معروف ممنوع عن الصرف وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم فقد ورد ذكره في تسعة وستّين موضعاً، وسيأتي البحث عن حياته علیه السّلام إن شاء الله تعالى .

ما يتعلّق بالمراد من الأب

قوله تعالى : «لأَبِيهِ آزَرَ».

الأب يُطلق تارةً ويُراد به الوالد الصُّلبي ، وأُخرى يُراد به الجدّ أو العمّ أو غيرهما ممّن له شأن في حياة الفرد كالمعلم ، وقد ورد الإطلاقان الأوّلان في القرآن الكريم ، كقوله تعالى : «كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ».

وقوله تعالى : «قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ».

ص: 8

ولا ريب أنّ إسماعيل علیه السّلام هو العمّ. ومن الإطلاق الثالث قوله صلّي الله علیه و آله لعلى علیه السّلام: «أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة».

وقال الراغب : (الأب: الوالد ، ويُسمّى كلّ من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أباً).

و آزر على وزن آدم أعجمي ، والمعروف قراءته بالفتح ، ليكون عطف بيان أو بدلاً من أبيه . وقرأ بعضهم بالضمّ على النداء، تقديره : يا آزر أتتّخذ أصناماً آلهةً . وفي قراءة شاذّة أيضاً : (أأزر أتتّخذ) مفتتحاً بهمزة الاستفهام . وذكر بعضهم إنّه مصدر أزر يأزر بمعنى قوي، فيكون منصوباً ، والمعنى أتتّخذ أصناماً لتتقوّى بها وتعتضد . أو نعتٌ مشتقٌّ من الوِزر بمعنى الإثم.

وقد اختلف المفسِّرون وغيرهم في أنّ (آزر) اسمُ علمٍ لأب إبراهيم علیه السّلام، أو لقبٌ أُريد به المدح بمعنى المعتضد ، أو الذمّ بمعنى الأعرج أو الأعوج أو المخطى . أو أنّه اسم عمّه - والعمّ والجدّ يسمّيان أباً مجازاً - أو إنّه اسم صنم، ويكون الكلام على حذف مضاف أي عابد آزر . وقيل غير ذلك .

والظاهر أن ذلك يرجع إلى اختلاف الروايات والآثار المرويّة في كتب التاريخ والعهدين؛ ففي بعض المرويّات أنّ اسم أبيه تارخ بالمعجمة أو المهملة . فقد نُقل عن سفر التكوين أنّ اسمه (تارح) وهو المنقول عن أكثر المفسِّرين . والمؤرِّخين واللّغويين بالمعجمة أو المهملة، وأنّ (آزر) لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه ، ونقل عن الزّجاج والفرّاء إنّه ليس بين النسّابين اختلافٌ في اسم أبى إبراهيم علیه السّلام تارح بالمهملة ويروى بالخاء المعجمة) ، وأ ابن المنذر عن ابن جريح أنّ اسمه يترح أو تارح.

وقال البخاري في «التاريخ الكبير» إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارح والله سمّاه آزر ، وإن كان عند النسّابين والمؤرِّخين اسمه تارخ ليعرف بذلك .

ص: 9

وعن ابن عبّاس في إحدى الروايتين عنه أنّه قال آزر الصنم، وأبو إبراهيم اسمه يازر.

وفى الرواية الأُخرى أنّ أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنّما اسمه تارح بالمهملة .

وقد تصدّى بعضُ للجمع بين الأقوال:

فقالوا : بأنّ المراد بالأب هو العمّ وأنّ آزر اسمه، والعرب تُسمّي العمّ أباً مجازاً، ويعضده بعض الروايات التي تدلّ على أنّه لم يكن والده، وأنّ والده كان موحِّداً غير مشرك، وما يدلّ على أن آباء النبيّ صلّي الله علیه و آله كانوا جميعاًموحِّدين غير مشركين.

ولكن يعارض هذه الروايات، ما نقل على أنّه كان والده، وأنّ إبراهيم سيشفع له يوم القيامة، ولكن لا يشفع بل يمسخه الله تعالى ضبعاً منتناً فيتبرّأ منه إبراهيم علیه السّلام .

وقيل : إنّ له اسمين أحدهما علم والآخر لقب له، ورجّح أن يكون تارح هو اللّقب لأنّ معناه المتكاسل، وهو لقب قبيح.

وقيل غير ذلك، وأطالوا البحث في الرّد والإبرام، واستدلّوا بأُمور خارجة عن البحث العلمي، وقواعد التفسير ، وجميعها لا تخرج عن الظنّ الذي لا يُغنى الحقّ شيئاً ، ولا دليل على اعتباره، بل استلزم منه الهتك بمقام نبيٍّ عظيم من إنبیاء الله علیهم السّلام.

وذكر بعض الباحثين إنّه إذا لم يكن آزر والد إبراهيم علیه السّلام، يستلزم إهمال أهمّ ركن من أركان هذه القصّة، فإنّه من العناصر المقوّمة في تحقّقها وهو شخصيّة محورية ، فلابدّ أن يكون هو والد إبراهيم، فإنّ المعروف في فنّ القصّة أنّهم يذكرون في القصّة - التي يُراد منها تحقيق هدف معيّن - الشخصيات المحورية ، والأوضاع الطبيعية والاجتماعية والسياسية، وتاريخ وقوع الحادثة ومكانها،

ص: 10

والمدّة التي استغرقتها، وغير ذلك ممّا له تأثير في تحقّق الحادثة التاريخية ، وربما يقتضي الأمر أن يذكر ما له التأثير غير المباشر فيها .

ولكنّه غير صحيح؛ لأنّ القرآن الكريم في سرده القصص والحوادث التاريخية قد سلك مسلكاً يختلف عمّا هو المتداول في فن القصّة المعروف عند أربابه ، فقد توجّه الذِّكر الحكيم إلى القصّة باعتبار المقصود منها، وهو الهداية إلى السعادة، والوصول إلى الكمال المنشود للإنسانية، فلا تخرج القصص المذكورة فيه عن هذا القصد الذي نزل من أجله الكتاب الكريم، وهو هداية الناس إلى الحقّ وبالحقّ ، وتوجيه الإنسان إلى الصراط المستقيم، فإذا كان الغرض من سرد القصّة والوقائع التاريخية والأمثال معلوماً فيذكر كلّ ما له دخل في تحقيق هذا الغرض، ولو لم يكن على طراز الفن القصصى المعروف ، فربما لا يذكر من الشخصيات إلا واحدة منها ممّن له التأثير، ويُهمل الجوانب الأُخرى التي لا فائدة في ذكرها، بعدما كان ذكر جانب واحد يؤدّي إلى الغرض المقصود، فلا يذكر الزمان ولا المكان وغيرهما من سائر المؤثرات، فلا يصحّ جعل القصص القرآنية كسائر القصص المعروفة ، ومن هنا أهمل القرآن ذكر الخصوصيّات في القصّة الواردة في هذه الآيات الكريمة ممّا لا فائدة في ذكرها ، فلم يذكر نسب الأنبياء ولا تاريخ ولادتهم ولا أماكنها، ولا أسماء المختصّين بهم أو الشخصيات المعاصرة لهم، وغير ذلك ممّا هو كثير ، إلّا ما له التأثير في الغرض الخاصّ الذي سردت القصة لأجله .

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم كتاب الهى موضوعه الهداية، وله أسلوبه الخاص به ، وهو الكتاب الفصل وليس بالهزل ، وقد اقتضت سیر ته سبحانه و تعالی أن يذكر الكلّيات والأُمور العامّة التي لها تطبيقات على مرّ العصور، فهو آخر كتاب إلهي يهدي الناس جميعاً، ولا ريب أنّ مثل هذا الكتاب لا يستعمل التفاصيل إلّا على نحو الإشارات التي لا يمكن درك حقائقها إلّا بالرجوع إلى من

ص: 11

ألهمهم الله تعالى فهمها، وهم أهل البيت علیهم السّلام، فيكون كتاب امتحان إلهي يمتحن به عباده، ويميّز المؤمن الذي سلّم أمره لربه عن غيره .

فمن مواضع الامتحان القصص القرآنية التي يستفيد منها المؤمن العبرة والهداية ، ولم يجعلها من المتشابهات التي يفسّرها برأيه ، فلابدّ من الرجوع في غير ما هو الظاهر منها إلى الراسخين فى العلم والأدلّة القطعية .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ كثيراً من الشبهات التي ذكروها في القصص القرآنية وغيرها، حاصلة عن قلّة التدبّر في الأهداف التي سردت لأجلها تلك القصص ، أو عدم التمعّن في أسلوب عرضها في القرآن الكريم ، وسيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

ومن جميع ذلك يعلم أنته لابدّ من الرجوع إلى الآيات الشريفة التي سردت قصّة إبراهيم علیه السّلام، للاستفادة منها في تعيّين المقصود من قوله تعالى «أَبِيهِ آزَرَ»، ثمّ الرجوع إلى الروايات المعتبرة التي وردت في تفسير الآية المباركة.

وأمّا غير ذلك من الوجوه الكثيرة التي تمسّك بها، ومنها ما ورد في كتب العهدين، فإنّ وافق الكتاب العزيز يؤخذ به، وإلّا فهو مردود ، ولا تضرّ تلك بما هو من الدلالات اللفظية المعتبرة، والسياقات الكلامية التي تبتني عليها المخاطبات عند الناس ولا توجب صرف ظواهرها .

والحقّ أنّ المستفاد من الآيات الكريمة أنّ آزر لم يكن والد إبراهيم علیه السّلام، وإنّما هو شخصية أُخرى كان له دخلٌ كبير في حياة سيِّدنا إبراهيم الخليل العقائدية ، ويدلّ على ما ذكرنا أُمور :

الأوّل : إنّ كلمة الأب ليس نصّاً فى الوالد الصلبي كما عرفت آنفاً، بخلاف كلمة الوالد، فهو نصٌّ فى الوالد الصلبي فقد يستعمل لفظ الوالد في الموارد التي تحتاج إلى النصوصية دون اللّفظ المجمل ، كما في آيات الإرث والأحكام

ص: 12

الشرعية التي تترتّب على كلّ واحد من الوالدين من الرضاعة وأحكام الأولاد كما أنّه في يوم القيامة تنتفي الصلة بين الوالد وولده الصلبیّين، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازِ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً» (1) ، كما أنّه فى مقام الدُّعاء يذكر إبراهيم سورة القمان : الآية 33 لفظ الوالد ، قال تعالى حكاية عنه : «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» (2) ، ولا ريب أنّه غير الذي دعا له في مورد آخر ، قال تعالى حكايه عنه علیه السّلام: «وَاغْفِرْ لأبى إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ»، فلابدّ أن يُحمل على غير الوالد الصلبي مثل العمّ أو شخصية أُخرى كما عرفت.

وأمّا إذا كان المورد فى مقام الاحترام والعطف، ومراعاة الآداب ونحو ذلك، فإنّه يذكر لفظ الأب، إلّا أن تكون قرينة على إرادة الوالد الصلبي منه ، وهو كثير ، فراجع الآيات التي ورد فيها لفظ الأب.

الثاني : إنّ إبراهيم علیه السّلام في ابتداء حياته العقائدية قد اختلط مع قومه، واختصّ برجل يذكره القرآن الكريم بأنّه أبوه وسمّاه آزر ، وهو في جهاده المرير معه في رفض عقيدة الشرك والضلال، وإصراره على هدايته بالدخول في دين التوحيد ، ولكنّه بالغ في الرفض والعناد، حتّى وصل به إلى تهديده بالطرد والهجران ، وقد حكى سبحانه هذا المضمون في قوله تعالى : «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيَا إِذْ قَالَ لأبيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدُ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي

ص: 13


1- سورة القمان : الآية 33
2- سورة إبراهيم : الآية 41

يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً» (1)، ولكن إبراهيم علیه السّلام ردّ عليه بأسلوبه الخاصّ بالتسليم عليه، ووعده بأنّ يستغفر له طمعاً منه في إيمانه، وتطميعاً له فى الهدى والسعادة ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً » (2). وهذا الوعد منه علیه السّلام بالاستغفار:

إمّا من أجل التطميع له بالدخول في الهداية والإيمان بدين التوحيد.

أو من أجل وعد منه بشرط الموافاة على الإيمان.

أو من أجل الردّ على ما لاقاه من أبيه من العناية في ابتداء حياته.

وغير ذلك من الوجوه التي لم تذكرها القصّة لعدم الجدوى في ذكرها بعدما عرفت آنفاً من السرّ في إيراد القصص في القرآن الكريم.

كما أنّه يستفاد من قوله تعالى: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم» (3)، أنّ دعاءه هذا كان بعدما فارقه أبوه إمّا بموت أو هجران، وأنّ دعاءه علیه السّلام له لم يكن في الحقيقة إلا وفاءً لوعده الذي وعده لأبيه ، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إِلا عَن مَوعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَا تَبَيِّنَ لَهُ إنَّهُ عَدوّ ِللهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَاءٌ حَلِيمٌ» (4).

كما أنّ هذه المحاورة العقائدية بينه وبين أبيه كانت في أوائل عهد إبراهيم

ص: 14


1- سورة مريم : الآية 41 - 46
2- سورة مريم : الآية 47 - 48
3- سورة الشعراء : الآية 83 - 89
4- سورة التوبة : الآية 114

بأبيه ، وقبل هجرته إلى الدِّيار المقدّسة في هذه الدُّنيا، قبل التبرّي عن أبيه وقومه، كما هو ظاهر الآية الكريمة، وظاهر سؤاله اللّحوق بالصالحين، وأن يرزقه أولاداً صالحين، ويدلّ على ذلك قوله تعالى أيضاً «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لَأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» (1) .

ومن جميع ذلك نستفيد أنّ الحكم التكليفي التحريمي المستفاد من قوله تعالى : «ما كانَ للنبي والذينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُوْلِى قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيِّنَ لَهُم أَنهُم أصْحابُ الجَحيم وما كانَ استغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إِلَّا عَن مَوعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدوّ للهِ تَبَرَأَ مِنْهُ إِنَّ إبْراهِيمَ لاواءٌ حَليمٌ» (2) ثابت وعام وقد استثنى استغفار إبراهيم من ذلك، لأنّه وفاء للعهد الذي قطعه على نفسه، فتكون صورة الدُّعاء، ولذا عقّبه بالتبرّي عنه ، وفي آية أُخرى بأنّه «وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» فالدّعاء الحقيقي لم يتحقّق ، والدُّعاء الصوري الذي كان معذوراً فيه إبراهيم علیه السّلام لم ينفع أبداً.

وممّا ذكرناه يظهر فساد القول بأنّ الدُّعاء فى يوم القيامة والتبرّي يكون فيه أيضاً بعدما يظهر لإبراهيم علیه السّلام الحقيقة، فيمسخ الله تعالى أباه على صورة الضّبع.

وكيف كان، فإنّ المستفاد من مجموع ما ورد في حياة إبراهيم العقائدية التي مرّت بمراحل، أنّ طلب المغفرة لأبيه إنّما كان في دار الدُّنيا قبل هجرته إلى الأرض المقدّسة، التي تعتبر مرحلة النضج العقائدي، والدفاع عن عقيدة التوحيد، وطلبه من الله تعالى أن يلحقه بالصالحين وأنّ يرزقه الأولاد الصالحين، وبعد

ص: 15


1- سورة الممتحنة : الآية 4
2- سورة التوبة : الآية 114

هجره لأبيه وقومه والتبرّي منهم، فكانت صورة الدُّعاء لأجل الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه، أو أغراض أُخرى التي كانت وراء الحجاج مع قومه، كما ستعرف.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» أنّ طلب المغفرة ،حقيقى لمقارنتها مع طلبها لنفسه وللمؤمنين ، ولا يجوز أن يكون للكافر المشرك، ولا يعقل أن يصدر من مثل إبراهيم علیه السّلام رائد عقيدة التوحيد ، وأبى الأديان الإلهية، ولا يمكن أن يصدر عنه القول : ربِّ اغفر لهذا الضالّ يوم القيامة ، ثمّ يصف ذلك اليوم بأنته يوم لا ينفع فيه شيء إلّا من أتى الله بقلب سليم، فلو كان آزر والده الصلبي لحصل التناقض بين الدُّعاءين ، فإنّ قوله تعالى : «فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدوّ للهِ تَبَرَأَ مِنهُ» يدلّ على عدم نفعه من الاستغفار لأنّه عدوّ الله سبحانه ، ولكن قوله تعالى : «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ» يدلّ على أنّ الدُّعاء ينفعهما في يوم القيامة ، ولا رجوع عنه ، فلابدّ أن يكون المدعوّ له في الآيتين مختلفاً.

والحاصل: إنّ المستفاد من الآيات الكريمة الواردة في أحوال إبراهيم علیه السّلام، أنّ (آزر) وإن أُطلق عليه لفظ الأب، لكنّه غير والده الصلبي، ويعضده بعض الأخبار ، وحينئذٍ فإنّ ما ورد في بعض الروايات والآثار ممّا يدلّ على أنّه أبوه، مخالف لسياق الآيات الكريمة وظواهرها ، مع أنّ جملة مما ذكروه في تأويلها من مجرّد الاحتمال المبنيّ على الحذف والتقدير، وكلاهما خلاف الأصل ، فلا مسوّغ الذكرها ومناقشتها بعدما عرفت الحقّ فيها .

ثمّ إنّه لا ينقضي العجب من صاحب «تفسير المنار» أنّه مع مناقشته لبعض ما ذكروه، يلتمس الحجج والحِكَم في توجيه كفر آباء الأنبياء وأرحامهم ، وليس ذلك إلّا الشطط والخروج عن جادّة الصواب.

قوله تعالى : «أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً».

ص: 16

إنكار وتقبيح لإتخاذهم آلهة من دون الله عزّ وجلّ، والخطاب باعتبار اتّخاذ الجنس باعتبار الوقوع من دون ملاحظة الجمع ، وقد ذكر المفسِّرون وجوهاً في إعراب هذه الجملة ، وهي داخلة ضمن تفسير الآية الكريمة بالرأي، فلا مسوّغ لذكرها بعدما عرفت الصواب في تفسيرها .

والأصنام جمع صنم، والمراد به في المقام الجنس ، كما عرفت . وبدأ به تقبيحاً وتبعيداً لأن يتّخذ ما كان من مادّة كالحجر والخشب معبودات آلهة .

والصنم معروف، وهو كلّ ما يمكن أن يمثّل به تمثالاً، سواء أكان من الفلزّات ، أو الأحجار، أو الطين ، أو الخشب ، أو غيرها ، مجسّمة كانت أو غيرها كأن تكون صورة منقوشة . والمعروف أنّ في الجاهلية أنهم كانوا يتّخذون الأصنام من التمر أو الإقط متى اضطروا إلى أكلها أكلوها، فلا اختصاص له بالفلزات ، كالفضّة والنحاس أو الخشب ، كما ذكره الراغب .

وهو موضوع عقائدي اتّخذه المشركون للعبادة، أو التقرب إلى الله تعالى . كما تدلّ عليه الآيات الكريمة ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ» (1).

وقال تعالى : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» (2) . وغالباً ما يكون مثالاً لأمر محسوس كصنم الشمس ، وصنم القمر ، وصنم الكواكب ، أو عظيم من العظماء ، أو يكون لأمرٍ غير محسوس كإله السماء وإله الأرض ، وإله الحبّ ، وإله العدل ونحو ذلك . وقوم إبراهيم علیه السّلام قد جمعوا كلا النوعين ، كما تدلّ عليه الآيات الكريمة الحاكية عن أحواله مع قومه ، وتشهد عليه الآثار التي كشفها المتأخّرون في الأراضي والبقاع التي كان يتجوّل فيها إبراهيم علیه السّلام لاسيما أرض بابل ، فقد

ص: 17


1- سورة الصافات : الآية 95
2- سورة الزمر : الآية 3

كانوا يعبدون الكواكب تقرباً إلى أربابها .

ولا ريب إنّ الإنسان مع ما فيه من سموّ الروح وعلوّ العقل، فلابدّ أن يكتسب بهما أقصى المكارم، ويصل إلى أعلى الدرجات والمقام السامي، إلّا أنّه انحطّ إلى أسفل سافلين عندما أشرك بالله تعالى، واتّخذ مخلوقاً مربوباً مصنوعاً وجعله إلهاً يخضع له بالعبودية، وهو مصنوع مثله عاجزٌ عن كلّ نفع وضُرّ ، فقد وصل به السّفه في الأحلام فلم يفكّر في عواقب ما اتّخذه إلهاً، والآثار السيّئة المترتّبة على عبادة غير الله تعالى ، ولو رجع إلى نفسه وفكر قليلاً لاهتدى إلى الصواب، وعرف أنّ حقيقة العبادة لا تكون إلّا بخضوع المربوب لصانعه والتذلّل لربّه ، ولا عبادة في غير هذه الصورة، وإنّما هي طقوس خرافية مبتنية على الوهم والخيال . ولعلّه من أجل ذلك ورد لفظ الأصنام نكرة، للدلالة على حقارتها وهوان أمرها لجهات عديدة أهمّها ما ذكرناه من فقدانها لصفات يستحقّ بها العبودية، وأنّ تكون إلهاً وربّاً ، كالعلم والقدرة وغيرهما، مما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «إِذْ قَالَ ِلأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» (1) ، وتقدّم فى أوائل هذه السورة بعض الكلام، فراجع .

ما ورد في حجج إبراهيم علیه السّلام

قوله تعالى : «إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .

جملة بإيجازها البليغ تشتمل على الحجج التي وردت في حجاج إبراهيم علیه السّلام، ممّا ذكرها سبحانه في الآيات التالية ، وهي تختلف في أسلوبها ، فإنّ بعضها كانت مع أقوام كانوا يعبدون الكواكب والشمس والقمر ، وبعضها مع أقوام اتخذوا الأصنام آلهة ، وبعضها مع شخصيّات معيّنة كالملك الذي جعل نفسه إلهاً، وغير ذلك ، وهذه الآية تعتبر بمنزلة التمهيد لما سيأتي .

ص: 18


1- سورة مريم : الآية 42

والضلال ضدّ الهداية، وهو العدول عن الصراط المستقيم ، أو العدول عن الحقّ ، ولا ريب أنّ عبادة غير الله تعالى من الأصنام وغيرها، والخضوع والتذلّل لها عدولٌ عن الحقّ القويم الذي لا لبَسَ فيه ولا اشتباه، فكان ضلاله بيّناً ، وكيف لا يكون كذلك وهو عبادة من لا يستحقّ العبادة، ومن هو فاقد لكلّ مقوّمات الخضوع والتذلّل له ، كما عرفت آنفاً . وإنّما جعلهم مظروفين للضلال، لبيان أنّ الضلال صار ظرفاً لهم ، وهو أبلغ من وصفهم بالضلال .

ومن الناس من احتجّ بهذه الآية على أنّ آزر ما كان والد إبراهيم علیه السّلام، لما في الكلام من الغلظة والجفاء ، ولا يجوز مشافهة الأب بمثل ذلك لأنّه إيذاء .

ولكنّه ممنوع صغرىَ وكبرىَ ، لعدم وجود الغلظة والجفاء المحرّمين فيه ، وعلى فرضه، فهو لا بأس به في مثل هذا المقام من تثبيت دعائم التوحيد، وإحقاق الحق والإرشاد إلى الصواب.

وقد عرفت أنّ مثل هذه الأُمور الاستحسانية لا تمتّ إلى ظهور الكلام والدلالة السياقية له ، فراجع .

حول معنى الملكوت

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» .

آية عظيمة تبيِّن حقيقة التوحيد الخالص عند مصداق الحقّ والحقيقة رائد الدعوة إليه خليل الرحمن علیه السّلام، فقد انكشفت له حقائق الأشياء الناطقة بالألوهية الكبرى والربوبيّة العظمى الله تعالى فلا إله غيره، ولا ربّ سواه، وهي مربوبة له منقادة لإرادته خاضعة لمشيّته تعالى، فاستحقّ علیه السّلام أن يقوم بالمهمّة العظيمة دعوة الناس ولا سيّما قومه المشركين إلى التوحيد ودين الحقّ ، وتأهل لتحمّل هذه المسؤولية التى يلهج بها الأجيال على مرّ العصور، ويدينون له بالولاء التامٌ، واعتبروه أبا الأديان التوحيدية الإلهيّة ، وقد وهبه الله تعالى بعد إراءته ملكوت السماوات والأرض العزيمة والثبات والاستقامة والحجّة البالغة، فصارت حججه

ص: 19

دامغة لا يرجع عنها إلّا المعاند المستكبر ، وأصبحت ضمن دعوة أنبياء الله تعالى وأبلغوها أُممهم .

ومن ذلك يعرف أنّ الإشارة (وكذلك) في الآية الكريمة ترجع إلى ما تضمّنته الآية السابقة من اهتدائه علیه السّلام للحقّ، وهو أنّ عبادة غير الله عزّ وجلّ ضلال الله مبين، وعلى هذا النحو يريه الله تعالى ملكوت السماوات والأرض، فإنّ جميع ذلك من الحقّ وبالحقّ الذي تقدّم ذكره في الآيات السابقة . فيكون التعبير بصيغة المستقبل للدلالة على أنّه علیه السّلام مُحاطٌ بهذه العناية الإلهيّة على الدوام والاستمرار وتجدّدها له آناً فآن ، فإنّه مع قومه على جهاد مستمرّ ، وعلى سُلّم الكمال قد استقرّ ، فلابدّ من عناية مفاضة .

وقيل : إنّه لاستحضار صورة الحال الماضية حتّى كأنّها حاضرة ومشاهدة .

وهو وجه أدبي فقط .

وذكر بعض المفسِّرين : إنّه لحكاية الحال الماضية ، وهو غير سديد .

فيكون المعنى: إنّ رعايتنا لإبراهيم علیه السّلام ثابتة ومستمرة، فأريناه الحقّ فاتّبعه، ودعا قومه إليه ، وكذلك أتممناها بعنايتنا له فأريناه ملكوت السماوات والأرض، فأصبح من الصِّديقين الراسخين، وتحمّل هذه المهمّة العظيمة في سبيل الدعوة والإرشاد .

وللملكوت وجهان آدبي، وهو مصدر من الملك ، كالرحموت والجبروت وفى هذا البناء - فعلوت - الإشعار بالتكثير . بل المبالغة في العالم الربوبي، يراد بها أكمل الصفات وأشدّها وآكدها ، فيُراد به بحسب اللّغة أكد الملك وأكمله ، كما في سائر صفاته المقدّسة، فإنّها تستعمل فيه سبحانه بالمعنى اللغوي، إلّا أنّ المصداق فيه تعالى أتمّ وأكمل ، فيكون الملك عنده عزّ وجلّ حقيقي واقعي بلا نقص يشوبه

ص: 20

ولا مشاركة ، فلا يزول عنه ، ولا يقبل النقل ولا التفويض بحيث يستغنى عنه وينصب غيره مقامه ، ولذا ينتسب وجود الأشياء وواقعيّتها إليه سبحانه ، هذا بحسب الوجه الأدبي.

ووجه واقعي يبصر به حقائق الأعيان، باعتبار شهودها على الأُلوهيّة العظمى والوحدانية الكبرى، والربوبيّة التامّة، وخضوع ما سواه ،له ومربوبيّتها له .

و من العلماء من جعل الملكوت نفس الملك باعتبار انتساب الخلق له، وقيام الأشياء به عزّ وجلّ، فقد ورد تعليل الملك به في جملة من الآيات ، قال تعالى :

«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ

طباقاً» (1)

وقال تعالى : «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» (2).

وغيرهما من الآيات الدالّة عليه، فيكون المراد من الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه ، وذكر أنّ هذا هو الذي يفسّر به معنى الملكوت في قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (3)، فإنّ هذه الآية تبيِّن أنّ ملكوت كلّ شيء هو كلمة كُن الذي يقول لها الحق سبحانه له ، وقوله فعله ، وهو إيجاده له .

ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء، يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية ، فيكون معنى إراءة إبراهيم علیه السّلام ملكوت السماوات والأرض، هو توجيهه

ص: 21


1- سورة الملك : الآية 1 - 3
2- سورة المائدة : الآية 120
3- سورة يس : الآية 82 - 83

تعالى إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه سبحانه، لا يلبث أن يحكم عليها بأنّه ليس شيء منها بربّ يتولّى تدبير النظام وأداء الأُمور .

ولكن التمعّن في الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة - وهي أربع آيات - يستفاد أنّ لها معنى أدقّ ممّا ذكره ، فإنّ آية (يس) التي تقدّم ذكرها تدلّ على أنّ الملكوت غير الخلق والإيجاد ، بل هو حقائق الأشياء وبواطنها وسلطانه تعالى القاهر على ما فى السماوات والأرض ، وهو مختصّ بملك الله تعالى .

ولا ريب أنّ أصل ملكه عزّ وجلّ العظيم دليل الربوبيّة ، كما يعرفه جميع الموحِّدين ، إلّا أنّ الإطّلاع على آثار حكمة الله في كلّ واحد من المخلوقات لهو شيء آخر، ولم يحصل إلّا لبعض أنبياء الله سبحانه كإبراهيم علیه السّلام، ولهذا كان نبيّنا الأعظم صلّي الله علیه و آله يقول في دعائه: «أرنا الأشياء كما هى».

والاهتداء بالملكوت عليه سبحانه غير الاهتداء بالملك عليه فإنّ الثاني دليل الأوّل ، وإنّ قيام الملك بالملكوت وقيام الملكوت بقدرة الخلق، كما قال تعالى: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»، وبهذه الإفاضة على خليله علیه السّلام تميّز عن سائر الأنبياء وأولياء الله تعالى، إلّا سيِّدهم على الإطلاق محمّد بن عبد الله صلّي الله علیه و آله، فإنّه رأى ما رأى، فكان قاب قوسين أو أدنى .

وهذا المعنى هو الذي يدل عليه قوله تعالى في سورة يس ، فإنّ الملك الذي بمعنى الخلق والإيجاد قد دلَّ عليه صدر الآية: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، ولكن ذيلها يبيِّن حقيقة الملك، وهى الآيات المودعة فيها الدالّة على التوحيد وعظمة خالق عالم الملك، والتي تكون بيده عزّ وجل، الذي تنزّه عن مجانسة مخلوقاته . فما ذكره بعض السادة المفسِّرين من أنّ ملكوت كلّ شيء هو كلمة (كن) ، الذى يقوله الحقّ سبحانه له ، وقوله فعله وهو إيجاده له ، خلاف ظاهر الآية الكريمة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ

ص: 22

وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ» (1) ، فإنّ ما بيده من ملكوت كلّ شيء ليس الخلق فقط ، بل يشمله وجميع الأسرار والآيات المودعة فيها ، وكلّ شؤونها كالقدر والقضاء ، فكانت آیات باهرات تدلّ على الأُلوهيّة العظمى والوحدانية الكبرى، والربوبية التامّة، وحكمته المتعالية ، وصفاته المقدّسة ، ولا ريب أنّ مثل هذا الانتساب إليه عزّ وجلّ يكون من الدلالات الواقعية على توحيده تعالى وصفاته العليا، ولا يشركه غيره فيها أبداً.

ولذا يكون النظر في ملكه تبارك وتعالى يهدي إلى التوحيد الذي يشترك فيه جميع الموحدين ، كما قال تعالى : «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» (2) .

وأمّا النظر في الملكوت، فإنّه يهدي إلى التوحيد الحقيقي الواقعي، من حيث الذات والصفات وسائر شؤونه المقدّسة، فكان توجيه إبراهيم علیه السّلام إلى مشاهدة الأشياء بحقائقها وبواطنها، قد اكتسب التوحيد الحقيقي، فصار هو مصداقاً لملكوته عزّ وجلّ، فأنار الله تعالى قلبه، وأذعن بأنّ جميع الأشياء مظاهر توحيده وصفاته العليا، والجميع مربوبٌ لربوبيّته التامّة الكاملة ، وهداه إلى الدعوة إلى التوحيد، وألهمه جميع ما تقتضيه الدعوة من الحجج والبراهين الدالّة على وحدانيّته تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ، كما تدلّ على كلا الأمرين الآية اللّاحقة ، وبيّنت فساد الشرك وبطلانه فلا إله غيره ولا ربّ سواه، وأنّ خلقه مربوب ومصنوع له عزّ وجلّ يتولّى أمرها ، والمصنوع المربوب لا يمكن أن يكون ربّاً، لأنّه ليس لها الملك والتدبير ، ولا حقّ لها أن تدعى الربوبيّة، لأنّه لا قدرة

ص: 23


1- سورة المؤمنون : الآية 88
2- سورة الأعراف : الآية 185

لها ، هذا كلّه بالنسبة إلى الملكوت على ما يقتضيه التدبّر في الآيات، وسيأتي في البحث الروائى ما يدلّ على ذلك إن شاء الله تعالى .

ومن نافلة القول ما ذكر بأنّ العلماء أطلقوا المُلك على ما يُدرك بالبصر، والملكوت على ما يُدرك بالبصيرة ، ولكن الإراءة الواردة في الآية الكريمة يراد بها المعرفة الحاصلة من البصر والبصيرة كليهما .

قوله تعالى: «وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ».

اللّام للتعليل ، قيل إنّها متعلّقة بمحذوف مؤخّر، والجملة اعتراضية مقرّرة لما قبلها ، أي ليكون من زمرة الراسخين في الإيقان .

وقيل: إنّها متعلّقة بمحذوف، والتقدير : ليكون كذا وكذا، وليكون من الموقنين.

والصحيح أن يُقال: إنّ إراءة ملكوت السماوات والأرض لها من الآثار التي تحدثها في القلب والباطن، بما لا يعلم خصوصيّاتها إلا المفيض والشخص المفاض، لكونها من الكشف والشهود ، وقد حذفت لتغوص الأذهان المستقيمة و تذهب كل مذهب ، وهذا أسلوبٌ قرآني خاص يراد به إيقاظ الهمة وبعث الأمل في النفوس المستعدّة ، وهو من الإيجاز البليغ .

أو أنّ ذكر اليقين دون غيره من الآثار للإعلام بعلوّ درجة اليقين، فإنّ الوصول إلى عين اليقين من الغايات القصوى، وكمال يترتّب على تلك الإراءة الملكوتية ومن مستتبعاتها ، فليس المراد انحصار الفائدة فيه ، بل لبيان أنّه الأصل الأصيل والباقى من تبعاته ، ولعلّ ذكر حرف الواو ، لبيان هذه الجهة .

والتقدير: إنّا نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليعرف سنة الله سبحانه في خلقه، وحُكمه في تدبيره ، ويطّلع على الآيات التي تدلّ على أُلوهيّته ووحدانيّته وربوبيّته وليكون على يقين من ذلك، فيقيم الحجّة على المشركين الكافرين .

ص: 24

ما يتعلّق من المراد من اليقين

واليقين: من صفات النفس كالعلم، لكنّه أعلى درجة منه ، فإنّه يشتمل على الرسوخ والثبات والخلوص عن كلّ شكٍّ واحتمال . كما أنّه يختلف عن العلم في السبب والأثر، أمّا الأوّل فلأنّ اليقين يحصل من المشاهدات البصرية والإنكشافات القلبية الحاصلة من تكرار النظر في آيات الله تعالى، ودلائل قدرته وعلمه وربوبيّته ، فإنّها تورث العلم وتثبته في النفس، حتّى يصل إلى درجة عين اليقين، كما يرشد إليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي» (1) ، فإنّه علیه السّلام أراد الرسوخ في العلم لا زوال الشكّ فإنّه بريء منه .

وأمّا الأثر فلأنّه يوجب انكشاف الواقع وما وراء ستار الحسّ من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى ، كما في قوله عزّ وجلّ : «كَلاً لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ» (2).

وقد يصل إلى الشهود ، كما في قوله تعالى : «كَلاً إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلْبُونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (3) ، وهو لا يحصل إلّا من إراءة ملكوت السماوات والأرض ، وهذا دليل آخر على أنّ المراد من الملكوت حقائق الأشياء لا المُلك فقط ، فيبلغ العلم الحاصل منه، وهو اليقين البالغ درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى .

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...»

قوله تعالى : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً» .

مادّة (جنن) تدلّ على الستر ، قال الراغب : أصل الجَنّ بالفتح الستر عن الحاسة ، يُقال جَنّه اللّيل وأجنّه ، وأجنّ عليه ، ومنه الجِنّ ، والجِنّة بالكسر ، والجُنّة

ص: 25


1- سورة البقرة : الآية 260
2- سورة التكاثر : الآية 5 - 6
3- سورة المطففين : الآية 18 - 21

بالضم وهي الترس الذي يستر به ، والجَنّة بالفتح البستان الذي يستر الشجر أرضه من الشمس . وجَنّ عليه اللّيل أي ستره بظلامه ، وهو لا يحصل بمجرّد غروب الشمس ، كما هو واضح .

والكوكب والكوكبة، واحد الكواكب وهي النجوم ، وإن كانا يختلفان عند الفلكيّين ، والمعروف إطلاقه على الكواكب السيارة السبعة ، والعرب تطلقه على الزّهرة ، كما غلّب عندهم إطلاق النجم - معرفاً - على الثريا .

والجملة تفريع على ما يترتّب على إراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وما انكشف له من الحقائق الدالّة على التوحيد والربوبية ، وحصول اليقين له بهما ، واهتدائه إلى وجوه الاستدلال والحجج، فقد أبطل أُلوهيّة الأصنام فلما أظلم عليه اللّيل ونظر في السماء رأى كوكباً .

وقيل : في تنكيره إنّه لبيان امتيازه على سائر الكواكب، بإشراقه وجذب النظر إليه.

وقيل : إنّه لنكتة راجعة إلى مرحلة الإخبار والتحدّث ، فلا غرض في الكلام يتعلّق بتعيِّين هذا الكوكب سوى الاحتجاج به، وهذا يحصل في أي كوكب من الكواكب المشتركة في الطلوع والأفول.

لكن ذلك لا يمنع من أن يكون المشار إليه كوكباً معيّناً يتحقّق فيه الغرض المقصود ، كما يقتضيه ظاهر الآية الكريمة . ومن ثمّ اختلفوا فيه :

فقيل: إنّه المشترى ، وهو المنسوب إلى ابن عبّاس فيما روي عنه ، ولأنّه أعظم آلهة بعض عُبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان ، بل كان قوم إبراهيم علیه السّلام على هذه العبادة .

وقيل : إنّه الزهرة ونسب إلى قتادة، واختاره أكثر المفسِّرين ، ويشهد له أُمور:

ص: 26

الأوّل : التأييد بالاعتبار ، لأنّ الصابئين لم يحترموا ولم ينسبوا حوادث العالم السفلى إلّا إلى سبعة من الأجرام العلويّة، التى كانوا يسمّونها بالسيّارات السبع ، كما أنّ أهل الهند كانوا يحترمون الثوابت وينسبون الحوادث إليها ، ونظيرهم أرباب الطلّسمات ووثنية العرب وغيرهم ، فلابدّ أن يكون الكوكب أحد السبعة والقمر والشمس وهما مذكوران فيما بعد، وعطارد ممّا لا يرى إلّا شاذّاً، فيكون أحد الأربعة وهي الزهرة ، والمريخ، والمشتري ، وزحل ، والزهرة هي الأوفر حظّاً لرؤيتها لعامة الناس، فإنّها التابعة الملازمة للشمس، فتطلع قُبيل طلوعها وتغيب بعد طلوعها ، ولها نظام خاص في سيرها بخلاف غيرها التي لها أوضاع اتّفاقية .

الثاني : إنّ الزهرة أجمل الكواكب الدرّية وأبهجها وأضوءها ، وأوّل ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جنّ اللّيل .

الثالث : ورود بعض الأخبار عن أئمّة أهل البيت علیهم السّلام على أنّ الكوكب كان هو الزهرة ، وسيأتي . وهو الصحيح وإن كان ما ذكر لا يخلو من مناقشة، إلّا أنّ الاعتبار يشهد له معتضداً بما فى الروايات .

والمهمّ أنّ الآية الكريمة لم تكن مسوقة لبيان تلك الخصوصيّة ، ولا غرض لها يتعلّق بتعيين الكوكب، عدا الإحتجاج عليهم والإستدلال على أنّه لم يستحقّ الربوبيّة لكونه محلاًّ للحوادث، وهو يحصل بكلّ كوكب، فظاهر اللّفظ لا يساعد على ما ذكروه .

قوله تعالى : «قَالَ هَذَا رَبِّي».

حكاية على رأي خصمه ، ولذا أبكر عليه بالبطلان ، كما هو عادة المصلح عندما يعيش أحدهم مع الجاهلين، فإنّه يعدّ نفسه كأحدهم ويجاريهم ويُسلّم ما سلموه، ثمّ يظهر فساده، ويبطل أقوالهم، وهذا النوع من الاحتجاج أبلغ في التأثير

ص: 27

في الخصم وأنصف له ، وأمنع لغضبه ، وإثارة عصبيته.

في المراد من الربّ

والمراد من الربّ هو المالك المدبّر لأمر المربوبين ، والاقتصار عليه دون غيره كالإله ونحوه ، لأنّ قوم إبراهيم علیه السّلام كانوا يعبدون الكواكب والنجوم ويعتقدون أنّها الأرباب التي تتصرّف في شؤون السفليّات . كما أنّ الوثنيِّين والمشركين لم يعبدوا صنماً ولا وثناً إلّا لكونه متصرّفاً وله التدبير، ويُدفع به الضرّ ويُجلب النفع ، كما صرّحت به جملة من الآيات الكريمة ، وتقدّم ما يتعلّق به في ابتداء هذه السورة ، فراجع .

وإنّما لم يذكر لفظ الجلالة أو الإله ، لأنّه ليس بجسم حتّى يُشار إليه ، ولا جسماني لتجري عليه أوصاف الأجسام، ولعلّه من أجل ذلك ذكر لفظ الربّ هنا ، وفى آخر الآية ذكر من أوصافه سبحانه فاطر السماوات والأرض، فإنّه الله تعالى الذي أوجد كلّ شيء بعدما لم يكن موجوداً ، ولم ينكره أحدٌ من قومه .

ثمّ إنّ المستفاد من آيات المقام وغيره أنّ إبراهيم علیه السّلام كان على بيّنة من أمره، وعنده من العلم بالله سبحانه وربوبيّته ما لا يحتاج إلى إقامة الحجّة على نفسه ، فقد أراه عزّ وجلّ من الآيات الباهرات على وحدانيّته ، فحصل على يقين بكل ما يرتبط بالهدى ودين الحقّ ودعوته إلى الصحيح من الاعتقاد، كما قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه : «يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً» (1).

وقال تعالى: «قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ».

ومن ذلك يظهر أنّه علیه السّلام لم يكن ما صدر منه في الآية من قوله: «هَذَا رَبِّي» على وجه الحقيقة والبناء، وإنّما هو مجرّد فرض صدر منه مجاراةً لقومه، لبناء

ص: 28


1- سورة مريم : الآية 43

الأثر المهم عليه وهو إبطال حججهم وإلزامهم بفساد عقيدتهم ، ويدلّ عليه أيضاً قوله علیه السّلام فيما حكى عنه عزّ وجلّ: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياً» (1)، فإنّه أيقن بالله تعالى ربّه وكان به حفياً ، فإذا أشار إلى غيره عزّ وجلّ بأنّه ربِّه ، فلابدّ أن يكون لغرض معيّن وهو الاستدلال لغيره ، كما بيّنه عزّ وجلّ في ضمن الآيات الكريمة ، فلا ريب في ما ذكرناه .

ومنه يظهر فساد من قال بأنّه كان في مقام النظر والاستدلال لنفسه لا لقومه، واستدلّ عليه بأُمور واهية ، فراجع ، فلا افتراض في أصل العقيدة ولا في المصداق، فإنّه على علم بكلّ منهما ، كما تدلّ عليه الآيات، فإنّ قوله علیه السّلام: «إِنَّهُ كَانَ بِي حَفيّاً» يدلّ على أنّ الله تعالى الذي اعتقد بألوهيّته وربوبيّته، هو الذي يكون به حفياً فيعلم التطبيق والمصداق أيضاً .

ولكن ذهب بعض السادة المفسِّرين إلى أنّه يمكن أن يكون الافتراض في مصداق الربّ، هل هو الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثمّ القمر ثمّ الشمس أم غيرها، واعتبر أنّ هذا الافتراض والنظر لا يضرّ به علیه السّلام، باعتبار كون الإنسان في أوّل زمان التميّيز وصلاحيّته لتعلق التكليف الإلهي بالعقيدة وسائر المعارف الأصلية ، كاللّوح الخالي من كلّ نقش ، وإنّما ينقش في النفس ما يأخذه من طلب الاعتقاد الحقّ والإيمان الصحيح، فهو لا بأس به في سبيل الحقّ في هذه المرحلة التي يقع فيها الصراع بين قصور التميّيز ، وبين الاعتصام بالمعرفة الكاملة والعلم التامّ بالحقّ ، وقد تمرّ على الإنسان لحظة ينتقل فيها بين قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم، وهي المرحلة التي يتعلّق به التكليف العقلى بالنهوض إلى الطلب والنظر ، وهذه سُنّة عامة في الحياة الإنسانية المتدرّجة من النقص إلى الكمال، إلّا من خرج عن تلك القاعدة كالمسيح ويحيى علیهماالسّلام، ممّا حكاه القرآن عن أحوالهما ،

ص: 29


1- سورة مريم : الآية 47

فإنّما ذلك من خوارق العادة، وليس كلّ إنسان كذلك .

وعلى هذا فقول إبراهيم علیه السّلام في الكوكب: «هَذَا رَبِّي»، وكذا قوله الآتي في القمر والشمس ليس من القطع والبناء اللذين يعدّان من الشرك ، وإنّما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته وتؤيّده ، فكا علیه السّلامن في حالة الترقّب والانتظار .

لها ولكن يرد عليه : بأنّ ما ذكره إن كان من مجرّد الفرض وهو غير مستحيل ولو في المستحيلات ، فهذا أمر صحيح في حدّ نفسه، ولكنّه غير نافع في مثل المقام ، وإن كان المراد أنّه الواقع في الإنسان - كما يقتضيه ظاهر عبارته - فهو الحقّ الذي لا محيص عنه ، وليس إرسال الرُّسل وإنزال الكتب الإلهيّة إلّا لهذا الغرض، وهو نهوض الإنسان من النقص إلى الكمال، وتحصيل العلم في عقيدته ، كما ذكره ، ولكنّه لا ينطبق على إبراهيم علیه السّلام الذي احتفى به ربّه العظيم، فآتاه ما لم يؤت غيره من الأنبياء والمرسلين ، كما عرفت ، وسيأتي في الموضع المناسب أنّ الأنبياء والمرسلين قد احتفى الله تعالى بهم، ومنحهم من الاستعداد والقابلية والفهم والعلم، وليس ذلك من خوارق العادة، بل قد يحصل لأولياء الله الصالحين كمريم العذراء، قال تعالى في حقّها : »يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى : نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» (1) ، فليس إبراهيم علیه السّلام خارجاً عن هذا الركب العظيم.

ولعلّه من أجل ذلك عَدَل عمّا ذكره أخيراً، وقال : بأنّ الذي يتأيّد بما حكاه الله تعالى عنه في سورة مريم فى محاجّته أباه الآية 47؛ أنّه علیه السّلام على علم بحقيقة الأمر، وأنّ الذي يتولّى تدبير أمره ويحفى به ويبالغ في إكرامه هو الله سبحانه دون غیره.

فالحقّ هو الذي ذكرناه، من أنّ ما ورد في الآية وغيرها من السنن الاجتماعية الدائرة حتّى يومنا فى أنّه جار مجرى التسليم والمجاراة فراجع .

ص: 30


1- سورة آل عمران : الآية 42

البرهان على نفي الربوبيّة ما سواه عزّ وجلّ

قوله تعالى : «فَلَمَّا أَفَلَ».

مادّة (أفل) تدلّ على الغيبوبة بحيث ينقطع عمّن ظهر له واطلّع عليه ويلازمه الغروب، فيكون تفسیره به باللازم ولم ترد في القرآن الكريم إلّا ثلاث مرات كلّها في هذا الموضع الذي يراد فيه إثبات الربوبيّة الكبرى الله تعالى، بنفي صفات المربوبين عنه ، ولعلّه يرجع إلى أنّ الربّ الذي يرعى شؤون مربوبه لا يمكن أن يغيب وينقطع عنه .

قوله تعالى : «قَالَ لا أُحِبُّ الأَفِلِينَ»

برهان عظيم يدلّ على نفي ربوبيّة ما سواه عزّ وجلّ مهما كان، وتأتى عظمته من أنّه له أوجهاً متعدّدة يكفي واحدٌ منها على المطلوب ، يستفيد منه العوامّ والخواص وأخصّ الخواصّ.

الوجه الأوّل : إنّ إثبات الأقول للرب يستلزم الانقطاع عن مربوبه ، ولا يستقيم تدبير الكون مع غياب الربّ، وهو دليل قويمٌ يفهمه عامّة الناس من دون حاجة إلى فكر عميق ، وهو من سمات حجج إبراهيم علیه السّلام؛ ومن هنا اقتصر على الأفول دون ذكر البزوغ ونحوه، مع أنّ كلّها من تبدّل الأحوال ، لأنّ الأُفول تبدّل مع احتجاب وانقطاع ، كما عرفت ، ولا يمكن أن يكون الربّ منقطعاً عن مربوبه.

الثاني : إنّ الأُفول من صفات الجسمانيّات ، لأنّه التغيّر في الأحوال ، كالمنتقل في المكان وهما من صفات الحدوث والإمكان المستحيلين على الربّ القديم الأزلي الأبدي . وهذا برهان علمي إلى من عنده نوع من العلم والمعرفة .

الثالث : إنّ نفي الحبّ عن الآفلين كناية عن عدم عبادة الآفلين ، لأنّ نفي المحبّة تستلزم نفي العبادة بالأولى .

الرابع : إنّ الربوبيّة والمربوبية تقتضي الارتباط بين الربّ والمربوب ، وهو يقتضي التبعيّة التكوينية بينهما ، ولا يتحقّق الحبّ بالنسبة إلى المتغيّر الفاني ، فنفي

ص: 31

الحبّ لبيان هذه الجهة التي تنافي جعل المتغيّر الفاني ربّاً.

الخامس : إنّ المحبّة إنّما تأتي من الجمال الذي يكون في الطرف الآخر، فينبهر به ويخلب قلبه والمحبّ في هذه الحالة لا يلتفت إلى الفناء المعجّل له لاستغراقه في حبّه ، فإنّ قوام الحبّ إنّما هو الدوام، ولو كان في الأُمور المادّية التي تعتمد على الزوال والفناء، فضلاً عن حبّ الجمال المطلق ، فلابد أن يكون الرب المحبوب ثابت الوجود غير متغيّر الأحوال ، وهذا النوع من البرهان أقرب إلى الخطابي منه.

السادس : إنّ المربوبيّة والعبودية متقوّمة بالحبّ، فلا عبادة إلّا بالحبّ ، كما ورد في الحديث المعروف المروي عن الصادق علیه السّلام «هل الدِّين إلّا الحبّ»، وقد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ الموجودات قائمة بعشقها للجمال المطلق، وإلّا كانت عُرضة للفناء والزوال ، وقد بيّن علیه السّلام أنّ أُفول الكوكب يستلزم فناء المربوب الا العابد له ، وهو دليل على نفي المحبّة ، فلابدّ أن يكون الربّ أزليّاً أبديّاً دائم الجمال منزّها عن المتغيّرات والسلوب ، فعدم المحبّة دليل على نفي الربوبيّة والأُلوهيّة، لفقدان الجمال الأزلي الأبدي ، ومثل هذا البرهان يرجع إلى الشهود ، وهو دليل الصديقين ، فاجتمع في هذه الآية المباركة أنواعٌ من الحجج ليستفيد كل واحد منها حسب استعداده و قابلیته.

ومن ذلك يظهر السرّ في أخذه علیه السّلام وصفاً مشتركاً بين الكوكي وبين القمر الام والشمس لنفي ربوبيّة غير الله تعالى، وتكرار ما احتجّ به في الموارد الثلاثة ، فإنّه إمّا يرجع إلى تعدد المخاطبين واختلافهم في المعتقد، أو في الاستعداد والقابلية ، أو لتثبيت الحجّة تلو الحجّة لكونهم أهل عناد وضلال .

وأمّا القول بأنّه علیه السّلام لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر والشمس، وأنّهما يغربان كالكوكب . فهو بعيدٌ في نفسه وبعيد عن ساحته علیه السّلام، لأنّه لم يدخل في

ص: 32

الاحتجاج على قومه إلّا بعد حصول اليقين له من إراءته ملكوت السماوات والأرض ، فكانت كلّ الموجودات ناطقة بالوحدانية الكبرى ، وشاهدة على الربوبيّة العظمى ، فلم يحصل عنده الغفلة مهما كان متعلّقها ، وهو الذي قال : «أَتُحَاجُونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي» .

قوله تعالى : «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعاً» .

البزوغ هو الطلوع منتشر الضوء، مأخوذٌ من بزغ البيطار الدابّة إذا أسال دمها ، كما ذكره الراغب، وقال الأزهري: إنّه من الشقّ كأنّه بنوره يشقّ الظلمة. ومنه بزغ الناب أي ظهر، وبزغ الدم أي سال ، ولم يرد هذا اللّفظ في القرآن الكريم إلّا هنا ، وكأنّ لهذين اللّفظين (أفل ، وبزغ) اللّذين احتجّ بهما إبراهيم علیه السّلام الدلالة التامّة على نفي ربوبيّة غير الله تعالى . وتقدّم الكلام في وجه الارتباط بما قبله ، فراجع.

وإنّما ذكر البزوغ في القمر دون الكوكب ، لأنّه بإظلام اللّيل تظهر الكواكب فلا يحتاج إلى الترقّب حتّى تبزغ بخلاف القمر والشمس . أو لأجل التنويع في ذكر التبدّلات والتحوّلات والانتقال من حال إلى حال التي هي من لوازم الإمكان والحدوث، وهما منفيّان عن الربّ .

وقد اختلفوا في وجه التعقيب بالفاء، فذكروا وجوهاً :

فذهب بعضهم إلى أنّ التعقيب عرفى، مثل تزوّج فولد ، وفيه الإشارة إلى أنّه لم تمض أيام وليالٍ بين ذلك .

وذكر آخرون: أنّ ذلك لم يكن في ليلة واحدة، فرأى الكوكب في ليلة ، ورأى القمر في التالية لها .

وقيل : يحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة، وهي التي رأى الشمس في أوّل نهارها ، وفصّل في وجهه بما لا يرجع إلى محصّل .

ص: 33

والظاهر أنّ التعقيب راجع إلى أصل الاحتجاج والتنوّع فيه، فتارةً في الكوكب ، وأُخرى فى القمر ، وثالثةً فى الشمس، وليس النظر إلى أيّ واحد من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، ولا يضرّ عدم معرفتها بأصل الموضوع الذي سيق إليه الكلام ، وهو الاستدلال على أنّ القمر أيضاً لا يصلح أن يكون ربّاً كالكوكب ، كما أنّ الشمس كذلك، فإنّها تشترك في شيء واحد وهو الحدوث والإمكان ، كما عرفت . نعم قد يقال إنّ سياق الكلام يدلّ على أنّ ذلك كان في ليلة واحدة.

قوله تعالى : «هَذَا رَبِّي».

الكلام فيه نظير ما تقدّم إنّما هو على سبيل المجاراة والتسليم ، كما عرفت . وفي الكلام إيماءٌ إلى أنّه كان هناك قوم قائلون بربوبيّة القمر كالكوكب ، كما أنّ قوله تعالى الآتي في الشمس أيضاً فيه الدلالة على ذلك، لاسيّما قوله: «يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ». ولكن القول بربوبيّة الكواكب والأجرام السماوية كالقمر والشمس كانت متعارفة في العصور القديمة ، وما زال الأمر كذلك . وأمّا الإحتجاج المبنيّ على التسليم والمجاراة، والاستدلال بالحدوث والامكان والتبدّل والتحوّل، التي هي من صفات الأجسام، إنّما يدلّ على نفي الربوبيّة وإنكارها عنها جميعاً. فلا يضرّ وجودهم وعدمه بأصل المقصود ، كما تقدّم مكرّراً.

قوله تعالى : «فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ».

بيان أنّ الهداية توفيق ربّاني ومن شؤون الربوبيّة العظمى ، فتكون الهداية إلى الربّ تعالى هي الحقّ الذي لا يحاد عنه ، وتنبيهٌ لقومه على أنّ من اتّخذ القمر وغيره ربّاً وإلهاً، الذي هو نظير الكوكب فى الأُفول، فهو ضالٌ، فتكون الجملة كناية نه ، للإعلام بأنّ ما وصف به الكوكب من الأُفول لا يختصّ به، بل يصدق على كلّ

ص: 34

ما يشابهه ، فيكون الإعتقاد به ضلالاً ، فمَن أصرَّ عليه يكون واحداً من الضالّين . وإدراج نفسه علیه السّلام مع القوم الضالّين، إنّما هو من كمال النَصَفة منه ، وفيه التعريض بضلالهم، وهو أبلغ من التصريح ، ومنه يظهر الوجه في رجائه للهداية الالهية، لا لكونه مترقِّباً لما يفيض ربّه عليه من النظر الصحيح والرأي اليقين، سواءً كان بحسب الحقيقة أو بحسب الظاهر ، كما ذكره بعض المفسِّرين، فإنّه لا يتلاءم ما ذكرنا سابقاً من أنّه علیه السّلام لم يدخل في الحجاج مع قومه إلّا بعدما أفاض الله تعالى عليه من اليقين.

وإنّما تدرّج من عدم المحبّة إلى الضلالة ، لأنّ نفى المحبة يدلّ على بطلان ربوبيّة غير الله تعالى مطلقاً، وبعد تنبّههم إليه، فيكون إصرارهم على اتّخاذ غيره سبحانه ضلالاً.

وفي الآية الدلالة على أنّ استدلاله علیه السّلام ليس لنفسه بل كان محاجّة لقومه ، كما عرفت سابقاً. فما ذكر بعض السادة المفسِّرين من أنّه كان على يقين بأنّ له رباً إليه تدبير هدايته وسائر أُموره، وإنّما كان يبحث واقعاً أو ظاهراً ليعرفه أهو الذي فطر السماوات والأرض بعينه، أو بعض من خلقه ، فلمّا بانَ له أنّ الكوكب والقمر لا يصلحان للربوبيّة لأُفولهما ، توقّع أن يهديه ربّه إلى نفسه ويخلّصه من ضلال الضالّين .

ويردّ عليه: إنّه لا يتلاءم مع ظاهر الآيات الواردة في المقام ، فإنّه كان على يقين في أصل العقيدة وخصوصيّاتها، ومصداق ما يعتقده من أنّه الله الواحد الأحد الربّ الذي لا ينازعه شيء، المنزّه عن كلّ نقص ، وقد عرف الحجّة والاستدلال، فلا يصحّ أن يكون باحثاً عن مصداق ما يعتقده ، فكلّ ما ورد في الآية الكريمة إنّما هو على سبيل التسليم ، ومن المعلوم أن حصول اليقين لا ينافي ذلك .

ص: 35

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةٌ»

قوله تعالى : «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي» .

تقدّم الكلام فى وجه الاتّصال بما قبله من اجل حرف الفاء، ودلالة قوله: «هَذَا رَبِّي» بما لا مزيد عليه ، فراجع ما ذكرناه.

لكن لابدّ أن يكون بزوغ الشمس بعد غروب القمر ، وهو إنّما يكون في بعض ليالي النصف الأخير من الشهر القمري، فشاهد الكوكب في المغرب حال الانحطاط، ثمّ شاهد طلوع القمر من ناحية المشرق، وبعد غروبه رأى طلوع الشمس .

إنّما البحث في مجيء اسم الإشارة مذكّراً، مع أنّ المشهور أنّها مؤنّثة ، فأُنّثت أوّلاً على المشهور، فاختلفوا في تذكير الإشارة على وجوه عديدة :

فقيل : إنّها على اللّغة القليلة التي تُذكّر وتُؤنّث .

وفيه : أنّه بعيد كما لا يخفى .

وقيل : إنّه مراعاة للخبر الذي هو الأولى بالمراعاة .

وأورد عليه بأنّ قوم إبراهيم كانوا يرون من الآلهة إناثاً، فمن الواجب حينئذٍ أن يطلق على الشمس ربة ، لمكان التأنيث .

وفيه : إنّ من يقول بإتباع الضمير واسم الإشارة للخبر دون المرجع، إنّما يذهب إليه فيما إذا اختلف المرجع مع الخبر في التذكير والتأنيث ، فلا يستشكل عليه بما ذكر .

وقيل : إنّه جعل المبتدأ مثل الخبر، باعتبار كونهما عبارة عن شيء واحد .

ولكنه أوّل الكلام .

وقيل : إنّه بتأويل الجرم المشاهد من حيث هو المسمّى ، أو بتأويل الذي أشير إليه ربي ، أو هذا الذي أرى ربِّي .

وفيه : إنّه يحتاج إلى قرينة خاصّة ونكتة لتصحيح التأويل ، وإلّا جاز في كلّ

ص: 36

مورد ، ولا يقول به أحد .

وقال أبو حيان : إنّ أكثر لغة العجم لا تفرّق فى الضمائر ، ولا في الإشارة بين المذكّر والمؤنّث ، ولا علامة عندهم للتأنيث ، بل المؤنّث والمذكّر عندهم سواء .

وفيه : إنّ القرآن إنّما يحكى كلام الأنبياء وغيرهم من غير المتكلِّمين باللغة العربية بهذه اللّغة وحسب قواعدها .

وقيل : إنّ تذكير الإشارة إنّما هو لتعظيم الشمس، حيث نسب إليها الربوبيّة صوناً للإله عن وصمة التأنيث .

وردّ: بأنّ قوم إبراهيم ومثلهم مشركو العرب لم يعدّوا الأُنوثة من النواقص التي يجب أن ينزّه عنها الآلهة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً» (1)، فقد كانوا يُسمّون آلهتهم إناثاً، والعرب كانت تقول : أُنثى بني فلان يعنون به الصنم الذي يعبدونه.

وفيه : إنّ وجود الآلهة الأُُنثى للأقوام المختلفة، لا يسوّغ تأويل كلام نبيّ الله الذي أراد تنزيه ساحة الإله الذي يعبده وربّه من كلّ نقص، لئلّا يتّخذ كلامه ذريعة لإثبات الإله الأُنثى عند من يقول بالشرك .

وقيل : إنّ قوم إبراهيم علیه السّلام كانوا يعدّون الشمس من الذكور ، وقد أثبتوا لها زوجة يسمّونها (انونيت)، فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم.

وردّ : بأنّ اعتقادهم كذلك لا يصحح تبديل تأنيث اللّفظ تذكيراً، ولا يخفى أنّ ذلك هو الذي يصحّ التمسّك به في ردّ جملة من الأقوال المتقدمة.

وقيل : إنّ إبراهيم علیه السّلام كان يتكلّم باللّغة السريانية وهى لغة قومه ، ولا يفرّق فيها في الضمائر وأسماء الإشارة في التذكير والتأنيث ، والقرآن الكريم احتفظ في حكاية قوله علیه السّلامعلى ما أتى به من التذكير.

ص: 37


1- سورة النساء : الآية 117

ما ورد عن حياة إبراهيم علیه السّلام

وأورد بعضهم عليه: بأنّ إبراهيم وإسماعيل علیهماالسّلام كانوا يتكلّمون باللغة العربية القديمة، وهي لغة قومه على ما ثبت عند علماء الآثار القديمة، وأطال الكلام في ذلك ثم قال إنه صرح بعضهم بأنّ الملك حمورابي الذي كان معاصراً لإبراهيم علیه السّلام عربي ، وحمورابي هذا ملك البِرّ والسّلام، ووصف في العهد العتيق بأنّه كاهن الله العليّ ، وذكر فيه أنّه بارك إبراهيم، وأنّ إبراهيم أعطاه العشرة من كلّ شيء ، ثمّ ذكر قصة إسكان إبراهيم ولده إسماعيل مع أُمه هاجر علیهم السّلام مكّة، وتزويج إسماعيل من قبيلة جُرهم، وزيارة إبراهيم علیه السّلام المتكرّرة لهم كلّ ذلك يدلّ على تكلّمه بالعربية .

وفيه : إنّ كلّ ما ذكره يحتاج إلى دليل وهو مفقود . نعم اختلاط الأُمم بعضها مع بعض بالقهر والغلبة أو بالسلم يوجب الأخذ والعطاء في كثير من الأُمور، ومنها اللغة والكلمات، فلا ترى أُمّة تخلو لغتها من كلمات لغة أُخرى، وهذه هى سُنّة الحياة ، ولكن ذلك لا يوجب تبدّل اللّغة بكاملها إلى لغة أُخرى، وهذا الأمر الاجتماعي موجود حتّى في العصر الحاضر ، فهناك أقوام وملل مجاورة للعرب ، وتحقّق التبادل بينهم، ولكنّه لم يوجب تبدّل العربية إلى لغتهم، ولا تلك اللّغة تحوّلت إلى العربية ، وهذا واضح، فلا دليل على أنّ قوم إبراهيم كانوا يتكلمون العربية القديمة بحكم مجاورتهم للجزيرة العربية .

ثمّ إنّ الأمر الأعجب أنّه اعتبر حمورابي ملك البِرّ والسلام، وكاهن الله العلىّ، وغير ذلك ممّا ذكره ، فإنّه غير مطابق لما هو الصحيح من التاريخ ، كما تشهد عليه الكشوفات الحديثة التي استخرجت من خرائب مملكته، أنّ شريعة حمورابي وإن كانت أقدم القوانين المدوّنة فى العالم، ولكنه استمدّها من الآلهة التي كانت معروفة في عهده، فهو وثني . أمّا معاصرته فهو باطل فإنّه - كما يقال - حكم ما بين ( 1686 - 1728 ق.م) أو ما بين (2232 - 2287 ق.م) . وأمّا

ص: 38

إبراهيم علیه السّلام لها فكان يعيش حدود سنة ( 2000 ق.م) .

وقيل : إنّ إشارته إلى الشمس بلفظ المذكّر ، تُشعر بأنّه علیه السّلام ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدنا إنّه جرم سماوي يطلع ويغرب، بحسب ظاهر الحسّ في كلّ يوم وليلة ، وإليها تستند الآثار المعروفة المنسوبة إليها، ثمّ ذكر أنّ إتيان الإشارة بلفظ المذكّر هو الذي يستريح إليه من لا يميّز المشار إليه في نوعه .

ثمّ قال : ولعلّه إنما كان ذلك من إبراهيم علیه السّلام أوّل ما خرج من مختباءٍ كان قد اختبأ فيه، ولم يكن له عهد بما في الخارج، فرأى جرماً هو كوكب ، وجرماً هو القمر، وجرماً هو الشمس، وكذا شاهد واحداً منها - ولم يكن يشاهد إلا جرماً مضيئاً لامعاً - فقال هذا ربّي على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامّة .

ويرد عليه : إنّ ما ذكره إنّما هو فرضٌ بعيد، ولاسيما عن مثل إبراهيم علیه السّلام الذي عاشر ،قومه، وعرف ما عرف عنهم منهم يعبدون الأصنام، ويعبدون الكواكب والقمر والشمس ولا يمكن له تجاهل ذلك، كما لم يمكنه تجاهل طلوع الشمس وغروبها، وما يترتّب عليها من الآثار، وفرض كونه كان مخفياً ولم يكن له عهد بما في الخارج أبعد منه ، وخلاف الآيات التي وردت في شأنه التي تدل على أنته كان على دراية تامّة بما يجري حوله .

ثمّ على فرض التنزّل، والقول بأنته أشار إلى الشمس باعتبار كونها جرماً، كالكوكب والقمر ، فهو رجوع عما ذكره في كلامه من أنّ التأويل بالجرم ونحوه يحتاج إلى نكتة وهي مفقودة ، فراجع .

فالحقّ أن يقال: إنّ إبراهيم علیه السّلام إنّما كان في مقام الاحتجاج وإبطال ربوبيّة الأجرام كلّها، سواء كانت ممّا يعبدونها أو لا، فالموضوع الأساس في دعوته نفي كونها ربّاً ، وعليه تكون الضمائر واسم الإشارة قد جرت على طبق القاعدة ، ففي الضمائر وأسماء الإشارة كانت مؤنثة ، كما في (بازغة) و (أفلت) لكون المرجع

ص: 39

مؤنّثاً ، وفي مقام إثبات الموضوع الذي أراد إثباته وهو نفي الربوبيّة ، أشار بالمذكر فقال «هَذَا رَبِّي» ويرشد إليه قوله الآتي «هَذَا أَكْبَرُ» .

فما ذكر من الوجوه إن رجع إلى ما قلناه فلا بأس بها ، وإلّا ففيها إشكال واضح ، كما عرفت .

قوله تعالى : «هَذَا أَكْبَرُ».

بيانُ الفساد اعتقادهم بذكر بعض وجوه التفاضل، فإنّه لو كان المدار عليه لكانت الشمس هي الربّ، فإنّها أكبر الأجرام السماوية التي نشاهدها، مضافاً إلى تأكيد ما رامه من إظهار النصفة، والإعتذار للعود إلى الربوبيّة المفترضة المتكرّرة مع الخطأ في افتراضها .

قوله تعالى : «فَلَمَّا أَفَلَتْ».

أي أفلت كما أفل غيرها، لكن أقولها أوجب احتجاب ضوئها المُشرِق فحصلت الوحشة ، وكانت أشدّ من احتجاب القمر والكوكب .

قوله تعالى : «قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

بيان للنتيجة التي تترتّب على بطلان ما اتّخذوه أرباباً من دون الله سبحانه . وحجاجهم عليه متدرج بهم فأظهر عدم تعلّق حبّه بالشرك، ثمّ الإعلام بأنّ الشرك ضلال ، فقال «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ». ثمّ التصريح بالتبرو عنه ، ولم يقتصر في الاحتجاج عليهم بأفول الشمس، مع إنه يلزم من امتناع الالها صفة الربوبيّة فيها امتناعها في غيرها بالأولى، وأنّ فيه رعاية الإيجاز والاختصار ، مبالغةً في التقرير والبيان على ما هو اللّائق بذلك المقام ، ولتثبيت الضلال وعدم الأهلية، وتمهيداً للتصريح بالتبرّؤ.

ص: 40

و(ما) مصدرية أو موصولة، أي بريء من شرككم ، أو من معبوداتكم التي اتخذتموها أرباباً من دون الله تعالى . والبراءة من الشيء التنحّي عنه لاستقباحه .

فقال - بعد جهاده مع قومه - مخاطباً للكلّ، صادعاً بالحقّ، إنّه بريء من الشرك الذي عليه قومه ، وبعد التبرّي لابدّ له من بيان العقيدة الحقّة التي يجب الإذعان لها ، وهذا هو الذي يبيّنه قوله الآتى .

ما يتعلّق بتوجيه الوجه ومعنى الحنيف

قوله تعالى : «إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ».

بيان للعقيدة الصحيحة التي هي التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية .

وتوجيه الوجه كناية عن الإقبال بالعبادة والطاعة ، والخلوص في الدِّين، فإنّ من لوازم العبودية تعلّق العبد بربّه، والاستجابة لدعوته ، والرجوع إليه ، والاستمداد منه في جميع شؤونه ، فيكون الله تعالى هو وحده الرب الذي يستحق العبادة ، فالعبارة كناية عن العبادة الخالصة ، وتقدّم ما يتعلّق بها فيما سبق ، فراجع .

ومادة (فطر) تدلّ على الشق والإختلال، سواء كان على سبيل الفساد مثل قوله تعالى : «هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورِ» (1) أي اختلال ، أو كان على سبيل الإصلاح، مثل قوله تعالى : «السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» (2)، ومنه فطرت العجين، إذا عجنته فخبزته من وقته ، والفطر أي الكمأة لأنّها تفطر الأرض ، وفطر الله الخلق إيجاده وإبداعه من

غير مثال .

وأمّا الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، أي أبدع وأثبت فيها معرفة الله تعالى الله بما لها من القوّة على الدخول في معرفة ما يرتبط بالإنسان، ممّا يوجب كماله

ص: 41


1- سورة الملك : الآية 3
2- سورة المزمل : الآية 18

وسوقه إليه ، ومنه معرفة الإيمان، كما في قوله تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله» (1) ، وتقدّم ما يرتبط بهذه الكلمة في آية 14 من هذه السورة فراجع.

كما أنّ مادّة (حنف) تدلّ على الميل عن الضلال إلى الاستقامة والدين الحقّ ، ويقابله الجنف وهو الميل عن الاستقامة إلى الضلال والأحنف من في رجله میل ، قيل : سمّى بذلك على التفاؤل .

وقيل : استعير للميل المجرّد والمراد به عدم الانحراف عن جادّة الحق والصواب من دون انحراف إلى يمين أو يسار.

واختلفوا في اللّام الداخلة على لفظ الجلالة :

فقيل: إنّها للدلالة على كون المعبود متعالياً عن الحيّز والجهة .

وقيل: إنّها للغاية، وتفيد معنى إلى نحو قوله تعالى : «مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» (2).

وقوله تعالى : «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ» سورة لقمان : الآية 22 ، ومثلهما كثير .

وقيل وجّهت وجهى الله، وتوجهت إليك، فيكون ذكر اللّام هنادون (إلى) ظاهر.

والحقّ أنّ اللّام في خصوص المقام تدلّ على عمق العبودية لله تعالى، وشدّة الخلوص ، فقد جعل علیه السّلام نفسه ملكاً له عزّ وجلّ، منقاداً ومطيعاً له سبحانه ، ولا ريب أنّ أقواله توافق أفعاله ، وهما يدلّان على كونه مظهراً للعبودية الحقّة ودين الحقّ ، فصار آيةً من آيات الله الدالّة على وحدانيّته وربوبيّته ، فكان كما وصفه ربّه: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةٌ قَانِتَا لِلَّهِ» (3).

وإنّما ذكر النعت الخاصّ بربّه الدالّ على انتهاء الوجود إليه ، وأثبت الصلة

ص: 42


1- سورة الزخرف : الآية 87
2- سورة البقرة : الآية 112
3- سورة النحل : الآية 120

والموصول ، لإظهار العبودية والانقياد لمن اعترف الجميع بأنّه خالق السماوات والأرض وفاطرهما ، والذي ينتهى إليه إيجاد كلّ شيء وقد أتمّ التوحيد بنفي الشريك عنه عزّ وجلّ بقوله (حنيفاً)، من دون ميل عنه إلى غيره ، وأكّده بقوله «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»؛ لأنّ المقام يقتضي التوكيد بأنحاء مختلفة ، فكان كلامه علیه السّلام مركّباً من السلب والإيجاب، وهو مفاد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) الذي فيه نفى الشريك والأّلوهيّة عن غيره، وإثبات التوحيد والمعبودية الله سبحانه .

قوله تعالى : «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ» .

نفي للشرك بكلّ أنواعه، فهو لم يكن من المشركين بإشراك شيء من خلقه به تعالى في الصفات ، والأفعال، والعبادة، والإسلام. والجملة تدلّ على غاية التنزيه، حيث جعل نفسه منصرفاً عن الشرك إلى إثبات أن لا شريك له سبحانه ، كما أنّه لم يرد إثبات وجوده تعالى، لأنّه أمر مفروغ عنه عند الجميع ، وقد سلّم أنّ لجميع الأشياء إلهاً فاطراً لا شريك له في فعله من الفطر والإيجاد، وهو الله تعالى الذي يرجع إليه التدبير والربوبيّة، وانقاد له انقياداً كاملاً، حيث جعل نفسه عبداً مطيعاً لربّه، يدبّر أمره ويرعى شؤونه، لا يخرج عن طوع إرادته عزّ وجلّ، ملازماً للصراط المستقيم الذي أمر سبحانه عباده بإتّباعه وأخيراً أصرّ على عدم كونه من المشركين، فتمّ كلامه على إثبات التوحيد الخالص عن شوائب الشرك، وهو دين الفطرة الذي أصرّ عليه إبراهيم علیه السّلام في دعوته الإيمانية، حتّى اعتبر دينه وملّته هي الحنيفية الموافقة للفطرة التي أودع الله عزّ وجلّ فيها معرفته الداعية إلى توحيده ونزاهته عزّ وجلّ، وجميع ما يتطلّبه الإنسان في مسيره التكاملي ، كما أودع فيها الحسن والقبح اللّذين هما أساس الشريعة والأخلاق الفاضلة ، فقد كملت نفسه الشريفة، وتنزّهت عن ظلمة الهوى والشهوات، ولم يلتفت إلى اليمين واليسار، ولم يتوجّه إلّا إلى الحضرة الأحديّة، فإنّ شوق الخُلّة نصبه في محاذاة

ص: 43

وجهه المقدّسة عن الجهات .

فتكون الآيات الكريمة من أهمّ الحجج التي تدل على التوحيد، وتثبت الربوبيّة العظمى الله تعالى الذى فطر الأشياء من العدم، وأفاض عليها نعمة الوجود، وشملتها ربوبيّته الكبرى، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وخلص عن كلّ أنواع الشرك ، وأصبح إبراهيم علیه السّلام رائد هذه الدعوة بعد أن اكتمل بها، فصار مصداق الفرد المؤمن الكامل الذي لم ينحرف عن الصراط المستقيم ، وقد فضّله الله تعالى أن أمر أنبياءه العظام بإبلاغ ما اعتقده إلى الناس وأمر المؤمنين بإتّباع ملّته التي كانت الحنيفية التي شرعها الله في دين الإسلام، ومن أهمّ ما يميّز منهاجه في سبيل نشر كلمة التوحيد والدعوة إلى دين الحقّ، أنّ أورد حججاً واضحة، وبراهين ساطعة يسهل على كلّ سامع قبولها، ولا يمكن له ردّها إلا على سبيل الجحود، كما قال تعالى «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَتَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» (1) . فكانت حججه يقينيّة ، وإن اختلف . العلماء في نوعها فإنّه لا يضر بها ، كما لا يضرّ كونها شخصيّة، فإنّها عندهم في حكم الكلّية ، بل يمكن القول بأنّها موافقة للفطرة، ويدعو إليها العقل السليم، ولعلّه من أجل ذلك أمر الله سبحانه جميع الأنبياء من بعده باتّباعها وإبلاغها للناس . ومع ذلك فقد وقع المفسِّرون لآيات المقام في خبط واختلاف، وإن رفعهما يقتضى التنبيه على أُمور:

الأوّل: لا ريب أنّ ما استدلّ به إبراهيم علیه السّلام لإثبات عقيدة التوحيد ونبذ الشرك، مثل قوله : «لا أُحِبُّ الأَفِلِينَ».

وقوله : «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ».

وقوله : «إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

وقوله : «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» .

ص: 44


1- سورة النمل : الآية 14

وقوله: «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ».

كلّها حجج برهانية يقينية قد أفاضها الله تعالى عليه من مشاهداته ملكوت السماوات والأرض ، وما أراه سبحانه من الآيات الباهرات فحصل له اليقين بكلّ ما يرتبط بهذه الدعوة المباركة، فأرشد إلى ربوبيّة الله تعالى وتدبير ملكه من دون اتّخاذ ندٍّ ولا شريك ، وهذا ما يدلّ عليه ظاهر الآيات الكريمة.

ولكن يظهر من بعض المفسِّرين: أنّ ما أخذه إبراهيم علیه السّلام كان من الحجج العامّية ولم تكن برهانية ، فقد كان كلامه تعريضاً خفياً لا برهاناً نظريّاً جليّاً، يعرّض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب، لأنّهم كانوا يعبدون ما تحتجب عنهم ، ولا يدري شيئاً من أمر عبادتهم ، وهذا هو السبب في جعله الأفول منافياً للربوبيّة دون البزوغ والظهور ، بل بنى عليه القول بها، فإنّ من صفات الربّ أن يكون ظاهراً، وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه .

ويرد عليه : بأنّ ما ذكره مجرد كلام خطابی، لا يستند على أساس قويم بل هو مخالف لظاهر الآيات الشريفة، التي تدلّ على أنّ حجج إبراهيم علیه السّلام مأخوذة من مشاهداته الملكوتية التي أراها الله تعالى له، فأصبح من الموقنين ، وأنّ أساس حججه ما كان يرجع إلى إثارة المعرفة عند الناس كالأُفول ، وربما ترجع إلى استحالة اتّصاف الربّ بصفات المربوب الممكنة الحادثة ، ولعلّه السرّ في جعل حجّته عدم حبّه للآفلين ، وقد عرفت أنّه لا يتعلّق بما هو فان وزائل، فلو كان هناك حبّ يتعلّق بما هو كذلك ، فلابدّ أن يكون حاصلاً عن الغفلة ، ولذا يذكّر القرآن الكريم الإنسان بفناء الدُّنيا وما فيها، حتّى لا يركن إليها، ولابدّ أن يكون الحبّ متعلّقاً بما يتّصف بالبقاء والدوام، وهو منحصر بالله تعالى الربّ الأزلي الأبدي، فقال: «مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ» (1)، كما أنّ من سمات حجج

ص: 45


1- سورة النحل : الآية 96

إبراهيم علیه السّلام كونها موافقة للفطرة الإنسانية، وهي تدعو إلى حبّ ما له البقاء، إلّا أن تغلّب اللّذة والشهوة تصرف الإنسان عمّا هو الأهمّ عنده، فتحجبه عن التأمّل في فنائه وزواله ، وأخذ النتيجة من ذلك بأنّ من لم يكن له البقاء والدوام لا يستحقّ الربوبيّة . وهذا النوع من البراهين يكون يقينياً ، كما هو معلوم .

وأمّا ما ذكره من أنّ الظهور من صفات الربّ، وهو لا يفرّق عن البزوغ فلا يكون منافياً للربوبيّة ، فإنّه خلط بين اللّفظين ، فإنّ البزوغ من صفات الممكن لأنّه ظهور بعد خفاء، وهو ينافي الربوبيّة بخلاف الظهور .

الثاني : الأُفول كسائر صفات الممكنات الدائر أمرها بين الحدوث والزوال والفناء ، وقد عرفت الوجوه في تعلّق عدم الحب بها ، كما تقدّم الوجه في الاقتصار عليه دون غيره، لأنّه أظهر الصفات التي تؤثّر في المخاطبين، بما يترتّب عليه من الاحتجاب والانقطاع والظلمة ما لم يترتّب على البزوغ والظهور. فما ذكره الزمخشري من أنّ الاحتجاج بالأفول أظهر لعله يشير إلى ما ذكرناه .

وأمّا ما ذكره بعض السادة المفسِّرين من أنّ المأخوذ في الحجّة عدم الحبّ لا الأُفول راداً به الزمخشري فهو مخالف لما تقدّم من أنّ الاحتجاج إنّما هو بالأُفول وبعدم الحبّ به كليهما، وأنّ الأوّل طريق إلى الثاني، وهو أيضاً قد صرّح به في ضمن كلامه فراجع.

الثالث : المستفاد من آيات المقام أنّ المخاطبين من قوم إبراهيم علیه السّلام على أصناف، فإنّ منهم من كان يعبد الأصنام، وهم الذين حاججهم في أوّل الأمر بقوله: «أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةٌ»، ومنهم من كان يعبد الكواكب والأجرام السماوية ، فإنّ جل قومه كانوا من أرباب النجوم ، وهؤلاء كانوا على اختلاف في الرأي، فقد كان بعضهم يعبدها على أنتها العلل العليا في العالم السفلي، وإليها ينتهي إيجاده، وبيدها إعدامه وإفناؤه . وبعضهم يعبدها على أنّها أربابٌ تدير شؤون العالم ،

ص: 46

وبعضهم من اعتقد أنّها مؤثّرات ومدبّرات، وأنّ الذي بيده الأمر إنّما هي الأرواح المدبّرة، وعبادتهم كانت لها، وقد مثّلوا لها أصناماً وأوثاناً فاتّخذوها آلهة.

وقد تصدّى إبراهيم علیه السّلام للردّ على جميع تلك الأوهام والمعتقدات، فكان استدلاله، تارةً :

بعدم حبّه للآفلين المشتمل على وجوه متعدّدة من البراهين، كما عرفت.

وأُخرى: بأنّه: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ»، فيثبت الربّ الذي يرعى خلقه بالهداية والضلال.

وثالثة: يستدلّ على أنّه: «فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» فأثبت الخالق الذي ينتهي إليه الإيجاد والتدبير كلاهما .

ثمّ نفي أنواع الشرك في الذات والصفات والفعل ، ولا يصحّ الاقتصار على جانب من كلامه الشريف، وجَعْله أجزاء متقطّعة، فإنّها مترابطة متكاملة ، وحججه يقينية لا تقبل النقاش والتغيير، تدفع جميع الشبهات والاعتقادات الباطلة، حتى منكري وجود الصانع من الطبيعيّين؛ لكونها قائمة على الفطرة والبساطة، يستفيد منها الجميع كلّ واحد بمقدار معرفته .

ومن ذلك يظهر أنّ اختلاف العلماء والمفسِّرين إنّما كان في كيفيّة الاستفادة ، تلك الحجج، تبعاً لاختلاف السلائق، وما يحمله كلٌّ من العلم ، فالفيلسوف يوجّه الآيات على القواعد الفلسفية من الإمكان والحدوث ونحوهما ، أو أنّ الحجة قائمة على عدم الحبّ ، ومنهم من يوجّهها على الغيبة بعد الحضور، والخفاء بعد الظهور ، ومنهم من يوجهها على الكشف والشهود ، ولا يضرّ ذلك في دلالة تلك الحجج القويمة التي اتّفق الجميع على صحّتها ، فلا وجه للنقض والإبرام عليها بما هو المغروس عنده، بعيداً عن ظواهر الآيات، وهو لا يَسْلم من التهافت والإشكال .

ص: 47

ما ورد حول معنى الأفول

ثمّ ذكروا: إنّ أحسن ما قيل في المقام، واعتبروه جمعاً بين الوجوه المختلفة، ما قاله الرازي في «تفسيره» : الأُفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره، وإذا عرفت هذا، فلسائل أن يسأل فيقول :

الأُقول إنّما يدلّ على الحدوث من حيث إنّه حركة ، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضاً دليلاً على الحدوث، فَلِمَ ترك إبراهيم علیه السّلام الإستدلال على حدوثها بالطلوع ، وعوّل في إثبات هذا المطلوب على الأُفول؟

والجواب : لا شكّ في أنّ الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث، إلّا أنّ الدليل الذى يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلّهم إلى الله، لابدّ أن يكون ظاهراً جليّاً بحيث يشترك في فهمه الذكيّ والغبيّ والعاقل ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينيّة، إلّا أنّها دقيقة لا يعرفها إلّا الأفاضل من الخلق، أمّا دلالة الأفول فإنّها دلالة ظاهرة يعرفها كلّ أحد، فإنّ الكوكب يزول سلطانه وقت الأُفول، فكانت دلالته على هذا المقصود أتمّ .

وأيضاً قال بعض المحقّقين : الهوي في حظيرة الإمكان أُفول وأحسن الكلام ما تحصل فيه حصّة الخواص وحصّة الأوساط وحصة العوام.

فالخواص، يفهمون من الأُفول الإمكان، وكلّ ممكن محتاج غير مقطوع الحاجة، فلابدّ من الانتهاء إلى من يكون منزّهاً عن الإمكان، حتّى تنقطع الحاجات بسبب وجوده ، كما قال : «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى» (1) .

وأمّا الأوساط، فإنّهم يفهمون من الأُفول مطلق الحركة؛ فكلّ متحرِّك مُحْدَث ، وكلّ مُحْدَث فهو محتاج إلى القديم القادر، فلا يكون الآفل إلهاً، بل الإله هو الذي يحتاج إليه ذلك الآفل.

وأمّا العوام، فإنّهم يفهمون من الأُفول الغروب، وهم يشاهدون أنّ كلّ

ص: 48


1- سورة النجم : الآية 42

كوكب يقرب من الأُفول والغروب، فإنّه يزول نوره ، وينتقص ضوءه ، ويذهب سلطانه ، ويكون كالمعزول ، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهيّة .

فهذه الكلمة الواحدة، أعني قوله : «لا أُحِبُّ الآفِلِينَ« كلمة مشتملة على نصيب المقرّبين وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين .

وفيه دقيقة أُخرى، وهو أنّه علیه السّلام إنّما كان يناظرهم وهم كانوا منجّمين ، ومذهب أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعداً إلى وسط السماء كان قويّاً عظيم التأثير ، أمّا إذا كان غربياً وقريباً من الأُفول، فإنّه يكون ضعيف التأثير قليل القوّة، فنبّه بهذه الدقيقة، على أنّ الإله هو الذى لا تتغيّر قدرته إلى العجز ، وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أنّ الكوكب حال كونه فى الربع الغربي يكون ضعيف القوّة، ناقص التأثير عاجزاً عن التدبير ، وذلك يدلّ على القدح في إلهيّته، فظهر على قول المنجِّمين أنّ للأُفول مزيد خاصّية فى كونه موجباً للقدح في الهيّته . انتهى كلامه .

وكلامه لا يخلو من وجه صحيح، لاسيّما ما ذكره في أخذ صفة الأُفول دون غيرها ، وتقسيمه البرهان إلى أنواعٍ تبعاً لاختلاف النفوس، فإنّه مطابق للواقع المشهود ، وليس اختلاف المفسِّرين في توجيه الآيات الشريفة إلا من هذه الجهة، كما عرفت .

نعم لا يخلو من الإشكال في بعض خصوصيّات كلامه يظهر بالتدبر .

وأمّا الإيراد عليه: بأنّ كلامه لا يدفع شبهة الصابئين وأصحاب النجوم، لأنّهم لا يرون الجرم السماوي إلهاً واجب الوجود، غير متناهى القدرة، ذا قوّة مطلقة ، وإنّما يرونه ممكناً معلولاً ذا حركة دائمة، يدير بحركته ما دونه من العالم الأرضي.

ص: 49

فإنّه يمكن دفعه بما تقدّم من أنّ أصحاب النجوم على اختلاف شديد في الاعتقاد، ففي مرحلة سحيقة كانوا يعتقدون بأنّ الجرم السماوي المعيّن الذي يعبدونه على أنّه إله، وإن لم يكن موصوفاً بما ذكره من كونه واجب الوجود وغيره من الأوصاف المتكاملة، فإنّه كان على سذاجة في العقيدة وبساطة في الأُمور كلّها، فكانوا على عقيدة من الشرك الذي نفاه إبراهيم علیه السّلام مطلقاً بقوله «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وفي مرحلة أُخرى تطوّرت تلك العقيدة، واعتبروا النجوم مدبرات ، وفي مرحلة ثالثة اعتبروها أرباباً آلهة لها من الصفات العليا.

وبالجملة: كانت عقائدهم متفاوتة على ما تدلّ عليه الآثار التي كشفتها العلوم الحديثة ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

وأمّا الصابئة الذين هم من أتباع إبراهيم علیه السّلام على ما يدّعون، ويعتبرون الليل

أنفسهم من الموحِّدين، فإنّ عقائدهم لا ترتبط بعقيدة أصحاب النجوم الذين كانوا من قوم إبراهيم و معاصرين له . وقد ذكرنا ما يرتبط بعقائدهم في سورة البقرة ، سیاتی مزید بیان.

الرابع : يظهر من الآيات المباركة أنّ إبراهيم علیه السّلام على معرفة كاملة بمعتقدات أبيه وقومه، وقد دخل في محاجّتهم بعد علمه بالحجج والبراهين التي استدلّ بها لإثبات عقيدة التوحيد وبطلان الشرك، وقد استكمل بإراءته ملكوت السماوات والأرض، ومشاهدته لآيات الله تعالى الدالّة على الوحدانية الكبرى والربوبيّة العظمى ، ولكنّه علیه السّلام عانى في سبيل دعوته عناد قومه، وعاداتهم وتقاليدهم، فقد ابتدأ بدعوة أبيه وقومه إلى نبذ الأصنام، فقال: «أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً» ، ثمّ استمرّ معهم في الحجاج إلى أنّ دخل اللّيل فرأى قوماً يعبدون الكوكب، فلمّا أَفَل قال لا أحبّ الآفلين، وهو البرهان القويم لبطلان كونه ربّاً ، ثمّ استمرّت المحاجّة حتّى

ص: 50

رأى القمر بازغاً، وقد عبده قومٌ منهم، فطال الحجاج إلى أنّ أفل واعتبر عبادته وهو كذلك من الضلال، وقد طلب من ربّه الهداية التى منحها الله تعالى إيّاه ، وهو مترصّد لأمرٍ أهمّ تتمّ فيه الحجّة الدامغة ، والظلام قد أطبق على الجميع، فرأى الشمس بازغة ، وأكّد ربوبيّتها ببعض التفاضل بين الأرباب كالكبر، واستمرّت المحاجّة حتّى أفلت، فنفى الشرك لأنّه لا شيء من مخلوقات الله يستحقّ الربوبيّة والعبادة؛ كلّ ذلك بأسلوب بليغ رصين ، وهذا رصين ، وهذا هو المستفاد من سياق الآيات والموافق للعادة المستمرّة عند المصلحين والدعاة إلى الحقّ ، فإنّه لم تقتصر دعوتهم على زمان معيّن، بل هي مستمرة مع أقوامهم لا سيّما المعاندين المستكبرين منهم .

وربما يكون سوقه علیه السّلام للحجج المتعدّدة المترابطة، تبعاً لما كان الله سبحانه يريه ملكوت السماوات والأرض، أو كان سوقه تابعاً لما يقع في الخارج، وحينئذٍ لا يختصّ حجاجه بوقت معین و زمان محدود في ليلة ويومها .

وممّا ذكرنا يظهر فساد القول بأنّه علیه السّلام كان فى النهار المتّصل بذلك اللّيل

الذي شاهد قومه فيه، فما باله لم يذكر الشمس لينفى ربوبيّتها ؟!

وكذا فساد الجواب عنه بأنّه يمكن أن يكون قد خرج إلى قومه والوقت لا يسع أزيد ممّا حاجّ به أباه وقومه في أمر الأصنام، فكان يحاجّهم طول النهار، أو مدّة ما أدركه من النهار عند قومه، حتّى إذا أتمّ المحاجة لم يلبث دون أن جنّ اللّيل.

فإنّ ذلك من مجّد الاحتمال ، وإذا أردنا تطبيق الآية، لا يكون إلّا على أحد الوجهين السابقين .

قوله تعالى : «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ» .

المحاجّة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يُدلي كلّ واحد منهما

ص: 51

بحجّته على صحّة دعواه ، ومن هنا كانت الحجج على قسمين:

أحدهما: ما بدأ به إبراهيم علیه السّلام.

الثاني: ما حاجّ قومه به ردّاً على إبراهيم علیه السّلام؛ وهي إمّا واقعة في عنصر التقليد أو داخلة فى حيّز التخويف والتهديد ، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ»؛ وكلاهما فاسدان كما عرفت ، وسيأتي.

وعلى كلّ حال، فقد جادله قومه وخاصموه في أمر التوحيد والربوبيّة الذي قرّره ،لهم، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها .

قوله تعالى : «قَالَ أَتُحَاجُوني فِي اللهِ».

إنكار منه علیه السّلام عليهم في محاجّتهم له في أمر التوحيد الواضح المعالم والقويّ الدلائل ، وقصور خصمه عن إقامة الدليل مع عزّة المطلب وعلوّ مرتبته ، فكان إنكاره راجعاً إلى عدم إمكانهم إقامة الحجّة في وحدانيّة الله تعالى، وسائر شؤونه المقدّسة، وما يترتّب عليه من الإيمان .

قوله تعالى : «وَقَدْ هَدَانِ».

جملة حالية ، وقد حذفت الياء من هداني في الرسم، لأنتها لا تظهر في النطق ، كما قيل ، وفيها التأكيد للإنكار ، وهو حجّة أُخرى منه علیه السّلام في إثبات ربوبيّته تعالى ، أي: والحال إن الله سبحانه هداني إلى الحقّ دون غيره.

ويستفاد من الآية أُمور :

الأوّل : إنّه علیه السّلام مهديّ من الله تعالى ومؤيّد من عنده ، وهو ممّا يدعو الى الکفّ عن مجادلته علیه السّلام.

الثاني : إنّ محاجّته في أمر التوحيد مما لا ينفع ولا ينبغي الإلتفات إليها ، لأنّه على هداية تامّة من الله تعالى .

ص: 52

الثالث : إنّه لا يجوز الإعراض عن براهينه ، وحججه ، لأنّ الله تعالى قد هداه إلى إقامة الأدلّة على وحدانيّته بعد إراءة ملكوت السماوات والأرض .

الرابع : إنّه قد تبيّن الحقّ لديه، وانكشف الواقع عنده، وهو على يقين بالحقّ . ومن مظاهر ربوبيّته عزّ وجلّ أنّه هداه إلى الوحدانية ، فخرج بذلك عمّا سلكه في إقامة الحجّة عليهم عند الدخول معهم على الفرض والتقدير ، وتبيّن بطلان مسلكهم تبياناً تامّاً. الخامس : إنّ التأكيد على أنّ الله تعالى هداه؛ لأنّه من شؤون ربوبيّته العظمى ، ممّا يدل على أنّه لا يمكن أن يكون غيره تعالى من سائر أربابهم وآلهتهم ، لأنّ الشيء لا يهدي إلى ما يوجب فساد أمره وإماتة ذكره ، فاهتداؤه علیه السّلام إلى نفي ربوبيّتها لا يصحّ أن ينسب إليها .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكروه في تفسير الآية الكريمة، هو من اللّوازم والملزومات لمدلولها ، فلا ضير من هذه الجهة ، كما عرفت مكرّراً .

قوله تعالى : «وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ» .

أي ما تشركون به تعالى من الأصنام وغيرها أن يصيبني بسوء، لعدم قدرتها على شيء . والآية بيانٌ للوجه الآخر الذي تمسّك به المعاندون للحقّ، وهو التخويف والتهديد بالأصنام أن تصيب الأنبياء والدعاة إلى الحقّ بسوء وقهر الآلهة وسخطها إن ترك عبادتها ، ومقابلة هذا الاحتجاج يتقوّم بأمرين :

أحدهما نفى قدرتها على شيء باليقين بربوبيّة الله تعالى ، والعزيمة والثبات على دعواهم بوحدانيته عزّ وجلّ، وهذا هو الذي أثبته في كلامه علیه السّلام: «أَتُحَاجُونى فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ»، أي أنّي على يقين بالأمر الذي أدعو إليه، ومهتدٍ بهداية ربّي، لا بديل عنه، وثابت عليه لا أنثني عنه أبداً ، ولا يمكن الاستغناء عن ربّي الذي يرعاني ويدبّر أمري، فهو الربّ لا شريك له ، فهو تعالى الدالّ والمدلول لأنّه

ص: 53

الهادي ، وهذه حجّة أُخرى من إبراهيم علیه السّلام على نفي ربوبيّة غير الله تعالى ، وقد وضح الحقّ، ولا يخاف غير الله عزّ وجلّ، فلا يصغي إلى ما يقال من الدعاوى

الباطلة .

الثاني : دفع التهديد بالآلهة، حتّى بلغ بهم أنّهم كانوا يقولون إنّ الذي عليه إبراهيم علیه السّلام وغيره من الأنبياء هو من السوء الذي اعتراه بعض آلهتهم سخطاً منها، ممّا أوجب بعدهم عن القول بربوبيّتها، كما أفسدت عليهم أُمورهم بتلقينها الحجج التي يدعونها ، كما حكى سبحانه عن عاد قوم هود علیه السّلام: «إِنْ تَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ» (1) . وقد كان هدفهم من هذه الشُّبهة ترهيب مدّعي التوحيد وإلقاء الشكّ في هدايتهم وحججهم .

و في كلام إبراهيم علیه السّلام الجواب عن هذه الشبهة، بأنّه لا يخاف ما تشركون به ، وهو أيضاً حجّة دامغة على نفي ربوبيّة آلهتهم، لأنّها مخلوقات مدبّرة لا تملك شيئاً ، لا تضرّ ولا تنفع ، فإذا كان هناك خوف، فهو منحصر بالله القادر المتعال فلابدّ من عبادته والإخلاص له لدفع كلّ ضرّ وجلب كلّ نفع، فلا حيلة إلّا التسليم له ، وكلامه حجّة أُخرى على انحصار الربوبيّة به عزّ وجلّ ودفعها عن الآلهة الشركاء، فإنّها مصنوعة مربوبة ، كما عرفت . فقد سقط كلا الوجهين المزبورين .

بل يستفاد أنّ الخوف الذي يدّعونه إنّما هو دليلٌ آخر على ربوبيّته عزّ وجلّ، وآية من آيات وحدانيّته، لا أن يكون دليلاً على ربوبيّة الشركاء، وحجّةٍ توجب عبادتها .

قوله تعالى : «إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً».

ص: 54


1- سورة هود : الآية 55

استثناء مثبتٌ لربوبيّة الله عزّ وجلّ المدبّر لعباده ، وفيه التأكيد على كونه تعالى رباً له التدبير ، والنفى لربوبيّة الشركاء . ولا ريب أنّ مشيئته تعلّقت بجميع ما سواه ، ولكن المراد في المقام هو الخوف والضرّ فلا يقعان إلا بمشيئة منه عزّ وجلّ، وإذن منه تعالى، كلّ ذلك راجعٌ إلى تدبيره عزّ وجلّ الدال على ربوبيّته العظمى ، فيكون دليلاً آخر على نفى ربوبيّة الشركاء . وإنّما جعل سبحانه الشيء مهملاً من دون تعيينه لتعميم مورد مشيئته تعالى ولعدم بعث الخوف في نفس إبراهيم علیه السّلام.

وفى التعريض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميره علیه السّلام، الإشارة إلى أنّ مشيئته تعالى تلك إن وقعت فهى غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية، وذلك لأنّه علیه السّلام انقاد لربّه، وسلّم أمره إليه وأصبح فرداً من ملكوته وربوبيّته عزّ وجلّ .

و تُعدّ الآية المباركة من آيات التربية التى تُربّى الفرد المؤمن، وتهذّب نفسه وتجعلها متعلّقة بربّه، وتبعث الاطمئنان في قلبه، فهو مورد مشيئة ربّه يدفع عنه كلّ خوف وتهديد، إلّا ما تعلّقت إرادته بالوقوع فلا محيص عنه حينئذٍ. فلا يخاف معبوداتكم وغيرها إلا أن يشاء الله تعالى من إصابة مكروه من جهتها، فتكون من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم وشركائكم فيه أصلاً .

ومن المفسِّرين من جعل الاستثناء منقطعاً، فيكون المراد إلّا أن يشاء ربّي خوفي ممّا أشركتم به فتضر، فيكون دليلاً على حدوثها، وعلى توحيد الله تعالى، أي إنّي لا أخاف ما أشركتم به أبداً إلا أن يشاء ربي فيحببها فتضر وتنفع وتبعث الخوف في النفوس.

ولكنّه بعيد، فإنّ القرآن الكريم ينفى النفع والضرّ عن الشركاء مطلقاً، سواء كانت لها حياة كالملائكة وأرباب الأنواع، أو لا كالأصنام، وأصبح من ثوابت الدِّين الحقّ التي دلّت عليه الأدلّة الكثيرة .

وقيل : إنّ الآية تدلّ على حدوث الشركاء.

ص: 55

ولكنّه ليس بشيء، لأنّه لا يضرّ أهل الشرك والأوثان، فإنّهم لا ينكرون كون الأصنام ولا أربابها معلولة الله تعالى مخلوقة له ، وإن كان لها قدم زماني في بعضها، لكنّه لا يمنع إمكانها ولا معلوليّتها عندهم ، إلا إذا جعلوها خالقة وعلّة العلل ، وإثباته مشكل.

وقيل : إنّ الاستثناء من عموم الخوف في جميع الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى شيئاً، فيعذّبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداءً ، لا من الشركاء لأنّ قوله: «وَلا أَخَافُ» يدلّ على نفى الخوف منها مطلقاً، فيكون المعنى لا أخاف ما تشركون به ولا غيره، إلّا أن يشاء ربّي شيئاً يوجب لي الخوف من جزاء أو كراهة ابتداءً .

وهو بعيد عن ظاهر الآية الكريمة، إلّا أن يرجع إلى إثبات مشيئته عزّ وجلّ مطلقاً لتثبيت قدرته على مخلوقاته ، وتربيب المهابة ، وعدم انقطاع سلطته على الأسباب ، كما أكّد سبحانه عليه في جملة من الموارد .

الوجوه المذكورة في قوله تعالى: «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً»

قوله تعالى: «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» .

بيان لعظيم شأنه عزّ وجلّ، فإنّه واسع العلم، لا يجهل ما يقع في ملكه ، وثناءٌ منه علیه السّلام لربّه ، وهو تعليلٌ لما سبق، فهو الله الربّ الذي يدبر أُمور عباده، ويقوم لا بتدبير ملكه، فلا يقع شيء إلّا بإذنه، ولا ينفذ أمر إلّا بمشيّئته، ولا يخاف أحداً ولا يضرّه شيء من مخلوقاته، لأنّه يعلم كلّ شيء.

هذا وقد ذكر المفسِّرون وجوهاً في المقام :

منها : إنّه ثناءٌ منه علیه السّلام لربّه بعد إتمام الحجّة ، وهو غير بعيد، ولا يضرّ بالدلالة ، كما تقدّم .

ومنها : إنّه تعريض بأصنامهم بأنّها لا تعلم شيئاً ولا تشعر .

وهو أيضاً صحيح ، كما عرفت ، فإنّ الكلام قد يتعرّض لأُمور عديدة

ص: 56

بالإشارات والتنبيهات ، وهذا هو الوجه الدلالي الذي نثبته في كلّ آية .

وأمّا ردّه بأنّ التعريض بالقدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فهو غير سديد؛ لأنّ المقام يقتضي التصريح بالعلم دون غيره، فإنّ المشركين إنّما يخوّفون غيرهم بالضرّ والتهديد، فإذا لم يكن للشركاء علم بهما فلا تصلح للربوبيّة .

ومنها : إنّه كالتعليل للاستثناء، أي أحاط بكلّ شيء علماً ، فلا يبعد أن يكون قد سبق في علمه تعالى أن يصيبه مكروه من قبل الآلهة . ولكنّه احتمال بعيد.

ومنها : إنّه بيان وتعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة ، لأنّه وسع ربّي كلّ شيء علماً، فينفذه بمشيئته، فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتّى يكون له تأثير في أفعاله تعالى .

ويرد عليه : بأنّ الأمر وإن كان كذلك، لأنّ الله تعالى هو الربّ الذي يدبِّر عباده، ويتمّ أمور مخلوقاته بمشيّئته، وينفّذ ما يريده بقدرته ، ولكن الآية بمعزل عن ثبوت الشفعاء ، لأنّ المقام يقتضي إثبات القيوميّة العلمية التي تستتبعها القدرة، لاسيّما وقد أثبت قدرته المتعالية في قوله: «فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ».

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض في ردّ هذا الوجه، بأنّ نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمهِ تعالى، كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة والمشيئة ، فإنّه قد أثبتهما في الآية السابقة ، فاقتضى المقام ذكر سعة علمه ، وبذلك أبطل ربوبية الشركاء لعدم صلاحيّتها لها .

قوله تعالى : «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ».

تنبيه على غفلتهم، إذ عبدوا ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، وتوبيخٌ لهم على شركهم بالله تعالى ، وقد حاجهم علیه السّلام بالدلائل الواضحة الموافقة للفطرة والمرتكزة في العقول ، ولعلّه من أجل ذلك أفرد التذكّر دون التفكّر للتنبيه على الغفلة.

ص: 57

قوله تعالى : «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ».

تعجيب من فساد عقولهم بعد وضوح الحجّة ، والإنكار لما همّ عليه من الشرك والإعراض ، وهي حجّة أُخرى لبيان مناقضة قولهم مع فعلهم ، فإنّهم يأمرون إبراهيم علیه السّلام بالخوف ممّا لا يخاف منه ، ولكنّهم لا يخافون ممّا يخاف منه . فهو بالأمن أجدر إن عصاهم ولم يأتمر بأوامرهم، فإذا كان خوف واقع فإنّما هو من الله الذي أشركوا به . ولا ريب أنّ عدم خوفه ممّا أشركوا به لأنّ آلهتهم لا تملك شيئاً وهي لا تضرّ ولا تنفع ، ولعلّه من أجل ذلك جيء ب- (ما) الموضوعة لما لا يعقل، والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلّية.

قوله تعالى: «وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّه» .

معطوف على (أخاف) فيكون داخلاً فى التعجّب والإنكار، واختلف متعلّق الخوف ، فقد علّق إبراهيم علیه السّلام خوفه بالأصنام وسائر الشركاء، وبالنسبة إليهم علّقه بإشراكهم بالله تركاً للمقابلة، ولئلا يكون الله سبحانه عديل أصنامهم لو كان التركيب (ولا تخافون الله).

والمعنى : وكيف أخاف أنا ما ليس في حيّز الخوف أبداً، وأنتم لا تخافون ما هو أعظم المخوفات وأهولها، وهو إشراككم بالله تعالى ، والسرّ في ذلك يرجع إلى أنّه الله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء، وقد استجمع جميع الصفات الكمالية التى يستحقّ بها الأُلوهيّة العظمى والربوبيّة الكبرى ، فإنّ له الصنع والإيجاد ، وله المُلك والحكم ، والقدرة والسلطان ، فلو اتّخذ شريكاً لبيّنه لنا وأوجب عبادته علينا ، وهو مفقود ، كما ذكر في الآية التالية .

قوله تعالى : «مَا لَمْ يُنَزِّلُ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً».

السلطان الحجّة والبرهان ، والإشراك لا يصحّ أن يكون عليه حجّة ، وهو

ص: 58

يرجع إلى نفي الدليل السمعي على الإشراك بعد أن أقام الدليل العقلي على بطلانه ، فيكون المعنى: أنّه ممتنع عقلاً وشرعاً فوجب إطراحه . وهو أيضاً دليل على انحصار الربوبيّة فيه عزّ وجلّ، فإنّ له الحكم والتشريع، والأُمور الدينية لا تثبت إلّا بالوحى والحجّة المُنزّلة من الله تعالى ، وليس لغيره عزّ وجلّ الحقّ في ذلك .

ومنه يظهر أنّ الكلام على الفرض والتقدير ، فإنّه لا يصحّ أن يكون أمراً شرعياً باتّخاذ الشركاء آلهة ، ويمكن أن نشكّل منه دليلاً برهانياً، فيقال لو كان الله تعالى نزل بإشراكه عليكم سلطاناً لدلّ على قدرة الشركاء على الضرّ، فكان خوفكم منها في محله ، لكنّه عزّ وجلّ لم ينزّل سلطاناً ، فيكون اتّخاذكم الشركاء باطلاً.

و في الكلام التسفيه بآرائهم، كما أنّ فيه الإشارة إلى أنّ عدم البرهان وصف لشركائهم ، نظير قوله تعالى: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ» (1) .

ومن جميع ذلك يظهر فساد القول بأنّ حصول السلطان هل هو ممتنع عقلاً أو لا؟ فإنّه لا تصل النوبة إلى هذا السؤال ، فراجع .

قوله تعالى : «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ».

بيان لحال الفريقين الذين يعلم أحدهما بأنّه على حقّ وأنّه الآمن لا الفريق الآخر، وإن أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال ، وهو مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه علیه السّلام لما هو عليه من الأمن ، واستحقاقهم لما هم عليه ، ويعتبر كالنتيجة لما سلف من الحجج على إنكار خوفه علیه السّلام في محلّ الأمن، مع عدم تحقّق خوفهم في محلّ الخوف . وإنّما كنّي عن نفسه علیه السّلام وعنهم بالفريقين وهما معروفان ، ولم يقل غيره كأيّنا أحقّ بالأمن أنا أم أنتم أو ما شابه ذلك، لوجوه عديدة :

ص: 59


1- سورة المؤمنون : الآية 117

منها : الاحتراز من تجريد نفسه، فيكون ذلك تزكية لها .

ومنها : إنّه أبعد من تحريك الحميّة وتهيّيج العصبيّة .

ومنها : الدلالة على تفرّقهما وتحقّق الشقاق بينهما، لاختلافهما في أهمّ الأُصول الدينيّة وأساس العقيدة ، وأُمّهات المعارف الحقيقيّة ، وسرّ الكمالات الواقعية وهو التوحيد فلا يأتلفان أبداً .

ومنها : التأكيد في الإلجاء إلى الجواب بالتنبيه على علّة الحكم، والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللّجاج والعناد .

ومنها : الإشارة إلى أنّ الأحقّية بالأمن تشمل كلّ موحِّد، ترغيباً لهم في التوحيد .

وأمّا المجىء باسم التفضيل فليس على حقيقته، بل من أجل بيان الواقع الذي عليه إبراهيم علیه السّلام إلى الوسط النظري بين الأمرين، ونظير ذلك كثير في الأساليب العربية .

قوله تعالى : «إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» .

أدرجهم في الجاهلين إذ أنكروا ما هو الموافق للفطرة، وتغافلوا عمّا يترتّب على اعتقادهم من الآثار السيّئة ، أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار في هذا الأمر الواضح الجليّ . وجواب الشرط محذوف .

قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم» .

بيان الحقيقة من الحقائق الواقعية التى كشف عنها القرآن الكريم ، وفيه بيان حقيقة الإيمان الذي هو الأمن والإيمان، وما يترتّب عليه من الآثار الطيّبة في الدارين، وتبيّن حال المؤمنين الذين آمنوا بالوحدانية، واعترفوا بربوبيّة الله تعالى، ونبذوا الشرك وعبادة الأوثان ، فإنّ لهم الأمن مطلقاً، الأمن في العقيدة

ص: 60

والمعارف، والأمن في النفوس فلا خوفٌ عليهم ولا همّ يحزنون ، والأمن في الأبدان فلا يصيبهم مضرّة من آلهة المشركين لأنتها لا تضرّ إلّا أن يشاء الله شيئاً. وأمنٌ من العقاب والعذاب، وقد اشترط عليهم أن لا يلبسوا إيمانهم بظلم . وقد اعتبرت هذه حقيقة واقعية ، وحينئذٍ لا يفرق بين أن يكون من كلام إبراهيم علیه السّلام جواباً عمّا سألهم عمّن هو أحق بالأمن ، وكان الجواب عنه واضحاً لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان ، وللسائل الحقّ أن يبادر إلى الجواب من غير انتظار جواب المسؤول عنه، لأنّهما لم يختلفا في الجواب ، نظير قوله علیه السّلام فى كسر الأصنام ، كما حكى الله تعالى عنه «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَمُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ» (1).

أو يكون من كلام قومه جواباً محكياً عنهم . أو من الله سبحانه قضاءً بين الفريقين المتخاصمين، وكلمات القرآن الكريم وآياته هي حقائق وإن كانت مقولة شخص أو قوم ، فإنّه لا يضرّ بالمطلوب ، وهو كثير فيه ، ونبّهنا عليه مراراً، فراجع .

وفيه التأكيد القويّ على مضمونه من جهات عديدة، كتضمّنه جملة من الإسناد المتعدّدة في الجمل الاسمية، كقوله: «لَهُمُ الأَمْنُ» الذي هو خبر لقوله: «أُولَئِكَ» ، والجملة الاسمية هي خبر لقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا»، والمجموع جملة اسمية ، والعطف والمعطوف فى قوله: «لَهُمُ الأمْنُ .... وَهُمْ مُهْتَدُونَ»، كلّ ذلك ممّا يدلّ على اختصاص الذين آمنوا بالشرط المذكور بالأمن والاهتداء.

المراد من اللّبس

ثمّ إنّ المراد باللّبس في المقام الستر لا مجرّد الخلط كما هو المشهور عند المفسِّرين، إشارة إلى أنّ الظلم لا يزيل أصل الإيمان لأنّه فطري، بل يغطّى عليه، فلا يؤثّر أثره الصحيح وقد يفسد أثره ، كما ستعرف .

الظلم وأقسامه

والظلم الذي اشترطت الآية الكريمة عدمه في حصول الأمن والاهتداء،

ص: 61


1- سورة الأنبياء : الآية 63 - 64

يأتي بمعنى الخروج عن وسط العدل، ووضع الشيء في غير موضعه المختصّ به وله إطلاقات ثلاثة :

الأوّل : مجاوزة الحق الاجتماعي، والتعدّي عليه بسلب الأمن من فرد من أفراد المجتمع في نفسه أو عرضه أو ماله، من غير مسوّغ شرعي ، وهذا هو الذي تنتقل إليه أذهان الناس في ابتداء الأمر.

الثاني : مخالفة القانون أو السُنّة الجارية ، وبهذا الاعتبار يطلق الظلم على كلّ ذنب أو معصية لخطاب مولوي شرعي ، وقد توسعوا في هذا حتّى عدوّ معصية الله سبحانه ومخالفة التكليف ظلما، وإن صدرت عن سهو ونسيان او جهل، وإن لم تكن مؤاخذة أو عقاباً على ما أتى به كذلك . ويبحث عن هذا النوع في الفقه .

الثالث : إتيان المنافيات لقربه عزّ وجلّ، وهو الذي اعتمد عليه أرباب المعرفة بمقام ربّهم، فإنّهم يعتبرون إتيان المكروهات وترك المستحبّات والتوغّل فى المباحات ، فضلاً عمّا ينافي الأخلاق الكريمة والملكات الربانيّة ، أو تلك التي تعرض سبيل الحبّ، أو تقع في بساط القرب ، بل ما يختلج في الصدور، ممّا يكون مانعاً عن الرقيّ ، بل زادوا وقالوا: (حسنات الأبرار سيِّئات المُقرَّبين) ، وهذا النوع من الظلم يختصّ به العرفاء والمقربون .

وقيل : إنّ الظلم ثلاثة :

الأوّل : ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والكذب على الله تعالى .

والثاني : ظلم بينه وبين الناس.

والثالث : ظلم بينه وبين نفسه ، كما قال تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (1).

ص: 62


1- سورة البقرة : الآية 231

وكلّ هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس ، فإنّ الإنسان في أوّل ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه ، فالظالم أبداً مبتدئ بنفسه في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع: »وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (1).

وكيف كان، فقد وقع الخلاف في المراد بالظلم في الآية الكريمة:

فقيل: إنّه عام يشمل جميع الأنواع والمصاديق لمجيئه نكرةً في مقام النفي ، وإنّ السياق يعضده أيضاً، فيكون مطلق الظلم مانعاً عن تأثير الإيمان، وحاجباً عن ظهور آثاره الطيّبة، سواء كان ظلماً للنفس أو للبدن أو للغير ، أو كان ظلماً للإيمان.

وهذا الوجه وإن كان له وجه صحيح، لأنّ ظلم الله بجميع مظاهره قبيح، وهو خلاف العبودية والانقياد ولكنّه مختصٌّ بأهل الكمال والمعرفة ، كما أنّه مخالف لآيات الرحمة والمغفرة، فإنّه يغفر ما دون الشرك كلّه . فلابدّ أن يكون المقصود هو نوعاً من الظلم الذي يؤثّر الأثر السيء في الإيمان ويحجب آثاره، واستدلّوا عليه بالسياق أيضاً، فإنّ الكلام مع المشركين وإقامة الأدلّة والبراهين على بطلان الشرك ، كما أنّ لفظ (الستر) يشهد عليه، فإنّه ليس كلّ ظلم يستر الإيمان ويمنع أثره . ثمّ اختلفوا في تعيينه.

فقيل: وهو المعروف عند المفسِّرين إنّه الشرك؛ لأنّه موضوع أكثر آيات القرآن الكريم، ومنها آيات المقام وهو الظلم العظيم ، كما قال تعالى حكاية عن لقمان: «يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ((2) ، ويؤيّده ما ذكر بأنّ آية المقام واردة مورد الجواب عن السؤال السابق .

وقيل : إنّه الكبائر فصاحب الكبيرة لا أمن له ، وتفسيره بالشرك يأباه لفظ اللّبس الذى هو بمعنى الخلط ، لأنّ بين الإيمان والشرك الضدّية التامّة فلا

ص: 63


1- سورة آل عمران : الآية 117
2- سورة لقمان : الآية 13

يجتمعان . نعم يجامع المعاصي ، ولم يرد دليل لفظي معتبر على تخصيصه بالشرك ، وما روي في ذلك سيأتي الكلام فيه .

وردّ : بأنّ الإيمان إن كان هو الاعتقاد القلبي قد يجامع الشرك ، كما قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» (1). وكذا إن كان مطلق التصديق فإنّه أيضاً يجامعه ، كما في المنافق ، ومن هنا ذهل الزمخشري عن كون الإيمان ، هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن الكريم للمشركين، لا الإيمان الصحيح الكامل، فجزم بأنّ المراد بالظلم هنا المعاصى دون الشرك؛ لأنّ الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح ، لأنّه ضدّه ونقيضه ، ولكنّه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى ، كما عرفت.

ولكن يرد عليه: أنّ ذلك جاء من ناحية تفسير اللّبس بالخلط ، وأمّا إذا كان بمعنى الستر، فإنّه لا إشكال في اجتماع الإيمان مع الشرك، وحينئذ يستر الشرك الإيمان ويمنعه من التأثير، ولكن لا يزيله بالكلّية؛ لأنّ الإيمان بالله الواحد الأحد فطري، فيجامع مطلق الإيمان والإيمان الصحيح .

والذي ينبغي أن يُقال: إنّ الظلم ذو عرض عريض جدّاً، وله أنواع ومصاديق كثيرة ، فإنّ لاحظنا الحكم بالنظر العقلي، فإنّه يؤثّر تأثيراً ما في الإيمان، ويحطّ من قدر فاعله عند بارئه، فيسلب نوعاً ما من الأمن الذي لا يعرفه إلّا أهل المعرفة وأرباب السير والسلوك، فإنّهم على خوف ووجل دائمين، لأنّهم على خوف من التقصير أو الغفلة اللّذين هما من أعظم الظلم عندهم، بل يرتقي بعضهم فيرى أنّ حسنات الأبرار سيِّئات المقربين ، وقد يحصل الخوف عمّن لا يصدر منه المعصية كالملائكة والأنبياء ، قال تعالى : «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» (2) .

ص: 64


1- سورة يوسف : الآية 106
2- سورة النحل : الآية 50

وقال تعالى : «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ» (1) .

وقال تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (2). فلا يختصّ الظلم بالذنب والمعصية . لكن هذا المعنى الوسيع جدّاً لم يكن المناط في الآية قطعاً.

وإن لاحظناه بالنظر الشرعي، فإنّه يختصّ بما إذا كان فيه المخالفة لخطاب مولوي أو لحكم ،عقلى، كمخالفة حقّ الطاعة بلا فرق بين أن يكون ظلماً عقائدياً أو ظلماً على النفس أو على البدن أو على الغير ، وقد يتوسّع العرف فيعتبر مخالفة الإرشاد والنصائح أو ما يوجب اعتلال المزاج ظلماً .

ولكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية الكريمة الذي يدل على أنّ الظلم المقصود هو الذي له الأثر السيء على الإيمان ، فإنّ بعض أصنافه لا يسمّى ذنباً ولا معصية، لعدم كونه مخالفة مولويّة ، كما إذا صدر عن الإنسان سهواً أو نسياناً ، أو جهلاً ، أو عن غير شعور ، فلا يكون مؤثّراً فى الإيمان أو يسلب أثره.

فلابدّ أن يكون المراد بالظلم هو الظلم الاعتقادي لا الظلم الجوارحي فيختصّ بالكفر والشرك وبعض الكبائر، فتؤثّر في الإيمان الذي من شأنه التقريب من السعادة والفلاح، والفوز برضا الربّ تبارك وتعالى ، لأنّه عقيدة وعمل ، فلابدّ أن يكون الأثر المترتّب عليه عظيماً يرجع إلى الفرد والمجتمع، ويشمل الدُّنيا والآخرة ، فالإيمان سعادة وكمال ، وطمأنينة وفلاح ، وفيه رضا الله الذي هو الأمل المنشود للإنسان في الدارين، وإنّه التقرّب إليه عزّ وجلّ والزُّلفى لديه ، وأنّه الأمن من الشقاء والبُعد عن الرذيلة . فلابد أن يكون الظلم الذي يلبس الإيمان له الأثر السيء في سلب المترتّب على الإيمان، وهو يختصّ بنوع معيّن من الظلم كما عرفت.

ص: 65


1- سورة الإسراء : الآية 57
2- سورة الأنبياء : الآية 28

والحاصل أنّ الآية الكريمة تبيِّن قاعدة عامّة في هذا الموضوع المهم، وهو اشتراط الإيمان بالمعنى المطلوب الذي يستتبعه الأمن بعدم الظلم ، وغير خفي أنّ تطبيق الآية يختلف بحسب الأفراد، فربما يكون الظلم عند شخص يمنع الأمن ولكنّه غير مانع عنه عند الآخر، إلّا أنّ الظلم المتّفق على كونه مانعاً هو الشرك، لأنّه أُمّ الرذائل وأساس الخبائث ، وقد عدّه القرآن الكريم بأنته ظلم عظيم ، ولعلّ أحد وجوه عظمته أنته مانع مطلقاً .

فإذا أمن الفرد من الشرك وقد آمن بوحدانية الله تعالى وأقرّ بربوبيّته وخضع له بالانقياد والطاعة ، واطمأن بالسعادة والقرب، فلا ريب أنته يأمن شقاء العذاب والآثار السيّئة المترتّبة على الشرك . وإن تعدّى هذه المرحلة ولكنّه وقع في ورطة المعاصى وارتكاب الآثام، فإنّ كانت من الصغائر واللّمم، فهى وإن كانت مؤثّرة نوعاً ما، إلّا أنّ الله عزّ وجلّ قد وعد مرتكبيها بالغفران إن اجتنب الكبائر ، قال تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» (1) .

وأمّا إذا كان من الكبائر، فالظاهر أنّها تكون حاجبة عن السعادة، ومانعة

عن تأثير الإيمان، وهذا هو الموافق لظواهر الأدلّة الكثيرة من الكتاب والسُنّة .

نعم للإيمان أثره، كما أنّ للذنب أثره سواء كان كبيراً أو صغيراً، ويختلفان شدّة وضعفاً قد يغلب أحدهما الآخر بفعل المنافي من كلّ واحد من الطرفين ، وقد يتمانعان في بعض المصاديق ، كما هو المستفاد من مجموع الروايات، وكلّما ازدادت معرفة الفرد بالله سبحانه كان الظلم عنده مؤثّراً، وربما يتطلّب من بعض الأفراد الذين يعتبرون من الخواص تقوى أخصّهم، وهي ترك المباحات ، فلو أتى بها أوجب الحطّ من منزلته فضلاً عن إتيان المكروهات وترك المستحبّات

ص: 66


1- سورة النساء : الآية 31

فالإيمان في كلّ مرتبة من هذه المراتب إنّما يؤمن المتلبّس به ويدفع عنه الشقاء، إذا اجتنب الظلم المناسب لتلك المرتبة .

فالآية الكريمة مضافاً إلى كونها حقيقة من الحقائق الواقعيّة، تعتبر الظلم من أهمّ الموانع والحجب، وقد عرفت أنّ كلّ مرتبة من الإيمان يحجبها نوع من الظلم المناسب لها ، وإن كان سياق الآية يدلّ على كون المراد بالظلم الاعتقادي منه ، وإن أعظم أفراده الشرك البغيض، والجملة مستقلّة في البيان مع قطع النظر عن خصوصيّة المورد .

ومن جميع ذلك يستفاد :

أوّلاً : المراد من الإيمان مطلقه فيشمل الإيمان بالله تعالى و بربوبيّته وأحكامه المقدّسة ، فإنّ إبراهيم علیه السّلام قد أشار إليها جميعاً ، كقوله : «فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ».

وقوله : «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي».

وقوله : «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» بعد محاجّة قومه في إثبات الربوبيّة الله

تعالى ونفيها عن الأرباب .

فما ذكره بعضهم من اختصاص الإيمان المطلق بالإيمان بالربوبيّة، لأنّ الآيات السابقة تحكي محاجة إبراهيم علیه السّلام في أمر ربوبيّة الشركاء ، ولكن ذلك لا يوجب الاختصاص، فإنّها وإن كانت تحكي الحجاج مع قومه في أمر الربوبيّة باعتبار كونهم مشركين فيها، وذكر الأدلّة والبراهين على نفى الشرك بأسلوب رائع تقبله النفس ، ثمّ بعد ذلك يبيِّن حقيقة إيمانية في أنّ للإيمان الآثار الطيبة الظاهرة، ولا يمكن الوصول إليها إلّا باتّقاء الظلم، فإنّه من أعظم الحُجب ، وقد عرفت المراد من الظلم.

وثانياً : إنّ متعلّق الأمن يختلف باختلاف الظلم الذي يرتكبه المؤمن ، فإنّه

ص: 67

الذي يمنع من ترتيب الآثار الطيّبة التي تجلب السعادة والطمأنينة ، وحينئذٍ فإن كان المناط هو الظلم الاعتقادي، فيكون المراد به الأمن من الآثار الوضعيّة والتشريعية المترتّبة عليه ، وإن كان المناط هو مطلق الظلم، فيكون المقصود مطلق الأمن من آثار المعاصي والذنوب وشقائها ، وقد عرفت الصحيح منهما .

وثالثاً : إنّه كما أنّ للإيمان درجات كذلك للظلم مراتب ، فإطلاقه يختلف باختلاف درجات ،الإيمان، سواء قلنا باختصاص الظلم بالاعتقادي منه ، أو قلنا بالعموم ، لأنّ الآية الكريمة في مقام بيان حقيقة واقعيّة، إنّما الكلام في التطبيق والمصداق ، فالمضمون عام وهو المناسب للمنطوق، إلّا أن نقول بأنّ السياق يقيده .

ورابعاً : المراد بالإهتداء مطلق التخلّص من الضلال، ومن أظهر مصاديقه

معصية الشرك والكبائر التي تسلب الإيمان.

فيكون معنى الآية: الذين آمنوا بالله سبحانه وأقرّوا بربوبيّته ، واعترفوا بطاعته ، فإنّ الإيمان بالله هو الاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان ، ولم يستروا إيمانهم بظلم من الشرك وغيره من المعاصى التى لها الأثر في إضعاف الإيمان في القلوب وستر آثاره على النفوس أُولئك لهم الأمن من كلّ ما يخاف منه المؤمن كالعذاب والشقاء والشكّ، أُولئك همّ المهتدون إلى طاعته عزّ وجلّ ومواضع لضعف في نفوسهم، ليفوزوا بكرامته، ويتخلصوا من الضلال والشرك.

فالمتحصّل من الآية: أنّ الظلم تارةً يُراد به الإطلاق، فيشمل جميع المعاصي والذنوب، سواء تلك التى لا تؤثّر فى ستر آثار الإيمان كاللّهم ونحوها ، اللهُمَّ إلّا ما يراه أهل الكمال، فإنه شيء آخر فلابد من ترك المعاصي والآثام ليكون الإيمان مؤثّراً.

أو يُراد به الظلم الاعتقادي، فيشمل الشرك الذي هو أظهر أفراده، فيكون

ص: 68

ترتيب الأثر على الإيمان مشروطاً باجتناب هذا النوع من الظلم ، وظاهر الآية يدلّ على الأوّل، ولكن سياقها يدلّ على الثاني هذا مع قطع النظر عن الأخبار، وسيأتى نقلها .

وأمّا ما ذكره بعض فإنّ رجع إلى ما قلناه، وإلّا فلا يخلو عن نقاش .

قال في «تفسير المنار» بتلخيص : (إنّ الأمن مقصورٌ على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان، يكون الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنيّة والنفسيّة من دينيّة أو دنيويّة، ولا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء والعجماوات، أُولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر والأسقام والأمراض دون غيرهم ممّن ظلموا أنفسهم أو غيرهم، فإنّ الظالمين لا أمان لهم ، بل كلّ ظالم عُرضة للعقاب، وإن كان سعة

رحمته لا يعاقب كلّ ظالم على كل ظلم ، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدُّنيا...

ثمّ قال : إنّ هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، ويترتّب عليه أنّ الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعاً، لا يصحّ لأحد من المكلّفين ردع خوف الهيبة والإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال ...

ثمّ قال : وأمّا معنى الآية على فرض عدم الإطلاق، فهو إنّ الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك بالله، أُولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الدينى المتعلّق بأصل الدِّين، وهو الخلود في دار العذاب، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.

ثمّ قال : وظاهر الآية هو العموم ، واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روي

ص: 69

أنّ الآية لمّا نزلت شق ذلك على الناس، وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلّي الله علیه و آله : أنّ المراد به الشرك ، وربما أشعر بذلك السياق وكون الموضوع هو الإيمان)، انتهى .

ويرد عليه أوّلاً : إنّ تعميم الظلم ليشمل ما لم يكن معصية فيستر آثار الإيمان غير صحيح ، بل مخالف لظاهر الآية الدالّ على اختصاص الظلم بالذي له التأثير على الإيمان ، وما لم يكن كذلك فلا تشمله .

وثانياً : إنّ ما ذكره من أنّ الأمن المطلق لا يصحّ لأحد المكلّفين، وهو يدلّ على أنّه لا مصداق للآية . فهو فاسد ، لأنّه يسلب الغرض منها ، فلا فائدة حينئذٍ .

وأمّا الإشكال عليه: بأنّه إن كان المراد هو الظلم الخاص وهو الشرك فهو غير مستقيم ، لأنّ الآية من جهة عموم لفظها، وإن دلّت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر أثره ، لكنّه من باب انطباق العام على مورده الخاص . وأمّا إرادة المعنى الخاص من اللّفظ العام من غير قرينة، فممّا لا ترتضيه صناعة البلاغة .

فهو فاسد: لأنّ القول بالتخصيص من أجل القرينة في الآية المستفادة من السياق وغيره، وليس من باب التطبيق ، وحينئذٍ يقع الكلام في تعيين القرينة .

هذا كلّه بحسب ظاهر الآية الكريمة ، وأما بحسب الروايات فسيأتي في

البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ» .

جملة مستأنفة تدلّ على عظيم شأن الحجج التي اتّخذها إبراهيم علیه السّلام في استدلاله بها على إثبات دعوته الحقّة ، كما تدل عليه الإشارة بالبعيد إلى الحجّة تفخيماً وتعظيماً لأمرها ، وإضافتها إليه تعالى على سبيل التشريف، لاسيّما كون المضاف إليه بنون العظمة لا بياء المتكلّم ، وقد كانت حججاً قاطعة تفيد اليقين،

ص: 70

جارية على سبيل الفطرة، قد أخذها إبراهيم علیه السّلام من مشاهداته الملكوتية ، والآية تدلّ على مزید عنایته تعالى ولطفه بنبيّه إبراهيم علیه السّلام .

والمراد بالإيتاء مطلق الأخذ سواء كان بالإلهام والوحى أو الخلق في

، النفس لأنّها حجج عقلية ، أو من المشاهدات الملكوتية ، أو التلقين .

والآية ردّ على مَن زعم أنّ إيمان الأنبياء أيضاً استدلالي ، فقد تلقّاه من ربّه بمزيد من العلم والإتقان وألهمه الحجّة ، وقد كانت دامغة غالبة على قومه ، وقاطعة لدعاويهم، ومبيّنة لضلالهم.

قوله تعالى : «تَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ» .

بيان لرفع شأن الأنبياء، حيث عناهم عزّ وجلّ بلطفه وكرامته، وأصل الدرجات في المكان، ثمّ توسّع فيها فأطلق على مراتب الكمالات الدنيوية كالجاه ، والمعنوية كالإيمان والكرامة ، والعلم والحكمة ، والفضائل الخُلُقية ، سواء كانت مكتسبة كالتقوى والعلم، أم غير مكتسبة كالنبوّة والرسالة والرزق .

و (درجات) نكرة في سياق الإيجاب فتكون مهملة، بخلاف ما إذا كانت في سياق النفي فإنّها تكون مطلقة ، وربما تتعيّن الدرجات في خصوص المقام بالعلم والهداية والحكمة وفصل الخطاب التي رفع الله تعالى إبراهيم علیه السّلام بها، فهداه الله سبحانه إلى التوحيد وإيتائه الحجّة ، وإراءته ملكوت السماوات والأرض، ومنحه اليقين، ولكن لا يتعيّن ذلك، لأنّ هناك درجات أُخرى أخفاها سبحانه إعلاماً للناس لأنتها غير متناهية، وليس لغيره تعالى الحق في تعيّينها ومنحها اعتباطاً من دون إذن ربّاني ، كما أخفى درجات التفضيل في قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ» ((1)، فيكون تعيّين التفضيل والمفاضلة منحصراً بالوحي .

ص: 71


1- سورة الإسراء : الآية 55

قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».

تعليل لما سبق وتثبيت لمضمونه، لأنّه كان بحكمة منه عزّ وجلّ وعلم والظاهر إنّه خطاب للرسول صلّي الله علیه و آله بطريق الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، تطيّیباً لقلبه ومزيد اللّطف والعناية به صلّي الله علیه و آله .

ويمكن أن تكون الآية عامّة تشمل جميع ألطافه عزّ وجلّ لعموم خلقه وعنايته بعباده، فيدخل ما ذكر سابقاً دخولاً أولياً، وهذا هو الأنسب ، فتكون تعليلاً لما قبله أيضاً.

ص: 72

بحوث المقام

بحث دلالي فيما تدلّ عليه الآيات الشريفة:

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور :

الأوّل : تدلّ مجموع الآيات المتقدِّمة بأسلوبها المميَّز البديع، على بيان المصداق الكامل لمن قام بدين الفطرة، وعقيدة التوحيد ، والتبرّؤ من الشرك، والابتعاد عن الوثنية، في أفصح مقال وأحسن وجه ، وقد تمثّل في إبراهيم خليل الرحمن علیه السّلام رائد هذه الدعوة الحقّة، وحامل لواء التوحيد، والمجاهد في الردّ على المشركين، وإظهار زيف الشركاء في عصر انتشرت فيه عقيدة الشرك والوثنيّة، فلم يبق من عقيدة التوحيد التي نادى بها الأنبياء قبله، لاسيّما نوح علیه السّلام الذي دعا قومه جهاراً ليلاً ونهاراً سرّاً وعلانيةً ، ولا من وصاياهم اسمٌ ولا رسم ولا شيء يذكر إلّا ما كان من ومضات الفطرة وإيحاء العقول ، ولم يتصدّ لهذه الدعوة المباركة إلا بعد أن تزوّد بكلّ ما يؤهّله لتحمّل المسؤولية العظيمة، شأن سائر أنبياء الله العظام صلوات الله عليهم أجمعين ، فقد حباه الله الحكمة والعلم والشجاعة، ولقّنه الدلائل والبراهين والحجج، فأورثه اليقين الذي هو المطلوب في هذا المسير العقائدي الطويل ، وهو فى هذا المسير يدعو ربِّه متضرّعاً لديه أن يرزقه الهداية ويسلّم أمره إليه سبحانه في غاية الانقطاع والخضوع ، فكان عبداً مطيعاً قد طبق المنهج الذي يريد أن يبيّنه إلى الناس على نفسه ابتداءً ، حتّى صارت دعاواه براهين واضحة مبنيّة على اليقين لا على مجرّد الخيال والتصوير ، وحججه واضحة جليه لا أن تكون أفكاراً تصنعية، اتّسمت بالبساطة، وخليت عن التعقيد والتفاصيل لتقبّلها تلك الأذهان المليئة بالخرافات، وإن كانت ساذجة، لعلّها تقدح

ص: 73

عندهم نور الفطرة الكامنة في نفوسهم، وفي جميع المراحل التي مرّ بها هو عالم فطن بما يجري حوله، وهو على بيّنة من أمره، كما قال تعالى حكاية عنه : «يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ ...» (1).

نعم ،

الأنبياء الله حالات خاصّة معه سبحانه، قد يحتجبون عن الخلق برهة من الزمن لأغراض متعدّدة، منها صفاء النفس وسموّ الروح والزُّلفى لديه سبحانه ، كما بالنسبة إلى خاتم الأنبياء في غار حراء، وموسى بن عمران في طور سيناء، وإبراهيم خليل الرحمن في بعض المغارات، ولكنّه لم ينقطع عن قومه بالكلّية، يعلم بما يدور بينهم ، فما ذكره بعض السادة المفسِّرين من أنّه لم يعلم بما يدور حوله خلاف ظواهر الآيات وسيرة الأنبياء.

وهو علیه السّلام استفاد من الفطرة المودعة في الإنسان، فأثارها عند الناس في دعوتهم للتوحيد ونبذ الأنداد ، فإنّ في الفطرة لطائف الشعور والإحساس والتعقّل وأوائل التفكّر ، فاعتمد عليها في شريعته التي سُمّيت بدين الفطرة، وبقيت في جميع الشرائع الإلهيّة، لاسيّما شريعة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله، فجعلهم يتفكّرون في أمر دينهم، فإنّ القرآن الكريم يحكي محاجّته مع قومه : «مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (2) .

وفى مقام آخر يحاججهم على عبادة ما يصنعونه بأيديهم، فيقول : «مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (3) .

أو يرجع إلى ما هو المعروف بينهم كقوله : «هَذَا أَكْبَرُ» .

ص: 74


1- سورة مريم : الآية 43
2- سورة الشعراء : الآية 70 - 74
3- سورة الأنبياء : الآية 52

كما أنّه حاجّ الملك نمرود في دعواه الربوبيّة بما أوجب بهته، مع الأدب الكبير في حجاجه مع الجميع، فتراه يخاطب أباه بأدب، قال : «قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي».

وفي موضع آخر يُرجعهم إلى أنفسهم، كما في قوله لقومه بعد كسر الأصنام : «ثُمَّ تُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ».

هذا ما يستفاد من مجموع الآيات ، وسيأتي مزيد بيان .

الثاني : يدلّ قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبيهِ آزَرَ» على كفر عبادة

: الأصنام، فيدلّ على أنّ آزر كان كافراً بلا ريب. وأمّا إنّه الأب الصلبي لإبراهيم أو أنّه غيره فقد عرفت الكلام فيه ، وظاهر الآيات يدلّ على عدم كونه والداً صلبيّاً لإبراهيم علیه السّلام و تدلّ عليه القرائن المتعدّدة ، تقدّم بعضها .

وتمسّك جمع من المفسِّرين وغيرهم على ثبوت إيمان آباء الأنبياء بقوله

تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام : «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ» (1).

وقوله تعالى في حق إبراهيم علیه السّلام: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةً فِى عَقِيهِ» (2).

ولا ريب أنّ جميع العقب والأبناء لم يكونوا كذلك ، فلابدّ أن يكونوا آباء الأنبياء الذي هو القدر المسلِّم به .

وأشكل على الأوّل: بأن«ه يدلّ على الأبناء الصلبيّين . وعلى الثانى بأنّ المقصود جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في نسله وذرّيته، على أنّه لا تخلو سلسلة نسبه عن أهل التوحيد والإيمان ، فلا تدلّ على إيمان كل أعقابه وأحفاده.

ويرد عليهما: بأنّهما خلاف الظاهر من الآيتين ، فلابد إمّا من القول بأنّ

المراد جميع الذرّية والعقب والأبناء، وهو خلاف الواقع، وإمّا التأويل بما ذكر

ص: 75


1- سورة إبراهيم : الآية 35
2- سورة الزخرف : الآية 28

وهو خلاف الظاهر ، فيبقى الاحتمال الثالث سليماً وهو القول بأنّ المقصود هم آباء الأنبياء المنتسبين إلى إبراهيم علیه السّلام الذين هم من أبنائه وعقبه ، ويتمّ في غيرهم بعدم القول بالفصل .

كما تدلّ الآية الكريمة على أنّ أوّل من بدأ به في دعوته أن يرفض الأصنام ويبتعد عن عبادتها ويتبعه في دين التوحيد هو أبوه المسمّى ب-(آزر) ، ولعلّ التأكيد على ذكر اسمه ومنزلته الاجتماعية عند إبراهيم علیه السّلام، هو الاهتمام بإرشاد الأقربين ومَن له الصلة الأكيدة في حياة الإنسان ، وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» (1)، لما يترتّب عليه من المصالح الكثيرة، وأداءً للحق الثابت بين الأقارب والشخصيّات الدخيلة في حياة الفرد .

الثالث : يدلّ قوله تعالى : «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» على أنّ الشرك والكفر بالله العظيم هو الضلال بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ، فهو انحراف في العقيدة والإيمان الذي هو ضروري للإنسان كما أنّه انحراف عن العمل الذي يوصله للسعادة ، وانحراف عن الصراط الذي يسلكه إلى الكمال ، وانحراف في الأخلاق التي يحتاجها في تصفية النفس وتطهيرها من الرذائل، ولعلّه لأجل ذلك كان ضلالاً مبيناً ، أو لأجل كونه خلاف الفطرة التي تدعو إلى التوحيد ونبذ الشركاء، أو خلاف مرتكز العقول التي تدعو إلى الحسن وينحصر بالاعتقاد الحقّ وهو توحيد الله وتطهير السرّ من الشرك .

الرابع : يدلّ قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» على أنّ الإفاضات الربانية كانت مستمرّة ومتواردة على إبراهيم علیه السّلام، فكان تحت رعايته عزّ وجلّ، يحوطه بلطفه وعنايته، وهو ربّه الذي آمن به ، فلابدّ من إعداده إعداداً ربّانياً كاملاً لتحمّل مسؤولية عظيمة وهي نشر التوحيد بين

ص: 76


1- سورة الشعراء : الآية 214

الناس وإبطال الشرك وإبعادهم عنه .

فما يقال : من أنّ إبراهيم علیه السّلام كان يعيش في معزل من الجوّ الذي يعيش فيه أبوه وقومه ولم يكن يعرف ما يعرفه معاشر المجتمعين من تفاصيل شؤون أجزاء الكون والسنن الاجتماعية الدائرة بين المجتمعين ، وأنّه كان إذ ذاك في أوائل زمن رشده و تميّيزه ترك معزله ولحق بأبيه ، واستدل على مطلبه بأُمور بعيدة عن سيرة الأنبياء والمصلحين ، وهى خلاف ظاهر الآيات الواردة في شأن إبراهيم علیه السّلام ولاسيما آيات المقام ، ويأتى البحث في الروايات التي بيّنت أحواله علیه السّلام.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» على أنّ الملكوت غير الذي ألهمه الله عزّ وجلّ من الحجج والبراهين، وما شاهده من الآيات البيِّنات ، فهو الحقائق العينيّة التي تدلّ على كمال خالقها، وجماله المطلق، وتنزّهه عن النقائص التي يجلّ عنها ، فإنّ كل مؤمن بالله يرى انتساب وجود الأشياء إلى خالقها وفاطرها، وقيامها به عزّ وجلّ، ويهدي إلى التوحيد هداية قطعية : «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» (1) ، وقد أمر الله الجميع بالنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وهذا هو حقيقة الإيمان ، إلا أن الموجود عند الأنبياء والأوصياء شيء أكبر من ذلك، لما فضّلهم الله تعالى على سائر خلقه ، وما فضّل به بعضهم على بعض ، ومن آثار تلك الإراءة الملكوتية، أنّ إبراهيم علیه السّلام اطّلع على لا حقائق الأشياء، وأراها الله تعالى له كما هي، فأصبح من الراسخين في الإيمان، البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، وكانت تلك الإراءة الملكوتية مستمرّة عليه مرّةً بعد أُخرى، لما أفاض الله عليه من صفاء السريرة والقلب السليم، وبلوغه مراتب الكمال ، وحسن العقيدة والخلوص في النيّة، فجاهد في سبيل الله جهاداً مريراً، وتحمّل من الأذى في سبيل إرساء قواعد التوحيد ونشر

ص: 77


1- سورة الأعراف : الآية 185

دينه الحقّ ، فكانت مشاهداته حقًّ انكشف له التوحيد العيني في الأشياء ، ورأى حقائقها التي دلّت على كمال خالقها، وعظيم قدرته، وسعة علمه، وربوبيّته لها ربوبيّة تامة ، وقد صرّح إبراهيم علیه السّلام بجميع ذلك في أقواله بعد أن استشعر بها في سريرته، واعترف بها في جنانه، فكان مظهراً كاملاً لتوحيد الله تعالى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» بإيجازه البليغ على أنّ متعلّق اليقين ما يرتبط بالتوحيد وشؤونه ، وليس متعلّقه بذاته المتعالية ، فإنّ الكتاب الكريم يجلّه تعالى أن يتعلّق به شك أو يحيط به علم ، وإنّما يُسلّم به تسليماً . كما أنّه يدلّ على أن العلم اليقيني إنّما حقيقته انكشاف ما وراء الحسّ من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى.

والآية ترشد إلى أنّ من يدخل فى هذا المضمار من الدعوة إلى التوحيد ونشر معالمه، وإرشاد الناس إلى شريعته، لابدّ له من العلم، ولا يكتفي بمجرد الظن .

وترشد أيضاً على أنّ العلم الحاصل إنّما هو من الأمارات والدلائل والاستنباط الحقّ التي تسكن النفس لها ، وبذلك جمع إبراهيم علیه السّلام بين العلم النظري والعلم اللّدني، فياله من علم عظيم لنبيٍّ عظيم !! .

السابع : يرشد قوله تعالى : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً» إلى أنّ البُعد العقائد الحقّة إنّما يحصل بستر العقل بما يمنعه من التفكر والاستفادة من الآيات التكوينيّة والتدوينيّة ، وأهمّ موجبات ذلك الجهل، فإنّ الظلمة الحاصلة منه تمنع حواس الإنسان من الاستفادة الحقّة، وتستر العقل من التفكّر الصحيح ، ولعلّ ورود كلمة (جنّ) يدلّ على الستر في الظلمات إشارة إلى ما ذكرناه .

وتنكير الكوكب يدلّ على أنّه كوكب له ميزة خاصّة تستوجب أن يكون ربّاً عندهم، فهم لم يعبدوا كلّ كوكب، وإن اعتقدوا أنّ الكواكب العلوية لها التأثير

ص: 78

في السفليّات، لكن في مقام الاعتقاد بالربوبيّة إنّما كان لكواكب معيّنة ، وإن اختلف المفسِّرون في تعيينه ، كما عرفت في التفسير.

الثامن : يدلّ تغيير الأسلوب في قوله تعالى «هَذَا رَبِّي»، مع ما سبق في الأصنام على اختلافهم في الاعتقاد، فإنّ المشركين وإن اعتقدوا بأنّ للكواكب تأثيراً خاصّاً استقلالاً، لكنّهم لم يعتقدوا بتأثير الأصنام، فإنّهم تقرّبوا بها إلى الأرباب ، فتعرّض إبراهيم علیه السّلام لبطلان الإلهيّة فى الأصنام والربوبيّة في الكواكب.

التاسع : يرشد قوله تعالى : «لا أُحِبُّ الآفِلِينَ» إلى التلازم بين الحبّ والعبودية . كما أنّ في إتيان صيغة الجمع للعقلاء، الإشارة إلى أنّ غير ذوي العقول والشعور لا تستحقّ الربوبيّة أبداً ، كما أكّد عليه قوله تعالى: «يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنْكَ شَيْئاً» (1) ، وغيرها من الآيات الدالة على أنّ أول وصف يتّصف به الربّ أن يكون من أهل الشعور والعقل .

وإنّما اقتصر علیه السّلام على برهان الحبّ ،وعدمه، لأنّه برهان عام يشمل جميع الجسمانيّات التي تؤول إلى التغيّر والزوال والهلاك ، فتكون حجّةٌ قاطعة على كلّ شرك مهما بلغ .

كما أنّ الاقتصار على لفظ الأُفول دون غيره ممّا في معناه، للإشارة إلى أنّ ما سواه تعالى إلى الزوال والفناء، ولا يبقى إلّا وجه ربنا الكريم ، وما هو كذلك لا يستحقّ الربوبيّة، لقوامها بالبقاء ودوام الحضور ، فلا يستحقّ ما هو في معرض الخفاء والزوال ، وأنّها منافية للاستحقاق المذكور ، وأنّ منافاتها واضحة يكاد يعترف بها كلّ مكابر عنيد ، فهو أقرب لفظ يفيد هذا المعنى عند الأذهان الساذجة ، ولا إشكال أنّ هذا اللّفظ يدل على نفى ربوبيّة الشركاء من جهات متعدّدة، بعد أن اعتذر علیه السّلام لهم بكلّ ما يمكن أن يتصوّره أهل الشرك، ففى الشمس قال: «هَذَا أَكْبَرُ»

ص: 79


1- سورة مريم : الآية 42

لتكون دائرة ربوبيّته أوسع أو أكبر من أن يقع في زمان طلوعها ظلماً وخوفاً ممّا يقعان في اللّيل .

العاشر : يدلّ قوله تعالى : «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» على أنّ إبراهيم علیه السّلام كان على يقين من ربّه، بأنّ له تدبير هداية وهو محتاج إليها في مسيرته العقائدية ، وحجاجه مع قوم معاندين يستكبرون على الحقّ ، ويستفاد منه أنّ أُمور العباد وأحوالهم وشؤونهم لا يصلحها إلّا الهداية من ربّ العالمين .

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : «إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» على مبغوضيّة الشرك وكراهة النفوس له فيكون تأكيداً على التلازم بين الحبّ والمعبود ، والبراءة إنّما حصلت بعدما أراه ملكوت السماوات والأرض، وما ألهمه الله تعالى من البراهين والحجج ، فكان هذا الفيض من المبدأ الفيّاض من موجبات الحبّ له عزّ وجلّ والبغض للشرك والشركاء، وهو بذلك قد أتمَّ قواعد التوحيد ، وصار مصداقاً كاملاً للتوحيد ، وهو بنفسه حجّة من حجج الله سبحانه الدالة على توحيده .

الثاني عشر : إنّما خصّ إبراهيم علیه السّلام كلمة «فَطَرَ» في قوله : «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» لبيان أنّ دينه قائم على الفطرة ، ودعوته نابعة عنها، لأنّها تدعو إلى الدِّين الحقّ ونبذ الباطل بكلّ مظاهره وأهمّها الشرك ، وتهدي إلى السعادة ، ولاريب أنّ الشرايع الإلهيّة كلّها إنّما هي السُّبل الممهّدة التي توصل الإنسان إلى الكمال المنشود . ولأنّ فطر السماوات والأرض يستلزم العلم والقدرة والربوبية التامّة ، فالآية تدلّ على كمال قدرته ، والآية التالية تدلّ على سعة علمه عزّ وجلّ، وهما شرطان في استحقاق الربوبيّة.

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : «إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» على كمال إبراهيم علیه السّلام في العقل والعقيدة، فقد نزّه نفسه عن ظلمة الهلال الأهواء وشهواتها، فلم يلتفت إلى اليمين واليسار ، وصقلت مرآة قلبه ، فتوقّدت

ص: 80

عنده نار الشوق إلى ربّه، فنصب وجهه في محاذاة ربّه الذي تقدّس عن الجهة .

الرابع عشر : يستفاد من سياق الكلام في الآيات التي رتّبت الرؤية على الكوكب من غير قيد لا بحالٍ ولا وصف، وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغهما، أنّ الأوّل يصدق برؤيته قُبيل الغروب في أوّل جنون اللّيل والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي ، وفيه الردّ على كثير ممّا ذكر تفسير الآيات، لاسيما ما يتعلّق بكيفيّة وقوعه ، فراجع .

الخامس عشر : يدلّ قوله تعالى : «حَنِيفاً» على أنّ شريعة إبراهيم علیه السّلام تقوم على الحنيفيّة ، وبما أنّ حياته مطلقاً كانت على السهولة واليسر، فصارت حنيفيّةً سهلةً ، وهذا ما أكّد عليه دين الإسلام، وقد أطلق رسول الله صلّی الله علیه و آله كلمته المشهورة: «إنّما بُعثت بالشريعة السّمحة السهلة» ، وهذه الصفة صارت من سمات إبراهيم علیه السّلام أبى الشرايع الإلهيّة.

السادس عشر : يستفاد من عدم ذكر حجّة المشركين في قوله تعالى : «وَحَاجَهُ قَوْمُهُ»، أنّ حجاجهم إنّما هو أوهام لا يستحقّ ذكرها ، وإن كانت الآيات اللّاحقة تشير إليها ، وصرّح بها في غير آيات المقام، وقد عرفت أنّها تبتني على الخوف من الشركاء ، كما عرفت في التفسير .

وأمّا قوله تعالى : «أَتُحَاجُونِّي فِي اللهِ» فهو يدلّ على عظيم أمر المحاجّة الله عزّ وجلّ، لأنّه تعالى أعلى قدراً وأعظم شأناً و أوضح برهاناً ، وأجلى دليلاً وأوضح مسلكاً، ولا تناله أوهام الناس مهما بلغت فطنتها ، وقد ظهرت آثاره في مخلوقاته، وكانت من أعظمها الهداية التكوينيّة والتشريعيّة لمخلوقاته ، وهدايته نورٌ لا يقبل الظلام ولا يجتمع مع الأوهام، وهو أقوى دليل على الوهيّته العظمى وربوبيّته الكبرى فتكون نفس الهداية دليلاً آخر على ربوبيّته، فإنّها من جملة التدبيرات فلو لم يكن ربّاً لما حصلت الهداية .

ص: 81

السابع عشر : يدلّ قوله تعالى: «وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ» أَنّ كلام المشركين ينحلّ إلى أمرين: الردع عن القول بربوبيّة الله تعالى . وإثبات ربوبيّة الشركاء والتحريض عليه ، وقد أحتج إبراهيم علیه السّلام عليهما معاً، فأثبت الوحدانية لله تعالى ونفى الشركاء ، ولم يقتصر على أحدهما دون الآخر .

الثامن عشر : يدلّ قوله تعالى : «إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا» على عموم مشيئته : وإثبات قدرته وعموم متعلّقها ، فقد تتعلّق مشيئته عزّ وجلّ أن يهلك الشركاء جميعاً أو يعجزهم ، أو يحيق المكر السيء بالمشركين ، أو يصيب المؤمن ما يكره بسبب من الأسباب المعروفة ، وقد أُبهم متعلّق المشيئة لبيان سعتها ، فإنّه لا شيء في عالم الإمكان إلّا تحت مشيئته ، وفي الكلام من المهابة والتخويف ما لا يخفى ، وهو يدلّ على أنّه لا خوف على المؤمن إلّا منه عزّ وجلّ، وأنّه منفيّ عن إبراهيم علیه السّلام مطلقاً ، فإنّه لو حصل خوف من شيء غير الله تعالى، فإنّه يرجع إمّا إلى نقص في الإيمان أو علة أُخرى، ولعلّ إثبات المشيئة المطلقة له من جملة التدبيرات الإلهيّة .

التاسع عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً»، على أنّ الربّ لا تتمّ له الربوبيّة إلّا بعد الإحاطة العلمية بمربوبه ، وهو تعالى ربّ العالمين، وقد أحاط بكلّ شيء علماً ، ولا ريب أنّ مشيئته تابعة لعلمه الأتم فكملت مشيئته وأحاطت بكلّ شيء، فتكون الآية الكريمة من الآيات الباهرات على اُلوهيّته ، وربوبيّته التامّة ، ويدلّ على أنّ مشيئته تابعة لعلمه الأتمّ، بخلاف غيره من سائر مخلوقاته التي لها الشعور والإرادة.

وأمّا ما ذكره بعض المفسِّرين: من أنّ الآية تدلّ على نفى الشفاعة لأنّها تنفي تأثير المخلوقات التي يعبدها المشركون وغيرها في صفاته تعالى، ولا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة ولا بغيرها ، كما تدل عليه آيات نفي الشفاعة .

ص: 82

فقيه : بأنّ آيات الشفاعة تثبتها بالمعنى الذي ذكرناه في بحث الشفاعة ، وهو التوسّط فى السببيّة بإذن منه عزّ وجلّ لا أنّها تنفيها ، فإنّ العالم الكياني قائم على قانون الأسباب والمسبّبات، والقرآن الكريم يؤكد عليه في مواضع متعدّدة ، بل إنّ تجريد العالم المشهود عن هذا القانون ممّا لا يمكن الوصول إليه أبداً .

العشرون : يدلّ قوله تعالى : «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ» على نفى الخوف عنه علیه الّسلام بحسب زعم الكفّار بطريق الإلزام، بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الله الأمر ، وهو يدلّ أيضاً على أنّ جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقيّة والاعتباريّة والمجازيّة منتفية ، وإثباته إنّما هو في الشرك بالله تعالى.

الحادي والعشرون : يدلّ قوله تعالى : «مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً» على بطلان التقليد في جميع الأُمور الاعتقادية ، فلا عذر للمشركين في اعتقادهم الباطل سوى الجهل ، وهو نصّ فى أنّ الشرك باطلٌ عقلاً ونقلاً .

الثاني والعشرون : يشير قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» إلى حقيقة من الحقائق الواقعية التي تترتّب على الإيمان الحقّ ، فإنّه أمنٌ لمن آمن بشرط عدم ارتكابه الظلم الحاجب لآثار الإيمان العظيمة، التي لها ظهور جليّ في العوالم التي يرد عليها المؤمن .

وتدلّ كلمة (اللّبس) التي هي بمعنى الستر في المقام - كما عرفت - على عدم الاختصاص بارتكاب فعل مخالف للشريعة الإسلامية بنوع معيّن من الظلم الجوارحى أو العقائدي، وإن كان إلى الثانى أقرب ، كما تقدّم.

الثالث والعشرون : ظاهر قوله تعالى: «أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ» أنّ الأمن المرجوّ هو الذي نفاه المشركون عن المؤمنين بالله المعرضين عن الشركاء ، ولكن الآية لما كانت في مقام بيان الأثر الواقعى للإيمان بالله تعالى ، فلابدّ أن يكون الأمن شاملاً الجميع العوالم التي يرد عليها المؤمن، كما أنّه أمنٌ من الحُجب الظلمانية الحاصلة

ص: 83

من ارتكاب الذنوب والآثام، أو الأمن من تلك الحجب التي تحصل من العيش في هذه الدار الفانية التي تغرّ بزبرجها وزخرفها الراكن إليها ، أو ما يحصل من مخالطة أهل الدُّنيا ، وأنّ الله تعالى في جميع تلك الأدوار التي يمرّ بها المؤمن يلهمه الهداية والتوفيق للنجاة منها، وكيفيّة التخلّص منها، ويؤهّله لتلقّي الفيض الربوبي، وينجّيهم من كلّ خوف وحزن وهم مهتدون إلى الحق والصراط المستقيم، فإنّ الله يدافع عن الذين آمنوا .

الرابع والعشرون : يدلّ قوله تعالى : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ» على شدّة عنايته عزّ وجلّ بنبيّه العظيم إبراهيم خليل الرحمن علیه السّلام ، فقد أحاطه برعايته ولطفه، فأراه فى ابتداء مسيرته ملكوت السماوات والأرض، وفي الختام آتاه الحجّة التي أثبتت الدعوة إلى التوحيد، وأرسى قواعده في الخلق ، وأظهر بطلان مزاعم المشركين ، وقد بقيت هذه الحجج مدى الدهر ينادي بها روّاد التوحيد وحاملو لواء الدين الحقّ ، ولتأكيد رسوخها وظهور آثارها واشتمالها على الحكم فقد نوّه بها عزّ وجلّ فى ختام الآيات الإبراهيميّة، لتثبيت عظمتها ودوامها وأبديّتها ، وقد فاز علیه السّلام بهذه المنقبة العظيمة والفضيلة الكريمة التي رفع الله بها درجاته في الدُّنيا، فكان أبا الأديان الإلهيّة التوحيديّة، وموضع احترام جميع المؤمنين بالدِّين الحقّ ، كما أنّه خليل الرحمن ، وهو قائد الموحِّدين في الآخرة ، كلّ ذلك لم تخرج عن حكمته وعلمه فليست تلك الخصائص الثابته له علیه السّلام هي مجرّد عواطف وأحاسيس.

***

بحث روائي:

في «العيون»، قال : حدّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي ، قال : حدّثنا ابی، عن حمدان بن سليمان النيسابوري ، عن علي بن محمّد بن الجهم ، قال :

ص: 84

حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علیه السّلام ، فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : فسأله عن آيات من القرآن فيه ، فكان فيما سأله أن قال له : فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ في إبراهيم : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي»؟

فقال الرضا علیه السّلام: إنّ إبراهيم وقع في ثلاثة أصناف : صنفٌ يعبد الزُهرة، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس؛ وذلك حين خرج من السرب الذي اُخفى فيه، فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى الزهرة، قال : هذا ربّي على الإنكار والإستخبار، فلمّا أفل الكوكب ، قال : لا أحبّ الآفلين، لأنّ الأقول من صفات المُحْدَث لا من صفات القديم، فلمّا رأى القمر بازغاً قال : هذا ربّي على الإنكار والاستخبار ، فلمّا أفل قال : لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين ، فلمّا أصبح رأى الشمس بازغة قال : هذا ربّي هذا أكبر من الزّهرة والقمر، على الإنكار والاستخبار، لا على الإخبار والإقرار ، فلمّا أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس : يا قوم إنّي بريءٌ ممّا تشركون إنِّي وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.

وإنّما أراد إبراهيم بما قال أن يبيِّن لهم بطلان دينهم، ويُثبت عندهم أنّ العبادة لا يحقّ لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنّما يحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض، وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله عزّ وجلّ و آتاه كما قال عزّ وجلّ : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ» .

فقال المأمون : لله درّك يا ابن رسول الله».

أقول : الحديث الشريف يبين أحسن الوجوه المحتملة في تفسير الآيات الكريمة وهو الموافق لسياقها ، وإن لم تبيّن جميع الخصوصيّات إلّا ما كشفه الأئمّة الطاهرون علیه السّلام .

ص: 85

وأمّا ما ورد فيه من أنّ إبراهيم علیه السّلام كان في السرب (المخبأ) الذي أخفي فيه، فهو لا يدلّ على أنّه علیه السلام كان بمعزل عمّا يدور حوله ، كما ادّعاه بعض السادة المفِّسرين ، وقال :

(إنّ علماء الحديث والآثار كأنّهم مجمعون على أنّ إبراهيم علیه السّلام كان بادئ عمره قد أُخفى فى سرب، خوفاً من أن يقتله الملك نمرود، ثمّ خرج عنه بعد حين فحاجّ أباه و قومه في أمر الأصنام والكوكب والقمر والشمس، وحاجّ الملك في دعواه الربوبيّة) .

وهو وإن ذكره جمع من العلماء والمفسِّرين، لكن ليس له شاهد من الآيات الشريفة التي سردت قصّة إبراهيم علیه السّلام العقائدية . نعم أسلوبها يحكى عن أنّه رجل بسيط في حياته، ساذج في عقائده، لكنّه متبصّر لشؤونه، وهذا غير ما ذكروه، فراجع.

وتقدّم الوجه في تأويل قوله : «هَذَا رَبِّي» وأنّ ما ذكر في الحديث هو الموافق للذوق السليم وظاهر الآية الشريفة ، وعرفت الوجوه الأُخرى في التفسير.

وأمّا قوله : «لأنّ الأفول من صفات المُحْدَث»، فهو يؤيّد ما ذكرناه من أنّ الآية الشريفة تدلّ على المطلوب بوجوه عديدة منها ما ورد في الحديث المتقدم.

وبالجملة: إنّ ما ورد في الحديث الشريف موافق لظواهر الآيات وسياق آية المقام.

الروايات الواردة حول آزر ونمرود وإبراهيم

في روضة «الكافي»، عن على بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال :

«إنّ آزر أبا إبراهيم علیه السّلام كان منجِّماً لنمرود ، ولم يصدر إلّا عن أمره، فنظر ليلة في النجوم فأصبح وهو يقول لنمرود : لقد رأيت عجباً ، قال : وما هو ؟ قال :

ص: 86

رأيت مولوداً يولد فى أرضنا يكون هلاكنا على يديه، ولا يلبث إلّا قليلاً حتّى يحمل به ، قال : فتعجّب من ذلك ، قال : وهل حملت به النساء؟ قال : لا . فحجب النساء عن الرجال، فلم يدع امرأة إلّا جعلها في المدينة لا يخلص إليها ، ووقع آزر بأهله فعلقت بإبراهيم علیه السّلام، فظنّ أنّه صاحبه ، فأرسل إلى نساء من القوابل في ذلك الزمان لا يكون في الرحم شيء إلّا علمن به ، فنظرن فألزم الله عزّ وجلّ ما في الرحم الظهر ، فقلن ما نرى في بطنها شيئاً، وكان فيما أُوتي من العلم أنّه سيُحرق بالنار ، ولم يؤت علم أنّ الله تبارك وتعالى سيُنجيه ، قال : فلمّا وضعت أُمّ إبراهيم أراد آزر أن يذهب به إلى النمرود ليقتله ، فقالت له امرأته : لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله ، دعني أذهب به إلى بعض الغيران (جمع الغار) أجعله فيه حتّى يأتى عليه أجله ، ولا تكون أنت تقتل ابنك ، فقال لها : فامضي به ، قال : فذهبت به إلى غار، ثمّ أرضعته، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة، ثمّ انصرفت عنه، قال : فجعل الله تبارك وتعالى رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فيشخب لبنها، وجعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة ، ويشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر ويشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة ، فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ إن أُمّه قالت لأبيه : لو أذنت لى حتّى أذهب إلى ذلك الصبى فعلت ، قال : ففعل فذهبت ، فإذا هي بإبراهيم علیه السّلام وإذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان ، قال : فأخذته فضمّته إلى صدرها وأرضعته، ثمّ انصرفت عنه ، فسألها آزر عنه فقالت : قد واريته في التراب . فمكثت تفعل فتخرج في الحاجة ، فتذهب إلى إبراهيم علیه السّلام فتضمّه إلى صدرها وترضعه ثمّ تنصرف ، فلمّا تحرّك أتته كما كانت تأتيه، فصنعت به کما کانت تصنع فلمّا أرادت الانصراف أخذ بثوبها فقالت له : مالَكَ ؟ فقال : إذهبي بي معك ، فقالت له : حتّى أستأمر أباك ، فقامت أُمّ إبراهيم علیه السّلام إلى آزر فأعلمته القصّة ، فقال لها : اثتيني به فأقعديه على الطريق، فإذا مرّ به إخوته دخل معهم ولا يعرف ، قال : وكان

ص: 87

إخوة إبراهيم علیه السّلام يعملون الأصنام ويذهبون بها إلى الأسواق ويبيعونها ، قال : فذهب إليه فجاءت به حتّى أقعدته على الطريق، ومرّ إخوته فدخل معهم ، فلمّا رآه أبوه وقعت عليه المحبّة منه ، فمكث ما شاء الله ، قال : فبينما إخوته يعملون يوماً من الأيّام الأصنام، إذ أخذ إبراهيم علیه السّلام القدوم وأخذ خشبةً فنجر منها صنماً لم يروا قطّ مثله ، فقال آزر لأُمّه : إنّي لأرجو أن نُصيب خيراً ببركة ابنك هذا ، قال : فبينما همّ كذلك إذ أخذ إبراهيم علیه السّلام القدوم فكسّر الصنم الذي عمله، ففزع أبوه من ذلك فزعاً شديداً ، فقال له : أي شيء عملت ؟ فقال إبراهيم علیه السّلام أتعبدون ما تنحتون؟ فقال آزر : هذا الذي يكون ذهاب ملكنا على يديه» .

أقول : روى مثله الصدوق في «إكمال الدّين»، والقمّي والعيّاشي في «تفسيرهما» كما روى مثله أيضاً من طرق أهل السُنّة عن مجاهد، والطبري في ، «تاريخه» ، والثعلبي في «قصص الأنبياء» عن عامّة السلف وأهل العلم .

ويناقش تلك الروايات :

أولاً : بما تقدّم في التفسير من أنّ كون آزر أبا إبراهيم علیه السّلام مخالفٌ لظاهرالآيات الإبراهيميّة .

وثانياً : مخالفتها لروايات أُخرى تدلّ على عدم كون آزر أبا إبراهيم :

منها : رواية أبي بصير التي نقلها في« قصص الأنبياء» عن الصدوق عن أبيه وابن الوليد بنفس السند المزبور إلى أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال :

«كان آزر عمّ إبراهيم منجِّماً لنمرود، وكان لا يصدر إلّا عن رأيه ، قال : لقد رأيت في ليلتي عجباً ، قال : ما هو ؟ قال : إنّ مولوداً يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه ، فحجب الرجال عن النساء ، وكان تارخ وقع على أُمّ إبراهيم فحملت ...»، ثمّ ساق الحديث إلى آخره.

والحديثان متّفقان في السند والمضمون إلّا في أبي إبراهيم صاحب نمرود ،

ص: 88

وقد تصدّى جمع من العلماء في التوفيق بين الروايتين المتعارضتين ، فقال المجلسي في «البحار» : (الظاهر إنّ ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه ، وإنّما غيّره ليستقيم على أصول الإماميّة).

كما جمل جمع من العلماء منهم المجلسي قدّس سرّه تلك الروايات التي تدلّ على أنّ أزركان والد إبراهيم على التقيّة .

وثالثاً : إنّ هذه الروايات مخالفة للأخبار الواردة من الفريقين على أنّ آباء النبيّ صلّی الله علیه و آله كانوا موحِّدين جميعاً لم يكن فيهم مشرك ، قال الطبرسي في «مجمع البيان»: (صحّ عندهم أنّ آباء النبيّ صلّی الله علیه و آله إلى آدم كلّهم كانوا موحِّدين ، وأجمعت الطائفة على ذلك ، وروي عن النبيّ صلّی الله علیه و آله أنّه قال : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا).

ولكن يمكن أن يُقال : إنّ المراد من الطاهرين والمطهّرات هو عن دنس الزنا، فلم يتحقّق في سلسلة آباء النبيّ صلّی الله علیه و آله وأُمّهاته إلى آدم علیه السلام. أو أن يُراد بالطاهرين والمطهّرات الكفر الجحودي، لا الكفر القصوري مع عدم تماميّة الحجّة ، وبذلك يمكن أن يجمع بين الروايات والآية .

ورابعاً : إنّ الروايات التي تدل على كون آزر أبا ابراهيم مخالفة للكتاب ، والمجمع عليه عند الإماميّة ، وتقدّم في التفسير ما يدلّ على أنّ تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - هو الأب الحقيقى لإبراهيم علیه السّلام ، ويدلّ عليه إجماع الإماميّة ، وأنّ آزر اسم لعمّه ، أو لقب ، أو اسم صنم أو وصف مدح أو ذم فراجع.

وفي «تفسير القمي» في قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» قال : حدّثني اسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن، عن هشام، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال :

«كشط له عن الأرض ومن عليها ، وعن السماء ومن عليها ، والملك الذي

ص: 89

يحملها ، والعرش ومن عليه ، وفعل ذلك برسوله صلّی الله علیه و آله الا الله وأمير المؤمنين علیه السّلام» .

أقول : روى مثله الصّفار في «بصائر الدرجات» عن عبد الله بن مسكان ، عن الصادق علیه السّلام ، كما رواه عن عبد الرحيم القصير عن الباقر علیه السّلام ، ورواه العيّاشي عن زرارة وأبي بصير عن الصادق علیه السّلام ، وعن زرارة وعبد الرحيم القصير عن الباقر علیه السّلام ، كما رواه في «الدّر المنثور» عن ابن عبّاس، ومجاهد، والسدّي من مفسِّري السلف .

وكيف كان، فإنّ المستفاد منها أنّ الملكوت شيء وراء الملك ، فإنّ الملكوت معرفة حقائق الأشياء التي تدلّ عليه سبحانه بالوحدانية والتوحيد في الربوبيّة والصفات، فلا يرى من منحه الله تعالى هذه الموهبة إلّا الله خالق الملك والملكوت، متّصفاً بالربوبية التامّة، وجميع صفات الجمال ، كما عرفت في التفسير .

وفى «الكافي» عن أمير المؤمنين علیه السّلام في جواب الجائليق عن قوله تعالى : «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ» (1)

في خبرطويل، قال علیه السلام :

«فالّذين يحملون العرش همّ العلماء الذين حَمّلهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله علیه السّلام فقال : «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ الا مِنَ الْمُوقِنِينَ» وكيف يحمل حملة عرش الله ، وبحياته حييت قلوبهم، وبنوره اهتدوا إلى معرفته .

أقول : سيأتى نقل الحديث بكامله في معنى العرش في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى، وهو يدلّ أيضاً على أنّ الملكوت حياة الأشياء، وليس مجرّد الانتساب الملكي إليه عزّ وجلّ ، كما هو واضح .

ص: 90


1- سورةالحاقة : الآية 17

وفي «تفسير القمّي» عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال :

«لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض التفت فرأى رجلاً يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات، ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم أنّ دعوتك مُجابة، فلا تدعُ على عبادي فإنّي لو شئت لم أخلقهم، إنِّي خلقتُ خلقي على ثلاثة أصناف عبدٌ يعبدني ولا يشرك بي شيئاً، وعبدٌ يعبد غيري فلن يفوتني ، وعبدٌ يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني».

أقول : الروايات في هذا المعنى مستفيضة نقلها العيّاشي في «تفسيره» ، والكليني في «الروضة» مسنداً عن أبي بصير ، والصدوق في العلل عنه علیه السّلام، والطبرسي في «الاحتجاج» عن العسكري علیه السّلام ، ورواه السيوطي في «الدّر المنثور» عن عليّ عن النبيّ صلّي الله علیه و آله ، وعن أبي ،الشيخ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الشعب» من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وآله ، ورواه عدة من المفسِّرين موقوفاً . ويستفاد منها إنّ إراءته ملكوت السماوات والأرض كانت بما هي في حاق الواقع لا بظواهرها فقط ، ويدلّ عليه ما رواه في «الاحتجاج» في حديث طويل عن النبي الله في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ»: «قوىّ الله بصره لمّا رفعه دونالسماء حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين» .

وفي «العلل» بإسناده عن ثابت بن دينار ، قال : «سألت زين العابدین علی ابن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السّلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟

فقال : تعالى عن ذلك .

قلت : فلِمَ أري نبيّه محمّداً صلّي الله علیه و آله إلى السماء ؟

قال : ليريه ملكوت السماوات والأرض وما فيها من عجائب صنعه وبدائع

ص: 91

خلقه ... الحديث» .

وفي «الخصال» عن أبي عبد الله علیه السّلام عن أمير المؤمنين في حديث له، قال : «ولقد نظرت فى الملكوت بإذن ربّي جلّ جلاله فما غاب عنّى ما كان قبلى وما ياتي بعدي».

أقول : الروايات التي تدلّ على أنّ ملكوت السماوات والأرض حقائق الأشياء بما هي في الواقع، لا مجرّد الظواهر كثيرة، والشواهد عليه متعدّدة، فما يقال : من أنّه مجرّد عالم الملك المنتسب وجوده إلى الله تعالى الدال على ربوبيّته ليس بسدید .

ثمّ إنّ الحديث يدل على أنّ إراءة الملكوت لم تكن مقتصرة على صلى الله إبراهيم علیه السّلام، وقد منحت هذه الموهبة لمحمّد صلى الله عليه وآله ، وفي رواية أُخرى عن الصادق علیه السّلام وقد سأله أبو بصير هل رأى محمّد ملكوت السماوات والأرض كما رأى إبراهيم علیه السّلام ؟ قال علیه السّلام: «نعم وصاحبكم والأئمة من بعده».

وفي «تفسير العيّاشي» عن محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسّلام ، قال : في إبراهيم إذ رأى كوكباً ، قال : «إنّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وإنّه من فكّر من الناس فى مثل ذلك فإنّه بمنزلته».

وفي «تفسير القمي» قال : وسئل أبو عبد الله علیه السّۀام عن قول إبراهيم : «هَذَا رَبِّي» هل أشرك فى قوله هذا ربّى ؟

فقال: «مَن قال هذا اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وإنّما كان في طلب رّبه وهو من غيره شرك».

وفي «تفسير العيّاشي» عن حجر ، قال : «أرسل العلاء بن سيابه يسأل أباعبد الله علیه السّلام عن قول إبراهيم : «هَذَا رَبِّي» وأنّه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك ، قال : لم يكن من إبراهيم شرك، إنّما كان في طلب ربه ، وهو من غيره شرك».

ص: 92

وفيه أيضاً عن محمّد بن حمران، قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله فيما أخبر عن إبراهيم : «هَذَا رَبِّي» قال : لم يبلغ به شيئاً أراد غير الذي قال» .

أقول : يستفاد من هذه الروايات أنّ من يقول هذه العبارة التي تدلّ على الشرك على أصناف :

منهم: من يقولها ويعتقد بمضمونها حقيقة ، وهم المشركون، أي الفريق الذي جادلهم إبراهيم علیه السّلام كما حكاه عزّ وجلّ في الآيات الإبراهيميّة .

ومنهم: من يقولها على سبيل طلب الحقّ ليعتقد به ، وهذا هو الذي نفاه الأئمّة علیهم السّلام في هذا اليوم، أي يوم ثبوت الحق ووضوح الحقيقة بعد إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، وبعث سيِّد أنبياء الله وخاتمهم صلّي الله علیه و آله ، وبعبارة أُخرى بعد تماميّة الحجّة ووضوح المحجّة ، فهو أيضاً مشرك .

ومنهم : من كان معتقداً بالحقّ، ولكن يريد أن يزيد في المعرفة ، وهذا لا بأس به لاسيّما ما يتعلّق بالعقيدة والإيمان، فإنّه مرغوب فيه عقلاً وشرعاً، وقد ندب إليها الدِّين الحنيف، فإنّ للإيمان درجات متفاوتة .

ومنهم : من كان على معرفة تامّة بالله معتقداً بالوحدانية والربوبيّة العظمى ولكن يطلب ربّاً لغرض معيّن ، كهداية الناس ، وهذا هو الذي نهجه إبراهيم علیه السّلام في مسيرته العقائدية مع أبيه وقومه ، وبعبارة أُخرى لا يتعدّى مفهوم نفسه، ولا معنى له وراء ذلك سوى إرشاد الناس إلى الدِّين الحقّ ، فلم يكن مشركاً ، وتقدّم في ، التفسير ما يتعلّق به ، فراجع .

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر علیه السّلام في قول إبراهيم علیه السّلام: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ»: «أي ناسٍ للميثاق)».

أقول : قريب منه ما رواه أيضاً عن مسعدة عن أبي عبد الله علیه السّلام ، وهو يدلّ على أنّه علیه السّلام كان على يقين باعتقاده، وعلى أتمّ حجّة عليه ، ولكن قد يعرض

ص: 93

النسيان للميثاق لأُمور كثيرة لا يسع المقام ذكرها ، فطلب من الله تعالى دوام الهداية ، وتثبيته على الاستقامة ، وتقدّم في سورة الفاتحة ما يدل على ذلك .

في «تفسير العيّاشي» عن أبي عبد الله في قوله تعالى : «وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» قال : «الضلال فما فوق».

أقول : المراد من الضلال الشرك ، وما فوقه لوازمه ، أو يكون المراد به الغواية التي توجب ارتكاب المعاصى ، وما فوقه الشرك ، وكيف كان فالضلال إنّما يكون في الاعتقاد وإن كان يظهر أثره على الأعمال أيضاً.

وفي «الكافي» بإسناده إلى أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» قال : يشك» .

أقول : رواه العيّاشي في «تفسيره» أيضاً، والمراد به الشكّ في الله الذي الكفر.

وفى «الكافي» بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السّلام في قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم»، قال علیه السّلام: «هو الشرك» .

أقول : لا ريب أنّه أظهر أفراد الكفر فيكون من ذكر أحد أهمّ مصاديق الظلم الاعتقادي.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السّلام في قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» قال : الزنا منه . قال علیه السّلام: «أعوذ بالله من أولئك ، لا ولكنّه ذنب إذا تاب تاب الله عليه ، وقال : مدمن الزنا، والسرقة وشارب الخمر كعابد وثن».

أقول : هذه الرواية من محكمات ما ورد في هذا الموضوع ، وهي تشرح سائر الروايات، وتبيّن أنّ المراد بالظلم هو الاعتقادي منه حيث جعل المدمن على الكبائر كعابد وثن ، ولا ريب أنّه ظلم فى الاعتقاد فلابد أن يكون الظلم

ص: 94

الذي تشمله الآية المباركة ممّا يوجب سلب الأمن وإخفاء آثار الإيمان، وهو يتحقّق في نوع معيّن من الظلم وهو الظلم في الاعتقاد، فإنّه إذا كان هو المناط فلا يقتصر على الشرك والشكّ والإدمان على الكبائر، فيشمل كفر الولاية أيضاً ، ويدل العالم عليه ما رواه في «الكافي» بإسناده إلى عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله علیه السّلام في قول الله عزّ وجلّ : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» . قال علیه السّلام : «بما جاء به محمّد من الولاية»، كما ورد في تفسيره أيضاً بما عليه الخوارج ، وجميع ذلك يدلّ على ما استفدناه من الآية الكريمة من اختصاص الظلم بالاعتقادي منه ، به محمّد من فراجع.

وفي «الدّر المنثور» في قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» أخرج أحمد والبخاري ومسلمّ والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطنى فى الأفراد، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عبد ابن مسعود ، قال : لمّا نزلت هذه الآية «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم» شقّ ذلك على الناس، فقالوا : يا رسول الله وأيّنا لا يظلم نفسه ؟ قال صلّي الله علیه و آله:

«إنّه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» إنّما هو الشرك» .

أقول : رواه الطبرسى فى «المجمع» عن ابن مسعود ، والمراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه عنه عزّ وجلّ في سورة لقمان ، وهو يدل على نزول سورة الأنعام بعد هذه السورة .

كما يدلّ على أنّ المراد بالظلم هو الشرك ، وقد عرفت أنّه من باب التطبيق وبيان أعظم أفراد الظلم في الأثر وسوء العاقبة .

وفيه أخرج أحمد ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شُعب الإيمان» عن جرير بن عبد الله . قال :

ص: 95

«خرجنا مع رسول الله صلّي الله علیه و آله فلمّا برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فانتهى إلينا فسلّم فقال له النبيّ صلّي الله علیه و آله من أين أقبلت؟ فقال : من أهلي وولدي وعشيرتي أريد رسول الله . قال : قد أصبته ، قال : علّمني ما الإيمان؟ قال : تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت ، قال : أقررت . ثمّ إنّ بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى ووقع الرجل على هامته فمات ، فقال رسول الله صلّي الله علیه و آله: هذا من الذين عملوا قليلاً، وأجر وا كثيراً، هذا من الذين قال الله : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»، إنّي رأيت الحور العين يُدخلن في فيه من ثمار الجنّة فعلمت أنّ الرجل مات جائعاً».

أقول : رواه العيّاشي في «تفسيره» عن جابر الجعفي مرسلاً عن النبيّ صلّي الله علیه و آله ويشبهه ما رواه السيوطي في «الدّر المنثور» أيضاً عن عبد بن حميد عن إبراهيم التيمّي، إنّ رجلاً سأل عنها النبيّ صلّي الله علیه و آله فسكت حتّى جاء رجلٌ فأسلم، فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى قاتل ،فاستشهد ، فقال النبيّ صلّي الله علیه و آله : هذا منهم ، من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم». ويأتي فيهما ما ذكرناه آنفاً.

وفيه أخرج الفاريابي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم، وصحّحه ، وابن مردويه عن علي بن أبي طالب، في قوله : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» قال : «نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه خاصة ليس في هذه الأمُّة».

أقول : الرواية بظاهرها مخالفة للقواعد الثابتة فى الأديان الإلهيّة، لا سيّما شريعة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، وقد عرفت أنّ مضامين الآيات الإبراهيميّة هي من الحجج القويمة التي توافق الفطرة ومرتكزات العقول، فلا اختصاص لها بأُمّة دون أُخرى، أو عصر دون آخر.

ص: 96

هذا وإن بعض المفسِّرين قال في توجيه الحديث: إنّ المراد به أنّ الله خصّ إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقاً، لا أمن الخلود فيه ، ولعلّ سبب هذا - إن صحّ - يرجع إلى أنّ الله تعالى لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاء بشرائعهم المدنية الشديدة لهم فى الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها ، ثمّ ذكر كلاماً طويلاً من بيان شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم، وباركه وأخذ منه العشور، كما في سفر التكوين ، فإنّها كالتوراة في أكثر أحكامها .

ويرد عليه: - مضافاً إلى أنّ كثيراً من كلامه يرجع إلى جهله بالتاريخ وخصوصيّات الشرايع الإلهيّة - أُمورٌ :

الأول : إنّه لم يكن حمورابي معاصراً لإبراهيم النبيّ صلّي الله علیه و آله ، كما عرفت في التفسير .

صلى الله عليه وسلم الثاني : إنّه لم يكن ملكاً متديِّناً، بل كان وثنياً وقد استمدّ في كتابة شريعته بعدّة من آلهة الوثنيِّين ، كما تقدّم.

الثالث : إنّ الله تعالى كلّف قوم إبراهيم كما كلّف أقوام الأنبياء والمرسلين ، فلهم شريعة كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة ، منها قوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» (1). وقوله تعالى: «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً» (2).

فكانت ملّته جامعة للأُصول والفروع التي حفظت في سائر الشرائع التي جاءت بعده ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى» (3).

ص: 97


1- سورة الحج : الآية 78
2- سورة البقرة : الآية 135
3- سورة الشورى: الآية 13

نعم تختلف الشرايع الإلهيّة سعةً وضيقاً ، كما هو معلوم.

الرابع : إنّ شريعة إبراهيم علیه السّلام توافق الفطرة وتهدي إليها ، كما قال تعالى مخاطباً نبيه علیه السّلام : «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» (1) ، فما كان كذلك فهو محفوظ في جميع الشرائع الإلهيّة ، ولذا كانت أُصول الأحكام الإلهيّة وقواعد الشريعة محفوظة في جميع الشرايع الإلهيّة ، وإن كانت تختلف في بعض التفاصيل المصالح معروفة ، فإذا كان في شريعة حمورابي شيء حسن، فهو إمّا راجعٌ إلى ما تقتضيه فطرة العقول، أو مأخوذ من الشرايع الإلهيّة لا أن تكون شريعة حمورابي مذكورة في الشريعة اليهودية ، كما يدّعيه .

***

بحث تاریخی عقائدي :

عرفت إنّ الإله هو المعبود ، فكلّ من عبد شيئاً فقد اتّخذه إلها ، أمّا الربّ فهو المالك السيِّد المدير المتصرّف المدبّر لأُمور مملكته ، وكلّ من عبد الله تعالى فقد اتّخذه إلهاً معبوداً بحقّ ربّاً، مالكاً لما سواه، يتصرّف فيه تصرّف تدبير وتربيب، لأنّه المالك الحقيقي ، وأنّ الخلق مملوك له عزّ وجلّ خاضع لسلطانه ، وهذا الاعتقاد البسيط الأوّلي مودع في الفطرة ويدعو إليه العقل ، وكان الإنسان عليه برهة من الزمن، حتّى ظهرت العقائد الزائفة فسرت نور الفطرة، وقد ذكرنا أنّ الأسباب لعبادة غير الله تعالى واتّخاذ الأرباب المتعدّدة، وصور العبادة أيضاً كثيرة، يجمعها اتّخاذ بعض المخلوقات بما له من الخصوصيّة رباًّ، وإثبات القدرة له على النفع والضر ، وقد جعلوا لها تماثيل وأصناماً، وهو الشرك الذي له أنواع: فتارةً يكون شركاً في المعبودية، وأُخرى شركاً في الحكم، وغير ذلك ممّا ذكره

ص: 98


1- سورة الأنعام: الآية 161

القرآن الكريم ، والشرك بكل أنواعه لم يكن على وتيرة واحدة على مرّ العصور، فإنّه ربما يبلغ به بحيث يستوعب أكثر أفراد الإنسان، ويطبق على عقائدهم وأفكارهم ، ففي عصر إبراهيم علیه السّلام كان الشرك مطبقاً على أفكار قومه ، فقد اتّخذوا الأصنام آلهة معبودات ، كما اتّخذوا الكواكب أرباباً لها التأثير في السفليّات، فقد اتخذوا الشمس ربّاً ، والقمر ربّاً ، والكواكب السيارة أرباباً، وجعلوا لكلّ واحداً منها إسماً معيّناً ، وربطوا كلّ إله بجهة معينة ، فكان عندهم ربّ للماء ، وربّ للأرض ، وربّ للهواء ، وربّ للنار ، وهكذا.

ولا إشكال في أنّ أصل العبادة والخضوع للمعبود الحقّ أمرٌ فطري محبوب لدى العقل، وقد فطر الله سبحانه الناس عليه وخلق الإنسان وهو يعبد الله تعالى كما عرفت سابقاً . حتّى حصل الانحراف عن الفطرة رويداً رويداً، فأوجب طمسها ممّا أدّى إلى انتشار الشرك والعقائد ،الزائفة، وقد كان لذلك أسباب عديدة: من الجهل المطبق ، والممارسات الشيطانية التي حصلت من السلطات الزمنية ، ومكر الكَهَنة والعلماء فكتموا الدِّين الحق ، ولذلك يكون الشرك بجميع وجوهه الزائفة أمراً مرفوضاً من الفطرة والعقل الداعي إلى اتّخاذ الحكمة في الاعتقاد والعمل، وعبادة الله الواحد الأحد، الجامع لجميع الصفات الكماليّة، وتبقى عبادته باقية مع بقاء المخلوقات، فهي أزليّة وأبدية باقية ببقاء الله المعبود الحقّ، لا يمكن محوها وإزالتها أبداً ، فإنّ المشركين وإن عبدوا غير الله تعالى، لكنّهم لم يخرجوا عن أصل العبادة المركوزة في النفوس ، فهم وإن أخطأوا الطريق والتطبيق، ولكنّهم لم ينكروا أصل الهداية ، فلابدّ أن يكون الخروج عن الصراط المستقيم والهداية الربانيّة لأمر أقوى تأثيراً فى الإنسان ليخطف أحاسيسه، ويغلب عقله، فتقف حاجزاً عن تأثير الفطرة أو التأثير بها ، ولا إشكال في أنّ العوامل الطبيعية والجغرافية ، أو الوراثية ونحوها لها الدخل في انتقاء الآلهة لدى المشركين واتّخاذ الأرباب ، كما دلّت

ص: 99

عليه الآثار المستخرجة عن الأقوام الغابرة.

ما ورد في التاريخ حول المجتمع الذي عاش فيه إبراهيم علیه السّلام والآلهة التي كان المشركون يعبدونها

فقد كان إبراهيم علیه السّلام وقومه يعيشون في أرض العراق التي كانت لها جغرافية له معيّنة، وكان العمل السائد عندهم هو الزرع والفلاحة ، وكانت أرض العراق تنقسم إلى الشمال والجنوب، ويقطن فى كلّ واحد من المنطقتين أقوام لهم عاداتهم وتقاليدهم ، ولكلّ منها آلهة ربما تتوافق بحكم الجوار ، إلّا أنّ الغالب بينهم الاختلاف تبعاً لطبيعة الأرض في كلّ من المنطقتين . وقد ذكر المؤرِّخون أنّ أغلب المعتقدات التي انتشرت في المناطق العراقية ترجع إلى الحضارات الزراعية التي انتشرت فيها ، ومن خلال الآثار التي خلفتها لنا هذه الحضارات، يظهر أنّ سكّانها قد عبدوا الخصوبة بجميع أشكالها ، وكلّ شيء يساعد على الإنتاج في الحياة ، وقد رمز وا لهذه العبادة بالدُّمى المصوّرة للآلهة، وأهمّها آلهة الأم ، ولما كان الإنتاج تابعاً إلى الخصوبة ، وهي تابعة لكمّية الأمطار التي هي متذبذة في العراق وقتئذ تزيد وتنقص ، فإنّ هذا التذبذب فى كميّة الأمطار، دفع إنسان تلك المناطق الى أن يتّجه إلى العوامل الجوّية المؤثرة على المطر والزرع والحصاد، التي تؤثّر على الزرع والإنسان والحيوان، فإنّ هذه الظروف قد أدّت إلى ظهور فكرة دينية جديدة، تعتمد طقوسها على قدسية العوامل الطبيعية ، فكان النظر إلى الماء على أنته أساس الحياة ، وبالرغم من أنّ ما ذكرناه عن نشأة المعتقدات الدينية لفترة العصور التاريخية، إلا أنّه ليس كافياً ما لم تكن طبيعة الديانة خلال العصور التاريخية تنسجم ونوعية الأسباب التي ذكرناها، فقد أدّت إلى ظهور أفكار دينية جديدة اعتمدت في أساسها على تقدير العوامل الجوية المؤثرة على المطر والزرع والحصاد، فعبدوا الآلهة الرئيسة والتي تتمثّل بالآلهة (انو) إله السماء، والإله (انليل) إله الهواء، والإله (أنكى) إله الأرض، والإله (اوتو) إله الشمس، وهي الآلهة التي عظمتها أغلب الملاحم والأساطير السومريّة والبابليّة، وإن كان

ص: 100

سكّان بلاد وادي الرافدين لم يتساءلوا على الإطلاق عن نوعيّة القوّة التي قامت بخلق الآلهة الرئيسة، بل اعتبروا وجودها من الأُمور الأزلية التي لا تحتاج إلى نقاش ، واعتبروا أنّ هذه الآلهة هى التى قامت بخلق الكون والإنسان، والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يتحسّسون تأثير هذه العوامل على حياتهم وعلى محاصيلهم الزراعية، ولكنّهم لا يعلمون كيف تكونت في الأصل فحوّلوها إلى آلهة واعتبروها أزلية .

فالإله (آنو) الذي يعتبر قمّة الآلهة السومرية ، وهو والد للعديد من الإلهة مثل إله الهواء (إنليل) ، وإله الجوّ (اشكور أدد) ، وإله الحبّ والحياة (أنانا) . نعم وإن كان هناك اعتقاداً أخر مفاده بأنّ الإله (انانا) هى ابنة لإله القمر ، وهو والد الإله (بابا) إله مدينة لكش، وزوجة الإله (ننكرسو) ، والآلهة (كاتوم دوك) التي تعتبر أُمّ جمیع الأطفال، وأُمّ مدينة لكش، ومن خلال أُبوّة هذا الإله لعدد من الآلهة وغيرها من الأرواح الشرّيرة، دفع العراقيِّين القدامى إلى أنّ يروا في هذه الإله السبب في معظم ما كان يُصيبهم من خيرٍ أو شرّ. ويأتي في المرتبة الثانية الإله (انليل) إله الهواء ، وله ألقاب كثيرة ، ويعتبرونه هو الذي قام بفصل السماء عن الأرض، وله مواقف سلبية تجاه البشر .

ثمّ الإله (اوتو) وهو إله الشمس، وهو من جملة الآلهة الرئيسة، لكنّه يأتى في المرتبة بعد مرتبة إله القمر ، وهو الذي يستطيع أن يكشف بضيائه الظلمات، كما أنّه القادر على رؤية كلّ شيء ، ولذلك اعتبروه إله الحقّ والعدل، ولعلّه لأجل ذلك ذكر إبراهيم علیه السّلام إنه أكبر.

هذه هي جملة معتقدات سكّان وادي الرافدين قبل زمان إبراهيم علیه السّلام والمعاصر له ، فإنّ قوم إبراهيم علیه السّلام قلّدوا في عبادة الأصنام آباءهم، وتدلّ عليه محاجّته لهم في سورة الشعراء (آية (69) واتّخذوها آلهة معبودين ، ولكنّهم كانوا

ص: 101

یعتقدون أنّ الكواكب لها من التأثير التامّ في الأرض فاتخذوها أرباباً، فقالوا إنّ الشمس ربّ النار ، والسماء يدبّر الملوك ، وكذلك اعتقادهم في زحل واسمه (بينى)، وأنّ المشتري وهو (مرداخ) شيخ الأرباب ، وربّ العدل والأحكام، وأنّ (رنكال) وهو المريخ ربّ الصيد وسلطان الحرب، وإنّ الزهرة وهي (عشتار - أونانا) ربّة الغبطة والسعادة ومُفيضة السرور على الناس ، وإنّ (بتو) وهو عطارد ربّ العلم والحكمة.

هذه مجمل عقائدهم في الأرباب العلوية، ولكنّهم يعتبرون إله الشمس أعظم الآلهة، والقرآن الكريم قد ذكرها بقوله ( هذا أكبر)، ولم تقتصر عبادتها على قوم إبراهيم علیه السّلام وسكّان الرافدين بل كانت عامّة أهل العصر عليها .

قال المسعودي في مروج الذهب : كان كثير من أهل الهند والصين : وغيرهم من الطوائف، يعتقدون أنّ الله عزّ وجلّ جسم، وأنّ الملائكة أجسام لها أقدار، وأنّ الله تعالى وملائكته احتجبوا بالسماء فدعاهم ذلك إلى أن اتّخذوا تماثيل وأصناماً على صورة الباري عزّ وجلّ، وبعضها على صورة الملائكة ... يعبدونها وقرّبوا لها القرابين ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى وقربها منه . فأقاموا على ذلك برهةً من الزمان، وجملة من الأعصار، حتّى نبّههم بعض حكمائهم على أنّ الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى و أنّها حيّة ناطقة تختلف فيما بينها وبين الله، وأنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم فإنّما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله، فعظّموها وقرّبوا لها القرابين لتنفعهم، فمكثوا على ذلك دهراً، فلمّا رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات اللّيل لما يعرض فى الجوّ من السواتر ، أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها...).

ما ورد عن ديانة الصابئة

وأمّا الصابئة: فهم على طائفتين؛ إحداهما تعتقد أنهم من أتباع إبراهيم علیه السّلام،

ص: 102

وقد عدّهم القرآن الكريم في عداد الموحِّدين ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بهم وبعقائدهم في سورة البقرة ، وقد ذكر المسعودي أنّ مذهبهم كان نوعاً من التحوّل والتكامل في دين الوثنية . وذكر المؤرخون كثيراً من عقائدهم، ولكن الذي غفلوا عنه هو أنّ الصابئة ظهرت بعد إبراهيم علیه السّلام ، فما ذكره بعض من الإشكال من أنّ الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن المجيد أنّ إبراهيم علیه السّلام تعرّض لآلهتهم بقوله : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبَاً قَالَ هَذَا رَبِّي ...» إلى آخر الآيات، إنّما كانوا بمدينة حَرّان التي هاجر إليها إبراهيم علیه السّلام من بابل ، أو من أور ، ولازمه أن يكون حجاجه مع عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه مع عبدة الأصنام وكسره لها وإحراقه بالنار ، وهذا لا يلائم ما هو ظاهر الآيات، أنّ قصّة الحجاج مع عبدة الأصنام والكواكب وقعت جميعاً في يومين عند أوّل شخوصه إلى أبيه وقومه.

كما أن جواب بعض السادة المفسِّرين عنه لا يخلو عن غفلة عن التاريخ، لاسيّما تاريخ الصابئة، وقد ذكرنا ما يتعلّق بمعتقداتهم في سورة البقرة ، فراجع .

ومن جميع ذلك يظهر أن جملة مما ذكره المفسِّرون في المقام لم يقم عليه دليل .

***

بحث قرآنی عقائدي:

الآيات الشريفة المتقدمة من جلائل الآيات التي نزلت في شأن تصحيح العقيدة ، وإرشاد الناس إلى الدِّين الحقّ ، فقد جمعت من الدلائل أكملها، ومن البراهين أفضلها ، ومن الحجج أوضحها، تثير الدهشة في القلوب ، وتدفع الشبهة عن النفوس ، وترشد الناس إلى فطرة العقول ، يتقبلها العالم والجاهل ، ويستفيدون منها على اختلاف مراتبهم في الفكر والفهم، ومن أجل سمّوها بقيت دائرة على ألسنة الموحِّدين في مر العصور، لا سيّما الأنبياء علیهم السّلام مع أممهم ، ويستفاد من تلك

ص: 103

الآيات أهمّ السَّمات والأوصاف التي تتعلّق بإقامة الحجّة على العقيدة الحقّة، والآداب التي لابدّ أن يتّصف من يريد الدخول فى المجادلة مع الباطل وأهله وكذلك النتائج التي يرغب إليها الطرفان المتجادلان .

أمّا الأوّل فإنّ من أهمّ مميّزات الحجج والبراهين التي يراد إقامتها على تصحيح العقيدة، هي :

أوّلاً : خلّوها عن التفاصيل المعقّدة التي ترد على ألسنة المعاندين والمتطفّلين على العلم .

وثانياً : عدم ذكر المنازعات التي تقع بين الباحثين الذين خلطوا الأوهام، أو الأُمور التاريخية غير المقبولة، أو الأحاديث غير المسندة إلى أهل العصمة ، أو الإسرائيليّات وغيرها ممّا لم يكن برهاناً ولم ينزل الله بها سلطاناً، كما عرفت في التفسير .

وثالثاً : صدورها عن ذهن وقّاد وفكر صاف بعيد عن الأفكار المشكّكة والأوهام السخيفة .

ورابعاً : كونها تنبع عن فطرة مودعة في الإنسان تدعو إلى التوحيد والدين الحق.

وخامساً : كونها من أوائل التعقّل والتفكّر ولطائف الشعور والإحساس.

وسادساً : كونها تصدر عن بصيرة وعلم بالخصوصيّات التي يراد طرحها على الطرف الآخر، ويقين بجميع ما يطرأ .

وسابعاً : الإلقاء بأسلوب لطيف مقبول ، وبألفاظ فصيحة ، وعبارات بديعة ، ليسكن لها طبع المخاطب .

وقد استوفت حجج إبراهيم علیه السّلام تلك الأمور ، فصارت حجة بالغة تدعو إلى التوحيد وحصر العبودية والأُلوهيّة والربوبيّة في الله الواحد الأحد، وبها كان

ص: 104

احتجاج الأنبياء والرُّسل علیهم السّلام وأمروا بتبليغها إلى أقوامهم المشركين .

وأمّا ما ذكره المتكلِّمون وبعض المفسِّرين من الأُمور الفلسفية والكلامية في الاستفادة من تلك الحجج، فهي بعيدة عن سياقها ، وإن أمكن التمسّك بها لإثبات المراد ، أو القول بأنّ تلك الحجج الإبراهيميّة لها من السموّ بحيث يستفيد منها كلّ من الخواص والأوساط والعوام بمقدار نصيبه من العلم فهو وإن كان صحيحاً في حدّ نفسه أن كلام القرآن المجيد له من الرزانة والمتانة ما يمكن أن يكون كذلك، إلّا أنّ آيات المقام لها من الظهور العرفي ما ذكرناه، فراجع .

وأمّا الآداب فقد تضمنّت الآيات الكريمة جميل الأدب مع الطرف : المخاطب، فلم يشتمل الخطاب على تحقير شأن الآلهة التي يقدسها القوم المتحاور معهم ، ولم يستعمل أسلوب الإهانة والتشويه ليثير غضبهم ، إذ نهى عن سبّ آلهة المشركين ، كما استعمل الأسلوب الهادئ المحبّب إلى النفوس ، وقد ذكر إبراهيم علیه السّلام بعض الأُمور، واستعمل بعض الخصوصيّات التي لها الدخل في إنجاح مهمته ، كما نبّهنا عليها في التفسير ، فراجع .

وأمّا الفوائد التي يستفاد من تلك الحجج والأدلّة التي أُقيمت لإثبات التوحيد ودين الحقّ، فهي متعدّدة أهمّها أنّها تدلّ على أنّ الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل فلا يكفي فيه التقليد والظنّ ، كما أنها تدل على أنّ أساس المعرفة هو النظر والاستدلال ، وإن أمكن الاستزادة عن طريق آخر غيرها كالإلهام والوحي كما هو معلوم .

وأما معارف الأنبياء: فقد قيل إنّها استدلالية ، وإلّا لما احتاج إبراهيم علیه السّلام إلى الاستدلال .

وفيه : إنّ الآيات الشريفة تدلّ على خلاف ذلك، فإنّ الله تعالى قد آتاه الحجّة والبرهان ، وأراه ملكوت السماوات والأرض وجعله من الموقنين ، كما

ص: 105

ألهمه دين التوحيد، فكيف تكون استدلالية! وإنّما جاء ذلك على لسانه لتعليم الغير ، كما عرفت .

ومن مجموع الآيات يستفاد المنزلة العظيمة لإبراهيم علیه السّلام عند الله عز وجل، فهو رائد دعوة التوحيد وإنّ دين التوحيد ينتهي إليه، ومن آثار هذا الدين المبارك أنّه قد سنّ تشريعات هي المحور في جميع الأديان الإلهيّة الثلاثة ، وهو علیه السّلام مؤسِّس قواعد الإسلام، ومن أهمّ ما شرّعه تلك الطهارات الحنيفيّة البيضاء العشر ، وإنّ السنن الصالحة من الاعتقاد والعمل في المجتمع البشري التى هى من آثار النبوّة العظيمة ، فإنّ إبراهيم علیه السّلام له الأيادي الجميلة فيها . وقد حفظها الله تعالى له فجعل أغلب الأنبياء الذين أتوا من بعده من نسله المبارك، كما حفظ شخصيته الدينيّة في هذا الدِّين الذي سمّاه الإسلام ، كما حكى عزّ وجلّ عنه «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (1)، وسيأتي في سورة إبراهيم بيان حياته المباركة .

***

بحث عرفاني حول التوحيد النظري

الآيات الشريفة على ما عرفت تدلّ على ثبوت التوحيد النظري، ومحاجّة المشركين على نبذ الشرك، ودلّت على بطلانه بأحسن وجه ، إلّا أنّها تضمّنت الإشارات العرفانية التي يستفيد منها السالك المجذوب ، بل إنّ مراعاتها في هذا السبيل يجعل الفرد المؤمن الموحِّد من مظاهر التوحيد العملي، فيكون قد اجتمع فيه النظري والعملي في العقيدة والعمل، فلا يرى إلّا الله تعالى وحده، ولا يحسّ إلّا أن يكون من آثار التوحيد، فيكون مصّداقاً حقيقيّاً لها، ومظهراً من مظاهر وحدانيّته الكبرى ، فلابد أن يخرج عن الحُجب التي تراكمت على نفسه، وقلبه

ص: 106


1- سورة الحج : الآية 87

التي كان سببها ظواهر عالم الملك ، فاعتقد تأثير الأكوان والأجرام وسائر مخلوقات الله تعالى، فمنعته عن إدراك حقائق الأشياء التي هي مظاهر ربوبيّته عزّ وجل ، وأنّ جميع ما سواه آثار صنعه ودلائل توحيده ومظاهر عظمته سبحانه .

وقد بيَّن عزّ وجلّ أنّ أوّل ما يواجه الفرد في حياته، الأشياء التي أنس بها و خلبت قلبه، فجعلته يعتقد أنّها مؤثِّرة في حياته، وقد غفل عن أنّها أشباح خالية عن الحياة ، مع أنّه لو رجع إلى نفسه وحاسبها ظهر له أنّها أوهام وخيال، وأنّ عقيدته تلك كانت ضلالاً أبعده عن الصراط الذي يوصله إلى الإيمان الحقّ، وهو توحيد الله فاطر السماوات والأرض ، ولذا ورد عن الأئمّة الهداة علیهم السّلام: «تفكُّر السلام ساعة خير من عبادة سبعين سنة» . فإنّ في التفكّر يرجع الإنسان إلى رشده، ويبعث الاطمئنان في قلبه بعد الشكّ ، فيستعدّ بذلك لتلقي الفيض الربوبي، فيوفّق للهداية الإلهيّة، ويكون فرداً صالحاً بعد أن يكون مورد ألطافه عزّ وجل، فإنْ ظهرت له بارقة ليدرك بها حقائق الأشياء فلابدّ من الطاعة التامة وإظهار العبودية والخضوع والخشوع له عزّ وجلّ، ليستزيد منها، فتظهر له الحياة التي أودعها الله تعالى في العالمين العلوي والسفلي، ويظهر له أنتها تنادي بوحدانيّته عزّ وجلّ، وأنّها غاية التسليم لبارئها ، فيتيقّن أنّه لا تأثير في الوجود إلّا لله تعالى ، وأنّه هو الأُمور بأسمائه المقدّسة، وأنّ جميع ما سواه مظاهر لتلك الأسماء الذي يدبر الشريفة ، فتذوب نفسه في جلالها، ويفنى في جمالها ، ويصبح مظهراً من مظاهرها ، فلا ينطق إلّا بالوحدانيّة الكبرى، ولا يقوى إلّا بالحقّ ولا يدين إلّا بدین الحقّ والتوحيد، فيكون ما سواه ظلالاً وسراباً، فإذا استفاد من الومضات الربانيّة، وخرج من عالم الطبيعة الجسمانية وظلماتها ، واستمدّ الحياة من مُحيى النفوس الفانية، وانكشفت الظلمات التى تحجبه عن الأنوار القدسية أنار الله تعالى قلبه فينكشف له مزيد الحقائق والمعارف ، وهو في سيره وسلوكه

ص: 107

يكون على ذكر تامّ من أمره ، وقد استولى حبّه عزّ وجلّ على قلبه ، فيبتعد عن كلّ ما يوجب البُعد عنه ، وينزجر عن كلّ ما كان قابلاً للزوال، ويتجلّى بأنوار الحقّ، فيكون إيمانه تامّاً، ويذعن بأنّه ليس فى الوجود إلّا الله تعالى، ويسلّم ذاته ووجوده للذي فطر السماوات والأرض وأودع الفطرة التي انجلت بحقيقتها لديه فتدعوه إلى السير والاستكمال، ويتجنّب عن كلّ عائق يعيقه عن هذا المسير المبارك، فينطق دوماً «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ» حنيفاً عن كلّ شيء سوى الله تعالى، حتى عن وجوده ليستعدّ في الفناء، ويوجّه نفسه إلى وجوده الحقّ عزّ وجلّ، فتنجلي له حقيقة الإيمان بتوحيده ، ويكون له الأمن إذ لم يلبس إيمانه بظلم - الأنانية، وظلم وجوده، وذنب ظهور النفس حتّى يصل إلى مقام القُرب والفناء فيما له البقاء، إذ لم يبق في الوجود الّا الواجب وما سواه آئل إلى الزوال، فقد جميع العوالم من عالم الأجسام فرآها آفلة في أُفق التغيير ، وارتقى إلى عالم النفوس المديرة فرآها أيضاً آفلة في أُفق الاحتياج ، فلابدّ من الاستكمال فصعد إلى عالم العقول المجرّدة، فوجدها غارقة في وجودها الإمكاني، وهامَ في حبّه عزّ وجلّ وعلم أنه المبدأ والمنتهى ، وعرف أنّ ما سواه حُجب لابدّ من تجاوزها لتتجلّى له أنوار الحقّ، فلا يرى إلّا الله تعالى ، كما قال سيِّد العارفين وإمامهم علي ابن أبي طالب علیه السّلام: «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده» ، رزقنا الله تعالى من نفحات قدسه، وأنار قلوبنا بأنوار ،حقائقه وكشف لنا ما يرشدنا إلى الوصول إليه، إنّه ربّنا وقد خلقنا بلطفه وأبقانا برحمته .

***

ص: 108

سورة الأنعام، الآية 84 - 92

الآية 84 - 92

«وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلِّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أَوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)».

الآيات الكريمة تبيِّن عظيم امتنان الله سبحانه على نبيّه إبراهيم علیه السّلام الذي رفعه درجات وفضّله على كثير من الأنبياء علیهم السّلام ، فقد جعل سبحانه كلمة التوحيد

ص: 109

التي دعا إليها خليله باقية في ذريته الذين حباهم الله عزّ وجلّ بالهداية، وآتاهم الكتاب والحكم والنبوّة، وقد اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقیم، فكانوا مصاديق حقيقية لهذه الدعوة المباركة ، تطبيباً لقلوب المؤمنين، وتحريضاً للناس بالاهتداء بهديهم ، وبياناً إلى أنّ عقيدة التوحيد محفوظة وباقية مهما ابتعدوا عنها ، فلا تضيع باستكبار الجاحدين، ودسائس الملحدين، ووساوس الشيطان الرجيم ، وقد أمر نبيّه الكريم صلّي الله علیه و آله بالإقتداء بهدي من سبقه من الأنبياء المهتدين بهدى الله إرشاداً إلى أنّهم ممّن أنعم الله تعالى عليهم، فلا تفوت هذه النعمة عن الناس ولكنّهم كفروا بها وقالوا إنّه لم ينزل على بشر من شيء، وقد ردّ عليهم بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب، ولكن الكافرين هم الظالمون الذين اخفوا الحقائق ثمّ ردّ عليهم بأنّ القرآن كتاب هداية مبارك، أنزله على رسوله يدعو إلى الايمان، وأنّ من يصدّق به هم المؤمنون بالآخرة، وهم على صلاتهم يحافظون ، فهي آيات جليلة تبيِّن حقيقة الهداية الإلهيّة ، ومن صدّق بها هو فهو ممّن أنعم عليه الكتاب والحكم والنبوّة ، ودعا إلى التوحيد ونبذ الشرك، فهي بمجملها آيات عقائدية تبيّن حقيقة الاعتقاد والعمل وترشد المؤمنين إلى الإقتداء بهم، وتنذر المشركين والكافرين من سوء العاقبة . وارتباطها بما سبق من الآيات واضح .

***

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ»

التفسير

قوله تعالى : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ».

بيان لما فضّل الله تعالى به إبراهيم علیه السّلام والدرجات التي رفعه إليها ، ففي الدُّنیا وهب له ذريّة طيّبة، فيهم الأنبياء الهُداة الذين حفظوا دعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك بعد أن هداهم واجتباهم . وإنّما قدّم سبحانه من أولاده إسحاق الذي هو إبن إبراهيم، ويعقوب الذي هو إبن إسحاق، لأنّه وهبه عزّ وجلّ بآية منه بعد كبر سنه

ص: 110

ويأس امرأته (سارة) ، ولأنّ منهما تفرّعت سائر أنبياء بني اسرائيل .

قوله تعالى : «كُلاً هَدَيْنَا».

أي كلّ واحد من إسحاق ويعقوب هدينا ، وتقديم (كلاً) على هدينا لبيان أنّ الهداية الربانيّة قد تعلّقت بكل واحد منهما استقلالاً لا تبعاً لأبيهما علیهم السّلام ، فهما أيضاً نبیّان هادیان مهدیان ، فيكون تقديم قصر بالنسبة إلى أحدهما لا بالنسبة إلى الغير، وفيه الإرشاد إلى أنّ الهداية ليست وراثية وإنّما هي منحة ربّانية .

قوله تعالى : «وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ».

أي وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم علیه السّلام ، وفيه إشعار بأنّ الهداية لم تقتصر على إبراهيم وذريّته ، فقد هدي نوح علیه السّلام من قبله وهو من أجداده ، وفيه البيان أيضاً بأنّ الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة ، وإيماءٌ بأنّ الشرك كان قبل إبراهيم علیه السّلام أيضاً، فقد لها عبد قوم نوح الأصنام ويقال : إنّهم أوّل من عبدوها فوحّد الله تعالى ودعا إلى توحيده ، ولقى في هذا السبيل ما لاقاه من المحن ومن عتاة قومه والمستكبرين منهم ، كما حكاه عزّ وجلّ في عدة مواضع من القرآن الكريم، فيكون ذكره أُسوة . لمن بعده من الأنبياء ، وقد عدّ سبحانه هداه نعمةً على إبراهيم علیه السّلام من حيث إنّه أبوه وإليه يرجع نسبه .

وقيل : إنّه تعالى ذكر إنعامه على خليله من حيث الفرع، ثنّى بذكر إنعامه من حيث الأصل فان شرفه يتعدى إلى الولد .

ونوح اسم ينصرف وإن كانت علّتا عدم الانصراف موجودة فيه ، وهما العَلَمية والعُجمة مثل لوط ، ولكن لخفّة البناء، وسكون وسطهما أوجب دخول التنوين عليهما ، كما في المقام وغيره .

ما يتعلّق بالنِّعم الواردة على إبراهيم علیه السّلام

قوله تعالى : «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ» .

ص: 111

بيان لتوارد النعم على إبراهيم علیه السّلام ، لأنّ مساق النظم الجليل بذكر شؤونه ، فقد آتاه الحجّة، وأراه ملكوت السماوات والأرض ، ورفعه الدرجات، ووهبه الأولاد الأنبياء ، وأبقى هذه الكرامة فى نسله ، وبقيت دعوته عند المصلحين من الأنبياء ومن بعده .

ومنه يظهر أنّ الضمير في ذريته يرجع إلى إبراهيم علیه السّلام ، ولا يضرّ ذكر من لم يكن من ذريته كلوط لأنه ابن أخته، ومن ذريّة نوح علیه السّلام إمّا تغليباً أو أنّ المراد بالذريّة هم الستّة المذكورون في هذه الآية ، وإنّما أُلحق بهم غيرهم لاجتماعهم في أمر النبوّة والهداية إلى التوحيد ، كما قال تعالى : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ » (1).

و ذهب جمع إلى أنِ الضمير يرجع إلى نوح علیه السّلام لأنّه اقرب مذكور ، ولأنّ في المذكورين لوطُ وليس هو من ذرية إبراهيم علیه السّلام.

ولكن عرفت الجواب عن الأخير، وأمّا الأقربيّة التي تمسّكوا بها، فلأنّه يمكن رفع اليد عنها بالقرينة ، وهي التي ذكرناه من المساق وغيره.

وأمّا داود وسليمان فهما من أنبياء بني اسرائيل ، والثاني ابن الأوّل ، ولذا قدّم عليه لكونه أصلاً وسليمان فرعاً ، ولأنّ داود صاحب كتاب وهو مزامير ، وهو لا ينصرف لأنّه اسم أعجمي، أو لأنّه على وزن فاعول لا يحسن فيه الألف واللام ، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم في ستّة عشر موضعاً، كما ورد سليمان في سبعة عشر موضعاً منه .

ما يتعلّق بأنبياء بني إسرائيل علیهم السّلام

قوله تعالى : «وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ».

وهما أيضاً من أنبياء بني إسرائيل ، وقيل : إن اقترانهما من أجل اشتراكهما

ص: 112


1- سورة الحديد: الآية 26

في الامتحان ، وكان الأوّل أشدّ فقدّم على الثاني . ويوسف اسم أعجمي لا اشتقاق له ، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم في سبعة وعشرين موضعاً، وأيّوب علیه السّلام في أربعة مواضع منه .

قوله تعالى : «وَمُوسَى وَهَارُونَ».

وهما مؤسِّسا الديانة اليهودية ، وقرنهما لاشتراكهما في الأخوّة ، وقدّم موسى علیه السّلام لأنّه كليم الله سبحانه ، وصاحب كتاب، وهارون علیه السّلام وزيره ووصيّه ، وموسى أكثر الأنبياء علیه السّلام ذكراً فى القرآن المجيد، فقد ذُكر في مائة وستّة وثلاثين موضعاً، وأخوه في عشرين موضعاً منه .

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .

بيان لأحد مقوّمات الهداية الإلهيّة وهو الإحسان، والمراد به إتيان الأعمال على الوجه اللّائق ، ومزاولة العبادة الحقّة مع مراقبة الله تعالى، فإنّ الهداية الإلهيّة لا تكون إلّا مع العمل الجادّ اللّائق بالمقام الربوبي ودوام المراقبة . وأمّا ما ذكره صاحب «المنار» في معنى الإحسان فلم يقم عليه دليل ، كما ستعرف .

فيكون الجزاء على هؤلاء هو الإنعام عليهم بالهداية الإلهيّة التي أوجبت اءهم، وقد ذكرها سبحانه فيما تقدّم ، ومنه يظهر الوجه في إتيان لفظ الإشارة بالبعيد لتفخيم أمر الهداية ، ومقام المحسنين ، كما في قوله تعالى : «كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْأمْثَالَ»(1).

واجتماع الأنبياء الأربعة علیهم السّلام لكونهم من أنبياء بني إسرائيل ومن مؤسّسي الديانة اليهودية وليست الرياسة الدنيوية والملك مناط التفضيل بين الأنبياء - كما

ص: 113


1- سورة الرعد : الآية 17

ذكره بعض المفِّسرين - مع أنّه لم يثبت لبعض من ذكر إلّا بالتجوّز .

قوله تعالى: «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى» .

الجملة عطف على مجموع الكلام السابق ، وقدُّم زكريا علیه السّلام لأنّه والد یحیی علیه السّلام ، وكلا الاسمين أعجمي لا ينصرف ، وقد ذكر الأوّل في القرآن العظيم في سبعة مواضع ، كما ورد الثانى فى خمسة مواضع منه .

قوله تعالى : «وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ».

قُدّم عيسى علیه السّلام لأنّه صاحب كتاب وشريعة ومن أُولى العزم، وهو اسم عبراني أو سرياني، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم فى اثنى عشر موضعاً . ونسبته إلى إبراهيم علیه السّلام أو نوح علیه السّلام من جهة أُمّه مريم العذراء علیهاالسّلام ، وهو يدلّ على اعتبار أولاد البنات وذريّتهن أولاداً وذريّة حقيقة ، وهذا ما دلَّ عليه القرآن الكريم في عدّة مواضع ، كما في آيات الإرث والنكاح وغيرها ، وتدلّ عليه جملة من الأخبار، وسيأتي في البحث الروائي ذكرها .

وأمّا (إلياس علیه السّلام) فهو من أنبياء بني إسرائيل، فقد اختلفوا فيه بما لا يرجع إلى دليل يعتمد عليه، ومن أوهن ما ذكروه أنّه اليَسَع ، مع أنّ الله تعالى أفرد كلّ واحد بالذِّكر ، ولكن الظاهر من جمعه مع عيسى علیهماالسّلام أنّه من أنبياء النصارى ، فيكون الجمع بين الأربعة من هذه الجهة ، كما كانت المجموعة الأولى من أنبياء اليهود .

قوله تعالى : «كُلِّ مِنْ الصَّالِحِينَ».

بيان لمقوم آخر من مقومات الهداية الإلهيّة، وهو الصلاح والمراد به في المقام هو المعنى السامي الكامل منه، أي الإتيان بما ينبغي والتحرز عمّا لا ينبغي ،

ص: 114

ولا ريب أنّه وصفٌ يعمّ جميع الأنبياء؛ لأنّه يعدّ الفرد مستعدّاً للوصول إلى المقامات العالية ، وتقدّم ما يتعلّق بالصلاح ، فراجع .

قوله تعالى : «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ ».

والأوّل هو ابن إبراهيم علیه السّلام من هاجر أكبر ولد إبراهيم علیه السّلام ، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم في اثنى عشر موضّعاً منه .

وقد اختلفوا في لفظ اليَسَع اختلافاً كبيراً ، والمعروف أنته بفتحتين كأسد، وقرئ بلامين أُدغمت إحداهما في الأُخرى كالضيّغم، وهو في القراءتين أعجمي لزمته (أل) ، كما أنّه منصرف يجر بالكسرة ولا ينوّن ، وهو أحد أنبياء بنى إسرائيل، وقد ورد اسمه في موضعين في القرآن الكريم مقروناً بإسماعيل أحدهما المقام ، والثاني قوله تعالى : «وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْل وَكُلٌّ مِنْ الأخیارِ» (1) .

قوله تعالى: «وَيُونُسَ وَلُوطاً».

وهما من أنبياء الله لأقوام متفرّقين ، وقد ورد ذكر الأوّل في القرآن الكريم في أربعة مواضع ، والثانى فى عشرة مواضع منه . وهؤلاء الأنبياء المذكورون الأربعة لا تجمعهم رابطة زماناً ولا مكاناً ، ولا في الانتماء القبلي، ولا غيره ممّا ذكروه في الآيتين السابقتين، فلكلّ واحد منهم ميزة تختلف عن الآخر ، وهذا يدلّ على أنّ ذكر الأنبياء في آيات المقام، إنّما هو لأجل بيان أنّ الهداية الإلهيّة للأنبياء علیهم السّلام تدور بين الإفاضة الربّانية والاستعداد الحاصل من أمرين، هما: الإحسان والإصلاح ، وبذلك فضّلهم على العالمين.

ص: 115


1- سورة ص : الآية 48

وأمّا التماس الغرض في الترتيب بين الأسماء المعدودة، إذا لم يكن عليه دليل من ظاهر الكتاب الكريم، أو السُنّة الشريفة، فهو من مجرّد الإقتراح غير الملزم إذا لم يعارضه دليل من عقل أو نقل، وإلّا فهو باطل .

أقوال المفسّرين حول مجموع الأنبياء المذكورين في هذه الآيات

وقد ذهب جمع إلى التماس وجوه الجمع بين أفراد كل مجموعة ، فقال صاحب «المنار» : إنّه تعالى ذكر في هذه الآيات الثلاثة أربعة عشر نبيّاً جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كلّ قسم منهم .

فالقسم الأوّل: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أنّ الله تعالى آتاهم الملك والإمارة والحكم والسيادة ، مع النبوّة والرسالة ، وقدّم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيّين منعّمين ، وذكر بعدهما أيّوب ويوسف ، وكان الأوّل أميراً غنيّاً عظيماً محسناً ، والثانى عظيماً وحاكماً متصرّفاً . ولكن كلّاً منهما قد ابتلي بالضرّاء كما ابتلي بالسرّاء فشكر . وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنّهما لم يكونا ملكين، فكلّ زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدُّنيا ، وقد يكون على طريقي الترقّي في الدِّين ، فداود وسليمان كانا أكثر تُمتّعاً بنِّعم الدنيّا ، ودونهما أيّوب ويوسف ، ودونهما موسى وهارون . والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوّة من أيوب ويوسف، وأنّ هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السرّاء والصبر في الضراء ، وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء «وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، أي بالجمع بين نعم الدُّنيا ورياستها بالحقّ ، وهداية الدين وإرشاد الخلق ، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (1) ، فهو جزاء خاصّ بعضه معجّل في الدُّنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض

ص: 116


1- سورة يوسف : الآية 22

المحسنين بحسب إحسانه في الدُّنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجيء جزاءه إلى الآخرة.

والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء علیهم السّلام بشدّة الزهد في الدُّنيا، والإعراض عن لذّاتها، والرغبة عن زينتها اللا وجاهها وسلطانها ، ولذلك خصّهم بوصف الصالحين ، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كلّ نبيّ صالحاً ومحسناً على الإطلاق.

والقسم الثالث: إسماعيل واليَسَع ويونس ولوط، وأخّر ذكرهم لعدم الخصوصيّة إذ لم يكن لهم من ملك الدُّنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأوّل ، ولا من المبالغة في الاعراض عن الدُّنيا ما كان للقسم الثاني ، وقد قفّى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعله الله تعالى لكلّ نبي على عالمي زمانه ، فمن كان من النبيِّين منهم منفرداً في عالم أو قوم، كان أفضلهم على الإطلاق ، وما وجد من نبيِّين فأكثر في عالم أو قوم، فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم متفاضلين في أنفسهم ، فلا شكّ أنّ إبراهيم علیه السّلام أفضل من لوط المعاصر له ، وأنّ موسى علیه السّلام أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأنّ عيسى أفضل من ابن خالته يحيى.

وما ذكره يقرب ممّا أورده الرازي في تفسيره ، وإن كان الأوّل أوجه بالنسبة إلى الثاني ، كما قيل .

وقد ذكر بعض السّادة المفسِّرين : (أنّ الأحسن أن يتمّم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية، بأن يقال : إنّ الطائفة الأُولى المذكورين ، وهمّ ستّة اختصّوا بالملك والرياسة مع الرسالة ، والطائفة الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدُّنيا والإعراض عن زخارفها ، والطائفة الثالثة - وهم أربعة - أُولو خصائص مختلفة ومحن إلهيّة عظيمة يختصّ كلّ نبيّ بشيء من المميّزات).

والصحيح أن يقال: إنّ الآيات الشريفة لا تدلّ على شيء ممّا ذكر سوى

ص: 117

اجتباء الله تعالى أفراداً من البشر، لبيان اتّصال الهداية الإلهيّة من قبل إبراهيم علیه السّلام إلى الذريّة؛ الآباء والأحفاد والإخوان، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَمِن آبائِهِم وَدْرَياتِهِم وَأَخْوَانِهِم» فهي ليست مجرّد قرابة ونسب، بل هي هداية ربّانية، واصطفاء واجتباء لأفراد فضلّهم الله على العالمين لكونهم من الصالحين المهتدين المحسنين ، فهى آیات جليلة تبيِّن بعض مقوّمات تفضيل الأفراد والاجتباء للهداية الإلهيّة ، وجعلهم أُمناء الله عليها يهدون الناس إليه عزّ وجلّ .

فقد بيّنت تلك الآيات الكريمة من المقوّمات أن يكون الفرد المصطفى من المحسنين، بأنّ يكون قادراً على إتيان الأعمال على الوجه اللائق بساحة كبرياءه، وأنّ يكون من الصالحين كاملاً في الصلّاح، وأن يكون ممّن فضّل على العالمين بأنواع من الفضل الإلهي، ليكون غيرهم يتفضّل بفضلهم ، وقد ذكر سبحانه هذه الأوصاف في ضمن سرد بعض أسماء الأنبياء الذين توفرت فيهم تلك ، فكانوا قدوة في الهداية الإلهيّة التى أمر الناس بالإقتداء بهم ، وقد جمعت هذه الآيات أنبياء من أقوام متفرقين بعضهم من بنى إسرائيل وغيرهم ، كما شملت من الأنبياء بعضهم من أنبياء اليهود وآخر من أنبياء النصارى ، وثالث من غيرهم لبيان أنّ هذه الموهبة الإلهيّة لا تقتصر على قوم وعلى دين دون آخر ، فكلّ من تحقق فيه مقوّمات الاصطفاء فاز بهذه الهداية المصطفاة .

وأمّا أصل التفضيل والاصطفاء، فذاك أمر خارج عن إرادة الإنسان واختياره، فإنّ له أسراراً لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ ، كما قال تعالى : «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» .

وأمّا ما ذكره صاحب «المنار» فهو مجرّد افتراض لا دليل عليه ، بل ذكرنا سابقاً أنّ التماس التفضيل لبعض الأنبياء على بعض أمر خارج عن علم البشر إلّا إذا دلّ دليل عليه ، وكذا تفسيره الصلاح بمعنى الزهد والإحسان بما ذكره ممنوع ،كما عرفت .

ص: 118

وكذا يظهر الاشكال فيما ذكره بعض السادة المفسِّرين: فإنّ الأنبياء يجتمعون في أوصاف لا تغيّر فيها ، كالزهد فى الدُّنيا والإعراض عن زخارفها ، كما أنهم يتصفون بخصائص معيّنة كابتلائهم بالمحن والأذى، فإنّها أوصاف اشترك فيها جميعهم ، ولذا ترى أنّ بعضهم مع كونه ممّن اختصّ بالرياسة والملك ولكنّه زاهد .

والحاصل: إنّ إيكال أمر التفضيل إلى من هداهم واصطفاهم أولى من التماسه بغير دليل . نعم قد يحصل من القرائن ما يوجب الاطمئنان ببعض التوجيهات التى تشير إليها الآيات كما ذكرناها سابقا فراجع ، ونِعمَ ما قاله بعضهم: ولم يظهر لي السّر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام (عليهم من الله أفضل الصلاة وأكمل السلام) على هذا الأُسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ، ومتأخر بالزمان على متقدم به ، وكذا السرّ في التقرير ، أوّلاً : بقوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ...»، وثانياً : بقوله سبحانه : «كُلّ مِنَ الصَّالِحِينَ» ، والله أعلم بأسرار كلامه . وقد عرفت من مطاوي ما ذكرناه بعض وجوه التقديم، فراجع .

وأمّا قوله : وقد يؤتي مفضولاً ما لا يؤتي أفضل الفضلاء . ففيه بحث طويل لا يسع المقام ذكره .

قوله تعالى : «وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ».

العالمين جمع لا واحد له من لفظه ، كالقوم ، والرهط ، والنفر .

وذكر جمع أنّ العالم لا يطلق إلّا على كلّ جماعة متمايزة، لأفرادها صفات تقرّبها من العقلاء.

وفيه : إن كان المراد به التغليب فله وجه، وإن كان المراد عدم الصدق الحقيقى على ما لا يعقل، فهو مخالفٌ لصحّة إطلاق عالم التكوين، فإنّ إطلاقه يشمل الجمادات أيضاً، وتقدّم الكلام فيه في سورة الفاتحة .

ص: 119

والمراد به إمّا عالمى زمانهم، لأنّهم اتّصفوا بالهداية الإلهيّة الخاصّة بلا واسطة ، وإمّا غيرهم فإنما تكون هدايتهم بالرحمة الإلهيّة بواسطتهم . وهذا ممّا لا ريب فيه .

وإمّا أن يكون المراد جميع العالمين من الناس المعاصرين لهم وغيرهم، لأنّ الهداية الإلهيّة والنبوّة نعمة خاصّة يتفضّل بها من أنعم عليه على غير المتلبّس بها، فيشمل هذا جميع الأنبياء المذكورين، فهم في المقام وغيرهم ممّن لحق بهم من آبائهم وذريّاتهم وإخوانهم، فالجميع لهم الفضل على غيرهم جميعاً بالتفضيل الإلهى.

وإمّا أن يكون المراد جميع العوالم من الإنسان والجنّ والملائكة ، فإنّ الأنبياء فضّلوا بهداية إلهية خاصّة بها صاروا سفراء الله تعالى على خلقه، وواسطة الفيض على غيرهم ، وهذه الهداية الخاّصة تفضّل على سائر أنواع الهداية الإلهيّة ، وهذا الوجه وإن كان يوافق الاعتبار ، وتدلّ عليه بعض الأخبار. إلّا أنّ سياق آيات المقام لبيان سبب فضلهم الذي هو الهداية الخاصّة من دون واسطة في البين فهم قد تلقّوها منه عزّ وجلّ، وتلبّسوا بها، فصاروا من المحسنين الصالحين الأشخاص المميّزين، فلا ينافي ذلك أن يتفضّل بها غيرهم كالملائكة ، والأئمة الهداة علیه السّلام من نواح أُخرى، فلا يتعلّق التفاضل بين الأنبياء وغيرهم من هذه الجهة .

ومن ذلك يظهر أن الآية الكريمة بمعزل عن تفضيل الأنبياء على الملائكة كما تمسّك بها بعضهم على ذلك .

كما أنّ الآية الشريفة تدلّ بالملازمة بين التفضيل من حيث الهداية الإلهيّة الخاصّة، وكونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم ، وأهل الحكم والنبوّة ، لأنّ هذه الهداية الخاصّة تستلزم ذلك كلّه ، كما تدلّ عليه الآية اللاحقة؛ فما ذكره بعض

ص: 120

السادة المفسِّرين من عدم الدلالة غير سديد.

قوله تعالى: «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ».

بيان لاتّصال الهداية ، وأنها مستمرة فى سلسلة من الأفراد بينهم رابطة البنوّة أو الأبوّة أو الأخوّة. وإرشاد إلى أنّ الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في السابق إنّما همّ من مختلف الأقوام والأديان، وأنّهم حقّقوا ما أوجب منحهم تلك الإفاضة الربّانية ، فكانوا مميزين فى الإيمان والأخلاق والعمل والطاعة لبارئهم، والعقل وطهارة النفس وسلامة القلب، وهي أينما وجدت اختاره الله تعالى لهذه الهداية الخاصّة .

والآية الكريمة قرينة على ما ذكرناه آنفاً من عدم اقتصار الهداية الإلهيّة على فرد خاصّ أو طائفة معيّنة، فقد ذكر سبحانه من أنبياء بني إسرائيل ممن يختصّ بالديانة اليهودية أو النصرانية ، كما ذكر من أقوام متفرّقين كنوح ، ولوط ، وغيرهما . ولبيان أنّ كلّ واحد منهم له ميزة معيّنة وفضل خاصّ ، وتعيّين ذلك يحتاج إلى تدبّر في الآيات الكريمة .

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

قوله تعالى : «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم».

بيان لسبب تفضيلهم بالهداية الخاصّة، فإنّه اجتباء وهداية إلى صراط مستقيم ، والاجتباء والاصطفاء. ومادّة (جبي) تدلّ على الجمع ، يقال : جبيت الخراج جباية إذا جمعته ، قال تعالى : «يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ» (1)، ويقال : جبيت الماء في الحوض إذا جمعته ، ومنه الجابية أي الحوض الجامع للماء ، وجمعها (جواب)؛ قال تعالى: «وَجِفَانِ كَالْجَوَاب» (2). واجتباء الله تعالى

ص: 121


1- سورة القصص : الآية 57
2- سورة سبأ : الآية 13

اصطفاؤه له لموهبة إلهية خاصة، وفيض مقدّس لميزة معيّنة فيه من دون أن يكون له سعي في تحصيلها ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في اثنى عشر موضعاً ، متعلّقها الهداية ، والأنبياء إلّا موضعاً واحداً، فيستفاد أهمّية هذه الكلمة في تعيّين الهداة المهديِّين سلام الله عليهم أجمعين .

ولا ريب أنّ مواهب الله تعالى كثيرة، وفيوضاته متتالية لا تنفكّ مخلوقاته عنها، ولا حياة بدونها ، ولها مراتب غير متناهية تختلف في الأفراد حسب الخصوصيات فى كلّ فرد، لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولا يبعد أن تكون هى الفصول المميزة بين الأفراد، لا ما هو المعروف فى العلوم العقلية من كون الفصل المميّز للإنسان النطق أو التفكّر وغير ذلك ، فإنّ سعادة الإنسان وشقاءه يتحدّدان بسب تلك الخصوصيّات غير المعلومة إلّا لخالقها . نعم ، يمكن تغييرها وتحديدها بحسب كسب العبد حتّى لا يخرج عن الاختيار بالكليّة، فيستلزم أُموراً تخالف القواعد الثابتة في المذهب ، كما هو معلوم .

وكيف كان، فإنّ أظهر من استفاد من هذا الفيض الربوبي الخاصّ، همّ الأنبياء والأوصياء والصدِّيقون والشهداء، ومن يليهم من المؤمنين حسب درجاتهم في الإيمان والقرب لديه عزّ وجلّ، وقد دلّت عليه آيات كثيرة ، كقوله تعالى «يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنيبُ» (1)، وهذا الاجتباء انما يتحقّق الاستعداد الكامل في المجتبى بما ذكره سبحانه في الآيات السابقة ، كما عرفت، ويكون متعلّقه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدِّين الحقّ الموافق للفطرة ويدعو إليه العقل، وقد اتّصف بالاستقامة لبُعده عن التبديل والتغيير ، والاختلاف فيه في الأحوال وفي الزمان ولا تناقض في أجزائه ولا تضادّ بينها ، كما لا اختلاف فيه بحسب الاشخاص، لأنّهم مهتدون بهذه الآية، فلا يختلف

ص: 122


1- سورة الشورى : الآية 13

سيرهم وسلوكهم، ولا يدعو آخرهم إلّا بما دعا اليه أوّلهم ، كما لا اختلاف بحسب الغاية والمقصد، فهو التوحيد الخالص عن كلّ شائبة ، وإليه تنتهي جميع المعارف الدينية والأحكام الإلهيّة والأخلاق الفاضلة ، كما قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ»(1)، وقد وصف سبحانه هذا الدِّين الواحد على مرَّ العصور والدهور بأنّه الإسلام والطاعة والانقياد، قال عزّ من قائل: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ»(2) ، وهو محور الأديان الإلهيّة ، وأساس اجتماع الأُمم، لأنّه يدعو إلى ربِّ واحد استحقّ الإلوهية والعبودية بحقّ وعن حقّ ، فكانت أُمّة واحدة توحيدية تجتمع على صفات حسنة تدعوها إلى السعادة الأبدية . قال تعالى : «إِنَّ هَذِهِ أُمَتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(3). ولعلّه لأجل ما ذكرناه من الوحدة الجامعة في جميع الشؤون، ورد لفظ الصراط نكرة من غير تعريف ، كما ورد في موارد أُخرى كذلك، مثل قوله تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(4). أو لبعث النفس إلى كونه متّصفاً بأعلى الصفات القيّمة التي منها الاستقامة، أي كونه على وتيرة واحدة في جميع شؤونه ، فهذا الصراط لا اختلاف في جهة من جهاته، لأنّه صراط يبتنى على الفطرة وقواعد عقلية ، ولا ريب أنّه لا نقص ولا اختلاف فيهما ، لأنّهما يرجعان إلى خلقة إنسانية ولا تبديل لخلق الله تعالى . والمؤمن بهذا الدِّين القويم الذي لا ضلال فيه بوجه من الوجوه، يستحقّ الأمن إذا لم يلبسه بظلم يستر آثار إيمانه ، كما قال تعالى في ما تقدّم من الآيات: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»(5).

ص: 123


1- سورة الأنبياء : الآية 25
2- سورة آل عمران الآية 19
3- سورة الأنبياء : الآية 92
4- سورة الحمد : الآية 5
5- سورة الأنعام: الآية 82

قوله تعالى : «ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» .

تأكيد على أنّ الهداية إلى صراط مستقيم هو هدى الله الذي يهدي من يشاء من عباده، ولبيان أنّ الذين ذكرهم من الأنبياء الذين اتّصفوا بالهداية الإلهيّة، إنّما همّ عمد هذه الهداية والقوام عليها . وإرشاد إلى أنّ الذي يهتدي به بهداه سبحانه من يستشعر بالعبودية له عزّ وجلّ.

والإشارة بالبعيد لبيان علوّ هذه الهداية وسموّها فإنّها حقّ الهدى، وقد تشرفت بكونها من الله تعالى، واتّصفت بأنّها الصراط المستقيم الذي يسير الأنبياء المكرمون علیهم السّلام وهم الدُّعاة إليه ، وأنّ تعاليمهم نفس الصراط، فكانت من أعظم الهدى، فقد اجتمعت العلّة الغائية والمادّية والفاعلية فيها .

ومن الجدير بالذِّكر أنّه تبارك وتعالى ذكر في الآيات السابقة: «قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ» ، وفى المقام يبيِّن مصاديق ذلك الهدى الذي شرعه عزّ وجلّ على لسان أنبيائه ورسله . علیهم السّلام

ويستفاد من ذلك أنّه لا يمكن الإيمان بذلك الهدى إلّا بإتّباع الأنبياء والإيمان بهم، فهذه هي الهداية الكاملة التي توصل عباده إلى الكمال المنشود ، وغيرها ضلال لا رضاء الله تعالى به فيكون منحرفاً عن الصراط المستقيم، والإهتداء به ليس من هدى الله تعالى ، كما دلّت عليه آيات عديدة منها قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حقاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً»(1).

وقد عرفت صفات هذه الهداية وأنتها تدعو إلى كلمة التوحيد ، وإقامة دعوة الحقّ ، وتثبيت دعائم التقوى والسعادة ، والاستشعار بشعار العبودية ، ونيل الجزاء

ص: 124


1- سورة النساء : الآية 150 - 151

الأوفى الذي أعدّه الله تعالى للمؤمنين ، فكانت هداية كاملة جامعة تشمل جميع مقوّمات السعادة في الدُّنيا والآخرة ، كما تضمّنت سُبل الهداية ، فلا تجامع الضلال بأيّ وجه من الوجوه ، وأنّ سلوكها يؤدّي إلى الجزاء الجميل والعطاء العظيم الكامل الذي لا نقصان ولا زوال فيه ، فهو أجرٌ غير ممنون .

وترجع هذه العطية الإلهيّة إلى أمرين هما أساس كلّ هداية ربّانية : التوحيد والعبودية ، فإنّ الشخص المتّصف بهما ينال الكرامة عند الله تعالى، ويفوز بالفلاح والسعادة ، وقد بيّن سبحانه الأوّل في ذيل الآية الكريمة ، والثاني في مجموع الآيات ، بل القرآن الكريم إنّما نزل لإثبات التوحيد وتثبيت العبودية المحضة الله تعالى ، وتشخيص العبد الصالح المطيع عن غيره ، فلا كرامة لأحدٍ عليه عزّ اسمه إلّا بالتوحيد الخالص من الشرك ، والعبودية الناشئة عن العقيدة الصحيحة والعمل المطابق للشرع الذي شرّعه الله تعالى، والأخلاق الفاضلة ، وأنّ مجموع ذلك هو الدِّين الحقّ الذي شرّعه الله تعالى على لسان المرسلين، وهو الهدى الحقّ الذي اهتدى الأنبياء إليه ، كما عرفت .

قوله تعالى : «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» .

بيانُ لعظيم الأثر الذي يترتّب على الشرك بالله سبحانه ، وهو حبط الأعمال الذي يرجو كلّ عامل أن ينال الجزاء عليه ، وأنّ الشرك يوجب سلب الكرامة عن الفرد عند الله تعالى، فيكون ترتّب الحبط على الشرك ترتّب المسبب على السبب التامّ، وإنّما اقتصر سبحانه على الشرك دون غيره ، مع أنّه لا كرامة لأحد عليه تعالى، ولا أمن له إلّا بالعبودية المحضة الجامعة للعقيدة والعمل ، لأجل أنّ العبودية كذلك تتضمّن التوحيد ونفي الشرك، وأنّ العمل مع الشرك لا قيمة له ولا وزن لمثله، وهذا هو معنى الحبط .

وإنّما خصّ الأنبياء بالخطاب للاهتمام بهذا الموضوع ، فإنّ الأصفياء إذا

ص: 125

أشركوا فإنّه يوجب الحبط ، وهم في أعلى درجات الكرامة والمنزلة فكيف بغيرهم ، ولبيان أن الشرك يوجب سلب الاهتداء عن أعمال المهتدين الذين بهم يهتدي عباد الله تعالى ، وفيه غاية الترهيب والتوبيخ لئلا يأمنوا مكر الله عزّ وجلّ.

ما يتعلّق بقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ»

قوله تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ» .

بيان لعلوّ منزلة الأنبياء ورفيع ،مقامهم بلا اختصاص له بمن ورد اسمه في الآيات السابقة ، كما قيل ، ولعلّه من أجل ذلك جيء بالإشارة بالبعيد المفيد لذلك . أو لبيان أنّ من اتّصف بالهداية الإلهيّة، واصطفى لمقام النبوّة والرسالة ، واجتبيّ لهداية الناس وبُعِثَ لأداء الرسالة الإلهيّة، وبيان الدِّين الحقّ الراجع لصلاح حال الإنسان في الدارين، لابدّ أن يكون له شأن كبير ، فتكون الآية الشريفة ناظرة إلى مجموع الأنبياء من حيث المجموع ، فلا يقدح عدم إيتاء بعضهم الكتاب ، فإنّه قد أُوتي بعضهم كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم صلوات الله وسلامه، أو يكون جميع الأنبياء أصحاب كتاب إما بالمباشرة كأولي العزم، أو بالتّبع ، كما هو واضح .

والكتاب معروفٌ، وقد ورد في القرآن الكريم فيما يقرب من مائتين وثلاثين مورداً ، وله إطلاقات عديدة، والمراد في المقام جنسه الشامل لكلّ ما ينسب إليه تبارك وتعالى، النازل مع الأنبياء علیهم السّلام الهداية الناس، فيشمل الصحف أيضاً ، كما يشمل التشريعات والمعارف والأخلاقيّات التي تمسّ حياة الإنسان مطلقاً، ويُقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه .

وقد ورد ذكر الكتاب بتلك الخصوصيّات في عدّة آيات، منها قوله تعالى : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ» (1).

ص: 126


1- سورة فاطر: الآية 25

وقوله تعالى : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»(1).

ويأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَالْحُكْمَ» ومعنى الحكم وأقسامه

قوله تعالى : «وَالْحُكْمَ».

وهو الجزم وفقه الأُمور لغةً ، وإليه يرجع ما قيل من أنّه المنع ، لأنّ بالعلم والجزم يمنع جميع الإحتمالات ، كما أنّه إليه ترجع التعاريف التي ذكروها له في مختلف العلوم .

ففى العلوم الفلسفية تُطلق على النسبة التصديقيّة بين أجزاء الكلام ، كقولنا : فلانٌ عادل . وفى الأُمور الاجتماعية والقضايا العلمية التي تدور بين أفراد الاجتماع ، يقال على نوع النسبة حكمٌ كإدراك وقوع النسبة أو عدم وقوعها .

ويطلق على التأليف بين المدركات بالحسّ أو بغير الحس على وجه يعرض المؤلّف لذاته إمّا للصدق أو الكذب .

كما يطلق على نفس القضية وتسمى حكماً ، كما يقال : يجب على الإنسان أن يفعل كذا ، أو يحرم عليه كذا ، ولكن إذا قصد به المعنى المصدري يُراد به إيجاد الحكم وجعله إمّا في مقام التشريع والتقنين بتشريع الأحكام الصالحة التي ترجع إلى تحصيل السعادة والفوز بالفلاح فرداً و اجتماعاً ، أو في مقام التشخيص والنظر في المنازعات كما في حكم القضاء، أو في مقام الإفتاء كما هو الدائر عند المجتهدين في الفتوى ، أو في مقام إنفاذ الحكم والسلطة التنفيذية كحكم الوالي على الناس ، وإذا أطلق على نفس الوجوب ، والحرمة والإباحة والكراهة، والاستحباب فإنّها تسمّى أحكاماً ، كما تسمّى القضايا المشتملة عليها أحكاماً،

ص: 127


1- سورة البقرة : الآية 213

ويعرّفه الفقهاء بأنّه : خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين على نحو الاقتضاء أو التخيير أو الوضع .

ويُطلق أيضاً على ما هو دائرٌ في الألسنة على ما ينشأ من نسب أُخرى، كالمُلك والرياسة والنيابة والكفالة والولاية ونحو ذلك . وله إطلاقات أُخرى، كالإطلاق على الحكمة .

إلّا أنّ المناسب في المقام بقرينة ذكر الكتاب وغيره، تلك الشرائع الإلهيّة ، والدِّين الحقّ الذي يرجع إلى كمال الإنسان علماً وعملاً والصلاح العام، وقطع المنازعات والقضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه ، كما تدل عليه عدة آيات ، قال تعالى : «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا»(1).

وقال تعالى : «وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ» (2).

وقال تعالى بعد سرد جملة من التكاليف التشريعية «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ» (3).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .

وإليه يرجع ما قيل إنّه الحكمة وفصل الخطاب على ما يقتضيه الحقّ والصواب ، أو ما قيل من أنّه فهم الكتاب ومعرفة حقائق الأشياء ، فإنّ جميع ذلك مصاديق لما ذكرناه، وإن كان الأخير أقرب للحكمة دون الحكم إلّا على وجه بعيد.

وأما قوله تعالى : «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» (4)، فقد يُراد به

ص: 128


1- سورة المائدة : الآية 44
2- سورة البقرة : الآية 213
3- سورة الإسراء : الآية 39
4- سورة الشعراء : الآية 83

-كما قيل - المعنى الأعمّ، ولكن الظاهر أنّه الكمال في العلم والعمل استعداداً لخلافة الحقّ ، ورياسة الخلق .

قوله تعالى : «وَالنُّبُوَّةَ».

أي الإنباء عمّا وراء الحسّ ، كوحدانيّته تبارك وتعالى ، والملائكة واليوم الآخر بعناية خاصّة من الله تعالى، فليس كلّ إنباء عن ما وراء الغيب يكون نبوّة ، والنبيّ هو المخبر عن ذلك، وهو عامّ يشمل من لم تكن له شريعة، أو كان فتشمل النبوّة والرسالة أيضاً، فكلّ رسول نبيّ ولكن ليس كلّ نبيّ رسولاً . والآية الكريمة قرينة أُخرى على أنّ المراد باسم الإشارة الأعمّ من المذكورين في الآية السابقة وغيرهم، كما عرفت آنفاً.

والظاهر أنّ هذه الكرامات الثلاث التي خصّ الله تعالى بها أنبياءه ورسله علیهم السّلام، من آثار اصطفائهم واجتبائهم لنيل الفضيلة الكبرى، وهي الهداية الإلهيّة التى لها آثار كبيرة ظاهرة في الدُّنيا والآخرة ، منها حصول اليقين بالله تعالى وآياته ، ومنها معرفة الغيب من التشريعات والمعارف الإلهيّة، ومجموع الدين الحقّ . ومنها التسديد لهم، ونصبهم خلفاء في الأرض ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ومنها تفضيلهم على العالمين ، ومنها هداية الناس إلى الصراط المستقيم بعدما أصبحوا هم الصراط الأقوم، ومنها علمهم بما بعثوا به من الكتاب والحكم ، ومنها مقام الشفاعة والشهادة في الآخرة، ومنها كونهم ميزان الأعمال يوم القيامة .

فكانت هذه الآيات من جلائلها التي تبيِّن مقام الأنبياء والأصفياء علیهم السّلام ووظائفهم، والثمرات الطيّبة المترتّبة على وجودهم المبارك في الدُّنيا والآخرة .

قوله تعالى : «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ» .

ص: 129

تسلية لرسوله الكريم صلّي الله علیه و آله من كفر قومه وعنادهم، وتطبيب لقلبه الشريف بعد أن كان يحزنه كفرهم وعنادهم واستكبارهم على الحقّ. والضميران في (بها) في الموردين يرجعان إلى ما تضمّنته الآيات من الحقائق، كالهداية العامة والخاصّة والكرامات الثلاث التي منحها عزّ وجلّ أنبياءه التي هي من آثار الهداية الإلهيّة . والمشار إليه بقوله «هؤلاء» هم كفّار قريش من قوم النبيّ صلّي الله علیه و آله ، ويشمل الكافرين بدعوته أيضاً .

والمعنى : فإنّ يكفر قومك وغيرهم بتلك الحقائق التي هي من مقوّمات الهداية الإلهيّة التى أمر الله تعالى بالإيمان بها واتّباعها، فقد حفظناها بقوم مؤمنين ثابتين على الإيمان ولهم قدم راسخة في تثبيته .

ولا ريب أنّ الكفر والإيمان إنّما يتعلقان بالهداية التي أمر الله تعالى بالإيمان بها، كما قال سبحانه: «فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» (1).

وقال تعالى : «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ»(2).

وغيرهما من الآيات التي تدل على أنّ تلك الحقائق التي ذكرها عزّ وجلّ فيما تقدّم من الآيات هي من جملة الهداية التي يجب الإيمان بها على الناس التي كفر بها قريش قوم الرسول العظيم صلّي الله علیه و آله وغيرهم.

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» والمراد من القوم فيها

قوله تعالى : «فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» .

المراد بالتوكيل في المقام التوفيق للإيمان بالهداية التي أمر الله سبحانه أنبياءه بتبليغها ، والقيام بحقوقها ، ورعايتها ، وحفظها والاعتماد عليها، والتنكير

ص: 130


1- سورة البقرة : الآية 38
2- سورة الجن : الآية 13

في (قوماً) للدلالة على فخامة هؤلاء القوم ، وأنّ لهم خطراً عظيماً ، وأنّهم على إيمان تامّ واستقامة عليه ، فلا ارتداد بعد إيمان عندهم ، وقد اختلف المفسِّرون في تعيينهم على أقوال :

الأوّل: إنّهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة ، وهم ثمانية عشر نبيّاً، أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو نعوتهم ، كما في قوله تعالى «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ» ، ويكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعمّ من إجراء أحكامها ، كما هو شأنهم في حقّ كتابهم ومن اعتقاد حقيّتها ، كما هو شأنهم في حقّ سائر الكتب .

ويرد عليه: أنّه مخالف لسياق الآية الكريمة الدالّ على أنّ القوم لهم شأن في هذا الدِّين في المستقبل ، والأنبياء لم يكونوا موجودين حال الخطاب .

الثاني : إنّهم الملائكة ، والتوكيل حينئذٍ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها .

وفيه : إنّه خلاف الظاهر ، فإنّ المنسبق إلى الذهن من لفظ القوم همّ أفراد الإنسان ولا يُطلق على الملائكة ، كما أنّ الآية في مقام التسلية لنبيّه الكريم صلّي الله علیه و آله وهو لا يتحقّق بإيمان الملائكة بعد كفر قومه وعنادهم .

الثالث : إنّهم المؤمنون به صلّي الله علیه و آله عند نزول السورة في مكّة، أو مطلق المهاجرين.

وفيه : إنّهم لم يستمروا على إيمانهم ، ولم يتّصفوا بالاستقامة التي تدلّ عليها الآية الكريمة ، فإنّ فيهم المنافق ، وفيهم مَن ارتدّ بعد الإيمان ، كما تدلّ عليه الآيات القرآنية والأخبار الصحيحة، فلا ينطبق عليهم قوله تعالى «لَيْسُوا بِهَا بكَافِرِينَ)».

الرابع : إنّهم الأنصار والمهاجرون جميعاً ، أو إنّهم أصحاب النبيّ صلّي الله علیه و آله الذين

ص: 131

مدحهم الله تعالى في كتابه المجيد بأبلغ مدح وأجلّ وصف ، فإنّهم نصروا دين الله سبحانه ، وروّجوا لهذه الدعوة المباركة وأقاموها بالجهاد والتضحية.

إن قلت : إنّه ربما يستفاد من كلماتهم قيام الإيمان بجماعتهم ، فلا يضرّ التخلّف في الآحاد ، فيكون قوله تعالى : «لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» وصف للمجتمع فلا بنافي خروج بعض الأفراد في اتّصاف المجموع بالوصف القائم بالمجموع من حيث هو ، وقد ثبت الإيمان في المؤمنين به صلّي الله علیه و آله ثبوتاً من غير زوال ، وإن تخلّف بعض الأفراد وزال الإيمان عنهم .

قلت : لا ريب أنّ المراد من الدين برموزه وحقوقه وأوصافه لاسيما الاجتماعية منها هو اتّصاف المجتمع المسلم ، وجمع المؤمنين به ، وبدونه لا يحصل المقصود ، ويدلّ على ذلك الأدلّة الكثيرة، منها جملة من الآيات : قال تعالى : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى أَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (1).

ولقد صار ذلك من الأُمور الثابتة ، وحقيقة من الحقائق القرآنية ، فاعتبر القرآن المجيد سعادة الفرد من سعادة المجتمع، بل الحياة السعيدة لا يمكن تحصيلها إلّا بالامتثال الجمعي ومجموع الأُمّة، فلو كان هناك أمرُ خلاف هذه القاعدة ، فلابدّ من استثناء المتخلّفين أو الإشارة إليه بوجه من الوجوه . وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم وجعله من الثوابت ، كقوله تعالى : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(2).

وقوله تعالى : «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ

ص: 132


1- سورة الأعراف : الآية 96
2- سورة التين : الآية 4 - 6

حَقِّ ... إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1).

وقوله تعالى : «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً»(2).

وغير ذلك من الآيات الكريمة .

فيكون المراد بقوله سبحانه «قَوْماً لَيْسُوا بهَا بكَافِرِينَ» هو إيمان المجموع وثباتهم واستقامتهم عليه من دون استثناء وإلّا لزم التنبيه عليه .

ومنه يظهر الجواب عمّا قيل من أنّ المراد من القوم همّ الأنصار، على أنّ يكون الوصف إشارة إلى أنّهم لم يكفروا بها، وإن لم يحصل منهم الإيمان، بخلاف مشركي مكة حيث كفروا وعاندوا ولم يؤمنوا بها .

ولكنّه مردود بما ذكرنا، من أنّ الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين ولا معنى لنفي الكفر عنهم إلّا أن يكون المراد بالكفر غير المعنى المعهود ، وهو يحتاج إلى دليل ، ولكنّه مفقود في المقام ، مضافاً إلى أنّ مفاد الآية هو حفظ الهداية الإلهيّة بلوازمها وملزوماتها بقوم لم يكفروا بها ، ولا معنى لأن يكون الحفظ بقوم لم يؤمنوا بها ولم يردّوها .

الخامس : إنّ المراد بهم العجم الذين وفقوا للإيمان بالأنبياء والكتب المنزلة عليهم العاملون بما فيها من أصول التشريع وفروعه الباقية في شرعنا ، ولعلّه مأخوذ من قوله تعالى : «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(3)، أو قوله تعالى : «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرينَ» (4)، فقد ورد أنّ المراد

ص: 133


1- سورة آل عمران : الآية 89
2- سورة الفتح : الآية 29
3- سورة الجمعة : الآية 3
4- سورة النساء : الآية 133

بالآخرين هم العجم .

ولكن المؤاخذة عليه نفس ما ذكرناه في الأقوال السابقة .

السادس : إنّ المراد بهم المؤمنون من جميع الأُمم ، أو خصوص أُمّة محمّد صلّي الله علیه و آله ، والوجه في ذلك ما ذكرناه في الوجه السابق .

ويرد عليه ما آورد على الوجوه السابقة.

اللّهُمَّ إلّا أن يُقال: إنّ المراد بهم بعضهم المتّصفون في إيمانهم بالثبات والاستقامة من دون رجوع عنه ، فهم قوم مؤمنون وليسوا بها بكافرين ، وحينئذٍ یتمّ بهم ما قصد إليه في نزول الآية الكريمة من تسلية النبيّ صلّي الله علیه و آله وتطيّيب قلبه المبارك، وأنّ الله تعالى يعتزّ بحفظ هدايته التى أكرم بها عباده المقرّبين وأنبياءه المرسلين الذين تكون طريقتهم هي الصراط المستقيم .

ولكن هذا الوجه لا يثبت إلّا قضية اتفاقية لبعض المؤمنين الذين يتّفق أن يكونوا موصوفين بتلك الصفات، وهو خلاف المطلوب من الآية الشريفة التي يكون مضمونها من الحقائق الواقعية التي يحفظ بها الهداية الإلهيّة، ويكون الاعتزاز والمباهاة بهم ، ولا يتحقّق ذلك في قضية اتفاقية لا ضمان فيها ، ولا حافظ لثباته واستقراره .

مع إنّ المستفاد من سياق آيات المقام وغيره، أنّ المناط في الفوز بهذه المنقبة أن يكون وكيلاً حافظاً للهداية الإلهيّة ، وهو لم يتحقّق في كلّ متلبّس بالإيمان، كما هو صريح قوله تعالى في الآية السابقة: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ».

ولا شكّ أنّ من تلبّس بالظلم أكثر ممّن لم يتلبّس به ، كما هو معلوم .

والظاهر أنّ الآية الكريمة خاصّة بقوم قد ميّزهم الله تعالى بأنهم حفّاظ دينه الحق ، وموكلون بالهداية الإلهيّة، والاستقامة على الطريقة المستقيمة التي

ص: 134

تتضمن ما آتاه الله تعالى أنبياءه المكرّمين من الكتاب والحكم والنبوّة ، فيحفظ بهم دينه عن الزوال، وهدايته عن الانقراض، فإنّها لابدّ أن تقوم إلى قيام الساعة، لئلّا يستولي الشرك والظلم على الأنام، فهم الحجّة على خلقه لئلّا يكون للناس على الله حجّة ، وهمّ على درجة كبيرة من التقوى بحيث لا سبيل للشرك وأنواع الظلم إليهم ، فكانوا من أهل العصمة كالأنبياء الكرام والأوصياء العظام علیهم السّلام، ويمكن إلحاق بعض الصالحين من المؤمنين الذين عاهدوا الله على ما هم عليه وكانوا أهل التقوى والصلاح، وابتعدوا عن الظلم والطغيان فخرجوا عن ولاية الشيطان ونالوا المرتبة العالية في العقيدة والعلم، فيصدق عليهم أنهم ممّن وكّلهم الله لحفظ دينه الحقّ ، واعتمد عليهم أولياء له ، فى تثبيت الهداية الإلهيّة ، كما ورد عن الصادق علیهالسّلام في بعض أصحابه: «لولا هؤلاء لاندرست آثار أبي» وآثارهم هي آثار الهداية الإلهية .

وذلك لأنّ الآية الكريمة جاءت بعدما وصف سبحانه التوحيد الفطري والهداية الإلهيّة التي تنزّهت عن شوائب الشرك ، وقد أودعها عند أشخاص اجتباهم واصطفاهم من بين عباده ذرّية بعضهم من بعض ، ومنحهم تلك الكرامة الشامخة وهي النبوّة، وهداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه أبداً، وآتاهم الكتاب والحكم وما يثبت به دعواهم ، ولقد جاهدوا في تثبيت قواعد الدِّين الحقّ حقّ جهاده، وتحمّلوا في هذا السبيل أشدّ المعاناة ، بسبب استكبار عتاة المشركين ومعاداة الكفّار والمنافقين وعناد المعاندين ، ولئلا تضيع تلك الهداية الحقّة ، وتنقطع تلك السلسلة الربانيّة، ولا يستولى الشرك والظلم والكفر والفساد.

ولئلّا يصيب الجمع المؤمن الضعف والخوف من مواجهة الأعداء ، ولا يحبط عزيمة الأنبياء، ولا سيما خاتمهم صلّي الله علیه و آله، فلا يحزن ممّا يراه من أفعالهم واعتقاداتهم الباطلة .

ص: 135

فنزلت هذه الآية الكريمة تطيّيباً لنفسه الشريفة ، وتسلية لقلبه المبارك ، وفيها البشرى له صلّي الله علیه و آله والوعد له بأنّ قد وكلّ سبحانه أقواماً لهم من الثبات في الإيمان والرسوخ في العقيدة ، بحيث لا يتطرّق الشكّ والشرك إليهم ، وعندهم من العمل الصالح ما يجعلهم في أعلى درجات الإخلاص، فلم يصبهم وهن وضعف، وفيهم من الاستقامة ما يمكّنهم مقاومة عنادهم ولجاجهم ، فهم ليسوا بها بكافرين أبداً . فهم الضمان لبقاء الهداية واستمرارها ، فلا تضيع جهود الأنبياء سدىً ، مادام هؤلاء الصفوة على هذه البسيطة وبقى الإنسان في الأرض ، ولا ريب إنّ من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فى هذا الأمر العظيم لابدّ أن يكون على أعلى درجة من الإيمان ، وأبعد عن كلّ ظلم وعصيان وأشدّ الناس عبودية لله تعالى ، وأطوعهم له ، وإلّا كان الاعتماد عليهم ضلالاً وباطلاً ، وهو عزّ وجلّ منزّه عن ذلك ، فهذه الآية الكريمة من الآيات التى ترشد إلى عصمتهم وبُعدهم عن الخطأ والضلال مطلقاً، والله أعلم .

قوله تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ».

تنويه بعلو شأن الأنبياء مرة أُخرى ، وتعريفهم ثانياً بما يظهر منه كرامتهم عند الله عزّ وجلّ ، فقد عرّفهم سابقاً بأنّهم علیهم السّلام مظاهر الهدى الإلهي ، وعرّفهم بما بلا عرّف به الهدى ، فقد ذكر سبحانه في هذه السورة (هدى الله) مكرّراً، وعرّفه عزّ وجلّ بأنّه الحق والصراط المستقيم، وأنّه السعادة الحقيقية الأبدية ، وأنّه الذي يوصل إلى المطلوب ، بخلاف غيره كما قال سبحانه: «فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ »(1).

والإلتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلّة الهداية ، وحفظ المهدى إليه

ص: 136


1- سورة النحل : الآية 37

اعتماداً على غاية ظهوره .

ما يدلّ عليه قوله تعالى: «فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِهِ»

قوله تعالى: «فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِهِ».

الاقتداء هو الاتّباع لمن يتّخذ قدوة ومثالاً ، فليس كلّ إتّباع اقتداء ، والهدى الذي أمر الله تعالى رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بإتّباعه هو الذي ذكره سبحانه في آيات متعدّدة ، أي التوحيد والدِّين الحقّ الذي يشتمل على جميع التشريعات الحقّة، والمعارف الإلهيّة، والأخلاق الفاضلة التي لا اختلاف فيها بين الأنبياء، سوى ما يرجع إلى اقتضاء الزمان ومصالح خاصّة ، فتلك الهداية الراجعة إلى أُصول العقائد والفروع التكليفيّة التي ترجع إلى مصالح الإنسان وكسب سعادته ، فإنّه لا اختلاف فيها عند جميع الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، فلا وجه للنزاع في تعيينها أو عددها ، كما ذكره جمع من المفسِّرين ، فإنّ المستفاد من الآية الكريمة وحدة الهداية عند جميع الأديان الإلهيّة ، وعليها اتّفقت جميع الملل .

ثمّ إنّ بعضهم أرجع الضمير في (اقتده) إلى الهدى دون أشخاصهم ، فيكون الإتباع بهداهم لا يهم؛ لأنّ شريعته ناسخة لشرايعهم، وكتابه مهيمن على كتبهم .

ويرد عليه: بأنّه لا يجدي شيئاً للتلازم بين الهدى والمهدي الذي بلغ من الكمال في تحمل الهداية والعمل بها، ممّا جعله مصداقه الحقيقي، فهو الهدى المتجسّد ، كما قال رسول الله صلّي الله علیه و آله في حقّ على علیه السّلام : «لقد برز الإيمان كلّه»، وقد عرفت آنفاً أنّ الآيات الشريفة تبيِّن وحدة الهدى والمهدي .

والحاصل إنّ الآية الكريمة تدلّ على أُمور :

الأوّل : إنّها تبيِّن وحدة الهداية الإلهيّة، فقد أمر سبحانه خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله الذي هو أشرف الأنبياء صلّي الله علیه و آله على الإطلاق، ودينه أكمل الأديان كذلك، ومقتضى القاعدة اقتداؤهم به صلوات الله عليهم لا العكس، ولمّا كان هدى سيِّد الأنبياء صلّي الله علیه و آله هو نفس هدى الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، وأنّ جميعهم متّحدون في الصراط، وهو العقيدة

ص: 137

التوحيدية الخالصة من شوائب الشرك ونبذه بكلّ وجوهه ، وأُُصول التشريعات التي ترجع إلى سعادة الإنسان، وإيصاله إلى الكمال المنشود ، فلا ضير في اقتدائه صلّي الله علیه و آله بعد الاتّحاد في جميع شؤون الهدى وخصوصيّاته .

الثاني : إنّ الاقتداء بالهدى إنّما يرجع إلى الاقتداء بالمهتدي، لما عرفت من الملازمة بينهما في المقام ، ولكنّه اقتضى عدم ذكر الاقتداء بهم اعتناءً بشأن سيِّد الأنبياء صلّي الله علیه و آله وتشريفاً له ، فإنّه أشرفهم على الإطلاق.

الثالث : إنّه يستفاد منها ثبوت عصمة الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الرابع : إنّ نسبة الهداية إليهم علیهم السّلام للدلالة على أنّهم قاموا برعايتها بأحسن وجه ، فلم يكن مجرّد نسبة تشريفية ، كما ذكره بعضهم .

وأمّا الاستدلال بالآية على أنّ النبيّ صلّي الله علیه و آله وأُمّته كانوا متعبّدين بشرائع من قبلهم إلّا ما دلّ على النسخ ، فإنّه بعيد عن سياقها ، وقد ذكرنا أنّ التعبّد بالشرائع الإلهيّة هو من التعبّد بالهدى الذي كانوا عليه ، والمعروف أنّه لا اختلاف في أُصول الدِّين من عقائده وتشريعاته، إلّا ما يقتضيه قانون التكامل في الشرائع والكمالات ، كما هو معلوم .

وممّا ذكرناه يظهر فساد ما ذكره جمع من المفسِّرين في المقام فإنّه من التطويل الذي لا طائل تحته لاسيّما ما أورده الرازي في تفسيره ، فراجع .

قوله تعالى : «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» .

بيان لأهمّ قانون يتعلّق بالرسالات السماوية التي ابتنيت على عدم التعاوض فى الهداية بالأُمور الفانية الزائلة ، فإنّها سعادة أبديّة ، وكمال مطلق ولا يقبلها شيء، وإنّما أورد هذا القانون الإلهي بهذا الأُسلوب وهو عدم سؤاله منهم الأجر - لبيان أنّه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ولتطيّيب نفوسهم ، وأنّه

ص: 138

أنجح لدعوته ، كما أنّه أبعد للتهمة ، إلّا أنّه استثنى في مورد آخر المودّة في القربي ، قال تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)، إِلَّا أَنّ المودّة في القربى من أجزاء الهدى، فإنّ حبّهم من الإيمان، وبغضهم من الكفر والنفاق ، فلم يكن أجراً، فيكون الإستثناء منقطعاً، ويأتي التفصيل في موضعه إن شاء الله تعالى.

والخطاب لسيِّد الخلائق وأشرف الأنبياء صلّي الله علیه و آله اهتماماً بشأنه، وللإشارة إلى أنّ تلك الهداية الإلهيّة الدالّة على التوحيد الفطري، هي وحدة جامعة للكمالات ، وأنّ خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله يدعو إليها كما كان الأنبياء صلّي الله علیه و آله يدعون إليها ، فمن هداهم عدم طلب الأجر على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس ، كما أكّد عليه القرآن المجيد في مواضع عديدة ، وقد اقتدی رسول الله صلّي الله علیه و آله بهداهم ، فتكون هذه الآية الكريمة من تطبيقات الآية السابقة .

والآية إرشاد إلى العلماء والمتصدين لهداية الناس، بالإعراض عن أخذ الأجر على أعمالهم ، وإن كان هنا تفصيل مذكور في الفقه .

قوله تعالى : «إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ».

إشعار بالسبب في ترك أخذ الأُجرة على تبليغ الهداية إلى العباد ، لأنّه تذكير للعالمين .

والآية تدلّ على عموم نبوّته صلّي الله علیه و آله لجميع العالمين ، وأنّ الهداية الإلهيّة باقية ببقاء القرآن، فإنّه وإن انقطعت النبوّة بعد ارتحاله صلّي الله علیه و آله ولكن الهداية لم تنقطع.

والذكرى والذكر ،واحد، إلّا أنّها أبلغ من الذكر ، وهي مصدر التذكير ، و(هو) - يرجع إلى القرآن مبالغة .

ص: 139


1- سورة الشورى : الآية 21

المراد من القدر المذكور في قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ»

قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».

احتجاج على الكافرين بعد توارد النعم الإلهيّة عليهم، كالهداية التي ترجع إلى سعادتهم ، وإرسال الأنبياء والرُّسل ، وإنزال الكتب التي اشتملت على جميع أسباب الهداية، فقد كان عليهم مقابلتها بالشكر والقبول، لكنّهم أهل العناد واللّجاج والاستكبار، حيث قالوا : «مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»، وبذلك يتبيّن الفرق الواضح بين الفريقين المتقابلين فى الصفات والأثر، فإنّ الفريق الأول المؤمن على حقّ مبين ، وأتمّ حجّة ، وأنّهم أعلى شأناً ، وأوضح مسلكاً، وأصوب قولاً ، وأرجح عقلاً، وأكرم صفاتٍ وأعظم خلقاً، وأسهل طريقاً إلى الهدف الذي هو الكمال المنشود، والسعادة الحقيقية . كما أنّ الفريق الآخر الكافر، فقد أوضح سبحانه بعض سجاياهم وصفاتهم فيما سبق ، كما أنّه تعالى بيَّن في هذه الآيات ما يكشف عن سوء اعتقادهم، ورذالة صفاتهم، وخبث نيّاتهم، وإهانتهم للنعم الإلهيّة ، وفساد أقوالهم، فلم يقدّروا الله حق قدره وافتروا عليه أشدّ ،افتراء فما أجرأهم عليه تعالى!!

و قدر الشيء -بسكون الدّال وفتحها - إذا سبره وأحرزه ، فيقال : قدر الشيء يقدّره بالضم قدراً إذا سبره ليعلم مقداره ، ثمّ استعمل فى معرفة الشيء من حيث كميته - من عظم أو صغر ونحوهما - وأحواله وأوصافه ومقداره ، يقال : قدرت الشيء قدراً، وقدّرته بالتشديد تقديراً، إذا سبره وحرزه، ليعرف مقياسه وكميته و مبلغه ، وقد كان مستعملاً في المحسوسات، ثمّ توسّع فاستعمل في غير المحسوسات من المعاني والأحكام، فيُقال : قدر فلان في المجتمع، أي مبلغه في العظمة ووزنه عند الناس وقيمته الاجتماعية .

ولا ريب أنّ تقدير الشيء إنّما يكون بتحديده بالحدود التي تعيّن مقداره ومقياسه، وهو يتحقّق غالباً بذكر الأوصاف التي تكشف عن حقيقته وحالته التي

ص: 140

تستتبع العلم بقدره ، ولذلك يُطلق القدر والتقدير على الوصف والمعرفة بحال الشيء على نحو الاستعارة ، فيُقال : قدر الشيء وقدّره يعني وصفه ، أو يُقال : قدر الشيء وقدره أي عرفه ، بلا فرق بين المعاني الممكنة أو الواجبة ، إلّا أنّ استعمال القدر في الله تعالى لا من حيث ذاته، إذ لا يحيط بكنهه أحد ذاتاً، ولا من حيث أوصافه، فإنّه لا يمكن دركها بحسّ ولا وهم ولا عقل، وإنّما يعرف معرفة بما يليق بساحة قدسه، من ظواهر أوصافه بما دلّ عليها من آياته وأفعاله ، ومن أجله صحّ استعمال القدر فيه تعالى بأيّ معنى يتصوّر في حقه عزّ وجلّ استقلالاً أو بالالتزام ، «وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» أي ما عظّموه بما يليق بساحته من العظمة ، أو ما وصفوه حقّ وصفه ، أو ما عرفوه حقّ معرفته ، وإن كان المعنى الأوّل أليق، لأنّه يستلزم المعنيّين الأخيرين ، أو أنّه أنسب بالنسبة إلى الآيات السابقة التي دلّت على ثبوت الهداية الإلهيّة التى تهدي إلى التوحيد والدِّين الحقّ، وبيان أوصافها وحفظها على مرّ الدهور والعصور، وذكر المهتدين المهديِّين الذين اجتباهم الله عزّ وجلّ، فأتاهم الكتاب والحكم والنبوّة، وتحمّلهم مسؤولية هداية الناس جميعاً، فإنكار ذلك من المشركين، إنّما يكون حطّاً لقدره سبحانه؛ لأنّه راجع إلى إزاحته سبحانه عن شؤونه المقدّسة ، وسلب الربوبيّة التي تقتضي هداية العباد إلى سعادتهم وفلاحهم .

وقد وردت هذه الجملة في عدّة مواضع من القرآن الكريم، منها آية المقام، وقد عرفت أنّ الأنسب من المعاني هو المعنى الأوّل.

ومنها : قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذَّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(1)؛ أي ما قدروا الله حق قدره، فلم يعرفوا

ص: 141


1- سورة الحج : الآية 73 - 74

قوته وعزّته وضعف غيره وذلّته ، فلا وجه لحطّ قدره، ولا يستوي هو وغيره ممّا يدعون من دونه، ويتّخذونه آلهة وأرباباً، فيرجع إلى الأوصاف .

ومنها : قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1)، وهو يرجع إلى أنّهم ما قدروه فلم يعرفوه حقّ معرفته، وهو الواحد الأحد القادر المتعالى عن كلّ شرك .

وقد عرفت آنفاً أنّ المعاني متلازمة ، فلا إشكال ، مضافاً إلى أنّ الكافرين المنكرين للوحى ما عرفوا الله حقّ معرفته ، ولا عظّموه حقّ عظمته ، ولا وصفوه حقّ وصفه ، ولا آمنوا به موصوفاً بأجلى الصفات وأكملها . وكيف كان، فإنّ تفسير قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» بأنّه ما أعطوه من القدرة ما هو حقّها، بعيد عن ظاهر الآية الكريمة .

ثمّ إنّ نصب (حقّ) على المصدرية ، وهو في الأصل وصف لمصدر، أي قدره الحقّ .

قوله تعالى : «إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» .

بيان لما هو السبب في عدم قدرهم الله حقّ قدره ، وهو يدلّ على عظيم اجترائهم عليه سبحانه، حيث أنكروا بعثه الرُّسل وإنزال الكتب على بشر ، وهم بذلك قد كفروا بلوازم أُلوهيّته عزّ وجلّ وشؤون ربوبيّته التي تقتضي هداية العباد بإنزال الكتاب وإرسال الرُّسل وإرشاد الناس إلى ما يوجب سعادتهم وفوزهم بالفلاح ، وبقولهم هذا قد أنكر واعظائم رحمته وجلائل نعمته، وما عرفواكنه فضله على عباده .

ص: 142


1- سورة الزمر : الآية 67

و (إذ) للزمان الماضي، و(من) للتأكيد، تدلّ على الاستغراق أي شيئاً من الأشياء، مبالغةً منهم فى إنكار إنزال القرآن .

قوله تعالى: «قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى» .

تثبيت لما ذكر سابقاً من أن من شؤونه تعالى ومقتضی ربوبیّته تدبیر عباده بالهداية، وسوقهم إلى الكمال والسعادة ، وردٌّ على منكري نزول الوحي والكتاب وقد احتجّ سبحانه بأمرين: أحدهما الاحتجاج بكتاب من الكتب الإلهيّة المنزّلة على الأنبياء علیهم السّلام، التي أثبتت نبوّتهم بالحجج القويمة الظاهرة ، ومنها المعاجز لا الباهرة التي اعترفت بها أُممهم ، وقد حفظوا الهداية الإلهيّة واتّصلت بهم من لدُن نوح علیه السّلام ومن بعده ، التي وصفها سبحانه بأحسن الأوصاف، وبيّن حقيقتها القرآن الكريم لاسيما تلك الآيات السابقة ، كما عرفت .

وما ورد في الآية الكريمة نقض لمقالتهم التي حكاها سبحانه عنهم، فقد أنزل الكتاب على موسى علیه السّلام وهو التوراة الذي وصفه سبحانه بأحسن الأوصاف .

قوله تعالى : «نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ» منصوبان على الحالية من الكتاب، والعامل أنزل ، أو من (ربّه) والعامل جاء. وكون التوراة نوراً لأنّه يهتدي به الناس في ظلمات الكفر والضلال والمعاصي والآثام، ومتاهات الأوهام ، وهو هدى لهم يرشدهم إلى الإيمان الحق بالله تعالى وبرسوله صلّي الله علیه و آله .

والآية تسفيه لهم بأنّهم لم يستفيدوا من الكتاب الإلهى النازل لأجل هدايتهم، ينير لهم الطريق إلى سعادتهم ويهديهم إلى كمالهم المنشود .

قوله تعالى : «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً» .

أي تضعونه في صحف متفرِّقة ، وأوراق مقطعة، لغرض إظهار ما تحبّون

ص: 143

إبداءه ، وإخفاء الكثير الذي يدلّ على الدِّين الحقّ الداعي إلى الإيمان بالله تعالى وبرسوله الله صلّي الله علیه و آله ، وذلك من صفات المنافق الذي يعرف كيفيّة كتمان الحقّ وله الخبرة ، في هذا المجال ، وأوّل من تنطبق عليه هذه الصفة الذميمة ، ويتبادر إلى الذهن، هم اليهود على ما حكى القرآن الكريم عنهم في عدّة مواضع منه ، فقد كتموا أخبار النبى وصفاته ونعوته ، وما يدلّ على بعثه صلّي الله علیه و آله ، وهم حرّفوا التوراة وغيّروا شريعتهم ، وأهملوا الكثير ممّا يرتبط بدينهم الذي أنزله الله تعالى على نبيّهم موسی علیه السّلام وغيره من أنبيائهم علیهم السّلام ، وقد ذكرنا جملة من ذلك في هذا التفسير ، فراجع .

فلا شكّ في أنّ الآية خطاب لليهود، وفيها الذمّ لهم بما فعلوه بكتابهم وتحريفهم إيّاه، وإبداء بعض وإخفاء الكثير بما تهوى أنفسهم.

وقد اختلفوا في قراءة الآية الكريمة ، فالمعروف قراءة الأفعال الثلاثة على الخطاب بالمثنّاة الفوقية . وقرأ بعضهم على الإخبار بالمثناة التحتية ، فوقع الخلاف في تفسيرها حتّى عدّها بعضهم من مشكلات القرآن ، كما ذكر بعضهم بأنّ هذه الآية ممّا استثني من نزول هذه السورة كلّها دفعة واحدة بمكّة، فزعموا أنّها نزلت في شأن بعض اليهود في المدينة.

وكيف كان ، فإنّه على الأوّل تكون احتجاجاً على اليهود، وأيّدوا ذلك بأمور ، منها ما ورد في سبب نزولها .

وأمّا على الثانى تكون احتجاجاً على مشركي قريش، واستدلوا عليه بأُمور :

منها : إنّ القرآن احتجاج على المشركين .

ومنها : إنّ الكلام في سياق الخبر عنهم ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة .

ومنها تضعيف ما ورد في سبب نزولها .

ص: 144

ومنها : إنّ المعروف عن اليهود أنهم لا ينكرون الوحي، بل يقرّون نزوله على إبراهيم وموسى و داود علیهم السِلام؛ فلا يجوز صرف الآية عمّا يقتضيه سياقها من أوّل السورة إلى هذا الموضع، بل إلى آخرها بغير حجّة من خبر صحيح أو عقل صريح.

والحق أن يُقال : إنّ الآية الكريمة بظاهرها تدلّ على أنّ الخطاب مع اليهود ، وإن كان مضمونها يعمّ غيرهم من المشركين العرب وغيرهم ممّن يتّصف بما ورد في الآية ، ويدّل على ذلك أُمور :

الأوّل : ما ذكرناه آنفاً من أنّ الصفات المذكورة فيما سبق هي صفات اليهود التي حكاها عزّ وجلّ في مواضع أُخرى فهم الذين حرّفوا التوراة ، وجَعْلهم لها قراطيس ، وإنّهم كتموا الحق وفعلوا المنكرات .

الثاني : إنّه سبحانه احتجّ على هؤلاء بكتاب موسى علیه السّلام، والمشركون لا يعترفون به، ولا يقولون بنزوله من عند الله تعالى.

الثالث : إنّ قوله تعالى «وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ» إِنَّما هو خطاب لليهود، دون غيرهم ، فهو وقوله تعالى : «قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ» على حدٍّ سواء في عدم صحّة خطاب غير اليهود بهما ، كما هو معلوم .

والإيراد بأنّ مشركي العرب كانوا يعلمون أنّ اليهود همّ أصحاب التوراة ، وهو يكفي في الخطاب ، ولكنّه موهون بأنّ العلم كذلك لا يكفي في الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله عزّ وجلّ ، فإنّهم وإن علموا بذلك ، ولكنّهم لم يعرفوا كونه نوراً وهدىً للناس ، واليهود يدّعون ذلك لا المشركون ، والمصحّح هو الأول دون الثاني.

وذكر جمع من المفسُّرين أنّ الخطاب مع المشركين ، وأجابوا عن تلك

ص: 145

الأدلّة السابقة.

أمّا الأوّل: فلأنّ القرآن الكريم خطابٌ لجميع الناس ودعوته عامّة ، بل هو ذكر للعالمين ، وقد حاجّ المشركين ، كما حاجّ أهل الكتاب على حدٍّ سواء، وفي القرآن المجيد كثير من الاحتجاج معهم، وذكر مظالمهم، لاسيّما بني إسرائيل ، فقد قال تعالى: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» (1) ، وقد تقدّم في سورة البقرة الاحتجاج مع اليهود ، وفي سورة آل عمران مع النصارى ، وفي سورة الأعراف ، بل يمكن دعوى أنّ الاحتجاج مع أهل الكتاب أكثر منه مع المشركين . مضافاً إلى اشتراك أهل الكتاب والمشركين في الكفر بآيات الله تعالى ورسوله الكريم صلّي الله علیه و آله واعتماد المشركين على أهل الكتاب أُمور كثيرة لاسيما اليهود الذين كانوا يخالطونهم ، وقد واجهت الدعوة الإسلاميّة من أهل الكتاب من بدئها بمثل ما واجهته من المشركين ، وقد عرف عن اليهود قبل الإسلام أنّهم كانوا يبشِّرون بالرسول الجديد ودعوته ، ولكنّهم بعد الدعوة خالفوها وعاندوها ، فلا يصحّ دعوى جهلهم بها .

ومنه يظهر الجواب عمّا ذُكر من أنّ هذه السورة إنّما نزلت في الاحتجاج على المشركين فى أصول الدين، وعليه عامّة الخطابات الواردة فيها ، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة حتّى تُصرف هذه الآية إليهم ، فإن كان الاحتجاج معهم لا باعتبار كونهم المقصودين فقط دون غيرهم، بل من أجل كونهم ينكرون الدِّين الحق بأُصوله وفروعه ، ولا يختصّ هذا المناط بهم بل يشمل كلّ من يتحقّق هذا المناط فيه، سواء كان من المشركين أو الكفّار المعاصرين للدعوة أو بعدها إلى قيام الساعة ، وعليه لو خلت سورة عن ذكر طائفة معيّنة أو فريق معيّن ، فلابدّ أن يكون الغرض هو الإكتفاء بالمناط في توجيه الخطاب ، ولعلّ هذا هو أحد الأسرار

ص: 146


1- سورة العنكبوت : الآية 46

في كون الكتاب ذكراً للعالمين .

وأمFا الثاني: فسيأتي البحث فيه في البحث الروائي إن شاء الله تعالى .

وأمّا الثالث: فلأنّ اليهود وإن كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء - موسى ومن قبله علیهم السّلام - ونزول الكتب السماوية كالتوراة وغيرها ، ولكنّه لا يمنع صدور القول منهم بأنّه ما أنزل الله على بشر من شيء تعنّتاً وتعصّباً منهم، واستكباراً على الحقّ الذي عرفوه ، أو من أجل تحريض المشركين على الحقّ وأهله ، أو ابتغاءً للفتنة ، أو تأييداً لبعض المشركين الذي سأل عن كتاب يدّعي النبيّ صلّي الله علیه و آله نزوله عليه من الله تعالى ، وقد قالوا كلمة الكفر من قبل ، فقالوا يد الله مغلولة ، كما أيدوا المشركين على أهل التوحيد ، وقالوا : «هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً» (1). وغير ذلك من ، الأقوال والأفعال المنافية لأُصولهم الثابتة المحكيّة في القرآن الكريم ، فلم يستبعد أن تصدر منهم هذه المقالة الشنيعة . وقد قال تعالى في حقّهم :

«ولُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرِ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (2).

فالصحيح أنّ الخطاب مع اليهود ، وأنّ قراءة الخطاب (تجعلونه) هي الأوفق ، وإن أمكن توجيه قراءة الأخبار ( يجعلونه) بما لا ينافي ما اخترناه ، بل له وجه وجيه باعتبار أنّ خطابات القرآن المجيد عامّة للجميع، ولا تختصّ بطائفة معيّنة أو قوم خاصّين ، وإن ذكرهم بالخصوص ، كما عرفت، ومنه يظهر الوجه فيما ذكره بعض المفسِّرين في توجيه الآية الكريمة بما يوافق القراءتين ، فراجع تفسير

ص: 147


1- سورة النساء : الآية 51
2- سورة المائدة : الآية 78 - 80

المنار . هذا كلّه فيما إذا اخترنا نزول الآية الكريمة بمكّة المكرّمة . وأمّا إذا قلنا بأنّها نزلت في المدينة فلا يتوجه كلّ ذلك ، كما هو واضح .

قوله تعالى : «وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ».

وهو الاحتجاج الثاني على بطلان الدعوى التي حكاها سبحانه فيما سبق عن اليهود أو المشركين ، وإنه يرجع إلى وجود المعارف الإلهيّة والأحكام الربّانية التي لابدّ أن يكون منشأها الوحي من الله تعالى، التي تهدي إلى سعادة الإنسان وإيصاله إلى الكمال المنشود ، ولا يمكن أن يكون مصدرها الإنسان مهما يكن له من الإمكانيات العقلية التي منحها الله تعالى له فإنّها محدودة بالحدود الإمكانية التي خلق الله تعالى الإنسان عليها ، فهو محكومٌ بالعواطف والشعور المادي ، كما إنه محدود بالحياة في هذه الأرض ، فهو يتوسّل بما وهبه الله تعالى من الوسائل المحصورة المحدودة ، لإنجاح مقاصده والوصول إلى أهدافه في هذه الحياة الفانية الزائلة ، ولا ريب أنّ الدِّين الإلهي يتعدى هذه الأغراض المقتصرة على الحدود المادّية والحياة الدنيوية التي لا يمكن أن ينالها الإنسان الاجتماعي بما يملكه من الشعور الاجتماعي ، ولا تسع الوسائل العادية أن تنالها ، فلا يكون هذا العلم الذي علّمهم الله عزّ وجلّ من العلم العادي الذي يتعلّق بأُمور تختصّ بالإنسان من حيث النفع والضرّ، الذي يمكن أن يصل إليه بما منحه الله تعالى من السبل والوسائل للوصول إليها .

فيكون هذا العلم الذي وهبه الله تعالى لعباده من شؤون الربوبيّة الكبرى التي تختصّ بتدبير خلقه ، وهدايته إلى مصيره المحتوم من حيث السعادة والشقاء، ولأجل ذلك يرسل الرُّسل وينزّل الكتب ويمدهم بفيوضاته بالوحي والإلهام . نعم هناك علوم يفيضها الله سبحانه على الإنسان لتدبير أحواله في هذه الحياة، كما

ص: 148

يقتضيه الوجدان والبرهان ، كقوله تعالى : «عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1)، ولكن هذه العلوم لم تكن هي المقصودة من آية المقام قطعاً .

ومن ذلك يعلم أنّ المخاطبين بهذه الآية، هم طائفة معيّنة لهم صلة بتلك المعارف من النبوّة والشريعة الإلهيّة، وليسوا هم المشركين ، ولا سيّما مشركوا العرب لأنّهم لم يعرفوها ولم يعترفوا بمصادرها ، كما أنّهم لم يرثوا من آثار النبوّة شيئاً سالف العهود والأجيال ، وقد وصفهم الله تعالى في جملة من الآيات الكريمة بالجهل المطبق ، قال تعالى : «وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ»(2).

وقال تعالى : «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» (3).

فلا ريب أنّ الخطاب متوجّه إلى غير المشركين ، وسياق الآية يدلّ على أنّ المخاطبين هم اليهود.

ولكن ذكر بعضهم بأنّهم المسلمون ، فإنّ الناس فيما تقدّم عام ٌيشمل المسلمين واليهود ، و (تجعلونه) خطاب لهم باعتبار اليهود، وفي (عُلّمتم) باعتبار المسلمين .

وفيه أوّلاً : فيه تكلّفاً واضحاً.

وثانياً : إنّه خلاف سياق الاحتجاج الذي عليه الآية الكريمة ، فلو كان الخطاب متوجّهاً إلى المسلمين لكان اعتراضاً من غير نكتة.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر أنّ الله سبحانه احتج على اليهود الذين تجرّأوا عليه سبحانه، فقالوا : «مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرِ مِنْ شَيْءٍ»، عناداً للحقّ واستكباراً عليه ، وابتغاءٌ للفتنة بأمرين هما أساس الديانات الإلهيّة، ومحور الرسالات

ص: 149


1- سورة العلق : الآية 5
2- سورة البقرة : الآية 118
3- سورة الأنبياء : الآية 24

السماوية ، أحدهما النقض لمقالتهم الشنيعة ، والثاني بيان الفضل الإلهي على الإنسان في تقویم امور معاشه ومعاده .

فالأوّل هو النقض بالتوراة التي وصفها سبحانه بقوله : «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (1) ، واليهود يعترفون بكونها كتاباً إلهياً جاء به موسى علیه السّلام، ومن المعلوم أنّ اعتقادهم وأقوالهم في التوراة يناقض مقالتهم تلك التي حكاها عزّ وجلّ عنهم ، كما ذمّهم على تقطيعها قراطيس يبدون بعضها ويخفون الكثير حسب أهوائهم، فضاع الحقّ بذلك ، مع إنّ إنزال الكتاب من الله تعالى إنّما هو لهداية الناس . فقد بلغ بهم الأمر إلى مقابلة الهداية بالضّلال . وقد بيّن عزّ وجلّ مكرّراً أنّ كتمان الحقّ وإخفاء الهدى ومقوماته لا يضرّ بالمسيرة التكاملية للإنسان التي اعتنى بها الله سبحانه اعتناءً بليغاً، من حيث إرسال الرُّسل وإنزال الكتب في سبيل إسعادهم ، كما قال تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ»(2).

والثانى بالردّ عليهم بأنّ الله تعالى إنّما أنزل ما يجلب السعادة والكمال للإنسان من حيث العلم الذي يدعو إلى العمل، ولا يمكن الوصول إلى مثل هذا العلم النافع للعباد في النشأتين، والفوز بالفلاح في الدارين، إلّا عن طريق الوحي الإلهى الذي ينزّله على رسله، وهم يبلغونه إلى الناس ، وقد عرفت أنّ هذا العلم يشمل العقائد الحقّة والشرائع والقوانين التي تنظّم أُمور الإنسان الاجتماعية والفردية والتي تبسط العدل، وترفع الاختلاف والظلم بين العباد ، وتبيّن الأخلاق الفاضلة التي تهدّب سلوك الفرد والمجتمع، وتبيّن مسيرهما الاستكمالي ، وهذه المعارف الحقّة بما لها من الخصوصيّات الدقيقة، لا يمكن الوصول إلیها

ص: 150


1- سورة المائدة : الآية 44
2- سورة المائدة : الآية 15

بالاكتساب في عالم المادّة ، وقد عرفت أيضاً أنّ الإنسان مهما بلغ من الكمال، يستحيل عليه الوصول إلى تلك المعارف، إلّا بمعونة الوحي الإلهي ، ولا ريب أنّ العقل الفرد والجماعي المستولي عليه الشعور المادّي، الحاكم على الأفراد والجماعات لا يمكنه إيصال الإنسان إلى تلك المعارف والفضائل المعنوية التي توارثت المجتمعات الإنسانية مفرداتها على تنوّعها وتطوّرها ، وقد رسخت أسماء كثير منها في تلك المجتمعات ، واحترمت النفوس معانيها السامية ، وإن كان تطبيقها منوطاً بالإعراض عن الماديات فإنّ بينهما التناسب الطردي ، فلابدّ من الترفع عن المادّة والماديات حتّى تؤثر تلك المعارف الحقّة، وتثبت فضائل الأخلاق في الفرد والمجتمع وأنّ الإخلاد إلى الأرض هو المانع الأصيل الذي لا يجتمع مع ذلك العلم النافع . فلا يكون هذا العلم إلا من آثار الدعوات الدينية المستندة إلى الوحي الإلهي التي قام بمهمّة نشرها وتطبيقها الأنبياء والمرسلون ، ولقد كانت لمجاهداتهم الصعبة العظيمة الأثر الكبير في نشر لواء التوحيد ، وتبليغ دين الله تعالى ، وبسط كلمة التوحيد ، وترسيخ دعائمه ، وإرساء قواعد الدينِّ الحقّ ، وهداية الناس وإرشادهم إلى سعادتهم فى الدارين ، فقد نهضوا لها خير نهوض ، وقاموا بها أحسن قيام ، وإذا كان لغيرهم من الحكماء والمصلحين سبيل في ذلك، فإنّما قد أخذوه من منبع الوحي الإلهي، واستفادوا من الرسالات السماوية ، والمعارف الربوبيّة . وأمّا غيرهم من رجال الاجتماع والسياسة ، فهم وإن كانوا يدّعون الإصلاح، أو عناوين تخلب القلوب كالدائرة على الألسن، لا سيّما في العصور الأخيرة ، لكنّها تدعو إلى المادّية الزائلة الفانية، وتخلو عن الفضائل والكمالات والمقاصد العالية، التي تدعو إليها الأديان الإلهيّة ، وإن بقي بعضها ركيزة لجميع ما تدعو إليها الفطرة وتلجئهم إلى احترامها كالعدل والعفّة والصدق ونحوها ، ولكن استعمالها وتطبيقها لا يكون إلا لأجل تحقيق الأغراض

ص: 151

المادّية الخاصة، فيستغلّها القويّ لإرغام الضعيف، وبها استولت الحكومات الإستبدادية ، وتصدّى كلّ ظالم حَكَمَ فاستخدم كلّ من كان ضعيف الإرادة مسلوب الأخلاق لتنفيذ مأربه ، فانقطعت أغلب سُبل الهداية وانهدّت قواعد العدل ، فقست القلوب، وبلغت الإنسانية التي عظّمها خالقها إلى أدنى الدركات . وأصبح الإنسان في خسر من كل سعادة وكمال ، كما أخبرنا عزّ وجلّ: «وَالْعَصْر إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرِ»(1)، فانتشر الفساد ، وملئت الأرض ظلماً وجوراً، وصار سفك الدماء ، وهتك الأعراض وسلب الأموال واستخدامها في أُمور فاسدة وتافهة من الأُمور العادية ، ولكن الأمل المنشود هو الذي يبعث الهمّة في النفوس ، ويرجع الإنسان إلى رشده ، وقد تعلّق هذا الأمل بالصفوة الباقية ، الذين لم يختلط شعورهم ومشاعرهم بتلك الأُمور، فأعرضوا عن الدُّنيا وما فيها، وبقيت قلوبهم متعلّقة بالله عزّ وجلّ بتحقيق أملهم لبسط العدل والقسط ، وإقامة الدِّين الحقّ ، وإزاحة الظلام المستولي على الأرض، وهو الذي تدعو إليه جميع الأديان الإلهيّة ، وهو بقيّة الله عزّ وجلّ، والنور الإلهي الذي يهدي الخلق الى النهج القويم، ويجعل الإنسان على الصراط المستقيم، بعد أن حرّفته السُّبل المتعدّدة، نسأل الله تعالى أن يحفظه من كلّ مكروه وسوء ويعجّل في فرجه ، فإنّه الأمل الوحيد ، فإنّ الإنسان يمرّ في أحلك ظروفه .

ومن جميع ذلك يظهر أن قوله تعالى : «وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ» خطاب لمن له المعرفة بتلك العلوم التي ذكرناها ، فيكون احتجاجاً بالعنوان الأولى على اليهود في ردّ مقالتهم الزائفة التي تقدّم ذكرها ، وإن كان المناط يمكن أن يتحقّق في غيرهم من المشركين وأمثالهم، الذين كسبوا المعرفة من أهل الكتاب، واستكبروا على الحقّ فأنكروه .

ص: 152


1- سورة العصر : الآية 1

قوله تعالى : «قُلْ الله».

خطابٌ لأشرف خلقه بالجواب عنهم وبيان الحقّ لهم بعد إنكاره منهم مكابرة. وفيه الإشعار بأنّ الجواب متعيّن وواضح لا يداخله ريب، ويصحّ للسائل أن يتكفّله من دون انتظار المسؤول المحتجّ عليه ، فيكون فيه إفحام شديد بحيث لا يدع مجالاً للتكلم أصلاً .

أي قل يا أيّها الرسول لهم : الله أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ، وهو الذي علّمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم .

ومنه يظهر أن ّقراءة (عُلّمتم) من غير فاعل في الآية هو الأنسب ، لأنّ ذكره فى هذا المقام أشبه بالمصادرة على المطلوب ، والمعنى حينئذٍ واضح .

كما أنّ فيه الدلالة على أنّه صلّي الله علیه و آله رسول الله يبلّغ رسالاته ، فكان الردّ عليهم بالقول والمصداق، فكيف لم ينزّل الله على بشر من شيء، أَوَلَم يُعلّمكم ، فكان أصدق ردّ وأفحمه ، وسيأتي في الآية اللاحقة أنته أنزل الكتاب المبارك المصدق لما بين يديه، وهو ردّ أخر .

قوله تعالى: «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ».

قد عرفت سابقاً معنى الخوض، وذكرنا أنّ هذه الكلمة لا تستعمل إلّا في الباطل ، وتدلّ الآية الكريمة على أنّ بطلان مقالتهم بمكان من الوضوح ، وإنّها من لغو القول وهزله بعد بيان الحق ، فلا يتفوّه بها إلّا الخائض اللّاعب بالحقائق ، ولذا أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و آله أن يدعهم وشأنهم بعد وضوح الحقّ وضوحاً بيّناً. وفيه من التهديد ما لا يخفى .

قوله تعالى: «وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ» .

تأكيد على أنّ الهداية الإلهية لا تنقطع ، أبداً، كما أنّ فيه بياناً على أنّها من

ص: 153

شؤون الربوبيّة العظمى بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب ، فقد أنزل سابقاً كتاباً حقّاً نوراً وهدىً ، وأنزل على رسوله الكريم صلى الله عليه و آله كتاباً مباركاً ، وبين الكتابين علوم تعلّمها البشر تنتهى إلى الوحي الإلهى ، كما عرفت .

وفيه إعلام بمخالفة مقالة اليهود التي حكاها سبحانه آنفاً مع الواقع الذي يستحيل عليهم إنكاره . والتنوين فى (كتاب) للتفخيم وتعظيم شأن الكتاب المنزل .

ما ورد عن أوصاف الكتاب الكريم

ثمّ إنّه عزّ وجلّ ذكر لكتابه الكريم أوصافاً تدلّ على عظيم شأنه، مع أنّه يشترك مع سائر الكتب الإلهيّة فى أنتها قد نزلت من لدن حكيم خبير ، وقد أقرّ بها اليهود وغيرهم من أهل الكتاب . نعم ربما تكون هناك فروق بينها حسبما يقتضيه السير التكاملي للإنسان في العلم والمعرفة والأخلاق، وما يتبعها من العمل والسلوك ، فقد وصف سبحانه الكتاب :

أوّلاً : إِنّه مُنزل من عند الله تعالى دون غيره ، فإنّ قوله تعالى (أنزلناه) يدلّ على أنّه سبحانه هو الذي تولّى إنزاله بالوحى كما في قوله تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ» (1)، اهتماماً بشأنه، وردّاً على إنكارهم كما حكاه عزّ وجلّ عنهم، بقوله : «مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»، ولعلّه لأجل هذا قدّمه على غيره من الأوصاف، ولا ريب أنّه لابدّ من المنزّل عليه فقد ترك ذكره للعلم به ، فقد أنزل التوراة على موسى علیه السّلام، وأنزل القرآن على محمّد رسول الله صلّي الله علیه و آله أخيراً ليكون مهيمنا على جميع ما أنزله سبحانه .

وثانياً : إنّه مبارك ، ومادّة (برك) تدلّ على الثبوت والاستقرار، ويختلف ما اشتقّ منها باختلاف متعلّقه ، ومنه بركة الماء أي محبسه ، وابتركت الدّابة أي وقفت وقوفاً ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ، قال تعالى : «لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ

ص: 154


1- سورة ص : الآية 29

مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(1).

والمبارك ما فيه ذلك الخير ، كما في قوله تعالى : «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَك» (2)، فإنّه يفيض منه الخيرات الإلهية .

ومنه قوله تعالى : «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً»(3)؛ أي موضع الخيرات الإلهية .

ومنه قوله تعالى : «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةِ»(4).

وقوله تعالى: (رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً) (5)؛ أي حيث يوجد الخير الإلهي .

ومنه تبارك الذي يدلّ على اختصاصه سبحانه بالخيرات المذكورة في الآيات الكريمة ، كقوله تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) (6).

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم فى اثنين وثلاثين مورداً، ولا ريب أنّ الخير الإلهي لا نهاية له مطلقاً، ويصدر منه عزّ وجلّ من حيث لا يحسّ به الطرف الآخر ، فقد استعمل في كلّ ما يشاهد منه زيادةً غير محسوسة أيضاً، فيقال : هو مبارك ، أو فيه بركة ، وإليه يشير قوله صلّي الله علیه و آله : «لا ينقصُ مالٌ من صدقة» ، ممّا يدلّ على كونه مباركاً في جميع شؤونه ، ومظاهره ، وجميع علومه ، والعوالم التي يرد عليها . فهو مبارك لأنّه منزّل من عند الله تعالى، فيصير هذا الوصف مؤكّداً لتضمّنه ما قبله ، ومبارك لأنّه أودع الخير الكثير ، فهو يهدي الناس للتي هي أقوم، ويهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام . كما أنّه مبارك لأنّه يتضمّن

ص: 155


1- سورة الأعراف الآية 96
2- سورة الأنبياء : الآية 50
3- سورة مريم : الآية 31
4- سورة الدخان : الآية 3
5- سورة المؤمنون: الآية 29
6- سورة الملك : الآية 1

أعلى المعارف التي خلت عنها الكتب الإلهيّة الأُخرى، فقد أحاط بالعلوم النظرية والعملية ، وبيّن أشرفها ، وهو معرفة الله تعالى وصفاته المقدّسة وأفعاله وأحكامه بما لم يتبيّن في غيره قطّ ، واحتوى من أعمال الجوارح وأعمال القلوب، أى علم الأخلاق وتزكية النفوس، ولم نجدها في غير القرآن المجيد بتلك الأوصاف الدقيقة ، واستفاد الناس منه كلٌّ بحسب استعداده، وانتفعوا به في جمع شملهم وتوحيد كلمتهم، فأصبحوا بنعمة الإسلام إخواناً، وتبدّلت أخلاقهم إلى الأحسن، وزالت الضغائن عن قلوبهم ، وانقشعت رذائل الأخلاق عن نفوسهم ، فكان القرآن شفاء لما في صدورهم ، وقرّبهم إلى الله بارئهم وأسعدهم في الدُّنيا، وسوف يسعدهم في العقبى لمن تمسّك بتعاليمه ، فما أبركه من كتاب لا يحصى نفعه ولا تعدّ فوائده لأنّه منبع الخير الإلهي !!

وكيف لا يكون كذلك، فإنّ النظر فيه عبادة، وقراءته عبادة، والعمل بتعاليمه أعظمها أجراً.

قوله تعالى : «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» .

وهو الوصف الثالث ممّا يدل على كونه حقّاً، لأنّه مصدّقٌ لما بين يديه من الكتب السماوية الحقّة النازلة من عند الله تعالى كالتوراة وغيرها، وهي كتب تضمّنت وصف القرآن الكريم، والنبيّ الصادع به ، فنزل كما وصف فيها ، فكان مصدقاً لها ، أو إنّه مصدّق لما فيها من المعارف الإلهيّة والأحكام الواقعية ، فتكون بمنزلة كتاب واحد لا اختلاف بينها سوى ما نالته يد التحريف والتغيير، فإنّ الكتاب الإلهى اللّاحق يبيّن ما وقع فيه التحريف والتغيّير .

والمراد بقوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْهِ» أنّها متقدّمة عليه ، فإن كل ما يكون بين اليدين يكون متقدماً .

ص: 156

قوله تعالى : «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا».

وهو الوصف الرابع الذي يدلّ على الوفاء بالغرض الإلهى المتعلّق من إنزال الكتب وإرسال الرُّسل ، أو الغاية من الخلق، وهي هداية العباد إلى السعادة والفوز والفلاح في الدُّنيا والعقبى ، وهما لا يتحقّقان إلّا بإنذار ما أوحى إلى المنذر .

وأمّ القرى مكّة المكرمة . وقرى جمع قرية ، وهي مأخوذة من القرا بمعنى الجمع ، فكلّ موضع يجتمع فيه الناس يسمّى قرية ، وتُطلق على الحال والمحل كليهما . والمراد بمن حولها سائر بلاد الأرض ولا ريب أنّ المراد أهلها ، فتدلّ على كون دعوته صلّي الله علیه و آله عامّة لجميع أهل الأرض ، وفي الكلام تمام العناية بأُمّ القرى التي هي الحرم الإلهى ، ومنها بدأت الدعوة وانتشرت كلمة التوحيد .

كما أنّ في الآية الدلالة على أنّ مكّة المشرفة هي أصل القرى والبلاد، فترجع سائر البلدان إليها كما يرجع الأبناء إلى الأُمّ، فتكون مركز الأرض ، وهو الذي دلّت عليه الأخبار والاعتبار ، فقد قيل إنّ العلوم الحديثة أكّدت ذلك.

وقد وردت هذه الكلمة في موردين من القرآن الكريم، أحدهما المقام، والآخر قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيَّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى»(1)، والفرق بين المقامين أنّ آية المقام ردّ على اليهود الذين أنكروا نزول كتاب إلهى ينفع العباد في الحال والمآل ، فكان الجواب إنه عزّ وجلّ أنزل كتاباً مباركاً على رسول عظيم، لينذر أُمّ القرى ومن حولها ، فكانت دعوته عامّة لجميع أهل الأرض وهم يعلمون بما فى الكتاب الإلهى من الخير العام .

وأمّا آية الشورى فالخطاب فيها مع المشركين الذين أنكروا المبدأ والمعاد والنبوّات، فكان المقام يقتضي ذكر القرآن والنبيّ المُنزل عليه، وأنّه عربي لقطع عنادهم ولجاجهم.

ص: 157


1- سورة الشورى: الآية 7

ومن ذلك يظهر أنّ الأُولى عطف قوله تعالى : «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى» على قوله : «مُبَارَكٌ»، ليكون وصفاً آخر يدلّ على أنّ الغاية من إنزال هذا الكتاب هو إنذار الناس ، فيكون التقدير : أنزلناه لتنذر أم القرى ومن حولها .

وأمّا العطف على قوله «مُصَدِّقُ» ليكون المعنى ليصدق ما بين يديه، ولتنذر أُمّ القرى، كما ذكره الزمخشري وغيره ، فهو وإن كان صحيحاً لكنّه تجريد للآية عن معنى أدق . وقرئ : لينذر أُمّ القرى ومن حولها .

وكيف كان، فإنّ الآية الكريمة قد اشتملت على جميع مقوّمات الهداية المعروفة ، فإنّ الله سبحانه أنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وهو ردّ على مقالة اليهود التي حكاها عنهم فيما سبق ، وقد اشتمل القرآن على كلّ خير متصوّر، فكثر خيره ودامت بركته ونفعه، فكان مباركاً، كما أنّه الهادي الذي يشتمل على أركان الهداية ، وهو من أعظم العلل المادّية لهداية العباد ، وقد صدّق الذي بين يديه، وهو دلالة واضحة على صدقه وحقّانيّته، فإنّه العنصر الأساس في الاعتقاد به وتأثيره على المنذَرين، وأخيراً كانت الغاية من إنزاله هو إنذار العباد وهداية الناس، وبيان ما يوجب صلاح أحوالهم ، كما قال تعالى : «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ»(1) ، فما أعظم بركة هذا الكتاب الإلهي الكريم !!.

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ» .

بيان لأوصاف المنذَرين الذين يؤمنون بهذا الكتاب المبارك فليس كلّ فرد عنده القابلية للإيمان به .

فإنّه خصّ المؤمنين بالآخرة بهذه الكرامة ، لأنّ من صدق بها يخاف العاقبة، فلا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبّر حتّى يؤمن بالكتاب وبالنبي صلّي الله علیه و آله

ص: 158


1- سورة الأنعام: الآية 19

ويحافظ على الطاعة ، كما أنّ القرآن الكريم يدعو إلى أمن أخروي ويحذّر من عذاب خالد . والآية تبين السبب في الإعراض عن الإيمان بالكتاب الذي انطوى على ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ، وبالنبي صلّي الله علیه و آله الذي يدعو إلى السعادة ، فمن لم يعتقد بالآخرة يمتنع عليه إزالة الموانع التي رسخت في نفسه وقساوة قلبه ، ومجرّد الإيمان اللّفظي لا يكفي إذا لم يكن عن اعتقاد يمنعه من الإقدام على العصيان الذي تترتّب عليه المحاسبة والعذاب.

قوله تعالى : «وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

وصف له عظيم الأثر في تثبيت الإيمان في القلب ، بل هو أهمّ وصف يتّصف به المؤمنون ، وقد ذكره سبحانه وتعالى في عدّة مواضع من القرآن المجيد، قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ»(1) . كما أنّ المراد بالمحافظة أداء الصلاة في أوقاتها والمداومة عليها . أو الخشوع فيها كما قال تعالى : «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ»(2)؛ وهو روح الصلاة التي هي تذلّل وتأثّر باطني وبدونه تكون مجرّد حركة لا روح فيها . وإن قلنا بأنّ المحافظة في كلّ مورد يذكر يُراد بها هذا المعنى لم يكن بعيداً .

وكيف كان ، فقد خصّ الصلاة بالذِّكر لأنّها عماد الدين وعلم الإيمان، وهي التي تدعو إلى الطاعة بل هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك ، فراجع.

***

ص: 159


1- سورة المؤمنون : الآية 9
2- سورة المؤمنون : الآية 2

بحوث المقام

بحث دلالي عمّا تدلّ عليه الآيات الشريفة :

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» على عظيم امتنانه على خليله إبراهيم علیه السّلام الذي أسلم وجهه الله سبحانه في حال كان الشرك والكفر مسيطرين على الناس ، وقد عمّت ظلمات الشرك والكفر على النفوس ، فكان سيِّد الموحِّدين في عصره، ومعهم في جهاد مرير ، وكان جهاده خالصاً لوجه الله تعالى ، كما عرفت في الآيات السابقة . وقد قابله الله سبحانه بالإحسان فمَنَّ عليه بالذرّية الطيّبة الذين اهتدوا بهدي أبيهم إبراهيم علیه السّلام، فكانوا أنبياء هداة قد تحقّقت فيهم دعوته المباركة، وجعلهم له لسان صدق في الآخرين، حتّى انتهت تلك السلسلة الربّانية بسيّدهم على الإطلاق وخاتم الأنبياء وحفيد إبراهيم العظيم صلّي الله علیه و آله ، فكانا هما الأصل في هذه الموهبة الربانيّة ، ومن هنا كان العطف على هذه الهبة أن جعل الأنبياء من ذرّيته ، فكانت نبوة الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في الآية المباركة من آثار تلك العطيّة الربانيّة والمنحة الإلهيةّ ، ومن ذلك يظهر أنّ رجوع الضمير فى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» (إلى إبراهيم) هو الأولى.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» استمرار الهداية الإلهيّة وبقاؤها مطلقاً ، وأنّ بعث الأنبياء والمرسلين إنّما هو من أجل تحمّل تلك الهداية ، كما كانت قبل إبراهيم علیه السّلام، وأمّا الأنبياء الهداة علیهم السّلام فهم سفراء الله تعالى في خلقه، يهدونهم إلى الصراط ليلا المستقيم، وسبيل الرّشاد ليفوزوا في السعادة والفلاح ، ولا ريب أنتهم المفضلّون

ص: 160

على العالمين بأنحاء من التفضيل ، كما قال تعالى : «وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ».

الثالث : يرشد قوله تعالى : «كُلّاً هَدَيْنَا» إلى أنّ حقيقة النبوّة هي الهداية الخاصّة بعد تحقّق شروطها التي ذكرها في ضمن الآيات الشريفة، وهى الإحسان والصلاح والتفضيل الذي يكون من الغيب الذي لم تصل أفهام البشر إليه إلّا ما يبيّنه عزّ وجلّ، ولعلّه إليه يشير قوله تعالى الآتي : «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ».

فيكون المستفاد من مجموع الآيات الشريفة أُموراً :

أوّلاً : بيان الجزاء الجميل على جهود خليل الرحمن علیه السّلام رائد الدعوة إلى التوحيد، وما لاقاه في سبيل نشر التوحيد والدِّين الحقّ .

وثانياً : استمرار الهداية الإلهيّة من قبل إبراهيم علیه السّلام ومن بعده في نسله وذريته إلى يوم القيامة في الأنبياء والأوصياء علیهم السّلام.

وثالثاً : إنّها لم تقتصر في طائفة وقوم ومجتمع معيّن، بل إنّ كلّ المجتمعات تستفيض من هذا الفيض الإلهي الراجع إلى سعادة البشر فيبعث منهم من يهديهم إليها .

ورابعاً : إنّها تبيِّن أهمّ الأوصاف التي لابدّ من أن تتوفّر في من أفاض عليهم الهداية الخاصّة، وأرسلهم تعالى إلى عباده لهدايتهم التي جعلهم في أعلى الدرجات من القُرب إلى الله تعالى، فكانوا أصفياء أولياء رسلاً مبشِّرين ومنذرين.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : «كُلاً هَدَيْنَا» أنّ الهداية الإلهيّة تعلّقت بكلّ واحد من المذكورين استقلالاً ، لا لبيان الاختلاف في الاستقلاليّة والتبعيّة ، فإنّه لا تبعيض فيها .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» على أنّ الهداية المشار إليها بالتعظيم والتفخيم لا تُمنح إلا إلى المحسنين ، والإحسان صفة خاصّة

ص: 161

تدلّ على الفناء فى الله الذي هو حقيقة الرسالة ، ومن آثارها البذل والعطاء لما يمنحه الله تعالى لعباده المحسنين ، ومن هنا كان تحمّل الأنبياء للمتاعب والمشاق في سبيل نشر الهداية وتثبيت دعائم الدين الحق أكثر من غيرهم .

السادس : يدلّ قوله تعالى : «كُلُّ مِنْ الصَّالِحِينَ» على أنّ الصلاح شرط مهمّ في تلقّي الرسول الرسالة من الله تعالى ، والصلاح بكلّ معنى يتصوّر هو الذي يبني الشخصيّة ويهيّئها لتلقّي هذا الفيض الربوبى الخاصّ، ويجعله شخصاً معصوماً بعيداً عن كلّ معصية ورذيلة ، ومن هنا اعتبروا العصمة في النبيّ المرسل ، ولا ريب فيه لأنّ الذي لا يكون صالحاً لا يقدر أن يصلح غيره ، فالآية الكريمة فيها الإشارة إلى هذه الركيزة المقوّمة للرسالات السماوية .

السابع : يستفاد من قوله تعالى: «وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ» أنّ النبيّ لابدّ أن يكون مفضّلاً على سائر الخلق وجهات التفضيل عديدة تتعلّق بالذات والصفات والأفعال، حتّى المشاعر والشعور الباطني ، فإنّه لا بدّ أن يكون الرسول قد أُعدّ إعداداً خاّصاً للسفارة الإلهيّة ، وبعض تلك الجهات داخلة تحت الاختيار . وأُخرى خارجة خارجة عنه، وإنّما هى بإرادة الرب المتعال ، ولعلّه من أجل ذلك أبهم التفضيل في المقام . فالأنبياء مفضّلون على غيرهم جميعاً، وأفرادهم على أفراد الناس من دون اختصاص بعالم زمانهم ، لما يحملونه من الصفات العليا والأخلاق الكريمة التي تقرّبهم إلى الله تعالى وتنزّههم عمّا يشينهم وينفّر الناس عنهم .

الثامن : يدلّ قوله تعالى: «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ» على أنّ الأنبياء هم من أفراد البشر لهم آباء وذرية وإخوان ، فلم يخرجوا عن القواعد الاجتماعية المتّبعة عند سائر أفراد الناس ، كما يدلّ على اتصال سلسلة الهداية الإلهيّة في أفراد بينهم من الصلات الاجتماعية كالأبوّة أو البنوّة أو الأخوّة .

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

ص: 162

أنّ الهداية الإلهيّة المستقرّة في الأنبياء صلّي الله علیه و آله التي جعلتهم المفضّلين على العالمين وهادين مهديِّين لها جهتان؛ فإمّا راجعة إلى شخص النبيّ، فلابدّ من الإحسان والصلاح، وبهما يتحقّق فضلهم على العالمين ، أو راجعة إلى الله تعالى، وه-و الاجتباء والهداية إلى الصراط المستقيم .

كما إنّه يدلّ على أنّ دينهم وشرائعهم هى الصراط المستقيم، وإن اختلفت من حيث الإجمال والتفصيل، تبعاً لمقتضيات الأُمم والأزمان والعصور في الكمال، فلا اختلاف في دعوتهم التي توافق ما أودعه الله تعالى في فطرة الإنسان من التوحيد الفطري والعبودية له عزّ وجلّ ، كما لا اختلاف في المقصد الذي هو جلب السعادة، ولا في الغاية لأنها الفوز بالفلاح فهي هداية مستقيمة مطردة في كل وجوهها واتّجاهاتها وأحوالها .

ويستفاد منه أيضاً عصمة الأنبياء، فهم في أمن من جميع العشرات، وما يوجب حطّ قدرهم عند الله تعالى وعند الناس في سيرهم وسلوكهم وعملهم، فإنّها هداية لا ضلال فيها ، وحقٌّ لا باطل فيه، وسعادة لا شقاء فيها ، فهي تقوم على الحق ، وتؤدّي إلى الحق ، فلا اضطراب ولا حيرة ولا ظلم ولا عصيان فيها.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : «ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» عَلَى أنّ هدى الله هو الهدى حقّاً، وغيره باطل وضلال، فمن اهتدى بذلك الهدى كانت دعوته إلى التوحيد ، وجهاده لإقامة الدين الحقّ ، وكان شعاره العبودية ، ولباسه التقوى ، وسيره وسلوكه الصراط المستقيم، فتكون هذه الآية مؤكّدة للآية السابقة في أنّ الأنبياء هم الهُداة الحقيقيون، والدُّعاة إلى الله تعالى ، فلا اهتداء بغيره ، وقد فسّر القرآن الكريم هدى الله بوجوه متعدّدة، واعتبر الطريق الذي يوصل إليه هو طريق الأنبياء فقط .

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

ص: 163

على أنّ الهدى الذي منّ الله سبحانه به على من يشاء من عباده ليس لكرامة أحد عليه عزّ وجلّ، بل هو راجعٌ إلى استعداد الفرد الذي لا يناله إلّا بالعبودية الخالصة ، فلو أشرك سقط عن الأفضلية، وحبط عمله الذي يتقرب به إليه تعالى .

وإنّما خصّ الشرك بالذكر ، لأنّ الآيات بمجموعها نزلت في بيان التوحيد وتأسيس أركانه ، وذكر دعاته ، وإلّا فيشمل كلّ معصية تحطّهم عن منزلة العبودية كما تدلّ عليه الأدلّة الكثيرة.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : «أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» على أنّ أولئك الذين فضّلهم الله سبحانه على العالمين، قد اكتملوا بما منحهم الله تعالى الله تعالى من الكرامات العديدة والهداية الربانيّة، ثمّ أُمرُوا بإبلاغها إلى الناس، همّ الذين استعدّوا بما عندهم من الإمكانيّات القويمة، لتلقّي الهداية الخاصّة وهم الجمع الربّاني الذين تمَّ فيهم الاستعداد فيهم لنيل درجات القُرب والكرامات الإلهيّة، وقد ذكرت الآية ثلاثة منها، تعتبر من آثار الهداية التي يتمّ بها العلم بالله تعالى وآياته، ويتحقّق إرشاد العباد إلى صلاحهم، وما يوجب سعادتهم، فتهديهم إلى الصراط المستقيم الذي هم عليه، فصاروا علماء بالشريعة، وحكماء بین الناس، وأنبياء ينبئون بالغيب حسب ما يوحى إليهم من الله تعالى .

كما أنّه يستفاد من ذكر الكتاب في عداد الحكم والنبوّة، أنّ المراد به ما يتضمّن شرائع الدين وعلوم الشريعة، كما قال تعالى: «وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» (1)، سواء ضمن الصحف التي أنزلها مع الأنبياء، كقوله تعالى : «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» (2)، أو له اسم معيّن ، كالإنجيل والتوراة والقرآن الكريم . وهذا أحد أقسام الكتاب الذي له إطلاقات عديدة في القرآن المجيد .

ص: 164


1- سورة البقرة : الآية 213
2- سورة الأعلى : الآية 19

الأوّل : ما ذكرناه .

الثاني : ما تحفظ فيه أعمال العباد من الحسنات والسيّئات، وهو على أصناف .

منها : ما يختصّ بكلّ فرد من أفراد الإنسان ، كما قال تعالى : «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً»(1).

ومنها : ما يكون لأعمال الأُمّة ، كما في قوله تعالى: «وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا»(2)، إن لم يكن المراد منه كتاب كلّ فرد من أفراد تلك الأُمّة ، وإلّا فيكون الكتاب المتقدّم.

ومنها ما يشترك فيه جميع الناس ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(3)، إذا كان الخطاب لجميع الناس.

ومنها : ما يرجع إلى طائفة الأبرار والفجّار ، كما في قوله تعالى : «كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ .... كَلاَ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (4) .

الثالث : كتاب نظام التكوين الذي فيه تفصيل نظام الوجود ، وذكر الحوادث الكائنة ، وهو على أنواع أيضاً ، فمنها الكتاب الثابت المصون عن التغير ، وفيه تفاصيل كل شيء، وقد أشار إليه سبحانه بقوله تعالى : «وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ»(5) .

ص: 165


1- سورة الإسراء : الآية 13
2- سورة الجاثية : الآية 28
3- سورة الجاثية : الآية 29
4- سورة المطففين : الآية 7 - 28
5- سورة ق : الآية 4

وقوله تعالى: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (1).

وغير ذلك من الآيات الكثيرة .

ومنها : كتاب يختصّ بكلّ موجود يحفظ فيه ما يرتبط به ، وإليه يشير قوله تعالى : «ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» (2)، وكلا الكتابين:

تارةً: يتطرّق إليه التغيِّير والزيادة والنقص ، وبعبارة أُخرى يداخلهما المحو ، والإثبات .

وأُخرى لا يتطرّق إليهما ذلك ، ويدلّ عليهما قوله تعالى : «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُنْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(3)، وقد سُمّي الأّول كتاب المحو والإثبات . والثاني أمّ الكتاب. وينشأ من بعض هذه الأنواع أصنافٌ أُخرى من الكتاب، ككتاب الآجال وغيره، والتفصيل موكول إلى محلّه إن شاء الله تعالى .

كما أنّ الحكم الوارد في الآية الشريفة يُراد به القضاء والفصل بين الناس بقرينة قرينيّة ، وله إطلاقات أيضاً في الكتاب المجيد ، فإنّ منها القضاء الوجودي ، أي الإيجاد الذي له مراتب، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ»(4)، وهو يختصّ بما إذا نسب إليه سبحانه وتعالى .

ومنها : ما يرجع إلى تدبيره عزّ شأنه في خلقه من أنحاء التدبيرات الربوبيّة ، وإليه يشير قوله تعالى: «وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (5)، ومن مراتبه

ص: 166


1- سورة يونس : الآية 61
2- سورة الرعد : الآية 38
3- سورة الرعد : الآية 39
4- سورة الرعد : الآية 41
5- سورة البقرة : الآية 117

قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ» (1).

ومنها : القضاء الذي هو منصب إلهى أكرم به سبحانه أنبياءه العظام علیهم السّلام، كما قال تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ» ، وربما يُراد به التشريع، كما يشعر قوله تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» (2)، ولكن يمكن إرجاع الأوّل إلى الثاني بوجه صحيح .

ومنها : ما ينسب إلى سائر الناس فإما هو بمعنى القضاء أيضاً ، كما في قوله تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ»(3)، أو بمعنى التشريع، فلا ينسب إليهم إلّا على نحو الذمّ ، كما قال تعالى: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» (4).

وأمّا قوله تعالى : «وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ» (5)؛ فإنّه يراد به إنجاز الوعد وإنفاذ الحكم .

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بهَا بكَافِرِينَ» على أنّ الهداية الإلهيّة لابدّ من تطبيقها فى الأرض ، وأنّ من يقوم بهذه المهمّة هم أقوام اتّصفوا بالإيمان والثبات عليه ، فكانوا على أعلى درجة من الاستقامة والطاعة و تحمّل المسؤولية ، فلا تشمل كلّ قوم، بل الكافرون قد خرجوا عن هذه الأهلية بسبب كفرهم ، كما عرفت في التفسير .

الرابع عشر : يستفاد من قوله تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدهِ» عصمة الأنبياء فإنّ الإقتداء وإن كان بهداهم لا بهم، إلّا إنّه لا ينفكّ

ص: 167


1- سورة المؤمن : الآية 48
2- سورة الشعراء : الآية 83
3- سورة المائدة : الآية 47
4- سورة الأنعام : الآية 36
5- سورة هود : الآية 45

اهتداؤهم بهدى الله سبحانه ، وإلّا استلزم الخلف، وقد عرفت أنّ هدى الله هو الحقّ الذي لا ضلال فيه ، ولا باطل يتطرّق إليه ، ولا تخلّف عن أثره، ومن جملة آثاره الأنبياء الذين همّ مظاهر هدى الله عزّ وجلّ، فلابدّ أن يكونوا معصومين من كلّ ما ينافي ذلك الهدى الإلهي وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

الخامس عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» على وجوب حفظ الحرمات مع الله تعالى، وحرمة التجرؤ عليه سبحانه ، ولا ريب أنّ أظهر مصاديقها ما ورد في الآية الكريمة من نفيهم إنزال الوحي والكتاب على البشر، مع إنّهما من خصائص ربوبيّته العظمى، ومظاهر لطفه بعباده، بأنّ يهديهم إلى الصراط المستقيم.

وإطلاق الآية الكريمة يشمل جميع السُّبل من القول والفعل والكتابة ،وغيرها، فلابدّ للعبد من حفظ الآداب مع معبوده بجد حفظ الآداب مع معبوده بجميع أنحائها، فإنّ من أعظم الأثر المترتّب على عدم التقدير، إعراضه سبحانه عنهم، وجعلهم من الخائضين الذين قد عرفت فيما سبق من الآيات ما أعدّه الله تعالى لهم من سوء العاقبة ووخيم العذاب لهم ، كما قال تعالى : «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ». :

وترشد الآية الكريمة إلى أنّ الأقوال لها الأثر الكبير على الإنسان سلباً أو إيجاباً، فلابدّ من التحفظ مما يصدر عنه .

السادس عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ...» على أنّ القرآن الكريم الذي أنزله على أشرف خلقه، له من السموّ والعظمة ورفيع المنزلة أن يجعله سبحانه مباركاً في جميع أحواله ومظاهره ومراتبه ، فهو مبارك في كلماته ومعانيه وتأويله ونزوله وإنزاله فى الدُّنيا والآخرة، ومن هنا كان حَمَلَة القرآن مباركين ببركة تعلّمه وحفظه وقراءته والعمل به، فإنّ إطلاق الآية يشمل جميع ما يمكن تصويره، ولعلّ ما ورد في الحديث المعروف : «يُقال لقارئ القرآن

ص: 168

يوم القيامة اقرأ وارق» مأخوذ منها ، كما أنّ من آثار بركته أن ينال القرب به لدى الله عزّ وجلّ، ويفوز بالثواب الجزيل، وينال الكرامة والسعادة ، فما أعظم بركته !! .

السابع عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا» على عموم رسالة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله وشموليّة ما ورد في القرآن، ليجتمع تحت لوائه جميع الملل والأقوام ، وهذا أيضاً من آثار بركته .

***

بحث روائي حول الروايات الواردة في ذيل هذه الآيات الشريفة

في «الكافي» بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر علیه السّلام، في حديث ذكره في باب اتّصال الوصيّة من لدن آدم علیه السّلام ، يقول فيه : «وقال الله عزّ وجلّ : وَوَصَّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» ، وقوله : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا» لنجعلها في أهل بيته «وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ» لنجعلها في أهل بيته ، فأمر العقب من ذرّية الأنبياء من كان قبل إبراهيم لإبراهيم علیه السّلام وكان بين هود وإبراهيم من الأنبياء عشرة أنبياء».

أقول : رواه الصدوق بإسناده في كتاب «كمال الدِّين وتمام النعمة» ، والعياشي في «تفسيره» ، وهو يدلّ على عدم انقطاع سلسلة الهداية واتّصالها .

وفي «البحار» عن «الاحتجاج»، و«التوحيد»، و«العيون» في خبر طويل رواه الحسن بن محمّد النوفلي عن الرضا علیه السّلام فيما احتجّ به علی جاثليق النصاری - إلى أنّ قال علیه السّلام : «إنّ اليَسَع قد صنع مثل ما صنع عيسى علیه السّلام ، مشى على الماء ، وأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم يتّخذه أُمّته ربّاً .... الخبر».

وفي «قصص الأنبياء» للثعلبي : إنّ إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يسمّى اليسع بن خطوب، وكان به ضرُّ فاوته وأخفت أمره، فدعا له فعُوفي من الضر الذي كان به ، واتّبع اليَسَع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه، فكان

ص: 169

يذهب حيثما يذهب ، ثمّ ذكر قصة رفع إلياس ، وإنّ اليَسَع ناداه عند ذلك يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من الجوّ الأعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل .

وقال : ونبّأ الله تعالى بفضله اليَسَع علیه السّلام وبعثه نبيّاً ورسولاً إلى بني إسرائيل، وأوحى الله تعالى إليه وأيّده بمثل ما أيّد به عبده إلياس، فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظّمونه وينتهون إلى رأيه وأمره ، وحُكْم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليَسَع .

الروايات الدالّة على أنّ إطلاق الولد على ولد البنت

أقول : الخبر يدلّ على أنّ اليسع علیه السّلام من أنبياء بني إسرائيل وخليفة إلياس(إيليا) ، والاسم العبراني له يوشع ، وتبديل الشين المعجمة إلى المهملة معهود في النقل العبري إلى العربي .

وفي «تفسير العيّاشي» عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «والله قد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم علیه السّلام من قبل النساء ، ثمّ تلا «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ...» إلى آخر الآيتين ، وذكر عيسى علیه السّلام».

أقول : وهو يدلّ على أنّ لفظ الذريّة يشمل أولاد البنات ، ومنه استدلّ الأئمّة الهَداة علیهم السّلام على أنّ الحسن والحسين علیهما السّلام من ذريّة رسول الله صلّي الله علیه و آله وأبنائه، وأنكروا على من نفى ذلك ، وفيه روايات متضافرة إن لم تكن متواترة.

ففي «تفسير العيّاشي» عن أبي حرب بن أبي الأسود ، قال : «أرسل الحجّاج إلى يحيى بن يعمر ، قال : بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرّية النبيّ تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت كتاب الله من أّوله إلى آخره فلم أجده ، قال : أليس تقرأ سورة الأنعام؟ «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ» حتّى بلغ يحيى وعيسى ، قال : أليس عيسى من ذريّة إبراهيم علیه السّلام؟ قال : بلى قرأت».

أقول : رواه في «الدّر المنثور» عن ابن أبي حاتم، عن أبي الحرب بن أبي

ص: 170

الأسود أيضاً . وفي «الدّر المنثور» أخرج أبو الشيخ ، والحاكم، والبيهقي عن عبد الملك بن عمير، قال : دخل يحيى بن يعمر على الحجّاج فذكر الحسين ، فقال الحجاج : لم يكن من ذرية النبيّ صلّي الله علیه و آله ، فقال يحيى كذبت ، فقال لتأتيني على ما قلت الله ، ببيّنة؛ فتلا : «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ» - إلى قوله - : «وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ» فأخبر تعالى : أنّ عيسى من ذرّية إبراهيم بأُمّه . قال : صدقت» .

وفي «التفسير الكبير» إنّ أبا جعفر علیه السّلام استدلّ بها عند الحجّاج بن يوسف وبآية المباهلة، حيث دعا صلّي الله علیه و آله الحسن والحسين علیهماالسّلام بعد ما نزل «تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ» . وادّعى بعضهم : أنّ هذا من خصائصه صلّي الله علیه و آله.

وفى «عيون أخبار الرضا» باب من أخبار موسى بن جعفر علیهماالسّلام مع هارون الرشيد، ومع موسى بن المهدي، في حديث طويل بينه وبين هارون، قال :

«كيف قلتم إنّا ذرّية النبيّ صلّي الله علیه و آله، والنبيّ لم يعقّب ، وإنّما العقب للذكر لا للأُنثى، وأنتم ولد البنت ولا يكون لها عقب؟

فقلت : أسألك بحقّ القرابة والقبر ومَن فيه إلّا ما أعفيتني من هذه المسألة.

فقال : لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أُنهي إليَّ، ولستُ أعفيك في كلّ ما أسألك عنه حتّى تأتيني بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدّعون معشر ولد على أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو إلّا تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ : «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»، واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم .

فقلت : تأذن لي في الجواب؟ قال : هات .

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

ص: 171

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى» مَنْ أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟

قال : ليس لعيسى أب ، فقلت : إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء علیهم السّلام من طريق مريم علیهاالسّلام، وكذلك أُلحقنا بذراري النبيّ صلّي الله علیه و آله من قبل أمنا فاطمة علیهاالسّلام» .

أقول : إنّ انتساب أولاد البنات إلى آبائهن ممّا أقرَّ به الإسلام، وحكم فيه تشريعات معيّنة، وهو من مصاديق التشريع الإسلامى الأكبر، حيث اعتبر المرأة من الأقارب، ورتّب عليه أحكاماً خاصّة ، فكان من ثمرة ذلك دخول أولاد البنات في أولاد آبائهن، وانطباق عنوان الذرّية عليهم . فإنّ من تلك الأحكام المذكورة ما ورد في آية محرّمات النكاح: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ... وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ» (1)، فقد سُمّى بنت البنت بنتاً، وأولاد البنات أولاداً من دون نقاش .

ومنها : ما ورد في آيات الإرث، قال تعالى : «يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ...»(2).

وقال تعالى «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ» (3).

كما أنّ من أهمّ الأدلة على دخول أولاد البنات في ذريّة آبائهن، هو آية المقام التي أطلق فيها الذرّية على عيسى بن مريم علیهمالسّلام، وهو لا ينتسب إلى آبائه الا الله إبراهيم ونوح علیهمالسّلام إلّا من جهة الأُمّ. وقد تمسّك بها أئمّة أهل البيت علیهم السّلام في انتسابهم إلى جدّهم رسول الله صلّي الله علیه و آله كما عرفت آنفاً .

وذكر الآلوسي في «تفسيره» في قوله تعالى : «وَعِيسَى» : إن في ذكره علی السّلام

ص: 172


1- سورة النساء : الآية 24
2- سورة النساء : الآية 11
3- سورة النساء : الآية 7

دليلاً على أنّ الذريّة تتناول أولاد البنات؛ لأنّ انتسابه ليس إلّا من جهة أُمّه.

وأورد عليه: إنّه ليس له أبٌ يصرف إضافته إلى الأُمّ نفسه، فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرّية لجدّه من الأُمّ، وتعقب بأنّ مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيّز الذرّية.

وفيه : منعٌ ظاهر ، والمسألة خلافية ، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرّية يستدلّون بهذه الآية ، وبها احتجّ موسى الكاظم علیه السّلام على ما رواه البعض عند الرشيد .

وفي «التفسير الكبير»: إنّ أبا جعفر علیه السّلام استدلّ بها عند الحجّاج بن يوسف، وبآية المباهلة حيث دعا صلّي الله علیه وآله الحسن والحسين علیهماالسّلام بعدما نزل «تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ» ، وادّعى بعضهم : أنّ هذا من خصائصه صلّي الله علیه وآله ، وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة ، والذي أميل إليه القول بالدخول .

وقال في «المنار» : في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعاً «إنّ ابني هذا سيِّد» يعني الحسن ، ولفظ (ابن) لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعاً: «وكلّ ولد آدم عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإنّي أبوهم و عصبتهم» ، وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة أولاد رسول الله صلّي الله علیه وآله وأبناؤه وعترته وأهل بيته .

والذي ينبغي أن يُقال : إنّ الخلاف في هذا الموضوع بعد وضوحه في شرع الإسلام، ودلالة الآيات والروايات عليه يرجع إلى أُمور :

الأوّل : كون عدم الانتماء إلى الآباء عادة جاهليّة، إذ كانت العرب تنظر إلى المرأة بنظر الاستخفاف والدونيّة، فلا يدخلونها في القرابة ، كما حكى سبحانه ذلك في القرآن الكريم، وتظهر ممّا احتجّ بعضهم بالبيت المعروف عندهم ، وإنّما أُمّهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء ، وبقيت هذه العادة الجاهليّة بعد الإسلام

ص: 173

رغم التشريعات التي أرجعت للمرأة شخصيّتها وحقوقها ، وقد عرفت آنفاً أنّها مخالفة لصريح قوانين الإسلام.

الثاني : إنّ ذلك من سياسات السلطة الزمنية، لاسيّما الحكم الأموى الذين عارضوا الرسول صلّي الله علیه وآله ، وبالغوا في مسخ الشريعة الإسلاميّة ، وعداؤهم مع قوم الرسول صلّي الله علیه وآله قديم ، وإيغالهم في سفك دماء أهل بيته مشهور معروف ، وقد وضعوا في سبيل نشر أفكارهم الفاسدة أحاديث ومقولات لم ينزل الله تعالى بها من سلطان؛ ومنها قولهم :

بَنُونا بَنُو أبنائنا وبناتنا *** بَنُوهنّ أبناء الرّجالِ الأباعدِ

ولا ريب فى مخالفته لقواعد الإسلام وتشريعاته ، كما عرفت .

الثالث : إنّه تابع للصدق اللغوي فقالوا إنّه لا يصدق الابن على ولد البنت ، واحتجّوا بالبيتين السابقين، وبحديث عمر المنقول في كتاب «معرفة الصحابة» لأبي نعيم مرفوعاً، وتقدّم نقله آنفاً.

ويرد عليه : إنّ الحديث لم تثبت نسبته إلى النبيّ الأعظم صلّي الله علیه وآله وهو مخالف للكتاب ومعارضٌ بروايات أُخرى تدلّ على خلاف ذلك . مضافاً إلى أنّ إدراج هذا الموضوع في المسائل اللّغوية باطل قطعاً؛ إمّا من أجل صدق إطلاق الذرّية والابن والولد على أولاد البنات كتاباً وسنّة، وعرفاً كما تقدّم.

أو لانتفاء الارتباط بين اللغة وهذا الموضوع، فإنّه يرجع إلى ثبوت الحق الاجتماعي للمرأة الذي يكون سبباً لثبوت القرابة لها ، ولا ريب في اختلاف الأُمم والأقوام في تحديدها وتشخيصها، فإنّ كثيراً من الأُمم تدخل المرأة في القرابة ويعتبرون أولاد البنت أبناءً لأبيها ، وهذا هو الذي خالفه عرب الجاهليّة، فلم يثبتوا للمرأة إلّا القرابة الطبيعية التي لا يترتّب عليها سوى الازدواج والإنفاق وغيرهما، دون القرابة القانونية التي تسمح لها بالوراثة ونحوهما ، فلم يثبتوا لها هذه القرابة ،

ص: 174

وإن كان السبب في ذلك متعدِّداً ، لكن بعد بزوغ نور الإسلام وتشريع الأحكام وإثبات حقوق المرأة الاجتماعية التي ترتّبت عليها أُمور عديدة، منها ثبوت القرابة القانونية ، ومنها دخول أولاد البنات ضمن أولاد آبائهن ، كما عرفت ، فلم يبق لما ذكروه أي أساس، بل هو مخالف للإسلام صريحاً، ويدلّ عليه ما رواه الكليني في «الكافي» بإسناده عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي الجارود ، قال أبو جعفر علیه السّلام: «يا أبا جارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين؟

قلت : ينكرون علينا أنّهما ابنا رسول الله صلّي الله علیه وآله.

قال : فأي شيء احتججتم عليهم ؟

قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزّ وجلّ في عيسى بن مريم : «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى»، فجعل عيسى بن مريم من ذرّية نوح .

قال : فأي شيء قالوا لكم؟

قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصُّلب .

قال : فأيّ شيء احتججتم عليهم ؟

قلت : احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله صلّي الله علیه وآله : «قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ».

ثم قال : أيّ شيء قالوا ؟

قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل ، و آخر يقول أبناؤنا .

قال : فقال أبو جعفر علیه السّلام: «لأعطينّك من كتاب الله عزّ وجلّ أنتهما من صلب رسول الله صلى الله عليه وآله لا يردهّ إلّا كافر !

قلت : وأين ذلك جعلت فداك ؟

قال : من حيث قال الله : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ» إلى

ص: 175

قوله تبارك وتعالى : «وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ»، يا أبا جارود هل كان يحلّ لرسول الله صلّي الله علیه وآله له نكاح حليلتهما ؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا فإنّهما أبناء الصلبه».

وهو يدلّ على ثبوت القرابة القانونيّة الشرعيّة لأولاد البنات، ويترتّب عليهم جميع ما يترتّب على قرابة الرجل، إلّا ما خرج بالدليل، فيجري عمود النسب فيهما على نمط واحد إلّا ما جاء من جهة الادّعاء والسفاح فإنّ الإسلام ألغى الاتّصال النسبي فيهما ، فقد روى الفريقان «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكن العادات الجاهليّة ومساهلة الناس في تطبيق الشريعة أنستهم هذه الحقيقة وبقيت في تفاوت مستمر تتحكّم فيها الأهواء والصراعات السياسية ، كما عرفت آنفاً .

وفي «الكافي» بإسناد عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر علیه السّلام في قوله تعالى : «ونُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ... لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» قال علیه السّلام: «فإنّه وكّل بالفضل من أهل بيته والأخوان والذرّية ، وهو قول الله تعالى : فإنّ يكفر بها - أُمّتك - فقد وكّلنا أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلناك به، فلا يكفرون به أبداً، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أُمّتك وولاة أمري من بعدك وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رياء».

أقول : ورواه العيّاشى فى «تفسيره» أيضاً مرسلاً ، وهو يدلّ على تعلّق الإرادة الإلهيّة ببقاء الهداية إلى يوم القيامة ، وما ورد في الحديث إنّما هو من باب الجري والتطبيق .

وفي تفسير النعماني» بإسناده عن سليمان بن هارون العِجْلي قال: سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول : «إنّ صاحب هذا الأمر محفوظة له، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال الله عزّ وجلّ : «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ

ص: 176

وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ»، وهم الذين قال الله فيهم : وَيَأْتِي اللَّ-هُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» ».

أقول : إنّه من باب التطبيق والجري ، كما عرفت آنفاً .

وفي «المحاسن» بإسناده عن أبى عيينة، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال : «ولقد دخلتُ على أبى العبّاس وقد أخذ القوم المجلس فمدَّ يده إلىّ والسفرة بين يديه موضوعه، فأخذ بيدي فذهبتُ لأخطو إليه فوقعتْ رجلي على طرف السفرة فدخلني من ذلك ما شاء الله أن يدخلني، إنّ الله تعالى يقول: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) قوماً والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويذكرون الله كثيراً».

أقول : إنّه من تطبيق الآية الكريمة بأدق صورة وألطفها ، فإنّ استحياءه علیه السّلام من الله تعالى كان بسبب وقوع قدمه الشريفة على السفرة من غير اختياره ، وقد اعتبره كفراناً لنعمة الله تعالى ، فلابدّ أن يكون القوم الموكّلون في الآية الشريفة هم الذين لا يصدر عنهم هذا النوع من الكفر؛ لأنّهم يذكرون الله كثيراً ، وهو استفادة لطيفة .

وفي «مصباح الشريعة» قال الصادق علیه السّلام: »لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الإقتداء، لأنّه المنهج الأوضح والمقصد الأصحّ، قال الله تعالى لأعزّ خلقه محمّد صلّي الله علیه وآله: «أَوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِه» ، فلو كان لدِّين الله مسلك أقوم من الإقتداء لندب أولياءه وأنبياءه إليه» .

أقول : الحديث بيّن أهمّية الاقتداء بهدي الأنبياء، فإنّه السبيل الوحيد في تثبيت دعائم الدِّين، وتكوين الشخصية الدينيّة للإنسان، وتحديد مسيرته في حياة لا تخلو من التناقضات والضلال، وأنّ الأديان الإلهيّة قد اتّخذت الإقتداء بالمسلك الأقوم للوصول إلى السعادة ، وبسط دين التوحيد .

ص: 177

وفى «تفسير القمّى»: «وأحسن الهدي هدى الأنبياء».

وفى «النهج» قال علیه السّلام: «اقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدى».

أقول : لأنّ هدى الأنبياء - ولاسيّما هدى نبينا الأعظم صلّي الله علیه وآله - قد اشتمل على ما يرتبط بالسعادة التي هي غاية سعي الإنسان في حياته مطلقاً، فينحصر جميع المسلك في هدى الأنبياء صلّي الله علیه وآله الذي هو هدى الله تعالى .

وفي «الكافي» بإسناده عن الفُضيل بن يسار، قال : «سمعتُ أبا عبد الله علیه السّلام يقول : إن الله لا يوصف ، وكيف يوصف ، وقد قال في كتابه «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك».

أقول : رواه العيّاشي في «تفسيره» ، وروى القمّي في «تفسيره» مثله عن زرارة عن أبي جعفر علیه السّلام كما ورد بمضمونه روايات أُخرى.

وكيف كان، فإنّها تدلّ على عدم إمكانيّة توصيف الله تعالى من قبل المخلوقين ، فإنّه لا يوصف بقدر إلّا كان سبحانه أعظم من ذلك، لأنّه تعالى غير محدود . كما أنّها تدلّ على أنّ التوصيف قدر ، وهو منفى عنه ، وهذا وجه آخر من الوجوه في تفسير الآية الكريمة على ما عرفت ، ويرشد إليه ما رواه القمّي في قوله: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» قال : لم تبلغوا من عظمة الله أن تصفوه بصفة ، إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، وهمّ من قريش واليهود، فردَّ الله عليهم.

وفي «الدّر المنثور» أخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى : «وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» قال : همّ الكفّار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أنّ الله على كلّ شيء قدير، فقد قدَرَ الله حقّ قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حقّ قدره، «إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرِ مِنْ شَيْءٍ»؛ يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود : يا محمّد أُنزل عليك كتاباً؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله ،

ص: 178

(قُل - يا محمّد - مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ... ولا آبائهم قل الله أنزله) .

أقول : تقدّم في التفسير ما يتعلّق بمضمون الخبر المزبور ، وأنّ الذين يحكمون ما أنزل الله على بشر من شيء، هم الذين لم يقدّروا الله حقّ قدره، وإن كان الكفّار جميعهم لم يقدّروه حقّ قدره بسبب كفرهم.

وفيه: أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السُّدي في قوله تعالى : «إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، قال : قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمّد من شيء.

أقول : الاختلاف بين الروايتين يوجب وهن الأخيرة من وجوه.

وفيه أيضاً: أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال : «جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبيّ صلى الله عليه وآله ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة : إنّ الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبرا سميناً ، فغضب، وقال : والله ما أنزل على بشر من شيء، فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى ؟ قال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».

أقول : في الخبر ما لا يصحّ قبوله ، كما لا يخفى.

وفيه: أخرج ابن مردويه عن بريدة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «أُمّ القرى مكّة».

أقول : تؤيّده الأدلّة الكثيرة .

وفي «تفسير العيّاشي» على بن أسباط، قال : قلت لأبي جعفر علیه السّلام : لِمَ سمّى النبيّ الأُمّي ؟ قال علیه السّلام : نُسب إلى مكة ، وذلك من قوله الله : «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها وأم القرى مكة ، ومن حولها الطائف».

ص: 179

أقول : هذا وجه من الوجوه التي ذُكرت في سبب تسميته صلّي الله علیه و آله بالأُمّي، و لا ينافى أن تكون رسالته عامة لجميع الناس ، كما هو معلوم .

وفى «تفسير العيّاشي» عن عبد الله بن سنان قال: «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله «قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ .... تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً» قال : يكتمون ما شاءوا ويبدون ما شاءوا».

وفي رواية أُخرى عنه علیه السّلام ، قال : «كانوا يكتبونه في القراطيس، : ثمّ يبدون ما شاء وا ويخفون ما شاءوا ، قال : كلّ كتاب أنزل فهو عند أهل العلم».

أقول : يستفاد من هذه الأخبار أنّ جَعْل الكتاب قراطيس، إنّما هو من أجل كتمان الحقّ، وهو محفوظ عند أهل العلم من أئمّة أهل البيت علیهم السّلام ، كما تدل عليه الأدلة المتعدّدة .

***

بحث كلامي حول عصمة الأنبياء :

لا ريب أنّ العصمة في الأنبياء من الأُمور المتّفق عليها عند جميع من يعتقد بالنبوّة والرسالة ، وإن اختلفوا في متعلّقها سعةً وضيقاً، ومفهومها واضح عند المليِّين وغيرهم، وقد عرّفوها بتعاريف متعدّدة، وهي حالة في الإنسان يمتنع بموجبها عن ارتكاب المعاصي والآثام، وما يوجب بُعده عن الله تعالى، وهي تحدث من الموهبة والاكتساب معاً، وبدون أحدهما لا يمكن تحصيلها . ولها آثار واقعيّة في النفس وغيرها، وقد بحث عنها العلماء في علوم مختلفة ، والمهمّ في المقام هو دلالة الآيات الكريمة المتقدّمة عليها بوجوه عديدة :

الأول : إنّ الأنبياء هم المحسنون والصالحون ، والمفضّلون على العالمين علي الامل لقوله تعالى: «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ..... كُلِّ مِنْ الصَّالِحِينَ ...... وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ»، ولا ريب أنّها نعوت تدلّ على كمال المنعوت بها التي تُبعدهم عن

ص: 180

الفساد والباطل ، فيكون تفضيلهم على العالمين لكونهم صلحاء محسنين ، ولا يعقل أن يكون مرتكب الخطيئة والذنب من المحسنين الصالحين أو ممّن يفضّله الله تعالى على العالمين ، فتدل على عصمتهم علیهم السّلام .

الثاني : إنّ قوله تعالى : «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم» يدلّ على اجتبائهم من بين مخلوقات الله عزّ وجلّ، لأعظم منحة ربّانية وعطّيّة إلهية وهي الهداية الخاصّة إلى الصراط المستقيم ، وقد بلغوا غاية الكمال، واصبحوا بذلك الصراط الأقوم، ولا ريب أنّه لابدّ من التنزّه عن السيّئات والمعاصي صغيرها وكبيرها ، وإلّا استلزم الخلف، فاحتاجوا إلى من يقومهم ويهديهم إلى ما أُمروا به بهداية الناس إليه .

الثالث : يدلّ قوله تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» على أنّ الهداية الخاصّة التي منحهم الله تعالى بعد اجتبائهم، إنّما أدّى إلى إيتائهم الكتاب والحكم والنبوّة ، وهي لا تجتمع مع شيء من الذنوب البتة ، فتحتاج إلى العصمة من المعاصي، وإلّا كان إغراءً بالمعصية، وهو يستلزم الخلف، مع إنّ إيتاءهم تلك المحنة الإلهيّة، يوجب اتّصاف حامليها إلى أقصى درجة من التنبّه والتذكّر ودوام المراقبة ، ولعمري أنّ ذلك حقيقة العصمة المبحوث عنها في علم الكلام، والمطلوب إثباتها للأنبياء والمرسلين .

الرابع : قوله تعالى : «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» فإنّه يدلّ على أنّ مطلق المعاصي - كما عرفت في التفسير – توجب الحبط عن الأنبياء علیهم السّلام ما كانوا يعملون ، فلا موجب للاجتباء والاصطفاء ومنحهم تلك العطية الربّانية وإيتائهم الكتاب والحكم والنبوّة ، فيدور الأمر فيهم بين المعصية وإعراض الله تعالى، وسلب التوفيق والهداية الخاصّة، وبين ترك المعاصي والعصمة والاجتباء والتفضيل على العالمين ، والثاني هو المتحقّق فيدلّ على العصمة وهو المطلوب .

ص: 181

الخامس : قوله تعالى : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِه» فإنّه يدلّ على أنّ هداهم لا بدّ أن يكون كاملاً من جميع الجهات، بعيداً عن كلّ نقص وفساد؛ لأنّه هدى الله تعالى، ولا ريب أنّ من يكون هُداه هُدى الله سبحانه لا يتخلّف عمّا أراده عزّ وجلّ ، فلا تصدر منه المعاصي والآثام، وإلّا كان خُلفاً، وعليه يكون الاقتداء بهداهم إقتداء بهم؛ لأنّهم المظهر لهدى الله تعالى، فلابدّ أن يكونوا معصومين ، وإلّا وجب الإقتداء بهم حتّى في الذنب الذي يصدر منهم ، وهو خلف .

إن قلت : إنّ الأمر بالاقتداء إنّما تعلّق بهداهم دونهم ، فإذا صدر منهم ذنب لا يضرّ ذلك بالهدى الذي هم عليه ، كما هو معلوم .

قلت : إن هداهم كان كاملاً لجميع الجهات، كما عرفت آنفاً ، وهم المبلّغون لهدى الله تعالى ورسله إلى عباده عزّ وجلّ، فلابدّ أن يكون الهادي مهتدياً بهدى الله تعالى، حتّى يكون رسولاً منه إلى خلقه، مبلِّغاً لرسالات ربّه، وإلّا كان على خلاف هداية الله تعالى، فيوجب سقوط الاقتداء بهداه .

إن قلت : لِمَ كان الأمر باقتداء هدى الله تعالى دون الاقتداء بهم الذي هو على المطلوب أدلّ ؟

قلت : إنّ الأمر بالاقتداء لما كان متوجِّهاً إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله ، وهو أشرف الأنبياء على الإطلاق، وهو المقتدى للخلائق أجمعين ، فليس من الحكمة والأدب أن يؤمر بإقتداء الأنبياء علیهم السّلام، مع أنّه عرفت أنّ الإقتداء بهداهم يكون اقتداءً بهم بالملازمة.

السادس : إنّ المستفاد من مجموع الآيات الشريفة المتقدِّمة أنّ الله تعالى تولّى تأديب أنبيائه وتهذيبهم وتعليمهم بأعظم هداية، حتّى صاروا قمماً شامخة في العلم والعقيدة والعمل والأخلاق، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء، وبلغوا أعلى درجات الكمال الإنساني ، فلو صدر منهم والحال هذه ما يخالف إرادته، لاستلزم

ص: 182

الخلف، وتفوت الحكمة من إرسالهم ليكونوا قادة الخلق إلى الحقّ ، ولأصبحوا قدوة سيّئة، فلم يكونوا مُثلاً عليا ومنارات هدى.

ثمّ إن قوله تعالى : «فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِه» يدلّ على عظيم أثر الاقتداء في تعيّين حقيقة الدِّين ، وتشخيص إنسانيّة الإنسان التي تتم بالانقياد التام والتسليم المطلق لهدى الله تعالى وتطبيقه في حياته، لتحقيق الكمال والوصول إلى السعادة الحقيقيّة ، وبدون الإقتداء لا يمكن تحصيل ذلك أبداً، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير قوله علیه السّلام في الحديث السابق : «فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب إليه أولياءه وأنبياءه» ، ويكفي في عظيم أمره أن الله تعالى أمر حبيبه صلّي الله علیه و آله وخاتم رسله بالاقتداء بهداه سبحانه .

***

بحث عرفاني حول اهتمام الباري عزّ وجلّ بعباده المخلَصين :

الآيات الشريفة تبيِّن اهتمام الباري بخلقه، واعتناءه عزّ وجلّ بالمخلَصين عباده، الذين جاهدوا في طاعة الله تعالى والتقرّب إليه، فامتثلوا تكاليفه، وتنزّهوا عمّا يوجب سخطه والبُعد عنه ، ثمّ استقاموا على هداه، فأصبحوا من عباد الله المخلصين الذين لا يتقرّب الشيطان إليهم، وصاروا مظاهر أسمائه المقدّسة فاجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوّة ، وهم الصفوة من عباد الله ، ويجب على سائر الناس الاقتداء بهداهم والتأسّى بهم ، فإنّه وإن لم يمكن الوصول إلى تلك المقامات الخاصّة التي منحها الله تعالى للأنبياء، إلّا أنّه قد يصل الفرد بالمجاهدات إلى مصافهم من حيث القُرب إلى الله عزّ وجلّ، فلابدّ حينئذٍ من تحصيل الاستعداد الكامل والوصول إلى المقام الذي يكتفي به عزّ وجلّ ويستغني عمّا سواه ، ثمّ يحصل الإيواء منه سبحانه ، والخلوص من كلّ شوائب الدُّنيا الفانية الزائلة ، وهذه المقامات ليست من الأُمور المستحيلة التي لا

ص: 183

يمكن الوصول إليها ونيلها ، نعم الأنبياء علیهم السّلام سألوها بلسان الاستعداد الأزلي، فوصلوا إلى الهداية الخاصّة، ونالوا الكمالات العلمية والعملية التى بهما حازوا مقام القُرب ، وأمّا غيرهم فكانت لهم مجاهدات خاصّة، فنالوا مرتبة القُرب ولكنّها مجاهدات حقّة حقيقية تتطابق مع إرادة الله عزّ وجلّ وتشريعاته الخاصّة، لا أن تكون ادّعائية زائفة، وهى لا تحصل إلّا بترويض النفس الأمّارة بما يريده الله تعالى، بحيث لا تخرج عن إرادته المقدّسة، فيكون مظهراً لتشريعاته العالية ، كما حكى سبحانه عن إبراهيم علیه السّلام رائد دعوة التوحيد الذي آتاه الله تعالى من الموهّلات والقابليّات، وما اكتسبه من مجاهداته الخاصّة في سبيل ربّه، فبلغ مقاماً رفيعاً عن خالقه تعالى، فأصبح خليل الرحمان وإماماً وقدوةً وأُمّة وحده ، فالجزاء الذي ناله هذا النبيّ العظيم صلّي الله علیه و آله عظم تلك الحالات الإنقطاعية مع الله تعالى، فكان أن وهب الله له ذرّية صالحة حفظت دعوته التوحيدية، وكان من أظهر أوصافهم التسليم الله تعالى تسليما مطلقاً، ثمّ بقاء شريعته على مرّ الدهور ، وفي جميع الأُمم المتأخِّرة ، كما أنّ الله هداهم هداية خاصّة، فاختار منهم الأنبياء والأوصياء.

ولا ريب أنّ أهمّ ما يوجب القرب لديه عزّ وجلّ، وهو المقام السامى أن يكون العارف السالك المجذوب محسناً، بأنّ يكون مظهراً للحسن والإحسان في النيّة والقول والعمل، فيصدر عن حُبّ وإخلاص وعشق ذاتى لخالقه، ويفعل عن خلوص النيّة، ليبلغ أعلى مراتب الصلاح الذي يبتعد عن كلّ ما يحجبه عن ربّه ، وبه يزيل العوائق التي تصدّه عن ذكر الله تعالى في طريق سلوكه ، فإذا بلغ هذه المنزلة يكون قد استعدّ لمقام التفضيل على الخلق، فيمنحه الله تعالى من الكمالات ما يكون سبباً للخروج إلى مقام القرب والإصطفاء ، وهي الهداية الخاصّة التي يمنُ ُّبها على المخلصين من عباده الذين أذعنوا للعبودية، وخضعوالمعبودهم خضوعاً تامّاً ، فلو أشركوا بالميل إلى سواه لحبط عنهم ما كانوا يعملون، وهبطوا إلى

ص: 184

الدرجات الدانية ، فإنّ شرك الكاملين يقتضى الحُجب عن المقامات العالية؛ ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهواً حكمت بردّتي .

وحينئذٍ شملهم النداء الربوبي : إن يكفر بها هؤلاء المحجوبون فإنّه سوف يصر فهم الله تعالى عن عناياته بسبب أعمالهم، وسوء اعتقادهم، ويبدّل بهم أناساً هم خزائن حقائق الإيمان، والعارفون بالله حقّ معرفته ، لا يصدر منهم ما يوجب البُعد عن ساحته ، وهم - كما في الخبر - طائفة من أُمّة محمّد صلّي الله علیه و آله قائمون بأمر الله تعالى لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله سبحانه ، فلا تخلو الأرض منهم لئلّا يضلّ سائر عباده ، ولا تعجّ الأرض إلى الله تعالى من فقدهم فإنّهم الموجودات المدركة التي يعلم ما سواه تعالى أهمّية تأثيرهم .

وقد بيّن سبحانه أن هؤلاء الكاملين قد بلغوا مرتبة من الهداية الخاصّة ، فلابدّ لغيرهم من الاقتداء بهداهم الذي هو حقيقة الشرائع الإلهيّة، فتكون مخالفتهم ضلالاً ، والإعراض عنهم كفراً، وأنّ بمتابعتهم يصل الإنسان إلى مقام القُرب، وهم قدوة العرفاء، وأُسوة السالكين بهم يستنيرون في جهادهم المرير الشاق ، فإنّ العارف قد يقع في سيره وسلوكه في بعض العقبات ، ولا يمكن إزالتها إلّا بالرجوع إلى الأئمّة الهُداة، فإنّهم ذكرى للعالمين ، كما أنّهم بدورهم يرجعون إلى القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى تذكرةٌ وموعظة، فلابدّ من الرجوع إلى وصاياه والاستضاءة بأنواره المباركة، والرجوع إلى الله اللّطيف بعباده واستمداد العون والتوفيق منه سبحانه لئلّا يطرد، ويكون من المحجوبين، فينسب إلى ساحة قدسه ما لا يليق ، كما حكى سبحانه عن بعض المطرودين، فقالوا إنّه عزّ وجلّ لم ينزل كتاباً ولم يظهر من علمه لعباده، فكان من زعمهم أنّه سبحانه بعيد من عباده ، فإنّهم لو عرفوه حق معرفته وانجذبوا إلى رحمته وانساقوا من لطفه، لظهر لهم أنّه لا مظهر لصفاته المقدّسة إلّا الإنسان الكامل، بل لو ارتفعت الحُجب لما رأوا إلّا

ص: 185

أسماءه المقدّسة .

وقد أمرهم عزّ وجلّ بالرجوع إلى الكتاب الذي أنزله على رسوله المصطفى، فإنّه يخرج عباده من ظلمات الجهل ودركات البُعد إلى أسرار القرب والوصال، ومقام الشوق إلى جماله المقدّس، فهو الحقّ الذي لا يتجلّى منه إلّا الحقّ الذي منه القرآن الكريم، وهو كتابُ هدايةٍ ومنارٌ يستنار به، ومبارك في جميع شؤونه وفي جميع العوالم التي يرد عليها ، وهو الشفاء لما يطرأ على الإنسان الظاهر والباطن ، وقد أنزله لإنذار جميع قوى الإنسان ، من الجوارح والأعضاء والسرّ والفؤاد لتستنير بأنواره وتنتفع من أسراره، ويتخلّق الإنسان بأخلاقه، ولم تتمّ تلك إلا بالإيمان بالآخرة، ويؤمن بأنواع المؤلمات وأهمّها البُعد والفراق عن خالقه وبارئه، فإنّ من يملكه الخوف يحمله على النظر والتأمّل في الكتاب والعمل بما جاءه به، فإنّ فيه تمام أسباب السعادة وأنواع الهداية ، وقد أكّد على أهمّها وهى الصلاة ، وأمرهم بالمحافظة عليها ، لأنّها أشرف التكاليف والطاعات ، ولما فيها من القُرب والخطوة لدى المعبود . ثمّ أمرهم بالرجوع واللّجوء إلى الله تعالى كما في قوله: «قُلْ اللَّهُ» وتوجّه القلب إليه، والإعراض عن غيره فإنّ من أراد الوصول إلى الله سبحانه، فلابدّ من الإعراض عمّا سواه، فإنّه خوضُ ولعبٌ ولهوٌ حسب درجات الإعراض ، واللّاهى واللّاعب ليس على شيء ، والدُّعاء بتضرّع لأن يزيد من المعرفة به عزّ وجلّ، ويقطع القلب عمّا سواه، والرجوع إلى القرآن المجيد في علاج الأمراض التي تُصيب النفس والأخلاق ، والاستفادة من معارفه وإرشاداته في سيره وسلوكه، فإنّه كتاب مبارك في جميع شؤونه .

وليعلم أنّ تأثير قوله تعالى «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» على العرفاء كبير، فإنّهم على خوف ووجل دائمين بعد معرفتهم بأنّ المخلوق لا يقدّر قدر الخالق،

ص: 186

فلا يدركه بكنه ذاته وتجرّده عن التعيّنات الإسمائيّة والصفاتيّة، ومن عرف الله بآلة مخلوقة فهو بالحقيقة غير عارف ، ومن عرفه بآياته فقد حاز نوعاً من المعرفة ومن عرفه به فقد حاز على المعرفة ، كما قال زين العابدين علیه السّلام: «بك عرفتُك وأنت دللتني عليك» .

وأنّ العُرفاء على اختلاف في الاستعداد في قبول فيضه المقدّس، وإشراق نوره الأقدس الذي هو الأساس في العرفان، كما قال الإمام الحسين علیه السّلام: «أنت الذي أشرقت على قلوب أوليائك فعرفوك» ، فالذي يقدر الله حقّ قدره هو الله تعالى وحده، ثمّ الأعرف به من عباده فالأعرف، الذين على خوف لئلا يصدر منهم ما ينافي قدره ، فإنّ الحُجب والعقبات كثيرة لولا التأييد الإلهي والتوفيق منه ، فإنّه سبحانه لطيف بعباده ، كما أنّ تأثير قوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» كبير على النفوس المؤمنة المستعدّة ، فإنّ كفران النعمة يوجب انقطاع الفيض الربوبي ، والابتعاد عن الهداية ، بل ويوجب الانتكاس في السير والسلوك، وهو يستلزم آفات شديدة أدناها الخجل ، ولا يختصّ مضمون الآية بخصوص الكفر بالهداية الخاصّة، بل يشمل كلّ نعمة إلهية ، كما دلّ عليه الخبر السابق .

فالآيات الشريفة بمضامينها العالية تشتمل على إشارات للسالكين، وومضات لتنبيه الغافلين ، وإيقاضات للمبتعدين ، فلا يحرم الإنسان نفسه منها ولا يدع الفرصة في الاستفادة منها، فإنّها نِعَمٌ إلهية، فلا يكفر بها فكانت آيات تربوية تؤثّر في النفوس المستعدّة ، رزقنا الله تعالى فهم أسرارها .

***

ص: 187

سورة الأنعام، الآية 93 - 107

الآية 93 - 107

«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبْ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَ ذَلِكُمْ اللهُ فَأَنَا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلَّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةً وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهِ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 188

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)».

الآيات الشريفة تبيّن دلائل التوحيد أيضاً، وما اتّصف به الواحد الأحد من الصفات العليا والأسماء الحسنى، وتثبت دعائم التوحيد بالبراهين القاطعة ، وتضمّنت من سُبل الهداية والدعوة إلى الإيمان والطاعة ، وتبيّن بعض أنواع الظلم التي تخص بتلك الآيات التي ذكرها سبحانه وتعالى، فكانت ظلماً عقائديّاً وعمليّاً الطاعة ، وذكرت الشرك بالله تعالى، والافتراء عليه، وإنكار ما هو الحقّ في النبوّة ودعوى ما ليس حقّ له ، وقد تبيّن الحقّ بذكر صفات الإلوهيّة وأفعاله المقدّسة التي تدلّ على أنّه الله الذي هو الحقّ في جميع شؤونه في الإلوهيّة والربوبيّة والتشريع والطاعة ، وفي ختام الآيات بيِّن سبحانه سوء عاقبة الظالمين ومساءلتهم إذا غشيهم الموت، وقد بسطت الملائكة أيديهم القبض أرواحهم، وهم في أسوء حال، وقد صرّف سبحانه الآيات المتتالية لغرض تبصير الذين لا يعلمون وإرشادهم إلى الحقّ .

***

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً»

التفسير

قوله تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً» .

بيان لأعظم ما ظلم الإنسان نفسه ، كما يستفاد من إظهار التعجّب من

ص: 189

مرتكبه ، وتوصيفه بالظلم الذي لا يفلح المتّصف به ، وهو ظلم الافتراء على الله تعالى .

وقد عدّ سبحانه ثلاثة أنواع منها، هي من أشدّ مراتب الظلم التي بانت فظاعتها ، ولا يرتاب عاقلٌ في شناعتها ، ولعلّه لأجل ذلك وردت في أُسلوب الاستفهام الإنكاري الذي لا يتوقّف عاقل في الحكم عليها . وقد ذكرت في غير موضع من الكتاب العزيز، وكلّ نوع منها يواجه نوعاً من أنواع الحقّ، وهى من الظلم الشنيع :

الأول : افتراء الكذب على الله سبحانه ، وهو أوّل المظالم المعدودة في آيات المقام ، وهو وإن كان عامّاً يشمل غيره أيضاً ، ولكنّه في الواقع متباينات ، كما تدلّ علیه قرائن متعدّدة ، كما ستعرف .

وقد ذكر مثل هذا الأسلوب الإنكاري في عدّة مواضع من القرآن المجيد ، منها أوائل هذه السورة الآية الثانية ، وفي آخرها قال تعالى : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(1) .

وفي سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، والكهف ، والعنكبوت ، والصف ، وإن كان الأقرب إلى آية المقام، قوله تعالى : «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» (2).

والكلام في هذه الآيات الكريمة يقع في موضعين :

ص: 190


1- سورة الأنعام: الآية 144
2- سورة يونس : الآية 15 - 17

الأوّل : إنّ الآيات الشريفة تتّفق في أُسلوب واحد، وهو: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً»، وتختلف في تعقيب كلّ آية بما اتصل بها من المضامين الخاصّة . ففى آية الأنعام الأُولى قد تقدّمها قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(1)، ثمّ قوله تعالى : «وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسِ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (2)، فقد تحقّق افتراؤهم على الله تعالى بالتكذيب بالحقّ والاستهزاء به، والقول بأنّه سحرٌ مبين ، فجمعوا بين الشرك والتكذيب، فناسب ذلك أن يكونوا أظلم ممّن افترى على الله كذباً؛ كما في آية 21 من هذه السورة على أسلوب التعجّب من مرتكبيه وسوء حالهم ، وكانوا أظلم؛ لأنّهم جمعوا بين الافتراء والتكذيب والشرك مع كثرة الدلائل والبراهين التي ذكرها سبحانه ضمن الآيات الكريمة ، كما أنّه صار ظلمهم ظلم افتراء ، وحالهم أسوء الأحوال.

وأمّا الآية الثانية من هذه السورة، فقد ذكر سبحانه قبلها التوحيد والدعوة إليه ، ونبذ الشرك والتنديد به، ثمّ عقبّه بذكر الأنبياء الهُداة صلوات الله عليهم أجمعين، وأمر بالاقتداء بهم. ثمّ قال تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرِ مِنْ شَيْءٍ» فقد حصل منهم التعامي عن كتب الله ، والإعراض عمّا تضمّنته من النور والهدى ، فكان ظلمهم ظلم إنكار وتكذيب ، وقد استعظم سبحانه ظلم مرتكبيه ، فكانوا أعظم افتراء باتِّخاذ الشريك وعدم تقديرهم لله سبحانه حقّ قدره .

وأّما آية الأعراف، فقد تقدّمها وعيد من كذّب بآيات الرُّسل، واستكبر عنها بالخلود في النار ، فكان قوله تعالى : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ

ص: 191


1- سورة الأنعام: الآية 5
2- سورة الأنعام: الآية 7

بِآيَاتِهِ»(1) مناسباً لاعتقادهم الباطل وأفعالهم الشنيعة، فما أظلمهم بعد وضوح الحقّ والدلائل عليه ؟!!

وأمّا آية يونس فقد ورد قبلها قوله تعالى : «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا انْتِ بِقُرْآنِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ»(2) ، ولا أظلم ممّن قال انت بقرآن غير هذا أو بدّله مع علمه بعلوّ منزلته، واعترافه بالعجز عن الإتيان بمثله ، فقد جمع بين الإنكار والتبديل فلا أظلم من هؤلاء ، ولعلّه لذا عقّبه تعالى بقوله: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ»(3) ترقّياً في الشر.

الثاني : في تنكير الكذب في سائر الآيات ما عدا آية الصف التي ذكر فيها معرّفاً، فقال عزّ وجلّ : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ»(4)، ولعلّه يرجع إلى أنّ آية الصفّ قد انفردت عن مثيلاتها بالتفصيل والتعيّين ، كما قال تعالى : «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ»(5) ، فافتروا الكذب وارتكبوا البهتان فيما لا توقّف فيه ، فجاء قوله تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ ...» معرّفاً بأداة العهد ليقوم مقام الوصف ، ولم يرد هذا في سائر الآيات فكان المناسب أن يرد منكراً.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ افتراء الكذب على الله تعالى له مصاديق متعدّدة. قد بيّنتها الآيات التي وردت في مواضع متعدّدة؛ ففي آية المقام هو اتّخاذ الشريك

ص: 192


1- سورة الأعراف : الآية 37
2- سورة يونس : الآية 15
3- سورة يونس : الآية 17
4- سورة الصف : الآية 7
5- سورة الصف : الآية 6

وتكذيب ما أنزله الله تعالى من الحكم والكتاب والنبوّات والهداية الإلهيّة التي تتمثل في التشريع السماوي، فكان ظلماً شنيعاً، وافتراءً على الله تعالى الذي هو حقّ في جميع شؤونه ، ولا ريب في وضوح معالمه لهم، فيكون ظلمهم ظلم جحود بعد العرفان، فاقتضى أن يكون الأسلوب أسلوب تعجّب وتنكير .

والغرض من ذكره بيان الحقّ بجميع مظاهره المتعدّدة التي كان أهمّها الأنبياء التوحيد والدعوة إليه، وتثبيت دعائمها ، والصادعين بها من والمرسلين علیهم السّلام روّاد الهداية الإلهيّة، ثمّ بيان التشريعات الحقّة من إنزال الكتب والحكم لهداية الأنام، والإعلام بإنشاء جيل يؤمن بالله تعالى وتعاليمه وتشريعاته، ليتمّ انقيادهم لخالقهم وطاعتهم له عزّ وجلّ بالمحافظة على الصلاة التي هي من أهمّ مظاهر العبودية الصادقة .

وقد بيّن سبحانه في هذه الآيات عظمة الظلم الذي صدر ممّن خالف الحقّ بعد وضوحه ، فكانت إرشاداً لهم بالرجوع إلى الحقّ والإذعان له بحكم العقل وترك العناد واللّجاج، والتكبر على الحقّ، وأنّه يستحقّ التواضع له ، ونبذ الإستهزاء بما جاء به الأنبياء علیهم السّلام.

وجعل بعض المفسّرين هذا من عطف المقيد على المطلق، أو الخاصّ على العامّ، فإنّ افتراء الكذب على الله يشمل القول على الله بغیر علم، سواء أكان ذلك في ذاته أو صفاته أو أفعاله ، فيدخل فيه ادّعاء الوحي ، ومنه ادّعاء التحليل والتحريم وغيرهما من أحكام الشرع بغير علم .

ولكنّك عرفت أنّ المستفاد من ظواهر الآيات، أنّ الافتراء على الله تعالى كذباً يتعلّق بتلك الأُمور المتعلّقة بالإلوهية الكبرى والربوبيّة العظمى، وسائر شؤونه المقدّسة التي ثبتت أصولها وقواعدها بالحجج والبراهين القاطعة ، وقد بيّنتها الآيات السابقة .

ص: 193

أمّا آية المقام فإنّها تبيِّن جانباً آخر من الظلم الذي لا يقلّ عن الأوّل في الشناعة والفظاعة حيث يدّعي الوحي إليه ، والحال إنّه لم يوح إليه شيء، فالافتراء على الله تعالى كذباً، وإن كان يبدو في الظاهر أنّه أعمّ، ولكنّه في الواقع یباینه بحسب القرآئن المتعدّدة.

وقيل : إنّ الآية الكريمة نزلت في مسيلمة الكذاب .

وفيه أنّه بعيد عن السياق ، وأنّ مضمونها عامٌ يشمل كلّ كاذب يفتري على العباد ويصدر تشريعات وأحكاماً وغيرهما، مدّعياً الوحي فيها، فهو كاذب سواء ادّعى النبوّة مع ذلك أو لا، مع أنّ سورة الأنعام مكّية ، ودعواه النبوّة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة، إلّا أن يدّعي هؤلاء نزول هذه الآيات في المدينة ، كما قيل ..

وجعل بعضهم (أو) للتنويع في المعنى الواحد، كأن يُراد بالإفتراء ادّعاء النبوّة من غير ذكر الوحى، وبالتالي ادّعاء الوحى من غير ذكر النبوّة و إن كانا متلازمين . ولكنّه بعيد عن سياق الآية ، بل هو بعيد في نفسه ، كما عرفت .

قوله تعالى : «وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ» .

وهو النوع الثالث من الظلم الذي يدلّ على الاستهزاء بما أنزله الله، لاسيّما القرآن المجيد الذى يقرّ قائله بأنّه منزل من الله تعالى، ثمّ يعد غيره بإنزال مثله.

ولا ريب أنّ ذلك يدلّ على استكبار قائله على الحقّ تعالى واستهزائه بالقرآن الكريم، والطعن فى نبوّة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله، وهو من مصاديق قوله تعالى : «وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» لأنّ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب من شؤون ربوبيّته العظمى ، كلّ ذلك يترّتب على مقالتهم تلك، بخلاف ما لو قال سآتيكم بمثل ما آتاكم به ، ونحوه فإنّه تحدٍّ منه للرسول و ما أتى به فيكون مشابهاً لقول المشركين ، على ما حكى عزّ وجلّ عنهم : «وَلَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ

ص: 194

الأوَّلِينَ»(1) ، وإن كان كلاهما من الظلم الشنيع.

والآية تحكى عن جملة من الأساليب التي اتّبعها الظالمون واتّخذوها وسيلة لإهانة الحقّ والظلم له ، وتنزيل قدره بين الناس بإبداء المعارضة له وتضيّيعه ، وقد حكى القرآن الكريم تلك المواقف في عدة مواضع ، وقد أشرنا إليها في هذا التفسير .

ومن ذلك يظهر فساد جملة ممّا ذكره المفسِّرون في تفسير الآية الكريمة ، كالقول بأنّ الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح : إِنِّي أنزل مثل ما أنزل الله ، فتكون الآية بناءً عليه مدنيّة .

أو القول بأنّها إشارة إلى قول بعض المشركين : «وَلَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق به.

وقيل : إنّ المظالم المعدودة في الآية الشريفة وإن كانت بحسب الظاهر ثلاثة ، ولكنّها بنظر آخر قسمان؛ فإنّ الأول والثانى من الظلم في جنب الله تعالى في صورة الخضوع لديه والانقياد له ، والثالث من الظلم فى صورة الاستعلاء عليه تعالى . إلّا أنّ الظاهر من سياق الآية الكريمة أنّه فى مقام بيان المظالم التي مارسها المعاندون المعارضون للحقّ في جميع مظاهره ، وقد اختلفت أساليبهم ، فتارةً يكون مع الله تعالى وشؤونه الخاصّة، وأخرى مع أسباب هداية العباد ، وثالثة في تضعيف تأثير تلك الأسباب، ومن المعلوم أنّ جميعها يستدعي التزام الانقياد طوراً والاستكبار طوراً آخر ، أو التزام طرق أُخرى معروفة ، فلا نحتاج إلى تقسيم تلك المظالم ، كما ذكر ، فراجع .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ»

قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ».

ص: 195


1- سورة الأنفال : الآية 31

خطاب لأشرف خلقه ، إما لأنّه صلّي الله علیه و آله يرى ملكوت الأشياء وحقائقها ، أو لأنّ الكفّار والمشركين والمنافقين الذين عارضوه وظلموه بأنواع الظلم، وآذوه على الله بشتّى أنواع الأذى ، فأراد سبحانه أن يكون صلّي الله علیه و آله أوّل من يعرض عليه أحوالهم عند الموت ويطّلع على مآل أمرهم ، وفي الخطاب كمال التهويل وفظاعة أحوالهم ، ولأجله حذف جواب (لو).

ومادّة (غمر) تدلّ على ستر الشيء وإزالة أثره، ومنه الغمرة للماء الكثير الذي يستر السيل ويزيل أثره ، أو يستر لما تحته ، فالغمرة معظم الماء الساتر لمقرّها ، ويطلق على الجهل المطبق الذي يغمر صاحبه ، وعلى الشدّة التي تحيط بصاحبها ، والغمرات الشدائد، ويطلق على الرجل الذي يدخل في الشدائد كالحرب والمغامرة ، وقد وردت هذه المادة في القرآن المجيد في أربعة مواضع، ثلاثة منها في الجهل المطبق :

كقوله تعالى: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالُ مِنْ دُونِ ذَلِكَ»(1)؛ أي قلوبهم في ستر بسبب جهلهم أو أعمالهم الشنيعة السيّئة.

وقوله تعالى : «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ» (2)؛ أي الجهالة التي تغمرهم، كما في قوله تعالى: «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ»(3).

والمراد بغمرات الموت سكراته وشدائده - أعاذنا الله منها - التى تحيط بهم، كما أنّ المراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة المتقدِّمة فتكون اللّام للعهد ، أو جنس الظالمين ، ولكن الظاهر هو الأوّل ، كما تدلّ عليه القرائن في الآية الكريمة .

قوله تعالى : «وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ».

ص: 196


1- سورة المؤمنون : الآية 62
2- سورة الذاريات : الآية 10 - 11
3- سورة المؤمنون : الآية 54

بسط اليد معروف يستعمل في الشدّة واللّطف، وإن كان المراد به فى المقام المعنى الكنائي الذي يختلف باختلاف متعلّقه ، فإنّ بسط يد الأمير يُراد بنه إدارة إمارته ، والملك مملكته ، والكريم جوده ، والغني إحسانه ، والمجرم فساده وإيذاؤه، ومنه قوله تعالى : «إذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» (1)، وفي قصّة ابني آدم علیه السّلام خصّ الإيذاء بأحدهما، قال: «لَئِنْ بَسَطتَ إِلَى يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي» ، ولعلّ تخصيص اليد بالذكر لكون أكثر الإيذاء العملي يكون بمدّها، أو تشبيهاً بالغريم الملازم الملّح الذي يبسط يده إلى من عليه الحقّ معنّفاً له.

وبسط الملائكة أيديهم لقبض أرواح الظالمين، هو ابتداء شروعهم في تعذيبهم، كما حكاه عزّ وجلّ في موضع آخر : «ولَوْ تَرى إِذْ يَتَوفى الذين كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ» (2)، أو يحمل على الأعمّ كما في قوله تعالى : «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ» (3) ، أو يحمل على اختلاف حالات الظالمين ومراتب ظلمهم . وكيف كان، فالمراد من المراتب حسب الملائكة هم ملك الموت وأعوانه .

قوله تعالى: «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ».

توبيخ وتعجيز من الملائكة وهمّ يعذّبونهم بقبض أرواحهم، ويذوقون العذاب الأليم حينه

قوله تعالى : «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ» .

المراد باليوم مطلق الزمان لا ما هو المتعارف المعهود . والهون هو الهوان

ص: 197


1- سورة المائدة : الآية 12
2- سورة الأنفال : الآية 50
3- سورة الأنفال : الآية 93

والذلّ . وبالفتح اللّين والرفق والدعة ، كما قال تعالى : «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» (1)؛ أي قائلين لهم زمان قبض أرواحهم الذي يجزون فيه العذاب المشتمل على الذلّ والخزي.

وذكر بعضهم أنّ المراد به يوم القيامة . وهو بعيد ، فإنّه «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(2) ، فيكون ما ورد في آية المقام هو العذاب حين الموت ولمّا ينتقلون من الدُّنيا ، وأمّا وراءها فلهم عذاب إلى يوم القيامة .

قوله تعالى : «بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ».

تعليل لما يلاقونه من العذاب، فإنّهم ارتكبوا أفدح الذنوب، وهي الافتراء على الله كذباً ، ودعوى النبوّة ظلماً، والاستهزاء بآيات الله ، فقد تقوّلوا على الله بغير الحق ، واستكبروا على آيات الله ، فلم يعتبروا بها ، وأعرضوا عن الإيمان بها ، ومن استكبارهم ما حكاه عزّ وجلّ فيما سبق عنهم: «سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ الله».

والآية الكريمة بأسلوبها البليغ وصورتها الفنية ومضمونها الرهيب، تبيِّن أحوال الظالمين عند فراقهم هذه الدُّنيا، وتبعث الخوف في النفوس، والرعب في القلوب ، فقد أعرضوا عن آيات الله التكوينيّة والتدوينيّة ولم يعتبر وابها، فلم يزكّوا أنفسهم ولم يستفيدوا منها في تطهير قلوبهم من أدران الذنوب ورجس الشرك، فاستكبروا على الحقّ وعاندوه، فافتروا على الله تعالى أشدّ أنواع الافتراء والظلم، فلاقوا حسب تلك الأنواع مراتب من العذاب، منها ما عرضته الآية الكريمة في كيفيّة قبض أرواحهم، وهمّ في أشدّ حالات الضعف، قد بسطوا أيديهم لإنزال

ص: 198


1- سورة الفرقان : الآية 63
2- سورة المؤمنون : الآية 10

العذاب عليهم، وهم عند سكرات الموت وحين نزع الروح ، قد تجسّمت أعمالهم بأبشع صورها، تناديهم الملائكة بصوت يصمّ آذانهم ويهدّد كيانهم، بعد أن ماتت آمالهم، وتقول لهم أخرجوا أنفسكم، فينزعونها من تلك الأبدان الخاوية الضعيفة التي تهاوت قواها لمّا ظهرت لهم من الصور الرهيبة ، وأذلتها الملائكة بعد أن أثبتوا لأنفسهم عزّة مزيّقة ، فكان العذاب الهون مقابل ما أخذتهم العزّة بالإثم ، فيا لها من حالات تبعث في النفس الرهبة والخوف ، تكفى في الردع ، والرجوع إلى الهداية وترك كلّ ظلم يوجب هذا النوع من العذاب الموجع المهين، ويدع الاستكبار على الحق فيا حسرة على الإنسان الظالم.

والآية تبيِّن حقائق واقعية قد يدركها الإنسان في دار الدُّنيا، ويذوقها الظالم الخاسر فيها .

والأمر (أخرجوا) تكويني خارج عن قدرة الإنسان ، كالموت والحياة، قال تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا»(1)، والملائكة من أسباب هذا الأمر التكويني والقائمون بهذه المهمّة يفعلون ما أُمروا حقيقة على الصور المحكية ، ولا ينافي ذلك أن تكون بعض الكلمات قد استعملت على سبيل الكناية والاستعارة.

والمعنى لو كنت - يا محمّد - حاضراً لرأيت عجباً حين يقع الظالمون ممّن ذكروا - وغيرهم من أمثالهم - في شدائد الموت وسكراته التي تحيط بهم، وهم يعذّبون بأنواع العذاب التي تهينهم وتذلّهم، جزاء افترائهم على الله تعالى واستكبارهم على الحق وإعراضهم عن آياته .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...»

قوله تعالى : «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

جملة مستأنفة تبين حال الإنسان والحقيقة التي يكون عليها ، وهي حالة

ص: 199


1- سورة النجم : الآية 44

تقطّع الأسباب والروابط والارتباطات التي كان عليها حال حياته واعتمد عليها، فلا تفيده الأولاد والأموال ، والعشيرة والقبيلة والاجتماع ، والشفعاء والجاه والمنزلة وغيرها، فهو على ضعف من جميع شؤونه ، كما خلقه أوّل مرّة ، وقد بطلت الأسباب التي اعتمد عليها واعتبرها من أهمّ السُّبل في إسعاده، ودفع الشدائد والشقاء عنه التي تخلّلت بين أوّل يوم خلقه ويوم قبض روحه والرجوع إلى بارئه .

والجملة من كلامه سبحانه، وهي خطابٌ لجميع أفراد الإنسان . وفرادى جمع فرد ، وقيل إنّه على خلاف القياس ، وقيل : إنّه جمع فريد كأسارى جمع أسير ، أي منفردين عن الأهل والأولاد والأعوان والأموال ، وبتعبير آخر هو الانفصال عن اختلاط الغير بنوع من الاختلاط ، مقابل الزوج ، كمقابلة الوتر والشفع . والتشبيه بالخلق أوّل مرّة لبيان شدّة الضعف والانقطاع ، وإعلام بمشابهة بعثهم وإعادتهم لبدء خلقهم الذي كانوا ينكرونه ويستبعدون وقوعه .

قوله تعالى : «وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ» .

مادّة (خول) تدلّ على إعطاء الخول وهو المال ونحوه، وقد وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع؛ أحدهما المقام، والثاني قوله تعالى : «ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ»(1) ، والثالث قوله تعالى : «ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» (2).

ومن التدبّر في هذه الآيات يفيد أنّ المراد بها هو الإعطاء على نحو التعهّد لا الملكيّة، فيقوم الإنسان به بالتدبير والتصّرف، فليس الخول الذي وهبه الله

ص: 200


1- سورة الزمر : الآية 49
2- سورة الزمر : الآية 8

تعالى له على نحو كونه تامّ التصرّف يفعل ما يشاء ، بل هو إعطاء على نحو التعهّد بالتدبّر والتصرّف على وجه الحسن الذي ينتفع به في الدارين، وما يليق بمقامه في دار الدُّنيا الفانية، فيترك الغرور والاستبداد بما خولّه الله عزّ وجلّ، فيكون التصرّف في غير الوجه الذي تعهّد به باطلاً، ويكون مسؤولاً عنه ، كما ورد في الحديث عنه صلّي الله علیه و آله: «يُسأل العبد يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم صَرَفه».

والآية الكريمة تدلّ على بطلان الأسباب التي تلهيه عن ربّه وخالقه يوم ظهور الحقائق، وإنّه لا ربّ سواه عزّ وجلّ، وأنّه المبدأ والمرجع، ويكون مردّ الإنسان إليه تعالى.

قوله تعالى: «وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَ كُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ» .

المراد بالشفعاء الأرباب الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ليكونوا شفعاء عنده عزّ وجلّ ، كما حكى عنهم عزّ وجلّ: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»(1)، فأصبحوا بذلك شركاء في العبادة، وكلمة الزعم نصّ هنا في الباطل وإن استعمل في غيره في غير المقام .

والآية تدلّ على عدم تأثير الشفعاء الذين عبدوهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه ويتقرّبوا بهم لديه، وعدم انتفاعهم من الشركاء، فإنّ الجميع مربوب الله تعالى ومدبّر بتدبيراته فقط .

قوله تعالى : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» .

بيان لأهمّ حقيقة من الحقائق الواقعية التي تظهر لأولياء الله تعالى وأرباب المعرفة في دار الدُّنيا ، ولغيرهم في الآخرة التي تبتدئ من حين الموت بسبب

ص: 201


1- سورة الزمر : الآية 3

غفلتهم وسوء وسوء اعتقادهم ، فإنّ الأسباب و المسبّبات وجميع ما سواه عزّ وجلّ مربوبة بالتدبيرات الربّانية، وهي مقهورة تحت سلطانه وقدرته تبارك و تعالى ، فيظهر بطلان الأوهام والمزاعم التي اقترنت مع الإنسان في حياته الدُّنيا، من الاعتماد بالأسباب، والاعتماد على العلل والمعدّات المادّية التي كانت توصله إلى مقاصده في دار الدُّنيا ، فإنّه سيظهر بطلان استقلالها ، وإنّ الأمر كلّه الله تعالى، فهو الربّ المدبّر لخلقه، ويتبيّن له أنّ كلّ ما كان يعتقده في الأسباب ولاسيّما الاستشفاع بالأرباب كان من المزاعم الباطلة ، والأوهام التي لا أثر لها في عالم التكوين أبداً، فانقطع كلّ ما كان بين الإنسان وبينها من الوصل والمودّة.

و(البين) من الأضداد ، كالقُرء، يستعمل في الوصل والفصل ، والمراد به في المقام الوصل، أن تُقطّع وصلكم وتُفرّق جمعكم ، كما يستعمل في المسافة الحسية أو المعنوية بين شيئين أو أشياء ، وهو يُضاف غالباً إلى المثنى ، كقوله تعالى : «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» (1) ، وقوله تعالى : «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ»(2).

أو الجمع لفظاً أو معنى كقوله تعالى : «أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ»(3).

ولا يضاف إلى الاسم المفرد، إلّا إذا كرّر نحو قوله تعالى : هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَیْنِكَ» (4).

وقوله تعالى «وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ» (5) .

كما أنّه غالباً ما يكون ظرفاً غير متمكِّن ، وفي القليل اسماً .

ص: 202


1- سورة الحجرات : الآية 10
2- سورة الحجرات: الآية 9
3- سورة النساء : الآية 114
4- سورة الكهف : الآية 78
5- سورة فصلت : الآية 5

قوله تعالى «وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» .

فقد انكشف فساد مزاعم المشركين، وظهر بطلان عقائدهم التي كانت معهم ، فقد تبيّن لهم أن ليس لتلك الأسباب والضمائم تأثير وأنّها كانت أوهاماً ومزاعم باطلة، فقد خابت الآمال وخذلتهم الأرباب ونبذتهم .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»

قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى».

شروع في تثبت عقيدة التوحيد، بعد بيان بطلان المزاعم وزيف عقيدة الشرك ، فيذكر من بديع صنعه وعظيم خلقه، ما يدلّ على كمال علمه و تمام قدرته ولطيف صنعه وحكمته وإحاطته بمخلوقاته إحاطة قيوميّة، التي تدلّ على أنّه الربّ ، فلا ربّ سواه وأن الجميع مدبرون بإرادته ومربون له سبحانه وتعالى ، وأنّ كلّ ما سواه شاهد على توحيده وناطقة بربوبيّته .

وأفعاله سبحانه هي من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على صفاته العليا التي استحقّ بها الأُلوهية العظمى والربوبيّة الكبرى، وهى أيضاً من أسباب المعرفة به سبحانه؛ لأنّها تدلّ على سننه في خلقه، وحكمته التامّة بالإحياء والإماتة ، وتدبيراته التامّة في مصنوعاته ، فكانت حججاً قويمة على ذلك . ومن عظمة أمر هذه البراهين إنّها عقليّة ونقليّة، فإنّ أحدهما ينظّم الآخر، وتجتمعان في الأثر وهو الاستدلال بها لإثبات الإله الواحد الأحد ، وإبطال معتقدات المشركين ، وسيأتى فى البحث القرآنى مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

والحَبّ معروف وهو اسم جنس للحنطة وغيرها ممّا يكون في السنبل والأكمام ، والجمع حبوب ، والواحد حَبَّة ، وبالكسر بزر ما لا يقتات مثل بزور الرياحين، واحدها الحِبَّة بالكسر ، كذا ذكره جمع من اللّغوين .

والنوى جمع نواة يؤنّث ويُذكّر، ويجمع على أنواء أيضاً، وهو ما يكون داخل التمرة والزبيبة ونحوها .

ص: 203

وقيل : إنّ النوى إذا أطلق ينصرف إلى عجم التمر ، فان أريد غيره قيد ، فيقال : نوى المشمش ونوى الخوخ ونحو ذالك ، ولعلّه يرجع إلى استعمال القرينة لا إلى أصل اللّغة .

ومادّة (فلق) تدلّ على الشقّ بإبانة ، ومنة الفلق - بفتحتين - للمطمئن من الأرض بين ربوتين لما بينهما من الإبانة ، كما أنّ منه الفِلق بالكسر والفيلق للعجب ، وقد وردة هذه المادّة في القرآن الكريم في أربعة موارد اثنان منهما في آية المقام.

والثالث قوله تعالى : «فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ»(1)؛ أَي الأنهار ، أو الكلمة التي علم الله تعالى موسى علیه السّلام ففلق بها البحر وقيل غير ذلك ، وسيأتي البحث فيه .

والرابع قوله تعالى : «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» (2)؛ أي الصبح . والمراد به شقّ الحَبّ والنوى فيخرج منهما النبات والشجر ، فقد خلقها سبحانه لينبت الزرع والشجر، فيرتزق الإنسان والحيوان بهما ، أو ما يترتب عليهما من الآثار الطيبة للعباد والبلاد، كلّ ذلك بإرادته الدالّة على كمال قدرته وعلمه بجميع خصوصيّاتها، أسبابها ومسبّباتها التي بني عليها دار الكون والفساد .

قوله تعالى : «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِن الْمَيِّتِ» .

جملة مستأنفة تبيِّن عظمة الله تعالى في خلقه ، ودخول جميع أفراد مخلوقاته تحت إرادته وقدرته التامّة ، فهو عزّ وجلّ مُفيض الحياة عليها ، وهي في دور مستمرّ بين الحياة والموت، فيخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ،

ص: 204


1- سورة الشعراء : الآية 63
2- سورة الفلق : الآية 1

وقد بيّن عزّ وجلّ لهما مصادق متعدّدة، منها فلق الحَبّ والنوى ، وإخراج النبات والشجر ، ومنها خلق الإنسان من النطفة وبعض الحيوان من البيضة كالطير ، وإن أمكن النقاش في بعض الصغريات بعد الاكتشافات العلمية التى أثبتت أنّ النطفة لها حياة خاصّة، ولابدّ أن يكون المراد بالحياة الأعمّ من الفعلية أو ما له الشأنيّة. والحياة الحيوانيّة والنباتيّة والإنسانيّة ، أو ما تكون سبباً لحدوث آثار الحياة ، بلا فرق بين الحياة الماديّة والمعنوية ، فيخرج المؤمن من الكافر ، كما يشمل الفرد والاجتماع، فكم من مجتمع انقرض وجاء بعد اندثاره مجتمع حيُ آخر.

فإنّ إطلاق الآية يشمل جميع ذلك من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وأنّ لكلّ واحدة منها حياة خاصّة به، يخرج بها من العدم المطلق، أو القريب الذي يعبّر عنه بالميّت ، فلا تختص بالحياة الفعلية الحيوانية المعروفة ، فإنّه تجريد للآية الكريمة عن المعنى السامي الدال على إحاطته العلمية والقيومية المطلقة وقدرته الكاملة، فهو الله الواحد الأحد ولا ربّ سواه ، فالآية الكريمة في مقام إثبات الإلوهيّة العظمى ، والربوبيّة التامّة ، وصفاته العليا، ورد شبهات المشركين وافتراءاتهم وإبطال شركهم .

قوله تعالى : «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ».

بيان لأحد طرفي السُنّة الإلهيّة فى دار الكون والفساد ، وله مظاهر مختلفة أيضاً كالطرف الآخر ، التي منها إخراج الأثمار والحبوب من النبات، فإنّها ما لم تنقطع حياتها لا تصير ثمرة وحبّة . ولا يقتصر على النطفة والحَبّ من الحيوان والنبات كما يضرب بهما المثل ، بل يشمل كلّ مفردات العالم الكياني، الظاهر منها للعيان والمخفى الذي هو الأكثر .

ومن ذلك يظهر إنّه عطف على سابقه دون (فالق)، كما ذكره جمع من المفسِّرين، ولا بأس في عطف الاسم على الفعل . ومجيء (مخرج) على هيئة اسم

ص: 205

الفاعل مناسب لظاهر الكلام ، لاكتناف هذه الجملة بأسماء فاعلين في قوله تعالى : «فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»، وقوله تعالى : «فَالِقُ الإِصْبَاح»، مع أنّ العناية بإيجاد الحيّ من الميّت أكثر وأكمل من العناية بإخراج الميّت من الحيّ، فإنّ الأوّل أظهر في القدرة من الثاني ، فكان جديراً بالتصوّر والتأكيد في النفس .

وبعض المفسِّرين نظر إلى أوّل الوجهين، وجعل اختلاف التعبير لفظيّاً محضاً، ، وبعضهم نظر إلى ثاني الوجهين المزبورين ، وقد وردت نظائر لهذه الآية المباركة فى عدّة مواضع من القرآن الكريم، لكن بصيغة الفعل في كلا الطرفين المتقابلين ، ففي سورة آل عمران: «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيَّ» (1)، وفي سورتي يونس والروم : «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيّ»(2).

والجميع يدلّ على عطف الثاني على الأوّل ، لأنّ التناسب بين هذين الأمرين أقوى من التناسب بين الثانى وبين فلق الحَبّ والنوى، وكلاهما يدلّ على تمام قدرته وعظيم شأنه .

ومن ذلك يستفاد حسن عطف الاسم (مخرج) على الفعل (يخرج)، إمّا لأجل أنّ اسم الفاعل بمعنى فعل المضارع ، لأنّ مخرج الشيء هو الذي يخرجه حالاً أو استقبالاً ، أو لأجل بيان فعله عزّ وجلّ، أو تصوير حدوث متعلّق واستحضار صورته باعتبار أنّ إخراج الميِّت من الحيّ بعيد عن التصوّر .

وكيف كان ، فإنّ الآية الكريمة ونظيراتها تفيد معنى سامياً من الحقائق الواقعية التي يبتني عليها النظام الكياني وحياة المخلوقات، فإنّ السُنّة الإلهيّة اقتضت إخراج الحيّ من الميّت الظاهر عياناً، وبه تستمرّ الحياة وتدوم إلى ما يشاء

ص: 206


1- سورة آل عمران : الآية 27
2- سورة يونس : الآية 31، وسورة الروم : الآية 19

الله تعالى كما اقتضت إخراج الميّت من الحيّ يتحقّق به مادّة الحياة وسببها، فلولا النباتات والأثمار والماء والهواء والطاقة وغيرها من أسباب العيش في دار الكون والفساد، لما بقي في الوجود حيّ ، فهو يبِّين سرّ البقاء ، فالآيات الشريفة اشتملت على أمرين بهما تنشأ الحياة ويتحقّق البقاء وسرّه ، فما أعظمها من آية تدلّ على حُسن صنعه تعالى في خلقه، وإحاطته التامّة بما سواه علماً وقدرة وتدبيراً . وما أشدّ إنكار المنكرين لوحدانيّته وربوبيّته ، وما أبعدهم عن الحقّ والحقائق؟!!

قوله تعالى : «ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

تأكيداً على ما تضمّنته الآية السابقة التي تدلّ على أنّ ما ورد فيها من شؤون الربوبيّة العظمى الدالّة على الإلوهيّة الكبرى، فهو الله المتّصف بجمع صفات الكمال ، المنزّه عن الشرك وجميع النواقص ، فهو الذي خلق ما سواه بحكمة بالغة وقدرة كاملة ، ويسوق خلقه إلى غايات خلقته ، ويدبّرهم بأتمّ تدبير ، والجميع مربوب تحت إرادته ومشيّئته ، فما أشد كبريائهم وأقبح إعراضهم عنه ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى مَن لا يستحقّ العبادة أبداً، فإنّه الصّرف عن الحقّ إلى الباطل.

والإفك يأتي بمعنى صرف الشيء عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه ، ومنه الإفك في الكلام أي الصرف عن الصدق إلى الكذب .

والآية الكريمة تدلّ على أنّ مضمون الآية السابقة من شؤون ربوبيّته العظمى، ومن البراهين الساطعة على كونه الإله الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال، والمنزّه عن السلوب والنقائص، وبذلك استحقّ سبحانه العبادة والتوحيد في الخلق والتدبير .

قوله تعالى : «فَالِقُ الإِصْبَاح وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» .

ص: 207

جملة استئنافية تتضمّن مجموعة من أفعاله المقدّسة وتدبيراته في مخلوقاته الدالّة على علمه وحكمته وقدرته ، وهي من الآيات التي تدلّ على التوحيد في الخلق ، والتوحيد في التدبير، وهي إمّا خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو فالق . أو خبر آخر ل- (إن) .

حول معنى الإصباح والسكن

وفلق الإصباح مصدر سُمّي به الصبح ، يُقال : أصبح الرجل إذا دخل في وقت الصباح ويقابله الإمساء ، والمراد به شقّ ظلمة اللّيل بعمود الصبح ، وإخراج النور المنتشر من ظلمة الليل وفق حساب دقيق معروف يقترن بالفجر الذي ينقسم الى كاذب وصادق، وهو أيضاً بمعنى الفَلَق ، والله تعالى فالِقُ الإصباح بنور الشمس الذي يدلّ على كمال صنعه بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود إيذاناً بحصول النهار للحركة فتتقلّب الأحياء فيه الى ما يسّر لهم من الأعمال ، وهو مثال للإحياء بعد الممات ، كما تشتمل من النعم والحكمة والأسرار . ولا ريب أنّ هذه الآية الإلهيّة لها التأثير العظيم في النفوس، لما في الآثار العلوية الوقع الكبير فى الأرض وأحوالها والإنسان بالخصوص.

والسَكَن - بالتحريك - السكون ، واختلفوا في المراد به ، فقيل ما يسكن إليه من التعب والعىّ والكلال، ويستأنس به للاستراحة .

وقيل : ما يسكن فيه له من السكون أي الهدوء والاستقراء ، كما في قوله تعالى : «لِتَسْكُنُوا فِيه» (1).

والظاهر تلازمهما في اللّيل الذي جعله الله تعالى زمان هدوء وسكون الجسم من تعب العمل بالنهار ، وسكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار ، فلا يتحقّق في اللّيل ما يتحقق في النهار من الأعمال والسعي ، فتأوي أكثر الأحياء إلى مساكنها للراحة التي لا تتمّ إلا بالنوم الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان

ص: 208


1- سورة يونس : الآية 67

إرادتها ، وتسكن اليه من التعب والكلل والملل ، وقد أوضحت العلوم ما يترتّب على جعل اللّيل سكناً من الفوائد ، فهو آية من الآيات الإلهية التي تدلّ على حسن تدبیره .

قوله تعالى : «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً» .

وهي الآية الثالثة الكونيّة التي تدلّ على تقدير عجيب من حركات الشمس والقمر، بما يظهر منها من الآثار كالليل والنهار والشهور والسنين ، وبها ينتظم ، نظام المعاش والمعاد، وتستقيم أُمورهما .

والحُسبان - بالضم - مصدر حَسَب - بالفتح كما أنّ الحِسبان – بالكسر - مصدر حسب بوزن (علم) بمعنى الظنّ والتخمين ، وتقديم الشمس الضيائها فهى أساس الأنوار الفلكية وأنّ أنوارها مقتبسة من نور الشمس .

ولا ريب في أنّ جعل الشمس والقمر حسباناً من عظيم فضل الله تعالى على الإنسان ، فإنّ حاجته لمعرفة حساب الأوقات في حياتهم المادّية ممّا لا يخفى على أحد، فإنّه يترتب على كلّ من حساب الشمس وحساب القمر من الآثار العظيمة ، وقد وضع العلماء لهما علوماً وألّفوا فيها كتباً كثيرة .

قوله تعالى : «ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .

إشارة إلى عظمة الجعل المزبور الذي بَعُد شأنه في الإبداع والإتقان . ولا ريب في أنّ المجعولات الإلهيّة التكوينية من عظائم الأُمور التي ترتبط بهذه النشأة التى قوامها التغيير والتبديل والتحويل ، ولذلك اتّصف جاعلها بأعظم الصفات، فهو العزيز الذي لا يُغلب ولا يقهره قاهر ليفسد عليه تدبيره ، كما أنّه لا يعصيه شيء من الأشياء فلا تخرج عن طاعته ، العليم بجميع شؤون خلقه ، فلا يجهل شيئاً من المصالح التي تتعلّق بنظام خلقه، فكان ملكه تاماً لا خلل فيه ولا

ص: 209

يتطرّق إليه الفساد، فصار هذا النظام الكياني من آثار عزّته وعلمه .

قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا».

ما يتعلّق بالاهتداء بالنجوم

آيات أُخرى تتعلّق بالتكوين أيضاً، وقد ذكر سبحانه الغاية من خلقها . والظاهر أنّ المراد بالنجوم غير النيّرين لسبق ذكرهما ، ولأنّ التعليل بالاهتداء إنّما يكون بالنجوم ، كما أنّ النجم يُطلق على غيرهما عرفاً ويُحتمل دخولهما في الآية ، فتكون بياناً للفائدة العامة ، وهو وجيه .

والاهتداء بالنجوم متوغّل في القدم؛ فإنّ الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة كان يهتدي بها لمعرفة الأوقات ، والفصول ، والسنين ، أو لمعرفة المسالك والطرق وتعيّين الجهات، وقد تفنّن الناس في معرفة النجوم وأقسامها وأنواعها وأحكامها وتأثيراتها فى السفليّات، وازدادت المعرفة بها في العصور الأخيرة بفضل الاكتشافات الحديثة، وإرسال الإرساليات إليها ممّا ازدادت حيرتهم ودهشتهم لما فيها من العظمة، وأذعنوا بالعجز واعترفوا بقصورهم عن درك خصوصيّاتها، وإن كان السبب في هذا الجهل يرجع إلى الإنسان، حيث حرم نفسه من علومها عندما استهزأ بمن أراد إخبارهم عنها ، فقد قال أمير المؤمنين علیه السّلام في رحبة الكوفة كلمته المعروفة : «سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماوات أعلم بها من طرق الأرض». فاختار الإنسان الحيرة والاضطراب، وبقي في جهله الذي لازمه ، فهو الله الذي أبدع تلك النجوم وأنشأها بقدرته الكاملة لغرض اهتداء الإنسان بها إلى معرفة خالقها العظيم ، فإننا نبصر النجوم ولكن المهتدين قليلون فما كلّ من أبصر اهتدى .

قوله تعالى : «فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» .

أي ظلمات اللّيل فيهما ، وإضافة الظلمات إليهما إمّا للملابسة فإنّ الحاجة

ص: 210

إلى الاهتداء بها إنّما تتحقق عند ذلك ، أو استعارة أي في مشتبهات الطرق . ولا ريب أنّ هذا من بعض أفراد منافعها الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تحصى ، لكن المقام اقتضى ذكر بعضها فالآيات في السماء غير معدودة .

قوله تعالى : «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .

تأكيد لطيف يُثير الهمة في النفوس للعلم بتلك الآيات التي فصّلها خالقها؛ إمّا تفصيلاً تكوينيّاً لأجل اعتبار الإنسان بها والإيمان بخالقها العظيم، وهو لا يتحقّق إلّا بالنظر في ملكوت السماء، ويستفيد من النظر فيها وما أودعه الله سبحانه من حكم وعجائب في صنعه .

أو فصلها لفظاً في ضمن تلك الآيات التدوينيّة تفصيلاً، تدلّ على توحيده سبحانه في الخلق والتدبير وفي جميع الأحوال ، فإنّ من يستفيد من تلك الآيات هم الذين ينظرون فيها نظر تدبير، لينتفعوا بعلمهم في الدُّنيا والآخرة، ويعترفون بخالقها العظيم ويؤمنون بهداه.

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ»

قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ».

تذكير بآيات الأنفس بعد التذكير بآيات التكوين، للتذكير بنِعَم الله تعالى المتواردة . والإنشاء هو الإيجاد بالتدريج ، والإحداث لأجل التربيب ، ويستعمل في كلّ مورد لوحظ فيه الإيجاد تدريجاً ، أو الإحداث بعد التفرّق، كما تدلّ عليه جملة من الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة :

منها: خلق الإنسان الذي يختلف عن خلق آيات التكوين التي ذكر سبحانه جملة منها قبل ذلك ، فإنّ الله سبحانه خلق الإنسان على التدريج، فاستعمل فيه الإنشاء دون غيره .

ومنها : خلق أعضائه ومشاعره ونفسه ، قال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ

ص: 211

السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ »(1).

ومنها : الذرّية ، قال تعالى : «كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ آخَرِينَ»(2).

ومنها : الأُمم والقرون ، قال تعالى : «ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ فَرْنَا آخَرِينَ»(3).

ومنها : الجنّات والشجر ، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتِ» (4) .

ومنها : السحاب ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثَّقَالَ» (5) .

ومنها : النشأة الأُولى والنشأة الآخرة ، قال تعالى : «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاً تَذكَّرُونَ» (6).

وقال تعالى : «ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ» (7) .

وقد يستعمل الخلق في بعض تلك الموارد بلحاظ آخر .

والنفس إمّا أن يُراد به الذّات المركّبة من الروح المتمثِّلة في آدم علیه السّلام، وهو الإنسان الأوّل الذي انتشر منه سائر أفراد البشر ، كما عليه الأديان الإلهيّة وغيرها ، وإن كان المادّيون الملحدون على خلاف ذلك.

أو يُراد به الروح الذي هو من عالم الأمر ، وبه يحيا الإنسان ويتشّرف به

ص: 212


1- سورة المؤمنون : الآية 78
2- سورة الأنعام : الآية 133
3- سورة المؤمنون : الآية 42
4- سورة الأنعام: الآية 141
5- سورة الرعد : الآية 12
6- سورة الواقعة : الآية 62
7- سورة العنكبوت : الآية 20

ويبلغ إلى عالم القدس ، وفيه قال تعالى : «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (1).

وقيل : المراد من النفس الواحدة هو خلقهم من نوع واحد من النفس وهي النفس الإنسانية .

وقيل أيضاً : المراد به الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي والبدني، وهي الحقيقة الإنسانية المؤلّفة من نفس و بدن . وقد سبق الكلام في ذلك عند قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (2)، فراجع .

قوله تعالى : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع» .

المستقرّ (بفتح القاف) على القراءة المعروفة، فهو من قرّ في مكانه يقرّ قراراً إذا ثبت ثبوتاً ، اسم مكان ، أي محلّ القرار والإقامة ، كقوله تعالى : «وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَر»(3). وقوله تعالى : «جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً»(4).

فيكون المستودع بمعنى موضوع الوديعة ومحلّ الاستيداع ، اسم مكان أيضاً ، وقد وقعا في هذا المعنى في قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلِّ فِي كِتَابٍ مُبِينِ»(5)، وعليه يكون في الكلام حذف وإضمار .

وقرئ - بكسر القاف - فيكون اسم فاعل، وعلى هذه القراءة يكون

ص: 213


1- سورة الحجر : الآية 9
2- سورة النساء : الآية 1
3- سورة البقرة : الآية 36
4- سورة غافر : الآية 64
5- سورة هود: الآية 6

(ومستودع) بفتح الدال اسم مفعول ، والتقدير فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع لم يستقر.

ويُحتمل أن يكون كل منهما مصدراً ميمياً، بمعنى الاستقرار والاستيداع والخبر محذوف ، أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض ، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض .

وقد ذكر المفسِّرون في الآية معانٍ متعدّدة :

منها : هو الذي أوجدكم من نفس واحدة واستعمر بكم الأرض، وهي مشغولة بكم إلى حين انقراضكم، فلا يزال بعضكم مستقرّاً فيها وبعضكم مستودعا في الأصلاب والأرحام ، وهو في طريق الاستقرار فيها .

ومنها : هو الذي أنشأكم من نفس واحدة أي من نوع واحد من النفس وهي النفس الإنسانية ، أو من نوع واحد من التركيب النفسي والبدني وهي الإنسانية المؤلفة من نفس وبدن إنسانيين .

ومنها : المراد بالمستقرّ الأرحام ، وبالمستودع الأصلاب .

ومنها : المستقرّ هي الأرض ، والمستودع القبر .

ومنها : إنّ المستقرّ هو الرحم ، والمستودع الأرض والقبر .

ومنها : المستقرّ هو الروح ، والمستودع هو البدن .

وغير ذلك من الوجوه التي لا يخفى ما فيها من الضعف، وأنّ بعضها يوجب بُعد الآية عن المعنى السامي لها .

والظاهر إنّ المستقرّ والمستودع يرجعان إلى اعتبار كلّ فرد ، فإنّ كلّ إنسان بدنه مستقرّ لروحه، وهي مستودع أي وديعة من الله تعالى . بل يمكن أن يكون المراد بالمستودع المعنى الشامل لجميع المصاديق من كلّ جهة.

وعلى أيّة حال، فإنّ الآية ترشد إلى حقيقة واقعية تختصّ بالإنسان وهي أنّ هذه الحياة الدنيويّة التي جعلها الله تعالى محلّ عيش الإنسان، أستعمره فيها إنّما

ص: 214

يدور أمرها بين حالتي الاستقرار برهة، والاستيداع برهة أُخرى، فلا الاستقرار دائمي ولا الاستيداع كذلك ، فلابدّ أن يكون الأخير راجعاً إلى الأوّل ، ثمّ إنّ الجميع يسير إلى البقاء الدائمي إمّا الجنّة والسعادة ، أو النار والشقاء، وهذا المسير تكويني لا اختياري، وإن كان المقصد ومحل الاستقرار الدائمى اختيارياً، وبذلك يمكن الجمع بين الأقوال.

قوله تعالى : «قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ».

تذييل يبيِّن عظمة الخالق وخلقه الذي يسرد سبحانه جملة منه في تلك الآيات الكريمة ، فلا يمكن درك أسرارها ورموزها ورقائقها إلّا لمَن يفهمها حقّ الفهم، بالنظر في دلالاتها وخصوصيّاتها نظر اعتبار ليعرف أنّها دلائل وبراهين تدلّ على وحدانيته في الخلق والتدبير ، وسعة علم خالقها، وحكمته التامّة، وقدرته وفضله ورحمته التي وسعت جميع مخلوقاته ، ولأجل ذلك فصّلها سبحانه تفصيلاً ليستفيد منها الإنسان المتفقّه الفطن الذي يدقق النظر فيها . فإنّ الفقه هو العلم مع استعمال الفطنة والنظر والفكر بدقّة ، ولذا لا يطلق عليه تبارك وتعالى .

والظاهر أنّ الآية ترجع إلى جميع ما ورد في الآيات المتقدِّمة ، ولا تختصّ بالأخيرة منها كما يظهر من بعض المفسِّرين ، فإنّ التفصيل يرجع إلى تلك الآيات الكونيّة والأنفسية التي سردها سبحانه فيما سبق ، ولعلّه لذلك ورد لفظ (يعلمون) فى الآية السابقة، لأنّ الاهتداء بالنجوم يكفي فيه العالم الظاهري بطرقها ومسارها ، وأمّا دلالتها على الخالق وصفاته العليا، فإنّه يحتاج إلى الفطنة والفهم الخاص، وسيأتى فى البحث الروائى ما يدل على ذلك ، فراجع .

المراد من السماء والماء

قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً».

تفصيل لبعض الآيات الكونية التي تمسّ حياة الإنسان، وتختصّ بالعيش

ص: 215

في هذه الأرض ، وهي من النِّعم المتواردة التي تدلّ على عظيم فضله وإحسانه سبحانه ، وحسن تدبيره منها إنزال الماء من السماء الذي هو سبب الحياة ، كما تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ»(1).

والمراد بالسماء هنا مطلق جهة العلوّ ، فإنّ كلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء ، ولأجل ذلك يطلق على السحاب ، فيكون المراد بالماء هو المطر .

قوله تعالى : «فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ» .

التفات من الغيبة إلى التكلّم بنون العظمة إظهاراً للمهابة، واعتناء بشأن المورد ، والفاء للتعقيب ، كما أنّ الباء للسببيّة . والنبات والنبت واحد وهو ما يخرج من الأرض من الناميات مطلقاً، وإن اختصّ فى العرف بما لا ساق له ، أو ما يختصّ بما تأكله الحيوانات .

أي وأخرجنا بسبب الماء الذي أنزلناه من السماء كلّ شيء نام له الاستعداد بالخروج من الكمون إلى الظهور فيشمل كلّ شيء نباتي من النجم والشجر وغيرهما من الأصناف المختلفة من حيث الكمّ والكيف والخواصّ والآثار ، بل يمكن شموله للجهات النباتيّة الموجودة في الإنسان والحيوان العموم (كلّ شيء) .

والآية الشريفة تدلّ على أنّ السبب في الإنبات هو الماء الذي أنزله الله تعالى من السماء، فكان هناك سببان؛ أحدهما قريب مادّي وهو الماء ، والآخر هو علّة العلل الذي تنتهى إليه جميع الأسباب ، وهى سُنّة من سنن الحياة التي لا تخرج عن قانون الأسباب والمسبّبات، وهو تعالى القادر على إيجاد المعلولات بدون أسبابها ، ولكنّه أبى أن يجري الأُمور إلّا بأسبابها ، وتقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق

ص: 216


1- سورة الأنبياء : الآية 30

بهذا الموضوع ، وسيأتي تتمة الكلام .

قوله تعالى : «فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً» .

تفصيلٌ بعد إيجاز اهتماماً بشأنه، وبيان لحقيقة خروج النباتات وكيفيّة خلقها بإخراجه سبحانه الخضر من النباتات الذى يعدّ المادّة الحياتيّة له .

والخضر: قيل إنّه بمعنى الأخضر ، كعور، وأعور ، والمعنى أخرجنا من النبات شيئاً أخضر قد تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبَّة ، ويلازمه أن يكون غضّاً طريّاً ، فمَن فسّره بالأخير إنّما يكون باللّازم . والضمير (منه) يرجع إلى النبات ، كما عرفت .

وقيل : إنّه يرجع إلى الماء ، فيكون بدلاً من أخرجنا الأوّل .

وبناءً عليه يتضمّن الكلام معنى بديعاً، وهو إخراج النبات من الماء الحلو الأبيض في رأى العين له الأصناف والثمار المختلفة في الطعم واللّون، كما تدلّ عليه آيات أُخرى، مثل قوله تعالى : «یُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضُلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأكل» (1).

والظاهر إنّ الآية الكريمة تُشير إلى معنى أدقّ ممّا ذكروه لم يتوصّل إليه العلماء إلّا في العصور المتأخِّرة، وهو إخراج المادّة الخضراء من النبات وإن كان أحد أسبابها الماء أيضاً، وهذه المادّة هي سرّ حياة النبات، وبها تتمّ تغذيته بطريقة معيّنة ذكرها علماء النبات، تدلّ على عظيم صنع خالقها وحكمته البالغة وحسن تدبيره ، فالمستفاد من الآية الكريمة أمور :

الأوّل : إخراج المادّة الخضراء التي هي سرّ حياة النبات وبقائه ونموه وتكاثره ، على ما فصّله العلماء فى الكتب العلميّة .

ص: 217


1- سورة الرعد : الآية 4

الثاني :كون النبات غضّاً طريّاً بسببه .

الثالث : كونه سبب البهجة والانبساط في النفوس والراحة في الأبدان ، كما هو المعروف .

الرابع : يخرج منه الحَبّ المتراكب كما تدلّ عليه الآية التالية .

والمفسَّرون وإن اختلفوا في تفسير الآية الكريمة، لكنّه يرجع إلى ما يحصل لهم فى بدو النظر فيذكرون أحد اللّوازم لهذه المادّة .

قوله تعالى : «وتُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً» .

التراكب من ركب وهو انعقاد الحَبّ بعضه فوق بعض ، والمراد به النبات المزدان بالحبّ المتراكب ، كالسنبل وغيره والكلام فى ضمير (منه) كالكلام في سابقه .

قوله تعالى : «وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ».

النخل معروف يستعمل في المفرد والجمع ، كما أنّ جمعه نخيل أيضاً . و(من) طلعها بدل ممّا قبله بدل بعض من كلّ ، والطلع أوّل ما يخرج من النخلة في أكمامها يعتبر بمنزلة زهرها ومنه ثمرها . والقنوان جمع قنو - بالكسر -وهو العذق - بالكسر أيضاً - وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب، والسنبلة من القمح . وقنوان مفرد يستوي فيه مثناه وجمعه ، كصنو وصنوان وهو ما يخرج من أصل الشجرة من الفروع - ورئد ورئدان بمعنى مثل . وقيل إنّه لم يأت بمفرد يستوي مثناه وجمعه إلّا هذه الأسماء الثلاثة .

و (دانية) بمعنى قريبة من التناول ، أو سهلة القطوف ، والجملة مبتدأ وخبر قطعت ممّا قبلها لما في تجريدها من عظيم المنّة والنّعمة لتدلّ على الثبوت والاستغراق . ولأنّ النخل وثماره معروف عند العرب ، وعليها قوّتهم، ولها شبه

ص: 218

بالتفكه كالعنب ، فناسب الاعتراض بها بينهما .

قوله تعالى : «وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ» .

تنويه بشرف الأعناب بعد ذكر النخيل وأهميّته . وفي ذكر الجنّات لما فيه من إثارة البهجة في النفوس، ولأنّ الانتفاع بهذا الجنس لا يتحقّق إلّا عند اجتماع طائفة من أفراده، ولتكاثفها بحيث يستر بعضه بعضاً، صارت الجنّات متعدّدة .

وقد اختلفوا في إعراب هذه الآية :

فقيل : إنّها على النصب عطفاً على نبات ، فيكون تقدير الكلام، ونخرج منه - أي الخضر - جنات من أعناب، وهي القراءة المعروفة .

وقيل : إنّها على الرفع على الابتداء، ونسبت هذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السّلام وهو وجيه اهتماماً بشأن هذا النوع من النبات ، ويأتي مزيد بیان .

قوله تعالى : «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» .

نصب على الاختصاص لكثرة نفعهما ، والزيتون وزنه فيعول دون فعلول القلّته ، والرّمان فعال دون فعلان وهما شجران معروفان وثمرتهما كثيرة النفع. وتعرفهما العرب بأنّ ورقهما يشتمل على الغصن من أوّله وآخره .

قوله تعالى : «مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهِ».

حال من مجموع الزيتون والرمان ، والمراد بهما المشاكل وغير المشاكل فإنّ لكلّ واحد منها أنواعاً مشاكلاً في بعض الصفات وغير المشاكل في بعض ،آخر حتّى كثرت أصنافهما، بحيث يتشابه بعضها ولا يشتبه ، كما أنّ بعضها الآخر يتشابه حتّى يشتبه كما هو المعروف عند الناس لاسيما أهل الاختصاص ، وهو من

ص: 219

الآيات الإلهيّة التي تدلّ على عظمة خالقها، وعلمه الأتمّ وحكمته المتعالية ، وكمال قدرة مبدعها جل شأنه، وما أعظمه من كتاب إلهي في بيان الحقائق؟!!

قوله تعالى : «انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ».

خطاب يعمّ جميع الناس لما فيه الاعتبار، ويدعو إلى التأمل في أثمار تلك النباتات وخصوصيّاتها ، فلابدّ أن يكون النظر ذا فائدة للناظر يقرّ بخالقها ويعترف بصفاته الكمالية ويطيعه فيما يأمره ، به ويجتنب عمّا يوجب البُعد عنه عزّ وجل وقد خصّ سبحانه من حالات تلك النباتات حالة تلبّسها بالثمر ، وحالة نضجها إذ فيهما يظهر حكمته تبارك وتعالى، وحُسن تدبيره ولطفه بمخلوقاته، وهي صفات متعالية تدلّ على وحدانيته الكبرى وربوبيّته العظمى . ولما لهذه الحالة من الجمال والبهاء للنبات .

والآية الشريفة تدلّ على وجوب النظر في المخلوقات للاهتداء بها إلى خالقها وعظيم شأنه .

قوله تعالى : «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

تأكيد على سرد تلك النِّعم التي هي آيات يستفيد منها القوم المؤمنون الذين ينظرون فيها نظر بصيرة، فيهتدون بها إلى الإيمان بخالقها وعظيم صفاته ، فإنّها دلائل قويمة، وبراهين عظيمة تدلّ على توحيده في الخلق والتدبير ، وإليه ينتهي النظام الكونى العام .

وأمّا الآيات التدوينية التي استطردت تلك الآيات التكوينيّة ، فهى آيات فى أعلى الفصاحة، واشتملت على وجوه من البلاغة، وتضمّنت من دقائق الكلام فأصبحت من البراهين الساطعة الدالّة على الوحدانية الكبرى والربوبيّة العظمى، واتصاف الخالق العظيم بالصفات الكمالية، وهي من الحجج الدامغة على الكافرين

ص: 220

المستكبرين على الحقّ المعاندين له .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ»

قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ» .

بيان لبعض ضروب الشرك بعد بيان دلائل التوحيد، وسُبل الهداية التي من أعظم سننه على خلقه، وقد ذكر سبحانه أنّها آيات لقوم يعلمون ، ولقوم يفقهون ، ولقوم يؤمنون ، وفيه التحريض على التعلّم والتفقّه وهما يدعوان إلى الإيمان ، ولذلك كان الخطاب في هذه الآية بأسلوب الاستنكار والغرابة المستفاد من التقديم والتأخير في النظم ، فقد كان النكارة حيث جعلوا الله الشركاء لا مطلق وجودها ، ثمّ الإنكار الثانى أن جعلوا الجنّ شركاء ، فلو قال : جعلوا الجنّ شركاء لله لما أفاد هذا المعنى ، بل دلّ على أنّ الجنّ شركاء الله لكونهم جنّاً، مع أنّ الآية تدلّ على نفي الشرك الله سبحانه من أيّ جنس كان الذي هو المنكر على كلّ حال .

وكيف كان ، فقد قابلوا الإحسان والامتنان بأسوأ الظلم والعصيان ، وعاملوا بارئهم ومنشئ أرزاقهم بالاستكبار والطغيان، حيث جعلوا له سبحانه شركاء في الإلوهيّة والربوبيّة والعبادة ، ووسموه تعالى بأوصاف يتنزّه عنها ويجلّ عن نسبتها إليه ، لأنّها من سمات الحدوث والإمكان.

والجنّ على النصب ، قيل إنّه مفعول أوّل لجعلوا ، ومفعوله الآخر شركاء، والله جار ومجرور متعلّق بشركاء، أو قيل : إنّه بدل من شركاء، والله في موضوع المفعول الثاني . وقيل : إنّ الله وشركاء مفعولاً جعل.

وقرئ بالرفع على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر ، كأنّه قيل مَن هُمّ؟ فقيل : الجن ، فيكون شركاء مفعول أوّل و (لله) في موضوع المفعول الثاني ، وقرئ بالجر على الإضافة التي هي للتبيّين ، وفائدة وجه التقديم استعظام اتّخاذ الشركاء الله من أي جنس كان ، كما عرفت آنفاً.

وقد اختلفوا في المراد بالجنّ :

ص: 221

فقيل : إنّهم الشياطين ، كما ينسب إلى المجوس القائلين بإلهين إله الخير وإله الشرّ ، وقد نسب إلى ابن عبّاس إنّه قال : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إنّ الله تعالى خلق الناس والدواب والأنعام والحيوان . وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور ، فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون النوايا الخبيثة في النفوس والفساد إلى الأرواح البشرية، ولا يختصّ ذلك بالمجوس، بل كلّ من يعتقد بإلوهية إبليس وهمّ الزنادقة أيضاً.

وقيل : إنّه الجنّ المعروف المقابل للملائكة والإنسان، ويدلّ عليه قوله : «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ»(1).

وأنّ عبادة الجنّ معروفة عند الأُمم ، وعن بعض العرب أنّهم قالوا إنّه تعالى صاهر الجنّ فكان منهما الملائكة .

وقيل : إنّه الملائكة وتسميتهم جنّاً لاجتنانهم واستتارهم ، وقد فسّروا الجنّة فى قوله تعالى : «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» بالملائكة ، وقالوا : إنّهم بنات الله سبحانه ، فالتسمية إمّا حقيقى لأنّهم من العوالم الخفية ، أو مجازي .

وأقرب الأقوال هو الثاني ، للآية الشريفة المتقدِّمة ، وقوله تعالى الآتي في هذه السورة : «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ»(2)، وقد كانت طاعة الشيطان الذي هو رأس الجنّ ورئيسهم وعبادته معروفة عند الأُمم والأقوام الغابرة، وبقيت في بعضها حتّى العصر الحاضر.

كما أنّ الآيات القرآنية قد بيّنت عقائد الإنسان المختلفة وإن لم تذكر أسماء الأقوام والأُمم إلّا نادراً، فقد ذكرت عبادة الجمادات ، وعبادة الملائكة ، وعبادة

ص: 222


1- سورة سبأ : الآية 40 - 41
2- سورة الأنعام: الآية 121

الإنسان ، وعبادة الأفلاك والعلويات ، وعبادة السفليّات، وهذه الآية تبيِّن عبادة الجنّ الذي كان معروفاً عند الناس ، ولا ينافي ذلك أن تكون الآية الشريفة تشمل جميع أنواع عبادة غير الله تعالى، فتكون منكرة مطلقاً ومستبعدة بعد سرد جملة من الآيات التكوينيّة التي تدلّ على عظيم امتنانه على الإنسان .

قوله تعالى : «وَخَلَقَهُمْ» .

جملة حاليّة تدلّ على شناعة جعلهم الشركاء الله تعالى وبطلانه ، لعلمهم بمضمونها ، أي إنّ الله تعالى قد خلقهم وما أشركوا به فلا تأثير لهم في شيء من الموجودات ، ولا ريب أنّه ليس من يخلق كمن لا يخلق ، فالآية الكريمة تبيِّن غاية جهلهم وتكون رداً عليهم.

قوله تعالى: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

مادّة (خرق) تدلّ على التصرّف في الشيء على سبيل الفساد كالثقب وغيره، كما في قوله تعالى : «أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا»(1). وهو ضدّ الخلق الذي هو فعل الشيء بتقدير ورفق، فيكون الخرق فعل الشيء بغير تقدير ونظام ، ومنه الخرق (بالضم) وهو الحمق ، كما أنّ منه خرق (بفتح الراء) بمعنى الكذب والاختلاف ، يقال : خلق الكلمة واختلقها واخترقها إذا ابتدعها كذباً، وهذا هو المراد به في المقام .

و استعمال كلمة (خرقوا) من أدقّ البلاغة التي يختصّ بها التنزيل ، فإنّه يدلّ على معنى الشيء بما يدلّ على تزييفه ، كما أنّ في مقابلة (خلقهم) الذي يدلّ على فعل الشيء بتقدير، يدلّ على إنّ خرقهم إنّما هو فساد محض وباطل صرف ، فكان

ص: 223


1- سورة الكهف : الآية 71

اتّخاذ الشركاء منهم فعلاً بغير تقدير ونظام . كما أنّ قولهم باتّخاذه سبحانه البنين والبنات إنّما هو قول صادر عن عمىً وجهالة .

وقد أكّد ذلك بقوله تعالى : «بِغَيْرِ عِلْمٍ» فإنّه يدلّ على انسلاخهم في خرقهم هذا عن كلّ فكر وصواب، وفى تنكير (علم) الدلالة على سلب العلم عنهم في جميع شؤونهم في العقيدة والقول، وبُعدهم عن العقل، فقد قاموا بما يدلّ على الازدراء بمقام الإلوهيّة والربوبيّة، قولاً وفعلاً، كما حكى سبحانه ذلك عنهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، منها ما ذكره تعالى عنهم: «وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِنُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» (1).

وقيل : المراد بالبنين والبنات همّ الملائكة ، وقد سمّوهم بنات الله . لكن القول بالتعميم ليشمل الملائكة وغيرهم ممّا يوجد فى سائر الملل ، كالبراهمة والبوذية، فإنّهم يقولون بما هو نظير ما قالته النصارى واليهود ، مما دلت عليه الآية الشريفة المتقدّمة، هو الأولى .

قوله تعالى: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ».

تنزيه له سبحانه عن جميع مقالاتهم الفاسدة ، فقد تنزّه تنزيهاً لائقاً به عزّ وجلّ ، وتعالى عن كلّ نقص، وتباعد عمّا يصفونه من أن يكون شريك له من بنين وبنات ، فهو الله الواحد الأحد المتّصف بجمع الصفات الكمالية، المنزّه عن النقائص والسلوب ، فهو المتفرّد بالخلق والتدبير .

وقد تقدّم ما يتعلّق بالتسبيح ، والمراد بالعلوّ والتعالي البُعد عمّا لا يليق بساحته ، فإنّ كلّ ما ميّزه الإنسان به فهو مردود عليه ومخلوق له . والآية تثبت

ص: 224


1- سورة التوبة : الآية 30

التنزيه التامّ اللّائق بذاته المقدّس، فكان ما وصفوه عزّ وجلّ باطلاً.

قوله تعالى : «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».

معنى البديع كلفظه مّما يجلب إليه الأنظار إن كان من صنع المخلوق ، فكيف بما إذا كان من صنع الخالق، فإنّه ممّا تتحيّر فيه العقول والأفكار ، وقد ذكر في القرآن المجيد مقروناً بالسّماوات والأرض ، وهو أخصّ من الخلق والإيجاد والتكوين، فهو عبارة عن إنشاء الشىء بلا مادّة ولا زمان ولا آلة ولا اقتداء بالمثل والنظير، وهو من الأُمور الإضافية التشكيكيّة وعلى مراتب ولكن فيه سبحانه على أتمّها وأعلاها ، ويمكن أن يكون في شيء بدائع كثيرة محيّرة للعقول . وفي إثبات هذا الوصف له عزّ وجلّ يدلّ على كماله من حيث العلم والحكمة والقدرة وغناه عمّا سواه تعالى .

وهو من أسماء الفعل، وهي من أجلّ أسماء الله الحسنى ، ومن كان كذلك يستحيل أن يكون له بنين وبنات ، والآية تثبيت لما يدلّ عليه قبلها، وجواب عمّا اتّخذه المشركون من الشركاء.

و(بديع) إمّا على النصب على المدح، أو الجر على أنّه بدل عن الاسم الجليل . وإمّا بالرفع فهو على ثلاث وجوه على أنّه خبر لمبتدأ محذوف ، أو فاعل تعالى ، ويكون إظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم ، أو لتوسّط الظرف بينه وبين الفعل اهتماماً ببيانه . أو مبتدأ خبره قوله تعالى الآتي .

قوله تعالى : «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ» .

جواب عن مقالتهم الفاسدة التي نسبوا إليه البنين والبنات ، فإنّه لا سبيل لتحقّق ذلك إلّا باتّخاذ الصاحبة ولم تكن له صاحبة فأنّى يكون له ولد ؟! وجملة (لم تكن له صاحبة) حال مؤكّدة لوجه الاستحالة ، وقرئ ( ولم يكن بتذكير الفعل

ص: 225

ویاتی وجهه.

قوله تعالى : «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» .

استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة ، أى أنّى يكون له ولد وهو خلق كلّ شيء، ومنه ما نسبوه إليه من الولد والبنت ، وهو محالٌ لعدم المجانسة بين الخالق والمخلوق.

قوله تعالى : «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .

بیان لعظیم علمه سبحانه بما خلق ، كما قال تعالى : «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ»(1). ولا ريب أنّه لو كان له ولد لعلم به وهدى الناس إليه . وهو يدلّ على أنّ علمه تعالى بكلّ شيء ذاتي له لا يماثله علم أبداً، ولا سبيل للجهل إليه، فما لا يعلمه باطل ، كالولد الذي لا يعلمه .

والمستفاد من الآية الشريفة بطلان اتخاذ الولد من وجوه عديدة: .

الأوّل : إنّ الولد مناط الحاجة إلى تكثير النوع، ولا يعقل الحاجة مطلقاً بالنسبة إليه عزّ وجلّ، فيستحيل له الولد ، لأنّه بديع السماوات والأرض بأجزائها و جزئيّاتها، فلا يبقى موضوع للولادة الحقيقيّة بالنسبة إليه سبحانه وتقدّس .

الثاني : إنّ الولادة من صفات الأجسام، ومبدع السماوات والأرض ليس ،جسم ولا شيء يماثله من أجزائهما، حتّى يكون والداً. وكيف يكون له صاحبة أو بنون وبنات .

الثالث : إنّ الولادة إنّما تكون بين زوجين من جنس واحد وهو عزّ وجلّ متعال عن مجانس ، فلا تكون له سبحانه صاحبة ، فلا تصحّ الولادة .

ص: 226


1- سورة الملك : الآية 14

الرابع : إنّه ما من شيء إلّا وهو تعالى خالقه وفاطره ، والولد هو جزء من الشيء، والمماثل له لا يكون مخلوقاً له البتة .

الخامس : إنّه تبارك وتعالى يخبر بأنّه لا صاحبة له ولا ولد ، ومثل هذا الخبر لا سبيل للجهل إليه ، لأنّه بكل شيء عليم .

السادس : إنّه تعالى غنيٌّ بالذات عن كلّ شيء، والولد إنّما يطلبه المحتاج وهو منزّه عن الحاجة .

ما يتعلق بالآية الشريفة: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ»

قوله تعالى : «لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ».

صفة أُخرى من صفاته العليا ، وهي كناية عن تعاليه عن الجسميّة ولوازمها وتنزّهه سبحانه عنها ، وتعتبر من مقوّمات المعبود الحقّ ، فهو الإله الذي لا تدركه الأبصار، ويكون سرّاً غيبيّاً حاضراً غائباً، فلا يتّصف به غيره سبحانه .

والآية الكريمة إنّما وردت لدفع ما قد يتوهّمه بعض ذوي الأفهام الساذجة لاسيّما المخاطبين المشركين من أنّه إذا كان سبحانه وكيلاً، فلابدّ من أن يكون أمراً جسمانيّاً كسائر مَن يتصدّى للأُمور والأعمال الجسمانيّة، فقد أثبت لنفسه بأنّه لا تدركه الأبصار .

والبصر يُطلق على الجارحة ، وعلى القوّة التي فيها، كما يُطلق على البصيرة . واختلف المفسِّرون في الإدراك :

فقيل : إنّه الوصول إلى الشيء.

وقيل : إنّه الرؤية .

وقيل : إنّه الإحاطة بالشيء وليس بمعنى الرؤية .

والحقّ إنّها من المتلازمات، إلّا أن يكون هناك مانع عن تحقّق أحدها ، فإنّ الإحاطة به سبحانه من جميع الجهات مستحيلة، فيكون المراد لا تصل إليه الأبصار بالرؤية، وهو المناسب لكلمة البصر ، وكم لهم من اختلاف في معاني

ص: 227

الألفاظ ، فيذكرون المتلازمات على أنّها من المعاني ؟!!

وكيف كان، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على نفي رؤيته مطلقاً لا في الدُّنيا ولا في الآخرة، وعن جميع مخلوقاته سواءً كان لها أبصار أو لا، وعن جميع الأفراد سواء كان رسولاً نبياً أو فرداً عادياً .

وما ورد من أنّ الرسول الله صلّي الله علیه و آله رآه ليلة المعراج، أو سوف يراه العباد يوم التناد فهو مردود؛ لكونها أخبار آحاد وأنّها معارضة للكتاب العزيز والسنّة المطهّرة التي هي أقوى سنداً وأكثر عدداً، وعليه مذهب أهل البيت علیهم السّلام، وهو معتقد المعتزلة، بخلاف الأشاعرة الذين اختلفوا في تحقّقها ، وسيأتي بعض الكلام إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ».

بيان إحاطته عزّ وجلّ لمخلوقاته إحاطة علميّة تامة، وفيه دفع لما قد يتوهّمه من أن عدم درك الأبصار له عزّ وجلّ، يستلزم انقطاعه سبحانه عن مخلوقاته ، وهو الذي يصدر من أصحاب الفكر المادّي الذين أخلدوا إلى الدُّنيا وركنوا إلى المحسوسات ، فإنّ فى فكرهم إذا انقطع شيء عن الحسّ، وارتفع عن تعليق الأبصار به ابتعد عن الاتّصال الوجودي به الذي يعتبره هؤلاء هو في الشعور والإدراك والحكم . وعلى ذلك قالوا بأنّه تعالى انقطع عن مخلوقاته فإنّه لا تدركه الأبصار ولم يبصر شيئاً.

المناط والجملة المباركة تبيِّن إحاطته العلمية بمخلوقاته ، وأنّه سبحانه لم ينقطع عنها ، وإنّما ذكر درك الأبصار لأنّ بها يستشعر بالموجودات، فلا تخفى عليها المدرَكات . وإن كان المراد بها فيه سبحانه عدم خفاء حقائق المخلوقات وأعمال العباد عليه عزّ وجلّ، فهو يحيط بها إحاطة علميّة وقيوميّة مطلقاً ، فليس المراد أنّ له تبارك وتعالى بصراً كأبصارنا حتّى يتنازع فيه أنّه بالرؤية أو بالعلم .

ص: 228

المراد من اللطيف والخبير

قوله تعالى : «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .

استئناف سيق لوصفه تبارك وتعالى بما يتضمّن التعليل لما تقدّم . واللّطيف من أسمائه الحسنى ، وقد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع ، معرّفاً باللام فى موضوعين؛ أحدهما المقام، والآخر قوله تعالى: «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (1). وبغير اللّام في خمسة مواضع ، ومقترناً مع الخبير في خمسة منها أيضاً.

وأغلب المفسِّرين على أنّ المراد باللّطيف في المقام هو الرقيق النافذ في الأشياء، وجوّز غير واحد أن يكون ما ذكر في هذه الآية من باب اللّف والنشر ، فإنّ اللّطيف يناسب كونه غير مدرَك (بالفتح) ، والخبير يناسب كونه تعالى مدرِكاً (بالكسر) ، فالله جلّ جلاله لطيف عن أن تدركه الأبصار.

واللّطافة التي يتّصف بها سبحانه غير ما تتّصف به الأجسام، فهي التي لا يمكن أن يتّصف بها إلّا الله تعالى، فهو النور المطلق الذي يجلّ عن إدراك البصائر والأبصار له ، بل يعزّ عن شعور الإسرار فضلاً عن الأفكار ، فإنّه يتعالى عن مشابهة الصور والأمثال ، ويتنزه عمّا تتّصف به الأجسام من الأشكال والأكوان ، فله سبحانه كمال اللّطافة، وغيره يتّصف به بالنسبة إلى ما هو دونه ممّن يوصف بالكثافة . ولولا القرينة في المقام، لكان توصيفه تبارك وتعالى باللّطيف مقابل الكثيف ليس على الحقيقة، فلابدّ أن يكون المراد به هو الإحاطة بما سواه بكلّ معنى الإحاطة وبحقيقتها، فهو سبحانه شاهد على كلّ شيء لا يفقده ظاهره ولا ،باطنه، فيكون توصيفه بعده بالخبير على غاية الكمال ومنتهاه، فهو ذو علم وخبرة ، عالمٌ بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء ولا

ص: 229


1- سورة الملك : الآية 14

يحتجب عنه شيء بشيء ، خبير فلا يعزب عن إدراكه اللّطيف والدقيق من مخلوقاته.

وقيل : إنّ المراد باللّطيف هو الذي يعامل عباده باللّطف، وألطافه غير متناهية خفيّها وجليّها ، ظواهرها وبواطنها ، في الأُولى والأُخرى ، ويسري لطفه في مخلوقاته في رفق ورأفة من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون .

والحقّ أن يقال : إنّ لطف - من باب نصر - لطفاً بالضم - يأتي بمعنى رفق ودنا ، وعليه يكون اللّطيف بمعنى الأبّر والأشدّ إحساناً برفق ، فيكون سبحانه ألطف من كلّ لطيف، ومنه قوله تعالى : «اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ»(1) ، وإليه يرجع كلّ من فسّر اللّطيف بالذي يعامل عباده باللّطف ، كما عرفت .

وإن كان من لَطُفَ - من باب حَسُنَ - لطافةً، كان معناه أشدّ تجرّداً من كلّ لطيف ومجردّ، ومنه قوله تعالى : «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (2). فإنّ معناه المجرّد ، فيكون دليلاً على علمه الأتمّ بمخلوقاته، فإنّ كلّ مجرّد عاقل كما هو و ثابت في محلّه . فيكون اللّطيف إشارة إلى تجرّده عزّ وجلّ، والخبير إشارة إلى كونه عالم بذاته ، وقد ورد اقتران الاسمين المباركين في موضعين من القرآن الكريم كما عرفت ، وهو شاهد على أنّ المراد من اللّطيف هو المتجرّد ، وتفسيره بالبرّ الرؤوف المحسن إلى خلقه برفق لا يثبت المطلوب، فيكون تفسير بعضهم له في آية المقام وآية الملك بالرؤوف تفكيكاً لنظم الآية الشريفة ، إلّا أن يكون الداعى لحملهم على ذلك كون اللّطافة من الكيفيّات المحسوسة، فلا يليق بجنابه عزّ وجلّ ، لكن عرفت آنفاً أنّها فيه عزّ وجلّ بالمعنى المطلق ، مع أنّ الرحيم معناه رقيق القلب ، والسمع والبصر معناهما المدرك بالجارحة، وكذا الكثير من أسمائه

ص: 230


1- سورة الشورى: الآية 19
2- سورة الملك : الآية 14

الحسنى ، بل كلّها لا تليق بجنابه تبارك وتعالى ، فلابدّ أن يكون المراد بها غير الذي يطلق على مخلوقاته ، فاللّطافة ونظائرها في كلٍّ بحسبه؛ ففي المجرّدات تجرّدها على مراتبها، وفى مقام الإلوهيّة بما يناسبه، فافهم ولا تغفل .

قوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» .

تذكير للمشركين المستكبرين ، وتنبيه للغافلين بعد ذكر ما يتعلّق بصفات الإله المعبود الأحد، وبعدما قام من الأدلّة على نفي الشرك وما اتّخذه المشركون من الشركاء ، فقد اشتملت الآيات على ما يوجب العلم والهداية من الحجج الباهرة والبراهين الزاهرة التي تبطل دعاوي الكافرين المعاندين ، وتثبت الوحدانية الكبرى وصفاته العليا التي استحقّ بها الإلوهيّة العظمى.

والبصائر جمع البصيرة، وهي البيّنة والدليل الذي يبصر به الشيء على ما هو عليه ، وهي للقلب كالبصر للعين .

وقيل : إنّ الأصل فى هذا الموضوع هو الإدراك في حاسّة البصر الذي يعدّ من أقوى الإدراكات عند العرف .

إلَّا إنّه يمكن أن يُقال : إنّ لكلّ واحد منهما باباً خاصّاً به فإنّ إدراكات السرّ التي هي أيضاً متعدّدة إنّما تكون عن طريق القلب وإبصاره، وهي تحصل من الدلائل والبراهين العلمية ، وأمّا إدراكات الحسّ فهي إنّما تكون عن طريق الحواسّ التي هي من أهمّها العين وإبصارها ، والنيل من خارج الشيء المشهود والجميع إنّما تكون روافد الإدراكات العلمية مطلقاً .

والتعريض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضمير المخاطبة، فيه كمال اللّطف بهم والعناية بشؤونهم، فإنّه الربّ العظيم الذي يرعى شؤون خلقه التي منها إقامة الحجج والبراهين، وإنزال الآيات المتضمّنة لها عليهم، لتكون بصائر لهم تهديهم إلى دين الحقّ ، وتثبت دعائم التوحيد والعقائد الحقّة وما يوجب لهم الفوز

ص: 231

بالسعادة الأبدية .

ويستفاد من الآية الكريمة أنّ العقائد الحقّة لابدّ أن تستند إلى اليقين والبراهين العلمية ولا يكتفى بالظنّ وغيره.

قوله تعالى : «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا».

تثبيت لاختيار الإنسان في الدخول في الهداية أو الضلال ، أي فمَن شاء استفاد من تلك البصائر وأبصر الحقّ وآمن به، فإنّ نفعه يعود لنفسه لنفسه ، ومن عَمِي عنها وأعرض عن الحقّ ودينه ، فإنّ وبال ذلك على نفسه.

والتعبير بالعمى للتنفير عن الإعراض والضلالة، فإنّ الإبصار والعمى كنايتان عن الهداية والضلال ، ومن المطابقة اللّطيفة تعقيب البصائر بالإبصار والعمى .

قوله تعالى: «وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ» .

بيان لرقابته عزّ وجلّ على عباده ، فهو يحصي أعمالهم ويحفظها ليجازيهم عليها ، ويرعى شؤونهم ويدبر قلوبهم ، فهو سبحانه المرجع وإليه المنتهى ، وإنّما الرسول صلّي الله علیه و آله ناصح يبين لهم سبل الهداية، ويوضّح لهم معالم الدِّين الحقّ ، كما أنّه البشير النذير لهم .

قوله تعالى : «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» .

إثبات الإلوهيّة العظمى والربوبيّة الكبرى الله المتّصف بالصفات العليا، والمنزّه عن كلّ نقص وما يبعد عن مقامه العليّ، وقد ثبت ذلك له سبحانه وتعالى سرد شبهات المشركين ودعاوي الكافرين وإثبات زيفها وبطلانها، فيكون ترتيب هذه الآية على الآيات السابقة، من قبيل ترتيب المعلول على العلّة التامّة ، فقد اتّصف سبحانه بالإبداع والانفراد بخلق جميع الأشياء، وإحاطته العلميّة بما

ص: 232

خلق ، فثبت أنّه الله لا إله إلّا هو ربّكم خالق كلّ شيء دون غيره ممّا اتّخذوه شركاء، وبها استحقّ العبادة فاعبدوه عبادة طاعة وذروا عبادة غيره .

وذلكم إشارة إلى المنعوت بجلائل النعوت ، وفيه من البُعد في العظمة والجلال ما لا يخفى . كما أنّ الخطاب للجميع فلا يقتصر على من ذكر فيما سبق .

ثمّ إنّ الآية الشريفة لم تقتصر على انحصار الإلوهيّة به ، وإثبات الربوبيّة له ، إلّا مع البرهان عليهما، فهو تعالى خالق كل شيء من غير استثناء ، فلا خالق غيره على الإطلاق، فيمتنع أن يشاركه أحد في الإلوهيّة ، فإن كل مخلوق خاضع له بالعبوديّة، فلا يعادله فيها، فيستحيل أن يتّصف غيره بالإلوهيّة ، فإذا كان الله سبحانه هو ربّكم وخالق كلّ شيء فاعبدوه إذ لا يستحق العبادة غيره.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّه لا إله يستحقّ تلك الأوصاف الكمالية إلّا هو فلا معبود سواه ، وعلى الإنسان عبادته بالخضوع والخشوع له وطاعته ونبذ الشرك واتّخاذ الشركاء، فإنّه خلاف العبودية المرتكزة في النفوس، المنبعثة عن كونها مخلوقة له، فاطر السماوات والأرض ومبدعهما ، فلا شريك ولا صاحبة ولا ولد له تبارك وتعالى.

وهذه الآيات المباركة بأسلوبها البلاغى الفريد الذي له التأثير الشديد في النفوس المستعدّة، قد اشتملت على براهين متعالية حكيمة ذات دلالات متّزنة متتالية مترابطة، تثبت عقيدة التوحيد بأبهى صورها التي تبتني على انحصار الإلوهيّة في الواحد الأحد، الذي له من الصفات الكمالية العليا التي لا يشاركه غيره فيها ، وقد أثبتت له الوحدانية في الخلق والربوبيّة، فهو الذي يتصرّف في مخلوقاته تصرّف تدبير وتربيب ، فلا يعقل أن يكون المخلوق في مصافّ الخالق ليشاركه في صفاته ، وبذلك تنفى عقيدة الشرك بجميع أنواعه التي تنافي الفطرة المستقيمة، والوجدان الإنساني الذي يدعو إلى الطاعة والعمل بمقتضى العبودية ، فيكون الأمر في قوله تعالى : «فَاعْبُدُوهُ» إرشادياً إلى ما تقتضيه فطرة كلّ مخلوق

ص: 233

المراد من الوكيل

قوله تعالى : «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».

بيان لأعظم صفة من صفاته العليا بعد ثبوت الوحدانيّة في الخلق والتوحيد في الربوبيّة، فهو الكفيل لخلقه، قائم على شؤونهم، فلم ينقطع عن خلقه ولم يغفل عن أعمال عباده ، ويلزم من ذلك أنّه لم يوكل شأناً من شؤونه إلى غيره .

والوكيل من أسمائه المقدّسة الحسني ، وقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع، كلّها بدون التعريف إلّا في سورة آل عمران فقد ورد فيها لفظ (الوكيل) . والمراد به مَن فوّضت الأُمور إليه وكان وكيلاً عليها ، وينحصر المعنى الحقيقي التامّ فيه عزّ وجلّ، فهو الذي يقوم على أُمور خلقه؛ لأنّه سبحانه عالم بشؤون خلقه، وغير غافل عن أُمور عباده يتصرف فيهم ويدبّرها حسب المتعالية ، وهذا الاسم وإن أطلق على غيره سبحانه ، فيقال : فلانٌ وكيل على عقار أو مال ، إلّا أنّ إطلاقه عليه عزّ وجلّ على الوجه الأكمل الأتمّ، فهو الذي يفي بالأُمور الموكلة إليه، وهو ملىّ بالقيام بها وفيّ بإتمامها ، فإذا كان سبحانه مع اتّصافه بالصفات العليا يتولّى الأُمور، فلابدّ من إيكالها إليه عزّ وجلّ، وحينئذ إن تنبه العبد إلى دلالات هذا الاسم المبارك، وأتكل في جميع أموره عليه تعالى ، فإنّه يرى أثره ظاهراً عليه، فيتوفّق في سيره وسلوكه بحوله وقوّته ، وتقوى بصيرته إلى أن يبلغ مقاماً لا يرى لنفسه شيئاً حتّى يكله إلى الله تعالى، وهي المنزلة العليا من التوحيد الحقيقي .

وممّا ذكرناه يظهر السرّ في هذا الاسم المبارك، ومقدار تأثيره في شؤون العبد، ومدى استفادته من معناه ، ولذا أمر سبحانه عباده المؤمنين باتّخاذه وكيلاً، قال تعالى مخاطباً نبيِّه المصطفى صلّي الله علیه و آله: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ» (1) .

ص: 234


1- سورة الفرقان : الآية 58

وقال تعالى : «وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ»(1).

وفي الأدعية القرآنية: «رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»(2).

كما ورد عن الرسول الكريم صلّي الله علیه و آله أنّه قال : (من قال حين يُصبح وحين يُمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظم - سبع مرات - كفاه الله ما أهمّه من أمر الدُّنيا والآخرة)، وقد ورد عن الأئمّة الهُداة علیهم السّلام في هذا الاسم الشريف الشيء الكثير ، فراجع مظانه .

وقيل : إنّ الإكثار منه ينزل السكينة في قلب العبد ما دام مفوّضاً أمره إليه سبحانه ، ويكفيه شرّ ما أهمّه .

قوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ».

تذكير الكافرين ، وتنبيه للغافلين، فإنّ الله سبحانه ربّهم قد ذكر من الحجج والبراهين الساطعة لإثبات الوحدانية الكبرى، وتعيّين الإله الواحد الأحد المعبود الحقّ ، وتوصيفه بما يوجب استحقاقه الربوبيّة العظمى ، كما ذكر من الآيات الدالة على نفى الشريك له سبحانه ، وبطلان الشرك ، وجهالة المشركين وزيف مدّعاهم فاشتملت تلك الآيات الكريمة على ما يوجب العلم والهداية ، وبطلان دعاوي الكافرين المعاندين للحقّ المستكبرين عليه .

والبصائر جمع البصيرة، وهي البيّنة والدليل الذي يبصر به الشيء على ما هو عليه ، وهى للقلب كالبصر للعين . وقيل إنّ الأصل في هذا الموضوع هو الإدراك بحاسة البصر الذي يعدّ من أقوى المدركات عند العرف .

والصحيح أنّ لكلّ واحد منهما باباً خاصاً به ، فإنّ إدراكات السرّ التي هي

ص: 235


1- سورة آل عمران : الآية 160
2- سورة الممتحنة : الآية 4

أيضاً متعدّدة إنما تكون عن طريق القلب وإبصاره، وهي تتحقّق بسبب الدلائل والبراهين العلميّة ، وإدراكات الحس إنّما تكون عن طريق العين وغيرها، والنيل من خارج الشيء المشهود ، فتكون من روافد الإدراكات العلمية مطلقاً.

والتعريض بعنوان الربوبيّة مع الإضافة الى ضمير المخاطبين، فيه كمال اللّطف بهم ، وتمام العناية بشؤونهم ، فإنّ الربّ العظيم الذي يرعى شؤون خلقه التي منها إقامة الحجج والبراهين على الحقّ، وإنزالها عليهم لتكون بصائر لهم تهديهم الى الله تعالى ، وتثبت دعائم التوحيد والعقائد الحقّة ، والدين القويم والتي فيها السعادة والفلاح.

ويستفاد من الآية الكريمة أنّ العقائد الحقّة لابدّ أن تستند إلى العلم واليقين ، وتكون أدلّتها براهين علميّة ، ولا يكتفى بالظنّ فيها والتخمين والوهم.

قوله تعالى : «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا».

تثبيت لاختيار الإنسان فى الدخول فى الهداية والإيمان الحقّ، وليست تلك البصائر ممّا تلجأ الإنسان إليه ، أي فمَن أبصر تلك الدلائل والحجج والبراهين وآمن بالحقّ ، فإنّ آثارها تعود لنفسه ، ومَن عمى عنها وأعرض عن الحقّ، فإن وبال ذلك يكون على نفسه .

والتعبير بالعمى للتنفير عن الإعراض والضلال، فإنّ الإبصار والعمى كنايتان عن الهداية والضلال . ومن المطابقة اللّطيفة تعقيب البصائر بالإبصار والعمى.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ مدار التأثير، إنّما تكون النفس الإنسانية، فهي التي تستفيد من الهداية وتبلغ الكمال وتفوز بالسعادة الأبديّة ، كما أنّها تتأثر بالضلال والبُعد عن الحقّ وتنزل الدركات والهاوية .

ص: 236

قوله تعالى : «وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ».

بيان لوظيفة الرسول ، فإنه صلّي الله علیه و آله البشير النذير المبلّغ لهم أسباب الهداية والناصح لهم ، وأنّ الله هو الحفيظ عليهم، يحصي عليهم أعمالهم، ويحفظها ليجازيهم عليها .

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ».

بيان لمنهج القرآن الكريم في بيان المعارف وإلقاء الحجج والبراهين، وذكر الآيات التكوينية ، وشرح الآيات التدوينيّة، فإنّ الأسلوب هو التصريف في الآيات التي تتّحد في التفنّن العليّ الشأن البعيد الشأو، في فنون المعاني ووجوه البلاغة وأفنان البيان والتصاريف البديعة لبيان الحقائق والمعاني الرائعة .

والتصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتتجمّع فيه وجوه الفائدة ، وتقديم ما يتعلّق بهذه المادّة ، فراجع.

قوله تعالى : «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ».

جملة مستأنفة تبيّن إعراض المشركين واستكبارهم على الحقّ والآيات الباهرات التي تدلّ عليه ، وقد اتّخذ المشركون سُبلاً عديدة في معارضة الرسول الصادع بالحقّ صلّي الله علیه و آله منها ما ورد في هذه الآية الكريمة من أنهم اتّهموه بأنّه صلّي الله علیه و آله تعلّم القرآن من غيره، تقليلاً لشأن ما أنزله الله على رسوله صلّي الله علیه و آله ، إمّا بالإعلام بأنّه من الإنسان لا من الله عزّ وجلّ، أو بأنّه قد تداولته الأجيال واندرست فهى من أساطير الأوّلين فلا يعتمد بما يقوله الرسول صلّي الله علیه و آله.

وممّا ذكرنا يظهر إنّه لا فرق بين أن تكون اللّام للعاقبة أو التعليل ، أو غير ذلك ممّا ذكره المفسِّرون ، وفيه من التهديد والوعيد لهم ، وعدم الاكتراث بهم فليقولوا ما يقولون .

ص: 237

ومادّة (درس) تدلّ على تتابع الفعل على الشيء، أو المعالجة المتكرّرة حتّى يصل الغاية ، أو يذهب أثره ومنه الدرس وهو تناول أثر الكتاب والعلم بالحفظ بمداومة القراءة حتى يصل الغاية بكثرة القراءة والتلاوة حتّى خفّ حفظه ، كما أنّ منه الدروس وهو الانمحاء والزوال ، كقولهم درس الثوب فهو مدروس أى خلق ، وأدرسته أخلقته ، ودرست الدار أي بقي أثرها ، وبقاؤها يقتضي انمحاءها في نفسه ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ستة مواضع :

منها قوله تعالى : «وَدَرَسُوا مَا فِيهِ» (1).

وقوله تعالى : «بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ» (2).

وقوله تعالى : «وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا» (3).

ومنه آية المقام (درست)، بناءً على قراءته بالتأنيث والغيبة فهو من الدروس . قُرئ (درست) وهو بمعنى الدرس أيضاً، وإن كان فيه زيادة وهي المشاركة ، وقرئ أيضاً بفتح السين وسكون التاء ، وعند الجمهور أنّه فعل ماض

للمخاطب .

قوله تعالى : «وَلَنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

تأكيد على أنّه منزل من عند الله تعالى ليبيّن للناس الحقّ ، وأنّه من أهمّ أغراض إنزال الكتاب وتصريف الآيات فيه ، فيستفيد منه كلّ من فيه القابلية والاستعداد، فإنّهم همّ الذين يعلمون كيف يطهرون أنفسهم من أدران الشرك والمعاصي، ويستفيد من الآيات ما تشرح به صدورهم، كما قال تعالى : «وَنُنَزِّلُ

ص: 238


1- سورة الأعراف : الآية 169
2- سورة آل عمران الآية 79
3- سورة سبأ : الآية 44

مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً» (1).

وقد وصفهم بالعلم إيذانا بغاية جهل غيرهم وخلوّهم عن العلم بالمرّة. وهذه الآية تبيِّن الغرض من إنزال القرآن المجيد، وتفاوت المخاطبين في الاستفادة ممّا أنزل وأنّ شرط الانتفاع منه إنّما هو العلم، فالجاهل لا يمكنه الانتفاع لوجود المانع فيه وهو الجهل ، فلابدّ من إزالته لينتفع من الحجج والبراهين التي تضمّنتها الآيات الكريمة التي أُلقيت على المخاطبين بأسلوب بلاغي رائع ينجذب إليه كلّ من سمعها ، وقد جعلها تبارك وتعالى من تصريف الكلام لتشتاق إليها النفوس المستعدّة ، وتحنّ إليها القلوب الوالهة ، فمن يستفيد منها فإنّما يرجع النفع إليه ، ومَنْ أعرض عنها فهو الخاسر في الدارين .

قوله تعالى «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ» .

تأكيد على أنّ ما أنزله الله تعالى على رسوله صلّي الله علیه و آله هو الحقّ الذي يجب إتبّاعه ، وقد جاء الخطاب بعد بيان أحوال الناس في الهداية والاستفادة من البصائر المنزلة ، فإنّهم على فريقين ، فريق قد أفسدوا فطرتهم فلم يبق الاستعداد للاهتداء ، وفريق اهتدوا واستفادوا من الآيات الإلهيّة بعد أن علموا بها . وفي الآية من الوقع في النفوس بعد إلقاء الشبهات من المشركين ، وتثبيت دعائم التوحيد ، والتأكيد على الإتّباع في أمر التوحيد مالا يخفى، وفيها الدلالة على انفراده في الإلوهيّة . وفى التعرّض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة الى ضميره صلّي الله علیه و آله اعتناءً بشأن رسوله العظيم صلّي الله علیه و آله وإظهار اللطف به .

والآية الشريفة من الآيات التربويّة التي تزكّى النفوس وتربّيها بالتربية الإلهيّة التي لا تكون إلّا بإتّباع ما أوحي نبيّه صلّي الله علیه و آله والاعتقاد بإلوهية الواحد الأحد،

ص: 239


1- سورة الإسراء : الآية 82

وأنّ ذلك من شؤون ربوبيّته العظمى .

قوله تعالى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ».

أمر بالإعراض عن أعظم العقبات في سبيل الهداية ، والمانعين عن الرقيّ في سُلَّم الكمال، وهم المشركون الذين حكى الله سبحانه افتراءاتهم ومكايدهم وعدائهم للحقّ وأهله ، وقد أمر تبارك وتعالى نبيه صلّي الله علیه و آله بالإعراض عنهم فلا يبالي بإصرارهم على الشرك ، ولا يعتدّ بأقوالهم ، ولا يلتفت أذاهم ، فإنّ الحقّ هو الذي يعلو مهما فعل المبطلون .

قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا» .

تثبيت لقدرته التامّة ، ونفوذ مشيئته عزّ وجلّ، فلو شاء الله تعالى ما أشركوا ، وهان الأمر على الرسول صلّي الله علیه و آله ، إلّا أنّه مضت سنّته عزّ وجلّ بأن يكون الإنسان مختاراً في عمله وعقيدته ، ليتمّ به نظام التشريع والجزاء، وقد تقدّم الكلام فيه فراجع .

قوله تعالى «وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» .

بيان لوظيفته في أمر الرسالة وتبليغها فإنّما أنت البشير النذير ، ولم يجعلك رقيباً مهيمناً من قبله تحفظ عليهم أعمالهم .

قوله تعالى «وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» .

أي أنت تهديهم وترشد ما يوجب صلاح الناس وسعادتهم في الدُّنيا والآخرة ، ولكنّك لم تكن ممّن تدفع عنهم الضرّ أو تجلب لهم النفع ، فإنّ الله تعالى هو الضارّ النافع .

وفي الآية إشارة إلى أنّه لم يكن الرسول صلّي الله علیه و آله مثل سائر الملوك يحكم فيهم

ص: 240

بالقهر والغلبة ، نعم له الحكم والولاية العامّة على العباد لإرشادهم وإصلاح أُمورهم وتكميل نفوسهم وتزكية أعمالهم، وهذه وظيفة أولياء الله تعالى إذا حكموا .

كما أنّ الآية الكريمة من الآيات التى تقرّر حريّة الدِّين والاعتقاد ووظيفة الرسول والعباد أحدهم بالنسبة الآخر، وأنّ الجميع مكلِّفون بالرجوع الى الهداية الربّانية، والاهتداء بآياته التكوينيّة والتشريعيّة ، لكن الرسول صلّي الله علیه و آله هو الواسطة في بيانه ودعوة الناس إليها ، والحاكم الذي يسوقهم الى الرشاد.

***

ص: 241

بحوث المقام

بحث أدبي حول مفردات الآيات المذكورة :

قوله تعالى : «أَوْ قَالَ أُوحِيَ» معطوف على صلة (من) ، وبدأ أوّلاً بالعامّ وهو افتراء الكذب على الله تعالى وهو عامّ ، ثمّ بالخاصّ وهو افتراء منسوب إلى وحى من الله تعالى .

وقيل : بأنّه معطوف على (افترى) فيكون من عطف التفسير .

ولكنّه ليس بشيء ، لأنّ كون (أو) للتنويع أظهر ، إلّا أن يُقال بأنّ (أو) بمعنى الواو ، وهو بعيد في المقام ، وتقدّم في التفسير ما يرتبط به فراجع.

و(إذ) في قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ» ظرف معمول (لترى) ، و(الظالمون) مبتدأ وقوله تعالى : «فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ» خبره . وجواب الشرط محذوف ، كما عرفت .

والأمر في (أخرجوا) للتوبيخ والتعجيز ، و(اليوم) لمطلق الزمان لا المتعارف ، وهو منصوب ب- (تجزون)، وقوله تعالى: «غَيْر الْحَقِّ» مفعول (تقولون) ، وقيل : نعت لمصدر محذوف تقديره قولاً غير الحقّ.

و (فرادی) منصوب على الحال من ضمير الحال ، وهو جمع فرد على خلاف القياس ، والألف للتأنيث نظير كسالى ، والراء في فرده مفتوحة .

وقيل : إنّه جمع فريد كأسير وأسارى .

والحقّ إنّه يشبه مثنى وثلاث في الاستعمال لبيان مجيئهم متفرِّقين فرداً بعد فرد ، أو وحداناً منفردين عن الأنداد والأوثان، كما يشير إليه ذيل الآية الشريفة .

و(بين) في قوله تعالى : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» قرئ منصوباً، واختلفوا في

ص: 242

تخريج ذلك :

فقيل : إنّها حركة بناء لأضافته مبنيّ .

وقيل : إنّه على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أي تقطع الوصل بينكم .

وقيل : إن الفاعل ضمير المصدر ، ورُدّ بأنّه غير صحيح، وأشكلوا على الردّ أيضاً، فراجع.

وقيل : إنّه الفاعل، وبقى على حاله منصوباً حملاً على أغلب أحواله، واختار بعضهم أنّ يكون الكلام من باب التنازع فاعمل الثاني وهو (ضل) وأضمر في (تقطع) ضميره ، وقرئ بالرفع على الفاعلية .

وكيف كان ، فهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل ، فيكون مصدراً لا ظرفاً لكن أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع .

وأمّا قوله تعالى : «فَالِقُ الإِصْبَاحِ» فقد ذكروا إنّ الفلق والفتق والفرق بمعنى واحد ، وهو الشقّ ، ثمّ قالوا إنّ الفلق بالتحريك ، والفتق – بالفتح - والفتيق كلّها من أسماء الصباح، وذهب الراغب إلى الفرق بين الثلاثة فقال : الفلق شقّ الشيء وإبانة بعضه من بعض، والفتق الفصل بين المتّصلين.

وردّه بعضهم: بأنّ الفلق والفتق والشقّ والفطر ومطاعاوتها تستعمل في الأشياء المادّية في باب الخلق والتكوين وما يقابله من خراب العالم . وأمّا الفرق فيستعمل فى الأُمور المادّية والمعنوية جميعاً.

والصحيح أنّها وإن كانت بمعنى واحد ، ولكنّها تفترق بسبب المتعلّق ، فما ذكره الراغب صحيح من هذه الناحية .

وتقدّم ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ»، ونزيد هنا أنّ القاعدة المعروفة أنّ لفظ الفعل يدلّ على أنّ الفاعل معتن بالفعل في كلّ حين ، وأمّا لفظ الاسم فإنّه لا يفيد التجدّد والاعتناء به ساعة فساعة ، وقالوا في المقام تطبيقاً

ص: 243

لتلك القاعدة : لمّا كان الحىّ أشرف من الميّت وجب الاعتناء بإخراج الحيّ من الميّت أكثر من الاعتناء بإخراج الميّت من الحىّ ، فلذا وقع التعبير عن القسم الأوّل بصيغة الفعل ، وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيها على ذلك .

وهو وجه حسن، وإن كانت الآية الشريفة لبيان المعادلة التي يعتمد عليها عالم الكون والفساد وتثبيتها فيه، فإنّ إخراج الميّت من الحيّ أحد طرفي المعادلة وهو أيضاً كثير وارتباطه بإخراج الحىّ من الميّت واضح كما ذكرنا في التفسير وهي في مقام بيان صورة لطيفة لإخراج الميّت من الحيّ واستحضارها في الذهن بعد عدم إقباله عليه كإقباله على الأوّل .

كما عرفت الفرق بين آية المقام وآية آل عمران التي تقدّمت فيها جملتان فعليّتان بخلاف آية المقام إذ تقدّم فيها اسم الفاعل ، ولذا كان الأصل الإتيان بصيغة اسم الفاعل أُسوةً لأمثاله ، إلّا إنّه عدل عن ذلك المضارع لغرض معيّن ، فراجع .

والإصباح في قوله تعالى: «فَالِقُ الإِصْبَاح» مصدر سُمّي به الصبح.

وقرأ بعضهم (جاعل اللّيل) بالرفع ، واللّيل في القراءتين مجرور بالإضافة . و (سكناً) فعل بمعنى مفعول ، منصوب عند الكثير بفعل دلّ عليه هذا الوصف لا به ، لأنّه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال والاستقبال ، وهو هنا بمعنى الماضي ، كما تشهد به قراءة (جعل) . وإن جوّز بعض النحويين عمله بمعنى الماضي مطلقاً، حملاً له على الفعل الذي تضمّن معناه ، والتفصيل مذكور في محلّه .

و(حسبانا) بالضمّ مصدر حسب - بالفتح - كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب .

وقد عرفت أنّ «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع» إمّا على أنّه اسم مكان أي موضع استقرار وموضع استيداع أو مصدر ، أي فاستقرار واستيداع . وقرئ فمستقرّ - بكسر القاف - اسم فاعل ، وعليه يكون مستودع - بفتح الدال - اسم مفعول .

ص: 244

وفي قوله تعالى : «فَأَخْرَجْنَا بِهِ» الذي هو عطف على (أنزل) التفات التكلّم لإظهار كمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله.

وقيل : إنّ أكثر استعمال الخضر فيما تكون خضرته خلقية .

و (قنوان) جمع قنو - بكسر القاف وضمّها - ولا يفرّق فيه بين المثنّى والجمع إلّا بالإعراب ، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلّا ثلاثة أسماء هذا أحدها ، كما عرفت .

و (جنّات) في قوله تعالى: «وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ» بالرفع على الابتداء من عطف جملة على جملة ، وجوّز الزمخشري العطف على (قنوان) .

وردّه جمعٌ ، فراجع .

وذكروا أن جملة (وقنوان دانية) مبتدأ قطعت ممّا قبلها في الإعراب ، لما في تجريدها من عظيم المنّة والنِّعمة ، وللدلالة على الثبوت والاستغراق .

و(مشتبهاً) منصوب على أنّه حال من الرّمان للقرب، وحذفت الحال من الأوّل ، ويقال إنّه حال من الزيتون لسبقه.

و (ينعه) مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت ، وقيل : جمع يانع .

واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات ، واستعمال أروع الأساليب البلاغية وأنواع البديع ، للدلالة على عظيم الصنع ، وكمال القدرة ، وغاية العلم ومنتهى الحكمة ، فزاد الأسلوب إبداعاً ليتطابق مع بديع الصنع والخلق ، فما أعظمه من خالق مبدع ؟!! .

وقوله تعالى: «شُرَكَاءَ الْجِنَّ» ، قيل : إنّ شركاء مفعول أوّل لجعلوا ، والجنّ مفعول ثان .

وقيل : الجنّ مفعول أوّل وشركاء مفعول ثان لجعلوا الذي هو بمعنى صيروا ، ولفظة الله متعلّق بشركاء، وذكروا في وجه التقدّم استعظاماً لاتّخاذ الشريك الله

ص: 245

تعالى ، ومن أجله قدّم اسم الجلالة على اسم الشركاء ، فكان من حقّه التقديم في الوحدانيّة والطاعة .

وقيل : إنّ الجنّ منصوب على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر ، كأنّه قيل : من جعلوا الله شركاء ، قيل : الجنّ ، أي جعلوا الجنّ ، ويؤيّده قراءة (الجنّ) بالرفع جواباً لمَن قال : من الذي جعلوهم شركاء ، فقيل : هُمْ الجنّ .

وأجاز بعضهم أن يكون الجنّ بدلاً من شركاء ، و (لله) في موضع المفعول الثاني ، وشركاء وهو المفعول الأوّل.

ورُدّ : بعدم صحّة حلول البدل محلّ المبدل منه وشرط البدل أن يكون على نيّة تكرار العامل ، وهو المشهور ، أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول .

و (خلقهم) جملة حالية ، والضمير عائد على الجاعلين .

و (خرقوا) قرئ بتخفيف الواو وتشديدها .

و (لم تكن له صاحبة) حال مؤكّدة للاستحالة المذكورة ، وقرأ بعضهم تذكير الفعل للفصل ، وقال ابن جنّي : تؤنّث الأفعال لتأنيث فاعلها، لأنّهما يجريان مجرى كلمة واحدة، لعدم استغناء كلّ عن صاحبه ، فإذا فصّل جاز تذكيره . وقوله تعالى : «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ ...» فإنّ (ذلكم) مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة ، وجوّز بعضهم أن يكون الاسم الجليل بدلاً من اسم الإشارة ، و(رّبكم) صفته ، وما بعده خبر ، وأنّ يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده أبدال ، أو أن يكون بدلاً ، والبواقي أخبار ، وأن يقدّر لكلّ خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ. وأن يجعل لكلّ بمنزلة اسم واحد . وأنّ يكون (خالق كلّ شيء) بدلاً من الضمير . وقيل غير ذلك .

وقرئ (درست) مبنيّاً للفاعل مضمراً فيه ، أي درست الآيات، وقرئ (دارست) أي دارست - یا محمّد - غيرك ، وقرئ (درست) يا محمّد في الكتب القديمة.

ص: 246

واختلفوا فى اللّام (وليقولوا) و (النبيّنه) ، قيل : هي لام كي ، وقيل : لام الصيرورة ، وتتعلّق اللّامان بمحذوف ، والظاهر أنّ اللّام في (ليقولوا) لام الأمر والفعل مجزوم بها .

***

بحث دلالي حول ما تدلّ عليه الآيات الشريفة :

تدلّ الآيات الكريمة على أُمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» على قبح الظلم وشناعته، لاسيّما ما تضمنته الآية الشريفة من بيان أنواع الظلم وفظاعتها .

كما أنّ فيه دلالة على نبذ الظلم والرجوع إلى حكم العقل، وخفض الجناح الحقّ والاعتقاد به وترك الاستكبار عليه والتعالى على الله تعالى . فإنّ ما ارتكبوه لا يرتاب العقل في قبحه ، وأنّ الرجوع عمّا همّ عليه من الظلم إنّما يكون بالإذعان الحقّ وطاعة الصادع به والعمل بكلّ ما أتى به ، والابتعاد عما يوجب إخفاء الحقّ وطمس الحقيقة ، ولعلّه لذلك عبر سبحانه بأسلوب التفضيل .

الثاني : يستفاد من الآية الكريمة أُصول الظلم المبغوض الواقع بين أفراد الإنسان، وهي إمّا أن ترجع الى عقيدة التوحيد ، كالشرك والرياء، أو عقيدة السفارة الإلهيّة ، كادّعاء الوحي والنبوّة وتضعيف دور الأنبياء ، وسلب اعتماد الناس عليهم ، أو عقائد الناس والظلم على الإنسان بادّعاء تشريع الأحكام وصرفهم عمّا يصلح أمرهم وما يوجب سعادتهم ، ويتفرع عن كلّ واحد من الأقسام الثلاثة أنواع أُخرى، وما ذكر المفسِّرون والعلماء في تعيِّين ذلك إنّما هو سردٌ لبعض مفرداته .

الثالث : تشير الآية الكريمة: «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ» اختلاف النفس عن البدن وأنّهما جنسان متقابلان، أحدهما من الأُمور المادّية الجسمانيّة ، والآخر من

ص: 247

المجرّدات ، وقد اتّحدا برهة من الزمن، فتعلّقت النفس بالبدن نوعاً من التعليق والاتّحاد غير المادّي، وبالموت تنقطع العلقة بينهما ، فيعود كلّ واحد منهما عالمه وموطنه الذي جاء منه ، ثمّ يوم القيامة يعود التعلّق والاتّحاد للحساب والجزاء، كما هو مفصّل في موضعه .

الرابع : يدلّ قوله تعالى : «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ» على حقيقة من الحقائق التي كشف عنها القرآن المجيد ، وهي حال الظالمين عند نزع أرواحهم بسبب الملائكة الموّكلين له، وهي تحكي عن فظاعة الأهوال التي يردون عليها، وشدّتها من حين وقوع الموت عليها ، وقد استعمل الملائكة معهم الشدّة والقسوة في نزع أرواحهم من غير إمهال، وذلك لتناسبها مع ما صدر من الظلم الشنيع ، فإذا كان الأمر على الحقيقة فلا معدل عنها التمثيل والكناية ، فقد كشف الحجاب عمّا يصدر من الملائكة وما يحلّ بالظالمين عند نزع أرواحهم أعاننا الله تعالى على سكرات الموت .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» على حقيقة حياة الإنسان في دار الدُّنيا، التي تظهر عند الخلق الأوّل والخروج من عالم الأرحام الدُّنيا ، وعند الخروج منها الآخرة ، وعند البعث والقدوم على الله سبحانه وتعالى، فهو في هذه العوالم واحد فيكون الرجوع مثل المبدأ، فالمرجع الله عزّ وجلّ ، كما أنّ الخلق منه سبحانه ، والراجع هو الفرد الذي لا يشاركه شيء ممّن شاركه في حياته الدنيويّة ، ويستفاد منه أيضاً أنّ رجوعه كابتدائه ضعيف لا قوّة له ، أنّه مدبّر بالتدبير الإلهي ، وأنّ التكثّرات الحاصلة من الأسباب من الأُمور والأولاد ، والعشيرة ، والجاه والسلطان كلّها تنعدم ، كما كانت معدومة في المبدأ.

كما أنّه يرشد حال الأرباب التي اتّخذوها آلهة ، وأنّ كلّ ما أدّى الشرك ليست إلّا أوهاماً لا تأثير لها ولا أثر لها في التكوين ، وأنّها مسخّرات الله عزّ

ص: 248

وجلّ ، وأنّ كل الأسباب والعلل ينتهى تأثيرها إليه سبحانه .

السادس : يشير قوله تعالى : «وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ» أنّ جميع ما وهبه الله تعالى للإنسان في الدُّنيا إنّما هو على ضرب من التخويل والاستفادة المؤقّتة على ما يريده الله تعالى ، وأنّ الملكية وغيرها من الأسباب إنّما هي من الاعتبار الخاص لتصحيح شؤونه في دار الدُّنيا، وأنّ المالك الحقيقي هو الله تعالى . يتصرف في ملكه ما يشاء وما يريد، وقد خوّل الإنسان ليستفيد منها في الدُّنيا ويقدّم منها ليوم بؤسه وحاجته، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ».

كما يرمز بطلان الأسباب التي أَلْهَتِ الإنسان حال حياته وأَنْسَتْهُ ربه ، كما قال تعالى : «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ» (1).

السابع : يدلّ قوله تعالى : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» على حقيقة واقعيّة تبيِّن عدم استقلاليّة الأسباب في التأثير، ولعلّ هذه الآية الكريمة هي الأصل للمقولة المعروفة من أنّ الدُّنيا دار القطع والافتراق، فإنّ كلّ ما فيها إنّما يؤول إلى الفناء ، وأنّ الذي يقبل البقاء ما يتّخذه الإنسان سبباً في نيل السعادة ورضاء الله تعالى فإنّه يبقى ببقائه ، وأنّ غير ذلك هو مجرّد مزاعم وأوهام .

الثامن : يدلّ قوله تعالى : «إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى» على أنّ أفعاله المقدّسة الدالّة على كمال علمه وقدرته ، ولطيف صنعه وحكمته، هي من أدلّة التوحيد ، التي يستفاد من دلالة الصنع على الصانع ووحدانيّته وصفاته العليا ، وقد ذكر سبحانه هذا الدليل بعد الدليل البرهاني العقلي ، والمقصود منه هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله ، فقد اتّخذ البرهان العلمي والعملي على ذلك ، والغرض من ذكرهما تنبيه الإنسان هذه الحقيقة الإلهيّة الناصعة لئلّا يغفل عنها ، فلا تلهيه الأسباب عن خالقه فينسى نفسه فيكون من الظالمين ، أو ينشغل بها فيعرض

ص: 249


1- سورة الحشر : الآية 19

عن ربّه ، فإنّها مجرّد مخلوقات مدبرة بالتدبيرات الإلهيّة، لا تؤثّر إلّا بتقدير العزيز العليم ، فهو الربّ المتعال ولا ربّ سواه .

التاسع : يدل قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَّ» على حقيقة كونيّة ترتكز عليها هذه الحياة الدُّنيا، وهي تبتني على أمرين متقابلين بهما ينتظم النظام الكياني، وهي شاملة لجميع جزئيّات الحياة من الإنسان والحيوان والنبات ، والفرد والمجتمع وغير ذلك . وأنّ مجيء قوله تعالى: «مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيْ» جملة اسمية لرفع الغرابة التي قد تتمثّل للمخاطبة أوّل وهلة ، ولبيان الاستمرار على ذلك فلا غرابة ، بل هو واقع وبه ينتظم النظام.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : «فَالِقُ الإِصْبَاح وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً» بالأسلوب البديع المحبب النفوس على نظام الأرض التي يعيش عليها الإنسان ، ففي الفلق الحركة ، والتدفّق والتدافع والجهاد ، وفي السكون عقيبها الراحة وتجديد القوى ، ودفع ما يتعرّض له من التعب والإعياء والكلل ، وفي جعل الشمس والقمر بما يترتّب على حركاتهما اللّيل والنهار ، والشهور والسنين تقديراً حسياً بحساب دقيق منظّم عجيب في هذه النشأة المتغيِّرة المتحوّلة، لينتظم بذلك نظام المعاش وتستقيم حياة الإنسان في ظلّ رعاية الربّ المنّان ورقابة العزيز المتعال، فلا يخرج عن المصالح التي أعدّها له فيفسد النظام الذي أتقنه .

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : «ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم» أَنّ خلق هذا العالم وفق نظام متقن دقيق لا يخرج عن الإرادة الإلهيّة المستقلّة ، فهو مخلوق بمشيئته وباقٍ بإرادته ، فلا تدافع بين الإرادات فهو العزيز الذي لا يغالبه أحد ، وإرادته حاكمة على جميع العالم .

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا» على أنّ الاهتداء هو الغاية من خلق النجوم وجعلها ، فلا يختصّ بها ، بل يشمل كلّ

ص: 250

ما يوجب الخروج من الظلمات النور والاهتداء به ، بل الحاجة إليه أشدّ في دفع ظلمات الجهل وغيره ممّا يفقد الإنسان به صوابه ، ويسلب عنه سعادته ، ولعلّه لأجل هذا عبّر عن الأنبياء والأوصياء والعلماء بالنجوم؛ لأنّ الاهتداء بهم يوجب رفع ظلمات الجهل، والنجاة من المهالك الدنيويّة والأخرويّة ، ولا يتحقّق ذلك إلا بالطاعة والعمل بما جاؤوا به ، ففى الحديث عن موسى بن جعفر علیه السّلام أنّه قال لهشام : «يا هشام إنّ كلّ الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلّا من يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلّا من علم بها».

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : »وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌ: وَمُسْتَوْدَعٌ» على أنّ الإنسان الذي هو جزء من النظام الكياني لا يخرج عن تقدير العزيز العليم ، فقد أنشأه وبيّن منشأه ومسيره ومرجعه ، فهو لا يخرج إمّا أن تكون له حياة مستقرّة، يعيش فيها الأجل الموعود الذي قدّره الله تعالى ، ويكون وديعة في الأرحام حتّى يأتي دوره ليتمّ بهما بقاء النوع الإنساني . فالآية الكريمة تبيِّن المبدأ للإعلام بأنّه لا بقاء له أبد الدهر ، فلابدّ من انتهاء الذريّة مهما كثرت ووسع انتشارها ، وبين فرد مستقرّ أو مودع لبيان حياة الفرد والنوع واستمراره وبقائه .

ويمكن أن تكون الآية الشريفة إشارة إلى المستقرّ والمستودع، باعتبار كلّ شخص، فإنّ كلّ إنسان بدنه مستقرّ لروحه ، وهو مستودع وديعة الله تعالى ، ويمكن أن تشمل المعنى العام الشامل لجميع المصاديق من كلّ جهة ، فهي آية عظيمة تبيِّن حقيقة النوع الإنساني من جوانب متعدّدة.

الرابع عشر : يدلّ قوله تعالى : «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» على أنّ القرآن المجيد بنفسه من الآيات التي ترشد الإنسان الهداية والتوحيد وصفات الله تعالى، وعظمة الخالق والخلق بما تشتمل على الحقائق الواقعيّة والعلميّة،

ص: 251

والقواعد التشريعيّة ما تنبهر منها العقول، وتستفيد منها النفوس المستعدّة المستشعرة بعظمة تلك الآيات التدوينيّة ، فهي آيات تدعو الإنسان التفقّه والتبصّر فيها، والاستفادة منها في زيادة العلم والفهم للحقائق . فاتّفقت الآيات التدوينيّة والتكوينيّة في هداية الإنسان الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح ، وتعتبر هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات التي تحثّ على التفكر والاستزادة من العلم والمعرفة .

ومن ذلك يُستفاد أنّ الهداية الإلهيّة تُناط بأمرين:

أحدهما : إرشاد منه عزّ وجلّ، والثاني : قابليّة الإنسان التي تحصل من التفقّه والتبصّر ، والقرآن المجيد قد تكفّل كلا الأمرين .

ومن الجدير بالذِّكر أنّه سبحانه قد استعمل الفقه في خلق الإنسان ، والعلم في خلق غيره ، وذلك لأنّ الإنسان يعلم بأنّه مخلوق، ولكنه لا يفقه خصوصيّات خلقه وسائر شؤونه التكوينيّة، فإنّ إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة لطائف من الصنع وأدقّ التدبيرات ، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال الفكر مع فطنة فطنة وتدقيق مناسباً له.

الخامس عشر : يدلّ قوله تعالى : «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» على نفي الولد مطلقاً ، إذ الولد لا بدّ أن يخلق من المادّة، وهو تبارك وتعالى خلق الأشياء لا من مادّة، فكيف يحتاج الولد المتكوّن من المادّة، فيكون تعليلاً لنفي الولد عنه عزّ وجلّ لأهل البصيرة .

كما أنّ في قوله تعالى : «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ» تعليلٌ لنفي الولد أيضاً، لكنّه لأهل الظاهر ، يعني إنّكم لا تنسبون له صاحبة ، فكيف تنسبون إليه الولد ، مع إنّ الولد لا يكون إلّا من صاحبة .

السادس عشر : يرشد قوله تعالى : «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» علَّة أُخرى ، وهي إِنَّ : الولد إنّما هو للاحتياج إليه أو الاحتياج لذّة المزاوجة، وهو تعالى غنيُّ لا احتياج

ص: 252

له أبداً ، فكيف يكون له ولد .

كما أنّ قوله تعالى : «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» يرشد علّة أُخرى أيضاً ، يعني إنّ الزوج والولد إنّما هو من أجل الإحاطة على المفقود ، وهو تعالى محيطٌ بكلِّ شيء، فلا يتصوّر في حقه الاحتياج إلى الولد .

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على براهين عديدة، لها وجوه متعدّدة ، تدلّ على نفي الولد عنه سبحانه، وقد اختلفت البراهين في دلالاتها تبعاً لاختلاف أفهام المخاطبين ، وهذا هو شأن القرآن الكريم في إلقاء وجوه الحكمة الناس، وتتضمّن الردّ على مَن زعم أنّ الله تعالى ولداً على سبيل الإبداع من غير صاحبة ولا تقدّم نطفة.

السابع عشر : يدلّ قوله تعالى: «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ» على التوحيد بجميع وجوهه ، توحيد في الذات ، وفي الصفات ، وفي الخلق ، وفي الربوبيّة ، فإذا كان هناك إله مستجمع لجميع ذلك فذلكم الله الربّ العظيم الذي يتعهّدكم بالربوبيّة والعناية والعطف وليس غيره كذلك ، فهو الله تعالى عمّا يقول المشركون علواً كبيراً.

الثامن عشر : يدلّ قوله تعالى : «خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» على عموم الخلق وإنبساط إيجاده على كلّ ما له حظٌّ من التحقّق والوجود، فكلّ ما في الوجود من السماء وكواكبها ونجومها ومجرّاتها ، والأرض وجبالها ووديانها وبحرها وبرّها، ومعادنها ونباتاتها، وأشجارها ، والحيوان ، والإنسان، وأفعالهما وأثار تلك الموجودات، هي من خلق الله تعالى ، تنسب إليه عزّ وجلّ كنسبة الفعل فاعله والمعلول علّته ، فكلّ ما يصدق عليه شيء من أجزاء هذا العالم الكياني فهو مخلوق له سبحانه ، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة في مواضع عديدة ، قال تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» (1) ، فهي تدلّ على انبساط فاعليّته تعالى

ص: 253


1- سورة الفرقان : الآية 2

لكلّ شيء، من دون انخرام قانون الأسباب والمسبّبات، كما ستعرف إن شاء الله تعالى .

يبقى الفرق بين آية المقام، وبين قوله تعالى : «ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُل شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» (1)، في تقديم وصفه بالخلق عن كلمة التوحيد ) عكس آية المقام ، ولعلّه يرجع أنّ المقام ردّ على المشركين فناسب تقديم كلمة التوحيد ، بخلاف آية المؤمن فإنّها ذكرت بين آيات في الخلق وذكر نعم الله تعالى فناسب تقديم الوصف بالخلق على التوحيد .

التاسع عشر : يدلّ قوله تعالى : «لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ» على نفي الرؤية عنه سبحانه مطلقاً بنفي موضوعها ، كما ستعرف ، وقد نسب إدراكه نفس الإبصار دون أُولي الأبصار ، لبيان أنّ الإدراك الموجود فيه سبحانه ليس من قبيل سائر الإدراكات الحسية التي تتعلّق بظواهر الأشياء وأعراضها فتحتاج شروط ومعدّات ، فإنّ الأشياء كلّها حاضرة لديه سبحانه مكشوفة له غير محجوبة عنه ولا غائبة .

العشرون : يشير قوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ» الى أنّ البصائر هي تلك الأُمور والبراهين التى تُنير البصيرة، وتزيد في علم الإنسان ومعرفته ، نظير قوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ»، فما ذكره المفسُّرون في تفسير البصائر بالقلب فيه نوع خفاء . ومن لطيف الأُسلوب أنّه تبارك وتعالى نفى الرؤية عنه بالبصر، ونهى الإنسان عن ابتغاء ذلك، ولكنّه سبحانه أنار بصيرته ليرجع إليه في جميع شؤونه فينتفع بها في الدارين .

***

ص: 254


1- سورة غافر : الآية 62

بحث روائي عمّا ورد من الأخبار حول هذه الآيات :

في روضة «الكافي» عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أحدهما علیهماالسّلام ، قال : «سألته عن قوله تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» ، قال علیه السّلام: نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله صلّي الله علیه و آله يوم فتح مكّة هدر دمه ، وكان يكتب لرسول الله، فإذا أنزل الله عزّ وجلّ «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» كتب : إنّ الله عليم حكيم .

فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله : دعها فإنّ الله عليم حكيم. وكان ابن أبى سرح يقول للمنافقين : إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي انزل».

وفي «تفسير القمّي»، قال : حدّثنا أبي، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال : «إنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان أخاً لعثمان من الرضاعة قدم المدينة وأسلم وكان له خطّ حسن، وكان إذا نزل الوحى على رسول الله صلّي الله علیه و آله دعاه ليكتب ما نزل عليه ، فكان إذا قال له رسول الله صلّي الله علیه و آله : والله سميع بصير ، يكتب سميع عليم ، وإذا قال : والله بما تعملون خبير ، يكتب بصير ، وكان يفرّق بين التاء والياء ، وكان رسول الله صلّي الله علیه و آله يقول : هو واحد. فارتدّ كافراً ورجع مكّة ، وقال لقريش : والله ما يدري محمّد ما يقول : أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر علىَّ ذلك ، فأنا أنزل مثل ما ينزل، فأنزل الله على نبيِّه صلّي الله علیه و آله في ذلك: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ» . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكّة أمر بقتله، فجاء به عثمان وقد أخذ بیده رسول الله صلّي الله علیه و آله في المسجد ، فقال : يا رسول الله اعف عنه ، فسكت رسول الله صلّي الله علیه و آله ثمّ أعاد ، فقال : هو لك ، فلمّا مرّ . قال رسول الله صلّي الله علیه و آله ألم أقل : من رآه

ص: 255

فليقتله ؟! فقال رجل : كانت إليك يا رسول الله أن تشير إلىَّ فأقتله ، فقال رسول الله صلّي الله علیه و آله: إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء ».

أقول : روى الكليني قريباً من هذا المعنى في «الكافي»، والعيّاشي في «تفسيره» ، والطبرسي في «مجمع «البيان»، وفي تفسير نور الثقلين» بطرق متعدّدة .

وفي «الدّر المنثور» في قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى ... الآية» أخرج الحاكم في «المستدرك» عن شرحبيل بن سعد، قال :

نزلت في عبد الله بن أبي سرح «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ... الآية»، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله مكّة فرَّ عثمان أخيه من الرضاعة فغيّبه عنده حتى أطمأن أهل مكة ثمّ أستأمن له .

وفيه أيضاً : أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ»، قال :

نزلت في مُسيلمة فيما كان يسجع ويتكّهن به . «وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ» قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنبيّ صلّي الله علیه و آله فكان يُملي «عزيز حكيم» فيكتب «غفورٌ رحيم»، فيغيّره ثمّ يقرأ عليه كذا كذا لما حَوّل فيقول : نعم سواء ، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش .

أقول : الروايات في هذا المضمون كثيرة ، وقد ناقش بعض المفسِّرين فيها وردها ، فإنّ كان نقاشه يرجع الى عدم ظهور الآيات في الانطباق على شخص معيّن ، فهو صحيح فإنّ مضمونها عامٌ يشمل كلّ من يستهزئ بآيات الله ويكفر بها . سواء أكان من ملّة الإسلام أم من الملل الأُخرى.

وإن كان إنكاره من أجل تبرئة ابن أبي سرح المرتدّ، الذي لم يعد الى الإسلام إلّا كُرهاً يوم الفتح، أو تنزيهه عن أقواله وأفعاله ، فهو مردود بالروايات

ص: 256

الصحيحة المرويّة عن أهل البيت علیهم السّلام التي تدلّ على كفره وأرتداده وإهدار دمه من قبل رسول الله صلّي الله علیه و آله ، وهي صريحة في وقوع قصّة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة . نعم ، روايات أهل السُنّة التي ذكرت بعضاً منها غير صريحة في وقوعها بمكة ، ولكنّها ظاهرة فى وقوعها بالمدينة ، فلا تعارض بينهما .

ويشهد لما ذكرناه كون مضمون الآية الشريفة عاماً ، واختلاف الروايات في سبب نزولها ، فإنّ في بعضها ما عرفت آنفاً ، وفي رواية أُخرى عن عكرمة، قال:

لمّا نزلت : «وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً» (1)، قال النَّضر - وهو من - بني عبد الدّار -- والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً ، وقولاً كثيراً، فأنزل الله : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ .. الآية».

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السّلام في قوله تعالى : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ» قال : «مَن اّدعى الإمامة دون الإمام».

أقول : الحديث يبيِّن بعض المصاديق التي افترى فيها على الله كذباً ، فإنّ الإمامة كالنبوّة من المناصب الإلهيّة التي لم تمنح لأحد إلّا من ارتضاه الله تعالى، كالقرآن والتشريعات الإلهيّة، فإنّ إدّعاءها من دون إذن إلهى، افتراءٌ على الله تعالى ، كذلك مَن يدّعى الوحى ولم يوح إليه شيء ، فما ورد في هذا الحديث من باب الجري والتطبيق .

وفى «تفسير العيّاشي» أيضاً عن الفضيل ، قال : «سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول في قوله تعالى : «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ» قال : العطش».

أقول : ورواه أيضاً عن سلام، عن أبي جعفر علیه السّلام.

ص: 257


1- سورة المرسلات : الآية 1 - 2

والعطش من أظهر مصاديق الذلّ، ولا ينافي ذلك أن تكون هناك أنواع أُخرى من عذاب الهون، ويؤيد ما رواه جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر علیه السّلام في كيفيّة قبض روح الكافر .

وفي «الخرائج و الجرائح» عن النبيّ صلّي الله علیه و آله ، «أنّه قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله : «لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍّ على فاطمة بنت أسد ، فقالت : وما فرادی؟! فقال : عُراة ، فقالت : واسوأتاه ، فسأل الله أن لا يُبدى عوراتها وأن يحشرها بأكفانها» .

أقول : في مضمونه روايات أُخرى ، وهى تبيَّن أحد وجوه (فُرَادَى) .

وفي «تفسير العيّاشي» عن المفضّل ، قال : «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قوله تعالى: «فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى» قال علیه السّلام: الحَبّ المؤمن، وذلك قوله : «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ مِنِّى» ، والنوى الكافر الذي نأى عن الحقّ فلم يقبله».

أقول : روى قريباً منه القمّي في ّتفسيره» ، وهو من باب الجري والتطبيق، ومن الاستفادات اللّطيفة من القرآن الكريم ، أو من الإخبار عن باطن القرآن الكريم الذي لا يعلمه إلّا عدله صلوات الله عليهم أجمعين .

الأخبار الواردة حول كيفيّة خلق آدم علیه السّلام

وفي «الكافي» بإسناده عن إبراهيم، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال :

«إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أراد أن يخلق آدم علیه السّلام بعث جبرائيل علیه السّلام في أوّل ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضةً بلغت من السماء السابعة الى السماء الدُّنيا، وأخذ من كلّ سماء تربةً وقبض قبضةً أُخرى من الأرض السابعة العُليا الى الأرض السابعة القصوى، فأمر الله عزّ وجلّ كلمته فأمسك القبضة الأُولى بيمينه والقبضة الأُخرى بشماله ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذرواً ومن السماوات ذرواً، فقال الذي بيمينه : منك الرُّسل والأنبياء والأوصياء والصدِّيقون والمؤمنون والشهداء، ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال ، وقال للّذي بشماله : منك

ص: 258

الجبّارون والمشركون والمنافقون والطواغيت، ومن أُريد هوانه أو شقوته، فوجب لهم ما قال كما قال .

ثمّ إنّ الطينتين خلطتا جميعاً، وذلك قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى» فالحَبّ طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبّته ، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كلّ خير ، وإنّما سُمّى النوى من أجل أنّه نأى عن الحقّ وتباعد منه.

وقال الله عزّ وجلّ : «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَّ»، فالحيّ المؤمن الذي يخرج من طينة الكافر، والميّت الذي يخرج من الحيّ هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحيُّ المؤمن والميّتُ الكافر ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ» فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، وكانت حياته حين فرّق الله عزّ وجلّ بينهما بكلمة، كذلك يخرج الله عزّ وجلّ المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور ، ويخرج الكافر من النور الى الظلمة بعد دخوله (إلى) النور ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : «لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ».

أقول : قد عرفت الوجه فى تفسير الحَبّ والنَّوى آنفاً ، وهذه الرواية من أخبار الطينة وكيفيّة خلق آدم علیه السّلام وهى من الأخبار بالغيب الذي يكون علمه عند لالان الأئمّة الهُداة علیهم السّلام ، وتنبهر منه العقول، وسيأتى فى الموضوع المناسب ذكرها إن شاء الله تعالى .

والرواية وإن فسّرت الحياة بالمعنى المعروف ، ولعلّه من ذكر أجلى المصاديق ، وإلّا فهى أعمّ ، كما عرفت .

وفيه عن على بن عُقبة، عن أبيه، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال : « تزوّجوا باللّيل فإن الله جعله سكناً ولا تطلبوا الحوائج باللّيل».

أقول : في مضمونها روايات أُخرى، وهو من الإستفادات اللّطيفة من

ص: 259

الآيات الكريمة ، وهي كثيرة عند الأئمّة الهُداة علیهم السّلام الذين همّ عدل القرآن، وقد وهبهم الله تعالى الذهن الثاقب .

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» قال : «النجوم آل محمد صلوات الله عليهم».

أقول : تقدّم ما يتعلّق به في البحث الدلالي، فراجع.

وفي «الكافي» بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن علیه السّلام قال: «إنّ الله خلق النبيِّين على النبوّة فلا يكونون إلّا الأنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين ، وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تمّمه لهم وإن شاء سلبهم إيّاه . قال علیه السّلام: وفيهم جرت «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع» ، وقال : إنّ فلاناً كان مستودعاً فلمّا كذب علينا سلبه الله إيمانه».

أقول : الروايات في تفسير المستقرّ والمستودع بالإيمان المستقرّ والمستودع متعدّدة ، ولا ريب أنّه من أظهر مصاديقهما ، فإنّ الآية بملاحظة سياقها واتّصالها بما سبقتها من الآيات التي تضمّنت الحياة والموت والحبَّ والنَّوى وغيرها ، فإنّ الحياة الحقيقية والموت كذلك إنّما هو الإيمان وعدمه، فيكون التطبيق الحقيقي لهما ، ولا ينافي أن يكون المراد منهما غير ذلك ، كما تدلّ عليه روايات أُخرى.

وفي «تفسير العيّاشي» عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ ، قال : سمعت أبا عبد الله علیه السّلام في قوله تعالى: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع» قال: «مستقرٌّ في الرحم ومستودعٌ في الصلب ، وقد يكون مستودع الإيمان ثمّ ينزع منه ... الحدیث».

وفيه أيضاً: عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الحسن علیه السّلام ، في قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع» قال علیه السّلام: «ما كان من الإيمان المستقرّ فمستقرّ إلى يوم القيامة أو أبداً، وما كان مستودعاً سلبه الله قبل الممات».

ص: 260

وفي «الحضال» عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد علیه السّلام، أنّه قال - في حديث طويل - : «وأفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، والله خلق كلّ شيء ، ولا نقول بالجبر والتفويض».

أقول : الأخبار في أفعال العباد كثيرة ومختلفة في المضمون ، وقد بيّن الأئمّة الهُداة صلوات الله عليهم أجمعين الوجه الصحيح فيها ، ومنها الخبر المزبور الذي يزيل ما قد ينسبق إلى الأذهان من إطلاق قوله تعالى: «خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» ليشمل أفعال العباد أيضاً، فيلزم منه ما يكون مصادماً للعقل والنقل، فقد بيّن الإمام علیه السّلام الحقّ فيها، فقال بأنّ خلقها خلق تقدير لا خلق تكوين ليستلزم منه الجبر ، ولم خلقه تبارك وتعالى فيستلزم التفويض ، فيكون خلق التقدير هو يخرجها عن الأصل من القاعدة المعروفة : (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين).

وفي «تفسير العيّاشي» عن سدير ، قال : «سمعت حمران يسأل أبا جعفر علیه السّلام عن قول الله : «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»، فقال له أبو جعفر علیه السّلام: ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان وابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ، أمّا تسمع قوله تعالى : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».

وفي «مجمع البيان» عن أبي جعفر علیه السّلام: «أنّ معناه أنّه مبدعهما ومنشئهما إبتداء لا من شيء ولا على مثال سبق».

أقول : إنّ الأحاديث تبيِّن وجهاً آخر للمبدع، فيكون مختلفاً عن الخالق، وإن كان كلاهما من الأسماء الحسنى، إلّا أنّ الأخير قد يستعمل في غيره تعالى، كما في قوله عزّ وجلّ حكاية عن عيسى علیه السّلام: «أَنَّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ» (1). بخلاف الإبداع ومشتقّاته فإنّه فى القرآن الكريم لم تُطلق على غيره سبحانه.

وفي «الكافي» باسناده إلى صفوان بن يحيى ، قال :

ص: 261


1- سورة آل عمران الآية 49

«سألني أبو قرّة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا علیه السّلام ، فاستأذنته في ذلك، فأذِنَ لى فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام التي بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قرة : إنّا روينا : أنّ الله قسم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم - الكلام لموسى ولمحمّد الرؤية .

فقال أبو الحسن علیه السّلام: فمَن المبلّغ عن الله إلى الثقلين من الجنّ والإنس لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء؟ أليس محمّد صلّي الله علیه و آله؟! قال : بلى ، قال : كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم الى الله بأمر الله، فيقول : لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء، ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟!! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثمّ يأتي بخلاف من وجه آخر .

قال أبو قرة : فإنّه يقول : «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةٌ أُخْرَى».

فقال أبو الحسن علیه السّلام: إنّ بعد هذه الآية يدلّ على ما رأى حيث قال: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» ما كذب فؤاد محمّد ما رأته عيناه ثمّ أخبر بما رأى ، فقال : «لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» فآيات الله غير الله ، وقد قال الله : «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ علماً» فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة .

فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟

فقال الرضا علیه السّلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء».

أقول : الحديث يدلّ على نفى الرؤية مطلقاً، وهو مذهب أهل البيت علیهم السّلام ، قد وردت روايات كثيرة عنهم في هذا المعنى، وشدّدوا النكير على من يدّعيها ، وقد ابتدعت هذه المسألة في عصرهم واشتدّ النزاع فيها ، فكان المعروف عند أهل

ص: 262

السُنّة الرؤية الجسمانيّة بالبصر الجسماني التي ينفيها العقل والنقل الصريح وسيأتى فى البحث الكلامي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وفى «التوحيد» بإسناده عن اسماعيل بن الفضل ، قال :

«سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد ؟ فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّا كبيراً، يابن الفضل إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما له لونٌ وكيفيّة ، والله خلق الألوان والكيفيّات».

أقول : السؤال وإن كان عن الرؤية في المعاد التي أثبتها جمع من الجمهور ، ولكنّه علیه السّلام نفاها مطلقاً في الدُّنيا والآخرة بدليل عقلي مقبول .

وفي «تفسير الطبري» عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : «إنّ النبي صلّي الله علیه و آله رأى ربّه ، فقال له رجل عند ذلك : أليس قال الله : لا تدركه الأبصار ؟ فقال له عكرمة : ألست ترى السماء؟ قال : بلى ، قال : فكلّها تُرى؟»

أقول : الخبر مع ضعف سنده موهونٌ دلالة ، فإنّ جوابه مخالف لصريح العقل والإعتبار؛ لأنّ الإنسان لا يدرك ببصره سوى ما واجه الحاسّة الباصرة بالشروط المقرّرة التي ذكرها العلماء في العلوم التجريبيّة، فهو يرى السطح الذي يواجهه دون السطوح الكثيرة المحيطة بذلك الجزء المرئي التي لا تواجهه وهذا محسوس بالوجدان ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى : «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قال : كانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه و آله : إنّ الذي تخبرنا به من الأخبار تتعلّمه من علماء اليهود وتدرسه .

***

بحث قرآنی:

لقد ذكرت الآيات الشريفة المتقدمة جملة من المخلوقات التي تدلّ على

ص: 263

عظیم خلقه وبديع صنعه، تقتضي أن تكون براهين واضحة تدلّ على وحدانيّته الكبرى وربوبيّته العظمى، وانحصار الإلوهيّة فى الله عزّ وجلّ، وجميعها مورد إنكار المشركين الذين حكى الله سبحانه إعتقاداتهم وأقوالهم في الآيات السابقة ، فإنّ مجموعها نزلت لإثبات عقيدة التوحيد ونفي الشرك وزيف عقيدة المشركين .

واشتملت هذه الآيات الكريمة على أنواع ثلاثة من مخلوقاته :

منها: ما يرجع الى السماوات كواكبها ونجومها ، والشمس والقمر ، واللّيل والنهار.

ومنها : ما يرجع الى النباتات كالأشجار والأثمار ، والماء، وخلق الإنسان نشأته وانتشاره .

كما أنّه عزّ وجلّ ذكر مفردات الطبيعة في مواضع متفرّقة من كتابه العزيز ، والمستفاد من جميع ذلك أنّ القرآن الكريم جاء بفكر أصيل متميِّز يختلف عن سائر الحضارات، ومعتقدات المشركين، وثقافة الفلاسفة والمفكِّرين ، وقد اعتبره مفتاحاً للمعرفة الحقّة، والثقافة الصحيحة التي توصلنا الى أهمّ المعتقدات التي تنفع الإنسان، وتجلب له السعادة، وهي عقيدة المبدأ والمعاد ، فتثبت عقيدة التوحيد وانحصار الإلهيّة في إله واحدٍ له من العظمة والكبرياء في الذات والصفات، ممّا لا يمكن إدراكهما لمخلوق من مخلوقاته، فقد عظم سلطانه فلم يخرج شيء عنه ، واستوعب خلقه فشمل ما سواه ، وكلّها تشير الى عظيم صفاته، وتدلّ على شمول خيره وسعة رحمته ، فهو تعالى الخير المحض لم يصدر منه إلّا كذلك ، فلم تكن مخلوقاته مصنوعة للشرّ، وهي تدلّ على ذلك بالتسخير الذي ينبئ عن القهر والتذلّل لخالقها ، كما إنّها تدلّ على الإنعام على المسخّر له ، ومن أجل ذلك فقد قرّب القرآن الكريم بين مفردات الطبيعة لاسيما بين ريم بين مفردات الطبيعة لاسيما بين الإنسان والطبيعة وحبّبها إليه، خلافاً لما كان عليه أهل الشرك وبعض الفلاسفة الطبيعيّين.

ص: 264

فقد استهدف في ذكر الطبيعة ومفرداتها وبعض شؤونها وآثارها أُموراً عديدة لها الأهميّة الكبرى في تكوين عقيدة التوحيد .

منها : إبطال عقيدة الشرك وتعدّد الآلهة؛ وذلك لأنّ المشركين اتّخذوا كثيراً من عناصر الطبيعة آلهة، وأوقعوا بينها الصراع والتنافر تارةً ، أو المودّة بل التزاوج أُخرى، تبعاً لأهوائهم الضالة المضلة ، فقد فصّل القرآن المجيد الكلام في هذا المجال ، وبيّن زيف الشركاء وبطلان الشرك بجميع أنحائه ، وجعل ذلك مفتاحاً المعرفة الإله الواحد الأحد، ونفى أُلوهية غيره.

ومنها : إثبات الخالق لها تأكيداً منه على أنّها محدثة وفانية، خلافاً لاعتقاد القدماء من الفلاسفة وغيرهم من أنّ تلك العناصر أزلية أبدية .

ومنها : أنّه جعل تلك العناصر تحت سلطان الإله الواحد الأحد ، وخاضعة لمشيئة الله سبحانه ، وبذلك تقطّعت الأسباب التي اتّخذوها وسيلة لعبادتها .

ومنها : إنّ خلق الطبيعة ، فيها من العناصر والمفردات، إنّما هو من أجل خير الإنسان، وقد سخّرها الله تعالى لنفعه ، فلا يخافها كما اتّخذه المشركون وسيلة للتقرب اليها ودفع شرّها عن الإنسان .

ومنها : إنّ تلك العناصر السماوية والأرضية تسير تحت قانون إلهى متقن لا صراع بينها ، كما كان معروفاً عند أرباب الحضارات ، فبينها الإنسجام والأُلفة ، والمودّة والمنفعة، فهى تحت تأثير القدرة الإلهيّة، فلا تأثير لأحد العناصر في الآخر بما يعتقده المشركون .

ومنها : إثبات العلاقة الخاصّة بين العناصر والإنسان، ولها التأثير في وجود الإنسان المادّي والمعنوي؛ فإنّ منها طعامه وشرابه وزينته ومنافعه وغير ذلك، ولم يعتقد المشركون وأرباب الحضارات بهذه العلاقة فاثبتوا الصراع بينهما، والخوف منها الذي اقترن مع الإنسان في جميع مراحل وجوده ، ومن أجل ذلك كلّه دعا

ص: 265

القرآن الكريم الإنسان الى النظر في السماوات والأرض نظرة واقعيّة موضوعيّة للاستفادة منها بعيدة عن الخيال الجامح والتصوّر المشتط ، فقال تعالى : «وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

وامتاز الفكر القرآني عن غيره من الأفكار الفلسفيّة ونحوها، أنّه ربط بين هذه النِّعم وبين سلوك الإنسان ومدى طاعته لربّه ، فكان لذلك الأثر الكبير في حمل الإنسان على الإيمان، وانتهاج السبيل القويم والتخلّق بالخُلق الكريم، ممّا يوصله إلى السعادة .

ثم بيّن القرآن أنّ هذه النِّعم ليست نهائية فهي مقدّمة لنِّعم أعظم منها وأوفر وأتمّ، وهى فى عالم الغيب، وبذلك أثبت القرآن الكريم الصلة الوطيدة بين النعم الدنيويّة والنعم الأخرويّة ، وهما مفهومان جديدان فريدان في نوعيهما إذا قيسا بما قبلهما من المفهومات، إن لم نقل إنّهما جديدان على التصوّر الإنساني .

والحاصل أنّ القرآن الكريم جعل الطبيعة وعناصرها المختلفة سماويّة كانت أو أرضيّة، حيّة أو صامتة، لتحقيق الأغراض والمقاصد التي دعا إليها، ومنها الغرض الأكبر والمقصد الأعظم الذي يرتبط بعقيدة الإنسان ودينه، واعتبره أصلاً من أُصوله ، وهو إثبات الإله الواحد الخالق العظيم، وتوحيده وتنزيهه عن الشرك ونفي الولد ، والدلالة على صفاته ، واثبات البعث والنشور ، والواسطة بين المبدأ والمعاد والنبوّة، وما يرتبط بها ، وغير ذلك من المعارف الإلهيّة الحقّة .

وقد تفنّن في الإستدلال على تلك الحقائق بأساليب متعدّدة، فقال تعالى : «وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ»، ولم يدع الوسائل العلميّة النافعة في هذا الباب، فهو يستدلّ بأضخم العناصر في الطبيعة كالسماء والأرض ، كما يستدلّ بعناصر أُخرى بسيطة كالطير والسحاب ، والماء والزرع والشجر واللّيل والنهار، ونحو ذلك ممّا يتناوله الحسّ الإنساني ولو كانت بأبسط صوره.

ص: 266

وقد استعمل في استدلاله أحسن الأساليب وأوضح البراهين ، وربما يلوّن الاستدلال ليجيّش الأحاسيس، ويحرّك النفوس وصولاً إلى مقاصده الكبرى.

كما أنّه استدلّ بالمحسوس على غير المحسوس من الحقائق ، فإنّه يجعل الطبيعة المجال الواسع لتقويم عقائد الإنسان وسلوكه في الحياة ، ويحثّه على الإيمان والابتعاد عن الشرك والكفر ، والنفاق والضلالة ، كلّ ذلك في صور رائعة بليغة وتشبيهات بديعة ، وأمثال معبّرة ، وقد كان لتلك العناصر الطبيعيّة الأثر العظيم في نجاح تلك المهمّة الكبيرة ، وأدّى الأسلوب القرآني الدور المهمّ، فهي الأداة البليغة التي أظهرت تلك الأغراض والمقاصد العلّية ، وقد حققها الكتاب المجيد عن طريق الطبيعة باساليب بلاغية متفاوتة، كالتشبيه والاستعارة والايجاز والاطناب وغيرها ، وسلك في تصوير مشاهد الطبيعة مسالك متعدّدة كالتشخيص والتجسيم والتخييّل ، وأظهرها في صور متناسقة بطرق مختلفة وأساليب متباينة كالتقابل والتناظر ، وحدّد استعماله لألفاظ الطبيعيّة تحديداً دقيقاً، وكان تناوله للأفعال في وصف الطبيعة تناولاً رائعاً دقيقاً ، فتارةً يستعمل ما يدلّ على التجدّد والاستمرار ، وأُخرى لاستحضار الصور والمشاهد وتقريبها كأنّها ماثلة للعين، ولم يكن تقديمه لفظاً على لفظ أمراً إعتباطيّاً ، بل يرجع إلى سبب من الأسباب فكان في تلوينه هذا لأجل تحقيق أغراضه، وتثبيت مقاصده ، فكان تصريفه الآيات تصريفاً دقيقاً رائعاً ، فهو الكتاب الإلهى المعجز المبيّن الذي أعجز المخلوقات جميعاً ، فكان من جمعه بين الأدب الرفيع، والفكر العقائدي الجامع موفقاً ومسدّداً، فسبحان مَن أنزله ، وما أعظمه من كتاب !!

ثمّ إنّ الآيات التي تقدّم تفسيرها تشتمل على حقائق واقعيّة، يدور عليها النظام الكوني لابدّ من بيانها :

الأُولى : عموم خلقته تبارك وتعالى لكلّ شيء، وإنبساط إيجاده سبحانه

ص: 267

على كلّ ما له نصيب من الوجود والتحقّق ، كما قال تعالى : «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» ، وقد تكرّر ذلك في القرآن الكريم ، كما عرفت . وله من الإطلاق والعموم ما لا يكون لغيره من الكلام، ولم يوجد فيه ما يصلح للتخصيص والتقيّيد بوجه من الوجوه ، فالأشياء كلّها جواهرها وذواتها ، بل أعراضها تستند الخلقة الإلهيّة في منشئها وانتشارها ومسيرها وأهدافها وغاياتها، وهي خاضعة للتقدير الذي أودعه خالقها سبحانه في الخلق ، وقد عرفت آنفاً أنّ كلّ تلك العناصر تدخل في نظام موحّد لا مدبّر له إلّا الله سبحانه ، ولعلّ منه استفاد بعض العلماء البرهان المعروف لإثبات الربّ الواحد المعروف ببرهان اتّصال التدبير .

الثانية : إنّ الأشياء التى وقعت في حيّز الوجود ، فصارت من الموضوعات الخارجية بعرضها العريض ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها وسهلها ووديانها ، وبرّها وبحرها، وما أودع فيها من المعادن والعناصر ، والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد ، والنجم والشجر ، والحيوان والإنسان وغير ذلك قد خلقها الله تعالى وأودع فيها أسراراً وآثاراً، ولها من التأثير في غيرها ما تعتبر من أفعالها ، وتنسب اليها نسبة الفعل إلى فاعله ، أو المعلول إلى علته ، كما قال تعالى : «انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ» ، إلّا أنّ ذلك لا ينافي إنتساب جميع خصوصيّاتها من الذات والأفعال والآثار والحركات والسكنات إلى الله تعالى وتقديره، وتتبع الهداية الربّانية ، فمنها مبدأها وإليها منتهاها ، قال تعالى : «واللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (1).

وقال تعالى : «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ»(2) .

ص: 268


1- سورة الروم : الآية 40
2- سورة النور : الآية 45

وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدلّ على هذا الأمر المهمّ، وهو إثبات أنّ خلقه تهتدي بالهداية الإلهيّة، فمنها البداة وإليها الانتهاء .

جميع الثالثة : إنّ الإنسان الذي هو فرد من أفراد الطبيعة التي ذكرها سبحانه في كتابه المجيد، ينسب إليه الأفعال والأعمال والآثار المترتّبة عليها، وهى إمّا أن تكون اختياريّة تستند إليه وتقوم به، يعرفها كلّ الناس ، كالأكل والشرب ، والطاعة والعصيان ونحو ذلك ، وهذا النوع يوافق ما عليه طبع الإنسان، وعليها المؤاخذة والثواب والعقاب ، وعلى وفق ذلك يتعلّق الأمر والنهي ، ولولا أن يثبت له فعل ينسب إليه لما كان له وجه صحيح معقول.

وإمّا أن لا ترجع إلى اختياره كالشباب والشيخوخة ونحوهما ، وتترتّب عليها آثار معيّنة ، لا يخرج كلا النوعين عن التقدير الإلهي، كما في سائر أفراد الطبيعة التي أخبر بها القرآن المجيد في مواضع متعدّدة فيه .

وعلى ضوء هذه الحقائق التي أثبتها الكتاب الكريم بإسلوبه الخاصّ به كما عرفت آنفاً، ومن الآيات التي أوضحت تلك هي آيات المقام، وبها ينتظم نظام الوجود ، ويدلّ عليه العقل الإنساني ، ويؤيد شعوره الوجداني ، وبه تتّسق موجودات هذا الكيان العلمي على اختلاف هويّاتها وأنواعها وارتباطاتها بأجزائها وجزئياتها ، وتأثيراتها وتأثراتها ، وقد عرفت إنما تكون بتدبير إلهى وهداية ربّانية ، فيكون العالم مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض اتصال تأثير وملائمة ، والله سبحانه القيمومة التامة المطلقة عليها ، كما قال تعالى : «ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم» (1). ومنه يستفاد قانون العلية العام في الأشياء، الذي يستند إليه (1) البذل والعطاء ، فكلّ معلول يمتنع عن الوجود عند عدم علّته ، وأنّ الممكن الذي يستوي فيه طرفاه يوجد عن غيره فهو العلة . ولم يخالف هذا القانون القرآن

ص: 269


1- سورة يس : الآية 38

الكريم ، بل استدلّ به على وجود الصانع ووحدانيّته وسائر صفاته العليا ، كما عرفت . ومن أنعم النظر فى تلك الآيات القرآنية، يظهر له ثبوت تلك الحقائق الناصعة ، ويشهد على صحّتها العقل والوجدان ، إلّا أنّه قد يشوب بعضها شيء من الغموض فى بدو الأمر ، وقد اتخذ بعض الفلاسفة الماديّين خرقاً لتلك الأُصول والحقائق التي يدور عليها النظام، وقد ذكروا أُموراً اعتبروها نقضاً لها، نذكر المهمّ منها ومن مناقشتها يظهر زيف غيرها.

وقد عرفت آنفاً أنّ ثبوت نظام الأسباب والمسبّبات، لا يستلزم نفي علّيته تبارك وتعالى، فهو تعالى أوجد هذا النظام بهذه الكيفيّة ابتداء من وجوده وفي مسيرته إلى فنائه ، وقد خلق جميع ما يطرأ عليه من التحوّلات والطوارئ، وما يترتّب عليه من الآثار ، ولا ريب أنّ ذلك يستدعي وجود علل ومعلولات في ترتّب تلك المذكورات .

الأوّل : إنّ تعميم الخلق ، ونسبته إلى الله تعالى يستدعى انحصار العلّة الفاعلة فيه عزّ وجلّ ، ولازمه بطلان قانون العلّة والمعلوليّة بين الأشياء ، فيكون كل شيء علّة لكل شيء ، وأن تكون نسبة الحرارة والبرودة إلى النار على حدٍّ سواء ، فلا إيجاب ولا اقتضاء ، مع أنّه عرف سابقاً أنّ هذا القانون من الحقائق الثابتة بنصوص القرآن الكريم، ويوافق الحكم العقلي ، والمسلّم به عند العقلاء ، فلا يصحّ إلغاء رابطة الإيجاب والاقتضاء، وإلّا انسدّ باب الاستدلال، ويلغى برهان الان وبرهان اللّم لإثبات الصانع ، ويبطل الاحتجاج بالكتاب الإلهى إذا كان يبطل ، رابطة العلّية والمعلوليّة بين الأشياء ، وهل يسع له أن يبطل هذا القانون العقلى ، أو يعزل العقل وقضاءه عن حكمه البتّي، مع أنّ حقّيته وحجّيته إنّما تأتي من ناحية الحكم العقلي ، والقضاء الوجداني ؟

والحاصل: أنّه من إبطال النتيجة لدليلها الذي هو إبطال النتيجة لنفسها .

ص: 270

ويمكن الجواب عنه: بأنّه خطأ حصل من عدم التميّيز بين الفاعل بمعنى ما هو منه وجود الشيء ، والفاعل بمعنى ما به وجود الشيء ، فإنّ الله تبارك وتعالى هو الخالق الذي يصدر منه الوجود ، وأمّا العلل الأُخرى إنّما يكون أثرها بمنزلة ما به وجودا الشيء ، كالنجّار بالنسبة إلى السرير ، وهاتان العلّتان متقارنتان في العالم الذي يبتني على النظام السببي والمسبّبي، وبه تنتظم الأُمور، وتتناسق وتتوحّد نتائجها .

وبعبارة أُخرى: إنّما الممتنع هو توارد العلّتين على معلول واحد، إذا كانتا في عرض واحد ، وأمّا إذا كانت إحداهما في طول الأُخرى فلا امتناع أبداً ، فلا يبطل قانون العلّية والمعلوليّة ، بل عليه يدور نظام عالم الإمكان، فإنّ الله تبارك وتعالى خلق الدواء - مثلاً - وأوجده ، وهو بذلك أوجد الشفاء المترتّب عليه ، ولا يجتمع مع ذلك ذلك في الشفاء علّتان مستقلّتان، بل هو علّة هي معلولة لعلّة أُخرى، ومنه يظهر الفرق بين نوعى العلّة التى تقدّم ذكرها .

الثانى : أنّه بعد ثبوت قانون العلّية والمعلوليّة ، وأنّ لكلّ شيء في هذا النظام علة ظاهرة معلومة ، وأنّه سبحانه وتعالى كما أثبت وحدانيّته في الخلق، كذلك أثبت رابطة العلّية والمعلوليّة بين الأشياء ، فإذا كان للمعلول علة ظاهرة، فإنّما هى العلّة دونه عزّ وجلّ، وإلّا لزم اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وحينئذٍ يكون تأثيره تعالى في حدوث الأشياء وبدء وجودها فقط، ولأجل ذلك عدل بعض هؤلاء في إثبات الصانع إلى برهان الحدوث، أي حدوث العالم بعد العدم، وأنّ الوجود الممكن يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه ، كما حكى سبحانه ذلك عن اليهود، فقال عز وجل: «وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» (1)، وبذلك يتحقّق التعطيل،

ص: 271


1- سورة المائدة : الآية 64

ويترتّب عليه بطلان النسخ والبداء، وقد سَرَتْ هذه الشبهة عن اليهود الذين همّ الأصل فيها إلى غيرهم، حتّى بلغ ببعض التمادي، فقال : إنّه لو جاز العدم عليه تبارك وتعالى لم يضرّ عدمه وجود العالم .

وبعبارة أُخرى: إنّ المستفاد من الكتاب العزيز، أن العالم مخلوق على النظام السببي والمسبّبي ، وإنّ فيه من الفواعل الاختيارية والفواعل الاضطرارية وتتناسق فيه جميع العلل وتتوحدّ النتائج، ولا يستلزم التضادّ بين الفواعل .

وأمّا شبهة اليهود فقد تقدّم الجواب عنها فيما سلف ، وخلاصة ما ذكرناه إنّ الله تعالى قد بسط الخلقة، وأنّ له السلطة الغيبيّة على جميع الموجودات، وأتمّ قدرته على الأشياء ظاهرها وباطنها ، ذواتها وأفعالها ، حال حدوثها وحال بقائها ، فهو تعالى الخالق لكلّ شيء، والإله الواحد الأحد لا شريك له في الخلق والتدبير، ولا تخفى عليه خافية .

والقول بأنّ العالم بما يتضمّنه من الذوات والأجزاء والحوادث، يستقلّ عن الله سبحانه غير مفتقر إليه، ولا تأثير له تعالى فيه إلّا ما احتاج إليه في أوّل حدوثه، وأمّا بعده فقد ارتفعت الحاجة ، وانقطعت الصلة .

فهو مخالف لصريح الآيات الكريمة ، والأدلّة العقليّة .

الثالث : إنّ إثبات عموم الخلقة، وانحصار الخلق بالله تبارك وتعالى يستلزم نسبة ما لا يرتاب العقل في قبحه وشناعته ، كأنواع الظلم والعدوان ، والفسوق والعصيان إليه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، مع إنّ القرآن الكريم ينفي ذلك بصراحة :

قال تعالى : «وَمَا رَبُّكَ بِظَلامِ لِلْعَبِيدِ» (1).

ص: 272


1- سورة السجدة : الآية 46

وقال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» (1).

وقال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورِ» (2).

وقال تعالى : «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»(3).

وغير ذلك من الآيات .

كما أنّ كون أفعال الإنسان مخلوقة له سبحانه يبطل الاختيار ، فيبطل نظام التشريع ونظرية الطاعة والمعصية ، وقانون الجزاء من الثواب والعقاب ، وكلّ ذلك ثابت بالبرهان القويم نقلاً وعقلاً.

والجواب عن هذا الإيراد: يظهر ممّا ذكرناه آنفاً، من أنّ الله تعالى قد خلق الإنسان مختاراً في أفعاله، لا أن يكون مجبراً عليها ، فكلّ ما يصدر عنه من طاعة وعصيان إنّما تستند إليه ، وإن كان الإنسان المختار القادر مخلوقا الله تعالى ، ولا يستلزم ذلك أن تنسب أفعاله الاختيارية إلى الله تعالى ، وعليه يصحّ نظام التشريع الإلهي، ويثبت قانون الجزاء العام ، وتعقل الدعوة الإلهيّة ، وإنزال الكتب وإرسال الرُّسل.

ويدلّ على ذلك أيضاً: أنّ الله تعالى وإن أثبت الخلق لنفسه ، وصرّح بتوحيد الخالق، كما في قوله تعالى : «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»، ولكنّه وصف الخلق بالحسن بقوله سبحانه : «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (4)، فكلّ مخلوق له تعالى فهو متّصف بالحسن ، فالخلق والحُسن متلازمان في الوجود ، فإذا عرض عارض السوء والقبح لما هو الواقع في الخارج من المخلوقات ، إنّما هو من جهة النسب

ص: 273


1- سورة الأنفال : الآية 58
2- سورة الحج : الآية 38
3- سورة الأعراف : الآية 28
4- سورة السجدة : الآية 7

والإضافات لا من جهة وجوده الحقيقي الذي ينسب إلى الله تعالى ، هذا ما أردنا إثباته في المقام والتفصيل يطلب من محلّه .

***

بحث كلامي حول امتناع رؤية الله سبحانه وتعالى

الآيات الشريفة السابقة من غرر الكلام الدالّ على امتناع رؤية الله سبحانه وتعالى، التي اتفقت العدلية عليه، واعتبروه من صفاته المقدّسة ، فهو تبارك وتعالى يُرى بالأبصار لا فى الدُّنيا ولا في الآخرة ، وخالفهم الأشاعرة حيث ذهبوا إلى الجواز، وأنّ الله تعالى يرى في الآخرة، وينكشف انكشاف البدر المرئي بلا مقابلة وجه ومكان ، وأمّا المجسّمة والكَراميّة فقد ذهبوا إلى إثبات الجهة والمكان، وعلى سبيل المقابلة لاعتقادهم جسميّته تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وطال التشاجر بين الفريقين ، ولابدّ أوّلاً من تحرير النزاع وبيان حقيقة الرؤية التي اختلف المتكلِّمون فيها، والمشهور بينهم قولان :

الأوّل : خروج الشعاع من العين شبه المخروط رأسه في العين ، وقاعدته الشيء المبصر ، وهذا الرأي ثبت بطلانه لاسيما في العصور الأخيرة بالأبحاث العميقة والتجارب القطعيّة .

الثاني : انعكاس صورة المرئى على العين ، بمعنى أنّ الأشياء الخارجيّة إنّما ترى إذا وصل نورها إلى العين ، فإنّه يخرق القرنية - وهي غطاء العين الخارجي الشفّاف المُحدّب - ثمّ ينكسر ويرد العدسة فينكسر مرّة أخرى، فيتمركز على الشبكيّة التى هى الطبقة الحساسة داخل العين، وتتّصل بهذه الشبكية أعصاب الرؤية التي تنقل تلك الأشعة المنطبعة على الدماغ، الذي يقوم بدوره التحليل والتفسير ، وهذه هي حقيقة الإبصار التي حلّلتها التجارب الحديثة، وأبطلت غيرها من الآراء والأقوال ، وعليه يكون هذا الرأي هو مدار البحث والتفسير بغيره إنّما

ص: 274

يكون خارجاً عن بحث الرؤية ، ونحن نذكر في المقام بعض الأدلّة النقلية التي تدلّ على الامتناع، ثمّ نتبعها بالدليل العقلي ، ثمّ نذكر بعض أدلّة المجوّزين ومناقشتها ، وندع التفصيل إلى محاله .

الأدلّة النقلية على امتناع الرؤية

الأدلّة النقليّة :

وهي النصوص التي تدلّ على تنزيهه سبحانه وتعالى عن الرؤية، وامتناعها عليه عزّ وجلّ، وهى إمّا قرآنية ، أو من السُنّة :

أمّا الأوّل: فهي آيات :

منها : قوله تعالى : «لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ»، وقد عرفت دلالته على المطلوب، فراجع .

ومنها : الاسم الشريف (اللّطيف)، وهو يدلّ على غاية اللّطافة التي يمتنع معها الرؤية، وما أورد عليه من الإشكال إنّما هو شُبهةٌ مقابل البديهة ، فراجع ما ذكرناه في التفسير .

وأمّا الثاني: فقد ورد في السُنّة المطهّرة ما يدلّ على نفى الرؤية عنه سبحانه صريحاً، وقد تقدّم بعضها في البحث الروائي ، ونذكر بعضها الآخر في المقام أيضاً:

وقد روى الكليني في «الكافي» بإسناده إلى أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا علیه السّلام، قال : «سألته عن الله عزّ وجلّ هل يوصف ، فقال علیه السّلام: أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : أما تقرأ قوله عزّ وجلّ : «لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ» ، قلت : بلى، قال : فيعرفون الأبصار ؟ قلت : بلى ، قال : وما هي؟ قلت أبصار العيون . فقال : إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام».

أقول : وبمضمونه روايات أُخرى، وهي تدلّ على نفي الرؤية عنه عزّ وجل بالأولى.

ص: 275

وفي «الأمالي» بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل ، قال : «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام عن الله تبارك وتعالى، هل يرى في المعاد؟

فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، يا بن الفضل إنّ الأبصار لا تُدرك إلّا ما له لون وكيفيّة ، والله خالق الألوان والكيفية».

أقول : الحديث يبيِّن الاستحالة بوجه مقبول ، فيكون عدم رؤيته تعالى إنّما هو لأجل انتفاء شروطها ، فإذا لم يُرَ في الآخرة، ففي الدُّنيا بطريق أولى لضعف الحواس فى هذه الدار .

وقوله علیه السّلام: «والله خالق الألوان والكيفيّة) يشير إلى برهان قويم في نفي صفات المخلوقين عنه سبحانه ، فإنّه تعالى بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة ، كما يدل عليه الحديث الآتي .

وفي «العيون» في حديث طويل عن الرضا علیه السّلام، قال السائل : «فلِمَ لا تدركه حاسّة البصر ؟ قال علیه السّلام: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركه حاسّة الإبصار منهم ومن غيرهم، ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر ، أو يُحيط به وهم».

أقول : الحديث يبيِّن أنّه تعالى بائن عن خلقه بينونة صفة ، فالرؤية من صفات ذوات الأجسام، وهو تعالى منزّه عنها ، فيستحيل رؤيته سبحانه . وغير ذلك من الأخبار الواردة عن الأئمّة الهُداة علیهم السّلام، التي تدلّ على امتناع رؤيته الهداة، سبحانه مطلقاً، وفي بعضها التعليل بوجه مقبول، فهو سبحانه قد احتجب عن العقول كما احتجب عن الأوهام .

الدليل العقلي عليه

وقد ذكر العلماء وجوهاً عقليّة تدلّ على نفى الرؤية عنه سبحانه، بعضها مقتبس عن أحاديث المعصومين علیهم السّلام ، كما عرفت آنفاً في الحديث المنقول عن الإمام الرضاء علیه السّلام. فقد قالوا إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها؛

ص: 276

فعلى الأوّل يلزم أن يكون المرئى محدوداً أو محصوراً متناهياً شاغلاً لجهة معيّنة ، وخلوّ الجهات الأُخرى عنه تعالى، وعلى الثاني يلزم أن يكون المرئي مركّباً متحيّزاً ذا جهة، إلى غير ذلك من اللّوازم الفاسدة التي يتنزّه عنها سبحانه وتعالى.

ثمّ إنّ تجويز الرؤية على الله سبحانه، يستلزم كونه جسماً له من صفات الأجسام كالحيّز، وأنّ يكون له جهة، وتناهى ذاته، وقابلاً، وغير ذلك ممّا عرفت آنفاً ، وكلّ ذلك يستحيل عليه ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

أمّا القائلون بالجواز، فقد استدلوا أيضاً بأدلّة نقليّة وعقليّة :

أمّا الأوّل: فقد استدلبوا بجملة من الآيات الشريفة :

منها : قوله تعالى : «إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» (1)، بتقريب أنّ النظر إذا تعدى ب- (إلى) يدلّ على الرؤية، ولكن سياق الآيات التي تقترن بهذه الآية الشريفة يدلّ على النظر إلى رحمة الله أي توقّعها ورجاؤها، بمقتضى المقابلة بينها وبين الآية الأُخرى كقوله تعالى : «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بهَا فَاقِرَةٌ» (2).

ثمّ إنّ الآية الكريمة قد ذكر فيها: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ» فيكون «نَاظِرَةٌ» غير العيون الناظرة ، فلو كان المراد الرؤية لكان المناسب هو الثاني، بأنّ يقال إلى ربهّا ناظرة بعيونها ، دون الأوّل الذي يناسب التوقع والانتظار.

ومنها : قوله تعالى : «قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي» (3)، فقد استدلّت الأشاعرة به على إمكان الرؤية، إمّا لأنّ موسى علیه السّلام سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها ، أو لأنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن ، والمعلّق على الممكن ممكن .

ص: 277


1- سورة القيامة : الآية 23
2- سورة القيامة : الآية 25
3- سورة الأعراف : الآية 143

وكلا الوجهين لا يدلّان على ذلك:

أمّا الأوّل: فلأنّ سؤال موسى علیه السّلام ربّه الرؤية إنّما كان بضرورة ألجأته إليها من قبل قومه ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْتَتُكَ» (1)، فالسؤال إنّما كان من فعل السفهاء ، وهو صلوات الله عليه بريءٌ منهم ومن أفعالهم، فقد كان أعلم الناس بالله وصفاته العليا ما يجوز وما لا يجوز عليه ، فلابدّ أن يكون طلب الرؤية إمّا لأجل تبكيت الذين دعاهم «السُّفَهَاءُ»، أو التبرّي من فعلهم ، أو لعلمه بأنّهم يهلكون لتماديهم على الحقّ، فلم يطلبها لهم، وإنّما قال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ، مع أنّ الآية الكريمة على خلاف مطلوب الأشاعرة، فإنّهم استدلّوا بها على الإمكان، وهي تدلّ على الامتناع بقوله تعالى : «لَنْ تَرَانِي» الدال على التأبيد .

وأمّا الثاني: فلأنّ المعلّق عليه هو تحقّق استقرار الجبل بعد تجلّيه سبحانه والمفروض عدمه ، فلم تكن الرؤية من الممكنات لفقدان المعلّق عليه ، نظير قوله تعالى : «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ» (2)، فإنّ الهمّ من يوسف علیه السّلام معلّق على رؤية البرهان من ربّه ، وقد تحقّق البرهان فلم يتحقّق الهمّ منه علیه السّلام . وقد استدلّوا أيضاً بآيات أُخرى هي بعيدة عن المطلوب ، وروايات لم تكن نقيّة في إسنادها ودلالتها ، أعرضنا عن ذكرها، ومن أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى مظانّها .

وأمّا الدليل العقلي: فقد استدلّوا بوجوه عديدة نذكر الأهمّ منها :

الأوّل : إنّ إثبات الرؤية لله تعالى ليس من التشبيه الممنوع .

وفساده ،واضح يظهر ممّا ذكرناه آنفاً من أنّ حقيقة الرؤية هي المقابلة أو ما

ص: 278


1- سورة الأعراف : الآية 155
2- سورة يوسف : الآية 24

في حكمها، وهي لا تنفكّ الجهة والمكان، وهي عين التشبيه، إلّا أن يُراد من عن الرؤية غير المعنى المعهود، وهو الذي ذكره بعض الأشاعرة .

الثاني : إنّ جواز الرؤية عليه تبارك وتعالى ليس من إثبات الحدث، فإنّ المرئى لأجل كونه محدثاً لزم أن يرى كلّ ،محدث، وهو باطل .

وبطلانه واضح، فإنّه لم يقل أحد بأنّ الحدوث هو الشرط وحده في الرؤية، بل لا بدّ من انضمام سائر الشروط إليه ، كما هو مبيّن في محلّه ، ولذا لا نرى المجرّدات لفقد بعض الشروط ، كما هو معلوم .

ولأجل وهن أدلّتهم عدل بعضهم عن الرؤية إلى معنى آخر، وهو الرؤية القلبية، كما أثبتها أئمّة أهل البيت علیهم السّلام بعد إبطال الرؤية البصريّة ، كما قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «لا تُدركه العيون بمشاهدة العيان لكن تُدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس بعيد عنها غير مباين» .

أمّا حقيقة هذه الرؤية القلبيّة وخصوصيّاتها، فإنّ البحث عنها موكول إلى محلّ آخر .

***

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة المتقدِّمة من جلائل الآيات التي تتضمن أُموراً وإشارات بليغة تفيد السالكين المجذوبين بجمال الله تعالى المستفيدين من نعمائه الدالّة على عظمته وبهائه وجلاله ، فالسعيد من استفاد منها لتوصله إلى التوحيد العملي بعد أن استفاد من إشراقاته عزّ وجلّ في التوحيد النظري، فيصير الواحد منهم الدليل على توحيده عزّ وجلّ.

وقد ابتدأت هذه الآيات بالنذير الشديد لمن سلك هذا الطريق، واتّخذ هذا السبيل منهجاً ، فأمرهم بتطهير النفس من الادّعاءات، والخلاص من كثرة

ص: 279

الصفات، لئلّا يكون ممّن ظلم نفسه فيخرج عن أهل الرَّشاد، الذين وصلوا إلى مقام التوحيد فيكون قرين الأوهام والخيالات، فيدّعي لنفسه شيئاً ما لم يكن فيه، فيكون قد افترى على الله سبحانه كذباً، وقد يتدرّج في الزعم فيسمّى مفتريات وهمه ومخترعات فكره إلهاماً ، أو وحياً وفيضاً قدسياً، أو يصل به الأمر إلى أن يدّعي ما لا يليق إلّا بمقام الإلوهيّة، وهو مع ذلك يعتبر نفسه من السالكين، ويجعلها في عداد الموحِّدين، وهو من الظالمين الذين همّ في أشدّ العذاب في دار الدُّنيا، فضلاً عن الحالة التي سوف يعرض عليها عند الوفاة وفي الآخرة ، وستظهر حقيقة أعماله وهو في غمرات الموت التي حصلت من افتراءاته وتطاوله على الله تعالى ودعاويه الكاذبة ، وقد كانت الملائكة الذين وكلّهم الله تعالى عليه وأمثاله الظالمين، وهم قد بسطوا أيديهم لقبض أرواحهم ، لأنّهم انبسطوا في افتراءاتهم في الدُّنيا ، وأدخلوا أنفسهم في سلك المهتدين، والملائكة تخرج تلك الأنفس من أجسادهم بأشدّ ما يتصوّر؛ لأنّ مكنونات النفس قد ترسّخت فصارت ملكات لا تنفصل عن النفس بسهولة، فهى هيئات مظلمة ، وتكاثفت أنانيّتهم فصارت أنواعاً من العذاب، يتضمّن من الشدّة والقسوة والإذلال والإهانة جزاء ما رأوا لأنفسهم من العزة في الدُّنيا ، فلم يكن لهم نصيبٌ ممّا عملوا ، ولم يرتقوا مقاماً من المقامات التي ادّعوها ، لأنّهم أنكروا الآيات التي أودعها الله تعالى ف-ي أنفسهم، واستكبروا عليها، وتقوّلوا على الله سبحانه غير الحقّ .

فقد انقطعت الأنفس عن الأبدان ، ولكنّها ظلّت متّصفة بالأوصاف ولم تنقطع من عنها إلى الحشر، فهم في عذاب النزع دائماً الذي هو أشدّ من عذاب القبر .

وأمّا السالك المجذوب الذي شغله حُبّ الله تعالى والقُرب لدى جنابه ، فلابدّ أن يكون همّه تصحیح عقائده وفق ما أراده الله عزّ وجلّ، واكتساب المكارم والتزّين بالأعمال الصالحة ، وقد صرف همّه بالرجوع إلى الله عز شأنه ، فإنّها تبقى

ص: 280

معه وتحضر في قبره فلم يبق وحيدا ، ولم يكن يوم القيامة فرادىً .

وأمّا الذين بعدوا عن الحقّ ، وكان قصدهم اكتساب المادّيات، والركون إلى الدُّنيا، فابتعدوا عن المعنويّات التي تزيّن النفوس وتؤهّلها للدخول في السالكين، فلم يستفيدوا من أعمالهم التي أوجبت بعدهم عن خالقهم ، وصارت حُجباً ظلمانية في النفس تمنعهم عن الوصول إلى الهدف المنشود ، وسوف يظهر لهم الواقع الذي همّ فيه من تقطّع الأسباب والضلال الذي همّ عليه ، فلم يقدروا على دفع العذاب، فهى آيات شريفة فى غاية الأهميّة لمريدي السير السلوك ، تبيّن مواقع الخطر في النفس ، فإنّ الطريق شاق، وفيه العقبات الكثيرة، والحجب الظلمانيّة المتعدّدة ، والعاقل لا يقدم على الدخول في مثل ذلك إلّا بعد حمل الزاد ، وتهيئة النفس وتأهيلها لتحمّل هذه المهمّة، ومعالجة الأخطار المحدقة به والتعرّف على الموانع ، وإلّا فسوف يقع في المخاطر، ويرجع القهقري، ويقع في التقطيع، ويضلّ فيما كان يزعمه من الأحوال والمقامات ، فلم يقدر على دفع شيء، فإنّ السير إلى الله تعالى لا يتحقّق إلّا بالتجرّد عن الدُّنيا والابتعاد عن الأهواء ، وفيه التفريد بالرجوع إلى الله عزّ شأنه، خالياً عن التعلّق بالدُّنيا والآخرة، كما كان في أوّل خلقه روحاً مجردة ، فلابدّ للسالك من كسبٍ وسعي بالتجريد والتفريد ، ثمّ التنزيه في القصد، ليكون همّه هو الوصول إلى مقام التوحيد ، وقبول فيض الوحدانيّة ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بالعناية الربانيّة الأزليّة، وقد ذكرت الآيات بعضاً منها على عباده السالكين، فقد فلق لهم قلوبهم بنور الروح، وفتح لهم أبواباً من العلوم والمعارف ، وغمر نفوسهم بنور القلب، فاتّصفوا بالأخلاق الفاضلة والمكارم ، وعند الترقّى فى المقامات بجدٍّ وإخلاص، يغلق سبحانه أرض قلوب المحبّين الصدّيقين بالمحبّة الأزلية، فتشرق الأنوار الإلهيّة في نفوس العارفين، وتثمر بالثمرات الطيّبة، وتظهر آثارها في أعمالهم الزاكية ومقاماتهم العالية ،

ص: 281

وحالاتهم الرفيعة، ويصلوا إلى حالة خاصّة من العلم والمعرفة والقُرب، حيث تعتبر هذه الحالة بمنزلة الحياة ، وما سبقتها من الحالات بمنزلة الموت فيرتقي بمجاهداته وإفاضات الباري عليه حتّى يصل إلى مرتبة يستولى عليه نور الروح فتظهر صفات النفس الميّتة التي ظهرت على جوارح العارف وتنطق بتلك الكلمات الطيّبة، وهى كلمة لا إله إلّا الله ، ويصير مظهراً من مظاهر التوحيد ، وقد فلق الإصباح عليه ، لتظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته وقد فلق سبحانه ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة العالم القدس فيكون العارف الواله قد فلق بلطفه سبحانه ظلمة صفات النفس عن قلبه بإصباح نور الروح، فاستغرق في معرفة مدبّر الأرواح والنفوس، وانبهر بعظمته ، ثمّ يرجع إلى ليل الحيرة في الذات فتسكن إليه أرواح العاشقين للاسترواح ، كما تسكن القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب والدهشة التي حلّت بهما إلى أن تشرق شمس تجلّى الصفات، وينير قمر تجلّى الأفعال على حساب الأحوال والألطاف بشرط الاسترشاد بنجوم العلم والتقوى ، وكواكب السير والسلوك للاهتداء بهم في ظلمات الأجساد والعلوم، سواء كانت من علوم الآداب، أو من علوم الحقائق ، فإنّه لابدّ من معرفة خصوصيّاتها، إذ ليس كلّ علم بنافع ، ولا ريب فى أن العارف تظهر له العناية الربّانية في سيره وسلوكه ومجاهداته في تهذيب النفس وتكليمها التي تعتبر من عجائب مخلوقاته عزّ وجلّ، وهي من أعظم نِعَم الله تعالى ، فهي إمّا مستقرّة في جهادها قد شملها أنوار لطفه، فلا رجوع عن حال الظهور ، أو مستودعة لم تسترشد في هداها بالنجوم الزاهرة، فخرجت عن طور العبوديّة، ووقعت في الحُجب، إلّا أن تشملها الرحمة الإلهيّة، فينزل من سماء الروح العاليّة المتكاملة ماء العلم على أرض القلب، فيستدرك ما فات عنها لتخرج أصنافا من الأخلاق والفضائل من جديد، وتبيّن زينة النفس التي تبتهج بها، فيخرج منها النبات النافع

ص: 282

وهو الصدق في النيّة والخلوص في القلب والأعمال المترتّبة الشريفة ، فيتقوى القلب بها، وتظهر الثمرات على الحواسّ الظاهرة والباطنة من معارف وحقائق قريبة التناول لظهورها بنور الروح ، فتستريح في جنّات الأحوال والأذواق والمقامات ، ثمّ يستفيد من نور الفكر ، فيزيد في الهمم والعزائم النفسيّة، لتكون عوناً في الترقي في الدرجات والازدياد من الكمال حتّى الوصول إلى درجات الحضور .

ولكن من مُنع من الدخول إلى هذا الحرم لتراكم الحُجب المتعدّدة في الأنواع والركون إلى الدُّنيا، والتشبّث بالرذائل التي من أعظمها الانقياد إلى الشيطان، والاعتماد على الوهم والخيال فيتّخذ الشريك، ويتمادى على الله تعالى بالافتراء عليه، حيث يجعل له سبحانه بنين وبنات من العقول والنفوس من المجرّدات، ويعتبرها من المؤثّرات، من غير علم بأنّها مخلوقات، وأنّها من أسمائه سبحانه لا تؤثّر إلا به جل شأنه، وأنّ الجميع محجوب عن دركه تعالى ، فلا عين الوجوه ولا عين القلوب يدركه ، ففى الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّي الله علیه وآله: «إنّ الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وأنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم».

فلابدّ من طلبه بإيمان راسخ، وعمل ناجح ، وبصيرة نافذة؛ فإنّها تدركه بالآثار، ويمكن الوصول إليه بالتقرّب بالأعمال الصالحة حتّى يكون سمعه الذي يسمع به وعينه التي يُبصر بها ، ولابدّ من الكفاح والمجاهدة للوصول إلى مقام القُرب، فينكشف له من تجلياته عزّ وجلّ ما لم ينشغل برؤية النفس، فإنّها من أعظم الحُجب، فإنّه لم يحجبنا عنه سبحانه إلّا رؤية نفوسنا ، ولكنّه عزّ وجلّ لطيف بعباده فقد لطف به حيث أنعم عليه بأعظم النِّعم المتواردة المتتالية، ومنها توفيقه لمريدي الوصول والتقرّب إليه، فينوّر قلوبهم بالهدى ، ويربّي أجسامهم بالغذاء ،

ص: 283

فهو لطيف بعباده فإن دعوه لبّاهم، وإن قصدوه آواهم، وإن أحبّوه أدناهم ، وإن أطاعوه كافاهم ، وإن أغضبوه عافاهم، وإن أعرضوا عنه دعاهم ، وإن أقبلوا إليه هداهم، وإن عصوه راعاهم؛ فما أعظمه من ربِّ رحيم ودود!! ومن لطفه أن جاءهم بصائر من ربّهم، وهي الكلمات التامات التي تجلّت لذوي الحقائق وظهرت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزليّة ، وهي البصائر التي تجلّى سبحانه فيها بصفاته لهم، فمَن اهتدى وأبصر بعين البصيرة كمالات القرب وما أعده الله تعالى للمقرّبين ممّا لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لمَن أعرض عن الدُّنيا وما فيها ، واشتغل بتكميل النفس لتحصيل درجات القُرب ، فتلك هى السعادة والكرامة العظمى التي يسعى الإنسان إليها وينتفع بها والله غنيّ عن لي العالمين . ومن عَمى عن النظر بالبصيرة ، وانشغل بالدَّنيا والنظر إليها، وركن إليها، واستلذّ بشهواتها، فقد أعمى بصيرته وهو الخسران المبين، وعلى الإنسان أن يستفيد من النعم الإلهيّة، ويضعها في المواضع التي أرادها الله تعالى، فقد أنزل القرآن المبين المتضمِّن لحقائق الإيمان لقوم يعرفون قدر المنزل والمنزل عليه والمنزل، فيقف على حقائق البيان حتّى تظهر له حقائق الإيمان، فإنّ الله هو الحفيظ ، وليس على الرسول إلّا الإرشاد وإيقاظ النفوس، وإثارة الهمم، وبيان الحُجُب، وعلى العبد رفعها بمجاهداته .

ومن عظيم لطفه بعباده المخلصين أنّه عزّ وجلّ قد ذكر في هذه الآيات جملة من أسمائه الحسنى، التي لها آثار واقعيّة لمن دوام عليها، وفوائد عظيمة يحتاج إليها العارف المخلص في سيره وسلوكه ، وفيها من الأسرار التي لا يعلمها إلّا العارفون المجاهدون من المؤمنين ، فلا يغفل عنها .

***

ص: 284

سورة الأنعام، الآية 108 - 113

الآية 108 - 113

«وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(113) ».

الآيات الشريفة لم تخرج عن مضامين ما سبقتها من الآيات التي نزلت في إثبات الدين الحقّ، وتثبيت دعائم التوحيد وأركانه ، ودعم تشريعاته ، فقد أمر رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بتبليغ ما أُوحي إليه إلى الناس، وأوصاه بالثبات سبحانه والصبر، وعدم التأثّر بما يقوله المشركون والإعراض عنهم ، وأنّه ليس بمسؤول عنهم ، فهو تعالى الحفيظ ، وفى هذه الآيات يبيّن سبحانه بعضاً من مبادئ الدِّين

ص: 285

وقواعده التي منها عدم التعرّض لمعتقدات غير المسلمين، ونهاهم عن سبّهم ، وعلّله سبحانه بأنّ الناس قد دخلوا متفاوتين في الاستعداد، وعلى دُعاة الحقّ والإيمان من الأنبياء والمرسلين ومن يحذو حذوهم أن لا يضيقوا ذرعاً بإعراض الناس، فإنّ الله تعالى لا يجبرهم على الإيمان ، فانّ لكلّ أُمّة عملهم، وإنّما مرجعهم إلى الله سبحانه، وهو الذي يحاسبهم على أفعالهم ، وقد بينّت الآيات بعض سجاياهم من العناد واللّجاج والطغيان على الحقّ والجهل مع توارد الآيات الإلهيّة ، ولا تخلو الآيات من الاعتناء برسوله العظيم تطيّيباً له واهتماماً بشأنه، وقد حذرّه من أعدائه من شياطين الإنس والجنّ مثله في ذلك مثل سائر الأنبياء ، الذين أيّدهم الله تعالى ونصرهم على أعدائهم .

***

التفسير

قوله تعالى : «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله ».

حكم تشريعي اجتماعي، يتضمّن النهي عن سبّ المعتقدات الدينيّة ، ورموز عقائد الناس ، وقد اقتصر فيه على سبّ المعبودات التي يدعونها من دون الناس، لأنّ الموضوع كان في الآيات المعبود الحقّ وتوحيده، وبطلان الشرك والردّ على المشركين ، ولكن الحكم عامّ يشمل غيرها أيضاً ، كما ستعرف . والسبّ معروف يشمل كلّ ما يُطلق عليه عند العرف سبّاً .

قوله تعالى : «فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ».

مادّة (عدى) تدلّ على التجاوز ومنافاة الالتئام، وهو إمّا أن يكون بالقلب فيُقال له العداوة والمعاداة. وإمّا أن يكون بالمشى فيقال له : العدوّ . وإمّا أن يكون في الإخلال بالعدالة في معاملةٍ فيُقال له : العدوان والعدوّ . وإمّا بأجزاء الَمقّر ،

ص: 286

فيُقال له : العدواء ، يقال : مكان ذو عدواء ، أي غير متلائم الأجزاء.

والمعنى : أنّ سبَّكم لمعبوداتهم يترتّب عليه أنّهم يسبّون الله تعالى متجاوزين في السباب والشتائم؛ إمّا بأفظع الشتائم وأنواعها المختلفة ، أو بالتعميم لكلّ المقدّسات ، فتتحرّك غريزة الدفاع عن الكرامة المهدورة، فتزيد في الشحناء والبغضاء، وتستولي على النفوس، ويصل إلى حدّ المشاتمة والسباب من كلا الطرفين، فتصدر منهم أُمور بغير علم، وهو يدعو إلى التعقّل وحفظ الآداب، ويؤول الأمر إلى عودة العصبيّة الجاهليّة التي مقتها الإسلام بجميع مظاهرها .

ما يتعلّق بالآية الشريفة «كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ»

قوله تعالى : «كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

تعليل للحكم السابق ، وهو عامّ يشمل كلّ الأمم، المؤمنين والكافرين وهمّ على حدٍّ سواء؛ لأنّه جل شأنه زيّن لكلّ فرد وأٌمّة أعمالهم من إيمان وكفر ، وخير وشرّ ، وتزييّنها في النفس يورث المحبّة لها ، وتبعث الحميّة نحوها ، وهذه من سنن الله تعالى فى البشر، حتّى صار خُلقاً من أخلاق الإنسان، وهو يقتضى الاحترام المتبادل بين الأطراف، ويستلزم منه نبذ الحميّة التي تظهر على النفوس والتي تؤدّي إلى المعاداة .

والزينة كلفظها من الأُمور الجميلة المحبوبة ، فإذا انضمّت إلى الأشياء توجب ازدياد الرغبات وتورث المحبّة عند طلّابها، فيتحرّك الطالب نحو الزينة وينتهي الى المتزيّن ، وهى إمّا أن ترجع إلى اللّذائذ التي يبتغيها الإنسان من الأشياء من الأعمال ، كالطعام والشراب، والنكاح ، أو لذائذ الفكر كالعلم والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة ، والدواء، ونحو ذلك ممّا هو كثير ، أو لذّة طبيعيّة في طبائع الأشياء كالطعام والألوان ، أو إلى الغايات الحيويّة التي تنتهي إليها ، سواء كانت غايات إلهية، كدوام النسل وبقاء النوع ، أو أغراض تكوينيّة كالآثار المترتّبة على الأشياء.

ص: 287

وهذه الزينة المستودعة في النفوس والأشياء، سواء الكسبية أم الطبيعيّة منها، هي التي يتوخّاها في أعماله ، كما أنّها تدعو الإنسان إلى الفعل ، وبذلك جرت السنّة الإلهيّة، وبها تتحقّق الغايات والأغراض، فإنّه لولا الأكل والشرب والنكاح واللّذائذ المترتّبة عليها، ممّا تعتبر من الزينة التي تدعو الإنسان إلى القيام بها لاختلّ النظام، ولما سعى الإنسان في حياته، وتحمّل الكبد والعنت فى سبيل تحقيق الأغراض والغايات فينقطع النسل، وينقرض النوع، وتبطل الحكمة في الخلق .

والزينة على اختلاف أنواعها منها ما تُنسب إلى الله تعالى خالقها، وتكون خلقة يسوق الله سبحانه الأشياء إليها ، وهي غاياتها التكوينيّة ، أو ناشئة عن الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وهى المنسوبة إليه عزّ وجلّ أيضاً، كما قال تعالى: «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» (1). ومثل هذه الزينة الإلهيّة هى التى تسوق الخلائق إلى مقاصدها وغاياتها لتتحقّق سعادتها ، وتأثّرها بالطاعة وإظهار العبوديّة للخالق العظيم .

ومنها تلك اللّذائذ الفكرية ونحوها التي توافق هوى النفس، فإن أمكن السيطرة عليها بحكمة العقل، وإلّا فإنّها تؤدّي إلى انحراف الإنسان عن الفطرة المستقيمة السليمة، وما يترتّب عليها من الأحكام والشرائع والأفكار التي هي السبيل في إيصال الإنسان إلى السعادة، ولكن لابدّ من تحديد تلك اللّذائذ التي تنحرف عن الفطرة وتبعث الشقاء، وتؤدّي إلى إبطال العبوديّة التي هي حياة المخلوقات، وفيها إفساد الحياة الطيّبة السعيدة .

ومن اختلاف هاتين اللّذتين في الحقيقة والآثار والأهداف نستكشف اختلافها في النسبة أيضاً ، فإنّ الأخيرة تنسب إلى الشيطان وأعوانه وحبائله

ص: 288


1- سورة الحجرات : الآية 7

ومكائده وأهوائه التي يلقيها في النفس والتي تجلب الشقاء والخسران ، وتأمر بالفسوق والعصيان ، وقد حكى الله سبحانه ذلك عن إبليس: «وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَهُمْ وَلَأُمَنِّييَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُتَّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً» (1)، وقد يصل الحدّ بالإنسان المتمرد على الله تعالى والخارج عن طاعته ، والمبتعد عن الفطرة والمُعرض عن زينتها، أن يكون مظهراً من مظاهر الفسوق والعصيان، ومصداقاً من مصاديق زينة الشيطان، فلا يرجى له الخير والسعادة أبداً.

ومن ذلك يظهر اختلاف الزينتين في الحقيقية والهدف والآثار والنسبة وتباينهما، وعدم إمكان اجتماعهما، فإنّ زينة الله تعالى تؤدّي إلى الحياة الطيّبة، وتحثّ على الطاعة ومراعاة حقوق العبودية ، وتجلب الخير والسعادة ، وتنسب إليه سبحانه إمّا على سبيل الخلقة ، أو على سبيل الفطرة ، وكلتاهما ترجعان إليه عزّ وجلّ كما عرفت . وعلى كل حال فإنّ الله تعالى قد أحسن خلقه ثمّ هدى، وساق الخلق إلى الغايات المحمودة، وهداها إلى السعادة المنشودة ، وقد أودع في الفطرة جميع الوسائل، والسُّبل التي بمراعاتها تؤدّي إلى النجاح والكمال، وتبعّده عن الشرّ والحرمان؛ فيا لها من سعادة.

ثمّ أمر تعالى عباده بالطاعة ونهاهم عن المنكر والفحشاء؛ فإنّ دين الله هو الديِّن القيِّم ، فكلّ ما كان خلاف ذلك فإنّما هو من زينة الشيطان وأفعاله ، وأنّ الله سبحانه لا يحكم به، فلا يأمر بالفحشاء وينهى عن الطاعة ، لأنّه يستلزم اختلال النظام التشريعي، وقانون المجازاة، وفيه اختلال نظام التكوين أيضاً ، ولا يصحّ أن تُنسب إلى الفطرة التي فطر الناس عليها ما يخالف حقيقتها ، كما تؤدّي إلى

ص: 289


1- سورة النساء : الآية 118 - 119

التناقض في أفعالها، ويجلّ سبحانه أن يُنسب إليه ما يعدّ من السفه.

ومن ذلك يظهر أنّ نسبة الطاعة والتقوى إلى الله تعالى إنّما هي نسبة الرضا والحكم ، وأمّا نسبة الفسوق والعصيان إنّما تكون من نسبة الإذن فقط ، فإنّ جميع ما في الوجود ملك له سبحانه، ولن يقدر أحد أن يتصرّف في ملكه إلّا بإذنه ، فإنّ الشيطان وتصرّفه وتزييّنه في قلوب أوليائه ، وما ينتهي إليه من الآثار من الكفر والعصيان والسخط والحرمان، كلّها مملوكة لله تعالى ، وإذا تحقّق شيئاً من الآثار إنّما يكون بإذنه سبحانه، إتماماً لسنّة الامتحان والاختبار التي بها يتمّ نظام التشريع ، ويثمر منهج الدعوة والرّشاد ، ويتضح سبيل الهداية، كما تدل عليه آيات كثيرة، قال تعالى : «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ» (1).

وبذلك يتّضح الجواب عن شبهة عظيمة استعصت على أفهام كثير من الناس ، وقد عُدَّ هذا الموضوع من أَمّهات موضوعات علم الكلام، وقد ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السّلام القول الفصل فيه ، وتقدّم ما يتعلّق به في بعض البحوث السابقة ، فراجع .

والحاصل: إنّ التزيّين وان كان منسوباً إلى الله تعالى ومخلوقاً له تعالى ، كما قال تعالى : «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (2). ولكنّه أثر لأعمال اختيارية، لها الدخل الكبير فى تثبيته في قلوب الناس، لا أن يكون المراد به أنّ الله تعالى خلق في قلوب بعض الناس تزيّيناً للكفر والشرّ، وفي قلوب آخرين تزيّيناً للإيمان والخير، من دون أن يكون لهم عمل اختياري ينشأ عنه ما يثبت إحدى الزينتين، فإنّه باطل يخالف المقطوع به عقلاً ونقلاً، كما ،عرفت، وممّا يؤيد ذلك قوله تعالى : «ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا

ص: 290


1- سورة آل عمران الآية 141
2- سورة الكهف : الآية 7

يَعْمَلُونَ»، فيكون التزيّين عامّاً شاملاً لجميع أعمال الإنسان، الباطنيّة منها كالإيمان والكفر ، والظاهريّة كالأفعال الحسنة والسيّئة ، فيشمل الطاعات والمعاصي ، فإنّ الإنسان إنّما يقصد من إيقاع تلك الأعمال الحصول على رغبة ملحة، والوصول إلى الزينة التي أودعها الله تعالى في الأشياء ، فقد يستولي عليه حجاب الغفلة عن التفكّر في الحقائق المستورة تحت تلك الزينات، وقد تغلب الحكمة عليه فيستفيد منها ما يوجب السعادة ويجلب له الفلاح .

هذا حاصل ما يستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع، ولكن للمفسّرين أقوال متفاوتة في الآية الكريمة، تبعاً لاختلافهم في نسبة الأفعال إليه سبحانه :

فقيل : إن المعنى و«كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» بميل الطباع إليه، ولكن عرّفناهم الحقّ فلابدّ من إتباعه واجتناب الباطل.

وأورد عليه: بأنّ الدعوة التكوينية والدعوة التشريعية سيّان في عدم صحّة نسبتهما إليه سبحانه بلا واسطة ، فكما لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة والمعصية والإيمان والكفر إليه تعالى بلا واسطة ، كذلك لا تصحّ نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة ،والسيّئة، فهما على حد سواء ، فنسبة الدعوة التكوينيّة إليه تعالى دون الثاني غير صحيح . وقيل : إنّ المراد هو التزيين بالأمر والنهي وبيان الحسن و القبح أي كما زيّنا لكم أيّها المؤمنون أعمالكم، كذلك زيّنا لكلّ أُمّة من قبلكم أعمالهم من الدُّعاء إلى الله سبحانه، ونهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفّر الكفّار عن قبول الحقّ .

وفيه: أنّه مخالف لعموم الآية الكريمة، وعدم الدليل على التخصيص بما ذكر.

وقيل : المراد هو التزيّين بذكر الثواب كما في قوله تعالى : «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ» (1)، أي

ص: 291


1- سورة الحجرات : الآية 7

حبّب إليكم الإيمان بذكر ثوابه ومدح فاعليه ، وكرّه الكفر بذكر عقابه وذمّ فاعليه .

وفيه : مضافاً إلى أنّه بعيد عن سياق الآية ، أنّ فيه تقييداً للأعمال بالحسنات من دون قرينة ، كما أنّ التزيّين بهذا المعنى لا يختصّ بالمؤمنين ، كما عرفت .

وقيل : إنّ المراد تزيّين مطلق الأعمال - حسناتها وسيّئاتها - ابتداءً من غير واسطة ، فتكون الدعوة منه تعالى إلى الطاعة والمعصية، دعوة إلى أنّ الإنسان جبر في الأفعال المنسوبة إليه .

ويرد عليه ما عرفت آنفاً أنّ اختيار الإنسان في الطاعة والمعصية من الأُصول الثابتة عقلاً وشرعاً، والآية الكريمة تدلّ على الاختيار، فإنّ الزينة لم تبلغ مرتبة توجب سلب الاختيار، فهى سبيل من السُّبل الحسنة يتوسّل بها إلى ترغيب الفاعل إلى إيقاع الفعل، بلا فرق بين الهداية والطاعات - فتكون فيها توفيقاً ربّانياً - وبين المعاصي والسيّئات فتكون فيها مكراً إلهياً، ولا مانع من - نسبتها إلى الله تعالى إذا كان بعنوان المجازاة دون الإضلال والمكر الابتدائي وتقدّم في ضمن بحوثنا المتكرّرة ما يرتبط بذلك ، فراجع .

قوله تعالى : «ثمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تأكيد لمضمون الآيات السابقة، فإنّ الزينة التي أودعها الله تعالى في النفوس والأشياء فى دار الدُّنيا، تنقلب في الآخرة إلى حقائق قد غفل عنها الإنسان وسترتها الزينة التي انبهر بها الفرد، فإذا رجع إلى ربّه نبأه الله تعالى بحقيقة ما كان يعمله ، وعاين ما ليس بمصروف عنه من الجزاء إمّا الحسن أو السي.

ويستفاد من مجموع الآية الكريمة أُموراً:

الأوّل : أنّها تشمل على حكم تكليفي اجتماعي، يحفظ به الوحدة الاجتماعية التي تتألّف من فرق متعدّدة مختلفة في العقيدة والفكر والثقافة .

ص: 292

الثاني : إنّ الحكم الوارد فيها من أهمّ الأحكام الشرعيّة، التي تدعو الى السلم في العيش والحياة في مجتمع واحد يدعو إلى الخير والأُلفة، ونبذ السباب الذي هو بداية التنازع والتناحر .

الثالث : إنّها تشتمل على الحكم وعلته اهتماماً به واعتناءً بشأنه، وما يترتّب عليه من الآثار الطيّبة، وهي تدلّ على أنّ سبب التوتّر بين الأفراد المتخالفة في العقائد، هو الوقوع في ستار التزيّن لما يعتقده ممّا يستلزم التعصّب والعناد.

الرابع : إنّ الآية الشريفة تدلّ على اختيار الناس وحريّتهم في الاعتقاد، فإنّ الخالق قد منحهم هذه الحرّية، ولم يجبرهم على الإيمان، وهو القادر على ذلك ، فلا يجوز التهجّم على معتقداتهم وسبّ معبوداتهم . نعم ، فتح باب الحوار والمجادلة بالّتي هي أحسن .

الخامس : إنّما ذكر سبحانه السبّ للدلالة على مطلق الإهانة، إذا تحقّق الملاك في التحريم، وهو الدخول في المجازاة في السباب وأنواع الإهانة ، كما يقع كثيراً من المتخالفين في الدِّين والمذهب، ممّا يكشف عن جهلهم وعنادهم وتكبّرهم على الحقّ .

السادس : إنّ ترك الاحترام المتبادل بين المذاهب والأديان، يترتّب عليه : آثار سيّئة لا يعلم بها إلّا اللّبيب الذي يراعى الأحكام والآداب، ويعرف روح الشرايع الإلهيّة التي نزلت لتهذيب الإنسان وتكميله.

قوله تعالى : «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ».

بيان لبعض أخلاقيّات المشركين، وهو فقدان الصدق والوفاء بالعهود فخانوا الذمم . و(جَهْدَ الأيمان) بمعنى منتهى الجهد وبذل الطاقة ، والمُراد به المبالغة في القسم، والتأكيد عليه، أي أغلط الأيمان وأشدّها . وجهد مصدر في موضوع الحال أي جاهدين .

ص: 293

والمعنى : أقسم المشركون المعاندون بالله وبالغوا فيه وأكّدوا عليه .

قوله تعالى : «لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ».

اقتراح منهم لإنزال الآيات وتعليق إيمانهم عليها ، فإن جاءتهم الآية المقترحة ليؤمننّ بها، وهم بذلك قد أعرضوا عن الحجج والبيّنات، وسكنوا إلى المحسوسات، واتّخذوا أسلوب المراوغة والنفاق .

قوله تعالى : «قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ».

أي لا بدّ لكم من الإيمان بالله سبحانه، فإنّه يملك الآيات، وتقع تحت لابد سلطانه، فلا ينالها أحد إلّا بإذنه ، وهو الذي ينزلها على وجوه الحكمة والمصلحة .

والخطاب للرسول صلّي الله علیه و آله إعراضاً عنهم، لعدم الأهلية لتلقّي الخطاب، فكيف باستجابة مطلوبهم ، والآية تبيّن أنّ مثل هذه الاقتراحات لا تكون إلّا على خلاف المصلحة ، والرسول بعيد عن ذلك ، ومن هنا يظهر الوجه في عدم تفويض الأم. إليه صلوات الله عليه وآله .

قوله تعالى : «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ».

بيان لواقع الأمر الذي عليه المشركون ، وفيه الجواب عمّا يتمنّاه المؤمنون في إيمانهم بإنزال الآيات إمّا تصديقاً لهم بإيمانهم ، أو حبّاً منهم بدخول أكثر الناس في الإيمان ، وقد نفى عن المؤمنين الشعور، باعتبار أنّ ذلك من الأُمور الغيبيّة التي لا يعلمها إلّا علّام الغيوب، فإنّ المؤمنين لا يملكون أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي ، وهو عدم إيمان المشركين إذا جاءتهم الآيات، فهم على ما كانوا عليه من الكفر والعناد . والآية تبيّن بعض الآثار السيّئة على مقترحات المشركين .

والخطاب للمؤمنين لأنّهم تمنّوا إيمانهم وصدّقوهم على حلفهم . أي لا

ص: 294

تعلمون ذلك فتتمنون نزول الآيات، وقد سبق الشقاء عليهم، ولم يشأ الله تعالى إيمانهم ، فتكون الآية من الملاحم . وإنّما ذكر السبب وهو الإشعار وأنكره عليهم مبالغة في المسبّب . وحمل بعضهم (أَنَّهَا) على أنّه بمعنى لعلّ ، ولكنّه شاذّ . كما قرأ بعضهم (إنّها) بكسر الهمزة ، كما قرئ (لا تؤمنون) بالخطاب للمشركين وفي القراءتين التفات وتلوين . و (ما) للاستفهام .

قوله تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .

تعليل لما ورد في السابق من عدم إيمان المشركين؛ أي وما يشعركم بأنا نقلب أفئدتهم، فلا يعقلون بها كما ينبغى ، وأبصارهم فلا يبصرون بها الآيات حقّ الإبصار ، فقد سبق الشقاء عليهم، فلم يؤمنوا في الدعوة الأُولى عند نزول القرآن واحتجاج النبىّ صلّي الله علیه و آله به ، وما ورد فيها من الآيات الواضحة والحجج البيّنات، فمن لم يقتنع بها لا تنفعه الآيات الحسّية، كما عهد سابقاً من الأُمم الكافرة.

قوله تعالى : «وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

العمه التردّد في الأمر مع الحيرة؛ أي يتردّدون متحيّرين لا يعرفون وجه الرّشاد ، وهذا من نتائج طغيانهم في الكفر والعصيان، وتمرّدهم على الحقّ، فقد تجاوزوا الحدود في الإعراض عن دين الله سبحانه ، ورسخوا في الطغيان ، فكان هذا هو السبب في شركهم ووقوعهم في العمه، فلا يهديهم الله تعالى «وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ».

قوله تعالى : «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ».

تفصيل ما ورد في قوله عزّ وجلّ: «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ». و تصريح بوجه الحكمة الى ترك الإجابة إلى ما اقترحوه، ممّا أشعرت به الآية

ص: 295

السابقة ، وبيان كذبهم في دعواهم الإيمان بالآيات النازلة ، مما حكاه عزّ وجلّ عنهم «وَلَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا» على أبلغ وجه وآكده . فقد جهلوا بمقام ربّهم، واعتقدوا أنّ الآيات هي أسباب مستقلّة في إيجاد الإيمان في قلوبهم ، وإنّهم قادرون على التلبّس به من دون مشيئة الله تعالى، وقد عدَّ سبحانه جميع ما اقترحوه ورد عليهم بوجه لطيف .

والمعنى : ولو أننا أجبناهم فيما سألوه وأنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم وسمعوا شهادتهم على صدق الرسول وحقّية دينه.

قوله تعالى: «وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى» .

أي أجبناهم وأحيينا لهم الموتى وكلّموهم، وأخبروهم بحقيقة الإيمان، وصدق ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون، ولاسيّما خاتمهم رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله.

قوله تعالى: «وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلاً» .

قبل إمّا بمعنى المقابلة والمعاينة ، فيكون مصدراً، أي حشرنا عليهم كلّ شيء وقابلناهم حتّى واجهوهم فشهدوا لهم . وقد نقل الراغب أنّه جمع قابل بمعنى المقابل لحواسهم ، أو جمع قبيل بمعنى كفيل ، کرغيف ورغف ، ومنه القبالة للكتاب العهد والصك ، أي لو حشرنا عليهم كلّ شيء وأحضرناهم ليشهدوا ويتكفّلوا حقّية الإيمان.

وعلى جميع الوجوه، فإنّه يجوز انتصاب (قبلاً) على الحالية من (كل)؛ لأنّه يجوز مراعاة لفظه ومعناه كما في المقام، وقيل بأنّه جمع قبيل أي حشرنا عليهم كلّ شيء قبيلاً قبيلاً وصنفاً صنفاً، فشهدوا لهم بصحّة دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وصدقه فيما جاء به .

قوله تعالى : «مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله» .

ص: 296

أي لم يؤثّر شيء من تلك الأسباب فلم يؤمنوا، ولم يستجيبوا إليها إلّا أن يشاء الله إيمانهم ، ولم تحصل المشيئة الإلهيّة لطغيانهم وتماديهم في العصيان وتمرّدهم على الحقّ وأهله ، وذلك لما عرفت مكرّراً من أنّ النظام الكياني وإن كان يجري وفق قانون الأسباب والمسبّبات، لكن جميعها مفتقرة في ذاتها غير مستقلّة في أنفسها، فلا يعقل أن يتمّ لها حكم إلّا بمشيئة الله تعالى ، ولا يمكن أن يثبت لها أثر إلّا بإذنه سبحانه، وإن اختلط الأمر على الناس ظاهراً لاسيما المعرضين عنه الغافلين عن سلطانه، الذين يجهلون مقام خالقهم، ولا يقدّرونه حقّ قدره، فينظرون إلى الظواهر ويركنون إلى الحواسّ، فيظنون الاستقلال للأسباب، وعلى هذا الاعتقاد اعتمدوا واقترحوا الآيات تلو الآيات، ظنّاً منهم أنّها العلل في الإيمان ، وهي الأسباب في تثبيته في قلوبهم ، وهذا هو الجهل العظيم الذي وقعوا فيه ، وغفلوا عن أعظم حقيقة في مخلوقات الله سبحانه، وإنّها أسباب ناقصة مفتقرة إلى رعاية خالقها لها ، ومسخّرة تحت مشيّئته تعالى فلا تأثير لها إلّا بإرادة منه سبحانه .

ما يتعلّق بتأثير المشيئة في إيمان العبد

وممّا ذكرناه يظهر الجواب عمّا استشكله بعضهم في المقام وغيره، من أنّ تأثير المشيّئة في إيمان العبد، تستدعى كونه على الإلجاء والاضطرار ، فإنّه باطل كما عرفت آنفاً، وخلاصة ما ذكرناه أنّ المشيّئة الإلهيّة تعلّقت بكون إيمان العباد وأفعالهم باختيارهم ، فراجع .

قوله تعالى : «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ».

بيان لواقع الإنسان الذي يعيشه في هذه الحياة الدُّنيا، فإنّه يعتمد على ما يصل إليه عن طريق الحواسّ، وينظر الى ظواهر الأشياء ويعتمد عليها، ويحكم بأنّها هي المؤثّرة، جهلاً منه بالحقيقة التي عليها المخلوقات، من أنّها تفتقر إلى بارئها، فلا تأثير إلّا بإذن منه سبحانه وتعالى.

ص: 297

ويحتمل أن ترجع إلى جميع ما ورد في الآيات السابقة ، كتمنّي المؤمنين إيمان الكافرين وغيرهم، جاهلين بأنّ إيمانهم إنّما يكون بمشيئته عزّ وجل وجهل المشركين بأنّ اقتراح الآيات هي المؤثّرة في إيمانهم ، وجهل الأكثر من الفريقين بأنّ الأسباب إن كانت هى المؤثّرة، ولكنّها تؤثّر بإرادة الله تعالى ومشيّئته ، فإنّ الأكثر منهم يجهلون تلك الحقيقة إلّا العلماء، ومنهم الذين لهم الاستعداد للنظر الصحيح.

المراد من العدوّ والجنّ والإنس

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيَّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ».

تسلية لرسول الله صلّي الله علیه و آله عمّا يلقاه من قومه قولاً وفعلاً، فإنّه كان يعانى من المشركين وعتاة قومه المعاندين له في سبيل نشر دعوة التوحيد، ما كان يعانيه قبله من الأنبياء والمرسلين من أقوامهم من مردة الإنس والجن، حتى صار هذا الأمر من ملازمات أصحاب الدعوة الإلهيّة ، ومن الشواهد على حقيّة دعوتهم ، ويمكن أن يستفاد من الآية الشريفة إنّه من ثوابت نبوة الأنبياء، فإنّها لم تظهر عظمتها ، ولم يتبيّن شجاعة الأنبياء وصبرهم العظيم، إلّا بمقارعة المعاندين لدعوتهم، وتحمّلهم لأنواع ظلم أعدائهم وتعدّد أساليب مكرهم .

والعد و ضدّ الصديق والحبيب يطلق على المفرد والجمع والذكر والأُنثى، قال تعالى : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ» و (شياطين) بيان ل- ( عدوّاً) أو بدل منه . وهو جمع شيطان بمعنى الشرّير المتمرّد ، قيل غُلّب استعماله في إبليس الذي يصفه القرآن الكريم وذريته بأوصاف عديدة .

والجنّ في اللّغة بمعنى الاستتار ، ويطلق على ما يقابل الإنسان والملائكة ، والمعروف أنّهم مخلوقات لها الإرادة والشعور مستورة عن حواسّنا بحسب طبعها، وهي من هذه الجهة تتّفق مع الملائكة، ولكنّهما يفترقان في أنّ الأخیر

ص: 298

مخلوقات نورانيّة ، وأمّا الجن فهي مخلوقات ناريّة، وأنّ إبليس الشيطان الأكبر منهم ، كما نصّ عليه القرآن المجيد.

والجعل في المقام تلك السنة الإلهيّة الجارية فى الأنبياء وأعدائهم فقد مضت في الأنبياء أن يكون لهم أعداء يعارضونهم في دعوتهم الحقّة ، كما أنّها مضت في أعدائهم أنّهم خرجوا عن طور العبودية ، وعاندوا الحقّ واستكبروا عليه ، وطغوا في تمرّدهم فصاروا أعداء الحقّ وأهله ، ووقفوا أمامهم صدّاً منهم، فهم حينئذٍ على بُعد من الحقّ ، كما بعدوا من أن تتعلّق بهم مشيئة الله تعالى بالهداية ، كما عرفت سابقا.

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً»

قوله تعالى : «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً».

بيان لبعض أوصاف أعداء الأنبياء وأساليبهم التي يتبّعونها في مقاومة الحقّ ، وصدّ الناس عنه . وقد ورد في هذه الآية الكريمة أوصافٌ ثلاثة لها التأثير الكبير فى هذا المجال :

الأول : إنّهم يستعملون الأُمور الخفيّة، مثل القول الخفيّ والإشارة والإيماء ونحو ذلك، إصراراً منهم في التستّر ، وعدم إظهار مقاصدهم . فيعتمدون على الطرق الخفيّة من الإعلام بالأشياء، فيوحي بعضهم إلى بعض مقاصدهم الدنيئة .

الثاني : استعمال الزينة المزوقة في كلماتهم حتّى يشتبه الحقّ . و(الزخرف) الزينة المزوقة ، وقيل : إنّه الذهب والفضّة، ولعلّه لأجل حسنهما في الأعين ، فقيل لكلّ زُخرفٍ زينة .

الثالث : استعمال الخداع في أقوالهم وأفعالهم ، تغريراً منهم للناس وإيقاعهم فى الباطل، و(الغرور ) ضربٌ من الخداع الباطل ، أو الأخذ على غرّة، وهو سبيل يتّخذه شياطين الإنس للوصول إلى مقاصدهم الباطلة، وأهدافهم الشرّيرة ، فيستعملون أجمل الكلمات وأحسن الأدوات يزيّنون بها أقبح المنكرات، فتغترّ

ص: 299

النفوس والشعوب والأُمم بها، فيقعون في خداعهم الباطل، غفلةً منهم عمّا يضمرونه من النوايا السيّئة .

والمعنى : ومثل ما جعلنا لك جعلنا لكلّ نبي عدواً من شياطين الإنس والجنّ، مجتمعين على غاية واحدة، يلتقون في إيحاءات هي وساوس ومكر وخداع في أجمل الكلمات ، وأساليب مزيّنة تخلب القلوب يغترّ الناس بها تغريراً منهم لإيقاعهم في الضلال والغواية .

قوله تعالى : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ».

رجوع إلى الشؤون الجارية بين الرسول الكريم صلّي الله علیه و آله وبين قومه ، وفيه إعلام بأنّ حكم المشيئة عام يشمل جميع خلقه وشؤونهم، من الإيمان والضلال وغيرهما ، فكما أنّ الآيات النازلة لا تؤثّر فى إيمانهم إلّا بمشيئة الله ، كذلك معاداة الشياطين مطلقاً للأنبياء، واستعمال الإيحاءات التي تغرّ الناس وتصرفهم عن الحق، إنّما تكون بإذنه تعالى، فلو شاء ما فعلوه ولكن شاء الله أن لا يغيّر سجاياهم وأخلاقهم التي زينتها أهواؤهم ، فالإنس والجنّ لهم الاستعداد لقبول الهدى والضلال والدخول في زمرة أهل الحقّ أو أهل الباطل، ولهم الخيار في سلوك كلّ واحد من النجدين .

ومن زخرف القول تحريف هذه الآية الكريمة، وإلقاؤها إلى الغافلين والإيحاء لهم بأنتها تدلّ على الجبر ، فيقال إنّ كلّ عاص الله تعالى معذور لأنه لم يعص إلا بمشيئته تعالى ولا يمكن الخروج عنها .

ولا شكّ أنّ هذا القول منشأه الإعراض عن الآيات الكريمة، والحقائق التي يستفاد منها، وقد ذكرنا ما يتعلّق بها فيما سبق من الكلام. وقلنا بأنّ ارتباط المخلوقات بمشيئة عزّ وجلّ لا يدلّ على الإلجاء والاضطرار، بل هو ارتباط ربوبيّة وقيّمومة وإحاطة علمية ، فراجع .

ص: 300

ويدلّ على ما ذكرناه الالتفات والتعريض بوصف الربوبيّة، مع الإضافة إلى ضميره صلّي الله علیه و آله التي تدلّ على كمال العناية به، وغاية اللّطف بالتسلية ، والضمير في (فعلوه) عائد إلى عداوتهم له صلّي الله علیه و آله، وإيحاءاتهم الباطلة التي تتعلّق بأمره ودينه الحقّ.

قوله تعالى : «فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ».

تفريع على ما تقدّم يتضمّن الوعيد لهم ، ويثبت الوعد له صلّي الله علیه و آله ، والضمير في «فَذَرْهُمْ» يرجع إلى الكافرين المعاصرين له صلّي الله علیه و آله ، أي إذا كانت عداوتهم له ، وإفسادهم وما فعلوه في حقّك بمشيئته تعالى فاتركهم وافتراءهم، ولا يحزنك ما يفعلون ، فإنّهم ليسوا بمعجزين الله تعالى، فإنّ مشيئته سبحانه إنّما تكون على الحكمة البالغة ، فهو الذي ينصرك وينزل العذاب عليهم . وهذه الآية وما قبلها ترجعان إلى قوله تعالى: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»، «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا».

قوله تعالى : «وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ».

بيان لأحوال المغترّين بمزخرفات الأقاويل الباطلة . و(الصغو) هو الميل والاستماع ، ومنه أصغى إلى حديثه أي استمع ، وأصغى الإناء أي أماله ، ويقال : صغى فلان ، وصغوه معك أى ميله وهواه .

ولم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلّا في موضعين: أحدهما المقام والآخر في قوله تعالى : «إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا» (1). ويستفاد منهما أنّها تستعمل في غير مرغوب .

واللّام في (التصغي) للغاية ، والجملة معطوفة على مقدّر ، أي جعلنا ما جعلنا وشئنا ما شئنا، ولم نمنع عن وحي بعضهم بعضاً زخرف القول غروراً لغايات ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لاغترارهم بها وموافقتها لأهوائهم.

ص: 301


1- سورة التحريم : الآية 4

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ تلك الأساليب المزيّنة، وزخارف القول توجب ميل الأفئدة إليها ، والوقوع في الخداع التي توجب صرف القلوب عن الحق والإعراض عن الحقيقة ، فإنّ القلوب المائلة التي تستولي عليها الزخارف وانبهارها بالزينة التي توقع الإنسان في أعظم الغرور، إلّا من يؤمن بالآخرة ويفكر في عواقب الأُمور ، ولعل الاقتصار على هذا العنصر من عناصر الإيمان ، لان الإيمان بالآخرة هو الداعي إلى التفكّر والبحث عن الحقيقة والاعتقاد بسائر العناصر .

قوله تعالى : «وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ».

الاقتراف هو قشر اللّحاء عن الشجرة والجليد عن الجرح، وما يؤخذ منه قرف ، ثمّ استعير الاقتراف للاكتساب الحسّي أو سوى ذلك ، وإن كان في الأخير أكثر . وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ستّة مواضيع ، واللام في (ليرضوه) لام كي .

والآية الكريمة تشتمل على المفاعيل المتتالية الدالّة على غاية الفصاحة ، فإنّها ابتدأت بالخداع ، ثمّ الميل، فالرضا ، ثمّ فعل الاقتراف ، فكلّ واحد مسبب عمّا قبله . أي فليرضوا بافترائهم وأفعالهم من غير تفكّر في عواقب الأُمور ، وما يترتّب عليه من الآثار السيّئة، ويكتسبوا بذلك القبائح والآثام لينالوا جزاء - أعمالهم في الآخرة، فإنّ الله تعالى يمدّ كلّاً من أهل السعادة والشقاء بما يقتضيه استعدادهم، ليتمّ به مسيرهم إلى منازلهم في الآخرة ، كما قال تعالى : «كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْفُوراً» (1) .

***

ص: 302


1- سورة الإسراء : الآية 20

بحوث المقام

بحث دلالي: ما تدلّ عليه الآيات الكريمة

تدلّ الآيات الكريمة على أُمور:

الأوّل : يدل قوله تعالى : «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ» على أنّ سيء الأقوال والأفعال لا تفيد إلّا الأثر السيء، ومن تطبيقات هذا الأصل الأصيل ما ورد في الآية الشريفة، فإنّ سبّ المشركين وتجريح عواطف الآخرين في معتقداتهم، يوجب الابتعاد بين فريق الحقّ وفريق الباطل، وترامي السباب بينهم ، وهو يخالف تعليمات الإسلام التي تدعو إلى الحوار بين الفرقاء ، وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأعظم صلّي الله علیه و آله.

وإنّما ذكر سبّ الّذين يدعون من دون الله، دون سبّ نفس الشركاء والمعتقدات، لأنّ الأوّل أكثر تأثيراً في النفس وإثارة للعواطف ، وإن كان الثاني داخلاً في الحكم لوحدة المناط فيهما .

الثاني : يدلّ قوله تعالى : «بِغَيْرِ عِلْمٍ» على أنّ هذا النوع من السباب المتبادل والاستهزاء بين الفرقاء، إنّما هو من فعل الجاهلين الذين لم يدركوا الآثار السيئة التي تترتّب عليه ، بل إنّ من أهمّ تلك الآثار أنه يجعلهم في عداد الجاهلين ، وأنّ فعلهم لا يؤدّي إلى خير ينتفع به أحد .

الثالث : يرشد قوله تعالى : «كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ» على أنّ الاستبداد بشيء، ولاسيما الاعتقادات والأعمال المترتّبة عليها مطلقاً - حقّة كانت أو باطلة - إنّما منشأه تعلّق القلب وانبهار النفس بها من جهة التزيّين الحاصل فيها، ممّا يستدعي التعصّب لها، وهو يستلزم سلب المعرفة التي هي أساس الوصول إلى الكمال الذي

ص: 303

منه نبذ الاستبداد والتحاور لأجل الوصول إلى الحقّ ، والتعايش السلمى بين بين أفراد المجتمع الذي يتكوّن من شرائح مختلفة في الآراء والعقائد والعادات والتقاليد ، وهذا النوع من المعرفة لم يكتسبها إلّا الأفراد الذين لم ينبهروا بالزينة الحاصلة في الأشياء، إلّا إذا استغلّت في سبيل الوصول إلى الحقّ، وكانت سبباً في الاتّعاظ بها، لا أن تكون سبباً للغفلة عن الله تعالى ودينه الحقّ .

الرابع : يدلّ قوله تعالى : «ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» على أنّ التفكّر في الآخرة والرجوع إلى الله تعالى الربّ العظيم الذي يرعى شؤون عباده ومنها وجود الزينة في الأعمال، فهي وإن كانت تُثير النفس وتحرّكها نحو العمل ولولاها لما حصل هذا المهم ، ولكنّها إذا لم تقترن بالتفكّر نحو المرجع والحساب والجزاء، فإنّها تؤدي إلى العصبية والاستبداد ثمّ الظلم والعدوان.

وأمّا إذا اقترنت بالتفكّر والتذكير بالرجوع إلى الربّ سبحانه، فإنّه يقلّل من تأثيرها الكبير على النفس، بل تقدح نور المعرفة، وتنير الطريق للوصول إلى - الكمال المنشود، وخضوع الأنفس إلى الحق والاعتقاد به .

ومن الجدير بالذكر أنّ العمل الذي كان سبباً للزينة في دار الدُّنيا، يكون سبباً لنيل الجزاء في الدار الآخرة، فاجتمعت فيه العلّتان الفاعلية والغائية ، فلابدّ من رفع حجاب الغفلة عن القلوب وإنارة بصائرها، لاختيار العمل المفيد الذي يؤثّر في تزكية النفوس، وترك تلك الأعمال التي توجب انبهار النفس بها، وتحقيق الزينة الزائلة التي تحجب عن ذكر الله تعالى، فإنّه سبحانه هو العالم بالحقائق وخفايا الصدور ومكنونات النفوس، وأنّه سوف ينبّئهم بما كانوا يعملون .

الخامس : يرشد قوله تعالى : «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» إلى تذبذب المشركين، وعدم اقتناعهم بما يدور في أنفسهم ، وعدم اعتماد الناس عليهم، حيث اقسموا بالله جهد أيمانهم، مع أنّهم إنّما طلبوا ما له دخل في العقيدة والإيمان ،

ص: 304

وفيه من التساهل ما لا يكون في غيره.

السادس : يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللهِ» أنّ الآيات الإلهيّة سواء كانت من التكوينيّات أو التدوينيّات، إنّما تكون حججاً وبراهين لها الدلالات والتأثيرات، إنّما تكون كذلك بإرادة منه عزّ وجلّ ومشيئته المتعالية، حسب حكمة متعالية لا يعلم خصوصيّاتها أحد إلّا الله تعالى، فما يقال: من أنّها إذا كانت كذلك، فإنّما يستلزم الجبر والإلجاء ، فهو جهل بتلك الحكمة المتعالية ، كما هو الحال بالنسبة إلى سائر صفاته المتعالية، التي لا يمكن لأفهام البشر درك حقيقتها، وإنّما يستفيد حسب الفهم المخلوق المحدود المتّصف بالفقر والنقص، وهو بحسب استعداده الذاتي يبحث ويتكلّم، ولا يمكنه التخلّص عن ذلك إلّا بالرجوع إلى الكتاب المجيد وسنّة الرسول وأهل بيته عِدل القرآن صلوات الله عليهم أجمعين .

السابع : يدلّ قوله تعالى: «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» على اختيار الإنسان في أفعاله، فإنّه لو كانت على نحو الإلجاء لما كان لنفي الشعور عن المؤمنين وجه ، فإنّهم يدركون حينئذ أنّ الآيات عللٌ تامّة في الإيمان، فلا يصحّ سلب الشعور عنهم . كما أنّ نسبة عدم الإيمان إلى المشركين فيها الدلالة الواضحة على اختيارهم الكفر بعد مشاهدة الآيات، فلو كانت أسباباً ذاتية لما تخلّف الإيمان عنهم . وهذه الآية أيضاً من الدلائل الواضحة على إثبات الاختيار في الإنسان ، وكون نزول الآيات على وفق حكمة متعالية .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ» أَنَّ اللَّه سبحانه لم يدع الإنسان على حاله ويتركه وشأنه مهما بلغ في الكفر والعصيان، فهو عزّ وجلّ يقلّب أفئدتهم وأبصارهم في هذه الدُّنيا، لعلّهم يستفيدون من الإيحاءات

ص: 305

الربّانية والومضات الإلهيّة وآياته المتتالية، ويرجع عن غيّه وضلاله، ويتمّ الحجّة عليه ، فإنّ ذلك من شؤون ربوبيّته العظمى ورأفته بعباده، فلم يتركهم هملاً أو متحيّرين لا يعرفون طرق الصلاح ، ولئلّا تكون لهم الحجّة على الله المتعال، إلّا أن يبلغ الغي والضلال به إلى العناد واللّجاج والتكبر على الحقّ فيصل إلى درجة ،الطغيان فيتركه وشأنه كما تدلّ عليه آيات كثيرة .

التاسع : يستفاد من قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ...» أنّ الإنسان قد يبلغ به السوء، أنّه لا يستفيد من الحقائق شيئاً، مع أنّ لها التأثير البليغ في الموجودات كلّها، فضلاً عن الإنسان الذي منحه الله تعالى الوعي والإدراك والفهم الخاصّ به، فتميّز عن غيره ، فإنّ الملائكة حقائق نورانية لها تأثيراتها القيمة على من تنزل عليهم ، كذلك تكليم الموتى لهم بما رأوا من الحقائق ، فإنّ له التأثير البليغ على الأحياء ، فهم يخبرون عن شهود، وكذلك حشر كلّ شيء لهم، وإخبارها الأُمور الدقيقة التى يغفل عنها الإنسان، وهو يراها ماثلة أمام عينه ، ولا يمكنه التغاضي عنها ، فكيف لا يستفيد منها المشركون والكافرون في إزالة جهلهم والارتقاء في سلّم الكمال ، إلّا أنّهم قد بلغوا الدرجة الدانية من الخسران ، ولعلّه لأجل ذلك عقّب سبحانه ذلك بقوله أن أكثرهم يجهلون، فلا يدركون تأثيراتها إلّا من ألهمه الله سبحانه نوراً يمشى به في ظلمات الجهل .

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : «يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» الروابط المتحققة بین أعداء الحقّ من جميع مظاهره، ليعرفها المؤمن ويحذر منها ويعالجها بحكمةٍ وتعّقل، ومن أهمّ تلك الروابط اتّحادهم في الهدف، وهو تقويض أركان الحقّ وهدم كيانه ، ومنها استخدامهم أدقّ الوسائل وأعظمها تأثيراً في النفوس، وهو الإيحاء الباطل، والتفنّن في التوسّل بأنواع الحيل والخديعة ، ومنها استخدامهم الكلمات الخلّابة ليغترّ بها الناس ، وإظهار أنفسهم

ص: 306

بمظهر الناصح الأمين، وقلوبهم مليئة بالحقد والكراهيّة للحقّ وأهله ، وإنّما استخدموا ذلك افتراءً منهم لإبعاد الناس عن الحقيقة والواقع، ثمّ إيقاعهم في المهالك وسوء العاقبة ، فالآية الكريمة في تعدداها لتلك الروابط التي يجتمع عندها أهل الكفر والعناد واللّجاج بأسلوبها البلاغي اللّطيف، إنّما تفيد التذكير بالمؤمنين، والتحذير من المعاندين .

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى: «وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ...» أنّ تلك الأساليب والوسائل التي يتّخذها أعداء الحقّ، من الإيحاءات والكلمات المزخرفة والتي تغرّ الناس، وتوجب الانتباه التامّ إليها، لا محالة تؤثّر في الأفئدة التي هي محلّ المشاعر، والتي تقبل المؤثّرات مطلقاً، دون القلوب التي محلّ التفكر والحكمة ، ولعلّه لأجل ذلك لم يذكر سبحانه لفظ القلوب ، فلا ينجو أحد منها إلّا بالإيمان بالآخرة، والتفكّر في العقبى ، فإنّ في ذلك تندك جميع الأوهام ، ويظهر زيف الأقوال وفساد الأعمال ، كما أنّ الاعتقاد بالآخرة يجعل الإنسان أكثر عقلانية في أُموره ، ويضطّره إلى التفكّر في حياته ، فلا تميل الأفئدة حينئذٍ، ولا تصغي إلى زخارف الدُّنيا، فضلاً عن زخارف الأقوال ، فالأفئدة حينئذٍ تقع تحت تأثيرات القلوب والأفكار المنتجة .

الثاني عشر : يستفاد من مجموع آيات المقام بعض الصفات المهمّة التي يتميّز بها المشركون وأعداء الحقّ وأهله، التي غلبت على نفوسهم فصارت سجايا وملكات راسخة، فزاد بذلك جهلهم بالحقيقة وتمرّدهم على الحقّ ، مع ما أُقيم عليه من أتمّ الحجج والبراهين ، ولعلّه لأجل ذلك كان توعيدهم على ما فعلوه عظيماً، فقال سبحانه: «وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ»، فإنّ أعمالهم تحكي عن صفاتهم وسجاياهم، وستظهر يوم ظهور الحقائق بما يتناسب تلك الملكات الرديئة ، ونذكر أهمّها :

ص: 307

منها : إنّهم أعداء الله تعالى يسبّونه متى شاءوا، لاسيما إذا أُثيروا عليه ، فلا حرمة له عزّ وجلّ عندهم . كما لا حرمة للأنبياء وأهل الإيمان عندهم.

ومنها : إنّهم جاهلون بالحقائق والواقع .

ومنها : إنّهم مغترّون بالدُّنيا وزينتها وزخرفها .

ومنها : إنّهم مغرورون بأعمالهم ممّا أوجب سلب المعرفة عنهم، فازدادوا في استكبارهم على الحقّ وعتوّهم على أهله.

ومنها : إنّهم لم يثقوا بأنفسهم، فتراهم يتردّدون في الدخول فيما يجلب لهم الخير، فقد فسدت أخلاقهم، ولأجله تراهم يقسمون بالله مؤكّدين عليه .

ومنها : إنّهم يستعملون أنواع الحيل والخديعة للإيقاع بين المؤمنين ، وإخفاء الحق .

ومنها : إنّهم يتوسّلون بزخرف القول لإيقاع الناس في الجهالة ، وإبعادهم عن الواقع .

ومنها : إنّهم لا يعتنون بالآيات الإلهيّة، ولا يأبهون بالحجج والبراهين.

ومنها : إنّهم لا يؤمنون بالآخرة الذي هو الأساس في كسب الكمالات والعمل الصالح.

***

بحث روائي حول الروايات الواردة في نهي المؤمنين عن سبّ آلهة الكفّار :

في «تفسير القمّي» عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال : «سُئل عن قول النبي صلّي الله علیه و آله : إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء . فقال علیه السّلام: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله، فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون ، فنهى الله المؤمنين عن سبّ آلهتهم، لكي لا يسبّ الكفّار إله المؤمنون، فيكون المؤمنين قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون،

ص: 308

فقال : «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ».

أقول : يستفاد من الحديث تفسير الشرك بالشرك فى الطاعة ، فإنّ المؤمنين كانوا يرون إنّ من طاعة الله سبّ آلتهم، فكان ذلك سبباً في سبّ الكفّار إله المؤمنين ، وقد نهوا عن ذلك، فإنّه لا يُطاع الله من حيث يُعصى .

وفي «الكافي» عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر علیه السّلام ، قال : «في التوراة مكتوب فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى بن عمران علیه السّلام: یا موسی اكتم مكتوم سرّي في سريرتك، وأظهر في علانيّتك المداراة عنّي لعدوّي وعدوّك من خلقي، ولا تستسب لي عندهم مكتوم سرّي فتشرك عدوّك وعدوّي في سبّي».

أقول : الحديث يبيِّن وجهاً آخر للنهي عن سبّ آلهتهم، لأنّه يكون سبباً في سبّ الله تعالى ، كما عرفت .

وفي «تفسير العيّاشي» عن عمر و الطيالسي، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال :

«سألته عن قول الله تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...».

قال : فقال : يا عمر و هل رأيت أحداً يسبّ الله ؟ قال : فقلت : جعلني الله فداك فكيف ؟ قال : مَن سبّ ولى الله فقد سب الله» .

أقول : إنّه يدلّ على تعميم الحكم ليشمل أولياء الله تعالى ، لوحدة المناط وهو احترام المقدّسات .

وفي «الدّر المنثور» اخرج ابن أبي حاتم عن السديّ ، قال :

لمّا حضرت أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنّا ابن أخيه، فإنّا نستحيى أن نقتله بعد موته، فتقول العرب : كان يمنعه فلمّا مات قتلوه .

فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأُميّة وأبيّ ابنا خلف

ص: 309

وعُقبة بن أبي مُعيط ، وعمرو بن العاصى والأسود بن البختري ، وبعثوا رجلاً منهم يُقال له المطّلب ، فقالوا استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا عليه .

فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيِّدنا ، وإن محمّداً قد آذانا وآذى آلهتنا ،فنحبّ أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، فدعاه فجاءه النبيّ صلّي الله علیه و آله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمّك، قال رسول الله صلّي الله علیه و آله : ما تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك ، قال النبيّ صلّي الله علیه و آله : أرأيتم أن أعطيكم هذا هل أنتم معطوا كلمة إن تكلّمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم الخراج ؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال : قولوا لا إله إلّا الله ، فأبوا واشمأزوا.

قال أبو طالب : قُل غيرها فإنّ قومك قد فزعوا منها ، قال : يا عمّ ما أنا بالذي أقول غيرها حتّى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ولو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها، أراد أن يؤيسهم فغضبوا، وقالوا : لتكفنّ عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله : «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ».

أقول : الرواية مع قطع النظر عن سندها لا يمكن الالتزام بمضمونها ، فإنّ الرسول صلّي الله علیه و آله لم يكن سبّاباً أبداً ، كيف وإن مقام النبوّة ومنصب الرسالة ينافيان ذلك ، بل إنّ وقار النبوّة يحكم بتنزّهه عن السبّ والشتم ، وأنّ عظيم الخلق الذي عليه يمنعه من النُّطق بهما .

نعم ، قد ورد في القرآن المجيد وكلماته المباركة الدُّعاء على أعداء الله تعالى دون الشتم والسبّ، والنهي إنّما توجّه إلى المؤمنين بالاجتناب عنها عند المخالطة مع الكافرين، وهذا المعنى بمعزل عمّا ورد في الحديث، كما أنّ فيه

ص: 310

مواقع للنظر واضحة .

وفي «الدّر المنثور» أخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي ، قال :

كلّم رسول الله صلّي الله علیه و آله قريشاً، فقالوا: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، وأنّ عيسى كان يحيي الموتى، وإن ثمود كان لهم ناقة فأتنا من الآيات حتّى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أيّ شيء تحبّون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، قال : فإن فعلت تصدقوني ؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين ، فقام رسول الله صلّي الله علیه و آله يدعو فجاء جبرائيل فقال له : إن شئت ، أصبح ذهباً فإن لم يصدّقوا عند ذلك لنعذبنّهم ، وإن شئت فاتركهم حتّى يتوب تائبهم ، فقال : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله : «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إلى قوله يَجْهَلُونَ».

أقول : الرواية لا تنطبق على مفاد الآية الكريمة ، وإن ذكرها المفسِّرون سبباً لنزول الآية التي تدلّ على عدم إيمانهم وإن جاءت الآيات المتتالية، إلّا أن يشاء الله إيمانهم، وهو عزّ وجلّ لم يشأ ذلك فلا يتطابق المفادان .

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ...» في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السّلام، يقول : «وننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، ونُعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى، وقال علي بن أبي طالب علیه السّلام: إنّ ما تقبلون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ، ثمّ الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيراً أبداً».

أقول : المراد بالنكس هو في الإدراكات، فتنقلب الأحكام التي كانت تترتّب على العقل السليم، ويتسلّط الهوى والقوى الحيوانيّة عليه .

وفي «تفسير العيّاشي»، عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیهماالسّلام : «عن قول الله : «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ... الآية»؛ أمّا

ص: 311

قوله : «كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» فإنّه حين أخذ عليهم الميثاق».

أقول : هذا تفسير آخر للآية من حيث إنّ المراد (أوّل مرّة) في عالم الميثاق في عالم الذّر ، وهو وإن كان يخالفه ظاهر الآية ، ولكن يمكن الجمع بينهما عند البحث عن عالم الذرّ إن شاء الله تعالى .

وفي «الكافي» بإسناده إلى أبي عبد الله علیه السّلام في حديث طويل يقول فيه : «فإنّ من لم يجعله الله من أهل صفة الحقّ فأُولئك همّ شياطين الإنس والجنّ» .

أقول : هذا التفسير حسن؛ لأنّ من لم يكن من أهل صفة الحقّ، فإنّه يخالفه ويعارضه، ويستعمل كلّ أساليب الخداع لطمسه فيكون شيطاناً .

وفي «الخصال» عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «الإنس على ثلاثة أجزاء، فجزء تحت ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدميِّين وقلوبهم قلوب الشياطين».

أقول : الجزء الأوّل هم الذين حاسبوا أنفسهم قبل يوم القيامة ، فيدخل فيهم الأنبياء والأولياء ، والكلّ من المؤمنين فليس عليهم من سبيل ، وأمّا الجزءان الآخران فحالهما معلوم . نعم، في الجزء الأخير يظهر تناسب العمل والجزاء فتكون قلوبهم قلوب الشياطين فلا يذعنون للحقّ .

وفي «الخصال» أيضاً مرفوعاً إلى على علیه السّلام ، قال : «الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض ، وفضائل ، ومعاص ... إلى أن قال علیه السّلام: وأمّا المعاصي فليست بأمر الله، ولكن بقضاء الله وبقدره وبمشيئته وعلمه، ثمّ يعاقب عليها».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بمضمون الحديث في هذا التفسير مكرّراً، وذكرنا إنّه لا ريب في كون المعاصي بقضاء الله أي بنهيه سبحانه وزجر عباده عن ارتكاب المنهيّات، كما أنّ المراد بقدر الله أي بتقديرها مقدارها وخصوصيّاتها، ومشيئته أي شاء الله أن لا يمنع العاصي إلّا بالنهي والزجر دون الجبر والمنع .

***

ص: 312

بحث عرفاني حول العقبات والحُجب الظلمانية في النفس

الآيات الشريفة تبيّن العقبات في الطريق، والحُجب الظلمانية في النفس، والموانع في طريق الاستكمال ، كما أنّها تذكر السالكين بمواضع الضعف في النفوس لينتبّه السالك إليها فيصلحها . فقد بدأ سبحانه بأهمّ ما يوجب الابتعاد عن الله تبارك وتعالى، وهو سبّ الإله المعبود ، فإنّ الآثار المترتّبة عليه وخيمة، أهمّها أنّه يجعل السابّ في عداد الجاهلين، ويزيد في الاستكبار على الحقّ، والازدراء والإهانة لأولياء الله ومقدّسات الدِّين القويم ، وأنّ السبّ يكشف عن الغيظ والغضب الكامن في القلوب والنفوس، وهما من مفاسد الأخلاق، ومن العقبات الرئيسة في هذا المسير التكاملي للوصول إلى المعرفة الكاملة ، فإنّه إن لم يعالج في إزالتها ربما يؤدّي إلى النفاق والكفر ، وهما خلاف العبودية ، وكفران لأنعمه تبارك وتعالى ، وهو من أشدّ الذنوب وأسرعها تأثيراً. فقد منَّ خالق النفوس أن أودع فيها من الاستعداد لنيل الكمالات والقابليّات لاقتناص الخيرات، فزيّن لنا الأعمال مطلقاً الخير والشرّ، فيطلب كلّ واحد منّا ما فيه من الاستعداد الأزلي، فإذا كان المطلوب هو الذي أفاض علينا تلك النِّعم المتواردة بالسنة الاستعداد، كان المطلب عظيماً ، ومن شأنه عزّ وجلّ أن لا يرّد طالباً، فمن الجهالة بمكان أن نعرض عن هذه المنحة الربانية ، ونطمس هذا النور بمفاسد الأخلاق ، أو أن نوجد في هذا الطريق موانع وعقبات حتى يصل إلى أهمّ عقبة، وهي الإعراض عن الآيات البيِّنات والاحتجاب بالحس والمحسوسات، حتّى نحتاج إلى مزيد من الخوارق ونطلب زيادة في الآيات، فإنّه من التدخّل في شؤون الربّ العظيم الذي ينزلها حسب المقتضيات، وقبول النفوس تلك الاشراقات والومضات حسب كسبها من الاستعدادات وصلاحها ، ولا ريب أنّ الذين يطلبون تلك الآيات، إنّما حجبوا عن الاستفادة منها لسوء الاعتقاد، وفساد الأخلاق

ص: 313

والأعمال ، وإضمار الشرّ في نفوسهم ، فهم وإن كانوا بحسب الظاهر يطلبون إنزال الآيات لأجل الإيمان بها ، أو لاحتساب أنفسهم من المؤمنين بالتسليم، ولكن سبق الشقاء عليهم ، وإنّهم في تقلّب مستمرّ في الأفئدة والأبصار، فلم يثبت الإيمان في قلوبهم، ولم يكونوا مؤمنين في جميع مراحل حياتهم، فقد أعرضوا عن الحجج الباهرات والبيّنات الزاهرات ، فتركهم خالقهم في طغيانهم واستكبارهم، فهم لا يريدون وجه الرشاد، ولم يستفيدوا من نور الفطرة، كما لم يستفيدوا من الرُّسل والأنبياء والكتب الإلهيّة المقدّسة، وأغمضوا عيونهم عن تلك الومضات الربّانية المودعة في النفوس بلسان الاستعداد ، فصاروا بذلك أعداء الحقّ وأهله وابتعدوا عن الحقيقة، ولأجل اختلافهم في الصفات الرديئة، واختلاف الأنبياء في الدرجات، وتفاوت مراتب نفوسهم الطاهرة ، فقد صار لكلّ نبيّ عدو خاصّ به ، ومن العداوة لهم الجهل بمقاماتهم كما قيل : إنّ الجاهلين لأهل العلم أعداء ، وكلّما اشتدّ التفاوت اشتدّت العداوة التي هي نقمة على الأعداء ، ولكنّها كرامة للأنبياء، فيزيدهم قُرباً إلى الله تعالى، وتوجّهاً إلى الحقّ سبحانه ، ويزيدهم حرصاً على الفضائل، فيقهروا بها أعداءهم ، كما أنّ المفاسد الأخلاقية عند الأعداء تكون سبباً لكمال المؤمنين، ويعتبر هذا من تقليب الأفئدة والأبصار الذي هو من خفي ألطافه عزّ وجلّ، وقد اشتهر عند أهل المعرفة إنّ البلايا هي المطايا، واعتبروا أن من أشدّ البلاء شماتة الأعداء.

ومن الإشارات في الآية الكريمة أنّ شيطان الإنس أقرب إلى الشخص ولهذا قدَّم ذكره على الجنّ في المقام، ويعتبر أهل السير والسلوك أنّ النفس الأمارة من أعداء الإنسان، ويلتجئون إلى الله سبحانه في النجاة من عداوتها والتخلّص من وساوسها ، فيجب التنبّه التامّ وعدم الإصغاء إلى زخارف أقوال الأعداء ، والشيطان إنّما يتسلّط على ابن آدم من جهة فضول النظر والكلام

ص: 314

والطعام والمخالطة لما فيها من الموانع، إلّا من يذكّرهم الله برؤيته ، فالتوعيد شديد، والعاقبة سيّئة، فليرضوا الشيطان بمحبّتهم إيّاه، وليقترفوا ما همّ مقترفون، فإنّ نفوسهم محجوبة بسبب ما اقترفوه ، فتراكمت الحُجب، وارتكزت الموانع في جميع مشاعرهم، وثبت الجهل في شعورهم ، وكلّها من أشد الحجب ، فلابدّ للسالك ملاحظة تلك الدقائق، فإنّ لها التأثير الكبير في التخلية والتزكية اللّتين هما بمنزلة جناحي السالك العارف يطير بهما في سماء الكمالات .

***

ص: 315

سورة الأنعام، الآية 114 - 121

الآية 114 - 121

«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121) ».

الآيات الشريفة تبيّن التوحيد في الحكم بعد بيان التوحيد في العبادة والصفات، والوحدانية في الذات، وفيها أُسس الإيمان والعقيدة، وتبيّن بطلان الشرك وفساد مظاهره ، فهو الله الذي يكون حَكَماً يفصّل أحكامه ، وقد أنزلها في الكتاب الذي تعتبر الآية الكبرى الإلهيّة التي تدلّ على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وصحّة رسالته، فيجب إتّباعه والرجوع إليه في التشريعات الإلهيّة، دون الضالّين من

ص: 316

شياطين الإنس والجنّ الّذين اتّبعوا أهواءهم، وقد نهى سبحانه في الآيات عن إتّباع الناس إبّان بعثته صلى الله عليه وآله لغلبة الشرك وضلال المشركين؛ لأنّهم يتّبعون الظنّ وإن هم إلّا يخرصون ، وأنّ من جملة ضلالاتهم مسألة الذبح لغير الله، وأكل الميتة التي تعتبر من المسائل العقائدية الشرعية ، فأمر سبحانه بأكل ما ذكر اسم الله عليه وأكّده بالنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، لتثبيت عقيدة التوحيد بجميع مصاديقها ، ونبذ الشرك بكلّ مظاهره ، فكانت آيات متتالية متناسقة مترابطة في سياقها، تردّ عقائد المشركين وأوصافهم وتبيّن فسادها، وتؤكد على عقيدة التوحيد في الحكم والتشريع .

***

ما يتعلّق بقوله تعالى: «أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً»

التفسير

قوله تعالى : «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ».

تفريع على ما سبق ، فإنّ الله سبحانه قد أنزل من الآيات البينات والبراهين الزاهرات التي تدلّ على توحيده في الإلوهيّة والعبادة، كما أنزل القرآن الكريم الذي وصفه عزّ وجلّ بأنّه كتاب مبارك، لما يشتمل من التشريعات الرائعة والدِّين القويم التي تهدي الإنسان إلى سبيل السعادة والفوز بالفلاح، والوصول إلى صلاح حاله في النشأتين، وعلى ضوء تلك لابدّ أن يكون الحَكَم هو الله تعالى، ولا يعقل أن يكون غيره حَكَماً ، لأنّه الموصوف بكلّ أوصاف الكمال، والعالم بالحقائق وأسرار الموجودات ، والرسول صلى الله عليه وآله أوّل من يعرف خالقه، فيكون سعيه ومبتغاه أن يتّخذه حَكَماً في جميع شؤونه .

والَحكَم بفتحتين كالجبل، صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها . وهو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه ، وهو والحاكم واحد، إلّا أنّ الحَكَم أمدح وأبلغ، لأنّ فيه استحقاق أن يتحاكم إليه ، وأنّه لا يحكم إلّا بالحقّ، بخلاف الحاكم

ص: 317

فإنّه قد يحكم بغير حقّ . كما أنه يأتي للواحد والجمع . والاستفهام إنكاري بمعنى . النفي ، أي لا أبتغي حكماً غير الله تعالى .

قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً» .

جملة حالية تؤكّد الإنكار وتبيّن السرّ في كونه حكماً ، لأنّه نزّل القرآن الذي اشتمل على حقائق الدعوة الإلهيّة، ويبيّن حقيقة الدين القويم ، وفصل الأحكام الربّانية ، ولأهمية هذا الكتاب وعظمته في جميع ما يتضمّنه، فقد نسب إنزاله إليه سبحانه تعظيماً لشأنه .

والتفصيل الذي تميّز به القرآن المجيد إمّا لاشتماله على أحكام العقيدة والعمل وعمومها لجميع شؤون الحياة ، أو لأنّه قد وضّحت فيه تلك الأحكام، فلا غموض فيها ولا إجمال ، أو لأنّه متميّز فى معارفه من غير اختلاط بينهما، فجدير أن يكون هو الحَكَم الذي لا ينزله أحد إلّا الله تعالى، الذي اتّصف بهذه الصفة المتعالية فهو تعالى الَحكَم وما أنزله هو الحكم أيضاً، فقد اجتمعت فيه العلل الفاعلية والغائية والمادّية، فما أعظمه من كتاب إلهي ؟!!

والآية الكريمة تثبت الوحدانية في الحاكمية والحكم نظير قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(1)، وهي ردّ على المشركين الذين أقسموا بالله على الإيمان به عزّ وجلّ، فإنّ الكتاب المنزل من عنده هو من الآيات البيّنات والحكم الفصل، فلا فائدة في إنزال آية أُخرى مقترحة بعد ذلك، فهم لا يؤمنون ويبقون على كفرهم مصرّين عليه عتوّاً واستكباراً على الحقّ.

قوله تعالى : «وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ».

ص: 318


1- سورة غافر : الآية 20

جملة معترضة تبين حقية الكتاب ، وتقرّر كونه منزلاً من عنده عزّ وجلّ ، وفيها التفات إلى خطاب الرسول صلّى الله عليه و آله تثبيتاً لدعواه وتأكيداليقينه ، وزيادة لرسوخ قدمه ، واطمئنان ،قلبه ، ولإعلام المشركين بأنّه على بصيرة من أمره ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب الإلهيّة ، كما أن المراد بالموصول علماء أهل الكتاب، وإدراجهم فى الخطاب للإعلام بأنّهم العالمون بأنّ القرآن الكريم حقّ منزل من الله تعالى على خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله وذلك من جهة كتبهم .

وإنّما ذكر سبحانه «بِالْحَقِّ» مع أنّ النازل منه حقٌّ لا ريب فيه ، لدفع كلّ شكّ ووهم يتوهّمه المخاطب من المشركين، فلا يكون بتنزيل الشيطان، أو بطريق الكهانة ، أو بإملاء من المردة، كما أنّ في التعويض بعنوان الربوبيّة مع الإضافة الى ضميره صلّى الله عليه و آله لتشريفه ، وإيذاناً بأنّ نزوله من آثار ربوبيّته .

والآية الكريمة تقرر على الكافرين علمهم بأنّ القرآن منزّل من الله، فلا يمكنهم الإنكار ، ولا عذر لهم بالإعراض، فهو القرآن النازل بالحقّ، يحفظ جميع العقائد الحقّة، ويشتمل على المعارف الربوبيّة ، ويعترف بالرسالات السماوية، فهو حقّ في جميع شؤونه منزل من الحقّ على الرسول الحق .

قوله تعالى : «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ».

خطاب لجميع الأفراد ممّن يتصوّر منه الامتراء على سبيل التعريض ، فلا نحتاج إلى تأويل إذا كان الخطاب متوجّها إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله الذي لا ريب أنّه لم يكن من الممترين ، ويحتمل أن يكون الخطاب له علیه السّلام باعتبار كونه رأس الأُمّة ورئيسها، الا فيكون إلزاما لغيره كما تقدّم منّا مكرّراً، والمقصود حينئذ زيادة الاطمئنان والعزيمة والثبات في النفوس . فإنّه إذا كان حقّاً فلا ينبغى التردّد والارتياب فيه .

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً»

قوله تعالى : «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً».

ص: 319

تثبيت للحقّ الذي جاء به النبيّ صلّى الله عليه و آله ، فلا تبديل ولا تغيير بعد ثبوت نبوّته، والكتاب النازل عليه والدِّين الحقّ . فإنّها مع حقيّتها هي كاملة من حيث الذات والصفات ، كما أنّها أُضيفت إلى الربِّ المتعال فيكون منزلاً منه سبحانه بالحقّ .

وتمام الشيء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه ، قاله الراغب . والكلمة بمعنى الظهور والبروز، وهو الجامع بين موارد استعمالاتها ، وقد تقدّم ما يتعلّق بها في الآية 45 من سورة آل عمران، ولها إطلاقات :

منها : إطلاقها على جميع الموجودات فهي كلمات الله تعالى لأنّها مظاهر قدرته ومبرزات مشيئته، كما أن أنبياء الله تعالى وأولياءه كلمات الله سبحانه، لأنتهم مظاهر تشريعاته وأخلاقه .

ومنها : الكلمات الهجائية التي يكون بين أفرادها فرقٌ واضحٌ كذلك يكون بين كلمات الله تعالى التشريعيّة والتكوينيّة .

ومنها : كلمة التوحيد التي اتّفقت الكتب الإلهيّة على الدعوة إليها، وتعتبر من أُسُس دعوة الأنبياء والمرسلين صلوت الله عليهم أجمعين، وهي من أوّليّات العقل، بل من البديهيّات التي لا يمكن إنكارها ، وهي الكلمة التي يجب العمل بها عقلاً وشرعاً .

ومنها : الاعتقاد الحقّ والعمل الذي تدعو إليه كلمة التوحيد.

ومنها : القول الحقّ من القضاء أو الوعد ، كما قال تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»(1).

و له مصادیق متعدّدة، مثل آدم علیه السّلام وإبليس، ودخول الكفّار والظالمين في النار، كما قال تعالى : «الأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (2). وغير ذلك .

ص: 320


1- سورة يونس : الآية 19
2- سورة ص : الآية 85

وتقدّم الوجه في إطلاق الكلمة على عيسى بن مريم علیهماالسّلام في سورة آل عمران ، فراجع .

ويستفاد من جميع ذلك أنّ لها شأناً كبيراً في النظام الكياني والتشريعي، فلا تطلق إلّا على ما له شأن كبير في هداية العباد، وسوقهم إلى المبدأ والمعاد، و السعادة الأبدية والكمال المطلق.

ومن هنا تطلق الكلمة على الإنسان الكامل ، والإمام لأنّه كامل من جميع الجهات، فيكون تخصيص الصدق والعدل لكمال الأهمّية بهما في مقام الإمامة .

والمراد بها في المقام ممّا يقتضيه السياق هو مجموع الدعوة الربّانية ، وجوامع المعارف الإلهيّة من التوحيد، والقرآن الهادي المهيمن على سائر الكتب الإلهيّة ، وتشريعاته القيمة، والصادع بها صلّي الله علیه و آله الذي نوّه به سائر الأنبياء السابقين ، كما حكى القرآن الكريم عنهم، فقال عزّ وجلّ حكاية عن إبراهيم الخليل علیه السّلام: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» (1).

وقد اعتبر الإسلام أنّ دعوتهم هي وحدة متكاملة ، كلّ دعوة سابقة ترشد إلى الدعوة اللّاحقة، وهي تنوّه بالسابقة، والمجموع من أجزاء الإيمان، كما قال تعالى : «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (2).

فيكون دين الإسلام دعوة جميع الأنبياء والمرسلين علیهم السّلام، وأنّ ظهوره كان من عقيدة الموحِّدين ، كما أنّ نزول القرآن المهيمن على جميع الكتب السماوية

ص: 321


1- سورة البقرة: الآية 129
2- سورة البقرة : الآية 285

من أعظم آمالهم وأشدّ تمنياتهم، حتّى صار الإسلام جامعاً لمجمل الشرايع الإلهيّة ، وكتابه أعظم كتاب إلهي يجمع المعارف الربوبيّة ، وأن رسوله صلّي الله علیه و آله خاتمٌ لما سبق وفاتحٌ لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه ، فهو الدِّين الكامل الذي لا دين بعده، فكان آخر الأديان الإلهيّة، وهو الإسلام الذي أراد سبحانه أن يكون ديناً تامّاً ، قال تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً» (1).

فلابدّ أن يكون مثل هذا الدِّين قد تمتّ كلمته سبحانه عليه، فلا تغيير ولا تبديل فيه ، وهو الذي اشتمل على جميع مراتب الكمال ، وتوقّفت فيه كلّ الشرائع والأحكام ، كما أنّه تضمّن جميع المعارف ، فلابدّ أن يكون ظاهراً على الجميع ، كما وعد عزّ وجلّ به فقال : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (2)، وفيه تمّ نوره كما قال تعالى : «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (3)، وعند ذلك كلّه يتبيّن معنى تمام الكلمة في هذا الدِّين الإلهي المحمّدي.

ومن ذلك يظهر أنّ هذه الكلمة التامّة موصوفة بالصدق والعدل؛ أمّا الأوّل فلأجل مطابقتها مع ما أخبر به، فقد تحقّقت بالصفات التي وعدها الله تعالى على لسان رسله الكرام علیهم السّلام.

وأمّا الثاني فلأنّها اتّصفت بأعلى الكمالات، لا تخلّف في مضمونها ولا تفاوت في شؤونها ، ولا تعدي في أحكامها، فلا حيف ولا ظلم فيها ، فهي جامعة للكمالات في أتم صدق ، ونزيهة عن كل نقص وشين فكانت عدلاً، ومن أهمّ

ص: 322


1- سورة المائدة : الآية 3
2- سورة الصف : الآية 9
3- سورة الصف : الآية 8

مظاهر العدل فيها الأحكام التي شرّعها الله تعالى في القضاء والتشريعات الخاصّة في الفصل في الدعاوى والشكاوى.

ما يتعلّق بقوله تعالى: «لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»

قوله تعالى : «لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ».

استئناف مبين لأُمور :

منها بيان كونها صدقاً وعدلاً، لأنّه إذا لم تقبل الكلمة الإلهيّة التبديل والتغيير، فلا ينقضها بإرادة أُخرى أو يخلف ميعاده .

ومنها : إنّه لا يستطيع أحد أن يعجز الله تعالى فيها، ويقهره على خلاف ما يريد، فهو عاجز عن نقضها مطلقاً ، فكانت صدقاً في وقوعها، وعدلاً لا تنحرف عن حالها التي وصفت بها ، فتكون الجملة بمنزلة التعليل لما قبلها .

ومنها : إنّها لبيان فضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها .

ومنها : إنّها تثبت التمام لها فلا نقص يتعّقبه ، كما هو العادة في أُمور أمور الدُّنيا ، فتمامها ليس كتمام غيرها .

ومنها : إنّه لا يقع فيها التحريف كما وقع في غيرها .

ومنها : إنّها تدلّ على ضمانه عزّ وجلّ بحفظها ، كما قال عزّ وجلّ : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

ومن جميع ذلك يظهر فساد جملة مما ذكره المفسِّرون في المقام ، فراجع .

قوله تعالى : «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».

ختام يستعرض فيه جميع ما ورد في الآيات، وسياقها يدلّ على محاجّة المشركين المعاندين ، وبشارة المؤمنين ، فهو السميع يستجيب ما تدعونه بلسان حاجاتكم ، العليم بمكنونات النفوس وحقيقة ما عندكم من الحاجة ، كما أنّه سميع لأقوال الكافرين المضلّة ، عليمٌ بما في قلوبهم من الاعتقادات الزائفة ، ومقاصدهم

ص: 323

الهدّامة، ونيّاتهم الفاسدة ، وهذان وصفان يتّصف بهما سبحانه، يدلّان على سعة علمه بالجزئيّات، فلم يخرج مخلوق عن علمه الأتمّ، فما أتمّها من الكلمات مضمونة تحت علمه فلا يدخل فيها ضلال المشركين .

قوله تعالى : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .

تضمين آخر من ناحية الرسول المبلّغ لتلك الكلمات التامّات، لبيان استقامته صلّي الله علیه و آله و وصموده أمام ضلال المشركين فى الأرض، وتعهّده بعدم تدخّل ، أهواء المشركين في شريعته . وإنّما ذكر سبحانه هذا بعد إزالة شبهات الكفّار ، وسرد الأدلّة الدالّة على نبوّة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، وكونه مرسلاً من الله لتبليغ دينه الحقّ ، فلا ينبغي الالتفات إلى أقوال الجهّال بعد ظهور الحجّة وبيان المحجّة.

وقد ذكرنا مكرّراً أنّ الخطاب وإن كان متوجّهاً إلى سيّد رسل الله صلّي الله علیه و آله ، إلّا أنّ المقصود شيء آخر أو غيره، أو لبيان وجه الحكم وملاكه، من أنّ المعاندين يتّصفون بنقائض الكمالات التي اتّصف بها دين الله تعالى ورسله والمؤمنون به ، فهم على ضلال وغواية، وأنّهم لا يتبعون العلم في عقائدهم ، وأنّ منهجهم هو اتّباع الظنّ الذي ينشأ عن الجهل ، وأنّ دينهم هو الكذب والإفتراء على الله سبحانه ، فيكون بيان ذلك إنّما هو للتحذير من الركون إليهم ، وأخذ معتقداتهم، والعمل بآرائهم .

قوله تعالى : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».

بيان لطريقتهم في الأُمور الاعتقادية وأن منهجهم هو إتّباع الظنّ ، وهو بمنزلة التعليل لما سبق ، وإثبات أنّ إتّباع الظنّ والقول بالخرص والتخمين إنّما هما سببان للضلال في الأُمور، التي لا يصحّ الاعتماد فيها إلّا على العلم واليقين، كأصول العقائد من التوحيد والنبوّة والمعاد، وغيرها من العقائد الحقّة ، وأنّ منشأ

ص: 324

ضلالهم إنّما هو إتبّاعهم للظنّ ، وهو كذلك كما نشاهد بالوجدان .

والخرص هو التخمين والكذب ، كما يخرص كلّ من ليس له علم ويقين، كما أنّ المراد بالظنّ ما يقابل الاطمئنان الحاصل من العلم واليقين، أو المتاخم لهما ، لا الظنّ المنطقي قسيم الشك واليقين ، فيشمل الظنّ الذي اعتبره الشرع الحنيف وجعله بمنزلة الاطمئنان. وأمّا الظنّ المنهيّ عنه فيلحق بالشكّ ، كما هو مفصّل في علم الأُصول، بل الظنّ في القرآن المجيد بمعنى خلاف الواقع، وإن كان قطعاً قد حصل التقصير في مقدّماته .

والآية الشريفة كغيرها من الآيات القرآنية التي تحكي عن بعض الأُمور الاجتماعية كالتقليد وإتّباع الظنّ إنّما تبيّن الوجه الصحيح منها، دون ما اتّخذه أغلب أفراد المجتمع الإنساني، فتنهى عن التقليد وإتّباع الظنّ في الأُمور العقائدية دون غيرها ، وتذمّهم على إتباع الظنّ والخرص والاعتماد عليهما بدلاً عن الهداية وإتّباع الأنبياء ، ويعتبره القرآن الكريم سبباً في ضلالهم وإعراضهم عن الهداية ، فهي لا تنهى عن هذا الأمر الاجتماعى مطلقاً ، كيف وأنّ السيرة جارية في الاعتماد على الظنّ في الأُمور الدنيويّة، وأغلب جزئيّات الحياة، حتّى لا يكاد يوجد مصداقٌ يعتمد فيه الإنسان على العلم واليقين، إلّا في بعض الكليّات النظريّة العلميّة ممّا يحتاج فيه إلى الإذعان والاعتقاد الراسخ .

بيان ما يتعلّق بالأُمور الراجعة إلى سعادة الإنسان وشقائه

أمّا الأُمور الراجعة إلى سعادة الإنسان وشقائه الأبديّين، اللّذين يعتمدان على مجموع العقائد الحقّة، وهى لا تقبل الركون إلى الظنّ والتخمين ، وقد نهى النقل والعقل عنه:

أما النقل: فهي مجموعة من الآيات:

منها قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1).

ص: 325


1- سورة الإسراء : الآية 36

وأمّا العقل: فهو واضح وصريح ، وقد أمضاه الشرع الحنيف .

وكلا الطريقين معروفٌ ، وقد جمعها عزّ شأنه في قوله تعالى : «وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى»(1)، فإنّ صدر الآية يرشد إلى حكم العقل والاعتماد عليه ، وذيلها يبيِّن الاستناد إلى علم الله تعالى وحكمته ، ومنه الشرع .

قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

بيان لحكم الله تعالى فى المضلّين الذين اعتمدوا على الظنّ والتخمين في الهداية فلم يدركوها ، والمهتدين الذين اعتمدوا على العلم واليقين فوصلوا الى الهداية ، وفي الآية الكريمة تعليل النهي عن طاعة غير الله تعالى ، وفيه الذمّ والتوعيد أيضاً، وإنّما اقتصر في الحكم على علم الله تعالى دون حكم العقل الصراحته وإمضائه سبحانه له .

وقد حذف الباء في (مَنْ يَضِلَّ) وثبتت في (بِالْمُهْتَدِين) ولعلّه يرجع الى الله تعالى والمضلّين حتّى في اللّفظ ، وللعلماء في توجيه ذلك انقطاع الصلة بین أقوال يأتي ذكرها في البحث الأدبي إن شاء الله تعالى .

وقد ورد نظير هذه الآية في سورة النجم ، فقال تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (2)، ومثله في الآية 7 من سورة القلم ، إلّا أنّ الفرق بينهما وبين آية المقام من وجهين:

الأوّل : زيادة الباء في آيتي النجم والقلم في (من) وسقوطها في الإنعام .

ص: 326


1- سورة النجم : الآية 28 - 30
2- سورة النجم : الآية 30

الثاني : ورود الماضي في آيتي النجم والقلم (بمن ضلّ)، وورود المضارع في آية الأنعام .

ويمكن الجواب عن الأوّل : بأنّ الحذف من المضارع إيثاراً للإيجاز والتخفيف، بخلاف الماضي فإنّه لا زيادة فيه .

والثاني : إنّه قد ورد في آية الأنعام من أفعال غير الماضي، فناسب ذلك ذكر المضارع بخلاف آية النجم والقلم فإنّه قد ذكر فيها الماضي.

قوله تعالى : «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ».

إثبات للتوحيد في الحكم والتشريع بعد إثبات التوحيد في الخلق والتدبير ، والآية مترتّبة على ما تقدّم من النهى عن إتّباع المضلّين الذين نفى عنهم حقّ التشريع ، فالله أحقّ بأن يُطاع من غيره فيجب امتثال ما شرّعه من الأحكام.

فهذه الآيات الأربع تدل على التوحيد في الحكم، ورفض حكم من يتبع هواه، والإعراض عمّن يوحى إليه شياطين الإنس والجنّ . والمقصود من قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» هو التفريق بين المذكّى والميتة، فكلوا الأوّل ولا تأكلوا من الثاني .

قوله تعالى : «إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ».

حثّ على تنفيذ الحكم وأكل ما حلَّ أكله وترك ما حرّم ، وتطيّيب لنفوس المؤمنين بأنّ ذلك من الإيمان، وفيه إشارة إلى الإعراض عن مجادلة المشركين في هذا الأمر، فلا يصغى إليهم بعد أن كان الحكم من آياته .

والمعنى: إن كنتم مؤمنين فلا تخالفوا أمر الله تعالى .

حول الأحكام المتعلّقة باللحوم

قوله تعالى : «وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ».

ص: 327

اهتمام بالحكم المزبور واعتناء بشأنه، وفيه تفصيل بعد إجمال ، وتثبيت للحكم بأسلوب التعجّب .

والمعنى : فكلوا المذكّى من اللّحوم، وليس لكم أن تمتنعوا عنه، فإنّه ممّا ذكر اسم الله عليه، فإنّه لا شيء يمنعكم عن ذلك ، وفيه الردّ على المشركين القائلين بعدم الفرق بين ما ذبح الله سبحانه وما ذبح لغيره ، أو قُتِل أو مات فإنّها على حدٍّ سواء؛ فإمّا أن يؤكل الجميع أو يطرح.

و (ما) إمّا للاستفهام فيكون للإنكار أو التعجّب . أو يكون للنفي ، وعلى كلّ حال ففى الأسلوب التحريض على الامتثال.

قوله تعالى : «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».

اهتمام بشأن الأحكام الإلهيّة التي ترجع إلى صلاح الإنسان وسعادته ، والتفصيل قد ذكر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم سابقا أو لاحقاً، ففى هذه السورة ، كقوله تعالى: «قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ». وفى سورة النحل الآيات 113 ، 114 ، 185 . أو ما ورد على لسان رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله .

قوله تعالى : «إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ».

بيان لأحد موارد التفصيل، وفيه المبالغة بالامتناع عن أكل ما حرّمه الله حاله تعالى إلّا في حالة الاضطرار إلى أكله ، وضرورة كلّ فرد إنّما تكون بحسب حاله. وفيه التخفيف على المؤمنين في هذا الموضوع المهمّ الذي هو ضروري في حياة الإنسان، ومسألة الذبائح من المسائل التي اختلط فيها الحقّ والباطل، والعادات والتقاليد، واتخذها المشركون من وسائل المجادلة مع المؤمنين لاسيما في عصر النزول .

ص: 328

قوله تعالى : «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

تحذير لمن يحكم تبعاً لهواه فلم يعتمد على حجّة شرعيّة ، ولا يختصّ ذلك بالمشركين وإن كانوا المصداق الأتمّ لهذه الآية ، بل يشمل غيرهم من المسلمين أيضاً الذين يتبعون الأهواء في فتاواهم، فيحرِّمون ويحلِّلون بغير علم مستندٍ إلى الوحي المبين، أو مقتبس من الشريعة الغراء . والتعبير «بِغَيْرِ عِلْمٍ» يدلّ على أنّ ما عندهم إنّما هو محض هوى وشهوة، نظير قوله تعالى : «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (1).

والتضليل في الآية يختصّ بالحكم بغير ما أنزله الله تعالى، وتحليل الحرام أو تحريم الحلال الذي حكى سبحانه بعض مصاديقه فى الآيات التالية ، وأمّا التضليل في الآيات السابقة فإنّه يختص بالعقائد أمثال التوحيد ، والدِّين الحقّ ، وغير ذلك، وهما يشتركان في مخالفة الحقّ، سواء كان في العقيدة أو التشريع ، وإنّ كثيراً من الناس يقعون في الضلال لإتّباعهم أهواءهم، وهو يفضي إلى الباطل، فلابدّ من الرجوع إلى الهدى ودين الحقّ .

قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ».

تذييل يبيّن شناعة أفعال المضلّين، فإنّهم المعتدون المتجاوزون الحقّ إلى الباطل، وفيه التوعيد والمجازاة على اعتدائهم . والالتفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلّي الله علیه و آله، للدلالة على أنّه مبعوث الهداية ومبيّنها، وأنّ ربّه يحوطه بعنايته ، فلا يضرّه اعتدائهم على شرع الله عزّ وجلّ . وإنّما قال تعالى «أَعْلَمُ» لأنّه سبحانه يعلم الشيء على حقيقته ومن جميع جهاته ، وغيره يعلم الشيء من بعض جهاته ، فيكون علمه ناقصاً وعلم الله تامّاً .

ص: 329


1- سورة البقرة : الآية 61

قوله تعالى : «وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْم وَبَاطِنَهُ».

خطاب الى المؤمنين اهتماماً بشأنهم بترك جميع مصاديق الإثم والمعاصيّ ولأنّهم المعنيّون دون غيرهم من المعصومين علیهم السّلام، الظاهر وهو الذي لا خفاء في شناعته، ولا ستر على سوء عاقبته ، كالشرك والظلم والفساد والباطن وهو ما يقابل ذلك الذي لا يعرف إلّا بعد بيان الشرع له، وربما يدركه العقل كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.

كما أنّه يشمل ظاهر الإثم وهو المعاصي الجوارحية ، وباطنه المعاصي الجوانحيّة ، أو لأنّ المعاصي على قسمين :

الأوّل : ما يتوقّف وجودها على وجود شخص آخر كالغيبة والقتل والزنا ونحوها .

والثاني : ما لا يعلم غالباً إلّا من طرف الفاعل كالغشّ مثلاً بالنسبة إلى بعض مراتبه ، والنفاق ونحوها .

فالمعاصي الظاهرية هو القسم الأوّل ، والباطنية هو القسم الآخر . وسيأتي في سورة الأعراف: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» بعض الكلام .

ويمكن أن يُراد بالمعاصي الظاهرة المراتب الشديدة منها ، والمراد بالباطنة الضعيفة، فتكون الظاهرة والباطنة حينئذٍ من الأُمور الإضافية .

ويظهر من رسالة الصادق علیه السّلام الى أصحابه، أنّ المراد بظاهر الإثم ما حرم في القرآن، وبباطن الإثم ما ثبتت حرمته من السُنّة ، راجع تمام الرسالة في «روضة الكافي».

وقد ذكر سبحانه هذا الحكم العام عقيب الحكم الخاصّ الذي يرتبط بالذبائح، لبيان الارتباط بينهما فإنّ الأكل له التأثير الكبير في النفس والبدن،

ص: 330

وسوقهما إلى ارتكاب الآثام والمعاصي، وهذا أيضاً ممّا يرشد إلى أنّ المراد بالإثم عمومه ، وإن كان للمفِّسرين في المقام أقوالٌ أُخرى، بعضها على خلاف سياق الآية الكريمة ، وبعضها الأخر يحتاج إلى دليل فراجع.

قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ».

إنذار بالجزاء السيء للذين يكسبون الإثم، وهو تعليل للأمر السابق في (ذروا). وفيه الدلالة على لزوم العمل بالأحكام الإلهيّة، وحفظ حرمات الله سبحانه وحدوده، وكسب الآثام فى مخالفتها ، وهو يوجب الجزاء السيء بما كانوا يقترفون . وتقدّم الكلام فى الاقتراف .

قوله تعالى : «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ».

مفهوم دلَّ عليه الحكم السابق الذي أمر بأكل ما سمّىّ عليه ، تأكيداً بالنص عليه ، واهتماماً بشأن الموضوع الذي يتعلّق به الحكم الذي خالف فيه المشركون ، ولبيان ضلالهم وإضلالهم والحكم عامّ يشمل العمد والنسيان، إلّا أنّه خرج منه الأخير بدليل خاصّ ، كما فصّل في الفقه .

قوله تعالى : «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ».

بيان لوجه النهي وتثبيت له ، أي أنّ مخالفته والأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه فسق ومعصية ، وكلّ فسق يجب اجتنابه ، فيجب الاجتناب عن هذا الأكل.

والآية تدلّ على أن الفسق مذموم عقلاً ، لأنّه خروج عن طاعة المعبود وهو منافٍ لحقّ العبودية والطاعة .

قوله تعالى : «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ».

ردّ الشبهات المشركين الذين همّ أولياء الشياطين ، وأنّها تعتبر من المجادلة

ص: 331

فى الدِّين الحقّ، ومن إيحاءات الشياطين ووساوسها في الحكم المذكور، من أنّه لا فرق بين ما قتله الله تعالى وبين ما قتله الإنسان، ولم يعلموا أن أكل الميتة ،حرام، فيكون أكلها فسقاً، دون أكل المذكى الذي أباحه الله سبحانه . والمجادلة التي حدثت من المشركين كانت على أنحاء مختلفة، وهي داخلة في الوساوس الشيطانية .

قوله تعالى : «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ».

تهديد لمن يطيع أولياء الشياطين، وتخويف لهم بأنّ طاعتهم لهم يستلزم الخروج عن الإيمان، والدخول في زمرة المشركين ، لأنّ الإعراض عن حكم الله تعالى، واستحلال ما حرمّه جلّ شأنه في أمر الذبائح، إّما هو رجوع إلى سُنّة المشركين ، أو طاعة للشياطين ، فيكون منهم، كما قال تعالى : «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» (1)، وفيه من التغليظ ما لا يخفى .

ويستفاد من الآية أنّ مخالفة الدِّين الحقّ فى تشريعاته من الشرك في الحكم الذي ذكرنا إنّ سياق الآيات في إثبات التوحيد في الحكم.

***

ص: 332


1- سورة المائدة : الآية 51

بحوث المقام

بحث أدبي حول ألفاظ الآيات المذكورة :

الفاء في (أفغير الله) للعطف، وترتيبها قبل الهمزة، لكنّها تأخّرت لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، كما قدّم على الواو في قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَرَوْا» (1).

وعلى ثم في قوله تعالى : «أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ» (2). وهذا استفهام معناه النفي ، ويرجع الأسلوب إلى التعجّب أيضاً.

وجوّزوا في إعراب (غير) أن يكون مفعولاً (الأبتغي)، و(حكماً) حال منه ، أو تميّيز لما في (غير) من الإبهام.

أو على العكس بأن يكون (غير) حالاً من (حكماً) وهو مفعول (أبتغى)، والتقديم لكونه مصب الإنكار .

و(من) في قوله تعالى : «أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ»، قيل : لابتداء الغاية مجازاً، ولكنّه ليس بشيء ، كما ذكرنا في موضعه . والباء للملابسة متعلّقة بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكن في (منزل).

و (صدقاً وعدلاً) مصدران في موضع الحال من (ربّك) أو من (كلمة) .

و(من) في قوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ»:

قيل : إنّه في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله . وردّ بأنّه غير جائز إلّا في الشعر . وفيه ما لا يخفى.

وقيل : بأنّه في موضع نصب بأعلم بعد حذف حرف الجر . ورّد بأنّ أفعل

ص: 333


1- سورة يس : الآية 71
2- سورة يونس : الآية 51

التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به .

وقيل : في موضع نصب بفعل محذوف، أي يعلم من يضلّ، ودلّ على حذفه (أعلم) ولم يعمل لأنّ (افعل) لا ينصب الظاهر فيما إذا أُريد به التفضيل ، بل قال بعضهم بأنّه لا يعمل عمل فعله لضعفه .

وأمّا إذا جرّد لمعنى اسم الفاعل، فمنهم من جوّز نصبه، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجروراً بالباء أو اللّام ، ولا يجوز أن يكون أفعل مضافاً إلى (من) لفساد المعنى .

وكيف كان ، فإنّ قوله تعالى : «أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ» لم يذكر الباء المقترن بمعمول اسم التفضيل الذي هو المعهود في أساليب اللّغة ، ويمكن أن يكون لأحد وجوه : إمّا للاختصار والتفنّن في الأسلوب، ولاسيّما قد ذكر الباء في: «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» فى نفس الآية الكريمة .

وإمّا أن يرجع لتنبيه الذهن للتأمّل والتفكّر ، كما ذكرنا في سورة البقرة في قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ » (1).

وإمّا أن يرجع إلى قطع الصلة مع المضلّين ولو في ظاهر الكلام، كما ذكرنا في التفسير .

و(ما) في قوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» للاستفهام الإنكاري وليست نافية ، كما ذكره بعضهم ، وهي مبتدأ و (لكم) خبر ، وأن تأكلوا) بتقدير حرف الجر ، أي في أن تأكلوا والخلاف في محلّ المنسبك بعد الحذف مشهور.

***

ص: 334


1- سورة البقرة : الآية 177

بحث دلالي: حول دلالة الآيات الشريفة

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» على إنكار ابتغاء غير الله حَكَماً، لا مطلق ابتغاء الحكم، فإنّه من ضروريّات الحياة في الرجوع إليه لتنظيم الحياة الدنيويّة بل الأخرويّة أيضاً، وإنّما ذكر سبحانه الحكم دون غيره، لأنّ الكلام كان في إثبات العقيدة وتشريع الأحكام، وقد ذكر بعضها في الآيات التالية كأكل الحيوان المذكّى وغيره ممّا استحكمت فيه العادات الجاهليّة، وبعض الأحكام التي شرعّها أحبار اليهود وعلماء النصارى من دون تشريع إلهي، فلابدّ من حكم يرجع إليه في بيان فسادها ، وقد بيّنت الآية الشريفة أنّه لابدّ أن يكون الحَكَم له حقّ التشريع أصالةً وهو الله تعالى، أو إفاضةً كالرسول ووصيّه علیهماالسّلام، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى الآتى «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً». كما أنّهما من البصائر التي جاءت من قبله تعالى التي حكى سبحانه جملة منها في الآيات .

الثاني : يدلّ قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً»، على أنّ الكتاب الذي أنزله الله تعالى يشتمل على جميع ما يرجع إلى صلاح الأُمّة وسعادتها ، وفيه تفصيل كلّ شيء، وهو متميّزٌ في أسلوبه ومعارفه وأحكامه وتشريعاته ، وقد بيّن الحقّ ، والحلال والحرام، والصحيح والفاسد ، فلم يبق من أمر الدين شيئاً إلّا ذكره، فلا حاجة إلى حكم غيره .

ويدلّ أيضاً على أنّ الكتاب من الحجج الدامغة الدالّة على نبوّة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله، أحدهما يكمل الآخر، فلا ينبغي طلب الآيات كما يفعله المشركون فإنّما هو تعنّت على الحقّ ، وإصرار على الكفر .

الثالث : يستفاد من قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً»، أنّ

ص: 335

القرآن هو الكتاب الإلهي الكامل، فيكون دليلاً على المرسل (بالكسر) والمرسل (بالفتح) ، فهو كتاب مفصّل يبين المعارف الحقّة والأحكام الإلهيّة في أبلغ كلام وأفصح عبارة عجز الخلق عن معارضته ، فليس من المعقول أن يطلب حكماً غيره، كما أنّه دلَّ على أنّ الكتب الإلهيّة قد شهدت بصدق ،القرآن، وأنّه منزل من عند الله على خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، فهو كتاب حقّ نزل من الحقّ تعالى على رسول حقّ ، فلم يبلغ أى كتاب إلهى مبلغه في التمام والكمال .

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ ...» أنّ أهل الكتاب قد حصل لهم العلم على أنّ القرآن الكريم من الوحي الإلهي ، وأنّه في أعلى مراتب الكمال، فلا يسعهم إنكاره ، أو لأجل اشتمال كتبهم على بشارات بالنبي صلّي الله علیه و آله وبكتابه المنزل عليه، فلم تكن خافية على علمائهم ، فقد حصل لهم العلم فلا يسعهم إنكاره أصلاً .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ»، على بعث الاطمئنان في قلب الرسول صلّي الله علیه و آله والمؤمنين به ، فإنّه كما عرفت آنفاً قد علم الأعداء بأنّ الكتاب المنزل عليه الناطق برسالته المشتمل على شرايع دينه، أنّه منزّل من عند الله تعالى ، ولا ريب أنّ كلّ دين إلهي يبعث الاطمئنان في نفوس المعتقدين به، لاسيّما إذا علموا بأنّ أعداءهم يعلمون بأنّه منزّل من عند الله تعالى ، ولهذا الاطمئنان الأثر الكبير في زيادة العزيمة وثبات العقيدة، والحرص على تثبيته فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات التى لها الآثار الطيبة في نفوس المؤمنين، فظاهرها وإن كان في صورة النهي إلّا أنّ المقصود منه شيء آخر .

السادس : يستفاد من قوله تعالى : «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً»، أنّ الدعوة الإسلامية بما فيها من العقائد والإيمان والشرايع والأحكام، وغيرها من ، رموزها وثوابتها، كلّها من الكلمات التامّات الإلهيّة التي هي تمام الصدق والعدل ،

ص: 336

فلا تغييّر ولا تبّدل فيها، ولا يقوم مقامها شيء آخر ، كما تطلق الكلمة على الإمام باعتبار كونه الإنسان الكامل من جميع الجهات وتخصيص الصدق والعدل لكمال الأهمية بهما في مقام الإمامة ، كما تدلّ عليه جملة من الروايات .

السابع : يدلّ قوله تعالى : «لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» على أنّ دين الإسلام هو آخر الأديان الإلهيّة، فلا نسخ يعتريه ولا تبديل لأُصوله وقواعده ، ولا سبيل لأحد في تغييره ، وسيبقى إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها .

ولا ربط لهذه الآية بمسألة الجبر كما زعمه بعض المفسِّرين، باعتبار أنّه تعالى لما حَكَم على شخص بالسعادة أو على آخر بالشقاوة، ثمّ قال: «ولا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيّاً أو الشقيّ سعيداً، فيكون السعيد من سَعُد في بطن أُمّه ، والشقى من شقى في بطن أُمّه .

ولكن عرفت أنّ منصرف الآية الكريمة الدعوة الإلهيّة ولوازمها ، وأمّا اختيار العباد فتدلّ عليه الأدلّة الأُخرى ، وقد ذكرنا جملة منها في ضمن بحوثنا السابقة ، وذكرنا بأنّ السعادة والشقاوة إنّما هما في علم الله تعالى ، وأنّ العلم لا يتعلّق إلّا بما هو المعلوم عليه في نفسه ، وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم، وكذلك إيجاده عزّ وجلّ الأشياء على طبق ذلك العلم، فلا يتصوّر هناك جبر، ولم يقل به عاقلٌ لأنّه عزّ وجلّ لم يُفض على القوابل إلّا ما طلبته منه عزّ شأنه بلسان استعدادها،كما يرشد إليه قوله تعالى: «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» (1)، نعم يتصوّر الجبر لو طلبت القوابل شيئاً، وأفاض عزّ وجلّ عليها ضدّه، والله أجل وأعلى من ذلك.

الثامن : يرشد قوله تعالى : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ» : الله إلى ضلال جميع الأُمم في عهد بعثة خاتم الأنبياء صلّي الله علیه و آله ، وغلبة الشرك عليهم، إلّا من عصمة الله تعالى وهمّ القليلون ، وفيه تسكين لقلب الرسول صلّي الله علیه و آله من وحشة

ص: 337


1- سورة طه : الآية 50

الإنفراد فهو سبيل الله والحقّ معه، ومن يعرض عنه يكن ضالّاً ، وهذا المناط موجود حتى بعد ارتحاله ، وفيه الدلالة على أنّ الهدى الذي عليه هو هدى الله تعالى .

التاسع : يدلّ قوله تعالى : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنّ»، على أنّ أكثر أهل الأرض يركنون إلى الظنّ في اعتقاداتهم وأحكامهم، فلا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به وينهون عنه ، فإنّ الظنّ يلازم الجهل بالواقع، فلا يعقل أن يكشف به عن الحقّ الذي يجب الاعتقاد به عن علم و اطمئنان ، ويرشد إليه قوله تعالى : «وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ»، أي لم يكونوا قاطعين بصحّة مذاهبهم ، بل همّ كاذبون في إدّعائهم العلم والقطع .

العاشر : يرشد قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، إلى أنّ الاعتماد على الظنّ في الاعتقاد كالمبدأ والمرجع من البعث والنشور، أو ما يرتبط بالسعادة الأبدية، أو الشقاء الأبدي والخسران الدائم من الضلال، وأنّ الطاعة في تلك الأُمور إذا كان مستندها الظنّ، منهىّ عنها شرعاً، وهو تعالى أعلم من يضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين ، ولأجل ذلك انقسمت موارد الاعتماد على الظنّ إلى قسمين؛ ففي قسم يصحّ كالأُمور الدنيويّة ولا يردع عنه العقل ، وفي القسم الآخر وهو ما يرجع إلى الأُمور الدينيّة من أُصول الاعتقاد كالتوحيد والمبدأ والمعاد والنبوّة والإمامة، فهو منهىٌّ عنه شرعاً .

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، إِنّ الإعراض عن أمثال الأحكام الشرعيّة، وترك الطاعة في الأحكام الفرعية، يعدّ من الاعتداء على الله تعالى، وتجاوزاً من الحقّ إلى الباطل ، وهو عزّ وجلّ أعلم بالمعتدين مهما حاولوا التستّر عليه، واستعملوا أدقّ الوسائل والحيل، وسوف يجازيهم على اعتدائهم. ولعلّه من أجل ذلك ورد التفضيل في (أعلم)، فإنّهم إذا كانوا على علم

ص: 338

فالله تعالى أعلم بخصوصيات علمهم .

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : «وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْم وَبَاطِنَهُ»، قبح الإثم عقلاً، وهو يكفي في الارتداع عنه ، وأمّا الشرع فقد أمر بتركه في أي مظهر كان وهو من جوامع الكلم، وأصلٌ عام فى تحريم الإثم شرعاً مطلقاً.

الثالث عشر : يستفاد من قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» أنّ هناك مخالفة لهذا الحكم الإلهي ، وإصرار على أكل الميتة ، وشبهات مطروحة من المشركين ، مثل قولهم بأنّه لا فرق بين ما قتله الله سبحانه وما قتله الإنسان ، وقد نهى الله تعالى عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه، وإنّه فسق وتعدٍّ على الحكم الإلهي ، وحكم الآية عام يشمل عصر ما بعد النزول أيضاً، والتعليل مطلق . الرابع عشر : يدلّ قوله تعالى: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ» على أنّ المجادلة في أحكام الله تعالى من وحي الشياطين ، ويعدّ المجادلين من أولياء الشيطان ، وهذه المجادلة على حدّ الشرك بالله سبحانه في طاعته ومخالفته في سلطانه عزّ وجلّ في التشريع ، وليس ما ورد في الآية لمجرّد التغليظ، كما زعمه بعض المفسِّرين ، نعم للشرك مراتب مختلفة ، كما أنّ الإيمان كذلك .

كما يستفاد منه أيضاً أنّ الإيمان هو الاعتقاد والعمل ، وليس مجرّد التصديق فقط ، وقد فصلّنا الكلام في ذلك في أحد مباحثنا السابقة ، فراجع .

***

بحث روائي:

في «الكافي» بإسناده عن محمّد بن مروان قال : «سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول : إنّ الإمام ليسمع في بطن أُمّه ، فإذا ولد خطّ بين كتفيه «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» فإذا صار الأمر إليه جعل الله له

ص: 339

عموداً من نور يُبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة».

أقول : الروايات في هذا المضمون متعدّدة ، وإن اختلفت في موضع كتابة الآية الشريفة ، ففي بعضها أنّها تكتب بين عينيه ، وفي بعضها على عضده الأيمن . ويمكن أن يكون لاختلاف الاعتبار، فمن كتب بين عينيه باعتبار الوجهة التي يتوجهّ إليها، أو في مرحلة ظهور الإمام، وبسط يده، أو تثبيته في مواقع اختلاف الأُمّة عليه ، ومن كتب على كتفه باعتبار تأييد الله عزّ وجلّ له ، والذي كتب على عضده باعتبار القوّة له . أو جعلها منهاجاً له . وكيف كان يستفاد من هذه الأحاديث أُمور .

الأوّل : إنّها تدلّ على أنّ أمر الإمامة كالنبوة من الأُمور العقائدية ، وأنّها من صميم الدعوة الإسلاميّة، فلا تبديل فيها لأنّها من كلمة الله تعالى ، وإطلاق الكلمة على الإنسان الكامل شايع .

الثاني : إنّها تدلّ على بعض خصوصيّات علم الإمام علیه السّلام ، فإنّ لهذه الذوات القدسية القابلية لتلقي الفيض الربوبي، فقد تمّ الاقتضاء ففيهم القابلية والاستعداد ، وأمّا المبدأ الفيّاض، فإنّه لا يتصوّر فيه البخل بوجه من الوجوه ، فمنه الفيض فيمنحهم الله عزّ وجلّ العلم مطلقاً ، وهو المعبّر عنه بالامتداد النوراني الذي ينكشف فيه الأشياء، فيبصر الإمام علیه السّلام به ما يعمل أهل كلّ بلد ، وبحث علم الإمام من البحوث النفيسة الذي يأتى الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : إنّ الإمام علیه السّلام الشاهد على أهل زمانه، فلابدّ أن يعلم بما يصدر منهم، فتكون الشهادة عن علم ، وتقدّم في أحد مباحثنا السابقة ما يتعلّق بعلم الشاهد فراجع .

وفي «الدّر المنثور» أخرج ابن مردويه عن ابن اليمان، عن جابر بن عبد الله ، قال : «دخل النبيّ صلّي الله علیه و آله المسجد الحرام يوم فتح مكّة ومعه مخصرة ، ولكلّ قوم

ص: 340

صنم يعبدونه، فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصاً ثمّ يعقره كلما صرع صنماً اتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتّى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد ، والنّبى صلّي الله علیه و آله يقول : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».

وفيه أيضاً: أخرج ابن مردويه وابن النجار، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلّي الله علیه و آله في قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً» : قال : «لا إله الّا الله» .

أقول : هذه الأحاديث تدلّ على أنّ المراد بالصدق هو الصدق في الوجود الذي لا تخلف فيه ، وأنّ قول لا إله إلّا الله وتثبيته في الناس من صميم الدعوة الإلهيّة وأركان الإسلام.

وفي «الكافي» رفعه عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى ابن جعفر علیه السّلام: «يا هشام ذمّ الله الكثرة ، فقال : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»».

أقول : قد ذمّ الله سبحانه الكثرة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، وذلك لإتّباعهم الهوى، واعتمادهم على الظنّ الذي لا يُغنى عن الحقّ شيئاً .

وفي «تفسير العيّاشي» في قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... الآية» عن محمّد بن مسلم قال : «سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلّل أو يسبّح أو يُحمِّد أو يُكبِّر . قال علیه السّلام: هذا كلّه من أسماء الله».

أقول : الحديث يدلّ على كفاية ذكر اسم الله تعالى مع التعظيم ، وأمّا ذكر اسم الجلالة لوحده فالمشهور عدم الكفاية ، والحديث يرشد إليه أيضاً ، ومع الشكّ في تحليله فالمرجع أصالة عدم التذكية .

وفيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «سألته عن ذبيحة المرأة والغلام هل تؤكل ؟ قال علیه السّلام: نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلّت

ص: 341

ذبيحتها ، وإذا كان الغلام قويّاً على الذبح وذكر اسم الله حلّت ذبيحته ، وإن كان الرجل مسلماً فنسي أن يسمّي فلا بأس بأكله إذا لم تتّهمه».

أقول : الحديث يفسّر إطلاق الآية الكريمة من حيث الذابح فيشمل جميع من ذكر في الحديث من المسلمين ، أمّا غير المسلمين فقد اختلفت الروايات في حلّية ذبائحهم ، والمشهور عدم الحلّية كما تدلّ عليه الرواية المزبورة ، كما أنّها تبيّن حكم نسيان التسمية، فتكون مخصّصة لعموم الآية الكريمة .

وفي «الدّر المنثور» أخرج أبو داود والبيهقي في «سننه»، وابن مردويه عن ابن عبّاس: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق» ، فنسخ واستثني من ذلك، فقال : «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ» .

أقول : لا تنافي بين الآيتين حتّى يتحقّق النسخ ، فإنّ الطعام غير الذبائح ، كما تقدّم في سورة المائدة ، فراجع .

***

بحث عرفانی: ما يستفاد من الآيات المذكورة في الثوابت الضروريّة في طريق السالكين

يستفاد من الآيات الشريفة أُمور مهمّة تعتبر من الثوابت والأساسيات في طريق السالكين ، وقد اعتبرها العرفاء من أهمّ ما يعترى عليهم فلا يمكن إهمالها ، وإلّا كان من الهالكين المحجوبين عن رحمة الله تعالى، ودخل في زمرة المعتدين وقد بدأت الآيات بتعيين الحَكَم الذي يجب إتّباعه، الجامع لجميع الحقائق المفّصل بين الحقّ والباطل، وأحكم الحاكمين هو الله تعالى الذى أنزل الكتاب الفصل ، والأنبياء والمرسلين مبشِّرين ومنذرين، والأوصياء صلّي الله علیه و آلهكلمات الله لا الناطقة ، فيكون طلب ما سواهم ممّا لا يليق بعاقل، ولا يميل إليه إلّا الجاهل، فكيف حال مريدي السير والسلوك ، وقد أعرض بعضهم عن ذلك مع علمهم بهذه الحقيقة وما أنزله الله سبحانه، فوقعوا في الحيرة والاضطراب، ولم ينالوا من

ص: 342

جهادهم إلّا الحرمان ، وقد خاطب سبحانه رسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بهذه الحقيقة؛ لأنّه الفصل في هذا الأمر السامي ، والحَكَم الذي يجب الاقتداء به في هذا السبيل، وهو العالم بحقائق نفوس السالكين، ومقدار استعداداتهم وقابلياتهم لتلقّى الفيض الذى لم ينزل إلّا بشفاعته صلّي الله علیه و آله ، فهو الكلمة الإلهيّة التي تمّت صدقاً وعدلاً، والذي عليه القرآن المجيد وهو الأساس في كلّ كمال، فاقترنا فبلغ قاب قوسين أو أدنى ، و من يقرّ بهما ويتّخذهما حَكَماً ينجذب إليهما، ويرى في نفسه نوراً يمشي به في هذا السلك ، فيعمل بما ورد في القرآن، ويهتدي بسيرة سيّد رسل الله تعالى وإمام العارفين، فيبلغ الدرجات العليا من العلم والعرفان ، وأقصى مراتب الإيمان ، فيكون إنساناً كاملاً، ويصير كلمة صدق وعدل ، ولا ريب أنّ الصدق يهدي إلى الجنّة ، والعدل ينال به القربة والوصال ، وكلّما زاد السالك فى التقرّب إليهما يصل إلى مواطن الضعف في النفس ، ويهتدي إلى إصلاحها ، فيزيد في هديه حتّى يكون مسيره الأبدي، فيتطابق الأزل والأبد فى الهدى إلى الله سبحانه ، ومن أعرض عن هذه الحقيقة، فلن يصل إلى غاية أبداً، ويضلّ الطريق ثمّ يهوي.

وتبين الآية الكريمة مراتب النفس، ومواقع ضعفها، وكيفيّة إصلاحها التي منها ابتغاء حَكَمٍ غير الله تعالى، فإنّه من هوى النفس ، وإصلاحها إنّما يكون بالانقياد والتسليم لأمر الله عزّ وجلّ، واتّخاذ الحَكَم المنصوب من قبله عزّ وجلّ المعرفة عيوب النفس وكيفيّة إصلاحها بالرجوع إليه، والالتزام بهديه ، وإرشاده إلى مواقع الخلل في سيره وسلوكه ، والإعراض عن طاعة غيره ممّن لم يكن أهلاً للركون إليه، لركونه إلى الطبيعة والنفس، فإنّه إلّا يدعو إلا للشهوات التي تُبعدنا عن الله سبحانه ، فإنّ مثل هؤلاء محجوبون بالأوهام والخيالات، وهمّ يخرصون لقياسهم الغائب على الشاهد فضلّ تفكيره.

والتقليد لأهل الله صحيح، ويرشد إليه العقل الصحيح والنقل الصريح، وهو

ص: 343

يهدي إلى الرشاد، وهو غير التقليد لأصحاب الضلالات ، فإنّ المناط هو الحقّ واليقين دون الباطل والتخمين .

كما بيّن عزّ وجلّ أهمّ الحُجُب التي تمنع الوصول إلى الكمال والفوز بالقُرب والوصال، وهو الإثم في جميع مظاهره من الأقوال والأفعال، والإسرار والإعلان الجوارح والجوانح، فيشمل العقائد الفاسدة والنوايا الرديئة، فإنّ المقام عظيم، والمنال كبير فلابدّ من المراقبة وترك الغفلة التي تحصل من المعاصي وسكون القلب الى الأهواء، بل يرتقي عند أهل الله تعالى الى حبّ الجنّة ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يشغل عن الحقّ ، ويعتبرون كلّ ما يشغله عنه سبحانه من الإثم.

ومن الأسرار التى بيّنتها الآيات الكريمة لأرباب السلوك، ومن يبتغى الوصول إلى مقام العرفان، وهو اليقظة والانتباه التامّ أن لا يقع في شرك الشيطان، فإنّ الشياطين يحومون حولهم فيحجبونهم بالظاهر عن الباطن، ويجادلونهم بإلقاء الوساوس فى النفوس، فإنّه ربما يركن إليها فيكون من أولياء الشيطان، ومن يطعه يكن من المشركين ويترك ما عليه من التوحيد، وذلك هو الخسران المبين .

ومن أهمّ ما بيّنته الآيات الشريفة الطعام الذي يطعمه الإنسان، فقد بيّن سبحانه أنّه لا بد أن يكون بحكم الشرع، واعتبره من أمارات الإيمان، لا أن يأكله على وفق الطبع ، فان الأكل على الغفلة والنسيان، والاستعانة به على العصيان، يورث موت الجَنان والحرمان من الجِنان.

ثمّ بيّن سبحانه أن يكون الأكل على ذكر الله، فإنّه يرفع به ظلمة الطعام ويسكن من ثورة الشهوة، وبدون ذكره عزّ وجلّ يؤدّي إلى الفسق، وهو الخروج عن نور الروح إلى ظلمات النفس البهيميّة ، وقد قال سيِّد الأنبياء علیهم السّلام: (أذيبوا طعامكم بذكر الله) .

وقد أمر سبحانه بذكر اسم الله عند الذبح لإثبات التوحيد في كلّ مقام

ص: 344

ولدفع شرك الشيطان في هذا المقام، ولأنّ المؤمن لا يدع ذكر الحبيب على كلّ حال ، ولكسر سورة القوّة الغضبيّة، فلا تتوجّه إلّا إلى الله عزّ وجلّ ، فلا يذبح ولا يأكل ولا يشرب ولا يفعل فعلاً إلّا باسم الله الذى هو أمل كلّ عارف ومنتهى كلّ قاصد، فلا ينصرف في أمر إلا بإرادته عزّ وجلّ .

ولا ريب أنّ الطعام الذي يتقوّى الإنسان به تنصّب خلاصته في القلب، ومنه ينبثّ إلى جميع أعضاء البدن وأجزائه، فإذا كان حلالاً طيّباً قد ذكر اسم الله عليه، انبعث النور منه إلى جميع تلك الأعضاء، فيحصل انبساط في الروح وانشراح في النفس ، فتصير الأجزاء مطيعة لهما ، ويحصل لها الاستعداد للطاعة، فيكون الفرد مهيّئاً لمقام السير والسلوك، وفي غير ذلك لا يجني إلّا الظلمات، وتراكم الحُجب ، فلا ينال الفرد شيئاً من جهاده سوى التعب ، فيجب أن ينظر العارف إلى طعامه .

***

بحث فقهي حول أحكام اللحوم من التذكية وغيرها :

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام التالية :

الأوّل : يشترط في حلّ الذبيحة التسمية عند الذبح، فيحلّ أكل ما ذُكر اسم الله عليه، لقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ»، ويحرم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بقوله تعالى : «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ».

وظاهر الآية كون التسمية صادرة عن الذابح ، فلو سمّى غيره لا يجزئ ولم تحلّ الذبيحة .

الثاني : إطلاق الآية يدلّ على أنّ متروك التسمية حرام، سواءٌ أكان الترك عمداً أم نسياناً ، إلّا أنّ المشهور المدّعى عليه الإجماع، أنّ الترك لو كان نسياناً لا يوجب الحرمة، ويدلّ عليه بعض النصوص، خلافاً لبعض الجمهور.

ص: 345

وفى إلحاق الجهل بالحكم بالنسيان أو بالعمد قولان، اختار جمعٌ الثاني ، لظاهر الآية الكريمة الدالّ على حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه، خرج منه صورة النسيان فقط ، ولأصالة عدم التذكية عند الشكّ فيها .

الثالث : الواجب في التسمية ذكر الله تعالى مع التعظيم مثل بسم الله ، والله أكبر ، وسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلّا الله ونحو ذلك، فلو اقتصر على اسم الجلالة لا يجزئ .

كما يجزئ ذكر الصفات المختصّة به سبحانه كالقديم والرحمن ونحوهما ، وإطلاق اسم الله تعالى على ما يشمل الصفة شائع، وهو المعنيّ في قوله تعالى : «وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى».

الرابع : إطلاق الآية الكريمة، عدم اشتراط الذكورة ولا البلوغ ولا الطهارة ولا غير ذلك، فتحلّ ذبيحة المرأة ، وكذا الحائض والجنب والطفل إذا كان مميّزاً، والأعمى والأغلف وولد الزنا . ويدلّ عليه الإجماع ونصوص خاصّة.

الخامس : ظاهر الآية شمول ذبائح جميع فرق المسلمين عدا النواصب والمحكوم بكفرهم كالمجسّمة ، ويدلّ على كلا الحكمين «المستثنى والمستثنى منه» الإطلاق والاتّفاق ونصوص خاصّة .

وأمّا ذبائح الكفّار - مشركين أم غيرهم - فلا إشكال في حرمتها، لنصوص عديدة تدل على حرمة ذبيحة مطلق من حكم بكفره شرعاً، سواء كان كافراً أصليّاً، أو مرتدّاً؛ مليّاً كان أو فطريّاً ، ويدلّ عليه الإجماع أيضاً.

وأمّا ذبيحة أهل الكتاب فهي موضع خلاف، والمشهور عند الإمامية حرمتها لنصوص خاصّة، والتفصيل يطلب من كتب الفقه .

السادس : تحلّ الميتة - وهي التي لم يذكر اسم الله عليها عمداً - مع الاضطرار إلى الأكل منها ، والمراد بالضرورة هي التي يخاف معها التلف أو

ص: 346

المرض أو الضعف الشديد الذي لا يمكن معه أداء الأعمال مع الضرورة إليها ، ولا يشترط الإشراف على الموت ، لوجوب حفظ النفس ، وضرورة كلّ شخص حاله ، وترتفع الضرورة بتناول ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملاً بحسب للعلّة ، وتدلّ على جميع ذلك نصوص متعدّدة .

وعموم الآية «إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» يشمل الفاعل والمستباح؛ أمّا الأوّل بأنّ لا يكون باغياً ولا عادياً ، وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى ارتكاب حرام كقتل محقون الدم، ولا ما أباح الشارع دمه كالزاني المحصن والمرتدّ عن فطرة وغيرهما، وتفصيل ذلك مذكور فى الفقه .

السابع : المستفاد من مجموع الآية الكريمة اشتراط التذكية في حليّة الأكل من الحيوان المذكّى، وهي الحالة الخاصّة التي تحلّ بالحيوان المذبوح إذا تحقّقت شرائطها ، وإذا شك في تحقّقها في الخارج، فالمرجع أصالة عدم التذكية التي أثبتوها بالإجماع والنص، وقد وقع الخلاف في أنّها أمر وجودي أو عدمي، وقد اشتملت الآية على كليهما ، وإن كان المعروف أنّها أمر وجودي، ويترتّب عليها آثار علميّة ، كما هو الأمر كذلك في أنّها أمر بسيط أو مركّب ، والتفصيل مذكور في كتب الأُصول .

الثامن : يحرم ارتكاب الإثم مطلقاً، سواء كان ظاهراً يتعلّق بطرف آخر خارجي كالغيبة والقتل ونحو ذلك ، أو باطناً وهو ما لم يكن كذلك كالشرك والارتداد وغير ذلك ، أو ما كان ظاهراً جليّاً وما كان خفيّاً ، فيحرم ارتكابه في مظهر كان ، ولا يختصّ بالزنا واللّواط والقتل ونحوهما ، كما قيل .

***

ص: 347

سورة الأنعام، الآية 122 - 127

الآية 122 - 127

«أَوَمَنْ كَانَ مَيْنَا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَإِذَا (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ جَاءَتْهُمْ (123) رِسَالَتَهُ (124) آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ حَرَجاً (125) أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً كَأَنَّمَا يَصْعَدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لَهُمْ دَارُ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(127) ».

الآيات الشريفة لا تخرج عن سياق ما قبلها من الآيات التي تبيّن الحجج والبراهين الدامغة وفيها محاجّة المشركين ، وقد ضرب سبحانه في هذه الآيات أروع المثل في الهداية والضلالة، فالميّت هو الذي أقام على الضلال والغواية ، والحيّ من أدركته الهداية الإلهيّة، وسار على الهدى، ويكون معه نور يمشي به في ظلمات الحياة المادّية المتراكمة، فيعرف خيره وشرّه، ونفعه وضرّه ، فقد أنعم الله عليه بالحياة المعنوية ، وأمّا الكافر المحروم، فهو واقع في ظلمات الجهل والضلال

ص: 348

في دار الدُّنيا ، ثمّ ظلمة الموت ، وفي الآخرة فهو في العذاب الشديد، ثم بين عزّ وجلّ أن الضلال الذي يقع فيه أكثر الناس، إنّما منشؤه المكر الحاصل من أكابر المجرمين وقد أخبر سبحانه أنّ مكرهم يرجع إليهم ولا يضرّ بالهدية الإلهيّة ، وإن إصرارهم على المكر والاستكبار على الحقّ، يودي بهم إلى عذاب شديد، وهم في صغار ، ثم بيّنت كيفيّة هداية الناس وقبولهم لها وضربت لهم المثل في ذلك لترغيبهم إلى الإيمان، وتنفيرهم عن الكفر والطغيان ، وأخيراً ذكرت جزاء المؤمنين فإنّ لهم دار السلام وهو عزّ وجلّ يتولّى أمرهم ، وغير خفى ارتباط هذه الآيات بما سبقتها، بعد أن بيّنت أنّ أكثر أهل الأرض ضالّون، يتّبعون الظنون ويخرصون ويضلّون غيرهم بأهوائهم بغير علم ، وفي هذه الآيات يضرب الأمثال في الهداية والضلال، وتبيّن بعض خصائص المؤمنين المهتدين اقتداءً بهم ، والضالّين تنفيراً منهم، والحذر من غوايتهم.

***

حول تفسير قوله تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ»

التفسير

قوله تعالى : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ».

تمثيل في أروع أسلوب لتحبيب الإيمان والدخول في الهدى الإلهي ، وأنّ المؤمنين مستضيئون بأنوار الهية ، وقد حباهم عزّ وجلّ حياة حقيقيّة معنويّة فيها السعادة والفلاح ، ومنحهم نوراً يمشون به في مسيرهم التكميلي، من دون أن يتأثّروا بضلال المضلّين وجهالاتهم، فاستحبّوا طاعة خالقهم، والتقرُّب إلى بارئهم ، والاجتناب عن الفسوق والعصيان، واستضاءت عقولهم وقلوبهم بنور الإيمان، فتنفروا عن الكفر والضلال والطغيان، ويعتبرون الداخل في هذه الأُمور ميّتاً داخلاً في ظلمات الكفر الجهل والعصيان ، ولا ريب أنّ اتّباع الفريق الأوّل أولى عند العقل الذي يحكم بقبح إتّباع الفريق الثاني وطاعتهم.

ص: 349

والمثل المضروب له ظاهر قريب إلى الأذهان الساذجة، تتبيّن منه حقيقة الهدى التي هي الحياة، والضلال الذي هو عبارة عن موت الشعور والحواس . وله باطن يبيّن حقيقة الحياة والموت الذي ينصرف الذهن بدو الأمر إلى الحياة الحسّية الظاهرية ، ولكنّه يعتبر الحياة الحقيقيّة هي تلك الحياة المعنوية التي هي النور الذي يمشى به المؤمن فى مسالك الدُّنيا والآخرة، ويصل إلى السعادة والفوز بالفلاح ، وأنّ الموت الحقيقي هو الظلمات المتراكمة من الجهل والضلال والأخلاق الرديئة كالكبر والعناد واللّجاج ونحوها، فمن حرم من الهداية الإلهيّة لأجل تلك الظلمات، يكن ميّتاً لا يعرف خيره من شرّه، ولا نفعه من ضره ، كما إنّه لم ينتفع من النعم الربّانية مثل الحواس وغيرها في سبيل سعادته، بخلاف من حباه الله عزّ وجلّ حياة فيها النور الذي يبصر به الأشياء، فيميّز به الحقّ عن الباطل، ويأخذ ما يرجع إلى صلاحه، وما يوجب سعادته، ويتبع ما ينفعه، ويدع ما يضرّة ويجلب له الشقاء، ويكون هذا النور معه حتى بعد موته ظاهراً، وهذه الآية نظير قوله تعالى : «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةٌ» (1).

لطائف الأسلوب استعارة الموت للضلال والحياة للهداية ، والإحياء للاهتداء والإيمان، والنور للتبصّر بالطاعة والأعمال الصالحة، وما يوجب الفوز كما أنّ الظلمة للجهل والملكات الرديئة، وقد دخلت هذه الاستعارات البديعة في أسلوب بلاغي وجيز، تستوعبه أذهان المخاطبين، إثارة لهم بأنّ الحياة لا تقتصر على الحياة الحسية الحيوانية التي هي منشأ الشعور باللذائذ المادّية والحركة الجسمية، فإنّ ما وراء تلك حياة أُخرى هي منشأ للسعادة الحقيقيّة .

والمعنى : إن من كان ضالّاً لا يؤمن بربّه فهو ميّت لفقده النور الذي يبصر به مسالك الحياة ليعيش فيها عيشة راضية مرضيّة، وهذا النور هو الذي يمّن به

ص: 350


1- سورة النحل : الآية 91

سبحانه على من أحياه الله تعالى بالهداية، واهتدى ودخل في الهدى الإلهي، ، فله علم يدفع به جهل الضلال، وجهالة الأخلاق الرديئة ، والفاسد من الأعمال، فإنّ ذلك ظلمات متراكمة ، فلابدّ للمؤمن من نور يمشي به في سُلّم الكمال ، فتتحوّل أفكاره ومعتقداته وأعماله إلى صور تناسب روح الإيمان الذي تحلّى به جميع واستقرّ في نفسه، فيشرق على النفس، فيتجلّى بالفضائل والكمالات .

قوله تعالى : «وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً».

أي النور الحاصل من الإيمان المتجلّي في الإسلام والقرآن، بما فيه من المعارف الإلهيّة، والهداية الربّانية الذي يرفع ظلمات الجهل والعقائد الزائفة والأخلاق الفاسدة، فهو النور الذي ينير القلب، فيكتسب المكارم ، والنفس فيجعلها مطمئنة لا تتأثّر بالوساوس والشبهات، وهو نور العلم الذي يعدّ من أشدّ الأنوار تأثيراً على القلب والنفس، فإنّ به يتأمّل فى الأشياء، فيميّز بين الحقّ والباطل، والمحقّ والمبطل ، وبه يرتفع عن ظلمات الجهل التي هي من أشدّ الظلمات تأثيراً أيضاً.

والجعل في الآية بمعنى التكوين الذي يتعلّق به التشريع، فهو جعل تكويني تشريعي ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ».

بيان لأهم الآثار المترتّبة على ذلك النور المجعول لمن أحياه بالإسلام وهو أنّه يكون بين الناس مع اختلافهم في العقائد والآراء، والسلوك والأخلاق على بصيرة من أمره ودينه ، وهداه آمناً من جهتهم، يمشي به بخطى ثابتة ونفس مطمئنة فى سُلَّم الكمال، وسُبل السعادة، فلا تثنيه أهواء المضلِّين وشبهات المشكِّكين عن دينه وعقيدته، ولا تحرّكه عواصف الشرك والضلال، وهو نور

ص: 351

يستشرق به في طريق السير والسلوك إلى الله تعالى .

قوله تعالى : «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليس بخارج منه».

تمثيل حقيقي لحال من وقع في الظلمات لا مخرج له منها وهي ظلمة الجهل ، وظلمة الكفر والضلال، فهو لا يفارقها حتّى يقع في ظلمة الموت إن لم يخرج منها إلى الإيمان ويستضيء بنوره ، ويرفع تلك الظلمات بالعمل الصالح .

حول تفسير قوله تعالى: «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

قوله تعالى : «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تعليل لوقوعهم في الظلمات وعدم إمكان خروجهم منها ، لأنّه قد زيّن لهم أعمالهم زينة انجذبوا إليها، فلا تدعهم أن يخرجوا منها وليس لهم نور يستضيئون ليهتدوا فيصلحوا أنفسهم وأعمالهم التي توغّلت في الكفر والعصيان ، ولازمتهم فبقوا في الكفر والضلال ، وعليه يكون التشبيه (كذلك) لضرب قاعدة في هذا المجال ، نظير قوله تعالى : «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ» (1) ، وقوله تعالى : «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ» (2) ، فيكون المقصود هو القياس على تلك الأمثال ومعرفة بعض الخصوصيّات.

وإنّما جاء «زُيِّنَ» مجهولاً لبيان تعدّد الجهات التي زيّنت الأعمال، كالله تعالى والشيطان، ومن يوحى إليه ، كما عرفت سابقاً.

وقيل : بني للمفعول لأنّ المشبّه به حسن و قبيح ، فالأوّل تزيّين عمل المؤمن للمؤمن ، والثاني تزيّين عمل الكافر له ، فلم يذكر في المشبّه إلّا النوع الثاني، لأنّ السياق له ، ويعرف الأوّل بالتشبيه لبيان قبح الضدّ لمقابلته بحسن ضدّه .

ص: 352


1- سورة الرعد : الآية 17
2- سورة الرعد : الآية 17

ونظير هذه الآية قوله تعالى : «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (1)، ولعلّ الوجه فى الفرق بينهما أنّ آية الأنعام قد سبقها قوله تعالى : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ»، فإنّه إن لم يكن مؤمناً لا يرجى منه الخير ، فهو ميّت فوسمه بالكفر .

أمّا آية يونس فقد تقدّم قبلها: «وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍ مَسَّهُ»، فذكر سبحانه أنّ مثل هذا الإنسان الذي يرجع إلى غيّه بعد كشف الضُرّ ، مثل المسرفين ليزدجر المؤمن.

ويستفاد من الآية الكريمة التي تعدّ من جلال الآيات القرآنية الواردة في بيان حقيقة الهدى والضلال، بالأسلوب القرآني المؤثِّر في نفوس المستعدِّين أُمور :

الأوّل : أنّها من الأمثال البديعة التي تصور الموضوع المطلوب بأحسن وجه، وإيصاله إلى المخاطبين بأروع أسلوب وأفصح عبارة تثير الرغبة في النفوس والدهشة في العقول، وحينئذ لا فرق بين أن نقول بأنّهما تمثيلان أو استعارتان ، بعد أن كانت الدلالة واضحة، وأنّها من بديع المعاني، وهكذا يكون شأن الأمثال القرآنية في تأثيرها ودلالتها .

الثاني : أنّها تبيّن أنّ للحياة والموت أنواعاً ومراتب متفاوتة جدّاً، تبتدئ بحياة مادّية فيها مجرّد الإحساس والحركة، وتنتهى بالموت الذي يفقد فيه ذلك ، وحياة معنوية فيها الإحساس بالنور، وتنتهى إلى دار السلام ، وحياة روحانية ، وحياة عقلية ، ولكلّ واحدة منها أهل ، وقد تكون لبعض الناس واحدة منها أو اثنتان أو ثلاثة ، وقد أُوتي سيِّد الخلائق وإمام الأنبياء صلّي الله علیه و آله كلّها، فهو قدوة الجميع وله أقصى مراتب الكمال .

ص: 353


1- سورة يونس : الآية 12

الثالث : إنّ هذه الحياة المعنوية النورانية لا تصل إليها أفهام غالب الناس لأنّها حياة خاصّة لا تنقطع بالموت ، والمؤمن فيها تحت ولاية الله تعالى، فلا حزن فيها ولا خوف ولا يمسّه نَصَب ولا لغوب ، وليس فيها شقاء وتعب ، وهو مستغرق في حبّ بارئه، مبتهج بالقُرب إلى ربّه ، فلم يستشعر إلّا بالسعادة ، وهو في أمن وسلام وبهجة ولذّة لا نفاذ لها ، وقد وصفها سبحانه بقوله : «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ»(1)، ويظهر من هذه الأوصاف حقيقة الحياة الظاهرية المقابلة لتلك التي بعيشها أكثر الناس ، فقد وصفها سبحانه بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ» (2)، فهمّ وإن اشتركوا مع المؤمنين فى الأدوات أمثال القلوب والأعين والآذان، إلّا أنّ المؤمنين استفادوا منها على الوجه الأكمل، فكانت حياتهم طيّبة . فالمؤمن عنده العلم والمعرفة والإيمان، وهو ليس بغافل عن ربّه، وعن إصلاح نفسه ، وأنّه يستشعر بما لا يشعر به الآخرون، فيختلف قلبه وسمعه وبصره عن قلب وسمع وبصر الآخرين، وإن كانت في الصورة واحدة ، فإن له إرادة كاملة في سيره وسلوكه، فهو ينال ما لم يكن يناله غيره، فقد أيّدهم الله عزّ وجلّ بروح منه كما قال تعالى : «أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ» (3).

الرابع : إنّ المراد بالحياة والنور الحقيقيّين منهما، لا أن يكون الكلام جارياً على المجاز، لبيان مجرّد العناية واللّطف بالمؤمنين، فما هم عليه من الصفات الخاصة قد اقتضت عناية الله تعالى بهم أن يمنحهم حياة كاملة، أحقّ باسم الحياة ممّا عند الناس من حياة، كما اختلفت هذه عن حياة الحيوان، وهي عين حياة النبات .

ص: 354


1- سورة النمل : الآية 97
2- سورة الأعراف : الآية 179
3- سورة المجادلة : الآية 22

الخامس : إنّ هذه الحياة الحقيقية التي حباها الله تعالى للمؤمنين، إنّما هي تناسب الصفات النفسيّة عندهم، والأعمال التي استقرّت فيهم، فتحوّلت إلى أشكال تحاكيها ، وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى في دار السلام.

السادس : إنّ حال المؤمن في حياته ونوره وصفاته الخاصّة، تختلف عن حال الضالّ الذي غرق في الظلمات المتعدّدة المتراكمة، ليس بخارج منها ، فليس له نور ولا انشراح صدر، فلا مطمع في هدايته ، وهو الكافر الذي لا ينتفع من عقائده وأعماله لا في دنياه ولا في عقباه، فليس له إلّا الشقاء والعذاب .

حول تفسير قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا»

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا».

تمثيلٌ آخر يبيِّن فعل الله سبحانه بأكابر المجرمين، الّذين همّ في غاية الإجرام، حيث جعل لهم المنزلة في الدُّنيا ليمكروا فيها، فيقتدي بهم أصحاب الأهواء الضالّة والنفوس المريضة، فيرتدّوا مجرمين أيضاً، فلم ينشأ إلّا مجتمعٌ مجرمٌ تكون صورة حقيقية عن صفاتهم النفسية الخبيثة، تتطابق مع أعمالهم المنكرة التي تمنعهم عن قبول الإيمان والدخول في طاعة الله سبحانه، فقد وقعوا في ظلمات لا مخرج منها ، وقد زيّن الله سبحانه أعمالهم في نفوسهم، وحليت في أعينهم، فصارت عقبات في سبيل الهداية ، يستعملون أخسّ أنواع المكر ليمكروا بالدعوة الدينية والنبيّ والمؤمنين ، فهم يمشون فى الأرض لإفساد عقيدة عباد الله الذين آمنوا بربّهم وانشرحت صدورهم للإسلام، والانقياد والطاعة الذين هم على خلاف فريق المجرمين، يمشون في الأرض بالهداية والإصلاح، لا يزعزعهم مكر المجرمين الذين يريدون الوقيعة بالهداية الإلهيّة بكلّ ما يستطيعون من مكر وخديعة ، فما أبعدهم عن الحقّ والحقيقة ؟!

والجعل هنا إمّا راجع إلى التكوين، فهو يرجع إلى مقتضيات استعداداتهم، فيكون بمعنى خَلَق أي خلقنا في كلّ قرية أكابر مجرميها . أو راجع إلى التشريع،

ص: 355

فيكون بعد تشريع الهداية وإرسال الرُّسل وإنزال الكتب، أمرناهم بإتباعها فلم يأتمروا وتمادوا في الكفر والطغيان، وقد ذكرنا في مواضع متعدّدة ما يتعلّق بالجعل الإلهي فراجع.

وأكابر مثل الأصاغر ، هما جاريان مجرى الأسماء، وإن كان أصلهما من النعوت على وزن (افعل) ، وهو بمعنى الرؤساء ، جمع أكبر ، وقيل جمع كبير ، ويقابلهم عامّة الناس فإنّهم أتباع وأذناب .

والمجرمون أصحاب الجرم أو فاعلو الإجرام، ومادّة (جرم) تدلّ على القطع ، ومنه جرمت الثمرة عن الشجرة أي قطعتها ، وأجرم صار ذا جرم نحو أتمر وأثمر والبن ، واستعير لكلّ اكتساب مكروه، وخصّ بما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، ولعلّه يرجع إلى أنّه بعمله الإجرامي قد انقطع عن أفعال العقلاء المحمودة . وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في واحد وستّين مورداً تدلّ على شناعتها وسوء عاقبتها .

والآية على التقديم والتأخير، أي جعلنا في كلّ قرية مجرميها أكابر . وإنّما خص بالذكر أكابر مجرميها، إمّا لكونهم أقوى على استتباع الناس، وأقدر على المكر بهم ، أو لأنّ المقصود هو رجوع المكر إلى ماكره ، والمكر بالله تعالى وآياته إنّما يصدر منهم . أو يرجع المعنى جعلنا مجرميها أكابر، فإنّهم إذا صاروا أكابر قرية وزعماؤها فيمكرون بأنحاء المكر والخداع للحفاظ على مكانتهم، ويرشد إليه قوله تعالى : «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا» (1)، بناءً على قراءة «أَمَّرْنَا» بالتشديد . واللّام حينئذٍ في (لِيَمْكُرُوا) للعاقبة . ولكن هذا المعنى بعيد عن سياق الآية .

ص: 356


1- سورة الإسراء : الآية 16

بحث حول حقيقة المكر

قوله تعالى : «لِيَمْكُرُوا فِيهَا».

المكر معروف ، وهو صرف الإنسان عمّا يريده إلى غيره بضربٍ من الحيلة والخداع في القول والفعل ، والمراد به في القرآن الكريم حيث أطلق هو الصرف من الحقّ إلى الباطل، والخير إلى الشرّ، بضرب من الحيلة والخلابة ، باعتبار أن الحقّ والخير واضحان يدعو إليهما الفطرة والعقل، فلا يخفيان على الإنسان الاّ بالمكر واستعمال الحيلة. واللام في «لِيَمْكُرُوا» لام كي وهي متعلّقة بجعلنا ، وحذف الممكور به للعلم به والآية الكريمة تبيّن حقيقة اجتماعيّة، وهي وجود المجرمين في كلّ مجتمع، يكون بعضهم أكابر لهم نوع من السلطة والنفوذ الاجتماعي، والتأثير على الآخرين، يستعملون أنواع المكر والخديعة، ويستخدمون أدون الوسائل من الحيل ليمكروا بالدعوة الدينيّة، ورسولها والمؤمنين بها ، بل سائر المصلحين ، وذلك لضعف الإيمان في النفوس، وإعراض الناس عن التصدي لهؤلاء المجرمين ، وخضوع مرضى القلوب لهم، وتمكينهم من أنفسهم ، وهذه سُنّة إلهية تقابلها سُنّة إلهية أُخرى تقتضى إرسال الرُّسل وإنزال الكتب لغرض هداية الناس .

ومضمون الآية عامّ يشمل جميع الأُمم في كلّ العصور، حتّى عصرنا الحاضر ، وقد عممّ المجرمون مكرهم وتمادوا في الطغيان حيث استعملوا مفردات الدعوة الدينيّة في تثبيت سلطانهم، وتشويه الصورة الدينيّة، وتضعيف دعائم الدِّين ، وإرهاب المؤمنين، ومنعهم من ممارسة الأعمال الدينية ، فلم يدعوا وسيلة في الوصول إلى مآربهم، فاستخدموا الفضائل والطقوس الدينية في هذا السبيل نفاقاً منهم للإيقاع بعامّة الناس البسطاء، وكانوا أضرّ الناس بهذا الدِّين لولا وعد الله تعالى بحفظه ، ولأجل مكر هؤلاء المخادعين راجت الذنوب، وتبدلّت النفوس إلى العدوان وقست القلوب بسبب التجرؤ على حرمات الله تعالى، ومن

ص: 357

ذلك يظهر أنّه ربما يكون المراد من «أكَابِرَ مُجْرِمِيهَا» كبر الإجرام وعظم المكر والخديعة، وأنواع الحيل التي استخدموها، فوصفوا بالكبر تبعاً لكبر الإجرام وعظم المكر والخديعة .

وعليه يكون قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا» أسلوباً خاصاً لبيان السنة الإلهيّة، ولا نحتاج إلى التماس الوجه في التشبيه ، وهو يدلّ على أهمية الموضوع والتذكير به والتفكر فيه، لئلا نبتلى بمثل ما ابتلى به السابقون الأولون .

قوله تعالى : «وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».

بيان لحقيقة واقعيّة، وهي أنّ المكر إنّما يفسد استعداد نفوس الماكرين قبل أن يحلّ أثر مكرهم في الممكور به ، وعليه تكون عاقبة المكر ترجع إلى الماكرين وأثره يحلّ فيهم، وهو جزاء كيدهم ومكرهم ، مضافاً إلى أنّ المكر السيء لا يحيق إلّا بأهله، وأمّا المؤمنون فقد وعدهم الله بالنصر الأكيد، وعلوّ الحقّ، وهلاك الباطل، وهو سُنّة إلهية ، كما قال عزّ وجلّ : «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَم فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً» (1)، وذلك لأنّ المكر الذي يستعمله الماكرون يعود عليهم، فيفسد بهم غرضهم المطلوب، فيضلّ سعيهم به ويبطل عملهم، وهمّ لا يشعرون ، كما تحقّق ذلك في الأُمم السابقة ، كما حكى سبحانه عن قوم صالح علیه السّلام، فقال تعالى : «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» (2).

ص: 358


1- سورة فاطر: الآية 42
2- سورة النمل : الآية 53

وربما يمكن توجيه ذلك بأحد وجوه:

إمّا لأنّ الغرض من الدعوة الإلهيّة هو إيصال المدعوّين إلى الكمال والسعادة، فلا يعود النفع إلّا اليهم ، فلو مَكَر الماكر ليفسد ذلك الغرض، ويمنع نجاح السعي فيه، فإنّما مكر بنفسه لعود الضرر عليه، حيث لم يصل السعادة، وهو لم يشعر بأنّه المتضرر من مكره .

وإمّا لأنّ الماكرين الذين يريدون إيقاع الضرر والشرّ بالمؤمنين، والوقوف أمام الدعوة الدينية، ولكن الله عزّ وجلّ وعد المؤمنين بالنصر وحفظ دينه الحقّ وعلوّ كلمته، فلم يحق المكر السيء إلّا بأهله .

وإمّا لأنّ مكر الماكرين يزيد تمسّك المؤمنين بدينهم ، والتفافهم حول الأنبياء علیهم السّلام ، واستخدامهم الوسائل المضادة لمكر الماكرين.

وإمّا لغلبة الحق على الباطل ، ورجوع وبال المكر على الماكرين في العاقبة .

وكيف كان فالآية تشتمل على الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين الماكرين . وقد نفى عنهم الشعور وهو مبالغة في نفي العلم ، إذ أنّ نفي الشعور عنهم إنّما يلحقهم بالبهائم .

قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ».

أثر من الآثار المترتّبة على مكر الماكرين، حيث حرموا أنفسهم من السعادة، وهدروا استعدادهم لمقام القُرب ، وهو نوعٌ آخر من الطغيان الذي هم عليه واستكبارهم على الحقّ ، وهو أحد أنواع المكر الذي استخدموه لطمس الحقيقة، فقد استهزؤا بالحقّ فلم يعترفوا بالرسالة حتّى يطلبوها لأنفسهم ، وقد حکی سبحانه في آيات أُخرى بعض طلباتهم، فيكون تفسيراً لما ورد في هذه

ص: 359

الآية ، كقوله تعالى : «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً»(1) .

وقوله تعالى : «وَلَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (2).

وما حكى عزّ وجلّ عن المشركين في أوائل هذه السورة .

وفى الآية إشارة إلى عدم وفائهم بالوعد الذي أقسموا عليه، كما حكاه عزّ وجلّ عنهم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا»، فهو حجّة عليهم ، فقد جائتهم آية فقالوا لن نؤمن .

والمراد بمثل ما أوتي رسل الله الوحي والكتاب، وسائر مواد الدعوة الدينية كالمعجزات ، دون مجرّد المعارف الدينيّة من الأُصول والفروع ، وإلّا كان اللّفظ المناسب غير ما ذكر ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر رسل الله الذين نزل عليهم ما لم ينزل على كلّ نبيّ .

وهذا يدلّ على سفاهة رأيهم ، فإنّهم لو طلبوا المعارف الإلهيّة، لأمكن أن تكون سبباً لهدايتهم، إلّا أنّ كراهتهم للحقّ، واستكبارهم عليه، أوجبا طمس عقولهم ، وهو نوع من المكر الإلهي بهم قد تلّقوه بسوء اختيارهم .

والضمير في جاءتهم يرجع إلى أكابر المجرمين والرؤساء الماكرين، وقد تبعهم عامّة الناس المغفّلين، وإرجاعه إليهم غير صحيح، فإنّ الرسالة لم تعط لجميع الناس، وإلّا فلا أحد يرسلون إليه فيكون لغواً، وحينئذٍ لا يحتاج إلى جواب سوى الإعلام بأنّه لغو .

والآية تدلّ على استبعاد حصول الإيمان منهم إذ علّقوه بمستحيل عندهم ، وليس فيه إقرار بالرسل من الله تعالى، وإنّما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، والّا لو كانوا غير معاندين لاتّبعوا رسل الله .

ص: 360


1- سورة الإسراء : الآية 92
2- سورة الزخرف : الآية 31

قوله تعالى : «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ».

ردّ على تمنّياتهم الباطلة بما يدلّ على كمال عنايته عزّ وجلّ برسله ، أي هو سبحانه أعلم بموقع الرسالة، ومن يصلح لها من عباده ، وهذا نظير قوله تعالى : «وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ» (1).

ولا ريب أنّ تحملّ الرسالة يحتاج إلى استعداد خاصّ، ونفس قدسية قد اتّصفت بالفضائل والمكارم، فلا يصطفى للرسالة إلّا من علم أنّه يصلح لها، وهو أعلم بتلك الجهات التي يضعها فيها ، وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو سيِّد الأنبياء وخاتم المرسلين محمّد بن عبد الله صلّي الله علیه و آله، دون أكابر المجرمين وغيرهم ، وقد ذكرنا فيما سلف من هذه السورة ما يتعلّق بهذا الموضوع ، وهو لا يستلزم الإيجاب، فإنّ للكسب أيضاً دخلاً في نيل هذا الفيض الربوبي .

ومن ذلك يظهر أنّ الرسالة فضل من الله تعالى، يخصّ به من يشاء من خلقه ، فلا تنال بالزعم والوهم، فيصطفى لرسالته من علم أنّه يصلح لها، وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها . والآية الشريفة من أعاظم الآيات بما فيها من الأسرار.

وممّا يتعلّق بالآية من حيث الإعراب، اختلافهم في إعراب (حَيْثُ):

فقالوا: إنّه لا يمكن إقرارها على الظرفية ، فتكون مفعولاً على السعة، ولا يعمل فيه أعلم إذ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، فاحتاجوا إلى إضمار فعل يفسره أعلم .

وقيل : إنّ ذلك على خلاف قواعد النحو ، فإنّ النحاة نصّوا على أنّ حيث من الظروف التي لا تصرف، والظرف الذي يتوسّع فيه لا يكون إلّا متصرّفاً ، فلا تنصب حيث على المفعول لا على السعة ولا غيرها .

ص: 361


1- سورة الزخرف : الآية 31

وقيل : إقرار حيث على الظرفية المجازية، على أن يضمّن أعلم معنى يتعدّى إلى الظرف، فيكون التقدير الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالته . والظرفيّة هنا مجاز .

قوله تعالى : «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ» .

وعيدٌ شديد لمن اتصف بالإجرام وكبر جرمه، فصار من أكابر مجرمى كلّ قرية ، وإن كان القول بالتعميم ليشمل الأكابر وغيرهم وجيهاً ، وقد نعى سبحانه عليهم ما سيلقونه من فنون الشرّ، بعدما نعى عليهم حرمانهم مما أمّلوه .

والصغار مقابل الكبار وهو الذل والهوان ، يقال : صغر يصغر ، واسم الفاعل صاغر وصغير . والسين للتأكيد ، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع وفيه الإشارة بأنّ مضمون الصلة يصيبهم البتة مكان ما طلبوه من عزّ النبوّة وشرف الرسالة ، والآية من الأدلّة القرآنيّة التي تدلّ على تناسب الجزاء مع العمل .

والتصريح بقوله «عِنْدَ اللهِ» الإعلام بأنّهم لا يفلتون عن الجزاء ، لأنّه مضمون عنده عزّ وجلّ، وفيه التهكم ، بل فيه الإشارة إلى سبق القدر الإلهي الذي دبّر به نظام الخلق تكويناً وتشريعاً.

قوله تعالى «وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ» .

تعليل لنيل العذاب الشديد بسبب مكرهم المستمرّ ، وفيه الدلالة على رجوع المكر السيء إلى أهله، وأنّ هذا من مصاديقه ، فيكون الختم ب- (يَمْكُرُونَ) مراعاةً لقوله تعالى «لِيَمْكُرُوا فِيهَا» لفظاً ومعنىً .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ»

قوله تعالى : «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ» .

بيان أنّ الهداية الإلهيّة لا تنال بالمكر والخديعة والهوى أو من الشيطان،

ص: 362

وأنّه لابدّ من الاستعداد لهداية الإسلام ، وقد وصف سبحانه حال المستعدّ بشرح صدره للإسلام.

ولا ريب أنّ الصدر عند العرف هو وعاء العلم والمعرفة ، فيكون المراد بشرحه هو التوسعة فيه، بحيث يتّسع لما يصادفه من الحقّ ومعارفه ، فلا يدفعه، ويكون مستعداً لقبول الإسلام متوسّعاً لقبول تكاليفه ، ويدلّ على ذلك ما وصف به نقيضه من الضلال، وجَعْل صدره ضيقاً حرجاً.

فيكون المراد بشرح الصدر للإسلام، استعداد الفرد لتلقي مقوّمات الحقّ من العلم والاعتقاد والتسليم، فيحصل له نور من الله، فيرى بعين بصيرته مواقع الحقّ، فيتقبل ما يرد عليه من الحقّ، فيعلم خصوصيّاته من اعتقاد وعمل فلا يلقى إليه - قول حقّ إلّا قبله ووعاه ، أو عمل صالح الّا أخذ به، فقد نفذ ذلك النور إلى مشاعره وأحاسيسه، واستضاء به عقله، ويمشي به في طرق الهداية ، ويتسارع إلى الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بالحقّ والعمل به، كما بيّنه عزّ وجلّ بقوله: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» (1).

والمستفاد من مجموع الآيات الواردة في شرح الصدر، أنّ حقيقته هو النور الإلهي الذي يقذفه سبحانه في صدر المؤمن فيهتدي به ويتّسع لقبول الحقّ . وإنّ من آثاره لين القلب وذهاب قساوته، فيقبل ذكر الله ، كما قال تعالى : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِها مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» (2).

كما أنّ من آثار ذلك النور المعنوي أنّه ينصر صاحبه ، وأنّ به يتنوّر القول

ص: 363


1- سورة الزمر : الآية 22
2- سورة الزمر : الآية 23

الحقّ فيقبله برحابة صدر ويتمسّك به ويعمل به ، كما أنّ من أهمّ آثار تلك الهداية الإلهيّة، تهيئة الإنسان لقبول الحقّ، وتصفية النفس عن كلّ ما ينافيه، والتسليم الله تعالى؛ الذي هو من مقوّمات الإيمان، ومن أجلّ المقامات ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

ومن ذلك يتبيّن أنّ هذه الآية الشريفة تكون بمنزلة الشرح والتفسير لقوله تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» فتكون إحداهما متفرّعة على الأُخرى، وهو من بديع الكلام .

فيكون معنى الآية الكريمة: من كان ميّتاً عن الكمالات والإيمان، وقبول الحقّ والمجاهدات فأحياه الله بنورٍ من عنده يستضيء به في مسالك الحقّ، فيأخذ به اعتقاداً وعملاً، فينشرح صدره، ويتوسّع للتسليم لربّه، فلا يستكبر على الحقّ ويتّخذ الإسلام منهجاً ويطيع به ربّه، ولا يستنكف عن عبادته ، فهو على نور من ربّه .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً»

قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيْفاً حَرَجاً».

إذا كان حال من يريد الله أن يهديه انشراح صدره لقبول الإيمان والإسلام ، ولكن من يرد أن يضله يجعل صدره ضيّقاً ينبو عن الحقّ، ويتحرّج عن الدخول فى الإسلام ، فتقابل الفريقان في الصفات والآثار والعلامات ، وقد عرفت ما يتعلّق بالمهتدين ، وأمّا المضلّين الذين أراد الله إضلالهم لسوء اختيارهم، يجعل الصدر ضيّقاً، وأثره أنّه لا أنّه لا يسع ما يتوجه إليه من الحقّ والصدق، ويتحرّج عن قبول الإيمان بحيث ينبو عن سماع الحقّ وقبوله ، فلا يكاد يوجد فيه منفذ ، لامتلاء صدره من الكفر والكبر، فلا يتّسع لقبول شيء جديد منافٍ لما استحوذ على قلبه من أخلاق ذميمة وصفات رذيلة .

ص: 364

والمشهور قراءة (ضيّقاً) بالتشديد ، وقرئ (ضيقاً) بالتخفيف ، كقولهم لين وليّن، وهيّن وهين.

وقرئ (حرجاً) بالكسر ، اسم فاعل من حرج يحرج فهو حرج ، والباقون بالفتح فهو وصف بالمصدر وهو شدّة الضيق ، فإنّ الحرج غيضة أشجارها ملتفّة بحيث يصعب دخولها ، ومنه قيل للضيق حرج . وكيف كان فقد وصفا بالمصدر للمبالغة .

حول معنى الصعود إلى السماء

قوله تعالى : «كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ» .

وصف يُنبئ عن تباعد من أضله الله تعالى عن الحقّ والإيمان به، فقد ضاق صدره بل ،عظم فلا انقياد له للحقّ ولا تسليم، وهذا التشبيه واقعي يستفاد منه أُمور :

منها : إنّه ثَقُل عليه الهدى وإحكامه وعظم وقعه عليه ، كما تَقُل عليه التكليف بالصعود إلى السماء .

ومنها : نفرته من الهداية كما ينفّر من كلّ ضيق وحرج ، بل تعظم النفرة .

ومنها : تباعد قلبه عن الإسلام، وعن قبول الإيمان ، كما يتباعد من يصعد إلى السماء من الأرض.

ومنها : هروبه من الهداية والإيمان كمَن يهرب إلى السماء .

و منها: عجزه عن إجابة الدعوة كعجزه عن الصعود بجسمه إلى السماء .

ومنها : الاستحالة في الدخول في زمرة المؤمنين المهتدين ، فيمتنع منه الإيمان، كما يمتنع منه الصعود إلى السماء، فإنّه قد ثبت في العلوم الحديثة فقد التوازن بين الضغط الجوي مع الضغط الداخلي في الإنسان عند الصعود إلى السماء، فكلّما يصعد مرحلة يزيد الضغط الداخلي، حتّى يصل إلى الموت ، فالتعبير ب- (يصعّد) يدلّ على أمر تكويني عادي اكتشفه العلم الحديث، وقد نبّه عليه القرآن الكريم قبل ذلك .

ص: 365

وأصل (يصعّد) يتصعد فأُدغمت التاء فى الصاد، وهو يدلّ على المشقّة الشديدة . وقرئ (يصعد) ، كما قرئ (يصاعد) وأصله يتصاعد ففعل به ما تقدّم .

حول معنی دار السلام

قوله تعالى : «كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ».

بيان لحال الذين لا يؤمنون بالله سبحانه، ولا يذعنون للحقّ ولم يسلّموا لأمره، فظهرت عليهم صفات المشركين الكافرين، فأعرضوا عمّا أنزله الله تعالى والدِّين الحقّ ومعارفه وأحكامه التشريعية .

ومضمون الآية الكريمة حقيقة من الحقائق الواقعيّة، فإنّه بعد أن لم يكن لهم نور يهتدون به إلى الإسلام، فكانوا في ظلمات متراكمة، وأصبحت صدورهم ضيّقة لا تقبل الهداية، ولا يقتربون إلى الحقّ ، وابتعدوا عن الله عزّ وجلّ، ولم يكن عندهم ما يقرّبهم إليه ، فإنّ كلّ ذلك أوجب وقوعهم في الرجس وعلتهم القذارة وأحاطت بهم، فتنفّرت الطباع منهم، كما تتنفّر من الشيء القذر ، وسوف يشملهم العذاب والخذلان في الآخرة.

والرجس هو الشيء القذر ، وتقدّم ما يتعلّق به في سورة المائدة الآية 93 . كما أنّ الجعل بمعنى الصيرورة، أي صيّرهم في الرجس ، وتعديته بعلى لإفادة الإلقاء والإحاطة . واسم الإشارة لبيان الأصل والقاعدة في أمثال هؤلاء الكافرين المضلّين .

قوله تعالى : «وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً» .

تأكيد لمضمون الآيات السابقة ، فإنّه قد بيّن عزّ وجلّ الهداية والضلالة، وعرّف صفات و آثار كلّ واحدة منهما ، وبعد وضوح كلّ واحد من الأمرين المتقابلين، يتبيّن صراط الله تعالى المستقيم ، فمن استعدّ لقبول الهداية، أنار الله تعالى قلبه وشرح صدره للإسلام، ومن أعرض ولم يقبل ما وهبه الله تعالى من

ص: 366

الاستعداد الفطري، وطاوعت نفسه للضلالة ووقع في ظلمات، جعل الله عزّ وجلّ صدره ضيّقاً ينبو عن الحقّ، ويتباعد عن الإيمان وأركانه ودعائمه ، فيبتعد عن كلّ موجبات الطهر، وتعلوه القذارة ، كل ذلك هو صراط الله المستقيم الذي يجمع كلّ أسباب الهداية، وما يبعّد عن الضلال والغواية ، والإنسان هو الذي يختار أحد النجدين ، وتلك سُنّة إلهية تجري في عباده لا تخلّف فيها ولا اختلاف . و(مستقيماً) منصوب على أنّه حال مؤكدة ، لأنّ صراطه تعالى لا يكون إلّا مستقيماً.

قوله تعالى : «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ».

دليلٌ آخر على اختيار الإنسان فقد بيّن سبحانه تلك الآيات الكريمة التي تدلّ على أُصول الهداية والضلالة، وعرّف حقيقة كلّ واحدة منهما على نحو التفصيل، بحيث لا يبقى بعد ذلك إجمال ولا التباس، فهو القول الفصل الحقّ الواضح عند من يتذكرها وينتفع منها .

والآية تدلّ على أن تلك الأصول من المعارف والعقائد مودعة في الفطرة وأنّ بتذكّرها يهتدي الإنسان إلى معرفة الحقّ وتميّيزه عن الباطل ، وأنّه يختار أحدهما بإرادته من دون إلجاء واضطرار، والله سبحانه يهديه إلى الحجّة فإنّه الربّ الرؤوف بعباده يرعى شؤون خلقه ويعتني بهدايتهم .

قوله تعالى : «لَهُمْ دَارُ السَّلام عِنْدَ رَبِّهِمْ» .

المراد بالسلام هو المعنى المعروف أي السلامة من الآفات والعيوب الظاهرة والباطنة، والتعرّي عن البلايا وسائر المكاره ، فتكون دار السلام هي الدار المعراة من كلّ ما يوجب الغمّ والهم والخوف والحزن ، وهي الجنّة التي وعدها الله تعالى لعباده المؤمنين المتّقين، وقد وهبهم دار السّلام جزاء ما كانوا

ص: 367

عليه في دار الدُّنيا من خوف وحزن ، كما أنّهم استحقّوها وتملكوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وهي محفوظة عند ربّهم، سالمة من كلّ نقص وعيب .

وقيل : إنّ السلام من أسماء الله الحسنى أضيفت الدار إليه تشريفاً، كما قيل: بيت الله الحرام، ولكن السياق يأباه .

قوله تعالى : «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» .

أي يتولّى أُمورهم في الدُّنيا بهدايتهم، كما عرفت . وفي الآخرة حيث یکافئهم الجزاء الحسن ، وليس المراد بالولي مجرّد المُحبّ والناصر ، بل الولاية على الهداية والجزاء.

قوله تعالى : «بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

أي إنّ ذلك الجزاء الحسن كان سببه أعمالهم الصالحة ، وفيه الدلالة على أنّ الإيمان مركّب من الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح.

***

ص: 368

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أُمور :

الأوّل : الآيات بأسلوبها البلاغي المشتمل على التشبيهات البديعة تبيّن . حقيقة الهداية الإلهيّة ، وذكرت آثارها وما يترتّب عليها وأحوال المهتدين .

والهداية إمّا بمعنى إراءة الطريق ، كقوله تعالى : «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (1)، أو الإيصال إلى المطلوب ، كما في قوله تعالى: «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ» (2)، وعلى كلّ منهما إمّا أن يكون تتّصف بها الأفعال ، أو تتّصف بها الإنسان، وجميع هذه الأقسام واقعة في الخارج؛ فإمّا أن يأتى بالأفعال متّصفة بالهداية إذا تبيّن للشخص كيفيّة الوصول، أو إراءة الطريق الذي ينتهي إليه أو المشي معه والأخذ بيد المهتدي ومصاحبته في الطريق حتى الوصول إلى الغاية المطلوبة . والهداية مطلقاً تدور مدار القصد والشخص الذي يأتي بتلك الأفعال إنّما يهتدي بها، وهي من الصفات ذات الإضافة فالله سبحانه هو الهادي - الذي هو أحد الأسماء الحسنى - وهو من صفات الفعل المنتزعة فعله تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما ، والإنسان هو المهتدي ، والأفعال التي من يأتى بها تهدي إلى المطلوب.

والهداية الإلهيّة على نوعين : الهداية التكوينية ، وهي التي تتعلّق بالأُمور التكوينيّة بهداية كلّ نوع من أنواع المخلوقات إلى الكمال اللائق به في الأجل

ص: 369


1- سورة الدهر : الآية 3
2- سورة الأعراف : الآية 176

المضروب لوجوده ، قال تعالى : «الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» (1).

وقال تعالى : «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (2).

والهداية التشريعيّة وهى التى تتعلّق بالأمور التشريعيّة، من الإيمان الحقّ المتكوّن من الاعتقادات الحقّة، والأعمال الصالحة التي يتعلّق بها حكم شرعي إلهي ، والثواب المترتّب على امتثالها والعقاب على تركها . هذا مجمل ما ذكر في الهداية الإلهيّة.

ولكن المستفاد من آيات المقام، أنّ حقيقة الهدى الإلهي هو النور الذي يجعله الله عزّ وجلّ في قلب المؤمن، بعد استفادته من الاستعداد الفطري ، فلا تخفى عليه سبل الهداية ، فيعرف خير الأشياء وشرّها ونفعها وضرّها فيتّخذ وصله إلى الخير والسعادة ويترك ما يضرّه ويوجب له الشقاء .

وأنّ الهدى الإلهي يوجب انشراح الصدر، فيسلّم لربه ويتبّع حقّ القول وصدق العمل، ويترك الباطل من القول، ويتجنّب فاسد العمل، ويكون للمهتدي خطىً ثابتة راسخة فيمشي بين الناس لا تصدّه ظلمات الجاهلين، وبغى المضلّين وإغواؤهم ، لأنّه يمشى على الصراط المستقيم .

وأنّ من آثار هذه الهداية الإلهيّة تحقّق النور في الصدر، فيجعل لهذه الحياة المادّية صفة خاصّة، تصبح حياة حقيقيّة مسيرها الصراط المستقيم، وسلّاكه الأنبياء والأوصياء والمؤمنون ، وأنّ ثمارها الدِّين الحقّ والمعارف الواقعيّة ، وحينئذٍ لا اختلاف بين أفراد هذا الصراط، كما لا تناقض بين معارفه وشرائعه ، فإنّها تمثّل التوحيد الخالص الذي لا تغيّر فيه ولا تبديل ، يدلّ آخرها على أوّلها ، ويرشد أوّلها إلى آخرها ، هذه هي الهداية التي أرادها الله لعباده ، كما تقرّرها

ص: 370


1- سورة طه : الآية 50
2- سورة الأعلى : الآية 3

آية المقام .

الثاني : استدلّ بعضهم على أنّ هذه الآيات تدلّ على أنّ الهداية والضلال من الله تعالى، ولا سبيل للعبد فيهما ، كما أنّها تتضمّن دليلاً عقلياً على ذلك باعتبار أن العبد قادر على الإيمان والكفر معاً على حدٍّ سواء؛ فيمتنع صدور أحدهما بدلاً عن الآخر بدون مرجّح، وهو الداعي القلبي الذي ليس هو إلّا العلم أو الاعتقاد أو الظنّ بكون الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة أو منفعة راجحة ، والدليل يدلّ على أنّ حصول هذه الدواعى فى القلب لا يكون إلّا من قبله تبارك وتعالى، وأنّ من مجموع القدرة والداعي يتحقّق العمل ، وعليه يستحيل صدور الإيمان من العبد إلّا إذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد رجحان ،الإيمان، ومعه يتحقّق إليه ميل في القلب، ورغبة من النفس فيه ، وهذا هو المراد بشرح الصدر، وجعل القلب ضيّقاً حرجاً.

والحاصل: إنّ من أراد الله عزّ اسمه منه الإيمان، قَوّى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوّى صوارفه عن الإيمان .

والحقّ أنّ الآية الكريمة تدلّ على الاختيار لا على سلبه ، فهي تدلّ على أنّ العبد مختار في أحد طرفي المعادلة من الإيمان والكفر ، وتنفي الجبر والاضطرار ، وذلك لوجوه .

أوّلاً : قد عرفت سابقاً أنّ استناد الأشياء إلى الله عزّ وجلّ بالخلق والإيجاد لا ينافي انتسابها إلى غيره تعالى ، فإنّه من المعقول جدّاً إسناد الهدى والضلال إليه تبارك وتعالى إسناداً حقيقياً، وفي نفس الحال يسندان إلى الإنسان باعتبار كونه جزء العلّة إسناداً حقيقيّاً أيضاً.

وثانياً : إنّ الآية إنّما هى فى مقام تعريف الهدى والضلال وبيان آثارهما وتأثيرهما ، وصنع الله عزّ وجلّ بالعبد إذا أراد الهداية أو الضلالة ، وليست في مقام

ص: 371

أنّ كلّ هداية وضلالة من الله تعالى ، بل هو بعيد عن سياقها .

وثالثاً : إنّ قوله تعالى : «وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمِ يَذَّكَّرُونَ» يدلّ بوضوح على اختيار العبد، والدخول في الصراط المستقيم لمن يتذكّر ويختار الهداية، ويعرض عن الضلال والغواية ، وقد عرفت أنّ التذكر إنّما يحصل لمن رجع إلى نفسه وما أودعه الله في فطرته .

ورابعاً : إنّ صنع الله تعالى في مورد الهداية والضلالة، إنّما هو سعة الصدر وانشراحه أو ضيقه ، وهما غير رغبة النفس ونفرته ، كما زعمه . نعم ، كلّ إرادة للفعل تسبقها الرغبة إليه ، وكراهة الفعل نفرته منه، باعتبار كونهما من مقدّمات الإرادة ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب أن يكون المراد من سعة الصدر وضيقه الإرادة والكراهة ، وبذلك لا يبقى للدليل العقلي المزعوم أساس، فإنّه مغالطة واضحة .

الثالث : يستفاد من قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلام» بعض آثار الحياة الحقيقية التي حباها الله تعالى للمؤمنين، وهو انشراح الصدر للتسليم والانقياد له تعالى بالطاعة. وإنّما خصّ الإسلام بالذِّكر، لأنّ به تتحقّق مطاوعة جميع الحواسّ والمشاعر للانقياد والخشية، وهو أساس الإيمان وأهمّ الكمالات، وقد نبّه إليه قوله تعالى : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِها مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادِ» (1).

ومن العنايات اللّطيفة في الآية الكريمة أنّه جعل هذا الأثر من متفرّعات قوله تعالى : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً»، فيكون بينهما التصادق .

الرابع : يدلّ قوله تعالى: «وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» على حقيقة واقعيّة قد كشف عنها القرآن الكريم، وهي أنّ المكر السيء لا يحيق إلّا

ص: 372


1- سورة الزمر : الآية 23

بأهله ، فيكون الماكر من الأُمور النادرة التي تجتمع فيها جميع العلل المادّية، فهو السبب والفاعل للمكر ، كما إنه العلّة المادّية لأنّه من أدواته . وهو الغاية من مكره فإنّ آثار المكر تحلّ فيه ويجعل دياره بلاقع ، والماكرون بأجسامهم ومشاعرهم وأقوالهم وأفعالهم صور المكر والخديعة، وهمّ لا يشعرون بهذه الحقيقة ، وإنّما ذكر الشعور للدلالة على أنّه أصابه الوهن والاضمحلال في مشاعره وشعوره بسبب المكر .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ» على أنّ الكافرين قد تأثّروا بالظلمات التي تراكمت على نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، وإنّ كلّ واحدة من هذه الثلاثة لها شعور خاص بها واستعداد معيّن كلّ منها بما يناسبها من الجهل ، فقد صدر منهم الإعراض والطلب من دون سبق رويّة وفكر ، فإنّهم غفلوا أنّ رسل الله تعالى لم ينالوا ما نالوا إلّا باستعداد فطري وكسب عملي، وكمال أخلاقي ، وأنّ الرسالة هداية إلهية وإحاطة ربانية ، وهم بمعزل عنها بالكلّية ، فكيف يؤتون ما أوُتى رسل الله ؟!! ولعلّه لأجل ما ذكرناه كان النفي منهم على التأبيد ، فهم أموات من هذه النواحي وإن كانوا في الظاهر أحياءً .

و من اللّطائف في المقام أنّ الرسالة الإلهيّة إنّما تكون بجعل أزلي ، والكافرون ينفون الإيمان بهم أبداً ، فالفريقان على طرفي نقيض من الهداية ومن والضلال.

السادس : يشير اقتران الإسمين الجليلين في قوله تعالى : «رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ» - الذي لم يرد فى القرآن الكريم كذلك إلّا في هذا الموضع - إلى كمال العناية برسل الله الذين أحاطهم بهذه المنقبة الكبيرة ، فهم تحت رعايته معنىً ولفظاً ، وقد ذكر جمع من العلماء آثاراً معينة في هذه الجملة المباركة، فراجع واحفظ ذلك .

ص: 373

السابع : يدلّ قوله تعالى : «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ» على قانون المجازاة، وتناسب الجزاء مع العمل . فإنّهم على درجة كبيرة من الكبرياء والاستكبار على الحقّ، فناسب ذلك الصغار عند الله، ولم يبيِّن عزّ وجلّ خصوصيّاته ليشمل كلّ أنواعها، فلم ينصرهم، ولم يمدّهم بعونه، وليس وليهم، ويذلّهم في عذاب مهین شدید اکتسبوه بسبب اعتقاداتهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة التي هي ظلمات متراكمة .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ» أن الهداية الإلهيّة لابدّ أن يسبقها استعداد في الفرد ، وقابلية لقبول الحقّ وتهيئة للتسليم، ليتّم المقتضي وهو حصول العلم لهم بما يقرّبهم إلى الله عزّ وجلّ وما يبعدهم عنه ، والنور الذي يظهر في القلب، فيشاهد به الغيب ، ويزول المانع من الظلمات المتراكمة من الكفر والجهل، والمعاصي والآثام.

كما أنّ الضلالة إنّما تتحقّق إذا تمّت مقدّماتها، منها صرف النفس عن اختيار الإيمان بحيث تنبو عن قبول الحقّ ، ويضيق الصدر عن الإيمان، وكلّ فرد يعرف معنى جعل الصدر ضيقاً حرجاً، فإنّه يمرّ عليه في حياته بعض الصعوبات التي تؤثّر في عقيدته، ويقع في الشكوك، فلا يقبل كلّ نصيحة إلّا من عصمه الله تعالى، وثبّته على القول الثابت وسلّم أمره إلى الله عزّ وجلّ، ومن هنا يظهر السّر في إفراد مقام التسليم من بين سائر المقامات العلّية .

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» إنّ الرجس المجعول على غير المؤمنين، إنّما هو آثار الصفات المذمومة ، والرذائل المكتسبة التي أحاطت بهم، فهو في رجس معنوي وظاهري وإن لم يشعر به ، ولذلك لا ينتفع الكافر بآيات الله عزّ وجلّ التي أنزلها مع الرُّسل، ولا تؤثّر فيه المواعظ والنذر إلّا إذا تذكّر ربّه وتصدّى لرفعها ودخل في الصراط المستقيم .

ص: 374

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : «لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أَنَّ المؤمنين الذين كانوا تحت ظلم أكابر المجرمين الذين أحاطوا بالمؤمنين، يخوّفونهم وينزلون بهم الضرر وأشدّ الآلام النفسية والبدنية، قد قابلهم الله تعالى أن جعل المؤمنين في دار السلام عند ربّهم، فقد آمنوا واطمأنّت نفوسهم، فلم تؤثّر فيهم تلك، وهو عزّ وجلّ وليّهم يحوطهم برعايته، ويتولّى شؤونهم ، وأمّا الظالمون الكافرون فقد كان جزاهم الصغار عند ربّهم، ليس لهم وليّ يمنعهم عمّا يصيبهم جزاء أعمالهم.

ومن إعجاز الكلام أنّ الله سبحانه جعل الرجس على الكافرين، فلا يمكنهم دخول الجنّة التي هي دار الطهر ، وأنّهم مجرمون فلا يعقل لهم أن يدخلوا دار السلام ، وأمّا المؤمنون فقد وهبهم الله دار السلام ، لأنّهم صبروا على ظلم الظالمين، ودخلوا الجنة لأنّهم أزالوا الرجس باختيارهم الإيمان، ودخولهم في الصراط المستقيم ، فما أعظم المباينة بين الفريقين المؤمنين والكافرين؟!!

***

بحث روائي

في «الكافي» بإسناده عن بريد قال : سمعت أبا جعفر علیه السّلام يقول في قول الله تبارك وتعالى : «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» فقال : ميّتاً لا يعرف شيئاً «نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» إماماً يأتمّ به ، «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا»، قال : الذي لا يعرف الإمام».

أقول : إنّ إطلاق النور على كلّ من يكون مثالاً حقيقيّاً للهدى الإلهي حقيقي ، وأنّ الإمام المعصوم علیه السّلام يتّصف بهذا النور الإلهي، لأنّه القدوة في جميع لا الكمالات ومثال الهداية الإلهيّة ، فيكون ما ورد في الحديث من ذكر أظهر المصاديق ، كما أنّ إطلاق الحىّ على المؤمنين يكون إطلاقاً حقيقياً، كما عرفت سابقاً.

ص: 375

وفي «الدرّ المنثور» أخرج ابن أبي شيبة وابن الدُّنيا وابن جرير ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، والحاكم والبيهقي في «الشعب» من طرق عن ابن مسعود ، قال :

قال رسول الله صلّي الله علیه و آله حين نزلت هذه الآية «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام» قال : «إذا أدخل الله النور القلب انشرح وانفسح ، قالوا : فهل لذلك آية يُعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

أقول : رواه عدّة من المفسِّرين عن جمع من التابعين عن النبيّ صلّي الله علیه و آله . وعرفت في التفسير ، أنّه من آثار النور الإلهي ، وهو حقيقة الحياة المعنوية.

في «الكافي» بإسناده عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «إن الله عزّ وجلّ إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع قلبه ووكّل به ملكاً يسدّده ، وإذا أراد بعبد سوءٌ نكت في قلبه نكتة سوداء، وسدّ مسامع قلبه، ووكّل به شيطاناً يضله ، ثمّ تلا هذه الآية: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّمَّدُ فِي السَّمَاءِ».

أقول : ورد مضمونه في عدّة روايات، ولابدّ من حملها على ما لا ينافي الاختيار ، كما تقدّم .

وفي «العيون» بإسناده عن حمران بن سليمان النيشابوري، قال: «سألت أبا الحسن على بن موسى الرضا علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ : «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ الا يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً»، قال : فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه فى الدِّين وإلى جنّته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم الله والثقة به ، والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتّى يطمئن إليه ، ومن يرد أن يضلّه عن جنّته ودار كرامته في الآخرة، لكفره به وعصيانه له في الدُّنيا، يجعل

ص: 376

صدره ضيّقاً حرجاً، حتى يشكّ في كفره، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتّى يصير كأنمّا يصعدّ في السماء «كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ»».

أقول : ما ورد في الحديث هو تفسيرٌ حَسَن لشرح الصدر وضيقه الذي يبلغ به إلى الشكّ في ما يعتقده من الكفر، فهو في اضطراب في الاعتقاد، فيكون في حرج شديد . وهو يبيّن أيضاً اختياره في ذلك .

وفي «الكافي» بإسناده عن محمّد الحلبي ، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال :

«إنّ القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحقّ فإذا أصابه اطمئن وقرّ ، ثمّ قرأ أبو عبد الله علیه السّلام هذه الآية: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَام .... كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ».

أقول : رواه العيّاشي في «تفسيره» عن عبد الله بن جعفر، عن أخيه علیه السّلام ، وهو يدلّ على أنّ طلب الحقّ وحبّ الخير من الأُمور الفطرية ، وإنّ القلب الذي هو موقع المشاعر، إنّما يضطرب بسبب مكر الماكرين حتّى يصل إلى موسى الحقّ فيطمئن .

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير، عن خيثمة، قال : «سمعت أبا جعفر علیه السّلام يقول : إنّ القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحقّ، فإذا أصاب الحقّ قرّ، ثمّ ضمّ أصابعه، ثمّ قرأ هذه الآية : «فَمَنْ يُردْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاءَ» .

قال : وقال أبو عبد الله علیه السّلام لموسى بن أشيم : أتدري ما الحرج؟ قال : قلت : لا ، فقال : بيده وضمّ أصابعه ، كالشيء المصمت لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء».

أقول : رواه جمع أيضاً كالبرقي في «المحاسن»، والبحراني في «البرهان» عن الصدوق، وهو يبيّن معنى الحرج الذي هو بمعنى الضيق الشديد ، كما تقدّم ،

ص: 377

و في هذا المعنى ما ورد في «تفسير القمّي» في الآية قال : مثل شجرة حولها أشجار كثيرة، فلا تقدر أن تلقي أغصانها يمنة ويسرة، فتمرّ في السماء ويستمرّ حرجه .

ويأتي في الحديث الآتي معنى آخر له وكلها تدور حول شيء واحد وهو كون الحرج المشقة الشديدة التي لا مخرج منها .

وفي «الاختصاص» بإسناده عن آدم بن الحرّ ، قال : «سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله علیه السّلام وأنا حاضر عن آية في كتاب الله، فخبره بها، فلم يبرح حتّى دخل لا رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فخبره بخلاف ما خبره به موسى بن أشيم . ثم قال ابن أشيم: فدخلنى من ذلك ما شاء الله حتّى كأّن قلبي يُشرّح بالسكاكين . وقلت : تركنا أبا قتادة لا يُخطئ في الحرف الواحد ، الواو وشبهها ، وجئت لمن يخطئ هذا الخطأ كلّه ، فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجلٌ آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فخبر بخلاف ما خبرني، وخلاف الذي خبر به الذي سأله بعدي ، فتجلّى عنّي وعلمت أنّ ذلك بعمد، فحدثّت نفسي بشيء ، فالتفت إلي أبو عبد الله علیه السّلام فقال : يا ابن أشيم لا تفعل كذا وكذا ، فبان حديثي عن الأمر الذي حدّثت به نفسي ، ثمّ قال : يا ابن أشيم إن الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال : «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، وفوّض إلى نبيّه صلّي الله علیه و آله فقد فوّض إلينا ، يا ابن أشيم فمن يرد الله أن لديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ، أتدري ما الحرج؟ فقلت : لا ، فقال : بيده وضمّ أصابعه : وهو الشيء المصمت الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء».

أقول : الحديث يبيّن حال القلوب من حيث الاضطراب والقلق، كما حدث لأبن أشيم الذي هو من التطبيق العملي لهذا الاضطراب والضيق ، ثمّ رفع الإمام ما حصل له من الحرج الشديد، وفي ذلك دليل على أنّ الإمام هو النور الذي ينشرح الصدر به ويرفع الضيق ، كما ورد في الأحاديث السابقة .

ص: 378

وأمّا ما ورد فيه من تفويض العلوم إلى النبيّ صلّي الله علیه و آله ومنه إلى الأئمّة من ولده صلوات الله عليهم أجمعين ، فقد وردت فيه أحاديث مستفيضة ، وقد فسّر التفويض بتفاسير عديدة منها ما ورد في هذا الحديث وهو تفويض البيان إليهم، أي تفسير الإمام لما ورد في القرآن بوجوه عديدة ، ويشهد له استشهاده بالآية التي وردت في شأن سليمان بن داود علیهماالسّلام التي فوّض البيان إليه.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، في قوله : «كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ» قال : «هو الشكّ».

أقول : إنّه بيان لبعض مصاديق الرجس باعتبار أنّ الشكّ يجعل الإنسان حيران لا يقدر أن يفعل شيئاً، فهو رجس معنوي .

***

بحث عرفاني

الآيات الشريفة من غرر الآيات - وكلّها غرر - التي تبيِّن أحوال العارفين السالكين الذين ليس لهم همّ إلّا القُرب ونيل رضاه سبحانه وتعالى ، ولا ريب أنّ الوصول إلى هذه المقامات الشامخة لا يتحقّق إلّا من كان له الأهليّة، ونفس قدسية عامرة بالحياة المعنوية له نور يهتدي به في متاهات النفس ودروب الجهاد معها - وفي غير ذلك لا يكون الجهاد إلّا عقيماً، ومآله الوبال والهوان لجهله بأسرار الطاعة وطريق الوصول . وإنّ أهمّ ما نبهت إليه هذه الآيات إبعاد الميّت عن هذه الأسرار لبُعده عن الحقائق، واستبعاد وصوله إلى شيء أبداً، فهو ميّتٌ لاستيلاء الجهل عليه الذي هو أُمّ الأمراض النفسية ، وأعظم الحُجب ، وهو ميّتٌ لإتّباعه هوى النفس الذي يصدّ عن ذكر الله تعالى ، وهو ميّت بالاحتجاب بصفات النفس، كلّ ذلك تكون حُجباً متراكمة لا يمكن الخلاص منها إلّا بإحياء النفس بخطىً ثابتة أوّلاً بإحياء الروح بالعلم ، ومحبّة الحقّ ، وكشف حُجب صفات النفس والاستزادة

ص: 379

من المعرفة، فإنّها النور الذي يستضيء به في سيره وسلوكه ، وهي سرّ الحياة المعنوية ، فإنّ العموم أحياء بالحياة البشرية، ولكنّهم أموات في قبور قوالبهم، لا يمكنهم الخروج من ظلماتها وآثارها المادّية ، والخواص بمعرفتهم خرجوا عن تلك الحجب، وأحيوا أنفسهم بالعلم والمعرفة، وأزالوا الموانع في طريق سلوكهم، وهذّبوا أنفسهم وأطاعوا الله تعالى حقّ طاعته، فارتفعوا عن الحياة البشرية، وتلبّسوا بحياة حقيقيّة طيّبة ، فصاروا أحياء في الدارين ، كما قال نبيّنا الأعظم صلّي الله علیه و آله: «المؤمن حيّ في الدارين»، ومن صفات هؤلاء أنّ الله تعالى يجعل لهم نوراً يهتدون به في سيرهم وسلوكهم، فيعرفون به الحقائق، ويميّزون به الخير عن الأوهام والشرور ، فيحيون بالمشاهدات ، فإنّ الناس موتى إلّا من فاز بمقام القُرب والفناء ، فيرى أنّ كلّ الأُمور بيد الله تعالى ولا تأثير ولا تأثّر إلّا بمشيئته . ولابدّ في هذا الطريق من معرفة الهادين المهتدين، ليتعزّز بوجودهم وإرشاداتهم، كما قال الصادق علیه السّلام: «أومن كان ميّتاً عنّا فأحييناه بنا وجعلنا له إماماً يهدي بنور الإجابة ويرجع إليه الضلال»، فإنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلّا عن طريق الأئمّة المعصومين علیهم السّلام ، فإنّهم الأدلّاء إلى الله وأُمناؤه على خلقه؛ فمَن رجع إليهم فقد فاز ونجا، وإلّا هلك وغرق فى بحور الحُجب .

والمؤمن بعد المعرفة والاهتداء بنور الله تعالى، والرجوع إلى الأدلّاء المعصومين، يجاهد على إماتة نفسه الأمّارة وإحياء قلبه، حتّى لا يرى غير الله، ولا يلتفت إلى سواه لينال الفوز باللّقاء، ويصل إلى مقام الفناء، وهو أجلّ المقامات.

وأوّل ما يواجه العارف من الحُجب حجاب الزينة ، فيجب أن يعرف ما هو المطلوب من الزينة، والشيء الذي يتزيّن به، فإنّه لابدّ من زينة ، كما قال تعالى : «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (1)، وإلّا احتجب بزينة الأعمال ، كما أرشد إليه

ص: 380


1- سورة الأعراف : الآية 31

قوله تعالى : «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، فعلى العارف السالك الخروج عن الرحلة الصعبة الشديدة على الإنسان ، فإنّ فيها الغفلة عن الله تعالى إلّا ما كان زينة الطاعة والذكر .

ومن منن الله تعالى على المؤمنين رياسة أكابر المجرمين على أهل القرى ، فإنّه مزيد لكمال العارفين، كما عرفت سابقاً في جعل الله تعالى الأعداء للأنبياء، وابتلائهم بالبلايا ،والمكاره وامتحانهم بمكر الماكرين، فإنّ جميع ذلك نعمة إلهية لأوليائه، فإنّ فيها تهذيباً لأنفسهم وتزكيةً لها، ورفعاً لدرجاتهم، مع أنّهم يعرفون أنّ مكرهم لا يرجع إلّا إلى أنفسهم ، حيث إنّهم يفسدون بمكرهم وأفعالهم استعداد أنفسهم ويحرمونها من الفيض الإلهى الذي يصل إلى عامّة الناس وخواصهم ، وهو غاية الشقاء، إذ يفوت عنهم السعادة ، وقد ابتعدوا عن كلّ حقيقة وحرموا أنفسهم الشعور، فقال عزّ وجلّ: «فَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» ما يفعلون بأنفسهم، وبفقده لا يستحقّ أن يسمّى إنساناً، وهو الذي امتاز عن غيره بالشعور ، فإنّ به يتنبه إلى نفسه واستحقاقاتها، ويطمع إلى سعادتها، ورفع ما يوجب شقاوتها ، ولأجل ذلك تراهم إذا جاءت آية من ربّهم تنفعهم في دنياهم وآخرتهم، أعرضوا عنها وتمردوّا عليها ، وهذا هو فعل الشيطان ، أليس ذلك حجاباً عظيماً بين النفس والهداية ؟!! وأمّا المؤمن العارف، فإنّه فطن وله فراسة بذلك النور الإلهي، فإنّه يستفيد من الآيات لتزكية نفسه ومعرفة أسرارها .

ثمّ إنّه تبارك وتعالى اعتنى بشأن المؤمنين المهتدين، فقد عرّفهم الحقّ وهداهم إليه، وشرح صدورهم بنورٍ منه، وهو من أعظم النعِّم عليهم ، ولأجله يتحمّل العارف في سيره وسلوكه كلّ المتاعب، ويستعدّ الدخول في الجهاد المتواصل، فيعرف مواطن الضعف وإصلاحها، ورفع الموانع، وبذلك يصل إلى مقام التسليم، ويستغرق في نور الله تعالى، كما قال رسول الله صلّي الله علیه و آله في شرح الصدر :

ص: 381

«نورٌ يقذفه الله فى قلب المؤمن فينشرح له وينفتح» .

والتسليم من أركان الإيمان وأهمّ صفات الأنبياء والأولياء، وبه يرتقي إلى المقامات العليا، وله الأهمّية العظمى فى ترويض النفس، ومن ثمراته ما ذكره صلّي الله علیه و آله : «الإنابة إلى دار الخلود والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» . ولا ريب أنّه من أمارات التسليم الله تعالى والثقة به، والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتّى يطمئن إليه ، فيتمّ إيمانه، ويصفو قلبه، ويصل إلى درجة اليقين ، وبعد إزالة أرقّ الحُجب يصير الإيقان عياناً، وهذه هي مقامات العارفين، ومن له حظّ من اليقين، ومن وفق للتجلّي بالصفات. وأمّا من ركن إلى النفس واعتمد عليها، وسلب عنها التوفيق، وحرمها من فيوضات ربّها، وجعل صدره ضيّقاً ينبو عن الحقّ حرجاً عن قبول الكمالات، فحينئذٍ تقوى عنده الصوارف عن الإيمان، فيتباعد عن كلّ خير وكمال ، ويهرب عن أصحاب الفضائل النفسانية ، لأنّه انهمك في الصفات الحيوانية، فلا يمكنه الورود إلى المشارب الروحانية، وقد أفسد استعداده فجعل الله تعالى الرجس عليه، وتلوّث بنتن الطبيعة والصفات الذميمة؛ لأنّه لم يدخل في حرم الإيمان ليمنعه عن ذلك التلوّث النتن، فقد حُجِبَ عن الحقّ ومُنع عن الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين ، واقتضت حكمته أن يبيّن معالمه وقوّامه ، وهذه الآيات كلّها أنوار يستضيء بها السالكون الذين اهتدوا بهدى الله، وامتثلوا تعليماته بدقّة وفقه ودراية ، وسخّروا أنفسهم في طاعته عزّ وجلّ ليحظوا برضوانه، وينالوا دار السلام التي هي حضيرة قدسه، وساحة جلاله المنزّه عن خطر الحجاب، ويخلصوا عن العتاب وهم عند ربّهم آمنون، وهو وليّهم يرعاهم في شؤونهم، ويعينهم على تهذيب نفوسهم، وما يعترض في طريق استكمالهم، وينصرهم على أنفسهم التى هى من أهمّ الأعداء حتّى يصلوا إلى النفس المطمئنة ، ولا ريب أنّه لا يمكن الوصول إلى تلك

ص: 382

المقامات والكمالات، إلّا بالاعتقاد الحقّ والعمل الصالح، لا بالتمنّي والترجّي، فإنّهما لا يوصلان أحداً إلى أي مقصود. اللّهُمَّ اجعلنا ممّن سلك صراطك المستقيم، ووصل إلى قربك بالقلب السليم ، ونجنّا من عذابك الأليم، يا رحمن يا رحيم .

***

ص: 383

سورة الأنعام، الآية 128 - 135

الآية 128 - 135

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ آخَرِينَ (133) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَاتٍ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135)» .

الآيات الشريفة تبيّن بعض أحوال المعشرين من الجنّ والإنس وتّذكر الجنّ بإغواء الإنس، والاستكثار في هذا المجال، ويعترف الإنس بأنّ السبب في الضلال هو استمتاع بعضهم ببعض حتّى وقع الأجل الذي أجلّه الله لهم ، ثمّ تبيّن أحوالهم يوم الحشر والمجادلة التي وقعت بينهم، وتصرّح بأنّ ولاية الظالمين بعضهم بعضاً إنّما كانت بسبب أعمال الطرفين، وأنّ تولية الشياطين لهم إنّما سببه

ص: 384

إتباعهم ، وذكر سبحانه أنّه ليس من الظلم بل هو نتيجة ما كانوا يكسبون بسوء اختيارهم واغترارهم بالحياة الدنُّيا ، وقد اعترفوا بهذه الحقيقة، وشهدوا على أنفسهم بالكفر ، فكان عاقبة أمرهم خسراً ، ثمّ ذكر سبحانه سُنّة من سننه الحكيمة أنّه تعالى لا يهلك أهل القرى وهم غافلون عن الدِّين الحقّ ، فهو عزّ وجلّ لم يسلب الاختيار فيأمرهم ليطيعوه، ولكنّهم أعرضوا وظلموا أنفسهم فيجازيهم على ظلمهم، ويعطي الجزاء بمقدار العمل، ليتمّ فيهم قانون المجازاة، والله تعالى غنىٌّ عنهم، ولا حاجة له في شيء حتّى يظلمهم، وقد خلقهم برحمته ، وحثّهم على طاعته، وقد ظلموا أنفسهم ولا يفلح الظالمون ، ولا تخرج الآيات عن الإطار العام الذي عليه هذه السورة المباركة من مجادلة أهل الشرك وإقامة الحجّة عليهم ، وهي ترتبط بالآيات التي سبقتها، وتفسّر معنى ولاية الظالمين، وتبيّن الوعد والوعيد اللّذين سبق ذكرهما، وتصرّح بأنّهما متناسبان مع العمل في الكمّية والكيفيّة، وفي ذكرها إتمام للحجة عليهم.

***

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً»

التفسير

قوله تعالى : «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً».

تمهيدٌ فيه التهويل والترهيب، وحشر الثقلين من شؤون الربوبيّة العظمى ليجمعهم في موقف هو من أعظم المواقف على الخلائق كلّها، بتلك الأوصاف التي وصفها مالك يوم الدِّين في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وقد تكرّر هذا التعبير فيه تذكيراً للثقلين ليوم القيامة، وإعلامهم بما يكون فيه من الأهوال والحساب والجزاء، كقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ» (1).

ص: 385


1- سورة يونس : الآية 28

وقوله تعالى : «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون الله» (1).

ويوم منصوب ، قيل : إنّه مفعول لفعل محذوف تقدير (أذكر) . وقيل : إنّه ظرف لفعل المقول المحكي به النداء أي يوم نحشرهم، نقول : يا معشر الجنّ ...، والضمير في (يحشرهم) للجن والإنس المعلومين لسبق ذكرهما . والمعروف قراءة (يحشر) بالياء ، والباقون بنون العظمة على الالتفات ، وفيه التهويل العظيم . وفي ذكر (جميعاً) التأكيد على أنّه لا يفلت منه أحد ، أو لبيان أنّهم مجتمعون في صعيد واحد لا يغيب منهم فرد .

قوله تعالى: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ» .

مقول بإضمار القول والمعشر الجماعة أمرهم واحد ، وقال الطبرسي: الجماعة التامّة القوم التي تشمل على أصناف الطوائف ، ومنه العشرة لأنّها من تمام العقد، ويؤيّده ما ذكر الراغب في «مفرداته» ، ولذلك سمّي الجنّ والإنس معشراً، أو باعتبار كونهم جماعة من عقلاء الخلق ، ويؤكّد ذلك أنّه ذكر لفظ المعشر مع الجنّ دون الإنس لأنّ الإغواء كثيراً ما يقتضي التظاهر والتعاون ، وفي المعشر نوع إيماء فيه .

والجنّ إذا أطلق يراد به القبيل المقابل للإنس المعروف عندهم، إلّا إذا قام دليل على إرادة كلّ مستتر كالملائكة وغيرها، والمقابلة بين المعشرين يراد بهم الخلق المعروف المستتر عند أنظار الإنس والاستكثار من قولهم أكثر من الشيء أو الفعل، واستكثر منه إذا أتى بالكثير ، ومنه استكثر الأمير من الجنود أى أخذ كثيراً، فيكون المراد باستكثار الجنّ أخذ الكثير من الإنس لا من جهة أعيانهم ، بل بسبب تسلّطهم على الإنس بإضلالهم إيّاهم وإغوائهم من طريق ولايتهم عليهم،

ص: 386


1- سورة الفرقان : الآية 17

فحشروا جميعاً التابع والمتبوع .

حول معنى الولي التابع والاستمتاع

والمعنى: يا معشر الجنّ إنكم أكثر تم من إغواء الإنس وإضلالهم، فجعلتموهم أتباعكم فحشر وا معكم. وهذا الخطاب إنّما هو بطريق التوبيخ والتقريع.

قوله تعالى : «وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ» .

المراد بالوليّ التابع، أي وقال أتباع الشياطين من الإنس ، وهذه المحاورة إنّما نتيجة تولية الجنّ على الإنس بإغوائهم وإضلالهم، فإنّ تلك الولاية لم تكن ولاية إجبار واضطرار، بل كانت ولا يتهم انتفاعية يتبع التابع المتبوع ابتغاءً للفائدة التي يرجى منها ، كما يتولّى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدرّ من النفع من ولايته عليه ، فيكون للجنّ التذاذ من إغواء الإنس بولايتهم عليهم ، وللأخير التّذاذ خاص من إتّباع الجنّ بالأساليب التي يتبعونها لاستفادة اللّذائذ المادّية والاستمتاع النفسي ، كما يقتضيه قوله تعالى : «رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ»؛ فإِنّ الإنس تستفيد من تسويلات الجنّ ووساوسهم وتزيينهم لهم متاع الدُّنيا وزخارفها ، كما أنّ الجن تمتعت بما اشتهت أنفسهم من اللذائذ حتّى آل أمر الطرفين إلى ما آل ، ولكن ذلك لم يسلب اختيار أحد الطرفين، فلا القضاء الإلهى يسلب منهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة والمجازاة ، ولا الاختيار الإنساني يزاحم القضاء الإلهي ، فتكون متابعة الإنسان أولياء هم من الشياطين باختياره وهى التي تعلّق بها القضاء الإلهي من دون ان يبطل اختيار الإنسان، فهو الذي اختار اتّباع الشياطين وانتخاب . الشرك واقتراف الذنوب والآثام ، كما أنّ إغواء الجنّ للإنس كان باختيارهم ، وسوف يحشرهم الله تعالى ويحاسبهم على ما فعلوه .

والاستمتاع طلب الشيء لجعله متاعاً ، ما ينتفع به انتفاعاً طويلاً.

والمعنى: وقال أتباع الشياطين الذين أطاعوهم واتّخذوهم أولياء من

ص: 387

الإنس - وهم معترفون بحقيقة الأمر - ربّنا تمتّع كلّ منّا بالآخر ، فكان استمتاع الإنس هو التمتع بزخارف الدُّنيا وما تهواه أنفسهم بتسويلات الجنّ ، وتمتّع الجن بالوساوس والتسويلات التي تخرج الإنس عن الصراط المستقيم، وما أراده الله تعالى لهم من الصلاح والسعادة ، والتذاذهم بإخراجهم عن طاعة الله تعالى .

فى المراد من الأجل واختلاف أقوال المفسّرين فيه

قوله تعالى : «وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَلْتَ لَنَا» .

إقرارٌ منهم بأنّهم استمروا على الاستمتاع والاغترار والبغى والإغواء، فلم يرتدعوا عنها حتّى وصلوا إلى الأجل الذي حدّده الله تعالى لهم، وهم غافلون فانكشفت لهم الحقائق، واعترفوا بالحقيقة نادمين على تفريطهم، متحسّرين على أحوالهم، ومستسلمين لربهم.

و من نسبة الأجل إلى الله تعالى، يستفاد أنّ الطريق الذي سلكوه إنمّا كان باختيارهم لا بجبر من الله سبحانه ، كما عرفت . ولعلّ الاقتصار على ذكر التابعين الضالّين للإيذان، إمّا لأنّ المضلّين قد أفحموا بالمرّة فلم يقدروا على التكلّم ، أو لأن حكاية أحد الطرفين ينبئ عن أحوال الآخر ، أو لأنّ الله تعالى بيّن أحوال كلّ من التابعين والمتبوعين في آيات أٌخرى .

وقد وقع الخلاف بين المفسِّرين في المراد بالأجل الذي قُدّر لهم :

فقيل : هو يوم القيامة ، وهو يوم البعث والجزاء وكشف الحقائق ، ويوم تبرأ التابع من المتبوع .

وقيل : هو الموت ، وهو الوقت الذي تنتهي فيه أعمارهم، وهو اليوم الذي ينته فيه الناس ويخرج عن غفلته ، كما قال نبينا الأعظم صلّي الله علیه و آله : « الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

وقيل : إنّ الحدّ الذي قدّر لوجودهم والدرجة التي نالوها من فعليّة الوجود، دون الوقت الذي ينتهي إليه أعمارهم .

ص: 388

والحقّ أن يُقال: إنّ الأجل الذي قدّره الله لهم لابد أن يكون له دخل في الرجوع إلى رشدهم ومعرفة الحقّ وتميّيزه عن الباطل، وزوال الغفلة عنهم ، وهو أقرب إلى يوم الحشر من غيره، ويؤيّده أنّ هذه المحاورة بين الله تعالى وبين معاشر الجن إنّما تكون في يوم القيامة ، ولا ينافي ذلك أن تنكشف لهم بعض الحقائق في دار الدُّنيا وعند الموت، ولكنّهم أعرضوا عنها لتوغلهم في الماديات وتمتّعهم بزخارف الدُّنيا .

والمعنى : إنّ بعضنا استمتع ببعض حتّى بلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرّت لنا من الأجل الذي تبيّن فيه إنّا ظالمون كافرون.

قوله تعالى : «قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ».

جواب منه سبحانه فيه القضاء الحتم، وهو كون النار مكان إقامتهم .

ومثوى مكان الثواء، وهو بمعنى الإقامة والسكنى ، يقال : ثوى يثوى ثواءً أتى أقام مع استقرار فيكون المثوى اسم مكان أو مصدر . أي إن النار مقامكم الذي تستقرون فيه من غير خروج .

قوله تعالى : «خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ».

تأكيد على الاستقرار الأبدي، فيكون ثواؤكم ثواء خلود أبدي . والاستثناء إنّما يفيد بقاء الإرادة والقدرة الإلهيّة أن يكون الخلود والبقاء الأبدي خارجين عن إرادته وقدرته سبحانه، فإنّه قادر على إخراجكم، ولكنّه لا يفعل خلاف حكمته المتعالية ، كما يدلّ عليه ما يأتي ، ولعلماء الجمهور في الاستثناء أقوال وآراء من أراد الإطلاع عليها يراجع مظانها .

قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» .

تعليل لما سبق، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله اهتماماً بشأنه ، والوصفان مناسبان

ص: 389

للمقام ، لأنّ تخليدهم في النار صادر عن حكمة بالغة ، وهو عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم ونواياهم، وما يليق بهم من الجزاء وجميع خصوصيّاته ، فتمّ ذلك الخلود في النار عن حكمة متعالية وعلم أتمّ ، فلا مجال لتوهّم أنّ الجزاء لابدّ أن يكون مناسباً للعمل والأخير محدودٌ ، فلابدّ أن يكون الأوّل أيضاً محدوداً .

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

بيان لسنّة إلهية في الاجتماع الإنساني عند تمرّد الإنسان وغيره على ربِّه والإعراض عن طاعته ، فإنّه عزّ وجلّ قد خلق الثقلين وأودع فيهم ما يرشدهم إلى الكمال اللّائق بهم، وأنزل عليهم ما ينير لهم الطريق ليوصلهم إلى الصراط المستقيم لينالوا السعادة والفوز بالفلاح ، ولكنّهم فسقوا عن أمر ربّهم واعرضوا طاعته فابتلوا بتولية الظالمين ، وهذه الولاية إمّا أن تكون تولية بعض الجن على الإنس لغرض الاستمتاع ، كما عرفت . أو ولاية الظالمين على بعضهم لغرض التصرّف فيهم بالتسويل والإغواء والإضلال، فيكتسب بذلك الذنوب والآثام، فيكون توليتهم في الكفر والضلال ، أو تولية بعضهم على بعض، لأجل انتقام الله تعالى من الظالمين بسبب الظلم الذي هم عليه . كلّ هذه الأنواع من التولية إنّما كانت بسبب ما كانوا يكسبون ، واستمرارهم على كسبهم من الكفر والمعاصي عن وهو يدلّ على أنّ التولية إنّما هو على نحو المجازاة يجازي بها الظالمين.

والالتفات من الغيبة إلى التكلم لإلقاء هذه الحقيقة إلى النبيّ صلّي الله علیه و آله ، إنّما هو لبعدهم عن تلّقي الحقائق.

ثمّ إنّ المستفاد من آيات المقام تقابل فريق المؤمنين مع فريق الظالمين في كثير من الأُمور؛ منها إنّ الله تعالى ولّى المؤمنين ، كما ورد في الآية السابقة فهو يحفظهم ويهديهم وينصرهم، كما أن بعضهم أولياء بعض فى الهداية والنصرة والجهاد ، قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي

ص: 390

سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» (1). وأمّا الظالمون فإنّ بعضهم أولياء بعض فى الظلم والغواية.

قوله تعالى : «يَا مَعْشَرَ الْجِنَّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ».

توبيخٌ لهم بعدم إتباع الرُّسل الذين أرسلهم الله تعالى إليهم لهدايتهم، وفيه الإعلام باختيار المعشرين في الحكمين المذكورين في الآية السابقة، من استكثار الجن للإنس وتولية بعضهم بعضاً ، والجزاء الذي اكتسبوه بسبب أعمالهم ، وإنّما ذكرهم به لأخذ الاعتراف منهم لتتمّ الحجّة عليهم، فقد وقعوا فيما وقعوا فيه بسوء اختيارهم.

وهذا النداء العظيم في يوم القيامة، حيث أعذر الله تعالى إليهم بإرسال الرُّسل، فلم يقبلوا منهم مع عدم جهلهم بمساءة أعمالهم وشناعة أفعالهم ، وإن حصلت الغفلة عن نتائجها بسبب ركونهم إلى الظالمين، وتوليتهم الشياطين وتمتّعهم بزخارف الدُّنيا وانبهارهم بها ، فكان إرسال الرُّسل لهم مذكّرين ومنذرين لهم بيوم الجمع والحساب، فيكون التقريع والتوبيخ عليهم عظيماً ، والحجّة عليهم آكد.

ويدلّ قوله تعالى: «مِنْكُمْ» على أنّ الرُّسل من جنس المخاطبين، سواء كانوا من الجن أو الإنس لا من غيرهم كالملائكة ، وهو من سنن الله تعالى في إرسال الرُّسل إذ لم يكن الرُّسل من غير جنس المخاطبين، حتّى لا يكون لهم على الله الحجّة في عدم الاستيناس بهم، وعدم تفقه أقوالهم وغير ذلك ، وأمّا أنّ لكلّ واحد من الفريقين رسلاً يختصّ بهم، فلا يستفاد من الآية الشريفة ، وإن كان بعض الأخبار يدلّ على اختصاص الجن ببعض الرُّسل، أو أن بعض رسل الإنس يكون لهم جميعاً ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

ص: 391


1- سورة الأنفال : الآية 72

قوله تعالى : «وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا».

أي ويعلمونكم بمواقفكم هذا مع التخويف بما فيه من القوارع للحساب والجزاء.

قوله تعالى: «قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا».

إقرارٌ منهم بعدما أيقنوا بيوم الحساب وشاهدوا أهواله وعاينوا الصعاب والشدائد ، وهو جوابٌ منهم على السؤال وتصديقهم به فاعترفوا بإرسال الرُّسل وإنذارهم إياهم وتكذيبهم لهم وكفرهم بآيات الله تعالى ، فقد انقشعت الغفلة بعد اليقين ، ظهرت الندامة بعد الإنذار في الدُّنيا، فالحجّة لازمة عليهم ، و محجوجون بها.

قوله تعالى : «وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا».

جملة معترضة فيها إخبار من الله تعالى عن سبب كفرهم ، كما أنّ فيه الإفصاح لهم بما هو الأذم وهو الخداع والغرور ، فإنّه الذي قادهم إلى الاستمتاع بملذّات الحياة الدُّنيا، وارتكاب القبائح، وألجأهم إلى الاعتراف بالكفر في يوم الحساب واستيجاب العذاب ، وفيه الذمّ الشنيع لهم، وتسفيه رأيهم حيث لم يستفيدوا من إنذار الرُّسل ، وحجبوا أنفسهم - بسبب الغفلة - عن النعيم الدائم.

وفي الآية إشارة إلى الجواب عما يختلج في الذهن، من أنّهم إذا كان يستمتع بعضهم بعضاً ، ولم يكونوا غافلين عن إرسال الرُّسل وإتيانهم بالآيات ، وإنذارهم باليوم الآخر ، فلِمَ أهلكوا أنفسهم عن علم واختيار ؟ فإنّ الحياة الدُّنيا وإن غرتهم ، وألهاهم زخرفها، ولكنّه لم يسلب اختيارهم، فإذا برقت في نفوسهم بارقة للخير أطفأتها ظلمات الرذائل وحُجُب المعاصي، فعمت أبصارهم عن رؤية الحق ، وبصائرهم عن الهدى .

ص: 392

قوله تعالى : «وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ».

شهادةٌ منهم على استحقاقهم للجزاء السيء إثر اعترافهم بالكفر في الدُّنيا ، كما اعترفوا به آنفاً، وفي ذلك تحذير المخاطبين عن صنيعهم .

ومن ذلك يظهر اختلاف المتعلّق بالشهادتين ، فإنّ متعلّق الشهادة الأُولى الإقرار بالرسل وما أُنذروا به ، وفي الثانية كفرهم بما جاء به الرُّسل من دون غفلة .

بيان سنّة إلهيّة حول إهلاك القرى لظلم أهلها

قوله تعالى: «ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بظلم وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ».

بيان لسُنّة إلهية في الجزاء ومعاقبة الناس . وقد ذكرناً مكرّراً إنّ ذلك اسم الإشارة في مثل هذه المقامات، هو أسلوب خاص قرآني لبيان الحقائق الواقعية والسنن الإلهيّة في الكون والخليقة ، فلا نحتاج إلى التماس المشار إليه ، وفيه من تربيب المهابة وإظهار سلطانه عزّ وجلّ، وعظيم أخذه .

و (أن لم يكن) بحذف لام التعليل، و(أن) إّما مصدرية أو مخففة من أنّ وضمير الشأن الذي هو اسمها . وإمّا منصوب على نأنه به لفعل مقدر .

والمعنى : إنّه ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ويجعلهم مورد غضبه وسخطه وينزل عليهم عذابه وهمّ غافلون عن موجبات طاعته ، وما يكون سبباً لنزول العذاب عليهم عند المخالفة فإنّ ذلك ظلم منه تعالى .

وقد جرت سنّته عزّ وجلّ أن يبعث إليهم الرُّسل، وينزل معهم الكتاب الذي يحتوي على تشريعاته المقدّسة ومعارفه القيمة، التي بإتّباعها تصلح أحوالهم في الدُّنيا والآخرة، وما يحلّ عليهم إذا هم كفروا به ولم يتبعوا الرُّسل ، فإنّه عزّ وجلّ قد أعذر إليهم فليس لهم حجّة عليه سبحانه ، ففي الحديث : (وليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرُّسل). ولكنّهم اتبّعوا أهواءهم وغرتهم الحياة الدُّنيا، وأسدلوا على أنفسهم ظلمات الرذائل، حتّى صارت حُجباً متراكمة بينهم وبين الحقّ، وغُشيت بصائرهم فلم يفقهوا المعاني

ص: 393

السامية التي أتى بها الأنبياء والمرسلون، وعميت أبصارهم عن رؤية الحقّ ، ولكنّهم لم يكونوا غافلين بعد إرسال الرُّسل، وقصّهم عليهم الآيات وإنذارهم يوم الحساب وما يستحقّونه من الجزاء، فلم يكن أخذه سبحانه لهم على غرّة بل هو جزاء أعمالهم .

ولا ريب أنّ قضاء الله عزّ وجلّ وإن تعلّق بجعل بعضهم أولياء بعض ، وأن يستمتع بعضهم ببعض ، وأنّ قدره قد اقتضى بتأجيل الشقاء عليهم ، ولكن ذلك لم يسلبهم القدرة والاختيار للطاعة والإيمان فهم اختاروا الشرك والعصيان ، كما اقتضت سنّته تبارك وتعالى أن يرسل إليهم رسلاً يقصّون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم الحساب، فكفروا بهم وأصرّوا على بغيهم واستكبروا استكباراً على الحقّ ، وكان من نتائج ذلك أن قضى الله عليهم أن يولى بعض الظالمين بعضاً وينالوا العذاب ، فقد ظلموا أنفسهم بعد إتمام الحجّة عليهم ، ولم يهلكهم الله تعالى وهم غافلون ، فكان الحكم عليهم حكماً عدلاً ولم يكن الله بظلّام للعبيد . ومن ذلك يظهر أنّ المراد بإهلاك القرى القضاء على أهلها بالشقاء والعذاب في الدُّنيا والآخرة دون الهلاك بإنزال عذاب الدُّنيا فقط .

و ( بظلم) متعلّق إمّا بمهلك أي بسبب ظلمهم، أو بمحذوف وقع حالاً من القرى أي متلبسة بظلم . ولكنّهما خلاف الظاهر ، أو يكون حالاً من (ربك) ، أو من ضميره في (مهلك) ، وهما الموافقان لسياق الآية التي تدلّ على أنّ الظلم منه تعالى لو أهلك القرى وهم غافلون. كما أنّ المراد مهلك أهل القرى على تجوّز في النسبة، أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويدلّ عليه (وأهلها غافلون).

ونظير هذه الآية قوله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (1)

ص: 394


1- سورة هود : الآية 17.

ولعلّ الوجه في الفرق يرجع إلى أن الله سبحانه وتعالى ذكر في ما تقدّم في آية المقام: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ» ، فقدّم ذكر بعثة الرُّسل وتذكيرهم وإنذارهم فلا عذر لأحد ولا متغافل بعد تنبيهه فناسب ذلك قوله : «وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ» ، وآية سورة هود قد تقدّمها قوله تعالى: «فَلَوْلاَ كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ»(1)، فقد نهوا عن الفساد في الأرض، فإذا كانوا مصلحين لما أخذوا بالعقاب ، فناسب كلّ واحد من الآيتين ما تقدّمها . وأمّا الفرق بين مهلك وليهلك سيأتي في سورة هود إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا».

تأكيد لمضمون الآية السابقة ، وبيان لفعله عزّ وجلّ في عباده، سواءً كانوا من الإنس أو من الجنّ ، فإنّ لكلّ واحد منهم درجات ومنازل ومراتب ودركات قد حازوها بسبب أعمالهم التي هي مختلفة من حيث القُرب والبعد، وباختلافها اختلفت الدرجات في الجنّة ، أو الدركات في النار ، وإنّما هي الأعمال، فقد ورد في الحديث القدسي : (يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أو فيكم إيّاها).

قوله تعالى : «وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» .

فإنّه عزّ وجلّ هو الذي يُحصي الأعمال، ويعلم قدر ما يستحقّ به من ثواب وعقاب ، فلا تخفى عليه خافية ، وفيه تهديد ووعيد، ومن اللّطائف أنّ الله تعالى لم يك مهلك القرى وأهلها غافلون عن موجبات طاعته ، كما أنّه لم يغفل عنهم ، فهو محيط بهم يحصي عليهم أعمالهم ليجازيهم عليها ، كلّ ذلك من شؤون ربوبيّته العظمى.

ص: 395


1- سورة هود : الآية 116

ما يتعلّق بالغنى والرحمة وهما من صفات الله تعالى

قوله تعالى : «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ» .

تعليلان لما ورد في الآيات السابقة . فإنّه الربّ الغني المطلق الذي لا فقر ولا حاجة معه ، فلا يحتاج إلى عباده وأعمالهم، فلا يتصوّر منه الظلم على خلقه ، كما أنّه الربّ ذو الرحمة يرحم عباده بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب وإيصالهم إلى السعادة، ويجازيهم على أعمالهم، ويمنحهم الدرجات ، وذلك ليس لنفعه بل رحمة على عباده ، فهو الربّ المتعال عن صفات الجلال ، وفي التعريض لعنوان الربوبيّة مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره صلّي الله علیه و آله فيه من اللّطف الجزيل بعباده .

والغنى والرحمة من أوصافه عزّ وجلّ، وهما على أكملها عنده عزّ وجلّ، وقد ظهرت آثارهما على خليقته بما لا يدع مجالاً للشكّ، حتّى أنّ غنى غيره من غناه ، كما أنّ رحمة ما سواه من فيض رحمته ، وإنّما خصّهما بالذكر لنفي الظلم عنه عزّ وجلّ؛ وذلك لأنّ سبب الظلم إمّا الحاجة بوجه من الوجوه ، أو لشقوة باطنية ، أو قسوة نفسيّة ، فيصل إلى درجة أنّه لا يعبأ بما يقايسه المظلوم وما يكابده من الآلام وليس ذلك من الحاجة بشيء . وقد نفاهما عزّ وجلّ عنه فهو الغني الذي لا تمسّه حاجة ولا تعرض لفقر ، وذو الرحمة المطلقة التي ينعم بها على خلقه بما يليق بحاله فلا يظلم أحداً.

قوله تعالى : «وإِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ».

بيان لآثار غناه ورحمته التي وسعت كل شيء، وتفريع على ما سبق ببيان أعظم مظهر من مظاهر قدرته التامة ، والخطاب عام للخلق كلّه، فهو عزّ وجلّ قادر على أن يذهبكم بغناه، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق برحمته . وفي إيثار (ما) على (من) لإظهار كمال الكبرياء وسعة القدرة .

ص: 396

قوله تعالى : «كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ آخَرِينَ».

ذكرٌ لأحد الشواهد الكثيرة الدالّة على قدرته الكاملة، فإنّه عزّ وجلّ أنشأكم وخلقكم متتالياً من ذرّية قوم آخرين، حيث أذهبهم بغناه عنهم وأوجدكم برحمته ، والإنشاء والإذهاب والاستخلاف مرهون بمشيئته ، وفي الآية كمال التربيب وإظهار الكبرياء وتشديد الوعيد . كما أنّ فيه الإنذار بالسنن الإلهيّة التي ظهرت آثارها عند الجميع ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» (1)، وغيره .

قوله تعالى : «إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .

تأكيد لمضمون الآية السابقة من الوعد والوعيد ، فإنّ الأمر الإلهى من البعث والجزاء الذي وعدتم به عن طريق الوحي وعلى لسان الرُّسل لا محالة آتٍ، وواقع البتة ولا مرّد له ولا خُلف فيه ، وما أنتم بمعجزين الله فتمنعوه عمّا يريد وتفلتون عن ذلك .

وصيغة الاستقبال فى «إِنَّ مَا تُوعَدُونَ» للدلالة على الاستمرار التجدّدي. وإيثار (لآتٍ) على غيره مثل واقع ونحوه لبيان كمال سرعة وقوعه .

كما أنّ إيثار صيغة الفاعل في (بمعجزين) الدالّ على المستقبل، للإيذان بقرب الإتيان، والدوام الذي تفيده الجملة الاسمية ، فيكون المراد دوام انتفاء الإعجاز.

قوله تعالى : «وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ» .

نداء من الربّ الغني الرحيم على لسان نبيه صلّي الله علیه وآله لأنّه واسطة فيضه . وهو عزّ

ص: 397


1- سورة محمّد : الآية 38

وجلّ الحريص على خير عباده، فقد أرسل إليهم رسلاً لیذکّروهم وينذروهم استمالة لهم بالدخول في الإيمان والاعتقاد بالحقّ ، فما وعدهم به إنّما هو لآتٍ، فعليهم العمل وإنّما الجزاء عليه.

والمكانة مصدر مَكُنَ مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، أو بمعنى المنزلة والحالة التي يستقرّ عليها الشيء . أي اعملوا على غاية تمكّنكم ونهاية استطاعتكم ، أو اثبتوا على حالتكم التي أنتم عليها من الشرك والكفر . والأمر على التهديد حينئذٍ ، وإيراده بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد .

وقيل : إنّي عامل على ما أنا عليه من الإيمان والدعوة إلى التوحيد والدين الحق، ومقيم على عملي هذا ، فكلٌّ يعمل على شاكلته.

وقيل : إنّي عامل بالإخبار عن الله تعالى إنّه يعمل بما وعد به من البعث والجزاء. ولكنهما مخالفان لسياق الآية الكريمة .

ونظير هذه الآية قد ورد في سورة الزمر بلا اختلاف (الآية - 39) ، وفي سورة هود في قصّة شعيب علیه السّلام ، قال تعالى: «وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ» (1). وسيأتي وجه الفرق .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ»

قوله تعالى : «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» .

عاقبة الشيء ما ينتهي إليه ، قيل : إنّها مصدر كالعقبي . وعاقبة الدار كناية عن العاقبة المحمودة، بمعنى التمكّن من قصده والنجاح في سعيه . أي فسوف تعلمون علم اليقين بعد انكشاف الحقائق من هو السعيد الذي ينجح في عمله . والجملة تدلّ على وثوق المنذر بأمره ، كما أنّ فيها الإنذار لهم المستفاد من التهديد . (فسوف) لتأكيد مضمون الجملة ، وقد وردت هذه الكلمة في آية هود

ص: 398


1- سورة هود : الآية 93

عرياً عن اقتران فاء التعقيب به بخلاف الآخرين ، كما تقدّم آنفاً. وإن كانت مشتركة في الوعيد لمن كفر وكذّب ، ولعلّ الوجه في ذلك أن آيتي الأنعام والزُّمر قد تضمّنتا معنى الشرط المقدّر المتحقّق في الأمر في قوله تعالى : «اعْمَلُوا» فاعتضد ما يستدعي الجواب بالفاء، بخلاف آية هود فإنّ فيها الإخبار ، فلا تقدير فيها للشرط فلم تدخل الفاء .

قوله تعالى : «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

تسجيل عليهم بأنّهم لا يسعدون لعدم نجاحهم في أعمالهم ، فلم تكن لهم العاقبة المحمودة ، لأنّهم ظالمون، والظالم لا يفلح فى ظلمه . وإنّما ذكر الظلم لأنّه أعمّ ، ولبيان إنّه إذا لم يفلح الظالم ، فكيف بالكافر الذي اتّصف بأعظم الظلم .

والآية الكريمة تشير إلى ما بدأ به الكلام سابقا ، وهو قوله تعالى : «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ» الذي ورد مضمونه في عدة آيات .

***

ص: 399

بحث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة أُموراً :

الأوّل : يرشد قوله تعالى: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ» إلى أنّ اتّباع الإنس للجنّ وتضليل الأخير للإنس حتّى صاروا أولياء لهم، كون الاستكثار باعتبار الذات والتبعيّة ، فكلّ من تبع شخصاً فهو مثله، وإن لم يكن من ذاته ونوعه ، ويشهد له ما ورد: (كلّ مَن والى قوماً فهو منهم وإن لم يكن من جنسهم). الثاني : يدلّ قوله تعالى : «رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ» على أنّ كلّ ما يجري من الضلالة ومفرداتها في الاجتماع الإنساني، مصدره هذا الاستمتاع الحاصل من كلا طرفي الجن والإنس ، فكان مادّياً صرفاً، فأوجب الضلالة والخروج عن طاعة الله تعالى، والبُعد عن تشريعاته ، واستيلاء الفكر المادّي على الإنسان، ومن ثمّ تحقّق المصير الذي آل إليه من الشقاء في الدُّنيا، والحرمان من السعادة الدائميّة الأبديّة .

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : «وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَلْتَ لَنَا» .

إنّ الأجل الذي حددّ لهم، هو الأجل الذي ينتهي فيه ذلك التمتّع المادّي ، أمّا لاستيلاء الحقّ على النفوس ودولته على الأرض، أو وصول الفكر الإنسانى إلى مرحلة من النضج والكمال، بحيث ينبذ الاستمتاع المادي ويعرض عن الضلالة، وهذا يحصل إذا استولى على الإنسان الحكمة والعلم بالصلاح والكمال ، ولعلّ في ذكر الإسمين المباركين (حكيم عليم) في آخر الآيات إشارة إلى ذلك .

الرابع : يدلّ قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا

ص: 400

يَكْسِبُونَ» على أنّ السُنّة الإلهية فى الاجتماع الإلهي بعد الإعراض الحاصل من الإنسان، هو استيلاء الظالمين على شؤون العباد بسبب الأعمال السيّئة التي ارتكبوها ، فتكون هذه الولاية نتيجة ظلم الإنسان ، وذكرنا أنّ هذه السنّة الإلهيّة بديل عن السُنّة الربّانية التي اقتضت إيصال الإنسان إلى الكمال المنشود والسعادة والصلاح، لولا ظلم الإنسان والفسق والعصيان على إرادته عزّ وجلّ ، كما يدلّ قوله تعالى : «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي» على السُنّة الربّانية المبدل عنها ، وهى إرسال الرُّسل إلى الجنّ والإنس لإصلاح شأنهم، وإنذارهم عمّا يؤول إليه أمرهم إن أعرضوا عن طاعته عزّ وجلّ وخالفوا أحكامه وتشريعاته .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ»، على أنّ الإنسان عند الاضطرار يعترف بالحقّ ويقرّ بالكفر به وبمن جاء به من الرُّسل ، إلّا أنّ هذا الاعتراف منه والإقرار لا يفيد شيئاً إلّا إتمام الحجّة عليه واستحقاقه لما وعد به ، وحينئذٍ قد أبلس من كلّ شيء، لا الحياة الدُّنيا التي غرّتهم فإنّها قد ولّت ، ولا الحياة الحقيقية التي كفر بها ولم يستعد لها وشهد على نفسه بالكفر والإبلاس.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : «ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلم» قبح العقاب بلا بيان الذي يعتبر من القواعد المعروفة التي يدلّ عليها العقل أيضاً، فيكون مضمون الآية ممّا يرشد إليه العقل أيضاً، ويكون دليلاً آخر من الأدلّة الدالّة على الأصل المعروف وهو أصالة البراءة الذي بحث عنه في علم أُصول الفقه مفصلاً.

السابع : يدلّ قوله تعالى : «ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ» على نفى الظلم عنه مطلقاً، فيكون من الأدلّة الدالّة على أصل العدالة الذي يعتبر من

ص: 401

أصول الدِّين عند الإماميّة والمعتزلة ، وقد بحث عنه العلماء مفصلاً، فراجع .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى: «وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ» أنّ سنّته عزّ وجلّ قد جرت على إرسال الرُّسل وإنزال الكتب لإصلاح أحوال الإنسان في المعاش والمعاد ، مع أنّه عزّ وجلّ قد أودع في أصل الفطرة ما يرجع إلى سعادته ، فكانت من وظائف الأنبياء إثارة دفائن العقول، لئلّا يكونوا غافلين عنها لانبهارهم بزخارف الدُّنيا واغترارهم بالحياة الدُّنيا ، ومن عظيم لطفه بعباده أن جعل الحساب والجزاء على الأوّل، حتّى لا يكون للناس الحجّة على الله سبحانه ، بأنّهم كانوا غافلين ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر لفظ (الغافلون) دون غيره .

التاسع : يدلّ قوله تعالى: «وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» على أنّ الأعمال هي الدرجات في الجنّة أن كانت صالحة والدركات في النار إن كانت طالحة ، فكانت العلّة الفاعلية والغائية والمادّية ، وفي مثل ذلك يحتاج إلى رقابة الأعمال هي تامة ، ولا يكون الرقيب غافلاً عن الأعمال وسائر خصوصيّاتها ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر سبحانه: «وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ».

وهو يدلّ أيضاً على مبدأ الاختيار في الإنسان دون الجبر والتفويض ، فإنّه عزّ وجلّ قد حكم أنّ لكلّ واحد من العاملين درجة معيّنة بسبب العمل الذي عمله المكلف المنسوب إليه، فلو كان صادراً عن جبر فلا نسبة إلّا بتكلّف، فما ذكره بعض في المقام باطل فراجع .

العاشر : يرشد قوله تعالى : «كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ آخَرِينَ إِلَى» أَنَّ المستخلفين شأنهم شان القوم ،الذاهبين، فإنّه يجري فيهم قانون الأسباب والمسبّبات ، فقد أنشأهم من ذريّة قوم آخرين، وهو عزّ وجلّ غنّي عن مخلوقاته، ولكنّه لم يكن جباراً ، كما هو شأن أغنياء أبناء الدُّنيا ، فهو ذو الرحمة أوجد الإنسان برحمته يرعاهم بربوبيّته ، ويستخلف من يشاء من خلقه . وتقدّم الكلام

ص: 402

في الاستخلاف في سورة البقرة، فراجع .

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : «إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآت»ِ أنّ ما أوعدهم الله عزّ وجلّ متحقّق لا محالة، ولا يمنعه أحد من إرادته، فهو قادر على البعث والإعادة ، كما كان قادراً على بدأ الخلقة، وهو دليل قاطع على البعث ، وأنّ قوله عزّ وجلّ: «بِمُعْجِزِينَ» على أنّ كلّ ما في العالم أصله ثابت وإن تفرّقت الإجزاء بالموت وانعدمت صورها ، فلا شيء يهرب عن قدرة الله سبحانه ، ولا يمنعه ممّا يريد .

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى: «قُلْ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ» على أنّ وعد الله بالنصر للمؤمنين على أعدائهم كما نصرهم في ابتداء الدعوة، مرهون بقدر طاعتهم وإتّباعهم رسول الله صلّي الله علیه و آله، وامتثال ما جاء به من الحقّ والعدل ، كما دلّت عليه آيات أُخرى، فلما ظلموا أنفسهم ، وصاروا كسائر الناس، فلم يعد لهم مزيّة من النصر والفلاح ، وصار الفوز بالأسباب المادّية، فيكون كلّ ماكان له الحظّ الأوفر منها كان هو الغالب مع توفر سائر الشروط من الصبر والثبات وغيرهما، وبذلك يدفع ما قرّره بعض الجاهلين من الاعتراض على المسلمين بأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر ولم يحصل لهم ذلك . ويأتي في الموضع المناسب مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

***

بحث روائي في الأخبار الواردة حول تولّي الظالمين :

في «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بعْضاً ... الآية» قال : نولّي كلّ مَن تولّى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة .

أقول : إنّ تولي الظالمين ظلم ، لأنّ المتولّي إنّما يتولّى أولياءه بالمحبّة والنصرة والعمل فيكون منهم ويُحشر معهم.

ص: 403

في «الكافي» بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر علیه السّلام قال : «إنّ الله عزّ وجلّ أرسل محمّداً صلّي الله علیه و آله إلى الجنّ والإنس».

أقول : إنّ إرساله صلّي الله علیه و آله إلى الجنّ والإنس - وهما كائنان مخلوقان قد تعلّق بكلّ واحد من أفرادهما التكليف - لا ينافي أن يختصّ الجنّ نبيّ بهم ، كما يدلّ عليه بعض الأحاديث ، والآية الشريفة مطلقة من هذه الناحية، فلا تنافى سائر الاحتمالات.

وفي «الدّر المنثور» اخرج ابن أبي الدُّنيا في كتاب «الأمل»، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد الخُدري، قال: «اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت النبيّ صلّي الله علیه و آله يقول : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر ؟!! إنّ أسامة لطويل الأمل ، والذي نفسي بيده ما طرفت عيني وظننت أن شفري يلتقيان حتّى أُقبض ، ولا رفعت طرفي وظننت أنّى واضعة حتّى أُقبض ، ولا لقمت لقمة فظننت أنّي أسبغها حتّى أُغصّ بالموت ، يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين».

أقول : وهو يدلّ على شدّة انقطاعه إلى الله عزّ وجلّ، والإعراض عن الدُّنيا ، والاستعداد للقائه سبحانه .

***

بحث عرفاني حول بعض معالم طريق السالكين :

الآيات الشريفة تبيّن بعض معالم طريق السالكين إلى الله عزّ وجلّ، ونبذة صفات العارفين المنقطعين إليه سبحانه ، فقد نادى الربّ العظيم المعشرين بالتحدّر من القوى النفسانية المستورة من استعمال الحواس الظاهرة حتّى صارت من اتّباع الأولى بالإغواء والتزيين باللّذائذ الجسمانية ، فصار يتعذّر كلّ

ص: 404

واحدة منهما بالانتفاع بالأُخرى، فوصلت إلى أقبح مظاهرها وأسوء الهيئات وعندها ابتلت بنار الحرمان تكون مثوى لها خالدين فيها إلّا ما شاء الله أن يعلم ، ولا يعلم سبحانه الشيء إلّا على ما هو عليه، وهو الحكيم الذي لا يعذب أحداً إلّا بهيئات النفوس وملكاتها ، عليمُ بها فيعذب بحسبها ، ويكون كلّ واحد من هؤلاء المبتلين قرين الآخر في العذاب لاقتران أعمالهم وتشابه نفوسهم، فصار كلّ ظالم من جنس الآخر .

ثمّ إنّه عزّ وجلّ أرشدهم إلى ما يصلح أحوالهم، وأرسل الرُّسل من العقل وهو الرسول الداخلي ، والأنبياء وهم رسل خارجية ليهدوهم سواء الطريق، فيستفيد الذي له الاستعداد من فيوضاتهم، ويستنير بهداهم حتّى لا يقع في الهلاك، ويسترشد بهداهم في رفع الحُجُب، وصرف النفس إلى الكمال، ولا يكون غافلاً عمّا يريد الله تعالى منه ، وقد ذكر سبحانه أنّ الأعمال سبب للحصول على الدرجات ، لأن بها يتحقّق القُرب والبُعد ، فلابدّ أن يكون الإنسان فطناً نبهاً يلتجئ إلى الغني المطلق ليهديه ويعرّفه مواقع الجلال ويرحمه فيرشده إلى مواطن الجمال ، وهو القادر على أن يغيّر النفوس إذا استعدّ أصحابها للطاعة، والخروج عن غياهب الظلمات التي تراكمت على النفوس بسبب المعاصي والآثام، وترجع النفوس إلى أصلها من الاستعداد الفطري، فيكون الشخص من أهل طاعته برحمته ، فيعمل على حسب الاستعداد ، كما يعمل رسول الله صلّي الله علیه و آله ويكون إماماً له في السير والسلوك ويهتدي بهديه . فإذا بلغ السالك هذا الطريق، واستمرّ على إزالة الحُجُب، وجعل قلبه قابلاً لأنواره عزّ وجلّ، فإنّه ينشأ فيه جنّات من المحبّة والعشق لجماله ، وزرع فيه صفات روحانيّة ، وغرس الإيمان، وظهر زرع الأعمال الصالحة على حواسه بالإخلاص ، وألهمه المزيد من الخير والعرفان ، حتّى يصل إلى مقام المشاهدات والمكاشفات ، ويبلغ مرتبة يكون فيها أُسوة لغيره ، فعليه

ص: 405

إعطاء الحقّ الذي منحه الله بالإرشاد والموعظة الحسنة، فإنّه صار من أرباب الاستقامة والتمكين بشرط معرفة النفوس فيمنحها بقدر استعداداتها ولا يكون من المسرفين ، وعلى العارف الاستفادة من الإشارات، ويستعدّ لتلقى الفيوضات ولا يُهمل نفسه في الملذات، فقد أرشد سبحانه إلى الصلاح والسعادة، وبيّن سبل الغواية والضلال.

***

ص: 406

سورة الأنعام، الآية 136 - 150

الآية 136 - 150

«وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهِ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا * خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمَ الْأُنْتَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا أَ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ

ص: 407

افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَى مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاعْ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفْرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْم ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسَهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)».

الآيات الشريفة تثبت التوحيد في الحكم بعد إثبات التوحيد في الخلق والإلوهيّة ، وتسرد بعض الأحكام المفتراة من المشركين، وبعض بدعهم في الأطعمة وتقاليدهم في الأنعام والحرث التي عارضوا الله عزّ وجلّ في سلطانه في التشريع ووحدانيّته في الحكم ، وقدردّهم عزّ وجل بحجج دامغة عقلية ونقليّة تدلّ على سفاهتهم ، ثمّ شرع عزّ وجلّ بعض الأحكام التي تصلح أحوال الإنسان في الدُّنيا وتسعدهم في الآخرة ، فهي بمجموعها تحاجّ المشركين والمبتدعين في هذا الموضوع المهمّ ، وتبيّن وجهاً آخر من أصل التوحيد وتشرع بعض فروع الدِّين ، وتذكر بعض آيات الله تعالى التي تدلّ على عظيم حكمته وسعة علمه عزّ وجلّ، وتردّ على المشركين شركهم، وتبيّن سخف خرافاتهم الوثنيّة .

***

ص: 408

حول معنى مادّة ذرأ والزعم

التفسير

قوله تعالى : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً» .

بيان ضلال المشركين في العمل بعد بيان ضلالهم في العقيدة، أن جعلوا الله نصيباً ممّا خلق لهم من ثمر الزرع وغلّته ، ونتاج الأنعام ونصيباً آخر لشركائهم من الأوثان والأصنام، وقد حذف هذا النصيب الأخير استهانة به ولمعلوميّته .

ومادّة «ذَرَأَ» تدلّ على الظهور، ومنه الخلق على الاختراع، لأنّ فيه إظهار الله تعالى ما أبدعه ، ومنه ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم على الاختراع، وقد وردت في القرآن الكريم في ستّة مواضع ، وفي إيثاره في المقام للإعلام بأنّه سبحانه الخالق الموجد ، فلابدّ أنْ يكون جميع ما خلقه له عزّ وجلّ دون أن يجعل له نصيباً ، فكان فيه التسفيه لآرائهم .

قوله تعالى : «فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا».

الزعم هو الاعتقاد الذي لا يطابق الواقع غالباً، وفي ذكره لبيان التنزيه ، نظير قوله تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ» (1)، وللإعلام بأنّ ذلك بوضع منهم لا من الله تعالى فهم اخترعوه وافتروه على الله عزّ وجلّ . والشركاء همّ معبوداتهم من الأوثان والأصنام، وسمّوهم شركاء لأنّهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وأولادهم، أو لأنّهم همّ الذين أثبتوها واعتقدوا بها نظير أئمّة الكفر وأوليائهم ، والجملة تمهيد لتفريع حكم آخر عليه ممّا يذكر بعد ذلك ، كما أنّها تفصيل لما أجمل ابتداءً من جعل النصيب.

قوله تعالى : «فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ .

ص: 409


1- سورة الأنبياء : الآية 26

تفصيل للحكم المذكور ، وفيه الإعلام بأنّهم مضافاً إلى اتّصافهم بالشرك المذموم، أنّهم منافقون لا التزام لهم بالعهود ، فما عيّنوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي تصرف إليها ما عيّنوه الله تعالى، وما عيّنوه الله سبحانه يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم .

حول معنى قوله: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»

قوله تعالى : «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

ذمّ بالغ لهم يفيد قبح هذا الحكم من جهات عديدة :

منها : بطلانه قطعاً، إذ لا مستند له لا من عقل ولا من هدي شرع .

ومنها : إنّه اعتداء على الله سبحانه وافتراء عليه.

ومنها : إنّه إزراء لساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام.

ومنها : إيثار المخلوق العاجز على الخالق القادر .

ولا ريب أنّ جميع ذلك قبيح عقلاً ، وما ورد في الشرع إنّما هو إرشاد إليه ، ومن ذلك يمكن إثبات قاعدة الحسن والقبح العقليّين.

و(ساء) يجري مجرى (بئس) . و(ما) فاعل سواء كانت موصولة أو موصوفة ، والمخصوص بالذمّ محذوف وهو معلوم، وقد اختار بعضهم بأنّ ساء هذه غير جارية مجري بئس، فلا تحتاج إلى مخصوص بالذمّ بل إلى فاعل فقط ، لأنّ فاعل الجارية يجب أن يكون معرّفاً باللّام أو مضافاً .

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ».

حكمٌ آخر يدلّ على أنّ عقيدة الشرك قد رسخت في قلوبهم ، أخذت عبادة الأصنام مأخذاً في عقولهم، فصارت لها واقعاً في شعورهم ومشاعرهم، وحبّاً وهميّاً في نفوسهم، فقد زيّنت لكثير من المشركين قتل أولادهم قرابين يتقرّبون بهم إلى آلهتهم، أو يئدون بناتهم وهنّ صغيرات، مع وجود الشفقة الفطرية في النفوس.

ص: 410

وقد اختلف المفسِّرون في المقتولين، فقيل أنهم الموؤدون ، حيث كانوا يئدون البنات الصغار بدفنهن أحياءٌ.

وقيل : إنّهم كانوا يقتلون الأولاد اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع ، كما قال عزّ وجلّ : «وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» (1).

وقال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» (2).

وسيأتي بيان الاختلاف بين الآيتين .

وقيل : إنّهم القرابين يتقرّبون بها إلى الآلهة ، كما يحكى التاريخ عن قدماء الوثنيّين وغيرهم.

والحقّ إنّ الشركاء قد زينت القتل لكثير من المشركين لجهات عديدة منها ما ذكروه آنفاً ، ولا فرق حينئذٍ بين كون الشركاء الشياطين ، أو الغواة من الناس ، أو السدنة وخدمة بيوت الأصنام، فإنّ السبب هو الشرك الذي أوصل المشركين إلى هذا الأمر المخالف للعقل ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر (المشركين) صريحاً مقدّماً له على الإضمار.

وقرأ بعضهم (زين) بالبناء للمفعول . ونصب (أولادهم) مفعولاً للقتل ، وجرّ الشركاء بإضافة القتل إليه مع الفصل بينهما لمفعوله ، وهو غير فصيح في عرف النحاة .

الآيات الواردة حول الأحكام التي ابتدعتها اليهود وهي تدلّ على كفرهم وغوايتهم بشركهم

قوله تعالى : «لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ».

الإرداء الهلاك ، والتردي التعرّض للهلاك ، والجملة تعليل لما سبق، أي إنّما زيّنوا لهم هذه المنكرات ليهلكوا المشركين بالكفر بآيات الله تعالى ونعمه ،

ص: 411


1- سورة الإسراء : الآية 31
2- سورة الأنعام: الآية 151

وليخلطوا عليهم دين الله تعالى الذى أمرهم بطاعته بطمس الحقّ وإظهار الباطل وهما من أهمّ الوسائل فى إفساد الفطرة واقساء القلوب وإذهاب الرحمة منها ، وقد استخدمهما الشركاء، سواء كانوا من الجن أو الإنس ، كما لا يختصّ بعصر ، فهم يمارسونهما في إفساد الدِّين الحقّ والفطرة المستقيمة في كلّ زمان ، فترى سيطرة الباطل وانزواء الحقّ وإن كثر مدعوه، ولبس الدِّين الإلهي بأباطيل ، وإفساد الضمائر والأخلاق حتّى قست القلوب ، وانقلب كلّ حسن إلى ضدّه، ولا يصلح ما أفسدته شياطين الجنّ والإنس إلّا بمصلح إلهي مؤيّد من الله تعالى لينجي الإنسانية المعذّبة وإرجاعها إلى رشدها .

قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ».

تثبيت لمشيئته عزّ وجلّ في ما سواه ، فإنّهم وإن دخلوا في الشرك، وابتدعوا أحكاماً خالفوا بها إرادته في دينه الحقّ، لكنّهم لم يخرجوا عن مشيئته ، فإنّه لو شاء ما فعلوه من قتل الأولاد ، وتقسيم الحرث والأنعام ، والإرداء واللّبس ، فإذا لم تتعلّق مشيئته بأن لا يفعلوا ذلك فدعهم وافتراءهم، فإنّ في مشيئته حِكَماً بالغة ، والآية تحكى عن سنّة إلهية في خلقه ، وفيها من شدّة الوعيد والتهديد ما لا يخفى .

قوله تعالى : «وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ».

حكاية لنوع آخر من الأحكام المبتدعة التي تبتني على كفرهم وغوايتهم بشركهم ، وهي على ثلاثة أنواع ، كما حكاها عزّ وجلّ ، فإنّ منها ما ذكره من أنّهم جعلوا لآلهتهم بعضاً من الأنعام والحرث يمنعون التصرّف فيها ، سواء كان على سبيل النذر أو الوقف أو نحو ذلك . والحجر - بالكسر - فعل بمعنى المفعول، كالذبح ، يستوي فيه الواحد والكثير ، والذكر والأُنثى، لأنّ أصله المصدر ، ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث ، وكان من عادتهم أنّهم كانوا يشيرون إلى أنعام وحرث فيقولون : هي حجر

ص: 412

قوله تعالى : «لاَ يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ» .

تفسير للحجر المذكور ، إنّ تلك الأنعام والحرث حجر لا يتصرّف فيها إلّا من نشاء التخصيص له بزعمهم من دون أن يكون فيه تشريع إلهي ، وقد روي أنّهم كانوا يقدّمونها لآلهتهم ولا يحلّون أكلها إلّا من كان يخدمها من الرجال دون النساء .

قوله تعالى: «وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا» .

هذا هو الحكم المزعوم ، أي وأنعام أُخرى تعتق وتعفى عن الركوب والحمل عليها لأجل الآلهة ، وهي السوائب والبحيرة والحامي التي تقدّم ذكرها في قوله تعالى : «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (1)، وتقدم الكلام فيها ، فراجع .

قوله تعالى : «وَأَنْعَام لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا».

هذا هو الحكم الثالث المبتدع ، أي وأنعام يهلّون بها لآلهتهم وحدها فلا يذكرون اسم الله عليها . والجملة صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيّيناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره، لا أنّه واقع في كلامهم كالقسمين السابقين ، كأنّه قيل : وأنعام ذبحت على الأصنام.

قوله تعالى : «افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ» .

أي إنّ ما فعلوه من تقسيم أنعامهم كذلك ليس من التشريع الإلهي، وإنّما هو

ص: 413


1- سورة المائدة : الآية 103

افتراء على الله تعالى وليس لغيره التشريع إلّا بإذن منه سبحانه ، كما قال تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلَا قُلْ أَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ» (1)، وإفتراءً منصوب على أنّه مفعول من أجله ، أو مصدر على إضمار فعل اي يفترون .

قوله تعالى : «سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ» .

بيان لسوء حالهم ومآلهم ، أي سيجزون الجزاء الشديد بسبب هذا الافتراء الذي هو ذنب عظيم ، وإنّما أُبهم الجزاء للتهويل .

قوله تعالى : «وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا».

ضربٌ آخر من أحكامهم المفتراة في التحليل والتحريم ، وهو خاصّ بما في بطون الأنعام أعمّ من اللبن والأجنّة ، والأنعام إمّا البحائر والسوائب أو غيرها، فإنّهم كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرّمونه على الإناث ، وكانت إذا ولدت حيّاً جعلوه خالصاً للذكور لا تأكل منه الإناث، وأمّا إذا كان ميّتاً اشترك فيه الذكور والإناث ، وإذا ولدت أُنثى تركوها لأجل النتاج .

و (خالصة) أي خاصّة للذكور لا يشركهم أحد من الإناث ، والتاء فيه للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة ، أو أنّ (خالصة) مصدر كالعافية وقع موقع الخالص مبالغةٌ . و(البطون) قيل : يراد بها الأجنّة لأنّها التي في البطن حقيقة . وقيل : اللّفظ الأجنة واللّبن ، والنقل يؤيّد الثاني، واللّفظ ظاهرٌ في الأوّل.

يعم والمراد ب- (أزواجنا) مطلق الإناث . و(محرّم) مذكّر حملاً على لفظ (ما) .

ص: 414


1- سورة يونس : الآية 59

قوله تعالى : «وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ».

عطف على مفهوم الكلام ، أي ذلك حلال للذكور ومحرّم على الإناث إن ولد حياً ، وإن ولدت ميّتة فهم - الذكور والإناث - فيه شركاء، وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة ، فإنّهم يأكلون منها جميعاً. والضمير إمّا راجع إلى ما في بطون الأنعام ، أو إلى الميتة بمعنى الميّت تغليباً للذكور ، ولأجله ذكر الضمير ، كما فعل قبل ذلك ، وقرئ على تأنيث الفعل (تكن) ورفع ميتة .

قوله تعالى : «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».

أي إنّه سيجزيهم نفس وصفهم، فإنّه يكون وبالاً وعذاباً عليهم، ففيه نوع من العناية ، وقيل : سيجزيهم بوصفهم ، وقيل : على التقدير سيجزيهم جزاء وصفهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فهذا الجزاء إنّما يكون بمقتضى حكمته في الخلق والجزاء، وعلمه بشؤونهم وأعمالهم ومناشئها وخصوصيات الجزاء .

والآية تدلّ على أمر دقيق في أسلوب بلاغي رصين، وهو كون الجزاء على الوصف الذي أحدث في النفس من أثر حسن أو سيء، كأنّه عين العمل ، فإنّهم كذبوا على الله تعالى وافتروا عليه في أمر التحريم والتحليل .

قوله تعالى : «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ».

إنكار شديد على المشركين بسبب افترائهم على الله سبحانه على ما حكاه عنهم، وأفعالهم الشنيعة الباطلة من قتل الأولاد، وقد ردّ عزّ وجلّ عليهم بأمرين فظيعيّن سجّلهما عزّ وجلّ عليهم، يدلّان على إبلاسهم من العقل والخير ، وهما الحكمان العدلان عليهم وهما :

الأوّل : خسرانهم بقتل أولادهم خسراناً عظيماً، دلّ عليه حذف المفعول ليذهب ذهن السامع ما يذهب من الخسران ، وفيه من الترهيب ما لا يخفى . فقد

ص: 415

خسروا الأولاد، كما خسرواكلّ ما يرجى من فوائدهم ، كما خسرت نفوسهم من كلّ مقوّمات الخير ، وبعُدت عن محاسن الأخلاق وتبدلّت إلى المساوئ ، فذهب دينهم ودنياهم، واستحقّوا العقاب، ووصموا بالجهل بما يترتّب على فعلهم من الآثار السيّئة، فلم يعلموا النافع والضار لهم ، وما يحسن ويقبح .

قوله تعالى : «وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللهُ افْتِرَاء عَلَى الله» .

هذا هو الأمر الثاني، فإنّهم حرموا أنفسهم مما رزقهم الله تعالى، وهو وإن كان سفهاً وجهلاً أيضاً لكنّه أفظع، فإنّ فيه افتراء على الله عزّ وجلّ ، فقد حرّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث والأولاد افتراءً، وحاشاه عزّ وجلّ أن يرزقهم ثمّ يحرمهم عليه ، وهذا شرّ ما ارتكبوه حيث بدلوادين الله وجعلوا بديله ما افتروه عليه.

قوله تعالى: «قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

بيان ما يترتّب على تلك الأحكام المُفتراة، فإنهم قد ضلّوا في تلك الأحكام، وما كانوا مهتدين إلى الحقّ والصواب، لا من طريق الشرع حيث إنّهم هدوا بفنون الهدايات فلم ينتفعوا بها ، ولا من طريق العقل الذي يدعو إلى الصلاح ويهدي إلى سعادة الأنام، فإنّهم حرّموا على أنفسهم منافع الدُّنيا وسعادة الآخرة . وفيه المبالغة في نفي الهداية عنهم ، فهم منغمسون في الضلال وعريقون فيه .

تفصيل لمنن الله سبحانه وتعالى على المؤمنين

قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» .

تفصيل لما امتنّ الله عليهم بعد ذكره إجمالاً ، بالاحتجاج عليهم من ناحية العقل ومصلحة المعاش، والردّ على أحكامهم المفتراة وأفعالهم الضالة بأنتها مخالفة لسنّة الله تعالى فى خلقه للحرث والأنعام ، فإنّه عزّ وجلّ خلقها رزقاً لهم . وبدأ بالحرث والنبات من الرزق وأردفه برزق الأنعام، خلاف ما سطّره سبحانه في

ص: 416

ابتداء الآيات، لأنّ أحكامهم في النبات أقلّ في الحيوان .

وتقدّم الكلام في الإنشاء وهو بمعنى الإيجاد مع التربية . و(الجنّات) هي البساتين المشتملة على الأشجار والكروم . بحيث تجنّ الأرض وتسترها . و(المعروشات) من العرش وهو الرفع، أي الممسوكات على العرائش بحيث ترفع أغصانها بعضاً على بعض بدعائم كالكَرْم والمراد بها بساتين الكَرْم ونحوها . و (غير المعروشات) وهي التي تكون أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم .

قوله تعالى : «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ» .

تخصيص بعد تعميم، وقدّم النخل لما فيها من المنافع الكثيرة ، ولمعروفيتها عند العرب، والمعروف إنّه لم يكن شجر يستفاد من جميع أجزائه مثل النخل . والزرع مطلق النبات، ولكن المراد به بعد التعميم السابق ما يأتي منه القوت ، كالحنطة والشعير والحمص والعدس ونحوهما ، فيكون ترتيب المعطوفات على طريقة الترقّي من الأدنى في التغذية واقتتات الناس إلى الأعلى والأعمّ، عكس ما ورد في الآية السابقة في هذه السورة: «وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلَّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَةٌ مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهِ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، ولعلّ الحكمة في التقديم والتأخير في الآيتين ترجع إلى أنّ آية المقام تسرد نِعَم الله تعالى ورزقه على العباد ردّاً على ضلال المشركين الذين حرموا ما أباحه الله تعالى لهم، فقدّم الحرث على الأنعام عكس ما ذكره آنفاً، لكثرة ضلالهم في الأنعام ، فقدم المهمّ على الأهمّ على التفصيل .

أمّا في الآيات السابقة فقد كانت الحاجة مع المشركين في أمر التوحيد، فسرد سبحانه الآيات الكونيّة الدالّة على وحدانيّته وربوبيّته وقدرته وحكمته عزّ

ص: 417

وجلّ، فاقتضی سرد آیات العالم العلوي، ثمّ خَلْق الإنسان، ثمّ عالم النبات على نحو تقديم الأهمّ على المهمّ .

قوله تعالى: «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ».

أي أنشأ أنواعاً من النبات التي تختلف في الأكل ، والمراد به ما يؤكل ، وفيه لغتان ضمّ الهمزة والكاف ، وبه قراءة الجمهور . وسكون الكاف مع ضمّ الهمزة ، وهي قراءة بعضهم . واختلفوا في الضمير في (أكله):

فقيل: إنّه يرجع إلى الزرع لأنّه أقرب ، ومنه يعلم ما قبله . وقيل : بالعكس . والراجح أنّه يرجع إلى الجميع ، فيكون المعنى أنشأ لكم من الجنات والنخل والزرع حال كونه مختلفاً ثمره الذي يؤكل منه في الطعم والرائحة .

قوله تعالى : «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِها وَغَيْرَ مُتَشَابِه» .

أي أنشأهما يتشابه بعض أفرادها في اللون أو الطعم أو الهيئة وغير ذلك . ولا يتشابه في بعضها ، وفي ذلك من الآية العظيمة على عظيم صنعه تبارك وتعالى .

قوله تعالى : «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَه».

أمر بإباحة الأكل من دون حظر ، فإنّه عزّ وجلّ أنشأ الجنات والزرع بجميع أصنافه لتأكلوا منها، لا أن تحرّموه عليكم مفترين على الله تعالى، فما أدلّ ذلك على بطلان تلك الأحكام المفتراة، فقد تطابق الشرع والعقل على الإباحة، سوى ما ذكره عزّ وجلّ من الإسراف وإخراج الحقّ يوم حصاده.

والقيد «إِذَا أَثْمَرَ» للتنبيه على أنّه لا ينتظر به محلّ إدراكه واستوائه، بل متى أمكن الأكل منه فعل.

ص: 418

قوله تعالى : «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ».

استثناء من التحليل المذكور؛ أي إذا كان هناك منع من التصرّف في الثمر إنّما هو حقّ شرعه الله تعالى للفقراء. ومرجع الضمير فى (حقّه) هو الثمر، وإنّما أُضيف إليه لتعلّقه به ، كما يضاف إلى الفقراء لارتباطه بهم . وقد احتمل رجوعه إلى الله تعالى ، كما في الضمير الذي بعده «إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»، وتكون الإضافة إليه سبحانه لانتسابه إليه بالجعل والإنشاء. وقرئ «حَصَادِهِ» بفتح الحاء وكسرها .

والحقّ المذكور أعمّ من الزكاة المفروضة ، والحقّ المندوب ، فهو حقّ للفقراء فى الثمار والحبوب والفواكه يؤدّى إليهم يوم الحصاد، وهذا الحقّ ممّا رغّب إليه العقل وأمضاه الشرع، فلا يختصّ بالزكاة لأنّها شرعت في المدينة ، والآية مكّية ، نعم لا يبعد أن يكون هذا هو الأصل لتشريعها ، فإنّ أُصول الشريعة نزلت على الإجمال في السور المكّية ، كما هو معلوم .

حول معنى الإسراف

قوله تعالى : «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».

الإسراف هو التجاوز عن الحدّ الذي يصلح به المعاش بالتصرّف فيه ، ويبيّنه قوله تعالى : «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» (1)، فإنّ صدر الآية يبيِّن الإقتار والذيل يبيّین الإسراف وله مظاهر متعدّدة ، كالتصرّف الزائد فى الأكل ، والتبذير فى البذل ، والوضع في غير موضعه من معاصي الله سبحانه ، والإسراف في الصدقة بأن يتصدّق جميع أمواله فيقعد فقيراض ، وإسراف الفقير الآخذ بتضيّيعه، ونحو ذلك . والإطلاق يشملها جميعا والخطاب لجميع الناس ، ويدلّ عليه تعليل النهي بكونه تعالى لا يحبّ المسرفين ، وقد وصف الله تعالى عباده الصالحين: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا

ص: 419


1- سورة الإسراء : الآية 29

وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» (1).

ومن ذلك يظهر زيف الأقوال التى ذكروها في المقام ، فقال بعضهم إنّ الخطاب في «لا تُسْرِفُوا» يختصّ بأرباب الأموال ، وآخر بأنّه متواجد إلى الإمام الآخذ للصدقة ، وثالث إنّ معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد لئلّا يؤدّي إلى تضييع حقّ الفقراء ، ورابع بأنّ لا تقصروا بأن تمنع بعض الواجب ، وخامس إنّ المعنى لا تنفقوه في المعصية ، وغير ذلك ، وهي مدفوعة بالإطلاق والسياق .

قوله تعالى : «وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةٌ وَفَرْشاً».

عطف على الجنّات ، وفيه تفصيل حال الأنعام ، والجهة الجامعة بين أنواعها إباحة الانتفاع بهما ، أي وأنشأ من الأنعام حمولة، وهي ما يحمل عليه من الأثقال من أكابر الأنعام من الإبل والبقر . والحَمولة كالركوبة لما يركب ، لا واحد من لفظه . وفرشاً قيل هو ما يفرش للذبح ، أو لأنّها توطأ كما يوطأ الفرش ، وهي أصاغرها من الضأن والمعز ، وصغار الإبل والبقر .

وقال الراغب : الفرش ما يفرش من الأنعام أي يركب ، ومعنى هذه الآية قوله تعالى : «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةٌ فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (2). ومثله في سورتي يس والنحل . فيكون المراد بالفرش غير المحمولة من الأنعام التي لا يستفاد من لحمها ولا من ركوبها ولا حملها ، فتكون كأنّها مفروشة بين يدي المالك . وقدّم الحمولة على الفرش لأنّها أعظم في الإنتفاع عند العرب القاطنين في بيئة صحراوية ، أو لأنّه ينتفع بها في الأكل والحمل .

ص: 420


1- سورة الفرقان : الآية 67
2- سورة غافر : الآية 80

قوله تعالى : «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ» .

تصريح بأنّ إنشاءها إنّما هو لأجلهم ومصلحتهم ، وتخصيص الأكل بالذكر كناية عن مطلق الانتفاع ، كما في قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» (1). والآية تدلّ على إباحة الأكل، وفيه الإمضاء لحكم العقل ، كما تقدّم في قوله تعالى : «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ».

قوله تعالى : «وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ».

أي اتركوا أحكامكم في الحرث والأنعام ، فإنّهما من خطوات الشيطان وإغواءاته ، فلم يحكم به الله تعالى، فهو قد أنشأ الحرث والأنعام لكم، وهو المالك لها، وقد أباحها لكم وهو ربّكم ، و (خطوات الشيطان) مواضع قدمه ، وهي من أقبح المتابعة فيكون المراد بها تحريم ما أحلّه الله تعالى بغير علم، وقد علّل سبحانه النهي بأنّ الشيطان عدو لكم فلابد من الاحتراز منه .

وقد بيّن سبحانه خطوات الشيطان بقوله : «إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (2)، وجميعها مضلّات موبقات ، وبعد هذا البيان وكونه عدواً مبيّناً لاخفاء فيه، فما أشدّ قبحاً وأعظم جهلاً ممّن يتّبع خطوات عدوّه، فيحرم نفسه ممّا أباحه الله تعالى؟!!.

قوله تعالى : «ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ».

بدل من حمولة وفرشاً ، وهو تفصيل بعد إجمال، لتحرير المواد التي تقو عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ، وفيه التبكيت بإظهار كذبهم وافترائهم في كلّ مادة من تلك المواد، بتوجيه الإنكار والتوبيخ عليهم ، وقد بسط عليهم كلّ الصور

ص: 421


1- سورة البقرة : الآية 188
2- سورة آل عمران الآية 196

والوجوه التي افتروها .

و (الأزواج) جمع زوج ، يطلق على الواحد الذي يكون معه آخر ، وعلى الاثنين، سواء كان من القرينين الذكر والأُنثى في المتزوّجين من الحيوانات ، أو كلّ ما يقترن بآخر مماثلاً أو مضادّاً، والمراد بها الأنواع الأربعة .

قوله تعالى: «مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ» .

بيان للأزواج الثمانية ، وهي الأنعام الأربعة الضأن والمعز والبقر والإبل وباعتبار مزاوجها ، أي الذكورة والأنوثة كانت ثمانية ، فمن الضأن أثنين، وهما الكبش والنعجة ، ومن المعز اثنين هما التيس والعنز .

قوله تعالى: «قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْن».

إنكار وتوبيخ وتقريع حيث نسبوا ما حرّموه إليه عزّ وجلّ؛ حيث كانوا يحرّمون الذكور تارةً ويحرّمون الإناث أُخرى ، وأولادها ذكوراً وإناثاً ثالثة، فكان تقسيماً من قبل أنفسهم لا من قبله عزّ وجلّ . والمراد بالذكرين ذكر الضأن والمعز.

ومن هذا التفصيل يظهر أنّه لا وجه معقول لقولهم ، وأنّ أحكامهم التي ترتّبت على الأوصاف من الذكورة والأُنوثة والحمل هي محض جهالة .

قوله تعالى: «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».

تأكيد للتبكيت، وظهور الانقطاع ، أي أخبروني بأمر معلوم من جهته عزّ وجل إن كنتم صادقين في دعوى التحريم عليه سبحانه ، وإلّا فيكون تحريمهم جهلاً محضاً ، وكذبا صرفاً ، وافتراءً واضحا .

ص: 422

قوله تعالى : «وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» .

عطف على قوله : من الضأن و(الإبل) اسم جمع الجنس الأباعر ، وهي مؤنّثة ، لأنّ اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل لزمه التأنيث ، ومفرده بعير الذي يقع على الذكر والأُنثى مثل الإنسان . والجمل يطلق على الذكر كالرجل في الإنسان ، والناقة للأُنثى كالمرأة.

كما أنّ البقر اسم جنس ، وتُطلق البقرة على الذكر والأُنثى كالشاة من الغنم ، وإنّما الهاء للوحدة ، والثور للذكر من البقر والجمع ثيران والمعنى واضح .

قوله تعالى : «قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْتَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ».

إفحام لهم في أمر هذين النوعين أيضاً، والمراد بالذكرين والأُنثيين وما حملت أرحام الأنثيين مثل ما تقدّم فى الغنم والمعز ، فهما مشتركان في الإنكار والتوبيخ .

وقد أختلف المفسِّرون في تأويل المفردات في هذه الآيات بما لم يقم عليه دليل صحيح يعتمد عليه إلا الظن والأمر الذي لا يمكن إنكاره؛ إنّه كانت عند أهل الجاهلية بعض الأحكام المفتراة قد أخبر بها عزّ وجلّ فيما سلف من الآيات، وقد حكم عليها بالبطلان عقلاً ونقلاً ، وأمّا خصوصيّاتها فلم يعلم بها إلّا ما حكى الله عزّ وجلّ بعضاً منها في القرآن المجيد ، وقدّ بيّن عزّ وجلّ أنّه أنشأ الحرث والأنعام رزقاً لعباده، من دون تحريم صنف خاصّ منها يستفيد منها الإنسان بأنواع الاستفادة إلّا ما حرمه الله عزّ وجلّ، كما سيأتى.

وأمّا كون الذكرين والأُنثيين من تلك الأصناف هو فرد معيّن ممّا ذكروه، فلا يضرّ الجهل به في أصل المطلوب، ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره الآلوسي في

ص: 423

المقام ونسب الكذب إلى الطبرسي قدّس سرّه إنّما هو جهلٌ منه وافتراءٌ عليه ، وسيأتي في البحث الروائي نقل الروايات التي تدلّ على صحّة ما ذكره الطبرسي إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «أمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللهُ بِهَذَا» .

تأكيد على بطلان تلك الأحكام، وفيه الإفحام والتبكيت لهم بعد عجزهم عن الإتيان بعلم يؤثّر من أحد من رسل الله تعالى أو عقل واضح مبين ، فلابدّ أن تكون شهادة على تحريم الله تلك أو حصول مشافهة منكم، فيجب عليكم إبرازها . وبذلك قد استوفت الآية الكريمة الأدلّة التي لابدّ من إقامتها على إدّعاء حكم، فإنّ الدليل عليه إذا كان منحصراً بالنقل وقد نفاه عزّ وجلّ، وهمّ أيضاً لا يؤمنون بالرسل ، فلابدّ أن يكون إمّا من الشهود أو المشافهة ، وهما محالان عليهم .

قوله تعالى : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ» .

تفريع على ما سبق، إي إذا تمّت الحجة عليكم ولا جواب لكم ، فلا أحد ظلم منكم حيث تفترون على الله تعالى كذباً، فتنسبون إليه سبحانه تحريم ما لم يحرّم ، وتسندون إليه حكماً لم يشرعه عزّ وجلّ . والخطاب للمشركين الذين افتروا تلك الأحكام على الله كذباً .

قوله تعالى : «لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .

أي إنّ تلك الأحكام التي شرعوها وافتروا فيها، يترتّب عليها إضلال الناس، فإنّ من ابتدع شيئاً خلاف إرادته تعالى وشرّعه، فهو في ضلال وإضلال، سواء قصد ذلك أو لم يقصد، فكانت أحكامهم مضافاً إلى كونها افتراءَ على الله سبحانه وكذباً عليه أنّها أدّت إلى إضلال الناس، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها

ص: 424

إلى يوم القيامة .

وإنّما ذكر سبحانه «بِغَيْرِ عِلْمٍ» لتسجيل الجهل التامّ عليهم، فقد جهلوا قبح العمل وشناعته ، وعظيم الجرأة على الله تعالى، وإنّه التصرّف في سلطانه ، كما جهلوا الآثار الوخيمة المترتّبة عليه ، والوزر العظيم الذي حملوه منه . أو للإيذان بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات، كما أنّ فيه الإشارة إلى أنّ من افترى على الله كذباً بغير علم بالصدور ، فكيف بمَن افترى وهو يعلم بعدم الصدور ؟!.

قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

تثبيت بكونهم ظالمين ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، وترتّبه على ما سبق من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التاّمة ، فقد ظلموا أنفسهم وغيرهم ، والله لا يهدي القوم الظالمين إلى الحقّ والسعادة والصلاح لا في الدُّنيا ولا في الآخرة . ومضمون الآية الكريمة مضروب على سبيل القاعدة في عدم اهتداء الظالمين إلى ما يصلح أحوالهم في الدُّنيا ، وما يسعدهم في الآخرة.

قوله تعالى: «قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ».

شروع في بيان تشريعاته المقدّسة بعد إثبات بطلان أحكامهم المفتراة عقلاً ونقلاً، بأسلوب بليغ يتضمّن الإنكار والتقريع والتبكيت إجمالاً وتفصيلاً، فلا يدع مجالاً للشكّ في أنتّا افتراءات محضة منافية للطبع أيضاً، وكأنّ المعنى هو أنّه إذا كان هناك تشريع في المطعومات، فهو الذي أُوحي إلّي فقط . وفيه التنبيه على أنّ التشريع لا يكون إلّا لله تعالى أو بإذن منه في وحى إلى رسله ، ومن خالف ذلك فهو ظالم معتدٍ على مقام التوحيد والربوبيّة ، ومن أطاعه في ذلك يكون مشركاً، كما هو واضح .

والخطاب للرسول صلّي الله علیه و آله للدلالة على أنّه مأذون من قبله عزّ وجلّ في

ص: 425

التشريع . كما أنّه يدل على الإباحة في الأطعمة إلّا ما حرّمه الله عزّ وجلّ.

المراد من الحجّة البالغة

وطاعم يطعمه يشمل كلّ من يطعم من ذكر أو أنثى ، وفيه الرّد على أحكام المشركين . ويطعمه في موضع الصفة لطاعم جيء به قطعاً للمجاز ، كما في قوله تعالى: «طَائِرٍ يَطِيرُ» .

والمراد به في المقام الأكل، وإن كان يشمل الشراب ومطلق الانتفاع ، كما في حديث بدر : ما قتلنا أحداً به طعم ، أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به . والآية نظير ما ورد في سورة المائدة الآية 3، وسورة البقرة الآية 173 ، والترتيب فيها واحد ، إلّا أنّ المحرمات جاءت في آية المقام منكرة ، والدم موصوفاً بقوله : «مَسْفُوحاً». والفسق موصوفاً بقوله : «أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ»، وفي تينك السورتين معرّفاً ، ولعلّ الوجه فيه يرجع إلى أنّ هذه السورة مكّية ، وتانك السورتان مدنيّتان، فجاءت تلك الأسماء معاريف بالعهد إحالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة .

قوله تعالى : «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً».

استثناء ممّا أحلّه الله عزّ وجلّ، والمراد بالميتة ما مات حتف أنفه والمذبوح بغير الوجه الشرعي . والمسفوح أي المصبوب السائل، أي الخارج من الذبيحة دون الموجود في العروق بعد خروج المعتاد منه بشروط معينة مذكورة فى الفقه . أي يحرم الميتة والدم السائل المسفوح بعد الذبح .

قوله تعالى : «أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ».

الرجس القذر ، أي يحرم لحم الخنزير فإنّه قذر خبيث مخبث تتنفّر الطباع السليمة المستقيمة منه . وإنّما ذكر هذا رداً على من يستطيب أكله . وقد ثبتت قذارته بالتجربة .

قوله تعالى : «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ ».

ص: 426

عطف على لحم خنزير، وبينهما اعتراض مقرّر للحرمة . والإهلال رفع الصوت ، والمراد به الذبح على إسم الأصنام، وإنّما سمّي فسقاً لتوغّله في الفسق والخروج عن طاعة الله عزّ وجلّ به، والضمير في (به) يرجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يكون).

قوله تعالى : «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلاَ عَادِ» .

أي فمن أصابته الضرورة التي تدعوه إلى تناول شيء من ذلك مشروطاً بأنّ لا يكون باغياً ولا عادياً، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى : «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .

اعتناء بالرسول صلّي الله علیه و آله بتشريف خطابه افتتاحاً واختتاماً، والتعريض بالوصفين المباركين للإيذان بأنّ المغفرة والرحمة مستمرة ما دام أنّ هناك معصية .

والآية الكريمة محكمة تدلّ على المحرّمات من الأطعمة ومباحاتها التي أوحيت إلى النبيّ صلّي الله علیه و آله، وقد جاءت في سياق الردّ على المشركين الذين افتروا على الله تعالى، فلا ينافي ذلك أن يكون هناك محرمات أُخرى ، وقد أطال بعض المفسِّرين في المقام بذكر المحرّمات وغيرها ممّا لا يرجع إلى محصل ، وإنّ أغلب ما ذكره في وجه الحرمة والحليّة يرجع إلى الظن الذي نهي عن الاعتماد عليه وأنّه لا يُغني من الحقّ شيئاً .

قوله تعالى : «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِهِ ».

بيان ما حرّمه الله عزّ وجلّ على اليهود خاصّة جزاء بغيهم وعقوبة لهم ، وعليه فلا ينافي أن تكون تلك المحرمات حِلاً بحسب الأصل الأولى ، ويدلّ عليه قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ

ص: 427

سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً»(1).

وإنّما عدّ سبحانه المحرّمات على اليهود، إمّا لبيان أنّ التحريم يستند إلى الوحي الإلهي ، أو للإعلام بأنّه قد حرّم على الأٌمم السابقة أشياء كما حرّم على أهل هذه الملّة أشياء، وهي التي ذكرها آنفاً ، فيكون التحريم على كلّ الأُمم يرجع إلى الله تعالى ، لا أن يكون اقتراحياً يفترى عليه سبحانه .

والمراد بالذين هادوا همّ اليهود ، وقد تقدّم وجه اشتقاق الكلمة ، وتقديم المعمول على عامله يدلّ على الاختصاص، فهو مختصّ باليهود دون غيرهم من الأُمم.

و (الظفر) - بضمّتين ، أو ضم وسكون ، وأمّا بكسر الظاء مع السكون فهو شادّ غير مأنوس - جمعه أظفار، وهو من الأصابع معروف، ويكون للإنسان وغيره ولذلك فسّروا المخلب بظفر سباع الوحوش والطير ، ومن الاستعارة قولهم :

* وإذا المنيّة أنشبت أظفارها *

وقد ذهب أكثر الجمهور إلى العموم ليشمل ذوات الظلف كالإبل والأنعام ، وما ليس بذي أصابع منفرجة والأوز والبط. ولكن الظاهر اختصاصه بالطير ، ويدلّ عليه بعض الأخبار .

قوله تعالى : «وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا» .

الشحم : معروف ، وهو جوهر السمن الذي يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق ، وشحوم الكلى ، واختصاص التحريم بالشحوم فلا يشمل اللّحوم .

وإنّما خصّ البقر والغنم بالحكم لكون القرابين عندهم لا تكون إلّا منهما ، وكانوا يتخذون من شحومها الوقود للربّ ، كما ذكر في التوراة في سفر اللّاوييّن الفصل الثالث .

ص: 428


1- سورة النساء : الآية 160

قوله تعالى : «إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا» .

أي إلّا الشحم الذي حملته ظهور البقر والغنم .

قوله تعالى: «أَوْ الْحَوَايَا».

أي إلّا الحوايا ، وهي ما جمع الحوية ، وهي كلّ ما يحويه البطن كالمباعر والمصارين ، وهو عطف على الظهور ، أي ما حملت الحوايا .

قوله تعالى : «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْم».

أي إلّا ما اختلط بعظم من شحم كالموجود على القوائم والرأس والعين والأذن والجنب . و (أو) للتفصيل، فصّل بها ما حرّم عليهم من البقر والغنم .

قوله تعالى : «ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ».

الإشارة إلى التحريم ، أو الجزاء المأخوذ من فعله ، فيكون منصوباً على أنّه مصدر مؤكّد لما بعده، وعلى الأوّل على أنّه مفعول ثان له . أي إنّما حرّم الله تعالى ذلك عقوبة لهم بسبب بغيهم ، وهو يشمل أنواع الظلم الذي مارسوه ، كما حكى عنهم عزّ وجلّ في القرآن الكريم ، ومن جملة البغي منع الفقراء من أكل بعض أنواع الطيور ، فلم يكن التحريم عليهم إلّا لأجل الظلم الذي ارتكبوه ، فلا ينافي ذلك كونه حلاًّ بحسب طبعه الأولى ، كما عرفت آنفاً ، ويدلّ عليه قوله تعالى : «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ»(1).

قوله تعالى : «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» .

ص: 429


1- سورة آل عمران : الآية 93

تأكيد بليغ لصدق المخبر وحقّية الخبر ، وبيان بأنّ تلك ممّا حرّمه الله عليهم لا أن يكون من تحريم الإنسان ومن بغيه ، وعلّة الصدق معروفة ، وهي كونه عزّ وجلّ عالماً محيطاً حكيماً ، وحينئذٍ لا يختصّ الصدق بما ورد في الآية ، فهو سبحانه صادق بكل معنى تحمله الكلمة في جميع أخباره وشؤونه ، ولعلّ في ذكره بالخصوص في المقام رّد على اليهود في بعض مزاعمهم أو ما وقع منهم من التحريف .

قوله تعالى : «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ» .

تهديد لهم بالبأس الإلهى الذي يُصيب المكذِّبين المعاندين ، وقد اقتضت رحمته عزّ وجلّ أن لا يحصل لهم اليأس، فجعل باب الرجاء عليهم مفتوحاً ، ولعلّه لأجل هذا قدّم الرحمة على العذاب.

والحكم وإن كان عاماً يشمل المشركين واليهود، إلّا أنّ ذكر الرحمة والعذاب مقترنين في المقام ممّا يقرب أن يكون الخطاب مع اليهود باعتبار كونهم أصحاب دين وشريعة يعرفون هذا النوع من الخطاب ، كما أنّهم عرفوا بتكذيب الرُّسل وما أنزله الله سبحانه . وأمّا المشركون ولاسيما مشركوا قوم الرسول صلّي الله علیه و آله فإنّهم كانوا عُتاة وعلى عناد مستمرّ ، ولم يكن لهم هذا الاعتقاد بالله العظيم، وإن أمكن القول بأنّ الآية تهديد لهم إن هم أصرّوا على الكذب والافتراء ، وتطميع لهم بالرحمة الإلهيّة إذا رجعوا عن غيّهم وظلمهم ، وترشد إليه الآية التالية .

قوله تعالى: «وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ».

أي لا يدفع عذابه إذا نزل عن القوم المجرمين عقاباً على جرائمهم التي ارتكبوها ، ومن سنّته تعالى أنّه يجمع بين الرحمة والعذاب، لئلّا يفرط بهم أحد الأمرين من الرجاء والقنوط .

ص: 430

قوله تعالى: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا أَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ».

احتجاج آخر للمشركين ، بل يمكن أن يحتجّ به كلّ من يرتكب ظلماً أو معصية وذنباً . فإنّه قرار من ركن إلى الدُّنيا واحتجب عن الحقائق ، وجهل سنن الله تعالى في خلقه، التي تعتمد على العلم والحكمة والاستغناء عن الخلق، فيكون مضمون الآية من الأُمور الواقعة في الاجتماع الإنساني ولا يختصّ بالمشركين في عصر الرسول صلّي الله علیه و آله كما يدلّ عليه جملة من الآيات.

ولكنّه شبهة يريد أصحابها الخروج عن المسؤوليّة والتخلّص من تبعاتها، والتماس الحجّة لهم بأنّ شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء منه سبحانه، فإنّه لو شاء منهم خلاف ذلك لتركناه ، فإذا لم يشأكان ذلك إذنا منه في الشرك والتحريم، فيكون كلّ ما ارتكبوه من ظلم حقاً ومشروعاً لهم، وهم لم يريدوا بذلك الاعتذار عن ارتكاب القبيح، لأنّهم لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل أرادوا أنّها مشروعة وهم على حقّ بحسب ظنّهم ، كما سينبّه على ذلك إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا».

إنكار لما قالوه ورد عليهم، فإنّه قد تشابهت آراء المشركين وأفعالهم، فإنّهم كذَّبوا رسل الله وأعرضوا عن دينه الحقّ الذى دلّت الأدلّة على صدقه ، جهلاً منهم بالحقائق وعنادهم ولجاجهم، مع توارد الحجج والبراهين العلمية والعقلية عليهم، فأعرضوا أو أصرّوا على الجحود والإنكار ، حتّى ذاقوا بأسه وعذابه ، وهذا برهان آخر وهو فعل منه عزّ وجلّ يدلّ على صدق الرُّسل وحقّية ما أتوا به. ومضمون الآية يدلّ على بطلان شبهات المشركين المكذّبين ، فإنّه لو كانوا على حقّ كما زعموا لما عذّبهم الله تعالى .

ص: 431

قوله تعالى: «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا».

أمر لرسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بمطالبتهم بدليل علمى يدلّ على صحّة مزاعمهم . فإن كان فلابدّ أن تخرجوه وتظهروه لينظر فيه فنعادله مع تلك الآيات والحجج العلميّة والعقليّة . والاستفهام للتعجيز والتوبيخ الذي استوجبوه، لأنّهم كانوا يهزؤون بالدِّين ودعاته وينكرون على الرُّسل ودعوتهم.

قوله تعالى : «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ».

بيان لحقيقة أحوالهم بأنّهم يتبعون الظنّ ، فلا دليل لهم يمكن الاعتماد عليه سوى الظنّ فليس لهم برهان علمى ، كما أنّهم يكذبون على الله تعالى ، فكانت تلك المزاعم افتراءات عليه عزّ وجلّ، وأنّ دينهم يعتمد على الخرص والتخمين وهو أضعف الظنّ .

المراد من الحجّة البالغة

قوله تعالى : «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» .

الحجّة البالغة هي الدلالة المبيّنة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوّة على الإثبات ، أو بلغ بها صاحبها صحّة دعواه ، نظير عيشة راضية ، والفاء جواب شرط محذوف . ولا ريب أنّ الله سبحانه الحجج القويمة بعد إبطال مزاعم المشركين، وعدم إمكانهم إقامة الحجّة عليها، فلم تنتج ما أرادوه، بل كانت خلاف ،مقصودهم وأنّها واضحة لا يعتريها شك وشبهة . فلم يشأ منهم الشرك ولم يلجئهم إليه، فهم مختارون في الاعتقاد والأعمال فله عزّ وجل أن يدعوهم إلى الإيمان فكان الله الحجّة البالغة وتمّت عليكم دون ما ذكرتم الذي ليس هو إلّا إتّباع الظنّ، وقد التبست عليكم الأُمور نتيجة جهلكم والخرص في المعارف الربوبيّة ، فألزمتكم حجّته تعالى لوضوحها ، فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين بإجباركم عليه ، وإلجائكم ترك الشرك والتحريم ، ولكنّه لم يجبركم وأبقاكم مختارين فقد دعاكم

ص: 432

إلى الإيمان والدِّين الحقّ .

ولعلّ من وضوح حجته عزّ وجلّ وبلوغها غاية المتانة، كون حجّتهم هي التي اقتضت أن تكون الحجّة الله عليهم ، فإنّه لو شاء لأجبرهم على ما يريده هو عزّ وجلّ لا ما يريدونه من الشرك والتحريم، فلم يفعل ذلك، بل جعلهم مختارين، وعليه جازت دعوتهم إلى الإيمان والاعتقاد الحقّ وحَسُن مؤاخذتهم وإنزال العذاب عليهم .

وقد ذكر المفسِّرون وجوهاً في الآية الكريمة، بعضها بعيد عن ظاهر الآية الكريمة ، والبعض الآخر مخالف للدليل ، فراجع .

ثمّ إنّه يظهر من الآية الشريفة كون مبدأ الاختيار في الدعوات الإلهيّة بنفسه حجّة إلهية على الإنسان واضحة للجميع، ودامغة لكلّ ما يحتجّ به المشركون وأمثالهم من الذين يدّعون الجبر ونفى الاختيار ، وقد بيَّن سبحانه ذلك في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ولاسيما الآيات السابقة التي دلّت على أنّه تعالى لم يُلجئ عباده على الإيمان، ولم يشأ منهم بالمشيئة التكوينيّة حتّى يكونوا مجبرين لا يتخطوّن إرادته ، بل أذِنَ لهم فى خلافه ومقتضاه رفع المانع التكويني، وإثبات قدرتهم على الفعل وترك اختيارهم فيه، وعلى هذا جرى الأمر التشريعي بالدخول في الإيمان ونبذ الشرك ، وهو أساس التشريعات السماوية .

قوله تعالى : «قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا».

أمر لرسوله صلّي الله علیه وآله بمطالبتهم إقامة الشهود على ما ادّعوه من المحرّمات بعد نفي العلم عنهم وإتّباعهم الظَّنّ والاعتماد على الخرص والتخمين ، وبذلك تتمّ الحجّة عليهم ، فإنّه ليس لهم العلم الاستدلالي ولا الشهود في أنفسهم، ولا على شيء من النقل، فلم يكن لهم علم شهودي . والمراد بالشهادة شهادة الأداء، والإشارة (هذا) إلى المحرّمات التي تقدّم نقلها عنهم ، والخطاب تعجيزي يكشف

ص: 433

عنهم بأنّهم مفترون في دعواهم . و (هلُمّ) اسم فعل لا ينصرف عند أهل الحجاز، وفعل يؤنث ويثّنى ويجمع عند بني تميم، وهو مبني . وذكر بعض النحويّين أنّ الضمائر قد تتّصل بالكلمة وهي حرف أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال . وإنّما اقتصر عليه دون (هاتوا) وغيره لئلا يحضروا أي أمريء أرادوا ليقول ما يشاء. ولكن إضافة الشهداء إليهم ووصفهم بما وصفهم ليكونوا جماعة، ويكون المطلوب إحضارهم لتكون شهادتهم مشتملة على أدلّة صحيحة، لتكون شهادتهم مقبولة .

فيكون مفاد الآية إنكم لم تكونوا على حجّة ولم تقدروا على إقامتها ، فإذا كان عندهم شهداء فأحضر وهم عند رسول الله صلّي الله علیه و آله ، ليشهدوا إنّكم تلقيتم عنهم ، فإذا لم تقدروا على إحضارهم ولن يحصل ذلك أبداً. فلم يقم برهان على تلك المحرّمات ، وفيه الكناية على عدم التحريم .

في بيان أنّ الرسول صلّي الله علیه و آله هو الشاهد على الحقّ في دار الدُّنيا

قوله تعالى : «فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ» .

أي لا شاهد فيهم من يشهد بذلك شهادة حقّ ، لأنّها دعوى كاذبة، وهم يتّبعون أهواءهم، فلا يُعباً بشهادتهم فلا تشهد معهم، فيكون المراد بعدم الشهادة عدم تصديقهم لا السكوت عنها . والآية تشير إلى أمر اجتماعي يتخذه أهل الباطل في فرض دعاويهم المفتراة على السذّج من أفراد الناس، ويتوسّلون بشتّى الأساليب التي حكاها عزّ وجلّ في القرآن الكريم ومنها إدّعاء الشهادة ، وليست هي في الواقع شهادة بالمعنى المعروف بل هي دعاوي مفتراة ، وفي هذه الحالة لابدّ لأهل الحقّ بيان فساد ما ادّعوه ، لأنّ السكوت عليه يكون مضرّاً كما هو معلوم ، وفي الآية تذكير بما يجب أن يترتّب على الشهادة.

وفي الآية الدالّة على أن الرسول صلّي الله علیه و آله هو الشاهد على الحقّ في دار الدُّنيا، وكلّ شهادة على حكم تشريعي لابدّ أن ترجع إليه للتصديق عليها وإلّا كان باطلاً.

ص: 434

قوله تعالى : «وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا» .

تثبيت لمضمون ما سبق ، فإنّ كلّ من كذّب بالآيات فهو متبّع للهوى ، كما أنّ متّبع الحجّة لا يكون إلّا مصدقاً بها، فتكون شهادتهم من إتبّاع (الهوى) وأنّ شهادتك إتّباع لأهواءهم ، وهذا المعنى يستفاد من وضع الظاهر موضع الضمير فلم يقل ولا تتّبع أهوائهم لبيان أنّهم أصحاب هوى وظنّ لا أصحاب حجّة ويقين ، وقد ظهر أنّهم كذّبوا بآيات الله تعالى الباهرات .

قوله تعالى : «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».

أي إنّهم على جهلهم وكونهم متّبعين الأهواء لا يؤمنون بالآخرة، وهمّ مشركون يتّخذون غير الله عدلاً له سبحانه ، ولا ريب أنّ إنكار الآخرة واتّخاذ الشركاء هما أساس كلّ رذيلة ، وفيهما البُعد عن الحقّ والواقع ، والآية الشريفة تدلّ على سوء اعتقادهم وأعمالهم .

***

ص: 435

بحوث المقام

بحث دلالی :

يستفاد من الآيات الشريفة أُمور :

الأوّل : يرشد قوله تعالى : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَام نَصِيباً» إلى أنّ هذا الجعل من المشركين هو خلاف حقّ الطاعة الذي يلزم العبد أن يكون مطيعاً لخالقه، ولا يتصرّف خلاف إرادته ومشيّئته، فهو الذي ذراً وخلق الحرث والأنعام لينتفع الإنسان ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» (1)، ولأجل ذلك ذمّهم وذمّ حكمهم فقال : «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» لأنّه خلاف الفطرة وحقّ الطاعة، وتصرّف منهم في شؤون الخالق العظيم.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ» على أنّ التزيّين الباطل الذي يستولي على شعور الإنسان ومشاعره، يكون موجباً لطمس نور الفطرة، وعدم الاستفادة من حكمة العقل الذي يأخذ بزمام النفس الأّمارة ، فيكون التزيين سبباً في الإقدام على أعظم الجرائم التي منها قتل الأولاد، الذين جعل الله تعالى العطف والرافة بهم في القلوب، وبلغ بهم التزييّن حتّى سلب منهم تلك الرأفة والعطف .

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ» أن مشيئة الله عزّ وجلّ إنّما تتعلّق بالخير إذا كان في النفس الاستعداد الفطري ولها القابليّة بالافتراء على الله عزّ وجلّ، فلا فيض من المبدأ الفياض ينالهم.

وبعبارة أُخرى: المقتضي موجود وهو فيض الفيّاض، ولكن الموانع عديدة،

ص: 436


1- سورة البقرة الآية 29

والحُجب متعدّدة، وقد حصلت بفعل الإنسان، ولعلّ قوله تعالى : «فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى ذلك ، فأوكلّهم الله تعالى إلى أنفسهم الرديئة وأفعالهم السيّئة. وأحكامهم المفتراة التي حكاها عزّ وجلّ عنهم .

الرابع : يستفاد من الآيات التي سردت أحكامهم المفتراة أنّها تخالف العقل والنقل ، فأرشد إلى الأوّل قوله تعالى : «قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ»، فقد حرموا على أنفسهم ما أباحه العقل لهم من دون أن يكون منعاً عقليّاً فى البين . وأمّا النقل فقد بيّنه عزّ وجلّ بقوله : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ... الآية» فقد توافق العقل والنقل على بطلان ما افتروه، ولعل ذكر الوصفين الجليلين «إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى ذلك .

الخامس : يستفاد من الآيات الشريفة أيضاً كيفيّة المجادلة مع المشركين وأرباب الجهل بالحقائق ، فقد بيّن سبحانه ابتداءً ما أحله الله لهم، فقد خلق الجنّات التي تشتمل على الأنواع المتعدّدة من الثمار والفواكه وأصناف من الزرع ، كما أنشأ الأنعام على أنواع حمولته وفرشاً ، ثمّ بيّن أنّ كلّ ما يكون خلاف ذلك إنّما هو من خطوات الشيطان وخلاف إذنه ومشيئته عزّ وجلّ ، ثمّ دخل في مجادلتهم في كلّ واحد من تلك الأحكام، ومطالبتهم بالدليل على تصرفاتهم، وهو منحصر بالعقل أو النقل أو شهادة الشهود على إذن الله تعالى لهم ، وفي ضمن ذلك بيّن عزّ وجلّ أنّه لم يحرّم إلّا أُموراً معلومة قد ذكرها ، كما حرّم على اليهود بعض الأُمور الأُخرى، فليس في دين الإسلام ودين اليهود إلّا ما ذكره عزّ وجلّ ، فمَن يكذِّب الله تعالى فيها عليه إقامة الحجّة، وإلّا فإنّ مآله العذاب الذي أعدّه للمجرمين الذين خالفوا الأحكام الإلهيّة ، فكانت آيات عظيمة تبين كيفية المحاورة مع المخالفين ومقارعة الباطل وإبطال ظلم الظالمين ، ويستفاد منها أنّ المحاجّة لابدّ أن تكون معهم على سبيل التدريج مع برهان قويم.

ص: 437

السادس : يدلّ قوله تعالى : «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ» على أنّ الله تبارك وتعالى لا يؤاخذ العباد بالذنوب والآثام، إلّا إذا تمادوا في الطغيان واقترفوا السيّئات والآثام، علّهم يرجعون إلى رشدهم فيتركوا العصيان، فقد سبقت رحمته غضبه، ولعلّه لأجل ذلك قدّم الرحمة على العذاب في المقام .

السابع : يدلّ قوله تعالى : «كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» على اشتراك جميع الظالمين من المشركين والكافرين وسائر العتاة والجبابرة في أمر واحد واجتماعهم عليه؛ وهو أنّ الله عزّ وجلّ شاء أن يكونوا كذلك، ولو أراد منهم غيره لأبدلهم إلى ما يريد ، وقد أبطل عزّ وجلّ ذلك بوجوه عديدة :

أولاً : إنّه لو أراد منهم ذلك لما عذّبهم ، كما قال تعالى : «حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا».

وثانياً : إنّها دعوى تحتاج إلى حجّة وبرهان قال تعالى: «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا» .

وثالثاً: إنّه مجرّد خرص وتخمين، وأنته مجرّد الظن والكذب على الله تعالى.

ورابعاً : إنّ الله الحجّة الواضحة الدامغة، فإنّه لو شاء أمراً لكم فإنّه يشاء ما يريده وهو الهداية لكم أجمعين .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا» أنّ كلّ حكم يصدر من أي فرد لا بدّ أن يكون مستنداً إلى شهادة ودليل، وإّلا يكون حكماً بغير دليل وهو باطل عند الجميع ، وفي مثل تلك المحرّمات التي حكاها عزّ وجلّ عنهم ، لابدّ من إقامة دليل أو شهادة تتوّفر فيها شروط الشهادة ليشهدوا أنّ الله حرّم هذا، وقد بيّن عزّ وجلّ فيما سلف أّنه لا دليل لهم أبداً، فتكون افتراءات على الله تعالى .

التاسع : قد ورد نظير قوله تعالى : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا

ص: 438

أَشْرَكْنَا وَلا أَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» في سورة النحل: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا أَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(1)، والمقصود فيهما واحد ، وإن اختلفا في العبارة ، ولعلّه يرجع إلى أنّ آية المقام قد سبقها الخطاب مع مشركي العرب واليهود وقد ألحقوا بما حرّم عليهم التحريف والتبديل، فكان الخطاب مع كلا القبيلين . وأمّا آية النحل فلم يكن الخطاب إلّا مع العرب، وقد أطنب سبحانه في تذکیر هم ووعظهم ، وبسط لهم ذكر نعم ودلائل ، فناسب هذا الإسهاب قوله تعالى المزبور ولم يكن يناسب آية الأنعام .

***

بحث روائي:

في «المجمع» في قوله تعالى : «فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ... الآية» قال : إنّه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل الله تعالى ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل الله بما جعل للأصنام تركوه ، وقالوا : الله أغنى ، وإذا تخرق الماء من الذي الله في الذي للأصنام لم يسدّوه ، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي الله سدوه وقالوا : الله أغنى.

عن ابن عبّاس وقتاده ، وهو المروي عن أئمّتناعلیهم السّلام .

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِين...».قال : قال : يعنى أنّ أسلافهم زيّنوا لهم قتل أولادهم .

وفيه في قوله تعالى : «وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ» قال : قال : الحجر محرم .

وفيه في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ... الآية» قال : البساتين.

ص: 439


1- سورة النحل : الآية 35

وفيه في قوله تعالى: «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ...» أخبرنا أحمد بن إدريس ، قال : حدّثنا أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن شعيب العقرقوفى ، قال : «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قوله تعالى: «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ»، قال : الضغث من السنبل والكف من التمر إذا خرص . قال : وسألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته ؟ قال : لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته» .

أقول : روى مثله العيّاشي في «تفسيره» ، وهو يدلّ على أنّ الحقّ المذكور فى الآية الشريفة ليس من الزكاة بل صدقة مندوبة .

وفيه عن أحمد بن إدريس، عن البرقي ، عن سعد بن سعد ، عن الرضا علیه السّلام إنّه سُئل : «إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع ؟ قال : ليس عليه شيء» .

وفي «الكافي» عن علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن الحجّاج ، قال : «سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول : في الزرع حقّان؛ حقٌّ يؤخذ به ، وحقٌّ تعطيه . قلت : وما الذي أُخذ به وما الذي أُعطيه؟ قال : أمّا الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأمّا الذي تعطيه فقول الله عزّ وجلّ : «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ» يعني من حصدك الشيء بعد الشيء ولا أعلمه إلّا قال : الضغث تعطيه ثمّ الضغث حتّى تفرغ» .

أقول : وهو يدلّ على أنّ الحقّ المذكور فى الآية ينطبق على كلا الحقّين، فإذا توفّرت شروط الواجب كان واجباً، وإلّا فهو حقٌّ مندوب ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار، وذكرنا أنّ الآية لا تأبى عن ذلك .

وفيه: بإسناده عن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا علیه السّلام، قال : «سألته عن قول الله عزّ وجلّ : «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا» كان أبي يقول : من الإسراف في الجذاذ أن يتصدّق الرجل بكفيه جميعاً، وكان أبي إذا حضر شيئاً من

ص: 440

هذا فرأى أحداً من غلمانه يتصدّق بكفيه صاح به : أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة ، والضغث بعد الضغث من السنبل».

أقول : هذا أحد وجوه الإسراف ، وقد ورد مضمونه في عدّة روايات.

في «الكافي» عن القمّي بإسناده عن مصادف ، قال : «كنت مع أبي عبد الله علیه السّلام في أرض له وهم يصرمون ، فجاء سائل يسأل، فقلت : الله يرزقك ، فقال : مه ليس ذلك لكم حتّى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم وإن أمسكتم فلكم» .

أقول : وهو شاهد على ما ذكرناه .

وما رواه أيضاً عن ابن أبي عمير، عن هشام بن المثنّى ، قال : «سأل رجل أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ : «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري - وسمّاه - وكان له حرث ، وكان إذا أجذ يتصدّق به ويبقى هو وعياله بغير شيء فجعل الله عزّ وجلّ ذلك إسرافاً».

أقول : إنّ الروايات في مضمون ذلك متعدّدة، وكلّها تشير إلى وجوه الإسراف ، وهي من باب الجري والتطبيق .

وفي كتاب «الخصال»: عن محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري ، بإسناده يرفعه إلى أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «ليس في الطعام من سرف.

وعنه علیه السّلام قال : للمسرف ثلاث علامات : يشتري ما ليس له ، ويلبس ما ليس له ، ويأكل ما ليس له» .

وفى «الدّر المنثور» أخرج ابن المنذر والنحّاس، وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخُدري، عن النبيّ صلّي الله علیه و آله في قوله : «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ» قال: «ما سقط من السنبل».

أقول : إنّه حقّ مندوب ، كما عرفت .

وفيه: أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم

ص: 441

والنحّاس، والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ» قال : نسخها العُشر ونصف العُشر .

أقول : قريب منه ما رواه عن الضحاك .

وفيه أن لا منافاة بين آية المقام وآية الزكاة حتّى يتحقّق النسخ .

وفيه: اخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ميمون ابن مهران ويزيد بن الأصم ، قال : كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد، فيجيء السائل فيضرب به بالعصا فيسقط منه، فهو قوله : «وَأَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ».

أقول : تقدّم ما يتعلّق به .

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى : «ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ...» فهذه التي أحلّها الله في كتابه في قوله : «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج» ، ثم فسّرها في هذه الآية فقال : «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ»، فقال علیه السّلام في قوله : «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» عَنيَّ الأهلي والجبلي «وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ» عنيَّ الأهلي والوحشي والجبلي «وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» عنيَّ الأهلي والوحشي والجبلي «وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ» يعني البخاتي والعراب فهذه أحلّها الله .

أقول : ورد مضمونه فى عدّة روايات رواها الكليني في «الكافي». والصدوق في «الاختصاص» ، والعيّاشي في تفسيره عن داود الرقي وصفوان الجمال عن الصادق علیه السّلام ، فيكون المراد من الزوج الأعمّ من القرين والمشابه وإن اختلفا في الأهليّة والوحشيّة ، وعرفت في التفسير ما يتعلّق به ، ويأتي مزيد بيان .

وفي «تفسير العيّاشي» عن حريز ، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «سُئل عن سباع الطير والوحوش، حتّى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل،

ص: 442

فقال : ليس الحرام إلّا ما حرّمه الله في كتابه ، وقد نهى رسول الله صلّي الله علیه و آله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير ، وإنّما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام . وقال : اقرأ هذه الآية: «قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْنَةٌ أَوْ دَما مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ»».

أقول : وفي معناه روايات أُخرى وإن اختلفت في التفصيل والإجمال، وفي بعضها إنّما الحرام ما حرّمه الله في كتابه ، ولكنّهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها ، والموضوع مذكور في الفقه كتاب الأطعمة والأشربة، حيث فصلّ الفقهاء المحرّمات والمكروهات، وقد ذكر الأئمّة الهُداة علیهمالسّلام القواعد عامّة في محرّمات الطير ومحرّمات السموك ، ومحرّمات الحيوانات من الوحوش ونحوه ، وميّزوا بين الطيبات والخبائث، بما لا يكون في أيّ مذهب آخر تفسيراً لقوله تعالى :«وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ»(1).

وفي «المجمع» في قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ – الآية» إنّ ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراء هم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرّم الله ذلك ببغيهم على فقراءهم، ذكره علي بن إبراهيم في «تفسيره».

وفي «أمالي الشيخ» بإسناده عن مسعدة بن زياد، قال : سمعت جعفر بن محمّد علیه السّلام وقد سُئل عن قوله تعالى: «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» فقال : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي كنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟؟!! وإن قال : كنت جاهلاً . قال : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجّة البالغة».

أقول : الرواية من الأدلّة التي تدلّ على مؤاخذة الجاهل، وعدم معذورية

ص: 443


1- سورة الأعراف : الآية 157

الجهل ، ومضمونها من مصاديق الحجّة البالغة التي هي كثيرة ومنها الرُّسل والأئمّة الهداة .

***

بحث عرفاني يتضمّن بعض الإرشادات والتوجيهات للمؤمنين :

تتضمّن الآيات الشريفة بعض الإرشادات والتوجيهات للمؤمنين ، وتبيّن بعض الصفات الرذيلة التي تُبتلى بها النفس، وتكون حُجباً وعقبات لابدّ من أزالتها لمن أراد السير والسلوك إلى الله تعالى، ومن جملتها الإدّعاءات الكاذبة التي ترجع الإنسان إلى القهقرى، وقد ذكر عزّ وجلّ بعض وجوه العلاج، وأهمّها عدم أتباع خطوات الشيطان فإنّه العدوّ المبين الذي يوقع الإنسان في الضلال، ويبعّده عن مولاه الحقّ ، ومن أهمّ مصايده هو الميل إلى الشهوات والاحتجاب بغير الله عزّ وجلّ والتدخّل في شؤونه ، فيحرّم ويحلِّل من دون إذن منه عزّ وجلّ ، فيكون من المشركين المحجوبين عن خالقهم، وهو من أعظم الظلم، وآثاره وخيمة على النفس ، وعلى الفرد والمجتمع .

كما بيّنت الآيات إن الحكم على الله عزّ وجلّ بما لا يرتضيه من الشرك، وفيه تكذيب الرُّسل وإتّباع للظنّ وكلّ واحد منها ظلم عظيم ، ولم يصل أحد إلى هذه المرتبة الدانية إلّا بعد أن فقد الاستعداد الذي أودعه الله تعالى في النفس. وكيف يحكم على الله تعالى ويفتري عليه والحجّة قائمة عليه، ولا يمكن أن يغفل أحد عنها ؟ وقد ابتعد عن الهداية ولم يشأ الله عليه عزّ وجلّ أن يهديه، وعلى العبد المريد تذكرّ نعم الله تعالى عليه، ويلتزم بحقّ العبوديّة، ولا يحكم على نفسه أو على غيره إلّا بعد مراجعة الحجّة التي جعلها الله، وما يرتضيه وما أنزله على رسوله صلّي الله علیه وآله والأئمّة الهُداة، والاسترشاد منهم ومعرفة طرق الهداية، وأنّ الدخول في مرضاة الله عزّ وجلّ يحتاج إلى مراقبة النفس، والجهاد معها جهاداً مريراً،

ص: 444

والتضرّع إلى الله سبحانه وطاعته في جميع أُموره ، وممّا أرشد إليه سبحانه هو الاهتمام بالطعام الذي يطعمه بأنّ يكون خالياً من المحرّمات، وبعيداً عن المشتبهات، فإنّه أمر خطير وأثره عظيم ، ولا ريب أنّ الهدف كبير لا يمكن الوصول إليه بالدعاوي والأوهام وإتّباع الظنّ فإنّه لا يُغنى عن الحقّ شيئاً ، نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل دعاوينا ،حقائق ويلهمنا الصبر، ويثبّتنا على الإيمان، فإنّه لا مفرّ إلّا إليه سبحانه .

***

ص: 445

سورة الأنعام، الآية 151 - 157

الآية 151 - 157

«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيْنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدَى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَاب بمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157) ».

بعد أن بيّن عزّ وجلّ في الآيات السابقة محرّمات الطعام على اليهود والمسلمين ، وأتمّ الحجّة البالغة على المشركين الذين حرّموا على أنفسهم ما لم

ص: 446

يحرّمه الله تعالى، وأظهر زيف دعاويهم وبطلان افتراءاتهم ، يبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآيات أُصول الفضائل وقواعد الأخلاق، وهي من الحكم المتعالية التي لا تختصّ بشريعة خاصّة من الشرائع الإلهيّة، وهي الوصايا العشر المعروفة فيها، وهى عدم الشرك بالله تعالى، والإحسان بالوالدين، وعدم اقتراف الفواحش وحرمة قتل النفس المحترمة بغير حقّ، وقتل الأولاد خشية إملاق ، والنهي عن اقتراب مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن، ووجوب إيفاء الكيل والميزان بالقسط ، وحرمة الظلم في القول ، ووجوب الوفاء بعهد الله ، والنهي عن إتّباع غير سبيل الله المؤدّي إلى الاختلاف في الدين، وأوصى الله تعالى بها في جميع الشرائع الإلهيّة وتعتبر من أركان الدين الإلهي الذي لا يستقيم أمره إلّا بإقامتها كما قال عزّ وجلّ : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(1).

***

ما يتعلّق بأمر الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بإبلاغ أعظم الأحكام الإلهيّة

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ».

أمر لرسوله صلّي الله علیه و آله بإبلاغ أعظم الأحكام الإلهيّة التي ترجع إلى إصلاح أحوال الإنسان وسعادته، بعد أن ظهر بطلان أحكام المشركين المُفتراة، وعدم وفائها بالمصلحة المتوخّاة منها والأسلوب البليغ الذي ورد في الآيات في بيان هذه الأحكام، ممّا يدلّ على أهمّيتها وعظيم أثرها في إصلاح الفرد والمجتمع ، وهي تدلّ على انحصار الحكم فيها دون غيرها فيجب إتّباعها .

و(تعال) أمر من التعالى وهو مشتقّ من العلوّ ، يقال لمن كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثمّ اتّسع فيه بالتعميم ، وفيه الإشارة إلى أنّ ما أنتم عليه لا قيمة

ص: 447


1- سورة الشورى : الآية 13

له، والذي يلقى إليكم هو الأعلى في الكمال .

و (أتل) جواب الأمر وهو بمعنى السرد ، قيل : إنّه أنصّ من التلاوة بمعنى القراءة ، وما في (حرّم) إمّا موصولة والعائد محذوف ، أي أقرأ الذي حرمّه ربّكم. أو مصدرية أي تحريمه ، وهي في موضع نصب على كلا الاحتمالين على المفعولية لحرّم . والجملة مفعول (أتل) . و(عليكم) إمّا متعلّق بقوله (أتل) أو قوله (حرّم) على طريق التنازع في المتعلّق . وفي التعرّض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميرهم کمال العناية ، وإن ذلك من شؤون الربوبيّة العظمى .

قوله تعالى : «أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .

شروع في سرد الأحكام مما حرّم وما أوصى به من البرّ، وهي عشر خصال جامعة للخير، لا تختصّ بشريعة من الشرائع الإلهيّة ، ولعلّ ما ورد من الوصايا العشر التي وصّى بها موسى بن عمران علیه السّلام بني إسرائيل ترجع إلى هذه الخصال التي هي من المحكمات التي لم يعترها إجمال ونسخ .

وقد أورد سبحانه بعضها بصيغة النهى والبعض الآخر بالأمر بالضدّ ، وهو من الأسلوب البلاغي الخاصّ الذي اقتضاه المقام ، كما ستعرف .

و(ألاً) تفسيريّة اختلف النحاة في إعرابه ، والمعروف إنّ (أن) تفسيريّة ولا ناهية ، وقد عرفت في أحد مباحثنا الأدبية أنّ أكثر خلاف النحويّين في إعراب الآيات إنّما يرجع إلى تطبيق القرآن المجيد على قواعدهم النحوية، فيقع التصادم فيذهبون إلى التأويل والاختلاف فيه ، ولو كان الأمر على عكس ذلك واستخرجوا القواعد النحوية من القرآن الكريم وإرجاع الغير إليها لكانوا قد سلموا من الكثير من الإشكالات.

و (شيئاً) منصوب إمّا على المصدرية ، أو على المفعولية . وفيه التأكيد على نبذ الشرك بكلّ وجوهه وأنحائه ، وسدّ الأبواب فيه أبداً.

ص: 448

وإنّما بدأ سبحانه بنبذ الشرك وقدّمه على سائر المحرّمات، لأنّه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة الإلهيّة معه ، كما قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» (1)، ولأنّه أساس كلّ رذيلة ، كما أنّ التوحيد أساس الكمالات والفضائل ، كما أنّه خروج عن الفطرة وقواعد الخلق ، فاجتمع فيه الظلم العقائدي والظلم العملي. وهو القبيح الذي لا يجتمع مع الحسن أبداً.

قوله تعالى : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً».

وهى الوصية الثانية ، أي أحسنوا بالوالدين إحساناً كاملاً لا إساءة فيه ، ولم يبيِّن نوع الإحسان إيكالاً له إلى العرف ، وإن ذكر بعض صغرياته في السنّة الشريفة ، وقد ذكر تعالى إحسانهما بعد التوحيد في مواضع عديدة من القرآن الكريم، فيأمر به بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، نظير قوله تعالى : «وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(2).

وقوله تعالى حكاية عن لقمان : «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ... الآية» (3).

وهو يدلّ على عظيم منزلتهّما ، فيكون عقوقهما من الذنوب الكبيرة وفي عداد الشرك بالله سبحانه ، ولعلّ الوجه يرجع إلى جهات عديدة :

منها : كونهما العلّة القريبة فى إيجاد الأولاد، وأنّ الله تعالى هو علّة العلل . فهما السبب القريب في تكوين الولد فيكون كلّ واحد منهما ولّى النعمة على الولد بعد الله تعالى الذي هو ولّي النعم على الجميع .

ص: 449


1- سورة النساء : الآية 48
2- سورة الإسراء : الآية 23
3- سورة لقمان : الآية 13 - 14

ما يتعلّق بمعنى الإحسان والحياة الأسرية الكريمة

ومنها : إنّ بقاء النسل الذي هو قوام حياة المجتمع الإنساني وامتداده على مرّ العصور، لا يتحقّق إلّا بإقامة الأسرة التي لا تقوم إلّا بالوالدين ثمّ الأولاد، فيكون الوالدان هما السبب التام في حدوث المجتمع وبقائه.

ومنها : إنّ حياة الأُسرة التي تعتبر نواة المجتمع المعنوية، لا تقوم إلّا برابطة الحبّ والرحمة بين أطرافها ، فالأولاد يحتاجون إلى رحمة الوالدين، ولا تتحقّق إلّا بإحسان الأولاد بهما بالطبع لتتحقق الحياة السعيدة لهم .

ومنها : إنّ الإحسان بهما يشدّ الروابط الأُسريّة والاجتماعيّة .

ومنها : إنّ الإحسان إليهما يجعل الرحمة والعطف من أهمّ الروابط التي تربط الأفراد، فإنّ من أحسنتَ إليه يتّصل بك .

إلى غير ذلك من وجوه الحكمة، وهي تكفي أن تكون داعياً إلى الإحسان إليهما في جميع مراحل أعمارهما ، وإن كانت حاجتهم إلى رأفة الأولاد ورحمتهم أشدّ في سنّ كبرهما وزمان عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجباتهما الحياتية، فهو أدعى بالطبع بالإحسان إليهما في هذه المرحلة .

و تظهر أهمّية هذا الحكم الإلهي وعظيم آثاره في نفسية الآباء والأبناء معاً وتحسين أخلاقيّتهم، ويسري ذلك إلى أخلاق المجتمع أيضاً، وإذا أردنا إثبات ذلك إنّما يكون فيما لو تبدّل الإحسان إلى العقوق وآثاره الوخيمة على الأفراد والمجتمع التي لا يمكن إنكارها من أحد، فإنّه يورث القسوة في القلوب وانتزاع العاطفة بين الأفراد، وبطلان عاطفة التوليد والتربية ، واستبدال الكراهيّة في النفوس بالتواد والرأفة ، ثمّ ينتشر فيشمل المجتمع الكبير ، وربما يؤدّي إلى انتزاع حنان الأُمومة والأُبوّة من الوالدين، وهو يدعو إلى ترك التناسل وانقطاع النسل، وهذا يؤدّي إلى فناء النظام الاجتماعي للإنسان، أو ينتهي إلى تأسيس نظام جديد يفتقد فيه مقوّمات الروابط فيها ، فتنتفي القرابة وانهدام رابطة الرحم فيهم، فيتشتّت

ص: 450

شملهم ويتفرّق جمعهم ويفسد أمرهم ، وحينئذٍ لا يمكن إصلاحه لا بقانون وضعي ولا سنّة دائرة، فلا يكون إلّا خراب العباد والديار حيث لا سعادة ولا صلاح ، هذا كلّه من حيث الآثار المادية، وأمّا الآثار المعنوية فلا يمكن التغافل عنها، فإنّها أشد تأثيراً على الإنسان، فما أعظم هذا الحكم الإلهى وأشدّ أثره على الإنسان؟!!

ثمّ إنّ الإحسان يتعدّى تارةً بالباء ، وأُخرى ب- (إلى) فُيقال : أحسن به وأحسن إليه ، والأوّل أبلغ ، ولذا كان بالوالدين وبذي القربي أليق؛ لأنّه يشعر بالاتّصال وعدم الانفصال بين الطرفين، ولم ترد هذه التعدية إلّا في موضعين أحدهما في سورة يوسف حكاية عنه علیه السّلام : «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ»(1).

والثاني في آيات إحسان الوالدين كآية المقام، وسورة الإسراء، وسورة البقرة، وسورة النساء ، وقد عطف في الأخيرتين ذو القربي على الوالدين تبعاً، وقد ورد في سورة الأحقاف : «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً» (2)، ونظيرتها آية سورة العنكبوت ، فإنّ الباء فيهما متعلّقة ب- «وصَّيْنَا» .

وكيف كان ، فإنّ المستفاد من جميع ذلك عناية الشرع بأمر الوالدين لاسيما مع اقترانه بعبادته ، وجعله في الوصاية بالإحسان بهما ، ويدلّ على ذلك الأسلوب المشتمل على الصيغة والتعدية .

قوله تعالى : «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» .

وهي الوصيّة الثالثة ، أي لا تقتلوا أولادكم من فقر واقع بكم، فإنّه عزّ وجلّ هو الذي يرزقكم وإيّاهم تبعاً ، والإملاق الإفلاس والافتقار ، يقال : أملق الرجل

ص: 451


1- سورة يوسف : الآية 100
2- سورة الأحقاف : الآية 15

إذا افتقر ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين أحدهما المقام، والثاني في قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» (1)، وإن اختلف الأخير في تقديم رزق الأولاد على رزق الوالدين عكس آية المقام، ولعلّه يرجع إلى الفقر الواقع والمتوقّع ، ولكن لا فرق بينهما في تعليل النهي ، فإنّه قد ضمن رزق العباد في كلتا الحالتين مع توفّر الشروط والأسباب من العبد.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ورد في المقام يمكن أن يكون بياناً لقوله تعالى : «قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ» فإنّ السفاهة ظاهرة في قتل الأولاد، لأجل خوف الفقر مع ضمان الرزق من الله تعالى، وإنّه جهل منهم بسنن الله تعالى في خلقه ، فكان في قتل الأولاد مضافاً إلى كونه إساءة لهم وخلاف الرحمة المودعة في القلوب اتّجاههم ، إنّه جهل وسفاهة ، فيظهر سرّ النهي في قتل الأولاد، فإنّ أثر قتلهم كبير ، ومنه يمكن تعميم الحكم للقتل المعنوي لهم من ترك تربيتهم على الوجه الصالح، وإرغامهم على الشرك والعصيان، أو إهمالهم ليختاروا العناد مع الحق والاستكبار عليه ونحو ذلك مما يوجب إفساد فطرتهم .

قوله تعالى : «وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ».

وهي الوصيّة الرابعة. والفواحش جمع فاحشة، وهي الأمر الشنيع . المستقبح ، كالزنا واللّواط وقذف المحصنات التي وردت في القرآن الكريم، فيكون الجمع إمّا لأجل تعدّد مصاديقها ، أو للمبالغة ، أو باعتبار تعدّد من يصدر عنه . والمراد بما ظهر وما بطن إمّا ما ظهر عمل المعصية وما بطن إرادتها ، أو ما ثبت حرمته بالكتاب وما بطن ما ثبت بالنصّ ، أو المراد بما ظهر التظاهر بالمعصية وبما بطن الاستتار بها ، وإن كان الأخير أوفق بالسياق ، فإنّ النهي قد تعلّق بمطلق

ص: 452


1- سورة الإسراء : الآية 31

الفاحشة، وإتيانها يختلف حسب حالات المتعاطي بها، فتارةً يأتي بها على نحو العلن ، وأُخرى يأتيها سرّاً، كما هي عادة الأغنياء وأمثالهم في المجتمع .

ولا ريب أنّ الفاحشة مع كونها مخالفة لسنن الله تعالى المودعة في الخلق ، تورث الأمراض النفسية والخَلقية والخُلقية في المتعاطي بها ، والجيل الناشئ منها ، والمجتمع ، كما أثبتتها العلوم الحديثة ، ونبّه إليها رسول الله صلّي الله علیه و آله و الأئمّة الهداة علیهم السّلام قبل ذلك ، وما الحياة التي يعيش فيها الإنسان اليوم التي ملئت بشتّى الأمراض حتّى مسخ فيها الأفراد إلى غير حقيقتهم، لدليلٌ واضح إلى ما نبّه إليه القرآن الكريم والدِّين القويم ، كما أنّ فيها إرسالاً للشهوة الجامحة التي لابدّ من كبحها بما يوافق النظام التشريعي والاجتماعي ، وأنّ في استباحتها إبطال فحشها وشناعتها وهو من أعظم الفساد.

قوله تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ».

وهي الوصيّة الخامسة ، أي لا تقتلوا النفس التي حرّم الله قتلها وعصمها بالتشريعات الخاصّة بها ، فصارت لها حرمة تقيها وتحميها من السفك والضياع في دم أو حقّ ، وقد اختص بها الإنسان إلّا من أسقط الشارع حرمته . وهذا الحكم وإن كان داخلاً في الفواحش التي نهى الله سبحانه اقترابها فيحرم من هذه الجهة فيكون تخصيصه بالذِّكر تعظيماً لأمره ، وتفخيماً لشأنه، فإنّ في استباحة القتل إبطالاً للأمن والاستقرار اللّذين يتقوم بهما نظام الاجتماع ، كما كان الأمر كذلك فى قتل الأولاد ، فاختصّ بالذكر عناية به ، ولإبطال العادة السيّئة فيه ، وبيان فساد زعمهم من أن خشية الإملاق يبيح للوالد قتل أولاده، أو لأجل صيانة ماء وجهه من الابتذال وغير ذلك .

وقد استثنى سبحانه من قتل النفس المحترمة قتلها بالحقّ إمّا لأجل القصاص والقود ، أو الحدّ الشرعي كما هو مفصّل في الفقه .

ص: 453

قوله تعالى : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

تأكيد لتلك المناهى الخمسة التي شُرّعت لأجل صلاح الفرد والمجتمع ، ولها التأثير الكبير في سعادتهما ، وتشتمل على المصالح الدنيويّة والأخرويّة العليا ، وأنّ خلافها لا يكون إلّا مزاعم أهل الشرك وأرباب الجهل وتخرّصاتهم، وقد ذكرها عزّ وجلّ لطفاً بعباده ورعاية لشؤونهم، لما تتضمّن كلمة «وَصَّاكُمْ» من الرحمة والرأفة ، وفى جعلهم أوصياء له تعالى فيه من الإحسان لهم كما لا يخفى .

وفي تخصيص العقل بالذكر لأنّه مناط التكليف والمعرفة ، وقد علّل سبحانه تلك المناهي بقوله: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» لما فيه الدلالة على الحسن الذاتي الذي يدركه العقل قبل الشرع الذي يكون إرشاداً له ، ولا يخفى في ذكره من التعريض بالمشركين بأنّ ما هم عليه ممّا لا يقرّه العقل ولا يصدر من عاقل ، وسیاتی مزيد بيان إن شاء الله تعالى

قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .

وهي الوصيّة السادسة ، أي لا تتعرّضوا لأموال اليتامى إلّا بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصوّرة فيها، حفظاً وتصرّفاً واستثماراً وتنميةً وإنفاقاً عليهم، ممّا يرجع إلى صلاح أحوالهم في المعاش وفي الحال والمآل ، كلّ ذلك إلى حدّ معيّن وهو ما ذكره سبحانه فيما يأتى .

وإنّما ذكر القرب في المقام وفي الفواحش ونهاهم عنه، لأنّه أبلغ من النهي عن الشيء، فإنّه يتضمّن النهى عن الأسباب والوسائل التي تؤدّى إليه فضلاً عما يوجب فساد نفس المال، أو ارتكاب نفس الفاحشة . كما أن مجىء التفضيل إنّما لأجل مراعاة مال اليتيم، فإنّه لا يكفي فيه الحالة الحسنة فقط ، ولأن اليتيم أقرب إلى الضعف ولقلّة مراعاته أوجب الاهتمام به والتركيز عليه ، وإلّا فإنّ أموال الناس كلّها ممنوعة عن قربانها إلّا برضاهم . والنهي متوجّه إلى جميع الناس

هو

ص: 454

بلا اختصاص بالولي أو بالوصي، فيشمل كلّ من يتصرف في مال اليتيم بوجه من الوجوه .

وقد اختلف الفقهاء في كون المناط في جواز التصرّف في مال اليتيم هو مراعاة المصلحة، أو يكفي فيه عدم المفسدة ، وأقام كلّ واحد من الفريقين أدلّة مختارهم ، وإن كان الأخير أقرب ، والمسألة مذكورة في الفقه ، فراجع .

قوله تعالى: «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ».

غاية من حيث المعنى لا من حيث التركيب اللفظي لبيان الحدّ الذي يجوز التصرّف فيه إلى أن يبلغ أشدّه ، فإنّه إذا بلغ أشدّه لم يكن يتيماً قاصراً عن إدارة ماله ، فيكون هو المتصرِّف في مال نفسه من دون حاجة تدبير غيره، فينتفي موضوع الحكم، لا أن يكون قيداً للحكم فقط .

والمراد بأشدّه هو البلوغ والرشد الذي لا يبقى معهما سفه ويُتم ، ويدلّ عليه قوله تعالى : «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا»(1) .

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ»

قوله تعالى : «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ».

وهي الوصيّة السابعة أي الوفاء بالكيل والميزان بالعدل والسوية . والإيفاء وإن استلزم العدل فى الكيل والميزان إلّا أنّ القيد «بالْقِسْطِ» يفيد:

أوّلاً : التحرّي للقسط مهما أمكن .

وثانياً : إنّه يجب أن يكون من الجانبين المعطى فإنّه يجب عليه إيفاء ذي الحقّ حقّه من غير نقصان، كذلك يجب على ذى الحقّ أخذ حقّه من غير زيادة .

ص: 455


1- سورة النساء : الآية 6

وثالثاً : إنّه أمر لكلّ مسلم بأنّ يرضى لغيره ما يرضاه لنفسه، فيقيم القسط في جميع أُموره .

وإذا أردنا أن نعلم مقدار تطبيق الآية الكريمة واهتمام المسلمين بامتثالها، يرى العجب وينصدم ممّا يرى من التجافي بين الحكم والتطبيق والتباعد بينهما .

قوله تعالى : «لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا ».

جملة مستأنفة لبيان أنّ مراعاة العدل عسير، فعليكم بما في وسعكم وما وراءه ممّا يتعرّض له الفرد غالباً فقد عفى عنكم ، لأنّ إقامة القسط والوفاء به وإقامة العدل الحقيقى أمرُ دقيق جدّاً، ولا مناص للنفس الإنسانية منه؛ فيستلزم منه الحرج العظيم، والخروج عن الطاعة، وقد وضع الله تعالى عنكم ذلك الحكم والرجوع بما في وسعكم.

وربما تشير الآية الكريمة إلى الجانب التطبيقى على التشريعات الإلهيّة ومراعاة القسط في جميع الأُمور وكلّ الحالات، فإنّه إذا لم يستلزم من تطبيقها عسر وحرج فإنّه يجب الامتثال بكل خصوصيّاتها ، وأمّا إذا استلزم ذلك فلابدّ أن يكون الامتثال بما هو الأقرب إلى الأصل المطلوب، فقد تضمّنت الآية حكماً وتطبيقاً ، ومنه يظهر أنّه يصحّ القول بأنّه يتعلّق ما ورد فيها بالحكمين، وهو عدم القرب لأموال اليتامى والإيفاء بالكيل والميزان .

ويمكن أن يكون قد جيء بها لتهوين أمر تلك الأحكام والتكاليف للإقبال عليها وترغيب الامتثال بها بأنّها ليست شاقّة ولا نكلف نفساً إلّا وسعها ، وتقدّم الكلام في سورة البقرة أيضاً، فراجع .

ولا ريب أنّ في هذا الحكم الإلهي آثاراً عظيمة في بعث روح الطمأنينة في القلوب ، وتثبيت التقوى في النفوس، وإشاعة الأمانة في الأفراد ، والابتعاد عن أكل الحرام الذي له الأثر الكبير في تهذيب النفس ، وقد قصّ الله تعالى في القرآن

ص: 456

المجيد من أنباء الأُمم ما حلَّ بهم من جرّاء ظلمهم واعتراضهم عن الأحكام الإلهيّة ، فقد حكى عن قوم شعیب علیه السّلام ما حلَّ بهم جرّاء تطفيفهم في الكيل والميزان وفي العِظة والعِبرة لغيرهم، وقد قال رسول الله صلّي الله علیهو آله لأصحاب الكيل والميزان : «إنّكم ولّيتم أمراً هلكت فيه الأُمم السابقة».

ما يتعلّق بالعدل والقرابة والوفاء بعهد الله تعالى

قوله تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى» .

وهي الوصيّة الثامنة التي تدلّ على مراقبة الأقوال، سواء كان المقول له أو عليه ، كان فيه نفع للناس أو لا ، فإنّه يجب العدل فيها ، فلا يحملنّكم رحمة أو رأفة أو عاطفة على أن تخرجوا عن العدل فتحرّفوا الكلام وتتجاوزوا الحقّ في الأقوال، فإنّ الهدف هو رضاء الله سبحانه .

و من عطف العدل في الأقوال على القسط في الأفعال، يتحقّق النظام الصالح و تصلح به شؤون الناس ، ولا ريب أنّ العدل أساس الملك وركن العمران، وقطب رحى النظام العام الصالح للبشر ، وبه تتحقّق سعادتهم في الدُّنيا والآخرة . وذكر القرابة للتأكيد على ترك التحابي مع أحد لقرابة ونحوها ، كما نبّه عليه في قوله تعالى : «وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ»، ومن التخصيص بالقول يستفاد أنّ المراد به كلّ ما لا يطّلع عليه إلّا بالقول .

قال في «المجمع» : وهذا من الأُمور البليغة التي يدخل فيها مع قلّة حروفها الأقارير والشهادات ، والوصايا، والفتاوى والقضايا والأحكام والمذاهب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

قوله تعالى : «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» .

هي الوصيّة التاسعة أي الوفاء بعهد الله فلا تخالفوه ، والعهد هو حفظ الشيء بمراعاته حالاً بعد حال ، كذا قاله الراغب ، ويُطلق على التكاليف المشرعة

ص: 457

والوظائف المحوّلة ، والعهد الموثّق ، والنذر واليمين ، كما يشمل جميع ما عهده الله عزّ وجلّ على ألسنة رسله ، وممّا يدعو إليه الفعل والفطرة المستقيمة ، وما يعاهده الناس بعضهم بعضاً مع موافقته لأحكام الشرع المبين .

والمراد به التكاليف الشرعية الإلهيّة ، كما يدلّ عليه إضافته إلى الله عزّ وجلّ، وسياق الآيات التي ذكر فيها الأحكام والوصايا الإلهيّة العامة ، مضافاً إلى كثرة استعماله في القرآن المجيد في التكاليف الشرعيّة، فيكون الميثاق المعقود بين الفرد وربه كقولنا : عاهدت الله على كذا وكذا من مصادیقه ، نظیر قوله تعالى : «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً»(1).

ويستفاد من الإضافة إلى الله تعالى أنّ المعاملة مع العهد تكون معه سبحانه ، كما هو كذلك في إضافة الشهادة إليه في قوله تعالى : «وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ»(2) كما يدلّ عليه تقديم معمول الفعل «أَوْفُوا» عليه فإنّه على الحصر .

ولا ريب أنّ الوفاء بعهد الله عين الطاعة له عزّ وجلّ، والإعراض عنه فسق .

قوله تعالى : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

تأكيدٌ بليغ على أهمية تلك الوصايا وتعظيم شأنها ، وفيه اللّطف والعناية بالموصى إليهم بأن يتذكّروا تلك التكاليف الإلهيّة التي شرعت لسعادتهم، فيكون داعياً للعمل والامتثال، فإنّ فيها الصلاح لهم ، ولا ريب أنّ الذكر والتذكّر لهما الأثر الكبير في إزالة الغفلة والاتّعاظ والدعوة إلى الامتثال ، وقد تكرّر الأمر بتذكّر الإنسان في القرآن الكريم، وفى بعض الآيات أنّه لا يتذكر إلّا من يُنيب، أو إنّ المتذكِّر يكون ممّن يخشى ، وهما يدلّان على عظيم أمر التذكّر فإنّه يورث الإنابة

ص: 458


1- سورة الإسراء : الآية 34
2- سورة المائدة : الآية 106.

والخشية ، وهما من أركان الدعوة الإيمانيّة والعمل .

وقد اختلف المفسِّرون في ذكر التذكير والتفقّه في أواخر هذه الآيات ، وسيأتي الكلام فيه .

قوله تعالى : «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ».

وهي الوصيّة العاشرة التي تدلّ على أهميّة تلك الوصايا الإلهيّة، وأنّها الصراط المستقيم الذي يجب إتّباعه بحكم العقل والشرع، وأنّ الإعراض عنه وإتّباع السُّبل يوجب التفرّق والبُعد عن سبيله سبحانه ، والوقوع في الهلاك ، والمستفاد من هذه الآية الكريمة أُموراً.

أوّلاً : مقتضى سياقها أنّ المراد منها تلك الوصايا التي تمت بها، فصارت عشرة كاملة متكاملة جامعة بين الأمر بالحق والنهي عن الباطل ، وقد أمر الله تعالى رسوله صلّي الله علیه وآله أن يتلوها عليهم.

وثانياً: عظمة تلك الوصايا، فإنّها أُصول التشريعات الإلهيّة، وكلّيات هذا الدِّين.

وثالثاً : إنّ مضمونها ممّا يحكم به العقل الصريح والفطرة المستقيمة ، فإنّه الصراط المستقيم المودع في الخلقة والفطرة، ولا تبديل لخلق الله وذلك الدِّين القيم.

ورابعاً : إنّ الإعراض عن إتّباع الصراط المستقيم يوجب التفرّق عن سبيله ، ولا ريب أنّ فيه الهلاك والشقاء الدائم، نظير ما ورد في قوله تعالى : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (1)، فإنّ الأفراد المذكورين في الآية الداعين إلى

ص: 459


1- سورة الشورى : الآية 13

الصراط قد بلغوا الغاية في الكمال في الدِّين، وهم وإن كانوا متعدِّدين ظاهراً ولكن دينهم وعملهم ومقصدهم هو إقامة الدِّين الإلهي واحد، واتّفاقهم على نشره وإثباته في النفوس والمجتمع وعدم التفرّق فيه ، فإنّه لا خلاف بين سلّاكه .

ما ورد حول معنى الصراط المستقيم

وخامساً : إنّ الصراط المستقيم لا اختلاف فيه بين سالكيه، ولا تخلّف في هدايتهم والوصول إلى الهدف الأقصى والسامي ، فلا يتصوّر فيه التفرّق أبداً من جميع جهاته ، ولعلّه لأجل ذلك أكّد سبحانه عليه بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

وسادساً : إنّ الابتعاد عنه يوقع الإنسان في السُّبل المتعدّدة التي من شأنها التفرّق والخلاف والضياع والوقوع في الشقاء، لأنّه إغواءات شيطانية وأهواء نفسية التي لا تدخل تحت ضابطة ولا تجلب السعادة .

فتكون هذه الآية الكريمة من الآيات الفريدة التي تتضمّن حكماً إلهيّاً، وهو لزوم اتّباع صراط الرسول الكريم صلّي الله علیه و آله الذي هو الصراط المستقيم ، وضماناً على تلك الوصايا بأنّها دين الرسول الكريم صلّي الله علیه و آله، وقد نهوا عن التفرّق عنه، وحرمة اتّباع السُّبل التي توجب التفرّق عن سبيل الله ، فصار مضمونها من الوصايا فاكتملت بها تلك الوصايا السابقة فبلغت عشرة كاملة ، كما عرفت . ومن جميع ذلك يظهر أنّه لا فرق بين أن يكون (أنّ) بفتح الهمزة وتشديد النون ، وتخفيفها عطفاً على موضع قوله : «ألا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً». وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف، فإنّ السياق يدلّ على كون مضمونها أحد الوصايا ، كما تقدّم .

كما أنّ إفراد الصراط المستقيم الذي هو سبيل الله تعالى يدلّ على وحدة الداعين له والهدف الذي يسعون إليه والمسعى، لأنّ الحق واحد بجميع مظاهره، كما أنّ في جمع السُّبل الدلالة على كثرة الباطل، فيشمل ما سوى الدِّين الحقّ .

ص: 460

ويستفاد من قوله : (صِرَاطِي) أنّ صراطه صلّي الله علیه و آله صراط الله عزّ وجلّ، وأنّه : الهدى الذي يجب إتّباعه ، فتكون إضافة الصراط إلى الربّ من حيث الوضع والمبدأ وإليه المنتهى ، وإليه صلّي الله علیه و آله من حيث الدعوة والسلوك ، فهو الصراط الذي لا اعوجاج فيه بوجه من الوجوه، فيجب إتّباعه عقلاً وشرعاً.

قوله تعالى : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

تأكيد بليغ على ملازمة تلك الوصايا والعمل بدين الله سبحانه وامتثال أحكامه المقدّسة، وفيه الدلالة على أنّ الالتزام بهذا الحكم الإلهى، وهو إتّباع الصراط المستقيم، والابتعاد عن سبل الضلال، من أسباب التقوى الجامعة للكمالات ، فإنّها السبب في الامتثال والطاعة والغاية منه ، وهي التي تقرّب صاحبها إلى النجاة، وتُبعده عن العقاب الأبدي والشقاء الدائمي.

أقوال المفسّرين حول الخواتيم في الآيات الثلاث

وقد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث مع اشتراكها في الإيصاء ، فختمت الأُولى بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . والثانية بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .

والثالثة بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

وذهب المفسِّرون في بيان ذلك إلى وجوه أهمّها :

الأوّل : ما ذكره الرازي من أنّ السبب فى ختم كلّ آية بما ذكر، أنّ التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأُولى ظاهرة جلّية فوجب تعقلّها وتفهّمها ، وأمّا التكاليف الأربعة المذكورة في الآية الثانية فهي خفيّة غامضة، لابدّ من الاجتهاد والفكر الكثير حتّى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكّر، وأّما الآية الأخيرة فهي جامعة لجميع التكاليف فيحتاج امتثالها إلى التقوى .

الثاني : ما ذكره الآلوسى من أنّ الآية الأولى قد خُتمت بالتعقّل؛ لأن القوم كانوا مستمرّين على الشرك وقتل الأولاد ، وقربان الزنا وقتل النفس المحترمة بغير حقّ، غير مستنكفين ولا غافلين عن قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون

ص: 461

قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها . وأمّا حفظ أموال اليتامى عليهم، وإيفاء الكيل والميزان، وإقامة العدل في القول، والوفاء بالعهد، فإنّهم كانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتّصاف به فأمرهم الله تعالى بها لعلّهم يذكّرون إن عرض لهم النسيان . وأمّا ختم الأخيرة بالتقوى فلما ذكر آنفاً.

وقال بعض الأعلام: إنّ الآية الأُولى اشتملت على الشرك بالله العظيم وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد من إملاق، وقربان الفواحش، وقتل النفس المحترمة من غير حقّ، وهي مما تدرك الفطرة الإنسانية حرمتها في بادئ النظر، ولا يجترئ عليها الإنسان الذي تميّز عن الحيوان بالعقل إلّا إذا اتّبع الأهواء، وأحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب الحجاب على العقل، فإنّ مجرّد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة، والخروج عن الأهواء والعواطف لا يكون يسيراً، ولذلك ختمت بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ، والآية الثانية قد ذكر فيها الاجتناب عن مال اليتيم ، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط ، والعدل في القول ، والوفاء بعهد الله ، وهي أُمور ليست بمثابة تلك التي ذكرت في الآية الأُولى من الظهور ، بل يحتاج الإنسان في إدراك حالها إلى التذكّر ، وهو الرجوع إلى المصالح والمفاسد العامّة المعلومة عند العقل الفطري، حتّى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة للأفراد والمجتمع وإلقائهما في التهلكة ، ولذلك ختمت بالتذكر .

وأمّا الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرّق والاختلاف في الدِّين، وترك إتّباع سبيل الله، وإتّباع السُّبل المتفرِّقة ، وأنّ من شأن ذلك أن تتمّ التقوى الديني بالاجتناب عنه ، ولذلك عقّب سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» بقوله : «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

والصحيح: هو أنّ الآيات الشريفة الثلاثة لما تضمّنت أرقى التكاليف الإلهيّة، وأعلى التشريعات السماوية التي اشتملت على حِكَم جليلة، وترشد إلى مصالح

ص: 462

ومفاسد واقعية ترجع إلى صلاح الإنسان ، وإعداده إعداداً كاملاً تُعيد نسيم الفطرة في النفوس، وتحيي روح الإيمان في القلوب، بعد أن كادت تموت بسبب أنواع الظلم الذي ارتكبه ، وأعظمه الشرك بالله العظيم الذي أسدل ستاره على العقول حتّى خبانوره، فلم يدرك ما هو الصالح والفاسد له ، كما تأثّرت النفوس بالمعاصي والآثام، فلم تبق مكرمة من مكارم الأخلاق حتّى صارت جاهليّة جهلاء ، فلابد من علاج ذلك بالديِّن الإلهي الذي يحلّ جميع المشاكل، فهو يهذِّب النفوس ، ويُزيل الستار عن العقول ليخرج دفائنها ويُنير القلوب ، ويستثير ما في الفطرة ويخرج ما أودع فيها ممّا يرجع إلى سعادة الناس ويرفع شقاءهم، ومن أهمّ مفردات دين الله تعالى الأحكام التشريعيّة التي هي من أعظم النّظم تراعي جميع الجوانب الروحية والمدنيّة والدينيّة والأخرويّة ، فكان الشرع الإسلامى ناظماً لأمور الدِّين والدُّنيا، ولأجل ذلك نزلت خواتيم تلك الآيات المباركة، لتبيِّن الركائز التي لابد ّمن توفّرها حتّى تؤثّر تلك الأحكام التي وردت في هذه الآيات تأثيراً كاملاً، فهي مترتّبة ومتكاملة، لا يصحّ الفصل بينهما ، وإرجاع كلّ خاتمة إلى الآية دخلت فيها .

فإنّه قد أُبتلى إنسان عصر البعثة بأشدّ أنواع الشرك، وأعظم أنواع الظلم، وكانت لها اثارا سيّئة عليه ، كما أنّه اُبتلي ايضاً بعبادات سيّئة وتقاليد فاسدة أعمت بصائرهم ، فكان لابد ّمن إزالة الغشاوة عنها بالأمر بالتعقّل في أحوالهم، وما همّ فيه من الصفات الرديئة والمَلَكات الفاسدة، وإرجاعهم إلى أنفسهم بأنّهم بشر يختلفون عن سائر الحيوانات، فلابدّ من الوعي والتفكّر لإزالة تلك الحُجب المتراكمة على العقول والنفوس، والرجوع إلى تلك التشريعات القيمة.

فإذا تحقّق ذلك يأتي دور التذكّر بأنّه لابدّ للإنسان من معرفة الصالح والفاسد، ليستفيد من الأوّل ويدع الثاني، ويسترشد بنور الفطرة التي أودع الله

ص: 463

تعالى فيها قوّة تميّز الخير والشرّ، فيعرف أن تلك الوصايا تشتمل على المصالح والمفاسد الواقعيّة، وأنّ تطبيقها يوصل إلى السعادة الدائمة.

فإذا تعقّل وتذكّر المقصود من الخلافة الإلهيّة، فلابدّ من التهيّؤ والاستعداد وهما لا يحصلان إلّا بالتقوى، ليصل إلى الكمال المنشود ويتجنّب العقاب والعذاب الأبدي ، وبدون التقوى لا يمكن أن يتحقّق المقصود ، فكان التعقّل والتذكّر والتقوى من أركان النظام التشريعي الإسلامي ، وكلّ واحد من تلك العناصر مترتّب على سابقه ، ولعلّ الغرض من ذكر الخواتيم ما ذكرناه، وإن كان لا يبعد أن يكون ما ذكره المفسِّرون وجهاً آخر بعد تصحيح ما هو مخدوش فيها .

قوله تعالى : «ثُمَّ أَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ».

بیان لفضل كتاب موسى علیه السّلام الذي وصفه بأوصاف تدلّ على أهمّيته وعظيم منزلته ، وهو تعالى وإن جمع بين القرآن والتوراة في مواضع عديدة في كتابه الكريم، لاسيّما هذه السورة المباركة تذكيراً بتشابه الكتابين الإلهيّين في اشتمالهما على أرقى الأحكام والآداب والمواعظ الحسنة، دون باقي الكتب كالإنجيل والزبور ، فإنّ أكثر الأوّل عِظات والثاني مُناجاة . وأعذارا بذكر ما يشبه القرآن في شرعه ومنهاجه ممّا هو مشهور عند مشركي العرب وهو التوراة كتاب موسى علیه السّلام.

وللإعلام بأنّ ما ذكره عزّ وجلّ من الوصايا هي من كلّيات الشرائع، وقد شرّعها الله عزّ وجلّ لجميع الناس عامّة .

ولبيان أنّها أمور كلّية قد نبّه إليها التوراة، فتطابقت الشرايع الإلهيّة عليها . وتقريراً لتلك الوصايا ، والتأكيد على مراعاتها .

لكن التوراة لم يصل إلى درجة القرآن المجيد آخر الكتب السماوية الذي وصفه الله عزّ وجلّ بالتامّ والكامل ، ولعله لأجل هذا كان العطف (ثُمَّ) لبيان منزلته

ص: 464

بالنسبة إلى القرآن ، ولا نحتاج إلى ما ذكره المفسِّرون في توجيهه ، وسيأتي بيانه .

وفي ذكر التوراة في المقام التمهيد لما يتعقّبه من ذكر القرآن ، كما يُنبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم .

والكلام مستأنف معطوف على مقدّر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وهو بيان أّن تلك الوصايا قد شرّعها الله تعالى للجميع إجمالاً بعد ما فصّلها لموسى علیه السّلام فيما أنزل عليه الكتاب أوّلاً وللنبيّ صلّي الله علیه وآله ثانياً فيما أنزله عليه من كتاب مبارك .

فيكون المعنى: إنّا أرسلنا الرُّسل وأنزلنا الكتب، وشرّعنا الشرائع الدينيّة إجمالاً، ثمّ آتينا موسى الكتاب تماماً مفصّلين فيه ما كان مجملاً، ومتمِّمين به ما يحتاج إلى إتمام لمن أحسن منهم، ففصّل فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل .

واختلف المفسِّرون في توجيه العطف، ويرجع سببه إلى أنّ (ثُمَّ) تقتضي التراخى ولازمه نزول التوراة بعد القرآن، مع إنّه سبق قوله تعالى: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ».

فقيل : إنّ في الكلام حذفاً ، والتقدير ثمّ أخبركم أنّ موسى أُعطي الكتاب .

وقيل : إنّ التقدير ثمّ قُلْ يا محمّد آتينا موسى الكتاب .

وقيل : إنّ التقدير ثمّ أتلو عليكم بأنّا آتينا موسى الكتاب .

وقيل : انّه متّصل بقوله في قصّة إبراهيم: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ»، ثمّ آتينا موسى الكتاب.

وقيل : إنّه من عطف الخبر على الخبر . ولا يخفى التكلّف فيها ، وبُعدها عن السياق .

والحقّ ما ذكرناه من أنّ العطف إنّما هو لبيان تفاوت الرتبة بين الكتابين ، أو ما قيل إنّه التفاوت بين الكتب السابقة في الإجمال والتفصيل ولإتمام من أحسن

ص: 465

من الأنبياء قبل موسى علیه السّلام .

ولكن عرفت شدّة التشابه بين القرآن والتوراة في كثير من الأُمور التي منها تلك الوصايا التي ذكرت في المقام ، ونظيرها ما ورد في سورة الإسراء ، وقيل إنّها أوّل ما نزل على موسى علیه السّلام .

حول معنى المحسنين وما قيل عنه

قوله تعالى: «تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» .

وصف يدلّ على إتمام ما أنزل على من أحسن في أمر الدِّين والهدى، وهم الأنبياء الذين سبقوا موسى بن عمران علیه السّلام وقومه المحسنين، إي أنّ إنزال الكتاب كان لأجل إتمام النعمة والكرامة على من أحسن القيام به قولاً وفعلاً واهتداءً ، فمن كرامته عزّ وجلّ إنّه أتّم نقصهم ، كما بيّنه قوله تعالى: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةٌ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا» سورة الأعراف : الآية 145 (1)، فقد أتمّ التوراة ما كان ناقصاً في الكتب الإلهيّة الأُخرى التي سبقته كما أكمل نقص الذين أحسنوا فزادهم الله في الإحسان، كما وعدهم في قوله تعالى: «وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» (2)، فكان المحسنون هم الذين اهتدوا به وعملوا بما فيه .

وقيل : إنّ المراد إتمامٌ للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين .

وقيل : المعنى إتمامٌ للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا .

وقيل : تماماً على إحسان موسى بالنبوّة والكرامة .

وقيل : تماماً لكرامته في الجنّة على إحسانه في في الدُّنيا.

وقيل : تماماً على الذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوةّ وغيرها .

ص: 466


1-
2- سورة البقرة : الآية 58

وقيل : تماماً للنعمة على إبراهيم ، لأنّه متّصل بقصته .

ولا يخفى بُعدها عن ظاهر الآية الكريمة وسياقها ، وضعف بعضها ، ويمكن أن يُراد بالتمام المعنى العامّ ليشمل الكتاب والذي أحسن ، كما عرفت آنفاً . فيكون(الذي) للجنس.

قوله تعالى : «وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ» .

وصف ثانٍ له أي بياناً مفصّلاً لكلّ شيء ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل في أُمور دينهم ، وصلاح دنياهم، ونقاء نفوسهم ، ومن ينتفع به غيرهم ، وقد ورد مثله في القرآن الكريم، فقال عزّ وجلّ: «وَفِيهِ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ» (1)، ولا بدّ أن يكون تفصيله أتمّ وأشمل وأكمل بحسب الطبع والاعتبار.

قوله تعالى : «وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» .

وصف ثالث ورابع يدلّان على عظمة شأنه من حيث الهداية، وكونه سبباً من أسباب الرحمة، ينعم بها الذين اهتدوا به ، فليس من العقل أن يترك مثل هذا الكتاب الإلهي ، فلا يغفل عنه ولا يرغب إلى غيره، فإنّ بالهداية والرحمة يحيى الإنسان حياة مطمئنة سعيدة ، وفيه التأكيد على الترغيب بالرجوع إليه .

قوله تعالى : «لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» .

أي إنّ كلّ ما أنزله الله تعالى إنّما هو لأجل إعداد الإنسان إعداداً كاملاً للقاء ربّه، الذي اعتنى بشأنه وحاطه بعنايته في دار كرامته التي خلقها للمؤمنين المهتدين .

وفيه الترغيب إلى الإيمان والطاعة ، كما أنّ فيه الإشارة إلى أنّ بني إسرائيل

ص: 467


1- سورة يوسف : الآية 111

لم يؤمنوا باليوم الآخر ، وكرهوا لقاء الله عزّ وجلّ، ولم يعتقدوا به، وتدلّ عليه شواهد كثيرة يأتي في الموضع المناسب بيانها إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : «وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك».

بيان لوجه المشاركة بين التوراة والقرآن وميزة الأخير ، أي وهذا القرآن كتابٌ عظيم ،القدر، موصوف بوصفين يدلّان على أهمّيته:

أحدهما: إنّه منزل من الله تعالى كما أُنزل الكتاب على موسى علیه السّلام من قبل، فهو موصوف بما وصف به التوراة ، وقد ساقه في جملة فعلية مستندة لضميره عزّ وجلّ بنون العظمة ، وإنّما قدّمه لأنّ الكلام هو مع من ينكر رسالة خاتم الأنبياء صلّيالله علیه و آله أو ينكر إنزال الكتب الإلهيّة، فكان الوصف آكد.

والوصف الثاني: إنّه مبارك، أي كثير الخير في جميع شؤونه ، وتقدّم معنى البركة في هذه السورة ، ولا ريب في بركته، وقد أحسّ بها مَن آمن به ومن لم يؤمن ، فكانت وجدانيّة ، وبها امتاز القرآن الكريم.

قوله تعالى : «فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .

أي إذا كان الأمر فى الكتاب الكريم كذلك، فيجب إتّباعه وطاعته عزّ وجلّ بالأخذ بما ورد فيه من أسباب الهداية ، وامتثال تكاليفه وتشريعاته واتّقاء مخالفته ليكون رحمةً مرجوّة لكم في الدُّنيا والآخرة، فإنّه كتاب هدىً ورحمة . وهو حكم عقلي قد أمر به شرعاً.

قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا».

بيان لسنّة إلهية جارية في تثبيت الهداية وإقامة الحجج عليها، حتّى لا يبقى عذرٌ لمتعدّر، وأنّ من شؤون ربوبيّته تلقين الحجّة للمعاندين والجواب عنها ، ومنها

ص: 468

ما ورد في هذه الآية الذي هو من تعليلات المشركين لاسيّما كفّار قريش، واعتذاراتهم السخيفة، كما تقدّم مثلها بما اعتذر المشركين عن شركهم وإجرامهم.

والمعنى: لئلّا يعتذر المشركون وغيرهم ممّن هم على شاكلتهم في الباطل إنّما أنزل الكتاب الهادي المفصّل لأسباب الطاعة والغفران، المشتمل على ما يزكّي النفوس على طائفتين من قبلنا، وهمّ اليهود والنصارى الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل. فيكون الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله حجّة عليكم، يحتوي على ما احتواه الكتابان الإلهيان السابقان ، وقد تميّز هذا الكتاب بزيادة في الخير ، فيكون الحصر (إنّما) بحسب علمهم بحال الطائفتين لمجاورتهم لهما .

قوله تعالى : «وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ» .

أي إنّا كنا غافلين عن قراءتهم وتعلّمهم لجهلنا بلغاتهم وغلبة الأُمّية علينا ، فلا بأس علينا مع الغفلة ، ولكن قد أنزلنا القرآن الجامع لأبواب الخير بلسانكم، قطعاً لحجّتكم، وإيطالاً لمعاذيركم.

قوله تعالى : «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ» .

احتجاج آخر ذكروه في الدُّنيا لدلالة الالتفات والجري على الغيبة الذي يفيد الإعراض عنهم، كأنّهم غائبون . والمراد بالكتاب نفس ما ذكرناه آنفاً.

وأهدى بمعنى أرشد وأسرع اهتداءً، لاعتقادهم بأنّهم أذكى أفئدة وأعلى همّة وأمضى عزيمة من غيرهم، وقد سجّل التاريخ لنا ذلك عند تفاخر هم مع غيرهم من سائر الأقوام. أي لئلّا تقولوا بأنّ الكتاب لو أنزل علينا لكنّا أسرع في الهداية ، فقد أنزل الله تعالى الكتاب عليكم بلسانكم، فتدركون معانيه، وتفهمونه حق الفهم فلا حجّة لكم من هذا الوجه أيضاً .

قوله تعالى :«فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيْنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ».

ص: 469

قطعٌ لأعذارهم وإبطالٌ الحججهم ، وفيه الجواب لكلّ علّة وعذر ، فإنّ القرآن هو البيّنة الواضحة والحجّة الدامغة ، والدليل الظاهر، والحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، والمبيّن لمعالم الحقّ في الاعتقاد والأحكام والفضائل والآداب، فلا يبقى عذرٌ لمتعذّر.

قوله تعالى: «وَهُدًى وَرَحْمَةٌ».

أي وهو كتاب هداية كاملة تامّة لا نقصان فيها ، ورحمة عامّة للبشر ، يكون سبباً لهدايتهم إن تدبّروا فيه حقّ التدبير ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ورحمة لهم، فيه صلاح نفوسهم وعقائدهم، وأحوالهم في الدِّنيا والآخرة، وتنوينهما للتفخيم وتعظيم شأن القرآن .

قوله تعالى : «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ» .

الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإنّ مجيء القرآن بهذا الوصف من البيّنة الكاملة ، والهداية الشاملة ، والرحمة العظيمة، لا يعقل التخلّى عنه ، فلا أحد أظلم ممّن كذّب بآيات الله وأعرض عنها ، والإلتفات إلى الخطاب يدلّ على شدّة الإنكار والتوبيخ .

قوله تعالى: «وَصَدَفَ عَنْهَا».

الصدف هو الإعراض بعد وضوح الحجّة ، وفيه الدَّلالة على أنته صرف عنها ومنع الناس وصدفهم عن الإيمان وردّهم أيضاً، فيكون في الصدف الصدّ بعد الإعراض ، فقد حرموا أنفسهم من كلّ خير وحرموا غيرهم أيضاً، فكانوا في التكذيب أظلم ، لأنّهم جمعوا بين الضلال والإضلال.

قوله تعالى : «الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ».

ص: 470

وعيد شديد، وبيان جزاء إعراضهم وصدّهم، وهو العذاب السيء الشديد بسبب ما كانوا يفعلون من الصدف، وهو يدلّ على التجدّد والاستمرار . وقد كان سبب هذا العذاب الشديد هو التكذيب والصدّ. وفي ذكر السبب التأكيد على أنّه الصدف، فيكون نظير قوله تعالى : «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ» (1)، فكان زيادة العذاب على صدّهم الناس عن سبيل الله تعالى .

***

ص: 471


1- سورة النحل : الآية 88

بحوث المقام

بحث دلالی:

ترشد الآيات الكريمة إلى أُمور :

الأوّل : اشتملت الآيات المتقدِّمة على أرقى التشريعات السماوية، وأزكاها وأعظمها تأثيراً في صلاح الفرد والمجتمع ، تجلب السعادة لهم في الدُّنيا والعقبي ، ومن خصائصها أنّه يمكن أن يستفاد مزايا التشريع الإسلامي الذي هو مجموعة الأحكام الاعتقادية والعملية ، والمواعظ والإرشادات والآداب، التي يتحقّق بتطبيقها الأهداف الإصلاحية التي هي أساس كلّ صلاح وسعادة، وترسو عليها قواعد الشريعة الغرّاء، وهي ثلاث :

الأُولى : تحرير العقل البشري من الخرافات ورِقّ التقليد الباطل، وذلك عن طريق إرساء العقيدة الحقّة بالإيمان بالله تعالى وحده، وتوجيه العقل نحو الدليل والبرهان، والتفكير العلمي الحرّ، ولذا كافح الإسلام الشرك والوثنية بكل مظاهرها، لأنّها انحطاط للعقل وعمىً في البصيرة ، وقد ذكرنا أنّ قوله تعالى : «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» يشير إلى هذه المزيّة والأساس القويم، لاسيّما إنّه ورد بعد تشريع أحكام لها الارتباط الوثيق بالعقيدة كتحريم الشرك، ونبذ الوثنية ، واحترام ربّ الأُسرة كأنموذج إلى احترام ربّ العالمين وإطاعته، وتطهير النفس من الفواحش، وعدم قتل النفس المحترمة، واحترام الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض ، وهي أحكامٌ أربعة أساسية في التشريع ، ولا يمكن تطبيقها إلّا بتحرير العقل من التقليد الباطل ، والخرافات المستحكمة في النفوس والعادات السيّئة .

الثانية : إعداد الفرد نفسيّاً وخلقيّاً وإصلاحه بتوجيهه نحو الخير والإحسان

ص: 472

لئلا تطغى شهواته ومطامعه على عقله، ولا يتحقّق ذلك إلا بالممارسة العملية لوظائفه الشرعية من العبادات المشروعة التى تذكره بخالقه وعقباه، ليكون المسلم مراقباً دائماً لأعماله حريصاً على ترك التقصير في واجباته ، ولعل قوله تعالى : «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» يرشد إلى ما ذكرناه، ويعتبر هذا الأمر بمنزلة روح الشريعة ولبّها .

الثالثة : إصلاح المجتمع بموازاة إصلاح الفرد، حتّى تتحقّق حياة اجتماعية سعيدة يسودها الأمن العام والعدل بين الناس، وصيانة الكرامة الإنسانية ، وإثبات الحريات المعقولة المقبولة ، ويظهر هذا بوضوح من التشريعات المذكورة في الآيات الثلاث، فإنّ منها ما يرجع إلى العقيدة ، ومنها ما يرجع إلى الفرد والأُسرة ، ومنها ما يرجع إلى الاجتماع ونشر العدل والمساواة بين الأفراد ، وقد ختم سبحانه بأعظم حكم يبيّن حقيقة تلك الأحكام، بل النظام التشريعي الإلهي، وهو كون ذلك هو الصراط المستقيم الذي يبتدئ بالربّ العظيم وينتهي به، فهو المبدأ وإليه المرجع ، ومن اتّبعه يصل إلى الهدف المنشود، ومن أعرض عنه ضلَّ وتاه في السُّبل التى لا تفيد إلّا البُعد عن سبيل الله عزّ وجلّ.

وقد استخدم في بيان تلك الحقائق أروع الأساليب البلاغية ، والتأكيدات الكلامية، لتثبيت مضامينها في النفوس، وترغيبها إلى العقول بعد تطهيرها من الشرك والتقليد الفاسد والعادات السيّئة التي تبعّد الإنسان عن الحقّ، وتعمي بصيرته من التفكّر في المبدأ والمعاد ، وقد ختم ذلك بأمر يكون ضماناً لامتثالها، وهي التقوى التي هي أساس الكمالات ومجمع الخيرات وضمان التشريعات، إذ بدون التقوى لا يمكن تطبيقها ، بل تظهر صورة مشوّهة عن الدِّين، ومن جميع ذلك يظهر السرّ في كمال الشريعة الإسلامية وتمامها، وأنّ الإسلام دين متكامل شُرّع لتكميل الإنسان.

ص: 473

الثاني : يدلّ قوله تعالى : «قُلْ تَعَالَوْا...» على أنّ ما عند المشركين من الأُمور الدانية التى توردهم المهالك ، ولابدّ للرسول الكريم صلّي الله علیه و آله من تغييرها وتلاوة ما هو أعلى المعارف والكمالات والأحكام ، فقد تسامت بتلاوة الرسول العظيم صلّي الله علیه و آله لها . فاكتسبت المنزلة الكبرى من فضله وعلوّ منزلته صلّي الله علیه و آله أيضاً .

الثالث : إنّ اختلاف الأسلوب في بيان الأحكام، يدلّ على الاهتمام بها والتأكيد عليها ، واستيعاب جميع ما يرتبط بها ، ففى الموارد التي ذكر فيها أُسلوب النهى إنّما هو لتأسيس الأصل والقاعدة فيها ، كحرمة الشرك مطلقاً ، وحرمة القتل مطلقاً، وحرمة ارتكاب الفواحش مطلقاً إلّا ما ورد الإذن فيه صريحاً ، وفي موارد الشكّ يرجع إلى أصالة الحرمة. وفي الموارد التي ذكر فيها أسلوب الطلب إنّما يرجع إليه بعد تحقّق الموضوع ، وللمبالغة فى إيجاب مراعاتها .

الرابع : يدلّ قوله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ»، على أنّ شرع لإسلام وإن تعدّدت أحكامه وآدابه ومعارفه، ولكنّها تنصبّ في صراط واحد وهو الذي يوصل الإنسان إلى الكمال المنشود والسعادة المطلوبة .

ومن زلّ عن الصراط في الدُّنيا زلّ عن الصراط في الآخرة ، وفي الآية الدلالة على أن سبيله صلّي الله علیه و آله عين صرا صراطه تعالى .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «ثُمَّ أَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ» على عظيم منزلة كتاب موسى علیه السّلام، وإنّه كتاب هدى ونور وفيه تفصيل كلّ شيء ، وقد وصف القرآن الكريم بها أيضاً فهما كتابان إلهيّان يرشدان الناس إلى الهدى في الاعتقاد والعمل ، ويشتملان على ما يوجب السعادة والفوز بالفلاح ، وأنّهما ممّا يوجب القُرب والزُّلفى لديه عزّ وجلّ . نعم ، لا ريب في علوّ منزلة القرآن على التوراة ، وربما يرشد عليه العطف ب- (ثُمَّ) كما يدلّ عليه وصف القرآن بكونه (مباركاً) في جميع شؤونه وفي كلّ العوالم .

ص: 474

وإنّما ذكرهما عزّ وجلّ بالخصوص لكونهما كتابي هداية وتشريع، بخلاف سائر الكتب الإلهيّة الأُخرى، فإنّها لم تكن بهذه المثابة، فإنّ بعضها تشتمل على المواعظ والآداب دون التشريعات والأحكام .

السادس : يستفاد من قوله تعالى : «تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» أنّ المطالب السنية والمعارف العلّية ، والعلوم الربّانية إنّما تفاض على المحسنين ، وقد عرفت سابقاً في هذه السورة المباركة أنّ المحسنين همّ الأنبياء ومن يحوم حولهم من الأوصياء والأولياء، فقد أنزل عزّ وجلّ التوراة بما فيه من العلوم والمعارف تماماً بالنسبة إلى ما سبقه من الكتب والصحف الإلهيّة ، كما أنزل القرآن تاماً كاملاً ، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» (1)، ومن ذلك يعرف الوجه في الاحتجاج بهما على المشركين وغيرهم من الكافرين.

السابع : يدلّ قوله تعالى : «فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيْنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» على فَقَدْ تمكّنهم من دراسة القرآن وفهم مضامينه فصار بيّنة لهم ، وقد اشتمل على الهداية والرحمة - كما اشتمل التوراة عليهما - فلا غرابة فيه عليهم .

الثامن : يرشد قوله تعالى : «وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» إلى أنّ القرآن العظيم كتاب هداية للناس أجمعين، لاسيّما المشركين والكافرين، يصلح ما فسد من عقائدهم ويهذّب أخلاقهم ويزكّي نفوسهم ورحمة للمؤمنين في الدُّنيا والآخرة ، ومن رحمته بهم أنّه نزل والمؤمنون على قلّة وضعف واضطهاد، فكان سبباً في نزول الرحمة الإلهيّة عليهم فكانوا همّ الغالبين .

التاسع : يدلّ قوله تعالى : «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ» على أنّ صدف الناس عن الإيمان من أشدّ الذنوب، فسينال الذي يصدف سوء العذاب، لأنّه ضالّ مضلّ ، ومضمون الآية عامّ يشمل من يمنع من تطبيق الشريعة

ص: 475


1- سورة المائدة : الآية 3

بأفكاره وأعماله وأحكامه وفتاواه ، وفيه التحريض بالإيمان بالقرآن الكريم وترك ما سواه .

العاشر : يدلّ مجموع الآيات الشريفة على العمل بالقرآن الكريم وامتثال أحكامه وتشريعاته والتخلّق بأخلاقه، وأنّ العامل به لا تمسّه النار .

***

بحث روائي:

في «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير ، قال : «كنت جالساً عند أبي جعفر علیه السّلام وهو متكٍ على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهنّ شيء من الأنعام قال : شيّعها سبعون ألف ملك «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .

أقول : تقدّم الكلام في هذا الموضوع في أوّل السورة ، وذكرنا أنّ هذه السورة من أهمّ السور القرآنية في تصحيح العقائد وتثبيت الشرائع الإلهيّة، ولأجل مضامينها الرفيعة ومنها هذه الآيات التي تشتمل على أروع الأحكام التشريعيّة وأعلاها وأعظمها، فقد شيّعها سبعون ألف ملك .

وفى «الدّر المنثور» أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت ، قال : «قال رسول الله صلّي الله علیه و آله: أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثمّ تلا «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» إلى ثلاث آيات ، ثمّ قال : فمن وفّى بهنّ فأجره على الله ، ومن انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله فى الدُّنيا كانت عقوبة ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذ وإن شاء عفي عنه ».

أقول : الرواية مع ما فيها من الضعف في السند والمتن، إنّما تدلّ على أهميّة هذه الآيات لاشتمالها أعظم الأحكام التشريعيّة وأُصولها ، لكن لابدّ من تقيّدها

ص: 476

بما إذا لم يمارس الشرك ، فإنّ الله لا يغفر أن يشرك به.

وفي «تفسير العيّاشي» عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين علیه السّلام: «الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» قال: «ما ظهر من نكاح امرأة الأب، وما بطن منها الزنا».

أقول : ما ورد فيه إنّما هو من باب ذكر بعض المصاديق.

وفي «الكافي» بإسناده عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال : حتى يبلغ أشدّه . قلت : وما أشده؟ قال : احتلامه . قلت : قد يكون الغلام ابن ثماني عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولا يحتلم ؟ قال : إذا بلغ وكتب عليه الشيء جاز أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفاً».

أقول : الحديث يدلّ على أنّ المراد من بلوغ أشده هو زمان البلوغ وكتابة التكاليف عليه ، وأنّ الاحتلام من إحدى علاماته ، وحينئذٍ يجب دفع ماله إليه إلّا إذا كان سفيهاً أو ضعيفاً. وإن كان الفقهاء اختلفوا في زمانه تبعاً لاختلاف الروايات ، والموضوع فقهي مذكور في كتب الفقه ، فراجع .

وفي «تفسير القمّي» أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه، عن الحسين بن سعيد عن محمّد بن سنان عن أبي خالد القمّاط، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السّلام ، في قوله : «هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» قال : «نحن السبيل فمَن أبى فهذه السُّبل».

أقول : يدلّ عليه العقل والنقل والاعتبار ، فيكون المقصود انحصار السبيل فيهم ، وهم القرآن الناطق ولا يفترقان . وقد فصّلنا القول في ذلك في أحد مباحثنا، فراجع.

وقد وردت روايات كثيرة مرويّة عن الفريقين أنّ علياً هو الصراط المستقيم، وتقدّم في سورة الفاتحة ما يتعلّق به .

ص: 477

وفي «الدّر المنثور» أخرج أحمد وعبد بن حميد ، والنسائي ، والبزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم، وصحّحه عن ابن مسعود قال : «خطّ رسول الله صلّي الله علیه و آله خطّاً بيده ، ثمّ قال : هذا سبيل الله مستقيماً، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله ، ثمّ قال : وهذه السُّبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه ، ثمّ قرأ «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»».

كما إنّه روى مثله عن جابر بن عبد الله الأنصارى ، ولكن فيه: «إنّه خطّ خطاًّ هكذا أمامه فقال : هذا سبيل الله ، وخطّين عن يمينه ، وخطّين من شماله فقال : هذا سبيل الشيطان ، ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط، وقرأ: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ».

أقول : إنّه تشبيه حسن يبيِّن حقيقة السُّبل المتفرِّقة التي هي سُبل غواية يقعد عليها الشياطين ، وأنّها محيطة بالصراط المستقيم ، فلابدّ من الرجوع إلى أهل الذِّكر لتميّزه عن غيره من السُّبل، ولأجل ذلك كان أئمّة أهل البيت علیهم السّلام همّ الصراط الأقوم .

***

بحث عرفانی حول الأحكام التي لها تأثير على العقل وتنوّره :

الآيات الشريفة تشتمل على جملة من الأحكام الإلهيّة التي تعدّ من أُصول التشريعات السماويّة ، وقد نوّه بها التوراة فجعلها موسى بن عمران علیه السّلام من وصاياه التي أمر بها قومه ، وأهتمّ بها القرآن فعدّها من الأحكام المهمّة التي لها التأثير على العقل فتنوّره فيدع كلّ من يخالف طريقته ، وعلى النفس فتهذّبها وتجعلها تتذكّر المُنعم عليها فلا تخالفه ، وهي من أعظم أسباب التقوى التي هي غاية كلّ تشريع سماوي، ومن عظيم أمرها أنّه ابتدأ عزّ وجلّ بخطاب الرسول صلّي الله علیه و آله للدلالة على

ص: 478

عظيم شأنها، وليكون شاهداً عليها تبليغاً وإرشاداً وامتثالاً، فعلى غيره الإقتداء به فإنّه الإنسان الكامل المكمّل لغيره، وقد تحملّ هذا الفيض الإلهي لتبليغه إلى الناس، فلابدّ من الرجوع إليه في جميع خصوصيّاتها شرحاً وتفسيراً وتطبيقاً، وقد سرد سبحانه تلك الأحكام في أسلوبي النهي والأمر لتقريبها إلى النفس ، وتطيّيبها لقبولها كما اشتملت على جملة من البدائع الكلامية لإزالة العقبات من قبولها وتزيّينها إلى النفوس لتقبل عليها .

وقد جعل أوّل تلك الأحكام نبذ الشرك، لأنّه أُمّ الرذائل وظلم عظيم ، وأنّ مع وجوده لا تأثير لغيره مهما كان، فلا منقبة مع الشرك ، ولاكمال مع وجوده ، فهو أعظم العقبات ، وأهمّ الحُجُب في تهذيب النفس وترقيتها . ومع قتل النفس بالشرك لا يمكن مراعاة سائر الأحكام.

ثمّ أمر سبحانه بالوالدين إحساناً، لأنّهما السبب الأقرب لإلقاء الفيض الإلهى الربّانى على الأولاد، وهما من أقرب النِّعم إلى الولد ، ولهما الأثر الكبير التام في تكوين هيئته الجسديّة والنفسيّة والتربويّة ، ومن تمام الشكر الإحسان إليهما برعاية حقوقهما والاعتناء بشأنهما .

والوالدان اللّذان أمر الله تعالى بالإحسان إليهما الظاهر منهما هما الوالدان الظاهريان، وقد يصدقان عند أرباب المعرفة، وممّا لهما الأثر الكبير فى حياة الولد المعنوية الروح والقلب ، فإنّه بمراعاة حقوقهما تستفيد النفس من إرشادهما حتّى يصير إنساناً كاملاً ، فيكون عقوق الوالدين الظاهرين والمعنويين من أكبر الكبائر .

كما أنّ من حقوق الأولاد على الوالدين، حفظهم من الهلاك، فإنّهم أمانة في رقاب الوالدين ، وفى قتلهم هدم لبنيان الله تعالى وإبطال لنظامه، وهو ظلمٌ كبير يستحقّ فاعله اللّعن، وفيه تكذيب لسنّته تعالى في الرزق ، كما أنّ في قتلهم قتل القوى النفسيّة والبدنيّة التي تعدّ جناية عليها لاستعمالها في غير ما خلق الله تعالى

ص: 479

له وإن كان سبب القتل الفقر والقنوط من رحمته عزّ وجلّ، فإنّ الله عزّ وجلّ هو الفيّاض يفيض على الجميع مادّياً ومعنوياً بمقدار التوجه إليه سبحانه .

ثمّ أمر عزّ وجلّ بالتنزّه عن الفواحش، وعدم الاقتراب من الأعمال الشنيعة ما ظهر منها على الجوارح ، وما كان في الجوانح التي هي مواضع سرّ الله تعالى ولا يجوز استعمالها في ما حرّمه الله تعالى واستخدامها فيما يوجب البُعد عنه سبحانه .

ثمّ نهى عن قتل النفس التي لها حرمة عظيمة ، فإنّ في قتلها ترك تعظيم الحق الذي هو ملاك كلّ كمال ومكرمة، إلّا إذا أُريد توجيهها إليه عزّ وجلّ بإرغامها على الطاعة والتقرّب إليه سبحانه ، فيدخل فيه قتل النفس في طلب الحقّ كالمقتول في سبيل الله الذي هو حيّ عند ربّه ، وأنّ المقتول كذلك ينتقل من دار الفناء إلى دار أعظم منزلة وأعلى درجة ، وفي نهاية تلك الأحكام أوصاهم سبحانه باستعمال العقول التي تعقل النفوس وتحسبها من مباشرة ،القبائح، وتدفعها إلى التماس الوسائل لتزكيتها .

وفي النهي عن اقتراب مال اليتيم الذي انقطع عن علائق الدُّنيا وتوجه إلى الله تعالى، إشارة إلى ما أعدّ الله سبحانه له من المنزلة ، فإنّ اليتيم هو الفرد الكامل الذي انفرد بنيل الكمالات، وكان من موارد التجلّيات، والفرد الأكمل من اليتامى همّ الأئمّة ، وقد ورد في الحديث عن الأئمّة الهُداة علیهم السّلام أنّهم قالوا: «نحن اليتامى» . لأنّ لهم نفوساً كاملة ، وبلغوا علیهم السّلام المقامات العالية ، ونالوا الدرجات الراقية من القُرب والزلفى لدى جنابه عزّ وجلّ ، فلا يمكن الاقتراب إليهم إلّا بالتي أحسن، وهو التصديق بهم، والتقرّب إليهم بالاعتقاد الحسن والعمل الصالح والسير على منهجهم؛ فهم سُفن النجاة ، المتقدّم لهم مارق ، والمتأخّر عنهم زاهق ، واللّازم لهم لاحق ، فلابدّ من إعداد النفس إعداداً كاملاً لنيل هذه المقامات

ص: 480

والدرجات بطاعة الله تعالى بامتثال أحكامه المقدّسة التي ترجع إلى تحسين حال الإنسان في الدارين والفوز بالفلاح ، وقد سنّ عزّ وجلّ أيضاً أحكاماً لإصلاح أمره في المعاش والتعامل مع العباد، فأمره بالوفاء بكيل الشرع ومراعاة الحقوق الظاهرية ، والاعتناء بميزان الحقيقة، ومراعاة الحقوق الباطنية، وإعطاء كلّ ذي حقٌّ حقّه الذي يعدّ من أهمّ الحقوق حقّ الطاعة الله تعالى ونبيّه بالاقتداء ومعرفة الإمام بالولاء ، والدخول في القسط والعدل في جميع الشؤون، وهما من أهمّ المقامات عند العارفين السالكين ، فإنّ الوصول إليه صعب المنال، والبقاء فيه أصعب، فإنّه لا يمكن الخلاص من الدُّنيا والنفس الأمّارة إلّا بالرجوع إلى خالقهما، وامتثال أحكامه، وترويض النفس الغدّارة، فلابدّ من المراقبة بعد جعل أقواله وأفعاله في الميزان، فلا يصدر منه إلّا الحقّ، ولا يعمل إلّا العدل ، ولا يتّبع إلّا العهد الذي التزم على نفسه والوفاء به وفاءً كاملاً، وتكون وجهته هو الصراط المستقيم، ويتبعه اتّباعاً تامّاً، ويتّقي عذاب الله تعالى، ولا يوقع نفسه في عذاب الحرمان الذي هو من أشدّ العذاب عند العرفاء .

وقد نبّه سبحانه المؤمنين إلى الحُجب والموانع التي يعتمد عليها أهل الدُّنيا، وبيّن عزّ وجلّ آثارها السيّئة، وقد أتمّ الحجّة، فقال: «فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» ، فالإفاضات متواردة ومتتالية، ويجب على الإنسان إزالة الحجب وتهذيب النفس عن الموانع ، وإلّا كان من الظالمين، لأنّه حَرَمَ نفسه من النّعم الإلهيّة ، فكذّب بآيات الله عزّ وجلّ ، كما أنّه كان سبب لصدف غيره عنها فقد احتمل وزراً كبيراً ، وأنّ مردّه أسوأ العذاب بما كانوا يصدفون ، فقد اشتملت الآيات الكريمة على جملة من الإشارات والتنبيهات فلا يغفل العارف عنها .

***

ص: 481

سورة الأنعام، الآية 158 - 160

الآية 158 - 160

«هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(160)».

تتضمّن الآيات الشريفة التهديد الشديد لمَن أعرض عن ما ورد في هذه السورة المباركة من الأحكام وأصول العقيدة الحقّة بعد إبطال الوثنيّة والشرك، وبيان الأحكام المُفتراة على الله تعالى، فتكون هذه الآيات تحذيراً شديداً على المخالفة، وتنذر الناس إنذاراً عظيماً ، وفيها تعظيمٌ لقدر الرسول صلّي الله علیه و آله في إبلاغ ما حُمّل إليهم ، وتبرّئ ساحته المقدّسة من أقوال المعرضين وأفعالهم التي أدّت إلى التفرقة في دين الله عزّ وجلّ، وتحذيرهم من سوء العاقبة ، وبإزاء ذلك يعد المؤمنين الوعد الحسن والجزاء الأوفى ، فهي ضمان لكلّ ما ورد في هذه السورة المباركة من أُصول العقائد والتشريع.

***

ص: 482

ما يتعلّق بتفسير قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ»

التفسير

قوله تعالى : «هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» .

إستئناف مسوق لبيان أُمور .

منها : عدم تأتّي الإيمان منهم بما أنزله الله عزّ وجلّ من البيّنات والهدى.

ومنها : الإعلام بأنّ بعض الآيات وإن لم تؤثّر في إيمانهم ، ولكنّها نزلت مبالغة في التبليغ وإزاحة العلل والأعذار ، كما يظهر من الآيات السابقة .

ومنها : التنبيه على أنّ الإعراض عن الآيات البيّنات التي أنزلها الله سبحانه هدىً ورحمةً، يستلزم الجزاء وهو العذاب الأليم.

ومنها : بيان سنّة الله تعالى في إقامة الحجّة، وأنّها إذا تمتّ عليهم فعليهم انتظار أحد هذه الثلاثة ، ولا غاية لهم غيرها .

ومنها : الإرشاد إلى أنّ المذكور فيها هو القضاء العدل فيهم وإقامة القسط عليهم، إذ لا تؤثّر فيهم آية ولا تنفعهم حجّة ، ولا تهديهم موعظة .

ومن جميع ذلك يتبيّن إنّ الاستفهام يكون للتقرير والإثبات لا لمجرّد الإنكار ، كما ذهب إليه الجمهور ، إذ قد سبق الإنكار .

وقيل : إنّ الاستفهام للتهكم فيكون الانتظار بحسب أذهانهم لا بحسب الواقع، فإنّهم اقترحوا نزول الملائكة، ورؤية ربّهم، أو مجيء آيات منه، فهم لم يريدوا الحجّة وإنّما ينتظرون ما اقترحوه من الأُمور .

وهذا القول مردود، لمخالفته للسياق، ولا يلائم قوله تعالى : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» فإنّه يفيد بيان الحقائق لا مجرّد التهكّم .

وكيف كان ، فإنّ المراد بإتيان الملائكة مجيئهم للعذاب ، لأنّه من اقتراحاتهم التي حكاها سبحانه بقوله : «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ

ص: 483

لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذَا مُنْظَرِينَ» (1). والقول بأنّه يختصّ بالأُمم التي تعاند الرسول صلى الله عليه وآله ، غیر صحيح .

كما أنّ المراد بإتيان الرب ظهور عظمته وقدرته وقهاريته ، والانكشاف التامّ لوحدانيّته، بحيث لا يبقى عليها خفاء، بلا فرق بين أن يكون ذلك في الدُّنيا أو في الآخرة ، فهو يوم انكشاف الغطاء وظهور الحقيقة، ويلزم ذلك أنّه يكون يوم الفصل والقضاء، فيكون اختصاصه بيوم اللّقاء غير سديد، لأنه له عزّ وجلّ ظهورات عديدة من هذا القبيل فى دار الدُّنيا ممّا حَكَم الحكم الفصل وطهّر الأرض من رجسهم ، فقد حكى سبحانه ما جرى على قوم نوح علیه السّلام، وقوم موسى علیه السّلام وغيرهما في القرآن المجيد والعناية التي أوجبت التصرّف في اللّفظ بما يرجع إلى الظهور، إنّما هو تنزّهه عزّ وجلّ عن صفات الأجسام .

وقيل : المراد إتيان أمر الربّ، بدليل قوله تعالى : «هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أمر رَبُّكَ» (2)، ولا بأس به إذ أنّ أمره عزّ وجلّ من مظاهر توحيده وعظمته وقدرته، وقد تقدّم في قوله تعالى : «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ» (3) مزيد بيان ، فراجع .

وأمّا القول بأنّ المراد إتيان ما وعد به النبىّ صلّي الله علیه و آله من النصر، وما أوعد به أعداءه من العذاب في الدُّنيا ، فإنّه خلاف السياق .

كما أنّ المراد بإتيان بعض آيات الربّ، هي تلك الآيات التي تُصاحب القضاء الإلهى بالقسط بينهم التى لها مظاهر مختلفة فى مرّ العصور، وستبقى إلى

ص: 484


1- سورة الحجر : الآية 8
2- سورة النحل : الآية 33
3- سورة البقرة : الآية 210

انقضاء العالم، ومن آثارها ومظاهرها تبّدلُ النشأة إلى نشأة أُخرى بالموت . وتبدّل نشأة العمل إلى نشأة الجزاء البرزخي ، وتبّدل الحالات وتغيّرها، كما في تغيّر الكفر والجحود المستقرّ في النفوس إلى الإقرار والاعتراف الاضطراري والإذعان للحقّ ، ومنها أشراط الساعة التي تنذر بأمر خطير عظيم، ومنها ما دلّ عليه قوله تعالى : «وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةٌ مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ»(1).

ومنها : قوله تعالى : «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْح لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَاتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ» (2)، والمراد بالفتح هو القضاء بين رسوله وبين أُمّته ، كما حكاه عزّ وجلّ عن رسله علیهم السّلام ، فقال : «وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدِ» (3).

ومنها : البأس الإلهي الذي لا مردّ له ولا محيص عنه ، فيستلزم منه اضطرارهم إلى الإيمان بالله تعالى ليتقّوا به عذابه ولكن لم ينفعهم ذلك ، فإنّ الإيمان النافع ما كان اختيارياً ، قال تعالى : «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ»(4).

ومنها : ظهور حجّة الله ليطهر الأرض من الظلم والجور.

وربما تشير الآية الكريمة إلى أنواع الظلم الصادر من الإنسان ، فيكون كلّ واحد من هذه الثلاثة يرجع إلى تلك الأنواع ، وحينئذٍ إمّا أن يكون فردياً أو نوعياً،

ص: 485


1- سورة النمل : الآية 82
2- سورة السجدة : الآية 29
3- سورة إبراهيم : الآية 15
4- سورة المؤمن : الآية 85

أو يرجع إلى فناء العالم وخراب النظام الكوني ، فالأوّل يرجع إلى الأوّل والثاني إلى الثاني ، والثالث إلى الثالث والله العالم .

ما يتعلّق بتفسير قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ»

قوله تعالى : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ».

تأكيد بليغ على وقوع تلك ، وأنّها تهديد جدّي، فلم يذكر لمجرّد التخويف ولا يراد بها ألتهكّم ، كما عرفت آنفاً .

والمراد به يوم ظهور الحقيقة وتفصيل آثارها ، وبيان سُنّة إلهية في الإيمان النافع للإنسان الذي يترتّب عليه الجزاء الحسن وآثاره الطيّبة، فلا ينفع الإيمان إذا لم يكن قبل ذلك اليوم الموعود، وكان صادراً عن طوع واختيار ، أو آمنت نفس ولم تكن كسبت في إيمانها خيراً وعملاً صالحاً، فانهمكت في المعاصي والآثام، واسترسلت في القبائح والسيّئات حتّى نزل البأس الإلهي، وارتفع التكليف الرباني الذي يعتمد على الإرادة والاختيار، فإنّ الإيمان الاضطراري الحاصل بعد مشاهدة البأس الإلهي لا أثر له، ولا يرّد به العذاب إذا نزل ولا تنفع التوبة أيضاً إذا كانت قد صدرت عن إلجاء بعد سقوط التكليف ، وهذه هي السنة الإلهيّة التي لا تغيّير فيها ولا تبديل، كما قال تعالى : «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ» وتقدّم الكلام فيها .

ولا ريب أنّ زمان ظهور هذه الحقيقة، إمّا أن يكون عند ظهور أمارات الموت ووصول الروح عند الغرغرة ، قال تعالى في فرعون : «أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ»(1).

وإمّا أن يكون عند نزول العذاب ، كما حكى سبحانه عن قوم يونس «فَلَوْلاً كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ

ص: 486


1- سورة يونس : الآية 91

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (1).

وإمّا أن يكون عند نزول اشراط الساعة وقيام القيامة الكبرى، وهو اليوم الموعود الذي يرى الناس كلّهم الآيات الكبرى، والإيمان الحاصل في هذه الموارد، لا اعتبار به ولا يجدي نفعاً.

والآية الكريمة بمضمونها الرفيع قد اشتملت على جملة من الأُمور الأدبية البديعة ، وهي :

الأوّل : الفصل بين كلمة (نفساً) التي تدلّ على الشمول، لكونها نكرة في سياق النفي، وبين صفتها التي هي جملة (لم تكن آمنت بالفاعل وهو (إيمانها) ، لاشتمالها على ضمير الموصوف، وللإحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل وفاعله ، وعدم الاجتماع بين (في إيمانها) و(إيمانها) في اللّفظ.

وثانياً : عطف جملة «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» عليها، ممّا أغنى من التصريح الذي ذكرناه آنفاً .

وثالثاً : التعبير بالبعض للتهويل والتفخيم .

ورابعاً : إضافة الضمير إلى الرسول صلّي الله علیه و آله للتشريف، والدلالة على عظيم منزلته .

وخامساً : ذكر الربّ ثلاث مرّات، وإضافة الآيات إليه على الملكية التامّة ومالكيّته عزّ وجلّ، وأنّ ذلك من شؤون ربوبيّته ، وأنّ فيه التأييد لرسوله الكريم، فإنّ له الربّ العظيم لا ما كان يفتخر به خصومه من الأرباب .

قوله تعالى: «قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ» .

تهدید و توعد بعد بيان حقيقة الحال، أي انتظروا أيّها الكافرون ما تنتظرونه

ص: 487


1- سورة يونس : الآية 98

من مجيء أحد الأُمور الثلاثة، فإنّا منتظرون ما يحلّ بكم، وهو الفصل وليس بالهزل، ويظهر الفائز من الفريقين والهالك بعد الفصل بينهما ، وفيه زيادة الطمأنينة للررسول صلّي الله علیه و آله والمؤمنين ، وقد ذكر سبحانه نظير هذه الآية في موضع آخر، فقال تعالى : «وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ»(1).

بحث حول ما يوجب الابتعاد عن الدِّين الإلهي والاختلاف فيه

قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» .

استيناف مبين لأعظم ما حلّ بالدِّين الإلهى، بعد أن كان الصراط المستقيم الذي لا خلاف ولا اختلاف فيه، وقد أُمرنا بإتّباعه ونُهينا عن إتّباع السبيل فتفرّق سبيله ، ومضمونه لا يختصّ بقوم معيّنين أو زمان خاصّ، وإن كان اللّفظ عن في صورة الماضي ، فإنّه لبيان حقيقة واقعية اجتماعية بعد إعراض الإنسان عن تعاليم السماء، وإتّباع الدِّين الحقّ القويم ، وفيه التذكير بهذه الأُمّة لئلا يقعوا في ما وقعت الأُمم السابقة من الاختلاف في الدِّين والتفرق عن كلمة الحقّ .

وقد بيّن عزّ وجلّ أنّ ما يوجب الابتعاد عن الدِّين الإلهى والاختلاف فيه ، العلم والتفرّق عن الحق وافتراق الأُمّة . إمّا أن يرجع إلى الاختلاف في الدِّين مع بوحدته ، أو جعل الأُمّة نفسها شيعاً متفرّقة تتبع إماماً وتقوّيه ، وكلّ واحد من هذين الأمرين يلازم الآخر ، وقد أخرج سبحانه الرسول صلّي الله علیه و آله عن الحكم ، لأنّه رسول الوحدة يدعو الى دين التوحيد والاجتماع على الحقّ ، وأمر بإتّباع الصراط المستقيم الذي لا اختلاف فيه ، ونهى عن إتباع السُّبل المتفرّقة ، كما أنّ دينه الذي تمثل بوجوده الشريف ودعا إليه بعمله ، فهو رسول الإنسانية، فمن كان على هديه فهو من فريق المؤمنين ، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممّن فرّق دينه ، ويكون

ص: 488


1- سورة هود : الآية 122

من الذين صاروا شيعاً متعادية .

وفي الآية الدلالة على أنّه لا يصيب الرسول صلّي الله علیه و آله ولا دينه الحقّ أي ضرر منهم ، وفيها التحذير لهذه الأُمّة من عدم الوقوع في المحذور الذي وقعت فيه الأُمم السابقة وقد نصح الرسول صلّي الله علیه و آله أُمّته وحذّرهم من الاختلاف والتفرّق، ومن آثارهما السيّئة فقال صلّي الله علیه و آله في الرواية المعروفة بين الفريقين : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين عين فرقة كلّهم في الهاوية إلّا واحدة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في الهاوية إلّا واحدة ، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّهم في الهاوية إلّا واحدة»، وتقدّم نظير هذه الآية في سورة آل عمران بعد الأمر بالاعتصام بحبل الله والنهي عن التفرّق، فقال عزّ وجلّ: «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (1)، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه من الأمرين فى وجه تفرّق الدين، وصيرورة أصحابه شيعاً مختلفين.

قوله تعالى : «إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» .

تعليل للنفي المذكور سابقاً ، وبيان لجزائهم، وإعلام بأنّ لا سبيل لأحد في جمعهم على الدِّين، فإنّه كان سبباً لاتّحادهم واتّفاقهم ، فإذا تفرّقوا عنه فلا يكون المرجع إلّا الله تعالى، فهو يتولى أمرهم وينبّئهم بالآثار السيّئة التي ترتّبت على أفعالهم، ويجزيهم عليها ، فلا يضرّك - أيّها الرسول - منهم شيء، وستنكشف لهم الحقيقة ويشاهدون آثارها . وإبهام الجزاء فيه الدلالة على عظيم جرمهم، حيث فرّقوا دين الله عزّ وجلّ الذي أنزله لإسعادهم وإصلاح أحوالهم في الدُّنيا والآخرة، ويكون سبب وحدتهم واتّحادهم ، فقد فرّقوا وأوقعوا الخلاف فيه ونشروا الاختلاف وبعثوا الكراهيّة في النفوس، حتّى سُفكت الدِّماء، وهُتكت

ص: 489


1- سورة آل عمران الآية 105

الأعراض وأشاعوا الفساد، فضاع دين الله تعالى، فلم يستفيدوا من ذلك إلّا البُعد عن الله عزّ وجلّ والخروج عن طور العبودية، ومسخ الإنسانية وأورثوا القسوة في القلوب، فما أعظمه من جرم على الإنسانية !!

في المراد من الحسنة

قوله تعالى : «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» .

ترغيب عظيم إلى الرجوع إلى دين الله وإرساء قواعده في القلوب ، وفيه مِنّة إلهية تعمّ عباده المؤمنين في الآخرة ، وتبيّن مقادير أجزية العاملين التي تعتبر سنّة إلهية ، فهو عزّ وجلّ يجازي الحسنة بعشر أمثالها، ولا يجازي السيّئة إلّا بمثلها ، وهو تفضلّ منه عزّ وجلّ يعتبر من أصول دين الإسلام في قانون المجازاة . وقد تصدّر بيان جزاء المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم، تعظيماً لشأنهم واهتماماً بجزائهم.

والمراد بالحسنة الطاعة والإيمان والأعمال الصالحة ، وما شرّعه الله تعالى . والظاهر أنّ هذه العشرة هي أدنى درجات الفضل وهي غير متناهية ، فقد يضاعف عزّ وجلّ الجزاء لمن يشاء ، كما وعد في قوله تعالى : «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ»(1).

وقوله تعالى : «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفُهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ»(2).

وهو يوافق سعة رحمته وفضله العظيم فهو المنّان الكريم . ولعلّ اختلاف الآيات في كمّية الجزاء، يرجع إلى نوعية العمل، وتفاوت العاملين في الإخلاص وغيره، فلا منافاة بينها ، فيمكن الجمع بأنّ أصل مجازات الحسنة بعشر أمثالها ،

ص: 490


1- سورة البقرة : الآية 261
2- سورة التغابن : الآية 17

ولكن يمكن أن يزيد عليها تبعاً للخصوصيّات في العامل والعمل . وتجريد (عشر) من التاء لكون المعدود مؤنّثاً وإن حذف وأُقيمت صفته مقامه .

وقيل : إنّه المذكور وقد اكتسبت التأنيث من المضاف إليه .

قوله تعالى : «وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا)».

وعدٌ منه عزّ وجلّ بأن يكون جزاء السيّئة واحد مثلها ، وهو الجزاء العدل فإنهّ واحدة بواحدة ، والمثلية إنّما تكون في الكميّة ، وأمّا الكيفيّة فهي راجعة إلى نوعية العمل وصفات العامل ، كما في السابق .

قوله تعالى: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».

تأكيد بليغ بوصول الجزاء للعاملين من دون تفاوت عمّا ذكر ، فلا نقص في ثواب المحسنين كما لا زيادة في عقاب المسيّئين ، فلا يظلمهم أحد في الجزاء، وفيه الدلالة على عدم حصول الظلم عليهم مطلقاً لا من الله تعالى ولا من غيره.

ويستفاد من سياق هذه الآيات الختامية - هذه الآية وما بعدها - أنّها بمنزلة المحصّلة لما ورد في هذه السورة المباركة، التي عرفت أنّها من جلائل السور، لأنّها بينّت العقيدة الحقّة، وشرحت التوحيد، وأبطلت الشرك والوثنية بجميع مظاهرهما ، وذكرت أُصول الأحكام الإلهيّة ، وأشادت بدور الأنبياء علیهم السّلام دُعاة التوحيد ومظاهر دين الله عزّ وجلّ، وفي هذه الآيات الأخيرة تبيِّن الجزاء و قانونه العظيم للمحسنين المطيعين الذين اتّخذوا دين الله عزّ وجلّ منهجاً وصراطاً، واتّبعوا شريعته فلم يختلفوا في دينه، ونفّذوا وصاياه، فأثبت عزّ وجلّ لهم جزاء الضعف، بخلاف من اختلف في دين الله سبحانه، وتفرق عن الحقّ وأهله، أو أعرض عن الإيمان والطاعة وعمل سيّئاً ، فيكون المراد بالحسنة جميع ما ورد في هذه السورة في العقيدة والعمل بما فيه الاتفاق في الدين وإتباع الصراط

ص: 491

المستقيم ، كما تشمل السيّئة جميع ما حذّره الله تعالى منه، ونهى عن العمل به، والاقتراب منه بما فيه الاختلاف في الدِّين وإتباع السُّبل المتفرّقة .

***

ص: 492

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الكريمة أُمور :

الأوّل : يرشد قوله تعالى : «هَلْ يَنظُرُونَ» إلى أنّ الأمر كائن لا محالة، كأنّهم ينظرون إليه، فقد قضى الأمر فلا بداء ولا تغيّير، فلم يكن إلّا انتظار وقوعه، أمّا زمانه فلا يعلمه إلّا الله تعالى ، وذلك لأنّ العلّة في الموضعين -المستثنى والمستثنى منه - قد تحقّقت ، كما هو معلوم ولا يتخلّف المعلول حينئذٍ.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : «إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» أنواع العذاب الذي يحلّ بالمجرمين الظالمين ، ولكلّ واحد من هذه الأنواع أصناف وأفراد فتكون غير متناهية ، فمع نزول الملائكة أصناف من العذاب، ومع مجيء أمر الربّ أو آياته الأمر العظيم ، وقد عرفت آنفاً أن هذا الاختلاف والتفاوت في النوع والكيف والكمّ، يرجع إلى اختلاف الجرم والمجرمين في الكمّ والكيف والصفات والأفراد أيضاً .

ويمكن أن يكون فيه الإشارة إلى نوع المعاصي والسيّئات التي ارتكبها الظالمون، فإنّ بعضها تستدعى نزول الملائكة، وبعضها الأُخرى تستوجب أمر الربّ ، وثالثة تستدعي نزول بعض الآيات الكونية ، وفي الأخبار ما يرشد إلى ذلك .

الثالث : يدلّ قوله تعالى : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» إلى أنّ زمان الإمهال يتضايق وقُرب ظهور أمارات العذاب وهى شخصية ، كما في الكافر والمسي، فيما إذا عاين كلّ واحد منهما الموت ، أو نوعية كأشراط الساعة ونحوها ولم ينجُ منها

ص: 493

إلّا المؤمن الذي استمرّ على إيمانه وعمل صالحاً.

الرابع : يرشد قوله تعالى : «لا يَنفَعُ نَفْساً إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ» إلى أن الإيمان إذا كان عن طوع ولم يفسده الكفر والشرك يكون نافعاً، وإذا كان معه العمل الصالح فهو الخير المحض .

الخامس : يدلّ قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» إلى أنّ الدِّين الإلهى دين وحدة واجتماع وائتلاف يدعو إلى الاتّحاد ونبذ الفرقة ، تشترك في هذا الهدف السامي جميع الأديان الإلهيّة التي اتحدت في أُصول العقائد والأحكام التكليفيّة التي ابتدأت بالنهي عن الشرك، وختمت بالنهي عن التفرّق عن سبيل الله عزّ وجلّ، حتّى أصبحا من أُصول العقيدة، فمن يدعو إلى التفرّق والاختلاف ويفرّق دينه ويجعل المؤمنين شيعاً متشتّتين ، فقد خرج عن الدِّين ولا يعدّ من المؤمنين ، وفيه الإيماء إلى ابتلاء أمُّة الإسلام بهم ، إذ أوجبوا تشتت دين التوحيد إلى الشيع والفرق ، وإطلاق الآية الكريمة يشمل كلّ ما يوجب التفرق .

السادس : يستفاد من قوله تعالى : «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» بُعد ساحة رسول الله صلّي الله علیه و آله عن الذين فرّقوا دينهم، فلا انتساب لهم به ، ولا صلة لهم برسولهم ، ولا يصيبه من ضررهم شيء، فقد كان صلّي الله علیه و آله مثالاً تامّاً كاملاً لدين التوحيد ، وهو مظهره، وتمثّل الحقّ به .

السابع : يدلّ قوله تعالى : «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» على الآثار العظيمة التي ترتّبت على أفعالهم الشنيعة وعقائدهم الفاسدة ونواياهم الشرّيرة، ممّا أوجبت التفرّق في الدِّين، وبقدر عظيم جرمهم يكون الجزاء شديداً، وستظهر شناعة أفعالهم، وآثارها الوضيعة .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ...» قانون الجزاء العدل في الإسلام، فالحسنة يكون جزاؤها عشرة أضعافها ، والسيّئة لا

ص: 494

يكون إلّا مثلها ، وقد عرفت أنّ هذا المقدار هو الحدّ الأدنى لهما، وقد يتضاعف تبعاً لصفات كلّ من الحسنة والسيّئة ، وقد ذكر سبحانه في مواضع أُخرى من القرآن الكريم سائر خصوصيّاتها.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» على أنّ الجزاء إنّما يماثل العمل في الحسن والسيء ، كما أنّ الأصل فيه هو التماثل في المقدار أيضاً فيكون حسنة بحسنته ، والسيّئة بمثلها ، إلّا أنّ التفضّل الإلهي أوجب الفرق بين الجزاءين، فبلغ في الجزاء الحسن إلى عشرة أضعاف من دون نقص ، فلا يظلم كلّ واحد من الفريقين في جزاء أعمالهم ، وهو تعالى منزّة عن الظلم عقلاً ونقلاً، وقد تعلّقت إرادته المقدّسة أن لا يظلمهم أحد.

***

بحث روائي

في «تفسير العيّاشي» عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیه السّلام في قوله تعالى : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا» قال : «طلوع الشمس من المغرب ، وخروج الدابّة ، والدخان ، والرجل يكون مصرّاً ولم يعمل عمل الإيمان ثمّ تجيء الآيات فلا ينفعه إيمانه».

أقول : الحديث يبيِّن بعض الآيات التى هى كثيرة .

وقوله : والرجل يكون مصراً... تفسير لقوله تعالى «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً»، كما تدلّ عليه روايات أُخرى.

وفيه عن أبي بصير، عن أحدهما علیهماالسّلام في قوله : «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً».

قال : «المؤمن حالة المعاصي بينه وبين إيمانه كثرة ذنوبه وقلّة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً».

أقول : في نسخة أُخرى : المؤمن العاصي .

ص: 495

ما يتعلّق بعلامات آخر الزمان

وفي «تفسير القمّي» حدّثني أبي عن صفوان، عن ابن مسكان ، عن أبي جعفر علیه السّلام ، في قوله تعالى : «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ...» قال : «إذا طلعت الشمس من مغربها فكلّ من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه».

وفي «الدّر المنثور» أخرج أحمد وعبد بن حميد في «مسنده» ، والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخُدري عن النبي صلّي الله علیه و آله في قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» قال : «طلوع الشمس من مغربها».

أقول : إنّ آية طلوع الشمس من المغرب قد وردت في عدّة روايات مرويّة عن الفريقين ، وهي من الآيات المعروفة التي لا تنفيها الأنظار العلمية ، وتبتني على تغيّير الحركة الأرضية على خلاف ما عليها، بحيث يتبدّل القطبان فيكون الشمالي جنوبياً والجنوبي شمالياً ، وقد ذكرت أحدى النظريات الحديثة بأنّ ذلك يحصل عند سقوط أحد النيازك من النجوم واختراقه للمجال المغناطيسي للأرض فيؤدّي إلى ر حركة الأرض ، والله العالم .

وربما تكون الآية الشريفة قد تضمّنت سراً من الأسرار الإلهيّة ، يعتبر حقيقة من الحقائق الكونيّة .

وكيف كان، فهذه الآية الإلهيّة واحدة من الآيات الكثيرة التي نطق بها القرآن الكريم ، كخروج الدابة ، والدخان ، ويأجوج وماجوج ، ونزول عيسى بن مريم علیه السّلام ، وذكرت بعضها الآخر ، كخروج المهدي علیه السّلام وهي وإن كانت من حوادث آخر الزمان ، لكن إثبات كونها ممّا يوجب غلق باب التوبة يحتاج إلى دليل .

وفي «البرهان» عن البرقي ، بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري ، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «ما زالت إلّا والله فيها حجّة يُعرف فيها الحلال والحرام ويدعو إلى سبيل الله ، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم

ص: 496

القيامة ، فإذا رفعت الحجّة وأغلق باب التوبة لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة ، وأولئك من شرار خلق الله ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة».

أقول : رواه الطبري في كتاب «مناقب فاطمة» بسند آخر عن أبي عبد الله علیه السّلام، وهو يدلّ على أنّ الإمام بوجوده الشريف من الآيات التي لها الأثر في نظامي التشريع والتكوين ، فهو من أعظم الآيات، وقبل ظهوره تظهر آيات أُخرى لها الدخل في تغيير الاجتماع ونفوس الأفراد، وتدل عليه جملة من الأحاديث .

وفي «تفسير القمّي» عن أبيه، عن النضر عن الحلبي، عن معلّى بن خنيس ، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، في قوله تعالى : «إِنْ الَّذِينَ فَارَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً»، قال : فارق القوم والله دينهم».

أقول : يدلّ على أنّ المفارقة قد حصلت ، وأنّ اختلاف المذاهب يدخل تحت الآية ، كما ذكرنا .

وقراءة «فَاَرَّقُوا» مرويّة عن أهل البيت علیهم السّلام وبعض القرّاء ، وإن كان «فَرَّقُوا» التي هي القراءة المعروفة تستلزم المفارقة أيضاً.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السّلام في الآية ، قال : «كان علىّ علیه السّلام يقرؤها فارقوا دينهم ».

وفي «تفسير القمّي» عن أبي جعفر علیه السّلام في الآية، قال: «فارقوا أمير المؤمنين علیه السّلام وصاروا أحزاباً».

أقول : إنّ المراد فارقوا الحقّ ، وعلىٌّ علیه السّلام معه ، فيكون من باب الجري والتطبيق .

وفي «البرهان» عن البرقي عن أبيه، عن النضر، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان عن زرارة ، قال : «سئل أبو عبد الله علیه السّلام وأنا جالس عن قول الله تبارك وتعالى : «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» يجري لهؤلاء ممّن لا يعرف منهم

ص: 497

هذا الأمر؟ فقال : إنّما هى للمؤمنين خاصّة . قلت له : أصلحك الله أرأيت من صام وصلّى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممّن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : إنّ الله يدخل أُولئك الجنّة برحمته» .

أقول : يدلّ الحديث على أنّ الفوز بالجزاء الحسن العالي يشترط فيه المعرفة ، فيكون الأجر على قدر المعرفة ، وهو الذي تدلّ عليه روايات متضافرة مرويّة من الفريقين .

كما أنّه روى الفريقان في تفسير الآية الشريفة: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» روايات متعدّدة، كلّها تدور حول بيان المصاديق، وبعض خصوصيّات الأعمال التى يكون عليها مدار الجزاء.

بحث قرآني وعرفاني حول ما تكشفه الآيات عن الأُمور العظيمة :

الآيات الشريفة من الآيات التي تكشف عن أُمور عظيمة لها التأثير الكبير في النظام الكياني تصيب العباد والبلاد، وتبيّن الأسباب التي تؤدّي إليها ، وتعتبر أنّ السبب الأهمّ هو الإنسان وتمرّده على الله تعالى، والحق ّالذى له مظاهر متعدّدة، وإعراضه عن التعاليم الإلهيّة، وشدّة ظلمه وعظيم إفساده حتّى شمل العالم ، كما قال تعالى : «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» (1)، ويعتبر الإخبار عنها من التنبؤات القرآنية التي لا محالة من وقوعها .

فإنّ من تلك الأُمور استيلاء أنواع العذاب على المشركين والكافرين والمنافقين الذين صدّوا عن دين الله عزّ وجلّ، وصدفوا عن إتّباعه، وقد تمادوا في إشاعة الفساد وإتّباع الشهوات وإباحة المحرمات وهتك الأعراض وسفك الدماء ، ولم يرقبوا الله تعالى إلّاً ولا ذمّة، فلم يبقى مكرمة ولا خصلة حميدة ولا

ص: 498


1- سورة الروم : الآية 41

خُلق كريم إلّا تبدّلت إلى أضدادها .

وقد ذكر سبحانه أنواعاً من العذاب، وفصّلها تفصيلاً فيه التحذير التامّ لهم ، وهي إمّا أن تكون في الدُّنيا ، أو في الآخرة ، ترجع إلى الأفراد أو المجتمع ، أو العالم ، وبحسب أنواع جرائم العقائد والأفعال ، وإمّا أن تكون بإنزال الملائكة ، أو بأمر الربّ العظيم الذي حاطهم بالعناية والنِّعم فلم ينتفعوا منها ، أو نزول نفس الآيات التي تهزّ الكون برمّته .

وقد تقدّم في هذه السورة ذكر بعض أفعال الملائكة، فقال تعالى : «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» (1).

وأمّا أمر الله تعالى فقد كان له فى مر العصور والدهور مظاهر متعدّدة، أهمّها ما ورد في قوله تعالى: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (2)، وما ورد في قوله : «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (3)، وأنّ أمر ربّهم عليهم متواصل وسوف يطفئ نارهم ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلما وجوراً.

وأمّا آيات الربّ فإنّه عزّ وجلّ قد أعدّها لليوم الموعود، وتظهر الواحدة تلو الأُخرى، حتّى ظهور الآية العظمى بالنداء أنّ الأرض يرثها عبادي المتّقون، وتعلن أن الناس كانوا بآياتنا كافرين، وهو الحدّ الفاصل بين الباطل الذي هم عليه، المسيطر على العباد والبلاد، والحقّ الذي هو وأنصاره عليه، وأنّ به يزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً. وهي من الآيات التي سوف تقع ولها التأثير العظيم

ص: 499


1- سورة الأنعام: الآية 93
2- سورة الصف : الآية 8
3- سورة النساء : الآية 141

في تغيير الأُمّة والعالم، فهي آية كبرى وعظيمة في جميع شؤونها .

كما أنّ هذه الأُمور الثلاثة تشير إلى وقوع التغيير الجذري النوعي الشامل للإنسان والاجتماع، بل النظام الكياني، وهي إمّا أن تحقّقت أو ستتحقّق.

ثمّ إنّ من الأُمور التي وردت في الآية الكريمة، انسداد باب التوبة عند ظهور الآيات التى تكون الحدّ الفاصل بين فترة الاختيار والتكليف وبين الاضطرار وسقوط التكليف، والإنسان لا يخرج عن أحدهما ، وله معهما حالات اربع:

الأُولى : المؤمن الذي آمن قبل ذلك اليوم الموعود، وعمل صالحاً، وكسب خيراً، فإنّه ينتفع بإيمانه ويدخله الله تعالى في رحمته، ويجزيه الجزاء الأوفى.

الثانية : المؤمن كذلك، ولكنّه لم يكتسب في إيمانه خيراً ، فهو وإن كان في العقيدة مؤمناً ، ولكنّه بعيدٌ عن الإيمان عملاً ، فهو لا ينتفع من إيمانه ، فلا ينفع نفساً إيمانها .

الثالثة : إنّه آمن ولكن لم يمهله الأجل ليعمل فهو مرجوّ لأمر الله تعالى ، كما في بعض الروايات .

الرابعة : لم يؤمن قبل ذلك اليوم الموعود ، ولكنّه آمن بعد نزول الآيات، فلا ينفعه إيمانه أبداً.

وهذه الأحوال الأربعة هي من الأُمور الواقعية التي أخبر عنها القرآن الكريم، فلم يكن كلّ إيمان مقبولاً ، فلابدّ أن يتحقّق مع شروطه، والزمان الفاصل هو الذي يظهر الحقيقة وتنكشف عياناً . وهي واقعة ويتعرّف كلّ فرد على حقيقة حاله ، ويترتّب على المنكشف آثاره وجزاؤه المعروف .

كما أنّ من الأُمور التي وردت في الآيات الكريمة، الذي له الأثر الكبير في بقاء الدِّين الإلهى سالماً عن كلّ اختلاف وثباته أمام الصعوبات ودوامه

ص: 500

و استمراره يحرّك النفوس نحو الطاعة وعمل الخير، ونبذ الاختلاف، وتفرّق المتديّنين، وصيرورتهم شيعاً وأحزاباً يُعادي بعضهم بعضاً، الذي يعتبر من أعظم الجنايات على الإله العظيم الذي أرسل الرُّسل وأنزل الكتب وبعث معهم أسباب الهداية، يهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم، الذي لا خلاف ولا اختلاف فيه، ليجتمعوا على التوحيد والحقّ والهداية ، وقد بين عزّ وجلّ فيما سبق أنّ الابتعاد عنه إنّما يتحقّق بإتّباع السُّبل فتفرق بكم عن سبيله ، وقد تحقّقت هذه النبوءة القرآنية في الإسلام؛ فاختلف المسلمون وتفرّقوا وصاروا شيعاً وأحزاباً، واتّبعوا أهواءهم ووقعت أُمور عظام، وقد حذّرهم الله سبحانه ورسوله الكريم عنها الذي يعدّ بحقّ رسول الإنسانية، وتجسّدت فيه حقيقة الدِّين الحقّ والأخلاق الكريمة ولأجله نزّهه سبحانه عن أولئك، فقال : «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» وقد بيّن سبحانه من آثار ذلك الاختلاف والمفارقة عن الدِّين أمرين :

الأوّل : خفاء الحقيقة وطمس الدِّين الحقّ، فلم يكد يعرف معالم الإسلام الصحيح سوى المذاهب والفرق، فابتعد المسلمون عن دينهم وعن رسول الإسلام صلّي الله علیه وآله وفارقوهما .

الثاني : الجزاء المبهم لتهويله ، وإنّما أمرهم إلى الله تعالى، لأنّ فعلهم من أعظم الجنايات على دين الله عزّ وجلّ، وهو الذي يحاسبهم ويجزيهم بأسوأ العذاب .

كما أنّ الأمور التي تعرضت لها الآية الكريمة قانون الجزاء على الأعمال ، فإنّ القاعدة الأولية تقتضي التساوي بين العمل وجزائه ، ولكن من الحسن الذي دعا إليه العقل ورغب إليه الشرع، أن يكون الجزاء في الحسنة بعشر أضعافها ، ولا يكون في السيئة إلا مثلها ، وقد ذكر سبحانه هذا الأمر ترغيباً وتشويقاً إلى فعل الحسنة وترك السيئة ، وتظهر أهميته أنّه عزّ وجلّ ذكره بعدما بين أنواع العذاب

ص: 501

تثبيتاً للسنّة الإلهيّة من قرن الوعد بالوعيد لئلّا يغلب القنوط والرجاء أحدهما على الآخر عند الإنسان وللتحريض إلى العمل الصالح والطاعة ، والتمسّك بحبل الله سبحانه وعُرى الدِّين .

وقد ذكر بعضهم في بيان التفاوت المزبور ، أنّ السيّئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أوّل مقاماتها القلب وهى مرتبة العشرات وأقلّ مراتبها عشرة، وقد تتضاعف إذا كانت من مقام الروح أو مقام السرّ .

وكيف كان، فقد عرفت ما هو المستفاد من النصوص القرآنية وما ورد في الأخبار ، فلا ظلم في المقام الربوبي، كما أنّه يمنع ظلم غيره للعباد في هذا الأمر المهمّ .

***

ص: 502

سورة الأنعام، الآية 161 - 165

الآية 161 - 165

«قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبِّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)».

الآيات الشريفة هي بمنزلة الخلاصة لما ورد في هذه السورة المباركة من المقاصد والأغراض والثوابت والأركان والتشريعات، ومحصّل ما ذكر من الحجج والبراهين التي أقيمت في تثبيت التوحيد وإبطال الشرك والوثنيّة ، فتذكر الرسول الذي هو خاتم الأنبياء والمرسلين قد اهتدى بهداية الله عزّ وجلّ، وهو عاملٌ بدين الله سبحانه، مخلص في عمله وبذلك أمر ، فيجب على غيره الإقتداء به ، وأنّ الدرجات لا تنال إلّا بالعمل الصالح والطاعة الله عزّ وجلّ، وقد نبّهت الآيات لبعض الأُمور الواقعية التي لها الأثر الكبير في تحقيق المقاصد العلية .

***

ص: 503

التفسير

قوله تعالى : «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

خطابٌ لأشرف خلقه ، وفيه بيان للحقيقة المطلوبة من هذه الأُمّة التي أمرت بإتّباع الشريعة الحقّة، ونبذ ما سواها ، فقد أمر سبحانه أن يخبرهم بأنّه على الدين الحقّ، ويدعو إلى ربّه الواحد الأحد، بعد أن هداه إلى الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا إشتباه، ولا تخلّف فيه ولا اختلاف يصل سالكه إلى المقاصد السنية والسعادة الحقيقة ، وهو الذي فارقوه بالكلّية، وفرّقوا دينهم وصاروا شيعاً وأحزاباً.

وفيه التأكيد على أن الرسول العظيم صلّي الله علیه و آله على الهداية الربّانية ليس منهم، فلا ينتسبون إليه صلّي الله علیه و آله أبداً. كما أنّ فيه الإشارة إلى أنّه صلّي الله علیه و آله هو الصراط المستقيم، لكونه مهديّاً من الله عزّ وجلّ، وهادياً لأُمّته، وشرعه وسيره وسلوكه وقصده كلّها هدئ ، فهو المصداق الحقيقي لقوله تعالى : «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» .

وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها ، كما أنّ التعرّض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميره صلّي الله علیه و آله تشريفاً له وتعظيماً لشأنه وأنّه المهدّي بالهداية الربّانية فعلى غيره إتباعه ، كما عرفت .

حول المراد من قيّماً والملّة وأصاف من هداه الله سبحانه

قوله تعالى : «دِيناً قيماً».

انتصابهما إمّا على أنّه بدل من محل «صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، أو مفعول فعل مضمر دلّ عليه المذكور، أي هداني ديناً قيّماً. ويتعدّى هدى تارةً بإلى كقوله : «إلَى صِرَاطِ»، وأُخرى بنفسه إلى مفعول ثان كقوله: «وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ »(1).

ص: 504


1- سورة الصافات : الآية 118

و (قِيَماً) مصدر ، كالصغر والكبر مخفّف القيام ، وقرئ بالتشديد كسيّد ، وقالوا إنّه أبلغ من المستقيم بوزنه وهيئته، وعلى كلتا القراءتين هو وصف للدِّين مبالغة في حسن قيامه على مصالح العباد والبلاد، وإعمار الأرض والنفوس ، فهو دين قيام الجميع وجوه الصلاح في المعاش والمعاد، وجلب السعادة لخلق الله تعالى في الدُّنيا والآخرة .

والمعنى : إنّ الصراط المستقيم هو دين قائم على مصالح العباد والبلاد، وصلاحهم في الدُّنيا والآخرة أحسن قيام .

قوله تعالى : «مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً».

بدل من (ديناً) لبيان إنّه مبنى على الفطرة، مائل عن الشرك والباطل إلى التوحيد الخالص والدِّين الحقّ . وقد تقدّم معنى الحنيف فيما سبق ، فراجع .

والمراد بالملّة شرع الله تعالى ودينه الحقّ ، سمّي بها باعتبار أنّه يُملى ويُكتب ويتدارس عند التابعين لها .

قوله تعالى : «وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ».

تأكيد على نزاهة إبراهيم علیه السّلام كما يدّعيه المبطلون، وتكذيب لهم في دعواهم إنّهم على ملّته ، فإنّ حنيفيته تنافي الشرك مطلقاً. وقد وصف القرآن الكريم هذا النبيّ العظيم بالحنيف في عدّة موارد ، وفيه الدلالة على نزاهة ساحته المقدّسة، وبراءته ممّا ينسب إليه علیه السّلام من الدعاوى الباطلة ، فلابدّ أن يكون متّبعوه على تلك النزاهة والصفاء .

ثمّ إنّه قد وصف سبحانه وتعالى هداه في هذه الآية الكريمة بعدّة أوصاف :

الأوّل : إنّه الصراط الذي لا يحادّ عنه ، ويحتاج إليه كلّ سالك ، وبدونه لا يثبت دين ولا شريعة .

ص: 505

الثاني : كونه صراطاً مستقيماً لا خلف ولا اختلاف فيه ، وإلّا لم يكن مستقيماً بل كانت سُبلاً متفرّقة .

الثالث : كونه ديناً يشتمل على العقيدة والشريعة والأخلاق .

الرابع : كونه قيّماً يقوم على مصالح الخلق ، وإعمار الأرض عمراناً يجلب السعادة والفلاح لعباد الله سبحانه في الدُّنيا والآخرة .

الخامس : كونه حنيفاً خالصاً من كل وجوه الشرك ، والدعاوي الباطلة ، لكونه معتمداً على الفطرة المستقيمة .

السادس : إنّه ملّة إبراهيم علیه السّلام ، لأنّه رائد دعوة التوحيد الذي تنزّه عن ، الشرك، وبريء عن كلّ ما نسب إليه من الدعاوي الباطلة. فأصبح هداه عزّ وجلّ جامعاً لجميع الحقائق والمعارف الربوبيّة ، ومنزّه عن كلّ نقص وشين ، ولأجل ذلك أمر الله تعالى رسوله الكريم بإتّباع ملّة خليله إبراهيم علیه السّلام.

ومن أجل ذلك كانت الآية الشريفة حاصل تلك المعارف والحقائق التي تضمّنتها السورة المباركة .

قوله تعالى : «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

بيان الطاعة بالعمل بعد بيانها بالعقيدة والإيمان، وأنّ الهدى هو مجموع الإيمان والعمل .

والمراد بالصلاة جنسها الشامل للواجبة والمندوبة ، كما أنّ النسك مطلق العبادة ، والناسك العابد، وكَثُر استعماله في الحجّ والذبيحة تقرّباً إلى الله تعالى ، وإنّما خصّ الصلاة بالذكر لمزيد العناية بها منه عزّ وجلّ ، ولأنّها محبوبة الرسول الكريم صلّي الله علیه و آله ، و تقدّم الكلام في وجه اهتمام القرآن المجيد بالصلاة .

والمحيى والممات مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت. أي إنّ حياتي بجميع ما لهما من الشؤون، من أعمال وأفعال وطاعات وأوصاف وتروك ، وموتي

ص: 506

بجميع ما يعود إلىّ من أُموره من أسباب وحالات مما يرجع إلى حال حياته وإنّما ذكرهما لبيان استيعاب جميع شؤونه في مسيرة حياته إلى الموت وما بعده من الآثار والنتائج، وأنّه صلّي الله علیه و آله جعل جميعها الله ربّ العالمين، ليكون مملوكاً ومربوباً له عزّ وجلّ، فهو ربّ العالمين، يرعى شؤون خلقه، ويدبّر أمر حبيبه صلّي الله علیه و آله .

وهذه الآية تبيّن مسيرته صلّي الله علیه و آله العقائديّة والعمليّة، وتدلّ على شدّة انقطاعه إلى الله تعالى، فقد اعتبر نفسه وجميع شؤونه ملك لربّه ، ولم يثبت لنفسه شيئاً وهو غاية التذلّل له والانقطاع عمّا سواه، فهو مملوك مربوب له مخلص في عمله ، وقد تطابق قوله مع فعله، فلا يتطرّق إليه أي شكّ وشبهة ، فصار قدوة الأنبياء والمرسلين عباد الله الصالحين، فلا يُترك التأسي به .

قوله تعالى : «لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».

تنزيه منه صلّي الله علیه و آله لربّه ، أي من غير إشراك في ربوبيّته عزّ وجلّ، وإنّ هذا التوحيد في الذات والعبادة والربوبيّة هو الذي أُمرت به وأنا أوّل المسلمين الله تعالى، مطيعٌ له فيما أراده.

وسياق الآية الكريمة يدلّ على أنّ المراد من الإخلاص الخلوص في العبودية، والتسليم لأمر الله تعالى، وهو غاية الإخلاص، ومنتهى العبودية، فيشمل الإخلاص في العبادة الأولى.

والأمر قد تعلّق بجميع ما عنده من الحياة والموت وما يدور فيها، وجعلها لله تعالى لا خصوص الإخلاص في الصلاة والنسك .

حول معنى أوّل المسلمين

كما أنّ قوله تعالى: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» يدلّ على أنّه صلّي الله علیه و آله أوّل المسلمين في الرتبة والمنزلة والزمان والعمل، وحقيقة التسليم والخلوص والإخلاص وهو وجه الحقيقة وعينها، وفي أعلى الدرجات والقرآن الكريم قد حكى دخول الأنبياء في الإسلام، ولم ينعت واحداً منهم بكونه أوّل المسلمين إلّا خاتمهم علیه السّلام في

ص: 507

موردین:

أحدهما: المقام الذي أمره الله تعالى أن يخبر به قومه .

والثاني: ما ورد في سورة الزمر ، قال تعالى : «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» (1)، وهو ظاهر في ما ذكرناه من إطلاق الأوّلية في الدرجة والرتبة والزمان واختصاصها به صلّي الله علیه و آله ، وبذلك امتاز على جميع رسل الله علیهم السّلام وله الفضل بها عليهم؛ فهو الأوّل في جميع الفضائل والمزايا . ومنه يظهر بطلان ما قيل باختصاص الأوّلية بكونه صلّي الله علیه و آله أوّل المسلمين من هذه الأُمّة ، لأنّ إبراهيم علیه السّلام قد سبقه الإسلام وكذا أولاده من الأنبياء ومن تبعه في الإسلام.

فإنّه خلاف الإطلاق والسياق ، وإنّ إبراهيم علیه السّلام قد سبقه نوح علیه السّلام كما حكى عنه تعالى : «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (2).

وأمّا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل علیه السّلام: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ لَكَ» (3)، وقوله تعالى : «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ»(4) ، فلا يدلّان لَكَ على شيء مّما ذكروه ، فهما نظير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السّلام: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (5).

وعنه وابنه في قولهما : /نرَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ لَكَ»(6).

ص: 508


1- سورة الزمر : الآية 12
2- سورة يونس : الآية 72
3- سورة البقرة : الآية 128
4- سورة الحج : الآية 78
5- سورة البقرة : الآية 131
6- سورة البقرة : الآية 128

وعن لوط في قوله علیه السّلام : «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (1).

وعن ملكة سبأ: «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (2) .

فالصحيح ما ذكرناه .

قوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبِّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ».

أسلوب بلاغي متين، يتضمّن الاحتجاج منه صلّي الله علیه و آله على المشركين وغيرهم، بعدما عرض عقيدته وعمله ونسكه ومسيرته في حياته مع ربّه العظيم ، وهي ثلاث حجج تعتبر جوامع ما ورد في هذه السورة :

الأُولى : الاحتجاج عليهم بالمبدأ الفيّاض وبدو الخلقة وخلق الحياة الدُّنيا ، فإنّه عزّ وجلّ ربّ كلّ شيء، ولا ربّ سواه، فقد صدر منه كلّ شيء، فهو الله الذي استحقّ العبادة، فلا يصلح غيره أن يُعبد ، فإنّ كلّ شيء مربوب له ، فيكون مضمون الآية من القضايا التي قياساتها معها ، ولأجل ذلك كان ابتغاء غير الله ربّاً سفهاً عظيم وجرماً كبير ، وقد جمع بين الاسمين العظيمين (الله والربّ) للدلالة على انحصارها في ذات واحدة خلافاً لبعض المشركين الذين فرّقوا بينهما فاتّخذوا أرباباً من دون الله ، وقد عرفت سابقاً بطلان كلّ دعاوى المشركين .

والأسلوب خاصّ يذكر للتنبيه على بطلان ما عندهم وإنّ عليهم تصحيحه بما ذكر.

وقيل : إنّ الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، ولكنّهما من لوازم ما ذكرناه .

قوله تعالى : «وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا».

ص: 509


1- سورة الذاريات : الآية 36
2- سورة النمل : الآية 44

وهو الاحتجاج عليهم من حيث المنتهى ، وفيه التقرير للتوحيد ، لأنّ من كان مرجع المخلوقات وإليه الجزاء، بعد كشف حقائق أعمال العباد في يوم لا يملكه إلّا الله تعالى وتكسب كلّ نفس ما عليها من الأعمال. فهو الله ربّ كلّ شيء، فيكون المرجع هو المبدأ.

ولعلّ الوجه في ذكر كسب الأعمال بالخصوص، لأنّه من أهمّ دواعي الإيمان ، أو لأنّ مجازاة الأعمال وفق القواعد والضوابط التي قرّرها الربّ العظيم، من أعظم الحجج على توحيده فيتعيّن عبادته لا غيره ممّن لا يملك شيئاً .

حول تفسير قوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»

قوله تعالى: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».

بيان لأصل من أُصول الجزاء الإلهي وقد بعث به جميع الأنبياء ، كما قال عزّ وجلّ : «أَمْ لَمْ يُنَبِّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» (1). ويعتبر من الأمثال القرآنية ، وفيه التأكيد لما سبق .

وقد أكّد عليه القرآن المجيد في مواضع كثيرة بليغاً بأساليب عديدة ، كقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (2). وفيه الردّ على المشركين وغيرهم في دعواهم تحمّل الخطايا، كما حكى عزّ وجلّ عنهم : «وَلْتَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ» وهو عادة الرؤساء والشياطين عند إغواء الناس الساذجين .

قوله تعالى : «ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .

تأكيد بليغ على عدم جدوى اختلافهم في أمر العقيدة والدين الحقّ، فإنّ الذي ترجعون إليه هو ربّكم، يرعى شؤونكم، ويعلم جميع أُموركم، فينبّئكم بما

ص: 510


1- سورة النجم : الآية 36 - 39
2- سورة المدثر : الآية 38

كنتم فيه تختلفون، ويظهر زيف معتقدكم، وعجز ما سواه ممّا عبدتموه واتّخذتموه أرباباً ، وقد فسرّ الإنباء في موضع آخر بالحكم، كما قال تعالى : «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (1). وإنّما قدّم سبحانه مجازاة الأعمال والتذكير ببعض خصوصيّات الجزاء، لما فيها من الدعوة إلى الرجوع إلى الله ، وإلزامهم بالطاعة والعمل ، وبذلك فقد تمّ توحيد المبدأ والمعاد، وهو الله الذي لا ربّ سواه فلا معبود غیره .

قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ».

احتجاج ثالث، وهو بيان حال النشأة الدُّنيا التي تبتني على نظام محكم، ينتظم فيه حال الإنسان في معاشه ، وقد سنّ الله سبحانه فيها سنناً اجتماعية حكيمة تدلّ على عظيم علمه وحكمته وقدرته، ممّا تدلّ على أُلوهيّته العظمى وربوبيّة الكبرى ، وذكر عزّ وجلّ من تلك السنن جعل البشر خلفاء في الأرض، واختلافهم في جميع الوجوه الاجتماعية وتفاوتهم فيها، وهي التي يقوم عليها النظام الاجتماعي العام ، كالقوّة والضعف، والذكورة والأُنوثة ، والكبر والصغر ، والعلم والجهل ، والقلّة والكثرة ، والرئاسة والمرؤوسية وغيرها ، كلّ ذلك يدلّ على بدیع صنعه صنعه في خلقه منّة منه عليهم .

والخلافة قد تكون باللّحوق والسبق، فتكون كلّ أُمّة خلفاً للأُمّة السابقة في الملك واستعمار الأرض ، نظير قوله تعالى : «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (2). والمعنى يخلف بعضكم بعضاً.

وقد تكون في كونهم خلفاء أبيهم آدم علیه السّلام.

ص: 511


1- سورة آل عمران: الآية 54
2- سورة يونس : الآية 14

وقد تكون في كونهم خلفاء الله تعالى في الأرض باستعمارها على وجه العدل والصلاح ، فيكون المعنى استخلفكم لنفسه في الأرض.

والكلّ صحيح، وإن كان الأوّل أقرب في المقام، وتقدّم الكلام في سورة البقرة ما يتعلّق بالخلافة ، فراجع .

قوله تعالى : «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ» .

في جميع أسباب الامتياز ، والحكمة في ذلك ترجع إلى وجوه عديدة :

منها : نفي صفات الإلوهيّة عنكم، لأنّكم متفاوتون مُحدثون، وهما صفتان يتنزّه الإله عنهما .

ومنها : اختلاف استعداداتكم وقابليّاتكم وظهورها.

ومنها : صلاح أحوالكم .

ومنها : ظهور أعمالكم التي بها تتفاوت درجاتكم في الأُولى والعقبى وغير ذلك من الوجوه .

قوله تعالى : «لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ».

حكمة أُخرى، وهي ظهور الاستعدادات والقابليّات والكامن في النفوس بالابتلاء والامتحان لتنكشف الحقائق التي تكون سبب السعادة والشقاء ، فإنّ الجزاء الإلهي يقوم عليها ، فيعلم كلّ فرد درجات قُربه إلى الله تعالى وبعده عنه .

ولا ريب أنّ هذه السنّة الإلهيّة، والهداية الربّانية الاجتماعية تقرّر عقيدة التوحيد، وتهدي الإنسان إلى الطاعة والانقياد ، وتبطل عقيدة الشرك وتهدم أساس عبادة غير الله عزّ وجلّ ، فهو الربّ الذي خلقكم ونظم شؤون حياتكم ، وهداكم إلى سنن الحياة ، وإليه مرجعكم فيجازيكم على انكشاف حقائقكم بسبب أعمالكم ، وهي حجج قويمة تدلّ على توحيده في الخلق والربوبيّة والطاعة فلا ربّ غيره .

ص: 512

قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ».

أي بعد بيان الحقّ في العقيدة والعمل ، وظهور المحسن والمسيء وتميّز أحدهما عن الآخر ، فمَن يعرض عن الهداية الإلهيّة بعد وضوحها وتمتّ الحجّة عليه، فهو يستحقّ العقاب، والله سريع العقاب.

وإنّما ذكر الربّ لبيان أنّ ذلك من شؤون ربوبيّته العظمى . وسرعة العقاب إمّا لأنّه قريب آتٍ لا محالة ، أو لأنّهم لم يراعوا الحقوق والواجبات، فقرب منهم العذاب وأصبح سريعاً .

قوله تعالى : «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».

لمن أطاعه عزّ وجلّ وراعى حقوقه ، وفي ختم السورة بهذين الاسمين المباركين من اللّطف والعناية بخلقه لاسيما مع ابتدائها بالحمد.

***

ص: 513

بحوث المقام

بحث دلالی :

الآيات الشريفة بمضمونها الرفيع، وأسلوبها البلاغي البديع، ومعانيها السامية، تعتبر خاتمة جليلة لسورة مباركة تحتوي على ادق المعارف الربوبيّة وأجلّ المطالب العلّية، تعلّقت بتصحيح عقيدة الناس، وتهذيب نفوسهم و وتزكيتها من أرذل الصفات والعقائد الرديئة ، واشتملت على أحسن الأحكام والشرايع لتحسين أحوال الإنسان في المعاش والمعاد ، وتقويم سيره وسلوكه ، وهدايته إلى الصراط المستقيم، وضرب سبحانه أروع الأمثال بالأنبياء والرُّسل ليكونوا قدوة لغيرهم، فكان هديهم أشرف الهدى، وسيرتهم أجلّ السِّير، وقد أمر غيرهم بالإقتداء بهم لأنّهم الصراط الأقوم، ومن مميّزات هذه السورة المباركة أنّها ابتدأت بالحمد لله ربّ العالمين، وختمت أكمل الآيات التي هي جامعة لما ورد فيها من التوحيد والدعوة إليه وأُصول العقائد الحقّة والشرايع الإلهيّة، واشتملت على الغرض الذي نزلت لأجله، وهو الاحتجاج على المشركين، وإبطال عقيدة الشرك والوثنية، ومقارعة الظلم والجرم ، فكانت الآيات الختاميّة مناسبة لجملة ما ورد فيها ، فقد ابتدأت بخطاب الرسول صلّي الله علیه و آله للإعلام بأنّه المصداق الحقيقى الكامل للتعاليم الإلهيّة، وأنّه الصراط المستقيم الذي يجب إتّباعه بعدما هداه عزّ وجلّ إليه، فقال سبحانه : «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ»؛ فقد اجتمعت فيه جميع العلل الأربع فحاز مقام جمع الجمع، فكان مظهراً للدِّين القيم، ومصداق الملّة الحنيفيّة الإبراهيميّة ، وبريء من كلّ نقص وشين المتمثّلين في الشرك الذي هو اُمّ الرذائل ، وإنّه اعتصم بالله عزّ وجلّ وحده، وجعل صلاته ونسكه وجميع أُموره

ص: 514

وشؤونه في الحياة والممات الله سبحانه ، وبذلك قد تمّت فيه العبودية الحقيقيّة مخلصاً له عزّ شأنه، مُعرضاً عمّا عليه المنافقون والمراءون، وقد أسلم لربّه على أكمل وجه؛ فكان أوّل المسلمين حقيقة، وأخلص الموحِّدين، وأعبد العابدين وأخشعهم لمعبوده ، فقد بيّن بعقيدته وأخلاقه وعمله أنّه على الصراط المستقيم، بعيد عن انحراف المنحرفين عن صراط الله القويم ، وأنّه على توحيد خالص يلزم على الأُمّة متابعته فيه .

ثمّ ذكرت الآيات الكريمة أصلاً آخر من الأُصول المرتبطة بالعقيدة والعمل، وهو الجزاء على الأعمال، وإنّما يكتسب كلّ فرد جزاء عمله، فلا يؤاخذ بعمل غيره ، ولا ينتفع غيره جزاءه .

فكانت الآيات الشريفة من الآيات الاحتجاجية على المشركين لإثبات التوحيد وأركانه ومعالمه بوجوه ثلاثة:

إثبات أن الله ربّ كلّ شيء، وأنّه مرجع العباد وإليه معادهم، وأنّه خالق الإنسان الذي هو محور الخلافة الإلهيّة ، وعليه يدور نظام التشريع ، فقد جعل الناس خلائف الأرض ليعتبر بعضهم من بعض، ويتبيّن طريقهم إمّا إلى الكمال إن صلح وسار على هدى الصالحين ، واستفاد من سيرة السلف الصالح، وتنزّه من النقصان إلى الكمال، وخرج من العصيان إلى الطاعة، واختار الملّة الحقّة الحنيفية ، ولعلّ في ذكر إبراهيم علیه السّلام وملّته في المقام للاستذكار بجهاده العظيم في تثبيت دعائم التوحيد ، ومقارعة ظلم الظالمين، وبالطاعة والعصيان امتازت درجاتهم، فكان في ذلك آية إلهية ليختبرهم فيما آتاهم فإمّا السعادة أو الشقاء، وذلك باختبارهم وقد وضح الأمر واتّضحت الحجّة ، وهو الغفور الرحيم ، وسريع الحساب للظالمين ، فكانت آيات ختامية تشتمل على أُصول العقائد والدِّين الحقّ، التي بيّنها في ضمن السورة المباركة، فصارت بنفسها من الحجج الساطعة

ص: 515

الدالّة على ربوبيّته العظمى ، وكان من حُسن ختامها أن ختمت بالمغفرة والرحمة تطميعاً لعباده بهما وابتغاء أسبابهما .

***

بحث روائی:

في «تفسير العيّاشي» عن النبيّ صلى الله عليه وآله في حديث وقد ذكر فيه إبراهيم علیه السّلام، فقال : «دينه ديني ، وسنّته سنّتي ، وسنّتي سنته ، وفضلي فضله وأنا أفضل منه».

وفي «الكافي» بإسناده عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله علیه السّلام في قوله تعالى : «حَنِيفاً مُسْلِماً» . قال : «خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان».

أقول : وفي رواية أُخرى: «خالصاً مخلصاً لا يشوبه شيء»، وهي أوسع وأشمل من الأُولى ، وكلّ واحدة منها يتبيّن المراد .

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله علیه السّلام ، قال : «لا يقول درجة واحدة، إنّ الله يقول : درجات بعضها فوق بعض ، إنّما تفاضل القوم الأعمال».

أقول : وهو تفسير حسن ، فإنّ تلك الدرجات المتفاوتة المتعالية سببها الاختلاف في الاستعدادات المختلفة بالاكتساب والأعمال .

وأمّا ما نقله علیه السّلام فإنّما هو جمع بين آية المقام ، وآية سورة الزخرف: «وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (1). أو يكون من كلامه مفِّسراً للآية . وتقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالحنيفيّة.

وفي «عيون الأخبار» بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا علیه السّلام : «يا بن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق علیه السّلام إنّه قال : إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين علیه السّلام بفعال آبائهم

ص: 516


1- سورة الزخرف : الآية 32

فقال علیه السّلام: هو كذلك ، فقلت : قول الله تعالى : «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» ما معناه؟ قال : صدق الله تعالى في جميع أقواله ، ولكن ذراري قَتَلَة الحسين علیه السّلام يرضون بفِعال آبائهم ويفتخرون بها ، ومن رضى شيئاً كان كمَن آتاه ، ولو أنّ رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل ، وإنّما يقتل القائم علیه السّلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم».

أقول : مضمون الحديث موافق للأدلّة العقلية والنقلية ، وقد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بذلك في الآيات التي وردت في عتاب وعقاب اليهود المعاصرين للرسول صلّي الله علیه و آله. وإلّا فإنّ الآية من قواعد قانون الجزاء في الإسلام . فقد نقل الصدوق عنه علیه السّلام فيما كتبه للمأمون : «من محض الإسلام وشرايع الدِّين، ولا يأخذ الله تعالى البريء بالسقيم ، ولا يعذّب الله تعالى الأطفال بذنوب الآباء «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».

***

بحث عرفاني حول أُصول وقواعد علم العرفان :

الآيات الشريفة تبيّن أُصول وقواعد علم العرفان التي لابدّ من الاعتماد عليها في السير والسلوك، والعدول عنها لا يجتنى منه غير التعب والحرمان .

فمنها : اختيار الدِّين القيّم الذي له ثبات في النفس ويوافق الفطرة، وتشتمل على العقيدة الحقّة منه والتشريعات القيّمة التي تهذب النفس وتدعو إلى الكمال مطلقاً.

ومنها : الاهتداء بالهداية الربّانية التى تسوق الإنسان إلى الصراط المستقيم وإتّباعه، فإنّه مجمع الكمالات الواقعية ، يؤمن الجانب العقائدي للعارف ويهديه إلى التوحيد العلمي والعملي.

ومنها : الاغتراف من المعارف الربوبيّة التي لها الأثر الكبير في تكميل

ص: 517

النفس من العلم .

ومنها : أن يكون مستقيماً في سيره وسلوكه لا يحيد عن سبيل الله، وألّا تأخذه الأوهام والظنون فيقع في المهالك ، كما حذّرنا الله تعالى من إتّباع السُّبل المتفرِّقة .

ومنها : أن يتأسّى بأنبياء الله تعالى لاسيما إبراهيم الذي وفّى ، ورسول الله صلّي الله علیه و آله الذي هداه الله إلى الصراط المستقيم ، فإنّهم الإدلّاء إلى الله عزّ وجلّ وصراطه الأقوم، وبدون الدليل قد يقع في متاهات النفس الأمّارة.

ومنها : الإعراض عمّا سوى الله تعالى، لتثبيت دعائم التوحيد في نفسه، وترسيخ الإيمان في قلبه، لئلّا يميل إلى دين آخر، أو ينتمى إلى ما فيه شرك ونفاق .

ومنها : الإخلاص في عمله، والخلوص في نيّته، يضع نفسه بين يدي الله تعالى ، ويكون حاضراً وشاهدا عنده سبحانه بالروح والقلب . فيكون محياه بالحقّ ومماته بالنفس الله ربّ العالمين ، فلا يكون لغيره نصيب فيه إلّا الله تعالى .

ومنها : أن يعبد الله بما رسمته الشريعة الغرّاء، ويتقرّب إلى الله بالعبادة، لاسيما الصلاة التي هي قُرّة عين الرسول صلّي الله علیه و آله .

ومنها : أن يتجنّب الشرك بجميع أنحائه، ولاسيما الشرك الخفيّ الذي يُميت القلب، ويكون ظلمات في النفس، فإذا تحقّقت هذه الأُمور، وسار العارف الولهان في سيره إلى الله، ووصل إلى حدّ الفناء ، وصار مستسلماً لله عزّ وجلّ منقاداً له ، فلا أحد حتّى يطلبه ولا شيء سواه يبتغيه ، وظهرت علائم التوحيد على خَلقه وخُلقه وكان جميع شؤونه تفاصيل صفاته المقدّسة ، وكان غاية سرّه وسلوكه ونهاية مراده هو الله الملك العلّام، فإذا وجده تعالى وجد الكلّ ، ومن فقده فقد الكلّ ، فهل من عاقل يطلب غيره سبحانه؟! وأنّ كلّ ما يبتلى به في سيره وسلوكه إفاضات ربّانية

ص: 518

لدفع مخاطر النفس وتوجيهها إلى خالقها، فأنّ المحبّ لا يبتلى بغير المحبوب .

ولا ريب أنّه حينئذٍ إذا التفت إلى نفسه كان كسباً له ويكون شركاً في أفعاله عزّ وجلّ، وكلّ شرك فوزره ووباله عليه، وهو المؤاخذ بذنبه، لا يتجاوز عنه إلى غيره . وإذا تمّ له الطريق واستفاد من الإفاضات والواردات ، وما أودع الله في عباده من الأسرار، كان خليفة الله تعالى في الأرض على صورة صفاته المقدّسة ، وإن كان الاختلاف الاستعدادي في تلك المظهرية موجوداً، فقد رفع بعضكم فوق بعض درجات ، وكان ذلك لحكمة متعالية ، ويظهر علمه بمن يقوم رعاية ما آتاه خير قيام، ويكون عزّ وجلّ غفوراً رحيماً به ، وأمّا من لم يستفيد منها وأعرض عن هدى ربّه، فإنّه سريع الحساب.

فكانت الخلافة الإلهيّة من أهمّ القناطر التي يظهر الفرد نفسه متخلّقاً بأخلاق الله تعالى، القائم بطاعته، والممتثل لأوامره عزّ وجلّ . ومَن أضاع على نفسه هذه القنطرة ورجع القهقري إلى صفات البهائم، وأبدل صفات الحقّ بصفات رديئة، عوقب بالختم على قلبه وسمعه وبصره وحبس في السافلين، فلا يرجع إلى الغيب لعلّه لأجل ذلك كان سريع العقاب إلّا من أدركته العناية الربّانية، وتاب وعمل صالحاً وهذّب نفسه وزكّاها واستعدّ للخلافة الإلهيّة، فالله غفور رحيم ، فهُنّ من أعظم الآيات التي تنير درب السالكين وتهديهم إلى الصراط المستقيم، وتبيّن شروط العلم والعمل والعرفان .

والحمد لله أولاً وآخراً

***

ص: 519

ص: 520

« الفهرس »

سورة الأنعام، الآیة 74-83

الآيات الشريفة تحكي حياة إبراهيم علیه السّلام ... 7

ما يتعلّق بالمراد من الأب ... 8

ما ورد في حجج إبراهيم علیه السّلام ... 18

حول معنى الملكوت ... 19

ما يتعلّق من المراد من اليقين ... 25

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...».. . 25

في المراد من الربّ ... 28

البرهان على نفي الربوبيّة ما سواه عزّ وجلّ ... 31

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةٌ» ... 36

ما ورد عن حياة إبراهيم علیه السّلام ... 38

ما يتعلّق بتوجيه الوجه ومعنى الحنيف ... 41

ما ورد حول معنى الأفول ... 48

الوجوه المذكورة في قوله تعالى: «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ... 56

المراد من اللّبس ... 61

الظلم وأقسامه ... 61

بحوث المقام

بحث دلالي فيما تدلّ عليه الآيات الشريفة ... 73

بحث روائي حول الروايات الواردة في تفسير الآيات الشريفة ... 84

ص: 521

الروايات الواردة حول آزر ونمرود وإبراهيم ... 86

بحث تاريخي عقائدي ... 98

ما ورد في التاريخ حول المجتمع الذي عاش فيه إبراهيم علیه السّلام والآلهة التي كان المشركون يعبدونها. .. 100

ما ورد عن ديانة الصابئة ... 102

بحث قرآني عقائدي ... 103

بحث عرفاني حول التوحيد النظري ... 106

سورة الأنعام، الآية 84 - 92

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» ... 110

ما يتعلّق بالنِّعم الواردة على إبراهيم علیه السّلام ... 111

ما يتعلّق بأنبياء بني إسرائيل علیهم السّلام ... 112

أقوال المفسّرين حول مجموع الأنبياء المذكورين في هذه الآيات ... 116

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ... 121

ما يتعلّق بقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ» ... 126

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَالْحُكْمَ» ومعنى الحكم وأقسامه ... 127

ما يتعلّق بقوله تعالى: «فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» والمراد من القوم فيها ... 130

ما يدلّ عليه قوله تعالى: «فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِهِ» ... 137

المراد من القدر المذكور في قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ... 140

ما ورد عن أوصاف الكتاب الكريم ... 154

بحوث المقام

بحث دلالي عمّا تدلّ عليه الآيات الشريفة ... 160

ص: 522

بحث روائي حول الروايات الواردة في ذيل هذه الآيات الشريفة ... 169

الروايات الدالّة على أنّ إطلاق الولد على ولد البنت ... 170

بحث كلامي حول عصمة الأنبياء ... 180

بحث عرفاني حول اهتمام الباري عزّ وجلّ بعباده المخلَصين ... 183

سورة الأنعام، الآية 93 - 107

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً» ... 189

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ» ... 195

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...» ... 199

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى» ... 203

حول معنى الإصباح والسكن ... 208

ما يتعلّق بالاهتداء بالنجوم ... 210

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» ... 211

المراد من السماء والماء. ... 215

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ» ... 221

ما يتعلق بالآية الشريفة: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» ... 227

المراد من اللطيف والخبير ... 229

المراد من الوكيل ... 234

بحوث المقام

بحث أدبي حول مفردات الآيات المذكورة ... 242

بحث دلالي حول ما تدلّ عليه الآيات الشريفة ... 247

بحث روائي عمّا ورد من الأخبار حول هذه الآيات ... 255

الأخبار الواردة حول كيفيّة خلق آدم علیه السّلام... 258

ص: 523

بحث قرآني ... 263

بحث كلامي حول امتناع رؤية الله سبحانه وتعالى ... 274

الأدلّة النقلية على امتناع الرؤية ... 275

الدليل العقلي عليه ... 276

بحث عرفانی ... 279

سورة الأنعام، الآية 108 - 113

ما يتعلّق بالآية الشريفة «كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» ... 287

ما يتعلّق بتأثير المشيئة في إيمان العبد ... 297

المراد من العدوّ والجنّ والإنس ... 298

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» ... 299

بحوث المقام

بحث دلالي: ما تدلّ عليه الآيات الكريمة ... 303

بحث روائي حول الروايات الواردة في نهي المؤمنين عن سبّ آلهة الكفّار ... 308

بحث عرفاني حول العقبات والحُجب الظلمانية في النفس ... 313

سورة الأنعام، الآية 114 - 121

ما يتعلّق بقوله تعالى: «أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً» ... 317

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً» ... 319

ما يتعلّق بقوله تعالى: «لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» ... 323

بيان ما يتعلّق بالأُمور الراجعة إلى سعادة الإنسان وشقائه ... 325

حول الأحكام المتعلّقة باللحوم ... 327

بحوث المقام

بحث أدبي حول ألفاظ الآيات المذكورة ... 333

ص: 524

بحث دلالي: حول دلالة الآيات الشريفة ... 335

بحث روائي ... 339

بحث عرفاني : ما يستفاد من الآيات المذكورة في الثوابت الضروريّة في طريق السالكين ... 342

بحث فقهي حول أحكام اللحوم من التذكية وغيرها ... 345

سورة الأنعام، الآية 122 - 127

حول تفسير قوله تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ» ... 349

حول تفسير قوله تعالى: «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ... 352

حول تفسير قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا» ... 355

بحث حول حقيقة المكر ... 357

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ» ... 362

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً» ... 364

حول معنى الصعود إلى السماء ... 365

حول معنی دار السلام ... 367

بحوث المقام

بحث دلالی... 369

بحث روائي ... 375

بحث عرفاني ... 379

سورة الأنعام، الآية 128 - 135

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» ... 385

حول معنى الولي التابع والاستمتاع ... 387

فى المراد من الأجل واختلاف أقوال المفسّرين فيه ... 338

بيان سنّة إلهيّة حول إهلاك القرى لظلم أهلها ... 393

ص: 525

ما يتعلّق بالغنى والرحمة وهما من صفات الله تعالى ... 396

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» ... 398

بحوث المقام

بحث دلالي ... 400

بحث روائي في الأخبار الواردة حول تولّي الظالمين ... 403

بحث عرفاني حول بعض معالم طريق السالكين ... 404

سورة الأنعام، الآية 136 - 150

حول معنى مادّة ذرأ والزعم ... 409

حول معنى قوله: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» ... 410

الآيات الواردة حول الأحكام التي ابتدعتها اليهود وهي تدلّ على كفرهم وغوايتهم بشركهم ... 411

تفصيل لمنن الله سبحانه وتعالى على المؤمنين ... 416

حول معنى الإسراف ... 419

ما ورد حول ما يحرم أكله من اللحوم وغيرها ... 426

المراد من الحجّة البالغة ... 432

في بيان أنّ الرسول صلّي الله علیه و آله هو الشاهد على الحقّ في دار الدُّنيا ... 434

بحوث المقام

بحث دلالي ... 436

بحث روائي ... 439

بحث عرفاني يتضمّن بعض الإرشادات والتوجيهات للمؤمنين ... 444

سورة الأنعام، الآية 151 - 157

ما يتعلّق بأمر الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلّي الله علیه و آله بإبلاغ أعظم الأحكام الإلهيّة ... 447

ص: 526

ما يتعلّق بمعنى الإحسان والحياة الأسرية الكريمة ... 450

ما يتعلّق بالآية الشريفة: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ» ... 455

ما يتعلّق بالعدل والقرابة والوفاء بعهد الله تعالى ... 457

ما ورد حول معنى الصراط المستقيم ... 460

أقوال المفسّرين حول الخواتيم في الآيات الثلاث ... 461

حول معنى المحسنين وما قيل عنه ... 466

بحوث المقام

بحث دلالي ... 472

بحث روائي ... 476

بحث عرفاني حول الأحكام التي لها تأثير على العقل وتنوّره ... 478

سورة الأنعام، الآية 158 - 160

ما يتعلّق بتفسير قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ» ... 483

ما يتعلّق بتفسير قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ» ... 486

بحث حول ما يوجب الابتعاد عن الدِّين الإلهي والاختلاف فيه ... 488

في المراد من الحسنة ... 490

بحوث المقام

بحث دلالي ... 493

بحث روائي ... 495

ما يتعلّق بعلامات آخر الزمان ... 496

بحث قرآني وعرفاني حول ما تكشفه الآيات عن الأُمور العظيمة ... 498

سورة الأنعام، الآية 161 - 165

حول المراد من قيّماً والملّة وأصاف من هداه الله سبحانه ... 504

ص: 527

حول معنى أوّل المسلمين ... 507

حول تفسير قوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» ... 510

بحوث المقام

بحث دلالي ... 514

بحث روائي ... 516

بحث عرفاني حول أُصول وقواعد علم العرفان ... 517

الفهرس ... 520

ص: 528

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.