مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 13

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 13/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

مَوَاهِبُ الرَّحمَنِ فِي تَفسِيرِ القُرْآنِ

تأليفُ: فَقِيهُ عَصرِهِ آيَةُ اللَّهِ الْعُظمَی

السَّيِّد عَبدالاَعلَی المُوسَوِيّ السَّبزِوَارِيّ قدِّس سِرُّه

الجزءُ الثَّالِثَ عَشَر

ص: 2

قم - خيابان معلم - ميدان روح ا... - تلفن: 7744212 منشورات دار التفسير

مواهب الرّحمن في تفسير القرآن ج /13

آية الله العظمى السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدّس سرّه

الطبعة الخامسة: 1431 ه-- = 2010 م

المطبعة: نگین

الكمية: 2000 دورة (14-1)

رقم الايداع الدولي للدورة:0- 051- 535- 964- 978 ISBN Vols:

رقم الايداع الدولي للجزء الثالث عشر 0- 086- 535- 964- 978:ISBN Vol

1-لا يجوز طبع هذا الكتاب الا باذنٍ خاص من مكتب السيد السبزواري في النجف الأشرف.

2-يوزع هذا الكتاب:

العراق - النجف الأشرف سوق الحويش مكتبة المهذب، الجوال 07801541523

ایران - قم شارع معلم میدان روح الله انتشارات دار التفسير، تليفون 7741621

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: سيّد محمّد هادي رضوي خانکهدانی

بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

سورة الأنعام

ص: 4

سورة الأنعام الآية 1- 3

ما يتعلّق بسورة الأنعام من حيث المضمون العام

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَ الرَّحِيمِ

الآية 1 - 2

«والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثمّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثمّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ ثمّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *».

الآيات الشريفة مفتتح سورة مباركة، احتوت من أصول المعارف أعلاها وأزكاها، ومن العلوم الربّانية أسناها وأعظمها، ففيها التوحيد بأدلّته وبراهينه القويمة، وصفات الواحد الأحد، بأجزال أسلوب وأعذب بيان يتقبّله الطبع المستقيم، وتشتاق إلى مضامينه القلوب على اختلاف طبايعها، فهي بحق سورة التوحيد والصفات الربوبيّة، فإنّها أرست قواعد التوحيد، وبيّنت أعظم الصفات الربوبيّة، بما يدلّ على عظيم شأنه، واستحقاقه للربوبيّة، فهو الله ولا يستحقّها غيره، وقد افتتح عزّ وجلّ هذه السورة المباركة بالحمد والثناء للذّات المقدّسة، للدلالة على اتّصافه بما يستحقّهما دون غيره، ولم تغفل هذه السورة الرسالات السماويّة التي بيّنت مناهجها وغاياتها، وما تتّبع من الأمور التي لها ارتباط لها، كالولاية، والشهادة على الأمم، ولم تدع الأمر المهم الذي له ارتباط وثيقٌ بالموضوعين

ص: 5

السابقين وهو البعث والجزاء، فجمعت هذه السورة أُصول العقائد في جميع الأديان الإلهيّة، ولم تغفل الجانب الأخلاقي للإنسان الذي له الأثر الكبير في تهذيب النفس، واستكمال الإنسان، فقد بيّنت كثيراً من العلوم والمعارف التي تهدي البشر إلى الصراط المستقيم، وذكرت من الأحكام الفرعية التي لها تعلّق بالجانب العملي للفرد، فصارت سورة كاملة، واحتوت من الدقائق العرفانيّة والإشارات والرموز للسالكين ممّا تبهر منه العقول، كما لا تدع الجانب التربوي للانسان، وأُصول الحجاج مع المشركين الذين أنكروا الحقّ، وعارضوا أهله، ممّا يرجّح أنّها نزلت في مكّة المكرّمة، ولعظيم محتواها لا يبعد تكرار نزولها، ولكبير منزلتها فقد شيعتها سبعون ألف ملك عند نزولها، ولا بُعد فإنّه لم يدرك عقل إنسان ما فيها من المعارف الربوبيّة، ولعلّه لأجل ذلك افتتحت بالثناء والحمد لله ربّ العالمين، وابتدأت بأهمّ نعمةٍ من نعمه المتتالية المتواردة، وهي خلق السماوات والأرض، وما يرتبط بالحياة الظاهرية والمعنوية لهما من الظلمات والنور، كما ذكّرت الإنسان بنعمة خلقه من الطين وإثبات قدرته عزّ وجلّ عليه بإحاطته بأجلين لا يمكن له إختراقهما إلّا بإرادته المقدّسة، وهو يستلزم علمه الأتم بكلّ ما يرتبط بالإنسان، وإحاطته به إحاطة ربوبية مطلقة، فجديرٌ به أن يشكر الله عزّ وجلّ على تلك النِّعم، ولا يعدل عنه بالكفر،به، فإنّه من أشدّ الذُّنوب، وأحقر المعاصي، ولعلّ السور المكّية الثلاث التي افتُتحت بالتحميد هي شرح للمضامين الواردة في هذه السورة المباركة، والتذكير بما ورد فيها من العلوم والمعارف، كما أشارت إليها أُمّ الكتاب في ما سبق على نحو الإيجاز، ولئلّا يقع الإنسان في الغفلة عن نِعم الله عزّ وجلّ، فقد جعل تعالى في كلّ رُبعٍ من كتابه الكريم سورة مفتتحة بالحمد وهو ممّا يدلّ على عظيم اعتناء الله بخلقه الذي هو من شؤون ربوبيّته العظمى.

***

ص: 6

ما يتعلّق بقوله تعالى: الحمد لله

التفسير

قوله تعالى «الْحَمْدُ لِلِّهِ»

افتتاح بالحمد لله عزّ وجلّ، والثناء عليه، لما تضمّنته هذه السورة المباركة من جلائل النِّعم المعنوية والظاهرية، ففيها بيان التوحيد، وإثبات قواعده، وبيان صفات الواحد الأحد ودلائل ثبوتها، وتذكّر الإنسان بما يوجب سعادته،وصلاحه والجملة المباركة بنفسها تدلّ على التوحيد، وما يتّصف به المحمود من صفات الكمال ممّا يوجب حمده على الإجمال، كما اشتملت على التمجيد والثناء، كما عرفت.

فكانت الغاية في حُسن براعة الاستهلال، لتضمّنها المقصود والوسيلة والأداة، بأوجز عبارة وأجزل أسلوب، وفيها الإشارة إلى وجه استحقاقه للحمد والثناء، وهو كمال الذّات، كما استحقّ لأجله العبادة، وقد ذكر سبحانه من الصفات الكمالية المتعالية ما يدلّ على ذلك، وخصّ بالذِّكر منها القدرة الكاملة التي خلق بها العالم الكبير، وهو السماوات والأرض، والعالم الصغير الذي هو الإنسان، وبيّن تعالى ما خصّه من الشأن الكبير دون غيره من سائر المخلوقات، وذكر علمه الأتمّ الذي يدلّ على كمال إحاطته بمخلوقاته وربويّته العظمى، وحكمته المتعالية، فاستحقّ الحمد بجنسه وجميع أفراده بذاته وكمالها.

ثمّ إنّ في تعليق الحمد أولاً على اسم الذّات، وعلى الوصف ثانياً، تنبيهاً على استحاق من الوجهين باعتبار الذّات المقدّسة، وباعتبار الصفات العليا التي فيض وجوده، وهناك وجه آخر للإستحقاق ناشئ من الثاني، وهو فيض الأنعام الذي تستشعره به جميع المخلوقات التي هي من فيض إيجاده، وإن كان جميع الوجوه ترجع بالأخرة إلى إلى استحقاق الذّات، ولكن في ذكرها إشارة إلى درجات الحمد التي تتفاوت بحسب مقامات العارفين السالكين.

ص: 7

والجملة المباركة كالمقدّمة لما سيبينه عزّ وجلّ، من معنى التوحيد، وقد اشتملت من البرهان ما يمكن التوسّل به للإحتجاج على المعاندين المنكرين للحقّ، فكان التعجيب من حالهم بعد ذلك في محلّه، فاستحقّوا اللّوم على ما عدلوا به إلى غيره، كما كان ذلك سبباً في توجيه الوعظ والإرشاد والتخويف والإنذار.

حقيقة حمده عزّ وجلّ

ومن ما ذكرنا يعلم أنّ حقيقة الحمد، هو إظهار صفات الكمال بالقول أو الفعل، كما ذهب إليه بعض المحقّقين، والفعل أقوى من القول؛ لأنّ الأفعال التي هي من آثار فيض جوده وسخائه عزّ وجلّ، تدلّ عليهما دلالة عقلية قطعيّة لا يتصور فيها التخلّف، بخلاف القول فإنّ دلالتها عليها وضعية، وقد يتخلّف عنها مدلولها، ومن هنا كان حمداً عزّ وجلّ على ذاته، حمداً على سبيل الحقيقة، بل هو أفضل أفراد الحمد لأنّه كشف عن صفات كماله بفيض جوده، وبسط الوجود، على ما سواه، وأنعم عليها بنعمٍ لا تُعدّ ولاتحصى، فهي تدلّ بشراشر وجودها على كمال المنعم عليها وصفاته العليا، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات، كما لايخفى.

وعلى ذلك لا نحتاج إلى التأويل، وإتعاب النفس في تصوير حمده عزّ وجلّ على ذاته المقدّسة، وما اشتهر من أنّ الحمد هو الثناء باللِّسان على الجميل، وفي العرف أعمّ منه ومن عقد الجنان وفعل الأركان، فهو باعتبار ذكر الفرد المعهود الشائع لذلك المفهوم، لا أن يكون الحمد مختصّاً بها حتّى يكون تعالى لذاته مجازاً.

ومن تعليق الحمد على الذّات المحمودة الجامعة لجميع الصفات الكمالية، يستفاد كون الحمد لذاته بذاته، فكلّ ثناء حسن ثابتٌ بالإستحقاق ذاتاً، والذّات المحمودة تستلزم محمودية الصفات التي هي عين الذّات، وقد عرفت أنّ الحمد على الذّات من أعلى مراتب الحمد، وقد اتّحد الحامد والمحمود فيه، بخلاف

ص: 8

حمدنا له عزّ وجلّ.

واللّام فى الحمد للجنس أو الاستغراق، وفي الله للإختصاص، يعني أنّ جنس الحمد أو جميع أفراده، مختصّ به سبحانه وتعالى، وبينهما تلازم، فإنّه تعالى مبدأ كلّ كمال، ومرجع كلّ جلال.

وقيل: إنّ السلام في الحمد للعهد، وذكر بعضهم في توجيهه أنّه شاء الله تعالى حمد نفسه في الأزل، بالحمد الذي يليق بشأنه سبحانه، فلمّا خلق الخلق وعلم عجزهم أن يحمدوه بما يليق به من الحمد أمرهم أن يحمدوه بذلك الحمد، الذي حمد به نفسه في الأزل، فتكون اللّام في قوله تعالى (الحمد الله) للعهد.

ويستفاد منه أنّ الحمد حقّ على العباد، وهو حقيقٌ بالحمد، يختصّ عزّ شأنه به ويقتصر الحمد عليه، وتقدّم بعض الكلام في سورة الفاتحة أيضاً، فراجع.

المراد من قوله تعالى «الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ».

إشارة

قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ».

بيانٌ لوجه إستحقاق الحمد من وجه آخر، وهو بيان الصفات الكمالية، وذكر النِّعم المتواردة.

أركان الحمد

واعلم أن للحمد أركاناً أربعة: الحامد، والمحمود، والمحمود به، والمحمود عليه، وقد يتّحد الأوّلان، وقد يتغايران، كما عرفت وكذا الأخيران، لحمده تعالى لأجلها، وحمده بالعلم لأجل إنعامه.

والآية المباركة جمعت الوجهين السبب الذّاتي، كما في قوله تعالى «الْحَمْدُ لِلِّهّ» الذي اتّحد فيه الحامد والمحمود، بل جميع الأركان والصفات الكمالية، وقد ذكر عزّ وجلّ الدلالات الواضحة على الصفات الجمالية وأفعاله الجميلة، فبيّن خلقه السماوات والأرض الدالّ على كمال قدرته وعلمه الأتمّ، وحكمته المتعالية وقيمومته العظمى، وربوبيّته التامّة.

ص: 9

وتقديم هذه النِّعمة لأجل استغراقها لجمع النِّعم العلوية والسفليّة، وعموم متعلّقها يشمل عامة النِّعم الخفيّة والجليّة، وهي تشير إلى عموم النظام الكياني في هذا العالم الذي يكون الإنسان جزء منه.

معنی الخلق في الآية

و تقدّم الكلام في معنى الخلق الذي يأتي بمعنى التقدير، ومن مصاديقه الابدّاع من غير أصل، والإيجاد بعد العدم، ففي خلق السماوات والأرض يجتمع الأمران، فقد خلقهما من عدم وأبدع صنعه فيهما من غير أصل ولا احتذاء مثال وقد بنى عزّ وجلّ خلقهما على الدقّة والجمال والترتيب والتنظيم، وفق قواعد حكيمة، ونواميس معيّنة ما يدلّ على كمال خالقه وعلمه التامّ، وربوبيته العظمى.

وقدّم سبحانه السماوات لأنتها المحيطة بالأرص، وفي الأولى يقع تدبير الأخيرة، ولسعة السماوات، وعظم خلقها، ولأن التصرّف فيها يستلزم التصرّف في الأرض، ومن شواهده جعل الظلمات والنور وفق نظام دقيق متقن فيه الخير والصلاح لهذا العالم وله التأثير في تكامله.

وإنّما جمع سبحانه لفظ السماوات، وأفرد الأرض، مع أنّ الأرض يقتضي الاشتراك في الإفراد والجمع، لتفاوتهما في الشرف والسعة والإحاطة، كما عرفت، فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده، وشرافة السماء معروفة ومشهورة، فإنّها مقام الملائكة المقدَّسين، ومعراج أرواح القدِّسين، وقبلة الداعين، وإحاطتها بالأرض، وإنّ التصرّف فيها يكون تصرّفاً في الأرض دون العكس، وهي دار طهر لم تقع فيها المعاصي والآثام.

وأمّا الأرض؛ فإنّها وإن كانت دار التكليف ومقام الأنبياء والمرسلين، لكنّها ليست دار قرار يحلّ فيها الإنسان برهة للتزوّد بالتقوى، ويطهّر نفسه فيها فير تحل إلى دار الأُنس والكمال.

ولعلّ الوجه أيضا في إفراد الأرض، أنَّها هي التي وحدها استقرّت فيها

ص: 10

الحياة، وسكن فيها الإنسان، ولم يعهد من كوكب آخر إنّه كذلك.

وقيل في سبب تقديم السماوات على الأرض وإفراد الأخيرة، وجوه أُخرى لا تخلو عن المناقشة فراجع.

المراد من قوله تعالى «وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ»

قوله تعالى: «وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ».

عطف على الجملة السابقة، لبيان اشتراكهما في النِّعمة، ووجوه الحكمة في الخلق، وتأخيرهما عن خلق السماوات والأرض لبيان أنّ جعلهما مسبوق بخلقهما، فأنهما منشأ الظلمات والنور ومحلهما.

و (الجعل) يأتي بمعنى الخلق والإيجاد إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الخلق يستعمل في الشيء المركّب من أجزاء، ولذا خصّ السماوات والأرض به، لما فيها من التركيب، بخلاف الجعل، ولأجله استعمل في الظلمة والنور لانتفاء التركب فيهما.

كما أنّ الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كانشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئاً، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك قوله تعالى:

«ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى»(1).

وأن الجعل يشمل التكويني والتشريعي، كما في قوله تعالى: «جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ»(2) فإنّ الجعل فيها بمعنى الخلق والجعل التشريعي، ولا تخرج استعمالات الجعل عن تلك الموارد، والتقدير مأخوذ فيها أيضاً.

وقد وردت مادّة «جَعَلَ» في القرآن الكريم في ما يقرب من خمسمائة

ص: 11


1- سورة القيامة: الآية.39
2- سورة المائدة: الآية.97

مورد، وهي تدور بين الجعل التكويني والتشريعي، والاعتباري، وبمعنى الخلق والتقدير والوضع، ومتعلّقها لا تخرج عن الجواهر والأعراض أو الأمر الاعتباري، أو حقيقة من الحقائق. والمستفاد من الجميع أهمّية هذه الكلمة في المجالات والأحوال. والمستفاد من الجميع أهمّية هذه الكلمة في جميع المجالات والأحوال، ولعل استعمال الجعل في الظلمات والنور دون السماوات والأرض لبيان أنّهما تابعان لخلقهما يحدثان عن حركة الكواكب، وانتقالها من مكان إلى آخر.

والظلمات جمع الظلمة التي هي بمعنى عدم النور، ووضوحهما يغني عن التعريف، نعم بالنور تظهر الأشياء، ولا شيء أظهر منه حتّى يمكن التعريف به، والظلام لا يستعمل إلا في مورد من شأنه أن يتنوّر، فتكون النسبة بينهما عدم الملكة.

وللعلماء في تفسير النور والظلمة آراء وأقوال، وقد ذكرنا ما يتعلّق بهما في ما سبق من الآيات، فراجع.

وهما قسمان حسي ظاهري ومعنوي باطني، وقد ذكرهما عزّ وجلّ في القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، ومن أهمّ المصاديق قوله تعالى: «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

ولعلّ الوجه في مجيء الظلمات بصيغة الجمع دون النور، إمّا لأنّ النور شيء واحد وإن تعدّدت مصادره، واختلفت مراتبه في الشدّة والضعف، فإنّ ذلك لا يضرّ في أصل الحقيقة التي هي واحدة، كما لا يوجب تكثّرها وتعدّدها بحسب

ص: 12


1- سورة بقرة: الآية 257

التعدّد في التصوير.

وإمّا لأنّ الظلمة تختلف بحسب مراتب القرب إلى النور والبعد عنه.

أو لأنّ ذوات الأشياء بحسب طبعها مظلمة ما لم تتنور بنور الوجود، أو يقع عليها الضوء، فينعكس منها النور.

أو لأنّ الحُجُب عن النور كثيرة جداً، فتتعدّد الظلمة بتعدّد تلك الحجب.

بلا فرق بين أن يُراد منهما الحسّي أو المعنوي، فإنّ الوجود لا تعدّد فيه، كما أنّه لا تعدّد في الهداية، بخلاف الباطل فإنّه متعدّد، ومصاديقه متكثّرة، كما هو واضح، قال تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»(1).

كما أنّه ربما يكون الوجه في تقديم الظلمات على النور، إمّا لبيان كون الظلمة أسبق، كتقدّم العدم على الوجود في الحدثات، وتقدّم الظلمة على النور، لأنّها عدم النور، فهي من الأُمور النسبية، فما لم يخلق نور تكون ظلمة، أو لتعدّد أسباب الظلمة وكثرة مناشئها، وسيأتى مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فقد تعلّق الجعل بالظلمة كما تعلّق بالنور، فتكون الآية ردّاً على من زعم بعدم تعلّق الجعل بالعدم، وقد أجيب عنه بوجوه عديدة:

منها: أنّ العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل، كالوجود الحادث.

ويرد عليه: بأنّه أخصّ من المدّعى.

ومنها: أنّ عدم الملكة يمكن تعلّق الجعل به، لأنّ له حظّ من الوجود.

وفيه: أنّ مجرّد إضافة العدم إلى الوجود لا يصيّره وجوداً.

ومنها أنّ الظلمة عَرَضٌ كالنور، وبينهما التضادّ فيتعلّق الجعل بها أيضاً.

ص: 13


1- سورة الأنعام: الآية 153.

ويمكن أن يكون الوجه هو أن يكون تعلّق الجعل بها باعتبار تعلّقه بأسبابها العديدة، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

المراد من قوله تعالى «يَعْدِلُونَ»

قوله تعالى: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».

جملة مسوقة للتعجّب من حال الكافرين والتوبيخ على ما صدر منهم. وفي ذكر الربّ الدلالة على كمال العناية بهم، وعظيم ما وقع منهم، فإنّه كان عليهم الإيمان بربّهم الحقيق بجميع المحامد المتوحد بالأُلوهية، والمتفرِّد بالربوبيّة والخلق، فهو المختصّ بالعبودية والطاعة دون الأصنام، وإن زعموا بأنّها تقرّبهم إلى الله، فإنّ زعمهم لا يغيِّر الحقيقة والواقع، فكيف يعدلون بالله غيره من معبوداتهم، فيجعلونها أنداداً له، تعادله عزّ وجلّ؟! وهم ملومون على ذلك، ومن حرف العطف (ثمّ) يستفاد الإستبعاد الشديد، وأن المعدول من الذين كفروا أمرٌ عظيم لا يمكن صدوره لمن يعرف توارد النِّعم عليهم من ربّهم.

والعدول إمّا بمعنى المساواة، أو بمعنى الإعراض عن الإيمان به وحمده، مع استحقاقه للعبودية والحمد، وتفسيره بكلا المعنيين صحيح، وقد ذكر عزّ وجلّ في ما سبق من الآيات ما يصلح لأن يُراد به كلّ واحد منهما، بل يمكن القول بتلازم المعنيين، فإنّ العدول عن طاعة من يستحقّ الطاعة، وكذا عن حمد من يستحقّه الذي أنعم بالنِّعم الجسام العظام لا يمكن أن يصدر ممّن استغرق في تلك النِّعم، فكيف يتأتّى من الكافرين العدول الذي يُنبئ عن الإعراض عنه، كما أنّه كيف يعبدون سواه مع تلك الفواضل وهم في قبضته، والسماوات والأرض مطويات بيمينه، فيكون تسوية غيره عزّ وجلّ به انكار للعبودية التي استحقّها، والحمد الذي اختصّ به فكلّ واحد من الإنكارين يلازم الآخر، ولذا كان الشرك الظلم العظيم، فلا وجه للتطويل كما فعله بعض المفسّرين.

ص: 14

ومن ما ذكرنا يظهر الوجه في اتيان كلمة (ثم) الدالّة على التراخي، فإنّ التعجّب من حالهم اقتضى السكوت عن مخاطبتهم، فذكر كلاماً يتضمّن الإستبعاد. ويحتمل أيضاً أن يكون لأجل البعد الكبير بين الحقّ والباطل، والتراخي العظيم بينهما، فاقتضى ذلك ذكر ( ثم) للدلالة على بطلان مزأعمّهم وشدّة معاندتهم للحق، وابتعادهم عنه، فتدلّ على الاستنكار، كما لا يخفى.

المراد من قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ...» إلى آخر الآية.

قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ».

استئناف لبيان أصل خلق الإنسان والتنويه ببعض خصوصيّات كفر المتعلّق بالبعث والمعاد، غفلةً منهم عن كمال قدرته، وتذكيراً لهم بما هو أدلّ وأتمّ فإنّ دليل النفس أقرب إلى الإنسان وألصق به من دليل الآفاق، وجميعها من دلائل التوحيد، وشواهد القدرة الكاملة، والقيوميّة المطلقة، والربوبيّة العظمى.

وذِكر سبحانه وتعالى عالم الإنسان لما ذكرنا، أو لأنه يضاهي العالم الكياني الكبير، والإلتفات إلى خطاب الذين كفروا لزيادة التشنيع عليهم والتوبيخ لهم.

وقد ذكر عزّ وجلّ في هذه الآية الشريفة أُموراً ثلاثة لها ارتباط وثيق بالإنسان يحيط به من جهة المبدأ والمنتهى والمسير، تذكيراً له بأنّه حادث مسبوق بالعدم، ممكنٌ محتاج إلى المنعم المفيض محدودٌ في غاية الاحتياج والإرتباط بخالقه، وللإعلام بكمال عناية بارئه عزّ وجلّ به، فلا ينبغي منه الغفلة، وهي:

الأوّل: إنّه مخلوق من طين الذي هو ترابٌ ممزوج بالماء، لتوجيه الإنسان إلى أصل خلقته، وشدّة ضعفه واستكانته واحتياجه، لعلّه يرجع إلى التوحيد، ولا يعدل بخالقه غيره، وإنّما نسب الخلق إلى الأفراد ولم ينسبه إلى آدم (عليه السّلام)، مع إنّه هو

ص: 15

المخلوق منه، مبالغةً في إزاحة الشبهة والإلتباس، ولبيان أنّ المبدأ الأوّل وإن كان منشأه الطين، إلّا أنّ أولاده لم يخرجوا عن هذه الطينة، فإن عناصر تكوينهم نفس عناصر الطين كما شهدت به التجارب الحديثة، ويدلّ عليه قوله تعالى: «بَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينِ»(1).

والآية تدلّ على عظيم قدرته وكمال عنايته عزّ وجلّ بالإنسان، يكفي في عظيم منزلته أنّ روحه من عالم الأمر، ونفسه من عالم القدس، وبدنه من الطين، فكان مظهر قدرته تعالى و عظیم صنعه، وبديع خلقته، وقد تباهى ربّه بخلقه وأمر الملائكة بالسجود له، وجعله قطب رحى التكوين، ومثال العالم الكبير، وغاية خلقه، فإذا صدر من هذا المخلوق ما ينافي مقتضي عبوديته لخالقه، فإنّما يكون عظيما جدّاً.

المراد من قوله تعالى «ثُمَّ قَضَى أَجَلاً»

قوله تعالى: «ثُمَّ قَضَى أَجَلاً».

هذا هو الأمر الثاني، وهو مظهر آخر من مظاهر تربيبه العظمى، وبيان المسير التكويني والتشريعي للانسان، فقد ضرب الأجل لبقائه في الدُّنيا، وقدّر الله تعالى له مدّة معيّنة، وحدّاً معلوماً من الزمان، يستوفى منه أجله ثمّ يرتحل إلى عالم آخر.

وتنكير الأجل لبيان إنّه من الغيب، لا سبيل إلى معرفته بالطرق العادية، وهو نعمة أُخرى كأصل ضربه، وإنّما الغرض هو الإعتقاد الصحيح، والعمل الصريح، وتكميل النفس بالكمالات الواقعية.

وقضاء الأجل تحديده وتعيينه، فيكون ذكره بعد بيان خلقه، لبيان إنّه محدود بين الطين الذي خلق منه نوعه والأجل المقتضي عليه لتحديده مسيره

ص: 16


1- سورة السجدة: الآية 8.

و تعيين تكليفه، وتخصيص مستقبله في أحد الوجهين؛ إمّا السعادة أو الشقاء.

والأجل المقتضى الذي حدده عزّ وجلّ، هو مدّة حياة الإنسان في دار الدُّنيا التي يفضي إلى الموت، كما قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(1). وهو يشمل جميع المقدرات التي قدّرها على الإنسان، ومنها الموت الاخترامي الذي يأتِ بغتةً لأسباب معلومة

ويحتمل أن يكون المراد منه أجل الموت والفناء الذي ضربه على الإنسان أفراداً وجماعات، فقد يحذف المضاف إليه، كما يقال: ودنا أجله أي موته وأصله استيفاء الأجل، ويُقال للمدّة المضروبة: أجل.

وحينئذٍ إن لم يعتبر عالم البرزخ من عالم الدُّنيا كان هذا الاحتمال صحيحاً. وأما إذا اعتبرناه من عالم الدُّنيا، فيكون المراد من الأجل المقتضى، هو الأجل المضروب على العباد بالرجوع إلى الله عزّ وجلّ والبعث إليه تعالى، وتدلّ على دخول عالم البرزخ في الدُّنيا آيات عديدة، منها قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ»(2) وسيأتي في الموضع المناسب تتمّة الكلام.

المراد من قوله تعالى «وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ»

إشارة:

قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ».

هذا هو الأمر الثالث، وهو يدلّ على قدرته التامّة وعزته المتعالية عزّ وجلّ، وأنّ الإنسان تحت سلطانه تعالى وفى قبضته لا يمكنه الخلاص ممّا قدّره الله عزّ وجلّ عليه مهما تطاول وتكبّر.

الفرق بين الأجل المقضى والأجل المسمّى

والأجل المسمّى هو الأجل المعيّن المعلوم، ويُطلق على الجعل المقرّر في

ص: 17


1- سورة العنكبوت: الآية 57
2- سورة الروم: الآية 56

المعاملات، مثل الدِّين، قال تعالى: «إِذَا تَدَايَتُمْ بِدَيْنِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ»(1) أي الأجل المضروب المعلوم للطرفين، ومثل العقود، قال تعالى: «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حتّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»(2)، وفي غيرها، وقد يحذف القيد لمعلوميّته كما قال تعالى: «مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتِ»(3). فإنّ المراد من الجميع هي المدّة المضروبة المعلومة، واستعماله في آخر المدّة من لوازم ذلك.

وكيف كان، فإنّ المراد من الأجل المسمى آخر مدّة حياة الإنسان المعلوم عند الله الذي لا يقبل التغيير والتبديل، فيعيش برهةً في هذه الدُّنيا يتزوّد بالزاد الذي ينفعه في الآخرة، ثمّ يأتى أجله فيرتحل إلى دار البقاء.

والمستفاد من الآية المباركة أن للإنسان أجلين:

الأوّل: الأجل المسمّى المعلوم عند الله تعالى، الذي لا يطرأ عليه المحو والاثبات، بل مطلق التغيير، ويدلّ عليه قوله تعالى: «عِنْدَهُ»، فإنّ ما عنده ثابت لا يشوبه النقص والتغيير، قال تعالى: «وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقِ»(4)، كما لا يعلم به سواه، قال تعالى: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ»(5) وهو الأجل المحتوم الذي أخبر عنه سبحانه في قوله تعالى: «إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتقدّمونَ»(6).

الثاني: الأجل المتغيّر، كما دلّت عليه الآية المتقدّمة، وعرفت آنفاً، والفرق

ص: 18


1- سورة البقرة: الآية.282
2- سورة البقرة: الآية 235
3- سورة العنكبوت الآية5.
4- سورة النحل: الآية 96
5- سورة البقرة: الآية 255
6- سورة يونس: الآية 49

بينهما واضح، ونظيرهما وصف الدواء للمريض، فإنّه يؤثّر في رفع المرض لو وجدت المقتضيات ورفعت الموانع، فإنّ توصيف الطبيب الدواء المعيّن فإنّه بمنزلة المسمّى الثابت، وأمّا الذي يتغيَّر بحسب المقتضيات والحوادث بمنزلة الأجل المقتضى المبهم.

الوجوه العديدة التي اوجبت الجمع بين الأجلين

وإنّما جمع عزّ وجلّ بين الأجلين مع أنّهما يرشدان إلى الموت والفناء من هذه الدار، لوجوه عديدة:

منها: بيان أنّ أمر الإنسان يدور بين أجل مُبهم يتأثّر بالحوادث والمقتضيات، وأجل آخر ثابت لا يقع فيه التغيير والتبديل، فإنّه إذا نجا من أحدهما وقع في الآخر.

ومنها: ترغيب الناس إلى الدُّعاء والتضرُّع إلى الله عزّ وجلّ.

ومنها: ترغيبهم إلى الطاعة وإتيان الأعمّال الصالحة، وإيتاء الصدقات والخيرات لدفع البلاء وطول العمر.

ومنها: الترهيب عن فعل المعاصي والآثام، التي توجب الشقاء ونقص الأعمّار والثمرات.

ومنها غير ذلك ممّا هو كثير.

والنسبة بين الأجلين كالنسبة بين العلم الإلهي الثابت الذي لا يقبل التغيير والتبديل، والعلوم المفاضة على أفراد الإنسان التى تتأثر بالحوادث، كالسهو والنسيان، والزيادة والنقصان ونحو ذلك، وأمثال ذلك في حياتنا اليومية كثيرة لا تخفى على المتتبع البصير

وقد مثّل القرآن الكريم لهما بقوله تعالى: «يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)، فإنّ الأجل المقتضي هو الموجود في لوح المحو والإثبات

ص: 19


1- سورة الرعد: الآية.39

والأجل المسمّى هو الثابت في أُمّ الكتاب، والأوّل يشمل كل الحوادث التي تقبل التأثير بأيّ وجه كان، والثاني هو أُمّ الكتاب الذي يضم كل الحوادث الثابتة التي تستند إلى الأسباب التامّة التى لا تخلّف فيها ولا تغيير ولا تبديل.

والبداء الذي تقول به الإماميّة، وقد جعله أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) من صميم الدِّين، إنّما هو يرجع إلى لوح المحو والإثبات، دون لوح أُمّ الكتاب، فإنه لا مجرى للبداء فيه، كيف فإنّهما لا يجتمعان؟ كما هو واضح، والتفصيل موكول إلى محلّه.

وعلى ضوء ما ذكرنا، يكون للإنسان الذي خلقه الله تعالى كاملا سالماً سويّاً من الاقتضاء أن يُعمّر عمراً طويلاً، لو لم يعترضه ما يوجب نقصانه، أو يخترمه فيودي بحياته قبل أن ينقضي عمره الطبيعي المقدّر له، فتكون الأسباب والموانع التي لا يمكن إحصاؤها لها التأثير العظيم في حياة الإنسان، كما قدّره الله تبارك وتعالى له ذلك، فإنّ الإنسان جزء من هذا الكون الفسيح، فله ارتباط وثيق به يتأثّر بكل جزء منه، فيكون العمر الطبيعى له مع ما يرتبط به هو المكتوب في لوح المحو والإثبات، وأمّا الثابت الذي لا يتأثّر هو المكتوب في لوح أُم الكتاب فربما يتّحد الأجلان، وقد يختلفان فيقع الموت الإخترامى، والمناط على الواقع الثابت وهو الأجل المسمّى.

وممّا ذكرنا يعرف وجه الحاجة إلى الأجلين، وأنّ إيهام احدهما لا ينافي التعيين في الواقع، كلّ ذلك وفق نظام دقيق موافق للحكمة والمصلحة كما عرفت.

بل إنّ انعدام الأجل المقتضي، يوجب اختلال النظام في حياة الإنسان، ولعلّه لذلك ذكر سبحانه وتعالى هذين الأجلين في ابتداء هذه السورة المباركة ومن النِّعم التي يجب حمده تعالى عليهما، فقد عرفت أنّ الآيات الشريفة تشير إلى يرتبط بالإنسان من جهة نشأته ومعاده، وما يحيط به ويلقاه في مسيرته في

ص: 20

الحياة، فلو كان الأجل واحداً وثابتاً غير قابل للتغير والتبديل، لوقع في اليأس والقنوط، وأرهقه ثقل الحياة، ولكن جعل سبحانه وتعالى له أجلاً مقضيّاً يختلف كمّاً وكيفاً، زيادةً ونقصاناً، ليجدّ ويجتهد لتحصيل السعادة، وما يوجب زيادته، فلا يدبّ في نفسه القنوط، وهذا هو ما يقتضيه التدبر في هذه الآية المباركة بقرينة سائر النصوص الواردة في هذا الموضوع، ولكن للمفسرين والعلماء آراء في تفسير الأجلين لا تخلو من الغرابة، ولم يقم عليها الدليل، نذكر المهمّ، وهي:

آراء العلماء والمفسرين في الأجلين

منها: ما ذكره جمهور المفسِّرين، أنّ المراد من الأجل المقضى هو الحدّ المعيّن من الزمان للموت، من الأجل المسمّى الحدّ المعيّن للبعث من القبور، ونُسب ذلك إلى ابن عباس.

وفيه: إنّ الظاهر من سياق الآية الكريمة أنّ الأجلين يتعلّقان بموت الإنسان ومسيرة حياته، ولا ربط لهما بالبعث، ويدلّ عليه قوله تعالى: «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى»(1)، مضافاً إلى أن استقراء الأجل المسمى في القرآن الكريم، يستفاد منه أنّ المراد منه عمر الإنسان الذي ينتهى إلى الموت، فلم يرد هذا اللّفظ في البعث. على أن إطلاق الأجل على البعث فيه مسامحة، كما لا يخفى.

ومنها: أنّ المراد من الأجل الأوّل ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث.

وفيه: إنّه يرجع إلى ما تقدّم، مع أنّ كون المراد من الأوّل ما بين الخلق والموت، وهو مسير الإنسان في حياته الدنيويّة، لا يضرّ بأصل المراد كما عرفت.

ص: 21


1- سورة الزمر: الآية 42.

ومنها أنّ الأجل الأوّل أجل أهل الدُّنيا حتّى يموتوا، والثانى أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد، وابن جبير، واختاره الجبائي.

وفيه: أنّ إطلاق الأجل على المدّة غير المنتهية بعيد جدّاً، بل مخالف لإطلاق الأجل المسمّى عليه.

ومنها: أنّ المراد من الأجل الأوّل النوم، والثاني الموت، رواه ابن جرير، و ابن حاتم عن ابن عبّاس.

وفيه: أنّ إطلاق الأجل على النوم وإن كان أخاً لموتٍ غيرُ صحيحٍ، ولم يستعمل في القرآن الكريم.

ومنها: أنّ المراد من الأجلين واحد، والتقدير وهذا أجلٌ مسمّى، فهو خبرُ مبدأ محذوف و (عنده) خبر بعد خبر، أو متعلّق (بمسمّى).

ولا يخفى،ضعفه، بل هو أبعد الوجوه.

وكل هذه التفاسير بعيدة عن سياق الآية الشريفة، ولا دليل على اعتبارها

المراد من قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ».

التفات من الغيبة إلى الحضور لتسجيل أفعالهم، وتشديد اللّوم عليهم، بعد تذكيرهم بالخلق والربوبيّة العظمى، التي خصّ الإنسان بهما من بين مخلوقاته البديع صنعه تعالى فيه، وكمال عنايته به فكان الحريُّ بهم الإيمان بخالقهم وربّهم، وعدم الامتراء والمجادلة معه، والكفر والجحود له، ولا عذر لهم في ذلك ومن ذلك يظهر الوجه في استعمال ( ثم) دون غيره من حروف العطف.

ما يتعلّق بمادّة مري

ومادّة (مري) تدلّ على خلوص الشيء من العلم واليقين، من مريتُ الناقة إذا سحب ضرعها للحلب، ومنه المراء الشكّ والمجادلة لبعدهما عن العلم وخروجه عنهما، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من

ص: 22

عشرين موضعاً، وأغلب استعمالها في الكفر:

قال تعالى: «أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ»(1).

وقال تعالى: «وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ»(2).

وقال تعالى: «فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً »(3)، أي لا تجادلهم إلّا جدالاً واضحاً كالذي أمر به في قوله تعالى: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(4).

إلى غير ذلك من موارد استعمالها في القرآن الكريم.

والمستفاد منها أنّ مواردها الشكّ مع الكفر والجحود، والمحاجّة بغير علم، ولعلّه لهذا كان أخصّ من الشكّ أيضاً، فإنّ الإمتراء والمماراة هي المحاجّة فيما فيه مرية، كما قال تعالى: «قَوْلَ الحقّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ»(5)، وقوله تعالى: «أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى»(6).

ولا يختصّ الإمتراء بالبعث، كما ذكره جملة من المفسّرين، بل يشمل جميع أنحاء الإمتراء في الحقّ وفي آياته، وفى ذكر الإمتراء هنا بعد توجيه اللّوم عليهم بالغفلة عنه عزّ وجلّ، وجعل العدل له تعالى في الآية السابقة لبيان قبح المجادلة في ما هو واضح لا لبس فيه ولا شك، فإنّ الإنسان قد تطرأ عليه الغفلة في الأمور العامة من خلق السماوات والأرض، ولكنّه لا يكون معذوراً في خلق نفسه ولا تتحقّق الغفلة عن خالقه، ولا يمكن الشكّ فيه إلا على نحو المجادلة

ص: 23


1- سورة الفصلت الآية 54
2- سورة الحج الآية.55
3- سورة الكهف: الآية.22
4- سورة النحل الآية.125
5- سورة المريم: الآية 34
6- سورة النجم الآية.12.

والجحود بعد اليقين الذي لا محالة في بطلانه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ»

قوله تعالى: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ».

جملة استئنافية لبيان الوحدانية الكبرى، والألوهية العظمى، وحذف المتعلّق لإفادة التعميم، فيشمل الخلق والتدبير، والعلم، القدرة، والقيوميّة وغيرها.

والآية تدلّ على التوحيد بأسلوب برهاني وجيز، محبب إلى النفوس، لا سيما بعد التذكير بخلق السماوات والأرض، أي العالم الكياني الكبير، وخلق الإنسان وهو العالم الصغير، فهو الله الواحد الأحد المدبِّر لشؤون خلقه، والمتفرّد بجميع شؤون الربوبيّة، فكانت الآيات السابقة بمثابة الدليل المضمون هذه الآية الكريمة، فيكون من ترتب المقتضى على المقتضي.

و(الله) عَلَم للذّات المتفرِّد بالألوهية والربوبيّة، المتّصف بجميع صفات الكمال، والمنزّه عن جميع السلوب والنقائص، وقد كان هذا الاسم المبارك معروفاً قبل عصر نزول القرآن الكريم، قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ»(1)، وتقدّم في سورة الفاتحة بعض الكلام، فراجع.

ولمّا كان هذا الاسم المبارك مثبتاً لتمام معنى الألوهية، وجميع صفات الكمال، بحيث إذا اطلق استشعر الإنسان بل جميع المخلوقات بالعظمة والكبرياء والتسليم له عزّ وجلّ، والإقرار بالذلّ والعبودية لخالقهم، واسم الجلالة يثبت جميع تلك المعاني، وأكّده عزّ وجلّ بالضمير المنفصل لدفع كلّ ما يتوهّمه المخلوق من الشرك والشكّ والافتراء، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ

ص: 24


1- سورة العنكبوت الآية 61

إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ»(1)، فإنّ إلوهيّته قد انبسط على جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، واستولت قدرته المتعالية، وشملت ربوبيّته العظمى سائر الموجودات من غير حدّ يحدّها، فكان إلهاً واحداً متوحداً، متميّزاً بأنّه الله دون غيره، فبطل جميع ما يدّعونه من الشفعاء والآلهة، وإثبات آلهة الأنواع، كإله السماء وإله الأرض، وإله البرّ، وإله البحر، وإله المال، وإله الرزق وغير ذلك، وإثبات الآلهة للأقوام والأمم، فإنّها باطلة ولا يتعدّى مجرّد الوهم، فهي كما قال عزّ وجلَّ: «إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ»(2).

وقد اختلف المفسِّرون في متعلّق الظرف في السماوات والأرض بعد عدم إمكان حمل لفظ الجلالة على المعنى اللغوي.

فقيل: أن يكون المعنى المعبود المأخوذ في أصل اشتقاق الاسم الكريم، أو ما اشتهر به من صفات الكمال من ملاحظة ما يقتضيه المقام منها.

وقيل: دلالة هذا التركيب على الحصر، للتصريف بطرفي الإسناد فيه من التوحيد والتفرّد بالإلوهيّة.

وقيل: تعلّق الظرف بكائن على أنه خبر بعد خبر، والكلام حينئذٍ من التشبيه أو الكناية أو الاستعارة.

وقيل: إنّه من باب المجاز المرسل باستعماله في لازم المعنى، أو الاستعارة بالكناية بأن شبه عن اسمه بمن تمكّن في مكان، وأثبت له من لوازمه، وهو علمه به وبما فيه.

ولكن المناقشة في الأخيرين واضحة، إذ يستلزم التشبيه بالممكن وهو

ص: 25


1- سورة الزخرف: الآية 84
2- سورة يوسف: الآية 40.

باطل و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ».

وأمّا الأوّلان فإنّهما يرجعان إلى أمر واحد وهو إثبات ما يحق لذاته عزّ اسمه. والحقّ أنّ الجملة تدلّ على انبساط حكم الألوهية لجميع ما سواه عزّ وجلّ، من غير تحديد ولا تقييد ولا تفاوت، وتدلّ عليه الآية التالية الدالّة على إحاطته العلميّة بعد إحاطته القيوميّة، والجملة تمهيدٌ لما سيأتي بعد كونها مثبتة لما سبقها من الكلام كما عرفت.

المراد من قوله تعالى: «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ»

قوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ.

تقرير لما سبق، وتثبيت لما ورد في الآيات المباركة السابقة، بإثبات أهمّ صفة من صفات الإله الواحد الأحد، وهي صفة العلم الذي به استولى على جميع،مخلوقاته والإحاطة بها إحاطة علميّة تامّة، ومن كان كذلك فهو الله عزّ إسمه. وإنّما علّق سبحانه علمه بمن ذكر مع أنّه شامل لجميع مخلوقاته، إمّا لبيان حال المخاطبين، أو لأجل أن الإنسان محور هذا النظام الكياني، فإذا أحاط به علماً فكأنّما أحاط بغيره أيضاً، أو لبيان أنّ الإحاطة العلميّة بالإنسان إحاطة لما يترتّب عليه من أمر الرسالة والمعاد، فإنه تعالى قد أحاط علماً بالعباد وتبعاتهم، فهو أعلم بحسابهم في يوم لا يغادر كبيرةً ولا صغيرة إلّا أحصاها، فتكون الآية حينئذ تمهيداً لما سيأتى من بيان أمر الرِّسالات السماويّة والمعاد.

والسرّ والجهر صفتان متضادّتان متعلّقهما الأعمّال مطلقاً، وقيل: المراد منهما في المقام ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس، وبالكسب أعمّال الجوارح والجملة خبر (هو)، والاسم الجليل بدل منه، ويحتمل كونه خبراً ثانياً.

المراد من قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ»

قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ».

الكسب هو ما يترتّب على الأعمّال من خير أو شرّ، وتخصيصه بالذكر مع

ص: 26

معلوميّته ممّا سبق لإظهار كمال الاعتناء به، لأنّه المناط في الجزاء، فهو العالم بما يكسبه الإنسان لنفسه،بعمله فيحاسبهم به ويجازيهم عليه من المثوبات والعقوبات، وكلّ ذلك يستلزم ثبوت المعاد، وإرسال الرُّسل وهداية الناس، كما قال تعالى: «إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى»(1) فيكون له التدبير والتربيب العظيمان، والعلم التامّ، والقدرة الكاملة، إذن هو الله الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال والمتنزّه عن السلوب والنقائص.

فالآيات الشريفة تنصبّ في سياق واحد وهو إثبات الوحدة المطلقة الله،تعالى، وتفرده بالألوهية العظمى، واختصاصه بالربوبيّة الكاملة، فيكون امتراؤهم وجعل العِدل له تعالى باطلاً، ولا يحقّ صدوره من الإنسان المخلوق الذي أنعم الله سبحانه عليه بأنواع النِّعم.

***

ص: 27


1- سورة الليل الآية.12

بحوث المقام

فضل سورة الأنعام:

أشرنا في ما تقدّم أنّ هذه السورة المباركة قد اشتملت من المعارف أعلاها. ومن العلوم أزكاها، ومن الإشارات العرفانيّة أسناها، ففي هذه السورة العلوم التي تتعلّق بالمبدأ والمعاد، وما يتعلّق بالإنسان نشأته ومسيرة حياته وحشره، وأمر الرسالات السماويّة، وغير ذلك ممّا له الأثر التامّ في تكميل النفوس، فحقّ أن يُقال: إنّها سورة المعارف الإلهيّة، ولعظيم شأنها وما اشتملت من المعاني السامية، فقد شيّعها سبعون ألف ملك، و وردت روايات متعدّدة في فضلها، نذكر المهمّ منها:

ففي «الكافي» بإسناده عن الحسن بن على بن أبي حمزة، قال الصادق (عليه السّلام): «إنّ سورة الأنعام نزلت جملة شيّعها ألف ملكٍ حتّى أُنزلت على محمّد (صلّی الله عليه وآله وسلّم) فعظِّموها وبجِّلوها، فإنّ اسم الله عزّ وجلّ فيها في سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها».

أقول: رواه العياشي عنه (عليه السّلام) أيضاً، وإن الخبر يبيّن أحد الأسباب التي أوجبت تعظيم هذه السورة، وهو ذكر اسم الله عزّ وجلّ في سبعين موضعاً، ولا ريب إنّه من الفضل العظيم، لما في اسم الله عزّ وجلّ من الآثار، فكيف بما إذا ذكر بهذا العدد الكبير، فلا فضل أعلى منه. وذكر عدد الألف أيضاً من الملائكة لعلّه يرجع إلى الاقتصار على إحدى المجموعات السبعين التي شيّعت هذه السورة، لما فيها من ذكر الله تعالى في سبعين موضعا.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: إنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألف ملك حين أُنزلت على

ص: 28

رسول الله فعظِّموها وبجِّلوها، فإنّ اسم الله عزّ وجلّ فيها سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قرائتها من الفضل ما تركوها».

أقول: نزول هذه السورة المباركة جملةً، دلّت عليه جملة من الأخبار المعتبرة، فلا يصغى إلى من قال إنّها ضعيفة، وهو ممّا يدلّ على منزلتها العظيمة وفضلها الكبير، فيكون من أسباب تعظيمها وتبجيلها.

وفي «تفسير القمّي» عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن الرضا (عليه السّلام)، قال: «نزلت الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتهليل والتكبير، فمَن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة».

وفي رواية «المجمع» «سبّحوا له إلى يوم القيامة».

وفي رواية ثالثة نقلها الطبرسي في جوامع الجامع» عن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «صلّى عليه أولئك السبعون».

أقول: تشييع الملائكة لها، لما عرفوه من عظيم قدرها، وما فيها من الآثار الكريمة، والعلوم والمعارف الربوبيّة، ولعلّه لذلك كان لهم الزجل الشديد رافعين أصواتهم بالتسبيح والتهليل والتكبير، حفظاً لهم، أو لأجل دفع من لا يليق بتحملها والوصول إلى مقام القرب لها، فإنّها سورة المعارف والعلوم، ولا تفاض إلّا على من له الإستعداد والقابليّة، فتستغفر الملائكة له إلى يوم القيامة أو تسبّح له، أو تُصلّي عليه، ولعلّ اختلافهم في ذلك لأجل اختلاف الناس في الإستعداد والقابليّة لتلقّي ما فيها من المضامين العالية، أو حسب درجاتهم في العمل بها.

وفي «الدّر المنثور» أخرج الطبراني، وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد، قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) الذي لا يعلم مضامينها ومقدار أهمّيتها وسائر خصوصياتها إلّا هو (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

وفيه أيضاً: أخرج الحاكم وصحّحه، والبيهقي في «الشعب»، والإسماعيلي

ص: 29

في «معجمه» عن جابر، قال: لمّا نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ قال: لقد شيَّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق.

وفيه أيضاً: عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الأنعام بمكّة ليلاً جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.

أقول: الروايات في نزولها بمكّة جملة واحدة متضافرة ومروية في كتب الفريقين، وفى روايات أُخرى أنّها نزلت بمكّة باستثناء آيات نزلت بالمدينة «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ» إلى آخر الآيات الثلاث 151 - 153، وآية «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ...111». ولا بدّ من حملها على تعدّد النزول.

ومن عظيم آثار هذه السورة المباركة، إنّه قد وردت طريقة خاصّة لختمها بعدد معيّن لقضاء الحوائج ونيل المقاصد، وقد ادّعيت التجربة في ذلك، ويشهد له قول الصادق (عليه السّلام) «ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها».

وفي «تهذيب الأحكام» عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، قال:

«إذا قرأتم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»، ينبغي أن تقول كذب العادلون بالله».

قلت له: «فإن لم يقل الرجل شيئا منها إذا قرأ؟ قال: ليس عليه شيء».

***

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة

بحث دلالی

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل: يستفاد من ابتداء الحمد في هذه السورة أنتها تشتمل على نعم كثيرة ظاهرية ومعنوية، كما اشتملت سورة الفاتحة عليها أيضاً، ولعلّ الفرق بين السورتين أن سورة الأنعام شرح لما أوجز في سورة الفاتحة، التي تعتبر كالفهرست لما ورد في هذا الكتاب العظيم من المعارف الربوبيّة كعلم التوحيد،

ص: 30

والمعاد، أو الرسالات السماويّة، والأحكام الشرعيّة، وأحوال الأمم الماضية التي لها الأثر فى تربية النفوس وما يرتبط بسعادة الإنسان وشقائه.

وهذه السورة بسطت القول في تلك المعارف، وشرحت ما أوجر في تلك السورة، فابتدأت بالحمد لله تعالى الذي لا حدَّ لكماله ولا منتهى لجوده وفيضه، فقد أفاض على عباده ما يوجب كمالهم وسعادتهم، ومن عظيم رحمته بهم وشدّة رأفته، إنّه عزّ وجلّ لم يرض منهم إلا الدخول في الإيمان، والنيل من فيوضات ربّهم، فما أكثر ألطافة بهم، فقد استحقّ الحمد بذاته من ذاته لذاته، فما أجمل هذا الحمد، وما أحسنه من عباده!!!.

الثاني: ذكر سبحانه وتعالى في الآيات الثلاث التي افتتح بها هذه السورة من عظيم الصفات والآثار، وما أثبت بها أُلوهيته وربوبيّته العظمى التي من لوازمها ارسال الرُّسل وبعث الأنبياء، وإنزال الكتب لهداية الإنسان وثبوت المعاد، وفيها الإشارة إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينيّة من المعارف الحقّة الحقيقية التي تعتمد عليها الشريعة.

ففى الآية الأولى ذكر عزّ وجلّ خلقه للسماوات والأرض، الذي يمثّل خلقهما خلق العالم الكبير، ويبتني عليه النظام الكياني للعالم الذي لا حدَّ لعظمتها وفق نظام دقيق متقن، ممّا يدلّ على علم البارئ التامّ، وقدرته الكاملة، وتربيته العظيمة، ثمّ بين تصرّفه فيها بالنور والظلمات الذي يدور عليهما هذا العالم المشهود في تحوّله وتكامله من ظهور، وأفول، وتوالد وفناء، وانقلاب وثبات، وفق قواعد رصينة وحركات دقيقة، بسببها انتظم هذا العالم الذي نعيش فيه، والتي تسير إلى مستقرّ لها، وذلك بتقدير العزيز الحكيم العليم.

ثمّ أثبت لذاته المقدّسة الألوهية العظمى المتّصفة بالتوحيد الحقيقي ممّا تنفي جميع أنحاء الشرك، فهو الله في السماوات والأرض، ولا إله سواه، ممّا يثبت

ص: 31

شناعة الشرك والكفر بالله العظيم.

وبعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان الذي هو محور التكاليف الإلهيّة، وما يستتبع تلك من الرسالة والتشريع والجزاء والمعاد، وقد بيّن عزّ وجلّ أمره وحصره بين المبدأ والمسير والمنتهى، ليكون على ذكر من خالقه، ويطرح الغفلة وينبذ العناد واللّجاج، فإنّه محفوف بين عدمين أحدهما سابق على خلقه والآخر لاحق له.

ثمّ ذكر عزّ وجلّ علمه بحال هذا الإنسان إسراره وإعلانه، وما يكتسبه،. وجزاء أعمّاله من خير أو شرّ، فيثبت بذلك المعاد وقانون المجازاة اللّذان هما من مظاهر ربوبيته العظمى وقدرته الكاملة، وعلمه الأتم.

فقد تضمّنت هذه الآيات الكريمة أهمّ الصفات العليا التي تثبت كونه الله الجامع لجميع صفات الكمال، المتوحِّد بالربوبيّة والخلق، الواحد الأحد الذى ليس كمثله شيء، فكانت الغاية في حسن براعة الاستهلال التي تزيد الكلام حُسناً وروعةً.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» على جميع وجوه استحقاقه عزّ وجلّ للحمد، وهي الذّات المقدّسة الجامعة لجميع صفات الكمال، وفعله تعالى، وقد ذكر سبحانه من أفعاله خلقه للسماوات. والأرض، وجَعل الظلمات والنور، وخَلْق الإنسان، ثمّ بيّن سبحانه وجهاً آخر راجعا إلى الصفات الكمالية، التي تدلّ على أنّ الحمد إظهار كمال المحمود، فكان الحمد منه لنفسه حمداً حقيقيّاً، فقد ذكر عزّ وجلّ ربوبيته العظمى، وجعل القضاء الحتم وغيره، وعلمه بإسرار الإنسان وإعلانه لما يدلّ على كمال قدرته وإحاطته بمخلوقاته إحاطة علميّة وقيوميّة مطلقة، وبذلك قد استوفي جميع مناشئ الحمد المتصوّرة في العقول، ولعلّ في ذكرها الإشارة إلى ما سيذكره عزّ وجلّ في هذه

ص: 32

السورة المباركة.

الرابع: الآيات الشريفة تشير إلى أنواع الناس في الحمد واختلافهم في العبادة، فإنّ بعضهم يعبده عزّ وجلّ لذاته، وآخر لصفة من صفاته المقدّسة، وثالث لحاجةٍ والتي منها تكميل النفس، والكلّ صحيح وواقع وإن اختلفت في الدرجات.

الخامس: يدلّ قوله تعالى الحمد لله على أنّ الحمد حقٌّ الله تعالى لا يشركه فيه غيره مقصورٌ عليه، واجبٌ على عباده عقلاً، لما هو المعروف من أنّ ترتّب الحكم على الوصف يُشعر بالعلية، وهذا النوع من القصر أكد من قوله تعالى: «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ»(1)، فإنّه وإن دلّ على التأكيد والقصر الحاصل من تقديم الصلة، ولكن القصر الحاصل في آية المقام أكد لوجوه، كما هو واضح.

ولعلّ التأكيد فى المقام لبيان وجوه الاستحقاق لدفع شُبه المعترضين وإنكار المنكرين، كما يدلّ عليه ذيل الآية الكريمة «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» إذكيف ينكر البديهة، ويعرض عما ارتكز في الفطرة، فيجعل الشريك له في الحمد والعبادة، فهم استحقّوا بذلك أشدّ اللّوم وأعظم التوبيخ.

السادس: يستفاد من تقديم السماوات على الأرض في الذكر، شرف الأولى من جهات عديدة، ويؤكِّده إتيانها جمعاً والأرض مفردة، ويمكن أن يكون له أسباب عديدة:

منها: إن الأرض قابل، والسماء فاعل، ولو كانتا واحدة لتشابها في الأثر، وهو يخلّ بمصالح العالم، بخلاف القابل فإنّ الواحد منه يكفي في القبول.

ومنها: إنّ الأرض التي استقرّت عليها حياة الإنسان واحدة، بينما

ص: 33


1- سورة القصص الآية 70

السماوات مَلئٌ بالملائكة والروحانيِّين.

ولكن البحث في تعدد الأرض ووحدتها موضوع نقاش بين العلماء وسیأتی مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فإنّ ذكر خلق السماوات والأرض في ابتداء هذه السورة، و تنويه المؤمنين به، وجعله من أسباب الحمد و موجباته لدليل على عظمته الخلق، واستيعابه لجميع ما سواه عزّ وجلّ، فتمثّل الآثار العلوية والسفلية، وصنوف النِّعم، وعموميّة الآلاء الجليّة والخفيّة التي تناط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد.

كلّ ذلك يدلّ على تفرّده عزّ وجلّ بالصنع والإيجاد وتوحّده بالألوهية والربوبيّة، كما عرفت.

السابع: يدلّ اختلاف التدبير في جعل الظلمات والنور، على أنّهما من آثار خلق السماوات والأرض، فإنّ جعلها مسبوق بخلق منشأهما ومحلّهما، والمراد من الجعل في المقام التكويني منه الذي قد يستتبع جعلا تشريعيا في بعض المواد، - بل إنّ ذكر الجعل بالخصوص لبيان وجود نظام خاص يتعلّق بالظلمات والنور بأوسع متعلّقاتهما المادية والمعنوية، فلا تخرج عن ذلك النظام، ولذا كان فعل الذين كفروا عظيماً يخالف العقل والنظام.

وتخصيص هذه النِّعمة بالذكر لعظيم، أهميتهما، ودخلها الكبير في حياة الإنسان، كتأثيرهما فى العلويات والسفليات. وإتيان الظلمات جمعاً دون النور، لأنّ حقيقته الإنكشاف والظهور ولا تعدّد فيه بخلاف الظلام فإنّه يتبع مناشئه، او لاختلاف القابليات التي تستقبل النور، والخروج من العدم إلى نور الوجود. ولعلّ الظلمات يرجع إلى أنتها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنور ها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنورها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات والنور ها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات والنور ها تحدث عن أجرام هذه

ص: 34

المخلوقات، والنور ها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنور ها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنورها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنور ها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنورها تحدث عن أجرام هذه المخلوقات، والنور عن أجرام السماوات من شمس وقمر، كما عرفت.

الثامن: الآية الشريفة تدلّ على حدوث العالم، وسبق العدم على الوجود وتقدّم الاعدام على الملكات. فهو تعالى حقيق بالحمد على النِّعم الجسام، كما عرفت.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «ثمّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» على أنّ الله سبحانه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، قد استحقّ الحمد من حيث الذّات الجامعة لجميع الكمالات الواقعيّة، ومن حيث الصفات العليا، ومن حيث الفعل كالخلق والتدبير، سواءً كان هناك من يحمده عزّ وجلّ أو لم يكن فما صدر من الذين كفروا لا يضره شيئاً، وهو بعيد عن الحجّة والبرهان، لا تتعلّق أذهان المؤمنين به أبداً، فإنّهم على ذكر منه عزّ وجلّ، لأنّ في ذواتهم شواهد صدق على وحدانيته، وربوبيته، وعلمه الأتمّ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر عزّ وجلّ لفظ ( ثمّ ) الدالّ على الانحطاط والبعد، كما عرفت أنفاً.

العاشر: يدلّ قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» على أنّ خلق الإنسان ومنشأ تكوينه هو الطين، وإن كان له منشأ آخر في بقائه، وقد جمعها سبحانه وتعالى في قوله: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِين ثمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهينٍ»(1)، فهو يدلّ على حدوثه، وتذكيره بأصل خلقه، وأن ذلك المنشأ الحقير يستدعي الإيمان بخالقه وعدم الغفلة عنه، وهو يدلّ بالملازمة على المعاد ووقوع

ص: 35


1- سورة السجدة: الآية8.

البعث، فإنّ من قدر على إيجاد الإنسان من العدم، كان على إحياء ما قارن الحياة مدّة أقدر.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «ثمّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى» على إحاطة خالق الإنسان به إحاطة كاملة، وتربيبه العظيم به، وإنه مورد اعتنائه عزّ وجلّ، واقترانه بألطافه، فهو محفوف بأجلين مقضي يساير جميع أوقات الإنسان وحالاته، وأجل مسمّى ثابت لا يمكن له التعدى عنه، فإن كان محفوظاً من الأوّل لسبب من الأسباب، لكنّه لا يتخلّف الثانى عنه، فإنّ الأوّل قد تلحقه الألطاف الخفيّة فيتأجّل، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الأجل المقضى وإن كان مورده الموت لكن متعلّقه يشمل جميع ما له دخل في تأخيره وتغييره، فالآية الكريمة من أهمّ الآيات التي تدلّ على إحاطة الله تعالى وقيوميّته وعلمه وربوبيّته، ويشترك الأجلان في كونهما مجهولين للإنسان، لا سبيل إلى معرفتها بالطرق العادية، وقد يفيض علمه على أحد من أوليائه، ولكنّهما معلومان عند الله تعالى، فأحدهما يتغيّر حسب تفاعل الأسباب ورفع الموانع، والآخر ثابت لا يتغير لا يتبدل.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ» على شدّة غفلة الإنسان بما يجرى عليه نتيجة أعمّاله وأفعاله، كما يدلّ على إعوجاج فكره وعدم تعمّقه في الأُمور وعواقبها، فقد غَفّل عن نفسه، وترك التدبّر في شؤونه، فإنّ التفكّر فيهما يهدي الإنسان إلى الخالق العظيم، ولذا ورد في فضل التفكّر ما تنبهر منه العقول، ففى الخبر: «تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة».

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ» على الوحدانية الكبرى، والأُلوهية العظمى، وشمولها لجميع المخلوقات وربوبيته التامّة بخلقه، وإحاطته بهم إحاطة علم وقيومية وقدرة، فالآية تدلّ على التوحيد بأوجز عبارة وأحسن وجه، ولعلّ ما ورد في بعض الدعوات: «يا من دلَّ على ذاته

ص: 36

بذاته مأخوذ من هذه الآيات المباركة.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ» على إحاطته العلمية للإنسان الذي هو محور الكمالات والتكاليف الإلهيّة، وقد أودع فيه الفكر والإرادة والإختيار، إذا علم السرّ الذي هو أسبق من الجهر رتبةً وزماناً، وشموليّته، وعموم متعلّقه، بخلاف الجهر الذي يكون متعلّقه الأفعال، ولذا قدم سبحانه السرّ على الجهر في الذكر، فإذا كانت له هذه الإحاطة التامّة فهو المبدأ وإليه يرجع المنتهى للتلازم بينهما، ولعلّه لذلك ذكر سبحانه علمه باكتسابه وجزاء أعمّال الإنسان لتلحقها المثوبة والعقوبة في يوم المعاد.

***

بحث روائي وفيه ذكر الروايات التي وردت في تفسير الآيات

بحث روائي:

في «الكافي» عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال:

«إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر، وخلق الأرض قبل السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمات».

أقول: الحديث يبيِّن حقيقة من الحقائق الواقعيّة، وهي سبق الرحمة على الغضب، ولكلّ واحد منها مظاهر، فقد سبقت مظاهر رحمته تعالى غضبه، وقد ذكر (عليه السّلام) بعضاً منها:

فالجنّة هي الرحمة الرحمانية والرحيميّة والنّار مظهرٌ من مظاهر غضب الجبّار، وقد سجّرها لغضبه.

وخلق الطاعة التي هي التوجّه إلى الخير المحض، ومبدأ الخير كلّه، وتؤدّي إلى الجنّة التي هي أهمّ مظاهر رحمته عزّ وجلّ، والمعصية التي هي البُعد عن الله

ص: 37

تعالى، وهي مبدأ الشر، وتؤدي إلى النار التي أهمّ مظهر من مظاهر غضب الجبّار تعالى.

وخلق الأرض التي لولاها لم تتحقّق السماء، ولأنّ الأرض مصدر الحياة ففيها الأقوات، والحياة خير ورحمة والموت فناء، والعدم شرّ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ لِلسَّائِلِينَ ثمّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِنْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ»(1)

كما خلق الرحمة التي هي خيرٌ محض، وأودعها في قلوب الناس قبل الغضب الذي هو عدم الخير، ويجلب الشرّ، فلابدّ أن يكون هناك خير أولاً متقدّم على الشرّ، ولهذا تقدّم خلق الخير على الشرّ.

وأمّا خلق الحياة قبل الموت، فلأنّ الأخير عدم الحياة، فلابدّ أن تكون الحياة قبل الموت في الخلق، ولا ينافي ذلك ما ورد في قوله تعالى: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(2)، فإنّه لم يكن في مقام بيان تقدّم أحدهما على الآخر.

وهكذا تقدّم النور والظلمة، فإنّ النسبة بينهما العدم والملكة، وهي متقدّمة على العدم، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه آنفاً من تقدّم الظلمة؛ لأنّها عدم النور، فلم يكن الكلام هنا في الخلق في تقديم الظلمات على النور، فافهم.

وأمّا تقدّم خلق الشمس على القمر، فلأنه يدلّ عليه الاعتبار والبراهين العلمية، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا»(3)

ص: 38


1- سورة فصلت الآية.12
2- سورة الملك: الآية.2.
3- سورة الشمس: الآية.2

وفي «تفسير العيّاشي» بسنده عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي بن جعفر، عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السّلام)، قال:

«لكلّ صلاة وقتان، ووقت يوم الجمعة زوال الشمس، ثمّ تلا هذه الآية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثمّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»، قال (عليه السّلام): يعدلون بين الظلمات والنور، والجور والعدل».

أقول: هذا تطبيق حسن للمعنى العام لقوله تعالى: ( يعدلون)، فإنّه الخروج عن الصراط المستقيم، والإعراض عن طاعة الله عزّ وجلّ، فيكون الخط واضحاً العدل والجور والظلمات والنور، في التفكّر والسلوك، ومنه يستفاد إطلاق الظلمات والنور ليشمل الحسّى منها والمعنوي، كما أنّ في الحديث إشارة إلى أنّ من شروط إقامة الجمعة إقامة العدل، وهي تتوقّف على تمييزه عن الجور، ولا يكون كذلك إلّا بوجود إمام معصوم.

وفي «الكافي» بسنده عن ابن بكير، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «سألته عن قول الله عزّ وجلّ: «قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ» قال (عليه السّلام): هما:أجلان أجلٌ محتوم، وأجلٌ موقوف».

أقول: الاخبار في مضمون ذلك مستفيضة، وجميعها تتّفق مع ما دلّت عليه آية التنزيل، من أنّ للإنسان أجلين: محتومٌ وهو المسمّى عنده، وغير المحتوم هو المقضي الذي يقدِّم تعالى ما يشاء فيه ويؤخّر ما يشاء.

وفي «تفسير القمّي» عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، قال: الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه الله وحتّمه، والمسمّى هو الذي فيه البداء، يقدم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير»

أقول: هذه الرواية تخالف غيرها في تسمية الأجلين، فما كان أجلاً مقضيّاً يقبل التغيير سُمّي في هذه الرواية محتوماً، كما أنّ المسمّى المحتوم في غيرها

ص: 39

يكون غير المحتوم، فيدخل فيه البداء فى هذه الرواية.

والظاهر إنّه لا تعارض بينها، فإنّه إذا كان المناط على القضاء عن حتم، كان الأجل محتماً سمّي بالأجل المقضيّ، وأمّا إذا لم يكن عن حتم، كان الأجل مقضيّاً سمِّي بالمسمّى، كما في هذه الرواية، أو الأجل المقضيّ كما في القرآن الكريم، إلّا أنّه خلاف المعروف في الأجلين.

ويشهد لذلك ما رواه العيّاشي عن حمران، قال:

«سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قوله الله: «ثُمّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَه»

قال: الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدّم منه ما يشاء، وأمّا الأجل المسمّى فهو الذى ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها.

قال (عليه السّلام): فذلك قول الله: «إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتقدّمونَ».

أقول: إنّه يدلّ على أنّ الأجل المسمّى هو الذي عنده لم يطّلع عليه غيره، وقد يظهره لبعض أوليائه لبعض المصالح والحِكَم، وهو الذي ينزل في ليلة القدر التي تقدّر فيها أُمور العباد، كما دلّت عليه روايات متعدّدة.

وفيه أيضاً عن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، قال: «سألته عن قول الله: «أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى»، قال: المسمّى ما سُمِّى لملك الموت فى تلك اللّيلة، وهو الذي قال الله: «إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتقدّمونَ»، وهو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر، والآخر له فيه المشيئة، إن شاء قدّمه، وإن شاء أخّره».

أقول: يبيّن الحديث وجه آخر لتسمية الأجل المحتوم بالمسمّى، وهو الذي سُمي لملك الموت، فيرجع إلى المعنى المعروف، فهو مخزون مسمّى عنده ينزل يوم القدر فيطلع بعض عباده به.

ص: 40

وفيه أيضاً: عن الحُصين، عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، في قوله تعالى: «قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ». قال أبو عبد الله (عليه السّلام): «الأجل الأوّل هو ما نبذه إلى الملائكة والرُّسل والأنبياء، والأجل المسمّى هو الذي ستره عن الخلائق.

أقول: هذا هو الفرق الآخر بين الأجلين، فإنّ الأجل المقضىّ هو الذي يتغيّر، أو يُنبذ إلى الملائكة والرُّسل والأنبياء، والأجل المسمّى هو الذي لا يتغير ولا يعلمه إلا هو عزّ وجلّ، وستره عن الخلائق، ولكن ذلك لا يكون مانعاً أن يطّلع عليه أحد من أوليائه، أو يكشف عن شيء منه إذا أراد عزّ وجلّ ذلك، وقد قال تعالى: «فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ»(1).

في «التوحيد»، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن يحيى محمد بن يحيى العطّار، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن يزيد الخزاز، عن مثنّى الحنّاط، عن أبي جعفر - أظنّه - محمد بن النِّعمان، قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عزّ وجلّ: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ».

قال (عليه السّلام): «كذلك هو في كلّ مكان، قلت: بذاته؟

قال (عليه السّلام): ويحك إنّ الأماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول فى أقدار وغير ذلك، ولكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرة، وإحاطة وسلطاناً، وليس علمه بما فى الأرض بأقلّ ممّا في السماء، ولا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء، علماً وقدرة وسلطاناً، وملكاً وإحاطة».

أقول: الحديث يبيِّن معنى كونه تعالى في كل مكان، وإنّه عزّ وجلّ موجود مع جميع المخلوقات بما لا يستلزم النقض بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، فإنّه منزّه

ص: 41


1- سورة الجن الآية 26

عن مجانسة مخلوقاته، فإنّ سؤال السائل لما كان موهماً لكونه تعالى ذا قدر وهو من لوازم الجسم، والله تعالى منزّهٌ عنها بالمرّة، فكان الجواب من الإمام (عليه السّلام) إنّه بائن عن خلقه في صفاتهم، وهو معهم على نحو الإحاطة بهم إحاطة علم وقدرة وقيوميّة وملكٍ، وإحاطة كاملة.

***

بحث فلسفي وفيه ما يتعلّق بقاعدة السنخية وأصالة الوجود وما يتعلّق بالأجلين المذكورين في الآية

بحث فلسفي

تدلّ الآيات الشريفة المتقدّمة على أنّ الله عزّ وجلّ خلق العالم كله، وبالخصوص الإنسان الذي هو محور التكاليف الإلهيّة والأمانة الربانية، فالجميع حادث مسبوق بالعدم، وقد أفاض سبحانه وتعالى الوجود على الموجودات، فهو المبدأ ولا بد أن يكون المرجع إليه سبحانه، للتلازم بينهما، قال تعالى: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى»(1).

فالعالم كلّه ممكن، ومن أهمّ مقوّماته إنّه لم يكن أزليّاً، ولا يمكن أن يكون أبدياً، إذ لو كان قديماً لامتنع العدم عليه، لما هو المعروف من إنه لو ثبت الق--دم امتنع العدم، وقد أثبت الحكماء والفلاسفة حدوث العالم بأدلّة وبراهين كثيرة، وفى الكتاب الكريم والسنة الشريفة غنيّ وكفاية، وفي هذا الموضوع بحوث متعدّدة مهمّة، والكلام في المقام يقع في أمور ثلاثة:

الأوّل: إنّه بناءً على القاعدة المعروفة من لزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول، وقع الكلام في كيفيّة تعلّق الحادث بالقديم، فإنّه لا سنخية بين الخالق والمخلوق، إذ لابدّ أن يكون كلّ مؤثر يتحمّل في طبعه منشأ أثره، ولذا قال بعض الفلاسفة

ص: 42


1- سورة النجم: الآية 42.

الأقدمين كلّ فاعل فعله مثل طبعه، كما نقل عن بعض العرفاء أنّ الأثر يشابه صفة مؤثرة، ورتّبوا على ذلك لوازم متعدّدة.

ففى الماهية الممكنة والواجب الحقّ لابدّ أن يكون المجعول هو الوجود دون الماهية، لأنّه يشابه وجود الخالق، ولأجل ذلك ذهب بعضهم إلى أصالة الوجود.

ولكن الحقّ إنّه لا دليل من عقل صحيح على لزوم السنخية بين الخالق والمخلوق، إذ لم يدرك العقل الذّات المقدّسة، ولا أمكنه درك كيفية خلقه وإبداعه، فكيف يصحّ للعقل أن يحكم على الخالق حكماً قطعيّاً، كما أنّ النصوص القرآنية تدلّ على خلقه للعالم وما فيها من الماهيات، وما ذكره الفلاسفة إنّما يصحّ في العلل الطبيعية، وقياس الخالق عليها باطل قطعاً، لأنّ الذّات المقدّسة وفعله خارجٌ عن تحت قاعدة السنخية موضوعاً وتخصصاً، فلا يرد عليه الإشكال بأنّه لا تخصيص في الأحكام العقلية، وقد ذكرنا في سورة الفاتحة ما يتعلّق بهذا الموضوع فراجع.

الثاني: أصالة الوجود في التحقيق، بمعنى أنّ الأصل في التحقق ومنشأية الأثر هو الوجود، والماهية تابعة له، وقد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود، أو يكون الأمر بالعكس المصطلح عليه بأصالة الماهية، بعد اتفاقهم على أنّها قبل جعل الجاعل لا حيثيّة له ابداً.

الثالث: أصالة الوجود في الجعل، بمعنى أنّ المجعول من الباري عزّ وجلّ هل هو الوجود والماهية تابعة له، أو الماهية والوجود تابع لها؟.

وقد اختلف الحكماء والفلاسفة فى كلّ واحد من الموردين، وهما من المباحث المهمّة لديهم، فاختار جمعٌ كثيرٌ الأوّل فى الموردين، كما اختار بعضهم الثاني كذلك، وثالث قال بالتفصيل بين الواجب فالأوّل، والممكن فالثاني، ورابع

ص: 43

في النفس وما فوقها فالأوّل، وما دون النفس في الممكنات فالثاني.

وذكرنا في أحد بحوثنا السابقة، أن الذي يظهر من النصوص المقدّسة أصالة الماهية فى كل من التحقق والجعل، بمعنى أنّ الله تعالى مذوّت الذوات ومفيض الوجود عليها، لا بمعنى جعلها مؤثرة في عداد وجودها على سبيل التشريك، فهى محتاجة إلى خالقها من حيث القوام والذّات، وإن كانت من حيث الذّات عدماً بسيطاً، ويخرجها مبدعها إلى الوجود والتقرّر بجعل بسيط يتبعه الوجود على اللّزوم، بلا توسّط جعل مؤلّف، ويدلّ على ذلك ظواهر الآيات الكريمة، وبعض الأحاديث الواردة عن الأئمّة الهُداة (عليهم السّلام) التي تثبت أن الله عزّ وجلّ مذوّت الذوات، كما أنّ الرجوع إلى الفطرة السليمة يوجب الإذعان إلى أن الأشياء الخارجيّة مثل السماء والأرض والإنسان، والشجر، والحجر ونحو ذلك إنّما هي موجودة في الخارج، وإليها ينسب الوجود على نحو الحقيقة، لا أن يكون المتحقّق أوّلاً وبالذّات هو الوجود، فيكون هذا واسطة العروض على الماهية، فينسب إليها الوجود على نحو المجاز، كما يدعيه من يقول بأصالة الوجود.

فالفطرة تثبت أصالة الماهية، وأنّ الذي يقع عليه إدراكنا في الخارج أولاً وبالذّات نفس الماهيات، والتفصيل يطلب من محلّه.

ثمّ إنّ قوله تعالى: «ثمّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ ثمّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» يدلّ على إحاطته عزّ وجلّ بالإنسان إحاطة تامّة كاملة من حيث العلم والقدرة والقيوميّة والربوبيّة، فقد قضى عليه جميع ما له دخل في حياته من حيث السعادة والشقاء، والخير والشر والحياة والموت، ونحو ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في مسيرة حياته من حين خلقه ووجوده في الدُّنيا، إلى الموت ورحيله إلى عالم الخلود، ولا ريب أنّ ذلك يدلّ على عظمة الخالق، وهو ممّا يقتضى أن نقول بعموم متعلّق الأجلين الذي يدلّ عليه أيضاً آثارهما المحيطة بالإنسان، فإنّ حياته

ص: 44

ليست إلّا مظاهر هذين الأجلين، ولأجل ذلك كان إنكاره لهما من الامتراء، كما عرفت.

والإقتصار على الموت في كلمات المفسّرين وغيرهم، إمّا لأجل إنّه القنطرة التي يعبر عليها الإنسان إلى عالم الخلود، أو لأجل أن الحياة والموت هما الأصل في سائر الأمور، فإذا كانا تحت إرادته عز وجل، تبعهما غيرهما فلا خصوصيّة للموت فقط.

ومن التدبّر في الآيات الكريمة التي نزلت في هذا الموضوع، نستفيد أنّ الأجل المسمّى الذي يكون عنده عزّ وجلّ، هو الثالث عزّ وجلّ، هو الثالث في اللّوح المحفوظ، وهو لوح أُمّ الكتاب، ويشير إليه قوله تعالى: «يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)، فيكون الأجل غير المسمّى هو الثابت في لوح المحو والإثبات.

وفي هذين اللّوحين يثبت كلّ ما يجري في عالم الملك، مع الفرق بينهما، فإنّ في لوح أُمّ الكتاب يثبت الأسباب العامّة، والقوانين الحاكمة في العالم الذي لا تخلّف في تأثيرها، وأمّا لوح المحو والإثبات، فإنّ فيه الأسباب الناقصة التي يمكن التخلّف فيها لجهة من الجهات.

وبعبارة أُخرى تلك المقتضيات التي ربما تقترن بمانع من الموانع يمنع من تأثيرها، أو يرفع من مقتضاها، فيبدّلها إلى مقتض آخر، ويمكن الإطلاع عليها لمن أذن الله عزّ وجلّ له.

وإذا أردنا تقريب هذين اللوحين إلى الذهن ما نشاهده في عالمنا المعاصر في من يذيع الأخبار، فإنّ عنده لوحاً مكتوباً فيه الأخبار ليلقيها على السامعيّن فيتأثّروا بسماعها، ولكن عند المشرف مثلاً - لوحاً آخر يتابع المذيع، ويغيّره إذا

ص: 45


1- سورة الرعد: الآية.39

استجدّ خبراً جديداً أو وجد مانع من إلغاء ما عنده.

الفرق بين اللّوحین

والمستفاد من مجموع النصوص أنّ الفرق بين اللّوحين يرجع إلى أُمور:

الأوّل: إنّ لوح الإثبات وأُمّ الكتاب عند الله تعالى لم يطّلع عليه أحد. بخلاف لوح المحو والإثبات، فإنّه موجود عند النفوس القدسية، وأرواح الملائكة يمكن الاطّلاع عليه.

الثاني: إنّ مضمون لوح أُمّ الكتاب هي الكلّيات والقوانين العامّة التي تدبّر العالم، والأسباب التامّة التي لا تخلف في تأثيرها، بخلاف لوح المحو والإثبات، فإنّ مضمونه المقتضيات التي يشملها التغيير والتبديل، والمقترنة بالموانع.

الثالث: إنْ أُمّ الكتاب في الأجل المحتوم الذي قضاه الله تعالى وحتمه، وفي لوح المحو والإثبات الأجل المقضى الذي يدلّ في هذه المقتضيات والموانع وغيرها، كلّ ذلك بإرادة الله عزّ وجلّ ومشيئته، وعلمه الأتم بالجميع.

الرابع: إنّ الأجل المسمّى الذي فى أم الكتاب، ينزل في زمان معيّن وهو ليلة القدر، ليدبّر ما يجري في العالم إلى مثلها في العالم الآخر، وأمّا الأجل المقتضى الثابت في لوح المحو، فليس له زمانٌ معيّن، بل ينزل حسب المقتضيات.

الخامس: إنّ مضمون لوح المحو ينبذ إلى الملائكة والرُّسل والأنبياء، وقد أعطاهم الله تعالى، ويمكنهم الوصول إليه والإطّلاع على مضمونه، سواء بنور يكشف ما فيه، أو بوجود أصله، أو بالاختلاف حسب المراتب والقابليات، ولكن مضمون أُمّ الكتاب مستورٌ عن الخلائق، لم يطّلع عليه من عباده إلّا من ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.

***

ص: 46

سورة الأنعام الآية 4 – 11

إشارة

الآية 3 - 10

«وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنِ مَكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسِ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكَ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثمّ لَا يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدْ اسْتَهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثمّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».

الآيات الكريمة بيان ما أجمله سبحانه في الآيات السابقة بالنسبة إلى حال الكافرين المكذِّبين، الذين عدلوا بالله الخالق العظيم، واتّخذوا الإمتراء بدلاً عن الطاعة والتسليم، وتبيّن السبب في ذلك، لأنّهم كذبوا بالحقّ الذي دعا إليه الرسول الكريم، وأعرضوا عن الآيات التي نزلت فيهم وتذكر هم بخالقهم، فتمادوا في الباطل والطغيان والاستهزاء بها، وإنّ ربوبيّته العظمى وإن اقتضت أن لا يؤاخذهم بذنوبهم إلا بعد إتمام الحجّة عليهم، فأنزل الآيات تلو الآيات، واحاطهم

ص: 47

بالموعظة والإنذار، فلم تنفعهم تلك حتّى تمادوا بالعصيان، وأنكروا الحقّ بعد وضوحه، فطلبوا ما ليس لهم، فكانت عاقبة أمرهم خسراً، ووقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة. ولا تخلو الآيات الكريمة من الإشارة إلى تغيير النفوس والسبب فی ذلك، والإرشاد إلى ما يوجب الطغيان والهلاك، ولم تهمل جانب الموعظة والنصح والإرشاد.

***

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ»

التفسير

قوله تعالى: «وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ». كلامٌ مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله وإنكارهم لها، والإعراض عن خطابهم للإيذان بأنّ كفرهم وإنكارهم بلغ مبلغاً اقتضى عدم مواجهتهم بالخطاب، والآية الدلالة الواضحة والحجّة الباهرة، سواء كانت تكوينيّة أو تدوينيّة، وإضافة الآيات إلى الربّ للإشارة إلى العناية بهم مع كفرهم وجحودهم، فجديرٌ بهم الإيمان بمثل هذا الربّ، ولبيان أنّ إنزال الكتب وبعث الرسول، وهداية العباد من شؤون ربوبيته العظمى، كما أنّ فيه الدلالته على أنّ الإيمان بربوبيته يستدعي الإيمان بكتبه ورسله، وأنّ خلاف ذلك يستدعي الجهل بربوبيته.

والجملة المشتملة على المضارع المنفي، تدلّ على استمرار العناد والتكذيب حتّى صار سجيّة لهم، فقد صدر منهم الكفر بالله تعالى، وأعرضوا عن آيات التوحيد، وامتروا بالبعث، فصار التكذيب من صفاتهم الملازمة لهم، فهم يكفرون بآيات ربّهم المتتالية، ونعمه المتواردة، ولا تختصّ الآيات بآيات الوحى التي تتجدّد، بل يشمل الدلائل الكونية، وسائر الآيات الأنفسية والآفاقية التي تدلّ على أُلوهيته وعظيم خلقه، وإحاطة علمه بجميع أحوال المخلوقات وربوبيّته العظمى.

ص: 48

والإيتاء هنا بمعنى مطلق الوصول الأعمّ من النزول والظهور.

ما يتعلّق بقوله تعالى «إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ»

قوله تعالى: «إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ».

جملة دالّة على استمرار الإعراض تبعاً لاستمرار نزول الآيات، والجملة بعد (إلّا) في موضع النصب، على أنّها حال من مفعول يأتى، أو من فاعل وإيثارها على غيرها، كما في قوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا»(1)، للدلالة على ما ذكرناه من الاستمرا والتجدد حتّى صار لهم خُلقاً وسجيّة.

والإعراض هو التولي عن الشيء الذي يظهر به عرض التولي المدير عنه والمراد به تركهم النظر فيه غير ملتفتين إليه.

كما قال تعالى في موضع آخر «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرِ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةٌ قُلُوبُهُمْ»(2)، وفي الآية تعجيب من حالهم إنّهم يظلّون معرضين عن الآيات المتتالية الدالّة على استحقاق الربّ الذي بيده ملكوت كلّ، شيء، وقد ظهرت الآيات على عظيم قدره وسموّ صفاته، لحقيقة الألوهية وحده فلا يشركه غيره.

فالآيات الدالّة على إنّه الربّ دالّة على إنّه الإله الواحد، فهو الله الواحد الأحد، ولو لا العناد واللّحاج والاستكبار الحاصل في نفوسهم من تكرار الإعراض، لأذعنوا بالحقّ الذي هو المقصود منهم الاعتقاد به.

ما يتعلّق بقوله تعالى « َقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُمْ»

قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُمْ».

المراد من الحقّ، مجموع الآيات والبراهين والحجج الكثيرة الدالّة على إنّه

ص: 49


1- سورة القمر: الآية.2.
2- سورة الأنبياء: الآية 2 - 3.

عزّ وجلّ هو الحقّ، وما ينزّله حق، وما يرشده إليه هو الحقّ الذي لابدّ من اتباعه. فالحقّ هو الذي اجتمعت فيه جميع العلل، فيجب الإذعان به وهو المطلوب منهم، ويعرف الوجه في مجيء (الفاء) الدالّ على ترتّب المسبّب على السبب، فإنّ جميع ما صدر منهم سببه الكذب بالحقّ.

ويحتمل أن يكون معلولاً لما سبق فإنّ تكذيبهم للحقّ إنّما حصل من تكرار التكذيب، ودوام الإعراض، وكلاهما يهدي إلى المراد وهو التكذيب المستمر والإعراض المتكرّر، وعدم الإيمان بالحقّ، وترك النظر في الآيات الدالّة عليه، فقد أغلقوا على أنفسهم أبواب الهداية، فلا يلتفتون إلى الآيات المتتالية والنِّعم المتواردة.

ما يتعلّق بقوله تعالى «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون»

إشارة

قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون».

تهويل يتضمّن التخويف والإنذار، كما يدلّ عليه الترتيب المستفاد من الفاء، والمراد من الموصول (ما) الحقّ المذكور سابقاً، عبّر به تهويلاً للأمر بإبهامه وتعليلاً للحكم بما في حيّز الصلة، فإنّ الذي استهزؤا به هو الحقّ، وسوف يحلّ بهم جزاء الاستهزاء وعاقبة التكذيب، وتظهر حقيقة الحقّ ويتبيّن للعيان، ويخرج من طور النبأ إلى حدّ العيان، كما قال تعالى: «وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الحقّ بِكَلِمَاتِهِ»(1)، وقد وعد الله رسوله «الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(2).

المراد من الانباء

والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الذي يعظم وقعه، والمراد من أنباء الحقّ ما يشمل جميع مظاهره، وأهمّها نصرة دين الله تعالى، وخذلان أعدائه. وفي الآية

ص: 50


1- سورة الشورى الآية 24
2- سورة الصف: الآية.9

وعيد للمستهزئين الكافرين الذين سوف يجدون آثار استهزاءهم وعاقبة كفرهم، ووعد للمؤمنين بنصر الله تعالى لهم، ومن ذلك يعلم أنّ ظهور الحقّ إنّما يمسّ كلا الفريقين المؤمن والكافر، والخاضع والمستهزئ، كما اخبر به عزّ وجلّ في قوله: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ»(1)

وقد تكرّر في القرآن الكريم ذكر استهزاء الكفّار بالرُّسل ما جاءوا به من الحقّ، وتمّ إنذارهم وتخويفهم بسوء عاقبة الاستهزاء. وأمرهم بالإعتبار ممّن نزل بساحتهم العذاب، وممّا ذكره عزّ وجلّ في هذا الموضوع ما جاء في سورة الشعراء: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(2).

وهي مع آية المقام تشتركان في الاسلوب والوعد والوعيد، والتخويف والآثار، ولكنّهما تفترقان من جهة أنّ آية الشعراء حذف فيها معمول «كَذَّبُوا» واستبدل السين بالتنفيس «سَوْفَ»، ولعلّه يرجع إلى أنّ آية الأنعام جاءت بعد بسط من الكلام في ذكر آيات الحمد، وانفراده عزّ وجلّ بالخلق والابداع والإطناب في ذكر أفراد المخلوقات فناسب هذا الإطناب ذكر الحقّ، بخلاف آية الشعراء فإنّها سيقت على نحو الإيجاز، فناسبة الإيجاز المعمول، كما ناسب الاختصار ذكر السين بدل حرف التنفيض.

كما أنّ آية الأنعام أسبق من آية الشعراء فى التنزيل فالمناسب ذكر التنفيس، وكانت آية الشعراء أقرب إلى النزول فناسبه ذكر،السين، والله أعلم.

ص: 51


1- سورة الصافات: الآية.177
2- سورة الأنعام: الآية 5.

ما يتعلّق بقوله تعالى «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ»

إشارة

قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ»

توبيخ بعد النصح، وفيه تعيين ما هو المراد ممّا تقدّم والرؤية أعمّ من العقليّة العرفانيّة والنظريّة.

ما يتعلّق بمادّة قرن

ومادّة (قرن) تدلّ على الاجتماع والاقتران، والمراد به هم القوم المقترنون في زمن واحد، والجمع قرون، وقد استعملت في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرين موضعاً، مفرداً وجمعاً، وأغلب استعماله مع الهلاك، واختلفوا في مقدار ذلك الزمان، فقيل: مائه وعشرون. وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل ستّون، بل قيل: إنّه مقدار متوسط أعمار الناس في كل زمان، ولكنه لاضابطة له. وقال الزجاج: إنّه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق من العلم على ما جرت به عادة الله تعالى قلّت المدّة أو كثرت، والدليل عليه قول نبينا الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «خيركم قرنى ثمّ الذين يلونكم».

وقرّب بعضهم القول الثانى لما ورد: «أنّ الله تعالى قيّض لهذه الأُمّة على راس كلّ مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» وهو المعروف بين الناس.

والظاهر أنّ المعنى اللغوي هو الجامع لتلك الأقوال، والأقرب إلى الفهم هم القوم المقترنون في زمن واحد بحيث يمكن للخلف الاعتبار من السلف، ولا يتحقّق ذلك إلّا بالرؤية علما أو نظراً.

والهمرة في (ألم) للإنكار لتقرير الرؤية. (وكم) معلّقة عن العمل تفيد التكثير، سواء كانت استفهاميّة أو خبريّة، وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية.

والمعنى ألم يعلم هؤلاء الكافرون المستهزون بآيات الله، المكذِّبون بالحقّ، كم أُمّة أهلكناهم من قبلهم بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم.

ما يتعلّق بقوله تعالى «مَكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تُمَكِّنْ لَكُمْ»

إشارة

قوله تعالى: (مَكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تُمَكِّنْ لَكُمْ).

ص: 52

استئناف لبيان أولئك القوم المستهزئين المكذبين بالحقّ. وقد ذكر سبحانه وتعالى أوصافاً تدلّ على شدّة اقتدارهم وعظمة سلطانهم، وكبير مُلكهم، وتوارد النِّعم عليهم، ولكنّهم كفروا بأنعم الله، وكذّبوا بالحقّ، فتعلّقت إرادته عزّ وجلّ بإهلاكهم بذنوبهم، ولم تنفعهم تلك القدرة والسلطة الظاهريّة والمُلك العظيم، فلكم العبرة من أحوالهم بالرجوع إلى الحقّ والإيمان به والطاعة لله عزّ وجلّ الخالق العظيم.

ما يتعلّق بمادّة مکن

ومادّة (مكن) تدلّ على القرار، ومنه الموضع الحاوي للشيء، وجعل بعض المكان عرضا باعتبار كونه المناسبة بين الجسم الحاوي والمحوي، وتمكين الشيء في الأرض جعله قارّاً فيها، وهي مقرّاً له، للتلازم بينهما، ولأجل ذلك ورد الاستعمال بكلّ منهما، يقال: مكّنه في الأرض، ومنه قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَكَنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَنَّاكُمْ فِيهِ»(1)، كما يقال: مكن له، ومنه قوله تعالى: «إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ»(2)، وقد ورد كلاهما في آية المقام.

وإن كان التحقيق يقتضي الفرق بينهما، فإنّ استعماله بدون اللام يدلّ على جعله متكمناً فى الأرض، تامّ التصرّف مستقلاً فيه، كما يقال: مكّنه في الأرض. ومنه المقام «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ»، فقد كان من قبلهم متمكِّنين في الأرض، ولهم السلطة الظاهرية، وأعطيت لهم من القوّة ما تمكّنوا من أنواع التصرّف فيها وأمّا استعماله مع اللام فإنّه يدلّ على إعطاء أسباب القدرة والتصرّف، فإن كان المفعول مذكوراً في الكلام فيتقصر عليه، كما في قوله تعالى: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً»(3).

ص: 53


1- سورة الاحقاف: الآية 26
2- سورة الكهف: الآية 84
3- سورة القصص: الآية 57

وقوله تعالى: «وَلَيْمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ»(1). وإن كان محذوفاً فلابدّ من التقدير بما يناسب المقام، كقوله تعالى: «إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ»(2) وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ»(3)، أي مكَّنّا لهما جميع أسباب القدرة، والإستقلال في التصرّف فيكون الاستعمال الأوّل أبلغ من الثاني وأدلّ على المقصود.

والمعنى إنّا مكَّنّاهم فى الأرض، وأعطيناهم من أسباب التمكن فيها والإستقلال في التصرّف فلم يوجد من يُعارضهم فى سلطانهم، ما لم يكن لكم ذلك فكأنّ سلطانكم أضعف، والآية الكريمة مع غاية إيجازها، تفيد المعنيين على نحو الإحتباك.

والالتفات في قوله تعالى: «مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ من الغيبة إلى الحضور»، لما في مواجتهم بضعف حالهم من التبكيت، وليتّضح مرجع الضميرين.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً»

قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً).

إمتيازٌ آخر لتلك القرون الخالية على كفار قريش، وهو توارد النِّعم الإلهيّة عليهم، والمراد من إرسال السماء هو إنزال المطر، بقرينة كلمة «مِدْرَاراً » التى تدلّ على الغزارة وكثرة النصف من الدَّر - بالفتح - والدِّرة - بالكسر - أي اللبن أى كثر وغزر، ويستعار للبن نفسه، ومنه الله درّه، ودرّ درّك، كما استعير للمطر أيضاً، ومدراراً صيغة مبالغة يستوى فيه المذكر والمؤنث، والإرسال بمعنى الإنزال. قال الراغب: أصل الرُّسل الانبعاث على التؤدة، يقال: ناقة رسلة سهلة

ص: 54


1- سورة النور: الآية 55
2- سورة يوسف الآية.21
3- سورة الكهف: الآية 84

السير، وإبل مراسل منبعثة إنبعاثاً سهلا، ومنه الرسول المنبعث، وقال: «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ»(1).

كما يستعمل في ما يقابل الإمساك، قال تعالى: «وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ»(2).

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ»

قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ».

نعمة أُخرى اختصّت بالأرض التي مكَّنهم الله تعالى فيها، وهي من لوازم النِّعمة السابقة، فإنّ إنزال المطر عليهم بغزارة، يستلزم تصيير الأنهار التي تجري دائماً وتسخيرها لهم، وقد هداهم الله عزّ وجلّ للاستمتاع بها، حيث كانت تجري في جنانهم وحدائقهم وبيوتهم، فتزيدها بهجةً، فيستمتعون بجمالها، وينتفعون من مياهها، فعاشوا بين الخصب والرفاه في الثمار والأموال، وهي نعمة تفوق على الأولى فى الجمال والنزهة وإنبساط النفوس، واستقرار الحياة عندهم بخلاف ما كان عليه كفار قريش من شظف العيش وشدته، وقسوة الحياة عندهم.

ما يتعلّق بقوله تعالى «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ»

قوله تعالى: «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ».

الفاء وإن دلّ على التعقيب ولكنّه في المقام يدلّ على ترتيب اللّازم على الملزوم، والباء للسببيّة، فإنّ النِّعم المتواردة عليهم، والتمكين الذي منحهم الله عزّ وجلّ ببسط سلطانهم واستقلالهم في التصرّف، ممّا يستوجب الإيمان والطاعة، لكنّهم كفروا وكذبوا الرُّسل، فاستحقّوا العذاب والهلاك.

والآية تدلّ على أنّ السيئات والذنوب تكون سبباً للوقوع في البلايا

ص: 55


1- سورة مريم: الآية 83
2- سورة الفاطر: الآية.2.

والمحن، وعموم الهلاك، كما أنّ الطاعات والحسنات لها الدخل في إفاضات النِّعم ونزول البركات، وقد دلّت على كلّ واحد منهما آيات كثيرة.

كما إنها تدلّ على عظيم جنايتهم فى كفران النِّعم، واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَا آخَرِينَ»

قوله تعالى: (وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَا آخَرِينَ).

بیان لسنّة الله تعالى في خلقة، إن أهلك أُمّة بذنوبهم، فإنّه يوجد أُمّة أُخرى بديلاً عنها، وتدويل الدول بين الأُمم والقرون ممّا جرت عليه عادته عزّ وجلّ، فإنّ الأرض لابدّ أن تعمّر بالإنسان إلى يوم القيامة، فإذا أهلك قوماً لفرط ذنوبهم وكفرهم بالله، ومعاندتهم لرسله، وتكذيبهم لما جاءوا به، أو كفرهم بأنعم الله بطراً وأشراً، والإعراض عن الطاعة بارتكاب المعاصي والآثام، فإنّه ينشأ قرناً آخر، أما القوم الآخرون الذين يخلفون من نزل بهم الهلاك، فلابدّ أن يكونوا مخالفين لهم في الصفات، فإن تركوا الصفات التي كانت عليه الأُمّة السابقة من الكفر بالله و تکذیب رسله، و آمنوا بالله وعملوا الصالحات وأحسنوا، فإنّه يُحسن إليهم، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتّى يتغيروا فيرجعوا إلى ما كانت عليه الأُمّة السابقة، فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.

والآية ردّ على كفار قريش، وهدم لغرورهم بقوّتهم وثروتهم، مقابل ضعف الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين به من هذه الجهة.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ»

إشارة

قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ).

استئناف بطريق الالتفاف إلى خطاب الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لبيان شدّة عنادهم، وشكيمتهم في المكابرة، فقد أغلقوا على أنفسهم أبواب الهداية، فلم تنفعهم النذر ولا يجيدهم تخويفهم عاقبة التكذيب، وبلغ إصرارهم على الإنكار وعزيمتهم

ص: 56

على الاستكبار، أنّهم ما برحوا عن الإستهزاء برسل الله تعالى، وإلقاء الشبهات، واستبدال ما جاء به الأنبياء والرُّسل، التي توجب الهداية والاطمئنان إلى الاقتراح، حتّى بلغ بهم الأمر إلى أنه لم ينفعهم ما طلبوه، ولو لمسوه بأيديهم وتناولته سائر حواسهم.

اقتراحات المشتركين وما يتعلّق بها

وقد ذكر سبحانه وتعالى شبهاتهم واقتراحاتهم فى مواضع متفرقة من القرآن الكريم، كاقتراحهم إنزال كتاب من السماء، أو إنزال القرآن جملة واحدة وغيرها، وكان الرسول الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) يضيق منها صدره، ويناله الحزن والأسف من تعنتهم واستكبارهم، كما حكى عزّ وجلّ عنه «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنرٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكَ»(1).

وفي الآيات الكريمة لطف وعناية برسوله الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، في أُسلوب بلاغي يبيّن حقيقة نفوسهم التي تربّت على الكبر والإستهزاء بآيات الله الآفاقية والأنفسية، التي تدعوا إلى الإيمان والطاعة، كما يتضمّن السبب في تكذيبهم بالحقّ.

وإنّما ذكر عزّ وجلّ تلك الإقتراحات مع علمه بإعراضهم وردّهم لو أنزلها، لبيان أنّ الحجج والبراهين مهما كانت واضحة، فإنّها لا تستلزم الإيمان، ولا تنفع إلا في حقّ من كان له استعداد لقبولها، ولا يمكن تحصيله إلّا بإزالة الموانع من الكبر والعناد والتقليد.

والكتاب بمعنى المكتوب، وهو مصدر كالكتابة، ويطلق على الصحيفة أو الصحف المكتوبة فى مقصد واحد. وتنكيره لأجل النوع، بمعنى أي نوع من الكتاب الذي اقترحوه، أو لأجل بيان أنّ هذا الكتاب قد تعلّقت إرادته عزّ وجلّ أن

ص: 57


1- سورة الهود: الآية.12.

ينزل نجوماً وتدريجاً.

والقرطاس - بكسر القاف، وتُفتح و تضمّ على لغة - هو الورق الذي يكتب فيه، وفي القاموس - مثلّثة القاف كجعفر، ودرهم - الكاغذ، وقيل: إنّه منصوص بالمكتوب منه، وقد نصّ بعض أهل اللغة على أنّه غير عربي.

واللّمس هو إدراك الشيء بظاهر البشرة، وقيل: إنّه المسّ باليد، ولعلّه للغلبة، والتقييد بالأيدي لدفع التجوّز، إذ قد يستعمل مجازاً بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، كما في قوله تعالى: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ»(1) أي تفحّصنا، أو لزيادة التعيين، وتحقيق القراءة على قرب أي فقرأوه بأيديهم لا بعيداً عنهم، وهو ممّا يدلّ على عدم حصول الخداع، فإنّ اللّمس، إذا اقترن بالرؤية كان أقرب إلى اليقين، وأبعد عن الخداع بخلاف البصر فإنّه قد يحصل الخداع فيه بالتخييل، كما حكى عزّ وجلّ عنهم: «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ»(2).

والمعنى لو أنزلنا كتاباً من السماء عليك في قرطاس فرأوه نازلاً بأعينهم، ولمسوه بأيديهم عند وصوله لما آمنوا، فيكون الرفض من مثل هذا الشخص الذي استعمل أقوى مدركاته - الرؤية واللّمس - يدلّ على كونه مستکبرٌ شديد ومعاندٌ عظيم، لا يريد أن تتوجّه نفسه إلى المعرفة، فلم يكن له استعداد لنيل الكمال بالإيمان.

ما يتعلّق بقوله تعالى «لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ»

قوله تعالى: «لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ»

جواب الشرط (لو) وهو يدلّ على شدّة تعنّتهم وعنادهم للحق، ووضع

ص: 58


1- سورة الجن الآية 8.
2- سورة الحجر: الآية 15

الموصول موضع الضمير، للتنصيص باتّصافهم بما في حيّز الصلة من الكفر الذي لا غفران له.

والسحر المبين، هو الظاهر في نفسه الثابت في نوعه، أي إنّما هو خداع في التخيّل فليس كتاب مرئى، ولا قرطاسٌ ملموس.

وحكاية قولهم هذا إنّما يدلّ على أن السحر خداعٌ باطل، وإنّه تخيل ما لا حقيقة له في صورتها، وقد تكون له آثار في نفس المسحور وبدنه، وهو إنّما يحصل لكون التصرّف فيه في القوّة المتخيّلة التي لها الأثر في النفس، ومنها إلى البدن، وتقدّم البحث عن السحر في سورة البقرة، فراجع.

ويستفاد من الآية الكريمة إنه يصدر منهم هذا القول لا محالة، فلا يعبأ بسائر أقوالهم الباطلة، كقولهم: «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِبِّكَ حتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَفْرَؤُه»(1)

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكَ»

قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكَ»

إقتراح آخر من اقتراحاتهم السخيفة التي تدلّ على اسكتبارهم وإصرارهم على العناد والكفر، وذكره بالخصوص إمّا ردّاً منهم على ما كان النبي الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) يخبرهم بأنّ الذي ينزل عليه ملك أمين كريم يخبر عن الله تعالى، كما أخبر عزّ وجلّ به: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعِ ثَمّ أَمِينٍ»(2).

أو لأجل تعجيز النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، لمعرفتهم أنّ الملك لا يبقى على ما هو إذا نزل.

واقتراحهم هذا يبيِّن تخبّطهم في الكفر، ووقوعهم في التناقص والتضادّ في

ص: 59


1- سورة الأسراء: الآية 93
2- سورة التكوير الآية.21

الحكم على أنفسهم ولها، وهو المعهود من الكفّار في كل عصر و زمان، كما حكى عنهم عزّ وجلّ في مواضع عديدة من القرآن الكريم، قال تعالى: («وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِن اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذا لَخَاسِرُونَ»(1).

فتارةً تراهم يحكمون على الأنبياء والرُّسل بأنّهم بشرٌ يأكلون ويشربون، وأُخرى يحكمون بتفضيل الرُّسل واستثقالهم ذلك واستصعابهم الإتباع لهم.

ويستفاد من مجموع الآيات الكريمة التي تحكى أقوال الكفّار والمشركين وأحوالهم، ومعاشرتهم مع أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله، واقتراحاتهم المتكرّرة التي تُنبئ عن نفسياتهم السقيمة المتناقضة في الحكم، وتكشف عن احتوائهم على قلوب قاسية، ويمكن إرجاع تلك الإقتراحات والأسئلة المتكرّرة إلى أُمور تمسّ صميم الرسالات السماويّة، والتشريعات الإلهيّة، ورسل الله تعالى وأنبيائه:

الأوّل: التشكيك في أمانة الرُّسل والأنبياء، الذين همّ أرجح الناس عقلاً، وأرقى أفراد البشر أخلاقاً وأدباً، والإعتقاد بأنتهم ليسوا أهلاً لتحمّل الرسالة بين الله تعالى وبين عباده، ومن تلبيسهم أنّهم أطلقوا أقوالهم بأنّ رسل الله تعالى بشر يأكلون ويشربون ويمشون فى الأسواق كسائر البشر، فأحاطوا تلك النفوس الطاهرة بإطار مادّي مزعوم، وقد حكى عزّ وجلّ عنهم تلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما في سورة هود وإبراهيم، والإسراء، والمؤمنون، ويس، والقمر، والتغابن، وعليه بنوا إقتراحهم نزول الملائكة.

الثاني: التشكيك في ما أنزل على الرُّسل، كقولهم فيما حكى عزّ وجلّ عنهم: «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِبِّكَ حتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَفْرَؤُه»(2)، وهو الاساس في الاقتراح الذي ورد في آية المقام، من نزول الكتاب في قرطاس شاهدين نزوله

ص: 60


1- سورة الأعراف الآية.90
2- سورة الإسراء: الآية.93

وقرائته. وهو اقتراحٌ خبيث يقصدون منه سلب الوثاقة عن ما أنزل على الرُّسل من الكتب واسباب الهداية.

الثالث: اعتبار ما يصدر من الرُّسل والأنبياء من السحر والتأكيد عليه، وتوصيفه بأوصاف معيّنة لدفع الشبهة، والإلتباس عن كونه سحراً مؤثراً، وجعلهم من الكهّان وأنّ الصادر منهم قد يصدر من غيرهم، فليس لهم ميزة خاصّة، كما حكى عنهم عزّ وجلّ: «قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحْرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا»(1).

وقال تعالى: «إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».

وقال تعالى: «مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرى»(2).

وقال تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ»(3).

الرابع: تشكيك الناس في قدرة الرُّسل والانبياء بما بشروا به أو أنذروا عنه فكانوا يطلبون منهم أن يؤتوهم بما ينذرونهم من العذاب، كما قال تعالى «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقُّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقِّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ»(4).

و من المعلوم أن إنزال العذاب لا يكون إلا بعد إتمام الحجّة والحكمة البالغة، وقد تقتضي تلك الحكمة إنّه لا عذاب مع وجود النبي الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، كما قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ»(5).

ولعلّ سؤالهم إلى إنزال الملك يرجع إلى هذا، إذ أن نزول الملك يرجع إلى

ص: 61


1- سورة الشعراء: الآية 185
2- سورة القصص: الآية 36
3- سورة القمر: الآية 2.
4- سورة يونس: الآية 53
5- سورة الانفال: الآية 33

انقلاب الغيب إلى الشهادة، أن ذلك إن لم يكن مقترناً بالايمان منهم - ولن يقع - يستعقب القضاء بالقسط وإهلاكهم، كما قال تعالى في آية المقام: «وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثمّ لَا يُنظَرُونَ».

والسرّ في ذلك يرجع إلى أنّ النفوس المتوغّلة في المادّة، لا تطيق مشاهدة ما في عالم الغيب الذي منه الملائكة، وإختلاف هويّتهما وظرفهما إذا وقع كان ذلك انقلاباً من المادّة التي همّ عليها إلى الغيب، وهو غير ممكن إلّا بالموت والانخلاع عن المادّة بالكلّيّة، وإليه أشار سبحانه: «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً»(1). ولا ريب أنّ اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم الموت والخروج من عالم المادّة.

الخامس: الإقتراح بنزول الله تعالى أو نزول الملائكة، كما ورد في قوله تعالى: «أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً»(2). وفي آية المقام: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَك»، ويرجع اقتراحهم هذا إلى التشكيك في عالم الغيب، وسببه الإضطراب الحاصل في نفوسهم والإستكبار عن الإذعان بالحقّ، وصريح الآية المباركة انّهم لا يؤمنون ولو أنزل عليهم الملائكة، ويمكن ارجاع ذلك إلى أحد أمرين:

الأوّل: استحكام رذيلة العناد واللّجاج، ورسوخ رذيلة الإستكبار، حتّى صارت خلقاً وسجيّة فيهم، فهم مع اعتقادهم بالغيب في داخل نفوسهم بحيث لم يمكنهم إنكاره، ولكنّهم يعرضون عن الإيمان به، وحينئذٍ إذا نزل الملك لقضى بينهم وهم لا ينظرون.

الثاني: إلقاء الشبهة في النفوس من أنّ الذين يدعون إلى الله تعالى، ويكونوا

ص: 62


1- سورة الفرقان الآية.22
2- سورة الإسراء: الآية.92

رسلاً وأنبياء، لابدّ أن يكون الرسول مختلفاً عن سائر الناس لا يشابههم في عاداتهم كأكل الطعام والمشى فى الأسواق لاكتساب الرزق، ونحو ذلك، فلا يحقّ لأي واحد من أفراد البشر أن يتصدّى هذا المنصب.

وكانت الآية المباركة قاطعة لكلّ شبهة، ورافعة لكلّ التباس، وصرّحت بأنّ الملك إذا نزل فإنّه يلبس ما يلبسون، ويشابه الناس في العادات، ولا يمكن أن يبقى على حقيقته، لاختلاف هويتهما وظرفهما، كما عرفت آنفاً.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُه»

قوله تعالى: «وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُه».

فإنّ إنزاله يستدعي إمّا انقلاب الملائكة من الغيب إلى الشهادة وعالم المادّة، وهو وإن كان ممكناً، ولكنّه لا ينفعهم لعود إشكالهم في هذا الرسول الذي دخل في سلك الآدميِّين، ويعود الإقتراح مرّة أُخرى.

أو إنقلابهم إلى الغيب، وهذا لا يحصل إلّا بالفناء عن عالم المادّة، وقضاء الأمر حينئذٍ كما عرفت.

والآية المباركة تتضمّن الجواب عن مقالتهم وردّ اقتراحهم، وضمير العظمة التربيب المهابة، وتهويل الأمر. وإتيان الفعل مبنيّ للمجهول لإثبات القدرة التامّة والكبرياء، وقضاء الأمر هو الحتم، فيكون الهلاك التام، وقد ذكر المفسِّرون في توجيه ما تضمنته الآية الكريمة آراء وأقوالاً، وهى ترجع إلى وجوه:

فإمّا أن يكون إنزال الملك على صورته الحقيقيّة موجباً لنزول العذاب وهلاكهم من دون تأخير، لما ذكرنا من أنّه يستلزم الإنخلاع عن صورهم المادّيّة فيكون فيه هلاكهم، لإختلاف ظرفى عالم الغيب الذي منه الملائكة، وعالم المادّة الذي منه الكافرون المكذِّبون، ولأجل ذلك لم يمكنهم رؤية الملائكة، إلا بعض عباد الله المخلَصين، الذين بلغوا بمجاهداتهم عالم الغيب، وخلعوا عن نفوسهم

ص: 63

لباس المادّة.

وإمّا لأجل أنّ سنّة الله تعالى فى الأُمم السابقة، أنهم إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم يؤمنوا بها، يعذّبهم الله بالعذاب العظيم، ويبتلون بهلاك الاستئصال، كما قال تعالى: «مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالحقّ وَمَا كَانُوا إِذَا مُنْظَرِينَ»(1). وبما أنَّ الله تعالى وعد نبيّه العظيم بأنّه لا يعذّب هذه الأُمّة وهو فيهم، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(2)، كيف وهو نبيّ الرحمة، كما قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(3). فلا تجرى هذه السنّة في هذه الأُمّة المرحومة.

وإمّا لأجل أنّهم لم يؤمنوا أبداً ولو نزل الملك، لما عرفت من رسوخ رذيلة الإستكبار، وحينئذ لو نزل يقضى عليهم ولا ينظرون، وهم لا يريدون ذلك، وهذا من مواضع التناقض الذي هم فيه.

وإمّا لأجل أنّهم لم يطلبوا ما لا يشترط الإيمان به، وهو المعجزة العامّة، بل اقترحوا أمراً خاصّاً وآية معيّنة، فاذا أعطوها ولم يؤمنوا كانوا في غاية العناد ومنتهى اللّجاج، ولا ريب أنّه مناسب للهلاك وعدم الإنظار.

وغير ذلك من الوجوه التي ذكرها المفسِّرون ولا تخلو عن المناقشة

ما يتعلّق بقوله تعالى «ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ»

قوله تعالى: «ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ».

الإنظار الإهمال، وعدمه لأجل القضاء الحتم عليهم بالهلاك، فلا يُملهون لأي غرضٍ كان، وإتيان (ثمّ) دون غيره من حروف العطف، لتهويل الأمر

ص: 64


1- سورة الحجر: الآية 8.
2- سورة الأنفال: الآية 33
3- سورة الأنبياء: الآية.107.

وتعظيمه، فإنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفسها.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً»

قوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً».

هذا هو الوجه في الجواب عن اقتراح القوم الكافرين، الذي ذكرنا إنّه لا يخلو عن أحد وجهين: فإمّا أن يبقى المَلَك على صورته الحقيقيّة، وهو يستلزم نزول العذاب وهلاكهم، وإمّا أن يجعل بشراً لعدم قدرتهم على رؤية الملك وسماع كلامه ومواجهته و تشخیص صورته، فيستفيدوا من هديه وسموّ خلقه، فإذا اعتقدوا أنّه بشر مثلهم وقعوا في نفس اللّبس والأشكال، ثمّ يتكرّر الإقتراح فيقعوا في حيرة واضطراب، وقد كانوا في غنى عن ذلك بترك اللّجاج والعناد بالرجوج إلى الطاعة والإيمان بالله ورسوله.

وقيل: إنّه جواب عن اقتراح آخر، وهو إنزال الملك حاملاً لأعباء الرسالة. داعياً إلى الله مكان الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم). أو يكون معه رسولاً مثله مصدّقاً لدعوته، شاهداً على صدقه، كما حكى عزّ وجلّ عنهم في قوله: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكَ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً»(1)، ومرجع هذا الاقتراح هو جعل قرين مع الرسول، يكون ملكاً يعاينونه.

والجواب: أنّه لو جعلناه لمثّلناه رجلاً كما مثّل جبريل في صورة دِحية الكلبي. ولكن ذكرنا أنّ كلا الاقتراحين يرجعان إلى أمر واحد وهو التشكيك في رسالة الرسول، وسلب الاعتماد على أقواله وأخباره، وجعله فرداً عاديّاً كغيره ليست له فضيلة خاصّة ومزيّة معيّنة، وقد تفنّنوا في تلبيس هذا المعتقد، فتارة يعتبرون الرسول رجلاً مسحوراً، وأُخرى يمشي في الأسواق ويأكل كسائر الناس، وهم بذلك أرادوا إلقاء الشبهة في نفوس المؤمنين، وتلقينهم بأنّ الرسول

ص: 65


1- سورة الفرقان الآية 7

الذي يُنبئ عن الله عزّ وجلّ، لابدّ أن يعيش عيشة خاصّة ملكوتيّة، ويحيى حياة الأرواح القدسية، لا يشوبها الشقاء والعناء والتعب كالذي عليه عيش الناس، أو يكون معه مَلَك سماوي.

ولا ضير أن يكون الكلام القرآنى يشير إلى هذين الاقتراحين بكلام واحد تصريحاً أو تلويحاً، فإنّه كلام فصل وليس بالهزل، ويرجع الجواب إلى منشأ الاقتراح فيرفعه ويبين زيفه، ويحكم بأنّ الأنبياء هم بشر، لكنّهم يتّصفون بأعلى الصفات الكماليّة، وأنّ لأرواحهم القدس والجلال ما تشبه أرواح الملائكة، بل تفوق كما هو الشأن بالنسبة إلى خاتم الأنبياء (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، ولهم من الاستعداد والقابلية، لنيل الفيوضات الإلهيّة، ولأجل ذلك قد يرون الملائكة في صورهم الأصلية، ولا تختصّ هذه الجهة بالأنبياء الذين لهم استعداد ذاتى وكسبى، بل يمكن أن يصل أهل الله تعالى من سائر الخلق بفضل المجاهدات الحقّة، فتعرج نفوسهم إلى مقام القدس، وتغلب عليهم صفات الملائكة، وتقترب أرواحهم وعقولهم السامية إلى عالم المثال فيرون ما يراه الأنبياء، ويصدر منهم ما يصدر من تلك الأر الأرواح القدسية، وهذا محسوس لمن عرف ذلك وجاس خلال تلك الدِّيار، فمن ذاق،عرف، ومن حرم انحرف.

وكيف كان، فإنّ مسألتهم نزول المَلَك يحمل أعباء الرسالة، أو يكون نذيراً مع الرسول، لا تكون إلا لغواً إذا أنّها منافية للاختيار الذي هو مناط التكليف، ولا تتمّ سعادة الإنسان إلّا به، فهو لا يصل إلى الجزاء المنشود إلّا باختيار أحد المسلكين الذي تعلّقت به الإرادة الإلهيّة، فقال عزّ من قائل: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»(1)، فهو قد هدى الإنسان إليهما ليختار أحد النجدين فيصل إلى جزاء ما اختاره وكسبه لنفسه؛ إمّا السعادة أو الشقاء، كما قال تعالى: «وَأَنْ

ص: 66


1- سورة الدهر: الآية 3.

لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(1).

فالدعوة الإلهيّة لا تتمّ إلّا بجعل الاختيار للإنسان من غير اضطرار وإلجاء، فلابدّ أن يكون الرسول واحداً من هؤلاء الناس ليعرفوه ويشاهدوه، ويسمعون كلامه، ويقتدوا بهديه، فإمّا السعادة بالطاعة أو الشقاء بالإعراض والمخالفة، من غير اضطرارِ أو إلجاء من الله تعالى لهم على قبول الدعوة بآية سماوية تلجئهم إليه، كما قال تعالى: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةٌ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(2).

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ».

ما يتعلّق بمادّة لبس

مادّة (لبس) تدلّ على الستر والتغطية، سواء كان حسياً، كما في لبس الثوب، أو معنوياً كما في لبس الحقّ بالباطل، بمعنی ستره به، ومنه لُبست عليه أمره، أي جعلته مشكلاً بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه، كما أنّ منه من الأمر لبسة، أي إلتباس. نعم يفترقان فى أنّ هيئة الفعل في الأوّل بكسر الباء في الماضي وفتحها في المضارع من اللّبس (فتح اللام)، وفي الثاني تكون بفتح باء الأوّل وكسر باء الثاني، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعاً، أغلبها فى اللّبس المعنوي، تعمّ الدُّنيا والآخرة، ففى اللّبس الحسّي في الدُّنيا، قال تعالى: «لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةٌ تَلْبَسُونَهَا»(3).

وفي الآخرة قال تعالى: «يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُوْا وَلِبَاسُهُمْ فيهَا حَرِيرٌ»(4).

ص: 67


1- سورة النجم: الآية 41.
2- سورة الشعراء: الآية 4
3- سورة النحل: الآية 14.
4- سورة فاطر: الآية 33

وأمّا اللّبس المعنوي في الدُّنيا، قال تعالى: «وَلَا تَلْبِسُوا الحقّ بِالْبَاطِلِ وتَكْتُمُوا الحقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(1).

وفى الآخرة قال تعالى: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ»(2).

واللّبس في المقام في الستر المعنوي.

والجملة جوابٌ للشرط المذكور بعد تقييده بالجواب الأوّل، أي لو جعلنا الرسول ملكاً، لجعلناه في صورة البشر، فيقعون في نفس اللّبس و الإشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشراً.

واحتمل بعضهم أن يكون جواب شرط محذوف، أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا، ويدلّ عليه لام الجواب الذي يقتضي الاستقلال، ولعدم الملازمة بين إرسال الملك واللّبس عليهم.

والظاهر إنّه من تتمّة الجواب الأول ومن لوازمه، وإعادة اللام لبيان هذه الجهة، وقُرئ (البسنا) بلالام، و(لبسنا) بالتشديد للمبالغة.

وحذف المتعلّق في يلبسون ليفيد العموم، ويشمل جميع موارده، سواء كان اللّبس على أنفسهم، أو على غيرهم، والاستغراق ليعمّ جميع أنواعه، فقد حكى سبحانه وتعالى عن الكفّار والمشركين في القرآن الكريم أنواعاً من اللّبس التي كانوا يلبسون الحقّ بالباطل، وإخفاء الحقّ ولبسه كما ذكرنا آنفاً.

ومنها: طلبهم إنزال المَلَك عليهم مبعوثاً من الله تعالى، حاملاً لأعباء الرسالة.

ومنها: الإستهزاء وتوصيف ما جاء به الأنبياء والرُّسل بالسِّحر، وغير ذلك ممّا حكى عزّ وجلّ عنهم في مواضع متعدّدة.

ص: 68


1- سورة البقرة: الآية 42.
2- سورة الأعراف الآية 26

موارد البس على الغير

وأمّا موارده فيشمل اللّبس على غيرهم، كما يشمل اللّبس على أنفسهم:

أمّا الأوّل: مثل لبس الطواغيت الحقّ بالباطل على أتباعهم، ممّن أعمى نفسه عن الحقاق، كما حكى عزّ وجلّ عن فرعون:

«يَا قَوْم أَلَيْسَ لِي مُلْكَ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحتى أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ»(1).

وما يلبس علماء السوء الحقّ بالباطل على جهلة المقلّدين والأتباع، كما حكى عزّ وجلّ عن أحوال الأحبار والرهبان، فقال:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(2).

وأمّا الثاني بأن يتخيّل الإنسان الباطل هو الحقّ، ويلتبس الأمر عليه فیتمادى على الباطل، ويطغى ويتمرّد على كلّ شيء، فإنّ الإنسان وإن كان يميّز الحقّ من الباطل والذي تدعو إليه الفطرة التي فطر الناس عليها، فهي تُلهم الإنسان طلب الحقّ واتباعه وممارسته والعمل به، كما تلهم نفسه معرفة التقوى والفجور كما قال تعالى: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(3) غير أنّ الإعراض عن الحقّ وممارسة الباطل وتقوية جانبه، وإذكار الشهوة والغشّ والإطمئنان بهوى النفس كلّ ذلك يولد في النفس روح الاستكبار على الحقّ، والاستعلاء على آيات الله، والاستهزاء بالحقائق، فلا يبقى للنفس مجال إلى الالتفات إلى الحقّ وسماع ندائه،

ص: 69


1- سورة الزخرف: الآية 54
2- سورة التوبة: الآية 34.
3- سورة الشمس: الآية 8.

فيتمادى في الباطل ويزين له عمله، فيلبس الحقّ بالباطل وهو يعلم، كما قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ»(1). فإذا نشأ عليه، فهو ممّن أقدم على تحمّله والمسؤول عن الآثار التي تترتّب عليه.

وممّا ذكرناه يظهر الجواب عن الأشكال المعروف، من أنّ لبس الإنسان على نفسه وتلبيسه الحقّ بالباطل ممّا لا يقدم عليه أحدٌ، فإنّ ذلك إنّما يتحقّق بعد طى تلك المراحل المتقدّمة، وبدونها لا يحصل، فإنّ الحقّ بحدّ نفسه متميّز عن الباطل، والإنسان بفطرته منجذب إليه، ويشتاق إلى الإيمان والعمل به، والرجوع إلى الوجدان يُغني عن إقامة البرهان، فكم من عادة مستحكمة في النفس لم نقدر على تركها وتغييرها، مع العلم بأنّها من الضلال وإنّه من لبس الحقّ بالباطل، ولا يكون كذلك إلّا بعد التخلّي عن ذكر الله تعالى، والغفلة عن الطاعة، والإكتفاء باللّذة الخياليّة، والتمرّد على الحقّ، حتّى ينشأ على اتّخاذ الشّهوات، ويجعلها المبدأ والمصدر في الأفعال، ويكتفى بالباطل، وقد أعرضت النفس عن الحقّ والعمل به بل كان إلهها الهوى، وهذا هو السرّ في تلبيس الحقّ بالباطل في الإنسان، سواء كان على النفس أو على الغير.

ولبسه عزّ وجلّ عليهم إنّما هو جزاء لبسهم على أنفسهم، نظیر قوله تعالى «فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ»(2)، بل يمكن القول بأنّ ذلك لمن آثار عملهم الأعمّ من التكويني والتشريعي، لاسيّما بعد القول بتجسّم الأعمّال.

وكيف كان، فهو إضلال غيرابتدائى، الذي هو أثر أفعالهم واستحبابهم للضلال لأنفسهم، وقد عرفت آنفاً أنّ إنزال الملك رسولاً لا يترتّب عليه الأثر

ص: 70


1- سورة الجاثية: الآية.23
2- سورة الصف: الآية 5.

الذي يُرجى من بعثة الأنبياء والمرسلين، فعاد اللّبس على أنفسهم وأتباعه، فضلّوا وأضلّوا غيرهم.

آراء المفسّرين في قوله تعالى: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ»

وذكر المفسِّرون أنّ المراد من الآية الكريمة، أنّهم لا يطيقون رؤية الملَكَ في صورته الأصيلة، فإذا لم يتحقّق لهم المراد، توغّلوا في عالم المادّة، فحينئذ لابدّ من تمثيل المَلَك لهم بشراً سويّاً، فيقعون في نفس اللّبس، وتعود الشبهة التي أثاروها مع الرسول البشر فلم ينتفعوا شيئاً.

وهذا الذي ذكروه وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه من المقدور الله تعالى أن يمنع الإنسان القوّة ليعاينوا المَلَك ويؤمنوا به، كما أعطاه الأنبياء الكرام، ولكنّه مخالف للحكمة المتعالية بوجوه عديدة منها ما ذكرناه آنفاً من الوقوع في محذور الجبر والإلجاء، الذي لا يندفع إلّا بما عرفت في توجيه الآية الكريمة.

وذكر بعضهم في توجيه المراد: أنّ البشر لا يطيقون رؤية المَلَك على صورته الحقيقيّة، إلّا لذوي النفوس القدسيّة التي تلائم عالم الأرواح الذي منه الملائكة، فقد ورد عن الفريقين أن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) رأى جبرائيل في صورته الأصلية مرتين.

وهو أيضاً صحيح؛ لأنّ البشر مع أنسه بالمادّة، وإنحراطه في الماديات، لا يمكنه رؤية ما ورائها، ولكن لو تجرّد عنها، وتغلب الجانب الروحاني عليه، أمكنه رؤية الملك، وكيف يحصل لهم ذلك وأنتى لهم بمشاهدة المَلَك؟ إلّا بانقلاب حقيقتهم المادّيّة إلى حقيقة روحانيّة، وهو يُخالف الإختيار، فعاد المحذور ويعود الجواب، كما عرفت.

فما ذكره بعض السادة المفسّرين من أنّ شهود الملك في صورته الاصلية لو كان محالاً على الإنسان، لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز والإمتناع.

فإنّه غير سديد: إذ أنّ الإستحالة وعدمها تحصل من ناحية الإنسان،

ص: 71

واختياره الإعراض عن الله، وركونه إلى المادّة، وسلب الجانب الروحانيّ عن نفسه، وإلّا فإنّ التجرّد عن المادّة والتوجّه إلى الله تعالى، والإعراض عمّا سواه عزّ وجلّ، ممّا يهيّئ رؤية الملائكة، وتكون أمراً عادياً له، بل ربما يشاهد أعظم من ذلك، وهو لذّة القُرب التى هى من أعظم اللذّات.

وأمّا ما ذكره كثيرٌ من المفسّرين من أنّ مشاهدة المَلَك في صورة البشر لا ترفع الشكّ واللّبس، فإنّ المَلَك إذا نزل وشاهده الناس لوقعوا في نفس اللّبس الذي حاطوا به أنبياء الله ورسله.

فإنّه غير سديد أيضاً؛ لأنّه لا تلازم بينهما، فإنّ كثيراً من أنبياء الله عزّ وجلّ واوليائه شاهدوا المَلَك، ولم يحصل لهم اللّبس والإشتباه، كما أخبر عزّ وجلّ عن إبراهيم ولوط لما دخل عليهما المَلَك وعايناه فى صورة البشر وعرفاه، ولم يشكّا في أمره، وكذا أخبر عن مريم البتول (عليها السّلام) فقد رأت الروح وشاهدته، ولم تشكّ فيه، ولا التبس عليها أمره، وقد يرزق الله سبحانه الإنسان هذه النِّعمة، فإذا شاهدوا المَلَك وعاينوه، ولم يشكّوا فى أمره كحال الأنبياء، فيحصل لهم اليقين بأمره.

ولكن ذلك يرجع إلى الإلجاء أيضاً، فإنّ جعل نفس هؤلاء المشاهدين كنفس إبراهيم ولوط و مريم، يستلزم تبديلها إلى نفوس طاهريّة قدسيّة، ولا يبقى معه موضوع الإمتحان، وعاد المحذور الذي لا يندفع إلّا بما ذكرناه، فراجع.

وجه الحكمة في عدم جعل الرسول ملكاً

وبالجملة: إنّ الحكمة فى عدم جعل الرسول مَلَكاً يمكن أن تكون متعدّدة:

منها: عدم قدرة البشر ظاهراً على رؤيته، إلّا بإعطائهم الله عزّ وجلّ القدرة على المعاينة.

ومنها: عدم إمكان المعاشرة مع المَلَك ليرى شخصه فيعرف هديه وسمته، فيختار الناس لأنفسهم طريق السعادة أو الشقاء بالطاعة أو المخالفة، إلّا إذا كان

ص: 72

المَلَك بصورة البشر ليكون رجلاً.

ومنها: إنّ إنزال المَلَك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع الحيرة التي وقعوا فيها، فإنّ الله تعالى يجعل ذلك المَلَك الرسول يُماثل البشر، فإذا كانوا لابسين على أنفسهم يتشكّكون فهم لم يردوا من هذا السؤال إلّا التخلّص من الرسول البشرى و تبديل شكّهم، فاذا كان المَلَك الذي يطلبون إرساله على هذا النعت، فهم لا ينتفعون به ولم يحصل مقصودهم.

فهذه الآية الكريمة كما أنّها في مقام الاحتجاج عليهم، تتضمّن الردّ على اقتراحهم، وتبيّن وجه الحكمة في ذلك، فهي في ايجازها البليغ، تدلّ على الإقتراح والاحتجاج والردّ ووجهه، كما هو شأن الآيات التي نزلت في تصحيح اعتقاد الناس.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَقَدْ اسْتَهْزِءَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ»

قوله تعالى: «وَلَقَدْ اسْتَهْزِءَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ»

وعيدٌ للمستهزئين بالرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) عمّا يلقاه من قومه، وإنذار للمشركين المستهزئين الذين حكى الله تعالى مظاهر استهزائهم برسله وأنبيائه في محكم كتابه، منها استهزاؤهم بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله.

والتنوين في (رسل) للتفخيم والتكثير، والتصدير بحرف القسم، وحرف التحقيق للاعتبار، ولبيان أنّ هذا الاستهزاء سيرة الكفّار والمشركين مع انبياء الله ورسله، فلا يحزن ممّا فعله قومه معه من ضروب الاستهزاء والأذى، فهو لم يكن وحيداً في ذلك.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ».

وعيدٌ للمستهزئين بالرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وأمرٌ لهم بالاعتبار والعظة، ووعد له (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بعقوبة من استهزأ به مع الإصرار على ذلك.

ص: 73

وحاق من (حقّ) - كما ذكره الراغب - فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة.

وفى «القاموس»: حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً من الحوق.

وكيف كان، فهو بمعنى الإحاطة، إحاطة إصابة وحلول بالمستهزئين واستهزاؤهم، حيث نزل وبال استهزاء هم بهم، وتمّ هلاكهم، حيث كان جزاؤهم عذاب الخزي بالإستئصال، وهو ما استهزأوا به الذي كان الأنبياء ينذروهم به، كما عرفت.

الفرق بين الاستهزاء والسخرية

ثمّ إنّ المشهور بين أهل اللغة أنّ الإستهزاء والسخرية متّحدان معنىً واستعمالاً، وإن قال بعضهم إنّ الأوّل لا يتعدّى إلا بالباء يقال: استهرأ به، ولا يتعدّى ب- (من)، بخلاف الثاني فإنّه قد يتعدّى بهما، ولكن ذلك لا يمنع من استعمال كلّ واحد منهما مكان الآخر، ولهذا ذهب الكثير إلى عدم الفرق بينهما استعمالاً أيضاً، كالمعنى.

ولكن التحقيق يدلّ على الفرق بينهما، فإنّ الاستهزاء إنّما يستعمل من غير أن سبق منه فعل يُستهزأ به من أجله، بخلاف السخريُة فإنّها تدلّ على فعل سبق صدوره من المسخور منه، ولذا يتعدّى الأوّل بالباء الذي يدلّ على الإلصاق، فكأنّك ألصقت به استهزاءً من غير أن يدلّ على شيء وقع الاستهزاء من أجله بخلاف السخريّة، كما عرفت، نظير قولك: عجبتُ منه، فإنّه يدلّ على فعل وقع التعجيب من أجله.

وقد عرفت في ما سبق إنّ الهزء هو المزح فى خفّة، والإستهزاء إرتياد الهز وتعاطيه، فالهزء يجري مجرى العبث، ولا يقتضى التسخير ذلك، فراجع.

ومن ذلك يعرف إنّ الفعل الذي صدر منهم سخرية، إنما صدر منهم عن استهزاء بالرُّسل تأكيداً لدفع كلّ ادّعاء، فإنّ الأفعال قد يتوجه بتوجيه آخر من

ص: 74

صاحبه، والآية تؤكّد أنّ أفعالهم التي صدرت عن سخرية إنما كانت لأجل الاستهزاء فقط.

ما يتعلّق بقوله تعالی «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثمّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»

قوله تعالى: «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثمّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»

خطاب للرسول بإنذار قومه، وتذكيرهم بأحوال الأُمم الخالية التى مضت سنّة الله تعالى فيهم، بعد استهزائهم بالرُّسل، وقد أمر الله تعالى نبيّه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بأن يدلّهم على الطريق الذي يوصلهم إلى العلم بذلك، فلا يرتاب المبطلون، فإنّ جزاء الإستهزاء ممّا يوجب الإستقرار وزوال الشكّ.

والسير فى الأرض، هو الانتقال في ديار القوم الهالكين، الذي مكّنهم الله تعالى في الأرض، ثمّ النظر في آثار ما حلّ بهم من الهلاك، والتفكّر في سوء عاقبة المكذِّبين، وإن لم يكونوا هم المستهزءون، فإنّ السبب في الهلاك هو استهزاء المستهزئين المقترحين الذين حكى الله تعالى أحوالهم في الآيات السابقة، والمكذّبين وإن لم يشتركوا في الاستهزاء والسخريّة، إلّا أنّهم رضوا بفعلهم وكذَّبوا الرُّسل، ومن ذلك يعرف إنّه إذا كان حال المكذِّبين كذلك، فكيف حال من جمع بينهما، وفيه الإشارة إلى فضاعة ما نالهم.

ويحتمل أن يكون لبيان أن الاستهزاء والسخريّة يرجع إلى التكذيب فهو السبب فيهما، فاذا تحقّق الإصرار على التكذيب والاستكبار عن قبول الحقّ، بلغ مرتبة الإستهزاء والسخرية، وسيأتي مزيد بيان.

ثم إنّه ورد الأمر بالسير في الأرض والحثّ عليه في عدّة آيات أُخرى،والفرق بين المقام وغيره بالعطف ب- ( ثم) فى اية المقام، وفى غيرها بالفاء:

قال تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ»(1).

ص: 75


1- سورة النمل: الآية 69.

وقال تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ»(1).

ولعلّ الوجه كما قيل - يرجع إلى أنّ السير في الأرض واستقراء البلاد واحدة واحدة، يحتاج إلى زمن ربما يكون طويلاً، فاقتضى العطف في المقام ب-( ثم) بخلاف غيره، ولكن فيه تكلّف ظاهر.

والأحسن أن يُقال: إنّ كفّار قريش كانوا يجوبون البلاد، ويتجشّمون الأسفار لأجل التجارة،وغيرها، وكانوا يتردّدون البلاد التي نزل فيها العذاب، وعمّ أهلها الهلاك، ولكن لم يكن غرضهم النظر والاعتبار، فقد أمرهم عزّ وجلّ بالسير لأي غرض كان، ثمّ لا يتركوا النظر والاعتبار، فلأجل هذا الاختلاف بين الأمرين اقتضى العطف ب- ( ثم) حتّى لا يكونوا غافلين عن شؤون الأُمم، والاعتبار بعاقبة ب- الماضين وأحوالهم، وترشد إليه آيات أُخرى.

***

ص: 76


1- سورة الروم: الآية 42

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق باعراب بعض الآيات الكريمة

(كم) في قوله تعالى «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا» ترمز إلى الأشخاص، معلّقة عن العمل تفيد الكثرة، سواء كانت استفهاميّة أو خبريّة، وهي منصوبة ب- «أَهْلَكْنَا» على المفعولية - وجوّز بعضهم انتصاب (كم) على المصدرية ب-«أَهْلَكْنَا»، بمعنى إهلاك، أو على الظرفية بمعنى أزمنة، ولا يخفى التكلّف فيهما.

وقد حذف الواو في آية المقام، وقد ثبت في غيرها، كما في قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجِ كَرِيمٍ»(1).

ولعلّ الوجه في ذلك، أنّ آية الشعراء فيها التحريك والتنبيه والتخويف والتهديد، زيادة على الاعتبار الذي تشترك الآيتان فيه، فاقتضى ذلك أن تدخل الهمزة على واو العطف الذي يفيد التقريع والتوبيخ بخلاف آية المقام، فإنّه لم يتقدّم عليها إلا الإيماء إلى الاعتبار بأحوال القرون السابقة، وليست كآية الشعراء، كما عرفت.

و (من) الأولى فى قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِهِمْ» ابتدائية متعلّقة بأهلكنا، والثانية تبعيضيّة، وقد حُذفت الأولى فى عدة آيات أُخرى نظير هذه الآية:

قال تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً»(2).

وقال تعالى: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي

ص: 77


1- سورة الشعراء: الآية 7.
2- سورة مريم: الآية 74.

مَسَاكِنهمْ»(1).

ولعلّه يرجع حذفها إلى الإيجاز في هذه الآيات، والتفصيل في الآيات التي ثبت فيها (من).

وتقدّم الكلام في معنى (قرن)، والمراد به هنا الأهل من غير تجشّم تقدير مضاف، أو ارتكاب تجوّز.

وقوله تعالى: «مَكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» استئنافٌ بياني.

وقيل: إنّه في موضع جر صفة (قرن)، لأنّ الجُمل بعد النكرات صفات، لإحتياجها إلى التشخيص، وجمع الضمير باعتبار متعلّقه.

والتنوبين في (من قرن) للتفخيم، وذكر بعضهم أنّ التنوبين التفخيمي مغن له استدعاء الصفة، ولكنّه فاسد؛ لأن التنوين التفخيمي لا يأبى الوصف.

وتقدّم الكلام فى الفرق بين (مكّناهم)، و (مكّنّا لكم).

وقوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ» من المجاز، فقيل إنّه مجاز مرسل، وقيل إنّه من المجاز في الاسناد، لأنّ المرسل ماء المطر، والسماء مبدأ له، وقيل هي على حقيقتها بمعنى المظلّة. وكيف كان، فإنّ فيه من البلاغة ما لا يخفى.

(مدراراً) بناء دال على التكثير والتنصيب على الحال. والجار في قوله تعالى: «كِتاباً فِي قِرْطَاس» يتعلّق بمحذوف وقع صفة (كتاباً) أو متعلّق به.

وقيل: إن جُعل إسماً فالجائز فى موضع الصفة له، وإن جُعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلّق به، والقول بأنّه متعلّق ب-(انزلنا) بعيد.

و(لولا) في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكَ» للتحضيض، بمعنى هلّا، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه.

ص: 78


1- سورة مريم الآية.98

و(ثم) في قوله تعالى: (ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ ) لتهويل الأمر، وتثبيت المهابة، فإنّه جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر.

و (لو) في قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً) شرطية، ولها استعمالان:

اللّغوي: وفيه تكون إنتفاء الثاني لانتفاء الأوّل، كما في قولهم: لو جئتني أكرمتك، ومفهوم القضيّة عليه، وفائدتها الإخبار بأنّ شيئاً لم يتحقّق بسبب عدم تحقّق شيء آخر.

والعرفى وهو الذى تعارف عليه أهل الميزان أيضاً، فجعلوها من أدوات الاتصال - لزوميّاً أو إتفاقيّاً - ويكون صدق القضيّة حينئذ مطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها، ولذا يحكمون بكذبها وإن تحقّق طرفاها، إذا لم يكن بينهما لزوم، واللغويّون استعملوها أيضاً في هذا المعنى، كما يقال: لو كان زيد في البلد لرآه أحد، فإنّ الظاهر الاستدلال بالعدم لا الدلالة على أنّ انتفاء الثاني سبب انتفاء الأوّل، ومن هذا قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا»(1).

ومن ذلك يعرف الجواب عن الإشكال المعروف في المقام، وهو:

إنّ المقرّر عند أهل الميزان أنّ صدق العكس لازم لصدق الأصل، وعليه يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم، فإذا كانت القضيّة الصادقة في المقام «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً» فيكون عكسها غيرصادق، إذ هو لو جعلناه رجلاً لجعلناه ملكاً، ولا ريب في عدم تحقّقه، فإنّ الله تعالى جعله رجلاً ولم يجعله مَلَكاً.

وأُجيب عنه بوجوه متعدّدة أظهرها ما ذكرناه من أنّ (لو) في المقام إن استعملت في المعنى العرفي الذي اتّخذه أهل الميزان، وحينئذ لا ريب في صدق

ص: 79


1- سورة الانبياء: الآية.22

عكسها على تقدير صدق أصلها، لكن لا نسلّم كذب العكس على تقدير كذب الأصل، والتفصيل يطلب من محلّه.

و(ما) في قوله تعالى: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ» إِمّا موصوله، أي مثل الذى يلبسونه، أو مصدرية، أي حاق بهم عاقبة استهزائهم، ولكن يحدث (مثل) غالبا، وهذا الوجه أظهر من الأوّل.

التنوين في قوله تعالى: «وَلَقَدْ اسْتَهْزِءَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» للتفخيم والتكثير، ومن ابتدائية متعلّقة بمحذوف يكون صفة لرُّسل.

وتقدّم الكلام في معنى الإستهزاء والسخرية، والفرق بينهما.

واما تقديم (الذين) على الفاعل، وهو (ما) لبيان المسارعة في لحوق الشرّ بهم، و (ما) إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرُّسل، وإمّا موصولة. والضمير لها، والتقديم الرعاية الفواصل.

و(كيف) في قوله تعالى: «ثمّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» إِمّا خبر مقدّم لكان، أو حال فتكون (كان) تامّة.

وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير ب- ( ثم)، لبيان المهابة وتهويل الأمر، فهو أُسلوب بلاغى، فلا يحتاج إلى التكليف في توجيه العطف ب-(ثم) الدالّ على التراخي.

***

بحث دلالي وفيه ما يتعلّق بالآيات الكريمة

بحث دلالی

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل: يستفاد من مجموع الآيات الكريمة المتقدّمة موجبات التكذيب بالحقّ والاستهزاء به، التي هي من أرذل الصفات التي تغيّر النفوس إلى الخسران، وتنكس القلوب إلى الخذلان، ولا ريب أنّهما أينما وجدت تصدّ صاحبها عن

ص: 80

الحقّ والاعتقاد به، وتؤدّي إلى الإعراض عن طاعة الله عزّ وجلّ، وهى صفات رذيلة، ومزاولتها تكون ملكات راسخة تؤدّي إلى الهلاك، وترجع تلك الصفات إلى الكبر والعناد والإصرار عليه، والاستهزاء بآيات الله ودينه الحقّ.

وقد ذكر عزّ وجلّ موجبات تلك الملكات الرديئة، والرذائل النفسانيّة، ومظاهرها على سبيل التدرّج من بداية تلبّسهم بها إلى أقصى المراتب التي نشأت النفوس عليها.

فكانت البداية أنّهم أعرضوا عن التفكير فى آيات الله تعالى الذي يعتبر أوّل درجات الايمان، ويوجب تهيئة النفس لتلقى المزيد من الكمال، واستعداد القلب للواردات الغيبية، والإعراض عن التفكير فيها يوجب غلق باب الهداية، وعدم الالتفات إلى الحقّ.

ثمّ التكذيب بالحقّ لعدم الاستفادة من الآيات الإلهيّة، وهي الأدلّة الواضحة، والبراهين القويمة على كونه عزّ وجلّ هو الحقّ الذي تحنّ إليه النفوس، وتدعو إليه الفطرة، فقد طمسوا نور الفطرة، ولم يستفدوا من جذب النفوس إليه.

ثمّ الاستهزاء بالله تعالى ورسوله وكتبه ودينه الحقّ الذي هو أقصى درجات الإنكار، وبداية ظهور الآثار والملكات الراسخة فلا تنفعهم حينئذ الحجج والبراهين فتتكرّر الاقتراحات منهم كمظهر من مظاهر الإستهزاء، ويتكرّر التكذيب منهم كمظهر آخر، ولو استجبيت طلباتهم فقد بلغ العناد واللّجاج مبلغه فى النفوس، وانغمست في ظلمات المادّة، فلا تكون اقتراحاتهم إلّا زيادة في الطغيان وتعجيلاً لهم بالهلاك، وفى خضم تلك المسيرة الانحدارية للنفس إلى الرذائل وسفاسف الأخلاق، لا يدعهم ربهم الرؤوف بعباده الرحيم بالناس فيرسل عليهم النِّعم المتواردة والآيات المتتالية، ويأمر بالنظر والتفكّر في ما آلت إليه الأُمم السابقة، لعلّهم يرجعون إلى رشدهم، ولتتمّ الحجّة عليهم.

ص: 81

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ» على أنّ التكذيب بالحقّ في أيّ مظهر كان قد بلغ مبلغاً فى نفوسهم ممّا اقتضى سلب الأهلية عنهم، فلم يوجّه اليهم الخطاب من ربّ الأرباب، فقد أعرض عنهم، وسجّل عليهم،جناياتهم، ذمّاً بهم وتقبيحاً لهم وتشنيعاً عليهم، واستتباعاً لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقّه على الناس.

وهذا الأسلوب يدلّ على شرح الحقائق الأعمّ من الحال والماضي. واستمرار الكافرين المكذِّبين عليها، فلا يختصّ بزمان.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُمْ» على شناعة فعلهم، فإنّ التكذيب بالحقّ أشنع من الإعراض عن آيات الله تعالى، وقد عرفت آنفاً أن الأخير مقدّمة للأوّل وبداية له، إذ لا يتصوّر صدوره من أحد لما تدعو الفطرة إلى الاعتقاد بالحقّ والعمل به، وتحثّ إليه العقول، ومن هنا كان المراد من الحقّ الأعمّ فيشمل القرآن الكريم والآيات النازلة تدريجاً ونجوماً، وهو أظهر مصاديقه، وآيات الله التكوينيّة الدالّة على وحدانيّة الكبرى وصفاته العليا، وأسمائه الحسنى، كما يشمل أحكامه المقدّسة والاعتقاد الصحيح، والرسول الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) والوعد والوعيد الذي نزل بهما.

كما أنّ فظاعة فعلهم بلغ حداً عظيماً أن حصل التكذيب منهم بلا تأمل عند مجيء الآيات ونزولها بلا فصل، لاستقرار الكبر في قلوبهم، والعناد واللجاج في نفوسهم، فقد عميت قلوبهم عن الحقّ.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» أنّ الحقّ لا بدَّ له من الظهور، فقد تعلّق الجعل الإلهي بخروجه من حدّ النبأ إلى حد العيان، ومن السرّ إلى العلن، والضعف إلى القوّة، وإنّه لابدّ للناس من الإذعان به إن أجلاً أو عاجلاً.

ص: 82

والإرادة هذه أعمّ من التكوينيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1).

وقوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثمّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».

ومن التشريعيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ»(3).

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ جزاء الذنب الذين هم عليه هو زهوق الباطل وظهور الحقّ، وتكون الآية من الآيات الكثيرة التي تدلّ على مناسبة الجزاء مع الذنب.

الخامس يدلّ قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» على أن الباطل في أي مظهر كان في معرض الزوال، ولو على سبيل التدريج بحسب الحكمة المتعالية، فإنّ إهلاك القرون الماضية مع عظيم قدرتها، وشدّة كبريائها دليل واضح على مقارعة الحقّ للباطل، وقد بدأ زواله، ولكن الكافرون المكذِّبون لا يشعرون، ولعلّ أمره سبحانه لهم برؤية هلاكهم، يرجع إلى هذه الجهة، وممّا يشعر له قوله عزّ وجلّ في الآية السابقة الذي يدلّ على ظهور الحقّ، فكلاهما بدأ بالظهور، فالحقّ إلى حدّ العيان، والباطل بالزوال، وذلك نتيجة استهزائهم بالحقّ كما عرفت آنفاً.

ص: 83


1- سورة الصف الآية 9
2- سورة الصف الآية 9
3- سورة الصافات: الآية.177

السادس: يستفاد من قوله تعالى: «مَكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تُمَكِّنْ لَكُمْ»، أنّ تمكّن أهل القرون السابقة من سبل الحياة الهنيئة كان أشد من القرون اللّاحقة، واستقرارهم في العيش على الأرض كان أعظم، وذلك لأسباب عديدة:

منها: إنّ الطبيعة كانت في غاية الإنعام على الأرض وأهلها، ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ»، وإنّما أفسدت الطبيعة أعمّال الإنسان وكسبه، وذنوبه المتراكمة خلفاً عن سلف فإنّ لها آثار وضعية على الكون، كما قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(1).

ومنها: ازدياد الخُلف في الطغيان والكفر والجحود، وبلغوا المرتبة العالية في الاستهزاء بآيات الله وأحكامه المقدّسة، كما يرشد إليه قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ»(2)، فابتلوا بضعف الجزاء ممّا سلب عنهم السبل التي تجلب الرخاء والهناء في العيش.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: «وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرينَ» أن القوم السابقين هلكوا وأُبيدوا من أصلهم، ولم يبق من نسلهم أحد، بل كان إنشاء قوم بديلاً عن القوم الهالكين.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسِ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» شَدّة اهتمام الباري عزّ وجلّ بهداية الإنسان، وإتمام الحجّة عليه، لأنّ تنزيل الكتاب فى قرطاس مع النظر واللمس والقراءة، أقرب إلى ما اقترحوه وأبعد ممّا يدور في نفوسهم من الشك والريبة، لا سيّما ما كان يختلج في صدورهم من أنّ هذا الكتاب كان من إنشاء نفس الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لا من الله تعالى، ولا ممّا نزل

ص: 84


1- سورة الروم: الآية 41.
2- سورة مريم الآية 59

به الروح الأمين.

التاسع: يرشد قوله تعالى: «وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثمّ لَا يُنظَرُونَ» إِلى أنّ الإقتراحات التي يبديها الإنسان التي لا توافق الحكمة المتعالية الإلهيّة، قد يوجب الهلاك والدمار، من دون إمهال بعد إتمام الحجّة عليهم، لأنّه يعدّ تصرفاً في الشؤون الربوبيّة والسلطة الإلهيّة، وربما تجتمع وجوه كثيرة في هلاكهم وعدم بقائهم، ولعلّ اجتماع العديدة منها في المقام، هي التي أدّى إلى عدم النظرة لهم، وقد ذكرنا في التفسير بعضاً منها، فراجع.

العاشر: يشعر قوله تعالى: «لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً» وإيثاره على بشر، بأنّ الرسول لا يكون امرأة، وقيل إنّه يُشعر أيضاً بأن الجعل إنّما يكون على وجه التمثيل، بأن يتمثل الملك بصورة الإنسان لا عن طريق قلب الحقيقة وانقلاب الهوية.

والحقّ أنّ الآية المباركة تدلّ على صيرورة الملك رجلاً، مع السكوت عن أنّ ذلك إنّما يكون عن طريق قلب الحقيقة، وانقلاب ماهيّة الملكيّة إلى ماهيّة الإنسان، أو على نحو التمثيل، أي بتمثيله مثالاً إنسانياً، كتمثل الروح لمريم العذراء بشراً سوياً، وتمثّل الملائكة الكرام لإبراهيم ولوط (عليهم السّلام) في صورة البشر الضعيف.

ومال جمعٌ من المفسّرين إلى الثاني، لأنّ تبدّل الحقائق غير ممكن، ولكن ظواهر بعض الآيات المباركة تؤيد الأوّل، بل بعض الآيات الكريمة تدلّ عليه، قال تعالى: «وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةٌ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ»(1)، وتفصيل الكلام في محلّه.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً»، أنّ النبوّة فضلٌ من الله

ص: 85


1- سورة الزخرف: الآية 60.

تعالى يختصّ بها من يشاء من عباده، سواء كان ملكاً، أو بشراً، وأنّ أي اقتراح خلاف ذلك يكون خلاف الحكمة الإلهيّة، كما عرفت.

وأمّا الحكمة في جعل الملك بشراً، فهي جملة من الأمور، منها أنّ جعله بشراً يجمع بين الجهتين البشرية صورة والملكية حقيقة، فإنّ نفوس الأنبياء والمرسلين لا تقلّ عن نفوس الملائكة، فهي نفوس قدسية، إن لم نقل بأفضليّتها. كما هو المعروف بين الإماميّة. وقد ذكرنا في بعض مباحثنا السابقة ما يرتبط بذلك، فراجع.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ» على أن اللّبس الذي افتعلوه على أنفسهم ممّا أوجب لبس الله عليهم، نظير «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»(1) فهو ضلال من أنفسهم، وإضلال من الله، بعدما استحبّوا الضلالة على الهدى، فما ربحت تجارتهم، فكانت النتيجة أنّ جزاء لبسهم كان لبساً من الله على أنفسهم أيضاً.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَلَقَدْ اسْتَهْزِءَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» على أنّ الإستهزاء بر برسل الله وآياته المباركة، موجبٌ لنزول العذاب، وقد كانت مظاهر استهزائهم كثيرة ومتعدّدة، فلا يختصّ بخصوص الاستهزاء بالعذاب، وإن كان هذا يقارن جميع تلك المظاهر، فإنّه كما يقال: من أمِنَ من العذاب أساء الأدب.

والعقاب الذي يترتّب على هذا الذنب عظيم وأن يحيق بالذين سخروا، ويحيط بهم ممّا يوجب استئصالهم.

الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: «فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون» أنّ السبب فى العذاب هو الاستهزاء المقرون بالسخرية، فقد صدر منهم ما انطبق عليه عنوان السخرية من رسل الله عزّ وجلّ، ممّا استوجب هذا

ص: 86


1- سورة آل عمران الآية 54

العذاب العظيم، وهو عذاب الاستئصال.

الخامس عشر: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ» على رجحان السير في الأرض والنظر في آثارها، والتفكّر في حالاتها، فإنّه ممّا يُهيئ النفس لقبول الإيمان ويجعلها أقرب إلى الطاعة، وأدعى إلى ممارسة العبادة، ولعله لذلك ورد في بعض الأحاديث (تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة).

***

بحث روائي وفيه ذكر ما ورد من الاحاديث المذكورة في المقام

بحث روائي:

***

في «الدّر المنثور» أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق، قال: «دعا رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم فيما بلغنى، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبد بن عبد لغوث، وأبي بن خلف بن وهب، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمّد مَلَك يحدث عنك الناس ويُرى معك، فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثمّ لَا يُنظَرُونَ».

أقول: الخبر يبيّن أحد الاقتراحين الذين ذكرهما الله عزّ وجلّ.

وفي تفسير «العيّاشي» عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السّلام): لبسوا عليهم، لبس الله عليهم، فإنّ الله يقول: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ».

أقول: الحديث يبيّن أنّ جزاء لبسهم أنّ الله لبس عليهم، نظير قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ» فيكون تسمية لبس الله عليهم إما مجازاً للمشاكلة، أو على سبيل الحقيقة، فهو إضلال إلهى بعدما استحبّوا العمى على الهدى، فليس من الابتدائي الذي هو غير لائق بساحة قدسه عزّ وجلّ.

***

ص: 87

بحث عرفاني يتعلّق ببيان بعض العقبات المهمة في طريق السالكين

بحث عرفانی:

الآيات الشريفة المتقدّمة تبيّن بعض العقبات المهمة في طريق السالكين إلى الله تعالى، وتظهر المواقع المظلمة في النفس الإنسانية، ليكون العارف على حذر منها، وتنبّه تامّ حتّى يتّخذ المراقبة عليها شعاراً له، فإنّها مصائد شيطانية يغوي بها الإنسان، وإنّما يمكنه التخلّص منها بدوام التفكّر في آيات الله، ومراجعة النفس وتقويمها بما هو المطلوب الله تعالى، والمحبوب عنده عزّ وجلّ.

ومن أشدّ الذنوب المهلكة التكذيب بالحقّ والإستهزاء به، لأنّ حقيقة النفس هي الحقّ، وسيرها وسلوكها والغاية من سعيها إنّما هو الحقّ، فاذا كان هو بهذه المثابة من الإنسان، فأيّ درجة دانية يصل إليها الفرد ليكذب بالحقّ، ويستهرئ به؟!

ولا ريب إن تلك الدرجة هى الظلمات التي لا يمكن للإنسان التخلّص منها والخروج إلى النور إلّا باتباع الحقّ الذي يبتدأ بالتفكّر في آيات الله عزّ وجلّ، والإستفادة منها في ترقية النفس من حضيض البهيمية، فإنّ ذلك بمنزلة الأساس الذي يعتمد عليه السالك، وتعتبر المادّة لجميع الصور المتعاقبة من الكمالات حسب الإستفادة من التفكّر في آيات الله تعالى، وتأثيره على مشاعر الإنسان وشعوره. وقد عرفت أنّ لكلّ واحد من هاتين الملكتين المتقابلتين التكذيب بالحقّ، والتفكّر في آيات الله تعالى مظاهر مختلفة، ومراتب متعدّدة، فلا يصل إلى كلّ واحد منها إلا بعد طي مقدّمات، فإنّ من الأولى التقوّل على الله، والاقتراح عليه عزّ وجلّ، الذي يعتبر تدخلاً في سلطانه، ولا ريب أنّه يجرّ إلى الهلاك المحتوم؛ لأنّه طلب ما هو خلاف الحكمة الإلهيّة التي اقتضت أن لا ينزل عليه العذاب فهو يطلب نزوله.

وأمّا مراتب التفكّر في آيات الله عزّ وجلّ فيه غير متناهية تبتدئ من

ص: 88

الكفر، ثمّ الشوق، ثمّ الحبّ، ثمّ الأُنس، ثمّ الاستغراق، ثمّ الفناء، فلا يجد حينئذ إلا الله عزّ وجلّ، كما قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده». وأوّل مظاهره التوقف من الاقتراح على الله تعالى، وعدم المعارضة معه في سلطانه، ثمّ يتدرّج في الصعود في سُلّم الكمال، وينزل منازله المتعددة حتّى يصل إلى مرتبة يستغرق التوحيد جميع مشاعره، فلا ينطق إلّا بالتوحيد ولا يتفكر إلا به، ولا يعتقد إلا بالله الواحد الأحد، ولا يستشعر إلا بما هو الحقّ المحبوب لديه عزّ وجلّ، وقد ذكرنا في بعض مباحثنا ما يتعلّق بذلك، فراجع.

***

ص: 89

سورة الأنعام الآية 12 - 18

إشارة

الآية 12 - 18

«قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيَا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18).

الآيات المباركة بأُسلوبها البديع وعباراتها البليغة، تتضمّن بعض المعارف الربوبيّة المهمّة، التى لها التأثير الكبير في حياة الإنسان العلميّة والعمليّة، الدنيويّة والأخرويّة، فقد اشتملت على بعض أصول الإعتقاد الذي يكذّبه الكافرون، واستهزأ به المشركون ممّا حكى عنهم عزّ وجلّ في الآيات السابقة.

فابتدأ عزّ وجلّ بذكر المعاد، وأقام عليه البرهان الذي اشتمل على أدق المعاني، وأبلغ عبارة وأرق إشارة، وختمها بالإشادة بأمر التوحيد، وذكر أهمّ الصفات الحسنى، وأقام الحجّة على ذلك، وبيّن بعض أهمّ الصفات التي تدلّ على

ص: 90

إحاطته علماً وقدرة، وقيمومته العظمى، وختمها بالوعد والوعيد، وتحذير الناس لا سيّما المؤمنين من العصيان بسوء العاقبة، وتبشّرهم بالرحمة مع الطاعة.

وما تميزت هذه الآيات أنتها اشتملت على أسلوب جديد في المحاورة مع الخصم، والمجادلة مع الكافر، وهو أسلوب السؤال والجواب الذي له التأثير في المخاطب، وأخذ الاعتراف منه. ولا ريب أنّ تغيير الأساليب والتفنّن فيها من ضروريات الدعوة إلى المقاصد العامّة، لا سيّما الدعوة إلى الدّين وأصوله وقواعده، وذلك لضمان التأثير في نفوس المعاندين الكارهين لسماع الدعوة، وكان ذلك أحد وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم، لتعدّد أساليبه، وكثرتها، وقوّة تأثيرها.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ».

خطاب لأشرف مخلوقات الله عزّ وجلّ، سیّد رسله، وإمام أنبيائه الكرام بإلقاء أعظم المعارف الربوبيّة إلى الناس، وقدّم ذكر المعاد لما فيه من التأثير الكبير في حياة الإنسان المفكِّر الدرّاك، الذي إذا علم بالمعاد والجزاء، وطّن نفسه على الخير، وجاب السعادة والهناء، ودفع الشقاء والعناء عنها، ولأنّ العرب قوم الرسول الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لعلّ الله إنّما كانت تنكر البعث والجزاء أشدّ إنكار، وتستهزئ بالرسول في ما جاء به في هذا الموضوع مع أنّهم قد احتج عزّ وجلّ عليهم في الآيات السابقة أمر الألوهية والتوحيد.

اشتمال قوله تعالى «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» على برهان المعاد

والآية الكريمة تشتمل على برهان قويم لإثبات المعاد، يبتني على دعائم أهمّها:

الأولى: إثبات الملكية المطلقة الله عزّ وجلّ، فهو مالك لما في السماوات

ص: 91

والأرض جميعاً، يتصرّف في ملكه ما يشاء وما يريد، وقد أثبت سبحانه هذه الدعامة بأسلوب محاوري يشتمل على السؤال والجواب، أخذاً للإقرار من المخاطبين، الذي هو أبلغ في الحجّة عليهم، حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولم ينتظر الجواب منهم؛ لأنّه بلغ مبلغاً في الظهور، فلا يمكن أن يدفعه دافع. وإنّما أمر سبحانه وتعالى رسوله الكريم أن يسألهم عمّن يملك السماوات والأرض، تبكيتاً لقومه المشركين، لأنّ غير الله عزّ وجلّ من الآلهة والأصنام التي يدعوها المشركين، هي كسائر خلقه مملوك الله عزّ وجلّ، فهو المالك لما في السماوات والأرض.

كما أنّه قدّم السؤال، لكون السؤال معلوماً بيِّناً للجميع السائل والمسؤول ممّا يعترف به الخصم، ولو لم يكن صادراً عن لسانهم، ولذا كان الجواب قد صدر من السائل (صلّی الله عليه وآله وسلّم) من غير انتظار لجوابهم إتماماً للحجة عليهم، ولأنّهم عرفوا بالمكابرة والعناد، وإنكارهم الضروريات، والإستهزاء بالحقّ الذي تدعو إليه الفطرة، كما عرفت. ولأجل ذلك كان هذا الأسلوب البديع الدائر في سرد الحجج والبراهين من أتمّ أشكال حججه على الخصم، لما فيه من سرد المطلوب، وأخذ الاعتراف والإقرار من المخاطب، وتلقينه الجواب، وإرشاده إلى الفطرة المودعة في نفسه، والإستضاءة من نورها، وإرجاع المخاطب إلى رشده ونفسه، والإستفادة من البراهين المسلّمة عندهم.

مع أنّ هذا النوع من الأساليب إنّما يستعمل في موضع يريد السائل أن يثبت شيئاً جديداً، زيادة على ما عند المسؤول من الجواب الذي لا يسعه إنكاره، وذلك الشيء إنّما هو من لوازمه الذي ربّما يجهله أو يغفل عنه، وفي المقام هو التوحيد في الألوهيّة، الذي يلازم الملكية المطلقة التامّة، حيث لا تثبت الملك والسلطة المطلقة والملكيّة التامّة إلا الله العليّ القدير.

ص: 92

الثانية: قوله تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» كلامٌ ينبئ عن ذات ملؤها الرحمة، ويخبر عن أن الملكية التامّة التي انحصرت فيه عزّ وجلّ - لم تكن ملكية سطوة وقسر وجبروت، بل هي ملكية رحمة لمملوكه، وأسلوب يؤثّر في نفس المخاطب، بأنّ المتكلّم لا يريد له إلا الرحمة ليستشعر الطمأنينة، ويثبت أنّ إيجاد الممكنات وإعدامها وإرجاعها لم تكن إلّا بمقتضى الرحمة، فهو أُسلوب بديع مؤثر غاية التأثير. والكتابة بمعنى الإثبات والفرض والقضاء الحتم، أي أوجب على نفسه وقضى عليها قضاء حتم تفضّلاً وإحساناً، ومتعلّق الكتابة عام يشمل جميع شؤونه وصفاته المباركة، ما لم تكن صفات ذاتية، فإنّه لا يصحّ نسبة الكتابة إليها، فلا يقال: كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة، وغيرها من الصفات الذّاتية.

ما يتعلّق بقوله تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»

وقد خصّ سبحانه الكتابة بالرحمة، التي بمعنى إفاضة النِّعم على مستحقّها وإيصال كلّ شيء إلى سعادته وكماله اللائق به. وهي تعمّ التكوينيّة والتشريعيّة التي منها الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، ونصب الدلائل والموازين، وإنزال الكتب والعفو عن المسيئين، وإمهال المكذبين والكافرين لتدارك ما فرّطوا فيه، فيكون ترتّب المعاد وجميع الناس يوم القيامة، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فقد أثبت عزّ وجلّ لنفسه الملكية التامّة الكاملة الحقيقيّة لجميع المخلوقات، فهو يتصرّف في ملكه إيجاداً وعدماً، وإحياءاً وإماتة، وتفريقاً وجمعاً، وغنى وفقر، فهو القادر على جميع شؤون خلقه، وأنحاء التصرّفات التي هي من شؤون ربوبيّته، فلا بدَّ أن يكتب على نفسه الرّحمة، لأنّ ذاته غنى، وفيض وما سواه محتاج إليه، وفقير بذاته لذاته، ومن رحمته جمع الناس في يوم القيامة، الذي هو يوم الجزاء، ليصل كلّ فرد إلى جزاء عمله وكماله اللائق به.

ما يتعلّق بقوله تعالى «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

قوله تعالى: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

ص: 93

ترتّب هذا على ما سبق من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، كما عرفت. وقد أكّد سبحانه المعنى بأبلغ تأكيد، وأجمع أدواته من لام القسم، ونون التأكيد، وقوله عزّ وجلّ بعد ذلك «لَا رَيْبَ فِيهِ».

والجمع في المقام بمعنى السوق والاجتماع، إيثاره لأجل أن فيه الاضطرار والتوعيد، ولما فيه المهابة والتهويل، ولأنّ الكلام إنّما مع المشركين الكافرين بالمعاد، فاقتضى ذلك ذكره وإثباته، و (إلى) بمعنى الانتهاء، أي منتهى إلى ذلك اليوم، وقيل: غير ذلك، ولكنّه ضعيف.

ما يتعلّق بقوله تعالى «لَا رَيْبَ فِيهِ»

قوله تعالى: «لَا رَيْبَ فِيهِ».

أي لا شكّ فيه، ولا ينبغي لأحدٍ أن يرتاب فيه، لوضوح دليليه وسطوع برهانه، وهو تأكيد لما سبق.

ما يتعلّق بقوله تعالى «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ»

قوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ».

بيان أنّ الربح إنّما يكون للمؤمنين دون غيرهم، فإنّ الذي خسر ماله فحطّ كماله كيف يمكن أن يربح شيئاً؟! فقد حرم نفسه عن الفضائل وكسب المحارم، والكلام مسوق إلى التحريض إلى التفكير والاعتقاد الحسن، وكسب الخير والعمل الصالح.

ما يتعلّق بقوله تعالى «فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»

قوله تعالى: «فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ».

أى لأنّهم خسروا أنفسهم فلا يؤمنون، فيكون من ترتّب المعلول على العلة التامّة، فإنّ خسران النفس وإهمالها في مسارح الفسق والعصيان، وإبطال العقل باتباع الأوهام والشهوات، وعدم السعي في كسب الفضائل والمكارم، وغير ذلك يؤدّي لا محالة إلى الكفر والعصيان، فقد اختاروا الكفر بمحض إرادتهم، وأعرضوا

ص: 94

عن الإيمان، وتركوا أنفسهم بترويضها على الطاعات، وتهذيبها بالكمالات، فمن كانت نفسه كذلك، فلا يمكن أن يدخل في ربقة الإيمان.

ولا ريب أنّ الإيمان إنّما يتحقّق إذا كانت النفس مستعدة لقبول الهداية، وإلّا كانت في ظلمات المادّة، لم يخرجها صاحبها إلى نور الإيمان بفعل الخيرات، والرجوع إلى الفطرة التي تدعو إلى الاعتقاد الحسن والإيمان بالحقّ. وقد بيّن عزّ وجلّ فيما سبق من الآيات المراد من الخسران، وما يوجب الدخول فيه، وهذه الآية إشارة إلى ذلك.

ومن ذلك يظهر أن ما ذكره بعض المفسّرين في المقام، إنّما هو تطويل بلا طائل تحته.

وأمۀا ما ذكره الزمشخري فى تفسيره من أنۀ الخسران إنّما يكون مسبّباً عن عدم الإيمان، فكيف يكون بالعكس؟ كما في الآية.

ثمّ أجاب: بأنّ معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.

فهو غير سديد، فإنّ كون ذلك في علم الله تعالى لا يستلزم أن يكون الخسران العلة في عدم الإيمان خارجاً، إلّا على مذهب فاسد.

فالحقّ ما ذكرناه من أنّ الإيمان وجميع الفواضل، لا يمكن أن تنال إلّا بالاستعداد لها، وهو يتحقّق بالعلم والمعرفة، والرجوع إلى الفطرة، والاعتماد على العقل، كما عرفت.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اللَّيْل وَالنَّهَارِ»

قوله تعالى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اللَّيْل وَالنَّهَارِ.

بيان لأدقّ المعارف الربوبيّة، بأسلوب رفيع، وعبارة بليغة، يشتمل على مضمون دقيق، وهي تُعدّ من الآيات الكريمات التي تتضمّن التوحيد والمعاد،

ص: 95

والبرهان عليها.

وفي هذه الآية الشريفة الدعامة الأُخرى من دعائم برهان المعاد، وفيها الإشارة إلى هذا العالم الحادث الذي يضمّ جميع التحولات والتبدلات، والذي يتقوّم بالتغيّر، فالمراد من السكون في الليل والنهار جميع ما يقع في هذا الظرف من العالم الطبيعي، فإنّ سكون الأشياء في هذا المهد العام - وهو الليل والنهار - هو وقوعها في سيرها التكاملي، وسوقها إلى الغاية المنشودة، من خلق كلّ جزء من أجزائها، أو تكميلها بالكمالات الواقعية، سواء في الجسم أو في الروح.

وقد ذكر المفسِّرون وجهين لمعنى السكون:

الأوّل: السكنى، فيتناول المتحرّك والساكن من غير تقدير، وأما التعدية ، ب- (في) مع إنّها تستعمل في المكان، كما في قوله تعالى: «وَسَكَتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا»(1)، فلأنّها تأتي بمعنى الاشتمال، أي له ما اشتملا عليه، فتكون مشاكلة تقديريّة، أو يرجع إلى تشبيه الإستقرار في الزمان بالإستقرار في المكان.

الثاني: السكون مقابل الحركة، وفيه الاكتفاء بما ذكر عمّا يقابله، أي له ما سكن وما تحرّك على حدّ قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّه»(2)، أي والبرد.

وجوّز بعضهم الجمع بين المعنيين بما يحتمله المقام.

وكيف كان، فإنّه بناءً على ما ذكروه تكون الآية تخصيصاً بعد تعميم، فإنّ عموم قوله تعالى: «للَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» يشمل جميع ما سواه من المخلوقات وعوارضها، وهذه الآية تخص بما يجري في الليل والنهار، وإنّما خصهما عزّ وجلّ بالذكر، إما لبيان الشمول والاستيعاب، فإنّه ذكر في الأوّل

ص: 96


1- سورة إبراهيم: الآية 45
2- سورة النحل: الآية.81

المكان، وفي الثاني الزمان، وهما ظرفان للمحدثات، وهو عزّ وجلّ مالك المكان والمكانيات، والزمان والزمانيات، وقدم الأوّل لقربه إلى الأذهان والأفكار من الثاني، فيعم الموجودات، أو للتذكير بتصرفه تعالى بما ظهر وخفي، فإنّ السكنى والسكون من دواعي خفاء الساكن، فإذا كان فى الليل كان أشدّ خفاءً.

والحقّ أنّ ما ذكروه صَرف الآية الكريمة عن المعنى الدقيق الذي ترمز إليه. بل المراد من السكون مطلق الثبوت والتقدير الجامع للسكنى والسكون، ولا ريب إنّه يلازم جميع ما يطرأ على هذا العالم الطبيعي، الذي يدبره الليل والنهار، الذي هو جزء من خلق السماوات والأرض.

ومن المعلوم أنّ الله تعالى لما خلق السماوات والأرض، فقد خلق جميع ما يرتبط بهما من اللوازم والملزومات والمقارنات، فقد خلق المكان والزمان وجميع التبدلات والتحوّلات ومجموع التغيّرات والتصرّفات الواقعة فيهما، فكان ما سواه مقروناً بالإمكان،الذّاتي، مرتبطاً بالواجب بأشد أنحاء الارتباطات، ألا وهى رابطة الفقر الذّاتي، كما قال تعالى: «أَنْتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(1)، فالآية الشريفة المتقدّمة تشير إلى هذا الجانب من الممكنات.

وأمّا الجانب الآخر الذي يلازم الممكنات جميعها، لا سيّما المقارنة لهذا العالم الطبيعى الذي يدبّره الليل والنهار، فهو جانب الحدوث الذي يتقوّم بالحركة والسلوك والسكني، وغيرها من الحوادث التي في خضمها تتربّى العناصر الكلية ومواليدها، وتساق كلّ جزء من أجزائها إلى الغاية التي أراد الله تعالى لها، وتسير إلى الكمال المنشود لها، كما عرفت. وهذه الآية الكريمة تشير إلى هذا الجانب من الممكنات، وبه يتمّ المطلوب

ص: 97


1- سورة فاطر: الآية 15

من إثبات المعاد، فالجميع مرتبط به عزّ وجلّ ارتباطاً كلياً، منهم جميع الجهات وهو مالك لزمام أمورها وتقديراتها؛ لأنّها ممكنة بالذّات، مفتقرة إلى بارئها من جهة الفقر، ومن جهة الحدوث، ولا يخرج موجودٌ من الموجودات الإمكانية أو أحد فيهما، فأفقره على كلّ حال ليدلّ جلَّ جلاله بذلك عليه، وأغناه مالك الملك تعالى وتقدس لينفق غناه عماة الأسرار وطهارة الأفكار، ويسير آمناً من خطر الليل والنهار إلى دار القرار، وعرّفه بأنّ ما يدخله من الخطر والأخطار، أنّه لم يكن أهلاً للغنى في هذا المقدار، وأراد أنّ ذلك الغنى كان عايزاً في الغالب بفقره، حتّى لا يتخذ الغفلة سبيلاً وسلوكاً، ويحيد عن جادة الصواب، ولا يخرج عن طاعة،مولاه، ولا يثق بغيره ولا يعدل عنه أبداً.

وممّا لا ريب فيه أنّ تلك الملازمات، كالمسكن عاماً وخاصاً، والحركة والسكون، لها الدخل التامّ في كينونة الأفراد الواقعة في هذا العالم الكياني، لا سيّما الإنسان الذي لابدّ له من مكان يسكن فيه، ويختلف إليه في طلب رزقه، ويتأثّر به، ويؤثّر به، ويؤثّر فيه، ويستفيد منه. وزمان يؤثّر في مقارناته كالليل والنهار الذين يؤثّران في العالم الطبيعي، الذي يكون الإنسان أحد أجزائه، ولكنّه يتميّز عن غيره، فهو مخلوق من عناصر مهمة مبثوثة في العالم الطبيعي دخيلة في تكوين أجزائه الدقيقة التي تسمّى بالخلايا، وتعتبر كلّ خلية آية من آيات الله تعالى التكوينية، كما أنّه مركّب من قوى خارجية وداخلية، لها وظائف معيّنة، من مجموعها تتشكل حياته التي تتقوم بالشعور والفكر والإرادة، التي تنبعث من مجموعة عواطف داخلية تجلب السعادة، وتأمره بجذب النافع ودفع المضار، إذا كانت بإمرة العقل الذي هو أساس الكمالات، ومحور المكارم، وعليه تدور القواعد الحكمية التي يقوم عليها الاجتماع الإنساني، الذي بفطرته ينجذب إليه، وتدعوه إلى تشكيل مجتمع يقوم على مجموعة السنن والعادات والعقائد العامّة

ص: 98

في الحسن و القبح، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، ومطلق قانون الجزاء.

ومن جميع ذلك يظهر المراد من الآية الكريمة، فإنّ الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض، وله ما سكن في اللّيل والنهار، المتفرد بإيجاد الأشخاص الساكنة فيهما، وما يستعقب وجودها من الحوادث والتغييرات، وما تكتسب النفوس من سعادة أو شقاء، فهو تعالى الموجد والمالك لها، يعلم مستودعها ومستقرها، وما يدور بين أفرادها من صنوف اللّغات التي تعبّر عما يخطر في الذهن من المعاني والمفاهيم التي لا يعملها إلّا الله تعالى، فهو القادر على إيصال كلّ فرد إلى هداه، والوصول إلى جزاء ما يكتسبه من الأقوال والأفعال الذي يكون وفق نظام دقيق تسكن إليه النفوس، لكن لم يكن لأحدٍ تطبيقه على الوجه الأحسن إلّا مالك الملك، لعجز غيره عن ذلك، وهذا ممّا يستلزم المعاد في يوم القيامة، فتكون هذه الآية من دعائم برهان المعاد والجزاء.

نعم، إنّها تتكفّل الجانب التشريعيّ له، فإنّ كونه مالكاً لما سكن في اللّيل والنهار، يستلزم كونه مالكاً لما يرتبط به من اللوازم والملزومات، التي لها الدخل في تكوين حياته وعيشه ووصوله إلى جزاء عمله، ويدلّ عليه قوله تبارك وتعالى في ذيل الآية الكريمة: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» الذي يرشد إلى الجزاء على المسموعات والمعلومات، كما هو الظاهر.

وبذلك يتمّ البرهان على المعاد، فاشتملت الآيتان الكريمتان على الجانب التكويني والتشريعي، وتكون كلّ واحدة منهما مكملة للأُخرى، فهو مالك لجميع ما في السماوات والأرض، فهو القادر على إيجاد ما ملكه بعد إعدامه، وإنّ له ما سكن فى الليل والنهار، موصلاً للساكن إلى جزاء عمله بعد طلب الأخير،له والله قادر على إيصاله إليه.

ص: 99

وإنما ذكر عزّ وجلّ السكون، لأنّه في الغالب نعمة لكونه راحة، ولم تكن كذلك الحركة، ولأجل ذلك قدّم الليل، لأنّ ما يسكن فيه هو المقصود بالذّات، وإلّا فهو المالك لهما، كما أنّه تعالى العالم بما يصدر من الساكن من الأفعال والأعمّال، سميع لما يصدر منه من الأقوال والإشارات من صنوف اللّغات.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»

إشارة

قوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

بيان لمصاحبته عزّ وجلّ لما ملكه، ومسايرته لجميع أفراد مخلوقاته في جميع الأزمنه والحالات. فلا يخرج عن سلطانه أحد، وهو القيّوم على كلّ أسباب الحوادث، فهو الخالق للإنسان، وألهمه التفكير والبيان، وأجرى اللّفظ على اللسان، وهو الحفيظ الرقيب، والهادي له إلى سواء السبيل، وهو معهم أينما كانوا، يعلم سرّهم ونجواهم، وما يصدر منهم من الأقوال والأفعال، وما يجول في العقول، ويخطر في الأذهان، إلّا أن الجزاء لا يكون إلّا إذا تحقّق ذلك في الخارج، ولذا خصّ المسموعات والمعلومات بالذكر، لأنّ مناسبة المقام وهو إثبات المعاد تقتضي ذكر ما يجازى عليه.

ما يتعلّق بلفظي «السميع العليم»

ولفظى السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من ألفاظ المبالغة، وذكرهما بالخصوص لبيان تمام إحاطته العلمية، بعد بيان إحاطة قدرته، وبهما يتمّ المطلوب، وهو المعاد لأجل الجزاء على الأعمّال، فتكون الآية الكريمة متمّمة للمطلوب.

ثمّ إنّ السمع والبصر من مظاهر علمه عزّ وجلّ الأتمّ، الذي هو من أتمّ الصفات الذي هو من أهمّ الصفات الذّاتية التي هي عين الذّات، وربّما يتوقف بعض أفراده على تحقّق متعلّق غير الذّات المقدّسة، ولا تنافي بينهما، كالخلق والرزق، والإحياء والإمانة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحيّ وميّت. والمعلوم له تبارك إن كان من الأصوات تكون مسموعة له تعالى، كما أنّه

ص: 100

إن كان من الأنوار والألوان تكون مبصرة له عزّ وجلّ، فيكون السميع البصير هو العالم بتلك المسموعات والمبصرات، وجميعها بأيّ مظهر كان تكون مورد علمه الأتمّ، فيكون عليماً بها.

وقد وقع الكلام في مثل هذا العلم، فى أنّ مطلق علمه من صفات الذّات وإن توقّف ثبوت بعضها على تحقّق المتعلّق في الخارج، كالعلم الحاصل من المسموعات والمبصرات باعتبار أنّها مملوكة ومخلوقة له عزّ وجلّ، وهما من شؤون الذّات المقدّسة، وإنّ العلم بالذّات علم بشؤونها، فيكون من صفات الذّات. أو إنّه ينقسم إلى صفة الذّات إن رجع إلى الذّات المقدّسة، وصفة الفعل إن رجع إلى ما توقف ثبوته على ما تحقق متعلّقة في الخارج.

وبعبارة أُخرى هي التي تتحقّق عند تحقق الفعل منه تعالى قبل ذلك، ولا يلزم من ذلك تغيّر في ذاته عزّ وجلّ، لأنتها لا تعدو مقام الفعل، ولا يدخل في عالم الذّات، كما اختاره جمع من العلماء، واستدلّ عليه بعض السادة المفسّرين بهذه الآية الكريمة، باعتبار أن استنتاج العلم من الملك يثبت العلم الفعلي.

والحقّ إنّ البحث عن علم الله عزّ وجلّ دقيق جدّاً، وصعب المنال، إن لم نقل أنّه غير ممكن، لإستحالة الإحاطة بالذّات المقدّسة التي من صفاتها علمه عزّ وجلّ، والآية الكريمة وإن أثبتت العلم له بلا ريب إلّا أنّه لا يمكن استفادة الكيفيّة منها، بل ظاهرها رجوع العلم بالملك الذي هو من فيض وجوده الأقدس، فاذا ثبت العلم بالذّات ثبت العلم بما ملك، فلا يعدو العلم عن صفة الذّات والبحث نفيس يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فهذه الآية الكريمة تدلّ على إحاطته عزّ وجلّ بما ملك إحاطة علمية تامّة، وبها يتم الغرض من مجموع الآية، وهو إثبات المعاد الذي يتحقّق بإعادة الإنسان، ووصول كلّ فرد إلى جزاء عمله، وهو لا يمكن أن يتمّ إلّا بالعلم

ص: 101

بجميع ما يصدر عن الإنسان، وضبط جميع إسراره وإعلانه، وبذلك يتمّ المطلوب، ولولا ذلك كان إثبات المعاد بالدليل السابق غير واف بالغرض، فالآية السابقة إنّما تثبت المعاد من الجانب التكويني، وهذه الآية تثبت الجانب التشريعي، وهو إثبات الجزاء على الأعمال في يوم المعاد، فكلّ واحدة من الآيتين تكمل الأُخرى فى إقامة الحجّة على المعاد، وهما من أدقّ الآيات القرآنية دلالةً على ذلك، لا سيّما الثانية التي تبين أيضاً وجه الإرتباط بين الغني المطلق من جميع الجهات والممكن المحتاج كذلك، ولفرط فقره من جميع شؤونه قد سكن إلى مالكه فلا حركة إلّا منه عزّ وجلّ فهو المالك لزمام أمره. وبذلك يتمّ البرهان ذو الدعامات المتعددة لإثبات المعاد.

ما يتعلّق بقوله تعالى «قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً»

إشارة

قوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً».

بيانٌ لأصل آخر من أصول العقيدة الذي له ارتباط وثيق بحياة الموجودات كلّها، لا سيّما الإنسان في جميع مراتب وجوده ومراحل حياته، وهو التوحيد، وقد تضمّنت الآية الكريمة الحجّة عليه، والبرهان على بطلان الشرك، واتخاذ الشريك له.

ما يشير إليه قوله تعالى «قل أغير الله اتخذوا وليّاً»

والآية الكريمة تشير فى احتجاجها مع المشركين إلى سببين من الأسباب التي جعلوها ذريعة في اتّخاذهم وليّاً من دون الله تعالى، وجعل الشريك له عزّ وجلّ، واعتبارهما الحجّة عليهم، لابدّ لهم أن يتّخذونهما وسيلة لطاعة الله سبحانه الواحد الأحد وعبادته، وترك عصيانه:

أحدهما يرجع إلى عنصر الرجاء والطمع في كسب الخير ونزول الرزق، وتوارد النِّعم وإدامتها، فقد اتّخذوا الآلهة والأصنام، وخضعوا لها بالعبادة، لتلبية حوائجهم المتعدّدة الكثيرة، وقد كان اعتقادهم أنّ لكلّ نوع ربّاً هو الذي يجود

ص: 102

عليهم بما يكون تحت سلطانه وملكه، فقالوا إنّ للمطر ربّاً يتوسّلون إليه في إنزال المطر للانتفاع به، وتخصيب أراضيهم، فتنبت المراعى والزرع، فيتمتّعون بأثمارها و ترعى دوابهم، وكذلك جعلوا للبحر ربّاً، وللسفن ربّاً، وللأرض ربّاً، وللحبّ ربّاً، وغير ذلك فجعلوها أرباباً يتوسّلون بها، ويخضعون لها خضوع عبادة لإنزال الخير والنِّعم واستمرارها، وربما يقع الخلاف بين أرباب الأنواع فيؤثّر ذلك على الإنسان، فيمنع من بعض النِّعم، ولئلا يقع في هذه الورطة اتخذ الآلهة واستعطفها بالعبادة في جلب النِّعم.

والثاني: يرجع إلى عنصر الخوف وجلب الأمان، فإنّ الإنسان يرى نفسه ضعيفاً أمام هذا الكون الفسيح، فهو يقع غَرضاً لسهام الحوادث ويرى نفسه محصوراً بين المكاره والشرور العظيمة التى لا يقدر على المقاومة أمام شدّتها وكثرتها، مهما بلغت قوته، وعظمت الأسباب عنده، فهى تكدر صفو عيشه، وتجعله على خوف واضطراب نفسي من زوال النِّعم، ولأجل التخفيف عن تلك وتبديلها إلى الهدوء والأمان، فقد اتّخذ الآلهة والأصنام التي تمثّل ما استعظمه في نفسه أرباباً يعبدها، ويتوسّل بها لبقاء النِّعمة وإدامتها.

وقد احتجّ عليهم عزّ وجلّ، وأنكر عليهم اتخاذهم الآلهة أولياء من دون الله، وجَعَل ما اتخذوه ذريعةً في ذلك حجّة عليهم، فإنّ لازم تلك هو عبادة الله الواحد الذي فطر السماوات والأرض، وله من الصفات العليا ما يجعله إلها يستحقّ العبادة والطاعة والخضوع له لجلب الرزق، ويُتقى منه لدفع كلّ شرّ محتمل، فهو الغني المطلق، والرزاق ذو الرحمة الواسعة، وغيره محتاج إليه.

والآية الكريمة في أُسلوبها المؤثِّر المشتمل على السؤال والجواب، إنّما يتضمّن تقرير الحجّة التي احتجّ بها المشركون في عبادتهم لغير الله عزّ وجلّ، ردّاً بها عليهم، كما عرفت، فإنّها حجّة مسلّمة لا يمكن إنكارها، ولكن حقّ تطبيقها

ص: 103

لابدّ أن يكون على الوجه الحقّ، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، ونفي كلّ شريك متوهم. وهي تشير إلى الوجه الأوّل من الوجهين المزبورين، الموافقين للفطرة التي تدعو إلى اتّخاذ ولى يكون مرجعاً لكلّ الأُمور.

شرح برهان انحصار العبادة بالله تعالى

فيأمر سبحانه رسول العظيم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بردّ الحجّة عليهم، وبيان الحقيقة لهم، وهي اتّخاذ الله ولياً ومعبوداً، وقد بيّن سبحانه في برهان انحصار العبادة به، واختصاصه عزّ وجلّ بالولاية المطلقة وجوهاً:

الأوّل: برهان الشكر على الإنعام فإنّه يقتضى معرفة المُنعم، وشكره على إنعامه، ولا يتحقّق ذلك إلا بالعبادة له وحده، لأنّه الوليّ الذي خلق السماوات والأرض، بيده الخير، وقد أنعم على مخلوقاته بأنواع النِّعم، فهو يُطعم مخلوقاته بأنواع الطعام كلّ بحسب استعداده وقابليته، وهو لا يحتاج إلى الطعام فهو الغنيّ المطلق، وولىّ كلّ نعمة، فقد أوجد الإنسان من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأعدّ له من النِّعم وهيّأ لها الأسباب والسبل لإعددها، وإيصالها إلى محالها لينتفع الإنسان بها، فهو المبدئ، وإليه يعود جميع مخلوقاته.

وهذا البرهان عقلى أقرّه القرآن وأمر به ربّ العزّة رسوله الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لإبلاغه المشركين وإيقاظ هممهم وإرجاعهم إلى فطرتهم، فإنّ الإنسان إذا كان يتوسّل بأرباب النِّعم ويعبد الآلهة، لأجل إدامة النِّعم التي أنعمها عليه - بحسب ظنه - فإنّه قد غفل أنّ تلك النِّعم بيد خالقها، وتحت قدرته وسلطانه، فهو الرزّاق، فيجب أن يعبده وحده، لأن يطعمه ويديمه عليه من دون نقص، لأنّه الغنى ولا يحتاج إلى إطعام غيره، فيكون قادراً على تحقيق إرادة الإنسان ورغباته وإزالة مخاوفه، وقد ذكر سبحانه الطعام بين النِّعم الكثيرة، لأنّه أقرب النِّعم لحواس الإنسان، وعدم إمكان الاستغناء عنه، وهذا النوع من العبادة التي سمّاها أمير المؤمنين بعبادة التجار.

ص: 104

أوجد

الثاني: برهان الأمان من كلّ خوف، وذلك لأنّ ما يتصوّره الإنسان من الشرور والمكاره المنسوبة إلى أرباب الأنواع، وخوفه منها، إنّما يرجع إلى استشعاره الضعف أمامها، وعدم قدرته على مواجهتها، فإذا علم أنّ الجميع مخلوق الله تعالى، فهو القويّ القادر على دفعها وإنزالها، لأنّه فاطر السماوات والأرض، فهو الذي أوجد الأسباب ومسبّباتها من دون أن يتّخذ في ذلك معيّناً وشريكاً، وإنّ الأنواع وأربابها والآلهة التي اتّخذها كلّها مسخّرات تحت أمره ضعيفات مقابل قوة الله وإرادته المقدّسة، فلابدّ له أن يتّخذه سبحانه وتعالى وليّاً يعبده، لدفع ما يخاف منه ويحذره، وهذا النوع من العبادة التي هي عبادة العبيد.

الثالث: برهان كون الله عزّ وجلّ أهلاً للعبادة؛ لأنّه الواحد الأحد الذي أوجد العالم، وفطر المخلوقات وقدره، وإليه ينتهي كلّ شيء، فهو الله المستجمع الصفات الكمال عن جميع السلوب والنقائص فاستحقّ العبادة بذاته، ويجب الخضوع له سبحانه، وإليه يشير قوله تعالى: «فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»، وهذا النوع من العبادة أشرف من غيرها؛ لأنّها ترجع إلى أهلية الذّات، وهما ترجعان ما إلى الطمع في النِّعمة، أو الخوف من النِّعمة، وهي التي تسمّى بعبادة الأحرار الذين فكّوا أنفسهم عن قيود الأسر للاعتبارات، وأخلصوا نيّاته لله تعالى وحده.

وعلى جميع الاحتمالات، يكون المراد من الوليّ في الآية الكريمة، هو الولي في العبادة، كما صرّح عزّ وجلّ في موضع آخر: «أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ»(1) و تدلّ عليه قرائن متعدّدة، كما عرفت فما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد من الولي الناصر، فهو بعيد عن سياق الآية الكريمة، كما هو واضح.

ص: 105


1- سورة الزمر: الآية 64.

ما يتعلّق بقوله تعالى «فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»

إشارة

قوله تعالى: «فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ».

بيان لوجه استحقاقه العبادة، وهو يجتمع مع الوجوه المتقدّمة، فهو الولي لكل نعمة لإنحصار الرزق والإطعام به عزّ وجلّ، لأنّه فَطَّر السماوات والأرض، والولى لدفع كلّ نقمة، لأنّه القادر على كلّ شيء، وقد خلق العالم بعظيم قدرته، وإنّه الولى المطلق الجامع لجميع صفات الكمال، والمسلوب عنه النقائص، وقد أوجد جميع الموجودات بفيض وجوده الأقدس، فهو الله في السماوات والأرض أهل لأن يُعبد.

ما يتعلّق بمادّة «فطر»

ومادّة (فطر) تأتي بمعنى الشق، ومنه قوله تعالى: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ»(1). أى انشقّت، ومنه الفطر أي الكمأة، لأّتها تفطر الأرض فتخرج منها. وهي تدلّ على أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً وكتلة واحدة ففتقها، وهو نوع من الفطر والشق، من دون أن يكون لهما مثال سابق. والمعنى أنّه مبدع السماوات والأرض ابتداءً بقدرته من غير مثال سابق.

وقد وصف سبحانه نفسه بأنّه فاطر السماوات والأرض لبيان تمام قدرته وغناه المطلق، وانحصار الرزق به عزّ وجلّ، وفيه التأكيد للإنكار السابق، فالذي فطر السماوات والأرض، لهو أقدر على تنفيذ طلباتهم، وتحقيق مآربهم، فيجب عقلاً التوجه إليه تعالى بالعبادة، وهو المستعان في جميع أمور مخلوقاته، وإليه ينتهى العباد، ولعلّه من أجل ذلك ذكر من بين صفاته العليا كونه فاطر السماوات والأرض لبيان استغنائه عن الخلق، وقدرته على كلّ الأُمور، إن آمنوا به وعبدوه وتركوا عبادة غيره المخلوق والمحتاج إليه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ»

قوله تعالى: «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ».

ص: 106


1- سورة الانفطار: الآية.1

تعريض بأنّ سائر ما أخذه المشركون آلهةً، إنّما هم محتاجون إلى الطعام أو ما يجري مجراه، فلا حياة لهم بدونه، فهم عاجزون عن تلبية رغباتهم العابدين لهم. واستغناه عزّ وجلّ عن الطعام لأجل كونه غنيّاً مطلقاً، تنزّه عن الحاجة إلى الطعام وغيره، ممّا يحتاجه سائر مخلوقاته، كما قال عزّ وجلّ: «مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ»(1).

ولاريب في بطلان اتّخاذ ولي غير الله عزّ اسمه، وفيه التأكيد على هذا الإنكار.

وإنّما خصّ عزّ وجلّ الطعام بالذكر، دون غيره من أنواع النِّعم وأسباب الغنى، لكونه أوضح حوائج الناس، وبه قوام حياتهم في الدُّنيا.

ومن جميع ذلك يستفاد أنّ اتّخاذ غير الله تعالى وليّاً، ممّا يقضي العقول ببطلانه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ»

قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ»

أمر منه سبحانه وتعالى لرسوله العظيم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أن يتّخذ الإله على ما يهدي إليه العقل، فيكون تأكيداً للحجّة العقلية، والأمر المتوجّه إليه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أمرٌ لجميع أمّته لأنّه إمامهم ومقتداهم.

و من ذلك يظهر ليس المراد من أوّل من أسلم من أُمّته، حتّى يستشكل بأنّه سابق أمته في الدّين، بل المراد الأوّلية على الإطلاق من غير تقييد بذلك، فتكون أوّليته بحسب الرتبة، فهو الإمام، وينبغي أن يكون أوّل من يعمل بما أمر، فيكون ادعى للامتثال من أمّته كما أنّ المراد من الإسلام هو الخضوع والتسليم اللذان هما من لوازم العبودية، بل فيهما يتحقّق الغرض من العبادة أيضاً.

ص: 107


1- سورة الذاريات: الآية 57

ولأجل ذلك كان استعمال لفظ الإسلام أولى من لفظ الإيمان، كما ورد في قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السّلام): «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»(1).فإنّ الوضعين يختلفان من حيث الخصوصيّات.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ»

قوله تعالى: «وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ».

نهي عن تخطّي التوحيد إلى الشرك، والإلتحاق بالمشركين من حيث العمل، فيكون صدر الآية الكريمة لبيان أصل العقيدة، وذيلها لبيان العمل، فيكون النهي عن التلبس بأعمّال المشركين وأفعالهم.

ومضمون الآية الكريمة هو أصل الدعوة الإلهيّة، وأساس الأديان السماويّة، فيكون الداعى مأموراً به كغيره، وسباقاً إلى العمل به.

ما يتعلّق بقوله تعالى «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

إرشادٌ إلى بطلان المسلك الثاني الذي اتخذه المشركون وسيلة لعبادة غير الله عزّ وجلّ، واتخاذه إلهاً ليؤمنهم من العذاب، وقد أمر عزّ وجلّ نبيه الله أن يقول لهم بأنّ الخوف لا بدّ أن يكون من عصيان الربّ العظيم، الذي حقّ العباد بلطفه العميم، وأحاطهم بعنايته التامّة، فيكون عصياناً عظيماً.

وقدّم ذكر الخوف على شرطه، لأنّه المقصود الأهم بالذِّكر، ردّاً على مزاعم المشركين الذين يتخوفون من الآلهة التي اتّخذوها لأنفسهم، فاهتمّوا بعبادتها جلباً لرضاها، ودفعاً لسخطها.

ثمّ إنّه ذكر سبحانه أشدّ ما يمكن أن يخاف منه، وهو عذاب الساعة، ووصفه بالعظيم، إما لعظمته من جميع الجهات كالنوع والكمية والكيفية، والزمان

ص: 108


1- سورة الأعراف الآية 143

والمكان، وإمّا لعظمة ما يكون به من تجلّى الربّ سبحانه بمحاسبتهم للناس و مجازاته لهم. وإمّا لكون عذاب الساعة ممّا ثقلت السماوات والأرض عنه وأشفق ما سواه منه. واتفقت هذه الحجّة مع سابقتها في أنهما تضمنتا أشدّ ما يحتاج إليه الناس، فالسابقة في النِّعم في هذه الحياة وهو الطعام، والأخيرة في أشدّ ما يخاف منه. كما إنّهما تشيران إلى الحجّة العقلية في بطلان اتخاذ الآلهة دون الله عزّ اسمه، وعبادتها لأيّ غرض كان. وقد اعتضد الدليل العقلي مع الوحى من الربّ، وقد تمّت الحجّة على المعاندين الكافرين.

وفي ذكر العصيان بدل الشرك وغيره، إما للتعريض بأنهم عصاة يستحقّون العذاب، وتدلّ عليه قرائن متعدّدة:

منها: الإسناد إلى ضمير المتكلِّم ما هو معلوم الانتفاء.

ومنها ذكر (إن) الشرطية التي تفيد الشكّ، كما هو المعروف.

ومنها: الإتيان بالماضي إبرازاً في صورة الحاصل على سبيل الفرض.

ومن ذلك يعرف أنّه ليس في الآية دلالة على أنه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) يخاف على نفسه المقدّسة الكفر والمعصية مع عصمته، ولكن انتفاء الخوف من هذه الجهة لا يستلزم انتفاءه عنه له من جهة أُخرى، فإنّ خوف الإجلال والتعظيم ثابت له دائماً.

واختصاص عذاب الساعة بالذِّكر دون عذاب الدُّنيا الذي يخافه المشركون، لبيان أنّ الذي ينبغي أن يخاف منه، هو ذلك العذاب الذي لا حدّ له، دون الأدنى الذي هو محدود، وربما يصيب المؤمن أيضاً بخلاف ذلك العذاب الذي يخصّ العاصين ومنه المشركون، فالآية تقرّر الخوف، ولكنّها تبيِّن ما ينبغي أن يخاف منه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ»

قوله تعالى: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ»

ص: 109

تهويلٌ للعذاب، والجملة متمِّمة للحجة المسرودة في الآية السابقة، والرحمة هي النجاة من عذاب ذلك اليوم الذي وصفه عزّ وجلّ بالعظمة، والدخول في الثواب الذي أعدّه الله تعالى للموحِّدين.

وتدلّ الآية الكريمة على أنّ العذاب عامّ يشرف على الجميع، ويحيط بالكلّ، فلا يختصّ بأحد من العباد، فعلى كلّ إنسان أن يخاف منه مثل ما يخافه النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، ولا مخلص منه إلّا برحمته، والحجّة مع كونها عقليّة وهي تقتضي التعميم، كذلك يكون العذاب عاماً لا يختصّ بأحد، فيجب على الجميع أن يخافه، ولعلّه لأجل ذلك سيقت هذه الآية مساق التعميم، لنفي الاختصاص بمن أجرى على نفسه الحجّة وجعله بأُمور التطبيق.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ»

قوله تعالى: «وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ».

الإشارة إلى الصرف والرحمة المترتّبة عليه، فهما متلازمان، سواء قلنا إنّ الرحمة سبب الصرف أو بالعكس، فإنّ الغاية هي نيل الفوز والوصول إلى البغية، كما أنّ المراد من الفوز هو الدّخول في الجنّة، كما ذكر في موضع آخر: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ»(1). وإنّما وصفه بالمبين مقابلة للعذاب المهين الشديد الذي لا يحيد عنه أحد، كما عرفت.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍ فَلَا كَاشِفَ لَهُ»

قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍ فَلَا كَاشِفَ لَهُ»

حجة أُخرى أقرب إلى الحس وهى تختص بأنواع الضرّ الذي يحيط بالإنسان في دار الدُّنيا، من مرض أو فقر أو حاجة أو فقدان محبوب، ونحو ذلك ممّا يوجب سلب سعادته، وتكدير صفو عيشه، وبهذا اختلفت عن الحجتين

ص: 110


1- سورة آل عمران الآية 185

السابقتين، فإنّ إحداهما ترجع إلى عنصر الرجاء، والأُخرى إلى عنصر الخوف.

والمعنى: إن يصيبك الله تعالى بضرّ، فلم يقدر أحدٌ على كشفه إلّا الله القادر المتعال، وإنّما خصَّ رسوله بالذكر، لأنه مع علوّ منزلته، لم يقدر على كشف الضرّ الذي يصيبه، فغيره بطريق أولى، ومنه يستفاد أن ما يصيب الإنسان من أنواع المحن إنّما هو من الله عزّ اسمه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

المراد من المسّ هنا مطلق الإصابة، دون المعنى الخاص وهو تلاقى الجسمين، كما أنّ المراد من الخير مطلقه، كالغنى، والصّحّة ونحوهما، ممّا يعتبره الإنسان من موجبات سعادته. والإعراض عن ذكر أقسام الخير وأنواع الضر، لبيان الملاك دون الأفردا والأنواع.

والآية الكريمة تبين أنّ الضرّ والخير كلاهما من الله سبحانه، وهو القادر وحده على كشف الأوّل ومنح الثانى، ولا رادّ لفضله. ومن التعليل يستفاد تمام قدرته على كلّ واحد منهما، وجميع ما يتعلّق من شؤونهما، فهو الكاشف للضرّ ورفع أثره والتقليل منه، وحافظ النِّعم ومنزلهما وفق مصالح قويمة وحكم متعالية. وأسبابرصينة، لا يعلم خصوصيّاتها إلّا هو عزت قدرته.

والآية الكريمة ترشد الإنسان وتذكره إلى أنّ ما اتّخذه معبوداً لدفع الضرّ أو جلب النفع والخير لم يكن قادراً، فهو مخلوق مربوب الله القادر على كلّ شيء، وإنّ الجميع مستمدّ من مدده، فلا يملك أحد لنفسه ضراً ولا نفعاً، فلا يصدر منه شيء إلّا وينتهي إلى أمره ومشيئته عزّ وجلّ، وأنّ ما سواه يستند إلى إذنه بما يليق بساحة قدسه من الإستناد. ومنه يظهر الوجه في قصر الألوهيّة والمعبوديّة فيه عزّ اسمه، فلا معبود سواه ولا إله غيره. ومن هنا كانت الآيات الثلاث تنصب في معنى

ص: 111

واحد وإن اختلفت فى الأُسلوب والداعى ويمكن أن يكون قوله تعالى: «فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» بمنزلة العلّة لجميع ما ورد من الأحكام في الآية الشريفة فهو تعالى السبب في كلّ خير، والعلّة في كشف كلّ ضرّ، فلا يمنعه مانع إن أراد بعبدٍ خيراً أو أراد به ضراً، ولو اتّصف أحدٌ بذلك فإنّه بفضل قدرة الله تعالى، الذي منحه القوّة بعد افتقاره الذّاتي، وعدم إمكانه جلب النفع لنفسه ودفع الضرّ عنها.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر الوجه في تخصيص الضرّ والخير بالنبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، الذي هو أفضل مخلوقات الله عزّ وجلّ على الإطلاق، وحبيب ربّ العالمين، فاذا لم يكن قادراً على شيء ممّا ذكر فغيره يكون بالأولى.

نعم هو واسطة الفيض لشرفه العظيم وجمال ذاته، وجلال صفاته، ومن هنا يظهر السرّ في توجيه الخطاب له صلوات الله عليه أيضاً.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه»

قوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه».

بيان لأعظم صفة من الصفات التي تؤهّل مَن اتّصف بها الألوهيّة المطلقة، التي تجتمع فيها أسمى الصفات وأعلاها، بما يليق هذا المقام العظيم الذي لا يمكن لأحدٍ درك كنهه مهما بلغ من العلم والفطنة، فلابدّ أن تكون صفاتها أيضاً كذلك. وقد ذكر عزّ وجلّ من الأسماء الحسنى القاهر، الذي هو بمعنى الغالب الذي يطاوعه المغلوب في ما يظهر منه من الأثر، سواء كان المغلوب المطاوع يتأثّر منه عزّ وجلّ مباشرة، أو بواسطة الأسباب التكوينيّة، التي هي مسخّرة تحت إرادته المقدّسة، ما يظهر أثرها في مسبّباتها، والجميع مطاوعة ومضطرّة إلى ما يريده عزّ وجلّ، فتكون عامّة الموجودات مقهورة له سبحانه، وهو القاهر فوق عباده.

ولا ريب أنّ قهر الله عزّ وجلّ يختلف عن قهر غيره بعضهم بعضاً، فإنّ الجميع إن كانوا مشتركين في ظاهر اللفظ لكن قهره عزّ وجلّ إنّما يتّصف

ص: 112

بالإحاطة التامّة، والتفوّق على المقهور مطلقاً، فيتحقّق التمايز بين القاهر والمقهور في مرتبة الذّات، فضلاً عن غيره، بخلاف قهر غيره، فإنّه يكون مع حفظ المرتبة بينهما، وإن كان القاهر أقوى من المقهور، ولذا يظهر أثره في المقهور، فيكون قهره عزّ وجلّ متّصفاً بالفوقية بكلّ معنى الكلمة، فهو المفيض على المقهور بالوجود والقوّة والآثار، والتأثير والتأثر، ولا مناص عن كونها تحت إرادته عزّ وجلّ، فهو المالك لجميع ما أفاض على القاهر من نعمة الوجود والذّات والآثار، فيكون قهره عزّ وجلّ متّصفاً بمزيّةٍ تختلف عن القهر في ما سواه تعالى. ولأجل ذلك كان قوله تعالى: «فَوْقَ عِبَادِهِ» مبيّناً لحقيقة قهره سبحانه عن غيره، فهو تعالى القاهر فوق عباده، وأمّا قهر غيره فإنّه لا يكون من فوق، بل يكون قهر شيء لشيء، وهما في مرتبة واحدة.

وإنّما خصّ العباد بالذكر، لبيان تذلّلهم وانقيادهم لإرادته سبحانه، مع أنّ الغالب فى موارد استعمال القهر أن يكون المقهور من أولى العقل، بخلاف غيره كالغلبة والسطوة ونحوهما. لذا فسّره بعض أهل اللّغة بالتذليل، والذلّة في أولى الدراية والعقل أبين وأظهر، وهذا لا يمنع من استعماله في غير مورد لكن بالعناية.

ومن جميع ذلك يظهر الوجه في إيراد هذا الاسم المبارك في المقام، فإنّه نفي لما سواه عزّ وجلّ، فهو قاهر فوق عباده في كلّ شؤونهم، فهو قاهر في ما يمتهم من خير أو ضرّ، وهو قاهر يذلّلهم بالإعتراف بعجزهم واحتياجهم، فكان اتّخذ غيره سبحانه وليّاً، قد خسر خسراناً مبيناً لإشتراكه من هو مربوب ذليل لا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ القدير القاهر فوق عباده فقد أثبت لنفسه كمال القدرة، وكمال التسخير لعباده، وتمام الاستعلاء عليهم، كما قال عزّ وجلّ: «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً»(1)، بل إيَّاه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء. «قُلْ

ص: 113


1- سورة الجن الآية.18

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً»(1). ولم يرد هذا الاسم المبارك في القرآن لكريم إلّا في موضعين؛ كلاهما في هذه السورة الشريفة: أحدهما المقام، والآخر في آية 61. وكلاهما في مقام الاحتجاج على المشركين، ونفي الشرك عنه عزّ اسمه بإثبات السلطة التكوينية والتشريعية له سبحانه.

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»

قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».

تأكيد لمضمون الآية الكريمة، وتثبيت القهارية المطلقة الكاملة له عزّ وجلّ، فإنّه الحكيم فى أفعاله، يضع الأمور في المواضع اللائقة بها، فلا تصدر منه تعالى جزافاً، الخبير بدقائق الأمور، فلا يخطئ ولا يغلط، وبذلك امتازت أفعاله عزّ وجلّ عن غيره، فاذا مسّ نفساً خيراً أو ضراً، فإنّه لا يكون إلّا وفق الحكمة المتعالية، والعلم بدقائقها، فإنّ القهّارية المطلقة تستلزم الحكمة والخبرويّة، حتّى لا تكون صادرة عن غفلة أو جهل أو عدم بصيرة، كما أنّ تسخير الموجودات تحت إرادته عزّ وجلّ، يقتضي أن يكون حكيماً أو خبيراً بالمصالح والمفاسد، ودقائق ما يرتبط بأمور خلقه، ولا ريب في ذلك لأنّه الواحد المتفرد بالألوهية، والمخصوص بالعبودية، ولأجل ذلك بطل ما اتّخذوه إلهاً لتحقيق أغراضهم باطلاً، فكانت هذه الآيات المباركة من البراهين الساطعة التي يقرّ بها العقل على وحدانيّته العظمى، وتفرّده بالعبوديّة والطاعة، وبطلان غيره من الآلهة المزعومة.

***

ص: 114


1- سورة الإسراء: الآية 56

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بإعراب الآيات الكريمة

بحث أدبي

قد ورد قوله تعالى: «ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» في سورة الجاثية أيضاً بزيادة» (هو)، وسقوط حرف العطف، قال تعالى: «ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ»(1).

ولعلّ الوجه في ذلك يرجع إلى أنّ آية الأنعام وردت بعد قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وقوله تعالى: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» فكان بمنزلة قوله فقد رحم وفاز، فيكون الفوز مسبّباً عن الرحمة، فيكون العطف عليها بيناً.

ولم يرد الضمير المنفصل (هو)، باعتبار أنّه لم يرد في ما تقدّم من الآيات من أوّل سورة الأنعام ما يتوهّم أن يكون فوزاً، فيحترز منه بما يعطيه ضمير (هو) من المفهوم، فلم يتحقّق الداعي لذكره.

أمّا في سورة الجاثية فإنّ الآية قد وردت بعد إنكارهم للحياة الأخروية، وأنّه لا حياة وراءها، فمن تنعّم فيها فذاك الفوز.

وقد أخبرهم عزّ وجلّ أنّ الأمر لم يكن كما زعمه المنكرون، فذَكَر الساعة وتفصيل الأحوال، وقال تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ»، ثمّ قال: «ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» لا الحياة الدُّنْيا التي هي لعب ولهو، فكأنّه قال: «ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ» لا ما هو المظنون فوزاً، فقد أحرزنا ذلك بمفهوم الضمير، ولم يتقدّم في سورة الجاثية ما يستدعي العطف فسقط، فجاء كل

ص: 115


1- سورة الجانية: الآية.3.

ما على يناسب.

كذلك قد تكرر قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» في هذه السورة وسورة يونس، لكن بالاختلاف في بعض الكلمات، فقد ورد في الأخيرة «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرِ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم»(1).

فاختلفت الآيتان في أمور ثلاثة هى جواب الشرط، ففى آية الأنعام «فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وفي آية يونس: «فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ».

كما إن في الأولى «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» دون سورة الأنعام.

ولعلّ الوجه يرجع إلى أنّ آيات سورة الأنعام إنما وردت في إثبات الوحدانية، ونبذ الشرك والأنداد، وأنّ المشركين أنكروا أن يكون تلك المشاهدات التغيير والحدوث على كثرتهما وتنوّعهما، وجدت بأنفسها لا عن فاعل، فاشبهوا البهائم في البعد عن النظر، واعتقدوا بأنّ الأشياء في هذا العالم وجدت من غير موجد متّصف بالقدرة والاختيار، فقوبل ذلك بالتعريف بقدرته تعالى وانفراده بالخلق والقدرة على كلّ شيء.

أما في سورة يونس فقد ذكرت بعد آیات اشتملت على ظنّ الذين كفروا بأنّ غيره تعالى يضر أو ينفع فكان ردّاً على من عبد دونه سبحانه، وتوهّم أنّه يضر أو ينفع، فناسب ذلك التخصيص على انفراده تعالى بالخلق والأمر. وأمّا الاختلاف بينهما في الوجه الثاني أنّ آيات سورة يونس قبل هذه الآية وردت فى الخلق والتقدير، وجرى العباد على ما قدر لهم، وما شاء ربّهم، ولا يردّه

ص: 116


1- سورة يونس: الآية 107

رادّ ولا يعارضه معارض فناسب ذلك قوله تعالى «وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ» وتأكد ذلك بقوله: «يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»(1). بخلاف ما ورد في سورة الأنعام، فإنّه لم يتقدّم مثل ذلك، فوقع الإلتقاء فيها بقوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

وأمّا ورود الوصفين الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فى آية يونس، فإنّهما وردا بعدما تقدّم من مؤثرات الخوف، وموجبات الخشية والرهبة، ممّا اقتضى الإخبار عن أمور غيبية تتعلّق بالقدر والمشيئة ممّا عظم في نفوس المؤمنين، فاقتضى ذلك بعث الطمأنينة في نفوسهم وفاءً لأعمالهم الصّالحة، فناسب ذكرها بين الصّفتين العليتين، والله العالم.

***

بحث دلالي وفيه ما يتعلّق بالآيات الشريفة

بحث دلالی

***

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأول: يدلّ قوله تعالى «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» على أنّ الملكيّة المطلقة من أهمّ الدلائل على التوحيد، ونفى الشريك عنه عزّ وجلّ، فإنّ أُنس أذهان الناس بأنواع الملكيّة الدائرة بينهم وإثبات السلطة الظاهرية للمالك، وتعظيم غيره،له، ممّا أوجب ذكر هذا الدليل القويم القريب لهم، فكان تصوير مثل هذه الملكيّة المطلقة التامّة له عزّ وجلّ، يكفى فى الحكم بالوحدانية الكبرى والربوبيّة العظمى، ويمتاز هذا البرهان عن غيره بأُمور:

منها: أنّه عامّ يشمل جميع الأفراد؛ العالم منهم وغيره، فإنّ كلّ أحد يستشعر بهذه الملكية ولو كانت اعتبارية ومن أدنى المراتب.

ص: 117


1- سورة يونس الآية.107

ومنها: أنّه وجداني لكلّ فرد، ويكفي في إثارة أدنى إشارة ورمز، كما هو واضح.

ومنها: إنّه ممّا يعترف به الجميع، إذ لا يسع لأحدٍ إنكاره وفي ذكر اعتراف أفضل الخلائق وسيِّد البشر في ابتداء الكلام الإشارة إلى ما ذكرناه، لأن اعترافه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) إنّما هو اعتراف الجميع، فهو (صلّی الله عليه وآله وسلّم) العقل المحض، وله مقام جمع الجمع.

الثاني: يدلّ قوله تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» على أنّ الكتابة من لوازم تلك الملكيّة التامّة الحقيقية، فإنّ من كانت له هذه الملكيّة الحقيقة المستتبعة لجميع ملازماتها الواقعيّة من القدرة التامّة والسلطة الكاملة، والربوبيّة العظمى، تستتبع هذه الكتابة الواقعية، كما أنّه يدلّ على أنّ هذه الملكية تختلف عن غيرها، في أنّها تقتضي الرحمة العامة الشاملة لجميع ما سواه عزّ وجلّ، التي هي مقهورة تحت سلطانه تعالى المنزّه عن السلوب والنقائص، فهو المالك الحقيقيّ المنزّه عن التشفّي والحاجة، كما قال عزّ وجلّ: «مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً»(1).

ويحتمل جداً أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة مترتباً على الملكية الحقيقية الثابتة له عزّ وجلّ، كترتّب المعلول على العلّة التامّة، فامتازت هذه الملكيّة بكونها حقيقيّة وتامّة ومطلقة، ومنزّهة عن كلّ نقص تليق بالمقام الربوبيّ، كسائر الصفات الإلهيّة المقدّسة.

ومن هنا يظهر السرّ في اختصاص أخذ الإقرار من سيِّد البشر على الإطلاق، فإنّه من أظهر مصاديق الرحمة الإلهيّة التي كتبها على نفسه، حيث أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، ورفع العذاب بسببه، كان (صلّی الله عليه وآله وسلّم) هو المكتوب والكتابة،

ص: 118


1- سورة النساء: الآية 147.

فما أعظم منزلته عند بارئه.

الثالث: يستفاد من ترتب الكتابة على ملكيته عزّ وجلّ لما في السماوات والأرض، أنّها تختلف عن بقية أنواع الكتابة، كالتشريعيّة التي لا تعقل بالنسبة إليه سبحانه، لو لا التكوينيّة التي عليها غيره عزّ وجلّ، فإنّها مستحيلة، فهى كتابة خاصّة من صفة مباركة، وهي الملكيّة الحقيقيّة التي لا يمكن درك حقيقتها، كسائر صفاته الذّاتيّة، فإنّها ناشئة من صقع ذاته المقدّسة التي يستحيل دركها، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «عَلَى نَفْسِهِ»، ولعلّه لأجل ذلك وسعت كلّ شيء، كما وسعت ملكيّته التامّة، وقد أدركت المخلوقات آثار رحمته المباركة، التي هي كالكتابة ظاهرة لكلّ من يريد دركها.

الرابع: يستفاد من ترتب قوله تعالى «لَيَجْمَعَنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، على الرحمة المكتوبة على نفسه عزّ اسمه، أنّ الجمع إلى يوم القيامة، والسوق للحساب، ووصول كلّ فرد إلى الجزاء، إنّما هي من آثار رحمة الله تعالى، فمن أدرك عموم رحمته عزّ اسمه، والتمس آثارها، وشهدها في مخلوقات الله تعالى، لا بدَّ أن يذعن بهذا الجمع ويستعد إلى السوق، ويشهد الحساب، ويترقّب رحمته في ذلك اليوم العظيم، ولعلّه لأجل ذلك ذكر عزّ اسمه: «لَا رَيْبَ فِيهِ»، كما أنّ الإقرار بالرحمة الإلهيّة المكتوبة على نفسه المقدّسة، التي هي من مظاهر ملكيته التامّة المطلقة، يلازم الإذعان بالجمع إلى يوم القيامة، ولا يسع لعاقل أن ينكر هذه الملازمة.

الخامس يستفاد من قوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، أنّ الإيمان بالله وشرائعه الذي هو مجمع الكمالات، ويعدّ النفس إعداداً لتلقى الفيوضات، وتزكية النفوس بالمكارم والفواضل، لا يمكن أن يتحقّق إذا خسر الإنسان نفسه، ولا يحصل ذلك إلّا بعد استيلاء الملكات النفسية عليها، ممّا يوجب

ص: 119

طمس نور الفطرة، وانحطاط النفس إلى أدنى الدرجات، فإنّها عقبات وظلمات تصد عن ذكر الله تعالى، والإيمان به واليوم الآخر. ولعلّه لأجل ذلك ورد كلمة الخسران في المقام.

وممّا ذكرنا يظهر وجه المقابلة بين الإقرار بالرحمة، وخسران النفي، فإنّ في الأوّل الاستعداد للحساب، وفي الثاني الخروج عن ربقة الإنسانيّة، والغفلة عن الإيمان بالكلية.

السادس يدلّ قوله تعالى: «فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، على أنّ خسران النفس يوجب الإعراض عن الأمور الواضحة والضرورية، وأنّه يؤدي إلى سلب الاستعداد للنّفس وقابليّتها لقبول الرحمة الإلهيّة، فإنّ النفس رأس مال الإنسان، فإنّ خسرانه فقد كلّ كامل منشود، وقد ورد مثل ذلك في عدّة مواضع في القرآن الكريم، تنبيهاً على هذا الأمر العظيم الذي له الأثر الكبير في جميع العوالم التي تردّ على الإنسان، فهذه الكلمة البليغة على إيجازها، تدلّ علی معنی عظیم شدید الأثر في النفوس المستعدة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، على أنّ جميع المخلوقات إنّما تستقر تحت إرادته المقدّسة، مستجيبة لمشيئة المباركة ترجع في جميع شؤونها وحركاتها إليه سبحانه، وتسكن بالآخرة تحت ظلّ رحمته العظيمة. وفي ذلك الإشارة إلى نظام كونى يشمل عالم الطبيعة والشهود يرتبط ما فيه بناموس ربّاني متين، تسكن في ظلّ ذلك، وهو عزّ وجلّ المهيمن عليها، لا تخفى عليه خافية.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: «وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» على مالكيّته عزّ وجلّ لما في عالم الإمكان المقترن بالتقّلب والحركة والسكون، والتعاقب في دائرة الأزمان، وأنّ مالكيّته تتّصف بالإحاطة العلمية التامّة، والقيّوميّة الكاملة،

ص: 120

وأنّ مملوكيّته ما سواه له عزّ اسمه، تقترن بالفقر الذّاتي والحاجة المطلقة.

وإنّ الآية الكريمة تتضمّن على برهان قويم واضح تقبله الأفهام مهما بلغت من السذاجة، يدلّ على التوحيد، والتفرّد بالألوهية، ويلجأ الإنسان إلى الوجدان للإقرار بذلك، فإنّ من اتّصف بالتقلب والحركة والاختلاف، لابدّ له من قرار يستقرّ به ويستشعر بالاطمئنان والسكن تحت تدبيره وربوبيته، التي يجعل اتّصافها بجميع مقوّمات تلك الربوبيّة، من الإحاطة والقدرة، والعلم بجميع شؤون المملوك، ولولا ذلك لما استقرّ لتلك الموجودات المتنافرة والمتركّبة من الأجزاء المتباينة قرارٌ، ولم ينتظم لها نظام.

فهذه الآية الكريمة من أهمّ الآيات التي تدلّ على حاجة الممكن في وجوده وبقاءه إلى الواجب، وأنّ سكون عالم الإمكان إنّما يكون وفق نظام دقيق يعلم خصوصيّاته إلّا خالقه، ولعلّه لأجل ذلك اقتصر على ذكر السميع العليم لبيان الإحاطة العلميّة الكاملة، لاقتضاء المقام ذلك.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً»، أنّ اتّخاذ الإله، والإعتراف بالعبودية له ممّا تدعو إليه الفطرة، ويقرّ به العقل، والقرآن الكريم يدعو إلى الرجوع إليهما، ويحرّض الناس إلى الاستفادة منهما في هذا الأمر العظيم الذي له الارتباط الوثيق بالإنسان في جميع شؤونه وأسراره وشهوده وغيبه، ولعلّه لأجل ذلك خوطب به أشرف الخلائق باعتباره مظهر العقل الكلّىّ، وانبثاق نور الفطرة من نفسه الشريفة، وإنّه واسطة الفيض القدسى.

فالآية الكريمة تقرّر ما عند المشركين من اتخاذ الإله، لكن على الوجه الصحيح، وأنّه لا بدًّ أن يكون الإله المتّخذ وليّاً له ولاية التصرّف والطاعة، يتّصف بجميع الصفات اللائقة بمقام الألوهيّة،

وقد ذكر سبحانه في هذه الآية من صفاته العليا صفتين لهما التأثير الكبير

ص: 121

في حياة الإنسان الدنيوية، واتّخذهما المشركون وسيلة لعبادة ما اتّخذوه من الآلهة غير الله تعالى، وهما يعتبران برهانين عظيمين من البراهين القويمة على الوحدانيّة الكبرى، لارتباطهم الوثيق بالحياة العملية والتفكير الإنساني:

إحداهما ترجع إلى جهة الإنعام، ولا سيّما الطعام الذي يظهر فيه الواقع المادّي للإنسان، وحاجته الملحة، وما لا يمكن له الاستغناء عنه في الحياة الدنيوية، وقد حصره عزّ وجلّ فيه، فهو الغني لا يحتاج إلى من يطعمه وهو المفيض للطعام.

والثانية: ترجع إلى ما يتصوّره الإنسان في ما حوله ممّا يدخل تحت حواسه الظاهرية، التي تدلّ على إحاطة خالقها بها إحاطة كاملة، وقدرة بارئها قدرة تامّة، ممّا يدلّ على قهاريّته فوق العباد.

وكلا الدليلين ينبهان الإنسان إلى أنّ ما اتخذه المشركون آلهة، إنّما اقترنت بالنقض والحاجة لا يمكنها دفع ما فيها من النقص، وما عليها من الحاجة، فإنّ كان السبب هو الخوف، كما عليه بعض الأُمم الوثنية، فلابدَّ أن يكون من القادر المتعال الذي فطر السماوات والأرض، فيجب الخضوع له دون غيره. وإن كان السبب هو الحاجة، والتماس النفع وجلب النِّعم، فيجب أن يكون من الغني المطلق الذي يُطْعِم ولا يُطعَم، الذي رُزق عباده من فيض جوده ووجوده عزّ وجلّ.

وهما يشيران إلى برهان الحاجة والافتقار الذّاتى للمخلوق، وبرهان الغنى الذّاتي للخالق، ويمكن إرجاعها إلى برهان اللّم والإنّ المعروفان في العلوم الفلسفية، فراجع وتبصر.

العاشر: يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ»، أَنّ الإسلام هو أقصى درجات الطاعة والعبوديّة، وأنّه ممّا يُقرّ به العقل ويدعو إليه، ولعلّه لأجل ذلك كان الرسول الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم)- الذي هو العقل المحض هو الأوّل في

ص: 122

الامتثال، فكانت أوليّته من جميع الجهات في الذّات والرتبة والزمان، فكان إيمانه مقترناً بالتسليم المطلق، والخضوع التام، تبعاً لتلك المرتبة السامية، والمقام الرفيع الذي وصل إليه ما لم يصل غيره، وفيه الردّ على من زعم الخضوع لغير الله عزّ وجلّ طمعاً ونعمة، أو خوفاً من نقمة، فكان تسلمة (صلّی الله عليه وآله وسلّم) مجرّداً من كلّ داع مادّي، فكان تسليم خضوعٍ وعبادة، ومنه اتّضح أن ترتّب قوله تعالى: «وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» على ما سبق، نظير ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ مَن وصل إلى مرتبة التسليم والخضوع التامّ لا يعقل صدور الشرك منه في حال من الأحوال، فيكون النهى إرشاداً إلى نبذ الشرك، وإجابة داعى العقل ونور الفطرة والإعراض عن اللجاج والعناد.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عظیم» علی برهان آخر من البراهين القرآنية التي تدلّ على التوحيد، وبطلان الشرك، وهو برهان المجازاة، فإنّ الخوف إذا كان داعياً عند المشركين لاتخاذ الآلهة، فإنّه لابدّ أن يكون من عذاب يوم عظيم، لا يرجى لهم الخلاص من تبعة اعتقادهم الباطل. وقد ورد هذا البرهان في غير موضع من القرآن الكريم، وفيه التذكير الكبير للمشركين المعاندين، فإذا كان الخوف سبباً في ذلك الاعتقاد،الفاسد، فلابدّ أن يكون ممّا يخاف سطوته ولا منتهى لعقابه، ولا مناص للخلاص، فإنّه إذا استشعر المشرك الخوف، لأجل عدم استقرار نفسه، واستشعاره الخوف، فيطلب الاطمئنان ممّن يتّخذ الآلهة، ولكنّه نسى أنّ الخوف نشأ من هذه العقيدة، فالآية الكريمة تهذب هذا الخوف ويستفيد منه في تصحيح العقيدة، ولأهمّية ذلك فى حياة الإنسان، فقد توجّه الخطاب لأشرف المخلوقات ليُنبئ على أن الخوف فيه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) من أقصى مراتب الخوف وتجرّده عن كلّ أمر مادّي، وأنّه لابدّ أن يتحقّق من عصيان من هو قادر على إنزال العذاب موصوف بالقهر

ص: 123

وهو المالك ليوم عظيم يحاسب فيه العباد، ويصل كلّ فرد إلى جزائه. وفيه التعريض بأنۀهم عصاة استحقّوا العذاب العظيم.

الثاني عشر: يرمز قوله تعالى: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ»، إلى أنّ الإنسان لا يمكن العيش تحت تأثير الخوف دائماً، فإنّ النفس تنبو عن العيش في هذه الحالة، وقد ذكر سبحانه إنّ الرجاء والطمع له الأهمّية في الحياة الإنسانيّة، وهي لا تهتمّ إلّا بتأثير هذين العنصرين وهما جناحان يطير بهما الإنسان إلى سماء الخلود والعيش الهنيء. وقد جرى أُسلوب الذكر الحكيم على ذكرهما في جميع الموارد التي ترشد الإنسان إلى الهداية.

وقد بيَّن تعالى أنّ الفوز الذي ينبغي للإنسان أن يسعى إليه، هو الدخول في رحمته في يوم يشتد على الإنسان أثره، فكان ذلك هو الفوز المبين الذي يقبح على الإنسان تغافله.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرِ»، على أنّ ما يصيب الإنسان من الضرّ والخير، هو شيء يسير منهما، وأنّه لا نهاية لهما، لعدم تناهي القدرة الإلهيّة التي لا يقوم لها شيء، ولكنّه عزّ وجلّ يصيب بهما الإنسان قابليّته واستعداده وطاقته، أنّهما تحت سلطانه، فهو القادر على كلّ شيء، لا يمنعه مانع وإن كان آلهة اتّخذها المشركون لجلب النفع ودفع الضرّ، وفيه الإشارة إلى أنّ من يطلب من الخير ويدفع به الضر، لابدّ أن يكون قادراً على كلّ شيء، فيكون بمنزلة التعليل لبطلان اعتقادهم.

ثمّ إنّ تخصيص الضرّ بالذكر بدلاً من الشرّ الذي يأتي مقابل الخير للإشارة إلى أنّ الضر وإن كان من الله تعالى، لكنّه ليس بشرّ في الواقع والحقيقة، كما يزعمه المشركون، بل هو تربية للعبد، واختيار له يستفيد منه في تهذيب النفس.

الرابع عشر: يشير قوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ»، إلى أنّ صفة

ص: 124

القهارية من أهمّ المقوّمات التي لابدّ أن يتقوم بها كلّ إله مزعوم، فإذا كانت منحصرة في الله تعالى، فهو المستحق للعبادة والطاعة، وغيره مقهور تحت سلطانه التامّ، ولا يعقل أن توسم بالألوهيّة فضلاً عن استحقاقها العبادة والطاعة.

وقد اقترنت هذه الصفة بأمرين مهمّين لهما الدخل في بسط قدرة القاهر وسلطانه وإتقان فعله، فهو عزّ وجلّ القاهر فوق عباده، وكلّ ما في الوجود مضطرة إلى مطاوعته، ومسخّرة تحت إرادته مقهورة له عزّ وجلّ، وهو القاهر، ولكنّه مع ذلك فهو الحكيم الخبير، وذلك لبيان أنّ قاهريته لم تكن عن جبروت مطلق، قياساً على المشاهد في القاهرين، بل هو عزّ وجلّ عليمٌ بشؤون عباده حكيم، فلا يفعل جزافاً وجهلاً، يضع الأُمور في مواضعها اللائقة، وفق حكمة خبير بجميع الصفات والشؤون، لا يخطئ ولا يغلط.

وفي تقديم الحكمة، للدلالة على أنّ قاهريّته إنّما هي من علم وإحاطة، ناشئة عن حكمة تامّة متعالية، ولا تخطئ لكونه خبيراً بصيراً بجميع الشؤون والخصوصيات.

***

بحث روائي وفيه ذكر الاحاديث التي وردت في تفسير الآيات

بحث روائي:

روى العيّاشي عن الصادق (عليه السّلام)«ما ترك رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم): إنّي أخاف إن عصیتُ ربّى عذاب يوم عظيم حتّى نزلت سورة الفتح، فلم يعد إلى ذلك الكلام».

أقول: إن استمراره (صلّی الله عليه وآله وسلّم) على ذلك للدلالة على عظمة ذلك اليوم، وعموم الحساب لجميع العباد من دون استثناء، وعدم التسامح فيه قطعاً لأطماع الكفرة والظالمين.

وأمّا قطعه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) له بعد نزول سورة الفتح، لما وعده الله عزّ وجلّ من عظيم المغفرة، وما جناه من جليل المنزلة، فجعله واسطة الفيض على أُمّته بالمغفرة لهم.

ص: 125

وفي «المجمع» عن النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنّة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال (صلّی الله عليه وآله وسلّم): ولا أنا، إلا أن يتغمدّني الله برحمته وفضله، وذلك هو الفوز المبين».

أقول: هذا الخبر مرويّ في كتب الجمهور، وهو مخالفٌ لظواهر جملة من النصوص، كقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه»(1)، وغيره من الآيات والروايات المثبتة آثاراً خاصّة للطاعات والعبادات، فلابدّ من الجمع بين مثل هذا الخبر وتلك الآيات والروايات.

ويمكن أن تحمل تلك النصوص على مقام الاقتضاء فقط، ومثل هذا الخبر على بيان الموانع. كما أنّه يحتمل قوله (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «ولا أنا» على التخضّع التامّ، وعدم الاعتناء بالعمل في مقابل مواهب الله تعالى ونعمه فى الدُّنيا والآخرة.

ثم إنّ باب المناقشة في الأعمال بالنسبة إلى عالم الغيب والشهادة، واسع جداً، يدلّ عليه جملة من الآيات والروايات كقوله تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»(2).

***

بحث كلامي وفيه بيان دلائل التوحيد والبراهين عليه وامتيازها عن غيرها

بحث كلامي

تبيّن الآيات الكريمة المتقدّمة دلائل التوحيد وتسرد جملة من البراهين على الوحدانية وبطلان الشرك بأحسن أُسلوب، وأتمّ وجه يقبله الطبع السليم، تختلف عن سائر الأدلة التي وردت في غير القرآن الكريم، وقد امتازت البراهين القرآنية بأمور:

الأوّل: إنّها صيغت بأعذب أسلوب، وأفصح كلام، وأبلغ عبارة يهتمّ السمع

ص: 126


1- سورة الزلزلة: الآية 7.
2- سورة يوسف الآية.106

بالكلام الملقى إليه، ويتشوق لاستماعه والإصغاء إليه.

الثاني: إنّها تلقي ما يفهمه الناس على اختلاف درجاتهم في الفهم والمعرفة، بحيث يستفيد منها كل حسب درجته فيها.

الثالث: إنّها تشتمل على ظاهرٌ يوافق الطبع، ويستفيد منه جميع الأفراد، وباطن يختصّ به أهل العلم، يغور فيها لدرك اللآلئ الفاخرة بمقدار ما منحه الله تعالى من المعرفة والعلم، وإن عجزوا عن الوصول إلى قعرها مهما أُوتوا من الحكمة، فإنّها كلام الله العزيز، وفوق كلّ ذي علم عليم.

الرابع: إنّها تلبّي جميع متطلبات الإنسان في المعرفة الربوبيّة، على اختلاف طبقاتهم.

الخامس: إنّها توافق جميع العصور، بحيث تكون غضَةً طريّةً لا تتغيّر بمرور الزمان، وتوائم جميع الظروف الطارئة على الإنسان.

السادس: إنّها تشتمل على العناصر التى اتّخذها المشركون، وما يمكن أن يطرأ في ذهن كلّ من أفراد الإنسان في دعاويهم الباطلة، وصياغتها على نحو جديد لتكون حجّة عليهم بعد ما كانت حجّة لهم، وهذا من معاجز القرآن الكريم.

السابع: إنّها تدعو إلى تحكيم العقل ونبذ الأوهام.

الثامن: إنّها تشتمل على دقائق ورموز وإشارات، تصحح الخطأ الموجود عند الطرف الآخر، ويرجع إلى رشده فيذعن بالحقّ.

التاسع: إنّها حقائق واقعية تلقى إلى الناس بأوجز العبارات وأبلغها، يمكن أن يكون الأصل لبعضها ما هو موجود عند الناس، لكنّهم غفلوا عنها، فمثلاً قد ورد الضرّ والخير في قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» متقابلين، وأسندا إلى الله تعالى، مع أنّ الخير يقابله الشرّ الذي ذكر في سورة المعارج غير مسند إليه عزّ وجلّ، فأبدل

ص: 127

عزّ وجلّ الشرّ بالضر وأسنده إلى نفسه عزّ وجلّ لما ذكرناه في التفسير، فراجع.

العاشر: إنّها أدلّة عقلية تأيّدت بالوحي الإلهىّ، وهو من لطائف الإعجاز والإيجاز المتّصف بهما القرآن الكريم.

ثم إنّ الآيات الكريمة تشتمل على براهين ثلاثة تدلّ على التوحيد، وهي برهان الإنعام، وبرهان الخوف ويشترك الناس فيهما، إلّا من خّصه الله بالكرامة فعَبَد الله تعالى لأنّه أهل للعبادة، فإنّ لهم برهان آخر وهو أشرف من البرهانين السابقين، وهو برهان التكامل الذّاتي، واستحقاقه عزّ وجلّ للعبادة؛ لأنّ الله الجامع الجميع الصفات الكمالية، فهو الفاطر للسماوات والأرض، والموجود لما سواه عزّ وجلّ، فيجب الخضوع له، فهو توحيد يرجع إلى الذّات مجرّداً عن أي غرض، كما في السابقين.

ومن لطائف الإعجاز القرآني الذي تضمّنته تلك الآيات الشريفة كما أشرنا إليه - إنّه تعالى جعل الضرّ مقابل الخير مع أنّه يقابل النفع، والخير يقابل الشرّ، لبيان أنّ ما يسند إليه تعالى ليس شراً، كما يزعمه المشركون هذا أوّلاً.

وثانياً: تربية واختبار للعبد يستفيد منه بقدر استعداده.

وثالثاً: مع أنّ الضرّ خاصّ والخير عامّ، أتى به رعاية لجهة الرحمة. ورابعاً: إنّ في تخصيص الخير بالذكر بأنّه ليس كلّ نفع يبتغيه الإنسان هو خير له، فإنّ النفع إنّما يكون خيراً إذا لم يستتبع شرّاً، وهذا ممّا يختصّ به عزّ وجلّ دون سائر الأولياء الذي اتّخذه المشركون، فإنّها قد تجلب النفع ولكنّه ليس بخير، وقد تكشف الضر ولكنّها تجلب الشرّ.

وخامساً: وقد أُوثر الضرّ للترهيب العظيم، وأُوثر لفظ الخير ليعم جميع أنواع الإحسان والنفع وآثارهما، فإنّه لا يكون الشيء خيراً للعبد إلا إذا لوحظ جميع خصوصياته من المبادئ والعواقب.

ص: 128

وسادساً: إنّ في ذكرهما مناسبة لما قبلهما، فإنّ في مسّ الضرّ إشارة إلى قوله تعالى: «إِنِّي أَخَافُ»، وفي إرادة الخير نظراً إلى قوله سبحانه: «مَنْ يُصْرَفْ» فسبحانه من مبدع حكيم، قرن آياته التدوينيّة بما يقرب المعنى إلى ذهن السامع بأجلى صورة وأعظم بيان، وأتمّ حجّة.

ثمّ إنّ قوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ»، يدلّ على القهارية المطلقة له عزّ وجلّ، ومقهوريّة عباده قهر عبادة وخضوع، والمراد بالفوقية هي الفوقية بالقهر والغلبة، والتربيب الذي لا تخفى عليه عواقب الأمور ودقائقها وسائر خصوصياتهم، حتّى لا يستلزم في تدبيره خلل، ولا في حكمته زلل.

وليست الفوقية المكانية أو ما يستلزم التحيّز بالنسبة إليه عزّ وجلّ، كما ذهب إليه بعض الحشوية، فإنّه تعالى ليس كمثله شيء، فلابدّ من حمل ما ورد في النصوص القرآنية من إضافة ما يماثل صفات المخلوقين إليه عزّ وجلّ على أحد وجوه :

الأوّل: التأويل بما يليق بشأنه سبحانه وتعالى، كما تقدّم مكرّراً، راجع قوله تعالى في سورة المائدة: «غُلَّتْ أَيْدِيهِم».

ففي المقام يُراد به العلوّ، والاستيلاء والغلبة، وغالباً ما يستلزم هذا الوجه المجاز، كما عرفت.

الثاني: أنّ تحمل تلك الصفات المنسوبة إليه عزّ وجلّ على معانيها الحقيقية، ولكنّها في الممكنات تناسب حقيقتها الإمكانية، وفي الواجب تناسب تلك الحقيقة الواجبة، المنزّهة عن صفات المخلوقين، فيكون إطلاقها عليه عزّ وجلّ على وجه أعلى من الشرف، فإنّ صفات كل موجود حسب وجوده، فتكون صفات الله تعالى إلهية، فما وجد من الصفات الكمالية في الأدنى، يكون في الأعلى على وجه أرفع وأشرف وأبسط، وهذا الوجه هو الموافق للتحقيق.

ص: 129

الثالث: القول بأنّ أسماء الله تعالى إنّما تطلق عليه باعتبار الغايات دون المبادئ التي ربما تكون انفعالات. ولكن في هذا الوجه قصور واضح، حيث وقع أصحابه فى التعطيل، فلم يدركوا مقامات الوجود ومواطنه ومنازله، ومعارجه وأحواله.

الرابع: إرجاع تلك الصفات إلى المعاني العدمية، فأرجعوا العلم إلى عدم الجهل، والقدرة إلى عدم العجز. ونحو ذلك، وهذا الوجه وإن أمكن تصحيحه باعتبار عدم إمكان تعقل حقيقة الأسماء المقدّسة الإلهيّة، وعدم درك تلك المعاني السامية، وإن شابهت صفات الممكنات، فإنّ العقل محجوبٌ عن الوصول إلى ذلك المقام الساميّ ذاتاً وصفة، فربما يتحقّق تفسير لها بأمرٍ قد لا يليق بساحة قدسه، فيقع إما في رذيلة التشبيه أو الشرك أو التقصير، وكلّ ذلك محاذير لابدَّ من اجتنابها، ممّا دعى صاحب هذا الوجه إلى القول بالمعانى السلبية، أو أنّ الاحتياط في التقوّل على الله بما لا يليق يستدعي ذلك. ولكن الاعتماد الكلّي عليه يستلزم التعطيل، كما هو واضح.

ثمّ إنّه يستفاد من الآيات الكريمة - ومنها المقام - أنّ السمع والعلم لهما مرتبتان :

إحداهما مرتبة الذّات فتكونان من صفات الذّات التي هي عين الذّات المقدّسة، فلا يحتاج في تحقيقهما إلى أمر خارج عن الذّات المقدّسة، كسائر الصفات الذّاتية.

والثانية: ترجع إلى الصفات الفعليّة المتوقّفة على تحقّق متعلّق الذّات المقدّسة، كسائر الصفات الفعلية، كالخلق والرزق، فإنّ الأشياء كلّها مملوكة له عزّ وجلّ، وهو المحيط بها إحاطة تامّة، فقد يتعلّق علم بما إذا تحقق الفعل منه عزّ وجلّ، فلا يتعدّى حدود الفعل، ولذا لا يستلزم نسبة التغيّر إلى الذّات، فإنّ العلم

ص: 130

المستند إلى الملك يقتصر عليه، وتثبت العلم الفعلي، فافهم.

***

بحث عرفاني وفيه البحث عن التوحيد العملي.

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة هي من جملة الآيات الكثيرة التي تدلّ على الوحدانية والتفرّد بالخلق والتقدير، التي هي من أمّهات مقاصد السالك في طريق المعرفة، بل إنّ سيره وسلوكه لا يكون إلا بتحصيل التوحيد العملى، مضافاً إلى التوحيد النظري، لتستغرق جميع مشاعره، فيكون مظهراً من مظاهر ذلك المقام السامي فتنكشف فيه الصفات العليا. وهذه الآيات جمعت بين التوحيدين، فأصبح لها أهمّية خاصّة في نفوس المستغرقين في جمال الله تعالى فتهتزّ مشاعرهم حينما يسمع قوله تعالى: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، بعدما اعترف بالعبودية، وتعدّى عن منزل المملوكية له تعالى، كما ألهم سبحانه فخر الكائنات وسيِّد الموجودات، بأن يجعل نفسه عبداً لله تعالى سائراً تحت إرادته، وكفى بذلك فخراً، وكلّ من يصل إلى هذه الدرجة الرفيعة من المملوكيّة الاستغراقيّة التي هي مقصود كلّ عبد سالك، يكون مظهراً للرحمة الإلهيّة، وإنّه سيظهر سرّها الكبير في يوم عظيم، ذلك اليوم المجموع فيه الناس، حيث يبدو فيه كلّ شيء للعيان، فتظهر النفوس على ساحة رحمته الكبرى، وهناك يخسر المبطلون الذين خسروا أنفسهم، وفقدوا كلّ شيء بالنسبة إليهم، فلا نفس التي هي أساس كلّ كمال، ومنبع كلّ خلق، ولا عمل يُقربهم، ولا عقيدة تشدّهم بالله تعالى.

وهي تدلّ على أنّ الخواطر النفسية، والهموم القلبية التي تجول في نفوس السالكين لها التأثير في المقامات صعوداً أو نزولاً، والجميع حاضرة لديه، فيعلم خصوصياتها ودرجاتها وتأثيراتها، وهى منكشفة له عزّ وجلّ، فلابدّ من السكون تحت إرادته والمجاهدة في سبيله عزّ وجلّ، فإمّا أن تنجلي تلك الخواطر فيكون

ص: 131

القلب كالنهار بياضاً، أو تبقى فيه فيكون كالليل مظلماً، فلابدّ للعارف الالتفات إلى هذه الجهات، وإلغاء ما عنده من الحيثيات غير ابتغاء مرضاة مالكه والتسخير تحت إرادة وليه، ولذلك عظم اتّخاذ غير الله وليّاً، وهو فاطر السماوات والأرض، وقد أوجدهن من عدم وجعل فيهن نظاماً دقيقاً ينبثق عدمهن إذا تحقّق التجاوز منهن.

وقد ذكر عزّ وجلّ من الصفات ما يدلّ على شدّة احتياج السالك إليها، فهو يطعم لأنّه المستغني وغيره المحتاج إليه، ولابدّ للمطعم أن يستذوق ما يطعمه ويتشوّق إلى إدامته، فإنّه طعام الروح، وهو يستلزم معرفة المطعم والسكون تحت إرادته، ويستشعر تأثير الطعام الذي يطعمه، ليتمّ له الاستلذاذ به، فيكون بما اقتضاه أوّل المسلمين، وينبذ الشرك ويخرج عن زمرة المشركين، فإنّ في الشرك هلاك النفس، ولذا كان ظلماً عظيماً.

ثمّ إنّ المستفاد من تلك الآيات، أنّه ليس المطلوب من العبد المملوك مجرّد الإيمان، ما لم يستشعر ذلّ العبودية للمالك العظيم، ويتحقّق منه التسليم المطلق، ومن وصل إلى هذا المقام، لم يكتف بمجرّد الاعتقاد، فيكون الخروج والتعدّي عمّا رسمه المالك العظيم له عصياناً، وأقلّ تأثيره البعد الكبرياء والعظمة، والإعراض عن مخاطبته، فيا له من عذاب عظيم للساكين ومنه يعرف أن نيل ذلك المقام السامي هو الفوز المبين.

وإذا وصل العبد السالك إلى مقام التسليم المطلق، لابدّ أن يذعن اعتقاداً، ويعترف بالجوارح، بأنّه لا حول له في كل أُموره وجميع أحواله، ولا قوّة له في دفع أي مكروه وعائق يعقيه عن نيل الدرجات العالية، فإنّه لا كاشف لها إلّا هو، والله القادر على كل شيء، وقد سلب قدرة كل سالب مزعوم، وانحصر الضرّ به تعالى، فهو الواضع له ليصلح شأن العبد، فإنّ فيه تجلية للباطن، وإذابة العبد في ما

ص: 132

يريده الله تعالى، وتنمية ملكة الصبر الذي هو أساس كلّ كمال.

وأمّا الخير ففيه صقل النفس والتحلية بالكمالات بعد تخليتها عن الرذائل والعوائق، وهو تعالى منبع كلّ خير؛ فلابدّ من التماسه منه بالتضرّع والاستكانة لديه، والاعتراف بالعجز التامّ أمام قدرته التامّة، ولا يطلب لنفسه شيئاً سوى ما يريده الله تعالى له فهو المريد والسالك، ليس له إلّا أن يجعل نفسه متعلّق إرادته بالمجاهدة والصبر، والسير في سبيل مرضاته، لأنّه عزّ وجلّ القاهر فوق عباده، فالعبد لابدّ له من أن يستشعر بأنته مقهور، قد يزلّ قدمه ويقع في فراق البعد، وإنّ كلّ تلك الدرجات التي يتمنّى العبد الوصول إليها بالمجاهدة، ممّا يمنحها الله عزّ وجلّ مَن فيوضاته ووارداته لا ترد على قلوب السالكين حسب الحكمة المتعالية، وهو الخبير بدقائق الأُمور، وخفايا النفوس، ومراتب الاستحقاق.

***

ص: 133

سورة الأنعام الآية 19 - 24

إشارة

الآية 19 - 24

«قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أُخرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهُ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ ممّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثمّ لَمْ تَكُنْ فِتْتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24).

يدور مضمون الآيات الكريمة حول الوحدانية إلى احتجّت عليها الآيات السابقة، بأدلّة يعترف بها المشركون، الذين اتّخذوها لإثبات ما يعتقدون من الشرك، فاحتجّ بها سبحانه وتعالى لإثبات الوحدانيّة، ردّاً على مزاعمهم، وفي هذه الآيات الشهادة بالوحدانيّة التي لا يمكن دركها إلّا عن طريق الوحي، الذي إذا انضمّ إليه دليل العقل، كانت الحجّة أتم وأكمل، وفيها الإقرار بوجود الإله الواحد الأحد ممن اتّصف غاية الكمال، وبرئ عن كل نقصان حتّى الموهوم، ولتحصيل اليقين في موضوع له الأثر الكبير في سعادة الإنسان، ثمّ تذكّر الآيات

ص: 134

مظالم المشركين في أصول العقائد من التوحيد والنبوّة والمعاد، وقد بيّنت افتراءاتهم على الله تعالى، التي سيظهر آثارها على المفترين، لا سيّما في يوم الحشر الذي تكشف الحقائق فيه فلا يمكنهم إنكارها، والتبرّي ممّا اتّخذوه آلهة التي هي سبب شقائهم.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً».

تعظيم للشاهد والمشهود به وتعظيم لأمر هذه الشهادة، واعتناء بشأن نبيه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) باعتباره واسطة الفيض، فما أعظم هذه الشهادة التي عظم وكبر طرفاها، فقد أمر سبحانه رسوله الكريم أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، وكبرها إمّا لعظم المشهود به وهو التوحيد، أو لعدم طروّ النقص فيها أبداً، فهى أصدق الشهادات وأصحّها، وأعظمها أثراً، وإمّا لكون الشاهد هو الله تعالى الذى فطر السماوات والأرض ومبدعهما، وخلق الموجودات من العدم، وأحاط بها علماً، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة فى السماوات والأرض، فقد انتهى إليه الخلق والتقدير.

ما يتعلّق بمفهوم الشيء

والشيء بحسب مفهومه اللغوي يقع على كلّ ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه، كائناً ما كان - موجوداً أو معدوماً أو موهوماً - فيتناول الواجب والممكن والممتنع. ولكن اختلف العلماء في إطلاقاته. فقد قيل بالموجود لأنّ الشيء اسم الحقيقة الشيئيّة فلا يقع على المعدوم والمحال، وذلك لأنّ المحال لا علم به أصلاً إذ لا شيئيّة له، ولا هو ممّا يتمثّل في ذهن أو يتصوّر في وهم، وإنّما المعلوم المتصوّر المتمثّل في الذهن عنوان المفهوم من لفظه، وهذا من الممكنات وليس في إزائه حقيقة من الحقائق. وأمّا المعدوم فهو لا شيء ولا ذات ولا ماهية.

وذهب جمع آخرين إلى أنّ الشيء أعمّ العام كما أنّ الله تعالى أخصّ

ص: 135

الخاصّ - فيجري على الجوهر والعرض، والقديم والحادث، بل المعدوم والمحال. ولكنّه مخصوص بدليل العقل، فإنّ من الأشياء ما لا تتعلّق القدرة به. كالمستحيل الواجب وجوده لذاته.

وفصل ثالث بأنّ كلّ من قال بأنّ الوجود عين الماهية لابدّ أن يقول بأنّ المعدوم ليس بشيء، لانتفاء الماهية عند العدم، ومن قال بأنّ الوجود غيرها، فهم قد اختلفوا في ذلك، هذا وإنّ النزاع في المعدوم الممكن، وأمّا المعدوم الممتنع فإنّه ليس بشيء عند الفريقين.

ولا يخفى أنّ ما ذكروه في الشيئيّة بمعنى التحقق منفكاً عن صفة الوجود. لا ما أن يكون النزاع في إطلاق لفظ الشيء على مفهوم، فإنّه بحث لغوي فإنّ مرجعه النقل والسماع، ولذلك لا ينبغي أن يقع النزاع فيه بين المحقّقين لأنّه أمر لفظى ويكون البحث فيه من وظيفة أصحاب اللّغة

وكيف كان، فإنّ إطلاقه على الله تعالى صحيح، وقد دلّ عليه الكتاب ومنه آية المقام، والسنّة الشريفة، فهو تعالى شيء لا كالأشياء، ولا يصغى إلى ما قيل بعدم صحّة إطلاقه عليه سبحانه، باعتبار أنّ الشيء ليس من صفة الكمال التي يشترط في إطلاقها عليه عزّ وجلّ أن تكون فيه.

وأمّا الشهادة فهي بمعنى الحضور، فكأنّ الشاهد حاضر في الواقعة، ولذا يعتبر في الشهادة الإخبار عن علم ويقين حاصلين من العيان كالمشاهدة بالبصر أو بالبصيرة أي العقل والوجدان، وهي إمّا شهادة تحمّل، وهي تحصل من تحمّل الخبر عن عيان، كما عرفت أو شهادة أداء وهي تحصل بالإخبار والإنباء، ولا ريب في أنّهما تختلفان اختلافاً كبيراً تتأثّران بمؤثّرات كثيرة، منها اختلاف إدراك المتحملين، منها تفاوت وضوح الخير، ومنها اختلاف المؤدي من حيث البيان وسحر كلامه، ومن بعض الجهات الأُخرى الخارجيّة، وغير ذلك ممّا هو معلوم

ص: 136

ومفصّل في مقامه.

فكلّ شهادة اجتمعت فيها الشروط المطلوبة كانت أقرب إلى الواقع، هذا فى شهادة الممكنات، فما بالك إذا كانت الشهادة ممّن بلغ من الكمال ما لا يمكن دركه بالعقول؟ فلا يمكن تصوّر نقص في ذاته عزّ وجلّ، وحينذ لا ريب في أنّ الله سبحانه هو أكبر من كلّ شيء، فكانت شهادته تعالى أعظم وأصدق وأتمّ وأشمل شهادة، ولعلّه لأجل وضوح هذه الشهادة، لم يذكر الجواب صريحاً لكونه معلوماً لا ريب فيه، فلا تأثير في أخذ الإقرار منهم أو تثبيته بالاعتراف لهم، كما في نظائر المقام، مثل قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ»(1)، وقوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ»(2)، وغيرها ممّا هو كثير.

مع أنّه يمكن استفادة الجواب من سياق الكلام، كما سيأتي في البحث الأدبي.

وهذه الآية الكريمة لا تخرج عن مضمون الآيات السابقة التي تدور حول الوحدانيّة،والنبوّة التي طالما كان المشركون ينكرونها، ففى هذه الآية إشارة إلى وجه آخر من وجوه الإنكار، حيث إنّهم طلبوا الشهادة على نبوّة خاتم الأنبياء (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وقد كان الأُسلوب القرآني وحيداً في طرح السؤال، فأثبت عزّ وجلّ فيه الشاهد والمشهود عليه والمشهود به.

فتضمّنت الآية الكريمة الشهادة على رسالة نبيه الكريم، والشهادة على ما جاء به، ولقد اشتملت شهادة الله عزّ وجلّ برسالة رسوله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) صوراً مختلفة في كتابه المبين؛ فتارةً في إخباره تعالى بها، وأُخرى بتأييد رسوله بالآيات البيّنات

ص: 137


1- سورة الأنعام: الآية.12
2- سورة المؤمنون: الآية 85

الباهرات التي من أعظمها القرآن العظيم ولا تنفكّ آية من آياته عن الشهادة عليه، كما ستعرف.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»

قوله تعالى: «قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

بيان لكمال القرب، وأن شهادته لا تنفكّ عن المشهود به، فهو (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بوجوده الشريف شهادة له تعالى بالوحدانية والرسالة، وفي ذلك كمال اللطف ونهاية القُرب، وقد أمر عزّ وجلّ رسوله العظيم بتولّي الجواب بإخباره بشهادة الله عزّ وجلّ، فتكون شهادة منه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أيضاً بشهادته تعالى برسالته وما جاء به، فكان الأمر له بالإشهاد شهادة منه (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، فهذه الآية الكريمة تعتبر الأصل في مثل الشهادة، وكلّ ما ورد في القرآن الكريم ما يدلّ على شهادة الله عزّ وجلّ على رسالته إما صريحاً، كقوله: «وَلَكِنْ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ»(1).

أو تلميحاً كقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ»(2).

وفي تقييد شهادته تعالى بقوله «بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، إشارة إلى أنّ شهادته له لا تنفكّ عن شهادته عزّ وجلّ، كما عرفت، ولبيان أنّ توسطه عزّ وجلّ بین طرفین؛ أحدهما مدّعى للنبوّة، والآخر منكرٌ لها شهادة منه على رسالته ونبوّته، وما جاء به من القرآن الكريم الذي يرشد إليه ما يأتي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ»

قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ».

عطف على الجملة السابقة، فيكون من مقول القول الآنف، وفي تصدير الجملة بالفعل المبنيّ للمجهول لبيان أنّ القرآن هو الموضوع للدعوة والرسالة

ص: 138


1- سورة النساء: الآية 166.
2- سورة المنافقون: الآية.1

بالذّات، وهو ممّا يشهد على أنته أوحى إلى الرسول العظيم (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، فتكون من أعظم الشهادة، فإنّ فيها المشهود به والمشهود عليه والشاهد، فإنّ شهادته عزّ وجلّ إنّما تكون بشهادة الآيات الكريمة في القرآن فما أكبر هذه الشهادة وأعظمها!! حيث إنّ بها يظهر الحقّ بلا احتياج إلى شهادة غيره، والقرآن معجزة إلهيّة فيها الشهادة الكاملة على صدق مبلّغها، وحقيقة ما جاء فيها، ووحدانيّة منزله، ففيها الشهادة على الله تعالى وصفاته العليا، وصدق رسوله العظيم (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

ما يتعلّق بقوله تعالی «لِأُنذِرَكُمْ بهِ»

قوله تعالى: «لِأُنذِرَكُمْ بهِ»

ضمير الخطاب إمّا راجع إلى المشركين، أو قريش، أو للعرب عامّة، أو مَنْ عاصر الرسول الكريم، فيشمل المشافهين وغيرهم، وبانضمام المقابل الآخر «وَمَنْ بَلَغَ» تتمّ عموم دعوته (صلّی الله عليه وآله وسلّم) إلى كلّ من بلغه القرآن الكريم، ممّن عاصر صاحب الدعوة ومن تأخّر عنه، كان من المشافهين وغيرهم، كما ستعرف.

والإنذار غاية من غايات القرآن الكريم، وإنّما خصّ بالذكر دون البشارة التى هى غاية أُخرى، والقرآن مشتمل عليهما، كما في قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً»(1).

إمّا لأنّه المناسب للمقام، فإنّ الكلام مع المشركين والكفّار الذين دأبوا على الإنكار والعناد.

أو لأجل الاقتصار على أحد الفردين المعلومين على حدّ قوله تعالى: «سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ»(2).

أو أخذاً بمسلك الخوف في مثل هذه الدعوة العظيمة، فإنّه أوقع في نفوس

ص: 139


1- سورة الفتح: الآية 8.
2- سورة النحل: الآية.81

عامّة الناس، بخلاف مسلك البشارة والرجاء الذي هو الطرف الآخر له أيضاً، فإنّه لا يورث إلّا الشوق والرغبة، وتأثيرها أقلّ من تأثير الخوف الذي يؤيّده العقل الحاكم بدفع الضرر المحتمل. نعم لا يتماشى ذلك في النفوس الكاملة التي لا غاية لها إلّا الله تعالى والتقرّب لديه فيشتاقون الجنّة لأنتها دار قرب، ويتخوّفون النّار لأنّها دار بعد وسخط.

أو لأنّ الإنذار يبعث ما هو المخزون في الفطرة، والدفين في العقول، ممّا احتجب بسبب الشرك والمعاصي والآثام، وأوجبت قساوة القلوب وغلبة الشقوة، فاسحقّوا بذلك السخط الإلهىّ، فكان الإنذار في مثل هذه الحالة أقرب إلى الحكمة والحزم.

ولعلّه لأجل ذلك يظهر السرّ في قوله تعالى: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْم هَادٍ»(1) بعد حصر دعوته (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بالإنذار في آيات أُخرى، كقوله تعالى: «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ»(2)، وقوله تعالى: «إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»(3).

ما يستفاد من قوله تعالی «وَمَنْ بَلَغَ»

قوله تعالى: «وَمَنْ بَلَغَ».

مادّة (بلغ) تدلّ على الوصول مع البيئة، ومنه قوله تعالى: «هَذَا بَلَاغ لِلنَّاسِ»(4)، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانية وسبعين موضعاً في جميع مشتقّاتها، من غير اختصاص بعالم خاصّ، ففي العالم الربوبيّ، قال تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الحجّة الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمعيّن»(5).

ص: 140


1- سورة الرعد: الآية 7.
2- رة فاطر: الآية 23.
3- سورة العنكبوت الآية5.
4- سورة إبراهيم: الآية 52.
5- سورة الأنعام: الآية 149.

وفي النبوّات، قال: «وأُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي»(1).

وقوله تعالى: «الَّذِينَ يُبْلُغُونَ رَسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ»(2).

وفي الإنسان وشؤونه، قال تعالى: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً»(3).

ومن أحسن مراحل الإنسان مرحلة البلوغ التي يقع الفرد فيها مورد التكاليف الإلهيّة، ويخطو مسير الكمال، وغير ذلك الكمال، وغير ذلك من وجوه الاستعمال.

والمراد به في المقام هو الوصول مع البيّنة، حتّى يكون كالمشافهة، وإليه يشير ما ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله(صلّی الله عليه وآله وسلّم): «من بلغه القرآن فكأنّما شافهته».

والجملة عطف على ضمير المخاطبين فيشمل كلّ من وصل إليهم القرآن غير الموجودين في عصر النزول بمقتضى المقابلة في الآية الكريمة. واحتمال عطفها على ضمير الفاعل المستتر في «أُنذِرُكُمْ»، أي لأنذركم أنا بالقرآن ومن بلغه القرآن أيضاً، فتدلّ على اختصاص التبليغ بمن فهم القرآن كالرسول والإمام المنصوب من قبله صلوات الله عليهم، وتدلّ عليه بعض الروايات.

ويستفاد من الآية الشريفة أُمور:

صلى الله الأوّل: عموم رسالته ودعوته (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لجميع الأُمم المعاصرين له (صلّی الله عليه وآله وسلّم) ومن سيأتي إلى يوم القيامة، فتشمل عامّة الثقلين بمقتضى العموم والإطلاق.

الثاني كون رسالته (صلّی الله عليه وآله وسلّم) آخر الرسالات، لإطلاق «مَنْ بَلَغَ»، وتدلّ عليه آيات أُخرى.

الثالث: اشتمال القرآن لكلّ ما يحتاجه الإنسان، فإنّ الذي يبلغ الثقلين لابدّ

ص: 141


1- سورة الأعراف الآية 62
2- سورة الأحزاب الآية.39
3- سورة القصص: الآية 14

أن يكون وافياً لجميع المعارف والأحكام وما يكون له دخل في سلوك الفرد وسيره التكاملي.

الرابع: إنّ القرآن حجة على الناس فهم غير معذورين بترك ما ورد فيه من الأحكام والتكاليف بعد بلوغها إليهم، مهما جعلوا أنفسهم غير أهل الحجّة.

الخامس: إنّ فيها الإشارة إلى أنّه مؤاخذة قبل وصول الحجّة إلى المكلف. فتكون من الآيات التي تشير إلى القاعدة الأصولية المعروفة قبح العقاب بلا بيان.

السادس: إنّها تدلّ على أن الإنذار إنّما هو مشروط بالبلوغ والبيان والاهتداء إلى مقاصد القرآن ومضامينه، بلا مدخلية كونه بلسان المبلغين (بالفتح)، فهو حجّة على جميع الأمم والأقوام مهما كانت لغاتهم، وقد دخل في الإسلام من غير العرب في حياة الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وقبل إسلامهم، كما دعا أقوام أُخرى من غير العرب، كما هو المعلوم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أُخرى»

قوله تعالى: «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أُخرى».

بيان لإصرارهم على العناد واستكبارهم على الحقّ، حتّى أنهم يشهدون على الشرك، ويدّعون إلى التوحيد الذي يوفق فطرة العقول، ومضمونها من أهمّ مظاهر الشهادة بالباطل، ويظهر عظمة الشناعة والفساد فيها بعد بيان نقيضها وهي الشهادة الحقّة، فقد أنكروا الحقّ الصريح، ودأبوا على العناد واللجاج، ولذا اشتملت الآية الكريمة على التقريع العظيم والإنكار الشديد، وظهور أثر هذه الشهادة الباطلة على نفوسهم الضعيفة، وسيلقون جزاء ذلك.

وأسلوب الآية الكريمة الفصيح يدلّ على استبعاد وقوع هذه الشهادة التي تخالف الفطرة، بعد بيان الشهادة الحقّة، ولذا وقع الردّ عليهم من دون فصل حيث أمر عزّ وجلّ نبيّه بالمخالفة والشهادة بالنقيض والتبرّي ممّا شهدوا عليه، وإثبات

ص: 142

الشهادة الأولى بالوحدانيّة، ونفي الشريك عنه تعالى، فكأنّ النفوس تتنفّر عن هذه الشهادة، ولا تقبل ما شهدوا به بعد سماع شهادة الله تعالى ورسوله الكريم (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ لَا أَشْهَدُ»

قوله تعالى: «قُلْ لَا أَشْهَدُ»

بيان لأهمّية الشهادة الأولى بالوحدانية، وعظيم أمرها، فقد أمر سبحانه رسوله أن يخالفهم، وينفي عن نفسه مثل هذه الشهادة الباطلة، فهو لا يشهد بما يشهدون.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهُ وَاحِدٌ»

قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهُ وَاحِدٌ».

إقرار بالوحدانية، وفيه التأكيد لما أمر به آنفاً، وقد ترك لفظ الشهادة للاكتفاء بشهادة الله تعالى التي هي أكبر من كلّ شيء، وتبين أهمّية كلّ واحدة من الشهادتين في موردها بحكم التناقض بينهما، فمهما بلغت الشهادة بالوحدانية إلى الذروة من الكمال، فقد بلغت الشهادة بالشرك إلى الحضيض من النقض والفساد.

ومن هنا يتبيّن الوجه فى تكرار الأمر لبيان أنّ ما يقوله الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) نقيض ما شهدوا به، فالوحدانية حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا تقبل التبدل والتغيّر مهما حاول المشركون إخفائها وشهدوا على خلافها، ولما كانت الوحدانية هي المقصود بالذّات فقد ترك العطف بين الجملتين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِنَّنِي بَرىءٌ ممّا تُشْرِكُونَ»

قوله تعالى: «وَإِنَّنِي بَرىءٌ ممّا تُشْرِكُونَ».

نفي لما شهدوا به، وفيه التأكيد على الوحدانية، فقد استوفت الآية الكريمة جميع ما هو المطلوب فى هذه الشهادة العظيمة، التي تصحّح العقيدة، ويبتني عليها أمر الدُّنيا والآخرة، ويظهر أثرها في ما سواه عزّ وجلّ، ويستفاد من الآية الكريمة أنّه لابدّ فى هذه الشهادة، لابدّ من أخذ الاعتراف بالوحدانية، والإقرار بها

ص: 143

والتبرّؤ من الشرك، فهي نفي وإثبات، حتّى تستوعب جميع مشاعر الإنسان وأحاسيسه وأفعاله. وفي الآية البرهان على الوحدانية وصحة الشهادة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ»

قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ».

ردّ على طائفة أُخرى تشابهت مع الطائفة الأولى في الكفر والإنكار، فقد أنكرت الأولى التوحيد واتّخذوا الآلهة، والثانية نبوّة رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وفيه الإخبار عن ما شهد به عزّ وجلّ في الكتب السابقة المنزلة ممّا علمه علماء أهل الكتاب ولكنّهم أخفوا ما عرفوه، وحرّفوا ما أنزله الله تعالى، فاقترنت الشهادة بالوحدانية بالشهادة بالرسالة إعلاناً بشأن الرسول العظيم، وإعلاماً بأنّ الإيمان إنما يكون باعتقادهما معاً، وإتماماً للحجة على الناس، فتمّت دعوته له وأقيمت أسس الإسلام ودعائم الإيمان.

والضمير في «آتَيْنَاهُمْ» يرجع إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وإنّما عبّر بالإيتاء إشعاراً بما أسند إليهم من المعرفة، كما أنّ المراد من الكتاب جنسه ليشمل التوراة والإنجيل، كما أخبر عزّ وجلّ في آية أُخرى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ»(1)

كما أنّ المقصود ممّن آتاهم الكتاب، علماؤهم الذين عرفهم الله تعالى لرسوله، وهم الذين حرّفوا التوراة والإنجيل، وأخفوا كثيراً ممّا ورد فيهما، فلم يصلا إلى جميع اليهود والنصارى بما أنزلهما الله عزّ وجلّ، كما حكى عنهم في قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»(2).

وقد صوّرت الآية الكريمة النبيّ المرسل في غاية الوضوح، يعرفونه كما

ص: 144


1- سورة الأعراف الآية 157
2- سورة الشعراء: الآية.197

يعرفون أبناءهم من دون شُبهةٍ والتباس، فقد ذكر سبحانه اسمه ونعوته، وصفات أصحابه، كما قال عزّ وجلّ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ»(1)

من ذلك يعلم أنّ المراد بالمعرفة الحسّية منها دون غيرها، كما زعم بعض المفسّرين، فقد كان الوصف والإعلام واضحاً ظاهراً بما لا يعتريه الشكّ، كما يعرف من تنظيرها بمعرفة الأنباء، فلما بعثه الله تعالى عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»(2) إِلَّا ما كتمه بعض علمائهم من البشارات والنعوت والصفات فاستكبروا وكفروا ولم يؤمنوا بما أنزل الله تعالى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ»

قوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ».

بيان لمن ذكرهم ابتداءً، وهم الذين آتاهم عزّ وجلّ الكتاب. ويمكن أن يكون جملة مستأنفة ليشملهم ومن كفر وأعرض عن الإيمان.

وخسران النفس هو خسران مصدر كلّ كمال، وفقد منبع كلّ خير، فيكون سبباً لكلّ فساد، والعلة للعناد واللجاج والاستكبار على الحقّ، فيكون الخسران من أعظم آفات النفس التي توجب البُعد عن رحمة الله تعالى، والابتعاد عن كسب يوجب الكمال، والاتّجاه إلى رذائل الأخلاق، فيكون من أكبر الظلم الذي يظلمه على النفس، فقد حَرّم الذين خسروا أنفسهم خير الدُّنيا ونعيم الآخرة، وقد تقدّم بعض الكلام في الآيات السابقة من هذه السورة، فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»

قوله تعالى: «فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»

ص: 145


1- سورة الفتح: الآية.29
2- سورة البقرة: الآية 89

ترتّب هذا على سابقه من ترتب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ من خسر نفسه، أضاع ما يكتسب به الإيمان، فلا يؤمن بما يجب عليه الإيمان.

ولا ريب أنّ خسران النفس يوجب إيثار الباطل وما يقارنه من رذائل الأخلاق على الحقّ ومكارمها، ولذلك يكون الإعراض عن الإيمان من سجيّة الذين خسروا أنفسهم، وكتمان الحقّ وتحريف ما أنزله الله عزّ وجلّ وإنكار ما عرفوه من عادتهم، وسبق بعض الكلام في نظير هذه الآية في سورة البقرة الآية 146، فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً»

قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً»

بيان لأهمّ مظهر من مظاهر خسران النفس، وهو الظلم الذي يعدّ من أعظم الذنوب الذي يمارسه من خسر نفسه. والظلم أساس كلّ إثم وذنب، وهو المقياس في شناعة الذنوب، ودرجات فظاعتها، فيكون الظلم من أشنعها وأفظعها، بل هو أعلى منازلها، فشناعة كلّ ذنب ترجع إلى ما يتحمّله من الظلم، كما تدلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(1) فيكون للظلم مراتب كثيرة، تختلف باختلاف خصوصيّات الذنب ومرتكبه وزمانه ومكانه، ومن وقع عليه الظلم، فكلّما حلّ موقعه وعظم شأنه يكون الظلم أكبر وأفظع، وهو مقابل العدل اللذين هما من المبيّنات، يعرفها الطبع المستقيم، فكلّما قيل في تعريفهما يرجع إلى ذلك، والمعروف في الظلم أنّه الانحراف عن الوسط، والابتعاد عن العدل.

ولأجل ذلك حكم العقل بأنّ الظلم بالنسبة لساحة قدسه تعالى الذي عزت قدرته، وجلّت منزلته، و لطفت أسماؤه، وتسامت ذاته، تحيّر من تفكر في شأن من شؤونه، وجلّ أن تصل إليه الأوهام، فهو الخير المحض، ومحض العدل، تنزّه عن

ص: 146


1- سورة لقمان: الآية 83

كلّ نقص - يكون من أكبر الظلم وأعظم، فلا أظلم ممّن ظلم ساحة كبريائه، بل لا يكون إلّا ظالماً نفسه، فما ورد في هذه الآية الكريمة تقرير للحكم العقلي، فكان الكذب عليه فرية، لتضمّنه البهتان والزور ووضوح بطلانه، فكان نسبته إلى ساحة قدسه عظيماً.

ويستفاد من هذا الأُسلوب القرآني، والاستعظام والإنكار، وبيان لا أظلم أكبر ولا أعظم منه، فلا أحد أظلم ممّن فعل ذلك، فلابدّ أن يكون هذا الافتراء مقصوداً به هذا النوع من الظلم من غير إذن منه عزّ وجلّ.

كما أنّه لابدّ أن يكون لمثل هذا الافتراء على الله سبحانه الأثر الكبير في عقيدة الإنسان وسلوك العباد، حتّى عُدّ من أفحش الظلم وأعظمه، ومن أهمّ مصاديق إثبات الشريك له سبحانه، أو دعوى النبوّة، أو تأسيس شريعة مبتدعة، أو إسناد حكم إليه تعالى كذباً، أو اختراع عقيدة تخالف الواقع، أو اتّخاذ طريقة لا حقيقة فيها، ويبعّد صاحبها عنه عزّ وجلّ وينسبها إليه.

ومن ذلك يعلم أنّ وجه الخطاب مع المشركين الذين اتّخذوا الشركاء، و عبدوا الأوثان، وجعلوها من الشفعاء لديه عزّ وجلّ، وأثبتوا لها الولاية في تدبير شؤون العالم، والتصرّف في التكوين استقلالاً، فإنّهم ممن أظلم وصدر عنه ظلم فظيع وشنيع وكبير، وأسلوب التفضيل في الآية الكريمة، يدلّ على منتهى العظمة وغاية الكبر، بحيث يظلّ الذهن حيران في تصوير مثل هذا الظلم، فلا ظلم أعظم منه. فما قيل في توجيه التفضيل إن رجع إلى ما ذكرناه وإلّا فهو تطويل بلا طائل.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه ليس كلّ اتّخاذ شفيع يكون داخلاً تحت هذه الآية الكريمة، كما يدّعيه بعض من لا معرفة له، فالحقّ بالشرك من استشفع بالنبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) أو الطاهرين من ذريّته، أو الأولياء والكرام من أُمّته، في أمر من أموره الدنيويّة أو الأخرويّة، فحكم بشمول هذه الآية ونظائرها له.

ص: 147

وقد عرفت أنّ لسان الآية يأبى عن شمول مثل هذه الشفاعة، والتوسّل الذي يتنفّر المتوسّل بهم أن ينسب الشرك إليه، لا سيّما بعد أن أذن الله تعالى لصاحب الشفاعة بها من غير اختصاص له بزمان معيّن، أو أمر خاص، فيشمل جميع الأزمنة وكلّ الأمور، كقوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(1)وتقدّم تفصيل الكلام في الشفاعة في سورة البقرة. فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ»

قوله تعالى: «أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ».

هي الأُمور التي تنسب إلى ساحة قدسه بوجه من الوجوه، فتشمل الآي- الآيات البينات الدالّة على الحقّ ومعالمه التي تثبت التوحيد والرسالة، أو شريعة من شرائع الله سبحانه، ومن أعظمها القرآن والمعجزات البيئات، والآية الكونية، فيكون تكذيبها، إنّما هو في تكذيب النبى الصادق، أو إنكار الدين الحقّ.

وقد بين عزّ وجلّ في آيات أُخرى أنواع تكذيبهم، ومنها ما ذكره عزّ وجلّ آنفاً من تحريف الكتب الإلهيّة، وتغيير نعوت الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) الذي عرفوه كما عرفوا أبنائهم.

ولا ريب أنّ الافتراء على الله وحده من أعظم الظلم، فهو يكفي في صدق اسم التفضيل عليه، فكيف بما إذا اجتمع مع التكذيب بآيات الله تعالى، فقد بلغوا غاية الإفراط في الظلم، ولعلّه لأجل ذلك وردت كلمة (أو)، فإنّ كلّ واحد منهما ظلم عظيم، وإن كانوا قد جمعوا بينهما، فلا أظلم ممّن ظلم هذه الساحة المنزهة، أو ينسب إليها بوجه فهو من أعظم الظلم على النفس.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

ص: 148


1- سورة البقرة: الآية 255

تفسير قوله «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»

تعظيم لمآل أمرهم الخطير، فهم لا يظفرون بمطالبهم في الدُّنيا والآخرة، فقد اقترنوا مع الحرمان والخذلان، وذكر الوصف - الظلم - لبيان إنّه السبب في عدم الوصول إلى البغية والمطلوب، وعدم الفوز بالنجاح والفلاح، فالظلم لا يهدي الظالم إلّا إلى الخذلان والخسران.

أو لبيان أنّ الفلاح لا يصبه الظالم، فكيف يفلح الأظلم الذي لا أحد أظلم منه. وقد ورد مثل هذا التعبير في موارد أُخرى كالمجرم قال تعالى: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(1).

وفي الساحر: «وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ»(2).

وفي الكافر: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ»(3).

وفي الكاذب المفتري: «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ»(4).

ويستفاد من ذلك أنّ المعاصي والذنوب ممّا يوجب الخروج عن الطريقة التي رسمها الله تعالى للإنسان في سيره وسلوكه المادّي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، فلا يصل إلى المطلوب، وينحرف عن المقصود، كما أنّ الطاعة الله تعالى، واكتساب المكارم والفضائل يستلزم الفلاح وفوز البغية، ونيل الظفر والنجاج، قال تعالى في المؤمن بالغيب: «أُوْلَئِكَ عَلَى هُدى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»(5).

والطاعة: «أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأَوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»(6)

ص: 149


1- سورة يونس الآية.17
2- سورة يونس الآية.77
3- سورة المؤمنون: الآية 117.
4- سورة النحل: الآية.116
5- سورة البقرة: الآية 5.
6- سورة النور: الآية 51

وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة: «أُوْلَئِكَ عَلَى هُدى مِنْ رَبِّهِمْ وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2).

والاتّقاء من بعض الصفات السيّئة كالشح ونحوه، قال تعالى: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»(3).

والجامع هو ثقل الميزان بالأعمّال الصالحة، قال تعالى: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»(4).

وقد عرفت سابقاً أنّهم اختلفوا في معنى الفلاح، فقيل: إنّه الشق والنجاح، والظفر، والسعادة، والظاهر أنّ النزاع صغروي، فإنّه بمعنى الفوز وإدراك البغية التي تختلف باختلاف الخصوصيّات.

وكيف كان، فإنّ الآية الكريمة تشير إلى حقيقة من الحقائق الواقعية، التي لها المصاديق الخارجية في جميع العوالم، ولها مظاهر مختلفة في الدُّنيا والآخرة. وهي تميّز بين الفلاح الحقيقى والوهمي الخيالي، فتثبت فلاحاً واقعياً خارجياً، سواء كان مادّياً أو معنوياً، وهو البغية التي يسعى إليها كلّ ذي شعور وإرادة في كفاحه، وهو المقصود الواقعي الخارجي الذي يريد الوصول إليه في سعيه، إذ لكلّ سعي وكفاح غاية مقصودة وسعادة مطلوبة، ولكن لا يمكن الوصول إليها إلّا عن الطرق المتعارفة، التي هي مجموعة من الأسباب والآلات والأدوات التي خلقها

ص: 150


1- سورة لقمان: الآية 5.
2- سورة آل عمران الآية 104.
3- سورة الحشر: الآية.9
4- سورة الأعراف الآية8.

الله تعالى، وجعلها تحت اختيار الإنسان، كما قال تعالى: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).

وقد اقتضت هذه العناية الإلهيّة أن يكون ما في الخارج مطابقاً لما علمه، فلابدّ أن يكون الواقع الخارجي تطبيقاً لما حصله من العلم به، فلو انحرف العمل عن ذلك، وأراد التوصل إليه من غير سببه استلزم بطلان ذلك العمل، والمداومة على ذلك ربما يؤدّي إلى بطلان الذّات.

والأسباب والأدوات بالنسبة إلى الإنسان كثيرة، فلكلّ حاسّة من حواسه أدوات للوصول إلى البغية التي يريدها من تلك الحاسّة، وكذلك بالنسبة إلى جميع رغباته وشهواته المادّية وأعمّاله فلابدّ من تطبيق تلك على ما حصله من العلم في الخارج. وإذا أردنا ضرب الأمثلة لطال البحث.

أمّا بالنسبة إلى عقائده وآرائه فإنّها تشكّلت من النظام الكياني الخارجي الذي هو الأصل لها، ويجب عليه تطبيق عمله عليه، وهذه هي سبيل السعادة، ولا يمكن نيلها إلّا بسلوك هذه الطرق، وإلّا انقلب الأمر عليه، وانقلبت السعادة إلى الشقاء، ولو اكتسب سعادة لكانت وقتيّة، فلم تدم طويلاً حتّى يتبيّن أنّه خارج عن الطريق المألوف، فيبطل ما استحصله من السعادة المزيّقة، ويصل إلى جزاء عمله في الدُّنيا والآخرة، وقد أشارت الآيات الكثيرة إلى ذلك، كقوله تعالى: «وأَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(2).

ومن هنا يعلم الضرر الكبير الذي يحدثه الظلم الذي هو الانحراف عن

ص: 151


1- سورة البقرة: الآية.29
2- سورة البقرة: الآية 85

الوسط، كما عرفت، فالآية الكريمة تشتمل على حقيقة واقعية لا يمكن معها تغافل الآثار المترتبة على الإعراض في الدُّنيا والآخرة، وليس الشقاء الذي عليه الإنسان، إلّا نتيجة الإعراض عن تلك الحقائق الواقعيّة، التي وردت في هذا الكتاب العزيز، والنكوص عن الطاعة، والانغماس في الذنوب، وارتكاب الظلم ممّا سلبت أفراد الإنسان الفوز بالنجاح والفلاح، وأضاعت عليه السعادة إلّا المزيّف منها فيظفر بالمطلوب الموهوم، وعندما يحصل له طيب النفس به سرعان ما يفسد النظام الكياني في حياته، ويُنغض عليه عيشه، ويُصيبه الخزي في الدُّنيا كما يصل إلى جزاء عمله في الآخرة، بما فعله من الظلم الذي لا يكون إلّا ظلماً على نفسه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً»

قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً».

ترهيب عظيم، وتهويل لما يفعل بالظالمين يوم الحشر الأكبر، وهو بيان للآية السابقة، والناصب ليوم إمّا فعل محذوف تقديره (اذكر)، على أنّه مفعول به، أو محذوف متأخّر تقديره ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف.

والضمير في نحشرهم عام في الظالمين كلهم. وذكر جَمِيعاً للتأكيد، ولبيان أنّهم لا يخرجون عن علمه وقدرته، فهو تعالى محيط بهم علماً وقدرة، فقد أحصاهم وعدّهم عداً، فلا يغادر منهم أحداً. أو لترتيب المهابة، وتثبيت قدرته العامة، وخضوع الجميع له.

والمعنى: أنّ الظالمين الذين لم يفلحوا فى عقائدهم وأفعالهم وحياتهم يحشرهم الله في يوم رهيب عظيم، وقد بيّن عزّ وجلّ في سورة الأعراف بعض ما يصيبهم، قال تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أَوْلَئِكَ

ص: 152

يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حتّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ»(1).

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ»

قوله تعالى: «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

محاورة فيها إفضاح حالهم وتقريعهم، لفقدهم شركائهم الذين اتّخذوهم آلهة، فيكون السؤال توبيخاً لهم، فقد حِيل بينهم وبينها، وهم في أمس الحاجة إليها، وقد علّقوا الرجاء عليها.

والسؤال إنّما هو لإفضاح حالهم لا للإفصاح، وهو لغير الحاضر، لما قيل من أنّ (أين) تدلّ على ذلك، ولكن يمكن أن يكون أعمّ من عدم المشاهدة أو تحققها مع عدم الوصول إليهم، أو لما لم ينفعهم، فكأنّهم غُيّب، لظاهر بعض الآيات، قال تعالى: «واحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ»(2). فالسؤال بعد المشاهدة والحيلولة ليشاهدوا خيبتهم وخسرانهم، فإنّهم لو أفلحوا في اتخاذهم الشركاء الله تعالى لما حيل بينهم وما ضلّ عنهم شركاؤهم.

وظاهر الآية الكريمة أنّ المراد من الشرك هو الشرك في الولاية، والإضافة في (شركاؤكم) لأدنى ملابسة، ولو كان بحسب الزعم الذي هو القول الأميل إلى الباطل والكذب.

فالآية الكريمة تبين خسرانهم في الآخرة، فتكون من أظهر مصاديق الآية السابقة التي دلّت على أنّ الظالمين لا يفلحون.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْتُهُمْ»

قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْتُهُمْ».

الفتنة الإختبار من الفتن وهو إدخال الذّهب في النّار ليعلم جودته من رداءته، كذا ذكره الراغب، وقد ذكروا له معان أُخرى كالعذاب، والبلية، أو

ص: 153


1- سورة الأعراف: الآية 37
2- سورة الصافات: الآية.22

المصيبة، والكفر، والإثم، والمعذرة، والحبّ والإعجاب، كما تقول: فتنت بزيد. ولكن الجميع أقرب إلى الدواعي من كونها معاني له.

واختلف المفسِّرون في المراد هنا:

فقيل: الحبّ أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها.

وقيل: الجواب، أي لم يكن جوابهم إلّا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين.

وقيل: أنّه على تقدير،مضاف أي لم يكن عاقبة افتتانهم بالشركاء، إلا أن قالوا كذا وكذا.

وقيل: الشرك.

والظاهر أنّ الفتنة التي وقعوا فيها وابتلوا بها في ذلك الموقف العظيم الذي رأو الحقائق، وارتفعت الدواعي، وبطلت الدعاوي، هي نفس المعذرة التي تعذروا بها وربما يكون سببها أحد الوجوه التي ذكرها المفسِّرون ممّا تقدّم نقله آنفاً، فهم يتعذرون بكلّ ما يتوهّمون للتخلّص من العذاب الذي لزمهم من سوء اعتقادهم بالشركاء، وعظيم الأمل بها، وإعجابهم بكفرهم و افتخار هم به.

ما يتعلّق بقوله تعالی: «إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»

قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»

تبرّؤ منه من الشرك الذي له أسباب كثيرة؛ فإمّا أن يكون علمهم بعدم الانتفاع بهم بعد انقطاع الأسباب وعدم قدرة الشركاء على تخليصهم من العذاب والشفاعة لهم.

وإنّما أن يكون السبب هو فقدانهم للشركاء فيضلّونهم، فينكرون شركهم ويقسمون على ذلك بالله كذباً.

وإمّا أنّهم لمّا رأوا تنعم المؤمنين وفلاحهم، والظفر بالغيبة والوصول إلى ما

ص: 154

وعدهم الله تعالى من الرحمة والرضوان، فانتفعوا من الشركاء.

وإمّا أن يكون قد صدر منهم هذا الكذب والحلف عليه، لفرط الحسرة، وشدّة الحيرة والدهشة، فقد يصدر في هذه الأحوال ما هو الكامن في النفس، فانتفى الاعتقاد بالشركاء، فقد ظهرت الحقيقة، وتبيّن الواقع، فلا محيص عن العذاب، وقد عقدوا الآمال على الشركاء، واعتقدوا الولاية لها لينتفعوا بشفاعتها، وهي ليست بقادرة عليها، فأيّة حيرة تصيبهم تذهل بها عقولهم، وتستولي الحسرة على نفوسهم؟!!.

والآية تشير إلى حقيقة واقعية وهي أنّ حقيقة افتتانهم بشركهم في الدُّنيا، تظهر في يوم القيامة حين يرون الحقائق فيتبدّل الحبّ إلى التبرّي، والانتفاء من الشرك.

ومن ذلك يظهر الوجه في الحلف عن دعواهم، لما عاينوا هول ذلك اليوم و تجلّي الجبّار لهم، ولطفه بالمؤمنين، فتاهوا وتحيّروا فكذبوا وحلفوا في كلامهم.

والإشكال: بأنّه كيف يتحقّق الإنكار مع المشاهدة.

غیر سدید؛ باعتبار أنّ المشاهدة مع عدم إمكان الانتفاع من الشركاء، بمنزلة العدم، أو لاختلاف المواقف في ذلك اليوم الرهيب، فإنّه ربما يتحقّق الإنكار للشرك في بعضها، وفي بعض يثبت الشرك، كقوله تعالى حكاية عنهم: «هَؤُلَاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِك»(1).

ما يتعلّق بقوله تعالی: «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ»

قوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ»

بيان لبعض أحوال المشركين يوم القيامة، فإنّهم لم يفلحوا في ما اعتقدوه من الشرك، وبلغ بهم اليأس والخسران في الآخرة، أن كذَّبوا على أنفسهم حينما

ص: 155


1- سورة النحل: الآية.87

أنكروا وأقسموا بالله أنّهم ما كانوا مشركين بعد الإصرار الشديد على الكفر في دار الدُّنيا، والإعراض المتكرّر منهم عن كلّ حجّة وبرهان استكباراً وعتواً، وهذا من أشدّ الخيانة على النفس، فإنّهم لو أفلحوا لما وصل بهم الأمر إلى ذلك. والخطاب لحبيبه المصطفى باعتباره واسطة الفيض، وأنّه الشاهد على هذه الأُمّة، وأُسلوب الآية الكريمة البليغ فيه إبراز الوقائع المتحقّقة في المستقبل بمنزلة الحاضر المتمثل في الذهن، ويأمر رسوله بالنظر إليها كأنّها ماثلة أمام عينيه، وهذا من أفصح الكلام وأبلغه

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»

قوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

إمّا عطف على كذبوا، فيدخل في حيّز أنظر. أو جملة مستأنفة. والضلال إما البطلان أو المفارقة، أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله، فلن تُغن عنهم شيئاً.

و (ما) إمّا مصدرية، ومعناه ضلَّ افترائهم، أو موصولة بمعنى فارقهم، وغاب عنهم الذي كانوا يفترون إلهيّنه وشفاعته.

والآية الكريمة تبيِّن حقيقة شركائهم يوم القيامة، كما بيّنت السابقة افتتانهم بهم، فإنّ كلّ ما كانوا يفترون من الصفات لآلهتهم كالولاية،والشفاعة، يظهر بطلانها، وأنّها لا واقع لها، فينكشف أنّها فاقدة لجميع ما توهموه، وليست هي إلّا سراباً وخيالاً، فلم تكن عاقبة أمرهم إلّا خساراً.

وذلك لأنّ يوم القيامة يوم انكشاف الحقائق، وتجلّى الله تعالى بأعظم صفاته وأسمائه، وتظهر بالعيان، فيكون الأمر كلّه لله سبحانه، ويتّصف ما سواه بالذلّ والعبوديّة، والفقر والحاجة، فالأشياء كلّها تظهر ظهوراً عياناً، وتتجلّى انجلاء تامّاً، وهذه حقيقة واقعية يؤكّدها القرآن الكريم في آيات كثيرة، تنبّه الإنسان إليها، ليكون على ذكر فلا يغفل عن المصير، فالجميع بارزون لله تعالى،

ص: 156

قال عزّ وجلّ: «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ»(1). وتنقطع الأسباب بينهم، قال تعالى: «يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسِ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ»(2).

ويكون الشركاء والآلهة أمثال المشركين ومن يعبدونها في العجز والفقر، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»(3)، فهى عاجزة عن تلبية طلبات المشركين، بل هي تنكر، دعواهم، قال تعالى: «ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ»(4).

وتتجلّى حقيقة الأُلوهية، فيشاهدون عياناً أنها الله وحده لا شريك له. وانحصار صفاتها فيه واختصاصها به عزّ وجلّ، قال تعالى: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ»(5)، وفي ذلك اليوم يتبيَّن حقيقة الله الواحد الأحد والشركاء، فتتمّ الحجّة، ويزول كلّ تشكيك، وتبطل الآمال، قال تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ تَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الحقّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(6).

ص: 157


1- سورة المؤمن الآية 16
2- سورة الانفطار الآية.19
3- سورة الأعراف الآية 194.
4- سورة فاطر: الآية 14
5- سورة البقرة: الآية 165
6- سورة يونس: الآية 30

ومن ذلك يتبيَّن أنّ المراد من الضلال في الآية الكريمة البطلان الأعمّ من ظهور الشركاء الفاقدة لجميع الصفات التي اعتقدها المشركون فيهم، كما حكى تعالى عنهم: «وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(1). وغيرها من الآيات ممّا تقدّم، وفقدان الشركاء وعدم الوصول إليهم كما حكى عزّ وجلّ في الآيات السابقة.

ثمّ إنّه بقدر بطلان معتقدات المشركين، وظهور الملكات السيّئة في نفوسهم، وعجز الشركاء وفسادها، يكون انكشاف الحقّ في العقائد الحقّة والملكات والأعمّال الحسنة، وتتجلّى حقيقة الأُلوهية وصفاتها الحقيقة، فهو الله الواحد الأحد، المتّصف بجميع الصفات الكمالية، والمنزّه عن كلّ نقص، المالك الزمام عباده في ذلك اليوم المشهود، كما قال تعالى: «لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(2). فلابدّ أن يكون نسبة الكذب والافتراء إلى المشركين في يوم الحقائق يرجع إلى أحد وجوه

الأوّل: أن يكون المراد ظهور ملكات المشركين السيّئة، التي رسخت في نفوسهم، فقد اعتادوا الكذب في الدُّنيا، وأنكروا الحقّ وكذبوه، وأصرّوا على ذلك، ومارسوا الإفتراء، واقترفوا السيئات، فصارت ملكات سيئة ترسخت في نفوسهم فهي تظهر على ألسنتهم في ذلك اليوم، ويفترون، وتنكر الشركاء ذلك منهم كما يشهد الشهود على خلاف ما قالوه، كما حكى عزّ وجلّ: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ»(3).

ص: 158


1- سورة النحل: الآية 87
2- سورة المؤمن: الآية 16.
3- سورة فصلت الآية.21

الثاني: أن يكون قد صدر منهم الكذب لفرط الدهشة والحسرة، واستيلاء اليأس على نفوسهم، فلم يستطيعوا الجواب، فيكون صدور الكذب منهم والحلف في كلامهم، كاشفاً عن كونهم حيارى مدهوشين.

الثالث: أن يكون قد نبذوا الشرك حقيقة حين ما لم ينفعهم إيمانهم، كإيمان فرعون لمّا رأى الآيات، ولكن ذلك لا ينفعهم ويعتبر كذباً، وعليه يكون إطلاق الكذب مجازاً.

الرابع: أن يكون الكذب صادراً عنهم عن علم وعمد إصراراً منهم على الحقّ، كما في الدُّنيا، فقد كان اللجاج دأبهم وديدنهم، وصار العناد سجيتهم، وإن كشف العيان لهم، فيظهر ما استقرت عليه أسرارهم.

وبذلك يمكن الجواب عن الإشكال الذي ذكره بعض من منع جواز الكذب على أهل القيامة لعدم تصوّره منهم؛ لأن المشهود خلافه عياناً.

***

ص: 159

بحوث المقام

بحث أدبى ما يتعلّق باعراب الآيات الكريمة

بحث أدبي:

(أي) في قوله تعالى: «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً» مبتدأ وخبره (أكبر)، وشهادة منصوب على التمييز، كما أنّ جملة «قُلْ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» مستأنفة تشتمل على مبتدأ وخبر.

وقيل: اسم الجلالة مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما تقدّم عليه، ويجوز العكس. وذهب بعض النحاة أنته إذا كانت النكرة اسم استفهام أو فعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة.

و(من) في قوله تعالى: «وَمَنْ بَلَغَ» في موضع نصب عطفاً على مفعول «لأُنذِرَكُمْ»، والعائد عليه ضمير منصوب، وفاعل «بلغ» يعود على القرآن، أي ومن بلغه القرآن.

ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في «لِأُنذِرَكُمْ». وإنّما جاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول، وبالجار والمجرور، أي ولأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به، ومن بلغه القرآن أيضاً، وبه رواية، كما سيأتي.

وقوله تعالى: «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ» أُخرى جملة مستأنفة، والاستفهام للتقريع والإنكار، وقرئ «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أُخرى» بصورة الإيجاب، فيكون خبراً محضاً قد حقق عليهم شركهم.

و(أُخرى) فى قوله تعالى «آلِهَةٌ أُخرى» صفة لآلهة، وصفة جمع ما لا يعقل

ص: 160

كصفة الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى: «وَلِىَ فِيهَا مَارِبُ أُخرى»(1).

و(الذين) في قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ» مبتدأ وخبره «يعرفونه»، والموصول يعمّ اليهود والنصارى، كما أنّ في «يعرفونه» التفات، أي يعرفون النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

وقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابتداء وخبر، أي لا أحد أظلم.

و(يوم) في قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ» منصوب، إما إنه مفعول لأذكر محذوفة، أو المحذوف متأخر تقدیره (ويوم نحشرهم كان كذا...) فترك ليبقى الإيهام.

والعطف ب- ( ثم) في قوله تعالى: «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ»، الدالّ على التراخي، إمّا لأجل التراخى الحاصل بين مواقف يوم القيامة، أو لأجل الإستهانة بهم لتنزل رتبتهم عن المؤمنين.

وفي قوله تعالى: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» وجوه من الإعراب والقراءة. وقرئ (ربنا) بالكسر صفة، وبالنصب على النداء والمدح.

ثمّ إنه قد تكرّر «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً» في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، أحدها المقام، وفى قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ»(2).

وقوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ»(3).

وقوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ

ص: 161


1- سورة طه الآية.18
2- سورة الأنعام: الآية 93
3- سورة الأعراف الآية 37

الْمُجْرِمُونَ»(1).

وقوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحقّ لَمَّا جَاءَهُ»(2).

وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(3).

وفي هذه الآيات وجوه من الأسئلة أهمّها: وجه ورودها بهذا النصّ، وتعقيب كلّ واحد منها بما اتصل بها. وتعريف الكذب في بعضها، وتنكيره في غيره. والفرق بين آية المقام وآية سورة يونس المتماثلتان، إلّا أنّه فى الأخيرة «إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ»، وفي آية الأنعام: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

ويمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ كلّ واحد من هذه الآيات التي ورد فيها هذا النصّ، قد سبقتها الدعوة إلى الحقّ بعد بيانه، فحصل منهم التعامى والاستكبار عليه والتكذيب والافتراء على الله تعالى إمّا بالشرك واتخاذ الآلهة، أو دعاء الوحي، أو إنكار ما علموا صدقه، وطلب تبديل ما أنزله الله تعالى، فإنه قد اجتمع في تلك الموارد بين الإنكار مع العلم والشرك والتكذيب، فناسب تلك أن يكون الخطاب على طريقة التعجب من مرتكبيه، وسوء حالهم، فقد جمعوا بين الافتراء والتكذيب والشرك مع وضوح الشواهد، وكثرة الدلائل، وعلمهم بالحقّ واستكبارهم عليه، وتمردهم على الله تعالى ورسله، فحقّ أن يوصف مرتكبه بالظلم الذي لا يفلح المتّصف به.

والجواب عن الثاني: إنّ التعريف ورد في آية الصف وانفردت دون غيرهما

ص: 162


1- سورة يونس: الآية 17
2- سورة العنكبوت الآية 68.
3- سورة الصف: الآية 7

ممّا تقدّم، وذلك لأنّها قد ذكر المفتري فيها منطوقاً من غير إجمال، كما ورد في بقية الآيات الأُخرى، فقد وردت آية الصفّ بعد قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»(1)، فقد جاءهم عيسى بالبينات والدلائل الواضحة القاطعة فافتروا الكذب، وارتكبوا أشدّ الافتراء فى ما لا توقّف فيه ولا إشكال، فورد قوله تعجباً من حالهم «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً» معرّفاً بأداة العهد، ليقوم مقام الوصف الذي يرجع إلى حدّ قول القائل: هذا الكذب الذي لا امتراء فيه ولا شبهة ولا توقّف.

ولم يرد مثل ذلك في الآيات الأُخرى، فورد منكراً، فكلّ واحدة منها ورد ما يناسب الحال وما يجب.

والجواب عن الثالث: إنّ آية سورة يونس قد سبقتها مطالب من المشركين تدلّ على كفرهم عن علم وإصرارهم على الإنكار، وعداوتهم للحق، كما قال تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا انْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَبَدِلَهُ»(2)، ولا أظلم ممّن كان مثل الذين كانوا في النزول، من البلغاء الفصحاء يقول انت بقرآن غير هذا أو بدله، مع علمهم بعلوّ فصاحته وجليل بلاغته، واعترافهم بالعجز عنه، فجمعوا بين إنكار ما علموا صدقه وعرفوا منزلته العظيمة، والاقتراح على الله تعالى بالتبديل وهو يدلّ على أعظم إقدام، وأوضح إجرام الذي هو من أشدّ الظلم وجريمة شنيعة، فكانت عاقبة أمرهم «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ»، ولم يمكن مثل تلك في آية الأنعام، وإنّما صدر منهم عداوتهم وظلمهم أنفسهم في ما ارتكبوه، وتعاميهم عن الإيمان، فناسبه قوله

ص: 163


1- سورة الصف: الآية 6
2- سورة يونس الآية 15

تعالى: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

ويمكن أن يكون الوصف بالإجرام، بعد صدور الظلم على أنفسهم مكرّراً، وقد جروا عليه، ففي ابتداء الأمر كان الإعراض عما به الاعتبار ظلماً فناسبه عدم الفلاح، وإذا تكرر منه ذلك مع توارد الآيات وتقدّم ما به الاعتبار، كان الظلم أشنع، فوصف ثانياً بالإجرام ترقياً منه في الشر، كما قال تعالى في سورة يونس: «وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين»(1).

***

بحث دلالي وفيهما ما يتعلّق بالآيات الشريفة

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً» على أهمّية الشهادة. وعظيم أمرها وعلوّ منزلتها، فهي السبيل لإثبات الحقّ، وتختلف درجاتها ومراتبها تبعاً لخصوصيات الشاهد والمشهود به والمشهود عليه، والآية الكريمة تتضمّن أعلى مراتبها التي يكون الشاهد فيها هو الجليل الأعلى سبحانه الواحد الأحد، والمشهود به هي الوحدانية الكبرى والمشهود عليه يعمّ الموجودات، والواسطة في تبليغها فخر العوالم وسيِّد الخلائق أجمعيّن (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وآثارها هي الفوز، والظفر والفلاح والسعادة، فما أعظم هذه الشهادة، وما أشدّ تأثيرها، وما أجلاها وأبينها!! فقد أذعن عباده عزّ وجلّ بها طوعاً أو كرهاً، ومن ذلك يظهر كبرها، وأنّه لا شيء في عالم الإمكان، ولا في عالم الجبروت، أكبر من هذه الشهادة، أمّا في عالم الإمكان فواضح. وأمّا في عالم الجبروت، فلأنّها ترجع إلى إثبات أُلوهية الواحد الأحد، ونفي الشريك عنه تعالى، فهي كبيرة في جميع جوانبها.

ص: 164


1- سورة يونس: الآية 13.

الثاني: يستفاد من سياق الآية الكريمة المتقدّمة عموم مصداق كلمة الشيء ليشمل كلّ ما في عالم الإمكان وعالم الجبروت، فإنّ سعة متعلّق الشهادة وعمومه يشمل كلّ ما في الوجود، فتشهد بما تنطق به الآية الكريمة، وإنّ الله تعالى هو الشاهد الأعظم، كلّ ذلك ممّا يجعل أن يكون لفظ الشيء من أوسع المفاهيم، فهو يطلق على كلّ ما يمكن أن يتصوّره العقل، ولا يضرّه اختلاف مواطنه، كالذهن والخارج، والإمكان والوجوب، أو الموجود والمعدوم، ويعضد ذلك كلمات اللّغويين الدالّة على السعة، ويدلّ عليه بعض الأدلة، كقوله تعالى: «اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1)، فإنّ عموم متعلّق علمه عزّ وجلّ يشمل الموجود والمعدوم، والإشكال على إطلاقه بالنسبة إلى المعدوم، كما عن بعض غير سديد.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على ثبوت الرسالة والتوحيد معاً، فإنّ ورود اسم الجلالة «الله»، وإنّه الشاهد على التوحيد، ثمّ توجيه

الخطاب له (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، لتولّى الجواب بنفسه الشريفة، وكونه تعالى شهيداً بينه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وبين المخاطبين، يثبت كونه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) هو الرسول، على أنّ الشاهد الذي لا أصدق منه غيره شهد له بالقرآن وإيحائه إليه. فأسلوب الآية الكريمة الحكيم، يدلّ على نفى الوهم عن أن يكون الشاهد غيره تعالى فقد انحصرت الشهادة فيه عزّ وجلّ، فهو يشهد لنبوّته الّا الله على كلّ حال.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآن» مضافاً إلى ثبوت رسالة الموحى إليه الله كما عرفت، عظيم منزلة القرآن الذي يعد من أكبر الشواهد على التوحيد، وصفاته العليا، وجميع الرسالات والنبوات، فكان القرآن الكريم هو الشاهد والمشهود به والمشهود عليه، والوحى هو الدالّ عليهما، وهو أيضاً أكبر

ص: 165


1- سورة النور الآية 64.

شاهد على الوحدانيّة الكبرى والرسالة العليا، وهذا من عظيم الاعتبار، ولأجله صار إنذاراً لمن ترك النظر والاعتبار، ولعلّه لذلك اقتصر على ذكر الإنذار دون البشارة.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: «وَمَنْ بَلَغَ» أنّ المناط هو البلوغ، وقد عرفت في التفسير إنّه الوصول مع البيان والفهم، ولا ريب أنّ ذلك هو الملاك في الإنذار أيضاً، فيكون الملاحظ فيه جهتان من النسبة، الوصول مع البيان، والإنذار بالقرآن، فمن الجهة الأولى تكون دعوته (صلّی الله عليه وآله وسلّم) عامّة لجميع الثقلين، ومن الجهة الثانية يختصّ الإنذار بمن فهم القرآن وعرف رموزه واستوعب مقاصده، وله القدرة على بيان ما علمه فصلُح أن يتلقى مهمة الإنذار بعد معرفة مواضعه، وينحصر مثل ذلك في الأئمّة الهداة (عليهم السّلام)، ولعلّ ما ورد في بعض الروايات أنتهم الأئمة الي يرجع إلى ما ذكرناه، وذكرنا في البحث الأدبي أنته يرجع إلى العطف على الفاعل المستتر في (أنذركم). فاستبعاد بعض المفسّرين هذا الوجه في غير محله.

وكيف كان، فإنّ كلا التفسيرين لا يضرّ بالمقصود من الآية الكريمة، في أنّه لابدّ من الاعتبار من القرآن الكريم، سواء كان المنذِر (بالكسر) هو الرسول الأعظم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وحده، أو مع أهل بيته الكرام الأئمة الطاهرين (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وإن كان المنذَرين (بالفتح) هم جميع الأُمّة والناس أو الثقلين.

السادس: إطلاق قوله تعالى: «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ أُخرى» يشمل جميع وجوه الشرك في الذّات أو الصفات أو الولاية والشفاعة وغير ذلك، وتدلّ عليه بعض الروايات.

والأسلوب يدلّ على استبعاد مثل هذه الشهادة، لأنّها خلاف الفطرة، ومرتكزات العقول، ولذلك كان الجواب من العقل الكلّى بالرد والإقرار بأنته إله واحد، كما أنّ الإقرار بالوحدانية بعد نفي الشهادة عنه بالشرك دليل على التوحيد

ص: 166

في جميع الشؤون، وإنّه هو المقصود بالذّات، ولا يمكن الاستغناء عنه بنفي الشرك.

وهذه الآية الكريمة وإن كانت مطلقة تشمل جميع أنحاء الشرك، لكن الآيات اللاحقة وردت في بعض مصاديقه، كقوله تعالى: «إِنَّنِي بَرِيءٌ ممّا تُشْرِكُونَ» أى الأصنام وأمثالها، وقوله تعالى: «أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ» أي الشركاء في الولاية والشفاعة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ» على أنّ معرفة الحقّ في جميع مظاهره، سواء كان التوحيد، أو بالرسالة والرسول الدالّ عليه من قبيل معرفة الأمور المحسوسة التي لا يمكن إنكارها، حتّى ممّن ينكر ما وراء الحسّ، فإن معرفته بمنزلة الأبناء لا يسع لأىّ أب إنكار ابنه. ومثل هذا الأسلوب من الكلام الفصيح يبعث في النفس الرغبة إلى الإيمان، والعطف بالنسبة إلى الحقّ، وربط الإنسان بالرسول كما هو حاصل بين الآباء والأبناء.

كما أنّ الآية الكريمة تخبر عن حقيقة تاريخية، وهي ذكر الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بنعوته واوصافه في الكتب الإلهيّة السابقة.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» على حقيقة واقعية، وهى أنّ النفس أساس كلّ كمال، وهى المنشأ لجميع الملكات والأخلاق ومنها تنبثّ على الأعضاء والجوارح، فهذه الآية الكريمة ومثيلاتها تبيّن وظائف النفس، وتوقظ الإنسان من غفلته، وتحرّضه على التفكّر في رأس ماله، ولا يبلغ مرحلة الخسران. وقد تقدّم في أحد المباحث السابقة بعض الكلام، فراجع.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ» أنّ هذا الأسلوب يرد في ما إذا كان افتراء على الله وتكذيب آياته،

ص: 167

وهو لا يحصل إلّا ممّن خسر نفسه بالإعراض عن الإيمان بالحقّ والإصرار على الكفر استكباراً، وارتكاب أعظم الذنوب وممارسة ما يفسد العقيدة والحياة، ولعلّه لأجل ذلك إنّما يرد بعد ذكر الشرك والافتراء على الله، وتكذيب الآيات البيِّنات، والاقتراح على الله تعالى بما تهوى نفوسهم مع العلم بالحقّ، فكان ظلمهم أشدّ ظلماً. فكان أظلم إمّا لأجل تعدّد الظلم الصادر منهم، واختلاف أنواعه، أو تعدّد جهات الظلم، أو لأجل عظمة من ظلموه، أو لأجل استيعاب الظلم جميع مشاعره وأحاسيسه، أو لأجل العوالم التي يظهر أثر الظلم، فإنّ إحدى هذه الجهات توجب سلب الفلاح، فضلاً عمّا إذا اجتمعت، فقد كان الجزاء في مثل ذلك عظيماً إذ سلب منه الفلاح، فلا يفوز بسعادةٍ وخير، فهو في جميع مراحل حياته يكافح من دون الوصول إلى السعادة والغاية الحميدة، فقد ظلم نفسه وأزاح عنها كلّ صلاح.

العاشر: يستفاد من قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» أن يوم القيامة يوم ظهور الحقائق وتبدّد الأوهام، فيظهر الشرك بصورة الرجل الكاذب، ويحلف على كذبه، وكفى ذلك في الخزي، فإنّ الكذب مفتاح كل شر، فلا شركاء تنفعهم، ولا شريك يمسك به، وإذا انضم إليه الخطاب الربوبي «أين شركاؤكم» الدالّ على الخيبة والخسران، فقد عظم عليهم الأمر، فلا جواب لهم، إلّا أن تظهر حقيقة الكاذبة على ألسنتهم، فهذه الآيات الكريمة من الآيات المعدودة التي نفوسهم تبيّن الحقائق الواقعية التي لها الداخل في سعادة الإنسان أو شقائه وضلاله.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأَنذِرَكُمْ» على عموم رسالة خاتم الأنبياء (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وأنّ القرآن حجّة على الناس من حين نزوله إلى يوم القيامة.

***

ص: 168

بحث روائي وفيه ذكر ما ورد من الروايات

بحث روائي:

في «تفسير القمّي» في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر، في قوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً»: «إنّ مشركي أهل مكّة، قالوا: يا محمّد ما وجد الله رسولاً أرسله غيرك، ما نرى أحداً يصدّقك بالذي تقول، ذلك في أوّل ما دعاهم، وهم يومئذٍ بمكّة؟ قالوا: ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا إنّه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بأمر يشهد إنّك رسول الله. قال رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) الله شهید بيني وبينكم.

أقول: ونحوها ما رواه الجمهور عن الكلبي، وهو تبيّن بعض الوجوه التي صدرت من المشرکین فلا تنافی ما رواه ابن جرير عن ابن عبّاس:

جاء بعض المشركين إلى النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: يا محمّد ما تعلم مع الله إلهاً غيره؟

فقال رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم): لا إله إلّا الله تعالى، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله تعالى الآية.

أو نحمل الأولى على صدر الآية، والثانية على ذيلها وآخرها.

وفي كتاب «التوحيد» بإسناده إلى محمّد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبو الحسن: ما تقول: إذا قيل لك أخبرني عن الله عزّ وجلّ أشيء هو أم لا؟ قال: فقلت له: قد أثبت الله عزّ وجلّ نفسه شيئاً، حيث يقول: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، فأقول: إنّه شيء لا كالأشياء، إذ فيه نفي الشيئية عنه وإبطاله فيه، قال (عليه السّلام): صدقت وأصبت...».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك، وهذه الرواية تدلّ على صحة ما استفدناه، وفيها الدلالة على أنّ صدق مفهوم الشيئيّة عليه عزّ وجلّ، لا ينافي سلب بعض مصاديقها التي تلازم المادّة وصفاتها، فهو تعالى شيء لا كالأشياء التي لها صفات المادّة

ص: 169

والحدوث والفقر ونحو ذلك ممّا هو منزّه عنها.

وفي «تفسير العيّاشي» عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السّلام)، قال:

«إنّ الله يعفو يوم القيامة عفواً لا يخطر على بال أحد حتّى يقول أهل الشرك: «وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ».

أقول: إنّ ذلك واحد من الأسباب التي تلجئهم إلى هذا القول، كما يدلّ عليها بعض النصوص القرآنية.

وفي «الكافي» بسنده عن مالك الجهني، قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): قول الله عزّ وجلّ: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

قال (عليه السّلام): من بلغ أن يكون إماماً من آل محمد (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السّلام)، في قوله تعالى أيضاً: «ويعنى من بعده وهم ينذرون به الناس».

وفيه أيضاً عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الآية الكريمة، قال: «علي (عليه السّلام) ممن بلغ». وفي كتاب «الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حديث طويل، يذكر فيه أحوال أهل القيامة «ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطقون فيه فيقولون: «وَاللهِ رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»، وهؤلاء خاصّة هم المقرون في دار الدُّنيا بالتوحيد، فلم ينفعهم إيمانهم بالله تعالى مع مخالفتهم رسله، وشكّهم في ما أتوا به عن ربّهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم، واستبدالهم الذي هم أدنى بالذي هو خير، فكذّبهم الله في ما انتحلوه من الإيمان بقوله «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ».

أقول: في مضمونه وردت روايات أُخرى وهي من باب التطبيق، فإنّ الولاية كالرسالة من شروط التوحيد، كما تدلّ عليه نصوص متعددة؛ منها حديث سلسلة الذهب المروي عن الرضا (عليه السّلام).

وفي «تفسير البرهان» عن أبي عبد الله (عليه السّلام): «في قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ

ص: 170

هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» قال (عليه السّلام): بكل لسان».

أقول: مرّ وجهه.

وفي عيون «الأخبار» بإسناده إلى الحسين بن خالد، قال: «سمعت الرضا (عليه السّلام) يقول: لم يزل الله عزّ وجلّ عليماً حياً قديماً سميعاً بصيراً.

فقلت له: يابن رسول الله! إنّ قوماً يقولون لم يزل الله عزّ وجلّ عالماً بعلم، وقادراً بقدرة، وحيّاً بحياة، وسميعاً بسمع، وبصيراً ببصر؟

فقال (عليه السّلام): من قال ذلك ودان، فقد اتّخذ مع الله آلهة أُخرى، وليس من ولايتنا على شيء، ثمّ قال (عليه السّلام): لم يزل الله عليماً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيراً لذاته تعالى عمّا يقول المشركين والمشبوهون علوّاً كبيراً».

أقول: الحديث يبيِّن بعض وجوه الشرك، كما عرفت.

وفي «مجمع «البيان» في قوله تعالى: «ثمّ لَمْ تَكُنْ فِتْتُهُمْ»: لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السّلام).

أقول: أنّه بذلك سمّاه فتنة؛ لأنّهم يتوهمون التخلّص بها من العذاب، وتقدّم ما يتعلّق به. وفي «تفسير المنار» أخرج أبو الشيخ، عن أُبيّ بن كعب، قال:

أتى رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) بأُسارى لهم، فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلّى سبيلهم، ثمّ قرأ: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»، ثمّ قال: خلّوا سبيلهم حتّى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يُدعوا».

أقول: ذكرنا في التفسير أنّ الآية الكريمة تشير إلى قاعدة القبح بلا بيان، وهذا الحديث يرشد إلى ذلك.

***

ص: 171

بحث عرفاني وفيه البحث عن رذيلة الشرك.

بحث عرفاني:

الآيات الكريمة المتقدّمة نزلت في أدنى الرذائل وهي رذيلة الشرك، وبيّنت تلك الحقائق الواقعيّة الناصعة فيها، ولم يهتمّ القرآن الكريم في موضوع من الموضوعات، بمثل هذا الاهتمام الشديد، لعظيم أثر الشرك في الحياة الاجتماعيّة والفرديّة، ودخله في العقيدة والعمل وظهور آثاره في الدُّنيا والآخرة، ووخيم العواقب المترتبة عليه، فهو الملك للنفس، والمبيد للكمال، والمزيل لكلّ خير، فلا معصية ترقى إليه، وقد دلّت الآيات الكريمة على عظيم أثر هذا الخُلُق السيّيء، أن تصدّى للشهادة في إثبات التوحيد، وردّ الشرك، فكانت شهادة كبيرة وعظيمة ممّا أشرقت أنوارها على قلوب الموحِّدين، فأحسّوا آثار وحدانيّته عزّ وجلّ في نفوسهم، وعمّهم لطفه الخفى، فأدركوا القُرب، ونالوا الجزاء الجزيل، وبإزاء هذا القرب الميمون للعرفاء الموحِّدين حصل البُعد للمشركين،الكافرين فانقطعت العصمة بينهم وبين خالقهم، وعميت قلوبهم في تلقّي الفيض، فلم يستشعروا بالمعجزات الخارقات التى تنبّه الغافلين فلم يمكّنهم معرفة الرسول بالنور المتلألئ على صفحات وجهه الشريف، وأعرضوا عن معرفة صفاته الكريمة التي وجدوها في كتبهم، فخسروا أعزّ ما في الوجود، وأشرف مصنوعاته تعالى، وهي النفس التي هي سبيل السالك إلى الله سبحانه، والطريق إلى قربة، ومعراج العرفاء المتأهلين، ومحطّ أنظار المطيعين، ومؤئل المحبّين، ورأس المال الذي يتفاخر الإنسان في تجارته مع خالقه العظيم والشرك في جميع مظاهره من الخفيّ والجليّ، وفي الذّات والصفات، يوجب طمس نور الفطرة، وهدمٌ للقوى التي يميّز بها الخير عن الشرّ، وتفويت السعادة إلى هي مبغى الإنسان في كفاحه المضني في جميع أدواره ومراحله وعوالمه، فيكون المشرك أظلم أفراد العاصين الظالمين، فقد كذب على نفسه حيث أخرجها عن السعادة الحقيقية، وأظهر الشرك ما اتصفت

ص: 172

نفسه من الرذائل، فأثبت جود غيره تعالى، فلم يفلح حيث التجأ إلى ما وضعه بزعمه، وترك خالقه، وأعرض عن مقامه العظيم وصفاته المقدّسة، وخاب مسعاه، وسيظهر وبال هذه العقيدة في يوم القيامة الكبرى، يوم الحشر العظيم، يوم خطاب الجبار «لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ»(1) موبّخاً لهم لما همّ عليه، ومبيّناً لهم حالهم التي ضلّوا فيها، فيطلب عزّ وجلّ منهم حال الشركاء الذين أثبتم لهم الوجود، وصرفتم كلّ همّكم لإرضائهم لنيل شفاعتهم، فقد انقطعت الآمال، واتّضحت الأحوال، وأبلسوا عما في أيديهم، لأنّهم خسروا فى دار الدُّنيا نفوسهم المستعدة، وأطفؤا نور الفطرة، فكانت عاقبة شركهم عند ظهور الحقائق وبروزهم لله الواحد القهار، أنّهم تصحروا عن الحقيقة، وكشفوا ما في نفوسهم من الصفات الرذيلة التي اعتقدوا بها في دار الدنيا، وصارت سجايا لهم، فاعترفوا بعد العجز وحصول اليأس، فقالوا «وَاللهِ رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»، فلم يبق لهم إلّا التمسّك بأهمّ وصف له سبحانه وتعالى يرجى منه العطف والرحمة، لكونه الربّ العظيم، فأنكروا أن يكونوا مشركين، إذ لا وجود لشيء يشركونه فضاع الأمل، وخسروا ما عندهم من العمل، وضلّ ما أشركوه، فإذا كان الشرك هكذا أثره في جميع خصوصيات الإنسان لا بدّ لكلّ فرد من التفكّر في عقيدته وأحواله وأعمّاله وأفعاله، حتّى لا يصيبها الشرك، فإنّه خفيّ جداً، يؤثّر في القلب فيسلب خشوعه، ويورث القسوة والبُعد عن الله تعالى، وهما من أهمّ المهلكات، وبداية خسران النفس التي هي أساس كلّ كمال، والقاعدة في نيل الثواب والوصول إلى مقام القُرب.

***

ص: 173


1- سورة غافر الآية.16

سورة الأنعام الآية 25 - 32

إشارة

الآية 25 - 32

«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالحقّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حتّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

الآيات الكريمة تبيِّن بعض أحوال المشركين والكافرين الذين تقدّم ذكرهم في الآيات السابقة، فقد ذكر سبحانه أصنافهم، فمنهم المكابر المعاند، والمتكبّر الذي يعرض عن سماع الحقّ، ومنهم المستمع الذي لا يعقل ما يسمعه ولا يتفقّه حججه و آياته، وتذكر مظالم المشركين في العقائد وأصولها من التوحيد والنبوّة

ص: 174

والمعاد، ويذكر عزّ وجلّ عظيم جرائمهم، ويبيّن عاقبة أمرهم في ما ارتكبوه من الظلم، واقترفوه أشدّ المظالم التي أوجبت هلاك نفوسهم، فابتلوا بالخسران، ففي يوم القيامة حينما تظهر الحقائق، وتنكشف للعيان، فهم يتمنّون الرجوع إلى الدُّنيا لعمل الصالحات، وإنكارهم لما صنعوه وفعلوه، فيغلبهم التحسّر على ما فرّطوا في جنب الله تعالى بعدما تأثّرت نفوسهم، وفقدوا الإستعداد، حتّى بلغ بهم الغرور في دار الدُّنيا، فأحبّوا الدُّنيا وافتتنوا بها، وكذبوا بالآيات وأنكروا البعث والمعاد، وعند مشاهدة الحقائق في ذلك اليوم، يعلو عليهم الندم والتحسّر، وقد بيّن عزّ وجلّ حقيقة الدُّنيا والآخرة ليعتبر منها المعتبر، وفي مجموعها ترشد الإنسان إلى الاعتناء بحاله، وأخذ الاعتبار من الدُّنيا وأحوال الكفّار والمشركين الظالمين من قبل أن تحوطه الحسرة والندامة، وفيها بيان الحقائق الواقعيّة، كما دلّت الآيات السابقة عليها، فترشد إلى التوحيد ونبذ الشرك والإيمان بالرسالة والمعاد والابتعاد عن الظلم والمكابرة والعناد واللّجاج، وكسب الكمال ونيل السعادة.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ»

التفسير

قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ».

بيان لأصناف المشركين الظالمين الذين تقدّم ذكرهم في الآيات السابقة، وبعض أحوالهم، والإستماع هو الإصغاء، ويتعدّى باللام وإلى، كما في المقام. وتوحيد الضمير في (يستمع) حملاً على لفظ (من)، وجمعه في (قلوبهم) على معناها.

أو لأنّ المناط في الاستماع الأفراد وفي التغطية قلوبهم لأنّ المجموع بلغوا حالة لا يرجى منهم الخير، وأنّهم اجتمعوا على الإعراض عن الإيمان، والتعريض بالرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم).

ص: 175

والآية تشير إلى طائفة المشركين كأبي جهل وأضرابه - اجتمعوا فسمعوا رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) يقرأ القرآن، ويدعو إلى التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد، وينذرهم يوم القيامة، وما يجري على الظالمين، كما دلّت عليه الآيات المتقدّمة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ»

قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ».

بيان لبعض المجازاة على كفرهم. والجعل إمّا بمعنى الإلقاء فتتعلّق على بها. أو بمعنى صيّر فتتعلّق بمحذوف يكون في موضع المفعول الثاني، أو بمعنى الإنشاء.

و (الأكنّة) جمع كنان كعنان، وأعنّة بمعنى الغطاء، يقال: كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه، وأكننت الشيء أخفيته، والكنانة جعبة السنان، وقبيلة من مضر، وبها سمّيت أرض كنانة، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم أكثر من عشرة مواضع، كما وردت هذه الجملة بالخصوص في أربعة موارد.

والفقه يأتى بمعنى الفهم، وجملة أَنْ يَفْقَهُوهُ في موضع المفعول من أجله، تقديره: كراهة أن يفقهوه. وقيل لئلّا يفقهوه. والضمير المنصوب في (يفقهوه) عائد على القرآن.

ولا ريب أنّ فعله عزّ وجلّ بهم إنّما هو مجازاة على شركهم وكفرهم، لأجل أنّهم لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحقّ، فكانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم، فليس هما على المعنى الحقيقي.

والمعنى وأنشأنا على قلوبهم جزاء شركهم وكفرهم، أغطية كثيرة، لم يقادر قدرها فلم يمكنهم فهم الآيات البينات.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً»

قوله تعالى: «وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً».

(الوقر) يأتي بمعنى الثقل، كما أن الوقر - بكسر الواو بمعنى الحمل، ومنه

ص: 176

نخلة موقر وموقرة، إذا كانت ذات ثمر كثير، ووقر الرجل (بضم القاف) وقاراً ووقر، ورجل ذو وقر، إذا كان وقوراً بفتح الواو. ووقر الآذان ثقله، ممّا يمنع استماعه على ما هو حقه.

والآية تُنبئ عن كمال جهلهم بالحقّ وشؤون النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وابتعادهم عن فهم القرآن، فقد أحاطوا قلوبهم بأغطية تحول دون فهمه والاعتبار به. كما أن الوقر الملقى على آذانهم أوجب ثقلها عن سماع القرآن بقصد التدبّر، فمجّت عن استماعه واستبانة الحقّ وفهمه.

ولا ريب أنّ الجعل في المقام لن يصل إلى حدّ الإلجاء، بل هو حاصل من اعتقاداتهم الفاسدة وأعمالهم الشنيعة ممّا أدخلوا أنفسهم في غياهب الظلمات، وصيّروا قلوبهم في حُجب كثيرة متعدّد، كالعصبية الشنيعة، والإستكبار على الحقّ والتقليد الأعمى وغير ذلك، وهي لم تكن مادّية حسّية، فاذا استولت على القلب منعته من الفهم والتبصّر والبحث عن الحقيقة، كما أنّهم جعلوا على الأذن ذلك الثقل الشديد، فأصمّه عن سماع الحقّ ليمكنه التمييز بين الحقّ والباطل، فتغلبه الحميّة للباطل والكبر على الحقّ، وتنشأ قلوبهم على ذلك، ولذلك سلب الله تعالى التوفيق، فكان الجعل منسوباً إليه عزّ وجلّ بهذا المعنى. وفي الآية استعارة عنهم بليغة، كما عرفت، وهي إما تصريحيّة أو مكنيّة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا»

قوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا».

ترتّب عقلي؛ لأنّ في ذكر عدم إدراك الرؤية بعد عدم انتفاعهم بالعقول والآذان الدلالة على عدم رجاء الإيمان منهم، فقد بلغت بهم الحالة أنّهم نظروا إلى الآيات البيِّنات والمعجزات الباهرات الدالّة على صدق الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وصحّة رسالته، وحقية ما يدعو إليه، فلم يستفيدوا منها واعرضوا عنها، ولم يؤمنوا بها

ص: 177

عناداً ولجاجاً، واستحكاماً للتقاليد عليهم، والعادات السيّئة فيهم. والمراد من الآية كلّ حجّة ودليل بلا إختصاص بما ذكره بعض المفسّرين.

والمقصود من الجملة المبالغة في الإعراض.

وفي ذكر الحواسّ الثلاثة ونفيها عنهم، لنفي ما يترتّب على إدراكها، وهو الإيمان، وللدّلالة على عدم انتفاعهم من حاسّة البصر، كما لم ينتفعوا من قبل بعقولهم وأسماعهم، فقد عطّلوا أعظم النِّعم التي أنعمها الله تعالى عليهم، وخرجوا بذلك عن حدود الإنسانية

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ»

قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ»

بيانٌ لفظاعة حالهم بأن بلغ تكذيبهم بالآيات، ومكابرتهم للحقّ، أنّهم إذا جاؤوك لينتفعوا من وجودك الشريف، ونورك الوضيئ، جاؤوك يخاصمونك وینازعونك، فهم على جدال مستمرّ فى نبوّتك ودعوتك، فإنّهم لا يرتّبون على الشيء المرئيّ الدالّ على صدق رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) حقيقة مقتضاه، ويتعدّونه إلى ضدّه. و (حتّى) هي على الأصل حرف غاية، وقد تأتي بمعنى الفاء، فعلى الأوّل تكون حرف ابتداء، تعلّقت بقوله: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ». فيكون المبتدأ محذوفاً تقديره هم، والجملة الشرطية خبر المبتدأ، وعلى الثاني كان التقدير فإذا جاؤوك. ويجادلونك جملة حالية أي مجادليك، وبلغ تكذيبهم بالآيات وعنادهم بعدم الإيمان إلى المجادلة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»

قوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

جواب للجملة السابقة وقعت بعد (حتّى) لبيان أنّهم لم يكتفوا بعدم الإيمان، بل يقول الكافرون إصراراً منهم على الكفر، إن هذا القرآن لم يكن إلّا أساطير الأولين وقصصهم وخرافاتهم، فهم قد بلغوا الغاية في المجادلة، ونهاية

ص: 178

التكذيب والإعراض عن الإيمان.

والأساطير، قال الأخفش: إنّه جمع الأسطورة من السطر، وهو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس.

وقال المبرّد: أنّه جمع لا مفرد له، كأبابيل، ثمّ غلب استعماله في الحكايات والخرافات والأخبار الكاذبة.

وقال أبو عبيدة: الأسطارة لغة الخرافات والترهات، وهي التي جمع على أساطير.

وكيف كان، فقد بلغ اجتراؤهم على الله ورسوله أن جعلوا القرآن المعجز الخالد، بمنزلة الأخبار الكاذبة، والقصص والخرافات، فلم يعقلوا ما فيه من الآيات البيِّنات، والعلوم والمعارف، ولم يسمعوا ما يتلوه الرسول الصادع بالحقّ وبلغ تكذيبهم إلى المجادلة، كيف وقد جعلوا قلوبهم في أكنّة لا يمكن نفوذ نوره إليها، ووقرت أسماعهم فلم يسعهم سماع الحقّ، وعُميت أبصارهم عن رؤية النور، ويرجع السبب إلى استمرارهم على الكفر المستفاد من إظهار الفاعل في الآية، وعدم الإكتفاء بالضمير والغيبة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ»

قوله تعالى: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ».

بيان لفعلهم الشنيع، بعد بيان عقيدتهم، فهم ينهون الناس عن اتباع الرسول وسماع القرآن، ويبعدون عنه (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وما جاء به.

والناي البعيد، يقال: نأى ينأى نأياً.

وهو لازم يتعدى ب- (عن) كما في الآية الكريمة. وقيل: إنّه يتعدى بنفسه. والضمير (هم) عائد على الكفّار. كما أنّ الضمير (عنه) يرجع إمّا إلى الرسول أو القرآن، وتقدّم ذكر كلّ واحد منهما، وفي قوله تعالى: ينهون وينئون من التجنيس البديع.

ص: 179

وذكر بعضهم: إنّه من تجنيس التحريف، وهو أن تنفرد كلّ كلمة عن الأُخرى بحرف فينهون انفردت بالهاء، وينأون بالهمزة.

والآية الشريفة تبين مدى اهتمامهم على الصدّ عن الحقّ، فقد جمعوا بين الإبعاد والابتعاد، وأرادوا الاحاطة على الحقّ الصادع به من جميع الجوانب، فكانت سيرتهم مع الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) المجادلة والمخاصمة، ومع القرآن إنّه الأساطير والخرافات، ومع الآيات البيّنات الإعراض وعدم الإيمان، ومع الناس إبعادهم عن الحقّ وسماعه، وقد بالغوا في إخفائه وإطفاء النور الذي أنزله الله تعالى، فكان في فعلهم هذا بين إخفاء الحقّ حتّى لا يقف عليه أحدٌ من الناس بالنهي عنه، وبين إظهار غاية نفورهم، ولعلّه لأجل ذلك أخّر سبحانه النأي عن النهى. والآية تكشف عن سوء سريرتهم، ونواياهم السيّئة، وأفعالهم الشنيعة ضد الحقّ بجميع مظاهره.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ»

قوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ»

بيان الآثار المترتّبة على العقيدة الفاسدة والفعل الشنيع، وقد بيّن عزّ وجلّ أنّ كلّ ما أرادوه قد حصل خلافه، فلم يتحقّق مقصودهم الذي تعلّق بإبطال الدعوة وإهلاك صاحبها، فقد تصوّروا أنّ في نهي الناس عن القُرب إلى الرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم) وصدّهم عنه، والنأي عنه، مبالغة منهم في ذلك إماتة للدعوة الحقّة، وقد أخبره عزّ وجلّ بأنّه ما يهلكون إلّا أنفسهم إمّا لأنّ الله تعالى قد وعد رسوله بالنصر والغلبة، وقضى أن يتمّ نوره، أو لأنّ الدعوة لها من البراهين الساطعة، والحجج الناصعة ما تدلّ على حقيتها، أو لأنّ الأسباب التي اتّخذوها، والوسائل التي اعتدّوا عليها في هذا الهدف، لن توصلهم إلى المقصود لنقصانها، وتماميّة الدعوة من جميع الجهات، وغير ذلك من الوجوه التي أغفلوا عنها، وما يشعرون أنّ ضررهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، فقد أصابهم الهلاك في دار الدُّنيا لا تصافهم بأسوء

ص: 180

الصفات كالكذب والكبر ونحوها، حتّى صارت ملكات رديئة، فابتعدوا عن مكارم الأخلاق وهذا من أظهر أفراد الهلاك، أو لأنّهم سيحملون أوزارهم وأوزار الذين صدّوهم عن اتباع الحقّ والإيمان بالرسول (صلّی الله عليه وآله وسلّم). وعليه لا يختصّ الهلاك بالآخرة، فيشملهم في دار الدُّنيا أيضاً كالقتل في حروب الإسلام.

ما يستفاد من قوله تعالی «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ»

قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ».

خطاب لأشرف الموجودات عجيباً من حال معانديه، وبيان لسوء عاقبة كفرهم وجحودهم واستكبارهم على الحقّ، والإعراض عن آيات الله تعالى. ويعرف من حذف جواب (لو) أنّه أمر شنيع وهول عظيم، وعدم ذكره ليذهب الوهم كلّمذهب، فيكون أبلغ من التخويف، ومفعول ترى محذوف تقديره ولو تراهم.

ويستفاد من الآية الكريمة المثيرة للخوف في نفوس المشركين الكافرين أُمور:

الأوّل: إظهار جلال رسوله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) و عظیم منزلته، فقد كان المشركون في دار الدُّنيا قد بالغوا في أذيته، فهو يشرف في الآخرة عليهم، ويراهم في النّار يلاقون جزاء أعمالهم وشركهم.

الثاني: وقوف المشركين على النّار إلى تكون تحتهم وحبسهم عليها ومعاينتهم لها، فإنّ هذه الحالة أدعى إلى الذلّة والمسكنة.

الثالث: عظيم حالهم، حيث إنّهم ينظرون إلى النّار، فيعرفون مقدار عذابها بما لا يسع نطاق التعبير.

الرابع: تجسّم الأعمّال، فإنّهم أرادوا من الكفر ستر الحقّ والتغطية عليه، فهاهم في دار الآخرة قد كشفت لهم النار حقيقتها، وظهرت أعمّالهم الرديئة، وأنّ

ص: 181

الذي كانوا يخفونه في الدُّنيا قد ظهر بالمعاينة، كما أشار إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(1).

وقوله تعالى: «وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا»(2).

الخامس: تحقّق وعد الله تعالى الذي كانوا يستهزئون به، كما يشعر به قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»(3).

السادس: إنّ الأسلوب الذي احتوته الآية الكريمة يدلّ على تحقّق وقوعه، وإن كان الوقوف على النار، وما يترتّب عليه في المستقبل، قد حكى في الآية بصيغة الماضي، كما تقدّم نظيره في الآيات السابقة. فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد الاعتبار وإزالة الشبهة والتوكيد.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ»

قوله تعالى: «فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ»

ذهول عجيب عن أنفسهم لعظيم ما تحقّقوه وما شاهدوه، فغلبتهم الحسرة، وفي قلوبهم ندم عظیمٌ استولى على شعورهم فسبقت ألسنتهم إلى القول بتمنّي الرجوع إلى الدُّنيا ليؤمنوا، ولا ريب إنّ مثل هذا التمنّي لم يكن نابعاً عن إيمان صحيح وعقيدة سليمة، بل يرجع إلى الحسرة والندم على التفريط الحاصل منهم بعد معرفة رفة الحقيقة، وانكشاف الواقع، فهو يتّبع تلك الملكات الرديئة التي استقرّت في نفوسهم، فقد اعتادوا على هذه التمنّيات في الحياة الدنيا، وكشف الله تعالى

ص: 182


1- سورة ق الآية.22
2- سورد الزمر: الآية 48.
3- سورة الجاثيد: الآية 33

حقيقتها في القرآن الكريم، كقوله تعالى في الآية اللاحقة: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ»، فهي لم تكن عن صدق في النيّة وعزم في القلب، قال تعالى في بعض أمنياتهم: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ»(1)، فقد كشف سبحانه عن نفوسهم المريضة التي استحكمت فيها رذائل الأخلاق، وصارت ملكات رديئة التي هي مصادر أمنياتهم، ولأجل ذلك استحال تحقق مثل هذه الأمنيات، سواء قلنا بأنّ التمنّي إنّما يصح في المحالات المتعذرة والممكنات المتعسرة، أو لا يكون كذلك. و(يا) في قوله تعالى «يا ليتنا» إمّا للتنبيه، أو للنداء، والمنادى محذوف نحو يا قومنا.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا تُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»

قوله تعالى: «وَلَا تُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ».

اختلف القرّاء والمفسِّرون في إعرابه، فقد نصب جمع منهم الفعلين (نكذب) و(نكون) عطفاً على (نرد) بإضمار (أن) على أنتهما جواب التمنّى.

والمعنى: أنّهم تمنوا أن يردّوا إلى الدُّنيا، وأن لا يكذبوا بآيات ربهم، كما كذَّبوا من قبل.

والدخول في سلك المؤمنين ليخلّصوا من عذاب النار. والمراد من الآيات إمّا القرآن الذى تقدّمت الإشارة إليه، أو مطلق المعاجز والبراهين الساطعة ومنها القرآن.

ورَفَعهما جمع آخرين على إنّه ابتداء الكلام، فيكون التمنّى مختصّاً بالردّ إلى الدُّنيا، وأمّا عدم التكذيب والإيمان فهما وعد منهم بذلك.

وابن عامر نصب ( نكون) ورفع (نكذب)، فلأنّ الرفع على العطف، والنصب على الجواب، وسيأتي مزيد بيان.

ص: 183


1- سورة النساء: الآية 73

وكيف كان، فإنّ الآية الكريمة نظير ما تقدّم من إنكارهم للشرك بالله تعالى وحلفهم به على ذلك كذباً، وقد عرفت أنّ لذلك مناشئ متعدّدة؛ منها الملكات الرديئة التي رسخت في نفوسهم، وهي تظهر في يوم القيامة على ألسنتهم وقلوبهم، فيكون تمنّيهم عدم التكذيب والإيمان، أو وعدهم بذلك كذباً. فليس تمنّيهم إلّا ضجرٌ منهم لا عزيمة، كما عرفت فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ»

قوله تعالى: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ».

حقيقة ناصعة تساير المشركين في جميع عوالمهم الدنيوية والأخروية، وهي ترجع إلى أمرين:

الأوّل: أنّهم اكتسبوا فى دار الدُّنيا من الجرائم والآثام ما نشأت نفوسهم عليها، وتأثّرت قلوبهم بها، فإنّ في يوم القيامة تبرز في أقوالهم، ويبدو ما أخفوه فى دار الدُّنيا، ومنها تلك الأكاذيب والتمنّيات التي حكاها عزّ وجلّ عنهم في هذه الآية، فإنّهم تمنّوا تلك ضجراً لا عزماً، كما عرفت، فإنّ الدُّنيا دار الكسب والإضمار، والآخرة دار الكشف والظهور.

الثاني: أنّهم قصدوا من أفعالهم في الدُّنيا إخفاء الحقّ وإبعاد الناس عنه، وبذلوا جهدهم فى ذلك، فإنّ في الآخرة يبدو ما كانوا يخفونه، فإنّ الحقّ واضح معالمه لا يمكن إخفائه لا في الدُّنيا ولا في الآخرة.

و على كلا التقديرين، فإنّ الآية المباركة تبيّن حقيقة تلك الأُمنيّات التي يتمنّاها المشركون في الآخرة، فإنّها تبرز على أقوالهم عند رؤية النار، وقربهم إليها، والوقوف عليها، ووصول المؤمنين إلى الثواب العظيم والأجر الجزيل الذى أعد الله لهم وتكريمهم به، فيكون الخوف هو الباعث على التمنّي، أو تبلغ بهم حسرتهم عند ظهور الحقّ وما يرونه من المنزلة العظيمة له وأهله يوم القيامة، أن

ص: 184

يستولي الندم على قلوبهم فيبرز على لسانهم ذلك التمني، ويشير إلى هذين قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(1).

ولكن ذكر المفسِّرون في بيان هذه الآية الكريمة وجوهاً ذكرها الآلوسي، وأنهاها في «المنار» إلى تسعة، قال:

الأوّل: إنّ المراد أعمّال المشركين التي كانوا يغترون بها، ويظنون أنّ سعادتهم فيها، إذ يجعلها الله هباءً منثوراً.

الثاني: إنّه أعمالهم السيّئة وقبائحهم الشائنة التي ظهرت لهم في صحائفهم، وشهدت بها عليهم جوارحهم.

الثالث: إنّه كفرهم وتكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة، من قبل أن يوقفوا على النار، كما تقدّم حكايته عنهم في قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ».

الرابع: إنّه الحقّ أو الإيمان الذي كانوا يسرّونه ويخفونه، بإظهار الكفر والتكذيب عناداً للرسول واستكباراً عن الحقّ.

الخامس: إنّه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحقّ الذي جاءت به الرُّسل فقد بدا للأتباع المقلّدين.

السادس: إنّه ما كان يخفيه المنافقون في الدُّنيا من إسرار الكفر، والتظاهر بالإيمان والإسلام.

السابع: إنّه البعث والجزاء، ومنه عذاب جهنّم، وأنّ إخفائهم له عبارة عن

ص: 185


1- سورة الزمر: الآية 48

التكذيب به، وهو المعنى الأصلي لمادّة كفر.

الثامن: إنّ في الكلام مضافاً محذوفاً، أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات، ونزل بهم عقابه، فتبرّموا وتضجّروا، وتمنّوا الردّ إلى الدنيا للتخلّص من ذلك العذاب.

التاسع: ظهور كلّ ما يخفيه في الدنيا ممّا هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، ولا يختصّ ذلك بما ورد ذكرهم في الآية الكريمة، بل يعمّ رؤساء الكفّار وأتباعهم المقلّدة، والمنافقين والفسّاق ممّن يقترف الفواحش ويخفيها عن الناس أو يترك الواجبات ويعتذر بأعذار كاذبة ويخفى حقيقة الحال.

ولا يخفى ما في هذه الوجوه بعد إمكان إرجاعها بعضها إلى بعض، وقد عرفت أنّ الآية الكريمة تبيِّن حقيقة ناصعة، وتكشف ما في نفوس المشركين الظالمين، فإنّ يوم القيامة يوم بروز الحقائق، ويوم الكشف والشهود، ويوم المعاينة وعين اليقين، فلا تكون فيها إلّا الحقائق الواقعية، فلابدّ أن تكون كاشفة ما في النفوس ومبدية ما في القلوب، ومظهرة لما في الضمائر، فالآية الشريفة من جملة الآيات العظام التي تقرع النفوس، وتدمغ العقول، وينبّه الغافل إلى ما سيؤول أمره، فلابدّ من الاستعداد، فإنّه يكفي بروزها في انفعال النفس وذلّتها وانكسارها، ثمّ الجزاء المترتّب على تلك المخفيات، فمضمون الآية عامّ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ»

قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ.

حقيقة أُخرى تذكرهم بأنّ العود كالسابق وهما في الحكم سواء، لأنّ من يعود إلى الدُّنيا يلزمه حكم تلك النشأة التي منها إنسدال حُجُب الغيب عليه، و رجوع الاختيار إليه وغلبة هوى النفس ومقارفة الذنوب ووسوسة الشيطان لجميع خواطره وخطواته، فيطغوا على النفوس العناد، وتعتاد الاستكبار

ص: 186

والطغيان، فتعود الحال ويرجع الكفر والشرك والعناد مع الحقّ والاستكبار عليه، فما دعاهم إلى الشرك والظلم والتكذيب سابقاً، يعود عليهم لاحقاً، فقد وردت السنن التي وضعها الله تعالى في الحياتين وتعلّق قضاؤه بذلك، وتمّ الأمر. مضافاً إلى أنّ سوء استعدادهم، وخبث ذواتهم الحاصلين من سوء اختيارهم، ممّا أوجب استقرار الملكات السيّئة في نفوسهم، وقد لعنوا في الأصل - كما في الحديث - فهي التي تدعوهم إلى الرجوع إلى الدُّنيا، فلا تنفعهم مشاهدة ما شاهدوه؛ لأنّ معاينة الحقّ المتروك، والجزاء المترتّب عليه، يختصّ بالنشأة الآخرة دون عالم الدُّنيا، كما عرفت. ويأتي في البحث الروائي وجه آخر

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»

قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

إخبار منه عزّ وجلّ لهم بكذبهم، فقد اختاروا الشقاء، واستقرّوا على سوء الاستعداد واعتادوا على أسوء الأخلاق، فصار الكذب ديدنهم، والنفاق سجيتهم.

والكذب: يرجع إمّا إلى ما تمنّوه من الردّ إلى الدُّنيا ونبذ الشرك، والدخول في جماعة المؤمنين. وإمّا إلى نفس التمنّى وحده، فلم يكن مورد نظر هم إلّا باعتبار ما يترتّب لدفع العذاب الذي عاينوه أو نيل الثواب.

وذكر بعض المفسِّرين: إنّ الكذب لا يمكن إرجاعه إلى التمنّى، لأنّه إنشاء، والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب فإنّهما من شؤون الأخبار.

وأشكل عليهم بعضهم بأنّه لا بأس بتوجّه الكذب إلى التمنّى؛ لأنّه يحتمل الصدق والكذب بنفسه محتجّاً عليه بقول الشاعر :

مُنى إن تكن حقاً *** تكن أحسن المنى

وإلا فقد عشنا *** بها زمناً رغداً

ص: 187

والحقّ هو الصدق، وهو ضدّ الباطل والكذب.

والحقّ إنّ النزاع قليل الجدوى، فإنّ التمنّي حالة نفسانيّة تعرض عند حدوث أسبابه من الشوق الأكيد، أو الخوف الشديد، فيطلب المتمنّي الشيء الذي يناسبهما، وهذه الحالة لا تتّصف بالصدق والكذب بل بالوجود والعدم، فهما يرجعان إلى المتمنّى به.

ففى المقام بعد عروض الخوف والذعر في نفوسهم، عند مشاهدة الحقيقة والوقوف على النار، فتمنّوا ما يرجى لهم الخلاص منه، فطلبوا الرجوع إلى دار الدُّنيا للإيمان ونبذ الشرك، والدخول في جماعة المؤمنين، وهذا هو الكذب الذي أخبرهم الله تعالى به، وأنّه لا يتحقّق منهم ذلك مع تلك النفوس الخاسرة، وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده بعض المفسِّرين من أنّ التمنّى يرجع إلى ما تضمّن قولهم السابق: «يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ» من مسألة الردّ ووعد الإيمان والعمل الصالح.

وقد يوجّه نسبة الكذب إلى التمنّي بأنّ المراد عدم تحقّقه خارجاً، كما يُقال: كذّبك أمَلُك. لمن تمنّى ما يدرك.

أو يوجّه بأنّ المراد من نسبة الكذب إليهم كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم، من إصابة الواقع واعتقاد الحقّ.

ولكن يرد عليه: أنّه بعيد عن سياق الآية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»

قوله تعالى: «وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»

استئناف لبيان شأن آخر من شؤون الكفّار المكذِّبين بآيات الله عزّ وجلّ وغرورهم بالدُّنيا والافتنان بمتاعها، وإنكار البعث والجزاء، فالآية الكريمة تبيّن ذلك صريحاً، والضمير المنفصل (هي) يرجع إلى الحياة الدنيا، ولا بأس بالرجوع إلى المتأخّر لفظاً ومعنى، أي ما الحياة إلّا الحياة الدُّنيا فلا حياة بعدها.

ص: 188

وقيل: إن الجملة عطف على «عادوا» أو على «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»، أو «نهوا»، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك، وهو يدلّ على إنكارهم الصريح للحشر وما يلازمه ويتعقّبه، وقد حكى سبحانه وجوه إنكارهم وتكذيبهم لأصل الحشر ومشاهد يوم القيامة، إذ المنكرون والمكذِّبون لم يكونوا على وتيرة واحدة في الشرك والإنكار به.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ»

قوله تعالى: «وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ»

من القبول بعد الممات وفارقنا الحياة أصلاً. وستعرف أنّ إنكار المعاد والجزاء من أهمّ أسباب الشرّ والفساد، وهو يجلب الشقاء للإنسان المنكر له في الدارين.

ولا ريب أنّ هذا الاعتقاد ناشئ من الملكات السيئة التي اعتادوا عليها، وستظهر على أفعالهم وأقوالهم إذا عادوا إلى الدُّنيا بعد الممات، كما أخبر عزّ وجلّ بذلك آنفاً.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ»

قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ».

ردٌّ عليهم، وإخبارٌ منه عزّ وجلّ بتحقّق البعث والتفسير له بأحسن أُسلوب، والخطاب لأشرف خلقه فى صورة التمنّى، وحذف الجواب (لو) ليذهب الوهم كلّ مذهب، ولإيثار الخوف الشديد فلا يحيط به أطراف الكلام، والأسلوب الفصيح يبيِّن بأنّ جزاء هذا الاعتقاد الباطل، هو الوقوف على ربّهم، وظهور الحقّ لهم، ومعاينة الحقيقة، فلا يسع لهم الإنكار حينئذ، فيصدّقون ما جحدوه، ويعترفون بما أنكروه من البعث والجزاء، ويقرّون بأنّه ليست الحياة مقتصرة على الدُّنيا، فإنّ هناك حياة أُخرى يبعثون فيها ويلقون جزاءهم من ربّهم.

والوقوف يُراد به الاطلاع على الشيء، والوقوف على ربهم بمعنى معاينة

ص: 189

آثار قهره وحكومته وسلطته وقيادته، وهذا الوقوف حاصلٌ لأولياء الله تعالى في تمام حالاتهم في الدنيا والآخرة، فهم دائم الحضور لدى الملك الجبار. فكان وقوفهم على ربّهم عن معرفة تامّة وعلم به، فلا حاجة حينئذٍ إلى ذكر التأويلات التي ذكروها في المقام.

نعم سيحصل من ذلك لهم الوقوف مع الربّ الذي يختلف عن الوقوف على الرب. والآية تتضمّن الردّ عليهم بإثبات مشهد من مشاهد يوم البعث الذي أنكرتموه، فإنّ فيه حضور الجميع، وهم يقفون عند ربّهم، ويتحقّق لقاء الله تعالى، وسيظهر لهم عظمته في حكمه وقهّاريّته وجبروته ويشاهدون آثار قدرته التامّة، فهناك يظهر خسران الذين كذّبوا بلقاء الله، كما تشير الآية اللاحقة إليه، فإنّ القيامة والبعث والحشر إنّما هو لأجل هذا اللقاء العظيم، وهي الساعة العظمى التي يقف الخلائق على الحقيقة عن معرفة علمية، وهناك تسقط الأوهام، وتبطل الأقاويل فلا مفرّ عن حكومته.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالحقّ»

قوله تعالى: «قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالحقّ».

خطاب ربوبي يتضمّن التوبيخ والتقريع لهم على التكذيب، وتسجيلاً عليهم سوء عاقبتهم، وإمعاناً في إظهار الحقّ، وثبات البعث، وما يتبعه من الثواب والعقاب، وفيه التأكيد على المضمون، كما يقتضيه الأسلوب، وكلمة (الباء) الداخلة على الحقّ، والهمزة في (أليس) للتقريع، كما عرفت. أى أليس هذا البعث كائناً موجوداً مشاهداً بالعيان، وهذا الكلام تعبير منه عز وجل لهم عن تكذيبهم بالبعث.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا»

قوله تعالى: «قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا».

إقرار مؤكد باليمين للدلالة على صدوره عنهم برغبة ونشاط، طمعاً لعطف

ص: 190

ربّهم، وقد تحقّق منهم هذا الاعتراف بعد المشاهدة والعيان، وانجلاء الأمر فيه تماماً. أي بلى هو الحقّ الذي لا ريب فيه، ولا يحوم حوله الباطل، فهو البعث حقاً وصدقاً. واليمين منهم دالّ على كمال تيقنهم بحقيقته.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ»

قوله تعالى: «قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ»

إذا كان الأمر كذلك، فذوقوا العذاب جزاءً على كفركم وتكذيبكم، فيكون الباء للسببية.

وقيل: إنّها بمعنى المقابلة والبدلية.

وعلى كلّ، فإنّ العذاب ملازم لهم كلزوم الكفر بهم، فلا ينفعهم الحلف بربّهم استعطافاً، فقد وفقوا على النار ورأوا العذاب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ»

قوله تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ».

بيان لفوات أعظم ثواب عنهم، بعد لزوم العذاب لهم، فقد فاتهم لقاء الله عزّ وجلّ الذي هو أعظم وأهمّ مقصود، وهو لقاء الله تعالى بما يستتبع من القرب والزلفي ونعيم الآخرة.

والمراد من الذين كذبوا هم الكفّار الذين حكيت أحوالهم آنفاً، وفي ذكر الموصول إيذان بأنّ الكذب بلقاء الله إنّما هو السبب في خسرانهم، والاستمرار عليه.

وهذه الآية الكريمة تحكى عن حقيقة من الحقائق الواقعية، التي تبيِّن الأثر العظيم الذي يترتّب على إنكار المعاد، وتكذيب البعث والجزاء، فإنّه يخسر لقاء الله، والجزاء العظيم المترتّب عليه نتيجة خسران نفسه الذي تقدّم في الآيات الشريفة بيانه. ولا ريب أنّ اللقاء المذكور من أعظم الدواعي للإيمان وتهذيب النفس، وإنّ الاستشعار بلدة القُرب أهمّ باعث للتهيؤ ليوم البعث والجزاء، وما

ص: 191

وعده الله عزّ وجلّ من النعيم والجزاء الحسن، والرضوان الأكبر الذي أعدّه الله تعالى للمؤمنين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً»

إشارة

قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً»

ما يتعلّق بالساعة

الساعة أصلها القطعة من الزمان، غلبت على الوقت المعلوم. والمراد منها الوقت المخصوص، إمّا وقت موت كلّ نفس، أو القيامة وبها تكون نهاية العالم، سُمّي بها لقلته بالنسبة إلى ما بعده من الخلود، أو باعتبار سرعة الحساب، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ثمانية وأربعين موضعاً، معظمها المعنى الثاني. وهو المراد بها في المقام أيضاً. وقد اهتمّ بها القرآن الكريم اهتماماً بليغاً، وجعل الإيمان بها من مقوّمات الاعتقاد الحقّ، وخصها بالتعظيم، وبيّن بعض خصوصيّاتها ممّا يمكن للإنسان دركها، وهو في هذه الدار الفانية، وترك بعضها الآخر في يوم المشاهدة والعيان، وأنذر الكافر بها أشدّ إنذار، ووجه الناس إليها بتوجيهات بليغة تثير الهمم في الخروج عن الغفلة لو كانوا يعقلون، وفيها مشاهد كثيرة، يكفى مشهد واحد منها وصفه عزّ وجلّ لإثارة الرعب في النفوس، ويسلب النوم عن العيون، وتُوجّل القلوب، قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلِ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ»(1). وصف رهيب توجف القلوب، ويجعل السامع حيران ممّا سيراه ويلاقيه في ذلك اليوم العظيم، فمشاهده عظيمة، ومواقفه رهيبة.

و (بغتة) أي فجأة، وبغتة كلّ شيء أتى فجأة، يقال: بَغَتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة. وهي نصب على الحال، ولكن ذهب بعضهم إلى أنها مصدر في موضع

ص: 192


1- سورة الحج: الآية 1 - 2.

الحال، كما في قولك: قتلته صبراً، ولا يقاس عليه، فلا يقال: جاء فلان سرعة.

وقد وصف سبحانه الساعة بها للإعلام بأنّها تأتي بسرعة، من غير جعل بال إليه، ولا يعلم بوقوف مجيئها، وتهاجم الناس من غير شعور، إلّا من كان مستعدّاً للقاء الله تعالى، وتزوّداً بالتقوى والعمل الصالح، فلا يبالي بوقوع الموت عليه، وقيام الساعة كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام): «والله إنّ ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه»، وهكذا يكون شأن أولياء الله تعالى، فإنّهم لا يبالون بمباغتة الساعة لهم؛ لأنّهم أماتوا شهواتهم وأهواءهم قبل موت أبدانهم، كما قال سيِّد الخلائق (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «موتوا قبل تموتوا». و (حتّى) غاية لتكذيب المشركين الظالمين بلقاء الله تعالى.

وتبيّن الآية الكريمة تبعة أُخرى من تبعات إنكارهم للبعث، فستباغتهم الساعة عليهم من غير شعور، وقد فرّطوا في التقصير مع القدرة على تركه، ولا ريب أنّ هذه المباغتة هى التى أذلّتهم وأوجبت التحسّر عندهم، فقد كذّبوا بالساعة وهي التي باغتتهم وفاجأتهم، فكان وقعها عليهم عظيماً وتوجب الندم، فتكثر الحسرة عليهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا»

قوله تعالى: «قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا».

كناية بليغة عن وقوع البعث الذي أنكروه، ومباشرتهم لأهواله، ومشاهدة تبعاته، فقد تحقّق أوانهم، وبلغ الندم بهم ما بلغ، فذهلوا فأكثروا النحسّر. والحسرة من التحسّر، وهو كشف الملبس عمّا عليه، يقال: حسرت عن الذراع والحاسر، من لا درع ولا مغفر له، والمحسرة والمكنسة، تأتى بمعنى الغمّ على وفاته، والندم عليه كأنّه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسرت قواه من فرط غمّ، أو أدركه إعياءً عن تدارك ما فرط منه، فتكون الحسرة من أشدّ الندامة

ص: 193

فتوجب الحزن على ما فات ممّا لا يمكن ارتجاعه، ولعله إليه يرجع دعاء الحسرة مع أنّها ممّا لا تعقل، أو إنّ العرب إذا أجهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم، جعلته نداءً مثل آية المقام، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرة مواضع تدلّ أغلبها على الذم، لعلّ أعظمها على الإنسان ذلك الموقف الذي قال عزّ وجلّ فيه: «كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللهُ أعمّالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ»(1). حيث اعتمدوا على أعمالهم لينتفعوا منها في وقت تنقطع الأسباب، فكانت حسرات عليهم، فما أشدّ ذلك على النفس!!

والفرط يأتي بمعنى التقدّم، يقال: فرط فلان، أي تقدّم وسبق إلى الماء، ومنه قوله (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «أنا فرطكم على الحوض» والفارط هو المتقدِّم إلى الماء، ومنه الدُّعاء للصبى «اللهم اجعله فرطاً لأبويه». وفرّطنا أي جعلنا غيرنا الفارط أي السابق إلى الطاعة، وهو يستلزم التقصير والتضييع، فيكون التفريط هو التقصير في ما قدر على فعله، والتضعيف في (فرطنا) للسلب والإزالة.

والضمير «فيها» إمّا يرجع إلى الحياة الدُّنيا، فيكون التفريط فيها هو ترك الإيمان والعمل الصالح، والاستعداد للساعة التي كانوا يزعمون أن لا حياة بعد الحياة الدُّنيا. أو يرجع إلى الساعة أو الجنّة، فيكون التفريط في شأنهما بعدم الاستعداد لها، والتقصير فى مراعاة حقّهما. ولكن أحسن الوجوه هو الأوّل؛ لذكر الحياة الدُّنيا في الآية السابقة، وبعده الساعة لورودها في ما سبق.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ»

قوله تعالى: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ».

بيان سوء حالهم في ذلك الوقت المعلوم الذي كذّبوه، والآية الكريمة تصوّر للخاطب سوء حالهم، وإبلاسهم من كلّ ما يمكن لهم النجاة به، وشدّة ما يجدونه

ص: 194


1- سورة البقرة: الآية 167

المشقّة، وما يتحمّلون من العقوبات العظيمة، ويحملون أصار الذنوب والآثام، وفيه من الذلّة والخسّة ما لا يخفى. فهم يستحقّون تلك الأوزار المتمثِّلة أمامهم،

وهم يحملونها على ظهورهم الذي يُنبئ عن أشقّ أحوال الإنسان وأردؤها.

والأوزار جمع،وزر، وهو (بالكسر) الثقل، ويُقال للذنب، قال الراغب: الوزر - بفتحين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: «كَلاً لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُ»(1).

والوزر - بالكسر فالسكون - الثقل، تشبيهاً بوزر الجبل ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل، كقوله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(2)، وقد وردت هذه المادّة بجميع اشتقاقاتها في القرآن الكريم في ما يقرب من خمسة وعشرين موضعاً.

وفي الآية الكريمة تمثيل لآصار الذنوب والآثام، ولعلّه يرجع إمّا إلى تجسيم الأعمّال والمعاني في الآخرة بصورٍ تماثلها في الحسن والقبح، فتكون أثقالاً على ظهورهم، وقد دلّت على هذا الموضوع الأدلّة الكثيرة، وتشهد عليه الشواهد الحسّية والعقليّة.

أو يرجع إلى أنّ النفس تعاني من تأثير الذنوب عليها، فتشعر بالتعب والشقاء والآلام، كما تتعب الابدان بالجهد والبلاء. فكأن صاحبها يحملها على ظهره.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»

قوله تعالى: «أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ».

تقريرٌ لما سبق، وتأكيد مضمونه، وفي تصديرها ب- (ألا) الإشارة إلى سوء

ص: 195


1- سورة القيامة: الآية.11.
2- سورة العنكبوت الآية 13.

مرتكبهم، والإهتمام بالاعتبار من حالهم فإنّه ما أسوء ما يحملونه من أثقال الذنوب ووبالها وسوء عاقبتها.

والآية الكريمة بأُسلوبها البليغ، ترشد الإنسان إلى تبعات إنكار البعث، وإنّها متعدّدة تشمل كلتا الحياتين الدُّنيا والآخرة، وقد ذكر سبحانه في الآيات الكريمة الشريفة جملة منها، وهي:

الأول: إنّ إنكار البعث يوجب جعل القلوب في أكنة وفي الآذان وقراً، فلا يفقه ما في القرآن من المواعظ والنذر، فتنبو قلوبهم وأسماعهم عن القبول والإيمان.

الثاني: إنّ المنكرين للبعث لا يؤمنون بالمبدأ، ويكذّبون جميع الآيات التي يرونها، لأنّ من لا يعتقد بالجزاء، لا يرى نفسه ملزماً بالاعتقاد بالمبدأ، ومن هنا نقول بأنّ الاعتقاد بالبعث والجزاء يلازم الاعتقاد بالمبدأ فهما متلازمان.

الثالث: إنّهم ينكرون الرسالة، ويقفون أمام الرسول موقف المجادل والخصم له.

الرابع: إنّهم في عنادهم ولجاجهم يبلغون مبلغاً ينكرون القرآن الذي يعتبر نوراً تضىء على القلوب وتلينها وتخضعها للحقّ، ويجعلون أصدق الحديث خرافات ومن أساطير الأولين.

الرابع: إنّهم يجهدون أنفسهم في سبيل منع الناس من الإيمان بالحقّ، ويدفعونهم عنه بقدر ما ينئون عنه، فكان ذلك جهداً مضاعفاً منهم في هذا السبيل، ولذا عدّ القرآن الكريم ذلك منهم هلاكاً لأنفسهم.

الخامس: إنّهم في هلاك مستمرّ، يهلكون أنفسهم رأس مالهم، ويقتلون الصفات الحسنة التي خلقها الله تعالى في نفوسهم، ويطفئون نور الفطرة عندهم.

السادس: إنّهم يموتون ويُبعثون، وإن كانوا ينكرونه ويشاهدون النار في يوم القيامة، ويكون وقوفهم كذلك موجباً لحسرتهم وتمنياتهم المتعددة، وإظهار

ص: 196

صفاتهم السيّئة التي اعتادوا عليها، وصارت ملكات خبيثة في نفوسهم، فالوقوف على النّار من آثار تكذيبهم في دار الدُّنيا.

السابع: إنّه لاستر عليهم في يوم القيامة، فينكشف ما كان مخفيّاً في قلوبهم، ويبدو ما في نفوسهم.

الثامن: إنّهم يصرّون على إنكار المعاد والبعث والحشر، رغم مشاهدتهم البيّنات الواضحة والبراهين الساطعة، ويؤثّر هذا العناد والإنكار المستمرّ منهم في نفوسهم.

التاسع: إنّ أثر ذلك يظهر يوم القيامة أنّهم يوقفون على ربّهم الجبار الرقيب، ويحاسبهم أشدّ محاسبة، وتكثر تمنّياتهم التي لا حقيقة لها، فكان وقوفهم عن إكراه وبدون رغبة منهم، لما علموه من أنفسهم، وما أنكروه في دار الدُّنيا.

العاشر: إنّه عزّ وجلّ يأخذ منهم الاعتراف بالحقّ ويقرون به لتتمّ الحجّة عليهم، فيستحقّوا العذاب بما كانوا يكفرون.

الحادي عشر: يصيبهم الخسران إذا جاءتهم الساعة بغتة، فإنّه عند لقاء الله يطمع كلّ إنسان رحمته ولكن نصيبهم الخسران من كلّ شيء فما أشدّه!!.

الثاني عشر: تكثر حسرتهم، وتتعدّد على تفريطهم في الدُّنيا، فإنّ الحسرة تزداد قوّةً، وتكثر عدداً، ويشتدّ تأثيرها تبعاً لما فرّطوه، الذي عظم أمره، وتعدّدت جوانبه، واشتدّ تأثيره.

الثالث عشر: إنّ ذنوبهم تتجسّم بصورة تماثلها فهي تحمل على ظهورهم و تثقل كاهلهم، وتسوء أحوالهم، وتتأثّر نفوسهم، ويشتدّ بهذه الحالة.

الرابع عشر: إنّ الحياة الدُّنيا التي اعتبروها مستقرهم ومأواهم، فلا حياة بعدها، ولكنّها تكون عند الله تعالى والمؤمنين بمنزلة اللعب واللهو، يلهي الناس ويشغلهم عمّا يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقيّة.

ص: 197

الخامس عشر: إنّهم فقدوا التمييز بين الأُمور الواقعيّة واللذّات الحقيقية والأوهام واللذّات الخيالية التي لا دوام لها ولا واقع، فلم يتعقّلوا إنّ الدار الآخرة هي خيرٌ محض، لمن اتّقى العقائد الفاسدة، والسيّئات والذنوب والآثام، وآمن بالله الواحد الأحد والمعاد.

هذه هي مجمل ما تضمّنته الآيات الكريمة في المقام، وهي كلّها حقائق واقعيّة متمثّلة فى أذهان المؤمنين، فازداد إيمانهم، وحسنت نفوسهم، وصلحت أحوالهم في الآخرة، واعتبروا الدُّنيا وسيلة للتزوّد من صالح الأعمال، لتكون جناناً في دار الخُلد، فكان الإيمان بالبعث وما يتعقّبه من اللوازم مبعثاً في نفوسهم لنيل المكارم وإصلاح أحوالهم، ولأجل ذلك كلّه كان الاهتمام بالمعاد وأحواله في القرآن الكريم كبيراً، فما أروع ما مثل به حال المكذبين في الدارين في الآيات الشريفة المقدّسة، وهي من أجمع الآيات في موضوع البعث والمعاد، وبيان أحوال المكذِّبين بلقاء الله تعالى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»

إشارة

قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ».

ردّ على زعم المكذِّبين، وقولهم «إنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»، وبيان لحقيقة الدُّنيا التي لدنوّها أو دناءة حالها تكون بمنزلة اللّعب واللّهو، فهي تشغل الإنسان عن ما يهمّه في سبيل سعادته، وأنّ أحكامها تدور مدار المقاصد الوهميّة، والأُمور الاعتبارية، وإنّ المعتقدات فيها مبنيّة على ضرب من الوهم والخيال، وإنّ نعيمها والسعادة فيها محدودة آيلة إلى الفناء ولا بقاء لها، وإنّ الإنسان في هذا الدار قرين الخوف والحزن.

وقد وصف سبحانه تعالى في هذه الآيات كلتا الحياتين بأدقّ الأوصاف، تبيّن حقيقتهما

ص: 198

فإحداهما: تقوم على الدوام والتأبيد، وأحكامها تبتني على الواقع والعيان، ونعيمها خالية عن النقص، وحياتها عن الخوف والحزن، وسعادتها حقيقة.

والأُخرى تقوم على الوهم والخيال، وأحكامها اعتباريّة، ومقاصدها وهميّة، وعقائدها سراب وخيال، نعيمها محدودة ومنقضية مقرونة بالنقص وحياتها مشوبة بالخوف والحزن والفناء، وسعادتها وهميّة، وهي ليست بخير ولا توصل إلى الخير، فإذا كانت حقيقتها كذلك، فليس للعاقل أن يغترّ بها.

الفرق بين اللّعب واللّهو

واللّعب واللّهو يشتركان في أنّهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمّه، وصرف الهمّ بما لا يصلح أن يصرف به، والفرق بينهما:

أنّ الأوّل: ما قصد به تعجيل المسرّة والاسترواح به.

والثاني: كلّ ما شغل من هوى وكرب وإن لم يقصد به ذلك، فكلّ ما شغلك فقد ألهاك. ويعبّر عنه عن كلّ ما به استمتاع باللهو. فترجع حقيقة اللّعب إلى ما ينتفع به، واللّهو ما يلتهى به، ومن أجل ذلك اختصّ الدُّنيا بهما، ولأنّهما محدودان موصوفان بالإنقضاء والفناء، ولا يدومان ولا طائل لهما، كانت الدُّنيا موصوفة كذلك، كما عرفت.

ومن ذلك يعلم أنّه ليس من اللهو واللعب ما كان من أُمور الآخرة، أو كان مردّاً للآخرة، لخروجهما عن حقيقة اللّعب واللّهو، كما عرفت، و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): «الدُّنيا دار صدق لمَن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمَن تزوّد منها».

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ»

قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ».

توصيف دقيق لبيان المقايسة بين الدار الآخرة والحياة الدُّنيا. فالدار مستقرّ الإنسان ومحلّ عيشه وراحته، فقد وصف سبحانه حياة الآخرة بالدار لاستقرارها

ص: 199

ودوام عيشها وهناءته واستقراره، وسُمِّيت بالآخرة لتأخّرها عنّا، والدُّنيا لدنوّها منّا، أو لدناءتها بالنسبة إلى الآخرة. والدار مبتدأ، والآخرة صفة لها، كما ورد في قوله تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ»(1)، وخير خبره، وسيأتي في البحث الأدبي مزيد بيان.

وأطلق الخير ليشمل جميع ما يمكن تصويره فيه، فهي خير لدوامها وخلود منافعها، وخلّوها عن المنغصات الدنيويّة، وكونها مقصودة للعاقل، وتعدّدها واشتمالها على النِّعم الروحانيّة والمعنويّة والمادّيّة، ولأجل ذلك لا ينال مثل هذا الخير إلّا الذين يتقون ربِّهم فى دار الدُّنيا.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَفَلَا تَعْقِلُونَ»

قوله تعالى: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

وعظ لهم بالتفكّر فى الدارين، والتعقّل في أحكامهما وما فيهما. أي أتغفلون فلا تعقلون، وإنّه لو تعقّلتم لأمنتم وزهدتم في الدُّنيا، وقرأ بعضهم بالتاء للخطاب «تَعْقِلُونَ» فاتّقوا الله سبحانه، واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والكذب والعصيان، والجملة عطف على محذوف، أي أفلا تغفلون فلا تعقلون، كما عرفت.

***

ص: 200


1- سورة القصص: الآية 83

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بالجهات الأدبية للآيات الكريمة

بحث أدبي:

(الأكنة) في قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ» جمع كنان، لأنّ فعالاً بفتح الفاء وكسرها - يجمع في القلة على أفعله كأحمرة، وفي الكثرة على فعل – بضمّ الفاء والعين كحُمُر، إلّا أن يكون مضاعفاً، أو معتل اللّام، فيلزم جمعه على أفعله كأكنّة، وأخبية إلّا نادراً. وفعل الكن ثلاثي ومزيد.

وفي «مفردات» الراغب أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين للتفخيم.

والواو في «وَجَعَلْنَا» للعطف على الجملة قلبها عطف الفعلية على الإسمية. وقيل: الواو للحال، أي وقد جعلنا

وفي وضع الموصول موضع الضمير في قوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ذمّاً لهم بما فى حيّز الصلة، والإشعار بعلّة الحكم.

و (حتّى) في قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءُوكَ» هي التي تقع بعدها الجمل، ويقال لها: حتّى الابتدائية، ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافاً لبعض النحاة، كما هو مفصل في كتب النحو.

وذكر بعضهم: أنّ (حتّى) إذا وقع بعدها (إذا)، يحتمل أن تكون بمعنى الفاء، وأن تكون بمعنى إلى، والغاية معتبرة في الوجهين.

و(الأساطير) قيل أنّه اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد. ولكن المعروف أنّ هذا لا تسميه النحاة اسمَ جمع لأنّه على وزن الجمع، بل يسمّونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد، وقيل: إنّه جمع جمع، فهو جمع أسطار - جمع سطَرَ بفتحتين.

ص: 201

والضمير في ( ينهون عنه وينأون عنه) راجع إلى الرسول، فيكون من الالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة، وإن رجع إلى القرآن فلا التفات.

وذكرنا في التفسير إنّهم قرءوا بنصب نكذب ونكون بإضمار أنّ بعد الواو، فيكون المصدر المنسبك من أن والفعل مرفوعاً معطوفاً على مصدر متوهم، فيكون الواو المنصوب بعدها على جواب التمني.

وقرئ ولا نكذب ونكون بالنصب، بإضمار أنّ على جواب التمنى.

وردّه بعضهم: بأنّ نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، بل الجواب ما ذكر آنفاً، والجميع من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينهما، إلّا أنّ كلّ واحد متمنى وحده. وقرئ ولا نكذب ولا نكون برفعهما عطفاً على نرد، فيكونان داخلين في التمنى، أو رفعاً على الاستئناف والقطع، أي ونحن لا نكذب ونكون.

وقرئ برفع ولا نكذب عطف أو الاستئناف، ونكون بالنصب عطفاً على مصدر متوهم، وتكون أن مضمرة بعد الواو.

والضمير في قوله تعالى: «إنْ هِىَ» يعود إلى الحياة، كما عرفت. وقد نصوا على صحّة عود الضمير على متأخِّر لفظاً ورتبة في مواضع، منها إذا كان خبر الضمير مفسراً، كما هنا.

وبعضهم جعله ضمير الشان، ولكن الجمهور اشترطوا في خبره أن يكون جملة، وخالفهم الكوفيون فقالوا بجواز كون خبره مفرداً، إمّا مطلقاً، أو بشرط كون المفرد عاملاً عمل الفعل كاسم الفاعل. والتفصيل مذكور في كتب النحو.

والغاية المذكورة في قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ» للتكذيب لا ،الخسران، فإنّه لا غاية لخسرانهم.

ونصب (بغتة) إمّا على أنّها مفعول مطلق لجاءتهم، على حدٍّ رجع القهقري، أو لفعل مقدّر من اللّفظ أو من غيره. أو على أنّها مصدر واقع موقع الحال من

ص: 202

فاعل (جاء تهم)، أي مباغتة، أو من مفعوله أي مبغوتين، وهو أحسن الوجوه.

و (ما) في قوله تعالى «عَلَى مَا فَرَّطْنَا» مصدرية. وقيل موصولة، بمعنى التي أي الأعمال، والضمير عائد لها.

و(ساء) في قوله تعالى: «أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» تحتمل ثلاثة أوجه:

أن تكون المتعدية المنصرفة وزنها فعل بفتح العين. وما موصولة أو مصدرية أو نكرة موصوفة فاعل لها. والمعنى ألا ساءهم ما يزرون.

أو أنّها حوّلت إلى فعل اللّازم بضمّ العين، وأُشربت معنى التعجب، والمعنى ما أسوء الذى يزرونه، أو ما أسوء وزرهم.

أو أنّها حوّلت للمبالغة في الذمّ، فتساوي بئس في المعنى والأحكام.

ثمّ إنّ بعض تلك الآيات المباركة قد وردت في موضع آخر من الكتاب العزيز، نذكرها مع بيان الفرق بينهما.

الأوّل: قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ».

وفي سورة يونس: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ»(1)، حيث ورد الفعل في المقام مسنداً إلى ضمير المفرد، وفي الثانية إلى ضمير جماعة، مع استوائهم واتفاق الغايتين.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ لفظ (من) لفظ مفرد، ولكنّه يصلح للجميع وعلى هذا وضعه، فإذا ورد في الكلام، فأوّل ما يحمل على السابق من حكمه اللّفظي من الإفراد، ولهذا ترد صلته إن كان موصولاً، أو صفته إن كان موصوفاً، أو خبره إن كان شرّاً، أو استفهاماً كصلته الذي الواقع على المفرد، كما هو مفصّل في كتب الأدب.

ص: 203


1- سورة يونس: الآية 42.

وعلى هذا تكون آية المقام وردت على الأكثر المطرد، وقد بيّن عزّ وجلّ أنّ المراد جماعة في قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً» فارتفع الاحتمال.

وأمّا في سورة يونس، فلم يرد ما يمكن أن يحمل عليه، أتى الضمير ابتداءً ضمير جمع حملاً على معنى (من)، ولم يحمل على لفظها، فقيل «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» وليس بعد ذلك ما يبيّن ذلك عكس آية الأنعام، كما عرفت.

الثاني: قوله تعالى: «وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

وفي سورة المؤمنين: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ»(1).

وفي سورة الجاثية: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ»(2).

فإن هذه الآيات الثلاث تشترك فى محصولها من إنكارهم البعث وأنّه لا حياة بعد الحياة الدُّنيا، ولكن آية الأنعام اقتصرت على ما فيها، وزيادة (نموت ونحيا) في الأخريين. وانفردت آية الجاثية بقولهم: «وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» بدل قولهم في الأوليّين: «وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

ويمكن الجواب عنه: بأن آية الأنعام لم يرد في ما تقدّمها زيادة على ما أخبروا به من إنكارهم البعث فقد ورد فى ما تقدّمها: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، وهي تدلّ على وجود الحياة الأخروية ردّاً على إنكارهم لها.

وأمّا آية المؤمنين ففيها زيادة قولهم «نَمُوتُ وَنَحْيَا»، وهو مترتب على ما

ص: 204


1- سورة المؤمنين: الآية 37.
2- سورة الجاثية: الآية 24.

تقدّمها من دعاء الرُّسل إيّاهم، وعنادهم لهم، وقولهم في الرسول: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ ممّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ ممّا تَشْرَبُونَ»(1)،ممّا سبّب أن يقول بعض سفهائهم هذا القول: «نَمُوتُ وَنَحْيَا» أي تموت طائفة وتحيا طائفة.

وأمّا آية الجاثية، فقد أفصحت عن أفعالهم الشنيعة، وأقوالهم الفضيعة، فزادوا على إنكارهم،البعث، فقالوا: «وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»، فقد أنكروا توقّف الموت على آجال محدودة للخلائق، ومقدّرة من خالقهم العظيم، ثمّ أتبعوا ذلك أنّهم قالوا تحكيماً لإنكارهم البعث «فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»، فتضمّنت الآية شنائع أقوالهم، فاشتملت على ما لا يتأتى في غير هذه الآية من مثيلاتها.

الثالث: قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ».

وفي سورة العنكبوت: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ»(2).

وفي الحديد: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(3).

وفي سورة محمّد: «أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(4).

فإنّ في آيات ثلاث منها ذكر فيها اللّعب قبل اللّهو، بخلاف آية العنكبوت فإنّها بالعكس.

ولعلّ الوجه في تقديم اللّعب، لأنّه المتقدّم في الوجود في الدُّنيا على اللّهو، ولأنّ أوّل ابتداء تعقل الإنسان حال اللّعب، فهو المطابق لسنّ الابتداء، فإذا استمرّ ألهى عن التدبّر والاعتبار، وشغل تماديه عن التفكّر فيما به النجاة والفوز، فيحصل بهما أو بانضمام غيرهما إليهما بالغفلة عن النظر في الآيات، فيعقب الهلاك، فجرت

ص: 205


1- سورة المؤمنون: الآية 33.
2- الآية 64.
3- سورة الحديد: الآية 20.
4- سورة محمّد: الآية 36.

الآيات الثلاث على وفق الأعمّار والطبيعة، كما فصّلت ذلك آية الحديد تفصيلاً دقيقاً.

وأمّا آية العنكبوت فقد تقدّم قبلها قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّه»(1)، ومثل هذا السؤال والجواب لا يتحقّقان إلّا من جاوز سنّ اللّعب، وبلغ سنّ الرُّشد والتكليف، ممّا يصحّ خطابه وعتابه، فناسب ذكر اللّهو واللّعب، ولبيان المانع من الاستجابة وتكميل النظر الذي يخلصهم من العذاب، كما أنّ في تأخير اللّعب لأنّه متبوع اللّهو لزوماً لمن لم تكن سابقة سعادة، فكانت في مقام المحاجّة مع المشركين، وإقامة الحجّة عليهم، فذكر فيها اللّهو قبل اللّعب.

أو للإرشاد بقصر مدّة الحياة الدُّنيا بالقياس إلى الآخرة، وتحقيرها بالنسبة إليها، ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير، وعقّب ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهيَ الْحَيَوَانُ» والاشتغال باللّهو ممّا يقصر به الزمان.

الرابع: قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

وفي سورة الأعراف «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(2).

وفي سورة يوسف: «وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(3). والآيات الثلاث تشترك في بيان تفضيل الحياة الآخرة، وأنّها خير، والعاقل لا يترك الخير لغيره.

ولكن السؤال فيها من وجوه:

ص: 206


1- سورة العنكبوت الآية 61.
2- سورة الأعراف الآية 169.
3- سورة يوسف: الآية 109.

أوّلها أنّ آية الأنعام و(للدار) باللّام الموطّئة للقسم، وفي الأعراف (والدار) بغير اللام.

ثانيها: في آيتي الأنعام والأعراف تكون نعتاً للدار، وفي سورة يوسف على الإضافة.

ثالثها: قوله تعالى في السورتين: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ»، وفي سورة يوسف: «ولِلَّذِينَ اتَّقَوْا».

والجواب عن الأوّل: أنّ آية الأنعام قد سبقها ما يكون معرّفاً بحال الدُّنيا، قال تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»، فيكون التأكيد جارياً على وفق سياق الكلام، فقد حصل التأكيد من أُسلوب الكلام، المتضمّن من (ما) النافية (إلّا)، فناسب هذا مجىء اللّام الموّطئة للقسم الداخلة على المبتدأ، فتكون الآية بمجملها معرّفة بحال الدار الأُخرى في قوله: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ»، فناسب هذا مع ما تقدّم قبله، وليس فى آية الأعراف ما يقتضى هذا، فإنّها وردت بعد قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرَثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى»(1) فليس في الكلام ما يقتضى الحلف فلم تدخله اللّام.

والجواب عن الثاني: أنّ جري النعت فى آيتى الأنعام والأعراف لجهة مطابقة قبل كل واحدة من الآيتين، ففي الأنعام قوله تعالى حكاية عنهم: «وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيا»، فطابق هذا قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ».

وفى آية الأعراف قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرَثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى»، فقابله قوله تعالى: «وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ».

ومثل ذلك لم يكن في سورة يوسف، فقد ورد لفظ الدار بغير الألف واللام،

ص: 207


1- سورة الأعراف: الآية 169.

فقال عز وجل: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ»، فناسب كلّ مقال لمقامه.

والجواب عن الثالث: أنّ آية يوسف قد تقدّمها قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ»(1) الدالّ على أنّهم ظلموا أنفسهم فأهلكوا، ولو اتّقوا لفازوا ونجوا، فناسب ذلك مجيء اللّفظ ماضياً فى قوله تعالى: «للذين اتقوا».

***

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات الشريفة

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمُور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» على أنهم كانوا على أعلى درجة الاستماع والإصغاء، وهو يستدعى الانتباه والتعقّل والفهم، ولكن المانع من الوصول إلى المقصد هو عدم التفقّه والوقر في الآذان، فلنبوء قلوبهم عن الإيمان وأسماعهم عن الحقّ، فالاستماع والإصغاء إنما يؤثّر في ما إذا لم يكن هذا المانع، ولهذا اقترن الخطاب بالتوبيخ والتقريع، لإمكان إزالته باختيارهم.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ» على أنّه السبب في جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم، فيكون عدم الإيمان بالآيات، ومجادلتهم مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وتوصيف القرآن بأنّه أساطير الأوّلين، أسباباً لذلك الجعل الذي يكون ملازماً لهم ما دام السبب موجوداً فيهم، واستقرارها في نفوسهم، حتّى صارت ملكات سيّئة، ومن العلل الماديّة لهذا الجعل الإلهي وعدم انتفاعهم بحواسهم وقلوبهم، وعدم اهتداءهم إلى السبل التي توصلهم إلى السعادة والكمال المنشود.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ» على شدّة منازعتهم

ص: 208


1- سورة يوسف: الآية 109.

مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وغاية إنكارهم لرسالته، وشدّة إعراضهم عن الإيمان به، فتعدّوا عن النيّة والعقيدة إلى القول والفعل، كما دلّت عليه الآية اللّاحقة.

الرابع: قيل إنّه يستفاد من قوله تعالى: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» أنّهم كانوا متّصفين بالنفاق الشديد و متظاهرين به، فهم يمنعون الناس عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ويحفظونه عن أعدائه، ولكنّهم في نفس الوقت يبتعدون عن الإيمان به، وهذا شأن كلّ من كان عمله على خلاف اعتقاده ونيته كالمنافقين وغيرهم.

وأراد بعض المفسّرين تبعاً لهذا التفسير تطبيق الآية الكريمة على بني هاشم عشيرة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فقد كانوا ينصرونه ويمنعون قريشاً عنه، وهمّ ينأون ويباعدونه ولا يؤمنون به، بل قال بعضهم إنّ الضمير (هم) يرجع إلى أبي طالب وأتباعه وأضرابه، والمجرور للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أي ينهون أذيته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولا يؤمنون به، واستشهدوا على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنّه قال: إنّ الآية نزلت في عمومة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكانوا عشيرة.

بل قيل: إنّ ضمير الجمع يرجع إلى أبي طالب وحده، وجمع استعطافاً لفعله حتّى كأنّه ممّا لا يستقلّ به واحد، وقيل غير ذلك.

ولا يخفى بُعد تلك الأقوال، بل تعسّفها والتناقض الواضح فيما بينها، مع إن الضمير -كما عرفت - في (عنه) يرجع إلى القرآن. وأن مجموع الآيات نزلت في ذمّ فعل المشركين الظالمين، وإظهار أكاذيبهم فلا يناسب ما ذكروه، لأنّ تجريد هذه الآية عن مثيلاتها يضرّ بالأسلوب

وأمّا استفادة بعضهم من هذه الآية على أنّ أبا طالب (رضیَ اللّهُ عنهُ) لم يؤمن، فهو مبني على أساس باطل، ومخالف لإجماع الإماميّة، كما ادّعاه جمع من علمائهم، فمنهم الطبرسي (قدّس سِرُّه) في «المجمع» قال: «قد ثبت إجماع أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بإيمان أبي طالب، وإجماعهم حجّة». وتدلّ عليه جملة من الأخبار والقرائن، كما يأتى ذكرها.

ص: 209

الخامس: يستفاد من تأخير النأي عن النهي تأكيدهم على التباعد، وغاية نفورهم، وإصرارهم على النهي، فإنّ اجتناب الناهي من المنهي عنه من متمّمات النهي.

السادس: يدلّ قوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ»، على أنّ المجادلة مع الحقّ، والتمادي في الغيّ، والإصرار على التكذيب، يوجب الدخول في أفظع العذاب، ويؤدّي بصاحبه إلى أنزل دركات العقاب، وهو عذاب الضلال والإضلال، ولا نظير لمثل هذا الهلاك الذي يفقد الإنسان نفسه، ويوقعها في الضلال، ويسعى فى الإضلال، وقد جمع العذاب الدنيوي والأخروي، فما أشدّ هذا الهلاك وأفظعه. وأعظم ما لا يشعر به المكذبون.

وإنّما عبّر عزّ وجلّ بالهلاك دون الضرر وغيره، لبيان أنّ ما يحيق بهم إنّما هو الهلاك دون مطلق الضرر، فإنّه قد يصيب غيرهم من المؤمنين، وللدلالة على أنّهم لم يريدوا مطلق الممانعة، بل كانوا يبغون الغوائل والهلاك لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، كما دلّت عليه سيرتهم العملية وأفعالهم الشنيعة، فأصابهم الهلاك بما أضمروه وما فعلوه.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» على أنّ وقوفهم ضد الحقّ في دار الدُّنيا، وإيقاف أنفسهم على الحجود والإعراض عن آيات اللّه تعالى، وإصرارهم على التكذيب، يوجب هذا التنوّع من العذاب، وهو الوقوف على النار التي كانت في دار الدُّنيا تلازمهم، وقد أخفوها في أنفسهم من الكفر والستر للحق، وقد ظهرت في الآخرة عياناً، وانكشفت أفعالهم في ضمن أمثال تناسبها، فيطلعون عليها أنّها كانت في الحقيقة ناراً فليس لهم إلا الاكتواء بها. والتعبير بالوقوف للدلالة على اطلاع هلاك أنفسهم الذي لم يشعروا به في الدُّنيا، فلابدّ منه قبل التعذيب بالنار.

ص: 210

وأمّا قوله تعالى «وَلَوْ تَرَى الدالّ على إبداء الرغبة والإرادة من دون التحقق فى الخارج، لأنّه اللّه إما رحمة إلهية مهداة، فلا يتحقّق منه الوصول إلى محل العذاب، أو لتهويل الأمر وفظاعة العذاب، ممّا لا يصل الذهن إلى ماهيته

وحدودها.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: «فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا تُكَذِّبَ» اليأس من حالهم، وتيّقن العذاب لهم ممّا أوجب عروض الندم عليهم، فجعلهم يتمنّون ما لا يمكن تحصيله ووقوعه، وأنّ سبيله هو الوقوف على النار، ومتعلّق التمنّي يدلّ على عظيم تأثّرهم بها، فيكون بروز ما أنفسهم على ألسنتهم بالإيمان والدخول في زمرة المؤمنين، ممّا تدعو إليه الفطرة، ولكنّهم غفلوا عنها، فإنّ داعى اللّه تعالى يظهر فى وقت الاضطراب وشدّة النوم، ولكنّهم طمسوا تلك الفطرة، وأطفئوا نور العقل، فإذا ردّوا إلى الدُّنيا كان ذلك الحاجب موجوداً فلم ينتفعوا من الردّ الذي تمنّوه، كما قال تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ».

التاسع يدلّ الإضراب في قوله تعالى: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» على تهويل الأمر وتقطيع الحال، فإنّ الأمر قد تعدّى من التمنّى ووصل إلى حدّ العيان واليقين.

كما أنّ كلمة ( بدا) تدلّ على أن المبدأ كان مخفيّاً عندهم فظهر، وهو إمّا الفطرة المودعة فيها المبدأ والمعاد وغيرها من الأُصول الاعتقادية الصحيحة المثمرة، أو العقل الذي يدعو إلى التعقّل والتفهّم، ونبذ ما يوجب الضلال والإضلال، أو ما احتوت أنفسهم من الملكات السيّئة ورذائل الأخلاق التي اكتسبوها بالكفر والتكذيب والعصيان. أو النار التي كانت مخفية وهى نار الضلال وقبائح الأعمال، -كما ذكرنا آنفاً - فصارت عياناً لهم أو بدا لهم إنّ تكذيبهم ومحاجتهم مع الرسول، وتوصيف كتاب اللّه تعالى بأنّه أساطير الأوّلين، لم تكن

ص: 211

لها واقع وظهر بطلانها، لقوّة البرهان على صحّتها وتمامية الحجّة عليها. فيكون الإخفاء أعمّ من أن يكون بالقصد والإرادة، أو ما كان ظاهراً في نفسه، ولكنّه خفي بسبب الاعتقادات الفاسدة، والأعمال القبيحة، والتقاليد السخيفة، فاختفى ما أودع في الفطرة من الفضائل والكمالات، إلّا أنّها تظهر في دار الآخرة من خير وشرّ، كمال قال تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ»(1).

العاشر: يدلّ قوله تعالى: «بَلْ بَدَا لَهُمْ» على أنّ تمنّي أُولئك لا يغير الواقع، ولا يبدّل حقيقة نفوسهم، فهم وإن تمنّوا الخروج ممّا حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغيّر، وإن كانت الحقائق لها أطواراً مختلفة في الدُّنيا والآخرة باختلاف الأحوال والأزمان، فما أعظم هذه الآية الكريمة في ردّكيد الأعداء وبطلان تمنياتهم في زوال الحقّ وطمس أعلامه.

الحادي عشر: يكشف قوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ» عن حقيقة لها الدخل الكبير في تزكية النفس، فإنّ الإنسان إذا علم إنّ أعذاره وتمنّياته لا تنفعه، وإنّها لا تغيّر الحقائق، فإذا عاين الهلاك وما حلّ به الشقاء، تحصل عنده داعية الترك، فيندم على ما فعل ويتمنى ما يخلّصه من التهلكة، ولكن داعية الفعل بعد ضعيفة أو معدومة عنده، فإذا ارتفع المانع عادت هذه الداعية، وعاد إلى ما نهي عنه، فلابدّ للإنسان أن يختار السبل في تثبيت داعية العمل في كسب العمل والتزوّد بالكمال، حتّى يألف الطاعة، ويتعوّد على الأخلاق الحسنة، حتّى يستعدّ استعداداً ذاتيّاً، فإن عاين الحقيقة في دار الآخرة فلا يضرّه شيء ولا يندم عليه ولا يتحسّر كما عليه أهل التقصير والتفريط، ومن ذلك يظهر سرّ قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» فقد شمل الكذب جميع أحوالهم، ولزمهم في جميع العوالم، فبطلت

ص: 212


1- سورة الحاقة: الآية 18.

اقتراحاتهم، وتبيّن زيف تمنيّاتهم، فقد اقترنوا بالكذب الذي هو مفتاح كلّ شرّ.

فمن أراد الإقامة على صراط الحقّ والفضيلة، لابدّ أن يحمل نفسه على الطاعة وإتيان العمل الصالح، والمداومة عليه، ليمكن ترويض نفسه على كسب الفضائل، لتعيد ملكات حسنة له تنفعه في جميع العوالم التي يرد إليها، فلو تمنّى في الدار الآخرة الرجوع إلى الدُّنيا، إنّما هو لأجل المزيد من العمل ونيل الثواب، فيرجع إلى سابق عهده من كسب الكمال واكتساب الفضائل، وتبدأ هذه التربية الصالحة من الوقت المبكّر، حتّى ينشأ الطفل عليها، ويتعود على ما تعلّمه وتربّى عليه.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنيا»، على شدّة تعلّقهم بالدُّنيا، واهتمامهم بإنكار البعث، وإنّ ذلك يرجع إلى إنكارهم لما وراء الحسّ، سواء كان عن عقيدة منهم وتبنّي الفكر الفلسفي، أم كان ذلك سيرة عملية لهم لركونهم في دار الدُّنيا على ملاذّها وافتتانهم بها، فاستولت على مشاعرهم فاقتصروا على ما في الدُّنيا، ولا ريب أنّ مثل ذلك يفضى إلى إنكار المبدأ أيضاً، والإعراض عن كلّ مكرمة وفضيلة، فإنّ الاقتصار على الدُّنيا التي حقيقتها التغيّر والفناء، يستلزم إنكار القواعد والثوابت التي يقوم عليها الكيان الأخلاقي، كما هو واضح، فعند العرض في يوم القيامة والوقوف على ربِّهم تثبت الحقيقة عندهم ويعترفون بالمبدأ، فتكون حقيقة هذا الوقوف هي الإطلاع على عظمة ربهم ومعاينة آثار قهره وسلطانه، فقد رأوا البعث حقّاً، وتحقق لهم الوقوف على ربّهم مشهوداً، فلابدّ لهم من الاعتراف بالحقّ والإقرار بالمبدأ، وأكّدوا إقرارهم بأنواع التأكيد طمعاً لا حقيقة.

الثالث عشر: يستفاد من قوله تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه» أَن لقاء اللّه إنّما هو حقيقة الإيمان باللّه تعالى، وهو ثمرة عبادته وطاعته عزّ وجلّ في

ص: 213

الدُّنيا، وأنّ الذى خسره المكذِّبون هو أشرف الغايات وحقيقة الإيمان، ولأجل ذلك كان التكذيب بلقاء اللّه سبحانه يستلزم خسران النفس والوقوف على النار وما يجري عليهم من الأحوال.

ومن هنا يعرف الوجه في تفسير البعث بلقاء اللّه، لبيان أنّ الغرض منه ذلك، فإنّهم وإن صدقوا ما جحدوه، واعترفوا بما أنكروه عند وقوفهم على ربّهم، ولكن لا يرجع ذلك إلى الغاية المنشودة، وهي لقاء اللّه تعالى الذي هو أقصى مراتب الفوز والفلاح.

الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» شدّة غفلتهم، وكمال ضلالهم، فقد فاجأتهم الساعة ولات حين استعداد، فلا رجوع عن عادة أو تقليد، ولا التفات إلى سوء العاقبة، فهم يموتون على ما عاشوا عليه؛ فهذه الآية الكريمة تؤكّد ما ورد في الآية السابقة، فإنّ خسرانهم بلقاء اللّه إنّما هو حاضر في حال الدُّنيا، والهلاك قرين نفوسهم

الخامس عشر: يستفاد من قوله تعالى: «قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا»أنّ هذه الحسرة نحو تعذيب لهم، كما لا يخفى.

السادس عشر: يرشد قوله تعالى: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ» إلى تجسّم الأعمال، وأنّ هذا النوع من التكذيب بآيات اللّه تعالى يلازم هذا النوع من العذاب.

السابع عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» على حقيقة من الحقائق الواقعيّة، وهي أنّ الدُّنيا حقيقتها الغرور وقد اغترّ بها الكافرون المكذِّبون، واعتبروها مستقرهم ومأواهم، كما حكى عزّ وجلّ عنهم في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وتظهر بوضوح حقيقة هذه الدار الفانية التي تبتني على الوهم والخيال واعتباراتٍ ولذات فانية، تحدث في النفس سرور موهوم موقت.

ص: 214

من توصيفه سبحانه للحياة الأُخرى بأنّها خير، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها. كما إنّه لا ريب في خستها لأنّ المحسوس أدنى من المعقول.

والخير الوصف مطلق، يدلّ على محبوبيّة تلك الدار لخلوّها عن الوهم والخيال، والغمّ والحزن، ويكون أبديّاً وشاملاً لكل ما يتصوره العقل وتقبله النفس، فإذا كانت الأفعال في الدُّنيا والحياة فيها ممّا يستلزم جلب الخير الأخروي كان خيراً، والعقل يدعو إليه وترنوا إليه النفس، وخرجت عن كونها لعباً ولهواً، كما عرفت.

***

بحث روائي وفيه ذكر الروايات الواردة في تفسير الآيات

بحث روائي في «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ»، قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)ويمنعون قريشاً، وينأون أي يباعدون ولا يؤمنون به.

أقول: يقرب منه ما روي عن عطاء ومقاتل أن المراد أبو طالب علم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّه كان ينهي قريشاً عن النبي وينأى عنه ولا يؤمن به.

وما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال، أنّه قال: إنّ الآية نزلت في عمومة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وكانوا عشرة، وكانوا أشدّ الناس معه في العلانية، وأشدّ الناس عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في السرّ.

وكيف كان، فقد ذكرنا ما يتعلّق بها في البحث الدلالي، وعرفت أنّها تنافي السياق الوارد في ذمّ المشركين، وأنّ الذمّ بالمجموع من حيث المجموع، وأنّ هذه الروايات منافية لمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وإجماعهم الدالّ على إيمان أبي طالب، واخبارهم به متظافرة، وقد بحث هذا الموضوع عدّة من العلماء في كتبهم التاريخية والكلامية، بل صنّف بعضهم في خصوصه كتباً ورسائل، ويأتي في

ص: 215

الموضع المناسب تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ»، قال: من عداوة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

أقول: هذا من التطبيق، فإنّ الآية تشمل كلّ ما له دخل في السعادة أو الشقاء والعذاب، كما عرفت في التفسير.

وفي «تفسير العيّاشي» عن خالد عن أبي أبى عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، أنّهم ملعونون في الأصل».

أقول: وهو يدلّ على قابليّتهم لهذا اللّعن واستعدادهم لتلقّيه، ولذلك أسباب عديدة منها الملكات السيّئة والأعمال القبيحة والعصيان، ومنها ما قدّر لهم في عالم الذر الذي هو عالم الاقتضاء، وغير ذلك من المقتضيات.

وفيه أيضاً: عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «إنّ اللّه قال للماء: كُن عذبا فراتاً أخلق منك جنّتي هل طاعتى، وقال للماء: كُن ملحاً أُجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتى، فأجرى المائين على الطين، ثمّ قبض قبضة بيده وهي يمين فخلقهم خلقاً كالذرّ، ثمّ أشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم وعليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار كوني ناراً، فاذا ناراً تأجج (تأججت)، وقال لهم: قعوا فيها، فمنهم مَن أسرع، ومنهم مَن أبطأ في السعي، ومنهم من لم يبرح مجلسه، فلمّا وجدوا حرّها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد.

ثمّ قبض قبضة بيده فخلقهم خلقاً مثل الذر مثل أُولئك، ثمّ أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين، ثمّ قال لهم: قعوا في هذه النار، فمنهم من أبطأ، ومنهم من اسرع، ومنهم مَن مرّ بطرف العين فوقعوا فيها كلّهم. فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يُصبهم شيء، وقال الآخرون: يا ربّنا اقلنا نفعل كما فعلوا

ص: 216

قال: قد أقلتكم، فمنهم من أسرع في السعي، ومنهم مَن لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرّة الأولى، فذلك قوله: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكَاذِبُونَ».

أقول: هذا الخبر من جملة أخبار كثيرة التي تثبت عالم الذرّ الذي دلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»(1).

وهو من العوالم التي يرد عليها الإنسان، ويعبّر عنه بعالم الميثاق، حيث أخذ عزّ وجلّ من جميع البشر العهد والميثاق على الوحدانيّة، وما يلازمها من المبدأ والمعاد، وأودعها في الفطرة.

ولا ريب أنّ الإنسان في كل عالم يرد عليه مرتبط بأنظمة خاصّة قويمة لا يمكن إنكارها، وترتبط هذه العوالم بعضها مع بعض ترابطاً وثيقاً، فمثلاً أنّ نظام الطاعة والمعصية في الدُّنيا يرتبط بعالم آخر ونشأة أُخرى، وهي عالم الذرّ والعهد والميثاق، كما أنّ نظام الثواب والعقاب فى عالم الآخرة يرتبط بنظام الطاعة والمعصية في الدُّنيا.

والحديث السابق يبيِّن هذا النوع من الترابط، فإنّه يدلّ أنهم لو ردوا من الآخرة بعد البعث والحشر إلى الدُّنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه وأنّهم لكاذبون، لأنّهم كذبوا في عالم الذرّ، وهو المراد من الأصل في الحديث السابق.

وقد عرفت في التفسير أنّ الآية الكريمة ذو وجوه، وهذه الأحاديث تبيّین بعضها. ويأتي تتمّة الكلام في عالم الذرّ في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

وفي «عيون أخبار الرضا» بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 217


1- سورة الأعراف الآية 172.

سألته: يعلم اللّه الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف يكون؟

فقال: إنّ اللّه تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال عزّ وجلّ: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، وقال لأهل النار: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» فقد علم عزّ وجلّ إنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه».

أقول: الحديث يبيِّن الوجه في الأخبار عن المستقبل بلسان الحاضر، فإنّ الجميع الماضى والحاضر والمستقبل، أو بعبارة أُخرى ما كان ولم يكن حاضر الديه عزّ وجلّ، وأنّ علمه بالمستقبل كعلمه بالحاضر، وقد عرفت ذلك في مواضع متعدّدة من هذا التفسير، فراجع.

وفى «المجمع» عن الأعمّش، عن أبي صالح، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى: «يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ - الآية» قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): « يرى أهل النار منازلهم من الجنّة فيقولون: يا حسرتنا».

أقول: إنّه واحد من الحسرات العديدة التي تنتابهم في تلك الحالة، كما عرفت في التفسير.

وفي «الكافي» رفعه عن هشام بن الحكم، قال:

«قال لى أبو الحسن موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا هشام اللّه وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة، فقال تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

أقول: تقدّم أنّ الآية تبيِّن حقيقة الدُّنيا التي هي الوهم والخيال، والعقل يدعو إلى العظة والاعتبار والتماس الحقيقة، فالحديث يرشد إلى ما تضمّنته الآية الكريمة من الوعظ والاعتبار.

***

ص: 218

بحث قرآني وفيه بيان بعض الحقائق الواقعيّة التي كشف عنها القرآن

بحث قرآنی:

الآيات الكريمة المتقدّمة بمقاطعها العديدة المتتالية التي بينها اتّساق تامّ وترتيب منظّم، تحكي عن حقائق واقعية لا يمكن دركها إلّا عن طريق الوحي، وهي وإن كانت مجالي تحقّقها مختلفة، ولكنّها ثابتة في الواقع، بعيدة عن الأوهام، ولا يتطرّقها الخيال، فيختصّ دركها بواسطة العقل الذي أودع فيه خالقه النور الذي یكشف به حقائق الأشياء وملكوتها، كما عبّر عنها القرآن الكريم، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1)، وربما ينكسف ويبهت هذا النور الإلهي المُودع في أعظم مخلوقات اللّه عزّ وجلّ، عند عروض الحُجب المتعدِّدة الظلمانية، وأهمّها حجاب المادّة التي أهمّ مظهرها حجاب البدن، وحجب المعاصي والآثام، وكانت مهمّة الرُّسل والأنبياء إيقاظ الهمم عند النفوس، وإزالة الحُجب لانبثاق النور، وإثارة دفائن العقول، وقد اهتمّ القرآن الكريم بالإنسان من جوانب عديدة أهمّها التربية والتزكية التي لا يمكن الوصول إليهما على الوجه الأحسن، إلّا بتحكيم العقل لكشف الحقائق التي هي الغاية منهما، فكان الطريق الوحيد التي يمكن التوسّل به للوصول إليها هو العقل، ولعلّه لأجل ذلك أمر سبحانه في آخر الآيات المباركة المتقدّمة بالرجوع إليه، فقال تعالى: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ» فهو تحريض إلى تحكيم العقل والاستبداد به في كلّ أمر، والرجوع إليه في كلّ صغيرة وكبيرة، والإعراض عن اللّعب واللّهو، فإنّ لها آثاراً سيّئة على النفوس، وهما من العوائق العظيمة التي تقف في طريق السير والسلوك والرقي في سُلَّم الكمال، كما أنّهما من أعظم الحُجب الظلمانية التي توجب طمس هذا النور الوهّاج الإلهي، الذي به تقوم حياة الإنسان الماديّة والمعنوية، ومن عظيم لطف اللّه

ص: 219


1- سورة الأنعام: الآية 75.

عزّ وجلّ به إنّه لم يترك الناس سُدى يسرحون في قفار المادّة وحجبها، وقد اختار سبحانه وتعالى لهذه المهمّة رسلاً، وجعلهم عقلاً محضاً اتّصفوا بأعظم الصفات الكمالية، وتميّزوا عن غيرهم بالتجرّد عن آثار المادّة وظلمتها، وأقبلوا على اللّه عزّ وجلّ حتّى بلغوا المراحل الكمالية العالية، فجعلهم مظاهر أسمائه المقدّسة، ولأجل ذلك كانوا هم المخاطبون في الخطابات الإلهيّة التي تشمل على الحقائق الواقعيّة.

وفي الآيات الكريمة السابقة كان خاتم الرُّسل وأشرفهم هو المخاطب برؤية الكفّار والمشركين، وما يجري عليهم في الآخرة، فقال سبحانه: «وَلَوْ تَرَى»، ومع تلك المنازل العالية من الكمالات التي منحها اللّه تعالى لهم، قد تصيبهم روائح المادّة وغبارها، ممّا تستدعى لهم دوام المراقبة والرجوع إلى لطفه ورحمته لدفعها، كما قال اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): « إنّه ليغان قلبي فاستغفر اللّه كلّ يوم سبعين مرّة»، وقد بين عزّ وجلّ في الآيات الكريمة أنصع الحقائق في خطاب بليغ وأُسلوب رصين تنير العقول وتثير الهمم، نذكر بعضها:

الأُولى: أنّ كلّ مَن أفسد الإستعداد الكامن في النفوس بارتكاب المعاصي والآثام، والإعراض عن دواعي الهداية والنكوص عن الإيمان باللّه والاعتقاد بالآخرة، يصيبه ثلاثة موانع تفسد عليه حياته المعنوية في الدُّنيا والآخرة، تكون القلوب في أكنة ظلمانية، وفي آذانهم وقراً من الضلالة، فلا يسمع الآيات والنذر، وعلى الأبصار غشاوة الجهل فلا يرى الآيات البيّنات التي تُنير الدرب لهم. الثانية: إنّه بسبب تلك الحُجب الظلمانية فقد تأجّجت في نفوسهم نار الحرمان في دار الدُّنيا، وهم وقفوا عليها فى دار الجزاء: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ».

الثالثة: إنّ في يوم كشف الحقائق وظهور الصفات الربوبيّة وتجلّياتها، ورؤية

ص: 220

النار التي أجّجوها في نفوسهم وظهورها أمام أعينهم ووقوفهم عليها، ينجلي فيهم التمنّي بعد الندم الشديد لمّا رأوا حرمانهم الكبير وعظيم منزلة المؤمنين.

الرابعة: إنّ الحالة التي همّ عليها يوم القيامة تُوجب إثارة ما كان قد خفي في نفوسهم من الملكات السيّئة والجهل العظيم، والعناد والتعصّب التي اقتضت جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في الآذان، والهيئات المظلمة في قلوبهم، والمهلكة في نفوسهم.

الخامسة: إنّ ردّهم إلى الدُّنيا الذي هو أحد متمنّياتهم، رجوعٌ إلى تلك الملكات الرديئة والهيئات الظلمانية لرسوخها في نفوسهم، وذلك يرجع إلى الاقتضاء الذي حصل عندهم فى عالم الذرّ، وقد صار علّة بسبب اعتقاداتهم الباطلة وأفعالهم السيئة: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ».

السادسة: إنّ كذبهم قد بلغ مبلغاً لا حدود له ولا اختصاص له بدار الدُّنيا، فقد صار ملكة فيهم.

السابعة: إنّ أحوالهم تبلغ في الاحتجاب والبُعد أنّهم لا ينتفعون من لقاء اللّه تعالى؛ لأنّهم وقفوا مع الشرك فى دار الدُّنيا، فهم في الآخرة وقفوا على الربّ، ولا ريب إنّه يختلف عن الوقوف مع الربّ، فإنّه الخير المحض، ولا يحصل عليه أحد إلّا إذا كان مع التوحيد في دار الدُّنيا، فمن وقف مع الربّ كان الربّ معه وأُثيب بأنواع النِّعم، كما اشار إليه قوله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ»(1)

والحاصل: أنّ من وقف فى عالم الناسوت مع الشهوات بمحبّة، فهو يقف في عالم الغيب والشهود على الربّ، ويعذّب بداء الحرمان، ومن هنا تعرف أنّ قوله

ص: 221


1- سورة الكهف: الآية 28.

تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ» يبيِّن حقيقة النفوس المحرومة، فإنّ من وقف مع الأفعال وقف على الجبروت، وعذّب بنار الشهوات والطمع والرجاء، ومن وقف مع الصفات وقف على الذّات وعُذّب بنار الشوق والهجران، فالمشرك محجوب دائماً بالرد والطرد.

الثامنة: إنّهم يفتقدون أعظم نعمة على الإطلاق وهو خسران لقاء اللّه، فهم في حرمان عظيم و حساب شديد، فلو فاجأهم الموت أو الحساب كانوا من المبلسين الخاسرين.

التاسعة: إنّه يتمّ فيهم أعظم حسرة في الحياتين، لأنّهم فرّطوا في الاستعداد لتلك الساعة العظيمة، وقصّر والتلقى تلك النِّعمة الإلهيّة وهي الفوز بلقاء اللّه تعالى.

العاشرة: إنّ الدُّنيا دار خسيسة، أهمّ صفاتها أنّها تغرّ المقبلين عليها حتّى تفنيهم في الشهوات وملاذها، وتشغلهم لعبها ولهوها، بخلاف الدار الآخرة فإنّها خيرٌ محض، ولا يناله إلّا من تجرّد عن اللذّات البدنية والشهوات الظلمانية، أو نزع عنه لباس الصفات الرديئة، ونظر بعين العقل إلى الدُّنيا، فابتعد عمّا يوجب الغرور بها «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

هذه بعض الحقائق التي تضمنتها تلك الآيات الكريمة التي تبين حقيقة الدارين الدُّنيا والآخرة، وواقع الحياة فيهما، وتظهر أحوال الكفّار والمشركين في النشأتين. ولا ريب أنّ في بيانها عظيم الاثر في النفوس المستعدّة، وتحريض لغيرها بالتربية والتزكية بالعلوم، وتهذيب النفوس بالمداومة على كسب الفضائل، والصبر على الطاعة، والابتعاد عن المعصية، لعلّه يفوز بنعمة لقاء اللّه تعالى، ويخرج عن محنة الوقف على الربّ، فهي من الآيات القويمة التي تهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم، وتبيّن حقائق أعظم الأُمور التي لها الدخل الكبير في حياة الإنسان الماديّة والمعنوية في الدارين.

ص: 222

وفيها إشارات عرفانية لمَن كان همّه السير والسلوك، والفوز بالسعادة، والدخول في رضوان اللّه تعالى.

***

ص: 223

سورة الأنعام الآية 32 - 36

إشارة

الآية 33 - 36

«وقَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا حتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَا الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمَا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَتُهُمْ اللّه ثمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)».

لم تخرج الآيات الكريمة عن السياق في سرد دعوات المشركين ومحاجّتهم، وقد بيّن عزّ وجلّ حزن رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)من عنادهم المتواصل وإصرارهم على الكفر، وفيها التسلية له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بيان سنّته عزّ وجلّ في الرُّسل مع أقوامهم، فإنّهم لاقوا منهم ما لاقاه من قومه، وقد كانت من عادته عزّ وجلّ نصرهم بما صبروا، وفيها تطييب نفسه الشريفة بالنصر الحتمي، وقد أكّد عزّ وجلّ أن سنّته في الدعوة، وإقرار دينه إنّما يكون في ظرف الاختيار للإنسان، فلا إكراه في الدِّين، فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر، ولو شاء لجمعهم على الهدى، ولكن اقتضت حكمته المتعالية ومضت سنّته على أنّ يكون الإيمان حسب استعداد

ص: 224

الأفراد وقابليّتهم للهداية وقبول الإيمان، بعد إنزال الآيات، وإقامة البيِّنات، فمَن استفاد ممّا منحه اللّه تعالى فنظر في الآيات وعَقَل ما سمع من البيِّنات، كان من المؤمنين، ولكن الكافرين هم بمنزلة الموتى لا يسمعون ولا ينظرون، والجميع يرجعون إليه ويصلون إلى الجزاء الذي أعدّه اللّه تعالى لهم.

***

ما يستفاد من قوله تعالی «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ»

التفسير

قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ..

جملة استئنافية سيقت لتسلية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عمّا يعتريه من الحزن ممّا كان يلقاه من المشركين، عناداً منهم مع الحقّ، وإصراراً على التكذيب، وما كان يصدر منهم قولاً أو فعلاً من الأذى.

و (قد) حرف يدخل على الماضى فيفيد التحقيق، وعلى المضارع فيفيد التقليل غالباً، وربما يفيد التحقيق والتكثير الذي قيل إنّه المراد به في المقام، فأشكل عليه بأنّه يستلزم التغيير في علم اللّه عزّ وجلّ، وردّه بعضهم بأنه في متعلّقات العلم لا نفسه، إذ صفة القديم لا يقبل التغيير، والزيادة والتكثير، وأنكر بعض النحويّين إتيان (قد) التكثير، وإنّما يستفاد ذلك من سياق الكلام.

والحقّ إنّه بمعنى التحقيق فإنّه المناسب في المقام، وإلّا فالتكثير يستفاد من إصرارهم على الإنكار والتكذيب، والتعبير بالمضارع لبيان الاستمرار والثبوت، والضمير في (إنّه) للشأن، وهو اسم إنّ، وخبرها الجملة المفسّرة له، وهي في موضع مفعولي يعلم.

والحزن ألمٌ يحدث في النفس من فقدان محبوب، أو امتناع مرغوب، أم حدوث مكروه، وحَزَنه وأحزنه بمعنى واحد، وقرئ بكلا الوجهين في الآية.

والآية تحكى حزن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أقوالهم الشنيعة، بعدما حكى سبحانه

ص: 225

أفعالهم واعتقاداتهم في الآيات السابقة، وفي غير موضع من الكتاب العزيز، ولقد وعده سبحانه وتعالى النصر، وأرشده إلى ترك الحزن في عدة موارد وعدم الاعتداد بما قالوه، والآية تبيّن عظمة تلك الأقوال في الأذى والإهانة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ»

قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ»

تعليل لما تضمّنته الآية السابقة من ترك الحزن وعدم الاعتداد بما قالوه في أُسلوب التسلّى، ولعلّه لأجله تصدّرت الجملة بالفاء الدالّ على التفريع. وهو يدلّ على غاية الجلالة ورفعة الشأن لرسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما لا يمكن دركها، حيث نفى عزّ وجلّ تكذيبهم له، وأثبته لآياته عزّ وجلّ، نظير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه»(1).

أي إنّهم في تكذيبهم لك لا يكذّبونك في الحقّيقه بل يكون تكذيباً لنا.

ويستفاد من الآية الكريمة أمران::

الأوّل: كمال القُرب بينهما، وفناء شونه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شؤون اللّه عزّ وجلّ.

الثاني استعظام تكذيبهم وتهويل جنايتهم ممّا ينبئ عن عظيم عقوبتهم.

وقرئ (يكذبونك) بالتخفيف وتدلّ عليه بعض الأخبار، والمعنى أنّهم لا يأتونك بباطل يكذبون حقّك، وهو صحيح أيضاً، ولكن ذكر بعض المفسّرين إنّه على هذا الوجه يكون المعنى لا يجدونك تكذب، يقال: أكذبته، أي وجدته يكذب، لأنّ أفعل تاتى للوجدان، كقولهم: أحمدته أى وجدته محموداً.

وقيل: إنّ المراد ليس قصدهم تكذيبك لأنّك عندهم موسوم بالصدق، وإنّما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، وأيّدوه بما أخرجه الترمذي، والحاكم عن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن أبا جهل كان يقول للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): ما نكذبك وإنّك عندنا لصادق، ولكنّا

ص: 226


1- سورة الفتح: الآية 100.

نكّذب ما جئتنا به، فنزلت الآية.

وقيل: إنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ببواطنهم، بل يعتقدون صدقك وإنّما يظهرون التكذيب بأفواههم عناداً.

وقيل غير ذلك.

وتشترك كلّها في أنّها خلاف ظاهر الآية الكريمة، الذي يرمز إلى معنى أدقّ ممّا ذكروه، فإنّ الحزن فيها لم يترتّب على أقوال المشركين فقط، بل على الذين يقولون. وأنّهم بلغوا مرتبة في التكذيب حتّى استولى على ذواتهم، فكانت تلك الذوات موجبة لحزنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، مبالغة منهم في الظلم والعناد، وإن كانت أقوالهم أيضاً من أهمّ مثيرات حزنه، ثمّ رتّب سبحانه وتعالى بعد ذلك أنّ تكذيبهم لا يضرّك ولا يكون سبباً للصدّ عن الدعوة، فإنّما هو يرجع إلى التكذيب بآيات اللّه البيِّنات، فلا تحزن فإنّهم لم يظهروا عليك، ولن يقدروا إثبات كذبك في ما تدعو إليه، فإنّ حجتك دامغة وبرهانك،واضح، كما لا يضرّ تكذيب المكذِّبين لآيات اللّه البيِّنات.

ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين القراءتين، كما يتبيَّن وجه المناقشة في ما ذكروه في الآية الكريمة

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ»

قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ».

الجحد هو نفي ما في القلب ثباته أو بالعكس، يتعدّى بنفسه أو بالباء. وقال الراغب: إنّ الباء هنا لتضمّنه معنى التكذيب، والتقديم للقصر.

والجملة في مقام التعليل لما صدر منهم من التكذيب، فإنّ وضع الظاهر موضع المضمر، والتنبيه على الوصف، للدلالة على أنّ جحود الآيات وتكذيبهم لها إنّما سببه الظلم الذي حصل منهم عن علم وإرادة منهم، فلم يكن إلّا عناداً وطغياناً، ومعارضة لمقام الأُلوهيّة والرسالة، واستعلاءاً على مقامها، ولعلّه لاجل

ص: 227

ذلك عبر عزّ وجلّ عن ظلمهم بأنّه كان عن جحود، ولبيان وضوح تلك الآيات.

كما أنّ الالتفات إلى اسم الجلالة لترتيب المهابة، واستعظاماً لما أقدموا عليه من قول أو فعل.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»

قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ».

تأكيد بأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كسائر رسل اللّه في تكذيب أقوامهم لهم، وفيه التسلية أيضاً تخفيفاً عن كاهله عظيم أثر الحزن، فإنّ تكذيب المكذِّبين إنّما هو عادة من تقدّمهم، وفيه الهداية له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى سبيل مَن تقدّمه من الأنبياء والمرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، كما أرشده عزّ وجلّ إلى ذلك في عدة آيات، قال تعالى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ»(1)، وقال تعالى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»(2).

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا»

قوله تعالى: «فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا».

إرشاد له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الإقتداء بهم صلوات اللّه عليهم في الصبر على الأذى، كما قال عزّ وجلّ: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهَدَاهُمْ اقْتَدِهِ»(3)، وفيه الوعد بالنصر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَأُوذُوا»

قوله تعالى: «وَأُوذُوا».

الإيذاء فعل الأذى، وهو ما يصل إلى الحيوان من الضرر، إمّا في نفسه أو جسمه أو تبعاته، دنيويّاً أو أُخرويّاً. ويشمل ما يؤلم النفس والبدن من قول أو فعل.

ولقد أُوذى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بفنون الإيذاء وضروبه حتّى فاق سائر الأنبياء كما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «ما أُوذي نبيُّ بمثل ما أُوذيت»، فأُوذي في مكّة من المشركين، وفي

ص: 228


1- سورة الحج: الآية 40.
2- سورة فاطر: الآية 4.
3- سورة الأنعام: الآية 90.

المدينة من اليهود والمنافقين، والجهلة من المسلمين، كما أنّ إيذاء هم له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يقتصر في زمان حياته، كما يرمز إليه قوله تعالى: «أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1). وما لاقاه ذريِّته الطاهرين من الظلم والعدوان.

ومن ذلك يعلم أنّ الإيذاء ما كان يقارن التكذيب، وهو إمّا عطف على كذّبوا، أي فصبروا على تكذيب أُممهم وايذائهم إيَّاهم، أو عطف على «فَصَبَرُوا» أي صبروا على إيذائهم إيّاهم، وفي الجملة التأكيد على التسلية، وبعث الهمّة على الصبر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا»

قوله تعالى: «حتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا».

بيان الغاية الحميدة للصبر، ويدلّ الأسلوب على الاعتناء بشان النصر وقدرته عزّ وجلّ عليه. وفيه البشاره له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الوعد بالنصر للصابرين.

ويستفاد من الآية أن نصر الرُّسل من الآيات المؤيّدة لهم، وهى من الحقائق الواقعيّة التي لا تبديل فيها ولا تغيير، فهو سنّة جارية فيهم، كما تدلّ عليه الآية اللّاحقة. ولم يبيِّن عزّ وجلّ كيفّية النصر وسبله، وسائر خصوصيّاته في آية المقام، ليشمل كلّ ذلك، فإنّها تابعة لإرادته عزّ وجلّ التي تتبع حكمته المتعالية، والإلتفات إلى نون العظمة للاشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه»

قوله تعالى: «وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه».

تقريرٌ لمضمون ما قبله والتأكيد عليه، ومن نسبة الكمالات إلى اسم الجلالة يستفاد أنّها غير قابلة التبديل بوجه، فلا ناقض لحكمه، ولا رادّ لوعده، ولا حاجز يحجزه عن ذلك، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

ص: 229


1- سورة آل عمران: الآية 144.

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ»(1).

وقوله تعالى: «كَتَبَ اللّه لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»(2) فهو وعدٌ حتم، و لَا يُخْلِفُ اللّه الْمِيعَادَ»(3).

وتدلّ الآية الكريمة على أنّ نصر اللّه للرسل بما صبروا، من الكلمات التي لا تقبل التبديل مطلقاً، لا من ناحيته عزّ وجلّ بأن تتبدّل مشيئته في خصوص هذه الكلمة بأن يمحوها، ولا من ناحية غيره بالقهر والغلبة على خلاف ما شاء، فلا يغالبه تعالى أحد، وهو القضاء الحتم الذي لا يدخل في لوح المحو والإثبات، فلا مبدّل لهذه الكلمة التي هي واحدة من كلمات اللّه التامات.

ولا ريب أنّ تلك الكلمات لا تختصّ بالقول، فتشمل الوعد وغيره، وقد حكى عزّ وجلّ بعض مظاهرها في القرآن الكريم، كقوله تعالى: «قَالَ فَالحقّ وَالحقّ أَقُولُ»(4).

وقوله تعالى: «أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللّه حقّ»(5).

وقوله تعالى: «إِنَّا لَتَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا»(6).

وقوله تعالى: «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»(7).

وقوله تعالى: «لَيَنصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(8).

ص: 230


1- سورة الصافات: الآية 172.
2- سورة المجادلة: الآية 21.
3- سورة الزمر: الآية 20.
4- سورة ص: الآية 84.
5- سورة يونس: الآية 55.
6- سورة غافر: الآية 51.
7- سورة الروم: الآية 47.
8- سورة الحج: الآية 40.

وغير ذلك من الآيات التي بيّنت بعض وجوه تلك الكلمات.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَا الْمُرْسَلِينَ»

قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَا الْمُرْسَلِينَ».

تقريرٌ بعد تقرير، وتأكيدٌ مكرّر اثباتاً لمضمون ما قبله، وتطميناً للمؤمنين بنصر اللّه سبحانه لهم إذا ما صبروا على أذية الأعداء، والنبأ محرّكة، كالخبر لفظاً ومعنىً، وتقدّم الوجه في اشتقاق الكلمة.

والآية تدلّ على أنّ سورة الأنعام قد نزلت بعد جملةٍ من السور التي تحكي قصص الأنبياء، وما كابدوه من أقوامهم أمثال سورة الشعراء، مريم، العلق، المدثر وغيرها من السور النازلة بمكّة قبل الهجرة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ»

قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ».

إرشاد إلى عظيم اهتمام الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بإيمان الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وفيه التأكيد على أنّ المكذِّبين إنّما شأنهم التكذيب والأذية، الذين حكى عزّ وجلّ عنهم في الآيات السابقة، كما أنّه ليس شأن الرسول إلّا الصبر.

ومن عظيم عناية اللّه عزّ وجلّ برسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّه يحكي له أحوال الأنبياء وأُممهم، ليخفّف عنه عظيم حزنه على أُمّته، وقد وعده بالنصر المؤزّر الذي هو الوعد المحتوم، كما أنّه أوكل الأمر إليه لإجابة ما اقترحوه من الآيات، كلّ ذلك احتفاءاً به (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واعتناءاً بشأنه، والتخفيف عنه بما يريح قلبه الرؤوف الرحيم.

وفيه التأكيد على ايجاب الصبر عليه، وإنّه لا محيد عنه، وهو السبيل الوحيد لنيل النصر والوصول إلى الهدف المنشود.

و (كبر) بمعنى شقّ وصَعُب اعراض الكفّار عن الإيمان بك، وبما جئت به من الحقّ، والإعراض القولى، والانصراف عن الشيء رغبةً عنه واحتقاراً له.

ص: 231

وذكر بعض المفسّرين: أنّه أتى (بكان) ليبقى الشرط على المعنى ولا ينقلب مستقبلاً، لأنّ (كان) لقوّة دلالته على المضيّ لا تقبله للإسقبال، بخلاف سائر الأفعال. ولكن النحويّين يؤولون ذلك بنحو: وإن تبيّن وظهر إنّه كبر.

والحقّ أنّ الأُسلوب القرآني يختلف عن ما ذكره النحويون وغيرهم من علماء الأدب، فإنّ آية المقام تبيّن بعض أسباب الحزن الذي حكاه عزّ وجلّ في الآية السابقة، وأنّ أثر اعراضهم قد عظم عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واستغرقت مشاعره الكريمة، و هذا المعنى لا يستفاد من أُسلوب آخر غير الذي ورد في الآية الكريمة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ»

قوله تعالى: «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ».

إرشادٌ لنبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى التماس السُّبل للتخلّص من إعراض المشركين وما اقترحوه، فإنّ أمكن الإستفاد منها في التخفيف عن حزنه العظيم أو الوصول إلى الهدف المنشود، وإلّا فعليه اتّباع سيرة الأنبياء والمرسلين ممّن سبقوه صلوات اللّه عليهم أجمعيّن من الصبر والفوز بالنصر، كما أمره عزّ وجلّ به آنفاً ففي الآية الكريمة التأكيد عليه.

والابتغاء طلب ما يكون في طلبه كلفة ومشقة، أو تجاوز المعتاد والاعتدال، فإنّ صيغة الافتعال تدلّ على ما ذكرناه، ومنه طلب غايات الأُمور وأعاليها، كقوله تعالى: «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللّه فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رعايتها»(1).

وقوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه»(2).

وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً

ص: 232


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- سورة البقرة، الآية: 207.

عظيماً»(1).

ولا ريب أنّ رضوان اللّه ومرضاته عزّ وجلّ من أعظم الغايات وأعلاها وغاية الكمال. كما أن ابتغاء الفتنة من أدنى الغايات ومنتهى الضلال.

وممّا ذكرناه يستفاد أنّ المبتغى لم يكن من السهل عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إمّا بخروجه عن المعتاد، أو لأن ذلك ليس من شؤون الرسالة، فإنّ الرسول لابدّ أن يكون مع القوم الذين يدعوهم إلى الهداية، أو لمشقته على الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أو لبيان حرصه على إسلام،قومه، فإنّه لو كان بمقدوره ايتاء هم الآية من تحت الأرض أو من السماء لفعل. وإيثار الابتغاء على الاتِّخاذ ونحوه للإيذان بأنّ ما ذكر ممّا لا يستطاع ابتغاؤه، فكيف باتّخاذه والنفق هو السرب في الأرض والطريق النافذ فيها، ومنه نافقاء ليبروع وهو جحره يجعل له منافذ يهرب من بعضها إذا دخل عليه من غيره ما يخافه، كما أنّ منه النفاق وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، وعليه حُمل قوله تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»(2) أي الخارجون عن الشرع واصل اتّخاذ النفق لأجل المخلص.

والمعنى: فإنّ قدرت وانقادت لك الأسباب التي تمكِّنك من فعل ما تطلبه نفقاً كائناً في الأرض فتنفذ فيها وتخلص منه إلى مكان آخر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ»

قوله تعالى: «أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ».

السلّم هو المرقاة التي يتوصّل بها إلى الأماكن العالية، فيرجى بها السلامة التي منها أُخذت هذه الكلمة، فتوسّع في الاستعمال فصار اسماً لكلّ ما يتوصّل به إلى شيء رفيع، كما في قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ سُلَّمْ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ»(3)، وآية المقام.

ص: 233


1- سورة النساء، الآية: 114.
2- سورة التوبة، الآية: 67.
3- سورة الطور الآية: 38.

أي ولو كان باستطاعتك أن ترتقى إلى السماء فتصعد إليها.

وجواب الشرط «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ» محذوف للعلم به تقديره، فافعل أحد الأمرين: إمّا ابتغاء النفوذ في الأرض، أو الصعود في السماء فافعل، وعليه جمهور المفسّرين.

وقيل: إنّ المراد إن استطعت هرباً منهم فافعل كذلك، وأيّدوه بما ورد في «مسائل ابن الأزرق» عن ابن عبّاس.

واحتمل بعضهم: أن يكون المراد فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أُرسلناك بها، وهى القرآن.

والظاهر أنّ الآية الكريمة ترمز إلى أمر أهمّ من تلك الأقوال التي هي خلاف ظاهر الآية، فإنّ صدرها يدلّ على عظمة إعراض الناس عن دعوته التي اقترنت بأفضل آية بيّنة وهي القرآن الكريم، الذي هو حقّ يدلّ على حقية الدعوة وصدق صادعها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولا ريب أنّ هذه الآية الإلهيّة اقترنت بأُمور وصفات هي الأقرب إلى مدركات الناس، فقد كان المخاطبون بها عقلاء بلغاء يفهمون ما يحتويه القرآن الكريم من البلاغة والفصاحة والمعارف، فأرشده عزّ وجلّ إلى الصبر، وإنّه لا ينبغى أن يشق عليه اعراضهم، فإنّ الدعوة إلى الحقّ وقبوله لا بدّ أن يجريان وفق قانون الأسباب في دار الاختيار، ولا يمكن الاتيان بآية تلجئهم إلى الإيمان، وتضطرّهم إلى قبول الحقّ، فتخرج عن القاعدة التي يبتني عليها الدعوة الإلهيّة، والرجوع إلى الاختيار في هذه الدار، وقد حرّرها القرآن الكريم في عدّة مواضع منها ما ورد في أوائل هذه السورة المباركة التي حكى عزّ وجلّ عن المشركين اقتراحاتهم المتتالية.

وقد أخبرهم عزّ وجلّ إنّه لم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان والطاعة، ليندرج هؤلاء الكافرون في سلك المؤمنين فلا ينبغي الجزع عن إعراضهم، فإنّه لو شاء اللّه لهدى الناس جميعاً.

ص: 234

ويرشد إلى ذلك أنّ الأمرين الذين وردا في هذه الآية الكريمة، إشارة إلى تلك الاقتراحات التي طلبها المشركون في ما سبق، كتفجير الينبوع في الأرض، أو تنزيل الكتاب من السماء، وحكاها في قوله سبحانه: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِتِكَ حتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَفْرَؤُه»(1).

وفي ردّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً» دليلٌ على أنّه لم يغفل عن قانون الاختيار، فهو بشرٌ وليس بمقدور البشر تنفيذ ما طلبوه، ورسولٌ لإبلاغ الرسالة والدعوة إلى الهداية باختيارهم لا إجبارهم عليها.

ما يستفاد من قوله تعالی «وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى»

قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى».

تأكيد لما تضمّنته الآية السابقة، فإنّه لم يخلق آية تجبر الإنسان على الايمان، ولم يكن بمقدور النبيّ العظيم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اتيانها كذلك، لعدم تعلّق مشيئته تعالى منهم الاهتداء إلى الإيمان ليضطرّوا إلى قبوله بلا اختیار لبطلانه.

ولا ريب إنّه بناءً على ما تقدّم، تكون المعاصى وأنواع الظلم الصادر من الأفراد التي منها الكفر والشرك، إنّما ينتهي إلى اختيار الإنسان وإرادته بسبب ضلاله وغوايته، ولا ينافي ذلك أن تكون الأُمور كلّها راجعة إلى مشيئة اللّه تعالى وإرادته، وأنّه لا حول ولا قوة إلّا باللّه كما هو صريح آيات أُخرى التي تدلّ على أنّ ليس للإنسان مشيئة، إلّا أن يشاء اللّه ربّ العالمين، كقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّ

ص: 235


1- سورة الإسراء، الآية: 90-93.

الْعَالَمِينَ»(1).

وقوله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه»(2).

فإنّ مشيئة الإنسان كوجوده، كلاهما ممّا يتوقّف على مشيئة اللّه عزّ وجلّ، ولكنّها تعلّقت بأن يخلق الإنسان ويوجده إنساناً مختاراً، فهو سبحانه لا يشاء منه المشيئة، إلّا إذا اهتدى واستعدّ بحسن سريرته وصلاح أفعاله، فيتعرّض لرحمته، أو أنّه فَسَق عن أمر ربّه وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه، كما أخبر عزّ وجلّ: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين»(3).

ولأجل ذلك فقد اسند عزّ وجلّ الهداية فى موضع إلى نفسه، كما قال سبحانه: «وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حقّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمعيّن»(4).

وفي موضع آخر يسندها إلى الإنسان نفسه، كما حكى عزّ وجلّ عن إبليس اللعين في خطابه لبني آدم يوم القيامة: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحقّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ»(5).

وقد استفاد الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) الهداة نظريتهم المعروفة في أفعال الإنسان، ممّا ورد

ص: 236


1- سورة التكوير، الآية: 27 - 29.
2- سورة الإنسان الآية: 30.
3- سورة البقرة، الآية: 26.
4- سورة السجدة، الآية: 13.
5- سورة ابراهيم الآية: 22.

الكتاب العزيز، وأطلقوا قولهم المعروف: «لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين الأمرين».

فإنّ الآيات الإلهيّة التي نزلت لهداية الإنسان، قد اعتمدت على حقيقتين: إحداهما تدلّ على ارتباط المخلوق بخالقه، والثانية تدلّ على اختيار الإنسان وحرّيته في ما يختاره من الهداية والضلال، فلم تنزل آية إلا مع مراعاة اختيار الإنسان، ولا يهدي اللّه سبحانه إلا من آمن وأناب، وتعرّض لرحمته واستعدّ لهدايته باختياره، كما قال عزّ اسمه: «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ»(1)، فهو المبدأ وإليه المرجع.

وبذلك تنحلّ الشبهات في هذه المسألة التي استعصت على الأفهام، وتشعبت الآراء فيها، وتعدّدت المذاهب إلى حدّي الإفراط والتفريط. كما تعدّدت جهات البحث فيها:

منها مسألة الحريّة فى الأفعال، وقد عرفت الحقّ فيها.

ومنها ما قيل: إنّه على فرض التسليم أنّ إنزال اللّه تعالى الآيات لن تجبرهم على الايمان والهداية، لكونه خلاف القاعدة في الدعوة الدينيّة التي تبتني على أساس الاختيار، ولكن يمكن القول بأنّ المشيئة التي شملت المؤمن فساقته إلى الإيمان، لم لا تشمل الناس جميعاً، فتنزل عليهم آية تسوقهم إلى الهدى من غير أن تبطل اختيارهم وتنافي مبدأ الحريّة.

والجواب عنه: يتّضح ممّا ذكرناه سابقاً، بأنّ هذه الفكرة تنافي القانون العام في عالم الأسباب ونظام الاستعداد والإفاضة، فقد عرفت أن الفيوضات الإلهيّة ومنها الهداية تتمّ وفق قانون الأسباب، وتفاض على من اتقى اللّه وتزكّى، كما أنّ

ص: 237


1- سورة الرعد، الآية: 27.

الضلال لا يصيب إلّا مَن أعرض عن ذكر ربه واتّبع هواه فقد خاب من دسّاها، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»(1)، فإنّه يدلّ على أنّ عطاءه لم يكن ممنوعاً عن أحد من عباده، ولكنّه يفاض بقدر الاستعداد، فإن أراد واستعدّ للخير أعطاه اللّه عزّ وجلّ، وإن أراد الشرّ مُنع من الفيض والخير.

وأمّا غير ذلك ففيه إبطال النظام الاجتماعي العام، بل هو هدمٌ للنظام الكياني الذي يقوم على قانون الأسباب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ»

قوله تعالى: «فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ».

الجهل ضدّ العلم، وقد يقابل غيره كالحلم، ولا يصار إليه إلّا بعد عدم إمكان إرادة المعنى الأوّل، كما في المقام حيث ذكر جمهور المفسّرين أنّه بمعنى الحلم، أي فلا تكن حريصاً على إسلامهم، لأنّ الجزع في مواطن الصبر ممّا يوجب القرب إلى الجاهلين، والميل إلى النزول إلى مقترحاتهم، وهم جاهلون بدقائق شؤون افعاله عزّ وجلّ، والسنن التي اقتضتها الحكمة الإلهيّة.

وقيل: إنّ المراد من الجاهلين هم المقترحون، ويراد بالنهي منعه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من المساعدة على مقترحاتهم.

وقيل: إنّ الخطاب له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمراد به الأُمّة، فإنّ قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وأذاهم، والوجه فيها يرجع إلى أنّ الجهل بالمعنى المعروف عيب، ولا يصحّ نسبته إلى سيِّد رسل اللّه وأشرف مخلوقاته. ولكن التمعنّ في الآية

ص: 238


1- سورة الإسراء، الآية: 18 - 20.

الكريمة نستفيد معنى أدقّ ممّا ذكروه، فإنّه بعد ما بين عزّ وجلّ استحالة إيمانهم بدون القابليّة والاستعداد الحاصل في النفوس من التفكّر والتدبر، وأنّ إيمان جميع الناس وإن أمكن بمقتضى قدرته التامّة غير المتناهية، ولكنّه خلاف الحكمة المتعالية، كما عرفت آنفاً.

وأمّا رغبة النبي الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وحبّه لدخول الناس جميعاً في الدِّين والطاعة، فلم يتعلّق بها النهي، إذ لم يترتب عليه أي محذور عقلي أو شرعي، لاسيّما أنّ مقامه السامي يستدعي أن يكون على هذه الحالة، بل جعل حبّ الخير للناس من شروط الايمان الكماليّة، وهو مظهر صفات الباري المقدّسة وعنوان رحمته سبحانه، فتكون مشيئته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نابعة من تلك الصفات المتعالية! ولا ريب أنّه لم يكن جاهلاً بأفعال الباري عزّ اسمه، أو معرضاً عن حكمه في خلقه، فلابدّ أن يكون المراد من النهي عن كونه في عداد الجاهلين في تطبيق ما يرغبه ويحبّه في الخارج، لئلا يكون مخالفاً لسنة اللّه تعالى في خلقه، وحكمته المتعالية التي اقتضت خلق الإنسان بالتفاوت في الاستعداد والقابلية، ممّا يترتّب عليه اختلافهم في سبل الاختيار وأسبابه، فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عالمٌ بهذه الحكمة وليس بجاهل لما خلّقه عزّ وجلّ، فيكون المراد من النهى هو عدم صدور ما يستوجب خلاف ما علمه، ولذا اختلف عن النهي الوارد في قصّة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإنّه اقترن بالوعظ بنبذ العواطف، والرجوع إلى حكمة العقل، فقال عزّ وجلّ: «فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»(1). فتكون الآية بمجموعها إخباراً عن حقيقة واقعيّة، وهي أنّه لا شيء في الوجود إلّا بمشيئة اللّه تعالى، وإنّ واسطة الفيض أوّل معترف بها، وقد سجل عليه اعترافه بالنهي عن الدخول في زمرة الجاهلين.

ص: 239


1- سورة هود الآية: 46.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ».

تقريرٌ لما سبق والتأكيد عليه، ببيان سبب إعراض الذين كفروا، وقد كان كبيراً عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهو أنّهم بمنزلة الموتى فلا قابليّة لهم لاستماع الدعوة.

ما يتعلّق بالاستجابة

والإستجابة بمعنى الإجابة - كما قيل - فإنّ صيغة الاستفعال تأتى كثيراً بمعنى أفعل، كاستخلص بمعنى أخلص، واستوقد بمعنى أوقد.

وقيل: إنّها تدلّ على قبول، قال الراغب، والإستجابة قيل هي الإجابة، وحقيقتها هي التحرّي للجواب والتهيؤ له، لكن عبّر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها.

وما ذكره من دقائق ما استفاده من موارد استعمالات الصيغتين، الاستجابة والإجابة في القرآن الكريم، فإنّ الأخيرة إنّما تستعمل في ما إذا كان السؤال حاصلاً بالفعل حقيقةً وادعاءً، بخلاف الإستجابة التي تفيد حصول السؤال بالقوة والاستعداد له كما قال تعالى: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ»(1)، فإنه نزل بعد استعداد المسلمين للخروج إلى غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد، وأما استجابة اللّه تعالى، فإنّها لأجل الأُمور التي تحصل بالتدريج في المستقبل كاستجابة الدُّعاء للمغفرة، والوقاية من النار، وما وعده اللّه سبحانه للمؤمنين في الآخرة، كقوله تعالى: «فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ»(2)، واستجابته تعالى لأيّوب وزكريّا وذي النون فى سورة الأنبياء.

وأمّا إجابته عزّ وجلّ لموسى وهارون كما أخبر بها: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا»(3)، فإنّه يرجع إلى القبول بالفعل إكراماً وبشارةً لهما، كما يرشد إليه صيغة الماضي إيذاناً بتحقّق موضوعها في المستقبل، فهذا هو الفرق بين هاتين الصيغتين.

ص: 240


1- سورة آل عمران الآية: 172.
2- سورة آل عمران الآية: 195.
3- سورة يونس الآية: 89.

وممّا ذكرنا يظهر أن القول بالإستجابة تأتى بمعنى القبول خال عن التحقيق، فإنّ الإجابة تدلّ أيضاً على القبول، وإنّما الفرق ما ذكرناه، وهو يرجع إلى أسرار البلاغة التي تضمنتها القرآن الكريم التي جعلته من المعجزة الإلهيّة.

والسماع والسمع بمعنى واحد وهو إدراك الصوت، والمراد به سماع إصغاءٍ وقبول، وفهم وتدبّر، بحيث يجعل ما عداه كلا سماع، ولأجل ذلك اطلق القرآن الكريم على من لا يستفيد من سماع الآيات لفظ الموتى والصمّ، كما في قوله

تعالى: «إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ»(1).

والمعنى: إنّما يستجيب الدعوة إلى الإيمان، ويقبلها عن قناعة وعرفان، الذين يسمعون ما يُلقى إليهم سماع فهم وتدبّر دون الموتى، لأنّ من يكون كذلك فقد بلغ مرتبة من الإستعداد للهداية، والقابليّة للدخول في الإيمان، فيعقل الآيات ويذعن للحقّ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّه»

قوله تعالى: «وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّه».

جملة مستأنفة، وهي إمّا تحمل على الحقيقة والعموم، أي أنّ الموتى المستجيب منهم وغير المستجيب، يبعثهم اللّه، فيعلّمهم الحقيقة والواقع حين لا ينفعهم الإيمان، ففيها تمثيل وتعريض.

أو تحمل على المعنى الكنائى، أي أنّ الموتى همّ الذين لا يسمعون الآيات حقّ السمع، فلا يصغون إلى الحقّ ولا يفهمونه، كما هو مقتضى المقابلة بين من يسمع وينتفع من سماعه، ومن لا ينتفع من السمع، فهم الموتى لا شعور لهم حتّى يستشعر وا الدعوة الإلهيّة، ويسمعوا آيات اللّه تعالى، ويصغوا لدعوة الداعي الإلهى والرسول الكريم.

ص: 241


1- سورة النمل الآية: 80.

فالآية الكريمة تقسم الناس إلى صنفين:

المؤمنون وهم الذين يسمعون ويستجيبون، وهم الأحياء حقيقةً.

والكافرون الذين يسمعون من دون استجابة لعدم كون سماعهم عن تفهّم وتدبّر، فهم الأموات حقيقةً، وإن كانوا في الظاهر أحياءاً فهؤلاء يبعثهم اللّه ويرون الحقيقة ويسمعون حينئذٍ حقّ السمع، ولا يمكنهم التنصّل والإنكار كما حكى عزّ وجلّ «وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ»(1).

ويدلّ على ذلك: أنّ اللّه عزّ وجلّ قد ذكر في غير موضع من القرآن الكريم المؤمنين ووصفهم بالحياة والسمع، والكفّار ووصفهم بالموت والصم، كقوله تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا»(2).

وآية المقام لا تخرج عن مضمون تلك الآيات، وهي تبيّن حقيقة من الحقائق، وهى أنّ الآخرة دار ظهور الحقّ وعيانه، فهو عزّ وجلّ يبعثهم ويرون الحقّ عياناً ويستجيبون له اضطراراً، فلابدّ للانسان السمع والطاعة والإيمان والإذعان للحقّ إن عاجلاً أو آجلاً.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»

قوله تعالى: «ثمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ».

رجوع إلجاء واضطرار للجزاء، فيجازيهم على كفرهم وأعمالهم، فلا يضرّك إعراضهم، ولا يحزنك كفرهم وعنادهم.

وفي الآية التأكيد على ما دلّت عليه الآية السابقة من ترك الحزن من عدم

ص: 242


1- سورة السجدة، الآية: 12.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.

إيمانهم، والابتعاد عن الحرص عليه، فإنّه ليس بمستطاع للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يصرفهم عن الإعراض أو إنزال آية تلجئهم إلى الإيمان، فلابدّ من ترك الموضوع إلى الحكمة الإلهيّة.

***

ص: 243

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بإعراب الآيات الشريفة

بحث أدبي:

ذكر بعض العلماء أنّ (قد) في قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ» للتقليل، وقد يُراد به في بعض المواضع ضدّه، وهو من باب استعارة أحد الضدّين للآخر. والنكتة هنا إمّا تصبير رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أذى قومه وتكذيبهم، أو أن يكون تهكّماً بالمكذِّبين وتوبيخاً لهم، وتقدّم الكلام فيه، فراجع.

و في التعبير عن الماضى بالمضارع «قَدْ نَعْلَمُ» للدلالة على أنّ علم اللّه تعالى لا يتجدّد، أو لإستمرار أذاهم. و«إنّه» والجملة ما بعدها في موضع مفعولي نعلم.

والالتفات إلى الاسم الجليل فى قوله تعالى: «بآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ» لتربيب المهابة، واستعظاماً لما أقدموا عليه، كما أنّ ذكر الظالمين موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم.

وقيل: إنّ (من) في قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَا الْمُرْسَلِينَ» زائدة، ولكن ذكرنا مكرّراً إنّه لا زيادة في القرآن الكريم، وفاعل (جاءك) من نباء، والمراد بعض أنباءهم.

وقيل: إنّ الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو)، يعود على مادلّ عليه المعنى من الجملة السابقة، أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب اتّباع الرُّسل. والجار متعلّق به وقع حالاً منه.

وقيل: إنّه محذوف والجار والمجرور صفته، أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين.

ورد: بأنّ الفاعل في المقام لا يجوز حذفه.

ص: 244

وقيل: إنّ الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يرجع إلى النبأ أو البيان.

والحقّ كما عرفت أن الفاعل هو ( من أنباءهم) والمراد بعض أنبائهم.

وكلمة (نبأ) رسمت في المصاحف هكذا (نباي)، والياء كرسي للهمزة المحذوفة، وينطق بالهمزة دونها، كما ترسم في وسط الكلمة في مثل (نبئهم).

ثمّ إنّ اسم كان فى قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ» ضمير الشأن، وفاعل ( كبر ) هو (اعراضهم)، والجملة من الفعل والفاعل خبر كان مفسرة لأسمها الذي هو ضمير الشأن، كما عرفت. وأجاز قوم أن يكون (إعراضهم) اسم كان، وكبر في موضع نصب على الخبر مقدّم على اسمها.

والفاء في قوله تعالى: «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ» جوابية، وجواب الشرط فيها محذوف، وتقديره إمّا أن يكون بضيغة الخبر أو فعل أمر، والجملة جواب الشرط الأوّل. والفاء في قوله تعالى: «فَتَأْتِيَهُمْ» إمّا تفسيريّة، وتنوين (آية) للتفخيم، فالمعنى إن استطعت ابتغاءها فتجعل ذلك آية لهم فعلت.

وردّ بأنّ هذا لا يظهر من دلالة اللّفظ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم ذلك آية، وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض، وإن صحّ أن يكون في الرقي إلى السماء آية.

وقيل: إنّ إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الاذهان.

ومفعول (شاء) في قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى» محذوف لدلالة جواب (لو) عليه، تقديره ولو شاء اللّه جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، ويُحذف مفعول شاء كثيراً في القرآن لدلالة جواب (لو) عليه.

ثمّ إنّ قوله تعالى: «وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّه» جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، والموت والبعث إمّا يحملان على الحقيقة، كما اختاره بعض المفسّرين. أو

ص: 245

مجازان استعير للكفر والإيمان، كما عرفت، فتكون الإستعارة تبعيّة مبنيّة على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت، كما قال:

لا يَعْجِبن الجهولُ بزيّه***فذاك مَيْتُ ثيابُهُ كَفَنُ

وإمّا الحمل على الحقيقة فيكون الكلام تمثيلاً.

و(الموتى) إمّا مرفوع على الابتلاء، كما تقدّم. أو منصوب بفعل محذوف يفسّره ما بعده.

وقرئ ( يرجعون) على البناء للفاعل من رجع رجوعاً، والقراءة المتواترة على المفعول، وهي تدلّ على كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار، ولكنّه ليس بشيء، فإنّ الاضطرار حاصل على كلّ واحدة من القراءتين.

***

بحث دلالي وفيه يستفاد من الآيات الشريفة

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» على أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في كنف الربوبيّة العظمى وإحاطته العلميّة والقيوميّة التامّة، وهي تقتضى التدارك ممّا هو فيه من الحزن، فأرشده على الصبر، وأكّده عليه بفنون التأكيد لبعث الهمّة والتسلية، وهو يدلّ على أن حزنه بالحقّ وللحق.

الثاني يستفاد من قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِبُونَكَ» أنّهم لا يقتصرون على التكذيب فقط، بل تعدّوا إلى الجحد بآيات اللّه تعالى، فصار كفرهم وتكذيبهم جحوداً، ويدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك: «بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ» إِلى شدّة تعلّق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باللّه سبحانه، وفنائه عمّا سواه، وبقائه به عزّ وجلّ، ولا ريب إنّه سوف ينتقم تعالى له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الظالمين الجاحدين لدعوته أشدّ انتقام، بلا فرق بين رؤساء المشركين ممّن علم، أو المقلدين لهم ممّن عرف فساد عقيدتهم، فإنّ جحد الجميع

ص: 246

كان عن علم وعناد.

فما ذكره بعض المفسّرين من التفرقة بينهما غير سديد؛ لأنّ المناط على تحقّق الظلم منهم وكونهم ظالمين بآيات اللّه، كما عرفت في التفسير. وهو يدلّ على أنّ الظلم هو العلّة في الجحود، فإنّ التعليق بالمشتقّ يفيد علية المأخذ، فليس الجحد منهم حاصلاً عن قصور وجهل، ولذا كان ما أقدموا عليه عظيماً فاستحقّوا أشدّ العذاب.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» جميع ما يرتبط بنصر اللّه سبحانه، فلابدّ من تكذيب رسل اللّه، والأذى مضافاً إلى التكذيب، ثمّ الصبر على ذلك، فكلّ منهما جزء العلّة لتلقي الفيض الإلهي بالنصر الذي له مظاهر مختلفة، والآية تزيد في التسلية.

الخامس: إطلاق قوله تعالى: «حتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا» يشمل النصر في الحجّة والبرهان، والقهر والغلبة وهلاك الأعداء، وهو يشعر بأنّه لابدّ من التأسي بهم، والاصطبار على ما ينال في سبيل نشر الدعوة الايمانية، واضافة النصر إلى ضمير العظمة العائد على القدير المتعال، يدلّ على عظمة شأنه، وكونه من الآيات المؤكّدة العظيمة المؤيدة لرسله.

السادس: يدلّ قوله تعالى: «وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه» على أنّ تلك من الحقائق الواقعيّة التي لا تقبل التبديل والتغيير فإنّه القضاء الحتم، وتخصيص التبديل بالذكر، إمّا لأجل الإعلام بعدم إمكان التغيير بجميع أنحاءه، لا من ناحيته المقدّسة ولا من ناحية غيره، فلا تقبل المحو بعد الإثبات، ولا النقض بعد الإبرام، ولا التغيير بعد التمام، ولا تبديل ما أحكمه سبحانه وتعالى.

أو لأجل بعث الهمّة وإثبات العزيمة فى نفس الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وتخفيف الحزن الذي غمّه بسبب تكذيب الظالمين.

ص: 247

ويستفاد منه أن نصر الرُّسل إنّما هو حقّ عليه عزّ وجلّ بعد تحقّق مقتضياته وأسبابه، فليس هو كالمعجزة إنّما يؤتى بها لتثبيت صدق الرسول ودعوته الحقّة، وإن كان خصوصيّاته وكيفيّاته موكولة إلى علم الباري الناصر لرسله واوليائه.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَا فِي الْأَرْضِ» أَنْ شأن رسل اللّه عزّ وجلّ إنّما هو إنزال الآيات البينات لأجل هداية الناس وإرشادهم إلى الإيمان والطاعة، وليس شغلهم إتيان الآيات في غير هذا الغرض ولذا كان الأُسلوب في الآية الكريمة استبعاد وقوع مثل الآيات التي لا تنصبّ في طريق الهداية، وإنما هى مجرّد اقتراحات من المشركين الذي تقوم في دعاواهم على المجادلة مع الحقّ. ولأجل ذلك كان إعراضهم كبيراً على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

الثامن: يرشد قوله تعالى: «أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ» إلى أنّ هذين الأمرين من أهمّ مبتغيات الإنسان فى مرّ العصور، إمّا لأجل أنّهما يستوعبان جميع ما يريده الإنسان، أو لأنّ العلم بما فيهما يوجب العلم بالأُمور الأُخرى، أو لأنّ الأُمور الماديّة فى عالم الناسوت لا يخرج عنهما.

وإطلاق الابتغاء فيهما يشمل الماديّ والقواعد العلميّة التي كانوا جاهلين بها في عصر نزول القرآن، فقد نفذ الإنسان في أعمّاق الأرض، وولج فى السماء، وأمكن تسخير بعض القوانين للوصول إلى جملة من المقاصد، وإن كان المجهول أكثر من المعلوم، فالآية الكريمة تشمل جميع طرق الوصول إلى أعمّاق الأرض والنفوذ فيها، والصعود إلى أعمّاق السماء، والاقتصار على نوعٍ خاصّ يوجب قصر الآية على مورد معيّن، وهو خلاف التجريد والتعميم المبني عليه القرآن الكريم الذي يُعدّ معجزة خالدة.

كما أنّه يستفاد من الآية المباركة أنّ الوصول إلى أعمّاق الأرض والصعود إلى أطراف السماء أمر ممكن بحدّ نفسه، وإن لم يبتغه الرسول العظيم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لأنّه

ص: 248

خلاف الحكمة والقاعدة في الإيمان والطاعة.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «يَبْعَتُهُمْ اللّه» على أنّ الاستجابة إلى الإيمان اضطراراً إنّما يكون في يوم القيامة بعد البعث والرجوع إلى اللّه عزّ وجلّ ومشاهدة الحقائق عياناً، وإن لم ينتفعوا من هذا الإيمان.

وأمّا في دار الدُّنيا فإنّ الأُمور تجري طبق قاعدة الإخبار في الإيمان والطاعة، كما عرفت.

العاشر: يشعر قوله تعالى: «فَتَأْتِيَهُمْ بِايَةٍ» ببعدهم عن الإيمان ورفضهم للإسلام، كما أنّ قوله تعالى. «فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» فيه الإشعار بحسن تربيته تعالى لرسوله العظيم الذي قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أدّبنى ربّى فأحسن تأديبي) حيث أرشده عزّ وجلّ إلى الابتعاد عن المشقّة، وما يوجب حزنه والحرص الحاد على إسلامهم، وإنّما الأُمور تسير وفق القواعد والأحكام التي جعلها عزّ وجلّ في دار الاختبار والاختيار.

كما أنّ الآية الكريمة اشتملت على تكرّر الأمر بالصبر، فتكرّرت التسلية وأكّدت عليها.

الحادي عشر: يسفاد من قوله تعالى: «ثمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» أنّ هداية الكفّار كبعث الموتى والرجوع إليه سبحانه، فإنّه ممّا اختصّ به سبحانه، فلا يفدر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على هدايتهم.

***

بحث روائي وفيه بعض الاحاديث الواردة في تفسير الآيات

بحث روائي

العيّاشي عن عمران بن،میثم أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «قرأ رجل على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ»، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): بلى واللّه لقد كذّبوه أشدّ التكذيب، ولكنّها مخفّفة - لا يكذبونك - لا بأتونك بباطل

ص: 249

يكذبون به حقّك».

وفي حديث آخر «لا يستطيعون إبطال قولك».

أقول: رواه الكليني في «الكافي»، والقمّى فى «تفسيره». ولعلّه قراءة أهل البيت، وعليها يكون المعنى واضحاً لا يحتاج إلى تأويل الآية، كما عرفت.

وفي «الكافي» في قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا – الآية» عن حفص بن غياث، قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ):

« يا حفص! أن من صبر صبر قليلاً، وأنّ من جزع جزع قليلاً، ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع أُمورك فإنّ اللّه عزّ وجلّ بعث محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأمره بالصبر والرفق، قال: فصبر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتّى نالوه بالعظائم، ورموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ»، ثمّ كذَّبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا حتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا» فَأَلْزِم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نفسه الصبر».

أقول: وفي مضمونه جملة من الأخبار، وهي تدلّ على شدّة ما لاقاه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من المشركين، وتكرار الأمر بالصبر، وتأكيد التسلية عليه.

ومنه يظهر وجه آخر في قوله تعالى: «فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ»، أي لا تكن من الجاهلين بحقائقهم في مشقّة شديدة وكبر إعراضهم وتخاذلهم عن الحقّ وأنت ترشدهم، وتبلّغهم الآيات البينات المتتالية، فهم بلغوا مرحلة من العناد واللّجاج فلا يؤمنون، فلا تكن من الجاهلين بحقائقهم، وقد أشرنا إليه في التفسير، فراجع.

وفي «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ»، عن

ص: 250

أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يحبّ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف دعاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء، فشقّ ذلك على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأنزل اللّه هذه الآية».

أقول: إنّه من باب التطبيق، فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما كان يجب إسلام كلّ فرد، ولذا كان جهده عظيماً وإعراضهم كبيراً عليه.

وفي «المناقب» لابن شهر أشوب باسناده إلى سلمان الفارسي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، قال: «يا على إنّ اللّه قد قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأُمّة، فلو شاء اللّه لجمعهم على الهدى حتّى لا يختلف اثنان من هذه الأُمّة، ولا ينازع في شيء من أمره، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله».

أقول: تقدّم ما يتعلّق به، فهو عزّ وجلّ قضى الفرقة والاختلاف بين الناس، ومنه هذه الأُمّة التي فضل أنكرت ذي الفضل وقدمت المفضول عليه، لأجل كونهم في دار الاختيار والامتحان، فلو شاء اللّه لجمعهم على الهدى، ولكنّه خلاف حكمته المتعالية التي اقتضت أن لا يسلب الاختيار من الناس ما داموا في دار الاختيار.

***

بحث علمي وفيه علاج بعض ما يطرأ على النفس ممّا يوجب سلب استقرارها

بحث علمي:

الآيات الكريمة اشتملت على أُسلوب رفيع في علاج بعض ما يطرأ على النفس، ممّا يوجب سلب استقرارها الذي لابدّ منه في حياة حافلة بالمحن والهموم والأحزان والعوائق، لا سيّما إذا كان الهدف عظيماً يحتاج نيله إلى سعي شديد وجهد أكيد، وهي وإن وردت في حياة أفضل الخلائق، الذي منحه اللّه عزّ وجلّ من الصفات والمقامات ما لم يمنحه غيره من سائر أفراد البشر، بل سائر مخلوقاته، فقد تصدّى لأعظم مهمّة في تاريخ البشر، ولاقى في جهاده في الدعوة

ص: 251

من المتاعب والأذى ما لو كان غيره لأوهن عزيمته، ولكنّه تأدّب بآداب ربِّه الذى أحسن تاديبه، إلّا أنّ مضمونها عام وتضمّنت من الدقائق والرموز ممّا يجعلها قواعد ثابتة، لها التأثير الكبير فى علاج أمراض النفس، ورجوع الاستقرار لها، وإثبات العزيمة وبعث الهمّة لنيل الهدف وتحقيق الغرض.

ومن المعلوم أنّ أمراض النفس عديدة ومتنوعة وأسبابها كثيرة، وبعض تلك الأمراض أخلاقية، وأُخرى عادية، كالحزن والخوف، والشكّ والوسوسة ونحو ذلك، والآيات الشريفة خصّت الحزن بالذِّكر اعتناءً به لعظم آثاره في النفس وتعدّد أسبابه وخفائها وعموميّته، فيشمل العالم والجاهل، والكبير والصغير، حتّى الأنبياء والمرسلين، ومن عظيم أثره في الإنسان إنّه يسلب استقراره، ويشلّ حركته، فلا تقدّم النفس على فعل ولا تهتمّ بشأن وأمرٍ، فقد بيّنت أسبابه وطرق الوقاية منه وأهمّ طرق علاجه.

وفي الآيات إشارات لطيفة في هذا الموضوع، وفيها دلالات على عظيم عناية اللّه عزّ وجلّ بالإنسان، لا سيّما خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ممّا يمكن أن يكون دستوراً في هذا المرض الطارئ على النفس، الذي يكون سبباً لجملة من أمراض النفس أو البدن، فقد ذكر سبحانه وتعالى في ابتداء الآيات موجبات الحزن في النفس، فاعتبر عزّ وجلّ أنّ أكبر سبب لإثارة الحزن في النفس بعض الذوات التي لا تلائم أقوالهم وأفعالهم ما تريده النفس من الخير والصلاح لهم، كما قال تعالى: «وقَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ»، فإذا اسمر منهم المعاندة واللّجاج ممّا يجعل الحزن مكتوباً في النفس، حتّى يصل إلى حدّ يوقف النفس عن ممارسة أفعالها. وهذا هو السبب الأهمّ للحزن الذي له مراتب مختلفة تبعاً لتفاوت الهمم، فإنّه مهما كبر همّة فرد عظم حزنه، إذا طرأ عارضٌ يعيق من تطبيقه، كما دلّ عليه قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ». وأمّا علاجه فيمكن استفادته من الآيات

ص: 252

الكريمة في ضمن أُمور:

الأوّل: إعلام المحزون بحزنه، وإبراز ما هو المكتوم، حتّى لا يصل إلى حدّ الإحباط، كما عرفت. لا سيّما إذا كان المخبر به عظيماً يريد سعادته، كما في قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ».

الثاني: تحديد كون الحزن من شيء معيّن وإيهام المحزون بأنّه يمكن السيطرة عليه لا من أشياء متعدّدة، بحيث يتوهّم عدم قدرته على التخلّص منها، كما يستفاد من قوله تعالى: «الَّذِي يَقُولُون».

الثالث: تهوين الحزن عليه بالإعلام بأنّ سببه يرجع إلى من هو أعظم قدراً وأجلّ شأناً له القدرة التامّة، كما يستفاد من قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّه يَجْحَدُونَ»، وأنّ ذلك له التأثير في النفس في قبول ما يعرض عليها من علاج.

الرابع: تخفيف أثر الحزن على النفس بأنّه أمرٌ عام وتطيب النفس به، فإنّ البليّة إذا عمّت طابت، ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ».

الخامس: إعلام النفس وتلقينها بأنّه لا يمكن الوصول إلى الهدف، ولا يتحقّق العلاج إلّا بالصبر، وهو العلّة في ذلك، كما عرفت في التفسير، ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه».

السادس: تلقين النفس بأنّ النصر حليف الصابر على المحن والإيذاء، وقد فصّل سبحانه وتعالى في الآيات المتقدّمة الموانع التي تعترض الدعوة الإيمانية كالتكذيب والإيذاء، وأنّ ذلك سنّة جارية في هذه الدار التي حُفّت بالمكاره والآلام، ولا مبدِّل لكلمات اللّه، ولا ريب أنّ ذلك له التأثير الكبير في النفس وتسكين الخواطر وإزالة الهمّ والحزن وتخفيفه.

السابع: تثبيت هذه الحقيقة في النفس بذكر سيرة الأنبياء والصُّلحاء،

ص: 253

و مجاهداتهم في سبيل الدعوة، وصبرهم العظيم في تحمّل الأذى، ثمّ النصر المؤزر لهم كما قال تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَا الْمُرْسَلِينَ».

الثامن: إلقاء بعض الأُمور التي يمكن الاستفادة منها في العلاج إذا عرفت منه عدم القناعة أو التردد، أو عظم الأمر عليه ممّا أوجب تأثّره العميق بالحزن، ولابدّ أن يكون الأمر المعروض عليه مناسباً لمكأنّه وإمكانياته، كما هو المستفاد من قوله تعالى: «فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِي نَفَقَاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ».

التاسع: إعلامه بأنّ الأُمور ليست جارية وفق إرادته، وأنّ الحزن لا يفيده، فإنّ أزمة الأُمور كلّها بيد اللّه سبحانه وتعالى، وهو القادر على كلّ شيء، ولو شاء اللّه لهداهم أجمعيّن، ولكنّه لم يشأ لحكمة متعالية، كما عرفت بالتفسير.

العاشر: العلم بأنّ الناس يموتون، وسيبعثهم اللّه تعالى وإليه يرجعون، فيُجازي كلّ فرد على عمله إن خيراً فخير، أو شرّاً فشرّ فلا وجه للحزن والجزع.

وجميع هذه الخطوات وردت في الآيات الكريمة بأُسلوب رفيع، تضمّنت دقائق ورموز لها التأثير في النفس وحصول التسلية لها، وهي إن وردت في سيِّد الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والتخفيف عن کاهله العظيم، وإزالة حزنه العميق ممّا كابده في سبيل الدعوة، ولكن يمكن أن تكون دستوراً في علاج النفوس مطلقاً، إذا كانت مقاصدها خيّرة وحَسَنة، وتطرأ عليها في مسيرها ما يوجب الوهن في العزائم، والحزن في النفس، وقد اشتملت من الإشارات التي لها الدخل الكبير في نجاعة العلاج، ممّا يمكن أن نجعل ما ورد فيها من العلوم القرآنية التي عالجت هذا الموضوع بأحسن وجه، فصارت نبراساً في هذا المجال، فهي حقائق قد كشف عنها القرآن الكريم، وأنّ كلّ واحدة منها تحتاج إلى شرح.

***

ص: 254

سورة الأنعام الآية 37 - 45

إشارة

الآية 37 - 45

«وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثمّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللّه يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)».

الآيات الكريمة تبيِّن الاحتجاجات المتعدِّدة المتنوّعة على المشركين، الذين جحدوا آيات اللّه تعالى، فلم يقتصروا على التكذيب، ولم يهتدوا بما أنزله اللّه سبحانه من الآيات البيِّنات، وأصرّوا على العناد واللّجاج، وتبيّن الآيات الشريفة مظاهر استكبارهم بما اقترحوه من الآيات على ربّهم، وقد حَذّرهم عزّ وجلّ من تلك الاقتراحات التي تكشف عن جهلهم للحقائق، وغفلتهم عن

ص: 255

عواقب الأُمور فإنّها توجب هلاكهم.

وقد أخبر عزّ وجلّ في هذه الآيات عن بعض الآيات لبعث هممهم على الإيمان، والرجوع إلى رشدهم، فضرب لهم مثلاً من حياة الحيوان وحياة المكذِّبين الذين لم يهتدوا بها فكأنّهم لم يسمعوها ولم يروها.

وقد اشتملت الآيات من الإشارات والرموز ما لها الأثر الكبير في تغيير النفوس، واهتدائها إلى الصراط المستقيم، ومضمون الآيات لا يخرج عن سابقتها، فإنّه يرجع إلى أمر التوحيد والنبوّة.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ»

التفسير

قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ».

اقتراح آخر منهم بداعي تعجيز النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وبين أيديهم أعظم الآيات البيّنات وأفضلها وأكثرها تأثيراً فى النفوس المستعدّة، وقد نزلها عزّ وجلّ عليهم بأحسن أُسلوب وأشرف طريق؛ فإنّه تعالى نزل القرآن الكريم تنزيلاً ليتلى عليهم حيناً بعد حين، وقد أعرضوا عنها، وقالوا هلا أنزل على الرسول آية غير القرآن ملجئة للإيمان، أو أنّهم طلبوا ما لا يلجيء من الآية لجاجاً وعناداً.

ولابدّ أن يكون القائل طائفة خاصّة ممن بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث إنّهم لم يقتنعوا بما شاهدوه من الآيات، وما سمعوه من القرآن، ولم يعتدّوا بها، ولا ريب إنّه من مجازفات النفوس المريضة. وقد حملهم التعصّب لآلهتهم وشدّة عنادهم وانقطاعهم عن اللّه تعالى أن يطلبوا الآية من ربّهم، فلم يقولوا من ربّنا ازدراء بأمره سبحانه، وفي ذكر عنوان الربوبيّة لرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إشعاراً بالعلّية، والتعريض بآلهتكم من جهتهم، ولبيان أنّ الأُلوهيّة المطلقة تجمع جميع الصفات الكمالية من غير حدٍّ وتقييد.

ص: 256

ما يستفاد من قوله تعالی «قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً»

قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً»

بیان لعظیم قدرته، فإنّ في ذكر اسم الجلالة «اللّه» الدلالة على أنّ من تسمّى باللّه له القدرة المطلقة التامّة، فالأُلوهيّة المطلقة تجمع كلّ كمال مطلق من غير حدّ، فله تعالى القدرة المطلقة، وفى إظهار الاسم الجليل لتربيت المهابة مع الإشعار بالعلّية، فهو وإن تعلّقت قدرته عزّ وجلّ بإنزال الآية التي اقترحوها، لكنّه سبحانه لا يفعل ما هو خلاف الحكمة المتعالية، وقد عرفت سابقاً أنّ إنزال الآية التى تلجئهم إلى الإيمان خلاف الحكمة من جهتين:

الأولى: أنّها خلاف القاعدة في التكليف، التي اقتضت أن يكون الإيمان باختيار المكلّف من دون إلجاء واضطرار.

الثانية: إنّ إنزال الآية الملجئة يوجب الهلاك الحتمي عند الإعراض والنكوص عن الطاعة، وهو خلاف ما كتب على نفسه الرحمة، فلا يكون في إنزال الآية الملجئة الخير لهم، بل هو شرٌّ لهم.

هذا إذا كان المراد من الآية المقترحة هي الملجئة للإيمان، كما هو الظاهر، ويدلّ عليه قوله تعالى في آخر الآيات: «قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ»(1).

وأمّا إذا كان المراد منها ما لا يلجى لجاجاً وعناداً، فيكون الجواب بالملجئ أبلغ، لأنّه يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»

إشارة

قوله تعالى: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

بيان سفاهة حلومهم وغفلتهم، وحذف متعلّق العلم لبيان التعميم، فهم لا يعلمون شيئاً، فإنّهم غافلون عن الحكمة المتعالية التي تتبعها قدرته عزّ وجلّ، ولا

ص: 257


1- سورة الأنعام: الآية 58.

يعلمون شيئاً من حكم اللّه تعالى في أفعاله، كما لا يعلمون سنّته في خلقه، كما يجهلون أنّ نزول الآية المقترحة لا يوافق مصلحتهم، وهم غافلون عن أنّ نزول الآية يستجلب عليهم البلاء، فإنّ عذاب الاستئصال من لوازم جحد الآيات الملجئة. كما أنّهم لا يعلمون أنّ إجابة واحد من مقترحاته يؤدّي إلى اقتراحات عديدة لأنّها تكون عن عناد ولجاج.

كما أنّهم يجهلون أيضاً في أنّ تنزيل ما اقترحوه من الآية، يزيل الاختيار الذي هو أصل التكليف وأساسه، فلا تبقى للرسالة ودعوة الأنبياء فائدة.

و تخصيص عدم العلم بأكثر هم؛ إمّا لأجل أنّ بعضهم وإن كانوا واقفين على بعض الحقائق، ولكنّهم جاهلون عن الأُخرى، أو لأجل أنّ الجهل بالمقام الأُلوهي هو السمِّة المشتركة بين جميع أفرادهم، أو لأجل أنّ وقوف البعض على الحقيقة لا ينفعهم، فإنّهم يقولون ويفعلون عناداً ومكابرة.

ما يدلّ عليه كلمتی «نزّل وينزّل»

ثمّ إنّ ذكر ( نزّل) و ( ينزّل) مشدّدين من التفعيل فيه الدلالة على تعدّد اقتراحاتهم وتنوّعها في نزول آية واحدة أو آيات متعدّدة تدريجية أو دفعة، كما يدلّ على ذلك آيات أُخرى، كقوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتَفَجَرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِبِّكَ حتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه»(1).

وقوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً»(2).

وقوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللّه

ص: 258


1- سورة الإسراء: الآية 93.
2- سورة الفرقان: الآية 32.

وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»(1).

وغير ذلك من الآيات.

وقرأ ابن كثير (ينزل) بالتخفيف، والمعنى واحد، فإنّ الجميع يرجع إلى خصوصيات المقترحات كما عرفت.

المستفاد من الآيات التي تبين اقتراحاتهم

والمستفاد من الآية الكريمة الأُمور التي بعثتهم إلى طرح تلك الاقتراحات وهي:

الأوّل: الازراء بشؤون الخالق العظيم والاستهانة بأمره عزّ وجلّ، فقد ظنّوا عجزه سبحانه كما يدلّ عليه قوله تعالى: «لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ»، ولذا كان قصدهم من اقتراحهم تعجيز النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي يعدّ مظهر صفاته المقدّسة.

الثاني: اعتقادهم في آلهتهم الاستقلال في التصرّف، فادّعوا لها مقام الشفاعة، وأثبتوا لها الولاية والتصرّف في شؤون الناس، فقد صنّفوا الآلهة وجعلوا لكلّ واحد منها نوعاً من التصرّف وحدوداً لتصرّفاته لا يعارضه غيره، فاعتبروه أرباباً في حدود ما يدخل تحت سيطرته، فهم وإن اعتقدوا أنّ اللّه تعالى هو ربّ الأرباب، ولكنّه لا يسعه إبطال أمر الآلهة، فكانت معتقداهم في آلهتهم عظيمة ورهيبة، ولها جذور سحيقة في الزمن، ونفعتهم بعض معتقدات أهل الكتاب كاليهود كما حكى عنهم عزّ وجلّ في عدة آيات.

الثالث: جهلهم بكثير من الحقائق التي تقدّم ذكر جملة منها في ما سبق، فقد كانوا يجهلون تلك الحقيقة الناصعة من أنّ الآيات التي ينزلها اللّه تعالى مع رسله وأنبيائه، من غير أن يقترحه أحدٌ من الناس، هي التي تشهد على صحّة دعوة الأنبياء وحقّية رسالاتهم، من دون أن تستتبع عذاباً وانتقاماً، بخلاف الآيات التي

ص: 259


1- سورة العنكبوت الآية 50.

تقترحها على أنبيائهم، فإنّ سنة اللّه تعالى قد جرت في أنّها لو أنزلها اللّه تعالى فإن آمنوا، وإلّا ابتلوا بعذاب الاستئصال كآيات نوح وهود وصالح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وتقدّم في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكَ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثمّ لَا يُنظَرُونَ»(1) بعض الكلام، فكان الجهل والغفلة عن كثير من الحقائق الواقعيّة، هو الذي أوجب جرأتهم على اللّه تعالى، فتعرّضوا للعذاب والهلاك.

ما تدلّ عليه «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ»

قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ».

جملة مستأنفة تبيّن شمول علمه وكمال قدرته وسعة تدبيره وعظيم حكمته عزّ وجلّ، ممّا جهله المشركون، فبعثهم على اجتراء هم على اقتراح الآيات، كما أنّ الآية الكريمة برهاناً قويما على إنّه عزّ وجلّ قادر على كلّ شيء، ولأجل ذلك كان الخطاب عامّاً لجميع الناس.

وتضمّنت الآية الشريفة حقيقة أُخرى من الحقائق الواقعيّة، قد كشف عنها القرآن الكريم، وهى أنّ الحيوانات سواء كانت أرضية تدبّ عليها، أو في الجوّ تطير بجناحين في الهواء هي أُممٌ أمثال الناس لها مجتمعات، فلها الشعور والإدراك والتفكّر بالنسبة إلى شؤونها، وما يرتبط بحياتها، وما يوجب لها الخير والسعادة أو الشقاء والشرّ، وأنّ أهمّ ما تستشعر به إنّما هو خالقها ومعادها للتلازم بينهما، فإنّ من يستشعر بالمبدأ لابدّ أن يستشعر بالمعاد، كما عرفت في أحد مباحثنا في سورة المائدة. ويحكم بين أفرادها قانون الفطرة كما تحكم بين الإنسان، وتنظّمها الأديان الإلهيّة، ليعرف الجميع سُبل الحياة والتمهيد للحشر والجزاء.

والجملة في سياق النفي مصحوبة ب(من) التي تفيد استغراق الجنس،

ص: 260


1- سورة الأنعام: الآية 8.

فتشمل كلّ ما يدبّ حتّى الطائر أيضاً، فيكون ذكره بعد ذكر الدابّة إمّا تخصيصاً بعد تعميم، أو ذكر البعض بعد ذكر الكلّ، وصار من باب التجريد، كذكر جبرئيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة، أو لبيان التنويع وتقسيم الحيوان إلى الأرضي والهوائي.

والدابّة ما يدبّ على الأرض من الحيوان، وأصله من دَبّ يدّبُ دبيباً، وهو المشي الخفيف مع تقارب الخطو، كما ذكره بعضهم، واستعمالها في بعض الحيوان كالفرس للتغليب.

والجار والمجرور «فِي الْأَرْضِ» متعلّق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابّة، لزيادة التعميم، أي ما من فردٍ من أفراد الدواب يستقرّ في جزء من الأرض من سطحها أو جوفها.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ»

قوله تعالى: «وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ».

الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، وجمعه الطير، كالراكب والركب، واستعمل الطائر في العمل والنصب مجازاً، كما في قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»(1)، وإنّما جرَّد الطائر من دون ذكر السماء، لأنّ تصرّفه فيها دون غيره من سائر أفراد الحيوان، فهو أبلغ في القدرة.

كما أنّ توصيفه بقوله «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» إمّا لأجل كون هذه الهيئة الغريبة دالّة على كمال القوة والقدرة، فإنّ الهواء جسمٌ لطيف لا يمكن عادة تصرّف الأجرام الكثيفة فيها إلّا بباهر القدرة الإلهيّة، ولذلك قال تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوَ السَّمَاءِ»(2)، أو لدفع شبهة التجوّز، فإنّ الطيران قد يستعمل

ص: 261


1- سورة الأسراء: الآية 13.
2- سورة النحل: الآية 79.

بمعنى سرعة الحركة مقابل الدبيب الذي هو الحركة الخفيفة، فإنّه ربما يحتمل أن يُراد بالطيران في المقام الحركة السريعة فدفع ذلك بالوصف. أو لتنويع الحيوان إلى الأرضى والسماوي الذي يطير في جوّ السماء.

أو لأجل الإشعار بالديمومة والغلبة، فإنّ أكثر أحوال الطائر كونه يطير وقلّ ما يسكن. ولا منافاة بينها فإنّه ربما يكون لموضوع نكت متعدّدة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»

إشارة

قوله تعالى: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ».

خبر لجملة «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ» التي في موضع رفع بالابتداء. والأُمم جمع (أُمّة) هي الجماعة التي يجمعها مقصد واحد، إمّا دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. والأصل فيه القصد يقال: أَمَّ يَؤُمُّ إذا إذا قصد، وإنّما جمع الأُمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم، واختلفوا في وجه المماثلة بين الدواب والطير وبين الإنسان على وجوه:

الوجوه المتصوّرة في المماثلة

الأوّل: المماثلة في الاحوال المحفوظة والأُمور المعيّنة، والمصالح المرعية الجارية على سنن السداد المنتظمة في سلك التقديرات الإلهيّة والتدبيرات الربانية.

ولا بأس به، وتدلّ عليه آيات متعدّدة، كقوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ»(1).

ولكنّه لا يختصّ بالحيوان، فإنّ جميع المخلوقات شأنها كذلك، فتكون الآية الكريمة قد اشتملت على معنى أدق من ذلك.

الثاني: المماثلة فى كونها جماعات ذوات أعداد كثيرة.

ولكنّه بعيد عن سياق الآية، فإنّ الأُمّة لا تُطلق على مجرّد المماثلة في

ص: 262


1- سورة الشورى الآية 27.

العدد الكثير، إلّا إذا كان هناك جامعٌ يجمعها في مقصد واحد.

الثالث: المماثلة في كونها انواعاً مختلفة، كلّ نوع منها يشترك أفراده في جملة من الأُمور الحيويّة، كالحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى، ونحو ذلك من المشخّصات والمقومات.

وفيه: أنّ ذلك وإن كان وجهاً مصحّحاً للمماثلة، وتكون جهة الاشتراك بينها وبين الإنسان ولكن ينافيه ذيل الآية الكريمة: «ثمّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»، فإنّه يدلّ على أنّ جهة المماثلة ليس ما ذكر، بل هي جهة خاصّة مصحّحة للحشر إلى اللّه تعالى كما في الإنسان.

الرابع المماثلة في أصل الخلق فإنّها مخلوقة مثل الإنسان، وهو بعيد عن سياق الآية الكريمة.

الخامس المماثلة فى أنّها تعرف اللّه تعالى وتوحده وتسبّحه وتحمده، كما يفعل المؤمنون من أفراد الإنسان.

وفيه: إنّه لا يختصّ بالحيوان، بل يشمل جميع المخلوقات حتّى الجمادات، كما يرشد إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1)، كما أنّ الآية الشريفة تشير إلى معنى أدق من ذلك.

السادس: المماثلة بإحصاء الكتاب بجميع الأحوال المتعلّقة بحياتها وموتها كالبشر. ويرد عليه ما ذكرنا آنفاً.

السابع المماثلة في الحشر، فإنّه يحشر اللّه تعالى إيَّاها، كما يحشر الإنسان وحسابه لها، كما يحاسبنا.

وفيه: إنّه كذلك، ولكن لابدّ أن تكون المماثلة أسبق من الحشر، فإنّه لولاها

ص: 263


1- سورة الإسراء: الآية 44.

لما تحقّق الحشر والحساب، كما لا تتحقّق بالنسبة إلى الجمادات إذ لم تكن مماثلة بينها وبين الإنسان.

الثامن: ما ذكره بعضهم من المماثلة في بعض الصفات، فقال ما في الأرض آدمي إلّا وفيه شبه من بعض البهائم.

وفيه: إنّه بعيد عن سياق الآية الكريمة وظاهرها.

والحقّ أن يُقال: إنّ الآية الكريمة من جلائل الآيات التي تبيّین حقيقة من الحقائق، وتكشف عن طبيعة الحيوان التي طالما كانت مجهولة، وتجعل المجتمعات الحيوانية مماثلة لمجتمع الإنسان، وإطلاقها يقتضى أن تكون المماثلة من وجوه شتّى، إلّا ما اختصّ الإنسان به ممّا صرّح به القرآن الكريم، ولعلّه لأجل ذلك حثّ القرآن المجيد على التفكّر في خلق الحيوان، ومعرفة طباعها وغرائزها وأفعالها وسائر ما يرتبط بحياتها، كقوله تعالى: «وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(1)، واعتبر المجتمعات الحيوانية من الآيات الآفاقيّة التى حثّ الإنسان على التفكّر فيها، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2).

وقد أمر اللّه سبحانه الإنسان بالاعتبار من خلقها في كثير من الموارد، فقال عزّ وجلّ: «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ»(3).

وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ»(4).

ص: 264


1- سورة الجاثية: الآية 4.
2- سورة فصلت الآية 53.
3- سورة الغاشية: الآية 17.
4- سورة الملك: الآية 19.

وقال تعالى: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً»(1).

وغير ذلك من الآيات.

ويستفاد منها أنّ للحيوان السجايا والأفعال وسائر شوون الحياة، فهو ذو أنواع متعدّدة، ومجتمعات متفرِّقة تختلف في كثير من الصفات والأخلاق والعادات، وتجتمع تلك في خصلة واحدة، وهى أنّها اشتملت على دقائق من،الصنعة، ولطائف من الخلق، وعندها من رموز التدبير والسياسة ما تجعلها ترتقي إلى الأُمم ذوي الحضارة والمدنية من الإنسان، وقد حكى عزّ وجلّ عن أحوال النحل، ونمل سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يبهر منها العقول، وقد جمعت تلك المجتمعات الحيوانية مقاصد نوعيّة مصاحبة لشعور خاصّ، يقصدها كلّ نوع من أنواع الحيوان، ولها إرادة وتفكّر خاصّ بها كالإنسان.

وإذا أمعنا النظر في حياة الإنسان وطراز عيشه وسلوكه ونفسيّاته، يظهر لنا أنّ تلك المقاصد التي يسعى إليها الحيوان والأفعال الصادرة عنه، إنّما هي على أقسام:

أقسام المقاصد التي يسعى إليها الحيوان والإنسان

الأوّل: المقاصد الطبيعيّة وما تستلزم من الأفعال، كالتغذّي والنموّ التوالد وغيرها ممّا تقوم عليها هذه الحياة الدنيوية، وترجع بعضها إلى الغرائز التي أودعها اللّه تعالى الحيوان والإنسان على السواء، وتلك الغرائز هي من الآيات الإلهيّة، فيها دقائق من الصنع التي أحكمها اللّه تعالى، وقد كشف العلم الحديث عن كثير من رموزها ووصلوا إلى علم كثير، وبقي الأكثر منها مجهولاً.

الثاني الصفات الخاصّة في كلّ نوع من أنواع الحيوان والأخلاق والسجايا التي توسم بها، فيختلف كلّ نوع عن آخر وتتميّز بها، كالشجاعة في الأسد،

ص: 265


1- سورة النحل: الآية 66.

والزهو في الخيل، والبلادة في الحمار، والتكبر في الطاووس ونحو ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم بعض الإشارت، كقوله تعالى: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَتْ»(1)، وهو يشير إلى العناد.

وقوله تعالى: «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً»(2).

وغير ذلك من الآيات الكريمة.

وجوه الاستدلال على تماثل الحيوان والإنسان

وفي السنّة الشريفة إشارات كثيرة ولطيفة إلى ذلك؛ ويستفاد منها أنّ في الحيوان أخلاقاً خاصّة تتميّز الأنواع بها، وتماثل الإنسان، وقد كشفت العلوم الحديثة، لا سيما تلك التي تبحث عن نفس الحيوان، عن كثير من صفاتها النفسية، وطباعها المختلفة التي تدلّ على الدقّة والسموّ.

الثالث: الأفعال الاختيارية التي تصدر عن الحيوان، تدلّ على وجود نوع خاص من الشعور والإدراك، ممّا يترتب عليها الاثار التي لها ارتباط خاص بالسعادة والشقاء الحاصلتين من شعور وإرادة، ويدلّ على ذلك بعض النصوص، ففي الحديث أنّ الحيوان إذا أغفل عن شيء فإنه لا يتغافل عن خالقه وسفاده.

وفي خبر آخر: إنّه لا يسقط طيرٌ من السماء ولا يصطاد إلّا عن غفلته عن تسبيح ربّه.

وعلى هذا النوع من الأفعال يترتّب الحساب والجزاء، كما في الإنسان، فإنّه لابدّ من تحقّق الشعور والإرادة والتفكّر لجلب المنافع ودفع المضار، ممّا يترتّب عليه السعادة والشقاوة اللّتين تناسبان كلّ ذي شعور.

ومن المعلوم أنّ المجتمعات الحيوانية تختلف في هذا النوع من الشعور

ص: 266


1- سورة الأعراف الآية 176.
2- سورة الجمعة: الآية 5.

والإرادة والتفكّر، كما أنّها تفترق عن الإنسان الذي يمتلك مرتبة عالية منها، فهي وإن كانت متفاوتة فيها، ولكنّها لم تكن محرومة من ذلك كما يبدو لأوّل وهلة، ويترتّب على ذلك أنها تتميّز بالاختيار أيضاً في الجملة، وإن كان ضعيفاً بالنسبة إلى المتوسّط من أفراد الإنسان، وقد كشف العلم الحديث عن كثير من الأفعال الاختيارية في الحيوان، كما نشاهدها في كثير من الحيوانات ممّا عندها الترديد في الفعل لا سيّما إذا اقترن بالمانع، كما أنّها لها الكف عن الفعل إذا حصل زجر أو خوف، وهما من آثار الاختيار، كما أنّ ما يصدر منها من الأفعال عن تربية وغير ذلك من الأفعال والاستجابة للإثارة التى هى من آثار الاختيار، فإنّ جميع ذلك ممّا يدلّ على تنعمها بنعمة الاختيار، والحكم عليها بلزوم الفعل والترك الذي هو القاعدة في أصل الاختيار. نعم، أنّها لم تصل إلى المرتبة الكاملة الموجودة في الإنسان، كما عرفت.

الرابع: وجود النفس الشاعرة الدرّاكة، وبعبارة أُخرى النفس الناطقة، كما لأفراد الإنسان، ويدلّ عليه مضافاً إلى آية المقام بعض النصوص، كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في في حديث الهجرة عند تعرّض كل من الأنصار لزمام ناقته: «دعوها فإنّها مأمورة»، ولا يعقل الأمر إلّا من له نفس ناطقة، وقد حكى سبحانه عن النحل وما تصنعه من دقائق الصنع، والعناكب، وما حكى سبحانه عن نمل سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهدهده ما لا يهتدي إليه إلّا العالمون، ومن له نوعٌ خاصّ من التفكّر والإرادة والشعور، وغير ذلك ممّا يصدر من الحيوانات الذي يكون من شأن ذوي النفوس الناطقة، وليس تعلم الحيوانات بعض الأفعال وتربيتها على بعض الأفعال، إلّا هي من آثار ما تحمله من النفس التي تقرب من نفس الإنسان في التفكّر والشعور والإحساس، فهي تحمل النفس الناطقة وإن كانت متفاوتة في الإدراك، ولم تصل مع ذلك في إدراكها وتصرّفها إلى ما يصل إليه الإنسان، وقد عرفت أنّ الشواهد عليه كثيرة.

ص: 267

ويكفى فى ذلك أنّ لها من العرفان بربّها ما يصل إلى مرتبة محمودة، نعم يفترق الإنسان عن الحيوان في أنّ ما حباه اللّه تعالى من الفكر والشعور والإدراك ما لا يمكن حصر أفراده وأنواعه، كما أنّ استعداده العلمى غير محدود، لأنّ اللّه تعالى اصطفاه وحباه من النِّعم الظاهرية والمعنوية، ما لم يكن كذلك بالنسبة إلى الحيوان، ولكنّه غير محروم من كثير منها، فللحيوان فطرة ونفس وغرائز وإدراك وشعور وتفكّر، وأفعال تُنبئ عن عظيم صنع الخالق فيها، ويمكن أن يستدلّ على ذلك بآية المقام من وجوه عديدة:

الأوّل: قوله تعالى «إِلَّا أُمَمٌ» فإنّ الأُمّة لا تُطلق -كما عرفت آنفاً – إلّا على الجماعة التي يجمع أفرادها مقصد واحد، فلابدّ أن يكون الجامع لأفراد المجتمعات الحيوانية والإنسان هدف و مقصد واحد، وإن اختلفت الأفراد منها في ذلك اختلافاً كبيراً، ففى الإنسان قد يكون داعي الفطرة التي تدعو إلى جماع الخير، ويؤيّدها دعوة الأنبياء صلوات اللّه عليهم التي بيّنت سُبل الرَّشاد، وسنّت منهج الحياة في الدارين، ممّا يترتب عليها السعادة إن أطاع الإنسان واتّقى والشقاء إن عصى وأعرض.

ولا ريب أنّ هذه السنّة الجامعة، والسبيل الذى يحتكم إليه الإنسان، يرجع إلى أمرين هما أساس التشريعات الإلهيّة، والمنهج الذي يسير عليه والمقصد الذي يجمع الأفراد، والعدل والاستقامة والظلم والانحراف عن الحقّ، وقد أودع اللّه تعالى ذلك في فطرة الإنسان، فهو يستحسن اموراً كالعدل، ويستقبح أُخرى كالظلم، وجميع الأديان والتشريعات الحقّة تؤيّد ذلك وتبيّن تفاصيلها، وقد قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيها: «إنّما تثير لهم دفائن العقول».

وقد صرّح القرآن الكريم بوجود مثل تلك الفطرة، قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا

ص: 268

سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(1).

وقال تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةٌ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالحقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحقّ بِإِذْنِهِ وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم»(2).

ولأجل ذلك كان الإنسان في أعلى درجات الفكر والإرادة.

وأمّا المجتمعات الحيوانيّة؛ فإنّ الفكر والإرادة فيها تختلف بين أفرادها، فالتي تشبه الإنسان في ما ذكرناه من أقسام الأفعال والمقاصد والنفس، لا تختلف عن الإنسان إلّا فى الشدّة والضعف، كما عرفت، فإنّ لها إرادة وفكر وعقائد خاصّة في جلب المنافع ودفع المضارّ، وتحتال بأنواع شتّى فى رفع حوائجها، كما أنّ بين أفرادها أنواع من العواطف الحسنة والرديئة كالحبّ والبغض والرحم والقسوة، ونحو ذلك ممّا هو موجود في الإنسان، ولأجل ذلك كانت الحيوانات أُمماً كأُمّة الإنسان.

الثاني: قوله تعالى: «أَمْثَالُكُمْ»، فإنّ إطلاق المثلية يقتضى التشابه بين المجتمعات الحيوانية والإنسان إلّا ما اختص الاخير به -كما تقدّم - فإنّ المثل أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أنّ الندّ يُقال فيما يشارك في الجوهر فقط، والشّبه يُقال فيما يشارك فى الكيفية فقط، والمساوي يُقال فيما يشارك في الكمّية فقط، والشكل يُقال فيما يشاركه فى القدر والمساحة فقط، فيكون المثل عاماً في جميع ذلك، ولهذا لمّا أراد اللّه تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصّه

ص: 269


1- سورة الشمس: الآية 10.
2- سورة البقرة: الآية 213.

بالذِّكر، فقال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ»(1)، فلابدّ أن تكون المماثلة في أغلب الأُمور والجهات، لا في العدد وغيره الذي لا ربط له بأصل الحكم، فتكون المماثلة في المقاصد والإرادة والفكر والخلق والصفات، ممّا لها التأثير في السعادة والشقاء.

الثالث: قوله تعالى: «ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» الذي يدلّ على حشر الحيوان، كما أنّ للإنسان حشراً، وعرفت آنفاً أنّ ملاك الحشر إمّا هو انطباق العدل والظلم، أو التقوى والفجوز على الأعمال، كما يستفاد من قوله تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(2)، أو جعلنا الملاك القضاء الفصل بين الأفراد فيما اختلفوا فيه من الحقّ، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(3)، أو لأجل وصول المحسن إلى جزاءه من الأنعام، والمسيء إلى الانتقام، كما في قوله تعالى: «فَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقَامِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(4)، وعند تطبيق تلك الملاكات على أفعال الحيوان، نرى بوضوح انطباق ملاك الحشر عليها، فإنّ وصف الإحسان والظلم ينطبقان على أفعال الحيوانات، وتدلّ عليه بعض النصوص من القرآن والسنّة كقوله تعالى: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(5)، فإنّ الحشر لابدّ أن يكون لأجل ترتّب الجزاء، ولعلّ توصيف الحيوان بالوحوش في الآية الكريمة لأجل غلبة الظلم عليها، كما يرشد إليه قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه

ص: 270


1- سورة الشورى: الآية 11.
2- سورة ص: الآية 28.
3- سورة السجدة: الآية 25.
4- سورة ابراهيم: الآية 48.
5- سورة التكوير: الآية 5.

النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى»(1)، فإنّ ظاهره يدلّ على أنّ الظلم إذا استوجب المؤاخذة والعقاب لوجب مؤاخذة كلّ ما هو على ظهر الأرض من الدواب؛ لأنّ الظلم شايع بين الجميع، هذا إذا أردنا من الدابّة غير الإنسان، وإلّا اختصّ بالإنسان فتخرج الآية عن المطلوب.

أمّا من السنّة: ففيها شواهد كثيرة تدلّ على حشر الحيوانات؛ منها ما ورد في حشر ناقة صالح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وناقة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) العضباء، وما ورد في هدي الحاج قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له: «استفر هوا ضحاياكم فإنّها مطاياكم يوم القيامة».

وما ورد في الناقة التى حجّ عليها الإمام علىّ بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فقد أوصى إبنه الامام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بدفنها لأنّها تُحشر يوم القيامة، وتكون من نِعَمْ الجنّة إذ حجَّ عليها سبع حجج، ونحو ذلك. وتقدّم ما يدلّ على ذلك أيضاً آنفاً.

ولا يلزم من ذلك تساوي الحيوان مع الإنسان في هذه الجهة، فإنّه ممّا يبطله الوجدان،والبرهان، فإنّه لا ترتقي الحيوانات العجم إلى مرتبة الإنسان بالضرورة، ومجرّد الاشتراك والمماثلة فى الحشر والحساب والجزاء، لا يستلزم المعادلة والمساواة من جميع الجهات، كما لا يقتضي المساواة بين أفراد الإنسان نفسه من حيث الأعمال والحساب، فإنّهم متفاوتون فيهما تفاوتاً فاحشاً، فكم فرق بين الرشيد والسفيه، والعاقل والمجنون، والمستضعف وغيره، مع أنّ الجميع يحشرون في صعيد واحد.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه مماثلة المجتمعات الحيوانية مع الإنسان في تحقّق النفس الناطقة الدرّاكة لهما، والتشابه في الغرائز والسجايا والأخلاق، والأفعال، وعندها من الفطرة الخاصّة التي ينبع منها مادّة الدِّين الإلهي، نحو ما

ص: 271


1- سورة النحل: الآية 61.

يكون فى الإنسان، ممّا يجعلها في مسير الحشر إلى اللّه تعالى، ويمّهدها للحساب والجزاء، وإن لم تصل إلى مرتبة الحشر في الإنسان، لاختلافه معها في نوعيّة التفكير والإرادة والتعقّل وكيفيتها، كما أنّها لم تمنح تفاصيل العلوم والمعارف، ولم تكلّف بالتكاليف الإلهيّة التي كلّف بها الإنسان، فاكتسب بها الفضل، وصار سيِّد هذه الأرض، فسخّرها اللّه تعالى له وجعله خليفته فيها.

ومما ذكرنا يظهر فساد جملة من الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية الكريمة، التي عرفت أنّها من جلائل الآيات، وتضمّنت حقيقة اجتماعية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»

قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ».

جملة معترضة مقررة لما قبلها وتثبت مضمونه باسلوب رفيع.

والتفريط: التقصير والتضييع حتّى يفوت، ويتعدّى بفي أيضاً كما في قوله تعالى: «عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه»(1)، وقد ضمن في المقام معنى الغفلة والترك أي أغفلنا في الكتاب.

و «مِنْ شَيْءٍ» بيان للفرط الذي يقع به التفريط.

والمعنى: أنّ الكتاب تام لم يغفل فيه عن ما يرتبط بالنظام الكياني التكويني منه والتشريعي، فلم يترك شيئاً ممّا تجب رعايته والقيام بواجب حقه وبيان نعته تقصيراً، كما إنّه قد ذكر ما يجرى في العالم من جليل ودقيق، وجميع ما يحتاج إليه نظام الحياة كملاً من غير تفريط. والكتاب إمّا أن يُراد به اللوح المحفوظ، فإنّه يشمل على كلّ ما يجري في العالم، وجميع مقادير الخلق، فلم يهمل أمر حيوان ولا جماد ولا إنسان ممّا كان وما يكون وما هو كائن فيكون نظام المماثلة، وداخل تحت رعاية خالقها،

ص: 272


1- سورة الزمر: الآية 56.

ومشمول بعنايته عزّ وجلّ، ومن المعلوم أنّ نظاماً يكون كذلك يبتني على الدقّة والشمول لئلّا يكون وجوده سدى أو يعود خلقها عبثاً. وبذلك تلقّت تلك الموهبة الخالقيّة، ممّا تجعلها مستعدّة لقبول الفيض والكمال.

وأمّا إذا أُريد من الكتاب القرآن الكريم، كما هو المستفاد من بعض الاخبار، وقد سمّاه اللّه تعالى الكتاب في مواضع من كلامه المجيد، الذي هو كتاب هداية يهدي الخلق إلى الصراط المستقيم، وأنزل فيه المعارف الحقّة التي لها ارتباط وثيق بسعادة الإنسان، والإرشاد إلى الحقّ المبين، فلم يفرّط فيه جميع ما يرتبط بالأُلوهيّة والنبوّة والتكاليف،وغيرها كما قال عزّ وجلّ: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»(1).

ولا ريب أنّ المعاد والحشر والنشر والجزاء من الأُمور التي تخصّ الحياة المعنوية، وقد بيّن سبحانه جميع ما يرتبط بها في الكتاب، كما عرّف الذي يحشر كلّ ما يرتبط بالمعاد، وتحققه في أنواع الأُمم من الحيوان والإنسان على حدِّ سواء؛ لأنّ معرفة ذلك لها الأثر العظيم في استكمال الأفراد بالتخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل، وأنّ معرفته يزيد المعرفة في توحيد اللّه تعالى وعظيم صفاته، ولا ريب أن أنواع الحيوان وأفراد الإنسان متفاوتون في نيل تلك المعرفة، كما هو واضح بالضرورة.

ويمكن أن يُراد من الكتاب الجامع بين الفردين، أو مطلق الكتاب، فقد كتب سبحانه من غير تفريط جميع ما يرتبط بنشأة الأُمم الحيوانية والإنسانية، ويقضى ويقدّر ما يستحقّه كلّ فرد، كما كتب في كلامه المجيد ما له دخل في سعادة الأفراد وشقائه، وما هو الخير له في العاجل والآجل، فلم يفرّط عزّ وجلّ في كلا الكتابين

ص: 273


1- سورة النحل: الآية 89.

شؤون تلك الأُمم، فقد كتب سبحانه ما يرتبط بمسيرة حياتها في الدُّنيا، وما له الدخل في سعادتها ونيل كمالها وحشرها ونشرها وجزائها.

والآية الكريمة تدلّ على شمول علمه وكمال قدرته وإحاطته القيوميّة، وسعة رحمته التي شملت مخلوقاته إلى حين الحشر والنشر والجزاء. كما تدلّ على أنّ جميع انواع التفريط منفية عن الكتاب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»

قوله تعالى: «ثمّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ».

بیان عموم الحشر، والضمير في ( ربّهم) راجع للأُمم المذكورة، وصيغة جمع العقلاء وإجرائها مجراهم، إمّا ليبان وجود الشعور الذي وهبه اللّه تعالى لها، أو لبيان أنّ حياتها في الدُّنيا تستتبع الحشر إلى ربّهم، فكانت كالعقلاء لوجود الملاك الذي يدور معه الحشر، كالرضا والسخط والمؤاخذة والإثابة والجزاء في الحيوان، كما عرفت آنفاً.

والظاهر من الحشر إلى الربّ، هو البعث يوم القيامة، فلا يصغى إلى ما قيل من أنّ المراد من حشر الحيوان موته فلا بعث بعده، ولكنّه مردود بالظاهر، لا سيما قوله تعالى: «إِلَى رَبِّهِمْ»، وصريح الآية يدلّ على حشر الحيوانات إلى اللّه تعالى، فهو ثابت بلا إشكال على نحو الإجمال، وان كانت تفاصيله غير معلومة، بخلاف حشر الإنسان الذي ورد شرحه في الكتاب والسنّة، ولأجل ذلك وقع السؤال في أنّ الحشر إنّما يتبع التكليف، وهو يحتاج إلى مبلّغ له، فهل على الحيوانات تكاليف كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان، وهل للحيوانات أنبياء يبلّغونها التكاليف والأحكام، وهل الرسول المبعوث إليها من نوعها أو من نوع الإنسان، ولكن الجهل بذلك لا يضرّ بعد ثبوت أصل الحشر، بل يستفاد من إطلاق الآية الكريمة إنّه مماثل لحشر الإنسان، لا سيّما بعدما عرفت من ثبوت النفس الناطقة

ص: 274

والشعور والإرادة والتفكّر لها، وتوصيفها بالأخلاق، فتُحشر وتحاسب على أفعالها، وتجازى عليها من جنّةٍ أو نار، لكن على حسب ما لها من التعقّل والتكليف في دار الدُّنيا.

ويدلّ عليه مضافاً إلى صريح الآية المباركة في المقام، قوله: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(1) والآيات المتعدِّدة التي تدلّ على إعادة السماوات والأرض، كما ورد فى الأصنام وغيرها من المعبودات سوى اللّه تعالى، مثل قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ»(2)، وهي تشمل الحيوانات المعبودة، وتعضدها الروايات الكثيرة التي تدلّ على حشر الحيوان، كما تقدّمت الإشارة إليها، وسيأتى نقل بعضها.

ومن المعلوم أنّ الحشر يلازم البعث وحضور الأعمال، والمحاسبة عليها، ثمّ الجزاء، بل إنّ ذلك هو حقيقة الحشر كما عرفت ذلك مكرّراً، ولذا أُطلق الحشر على ذوي الشعور والإرادة، ولم يُطلق على الجمادات، كما يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار»(3).

وقوله تعالى: «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»(4).

وقوله تعالى فى الآلهة من دون اللّه سبحانه: «لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةٌ مَا وَرَدُوهَا»(5).

ص: 275


1- سورة التكوير: الآية 5.
2- سورة الأنبياء: الآية 98.
3- سورة ابراهيم الآية 48.
4- سورة الزمر: الآية 67.
5- سورة الأنبياء: الآية 99.

وقد عرفت آنفاً أنّ ثبوت النفس الناطقة للحيوان يرتكز على نوع خاصّ من الشعور والتفكّر والتعقّل، التي هي ركيزة الحشر والحساب، والآية الشريفة تثبت ذلك أيضاً، ويعضدها الدليل العقلي؛ فإنّ الحشر لا يمكن أن يكون إلّا لمَن كان له درجة من النفس الناطقة.

وقد ذكرنا أنّ بعض الحيوانات لها من دقائق الفهم ولطائف الفطنة، ما يجعلها بمستوى الإنسان المتوسّط في التعقّل والفقه، كما حكى عزّ وجلّ عن هدهد سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد غيبته: «فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينِ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةٌ تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشُ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّه وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أعمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ»(1).

كما حكى عزّ وجلّ عن النملة التي حاورته (عَلَيهِ السَّلَامُ): «حتّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»(2).

وما ورد في النحل وغيرها، ممّا تدلّ على ثبوت نوع خاص من الشعور والفهم والإدراك، وهي تتوقّف على الفقه والمعرفة لجملة من الأُمور، ودرك كثير من المعاني، وما يلابسها ويلازمها.

ومثل ذلك يستلزم أن يكون هناك تكليف وحكم، ويدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن سليمان في الهدهد: «لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ»(3)، والعذاب والذبح لا يستحسن عقلاً وشرعاً إلّا بعد العصيان

ص: 276


1- سورة النمل: الآية 24.
2- سورة النمل: الآية 19.
3- سورة النمل: الآية 21.

للتكليف، وقد تقدّم في حديث الهجرة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «دعوها فإنّها مأمورة»، ولا يعقل أن يكون تكليف إلّا بعد تحّقق نفس ناطقة تعرف حقيقة التكليف.

وقد عرفت أنّ التمعّن في أحوال الحيوانات ودراسة أفعالها ونفسيّاتها، والآثار التي يترتّب عليها، ممّا يورث التعجّب من شؤونها، فتدلّ على فكر عميق وشعور شديد وإرادة ثابتة، وقد أثبتت العلوم الحديثة نفوس شاعرة، لها نوع من المعرفة والإدراك الخاصّ للحيوانات، ومن الثابت أنّ ذلك لا يلزم منه مساواة الحيوان للإنسان في الشعور والإرادة بحيث ترتقي الحيوانات العجم إلى مرتبة الإنسان في المعرفة والفقه والعقل، والضرورة تدفع ذلك، والحسّ يشهد على بطلانه.

وأمّا أنّ الحيوانات تتلقّى التكاليف من رسول معيّن يبلّغها تلك عن بارئها بوحي أو إلهام؟ وأنّ الرسول المبعوث إليها من جنسها أو من أفراد الإنسان؟ فهذا وإن لم يكن معلوماً ولم يرد فيه نصّ معيّن، لكن يمكن استفادة الأخير، وكون الرسول من أفراد الإنسان من بعض الإشارات كقوله تعالى حكاية عن سليمان «عُلِمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ»(1)، أو ما حكاه سبحانه عن هدهد سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبين»(2)، كما أنّ في السنّة بعض الإيماءات، ولكن مع ذلك لا يمكن البتّ في هذا الموضوع، فالحكم فيه لا يكون إلّا على سبيل الاحتمال.

وقد عرفت أنّ الجهل بذلك غير مضرّ بأصل المطلب الذي ثبت بدليل واضح، فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ»

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ».

ص: 277


1- سورة النمل: الآية 16.
2- سورة النمل الآية 21.

بيان لأهمّ أثر من الآثار المترتبة على التكذيب بآيات اللّه سبحانه، فقد حرم المكذِّبون أنفسهم من أعظم النِّعم الإلهيّة، التي يستفيد منها الإنسان في طريق استكماله، وتكون سبباً لنيل الفيوضات الربانيّة، فقد أحاطت الظلمات بهم من جهات متعدّدة، ووقعوا في أنواع متعدّدة من الحُجب فهم في ظلمات الشرك والوثنية، وظلمة الجهل، وظلمة العناد والعصبية والكبرياء، وظلمة الملكات السيّئة، فهى ظلمات بعضها فوق بعض وأحاطت بهم، لا ينفذ نور الحقّ والهداية في قلوبهم، فأصبحوا صمّاً لا يسمعون آيات اللّه الناطقة بالحقّ، وبُكماً لا يمكنهم النطق به والتشهّد بشهادة الإيمان والإقرار بالطاعة، ولم يبصروا منهاج الحقّ وصراط الهداية، فنبذوا الحقّ مع وضوح أعلامه، ولم يتأثّروا بالآيات البيِّنات فلم يسعهم الإيمان بها، لكونهم في الظلمات.

وقد مضت مشيئته عزّ وجلّ ونقذ حكمه فيهم، أنّهم لا يهتدون وفي الضلال متخبّطون بسوء اختيارهم، ولا ريب أنّ مَنْ كانت سيرته كذلك، فإنّما حاله الخسران.

وتقدّم البحث في سورة البقرة وغيرها، في المراد من الصمّ والبُكم ونحوهما من الصفات المشابهه، كالعمى فهى استعارة عن عدم الانتفاع المستقيم الديني بهذه الحواس، وإنّما ترك العطف في قوله تعالى: «فِي الظُّلُمَاتِ» لكونه السبب لما تقدّمه، والإشارة إلى إنّه وحده يكفى فى الذمّ، والإعراض عن الحقّ. وهو إمّا خبر بعد خبر، وإمّا متعلّق لمحذوف وقع حالاً من الضمير في الخبر، كأنّه قيل: ضالّون كائنين في الظلمات، فما داموا فيها فلا يسمعون ولا ينطقون، كما عرفت.

وقيل: بأنّه خبر مبتدأ محذوف، أي هم في الظلمات، وإنّما ثبت العطف بين الوصفين لعلّة بيان تعدّد الطوائف الموصوفين بكلّ واحدة منهما؛ فبعضهم صمّ عن سماع آيات الحقّ، وبعضهم بُكم عن النطق به، ولكن السبب هو كونهم في

ص: 278

الظلمات يتخبطون، وسيأتي في البحث الأدبي مزيد بيان.

ما يتعلّق بقوله تعالی «مَنْ يَشَأْ اللّه يُضْلِلْهُ»

قوله تعالى: «مَنْ يَشَأْ اللّه يُضْلِلْهُ».

تقرير لما سبق من حالهم، ولبيان أنّ الضلال أصبح طبعاً لهم لا يتأتّى منهم الإيمان، فهم ليسوا أهل هداية أبداً، وهو مركّب من مبتدأ شرطية، ويشأ مجزوم بمن، ومفعول يشأ محذوف تقديره من يشأ اللّه إضلاله يُضلله، والمراد من الضلال الخذلان، أي من يشا اللّه أن يخذله فينفذ فيه عدله فيضلّه، لأنّه ليس من أهل الهدى، ومن خذلانه سبحانه لهم جعلهم صمّاً وبُكماً في الظلمات خابطون، جزاء تكذيبهم بآيات اللّه و تمرّدهم على الحقّ، والآية في مقام تحقيق الحقّ وبيان سنّة اللّه تعالى التي قضت بها حكمته ونفذت مشيئته، بإضلال مَن استحب العمى على الهدى، فإضلال المنسوب اليهم إنّما يرجع إلى سوء اختيارهم، فهو جعلٌ تشريعي لا أنّ اللّه تعالى خلقهم كذلك أو ألجأهم إليه أو يُكرههم عليه إكراها، فإنّ ذلك مخالف للأدلّة السمعيّة والعقليّة، كما ذكرناه مكرّراً.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

قوله تعالى: «وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

عطف على ما تقدّم، ويأتي فيه ما ذكرناه من وجوه الإعراب، ويعرف معناه من مقابله، أي ومَنْ يشأ اللّه عزَّ اسمه أن يوفّقه ويرشده إلى الصراط المستقيم بلطفه وفضله، ولمّا كانت المشيئة راجعة إلى الذين كذّبوا بآيات اللّه الموصوفين بتلك الأوصاف، فيكون بحسب التطبيق على المورد أن يوفّقه لإستعمال سمعه ونطقه وبصره في سبيل الهداية، وينتفعوا بها انتفاعاً دينيّاً فينوّر قلبه بنور الإيمان، فیُجیب داعي اللّه ويستفيد من الآيات البيّنات، ويرشده إلى الهدى بلطفه ويجعله على الصراط المستقيم، فلا يضلّ ولا يشقى.

ولا ريب أن مشيئته سبحانه في الفريقين لا تخالف حكمته المتعالية التي

ص: 279

تعلّقت أن يكون الضلال والهداية عن استحقاق لكلّ واحد منهما باختيار الإنسان سبل الضلال، أو اختياره سبل الهداية عقيدة وعملاً، وقد عرفت آنفاً أنهما لا يكونان عن تكوين ولا إلجاء ولا إكراه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(1).

وغير ذلك من الآيات.

وما ذكرناه هو مقتضى الجمع بين الآيات المتعدِّدة التي تنسب بعضها الهداية والضلال إلى اللّه سبحانه، وبعضها تنسب إلى الإنسان، ومنها أسّس الأئمّة الهُداة (عَلَيهِم السَّلَامُ) نظريّتهم المشهورة (الأمر بين الأمرين).

وفي الآية الكريمة إبطال لمذهب القدرية والمُجْبِرة، وغيرهما من المذاهب الفاسدة، وستعرف مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ»

إشارة

قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ».

احتجاج آخر على المشركين بالرجوع إلى الفطرة، فإنّ الإنسان بفطرته يتوجّه إلى اللّه بالمسألة إذا نزل في شدّة من البلاء، أو أحاط به العذاب فلم يقدر أحد أن يكشفه عنه.

ما يتعلّق بكلمة «أَرَأَيْتَكُمْ»

وأريتكم فيه قراءات، وأصلها التنبيه، وذكر أغلب المفسّرين أنّه بمعنى أخبرني، وأصله أرأيت فدخل عليه الكاف وترك التاء على حالته في التثنية والجمع والتأنيث، ويسلّط التغيير على الكاف دون التاء، كما قال تعالى: «أَرَأَيْتَك هَذَا الَّذِي»(2)والهمزة للاستفهام والتعجب، والكاف حرف خطاب أكّد به الضمير

ص: 280


1- سورة الأعراف الآية 179.
2- سورة الإسراء: الآية 62.

لا محل له من الإعراب، وتتغيّر حركته باختلاف المخاطب دون التاء، وصيغة المفرد الماضي من الرؤية، وضمير الجمع المخاطب، ولم ترد هذه الصيغة إلّا في موضعين أحدهما المقام، والثاني بعد آيات.

وصيغة «أَرَأَيْتَكَ» في سورة الإسراء، وصيغة (أرأيت) أو (أرأيتم) بدون كاف في أكثر من عشرين آية مبدوءة بالهمزة، وتفيد التنبيه والتعجّب من حالهم، ومبنى التركيب وإن كان على الأخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصريّة، لكن المراد به التبكيت وأخذ الإقرار منهم.

والمعنى: قل يا أيّها الرسول للمشركين الذين حكى عزّ وجلّ في الآيات السابقة أحوالهم، ومعارضتهم للحقّ والصادع به أخبروني إن أتاكم عذاب اللّه الذي بلغكم نزوله في الأُمم السابقة وعلمتم خصوصيّاته، أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها وقامت القيامة وأصابكم أهوالها.

ولم يذكر سبحانه جوابهم وإنكارهم لعدم الاعتناء بهم، كما أنّه لم يبيّن خصوصيّات العذاب وأنواعه إمّا لمعروفيتها أو ليذهب وهمهم ما يذهب.

وأمّا الساعة فهم يعلمون بأنّها آتية، أو فرض إتيانها. وهي اسم لوقت تقوم فيه القيامة، سمّى بها لأنّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ»

قوله تعالى: «أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ».

بيان لمناط الاستخبار ومحطّ التبكيت، والاستفهام للتوبيخ والتقرير. أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى اللّه وتدعونه لكشفها، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضاً، وقد سألوه عزّ وجلّ أكثر من مرّة لكشف ما حلّ بهم، فقد كانوا يعبدون الأصنام ويدعون اللّه تعالى فى صرف العذاب، فلِمَ تصّرون على الشرك والظلم في حال الرفاهيّة.

وما ورد في الآية راجع إلى فطرة الإنسان، كما عرفت ولا يحتاج إلى

ص: 281

تأويل العذاب بمقدّماته.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»

قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».

تأكيد للتبكيت، يكشف عن كذبهم، أي إن كنتم قوماً من شأنكم الصدق وأتيتم بالنصفة، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه.

فالمعنى: بناءً على هذا الاحتمال إن كنتم صادقين في أنّ أصناكم آلهة، أو أنّ عبادتكم نافعة.

وقيل: إنّ الجواب هو ما يدلّ عليه قوله تعالى: «أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ» إضراب عن الأوّل والإيجاب على الثاني.

و(إيّاه) مفعول مقدّم، وفيه الإخبار عمّا تقتضيه فطرتهم، فإنّه إذا حلّ بالإنسان العذاب واستمرّ عليه لا يدعو إلّا اللّه تعالى وحده دون غيره. فيكون تقديم المفعول لإفادة التخصيص دون رعاية الفواصل، وقد حكى عزّ وجلّ في عدة آيات ما يدلّ على الرجوع إلى الفطرة التي في هذه الآية تثبيت التوحيد.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ»

قوله تعالى: «فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ».

بيان لقدرته التامّة على كشف الضر الذي تدعون إلى كفه إن شاء كشفه كما كشف عن أقوام سابقين، كقوم يونس، فهو القادر المتعال لا يقهره أحد إن شاء فعل وإن شاء ترك، بعدما استحقّوا العذاب بسوء اختيارهم، فهو المتفضّل المنّان، وإن قبول الدُّعاء تابع لمشيئته سبحانه.

و (ما) قيل: إنّها موصولة، فتكون مفعول يكشف.

:وقيل إنها ظرفية، وفيه حذف المفعول.

ويرد عليه: أنّه خروج عن الظاهر بدون حاجة، كما أنه يستلزم وصل ما الظرفية بالمضارع وهو قليل جداً، بل توصل بالماضي كثيراً.

ص: 282

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ»

قوله تعالى: «وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ» بيان لحصول اليأس من النجاة من قبل ما يشركون، إذ لا ضرر فيه ولا نفع، وفيه التأكيد على أنّه المعبود فلا إله غيره، ولبيان أن الشرك واتّخاذ الشفعاء لا يرجع إلى دليل معقول وفطرة النفوس.

و من لطيف ما تدلّ عليه الآية الشريفة، أنّ المشركين إذا اشتدّ بهم الضرّ وأحاط بهم العذاب فإنّ أوّل شيء ينسونه الأنداد والآلهة والأصنام، لانشغالهم عن كلّ شيء، فلا يهتمّ المبتلى حينئذٍ إلّا بنفسه، فيترك ما لا ينفعه تركاً كلّياً، فالنسيان على حقيقته، ولا نحتاج إلى تأويله بالترك، فإنّ شاهد النفوس يدفع ذلك في المقام وإن صح غيره، فراجع، فسبحان من أودع في النفوس التوحيد قبل كلّ شيء، وأن أوّل شيء ينساه المشركون الشرك.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ»

قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ».

كلام مستأنف تسلية للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتّصل بما قبله اتّصال حال بمثلها قريبة منها؛ لأنّ هؤلاء أنبيائهم، فقد يتعرّضون لمثل ما تعرّض قبلهم من البلاء. وفي الآية التذكير بما جرى على الأُمم السابقة، فإنّهم كانوا أرسخ في الشرك والظلم وأكثر عناداً وأشدّ تمادياً في الغي والضلال، وأنّ عادتهم المبالغة في قسوة القلوب، فلم يتأثّروا بالزواجر التكوينيّة والتشريعيّة.

وتصدير الجملة بالقَسَم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها، وفيه إضماران أحدهما: في قوله أرسلنا إلى أُمم من قبلك رسلاً، والثاني: في ما يأتي يدلّ عليه الظاهر، وتقديره فكذّبوا فأخذناهم، فإنّ الكلام مسوق لبين حال المرسل إليهم لا حال المرسلين. كما أنّ تنوين (أُمم) للتكثير. و(من) بمعنى في، أو ابتدائية، واحتمال الزيادة بعيد.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ»

إشارة

قوله تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ».

ص: 283

الفرق بين البأساء والضراء

الفاء فصيحة بمعنى إنّ الكلام مبني على الحذف، كما عرفت آنفاً، فكذّبوا فأخذناهم أخذ عقاب. والبأساء اسم يطلق على الشدّة والمكروه والبؤس، يكثر استعماله على الحرب والفقر، والبأس الشدّة في الحرب والقوّة والشجاعة.

وفي «مفردات الراغب» إنّ استعمال البأس والبأساء في النكاية أكثر.

والضراء والضرّ هو سوء الحال مادياً، كالمرض والنقص، أو ذهاب،مال، أو غير مادي كالنِّعم والجهل وسقوط جاه، وهو يقابل النفع، وهما صفتا تأنيث لا مذكّر لهما، مع أنّ القياس فى صيغة (أفعل) تحققهما، كأحمر حمراء، فإنه لم يقل: أضرّ وأبأس صفة بل للتفضيل، وتقدّم تفسيرهما أيضاً في سورة البقرة.

والجمع بين البأساء والضرّاء للدلالة على تحقّق الشدائد وسوء الحال تأديباً منه عزّ وجلّ لعباده، واختباراً لهم ليرجعوا إلى فطرتهم فيتركوا الشرك ويدعو اللّه تعالى لكشف ما بهم من الضرّ والبؤس، فقد مضت سنته سبحانه في عباده أن ينزل البلاء لتربية النفوس، وإرجاعهم إلى عقولهم حتّى يرتدع أهل المعاصى عن غيهم وظلمهم ويرجع المغرور عن غروره.

وذكر بعض المفسّرين أنّ بعض العبّاد استدلّ بهذه الآية في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال، والضراء في حمل أبدانهم على حمل الصعاب والجوع والعرى وغير ذلك.

ولكن ذلك جهل منهم بأحكام الشريعة الغرّاء، التي أمر اللّه تعالى فيها بالاستعداد للآخرة عن طريق الدُّنيا والاستفادة منها، موافقاً لما أنزله اللّه تعالى، فقد قال سبحانه مخاطباً لنبيه: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّه الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»(1)، فإنّ مضمون هذه الآية المباركة هو المنهاج في دين الإسلام،

ص: 284


1- سورة القصص الآية 77.

وكان الأنبياء أوّل الناس بالعمل بها.

وقد خاطب تعالى رسوله: «يَا أَيُّهَا الرُّسل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَأعمّلُوا صَالِحاً»(1).

وأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ»(2).

وأمّا الاستدلّال بآية المقام فإنّه فاسد؛ لأنّها نزلت في بيان عقوبة من اللّه لمن شاء من عباده امتحاناً لهم.

نعم، الركون إلى الدُّنيا مذموم، وأنّ حبّها رأس كل خطيئة، فلابدّ أن يكون الاعتماد عليها بقدر الاستعداد للآخرة، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء اللّه تعالى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ»

قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ».

الضراعة هي الذلّ، يقال: ضرع. يضارع، والتضرع والتذلل، والصيغة تدلّ على إظهار الضراعة بتكثّر أو تكلّف، أي لكي يتذلّلوا إلى اللّه سبحانه، ويتوبوا عن كفرهم، ويَدَعُوا شركهم فيكشف اللّه ما نزل عليهم من النوازل.

وذكر بعضهم: إنّ الترجّي هنا بالنسبة إلى الشرّ؛ أي لو رأى أحد ما حلّ بهم لرجا تضرّعهم وابتهالهم إلى اللّه في كشفه.

ولكنّه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة، وربما كان الداعي لهذا الاحتمال هو امتناع الترجي على اللّه سبحانه، وقد أجبنا عن ذلك فيما سبق من الكلام.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا»

قوله تعالى: «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا».

ص: 285


1- سورة المؤمنون: الآية 51.
2- سورة البقرة الآية .172

(لولا) تأتي للتحضيض والتوبيخ والتنديم. وقد يفيد الترك أيضاً، ولكنّها لم تكن في المقام بمعنى التحضيض، لأنّها تختصّ بالمضارع، وقيل أنّه فصل بينهما وتضرّعوا بإذ وهي معمولة لتضرّعوا، وكيف كان فإنّه عتاب على ترك الدُّعاء، وإخبار عنهم بأنّهم لم يتضرّعوا حين نزول العذاب، فقد بلغوا الغاية في الشرك والطغيان وتركوا الضراعة، مع قيام الدواعي لها، فما خشعوا ولا تضرّعوا إذ جاءهم بأس اللّه. وإسناد المجىء إلى البأس كناية عن وصوله إليهم.

وذكر بعضهم: أنّه يحتمل أنّهم تضرّعوا تضرّع مَن لم يخلص، أو تضرّعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدُّعاء مأمور به في الرخاء والشدّة.

ويرد عليه: أنّه مخالف لظاهر الآية الكريمة الدالّ على التوبيخ على الترك، مع توفّر الدواعي للتضرّع، فلا عذر لهم إلّا العناد وقسوة قلوبهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ»

قوله تعالى: «وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ».

استدراك حسن بعد أن لم تؤثّر فيهم النذر، فكانت قلوبهم أصلب من الحجر حيث لم يتأثّروا، فلو كانت بها رقّة ولين لتضرّعوا. فالمراد انتفاء التذلّل عند مجيء البأس. وفي الآية الدلالة على أنّ وجود القسوة يمنع التضرّع، وهو يدلّ على العتوّ والتعزّز، كما أنّها تدلّ على أنّ التضرّع ناشئ من لين القلب، فكان نفيه نفياً له أيضاً، فكأنه قيل: فما لانت قلوبهم ولكن قست. فوقعت (لكن) بين ضدّين وهما اللّين والقسوة.

وصيغة (قست) تدلّ على الاستمرار، فقد استمرت قلوبهم على ما هي عليه من القساوة، فازدادت قساوة.

وقسوة القلوب من أعظم الموانع التي تمنع من تأثّر الإنسان بالمؤثّرات

ص: 286

الأخلاقية، التي تثير الشعور الأخلاقي الذي موطنه القلب، فإذا قسى وصلب وغلط فلا تؤثّر المقتضيات أبداً، كما نبه إليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

الجملة إمّا استئنافية، أو داخلة تحت الاستدراك وهو الظاهر، فيكون الحامل على ترك التضرّع أمران: قسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم، فيكون قد أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها. والتزيين إمّا إيجاد الشيء حسناً مزيّناً في الواقع، أو جعله مزيّناً من غير إيجاد، أو جعله محبوباً للنفس مشتهى الطبع وإن لم يكن كذلك، والمراد به في المقام الأخير وهو المنسوب إلى الشيطان الذي يرجع إلى وسوسته واغرائه.

وهذا السبب يرجع إلى تأثّر مشاعرهم بإغواء الشيطان، وهو يوجب الخلل في الفكر والإرادة، فتخلد النفس إلى الأسباب الظاهرية، فإذا اجتمع الأمران في الإنسان أوجب سلب الشعور الأخلاقي الذي هو أساس التضرّع والتذلّل، والاستفادة من النذر الإلهيّة لإصلاح النفس، وإذا انضمّ إليه الخلل في التفكّر والتدبر، فإنّه حينئذٍ لا يرجى منه الخير، ولا ينتفع من السرّاء والضرّاء الذي ابتلاهم اللّه تعالى لأجل إصلاح نفوسهم وزيادة رقّة قلوبهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به»

قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به».

بيان بعض الآثار التي تترتّب على قساوة القلوب، والإعجاب بالأعمال، أن صرفهم اللّه تعالى عن ذكره فنسوا ذكر اللّه، وأعرضوا عمّا أنذروا به، ولم يتّعظوا بما نالهم من البأساء والضرّاء، فتركوا الاهتداء بكلّ ما وعظهم اللّه تعالى ورسله إصراراً منهم على الكفر والحجود. وقد ذمّهم سبحانه لأجل تعرّضهم للنسيان، كما جاز الذمّ على التعرض لسخط اللّه عزّ وجلّ وعقابه.

ص: 287

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ»

قوله تعالى: «فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ».

بيان لسنّة من السنن الإلهيّة، وهي سنّة الاستدراج في أهل الكفر والمعاصي، فإنّه عزّ وجلّ لم ينزل عليهم العذاب وإن استحقّوه إلّا بعد أن يبلوهم بالخيرات والحسنات إتماماً للحّجة وتربية للنفوس كما قال تعالى في قوم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) «وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1)، فلم يشكروا المُنعم ولم يتربّوا بالنِّعم، بل اتّخذوها سبباً بطراً فرحاً، كما أنّهم لم يستفيدوا من الشدائد إلّا قسوةً وشرّاً.

والمراد من الآية شمول الخيرات، وبلوغ الطلبات، بل كثر لهم ذلك، امتناناً وتفضلاً وامتحاناً، ولا يحتاج إلى التقدير بأنّه فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء كان مغلقاً عنهم. والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا»

قوله تعالى: «حتّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا».

أى بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أنّه دال على رضا اللّه عزّ وجلّ عنهم. وازدادوا إثماً ولم يؤدّوا حقّ المُنعم فخرجوا عن طور الإنسانية، كما قال عز وجل: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً».

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً»

قوله تعالى: «أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً».

أثرٌ مترتّب على فرحهم بما أُوتوا أنّهم أهلكوا فجأةً، وهو أشدّ الهلاك، وفيه عذاب الاستئصال، و(بغتة) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه، معناه فجأة، وهي الأخذ على غرّة ومن غير تقديم أمارة. وإنّ أنكى شيء ما يفجأ، وإنّما

ص: 288


1- سورة الأعراف الآية 168.

كان عذابهم فجأةً ليكون أشدّ نكالاً وأفظع هولاً، إذ لم يتقدّم شعور به لتتوطّن النفس على لقائه، فأخذوا على الراحة والرخاء والبطر، فيكون أشدّ حسرة على ما فاتهم من النِّعم، وأعظم وبالاً عليهم من النقم، كما دلّت عليه الأخبار والآثار.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ»

قوله تعالى: «فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ».

الإبلاس هو الحزن المعترض من شدّة اليأس، وأصله من لسكون، يقال: أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجّته، والمبلس هو الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جواباً لشدة ما نزل به من سوء الحال، ومنه اشتقّ اسم إبليس. و(إذا) هي الفجائية، وهي ظرف زمان أو مكان، أي إنّهم مبلسون في زمان إقامتهم، وهو أسلوب يدلّ على التأكيد والتجديد.

فيكون المراد من الآية إذا هم آيسون من النجاة، وهم في غاية الحسرة والإياس، ولازم ذلك هو الخمود وانقطاع الحجّة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا»

قوله تعالى: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا».

الدابر الآخر، يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً إذا كان آخرهم في المجيء. ومنه الحديث: (من الناس من لا يأتي الصلاة إلّا دبرياً) أي في آخر الوقت. والدُّبر مقابل القُبل كناية عن المقدّم والمؤخر عن الشيء، كدابر الإنسان على آثاره، ولعلّه لأجل ذلك يُطلق على الأصل، قيل: ومنه قطع اللّه دابره أى أصله، كما أنّ منه التدبير لأنّه إحكام عواقب الأُمور.

والمراد منه استيعاب الهلاك جميعهم، فلم يُبْقِ منهم عيناً ولا أثراً، وهو عبارة أُخرى عن عذاب الاستئصال.

وفي وضع الظاهر الموصوف بالموصول موضع المضمر «الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» إشعار بعلّة الحكم، أى إن هلاكهم كان بسبب ظلمهم، والتمهيد لقوله تعالى:

ص: 289

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» فإنّ زهوق الباطل وظهور الحقّ، من أعظم نعم اللّه تعالى، ولبيان أن العذاب إنّما يرجع إليهم، وقد حصل باختيارهم الظلم والطغيان، فإنهم القوم الذين كفروا فظلموا أنفسهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»

قوله تعالى: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

إرشاد لعباده المؤمنين بما يجب عليهم من حمد اللّه على نصر المرسلين الداعين إلى الحقّ، وقطع دابر الظالمين، وتعليم لهم بتحقّق حمده عزّ وجلّ في عاقبة كلّ أمر وخاتمة كلّ عمل، كما قال تعالى: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1).

وقد تضمّنت الآية المباركة الحجّة على وجوب ترك الظلم، لما يعقب من قطع الدابر إلى العذاب الدائم مع استحقاق الحمد من كلّ حامد، فما يعود إليه عزّ وجلّ هو الثناء الجميل، لأنّه ربّ العالمين، المدبِّر لشؤون عباده بما تقتضيه الحكمة المتعالية، فكان هلاك الكفّار والظالمين، وتخليص أهل الأرض من فسادهم، نعمة جليلة يجب على المؤمنين أن يحمدوه عليها. والحمد -كما عرفت أوّل هذه السورة - هو إظهار الكمال لمستحقّه قولاً وفعلاً، ولهذا اختصّ باللّه تعالى الذي هو وليّ الأنعام على الدوام والاستمرار.

***

ص: 290


1- سورة يونس: الآية 10.

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بالجهات الأدبية للآيات الشريفة

بحث أدبي

الأسلوب في قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» المركّب من أداة النفي واصطحابها بمن التي تفيد استغراق الجنس، يدلّ على التعميم والاستغراق. و(من دابة) في موضع رفع بالابتلاء، والخبر (أُمم أمثالكم).

وقوله تعالى: «وَلَا طَائِرِ» مجرور عطف على (دابّة)، وقرأ بالرفع عطف على محل الجار والمجرور.

وذكرنا ما يتعلّق بالوصفين «فِي الْأَرْضِ» و «يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ»، وقال السكاكي: إنّ الوصفين للإعلام بأنّ القصد من لفظ دابّة ولفظ طائر، إنّما هو إلى الجنسين، والى تقريرهما، فحينئذٍ يصحّ الحمل على الاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة، كلّ منها أُمة كالإنسان، فكأنه قيل: ما من جنس من هذين الجنسين إلّا أُمم.

ومراده أن لفظ ( دابّة وطائر ) حامل لمعنى الجنس، وأمّا الوحدة فلبيان أنّ القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة، وُصِف بصفةٍ لازمة للجنس من حيث هو، كما أنّ الاستغراق المستفاد من كلمة (من) بالنظر إلى الجنسين. وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنّه قيل: وما من دابّة قط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه، وتقدّم ما يتعلّق بذلك، فراجع.

و(من شيء) في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» في موضع المفعول به.

ص: 291

وقرأ بعضهم (ما فرطنا) بالتخفيف، وهو والمشدّد بمعنى، وإن قيل: بأنّ فرطنا المخفّف بمعنى أخّرنا، كما قالوا: فرط اللّه عنك المرض، أي أزاحه.

وقد وقع في هذه الآية المباركة من الأساليب البديعية ما يشدّ القلوب إليها ففيها التفات من الغبيبة إلى التكلّم من الغير، ثمّ إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، فكأنّ سياقها الغيبة، فتحوّل في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» إلى التكلّم مع الغير، والمعترضة خطابٌ إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثمّ رجع إلى السياق.

وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا» مبتدأ وخبره «صُمٌ وَبُكُمْ». وقيل: إنّه مبتدأ محذوف أي بعضهم صم، بعضهم بكم، والجملة خبر المبتدأ الأوّل، وهو حسن.

وقوله تعالى: «صُمٌ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ» من الاستعارة البليغة الدالّة على عدم الانتفاع اللّائق بكمال الإنسان.

وقوله تعالى: «فِي الظُّلُمَاتِ» إِمّا خبر بعد خبر للموصول، أو متعلّق بمحذوف وقع حالاً من الضمير في الخبر، تقديره ضالين في الظلمات، أو كائنين في الظلمات.

ثمّ إن لقوله تعالى: «صُمٌ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ» نظائر في القرآن الكريم، فقد ورد في سورة البقرة «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى»(1)، ولكنّ تلك الصفات مفصولة فيهما من دون عطف.

وفي سورة الإسراء قال تعالى: «وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَيُكْماً وَصُمّاً»(2) وهي معطوفة، وفي آية المقام اجتمع الفصل والوصل، فقد عطف البكم على الصم. ولكن تحقّق الفصل بينهما وبين «فِي الظُّلُمَاتِ». وقد اختلف

ص: 292


1- سورة البقرة: الآية 18.
2- سورة الإسراء: الآية 97.

المفسِّرون في بيان الوجه في هذا الاختلاف.

فقيل: إن العطف بين الصم والبكم لأجل تلازمهما، وتركه فيما بعدهما إيماءً إلى أنّه كاف للإعراض عن الحقّ.

وقيل: إنّ ترك العطف في آيتي البقرة، لبيان أنهما أوصاف لاصقة بالموصوفين بها مجتمعة في آن واحد، فقد وردت آية البقرة في مَن ختم اللّه على قلبه، المأيوس من إيمانه من المنافقين وغيرهم. وآية الإسراء وردت في المقلدين الجامدين، الذين لا يستعمون لدعوة الحقّ، ولا يبصرون آيات اللّه البيّنات، ولا ينطقوه بالحقّ، فكأنّهم الصمّ البُكم العُمي، وآية المقام نزلت في مشركي قريش وهم لم يكونوا مثل من نزلت فيهم آية البقرة ممّن ختم اللّه قلبه عن الإيمان، كما أنّهم لم يكونوا مثل من نزلت فيه آية الإسراء، فقد كانوا على طوائف، فبعضهم على جمود من التقليد والإعراض عن سماع القرآن الكريم فهو صم، كما في قوله تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً»(1)، والبعض الآخر يسمع ويعلم الحقّ، ولكنّه أبكم لا ينطق به، فهما فريقان منفصلان عطف أحدهما على الآخر.

وأمّا قوله تعالى: «فِي الظُّلُمَاتِ» إمّا حالٌ منهما لبيان أنّ كلّاً منهما خابط في الظلمات المشتركة، فالصُّم هم المقلدون، والبُكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحّة الدعوة إلى التوحيد وبطلان الشرك، ولكن عنادهم وبغيهم جعلهم لا يعترفون بالحقّ، والفريقان يشتركان في أنّهما واقعان في ظلمة لا يتبصّر فيها إلى الحقّ، كما أنّه لا يسع لغيرهما أن يبصّرهما بشيء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح الإشارة.

ص: 293


1- سورة لقمان: الآية 7.

والحقّ أنّ آيتي البقرة راجعتان إلى صنف خاصّ، وهم المنافقون الذين وصفوا بأنهم الصُّم البُكم العُمي، الذين صمّت آذانهم عن سماع الحقّ، وبكموا فلا ينطقون به، وعُميت أنظارهم عن النظر في الآيات، فاجتمعت فيهم هذه الصفات فأوجبت الختم على القلوب.

وأمّا آية الإسراء؛ فهى ترجع إلى بيان حال الكفّار والمنافقين يوم القيامة، فهم يحشرون على وجوههم إذلالاً لهم بعدما استكبروا في الدُّنيا وهم على أسوء الأحوال والصفات جزاء أعمالهم ومعتقداتهم الباطلة.

وأمّا آية المقام فإنّها تشير إلى طوائف من الظالمين الذين تعدّد فيهم أسباب الظلم من الشرك والكفر، والعناد واللّجاج والاستكبار، فإنّ بعضها توجب الصمّ وبعضها توجب البكم، والجميع يتخبطون في ظلمات تمنع من شروق نور الإيمان في قلوبهم، ولعلّه لأجل ذلك ثبت العطف بين الوصفين، وترك العطف في آيتي البقرة، وكان ذكر الظلمات أبلغ وأشمل.

ومن ذلك يظهر أنّ إعراب آية المقام على الوجه الثاني، وهو كون «صُمٌّ وَبُكْمٌ» خبراً لمبتدأ محذوف أولى، كما عرفت آنفاً.

ثمّ إنّك عرفت سابقاً ما يتعلّق بصيغة (أرأيتكم)، ونزيد هنا بأن (أرأيت) فيها لغتان: إحداهما: الرؤية بالعين فهذه مهموزة، كأن تسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي بعينك. وثانيهما: الفعل الماضي بمعنى علم، وهو يتعدّى إلى مفعولين، كقولك: أرأيت زيداً ما فعل. وتستعمل هذه الصيغة في مقام التنبيه والتمهيد، وفي الاستفهام التقريري. وأمّا إعرابها فقد وقع الخلاف فيه بين النحوين، فراجع كلماتهم.

وقوله تعالى: «عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» معمول أحد العالمين على سبيل التنازع، وهما رأي، وأتى. فأعمّل الثاني وأضمر في الأول.

ص: 294

وقيل: لا تنازع، والتقدير أرأيتكم للاصنام التي تعبدونهما هل تنفعكم؟!

وقيل: إنّ الجملة الاستفهامية سادّة مسدّ المفعولين. وذكرنا إنّ (إيَّاه) في قوله تعالى: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» مفعول مقدّم، وقد انتقل من إستفهام التوبيخ إلى حصر من يدعونه، ومفعول يكشف محذوف، أي فيكشف العذاب مدّة دعائكم، ولكن وصل (ما) الظرفية بالمضارع وهو قليل، والأصل فيها الوصل بالماضي.

وذكرنا إنّ (إذا) في قوله تعالى: «فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» هي الفجائية.

وقيل: إنّها ظرف مكان.

:وقيل إنّها ظرف زمان.

والكوفيّون ذهبوا إلى أنّها حرف، وعلى الأوّلين الناصب لها خبر المبتدأ: أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها.

***

بحث دلالي ما تدل عليه الآيات الكريمة

بحث دلالي

تدلّ الآيات الكريمة على أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» على أنّ التوغل في إنكار التوحيد، والاستمرار على الحجود يوجب التعرّض لمقام الأُلوهيّة والتهكّم بقدرته تعالى، والاستهانة بشؤونه سبحانه، والجرأة عليه بالاقتراحات الفاسدة التي تضرّهم لو أنزلها اللّه سبحانه، فهي إمّا أن توجب وقوعهم في عذاب الاستئصال، أو هدم أساس التكليف المبتني على قاعدة الاختيار.

وإنّما اقتصر سبحانه في الآية على بيان قدرته التامّة، لبيان أنّ قدرته عزّ وجلّ إنّما تكون بحكمة بالغة، يجب معرفتها ولكنّهم عنها غافلون، ويدلّ عليه الاستدراك في آخر الآية.

أو لبيان أنّ المعاندين للحقّ والمستكبرين عليه، إنّما يردعهم إظهار المهابة

ص: 295

والعزة والقدرة التامّة، فهم غافلون عن سائر الصفات الإلهيّة التي اتّصف بها اللّه تعالى، وهم لا يدركون سائر الجهات إلّا هذا السبيل، وهذا هو شأن كلّ متكبّرٍ عات.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ...» على ربوبيّته العظمى، وعلمه الأتمّ وشموله، وكمال قدرته وحكمته البالغة، فهو اللّه المتّصف بجميع صفات الكمال. وإنّما ذكر سبحانه هذا الدليل، لبيان أنّ الأنسب للكافرين هو الرجوع إلى ما يستفيدوه وينفعهم في الدُّنيا والآخرة، وهو النظر في الآيات الآفاقية، والاستفادة منها في تكميل نفوسهم، والخروج من ظلمات الوهم والتقليد والجهل، فإنّهم يُحشرون ويحاسبون حساباً دقيقاً.

وتدلّ الآية المباركة على تلازم المبدأ والمعاد، كما هو مقتضى جملة من الآيات.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» بأسلوبه البليغ، ومضمونه الرفيع مَثَلٌ قرآني يهدي الإنسان إلى أعظم الحقائق، ويتضمّن من أهمّ العلوم، ما يجعله من أعظم الآيات التدوينية، فقد كشف عن آية إلهية في خلق الأحياء، وأنّها أُمم تماثل الإنسان، وقد أجمل سبحانه المماثلة ليستعمل الإنسان عقله وجميع حواسّه في البحث الموصول إلى خصوصيّات المماثلة، وقد اهتدى بعض العلماء إلى بعض الوجوه، وبقي الكثير منها مجهولاً، والبحث متواصل لعلّه بكشف عن المزيد.

ولعلّ الاقتصار على ذكر الدابة والطائر، يرجع إلى إثارة الهمّة عند المشركين والكافرين الغافلين للنظر والاعتبار، وتقدّم ما يتعلّق بالوصفين، وأنّ لهما التأثير في تصوير هيئات تلك الأحياء المخلوقة، التي فيها من عجائب الخلقة، ودقائق الصنع، ما يجعل العقول حيارى أمام عظمة خالقها.

ص: 296

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «فِي الْأَرْضِ» شموله للأحياء في الماء وبطون الأرض، فإنّها مظاهر آیات اللّه سبحانه، فلا نحتاج إلى التجوز في المقام، كما أنّه يستفاد منه أنّ الحكم يختصّ بالأحياء الأرضية فقط، فلا يشمل الأحياء في الأجرام العلوية.

وما قيل: إن اختصاص دواب الأرض بالذِّكر، لأنّها هي التي يراها للمخاطبون، ويدركون فيها معنى المماثلة دون دوابّ الأجرام السماويّة القابلة للحياة الحيوانية.

فهو لا يرجع إلى معنى محصل، لأنّ تلك الدوابّ إن كانت مشابهة لما هو الموجود في الأرض، فهي داخلة تحت العموم، وإلّا فلا تشمله الآية كالملائكة فإنّ لها حكماً خاصّاً.

الخامس: يرمز قوله تعالى: «وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» إلى أنّ الأُمم الحيوانية قد خلقها اللّه عزّ اسمه أطواراً مختلفةً، لكلّ نوعٍ كماله الخاصّ به يطير إلى نيله بحسب استعداده، فكلُّ خُلق لما يسير له.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ» أَنَّ اللّه عزّ اسمه قد وهب تلك الأُمم نوعاً من السعادة الوجودية، التي جَعَلتهم أُمماً حية تسير إلى اللّه عزّ وجلّ بوجودها ومحشورة إليه، فأحوالها محفوظة وأُمورها معيّنة، كالإنسان.

وذكر بعضهم: أنّ الآية الكريمة تدلّ على التناسخ، بتقريب أنّه ما من حيوان من الحيوانات إلّا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات، تماثل الصفات والملكات التي كانت في نفوس الإنسان المنسوخ، ولا تزال تنتقل من بدن إلى بدن، وتعذّب بذلك إذا كانت شقيّة ذات أخلاق رذيلة، وإن كانت سعيدة تعلّقت بعد الموت ببدن سعيد منعهم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان.

ولكن ظاهر الآية الكريمة يدفع هذا الاحتمال، بل إنّ ذيل الآية الكريمة

ص: 297

إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» يدلّ على بطلانه، كما هو واضح.

السابع: يدلّ قوله تعالى:« ثمّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» على عموم الحشر لتحقّق ملاكه في الجميع، كما عرفت سابقاً.

وفي ذكر الربّ الدلالة على أنّ الحشر هو حشر حساب وجزاء. فما قيل من أنّه ليس للجزاء مردود بالظاهر.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «ثمّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» وجه ارتباط الحشر في يوم القيامة على سبيل الاجتماع بالتشكّل الأُممى فى الدُّنيا، المتحقّق بين أفراد الإنسان، وسائر الأنواع الحيوانية. كما أنّه يستفاد منه أنّ الموجودات ومنها الأحياء واقعة في سبيل الاستكمال من النقص إلى الكمال.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» على أنّ جميع ما يتعلّق بالمخلوقات الإلهيّة مطلقاً، محفوظ فى كتاب الخلق، فقد خلق سبحانه كلّ ما في الموجود، وأودع فيه سائر ممّا يتعلّق بخلقه وحياته ورزقه وصحته ومرضه، والكمال اللّائق به و استعداده لقبوله، وسعادته وشقائه وحياته في الآخرة، وتدلّ عليه بعض الروايات، فيكون المراد من الكتاب هو كتاب الخلق والتدبير، واللّوح المحفوظ هو المهيمن على ذلك الكتاب وفيه المحو الإثبات.

وأمّا الجانب التشريعي، فقد أودع في كتاب اللّه التدويني، وأنّ الجميع تتّفق في إيصال كلّ مخلوق إلى كماله الذي أرشدها اللّه سبحانه إليه، وهو يدلّ على شمول علمه عزّ وجلّ وحكمته المتعالية وربوبيّته العظمى، وعدم التفريط منه عزّ وجلّ يدلّ على سعة رحمته التي شملت ما سواه.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا» على أنّ مجريات الأُمور متحقّقة، فلابدّ من التوجه إلى اللّه والإيمان به والتماس رحمته، فقد نفذ القضاء، وعلى الإنسان التوكّل عليه سبحانه والاشتغال بتزكية النفس، وتوحي هذه الكلمة إلى

ص: 298

المخاطب الابتعاد عن الغفلة ودوام المراقبة، فإنّ اللّه تعالى لم يتغافل عمّا يرتبط بشؤون خلقه، ولم يترك القضاء والقدر اللذين يستحقّه كلّ نوع، وهيّأ لتلك الأُمم الحيوانية ما يرجع إلى سعادتها وشقائها، كما هيّأ للإنسان، فلم يفرط في أمر من أُمور مخلوقاته، فلابدّ للإنسان أن يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى، وأن لا يتغافل عن نفسه، والتبصّر في توحيد اللّه تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر خلقه.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ» على أنّ المشركين الظالمين لم يستفيدوا من الآيات الإلهيّة، لا سيّما تلك التي ترتبط بالمبدأ والمعاد، التي تقدّم بعض مظاهرها، فقد فرّطوا في أمر أنفسهم وصلاحها، فكانوا صُمّاً وبُكماً لا يسمعون نداء الفطرة وداعي العقل، ولا ينطقون بالنقص والاقرار بالتوحيد الذي غاية كلّ كمال، فقد تاهوا في ظلمات النفس الأمارة، ولم يستفيدوا من الآيات التدوينية التي تناغي القلوب الميتة فتحييها، التي هي محطّ الإيمان ووكر السعادة.

وإنّما قدّم سبحانه فَقْد السمع، لأنّه يستلزم فَقْدَ النُّطق، فهما متلازمان ومترتّبان في الزوال والانعدام، ولم يذكر عزّ وجلّ العمى في المقام، لأنّ كونهم في الظلمات المتعدّدة المتراكمة أوجب فقد البصر عندهم أيضاً، فإن البصر يفقد تأثيره في الظلمات، ولهذا كان هذا الوصف أبلغ وآكد، فقد تضمّن السبب في فقد الحاستين السمع والنطق، كما عرفت.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «مَنْ يَشَأْ اللّه يُضْلِلْهُ» على كمال اختيار الإنسان في الهداية والضلال، وإنّما تعلّقت مشيئته عزّ وجلّ بكل واحد منهما مقيدةً بكونها داخلان تحت اختيار الإنسان والسرّ في ذلك أنّ المشيئة في الآية تشريعيّة ولم تكن تكوينيّة، إذ لم يقل أحد بأن اللّه تعالى خلق المؤمن مؤمناً والكافر كافراً، لأنّ فيه جُمْلَةٌ من اللّوازم الفاسدة التي يدلّ على بطلانها الأدلة

ص: 299

الكثيرة، فإذا كانت الإرادة تشريعيّة فهي لا تكون إلّا بعد إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، وإتمام الحجّة على العباد، وهي لا تتمّ إلّا في حال ثبوت الاختيار للإنسان، فهذه الآية الكريمة تكفي في الدلالة على ثبوت الاختيار.

فالآية الكريمة تدلّ على حقيقة من الحقائق الإلهيّة، تتعلّق بالجانب التشريعي للخلق، فقد تعلّقت مشيته عزّ وجلّ سبحانه أن يرسل الرُّسل ويبين أسباب الهداية وموجبات الضلال، وجعل الحرية للإنسان في اختيارها.

وبانضمام هذه الآية مع سابقتها، تتمّ الإرادة التشريعيّة والتكوينيّة، ومن ذلك يتبيّن ترابط المبدأ والمعاد وتلازمهما، ويستفاد منها زيادة البصيرة في توحيد اللّه تعالى ولطيف قدرته، عنايته بأمر الخليقة والنظام الجاري في العالم.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ» على وجود قوّة أُخرى في الإنسان يرجع إليها عند الشدائد، وتدفعه إلى الاعتراف بالوحدانية، ونبذ ما يمنعه من الوصول إلى السعادة، وقد عبّر عنها في آية أُخرى بالفطرة، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيْمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

وهذه الفطرة تدعو إلى التوحيد وإثبات الصانع، والحسن والقبح. وفي هذه الآية تدعو إلى التوحيد والرجوع إليه عزّ وجلّ عندما تنقطع الأسباب، وتطل على الإنسان الشدائد والأهوال، ولم يجد من يعينه على كشفها، فعندها ينجلي ذلك النور الإلهي، ويدعوه إلى الرجوع إلى اللّه ليدعوه ويتضرّع لديه لكشفها. كما أنّ في الآية التالية، الرجوع إليه لكشف العذاب، وهما حجّتان لإثبات التوحيد والصانع، ونبذ الشرك والأنداد.

ص: 300


1- سورة الروم: الآية 30.

وقوله تعالى: «أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ» يدلّ على أنّ فطرة الإنسان لا يمكن طمسها مهما حاول ذلك بارتكاب المعاصي والآثام، فإنّها قوّة ربانيّة تظهر في حين وآخر، وتدعوه إلى نبذ الشرك والأصنام والآلهة، والرجوع إلى الواحد الأحد، فإنّ استفاد من هذه الومضة المشرقة، وترك ما هو عليه رجع إلى اللّه عزّ اسمه، وهو يهديه إلى الصراط المستقيم، كما دلّت عليه الآية السابقة، وإلّا عاد إلى شركه ونسي ما ذُكِّر به، وازداد طغياناً لما أنعم عليه على سبيل الاستدراج، فيؤول أمره إلى ابتلائه بعذاب الاستئصال.

وإنّما خصّ الرجوع إليه سبحانه بالدعوة، لأنّ التوحيد أوّل ما أودع في الفطرة، ثمّ تبعه غيره من المعارف والعلوم.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ» على أنّ الإنسان إن نسي كلّ شيء، فإنّه لم ينس نفسه التي أودع فيها الفطرة، فهو يضطر إلى التوجّه إلى اللّه تعالى، وينسى كلّ ما ادّعاه من الشركاء ويترك الأنداد، ويستفاد منه إنّ أوّل ما ينساه المشركون هو شركهم، ويظهر بطلانه،لهم، فسبحان من ظهرت حكمته على مخلوقاته، فإنّ التوحيد أوّل ما ألقي في الفطرة، فأعرض عنه المشركون، وعند الاضطرار فإنّ أوّل ما ينسونه هو الشرك فما أوهنه!!.

الخامس عشر: يستفاد من قوله تعالى: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ» أن استجابة دعاء مَن دعى اللّه سبحانه ممّا وعده لعباده، كما دلّت عليها آيات أُخرى، قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ (1).

والآية تبيّن السرّ في استجابة دعاء المشركين، وهو إنّ المدعوّ في تلك

ص: 301


1- سورة البقرة: الآية 186.

الحالة التي همّ عليها هو اللّه تعالى الذي عرف نفسه لهم بأنّه مُجيب للدعوات،

فقال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1).

فلا تنافي بين هذه الآية، وما دلّت عليه النصوص الشرعيّة من الكتاب والسنّة من عدم استجابة دعاء الكافرين، كما قال تعالى: «وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ»(2)؛ لأنّ عدم استجابة الكافرين؛ إمّا لأجل عدم صدور حقيقة الدُّعاء منهم، وهم على حالة الكفر. أو لأجل أنّ الآية تختص بدعاء الكافرين في نار جهنّم، لكشف عذابها أو تخفيفه عنهم، ولا ريب في أنّه لا يستجاب مثل هذا الدُّعاء لأنّه تحتم الحكم وتمّ الفصل. أو لأجل أنّ الدُّعاء إنّما تؤثر في ما إذا كان المورد قابلاً للتأثر، وتعلّق القضاء والقدر الإلهى به، ولم تتعلّق مشيئته عزّ وجلّ بعدم التبديل والتغيير، وإلّا كان الدُّعاء صورياً فاقداً للحقيقة، كما إذا تعلّق الدُّعاء بأن لا يُعذَّب أهل جهنّم فيها، أو أن لا يبعث اللّه الخلق، أو يكون رسولاً بلا رسالة، وإلهاً بدون أُلوهيّة، فإنّ الدُّعاء بفصل لوازم الماهية عن ذواتها، يكون دعاءً صورياً فلا تأثير له، بخلاف ما إذا تحقق الدُّعاء على حقيقته، فيدعو اللّه تعالى مخلصاً على كشف الدُّعاء من الكافر في حالة الاضطرار، فلا مانع من استجابته، كما قال تعالى: «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ»(3). ويستفاد منه أنّ دعاء الكافر وهو في غاية الشدّة والاضطرار قد صدر منه بإخلاص، إذ لم يبق الكافر على كفره وهو في تلك الحالة.

السادس عشر: يستفاد من قوله تعالى: «فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ» أنّ المشيئة الإلهيّة في مورد الحكم المجزوم به، إنّما هي لبيان القدرة التامّة، فإنّ

ص: 302


1- سورة المؤمن: الآية 60.
2- سورة المؤمن الآية 50.
3- سورة العنكبوت الآية 65.

القضاء الحتم لا يوجب سلب القدرة عنه عزّ وجلّ، كما في مجيء الساعة، وخلود أهل الجنّة فيها، وخلود أهل النار فيها، فإنّها من الأُمور الحتمية التي تعلّق بها القضاء الحتم، وقد تعلّقت بها المشيئة أيضاً، كما في قوله تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(1).

وقال تعالى: «قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه»(2).

فإنّ القضاء الحتم بالخلود لا يوجب الخروج عن قدرته المطلقة، فكلّ أمر

محتوم إن شاء يأت به وما لم يشأ لم يأت به.

ومن ذلك يظهر فساد الإشكال المعروف من أنّ مضمون آية المقام يخالف جملة من الأدلّة الشرعيّة، أنّ الساعة لا ريب فيها ولا محيص عن وقوعها، وأنّ عذاب الاستئصال للكافرين الظالمين لا مردَّ له، وكذلك استجابة دعاء المضطرّ، ولا وجه لتعلّق المشيئة بها.

وذلك لأنّ الآية لا تدلّ إلّا على مضمون رفيع، من أنّ اللّه تعالى قادر على كلّ شيء، فهو يفعل ما يشاء، وأنّ المشيء وإن تعلّقت به المشيئة بتحقّقها حتماً وجزماً، ولكن ذلك لا يوجب الخروج عن قدرته، ولا تدلّ الآية على أنّه سبحانه يشاء كلّ شيء ويفعل كل شيء، وإن كان مخالفاً لحكمته المتعالية، فإذا تعلّقت مشيئته بوقوع الساعة أو عذاب الاستئصال أو خلود أهل الجنّة وأهل النار، فإنّها لا تبطل قدرته على خلافه، فله أن يخالف إن شاء، وإن كان لا ينقض ما أراده، ولا يخالف الميعاد.

السابع عشر استدلّ بعضهم بقوله تعالى: «وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ

ص: 303


1- سورة هود الآية 107.
2- سورة الأنعام: الآية 128.

مُسْتَقِيم» على أنّ الكفر والإيمان بإرادة منه سبحانه، وأنّ الإرادة لا تتخلّف عن المراد.

وقال آخرون: بأنّ المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن الجنّة يضلله، ومن يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنّة.

وتأوّله:آخر بوجوه لا تخلو عن مناقشة.

وقد عرفت في التفسير أنّ الآية من جملة الآيات الكثيرة التي تدلّ على أنّ الضلال والهداية إنّما تتبع مشيئة اللّه تعالى، فمَن شاء أن يهديه يوفّقه لسبل الهداية بعد استعداد الشخص لها، وقابليّته لتلقّى الهداية، ومَنْ يشأ أن يُضلله سَلَب عنه التوفيق، بعد أن كان السبب له نفسه حيث أعرض عن آياته ولم يؤمن بها، فما ذكره الأشاعرة مخالف للعقل والنقل الدالّين على أنّ الهداية والضلالة داخلتان تحت اختيار الإنسان، وأنّه محاسبٌ على أعماله، فلا جبر ولا تفويض.

الثامن عشر: ترمز الآية الشريفة المتقدّمة إلى أنّ شأن المؤمن الاستمداد من اللّه تعالى حال السرّاء والضرّاء، وحالتي الراحة والاضطرار، وأنّ اللّه تعالى المرجع في جميع الأُمور، فهو المؤثّر في الحقيقة والواقع، فهي من الآيات التربوية التي تُربّي النفوس على الطمأنينة وتبعثها على التوكّل والعبودية المطلقة.

التاسع عشر: تشير الآية الكريمة «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ...» إلى سُنّة من السنن الإلهيّة التي هي من شؤون الربوبيّة العظمى، وهي ترجع إلى تربية الأُمم لتزكوا نفوسهم وتتهذّب أخلاقهم، ويضعف عندهم حبّ الدُّنيا، والركون إلى الأسباب الظاهرية، فهو تعالى يُرسل إلى الأُمم الأنبياء والمرسلين، ليذكّروهم بالتوحيد، ويدعوهم إلى الطاعة اللّه تعالى، والإخلاص في العبادة والتضرّع لديه سبحانه فيبتليهم بالبأساء والضرّاء وأنواع المحن والبلاء، لطفاً منه سبحانه بهم وإتماماً للحجّة، وإزاحةً للعلّة، فكانت تربية، وفيها الفائدة

ص: 304

العظيمة لهم في دينهم ودنياهم.

ولا بدّ أن تكون تلك غير مُلجئة لهم إلى التضرّع، وإلّا انتفى الغرض المترتّب عليها، ويدلّ عليه كلمة (لعلّ) الدالّة على الرجاء، ولا رجاء مع الإلجاء والاضطرار.

وفي قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» الدلالة على أنّهم لم يستفيدوا من النِّعم الإلهيّة، والامتحانات الربانيّة، فقد اغترّوا بما أنعم عليه، واعتمدوا على أعمالهم، وانشغلوا بالأسباب الظاهرية التي ألهتهم عن التضرّع إليه سبحانه، كما حكى عزّ وجلّ عنهم في قوله: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ»(1).

العشرون: يدلّ قوله تعالى: «فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ» على سنّة الاستدراج، وهي من السُنن الإلهيّة في خلقه، تهذيباً وردعاً لهم عن ارتكاب المعاصي والآثام، ولذا كان الهلاك بقدر الاستدراج، وقد بين عزّ وجلّ بعض خصوصيّاتها في مواضع أُخرى من الكتاب المجيد، قال تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ»(2).

ويظهر من الآيات ومنها آية المقام أنّ الاستدراج يختصّ بالنِّعم والحسنات الظاهرية، المادّية منها والمعنوية، فلا يشمل المساوي والنقم، إلّا أن يتحقّق بالمنع وسدّ الباب.

والغرض من الاستدراج، الانتباه وترك الغفلة والرجوع إلى الطاعة، ونبذ العناد واللّجاج، فإذا لم يتحقّق الغرض المطلوب، كانت العاقبة عذاب الاستئصال، واليأس المصاحب للحزن، وحينئذٍ لا حجة لهم حتّى يستندوا إليها، فقد ابتلوا

ص: 305


1- سورة غافر: الآية 83.
2- سورة الأعراف الآية 183.

بعذاب وهم في غاية الحسرة والإبلاس.

الحادي والعشرون: يدلّ قوله تعالى: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» على أنّ الاستدراج للعتاة والظالمين، وأنّهائه إلى عذاب الاستئصال إنّما هو نعمة إلهية ينتفع منه عامة النّاس، وكلّ نعمة لابدّ لها من الحمد والشكر. وأنّ حمده عزّ اسمه نفسه على هلاك الظالمين، يدلّ على أنّ من أحب بقاءهم فقد أحب أن يُعصى اللّه تعالى.

***

بحث روائي وفيه بعض الروايات التي وردت في تفسير الآيات الشريفة

بحث روائي:

في «تفسير القمّي» عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةٌ.»..، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «سيريكُم في آخر الزمان آيات منها: دابّة الأرض، والدّجال، ونزول عيسى بن مريم، وطلوع الشمس من مغربها».

أقول: الحديث يبيِّن القدرة الإلهيّة التي لا يمنعها مانع، ولا يحدّها حدّ، وإن كانت تابعة للحكمة الربّانية التي اقتضت أن لا ينزّلها عند اقتراحهم لها، وإلّا كان فيها هلاكهم، ولكنّها تقتضي نزول آيات أُخرى في آخر الزمان، فيها بعض مقترحاتهم وتثبيت للدِّين الإلهي.

وفى «الكافي» بإسناده رفع إلى الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال:

«إنّ اللّه لم يقبض نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتّى أكمل الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، وبيّن الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه كمّلاً، فقال عزّ وجلّ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ المراد من الكتاب في الآية الكريمة، هو القرآن المجيد، كما يدلّ عليه ما ورد في «نهج البلاغة» في كلام له (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا:

ص: 306

«أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل ديناً ناقصاً فقصّر الرسول عن تبليغه وأدائه، واللّه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»».

ولا ينافي ذلك أن يكون المراد منه مطلق الكتاب، الشامل لكتاب اللوح والقرآن الكريم، كما عرفت.

ثمّ إنّك عرفت ما يتعلّق بقوله تعالى: «ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(1)، وإِنّ المراد منه الأُمم كلّها، فينتصف بعضها من بعض. واستدلّ عليه ببعض الأخبار.

ففى «المحاسن» عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديثٍ قال:

«وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كفّ بكفّ، ولو مسحه بكفّ، ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجمّاه».

أقول: إنّ المراد بالكف اليد، أي تضرّر كفّ إنسان بكفّ آخر بغمز وشبهه. والمراد بالمسحة ما يشتمل على إهانة وتحقير أو تلذّذ. وهو يدلّ على عدله عزّ وجلّ، وأنّ الظالم ولو كان حيواناً يحبّ أن يصل إلى جزاء عمله.

وفي «من لا يحضره الفقيه»: روى السكونيّ بإسناده إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال: أين صاحبها مُروه فليستعد غداً للخصومة».

أقول: الحديث يدلّ على كامل العدل الإلهى والإسلامي حتّى في الحيوانات، وهو يدلّ على حشر الحيوانات، كما هو ظاهر الآية، وقوله تعالى: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(2). ولكن ليس فيه دلالة على أن الناقة المعقولة تُحشر لجواز أن يكون الخصم غير الناقة من قبلها.

ص: 307


1- سورة السجدة: الآية 11.
2- سورة التكوير: الآية 5.

وفي «مجمع البيان»: وعن أبي ذرّ، قال: «بينا أنا عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذ انتطحت عنزان، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): أتدرون فيم انتطحا؟ فقالوا: لا ندري، قال: ولكنّ اللّه يدري وسيقضي بينهما».

وفي «ثواب الأعمال» عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «قال علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لابنه محمّد حين حضرته الوفاة: إنّي قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجة فلم أقرعها بسوط قرعة، فإذا توفيت فادفنها لا يأكل لحمها السباع، فإنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: ما من بعير توقّف موقف عرفة سبع حجج إلّا جعله اللّه من نِعَم الجنّة وبارك في نسله، فلما توفيت حفر لها أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ودفنها».

أقول: يدلّ الحديث على حشر الحيوان، وإن لم يدلّ على كون الجزاء مقابل للعمل، فإنّ كون الناقة في الجنّة لا يدلّ على أنّ ذلك كان جزاء عمل الناقة، كما عرفت، ولكن الحديث يدلّ على كمال العدل الإسلامي.

وفي «تفسير القمّي» عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكُمْ»، قال: «صُمّ عن الهدى، بُكم لا يتكلّمون بخير، في الظلمات يعني ظلمات الكفر، «مَنْ يَشَأْ اللّه يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وهو ردّ على قدرية هذه الأُمّة، يحشرهم اللّه يوم القيامة مع (من) الصابئين والنصارى والمجوس، ويقولون: «وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»، يقول اللّه: «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

قال: فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): ألا إنّ لكلّ أُمّة مجوساً، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون: لا قدر، ويزعمون أن المشيئة والقدرة إليهم ولهم».

قال في «تفسير البرهان» بعد نقل الحديث: «وفي نسخة أُخرى من «تفسير علي بن إبراهيم» في الحديث هكذا، قال: فقال: ألا إنّ لكلّ أُمّة مجوساً، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون: لا قدر ويزعمون أنّ المشيئة والقدرة ليست لهم ولا عليهم.

ص: 308

وفي نسخة ثالثة: يقولون: لا قدر، ويزعمون أن المشيئة والقدرة ليست إليهم ولا لهم».

ما يتعلّق بالقضاء والقدر

أقول: إنّ القضاء والقدر من الموضوعات العريقة، وقد أُثيرا في صدر الإسلام وأخذ قسطاً وافراً من بحوثهم، وهما من أسباب الفعل، وقد فُسّر القدر بتفسيرات متعدّدة؛ وهو اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، ويطلق على الخلق والبيان، والمراد به تعلّق إرادة اللّه تعالى بنحو من الأنحاء بأفعال العباد، وقد اختلفوا في الاعتقاد به.

فذهب قوم بأنّ الخير والشرّ كلّه من اللّه تعالى وبتقديره ومشيئته، وهم الذين سُمّوا بالقدرية، أي: الذين أثبتوا القدر، وخصّ بعض هؤلاء الخير بأنّه من اللّه تعالى وليس بخالق الشرّ.

وذهب آخرون إلى إنكار ذلك، وأثبتوا المشيئة والقدرة المستقلتين للإنسان في فعله، فهو الخالق له المستقلّ به، وسُمّوا بالقدرية أيضاً أي النافين للقدر.

بل بالغ بعضهم في نفي كون الخير والشرّ كلّه من اللّه تعالى، وجعل كلّ التدبير فيها للخلق.

وأرجأ ثالث: حقيقة أفعال الخلق على اللّه عزّ اسمه، وسُمّوا بالمرجئة.

وربما يُطلق على الجميع القدرية أي المتكلِّمين في القدر.

وكيف كان، فقد وردت روايات عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اللّه وأئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تثبت القدر، وأنّ اللّه تعالى مشيئة في أفعال العباد كما دلّت الآيات الكريمة عليه.

أمّا ما رواه الفريقان عن نبيّنا الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): ( القدرية مجوس هذه الأُمّة)، وما تقدّم من الحديث، فهو ظاهراً ينطبق على ما ذهب إليه النافون للقدر، فهم الذين يثبتون إلهين أحدهما يخلق الأعمال وهو الإنسان، والآخر يخلق غير

ص: 309

الأعمال وهو اللّه سبحانه، وينطبق أيضاً على قول من يذهب أنّ الخير من اللّه تعالى والشرّ من غيره. وكلاهما يشبهان مقالة المجوس الثنويين الذين يعتقدون بإلهين اثنين، إله للخير وإلهٌ للشرّ.

و من نافلة القول التذكير بأنّ بعض مذاهب القدرية اختلقها الجبابرة من هذه الأُمّة، لتبرير ما كانوا يفعلونه من الظلم والطغيان، وإسناده إلى اللّه المتعال، وأنّه بتقدير منه، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأما ما ورد في النسخ التي نقلها البحراني في «تفسير البرهان»، فالظاهر أنّه لا ينسجم مع ما يعتقده القدرية النافون للقدر، فإنّ القول بأن الإنسان هو الخالق لإفعاله وأعماله، ينا في القول بأنّه ليست المشيئة للإنسان ولا عليه، فمن المحتمل أن تكون من التفسير المغلوط، أو من تحريف النسّاخ.

وفى «نهج البلاغة» قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النِّقم، وتزول عنهم النِّعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم ووله من قلوبهم لردَّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد»

أقول: إنّه شاهد على ما ذكرناه سابقاً، إن دعاء الكافر حين الاضطرار إنّما يصدر عن إخلاص، فيدعو اللّه تعالى عن صدق، فلا ينافيه قوله تعالى: «وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ»، كما عرفت.

وفي مجمع «البيان» في قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...»، قال: وروي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «اذا رأيت اللّه يعطي على المعاصى فإن ذلك استدراج منه، ثمّ تلا هذه الآية...».

ونحوه ما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «يابن آدم إذا رأيت ربّك يتابع عليك نعمه فاحذره».

وفي «الدّر المنثور» أخرج أحمد وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن

ص: 310

المنذر، والطبراني في «الكبير»، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «الشُّعَب» عن عقبة بن عامر، عن النبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، قال: «اذا رأيت اللّه يعطي العبد في الدُّنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحبّ، فإنّما هو استدراج، ثمّ تلا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ... الآية».

وفيه أخرج أبن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن مردويه، عن عبادة عن الصامت: إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماءً رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد بقوم اقتطاعاً فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة، «حتّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»».

أقول: الروايات فى هذا المضمون كثيرة، وتحذّر الناس بتوارد النِّعم ولو كان في غير حالة العصيان، وقد كان السلف الصالح يتضرّعون إلى اللّه تعالى عندما كانوا يشاهدون النِّعم الكثيرة عليهم خوفاً منهم أن يكون ذلك استدراجاً يعقبه العقاب، وأقلّه البُعد عن اللّه سبحانه.

وفي «معاني الأخبار» بسنده عن فضيل بن عياض، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إنّه قال: «مَن أحبّ بقاء الظالمين فقد أحب أن يُعصى اللّه، إنّ اللّه تبارك وتعالى حمد نفسه على إهلاك الظلمة، فقال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»».

أقول: تقدّم ما يرتبط بذلك، فراجع.

***

بحث عرفاني وفيه بعض الإشارات إلى أهل السير والسلوك

بحث عرفاني:

الآيات الكريمة المتقدّمة فيها إشارات إلى أهل السير والسلوك، وتشتمل على رموز من الحقائق، وتبيّن لهم ما يوجب إنزال حجب جلاله عزّ وجلّ على

ص: 311

قلوب العارفين، وترشدهم إلى ما يكون سبباً لتوفيقه سبحانه، واكتساب الفيض فيستفيضوا بإشراق سبحات جماله.

فهي ترشدهم إلى أنّ طلب الفيوضات الربّانية الخاصّة قبل أوانها يرجع إلى الجهل بمقادير الأُمور، ويعتبر حجاباً يمنع العارف من الرقيّ في سُلّم الكمال، والطلب مع الجهل بالمنزلة، يوجب الاحتجاب بغواشي الصفات، بل قد يوجب هلاك النفس، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يعطي العبد بمقدار القابلية التي لها مراتب حسب الاستعدادات في الأعيان الثابتة الغيبية العملية، فإنّ القابلية المودعة في النفس بعد أخذ العهد في النشأة الإنسانية بقوله تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»(1)، فإنّ تلك الإجابة أدخلتهم في الاستعداد السعادي الأزلي، وإلّا لما صحّ تكليفه، ولما حسن الخطاب إنّني أنا اللّه، فقد حصل الاستعداد، والعطاء إنّما يكون تابعاً لخصوصيّاته، ففي السعيد لا يكون إلّا الأقوال المرضية والأفعال الحسنة، والأخلاق الحميدة التى تورث الانبساط، ويطلب المزيد مع الصبر وتحمّل الإيذاء والابتلاء في الدُّنيا، فإنّ ذلك من أسباب نيل الكمال، وتكميل الدرجات التي لا تنال إلّا على قدر البلاء والامتحان، ولكنّه لا يكون على حسب دين العارف المجاهد، والبلاء سوط اللّه على عباده كيلا يركنوا إلى الدُّنيا، ولا ينشغلوا بها، بل يفرّوا إلى اللّه عزّ وجلّ، فإنّ الآخرة دار القرار، والدُّنيا سلّم يرتقى عليها لنيل تلك الدرجات. ولعله يرشد إلى ذلك قوله سبحانه: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ» حيث فطروا على التوحيد، وجُبّلوا علىً المعرفة، فهي مظاهر كلماته سبحانه، ولها مشارب من بحر خطابه عزّ وجلّ، ولها أفنان من وجوه الحنين إليه عزّ وجلّ، والتغريد باسمه، وقد سجّلت أفعالها وأعمالها في

ص: 312


1- سورة الأعراف الآية 172.

كتاب الأعمال من دون تفريط، وهم في عين الجميع يحشرون إلى ربّهم.

فمن غفل عن ذلك واحتجب بغواشي صفات النفوس، وكذب بتجلّيات الصفات، التي هي من أعظم الآيات الإلهيّة المؤثّرة في التربية والتزكية والتهذيب، فليس إلّا أنهم صُمّ لا يسمعون ما يلقى اللّه في عقولهم، ولا تصغى قلوبهم للمواعظ والزاوجر، وبُكمٌ لا ينطقون بما تشهد به فطرتهم وعقولهم في ظلمات الطبيعة والمادّة، وفي عقاب الجهل يتخبّطون، فهم محجوبون بحُجُب جلاله، ومن يشأ اللّه يُضلله بما وصلوا إليه من أدنى الدرجات، إلّا إذا رجعوا عن غيّهم بالالتفات إلى إزالة غواشي الصفات، فإنه يشرق من سبحات جماله ما يجعله على صراط مستقيم الذي يوصله إلى أقصى الدرجات، فإنّه هو الوسيلة والصورة والمادّة والغاية، فالصراط المستقيم هو الكمال، وجعله علیه کمال آخر، ومرجعه إلى اللّه تعالى فكان هو المبدأ والمعاد، فما أجلّ هذا الصراط وأعظمه!! فالمؤمن العارف الذي له حظّ من السير والسلوك إلى اللّه عزّ وجلّ، لابدّ أن يعلم أن مرجعه إلى اللّه سبحانه من البداية، وأمّا غيره الذي قصّر في نيل المقاصد من الآيات الإلهيّة، إنّما يعرف أنّ مرجعه إليه عزّ وجلّ بعد اليأس، فتوجّه إليه الخطاب على نحو التوبيخ «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَنَاكُمْ عَذَابُ اللّه» من حرمانه من الوصول إلى الكمال اللّائق به، بمعاشرته لأهل الدُّنيا، وترك التعرّض لنفحات قدسه، أو أتتكم الساعة الصغرى والكبرى التي تظهر الحقائق فيها، وقد أبلسوا منها، فلا يدعون حينئذٍ إلّا اللّه، لأنّه الذي تجلّى في الأعيان الثابتة الغيبية العلميّة، ولكنّهم في دعوتهم غير صادقين لأنس نفوسهم بالمادّة، وتعلّقها بالدُّنيا الدنيئة، فهم يدعونه بالفطرة، ويرجعون إليه في حوائجهم وإن لم يصرّحوا بذلك عناداً ولجاجاً، فقد توغّلت النفوس في الرذيلة، فيأخذهم بالبأساء والضّرّاء ليرجعوا عن غيّهم، ويطيعوا اللّه تعالى، ويزيلوا الحُجُب التي حَجَبت قلوبهم، فينقادوا متضرعين عند تجلّى اللّه

ص: 313

عزّ وجلّ لهم بصفة القهر، فإنّ استفادوا جعلهم على الصراط المستقيم.

وأمّا إذا لم يتأثّروا بها ولم تنفعهم تلك النذر، لوجود الحُجب المتعدِّدة، وأهمها قسوة قلوبهم التي هي من أعظم الموانع تنشأ من سوء الاستعداد، وتراكم آثار الذنوب والآثام التي ارتكبوها، فتغلب على قلوبهم غشوة الهوى، وحبّ الدُّنيا التي تبطل الحياة المعنوية للإنسان، فهى في حُجُبٍ كثيفة، فلم تتأثر بالمواعظ المتكرّرة والزواجر المتعدّدة التي تلين بها القلوب، فإذا صدر عمل عن مثل هذا القلب، فإنّما هو فاقد للأثر، بل قد زيّنه الشيطان ممّا صار الكفر والمعاصى محبوباً لأنفسهم، ومالت إلى الشر والطغيان، وتقبل الوسوسة والإغواء من الشيطان فاشتهت ارتكاب الذنوب والآثام، فلم يخطر ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضرّاء، إنّما كان لأجل صلاحهم، فنسوا العهد الذي أُخذ منهم بالرجوع إلى خالقهم، وتركوا الخير والصلاح، وأعرضوا عمّا دعاهم الرُّسل والأنبياء، ولم يتّعظوا بالمواعظ والنذر التي أنزلها اللّه سبحانه لتربية النفوس، وإخراجها من ظلمات المعاصي ودرن الآثام، وقد زيّن الشيطان كلّ مكروه فاسد لهم، وجعل الدُّنيا في أعينهم براقة تخلب قلوبهم، وركزّ في نفوسهم حب الدُّنيا الذي هو رأس كل خطيئة، فلما نسوا أمر اللّه في خلقه، وخرجوا عن طور الإنسانية الداعية إلى الطاعة والعبودية، أنعم اللّه تعالى عليهم بأنواع النِّعم، وفتح عليهم أبواب كلّ شيء ممّا أوجب فرحهم وبطرهم، وأغلق عليهم ما يوجب توفيقهم استدراجاً لهم الذي هو سُنّة إلهية في أهل المعاصي.

وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا أراد اللّه عزّ وجلّ بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرّاً تبعه بنعمة ليُنسيه الاستغفار ويتمادى به، وهو قول اللّه تعالى: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ» بالنِّعم عند المعاصي».

وفي النبوي: «إذا رأيت اللّه تعالى يعطي العبد في الدُّنيا وهو مقيم على

ص: 314

معاصيه، فإنّما هو استدراج، ثمّ تلا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ...» الآية وما بعدها».

وقد تعوّذ أهل اللّه به سبحانه من توارد النِّعم الظاهرية، ووجلهم منها خوفاً من أن يكون ذلك استدراجاً، وأنّ المؤمن إنّما يكون وجلاً من النِّعم بقدر ما يكون فرقاً من النقمة، وقد قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّه من وسّع عليه في ذات يده فلم يرد ذلك استدراجاً، فقد أمن خوفاً، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم يرد ذلك اختباراً، فقد ضيّع مأمولاً».

ومن الآثار المترتّبة على الإستدراج أنّه يوجب نسيان ما يجب على الإنسان مراعاته، وترك ما يوجب استكماله، فيا له من خسران النفس التي تسرح فى النِّعم، وتنسى المُنعم، ويغلب عليه الفرح والبطر، وينسى النظر والاعتبار، ويركن إلى الدُّنيا ويستوثق بها وهي زائلة، ويغفل عن الآخرة وهي دائمة، ويجهل أنّ الذي خلقه يريد منه الاستعداد دون الاعتماد والركون إلى الأسباب، وقد شغلوا بأعظم الشواغل، وفسدت أخلاقهم، وانعدمت،آمالهم، حتّى رأوا أنفسهم في عذاب لا يمكنهم الخلاص منه، وحينئذٍ يثبت أعظم حمد استحقّه ولى النِّعم لأنّه لطف بعباده وكونه رباً لهم، فالآيات الشريفة ترمز إلى أُمور لها الأثر الكبير في الترغيب والترهيب والتهذيب والتكميل، وهي إشراقات لمريدي السير والسلوك إلى اللّه عزّ وجلّ.

الأوّل: إنّ اللّه عزّ وجلّ هو المرجع فى كلّ الأُمور، والملجاً في جميع الأحوال، وإنّ العارف يجب توكيل جميع شؤونه إليه عزّ وجلّ، وشأن المؤمن هو التوجّه إليه واستمداد العون منه سبحانه، فإنّه المؤثّر في الحقيقة والواقع ومسبب الأسباب، وأنّ غيره وهم وخيال وآلات وأسباب، ولذا كان شأن المؤمن عرض الحال لديه في جميع الحالات، وشأن الكافر النظر إليه في شدّة الأحوال، والعاقل

ص: 315

يرجع إليه عزّ اسمه اختياراً في سعة الحال وشدتها، ولا يترك العبد باب سيده على كلّ حال.

الثاني: إنّ اللّه تعالى مقلّب الأحوال ومدبِّر الأُمور، فهو يقلب الإنسان من حال الرخاء إلى حال السرّاء، ومنهما إلى الراحة والرخاء، وأنواع الآلاء والنِّعماء، وهو إذ يفعل ذلك لطفاً بعباده، فإنّه الربّ العظيم، إصلاحاً للنفوس، وتربيةً لها على عدم الركون على حالة واحدة، لأنّه إذا استوت حالات الإنسان هلك، ولا ريب أنّ فائدة هذا السبيل - كما عرفت آنفاً - ترجع إلى دينه ودنياه، ويعتبره أهل اللّه تعالى عناية خاصّة بهم، يتلقّونه باعتباره واردة إلهية شاكرين حامدين اللّه عزّ وجلّ، حتّى لا تعتريهم السّامة ووسوسة الشيطان وتسوّله لهم أنفسهم وهم قد بلغوا في السلوك رتبة، فيقع في ورطة الخذلان، فلابدّ من التربية والتزكية دائماً.

الثالث: إنّ الإستدراج سُنّةٌ إلهية لتهذيب النفوس، والهلاك إنّما يكون بقدر الإستدراج، فيكون النِّعم المتواردة المتتالية، وإن كانت بصورة النِّعماء عند أهل الظاهر، ولكنّها عند أهل الباطن بلاءٌ في صورة النِّعمة، وهي إنّما تكون عندهم نعمة إذا كانت سبباً للانتباه والخروج عن الغفلة، وزيادة التوجّه والقُرب لديه حتّى لا يصيبهم الخذلان.

الرابع: اعتبار قسوة القلوب من أهمّ الموانع في كسب المعرفة والكمال، والتأثّر بالواردات الغيبية، والاتّعاظ بالمواعظ الإلهيّة، وأنّها تجعل القلوب يباباً من كلّ خلق كريم، ترجع الإنسان إلى القهقرى، وتجعله رديفاً للحيوانات الرديئة، ويرجع السبب إلى المعتقدات الخاطئة الباطلة، والأعمال الفاسدة وارتكاب الآثام والتجرّي على هتك الحرمات، ونقض المواثيق الإلهيّة، وممارسة الرذائل، وتلبس النفس بالأخلاق الفاسدة، كما حكى عزّ وجلّ تلك في الآيات السابقة.

الخامس تزيين الشيطان للأعمال في نفوسهم، وجعل قلوبهم تركن إلى

ص: 316

الدُّنيا الفانية، ووسوسته لهم فيتحقّق العُجب بما عندهم، وهو من رذائل الأخلاق، وقد عرفت في التفسير أنّ القسوة تؤثّر في الشعور، والتزيّين يؤثّر في المشاعر، ومن المعلوم أنّهما القاعدة التي ينطلق منها المسير الإيماني والسلوك الأخلاقي، والعُجب رذيلة يمكن إزالتها بالرجوع إلى اللّه تعالى ورؤية التوفيقات الربانية، وتلقّي الواردات الإلهيّة، والاستفادة منها في تهذيب النفس.

السادس: كسب المعرفة من تلك الأحوال المتقلّبة على النفس وتهذيبها من الآفات، والمجاهدة في الرجوع إليه عزّ وجلّ والتماس المدد منه، وترك ما يوجب ملال النفس عند العمل، والابتعاد عمّا يوجب الوقوع في ورطة الخذلان، وسدّ باب وسوسة الشيطان، فإنّ معرفة جميع ذلك نعمة لابدّ لها من الحمد والشكر، فإنّه يوجب السلامة في الدُّنيا، كما حكى عزّ وجلّ عن نوح بعد أن قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1)، وقد وعده ربه بالسلامة، فقال تعالى: «يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ»، كما أنّ الحمد يوجب الدخول في الجنّة، ففي الحديث «إنّ أوّل من يدعى إلى الجنّة الحامدون اللّه على كلّ حال»، فكلّ ما ورد في الآيات السابقة نعمٌ إلهية يجب الحمد عليها. والحمد لله رب العالمين.

***

ص: 317


1- سورة المؤمنين: الآية 28.

سورة الأنعام الآية 46 - 55

إشارة

الآية 46 - 55

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَة غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِفُ الْآيَاتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكَ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكَ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأعمّى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثمّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)».

آيات فيها أنواع من الاحتجاج في أمر التوحيد والنبوّة والمعاد، وتشتمل

ص: 318

على معارف ربوبية لم يبيّنها إلّا القرآن الحكيم، وهي ترشد الناس إلى الرجوع إلى ما تحكم به الفطرة في التوحيد ودفع البلاء، فإنّه لم ينجيهم منه إلّا اللّه الواحد الأحد دون ما اتّخذوه من الأنداد، وقد أرسل سبحانه مبشرين ومنذرين لإثارة الدفائن في العقول، وقد وعد اللّه المؤمنين الصالحين بالجزاء العظيم، كما أوعد المكذِّبين بآيات اللّه تعالى بالعذاب الذي يمتهم وتتأثّر به نفوسهم، ثمّ يأمر عزّ اسمه رسوله بإبلاغ المشركين الذين اقترحوا على اللّه الآيات، بأنّه رسول إنّما يستمدّ قوّته الظاهرية والمعنوية من وحي اللّه تعالى، فلابدّ لهم من التبصّر في الأُمور، فإنّه لا يستوي الأعمّى والبصير، فإنّه سوف يحشرون إلى ربّهم ويحاسبون على أعمالهم، وليس لهم من ولى ولا شفيع، ثمّ إنّه أمر نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمكرمة من مكارم الأخلاق، وهو رئيس الأُمّة، بإيواء جميع من يريد وجهه تعالى، ويدعونه طالبين منهم رحمته، ثمّ بَيَّن حكماً اجتماعياً من فتنة بعضهم ببعض، وفي الختام بشر المؤمنين بالوعد الجميل وغفران الذنوب، وإنّه من رحمته الواسعة، وأن جميع ذلك آيات إلهية لبيان السبيل، وتوضيح سبيل المجرمين، فهي آيات ترشد المؤمنين إلى المجاهدة والصبر وتعدهم الجزاء الجميل، وتهدّد الكافرين الظالمين المكذِّبين لآيات اللّه وتوعدهم العذاب الحريق، وفي الآيات تعيين لبعض وظائف الأنبياء والمرسلين، وجملة من شؤونهم.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ».

تهديد آخر وأخذ الحجّة عليهم، فقد ابتدأ بأحد أمرين العذاب أو الساعة، وهنا بالأخذ والختم، وفي ما يأتي بالعذاب فقط، ولعلّه يرجع إلى اختلاف القوم المشركين وتفاوتهم في الاعتقاد، أو لاختلاف الأثر المطلوب المترتب عليها،

ص: 319

والخطاب لهم إنّما هو سبيل التبكيت والإلزام.

والأخذ في المقام هو سلب قوّتي السمع والإبصار وانتزاعهما عنهم، فلم يمكنهم الاستفادة منهما في الجهة النافعة المطلوبة لأصحابها، فيكون الأخذ حقيقياً لأنّ سلب الآثار عن الماهيات سلب للحقيقة، ولا وجه لجعله مجازاً، وإفراد السمع لأنّه مصدر يدلّ على الجمع، وتقديمه على الإبصار قد تقدّم الكلام فيهما، فراجع.

وجواب (أن) محذوف تقديره: فمن يأتيكم به، وموضعه نصب، لأنّها في موضع الحال.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ»

قوله تعالى: «وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ».

الختم بمعنى التغطية والإغلاق، وخَتْم القلوب تغطيتها، بحيث لا يدخلها شيء حتّى تتفكر في أمرها، وتميّز الحقّ عن الباطل، والحسن عن القبيح، والخير عن الشرّ، وصالح الأعمال وطالحها، والنافع منها عن الضارّ، والظاهر أنّ القلوب باقية على صلاحيتها، وإلّا خرجت عن قابلية الخطاب، فالمأخوذ في جميع ذلك هو المعاني القائمة بهذه الجوارح، فقد يذهب اللّه تعالى والجوارح والأعراض جميعاً فلا يبقى شيئاً، كما قال تعالى: «مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً».

والحواس طريق للقلب يرد منها المدركات إليه وأهمّها السمع والأبصار، فإنّه يرد منهما أغلب المدركات، فأخذهما سبب لغلق باب القلب بالكلية، ولعلّه لأجل ذلك تقدّم ذكرهما على ختم القلب، فيكون من تقديم العلّة على المعلول.

وقيل: بأن التقديم إنّما هو لأجل تقديم ما يتعلّق بالظاهر على ما يتعلّق بالباطن.

ولكنه ليس بشيء، فإنّ الظاهر هنا طريق للباطن، كما عرفت.

ص: 320

وأمّا الاعتراض: بأنّ من المدركات مالا يتوقّف على السمع والبصر.

غير سديد؛ لأنّ المناط هو ما أمكن الاستفادة منهما في سبيل مرضاة اللّه تعالى، وهو موجود في من ولد أعمّى وأصمّ، وبلغ سن التكليف، فيجب عليه الإيمان باللّه تعالى ورسوله، وإلّا دخل في مصداق الآية الكريمة، فيكون المراد منها سلب المشاعر.

ما تدلّ عليه قوله تعالى «مَنْ إِلَهُ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ»

قوله تعالى: «مَنْ إِلَهُ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ».

توحيد الضمير في (به) - وتقدّم الذكر بالجمع – لأنّ المعنى أي المأخوذ والمختوم عليه، وقيل يرجع إلى (ذلك) الذي كثر في الاستعمال به عن أشياء عديدة. وقيل غير ذلك، والأصح ما ذكرناه.

و(من) للاستخبار مبتدأ، و(إله) خبره، و(غير) صفة له، و(يأتيكم به) صفة أُخرى، والجملة متعلّق بالرؤية التي هو مناط الاستخبار. وقرأ بعضهم (به انظر) بضم الهاء على الأصل، لأنّ الأصل أن تكون الهاء مضمومة.

والمعنى: أخبروني إن سلب اللّه تعالى أشرف أعضائكم، وأعظم مشاعركم التي هي السبب في استقامة تفكيركم، من إله غيره يأتيكم بها. ومن المعلوم أنّه لا يقدر عليه إلّا اللّه تعالى، فهو المستحقّ للعبادة.

ومن هنا يعرف وجه الاختصاص باسم الجلالة، لأنّهم يعترفون بقدرته، أو لأنّه أدعى للخوف.

والآية الكريمة ترشد إلى أمرين، يدلّان على الأُلوهيّة الكبرى، والوحدانية العظمى:

الأوّل: الدلالة على بطلان الشركاء والآلهة المزعومة، فإنّ من يعتقد بالشركاء ويقول بالأنداد، فإنّما هو لأجل إثبات الشفاعة، وجلب النفع والنِّعماء،

ص: 321

ودفع الضرّ والبلاء، ولكنّها مغلوبة تحت قدرة اللّه تعالى المطلقة الذي لا يغالبه أحد، وله السلطنة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، من دون أن يمانعه مانع، أو يضادّه في ملكه أحد من الأنداد والشركاء، فهي وإن كانت شفعاء بزعمهم، لكنّها لا تكون معارضة، فلو سلب عزّ وجلّ ما يريد سلبه منها، لم يقدر على منعه أحد، فلا قدرة لهؤلاء الشفعاء على إرجاع ما أخذه اللّه سبحانه، فإذا كان أمرها كذلك، فلا يصحّ إعتقاد الأُلوهيّة فيها، إذ لا معنى للإله إلّا إذا كان دافعاً لضرّ أو جالباً لنفع أو يحوط بمن يعتقد به إحاطة خير، وله من القدرة في التصرّف في العالم والسلطنة المطلقة والصفات العليا ما تجعله مستحقاً للعبادة، فإذا انتفى عنه هذا الملاك فتسميته إلهاً إنّما هو شطط في الكلام، والإنسان المستقيم الذي يتميّز بالفكر السويّ، لا يصحّ له أن يعتقد بأُلوهيّة ما يصنعه في فكره، أو ما تعمله أياديه من مادّة فانية زائلة يشوبها النقص من جميع جهاتها، ويجعلها إلهاً مدبّراً للعالم متصرّفاً فيه بالإيجاد والإعدام يعبده، مع العلم بأنّه مصنوع ومربوب لمن له الربوبيّة العظمى.

الثاني: إنّ معنى الأُلوهيّة لا يمكن أن يصدق على الشريك، سواء كان بمعنى الشفيع أو الولاية أو غير ذلك، لأنّ من لوازم الأُلوهيّة وأعظم شؤونها القدرة على التصرّف تصرّفاً تاماً فى ما سواه بالصنع والإيجاد والإعدام، والاستقلال في التصرّف استقلالاً تاماً، وأنّ مخلوقاته خاضعة له خضوع مربوب لربّه، وحينئذٍ لا تخرج الواسطة المفروضة عن أحد احتمالين على سبيل منع الخلو:

فإمّا أن يكون لها الاستقلال في التصرّف، إذن كانت أصلاً ومبدءً مستقلاً لا واسطة وشفيعاً.

وإمّا أن لم يكن لها حظّ كذلك، فتكون أداء وآلة لا أن تكون إلهاً ومبدءً.

ص: 322

والأوّل باطل، كما قال تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتَا»(1).

والثاني هو المطلوب، فلا يمكن أن تكون الأسباب مهما بلغت من القوّة والعزّة والقدرة إلهاً وربّاً، فتنحصر الأُلوهيّة فى الواحد الأحد، فهو اللّه المستحقّ للعبادة والتعظيم. فالآية الكريمة بأسلوبها البليغ ومضمونها الرفيع، تكون احتجاجاً آخر على المشركين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «انظُرْ كَيْفَ تُصَرِّفُ الْآيَاتِ»

قوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ تُصَرِّفُ الْآيَاتِ».

التصريف توجيهٌ للمعنى في الجهات التي تظهره أتم الإظهار، وهو يلازم التقرير والتكرار والانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، وذلك لتقريب المعاني إلى الأفهام، فتارةً يستعمل أسلوب الترغيب والترهيب، وأُخرى أسلوب البرهان والدليل، وثالثة أسلوب التنبيه والتذكير.

وفيه التعجّب ومضمونه عامٌ يشمل من يصلح للخطاب. والمراد من الآيات التكوينيّة والتدوينية لا سيما تلك التي تقدّمت في إثبات الصانع وتوحيده، واستحقاقه للعبادة والتعظيم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ»

قوله تعالى: «ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ».

الصدف الإعراض مع النفور، يقال: صدف عن الشيء صدوفاً، إذا مال عنه وأعرض، وأصله من الصدف، وهو الجانب والناحية، ومنه صادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته، ويطلق على كل بناء مرتفع، وفي الحديث: «مرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بصدف مائل.فأسرع».

و (ثمّ) لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات، بما يوجب الإقبال

ص: 323


1- سورة الأنبياء: الآية 22.

والإيمان. وهم مائلون معرضون عن تلك الحجج والدلالات ويكفرون بها، والجملة هي مناط التعجيب، فتكون عطفاً على (نصرف).

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه»

قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه».

تبكيت آخر لهم لأخذ الاعتراف منهم، وتقدّم ما يتعلّق بصيغة (أرأيتكم) التي لم ترد إلّا في موردين؛ هما في هذه السورة. والمراد بها الاستخبار عنهم لأخذ الاعتراف منهم عن رأي وقناعة، ولا يوجد مثل هذا في غيرها، فقد كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الأمم قبلهم. وهو تهديدٌ ثالث كما عرفت. آنفاً

ما يتعلّق بقوله تعالی «بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً»

إشارة

قوله تعالى: «بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً».

المراد من بغتةً

تقدّم الكلام في كلمة (بغتة)، والمراد منها المباغتة في العذاب من دون أمارة وشعور،به فلا يتقدّم لكم به علم، ولتضمّنها ما فى الخفية من عدم الشعور وصحّ مقابلتها مع الجهرة التي هي بمعنى الظهور التامّ الذي لا يقبل الارتياب. وبدأ بالخفية لأنّها أردع من الجهرة. كما أنه لم يقل خُفية، لأنّ الإخفاء لا يناسب شأنه سبحانه.

وقيل: إنّ البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها للجهرة، وهو بعيد، والمقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في الاستعمال الفصيح.

وقيل: المراد منهما ليلاً ونهاراً، لأنّ الغالب في ما يأتي ليلاً البغتة أي الفجأة، وما أتى نهاراً الجهرة، وهو المناسب من قوله تعالى: «أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحى وَهُمْ يَلْعَبُونَ»(1).

ولكنّه لا يخلو عن تعسّف، مع أنّه يرجع إلى الأوّل.

ص: 324


1- سورة الأعراف الآية 98.

وقُرئ «بَغَتَةً وجَهَرَةٌ» بفتح الغين والهاء على أنّهما مصدران كالغلَة، أي إتياناً بغتة أو إتياناً جهرة.

لكن المعروف أنّ كلّ حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرّك، إلّا على أنّه لغة فيه، كالنَهْر والنَّهَرَ، والشَعْر والشَعَر، والحَلْب والحَلَب، والطَّرْد والطَرَد. وذهب الكوفيون إلى أنّه يجوز تحريك الثانى حرفاً حلقياً قياسياً مطّرداً، كالبَحْر والبَحَر، وسمع من بعضهم إنّه قال: أنا مَحَموم بفتح الحاء، وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء.

وكيف كان فالآية الكريمة تدلّ على إحاطة العذاب بهم في جميع أحوالهم إمّا بغتةً لا يترك لهم مجال التحذر، أو جهرةً تظهر لهم أماراته، يرون مبادئه ومقدّماته بأبصارهم، ويبدو لهم مخايلة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «هَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»

قوله تعالى: «هَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ».

تسجيل عليهم بالظلم، والإيذان بأنّ مناط هلاكهم هو ظلمهم بالكفر، والإعراض عن الإيمان، وتقريراً لهم باختصاص الهلاك بهم، وهو يكون مناط الاستخبار، و«هَلْ يُهْلَك» معناها النفي، أي ما يهلك إلّا القوم الظالمون، ولذلك دخلت (إلّا).

ولعلّ التعبير بالهلاك لبيان التهديد الشديد، وكون العذاب حاصل عن سخط إلهي، ويدلّ عليه الحضر أيضاً، فإنّه قد يهلك غير الظالم، لكن لا بهلاك التعذيب، وربما يكون رحمة بهم لكونه سبباً لنيل الجزاء الأوفى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الآية تبيِّن اختصاص عذاب الهلاك بالظالمين حصراً، وفي مثل هذا العذاب ينجي اللّه منه رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، فكأنّه قال تعالى: لا يهلك به غيركم.

ص: 325

ولكن الحقّ إنّ الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وأمّا عذاب غير الظالمين إذا نزل بساحة الظالمين فقد ذكر في مواضع أُخرى من الكتاب المجيد، كما أشار إليه قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصّة»(1). فهي تبيِّن حجّة أُخرى، وتهديد آخر، فإنّ الظالمين على خطر شديد، ويصيبهم عذاب اللّه من غير توقيت، ولا يتخّطاهم إلى غيرهم، لأنّهم الظالمون الذين أعرضوا عن الدعوة الإلهيّة وفسقوا عن أمر ربهم وكذبوا بآيات اللّه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ»

قوله تعالى: «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

بيان لسنّة إلهية في أن إهلاك المكذِّبين لا يكون إلّا بعد إرسال الرُّسل وإلقاء الحجّة عليهم. وفيه التأكيد على ما ورد في الآيات السابقة.

ومبشِّرين ومنذرين حالان مقدّرتان مفيدتان للتعليل، وأُسلوب الآية الشريفة المشتمل على صيغة المضارع والمتعاطفين، يدلّ على أنّ مضمونها مستمرّ وأنّه سنّة إلهية، وفيها البيان لأعمال الرُّسل، وأنّ وظيفتهم هو تبشير المؤمنين المطيعين بالثواب، وإنذار المعرضين والعاصين بالعقاب، فلم يرسلهم ليُقترح عليهم أو يُتلهى بهم أو يُسخر منهم، فإنّهم رسل اللّه لهم كرامتهم عند اللّه، وإنّما يؤتون من الآيات والبراهين بما يظهر صدقهم وحقّية دعواهم. والتبشير هو الإخبار بالخبر السارّ، ويقابله الإنذار.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ»

قوله تعالى: «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ».

الإيمان هو الاعتقاد بالحقّ والتصديق بالقلب المصاحب للعمل، والإصلاح هو مطابقة الاعتقاد والعمل للشرع الحنيف، أو الدخول في الصلاح، فيصلح ما

ص: 326


1- سورة الأنفال: الآية 25.

أفسده من الاعتقاد والعمل والأخلاق، فلا ينفع الإيمان إذا لم يكن مع صلاح أو الدخول فيه، وتقدّم القول في الإيمان والصلاح.

والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و(من) موصولة، ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في ما يأتي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»

قوله تعالى: «فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

بيان لحال المؤمنين الصالحين في الدُّنيا والآخرة، فلا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوات ما في أيدهم من الثواب.

والآية الكريمة تطبيق لما قبلها، وعمومها يشمل حال المؤمنين في الدُّنيا والآخرة، فإنّه لا خوف عليهم من عذاب الدُّنيا الذى ينزل بالمكذِّبين الجاحدين، ولا من عذاب الآخرة وعقاب النار الذي أعدّه اللّه للكافرين الظالمين، ولا هم يحزنون من سلب ما أعطاهم اللّه تعالى من النِّعم، وذلك لمعرفتهم بأنّ اللّه عزّ وجلّ هو الربّ العظيم، إنّما يعطى ويمنع لحكمة متعالية، فيسلّمون أمرهم إليه، كما أخبر عزّ وجلّ عنهم: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(1).

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ»

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ».

بيان لحال الفريق الآخر المكذِّبين بآيات اللّه، التي تشمل رسله، وما جاء وا به من الأحكام والمعارف والمعجزات. أي والذين كذبوا ما بلّغه الرسول عند التبشير والإنذار إلى الأُمم، وفي المسّ الإشارة إما إلى أنّ العذاب لا يأخذهم

ص: 327


1- سورة الحديد: الآية 23.

بحيث يعدمهم حتّى يتخلّصوا بالهلاك، أو إلى شدّة العذاب وإيلامه، لأنّه يمسّ جلودهم، وهو استعمال كثير في العرف. وتعريف العذاب يغني عن توصيفه، فهو العذاب المؤلم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ»

قوله تعالى: «بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

أي لسبب فسقهم المستمرّ، وخروجهم عن طور العبودية، والإصرار على الإعراض عن الطاعة والتصديق. والفسق يقابل الإصلاح في المقام، والمكذبون مقابل المؤمنين، فيشمل كلّ فريق ما ذكر في الآية الكريمة على سبيل العموم والإطّراد. وفي الآية ترغيب وترهيب، فلينظر المشركون الظالمون، وليتدبّروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين، فيختاروا أحد السبيلين.

ما يستفاد من قوله تعالى «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّه»

قوله تعالى: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّه».

تفصيل ما أجمله سبحانه في بيان عمل الرُّسل، وتطبيقه على خاتم أنبياء اللّه وسيّد رسله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، و إزالة أوهام المشركين المكذِّبين الذين كانوا يقترحون عليه أموراً عديدة تهكماً وتنكيلاً به، كما حكى عزّ وجلّ عنهم في الآيات السابقة، والخطاب له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باعتباره واسطة الفيض، وللإعلام بأن شانه تبليغ ما أنزل اللّه عليه من خزائن رحمته.

والخزائن جمع خزينة بمعنى المخزون، أو جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الأشياء الثمينة، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي، والمراد منها تلك التي لها ارتباط بشؤون خلقه من النِّعم الباطنية والظاهرية، كالمعارف والرزق ونحوه، وقد بين عزّ وجلّ في مواضع متعددة من كتابه المجيد كثير من مصاديقها، كقوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذا

ص: 328

لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ»(1)، وهو يدلّ على الرزق، ومن آثاره ما ورد في قوله تعالى: «مَا يَفْتَحْ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلَا مُرْسِلَ لَهُ»(2). وأن مصدرها (كن) الذي ورد في قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(3)، فإنّه المبدأ الفياض القادر على كلّ شيء، وإنّما يتقدّر حسب الاستعدادات والقابليات، كما نبّه إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا تُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(4)، فتكون خزائنه سبحانه مقدوراته، تتصف بالملاء فلا نقص فيها، والبقاء والدوام دون نفاذ، والشمول بدون تقييد وتحديد، فهي الكاملة التامّة بغير تناه، ومن دون احتياج إلى الغير، ولا يعجزه بذل وسماحة، ولا تنفذ بإعطاء وجود، وتختلف خزائنه بأنّها لا توجد إلّا بتكوّنه إيَّاها، وإليه يشير ما ورد في الحديث إنّ خزائنه عزّ وجلّ (كن) كما سيأتي.

وأمّا خزائن غيره من مخلوقاته، فهي على نقيض تلك، وأدنى درجات النقص فيها أنّها تتّصف بالإمكان والاحتياج والنقصان، كما قال تعالى: «مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقِ»(5).

والمعنى ليس عندي خزائن قدرته، ولا أدّعي أنّها بيدي وفي سلطاني، أتصرّف فيها بالقبض أو البسط، فأنزل ما يريده المشركون وما اقترحوه من الآيات، ولا ريب أنّ عدم كون خزائن اللّه عنده استقلالاً ينافي أن تكون عنده بإذن اللّه تعالى وتفويض الأمر إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ويتبع ما أذن فيه عزّ وجلّ، ولا يمكن له

ص: 329


1- سورة الإسراء: الآية 100.
2- سورة فاطر: الآية 2.
3- سورة يس الآية 82.
4- سورة الحجر الآية 21.
5- سورة النحل: الآية 96.

التعدّي عنه.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في كثير ممّا ذكره المفسِّرون في المقام، ولا وجه لاختصاص الخزائن بخصوص الرزق، كما ذكره بعضهم، وأنّ الخزائن مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحلّ على الحال، أو اللازم على الملزوم، ولا دليل لهم على ذلك.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ»

إشارة

قوله تعالى: «وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ».

عطف على محل (عندي)، وهو من جملة المقول، و (لا) مؤكدة للنفي، فيكون المنفى أمران، وهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتبرّأ منهما لأنّهما من خواص الأُلوهيّة.

ومرجع المعنى: إنّي لا أقول لكم إنّي إله فاتّصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي، وعلم الغيب، ولعلّه لأجل ذلك لم يكرّر (لا أقوال) لأنهما يرجعان إلى أمر واحد، بخلاف الأمر اللاحق فأعاده، لأنّه شيء آخر.

وكيف كان، فإن المعنى يرجع إلى نفى إحاطته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعلم الغيب فأخبركم به، وقد علمت إنه من صفات اللّه تعالى.

المراد من الغيب

والغيب خلاف الحضور والشهود، فكلما لم يكن حاضراً في المدارك الجسمانيّة ومشهوداتها، يكون في الغيب، ولكنّه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقّق، وهو يستعمل في القرآن الكريم بمعان:

الأوّل: ما أضافه اللّه تعالى إلى نفسه مثل قوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(1).

وقوله تعالى: «وَلِهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2).

ص: 330


1- سورة التغابن: الآية 18.
2- سورة هود: الآية 123.

وقوله تعالى: «وَأَنَّ اللّه عَلامُ الْغُيُوب»(1).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

والمراد به جميع ما سوى اللّه تعالى من حقائق المجرّدات، والمادّيات والجواهر والأعراض، وخواصّها ومبادئها، ومصير أمرها، والقوانين الموضوعة في ارتباط بعضها مع بعض، ومن جملتها حدوثه وبقاءه ومصيره والعوالم التي يرم عليها، وما يبتلى به في مسيرة الحياة، وغير ذلك.

الثاني: ما غاب عن الناس من الموجودات والعوالم، كعالم الملائكة، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة، وجميع ما أنزله اللّه من الأحكام، بل نفس القرآن فإنّه وإن كان مشهوداً من جهته ولكنّه من الغيب من جهة أُخرى، وغير ذلك ممّا هو كثير، وهذا هو المراد من قوله تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»(2).

الثالث: ما ينبغي ستره وحفظه، كما في قوله تعالى: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ»(3)

وقوله تعالى: «ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ»(4).

الرابع: ما حدث ومضى، كقوله تعالى: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ»(5).

وقوله تعالى: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يختصّمُونَ»(6)، وغيرهما من الآيات.

ص: 331


1- سورة التوبة: الآية 78.
2- سورة البقرة: الآية 3.
3- سورة النساء: الآية 34.
4- سورة يوسف: الآية 52.
5- سورة يوسف: الآية 102.
6- سورة آل عمران: الآية 44.

والمراد في المقام الصلاحية بحسب الطبع الإنساني، أن يكون عالماً بما لا سبيل بحسب العادة إليه ممّا هو مستور عن الإنسان من خفيّات الأُمور، وهذا يناسب المعنى الأوّل، وهو الذي كان الكافرون يرغبون العلم به، وكان عمدّة طلبهم منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذلك.

ثمّ إنّ علم الغيب المنفي في الآية، هو المطلق منه دون الإضافي الذي يمكن العلم به إذا تهيّأت الأسباب المؤديّة إليه، كالرياضات النفسيّة، والمجاهدات الشخصيّة التي تجرّد النفس عن المادّة، فتعلم ما وراءها بقدر الإمكانات المتاحة لها، أو تعلم ما يؤدّي إليه، كالعلوم الحديثة التي اكتشفها العلماء بفضل جهودهم العلميّة، وقد كانت مجهولة للسلف مع وجود الاستعداد في الإنسان، أو ما يفيض علمه إلى بعض الأولياء كرامةً لهم، وهو على ضربين:

فإمّا أن يفيض سبحانه الأساليب إليهم، وهم يستنبطون اللوازم والمسبّبات ويلقونها إلى الناس، فيعدّونه من المعجزات.

أو يفيض عليهم المسبب والأثر دون السبب، وهذه هي المعجزة التي اعترف العلماء بكونها من اللّه تعالى، وهي تختصّ بالأنبياء والأوصياء لاقترانها بالتحدي، ويرشد إليه قوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...»(1).

ثمّ إنّ جملة: «وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» منصوبة عطفاً على محلّ قوله «عندي خزائن اللّه»، لأنّه من جملة المقول.

ورد بأنّه لا يتعيّن ذلك، بل يمكن أن تكون معطوفة على (لا أقول) لا معمولة له، فقد أمر اللّه رسول أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث، فتكون معمولة

ص: 332


1- سورة الجن: الآية 26.

للأمر الذي هو (قل)، ولكن غاير في متعلّق النفي، فنفي الثاني والثالث ولم يأت التركيب (ولا أقول) في الثاني، وسيأتي مزيد بيان.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكَ»

قوله تعالى: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكَ».

جواب ثالث بما سأله المشركون، حيث إنّ الأوّل جواب لقولهم إن كنت رسولاً فسل اللّه حتّى يوسع علينا خيرات الدُّنيا، والثاني جواب إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل، والثالث جواب قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وقد حكى عزّ وجلّ عنهم أقوالهم فى كتابه المجيد.

والملائكة جنسٌ خلقه اللّه تعالى اختلفوا في فضلها على البشر، والإماميّة اتّفقوا على أفضلية الأنبياء والرُّسل وتقدّمهم عليها، والآية ردّ على زعم المشركين بأنّ الملائكة أفضل، لأنّها تأتى بأُمور لا يقدر عليها أحد من البشر، فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ينفي عن كونه ملكاً، والجملة كناية عن نفي أثر المَلَكيّة إمّا بنفي الأفاعيل التي لا يطيق بها البشر، كالرقيّ إلى السماء ونحوه، أو بعدم الاتّصاف بصفاتهم، كما أراده المشركون منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وقد حكاه عزّ وجلّ عنهم في قوله: «مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ»(1).

وقد نفى سبحانه الأمرين عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ»(2).

ولعلّه لأجل ما ذكرناه من أنّ الآية في مقام نفى ما كانوا يقترحونه عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فقد نفى عنه أثر المَلكيّة من دون أن يقول: إنّى أنا بشر

وكيف كان، فإنّه يستفاد من نفى الأُمور الثلاثة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): أُمور

ص: 333


1- سورة الفرقان: الآية 7.
2- سورة فصلت: الآية 6.

الأوّل: كون الرسول المبعوث إلى الناس، إنّما شأنه تبليغ الأحكام، ووظيفته التبشير والإنذار.

الثاني: إيقاف التهكّم بمقام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بكثرة السؤال منه، وتكرار الاقتراح عليه، كما حكى عزّ وجلّ فيما سلف من الآيات، والجواب عنها، كما صرّح به في آية أُخرى، قال تعالى: «قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرًا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(1).

الثالث: الردّ على من اعترض على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّه يجب أن يكون ملكاً يأتي بأفعال تناسب شأن الملائكة، والابتعاد عن أعمال تشابه أعمال الناس، كما حكى عزّ وجلّ عنهم: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكَ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً»(2).

الرابع الإعلام بأنّ الرسول فردٌ من أفراد البشر، خصّه اللّه عزّ وجلّ بأشرف الكمالات، وهي الرسالة وإبلاغ الدعوة الدينيّة إلى الناس كافّة، وهو لا يختلف عن متعارف أفراد الإنسان، فله مشاعره وأحاسيسه، فليس هو بباله، ولم يدّع ما هو خارج عن طور البشرية من الصفات الخاصّة بالأُلوهيّة.

الخامس: تبين الآية الكريمة ضلال المشركين في فهم الرسالة الإلهيّة، كما جهلوا مقام الربوبيّة، فتارةً يجعلونها من صفات الأُلوهيّة، وأُخرى من شؤون الملائكة، وثالثة جهلهم بوظيفة الرُّسل وأعمالهم، والآية تبيّن ما جهلوه بوضوح، وتبيّن فسقهم وظلمهم.

ص: 334


1- سورة الأعراف الآية 188.
2- سورة الفرقان: الآية 7.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ»

قوله تعالى: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ».

بيان لحقيقة الرسالة، وتعيين عمل الرسول، بعد بيان وظيفته، وهي بأسلوبها البليغ الوجيز تؤكّد ما نفاه الرسول عن نفسه آنفاً، وترشد المؤمنين إلى أنّه يجب عليهم العمل، كما يعمل الرسول من اتّباعه لما يوحى إليه، كما إنّها تبيِّن أنّه رسول اللّه فليس عنده خزائن اللّه، وليس هو بعالم الغيب، وليس هو بمَلَك، وأنّه مأمور بمتابعة ما يُوحى إليه، فهو كغيره من أفراد الناس مأمور باتّباع ما أؤتمن عليه.

والوحي ما يلقي الى الأنبياء من اللّه سبحانه، وهو إمّا يثبت بلسان المَلَك، والقرآن مثل هذا القبيل، أو ما يثبت بإشارة المَلَك من دون كلام، وإليه أشار بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): « إنّ جبريل نفث فى روعى: إنّ نفساً لن تموت حتّى تستمكل رزقها».

أو ما يبدي لقلبه ويظهر فيه بلا شبهه، وهو الإلهام من اللّه تعالى بأن يريه بنورٍ من عنده، كما قال تعالى: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه»(1).

ومن ذلك يظهر أنّ اجتهاد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يخرج عن أحد تلك الوجوه لا سيما الأخير، فلا وجه للنزاع في اجتهاده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وأنّه هل يحكم به - كما عليه العامّة فإنّه قصور في الفهم.

وفي الآية ترتيب في النفي على سبيل الترقّى من عامّ إلى خاصّ إلى أخصّ، فقد جاء النفى أوّلاً ما يتعلّق به رغبات الناس من ملكية الخزائن لا سيما الأرزاق، ثمّ نفي ثانياً ما يتعلّق بل تتشوق إليه النفوس الفاضلة من معرفة الغيب ما يجهلونه، والتعرّف على ما يقع في الكون، ثمّ نفى ثالثاً ما هو مختصّ بذاته الشريفة صفة المَلكيّة التي هي مباينة لصفة البشرية، ثمّ أخيراً حصر ما هو عليه في أحواله كلّها بقوله: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ »من غير أن يكون لي دخل في الوحي أو في

ص: 335


1- سورة النساء: الآية 105.

الموحى، ولا أثبت لنفسي شيئاً وراء ذلك ممّا ذكر سابقاً.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأعمّى وَالْبَصِيرُ»

قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأعمّى وَالْبَصِيرُ».

مثال قرآني يضرب به في كلّ مورد يراد منه تمييز الحقّ من الباطل مع كمال ظهورهما، والأعمّى مثالٌ لمَن فقد البصيرة والتمييز، ويقابله البصير الذي هو على الاهتداء، فيشمل الضالّ والمهتدي، والجاهل والعالم، ومدّعى الاستحالة كالمَلَكية. ومدّعى الإستقامة والنبوّة.

والاستفهام إنكاري، أي إنكار استواء من لا يعلم الحقائق ومن يعلمها والناظر المفكر فيها، وفيه الترغيب إلى الاهتداء، والتنفير عن الضلال.

وتطبيق الآية على المورد يعطي أن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على بصيرة من أمره باتّباعه ما يوحى إليه، وإن ساوى غيره في كونه بشراً عاجزاً من حيث نفسه، فهو بصيرٌ وغيره أعمّى، فلا يستويان في الحكم، ويكفي التفكير في أمر الفريقين أنّه يهدي الإنسان إلى الحكم والقضاء بينهما، لكمال ظهوره، فيجب على الأعمّى اتّباع البصير، كما يتّبع الجاهل العالم.

وفيه الدلالة على أنّ العمل بمقتضى الوحى يجري مجرى البصير، والعمل بغيره يجري مجرى الأعمّى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ»

قوله تعالى: «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ».

تقريع لهم بأنّهم لا يتفكّرون في ذلك ليميزوا بين أسباب الضلال، كالشرك وموجبات الهداية، كالتوحيد والإيمان باللّه، وبين ادّعاء الحقّ والباطل، فاتّباعُ ممّا لا محيص عنه، فتكون الجملة تذييلاً لما مضى من أوّل السورة، فالاستفهام للتقرير والتوبيخ.

والجمهور ذكروا إنّه عطف على مقدر يقتضيه المقام، أي لا يستمعون هذا

ص: 336

الكلام الحقّ فلا تتفكّرون، فجعلوا مناط التوبيخ عدم الأمرين من الاستماع والتفكّر.

ولكنّه تطويل بلا طائل تحته، والمقام أوضح من أن يحتاج إلى التقدير، مع أنّ التفكير في الموضوع يستدعي الاستماع إلى الحقّ والنظر إليه، ومعناه الأمر، أي تفكّروا ولا تكونوا ضالين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ»

قوله تعالى: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ».

بيان لأحد موارد الإنذار بعد الإخبار، بأنّه لا يتّبع إلّا ما يوحى إليه أمره عزّ وجلّ أن ينذر به، وبيان حقيقة الرسالة، فلابدّ أن يكون الإنذار تخويفاً لهم من الإعراض، لأنّ من الكفّار من لا يتّعظ بالنذر الإلهيّة ولا يتأثّر بالمواعظ، فهم كالأموات فلا يفيدهم التذكار، ومنهم من يتوقع منهم الانتفاع ويُرجى منهم السماع ممّن يخافون الحشر إلى ربّهم، وهم على طوائف أيضاً فإنّ منهم المفرطين في العمل من المؤمنين، كما أنّ منهم الكافرين من أهل الكتاب. أو المشركين المعترفين بالبعث على الإجماع، ولا ريب أنّ الإنذار والتخويف إنّما یؤثّر في ما إذا كان المورد قابلاً لتقريب الدعوة الدينيّة إلى أفهامهم، وهم الذين خصّهم اللّه تعالى بالذكر.

وأمّا المنكرون للحشر رأساً، فلا ينفعهم الإنذار، نظير قوله تعالى: «إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ»(1).

وقوله تعالى: «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ»(2).

ثمّ إنّ الأمر بإنذار خصوص هذه الطائفة، لا ينافي عموم الإنذار للناس جميعاً، كما دلّت عليه الآيات الكريمة، كقوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْآنُ

ص: 337


1- سورة فاطر: الآية 18.
2- سورة يس الآية 11.

لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»(1).

ويستفاد من الآية الكريمة أن الخوف في النفس، إنّما يوجب تلقى الإيمان بالقبول، أو الاستفادة من المؤثّرات الغيبيّة، فيما إذا كان من الحشر إلى الربّ العظيم التماساً منه أن يرحمهم، ويوفّقهم في الدخول في زمرة الموحّدين. ومنه يظهر أن المراد كلّ من يستشعر بالخوف من الحشر في قلبه إذا ذكّر بآيات اللّه تعالى، بلا فرق بين أن يؤمن بالحشر أو لا يؤمن فإنّ مجرد احتمال الحشر كاف في غشيان الخوف، وإن لم يستيقن بتحقّقه، كما هو المعروف في حقيقة الخوف الذي هو صفة نفسانية تحصل من مجرّد الاحتمال الذي يجتمع مع الظنّ والشكّ وغيرهما. وممّا ذكرناه يظهر فساد ما ذكره جمع من المفسّرين في المقام.

ما يدلّ عليه قوله تعالى «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ»

قوله تعالى: «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ».

بيان لنفي الولاية مطلقاً عن غيره سبحانه ممّن يدعيه المشركين وغيرهم من الكافرين، إلّا إذا أذن اللّه لمن اصطفاه بالشفاعة، كما قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(2).

وقال تعالى: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(3)، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي بها يقيّد إطلاق النفي في آية المقام.

والجملة في موضع الحال من مرفوع ( يحشروا)، فإنّ المخوف هو الحشر على هذه الحال.

ص: 338


1- سورة الأنعام: الآية 19.
2- سورة البقرة: الآية 255.
3- سورة الزخرف: الآية 86.

والآية تبيِّن حقيقة من الحقائق الإلهيّة، وهي انحصار الشفاعة فيه عزّ وجلّ، وتبيّن بطلان ما يعتقده المشركون في الأوثان والأنداد، بإثبات الولاية لها وشفاعتها على نحو الاستقلال، من دون جعل وإذن، لأّن الاستقلال فيهما يتبع العلم والتوحيد والنبوّة، وهم ينفونها ولا يعتقدون بهما، وقد عرفت فيما سبق من لبحوث أنّ المشركين أثبتوا للشركاء والأنداد صفات معيّنة، تضاهي بعض صفات اللّه تعالى، لا سيّما تلك التي تثبت استقلالها في التصرّف، والقدرة ممّا دعاهم إلى اعتقاد الولاية والشفاعة لها وإن كانت مخلوقة. وإنّ إيجادها يستلزم الإذن في الولاية بالتصرّف والشفاعة اضطراراً حسب اعتقادهم.

ومن هنا يظهر الوجه في عدم ذكر الاستثناء في المقام، كما ذكرنا في غيره ممّا عرفت، لأنّ السياق في المقام يقتضي النفي المطلق للولاية والشفاعة عن غيره عزّ وجلّ، إبطالاً لاعتقادهم في الشركاء والأوثان بانّها أولياء وشفعاء، من غير تقييد بالإذن منه عزّ وجلّ، فالاستثناء في غير هذا الموضع وإن كان يستدعيه السياق، وهو في المقام يقتضي عدمه، كما عرفت.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»

قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

تعليل للأمر بالإنذار، أي لكى يتقوا اللّه بالخوف من مقامه، والأنتهاء عن الكفر والتقوّل على اللّه سبحانه من غير علم، والثبات على الإيمان، وتخصيص التقوى بالذكر، لأنّ بها يتخلّص عن الملكات السيّئة ويتحصّل على الكمالات.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ»

قوله تعالى: «وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ».

بيان لتطبيق أهمّ وظيفة من وظائف الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّه لما أمره سبحانه بالتبشير والإنذار، لا سيما المذكورين في الآيات السابقة من المشركين والكافرين، لعلّهم يرجعون إلى الطاعة وينتظمون في سلك المتقين، وهذه الآية

ص: 339

ترشد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأدب عظيم، له مساس كبير في تثبيت دعائم التوحيد، وترسيخ الرسالة، وتقريب الناس إلى الطاعة، وهو استواء المنذَرين (بالفتح) بالنسبة إلى أصل التبليغ، ومعرفة الشريعة والأحكام الإلهيّة، من دون فرق بينهم لا من حيث القوّة والضعف، ولا الغنى والفقر، ولا السيادة والعبودية، ولا الرئاسة وغيرها ممّا هو دائر في المجتمع الإنساني، فهو يبلّغ دين اللّه وما أوحي الذي يستوي فيه الجميع على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، كيف وقد أُرسل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رحمةً للعالمين، المعروفة وهي من سيرته المباركة المباركة التي بيّنها القرآن الكريم فى مواضع كثيرة. ولقد استفاد الناس من سيرته العطرة، فكان أوّل من دخل في الإسلام همّ الضعفاء الفقراء، ووجدوه ملجاً وملاذاً لهم، وكان أعداؤه المترفون هم الذين يشنّعون عليه، ويتعلّلون بأنواع متعدّدة من العلل والمعاذير في الابتعاد عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولم تكن هذه السيرة مقتصرة عليه، فهي سيرة الأنبياء السابقين عليه سلام اللّه عليهم أجمعيّن، وابتلوا أيضاً بمثل ما أُبتلي سيِّدهم على الإطلاق، من عداوة المترفين لهم من الرؤساء وذوي النفوذ في المجتمع، الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بالملأ، الذين كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان استكباراً وتعزّزاً، ولأجل هذه النظرة الاستحقارية، كانوا يعدّون أنفسهم معذورين في اتّباع الرُّسل وربما كانوا يقترحون عليهم بطردهم وإبعادهم، كما حكى عنهم عزّ وجلّ، فقال: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاَ وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِين»(1).

وقال تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ

ص: 340


1- سورة سبأ: الآية 35.

أَثَاثاً وَرِنْياً»(1).

وعن كفّار،قریش قال تعالى: «لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ»(2).

وعن الملأ من قوم نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ»(3).

كما حكى سبحانه عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) جوابه عنهم بطرد المؤمنين، فقال: «وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللّه إنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ»(4).

وتشبه الآيات التي تحكي عنه محاجة قوم نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه، وجوابه عنها ما ورد في هذه الآيات الكريمة من الحجاج.

وسياق هذه الآية الكريمة وما بعدها يرشد إلى أنّ المشركين من قومه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اقترحوا عليه أن يطرد الضعفاء من المؤمنين أيضاً، فالنهي قد تعلّق بذلك، فتشابهت أفكار الأُمم، ولم يعتبر اللّاحق من السابق.

والمعنى: ولا تطرد أيّها الرسول المؤمنين الذين يلجئون إلى ربّهم بالدُّعاء، والصلاة في جميع أوقاتهم، رغبة في التوفيق وطلباً للمغفرة.

والغداة أصله غدوة، قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقرأ ابن عامر هنا وفي سورة الكهف الغدوة، ويساعده رسم المصحف الشريف. كما أنّ العشي أصله عشوي قلبت الواو ياء وأُدغمت في الياء طبقاً للقاعدة.

قيل: إنّه مفرد كالعشيّة، وجمعه عشايا وعشيات، وقيل: هو جمع عشيّة،

ص: 341


1- سورة مريم الآية: 73.
2- سورة الأحقاف: الآية 10.
3- سورة هود: الآية 27.
4- سورة هود: الآية 30.

وفيه بعد. والمراد من الأوّل البكرة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، والثاني آخر النهار. وإنّما خصّهما سبحانه بالذكر، إمّا كناية عن الزمان الدائم، كما يقول: الحمد لله بكرة وأصيلاً، أي استغرقت أوقاتهم بالصلاة والدُّعاء، والكناية بطرفي الشيء عن جملته شائع، فيكون في التخصيص المزبور قرينة الشغل فيهما غالب على الناس.

وقيل: إنّ المراد منهما صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما في الجماعة، فيكون المراد من الدُّعاء الصلاة.

وقيل: المراد الدُّعاء في أوّل النهار، ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبةً في التوفيق، واختتامه بالدّعاء طلباً للمغفرة.

ثمّ إنّ المشهور أنّ منع صرف غدوة وبكرة للعلمية الجنسية، وقيل للعلمية الشخصية، والفرق بينهما أنّ الأولى أسماء أجناس خصصت بفرد معيّن ثمّ جهل وأُبهم، وصار اللفظ يطلق على كلّ فرد، بخلاف الثانية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «يُريدُونَ وَجْهَهُ»

إشارة

قوله تعالى: «يُريدُونَ وَجْهَهُ».

جملة حالية من فاعل يدعون وهو العامل في الحال. أي يدعون ربهم مریدین وجهه سبحانه، مخلصين في عبادتهم لله سبحانه، وتقييد الدُّعاء به للتنبيه على أنّه الملاك في الحكم، وإشعاراً بأنّه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم، والجملة تُنبئ من معان سامية يعرفها كلّ عابد له حسّ عرفاني، فإنّ التوجه إلى اللّه بالعبادة من أقصى الغايات عندهم، يحاول كلّ واحد من العرفاء الأنتهاء إليه بعد تجاوز العقبات الكثيرة وشدّتها، وتعلّق النفس بها والمجاهدة في الابتعاد عنها، فالمراد من الوجه هو اللّه المعبود المنزّه عن صفات الجلال، جمال كلّ عابد، نور القلوب، وقرّة عين العارفين، ولما كانت الجسمانية تستحيل بالنسبة إليه عزّ وجلّ

ص: 342

المراد من الوجه

فقد وقع الخلاف في تعيين المراد من الوجه الذي يطلق على معان:

الأوّل: الجارحة، كما قال تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ»(1).

وقوله تعالى: «وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ»(2).

الثاني: ما يستقبل من كلّ شيء، ولذا استعمل أشرف ما في ظاهر البدن فيه.

الثالث: أشرف كلّ شيء، كما يقال: وجه القوم.

الرابع: مبدأ الشيء، كما يقال: وجه النهار.

الخامس: الذّات، كما في قوله تعالى: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(3) أي ذاته، كما قيل.

السادس: التوجّه إلى اللّه تعالى بالأعمال الصالحة، كما في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ»(4).

السابع: الكناية به عن المحبّة وطلب الرضا، لأنّ رؤية الوجه من لوازم المحبّة.

الثامن: التعظيم، كما يقال: هذا وجه الرأي، وهذا وجه الدليل.

التاسع: الذّات عن طريق الأوصاف والأسماء، فإنّها طريق المعرفة للذّات، وإلّا فلا يمكن الاتصال بغيرها إذ الحواس إنّما هي التي تدرك وتكون معرفة الأشياء عن طريقها من دون أن تنال الماهيات، وإذا تحقّق إدراكها إدراكاً فكرياً إنّما يكون بضرب من النسبة والقياس إلى الأوصاف، وهو في الماهيات الإمكانية واضح.

ص: 343


1- سورة المائدة: الآية 6.
2- سورة إبراهيم: الآية 50.
3- سورة الرحمن: الآية 27.
4- سورة الرعد: الآية 22.

وأمّا بالنسبة إليه عزّ وجلّ، الذي لا يمكن درك ذاته المقدّسة، فالأمر أوضح، فإنّه بعد عدم إمكان الإحاطة العلميّة به عزّ وجلّ، كما قال تعالى: «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً»(1)، لا بالنسبة إلى الذّات ولا بالنسبة إلى الأوصاف التي لا حد لها، «وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّوم»(2). وحينئذٍ فإنّ التوسّع في معنى الوجه من المعنى الحقيقي إلى مطلق ما يستقبل به الشيء، يقتضي أن تكون الجهة أو الناحية التي تنتهي إليها الإشارة، وتكون حدّاً لها وجهاً بالنسبة إلى ذلك الشيء، وبهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها اللّه تعالى، والأعمال الصالحة وجهاً للشيطان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصفات الإلهيّة، سواء كانت ذاتية أم فعلية، التي يمكن معرفتها ولو كانت بنحو خاصّ، كما عرفت، فإنّها وجهه تبارك وتعالى يستقبل بها خلقه، ويتوجّهون إليه سبحانه من جهتها، كما يشعر بعض الآيات، كقوله تعالى: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(3)، إذا جعلنا قوله: «ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» نعتاً للوجه دون الربّ.

ولكن الذي ينبغي أن يُقال: إنّ ما ذكر وإن كان توجيهاً صحيحاً، ولكنّه تبعيد للمسافة، بل إنّ الوجه ما أنبأ عن توجّه العامل إلى الطرف الذي عمل لأجله، خالصاً من كلّ ما يشوبه من الانحراف، ليكون أقرب إلى الإخلاص، كما هو عادة المؤمنين الذين يدعون اللّه سبحانه متوجّهين إليه، وحده، مخلصين له تعالى ابتغاء مرضاته، من دون شوب رياء وسمعة، ولا يرجون غيره ثواباً، كما قال حكاية عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) المطعمين للطعام: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا

ص: 344


1- سورة طه الآية 110.
2- سورة طه الآية 111.
3- سورة الرحمن الآية 27.

شُكُوراً»(1)، فهذا هو المراد من ابتغاء وجه اللّه، ومن المعلوم أن له مراتب كثيرة مروراً بالصفات والأسماء حتّى تبلغ مرتبة الذّات المقدّسة، كما قال سيِّد العارفين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بل وجدتك أهلاً للعبادة»، فتتعلّق الإرادة بالحقّ سبحانه والتحرّز ممّا سواه، وحينئذٍ لا يبقى لصاحب الإرادة قرارٌ حتّى يجد لذّة الوصول والزُّلفى لديه عزّ وجلّ. ومن ذلك يظهر وجه النقاش في ما ذكره المفسِّرون في المقام، فراجع

ما يتعلّق بقوله تعالی «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»

قوله تعالى: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ».

إرشاد لرسوله العظيم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن محاسبة أعمال العباد ليست على عاتق الرسول، ولو لم يكن راضياً بهم، أو كارهاً مجاورتهم، حتّى يوجب طردهم، فينتفي الأمران الحساب والطرد حينئذٍ.

والحساب استعمال العدد في العمليات الحسابية المعروفة، وإنّما يستعمل في الأعمال باعتبار الجزاء المترتّب عليه، بقرينة تلك العمليات من جمع وطرح. ولا ريب أنّ توفيقة الجزاء إنّما تكون من اللّه سبحانه، فيكون الحساب عليه عزّ وجلّ، وهو من شؤون الربوبيّة العظمى، كما قال تعالى: «إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبّى»(2)، وهو أثر من آثار ملكيته المطلقة وسلطانه التامّ، كما قال تعالى: «إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً»(3).

ثم إنّ الوجه في ذلك: إمّا إنّ جعل حسابهم على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يوجب خوف مجازاتهم وهو يستلزم الطرد أو يكون إرشاداً إلى ما يترتّب عليه من الطرد،

ص: 345


1- سورة الدهر الآية: 9.
2- سورة الشعراء: الآية 113.
3- سورة النساء: الآية 86.

للإيهام بأن للأعمال أثقالاً يكلّ كلّ طرف أن يحمله. وحينئذٍ يكون الكلام تامّاً. ولو لم تكن الجملة التالية: «وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ». ولعلّه يرجع إلى إتمام جميع أطراف الاحتمال، أو التأكيد. أو يكون المراد منه حساب الرزق دون حساب الأعمال، والمعنى نفي رزقهم عليك، فيكون ثقلهم عليك، لأنّهم فقراء ضعفاء، مع أنّه لا يمكنه ذلك أنّه لا يمكنه ذلك بحسب الظاهر فتطردهم، فاللّه يرزقهم وعليه حساب رزقهم، وعليه تكون الجملة اللاحقة للتأكيد والتتميم، كما عرفت.

ولكن الأوجه من الاحتمالات هو الأوّل منها، لكونه مبيناً لوظائف الرسول وشؤون الرسالة، وتعيين مهمات الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، والتأكيد على إحاطته العلميّة والربوبيّة، فلا تخلو عن ارتباط بالآيات السابقة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ»

قوله تعالى: «وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ».

تأكيد لمضمون الجملة السابقة، لأنّ الجواب قد تمّ قبله، وهو انتفاء كون حسابه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليهم، ولاستيفاء أطراف الكلام، فالمعنى لا يؤاخذ كل واحد منك ولا منهم بحساب صاحبه، أو للإعلام بأنّ حساب إيمانهم في الباطل عليهم لا يتعدّاهم اليك، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، وعلى كلّ حال فإنّهم لمّا اتّسموا بسيرة،المتّقين، وجب عليك إكرامهم.

وفي تقديم خطابه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الموضعين إمّا للتشريف، وإلّا كان بحسب الظاهر أن يكون «وما عليهم من حسابك من شيء» بتقديم على ومجرورها، كما في الأوّل. أو تقديم «عليك» في الجملة الأولى، قصداً لإيراد النفي على اختصاص حسابهم به (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، إذ هو الداعي إلى تصديه لحسابهم.

أو لأنّ التقديم في الموضعين جاء على الأصل في اللّغة وهو تقديم الأهمّ، وفي الأوّل النفي وفي الثاني المنفي.

ص: 346

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ»

قوله تعالى: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ».

أي فتدخل في زمرة الظالمين والمعروف بين المفسّرين أنّه جواب للنهي »ولَا تَطْرُدُ الَّذِينَ»، فيكون جواب كل من النهي ومن النفي على ما يناسبه.

والمعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم على التقديم والتأخير.

وقال الزمخشري: إنّه عطف على «فَتَطْرُدَهُمْ».

واعترض عليه بأنّ الطرد المسبب عن كون حسابهم عليه لا يصير سبباً لكونه من الظالمين، لأنّه لدفع الضرر عن نفسه.

كما أنّه أورد عليه بأنّه يشتمل على تفريع الشيء على نفسه، أي ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم.

ولكن الجواب عنهما سهل.

وذكر بعضهم بأنّ ما ذكره الزمخشري صحيح، باعتبار أنّ مقتضى نظم الكلام أن يكون عطفاً على أوّل الآية، إلّا أنّ الكلام لمّا طال بتخلّل جمل متعدّدة بين المتفرّع والمتفرّع عليه أعيد لفظ الطرد ثانياً في صورة الفرع، ليعطف عليه بنحو الاتّصال، ويرتفع اللّباس، فيكون إعادته لإيصال الفرع إلى أصله.

وفيه من التكلف ما لا يخفى، ولكن الأمر سهل.

وأمّا وجه الدخول فى زمرة الظالمين، لأنّ الطرد إمّا منهىّ عنه، فيكون عنه ارتكاباً لما هو منهى عنه فيكون ظالماً، أو لأنّه مناف بشأن من شؤون الرسالة ممّا يوجب تنفر الناس عن الإيمان، وهو ينافي مصلحة الدعوة، أو لأنّ الطرد لم يفوّض إليه حكمه، فيكون حكماً بغير ما أنزله اللّه تعالى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ»

قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ».

ص: 347

بيان لسنّة إلهية جارية في الناس منذ ابتداء الخليقة، نابعة من حكمة متعالية، فإنّ اللّه عزّ وجلّ خلق البشر متفاوتين من جهات شتّى يقع بعضهم فتنة لبعض، فتظهر حقيقة صفاتهم، وما تحمله سرائرهم من حسن أو سوء، ولينتظم النظام العام، وفوق كلّ ذلك تتبيّن حقيقة الربوبيّة العظمى، وقدرته المتعالية وحكمته التامّة، وقد أشار سبحانه إلى هذه السنة المباركة في الذكر الحكيم في مواضع متفرقة، قال تعالى: «وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً»(1).

وقال تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ»(2).

وقال تعالى: «أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»(3).

إلى غير ذلك من الآيات.

وقد أخبر سبحانه رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ هذا التفاوت والاختلاف، إنّما هو ابتلاء ربّاني، وامتحان إلهي يمتحن بها الناس، ويختبر بها حقائق نفوسهم، وإظهارها لهم، وكان من أظهر المصاديق ما وقع في الأُمم السابقة مع أنبيائهم، وما أخبر سبحانه في آيات كثيرة منها المقام، كقوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(4).

والفتنة الامتحان والإختبار، وقد عرفت أن أسبابها مختلفة:

منها ما ذكره سبحانه في ما يأتي في قوله: «أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا»، فإنّ ظاهر الاستفهام هو التهكّم والاستهزاء، فأبتلي بعضهم ببعض في أمر الدِّين، فتقدّم الضعفاء على أشراف قريش بالسوابق إلى الإيمان.

ص: 348


1- سورة الزخرف: الآية 32.
2- سورة الأنبياء: الآية 35.
3- سورة التغابن: الآية 15.
4- سورة العنكبوت الآية 3.

ومنها استهزاء الأقوياء من الضعفاء واستحقارهم والاستهانة بهم، لكونهم من الفقراء، وانحطاط قدرهم عندهم استكباراً منهم.

ومنها: تقريب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للفقراء المؤمنين والعبيد الذين انتحلوا هذا الدِّين، واعتنائه بهم، ممّا كان في نظر الطغاة المستكبرين دليلاً على هوان أمر الدِّين عندهم، وعدم الالتفات إليه من هؤلاء الشرفاء المزعومين.

وغير ذلك ممّا حكاه عزّ وجلّ عنهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا»

قوله تعالى: «لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا».

اللّام في «لِيَقُولُوا» للعاقبة، أي ليترتب على تلك الفتن، أن يقول المفتونون من الأقوياء المستكبرين في شأن الضعفاء، تحقيراً لهم وتعامياً عمّا هو مناط التفضيل حقيقة: أهؤلاء ممّن أنعم اللّه عليهم بالهداية والتوفيق دوننا، ويرجع هذا الاستبعاد والتعجيب منهم إما إلى الحسد من المؤمنين، أو الاستكبار منهم، أو الظنّ منهم إن دخلوا في الإسلام لانقادوا للمؤمنين، وهذا يشقّ عليهم، وقد حكى عزّ وجلّ منهم: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ»(1)، فكان كلا الفريقين المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه، ينظر الثاني إلى الأوّل نظر استحقار وذلّة والأوّل يخاف من سطوة الثاني، كما قال تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ»(2).

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ»

قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».

بيان لملاك التفاضل بينهم، وردّ على زعمهم الفاسد، وجواب عن

ص: 349


1- سورة الأحقاف: الآية 11.
2- سورة الأنفال: الآية 26.

استهزائهم المُبنئ عن الاستبعاد المذكور في الآية السابقة، أي اللّه أعلم بمن يشكر فيهديه دون من يكفر فيخذله، ولا ريب أنّ الشكر إنّما يصدر عن معرفة، فالمؤمنون يشكرون اللّه تعالى على هدايتهم للإيمان، وهو يمنّ على من يشكر نعمه، وفيه التعريض على أنّهم بعيدون عن ذلك.

والجملة. كناية عن تحقّق شكرهم دونهم، ومن حسن البلاغة أنّه جاء لفظ الشكر وهو يناسب ذكر الإنعام في الآية السابقة

ثمّ إنّ الشكر إمّا قولي أو فعلى، ومورده جميع النِّعم الإلهيّة على الشخص أو العباد، ومنه التوحيد ونفى الشريك، كما قال تعالى حكاية عن يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَا كَانَ لَنَا أَنْ تُشْرِكَ بِاللّه مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللّه عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ»(1)، وتقدّم الكلام فى هذه الصفة الحميدة، فراجع.

وعلم اللّه تعالى بالشاكرين، يقتضي الثواب والجزاء على شكرهم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا»

قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا».

تكريم للمؤمنين الذين حكى اللّه حالهم في الآيات السابقة، وتلطّف بهم، ولكن اللّفظ عام فيهم وفي كلّ مؤمن يجيء إلى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّه بعد أن نهى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن طردهم ابتداء، ثمّ بيّن أنّهم يدعون اللّه غدوة،وعشياً، ثمّ أكرمهم بأنّهم ممّن منَّ اللّه عليهم، كما وصفهم بأنّهم من الشاكرين، وفي هذه الآية يصفهم عزّ وجلّ بأنّهم يؤمنون بآياتنا، كلّ ذلك يدلّ على أنهم حازوا فضيلتى العلم والعمل، وإن كانوا على تفاوت ودرجات في الإيمان، كما ينبئ عنه الآيات، لا سيما آيات المقام.

وأسلوب الآية الكريمة يدلّ على الاستمرار والشمول، فيكون مضمونه

ص: 350


1- سورة يوسف الآية 38.

غضّاً طريّاً مستمرّاً إلى يوم القيامة، وإرشادٌ لهم بالدخول في الإيمان، والاستفادة من الآيات الإلهيّة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ»

قوله تعالى: «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ».

تكريم للمؤمنين بابتداء السلام من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليهم، والسلام والسلامة بمعنى واحد، وهما مصدران من الثلاثي، يُقال: سلم فلان من البلاء سلاماً وسلامة، ومعناهما العافية والبراءة، كما أنّ السلام مصدران من الرباعي، يقال: سالمه، أي بارءه وتاركه، والسلام من أسماء اللّه تعالى الحسنى، وهو يدلّ على تنزيهه عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه، والسلام تحية الإسلام يستعمل معرفة ونكرة، يقال: سلام عليكم والسلام عليكم، وهو بمعنى الدُّعاء بالسلامة من كلّ ما يسوء. ولذا كان تأمين المسلّم عليه من أذى المسلّم، فصارت علامة المودّة والمحبّة، وهو تحيّة أهل الجنّة أيضاً، كما صرّح به القرآن الكريم. وتقدّم الكلام فيه، فراجع.

واختلف المفسِّرون في هذا السلام:

في أنّه تحية من اللّه تعالى أمر رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبدأ به الذين يؤمنون بآياته إذا جاءوه تلطفاً بهم.

أو هو تحيّة من الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للمؤمنين بآيات اللّه سبحانه أمره عزّ وجلّ به.

أو هو إخبار عنه بسلامتهم وأمنهم من عقابه، ثمّ أردفه ببشارتهم بمغفرته ورحمته.

والظاهر هو الثاني، ويلازمه البقيّة تطيباً لنفوسهم، وسكناً لقلوبهم، واطمئنانهم بالدخول في كنف،رحمته، وفي الآية تعليم للمؤمنين بإفشاء السلام،

ص: 351

والدُّعاء بالسلامة

ما يتعلّق بقوله تعالی «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»

قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

أعظم بشارة للتائبين، فقد قضى عزّ اسمه على نفسه المقدّسة الرحمة بالعصاة التائبين من عباده، تفضّلاً منه سبحانه وإحساناً بهم، والكتابة على النفس هي الإيجاب على ذاته العلية، وإذا اجتمعت الكتابة مع (على) أفادت تأكد الإيجاب، وله عزّ وجلّ أن يوجب على نفسه ما شاء وأراد، وقد خوطب العباد على ما يعرفونه، من أنّه من كتب شيئاً فقد أوجبه على نفسه، وهي تدلّ على قبول توبة العاصين، وأنّه من شؤون رحمته المقدّسة.

وفي التعرّض بعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار اللّطف بهم، والإشعار بعلّة الحكم، وتقدّم الكلام في نظير هذه الآية في ابتداء هذه السورة، فراجع.

واشترط سبحانه قبول التوبة بأمُور:-

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً»

قوله تعالى: «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً».

هذا هو الشرط الأوّل: بأن تكون التوبة عن المعاصي والسيّئات دون الشرك، فإنّ السوء الصادر من المؤمنين إنّما هو الخطيئة، تقع مورد التوبة فلا تشمل الشرك. والسوء معروف، وهو العمل الذي تسوء عاقبته. والجملة استئناف لتفسير الرحمة، وبيان بعض مظاهرها، وقرأ جمع: «أنّه» بالفتح على البدل منها فيكون بدل البعض من الكلّ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «بِجَهَالَةٍ»

قوله تعالى: «بِجَهَالَةٍ».

في موضع الحال، وهو الشرط الثاني، أي عمل ذنباً من غير جحود واستكبار عليه عزّ اسمه، وإلّا فلا تقبل توبته وإن كان صادراً عن جهالة، ولكنّها

ص: 352

جهالة الضلالة والجحود، وفي غير هذه الحالة تقبل توبته.

وذكر المفسِّرون وجوهاً في المراد من الجهالة:

فقيل: من عمل ذنباً جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من الآثار السيّئة والمضار.

وقيل: متلبساً بفعل الجهلة.

وقيل: إن كان مَنْ فعل سوءً مع العلم بحكمه، وما يؤدّي إليه إلى الضرر، إنّما هو من أفعال السفه والجهل، لا من أهل الحمكّة والتدبر.

وقيل: إنّ عمل السوء لا ينفكّ عن الجهل حقيقةً أو حكماً.

والأوفق بالقواعد هو الأخير، وعلى كلّ حال، فلا يشمل ما يصدر عن الجاهلين المستكبرين عليه عزّ وجلّ، كما عرفت، وتقدّم الكلام في سورة النساء.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ»

قوله تعالى: «ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ».

وهو الشرط الثالث: أي الرجوع عن الذنب والإقلاع منه، شاعراً بقبحه، نادماً عليه بعد ارتكاب السوء.

قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ».

وهو الشرط الرابع: وهو إصلاح العمل، فلا يكفي القول والاستغفار اللّفظي فقط، فإنّ للذنب آثاراً سيِّئة على النفس فلابدّ من اتباعها بعمل ما أفسده ليرجع إليها صفائها وطهارتها، فيعزم على عدم العود، فإنّ حقيقة التوبة لا تتحقّق إلّا بالرجوع إلى اللّه عزّ اسمه، وهو لا يجامع القذارة الحاصلة من الذنب، فلابدّ من إزالتها بالتوبة النصوحة، ويكون أهلاً لقربه تعالى، ومنه يستفاد أن استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه شرط في التوبة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

قوله تعالى: «فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ص: 353

بيان بأنّ التوبة الحقيقية الصادرة عن المسيء، يستدعي أن يكون مورداً المغفرته ورحمته، والأولى تستر الذنب وتمحيه، والثانية يرحم سبحانه صاحب التوبة بمزيد عنايته.

والغفور والرحيم من صفاته المقدّسة، ولا ريب أنه عزّ وجلّ وصفاته منزّهة عن الزمان والزمانيات، إلّا أن آثار هما لا تظهر إلّا بعد توبة العبد، بعد أن عمل سوءً بجهالة، ولذا ربما تكون موقّتة بالزمان من هذه الجهة.

ثمّ إنّه ما أحسن مساق هذه الآية الكريمة، فإنّه عزّ وجلّ أمر الرسول أوّلاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم، فبدأ به لمَن آمن، ثمّ خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة، وأسند الكتابة إلى ربهم الناظر في مصالحهم، وملّكهم رحمته الواسعة، ثمّ أبدل منها شيئاً خاصّاً، وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح، وهو يدلّ على عظيم لطفه بالمؤمنين، وقد أحاطهم بعنايته.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ»

قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ».

أي بمثل ذلك البيان الرائع، والكلام الواضح المبين، نفصّل الحقائق الواقعيّة ونشرح المعارف الإلهيّة، حتّى يتبيّن الحقّ فيُعمل به، ويتميّز المطيعين عن المجرمين، ويتضح القواعد القويمة لتثبيت دعائم التوحيد، وأسس الطاعة والعبودية للّه الحكيم العليم، ويبسط قانون العدل، كما أنزل الآيات التدوينية ليهتدي بها أهل الفكر والفقه، لما فيها من العلم والحكمة، والموعظة والعبرة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ»

قوله تعالى: «وَلَتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».

اللّام للتعليل، وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان، وقرأ أكثرهم بالتاء على تأنيث الفعل وسبيل بالرفع، أي ولتتبين سبيل المجرمين. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعدٍ، أي: ولتستوضح أنت يا محمد سبيل

ص: 354

المجرمين، فتعاملهم بما يليق بهم.

وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أنّ الفعل مسند للمذكر.

والاستبانة يأتي فعله لازماً ومتعدياً، يقال: بان الشيء واستبان، بمعنى وضح وظَهَر، واستبنتُ الشيء استوضحته، وتبيّنته أي عرفته بيِّناً، والجمع بين الغيبة والخطاب في الآية الكريمة للإعلام بأن الآيات الإلهيّة هي بنفسها واضحة ومبيّنة لسبيل المجرمين، وينبغي للمخاطب وغيره فهمها، والتأمّل فيها والاستفادة منها حتّى لا يسلك سبيل المجرمين لئلا يشملهم قوله تعالى: «وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ»(1).

والجملة عطف على مقدّر علة للفعل (نفصل)، وقد طوي عن ذكره تفخيماً لشأنه، كما هو الشائع في كلامه تعالى وللإشعار بأنّ له فوائد جمة. أي وكذلك نفضّل الآيات التي تتضمّن المعارف الربوبيّة والحقائق الإلهيّة، التي يهتدى إليها الناس، منها استبانة سبيل المجرمين، ليحيي مَنْ حَيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هلك عن بينة.

ولا ريب أنّ المراد من سبيل المجرمين ما يقابل سبيل المؤمنين، فهو سبيل الجحود والعناد وكفران النِّعم والإعراض عن الإيمان، كما حكى عزّ وجلّ أحوالهم في الآيات السابقة.

وذكر الزمخشري: ومثل ذلك التفصيل البيّن نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين، من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يُرى فيه أمارة القبول، وهو الذى يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل الإسلام إلّا إنه لا يحفظ حدوده، لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا

ص: 355


1- سورة يس: الآية 46.

ذلك التفصيل.

وقد اشتملت الآية الكريمة على أسلوب بليغ، وفيه من محاسن إيجاز القرآن مالا يخفى، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(1).

وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(2).

***

ص: 356


1- سورة الأنعام: الآية 105.
2- سورة الأعراف: الآية 174.

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه بعض وجوه الإعراب

بحث أدبي:

ذكرنا ما هو المهم ممّا يرتبط بهذا البحث في ضمن التفسير، ولكن بقيت أُمور :

منها: اختلفوا في اللّام في قوله تعالى: «لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ»:

فقيل: إنّها للتعليل، وهي متعلّقة ب(فتنا) وما بعدها علّة لها، فيفهم منه أنّ لأفعال اللّه علّة، وهو موضع خلاف بين العلماء، فقيل بثبوتها حتّى بالغ بعضهم أنّ عليه عشرة آلاف دليل. وقيل بالنفي، ولكن البحث عن هذا الموضوع قليل الجدوى، بل خلاف الأدب معه عزّ وجلّ، لأنّه العليم الحكيم الخبير.

وقيل: بأنّها لام العاقبة.

وأشكل عليه: بأنّها إنّما تكون كذلك فيما إذا لم يكن للفاعل شعور بالترتّب وقت الفعل أو قبله، فيفعل لغرض، ولا يحصل له ذلك بل ضدّه، فيجعل كأنّه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيهاً على خطائه، ولا يتصوّر هذا في كلام علّام الغيوب بالنظر إلى أفعاله، وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره، كقوله تعالى: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنَا»(1)، فإنّ ترتّب فوائد أفعاله تعالى مبنيّة على العلم التامّ.

ولكن ممّا يهوّن الخطب أنّ كثيراً من النحاة لم يعتبروا هذا القيد.

وقيل: إنّها لام الصيرورة والمآل مطلقاً، فيجوز أن تقع في كلامه تعالى بلا

ص: 357


1- سورة القصص: الآية 8.

فساد فيه.

وقيل: إنّها للتعليل مقابلاً به احتمال العاقبة.

واعترض عليه: بأنّ التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي، بناءً على أنّ أفعاله سبحانه منزّهة عن العلل، فيكون مجازاً عن مجرّد الترتيب، وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة، فلا وجه للمقابلة.

وأُجيب: بأنّهما مختلفان بالاعتبار، فإنّ كان تشبيه الترتّب بالتعليل كانت، وإلّا كانت لام العاقبة.

ورد: بأن العاقبة أيضاً استعارة فلا يتم هذا الفرق.

وقيل: إنَّ في التعليل المقابل للعاقبة سببية اقتضاء، وفي العاقبة مجرّد ترتّب وإفضاء، وفي التعليل يعتبر البعث على الفعل. وحينئذٍ يقال: إنّ اللّام على تقدير تضمين (فتنا) معنى خذلنا، أو يكون المراد من الفتنة للتعليل مجازاً، لأّن هناك تسبباً واقتضاء فقط من دون البعث. وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللّفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي. والتفصيل مذكور في محلّه.

ومنها: إنّ الباء في قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ»؛ أمّا الأولى فهي الداخلة في خبر ليس وقد شبهت بأنّها سيف خطيب، والثانية متعلّقة بأعلم؛ ويكفي أفعل العمل في مثله. والعلم يتعدّى بالباء لتضمّنه معنى الإحاطة، وهو الشائع في كلام الناس.

ومنها قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ...» فإنّ مَنْ فتح (أن) في الموضعين جعل الأولى بدلاً من (الرحمة) بدل الشيء، فهي في موضع نصب بكتب، وأضمر للثانية خبراً، وجعلها في موضع رفع بالابتداء أو بالظرف تقديره: فله أنّ ربّه غفور له.

ويجوز أن يضمر مبتدأ، ويجعل أنّ خبره، وتقديره: فأمره أنّ ربّه غفور له

ص: 358

أي فأمره غفران ربه.

ومن كسر الأولى على الاستيناف النحوي أو البياني، والضمير للشأن. و(من) موصولة أو شرطية، وموضعها مبتدأ، و(منكم) في موضع الحال من ضمير الفاعل، و (بجهالة) حال أيضاً. وقرأ بالكسر، وقرأ بعضهم كسر الأولى وفتح الثانية.

***

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات الكريمة

بحث دلالي:

يستفاد من الآية الكريمة أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ» على إثبات الوحدانية الكبرى، وأُلوهيّة اللّه سبحانه وتعالى، لأنّ القادر على سلب المشاعر والشعور عن الإنسان، وإنزال العذاب بغتةً أو جهرةً على نحو الغلبة والقهارية، أو غفران الذنوب رحمةً بعبادة، لحقيقٌ أن يكون مستحقّاً للعبادة والطاعة، ومتّصفاً بالوحدانية. وإنّما خصّ سبحانه من صفاته العليا تلك التي ذكرها في الآية، إمّا لإثارة الهمّة في المشركين الذين غلبهم العناد والاستكبار واللّجاج، أو إظهاره سبحانه من الصفات ما يناسب قهاريّته وكبريائه لانتباههم وترك الغفلة المسئولية عليهم، ونبذ تلك الصفات الرديئة. وهي من الآيات التي تُرجع الإنسان إلى الفطرة، وتثير دفائن العقول.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً»، على إحاطة عذاب اللّه بالمشركين الظالمين، فقد يفاجئهم ويأخذهم بأشدّ ما يتحسس ويهلكه، وللتأكيد على أنّ الإجرام والإصرار عليه سبب لهذا الجزاء الأليم، ولبيان أنّه لا إجرام إلّا مع الظلم، ولم يُهلك به إلّا الظالمون.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرِفُ الْآيَاتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ» على

ص: 359

أنّ عذاب اللّه لا ينزل بساحة،قوم إلّا بعد إتمام الحجّة وبيانها بوجوه عديدة، بحيث يستفيد منها الجميع حسب استعدادهم وقابليتهم، فإما أن يكون بالتخويف والترهيب، أو بالترغيب أو بإقامة البرهان، وغير ذلك، فإذا آمنوا استحقّوا الرحمة الإلهيّة فإنّه غفور رحيم وإلّا كان إعراضهم إجراماً، وظلماً شديداً، لأنّه حاصل عن عناد ولجاج، إذ يستبعد في العقول ومعتاد النفوس أن يترتّب على ما يوجب الإقبال والإعراض، فكان ذلك منهم صدوفاً وخروجاً عن طور العبودية.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «وَمَا تُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ»على أنّ سنة اللّه تعالى فى إرسال الرُّسل وبعث الأنبياء، إنّما هو لأجل التبشير والإنذار، اللذين بهما يتحقّق نظام الدارين، ويسعد الإنسان، فإنّ أحدهما يبعث الأمل فى النفس، والآخر ينشر الخوف، والأوّل ينفى الإحباط، والثاني البطر، وبهما يتم النشاط ويبعث على العمل. وإن لكلّ واحد منهما لوازم وأحكام وآثار قد بينها القرآن الكريم. فكانت هذه الآية الكريمة من جلائل الآيات، بيّنت بإيجازها البليغ عمل الأنبياء الذين لم يتجاوزوا عمّا أمروا به، فهى إيجاز ما شرحه عزّ وجلّ في مطاوي كتابة المجيد، فما أعظمها من آية؟!! ولعل الاقتصار عليهما مضافاً إلى ما ذكرناه أنّ لهما التأثير فى تزكية النفوس وتربيتها، وعظيم أثرها في حياة الإنسان الظاهرية والمعنوية.

الخامس: يشير قوله تعالى: «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» إلى أنّ الإيمان والإصلاح في العمل، هما السبب في نيل هذه الدرجة من زوال الخوف من كلّ ما تستشعر به النفس في الدُّنيا والآخرة، أو يحزنها من فقد محبوب، وتبيّن الآية الكريمة الضمان على الفوز بهما، وهو الإيمان والإصلاح الذي يعدّ من أهمّ الثوابت الإيمانية، وتحصيل الحياة السعيدة، وفي الآية الكريمة بعض تطبيقات البشارة التي تقدّمت في الآية السابقة.

ص: 360

السادس: يرمز قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» إلى بعض تطبيقات الإنذار، ولبيان أنّ الفسق هو السبب في مسهم العذاب، وبقرينة الآية السابقة الواردة في بيان الإيمان والآثار المترتّبة عليه، يتبيّن المراد من الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة بترك الإيمان والابتعاد عن الصلاح، ومن ذلك يعلم أنّ تفسير الفسق في القرآن بمعنى الكذب ممنوع. ولاستمرارهم على الفسق المنبئ عن العناد واللّجاج، كما يستفاد ذلك من صيغة المضارع، كان تعذيبهم خاصاً بهم، وذلك بإصابتهم لمداركهم ومشاعرهم.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّه» على أنّ ما عدا الوظيفة التي عيّنها اللّه تعالى لرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ليست هي من شؤونه، ولا هي ممّا يدخل تحت سلطانه، لا سيّما تلك التي تكون من مختصّات اللّه وشؤون الإله العظيم، فالنبي بشر خصّه اللّه تعالى بالرسالة، وميّزه بهاتين الوظيفتين، فليس هو بإله، فلا يملك خزائن اللّه، ولا يعلم الغيب، وليس هو بمَلَك، فإنّ لكل واحد من هذه الثلاثة موضوعاً معيّناً، وله مميزات وشؤون خاص به.

وفي تخصيص هذين الأمرين بالذِّكر، لأنّهما يستلزمان أُموراً كثيرة، فمن كان عنده خزائن اللّه، لابدّ أن يكون عالماً بخصوصيّاتها، وقادراً على التصرّف فيها ومنع المعارض عنها، وذا سلطة كاملة، وغيرها من الصفات.

وأمّا صفة صفة العلم بالغيب، تثبت الإحاطة العلملية والربوبيّة والقيمومية ونحو ذلك، ولعلّه لأجل ذلك لم يقل: لا أقدر على ما يقدر عليه اللّه، فإنّ ما ورد في الآية أبلغ، ولدلالته على أنّه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة وحاضرة عنده. ومن ذلك يعلم أنّ المراد من خزائن اللّه هى الفيوضات الإلهيّة التي تنبعث من كلمة (كن) الصادر من مقام الأُلوهيّة العظمى، ومنبع العظمة والجمال، ويدلّ على ذلك بعض الروايات.

ص: 361

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ»على أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مأمور بتبليغ ما يوحى إليه، من غير أن يكون له دخل في الوحي والموحى، فهو عبد مأمور يمتثل ما يأمره مولاه، ومنه يظهر أنّه لم يثبت في صورة الدعوى كما في الآية السابقة وبذلك تميّز عن سائر أفراد الناس، فهو لم يكن إلها ولا مَلَكاً، فلابدّ أن يتميّز عن أفراد البشر، لئلّا يتّخذ المبطلون العذر بأنّه إذا كان بشراً فلا وجه في متابعته، والى ما ذكرنا أشار تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأعمّى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ» فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد منّ اللّه عليه ببصيرة وقّادة، وأمّا غيره فقد أعمّاه عزّ وجلّ، ولا يستويان في الحكم، ويكفي التفكّر في أمرها ليحكم بالفرق بينهما، فلابدّ الأعمّى متابعة البصير، ورجوع الجاهل إلى العالم.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكَ» على نفي كونه مَلَكاً حتّى يصدر منه مثل ما يصدر عن الملائكة، فإنّهم جواهر مجرّدة، ولا دلالة له على كون الملائكة أفضل من البشر، لأنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة. نعم يستفاد منه الردّ على الكفّار واعتقادهم بأن الملائكة تأتي بأفعال لم تكن مقدوراً للبشر ومنهم الأنبياء، ولأجل ذلك طلبوا منهم رؤية الملائكة، والرقي إلى السماء، فكان الردّ عليهم بنفى ادعاء كونه مَلَكاً.

وأمّا مسألة تفضيل الملائكة على الرسول صلوات اللّه عليهم، فقد وقع الخلاف فيها بين الفرق الإسلامية، وهي محرّرة في الكتب الكلامية، ويأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: استدلّ بعضهم بقوله تعالى: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ»على انحصار الحكم بالنصّ فلم يحكم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باجتهاده، بل لم يكن مجتهداً، كما استدلّ بعضهم على نفي البأس، ولكن الآية لا دلالة فيها على شيء ممّا ذكر، كما لا يخفى وقد تقدّم الكلام في اجتهاده في التفسير، فراجع.

ص: 362

العاشر: يدلّ قوله تعالى: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ» على أنّ تخصيص الإنذار بمن وصف، إنّما هو للتحريض بأن لا يتسامح في أمرهم، ولا يوضعون موضع غيرهم، فيخصّهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمزيد عناية، أو لأنّ إيمانهم أرجى، أو لأنّ موقفهم أقرب إلى الحقّ، وفيه تحريض للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على إنذار كلّ من شاهد فى سيماه علائم الخوف، فإنّ من قاعدة الدعوة الدينيّة الحشر، وتنفيذ قانون الجزاء والمجازاة على الأعمال، فيكون أدنى ما يرجى من تأثير الدعوة في فردٍ، هو احتمال الحشر فيخافه، فكلّ ما ازداد الاحتمال ازداد الخوف، ويقوى التأثير حتّى يصل إلى مرحلة اليقين التي هي من آخر منازل المقرّبين، والتأثير التامّ إنما يكون عند الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام.

وفي التعرّض لعنوان الربوبيّة؛ إمّا لمزيد العناية، أو لإبلاغهم بأنّه ربِّهم لئلا يبلغ بهم الخوف مبلغاً في نفوسهم، أو للإشارة إلى أنّه المالك المطلق، وله التصرّف فيما يشاء ويريد.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ» عَلَى أَنّ المناط فى النجاة، إنّما هو الخوف من الحساب الداعي إلى العمل والطاعة، والاتّقاء عمّا يوجب سوء الحساب، فلا ينفع الإنسان الأولياء والشفعاء وإن كانوا على حقّ فضلاً عن المزعومين، لأن ما يوجب الأمن من فزع ذلك اليوم والنجاة من العذاب، إنما هو التقوى دون التمنّى والاعتماد على الأوهام والخيالات.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَلَا تَطْرُدُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ» على أنّه ليس من شأن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) طرد الذين يدعون ربّهم، ردّاً على اقتراح المشركين بطردهم تعزّزاً واستكباراً منهم، وإيهاماً منهم بالتعذير في دخولهم الإيمان، وقد وصف سبحانه المؤمنين بوصفين ما تريدهما الدعوة الإسلامية لا ما يريده المشركون، وهما: استغراق العبد في التوجه إلى اللّه تعالى،

ص: 363

وطلب مرضاته، ومن كان كذلك لا يجوز عند العقل طرده، وليس من شأن الرُّسل فضلاً عن سيدهم ذلك.

ومنه يظهر فساد ما ذكره المفسِّرون في المقام، بل هو ضرب من الخيال وسوء أدب مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي تهذب بأخلاق اللّه عزّ وجلّ، وأدبه بأحسن تأديب، ثمّ اصطفاه رحمةً للعالمين، وبعض أقوالهم ينافي العصمة. ونظير المقام ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأعمّى»(1)، والظاهر أنّها لم تصدر منهم إلّا عن عصبية وجهالة بمقام سيد أنبياء اللّه تعالى، وكان الأجدر بهم أن يتعصّبوا للحقّ والداعي إليه، فإنّ ذلك من أجزاء الإيمان وشروطه.

الثالث عشر: يرشد قوله تعالى: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» إلى أنّ العلة في الحكم السابق، هي أنّ كلّ واحد من الفريقين له حساب الخاص به، ولا يحمّل حساب أحدهما على الآخر، ومن أنّ الحكم المعلّل إنّما هو إرشاد، فليس النهي تكليفياً.

الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» أن الطرد مناف لشأن الرسالة، ويخالف وظيفة الرسول، وكلّ أمرٍ كان كذلك يكون فعله فعل الظالمين، فيكون التفريع على ما سبق لبيان هذه النكتة، ولا يحتاج إلى القول بأنّها عطف على الجملة الأُولى، حتّى يتعلّل بأن إعادة لفظ الطرد لأجل البُعد بين المتفرّع والمتفرّع عليه، كما لا يصغى إلى ما قيل إنه يشتمل على تفريع الشيء على نفسه، فهى جملة تفيد معنى زائداً على ما تضمنه صدر الآية الكريمة.

ومضمونها يدلّ على أنّ الرسالة الإلهيّة إنّما شأنها التبليغ، ودعوة الناس إلى الإيمان، والدخول في طاعة اللّه تعالى من دون أن يكون فيها طلب سلطة دنيوية

ص: 364


1- سورة عبس: الآية 1.

أو سيطرة على الناس، كما هو الشأن في الرياسة الدينيّة في الملل الأُخرى، فإنّها سيطرة خاصّة على أهل دينهم في العقيدة والعبادة، ومحاسبة أعمالهم وعقابهم حتّى يصل إلى الطرد من الدِّين والحرمان من حقوقه.

الخامس عشر: يدلّ قوله تعالى «وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» على أنّ الاختبار والامتحان سنة إلهية جارية في خلقه لمصالح كثيرة، وإن اختلفت وسائل الاختبار، وتفاوتت درجاته، وتعدّد ملاكه، فإمّا أن يكون في الغنى والفقر، أو يكون في الشرف والضعة، أو يكون في الصحة والمرض، أو في الإيمان والكفر، أو يكون في الجزاء، وغير ذلك من الوجوه التي بين جملة منها القرآن المجيد كقوله تعالى: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْريّاً حتّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرى»(1).

وقوله تعالى: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ»(2).

ومنها ما تضمّنته آية المقام التي تدلّ على حسد المشركين بما منّ اللّه سبحانه على المؤمنين، واختصاصهم بما يسعدهم ويقربهم لديه عزّ اسمه، وهي نعمة عظيمة استشعر بها المؤمنون كما يرشد إليه قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين»؛ وفيه التعريض بأن الفريق الآخر بمعزل عن ذلك، وهم في ضلال وكفران، وأن كفرهم لا يكون إلّا عن جحود ناشئ عن الكبر والعلوّ في الأرض، واعتبارهم ملاك التفوّق غير الإيمان، ممّا أنعم اللّه عليهم من البنين والأموال، وقد بيّنت الآية الكريمة أن النِّعمة الحقيقية هي الدخول في الإيمان والولاية الإلهيّة، وتحقق صفة الشكر مطلقاً.

السادس عشر: يستفاد من قوله تعالى: «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» أنّ إبلاغ السلام للمؤمنين الخائفين الذين حكى اللّه عزّ وجلّ حالهم إنّما هو لأجل تأمين سلامتهم

ص: 365


1- سورة المؤمنون: الآية 110.
2- سورة ص: الآية 63.

في الدُّنيا من المشركين الكافرين، وفي الآخرة من العقاب، فهو آية المودّة، وتعليمٌ للمؤمنين بالتأدّب بالأدب الإلهى الذي علّمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وفيه الردّ على المشركين الذين طلبوا من الرسول طرد المؤمنين، فكان التبشير بالسلام من كلّ مكروه للمؤمنين وإنذار مقابليهم.

كما أن أمره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالسلام عليهم، مع أنّ العادة على العكس، لئلّا يحتشموا من الانبساط إليه ومزيد التكريم لهم، والآية مقدّمة لبيان الرحمة الإلهيّة الشاملة الجميع العاصين العاملين للسوء.

السابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» سنة إلهية جارية في عباده الذين خالفوا تعاليمه وتشريعاته المقدّسة، وهو من أعظم آيات التوبة، ومن عجائب هذه الآية الكريمة أنّ الرحمة من صفات الذّات المقدّسة، والموجودات من آثار رحمته المباركة ومظاهرها، وقد كتبها على نفسه ليتّفق التكوين والتشريع، فما أعظم هذا المكتوب، وما أشدّ تأثيره على الإنسان تكويناً وتشريعاً.

ومن هنا يعلم أنَّ المراد من الجهالة، مطلق الجهل المقابل للجحود والعناد، فيشمل كلّ من يعمل السوء عن جهالة، حقيقةً أو حكماً، كالجهل بما يترتّب على الفعل من الآثار الوخيمة، كما في قوله تعالى: «قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ»(1)، وذيل الآية الكريمة يدلّ على زيادة الفضل على التائبين، فإنّه عزّ وجلّ يتوب عليهم، ويستر عليهم، ويمحو آثار الذنوب عنهم، ويتفضّل عليهم بهبة الاستقامة والتوفيق، فاجتمعت الرحمتان فيهم.

الثامن عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ» على أنّ القرآن

ص: 366


1- سورة يوسف: الآية 89.

المجيد الذي تضمّن الآيات التدوينيّة، كلّها بيانات تفصيلية واضحة، تشتمل على حقائق يهتدي بها المؤمنون، ومن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد، فمن استفاد منها في تكميل نفسه، فقد فاز بالسعادتين، وإلّا كان من المجرمين الظالم لنفسه، لأنّه قد وضح لهم الطريق واتّضح السبيل، وتبيّن الحقّ، فكان الكفر منهم عن جحود، فهم المحجوبون عن الرحمة والغفران، وقد تبيّنت أوصافهم وأحوالهم، وقد لعنهم اللّه عزّ اسمه في الدُّنيا والآخرة.

***

بحث روائي وفيه بعض الاحاديث الواردة في تفسير الآيات الشريفة

بحث روائي:

في «تفسير القمّي» عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «في قوله تعالى: «وقُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً...»: إنّها نزلت لمّا هاجر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى المدينة، وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأنزل اللّه: قُل لهم يا محمد أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللّه بغتةً أو جهرةً هل يهلك إلّا القوم الظالمون، أي لا يصيبكم إلّا الجهد والضر في الدُّنيا، فأما العذاب الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلّا القوم الظالمين».

أقول مضمون الحديث بإسناده إلى أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الشيء الواحد، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم حراماً أو أحلّ حلالاً، وفرض فرائض، فما جاء تحليل ما حرّم أو تحريم ما أحلّ اللّه أو دفع فريضة في كتاب اللّه رسمها بين قائم بلا ناسخ، نسخ ذلك، فذلك شيء لا يسع الأخذ به، لأن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن ليحرّم ما أحلّ اللّه ولا ليحلّل ما حرّم اللّه عزّ وجلّ، ولا ليغير فرائض اللّه وأحكامه، وكان في ذلك كله متبعاً مسلِّماً مؤدِّياً عن اللّه عزّ وجلّ، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى» فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) متّبعاً اللّه مؤدِّياً عن اللّه ما أمر به من تبليغ الرسالة».

ص: 367

أقول: إنّ الحديث ردّ على مَنْ زعم من العامة من إثبات الاجتهاد الخاصّ للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من دون وحى اللّه، إلّا أن يريدون منه الاجتهاد المنسوب إلى ما وهبه اللّه من الفكر الثاقب، والنور الخاص، فهو أيضاً،وحى، كما معلوم.

فالحديث يدلّ على أن كل ما أداه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، إنّما هو وحي من اللّه عزّ وجلّ، وهو تابع لما أوحي إليه.

وفي «المجمع» في قوله تعالى: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ... الآية» قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم ترغبهم فيما عنده، فإنّ القرآن شافع مشفع».

أقول: لا ريب فى أنّ المنذر به إنّما هو القرآن، لما فيه من الحقائق التي تهدي العباد إلى التوحيد والطاعة. وأمّا كونه شافعاً مشفعاً، فلأنّ له شأنٌ خاصّ يوم القيامة يشهد على الخلائق، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا أنّ للقرآن حياة خاصّة به، ولكن كونه كذلك فلابدّ من حمله على محمل.

ثمّ إنّه قد وردت أخبار في شأن نزول الآيات المتقدّمة، بعد الغضّ عن أسانيدها، وتهافت بعضها مع بعض، إنّها تحكي عن قصص واقعية في عصر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أو أقوال كانت تدور على ألسنة المشركين، أو شبهات كان يحكيها المضلّلون، فعدُّوها أسباباً للنزول، أنّها لو كانت كذلك فإنّها تدلّ على أنّ الآية نزلت لحدوث تلك الواقعة، ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، وبعد التجريد من بعض الخصوصيّات تتّصف بالعموميّة والشمول والتأبيد والدوام، كما هو شأن الآيات القرآنية. فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الروايات، واشتمالها على ما لا يوافق أصول المذهب، ولعلّه يرجع إلى شيوع الوضع والدس من قبل القصاصين والوضاعين لصالح السلطة الزمنية. ونحن نذكر بعضها تبياناً لما ذكرنا.

وفي «الدّر المنثور» أخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني،

ص: 368

وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في «الحلية» عن عبد اللّه ابن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعنده عمّار وبلال وخبّاب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهولاء من اللّه عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء! أطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك، فأنزل فيهم القرآن: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ».

أقول: رواه في «المجمع» باختصار عن الثعلبي بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود.

وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة، قال: مشى عُتبة بن ربيعه، وشيبه بن ربيعه، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في أشراف الكفّار من عبد بن مناف إلى أب--ى طالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك طرد عنّا هؤلاء الأعبد، فإنّهم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم له في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لا تباعنا إياه وتصديقه. فذكر

صلى اللّه ذلك أبو طالب للنبي.

فقال عمر: لو فعلت یا رسول اللّه حتّى ننظر ما يريدون بقولهم، وما تصيرون

إليه من أمرهم.

فأنزل اللّه: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ... إلى قوله... أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».

قال: وكانوا بلالاً وعمّار بن ياسر، وسالماً مولى أبي حذيفة، وصبحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وواقد بن عبيد اللّه الحنظلي، و عمرو بن عبد عمر و ذو الشمالين، ومرشد بن أبي مرثد وأشباههم.

ونزلت في أئمّة الكفر من قريش والموالى والحلفاء: «وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا... الآية» فلمّا نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل اللّه: «وَإِذَا

ص: 369

جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ... الآية».

وفيه: أخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجة، وأبو يعلى، وأبو نعيم في «الحلية»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن ابى حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن خبّاب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حضن الفزاري، فوجدا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلمّا رأوهم حوله حقّروهم فأتوه، فخلوا به، فقالوا: إنّا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإنّ وفود العرب ستأتيك، فتستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّاً ليكتب. ونحن قعود في ناحية. إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: «وَلَا تَطْرُدُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، فكنا نقعد معه فاذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل اللّه: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ»، قال: فكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتّى يقوم.

أقول: تقدّم آنفاً ما يتعلّق بهذه الروايات، ويشهد لما ذكرناه اختلاف مضامينها، ويدلّ عليه ما روي في «الدّر المنثور» عن الزبير بن بكار في «أخبار المدينة» عن عمر بن عبد اللّه بن المهاجر: أنّ الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الضعفاء من أصحاب الصفة الصُّفَّة عن نفسه، في نظير من القصّة. فإنّ السورة نزلت في مكّة المكرمة قبل الهجرة دفعة واحدة.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «رحم اللّه عبداً تاب إلى اللّه قبل الموت، فإنّ التوبة مطهرة من دنس الخطيئة،

ص: 370

ومنقذة من شقاء الهلكة فرض اللّه بها على نفسه لعباده الصالحين، فقال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثمّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

أقول: في مضمونه أخبار أُخرى مستفيضة، ترغّب العباد إلى التوبة قبل الفوت وحلول المنية، وتبيّن بعض آثار التوبة.

وفي «المجمع» في قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ... الآية».

قيل: نزلت في الذين نهى اللّه عزّ وجلّ نبيه عن طردهم، وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا راهم بدأهم السلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أُمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

أقول: يدلّ الخبر على إكرام المستضعفين وكمال الأدب معهم ممّن أدبه ربه بأحسن تأديب (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

وفي «تفسير البرهان» روي عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ... الآية» نزلت في عليّ وحمزة وزيد.

أقول: وفي بعض الروايات أنّها نزلت في أعداء آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، والجميع يرجع إلى التطبيق والتفسير بالباطن.

***

بحث عرفاني وفيه بعض الرموز والمشارق والمقامات التي تزيد في همة العارفين

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة المتقدّمة تتضمّن رموزاً ومشارق ومقامات تزيد في همّة العارفين، وترشد السالكين إلى اللّه عزّ وجلّ إلى مواضع السقوط والابتعاد عن الاقتراب إليها، فإنّه بعدما بيّن عز اسمه فيما قبل، إنّ مرجع الخواص من أوّل البداية إليه بخلاف غيرهم، فإنّ مرجعهم إليه بعد اليأس من الخلّص، وقرّب إليهم بعض الأنوار التي تهديهم إلى السلوك، وتوفقهم على الثبات والاستقامة، فإنّ

ص: 371

قلوب السالكين وجلة من خيفتها، فلابدّ لها من إفاضات ومشاهدات لئلّا تحترق من فرط الشوق، وتظلّ مرتبطة بعزّ اسمه، فهذه الآيات تبيّن مواضع الخوف والهلاك، فقد أمر رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبلّغ من كان همه الخلاص من العقبات والمزالق ممّا تمنعه من الوصول إلى المقامات التي أعدّها اللّه له، كلُّ بحسب الاستعدادات والقابليات، فمن أولى العقبات سلب اللّه تعالى الهداية من شخصٍ، فيمنعه من الاستفادة من مشاعره، بأن يأخذ منه السمع فلم يسمع خطابه سبحانه ونصائحه، ولم ينتفع بها إذا سمعها، كما يأخذ منه الإبصار فلم يشاهد عجائب القدرة وأسرار الطريق، ومواضع القدم الذى يضع فيه أثناء السير إلى اللّه عزّ وجلّ، وختم على قلبه فلا يدخل معرفته سبحانه فيه، وهذه أعظم العقبات التي لابدّ من إزالتها، ولا يمكن للسالك لوحده مهما بلغ به الأمر أن يزيلها، إلّا بتوفيق منه عزّ وجلّ، الذي يصرّف له الآيات النفسيّة والتدوينيّة والتكوينيّة، ليستفيد منها المجاهدون العارفون باللّه في سيرهم وسلوكهم، فتنير لهم الطريق، وتكون نجوماً سواطع تتوصّل بها لمعرفة الطريق، وتوصله إلى المطلوب، إلّا أن يكون حُبّ الدُّنيا الذي هو عقبة أُخرى أعظم أثراً على النفس، فتمنعه الاستفادة منها، وتصرّف القلب عن الانتباه، ويوجب الإعراض عن طاعة اللّه، والنكوص عن الإيمان، وقد يبلغ الأمر به إلى الإصرار والطغيان، فيكون جهاده المضاعف من غير إرشاد ولا إمام يرجع إليه، ليكشف له الظلمات، فيشمله العذاب بغتةً، وهو في حال الذهول ممّا هو عليه من سوء الحال، أو جهرةً وهو في حال العمل، المضي الذي لا فائدة فيه ولم يوصله إلى المقصود فيهلك وهو ظالمٌ لنفسه من سوء تدبيره، فلابدّ من الرجوع إلى أنبياء اللّه ورسله للإرشاد إلى مواضع الخلل، فإنّهم المبعوثون إلى الخلق، العارفون باللّه حقّ معرفته والمتأدِّبون بآدابه العالمون بالأسرار، وقد بعثهم عزّ وجلّ ليرشدوا الناس إلى ما يوجب القُرب والزلفى لديه عزّ وجلّ،

ص: 372

ويبعدوهم عمّا يوجب سخطه وعذابه، وهو بحقّ أعظم مهمّة، فإنّ عليها تدور الحياة الظاهرية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وتحمّلوا المشاق العظيمة في سيل هداية العباد، مع ما هم عليه من الحاجة إلى المدد منه عزّ وجلّ، وقد اعترف سيّدهم على الإطلاق (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالعجز والحاجة إليه سبحانه، وعدم تملكه للخزائن التي لا بد منها في هذا السبيل فهو من حيث ذاته الشريفة فقير ومسكين لا يملك مقدورات اللّه، ومن حيث نفسه المباركة لا يعلم الغيب الذي هو محور المجاهدة، ولا هو روح مجرّدة كالمَلَك التي هي مناط الترقّي إلى مدارج الكمال، ليكون منزّهاً عن المادّة، وغير محتاج إلى ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الحياة، ممّا يوجب الركون إليها، فلابدّ من الرجوع إلى اللّه تعالى، والاستمداد من ألطافة، فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع ما عليه من المسكنة والحاجة قد وصل إلى مقامات عالية، لم يصل إليها إلّا باتّباع ما يوحى إليه من اللّه تعالى، فمن شاء أن يستنير من أنوار هدايته، ويجعله إماماً ليقتدي به في سيره وسلوكه، ويصل إلى مظاهر عظمته وأنوار جلاله، حسب الحكمة المتعالية، فإنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المرشد العظيم، وله المقام المحمود عند اللّه تعالى. فلابدّ أن يكون السالك بصيراً بالمراتب والمقامات مستشعراً بالأنوار الإلهيّة، تابعاً لسيِّد العرفاء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولا يبلغ مبلغ الأعمّى عن نوره، وإلّا أصيب بالطرد.

وأمّا من كان يبتغي التربية والتهذيب، ويدعو ربه على الدوام، مستمدّاً منه العون في الوصول إلى معارج الكمال، ويدعو عند تجلّي الجمال، ووقت تجلّي العظمة والجلال يطلب تجلّيه عزّ وجلّ لقلبه، وقد أخلص لوجهه الكريم في مسعاه، مبتغياً رضائه في مقصده ومأواه، ليوصله إلى الهداية التامّة، ويوفّقه للعرفان، فينوّر اللّه قلبه، لأنّه ملاك الأمر، وسرّ السلوك، فإنّ هؤلاء يريدونه، وأمّا غيرهم فهم يريدون منه.

ص: 373

وكُلّ له سُؤلٌ ودينٌ ومذهبٌ***وَوَصْلُكُم سُؤْلي وديني رِضاكُمُ

فهم من المحبوبين لا من المحجوبين المطرودين، فما على الرسول من حساب هؤلاء السالكين وإنّما حسابهم على اللّه تعالى، كما أنّ حسابك عليه سبحانه الذي خصك بعظيم لطفه، وامتنّ عليك بأخصّ رحمته الرحمانية، فهم لم يصلوا إلى منزلتك، ولن يبلغوا الدرجة التي أنت عليها، فهم يتحملون جزاء أعمالهم، ويصل كلّ واحد منهم إلى المقام الذي اكتسبه بمجاهداته ومتابعته لك، فلابدّ لهم من الرجوع إليك في جميع شؤوهم، فإذا طردتهم عن الجلوس معك، فتكون من الظالمين لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شؤونهم.

وأمّا الناس على اختلاف درجاتهم ومقاماتهم، فقد فتنّا بعضهم ببعض لحكمة متعالية، لها الدخل في نيل المكارم واكتساب مَلَكة الصبر التي هي قوام الجهاد ليصبر المجاهد على سعيه وسلوكه، فإنّ به يكشف المحجوب عن مشاعره وشعوره، فيفوز العارف، ويكون سبباً لارتقائه، وأمّا المحجوب الذي استحقر العارفَ لظاهر حاله، وقد غَفَل عن عظيم قدره ومرتبته وحُسن حاله في الباطن، الذي منّ اللّه عليه بالهداية والمعرفة، ولم يمُنّ بها على المحجوب لسوء نيّته وفساد أعماله، وبُعده عن المبدأ الفيّاض، فكان الناجي من الفريقين هو الذي يشكر اللّه ليمن عليه بعظيم جوده، وإذا بلغ المؤمن العارف مقام الشاكرين، ودخل في ولاية اللّه تعالى، توجّه الخطاب الربوبي إلى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) السلام على المؤمنين، والدُّعاء لهم بالسلامة ليدخلوا في مقام التسليم، فإنّه مقام عظيم، ومن لطف اللّه عزّ وجلّ بهم أنّ من يلقى السلام عليهم هو الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في دار الدُّنيا، وينتهي بسلام اللّه عليهم بقوله تعالى: «سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبِّ رَحِيم»(1)، لأنّهم استفادوا من آيات

ص: 374


1- سورة يس: الآية 58.

اللّه الدالّة على وحدانيته، والآيات التي تدلّ على جلاله وجماله، وقد توسلوا بالعلم والعمل بها إلى معرفة اللّه تعالى، فكان التسليم منهم بشارة لهم بحصول السلامة وتحصيل الكرامة التي منحهم اللّه سبحانه لهم بقوله: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، فكانت أعظم بشارة لهم بالنجاة من ظلمات المادّة، ومهاوي النفس، ومن الكرامة التي منحها اللّه تعالى لهم أنهم نالوا من الباقيات الصالحات، ووصلوا إلى عالم الأنوار، وترقوا في سرادقات الجمال.

والآيات تشير إلى اختلاف مقامات السالكين، فمنهم من آمن بالآيات بمحو صفاتهم، فكان السلام عليهم لتنزّههم من عيوب الصفات، والتجرّد عن ملابساتها. ومنهم من أبدلهم اللّه سبحانه صفاتهم بأحسن صفات، ومنهم من ظهر عليه الغفلة، لمّا ظهر عليه أثرٌ من صفات النفس التي توجب البعد، ثمّ تاب من بعد ظهور تلك الصفة، فرجع عن غيبته إلى الحضور، وأصلح هذا البعد بالخضوع والتضرّع بين يديه عزّ وجلّ، ونبذ الصفات الخاصّة، فإنّ شأنه عزّ وجلّ الغفران فيسترها عليه، ويدخله في زمرة المرحومين، والإنعام عليه بصفة الاستقامة، لئلّا يعود إلى سالف عهده من الغفلة، فإنّها من أشدّ المهاوي وتوجب الحرمان، وقد بيّن سبحانه لهم تلك المقامات وبعض الخواص للصفات الإلهيّة، فكانت من أهمّ موجبات الهداية والصلاح ودوام المراقبة والتمعّن في مضمونها، والتفكّر في دلالتها يورث البُعد عن حُجُب الصفات الخاصّة، والابتعاد عن أعظمها أثراً وهى الذنوب، نسأل اللّه تعالى الهداية، والابتعاد عن المزالق، والاشتغال بإصلاح النفس.

***

ص: 375

سورة الأنعام الآية 56 - 58

إشارة

الآية 56 - 58

«وقُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيْنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الحقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58).

بعد أن بيَّن عزّ اسمه حقيقة الرسالة الإلهيّة ووظيفة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ثمّ أرشده عزّ وجلّ إلى تدبير المؤمنين وتبليغهم ما أوحى من المعارف الإلهيّة وأصول العقيدة وقواعد الدِّين، عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين ببرهان واضح وحجّة دامغة، فقد نهاه عزّ وجلّ عن عبادة من يدعونه من دون اللّه تعالى، واتّباع أهوائهم، لأنّه من الضلال، ويخرج متّبعهم عن الصراط المستقيم، وسوف يصيبهم عذاب اللّه، ممّا يفصل بينهم وبين المؤمنين تبعاً لحكمة متعالية، فإنّ له الحكم وهو أعلم بالظالمين، فالآيات تتمّة الاحتجاجات السابقة على التوحيد والنبوّة والمعاد.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه».

بيان لبطلان عباده المشركين لمن يدعونه من دون اللّه سبحانه بنوع من

ص: 376

الكناية البليغة التي هي أبلغ من التصريح، فقد أمره سبحانه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بإخبارهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم ممن تدعونهم آلهة، وتنادونهم بالعبادة من دون اللّه كائناً من كان، وهذا النفى إمّا لفظى مطابقةً، أو بالالتزام عند أمره بعبادة اللّه الواحد الأحد، كما تدلّ عليه آيات كثيرة، أو ما يدلّ العقل والفطرة عليه، ولعلّه لأجل ذلك، قال: (نُهيت) بالبناء للمجهول، فيكون المراد من النهي الزجر والصرف، أي صرفتُ بالأدلّة الحقّانية والأدلّة اللفظيّة، كما عرفت.

وكيف كان، فهذه الآية الكريمة من الآيات العديدة التي تدلّ على قطع أطماع المشركين باتّباع آلهتهم، وأنّ المؤمنين بمعزلٍ عن عقيدتهم، وقد أكّد سبحانه ذلك بأُمور عديدة في آية المقام.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ»

قوله تعالى: «قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ».

تأكيد للنهي السابق، واعتبار بشأن المأمور به، ولذا أُعيد الأمر، وبيانٌ الموجب النهي وملاكه، أي أنّ عبادتهم اتّباع للهوى، وليس هو من الهداية، فليس لي - وهو العقل المحض - أن أتّبع الهوى وأترك الهدى. وقد جرت عادة القرآن الكريم على أنّه إذا ورد النهي عن اتّباع المشركين، يعقبه بيان العلّة في ذلك لإتمام الحجّة وبيان المحَجّة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ»

قوله تعالى: «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ».

استئناف مؤكّد لما سبق، ولبيان سبب الإستنكاف عن اتّباع الهوى، فإنّه من الضلال والخروج عن جماعة المهتدين، والسالكين سبيل الحقّ والطاعة. كما أنّ فيه التقرير بأنّه إن فعل ذلك، فهو في غاية الضلال. كما أنّ العدول إلى الجملة الاسمية «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ» للدلالة على الاستمرار والدوام، أي دوام النفي، ولبيان سلب التوفيق عنه. والمراد وما أنا إذاً في شيء من الهدى حتّى أُعدَّ في

ص: 377

عِداد المهتدين، وفيه التعريض بأنّهم كذلك.

فالآية تدلّ على النهي عن عبادة آلهتهم ببيان تامٍّ مشتمل على وجه الحكم وعلّة النهي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي»

قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي».

تنبيه على ما يجب اتّباعه، بعد بيان ما لا يجوز. والبينة هي الحجّة الواضحة فتشمل كلّ ما يتبيّن به الحقّ من الحجج، والأدلّة العقلية والنقلية، والشواهد التكوينيّة. واشتقاقها إمّا من بان يبين بمعنى الوضوح، أي الدلالة الواضحة، أو البينونة بمعنى الفصل، أي الحجّة الفاصلة بين الحقّ والباطل، كما قاله الراغب في مفرداته، والظاهر تلازمهما، فإنّه إذا اتّضح الحقّ فقد بان عن الباطل وانفصل.

وكيف كان، فالتنوين لتفخيم أمرها وبيان جلاله شأنها.

وقيل: المراد بها في المقام إمّا القرآن، أو الوحي، أو الحجج العقلية الدامغة، أو ما يعمّها، وإن كان الظاهر هو الأوّل، كما يرشد إليه ما يأتي، وفي التعريض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى الضمير فيه من التشريف، وعلوّ المنزلة ما لا يخفى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَكَذَّبْتُمْ بِهِمَا»

قوله تعالى: «وَكَذَّبْتُمْ بِهِمَا».

جملة مستأنفة، أو حالية بتقدير (قد) كما عليه المشهور، سيقت للإخبار عن استقباح مضمونها، واستبعاد وقوعه مع تحقّق ما يقتضي عدمه، ولبيان الفرق بينهم وبين الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّه على بيِّنة من ربِّه، وهم على هوى متّبع والضمير في (به) قيل إنه يرجع إلى القرآن لوجوه:

الأوّل: إنّ التكذيب إنّما تعلّق بالبينة التي هو عليها، وأيّده اللّه تعالى بها رسالته، ولا ريب أنّها القرآن الكريم.

ص: 378

الثاني: ذيل الآية: «مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» الدالّ على أنّه الآيات التي اقترحوها غير القرآن، فكان التقابل بينهما واضحاً، فالذي عنده تكذبون به وهو القرآن، وما تقترحونه من الآيات وتستعجلون به هو خارج عن مقدوره، ولا مفوّضاً أمره إليه.

الثالث: قوله تعالى: «مَا عِندِي» فإنّه ظاهر في كونه مسلّطاً عليه، وتحت تصرّفه حاضراً لديه وهو القرآن دون غيره، وأمّا ما استعجلوه فهو غير مسلّط عليه. ولكن الحقّ أنّ الضمير يرجع إلى الرب أي كذبتم بربي، لأنّ البيِّنات تدعو إليه عزّ وجلّ. وتقدّم وجود الفاصل بين الضمير وكلمة الربّ.

فيكون المعنى إنّي على بيُّنة عظيمة كائنة من ربّي، وهو القرآن المشتمل على أنواع من البينات الواضحات وقد كذبتم به أو بربّي، فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على أظهر الحقائق وأبين الهداية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ»

قوله تعالى: «مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ».

استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه سبباً لتكذيبهم بالقرآن، وهي الاقتراحات المتكرّرة التي حكى اللّه عزّ وجلّ جملة منها في القرآن الكريم، ممّا تدلّ على استهزائهم بالحقّ الصادع به فقد بلغ بهم مبلغاً حتّى طلبوا نزول العذاب.

والجملة كناية عن أنّ اقتراحهم إتيان آية أُخرى غير القرآن - كما حكى عزّ وجلّ عنهم في الآيات السابقة - يكون سبباً للقضاء بينه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبينهم، على ما جرت عليه السُنّة الإلهيّة، كما عرفت في بداية السورة، ومن هنا يظهر السرّ في قوله تعالى الآتي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»

إشارة

قوله تعالى: «إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ».

بيان لسبب النفي، فيكون في أسلوب الحصر الدلالة على وقوع النفي على

ص: 379

الجنس، فيستفاد منه إنّه ليس لغيره عزّ وجلّ من الحكم شيء، بل هو اللّه حصراً.

ما يتعلّق بمادّة حَكَم

ومادّة (حَكَم) تدلّ على الإتقان والإبرام، كما يستشعر به الإنسان في مطلق الحكم الدائر في جميع شؤونه، بينه وبين خالقه أو بين سائر أفراد الناس. ومنه الحكمة وهي إصابة الحقّ بالعلم والفعل، فإذا نُسبت إلى اللّه تعالى كان بمعنى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، وفي الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات. كما أنّ منه الأحكام والتحكيم والحكومة وغيرها من سائر هيئات هذه المادّة، التي وردت في القرآن الكريم في أكثر ن مائتي موضع، تتعلّق بجميع الموجودات الواجب منها والممكن، وسائر الشؤون الحياة الماديّة والمعنوية، وأعظمها تأثيراً ما ورد في آية المقام ونظيراتها في ما يأتي من هذه السورة: «أَلَا لَهُ الْحُكْمُ»(1)، وفي سورة يوسف الآية 67.

وفي سورة القصص: «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ»(2).

وفي سورة الرعد: «وَاللّه يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ»(3).

وفي سورة المؤمن: «فَالْحُكْمُ لِلهِ الْعَلِي الْكَبير»(4).

وغيرها ممّا تدلّ على اختصاص الحكم به تعالى، وعمومها ليشمل التكويني والتشريعي منه، وأنّ حكمه لا معقّب له فلا يعارض مشيئة شيء.

وهناك آيات أُخرى تدلّ على اختصاص كلّ واحد من الحكمين به عزّ وجلّ، فمما يدلّ على اختصاص التشريعي به قوله تعالى: «إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيمُ»(5)، كما أنّ قوله تعالى: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ

ص: 380


1- سورة الأنعام: الآية 62.
2- سورة القصص: الآية 70.
3- الآية 41.
4- الآية 12.
5- سورة يوسف: الآية 40.

وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً»(1) يدلّ على اختصاص الحكم التكويني به عزّ وجلّ. ويعضد اختصاص الحكم مطلقاً به سبحانه، الأدلّة العقلية أيضاً، كما ستعرف.

إلّا أنّ هذا الاختصاص بالنسبة إلى الحكمين، لا ينافي الانتساب إلى غيره عزّ وجلّ، إذا دلّ عليه الدليل عليه، فقد ورد الإذن صريحاً في انتساب الحكم التشريعي الاعتبارى إلى غير اللّه سبحانه، كقوله تعالى لداود (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةٌ فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحقّ»(2).

وقوله تعالى لرسوله الكريم: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه»(3).

وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ»(4).

وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ»(5)، وغير ذلك من الآيات.

والمستفاد من مجموع الآيات الكريمة أن الحكم الحقّ اللّه سبحانه أصالة، ولغيره تبعاً لإذنه، وهو يقتصر على معرفة خصوصيّات الإذن، ومع ذلك لا تكون له الاستقلالية كما هو ثابت اللّه عزّ وجلّ، ولعلّه لأجل ذلك عدّ عزّ وجلّ نفسه بأنّه أحكم الحاكمين، كما قال تعالى: «أَلَيْسَ اللّه بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ»(6)، وقال تعالى: «وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»(7).

هذا بالنسبة إلى الحكم التشريعي.

ص: 381


1- سورة الكهف: الآية 26.
2- سورة ص: الآية 26.
3- سورة المائدة: الآية 49.
4- سورة المائدة: الآية 44.
5- سورة المائدة: الآية 95.
6- سورة التين: الآية 8.
7- سورة الأعراف: الآية 87.

وأمّا الحكم التكويني، فلا يوجد في القرآن الكريم ما يدلّ على نسبته إلى غير اللّه تعالى، بل صريح قوله سبحانه: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيَ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا») الاختصاص، ونفى الشريك له مطلقاً، وفى بعض الأدعية الواردة عن الأئمة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ما يدلّ على ذلك أيضاً، إلّا أّنه يمكن الاستشهاد بالتعميم أيضاً. كما هو الحال في الحكم التشريعي، بأنّ هذه الصفة لا تخرج عن عامة الصفات والأفعال المنسوبة إليه عزّ وجلّ، التي ورد الإذن في الانتساب إلى غيره نوعاً ما، كالعلم، والقدرة، والحياة، أو الخلق، والرزق، والإحياء، والمشيئة وغيرها، وجميعها من مظاهر حكمه التكوينى ومصاديقه. نعم يتوقف نسبة الحكم إلى غيره عزّ وجلّ على الإذن صريحاً، فلا يصحّ بدونه مراعاةً لحرمة جانبه، وأنّ أسماء اللّه تعالى توقيفية، فما لم يرد فيه إذنٌ لا مسوّغ لنسبته إلى غيره، ويشبه هذا الاسم ألفاظ البديع والباري، والفاطر وغيرها من الألفاظ التي تشعر باختصاص معانيها به عزّ وجلّ، وإنما منع نسبتها إلى غيره عزّ اسمه لما ذكرناه، وسيأتي في البحث الكلامي تتمّة الكلام.

ومن ذلك يظهر أنّ المراد من الحكم في آية المقام، ما يشمل التكويني والتشريعي كلاهما لدلالة ما قبلها على التكويني، وهو استعجال العذاب المترتّب على ما اقترحوه من الآيات. ودلالة ما بعدها على الوضعي، كما ستعرف.

ومتعلّقه عامٌ، أي وما الحكم في جميع الأشياء إلّا اللّه وحده، فيشمل المذكور في الآية بطريق أولى، كما يشمل ما ذكره المفسِّرون في المقام أيضاً، من تأخير العذاب أو تعجيله وغير ذلك.

وذكر بعضهم أن المقصود من الآية التأسّف على وقوع خلاف المطلوب، كما يشهد به موارد استعماله فيدلّ على التأخير فقط.

ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر منه هو التعميم، ولا يوجد في المقام ما يدلّ على التخصيص، ما ورد في غير آية المقام، فراجع.

ص: 382

ما يتعلّق بقوله تعالی «يَقُصُّ الحقّ»

قوله تعالى: «يَقُصُّ الحقّ».

مادّة (قصص) تدلّ على التتبع في الأثر، كقوله تعالى: «فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً»(1)، وقوله تعالى: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِيهِ»(2).

ومنه القصّة وهي الأخبار المتتبّعة، قال تعالى: «وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ»(3).

وقال تعالى: «فَاقْصُصْ الْقَصَصَ»(4).

والقصيص ما يبقى من الكلأ فيتبع أثره. ومنه القصاص أي تتبّع الدم بالقِوَد، قال تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ»(5).

واختلفوا في المراد من آية المقام، فالمعروف أنّه بمعنى تتبع الحقّ في جميع أدواره وأطواره وعوالمه وسائر خصوصيّاته، وبيان جميع احکامه، فلا يحكم إلّا بما هو حقّ، فيكون دليلاً لثبوت الحكم، منحصراً باللّه تعالى، لأنّه الحقّ، يبيّنه ويثبته في القول والفعل. فهو عزّ وجلّ حقّ مطلقاً، وغيره يتبعه في الحقّ.

وقيل: إنّه بمعنى القطع، أي قصّ الحقّ وفصله من الباطل، وهو يستلزم القضاء والحكم بالحقّ، وأيّد هذا بقوله تعالى: «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ» ويشهد له قراءة عاصم ونافع وابن كثير من السبعة بالقاف والصاد المهملة من القص، وهو قطع شيء وفصله من شيء.

وذكر بعض السادة من المفسّرين أنّ منه قوله تعالى: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُضِيهِ». والظاهر أنّه سهو منه (قدّس سِرُّه) كما عرفت آنفاً.

ص: 383


1- سورة الكهف: الآية 64.
2- سورة القصص: الآية 11.
3- سورة القصص: الآية 25.
4- سورة الأعراف: الآية 176.
5- سورة البقرة: الآية 179.

وقرأ الكسائي وغيره ( يقضي) من القضاء، حذفت الياء في الخط على حدّ قوله تعالى: «فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ»(1) أي يقضي بالحقّ ويفصله بالحقّ، وهو خير الفاصلين. ولكن ذكرنا أنّه يلازم قصّ الحقّ أي فصله.

وذكر بعضهم: إنّه بمعنى الإخبار عن الشيء من القص.

ورد: بأنّ اللّه سبحانه وإن قصّ كثيراً من قصص الأنبياء وأُممهم، غير أنّ المقام خالٍ عن ذلك، فلا موجب لذكره، وتوصيفه تعالى به.

ويمكن الجواب عنه بأنّه عزّ اسمه قصّ أيضاً عقائد المشركين وأقوالهم وسلوكهم مع الأنبياء والمؤمنين، وأنزل الآيات البيّنات لتثبيت عقيدة التوحيد وإرساء دعائم الحقّ في دينه القويم، واستطرد عزّ وجلّ تلك من بداية السورة حتّى وصل إلى إعلام حقيقة إلهية، وهى أن الحكم وحده مع البرهان عليها بأنّها الحقّ، وهو تعالى يقصه أي يتبعه بوجوه مختلفة كما عرفت.

كما أنّه أورد على من قال: بأنّ المراد من قوله تعالى أن يتتبّع الحقّ ويقتفي أثره في تدبير مملكته وتنظيم أُمور خليقته، بأن نسبة هذا المعنى إليه عزّ وجلّ من سوء الأدب، وليس في القرآن الكريم ما ينسب الاتّباع والاقتفاء إليه تعالى، وقد قال عزّ من قائل: «الحقّ مِنْ رَبِّكَ»(2) ولم يقل الحقّ مع ربك كما في التعبير بالمعية من شائبه الاعتضاد والتأيد والإلهام إلى الضعف.

وفيه ضعفٌ ظاهر، بأنّ تتبّعه عزّ وجلّ للحقّ بتثبيت دعائمه، وإقامة الحجج والبراهين و تدبير مخلوقاته ومملكته هو عين الحقّ، وهو لا يستلزم المعيّة والتبعية بالمعنى الذي ذكره، فإنّه عزّ وجلّ لا يحتاج إلى الإعتضاد والتأيد بشيء مطلقاً، مع

ص: 384


1- سورة القمر: الآية 5.
2- سورة آل عمران: الآية 60.

أنّه ليس كلّ معيّة يستلزم ذلك، وقد قال تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ»(1) فإنّ: المعيّة القيّومية من الحقّ وهي من شؤونه سبحانه.

والحاصل: إنّ الآية الكريمة تدلّ على معنى دقيق، له ارتباط وثيق بأفعال اللّه تعالى المقدّسة، فهو الحقّ المطلق، ويتتبع الحقّ، ويرسي دعائمه في خلقه، ويبيّنه لعباده، وإليه يرجع الحقّ، فاجتمعت في الآية جميع العلل، فهو عزّ وجلّ الحقّ وخالقه، والغاية منه إقامة الحقّ، والخلق مظاهر الحقّ المطلق، وإليه سبحانه يرجع.

والمعنى وما الحكم إلّا للّه، فهو الذي خلق ما سواه بإتقان وإحكام، هي مظاهر عظمته وجماله، وقد بيّن الحقّ وأوضح معالمه، ورغّب عباده إليه، وأسس دعائمه، فهو يقص الحقّ تثبيتاً لسلطانه المطلق وأحكامه المقدّسة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»

قوله تعالى: «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ».

مادّة فصل تدلّ على إبانة أحد الشيئين من الآخر، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الحكيم فيما يقرب من ثلاثة وأربعين مورداً، ولم يرد كلمة (الفاصلين) إلّا في هذه الآية، وقد نُسبت:

تارةً إلى اللّه تعالى، كقوله سبحانه: «إنَّ اللّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

وأُخرى إلى زمان معيّن كيوم القيامة، قال تعالى: «هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ»(3).

وثالثة إلى الخطاب والقول والكلمة، قال تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْل فَضل»(4).

ص: 385


1- سورة الحديد: الآية 4.
2- سورة الحجر: الآية 17.
3- سورة الصافات: الآية 20.
4- سورة الطارق: الآية 13.

وقال تعالى: «وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(1).

ويستفاد منها أنها تستعمل في كل مورد يحتاج إلى العزم والتصميم والإبانة والظهور كيوم القيامة، والقرآن الكريم، والأنبياء ونحو ذلك.

والآية الكريمة تبيّن حقيقة إلهية في فعل عظيم من أفعال اللّه تعالى، الذي له مظاهر مختلفة في جميع العوالم وهو الفصل بين الحقّ والباطل، وتمييزه بماهيّته وآثاره ومظاهره، ومن أهمّها القرآن الكريم الذي تميّز بقوّة الحجّة ووضوح المحجّة، كما قال عزّ وجلّ: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ»(2)، وقد اشتمل على جميع أسباب الهداية في أسلوب،رصين، وكلام فصيح وعبارة بليغة، وله تجلّيات مختلفة، وحياة معنوية في جميع العوالم، وقد فصّله بأحسن تفصيل فاق على جميع الكتب الإلهيّة وأسباب الهداية، فكان سبحانه وتعالى خير الفاصلين.

وإنّما كان خيراً، إمّا لأجل أنّ غيره عزّ وجلّ يستمدّ منه هذه الصفة، أو لرجوع كلّ حقّ إليه عزّ وجلّ، وإنّه الكمال المطلق لعدم تصوّر النقص فيه سبحانه، ومن القريب جدّاً أن لا يكون الخير في المقام أفعل التفضيل، بل لبيان أنّ حقيقة الفصل من عنده، فهو تعالى بذاته وأفعاله وأقواله حقّ يفصل كلّ جهة من جهاته المقدّسة عن غيره من الأدعياء، نظير قولهم: الوجود خيرٌ والعدم شرّ، أو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «بيدك الخير».

ومنه يظهر وجه الارتباط بما سبقه بعد بيان انحصار الحكم اللّه تعالى وحده، ومن عظيم حكمه أنّه يبيّن الحقّ ويهدي العباد إليه، فلابدّ أن يكون عزّ وجلّ فاصلاً بينه وبين غيره من الأدعياء، بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب، وتشريع الأحكام، وهداية الأنام، لتتم الحجّة ويزهق الباطل، ويدمغ المبطلين.

ص: 386


1- سورة ص: الآية 21.
2- سورة الطارق: الآية 13.

وقد فصّل عزّ وجلّ الآيات، وذكر أنّه تعالى يفصّل الآيات، فكانت تمهيداً لقوله تعالى: «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ» تأكيد لما ورد في الآيات السابقة من نفي قدرته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على إنزال ما اقترحوه من الآيات، وإثبات لمضمون ما قبله، من أنّه إذا نزلت الآية المقترحة، فهو لا ينفكّ من الحكم الفصل الذي لا يكون إلّا لله تعالى، فهو خير الفاصلين، ومنه يظهر أنه لا وجه لاختصاص ما استعجلوه بالعذاب، كما زعمه كثير من المفسّرين فإنّ العذاب إنّما يكون بعد إنزال الآيات المقترحة، كما عرفت في بداية هذه السورة، ويشهد له قوله تعالى الآتي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»

قوله تعالى: «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

وهو الحكم الفصل، ويحكم بالحقّ، ويُعرَف الظالم فيعذِّب، ويصيبه الهلاك وبناء الفعل للمفعول إيذاناً بتعيّن الفاعل الذي هو اللّه جلّت قدرته، ومراعاةً لسنن الأدب معه عزّ وجلّ، وتهويل الأمر، ولا ينافي ذلك أن يكون عذاب الاستئصال على يد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ). وعلى أية حال، فهذا القضاء الفصل من مظاهر حكمه عزّ وجلّ وقصد الحقّ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ»

قوله تعالى: «وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ».

تعليل لذلك الحكم الفصل، ولبيان أنّهم الظالمون والعذاب الإلهي لا يتعدّاهم إلى غيرهم، فهو عالم بحالهم، وقد فصّل بينهم وهو خير الفاصلين. وفيه الإشارة إلى أنّه تعالى لم يفوّض الأمر إلى رسوله إذا لم يقض سبحانه بالهلاك، فيكون في معنى الإستدراك، كأنه قال: ولكن الأمر إلى اللّه وهو أعلم بمن ينبغي هلاكه.

قوله تعالى: «إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً».

تقريرٌ لما سبق، وتثبيت كونه تعالى خير الفاصلين، الذي يفصل بين الفريق

ص: 387

الظالم الذي اقترح على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مكرّراً، وهو يدلّ على أنّ استعجالهم في نزولها، يستلزم القضاء الحتم وابتلاء هم بعذاب الاستئصال بعد الحكم عليهم بأنّهم الظالمين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «هَلْ يُهْلَكَ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»

قوله تعالى: «هَلْ يُهْلَكَ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ».

تأكيد بأنّ عذاب الاستئصال بالقوم الظالمين حصراً، وأنّ في إهلاكهم تثبيتٌ لدعائم التوحيد ونشر الشريعة، وبسط العدل في الأرض، والتخلّص من الظالمين وفيه الإمتعاض من تكذيبهم وطغيانهم، وغير ذلك ممّا يستفاد من تضاعيف الآيات الكريمة.

***

ص: 388

بحوث المقام

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآية الكريمة

بحث دلالي:

يستفاد من الآية الكريمة أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه» على أنّ أساس الدعوة في الإسلام، هو نبذ الشرك وعبادة الآلهة والأنداد الذي هو أحد طرفي التوحيد، المركّب من السلب وهو الذي ذكرناه، والإيجاب الذي هو عبادة اللّه الواحد الأحد، وقد جُعل ذلك شعار الإسلام في كلمة التوحيد المعروفة التي نادى بها خاتم الأنبياء، واعتبر النطق بها في ابتداء الدعوة موجباً للفوز بالفلاح، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): « قُولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه تُفلحوا». فصدر هذه الآية الكريمة يدلّ على نفي الآلهة وعبادة الشركاء، وهو الجانب السلبي في كلمة التوحيد. وذيلها يدلّ الإيجاب.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ» على أن خلاف ما جاء به الإسلام وما دعا إليه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّما هي أهواء باطلة مضلّة، سواء كان في عبادة الآلهة أو في الشريعة ومنهاج الحياة، إلّا ما قرره الشرع الحنيف، فكلّ ما لم يكن كذلك إنّما هو من متابعة الهوى التي منشؤها الجهل والخروج عن جادة الصواب.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: «قَدْ ضَلَلْتُ إذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» أن اتّباع غير ما أنزله اللّه تعالى إنما يكون ضلالاً بيّناً، والضلال يوجب سلب التوفيق للهداية، والابتعاد عن الصراط وسبل الهداية. ومن المعلوم أنّ سلب الهداية فيه من الآثار السلبية الوخيمة في الدُّنيا والآخرة، وقد حكى سبحانه بعضها في الآيات السابقة، ويُعرف عظيم أثره من نسبة الضلال إلى نفسه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّه رسول اللّه

ص: 389

وإمام الأنبياء وسيِّد الخلائق، وله مقام الجمع، فإذا وقع في الضلال وابتعد عن الهداية، فما حال الأُمّة التي يتزعمها؟!! والآية المباركة تتعلّق بإصلاح النفس.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» على البينونة الكاملة بين الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبين الذين يدعون من دون اللّه، فإنّه على بيِّنة واضحة ومعرفة تامّة، وهم على جهل وضلال، كما أنّه تابع لما أنزله اللّه عزّ وجلّ وهم تابعون لأهوائهم، كما أنّه مؤيَّد من ربِّه وهداية منه، وهم ليسوا على هداية، ومن هنا يعرف حقيقة دین اللّه تعالى الذين يعتمد على أصول ثابتة وهي التوحيد، والهداية، والعلم والمعرفة والصدق، فالآيات الكريمة تبيّن حقيقة كلّ واحد من الفريقين المتباينين في العقيدة والسلوك والصفات والأخلاق.

الخامس: يدلّ قوله تعالى «إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» على أنّ جميع ما يجري في نظامي التكوين والتشريع إنّما يصدر عن حكم اللّه تعالى، فهو الحاكم المطلق ولا يعقل أن يصدر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شيءٌ لا عن حكمه ويتعدّاه عزّ وجلّ، فهو العبد المأمور، والرسول إلى خلقه، وهو عزّ وجلّ يفصل بين عباده وهو خير الفاصلين.

والحاكمية المطلقة من الصفات الذّاتية اللّه عزّ وجلّ، التي ترجع إلى علمه الأتمّ وتربيبه العظمى، وسلطنته التامّة، وقدرته الكاملة، ولعلّه لأجل ذلك كان خير الفاصلين في كلّ ما يرجع إلى مخلوقاته، وما يتعلّق بسعادة عباده وشقائهم، وصلاحهم في الدُّنيا والآخرة. ومن لوازم هذه الصفة المباركة أنّه تعالى يقصّ الحقّ.

السادس: يدلّ قوله تعالى: «يَقُصُ الْحَقّ» على شدّة عنايته عزّ وجلّ بالحقّ، وبديع صنعه في تثبيته وإبلاغه وإرساء قواعده في خلقه، فإنّه إذا كان المراد من القصّ والقطع فلا ريب أنّه تعالى يقطعه عن الباطل، ويجليه بعد ما يخفيه المبطلون، بفعل دقيق وفصل بديع يدلّ على عظمة فاعله سبحانه وتعالى. وإن كان

ص: 390

بمعنى تتّبع الأثر، فهو عزّ وجلّ حقٌّ يحكم به، ويثبت دعائمه، ويشرح خصوصيّاته، ويتتبّع آثاره، حتّى لا يخفيه المبطلون، فكان عزّ اسمه خير الفاصلين فيه يدلّ على علمه الأتمّ، وربما تكون مقدّمة للآية اللّاحقة التي تدلّ على أعظم صفة من صفاته المقدّسة العليا، وهى علمه الأتمّ.

السابع يدلّ قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» على شدّة جهلهم بالواقع، وظلمهم لأنفسهم فى طلبهم الذي يعدّ تدخلاً في سلطان اللّه تعالى، فإذا أنزل فإنّما يكون فيه القضاء الفصل، فيكون هو على حق، وهم على الباطل. ويدلّ أيضاً على أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس عنده ما يكون قادراً على إنزال ما طلبوه، وإنّما هو مفوّض إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من جهة اللّه تعالى.

***

بحث كلامي وفيه عن بعض الصفات الإلهيّة كالحكم وقص الحقّ وفصله

بحث كلامي:

اشتملت الآيات الشريفة المتقدّمة على بعض الصفات الإلهيّة، منها ما يرجع إلى الذّات المقدّسة، كقوله تعالى: «إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ». ومنها ما يرجع إلى فعله عزّ وجلّ كقوله تعالى: «يَقُصُ الحقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»، والبحث فيهما يقع في

مقامین

الأوّل: ذكرنا أن قوله تعالى: »إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» يدلّ على انحصار الحكم به سبحانه، واستيفاء الكلام فيه يكون من جهات:

الأولى: ذكرنا أن مادّة (حكم) تدلّ على المنع، قال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعاً لإصلاح، ومنه سمّيت اللّجام حَكَمة الدابة (بفتحتين)، وحَكَمْتُ الدابّة منعتها بالحكمة، وأحكمتها جعلت لها حَكَمة. ومنها الحكم الشرعي المولوي باعتبار كون الأمر يمنع به المأمور عن الخروج عن زمام الحكم فيلجمه في ما تهواه نفسه أن يقع في ما تهواه نفسه. كما أنّ منها الحكم بمعنى

ص: 391

القضاء لأنّ به يمنع المتنازعين عن المشاجرة والتعدّي والجور. كما أنّ منها الحكم بمعنى التصديق، لأنّه يمنع عن تطرق الشكّ في القضية.

هذا بالنسبة إلى عالم المفاهيم.

وأمّا في عالم المادّة: فإنّه يستعمل بمعنى الإحكام والاستحكام للدلالة عن كون الشيء في حال يمنع دخول ما يفسده وتفرّق أجزائه.

وفي عالم المعاني: قد يستعمل الإحكام بمعنى التفصيل، وجعل الشيء فصلاً فصلاً، وذلك لتثبيت معانيه وإبعادها عن تطرّق الشبهات.

وأمّا المحكم: فهم الذي يقابل المتشابه، ويراد منه ما منع من دخول الاحتمالات فيه.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الجامع بين جميع تلك المفردات هو المنع، ومن أعظم أفراده وأعظم معانيه حكم اللّه تعالى، الذي ظهرت فيه أغلب تلك المعاني، فإنّ حكمه عزّ وجلّ يكون لإصلاح شؤون مخلوقاته، والتشريعي منه لصلاح عباده، ويقضي لبسط العدل ومنع الظلم، وقد أحكم مصنوعاته، ممّا يدلّ على علمه الأتمّ، والبديع فى فعله، كما أنّه أنزل الكتاب متصفاً بأته: «أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثمّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»(1) ولأجل ذلك كلّه صار الحكم منحصراً فيه أصالة، وفي غيرها بالتبع والترشيح.

وقد وردت هذه المادّة في الذكر الحكيم فيما يقرب من ثلاثمائة موضع تتضمّن جميع ما ذُكر من المعاني المتقدّمة، والمستفاد منها أنّها تؤكّد على أمرين:

أحدهما: الحكم، بمعنى القضاء التكويني أو التشريعي، وما يتعلّق بهما.

الثاني: الحكمة التي تشمل الموجودات الواجب والممكن، وسائر شؤون

ص: 392


1- سورة هود: الآية 1.

خلقه عزّ وجلّ.

والحكيم من أسماء اللّه الحسنى الذي يرجع إلى علمه الأتمّ في الصادر منه عزّ وجلّ، المتّصف بالإتقان والدقّة فى الصنع، وسيأتي في الموضع المناسب التفصيل.

الثانية: ينسب الحكم إلى جهات متعدّدة:

فتارةً: ينسب إلى التكوين، ويُراد به القضاء الوجودي، أي الواقعيّة الوجودية بجميع مراتبها، وهو المراد من قوله تعالى: «وَاللّه يَحْكُمُ لَا مُعَقِبَ لِحُكْيه»(1).

وحكمه عزّ وجلّ بهذا المعنى يرجع إلى الإيجاد، الذي يساوق الوجود الحقيقي للشيء، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2).

وأُخرى ينسب إلى التشريع، فيكون حكماً تشريعيّاً، بمعنى جعل القوانين الشرعيّة، وتشريع الأحكام الإلهيّة التي ترجع إلى الصالح العام، ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْماً»(3).

وثالثة ينسب إلى الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فيكون إمّا بمعنى القضاء الذي هو منصب إلهي أكرَم به رسله وبعض المكرَمين من عباده، وهو يدلّ على شرف حامله وعلمه وفضله، ويدلّ عليه قوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةٌ فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحقّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى»(4).

وفي رسوله قال عَزَّ من قائل: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ

ص: 393


1- سورة الرعد: الآية 41.
2- سورة البقرة: الآية 117.
3- سورة المائدة: الآية 50.
4- سورة ص: الآية 26.

عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحقّ»(1).

وهذا الجعل للأنبياء والرُّسل والأوصياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، جعلٌ أوّلى ابتدائي، وفي العلماء العاملين جعلٌ ثانوي بإذن منهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).

وأمّا أن يكون بمعنى الإذن لهم بالتشريع، كما هو المستفاد من قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: «رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَالحقّنِي بِالصَّالِحِينَ»(2).

وقوله تعالى: «فَفَهُمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً»(3).

وكلا الأمرين يرجعان ابتداءً إلى اللّه تعالى، ويفاض منه سبحانه للمخلَصين من عباده المكرَمين، ولعلّه لذلك كان عزّ وجلّ خير الحاكمين وأحكمهم، كما قال تعالى: «وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»(4).

وقال تعالى: «فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللّه بِأَحْكَم الْحَاكِمِينَ»(5).

وقال تعالى حكاية عن نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحقّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ»(6)، وهذا يرجع إلى إنجاز الوعد وإنفاذ الحكم.

ورابعة: ينسب إلى سائر الناس، كما نبه عليه قوله عزّ وجلّ: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّه»(7)، وإلّا كان باطلاً، قال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»(8)، بل يعدّ الرجوع فيه إلى غير من أذن له الشرع، من

ص: 394


1- سورة المائدة: الآية 48.
2- سورة الشعراء: الآية 83.
3- سورة الأنبياء: الآية 79.
4- سورة هود: الآية 45.
5- سورة التين: الآية 8.
6- سورة يونس الآية 109.
7- سورة المائدة: الآية 47.
8- سورة المائدة: الآية 45.

التحاكم إلى الطاغوت، كما قال تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(1).

وإن كان بمعنى التشريع، فقد حرّمه اللّه تعالى على غير من أذِنَ له من الأنبياء والرُّسل، كما يدلّ عليه آية المقام، ويرشد إليه قوله تعالى: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً»(2)، ويشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلُوا اللّه ممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَاتِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّه وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»(3).

الثالث: مظاهر الحكم الإلهي متعدّدة، وآثاره كثيرة، تظهر في جميع العوالم وعلى كل الأشياء، فقد يظهر في التكوين وأفراد الموجودات، وأُخرى في التشريع، كما عرفت، ومن أظهرها وأبهاها الإنسان الذي اجتمع فيه جميع أفراد الحكم الإلهى، فقد خلقه في أحسن تقويم، وأحكم صنعه فيه، فكان بديع خلقه

فتبارك اللّه وهو أحسن الخالقين، كما أنّه مظهر تشريعه الأتمّ، حيث جعله خليفته الأرض، وأنزل أعظم التشريعات وأتمّها لهدايته، والوصول إلى السعادة التي تبتني على أشرف المصالح وأدقّ الحكم، لا يمكن دركها إلّا عن طريق الوحي، فكان حكمه عين الحقّ ومحض الحقيقة، فلا يختصّ بعالم معيّن، فإنّ جميع العوالم مظاهر حكمه تعالى، ولعلّه يرجع إلى أنّه هو الحقّ، قال عزّ وجلّ: «ثمّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الحقّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ»(4).

وقال تعالى: «فَتَعَالَى اللّه الْمَلِكُ الحقّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم»(5).

ص: 395


1- سورة النساء: الآية 60.
2- سورة الكهف: الآية 26.
3- سورة الأنعام: الآية 136.
4- سورة الأنعام: الآية 62.
5- سورة المؤمنون: الآية 116.

وقال تعالى: «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه هُوَ الحقّ الْمُبِينُ»(1).

فكان خلقه بالحقّ، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالحقّ»(2).

ويقول الحقّ، قال تعالى: «وَاللّه يَقُولُ الحقّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ»(3).

وأنّ الحقّ إليه، قال تعالى: «فَعَلِمُوا أَنَّ الحقّ لِلهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(4).

وأنّ يوم القيامة هو الحقّ قال تعالى: «ذَلِكَ الْيَوْمُ الحقّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَاباً»(5).

فكان كلّ شيء مظاهر حكمه الحقّ، ففي الدُّنيا ما عرفت من الآيات، وفي الآخرة قال تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6).

وقال تعالى: «فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(7).

وقال تعالى: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ»(8).

فلا حكم إلّا له، وغيره هالك، كما قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِك إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(9).

ص: 396


1- سورة النور: الآية 25.
2- سورة الأنعام: الآية 73.
3- سورة الأحزاب: الآية 4.
4- سورة القصص: الآية 75.
5- سورة النبأ: الآية 39.
6- سورة القصص: الآية 70.
7- سورة النساء: الآية 141.
8- سورة الحج: الآية 56.
9- سورة القصص: الآية 88.

الرابع: التوحيد في الحاكمية من شؤون الأُلوهيّة الكبرى والربوبيّة العظمى، والمالكية التامّة له سبحانه في الدُّنيا والآخرة، حتّى تُثبت له التصرّف التامّ في خلقه وشؤونها بالإيجاد والإعدام وسائر التصرّفات، ومثل هذا النوع من التصرّف يتوقف على ثبوت ولاية بالنسبة إلى اللّه عزّ وجلّ، كما في سائر أنواع الولاية الاعتبارية التي تثبت للإنسان، فإنّ كلّ مسلّط لا يحقّ له التصرّف في المسلّط عليه إلّا بعد ثبوت نوع خاصّ من الولاية له، وإلّا كان التصرّف باطلاً أو عدوانياً. ولذا أسس الفقهاء أصلاً في الفقه يعتمدون عليه في نفي كلّ ولاية مشكوكة، فالأصل يقتضي عدم ثبوت ولاية لأحد إلّا بإذن خاصّ، فمثل هذه الولاية التامّة المستقلة ثابتة له عزّ وجلّ بالذّات، وقد عرفت أنّ هذه الولاية الذّاتية ترجع إلى كونه عزّ وجلّ هو الحقّ المتّصف بصفات حقيقية كمالية، تدلّ على استحقاقة الملكية التامّة والربوبيّة العظمى، وقد أثبتهما لنفسه في سورة الفاتحة. ومن أظهر مصاديق تصرفه عزّ وجلّ في ما سواه، خلق الموجودات من العدم، وتربيبه العظمى لها واحتياجها المطلق اللّه الغنى، ومن هنا صارت ولايته تعالى على سائر خلقه تامّة وحقّة، كما أشار إليه عزّ وجلّ في قوله: «هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الحقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً»(1).

كما أنّه لا اختصاص لهذه الولاية الخاصّة بشأن معيّن أو بعالم دون آخر، لأنّ الذّات المستحقّة لها بريئة عن كلّ المتغيّرات، ونزيهة عن كلّ ملابسات المادّة، وإن كان لصفاته المقدّسة مظهراً أتم فى يوم القيامة، ولعلّ الآية الشريفة تشير إلى ذلك، أو إلى زمان ظهور الصراع بين المؤمن والكافر في الدُّنيا.

ومن جميع ذلك يظهر انحصار الحاكمية باللّه تعالى، واعتبارها من مراتب

ص: 397


1- سورة الكهف: الآية 44.

التوحيد المطلق، وتدلّ عليه آيات متعدّدة منها آية المقام، وذكرنا سائرها في مطاوي البحث.

ثمّ إنّ لهذه الحكومة الإلهيّة إضافتين:

فإن أُضيفت إليه عزّ وجلّ، كانت ذاتية واختصّت به سبحانه، وذلك لأنّ نظرية التوحيد في الإسلام تجعل تمام التأثير اللّه عزّ وجلّ وحده لا شريك له، فهو المؤثر إيجاداً وإعداماً، وفى جميع الشؤون الراجعة إلى مخلوقاته.

وإن أُضيفت إلى عباده عز وجل، فهي إنّما تثبت بإذن من اللّه سبحانه، فلا ولاية - لا حكم ولا قضاء – إلّا له عز وجل، إمّا ذاتاً أو بالتبع، كما في غيرها من الصفات كالخلق، والعلم والقدرة، والحياة، والمشيئة، والرزق ونحو ذلك، وإن كانت تختلف باختلاف الخصوصيّات والقابليات والأشخاص، فإنّها لم تكن على نسق واحدٍ وطبيعة فاردة، فالحكم بما له التأثير يختصّ به عزّ وجلّ، سواء كان في الحقائق أو الشرائع، فيكون الجعل له، لكنّك عرفت فيما مضى أنّه وإن لم يكن في القرآن المجيد ما يدلّ على تفويض الحكم التكويني إلى أحد من عباده إلّا أنّه يمكن الاستفادة من نظيراته من معاني الصفات والأفعال الإلهيّة التي تنسب إلى غيره عزّ وجلّ، بنوع من الانتساب في آيات كثيرة يمكن العثور عليها بسهولة.

وأمّا الحكم التشريعي فلا ريب في تحقّق تفويضه إلى خلقه، ويدلّ عليه الأدلة النقلية من الكتاب والسنّة، وقد تقدّم بعضها في التفسير، فراجع.

والمستفاد من جميع ذلك: أنّ الحكم الحقّ، له سبحانه وتعالى بالذّات وبالأصالة، ويثبت لغيره بالعرض وبإذن منه عزّ وجلّ، ويمكن الاستدلّال عليه بأمر اعتباري عقلى، وهو إنّ جعل الحكومة في المجتمع الإنساني من الأُمور الضرورية في حياته، لأنّ بها يتحقّق النظام الذي يسعد به الناس، وينتشر العدل والقسط بينهم، ويصل كلّ ذي حقٍّ إلى حقه، وبها يمكن تطبيق القوانين الإلهيّة

ص: 398

والتشريعات السماويّة، ويقوم كلّ فرد بواجباته، ومثل هذه الحكومة الاعتبارية المتمثِّلة في إمرة الأشخاص، ليس من شأنه سبحانه وتعالى كما هو معلوم بل تكون من شأن المماثل للمحكوم عليه بشروط معيّنة، كما يدلّ عليه قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم»، وغيره ممّا ورد في الكتاب العزيز، والسنّة المباركة.

ومن تلك الشروط إذنه تبارك وتعالى الذي يتفاوت بحسب العموم والخصوص، ولأنّه يشترط فيها إقامة العدل، وكون القائم بها عادلاً، فهو عزّ وجلّ أعدل العادلين، كما كان أحكم الحاكمين، أو خير الحاكمين.

فالحكومات الدائرة في الاجتماع الإنساني، لابدّ أن يرجع شرعيّتها من ولايته سبحانه، وحكمه بوجه من الوجوه، وإلّا كانت من الطاغوت الذي أُمروا أن يكفروا به.

المقام الثاني ما يستفاد من قوله تعالى «وهو خير الفاصلين»

المقام الثاني: يستفاد من قوله تعالى: «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ» أنّ ذاته المقدّسة وصفاته العليا، وأفعاله المباركة، فاصلٌ في كلّ موضوع، لأنّه الحقّ المحض، فلابدّ أن يكون فاصلاً بجميع شؤونه تعالى، والواقع يستمدّ حقيقته منه عزّ وجلّ، وبذلك اختلفت أفعاله عن غيره، ولتوضيح المقصود لابدّ من بيان المراد من الحقّ الذي يُطلق على وجوه:

الأوّل: القول المطابق للمخبر عنه إذا طابق القول، بمعنى مطابقة القول للواقع الثابت في نفسه مستقلاً عن إدراكنا، ففي الحكم والقضاء إنّما يكون حقّاً إذا وافق السنن الجارية في الكون.

الثاني: الموجود الحاصل بالفعل، بمعنى وقوع الشيء في الخارج، وكونه واقعاً في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن، كالأرض والسماء، والنبات والحيوان والإنسان، وكل موجود خارجي.

ص: 399

الثالث: الموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه، أي العدم المقابل، فيختصّ بالموجود الدائم، وهو يختلف عما قبله لكونه مطلق الموجود فيشمل الموجود الحاصل في أحد الأزمنة.

وجميع المعاني المتقدّمة للحقّ تنطبق عليه سبحانه وتعالى، فهو حقّ من حيث الإخبار عنه، وحقّ من جهة الوجود، وهو الموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه بوجه من الوجوه، حتّى عن الماهيّة لتجرده سبحانه عنها، بخلاف غيره فإنّه لا يأبى عن مخالطة الماهية، فكان تعالى واجباً بالذّات، وإليه يشير القول المعروف:

* ألا كُلِّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّه باطلُ *

فهو عزّ اسمه الحقّ المطلق من جميع الجهات؛ فتوحیده حقّ، وفعله وحكمه كذلك، لأنّ كلّ واحد من شؤونه تعالى يهدي الإنسان إلى السعادة الحقيقة، وغيره باطل، يجرّه إلى الشقاء المهلك والعذاب الدائم، كما قال تعالى: «إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(1).

فكان ما سواه من مخلوقاته بما لها من النظام والسنن والنواميس تكون من فعله عزّ وجلّ، فمنه الابتداء، وبه يقوم، وإليه المرجع والأنّهاء، والحقّ يتبع فعله ويقتفي أثره، وإنّما يستند إليه عزّ وجلّ، فهو الحقّ بذاته، وكلّ ما سواه حق به و ناطق به، قال تعالى حكاية عن قول المشركين: «قَالُوا الحقّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»(2)، وهو يحقّ الحقّ.

ومن مظاهر فعله الحقّ خلقه الإنسان وإيداع الفطرة فيه تدعوه إلى الحقّ، وعقلٌ يرشد إليه، ونفس ناطقة تترنّم به، وأفعاله الخارجية ترجع إلى رفع حوائجه وإتمام نواقص وجوده، فربما تتطابق مع سعادته المطلوبة التي يتوخّاها بحسب

ص: 400


1- سورة لقمان: الآية 13.
2- سورة سبأ: الآية 23.

فطرته، وربما خالفت، فيتوسل إلى قوانين تراعى صلاح حاله مادّياً ومعنوياً، وتجلب ما فقده من السعادة، ولم يكن جعل القوانين مطلقاً إلّا لأجل هذه الحيّثية، أي طلب المصلحة أو دفع المفسدة، يكون لها ثبوتٌ واقعي لهما نوع من التحقّق والثبوت، يختلف عن الوجود العيني والذهني، فيكون لهما في وعاء الاعتبار آثاراً تظهر على موافقتها أو مخالفتها، فإنّ وافقتها الأفعال الاختيارية، ظهرت المصلحة وانجرّت إلى السعادة، وإن خالفتها جلبت الشر والشقاء، فمنشأ حقيقتها إِنّما هي صفات حقيقة يقرّ بها العقل، وهى التي تدعوا إلى الفعل، ويستمد منها الأحكام والقوانين،قوتها، وتتّصف بصفة الإلزام إمّا فعلاً أو تركاً، فلا تقبل البطلان، وتثبت لها الديمومة والبقاء ما تظهر آثارها في غير الدُّنيا، فلا تقبل الفناء، وبهما تستمدّ الأشياء قيمتها المعنوية، والعقل يدركها بوسائله، واتّفق العقلاء على قبولها، فصار الحُسن والقُبح مقياس الصحة والفساد في الأشياء، وأثبتهما الشرع فتطابقا، وقد سنّ الشرع أروع التشريعات والأحكام ممّا ترجع إلى الصلاح العام، ونيل السعادة، فكان الشارع المقدّس خير الفاصلين في ذلك كلّه، بل كلّ فاصل بين الحقّ والباطل إنّما يستمد صلاحيته وحقيقته من الحقّ المطلق، فهو تعالى خير الفاصلين.

ومن جميع ما ذكرناه عرفت الفرق العظيم بين أفعال اللّه تعالى وأفعال غيره، وهو الموافق للأدلة العقلية والنقلية، وأقرّ بها العدلية من الإماميّة وغيرهم، وإن خالفهم جماعة على أقوال:

منها: القول بعدم الفرق بين أفعال اللّه تعالى وأفعال عباده، لعدم وجدان الخلاف بين الأحكام والتشريعات الإلهيّة، وبين جعل القوانين والتشريعيات التي يسنّها الإنسان، وذلك لوجوه متعدّدة، فإنّ معنى الجعل والحكم في التشريعات واحد. كما أنّ الفعل معناه لا يختلف في الفعلين في الانطباق على المصالح

ص: 401

الواقعيّة، كما عرفت آنفاً، فتكون أحكامه وأفعاله عزّ وجلّ تتأثّر بالمصالح والمفاسد الواقعيّة التي لها ثبوت فى الواقع ثبوتاً أزليّاً أبديّاً، لا تقبل التغيير والتبديل، ولها نوع حكومة عليه عزّ وجلّ من حيث جعل الحكم والتأثّر في أفعاله وتشريعاته.

نعم، هو العالم بالحقائق الواقعيّة، بصيرٌ بمصالح العباد، ولعلّ مرجع هذا القول إلى كون فعل الإنسان مخلوق له، وأنّ اللّه تعالى لا يملك من فعل الإنسان شيئاً، ولا تتعلّق به قدرته، وهو رأي المفوّضة من المعتزلة.

ولكن فساد هذا القول واضح، فإنّه مضافاً إلى أنّه يستلزم تعطيله سبحانه وتعالى، إنّ مجرّد تشابه الأحكام والعلم بالمصالح من كلا الفريقين لا يستلزم انتفاء الفرق بينهما، لا سيّما بعد ما عرفت من أنّ الأحكام أُمور اعتبارية، شُرّعت لأجل صلاح حال الإنسان من حيث السعادة والشقاوة، وجلب النفع أو دفع المفسدة، وأين ذلك وأفعاله المقدّسة التي هي حقائق واقعية، تستمدّ منها واقعية الإنسان وأفعاله، وحقيقتهما.

ومنها القول بأّن الحسن في الشيء ما تعلّق الأمر به شرعاً، والقبح ما تعلّق به النهي كذلك، فلا غرض ولا غاية في تكوين أو تشريع، كما أنّ الإنسان لا يملك من فعله شيئاً، ولا قدرة له قبل الفعل عليه، وهم الذين ذهبوا إلى الجبر في الأفعال.

وهذا القول فيه من الإفراط ما يقابل تفريط القول السابق، وبطلانهما واضح كما فصله علماؤنا الأبرار في كتبهم الكلامية والأصولية، ومحصّل ما ذكروه:

أنّ الإنسان خَلَقه اللّه تعالى في أحسن تقويم، وأبدع صنعه فيه، وأوجده من العدم، وزوّده بحاسّةٍ يسعى إلى تحصيل الكمال، وإكمال النقص الذي يستشعر به أثناء مسيرته التكاملية، وأنّه يبغي البقاء في الحياة بصورة أصلح، والعيش في

ص: 402

الدُّنيا بأسلوب أهنئ، فهو يبحث في نيل كلّ ما يوجب سعادته، والاجتناب عن كلّ ما يوجب شقائه، وقد منحه اللّه تعالى بأعظم نعمة، وهي العقل الذي لا بدّ أن يدرك جهات الحُسن و القُبح في الأشياء للوصول إلى هذه البغية العظيمة، والطريق إلى درك تلك الجهات، هي الأحكام مطلقاً سواء كانت تكليفية كالوجوب والحرمة،ونحوهما، أو وضعية كالصحّة والفساد والملكيّة والحقّ، وغير ذلك ممّا يجري فيه قانون الأسباب والمسبّبات، ونواميس الكون، وذلك يستلزم وضع القوانين والتشريعات التي لا بدّ لها من اتّصافها بأوصاف كالثبوت والديمومة، لتتمّ بها حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، ولا ريب أن تلك المدرَكات على أنحاء:

منها: تلك الأُمور النسبية التي تختلف عند الأُمم والمجتمعات، تبعاً لاختلاف مقاصدهم وتغيّرها؛ فربما يكون أمراً هو حَسَن عند قوم لا يكون كذلك عند آخرين، كما أنّه قد يكون الواجب عند مجتمع هو حرام عند آخرین، و تفاوت تلك المدرَكات إنّما ترتبط بلوازم الحياة، ومراحل السير التكاملي الاجتماعي للمجتمعات.

ومنها: ما يرجع إلى المقاصد العامة لجميع المجتمعات والأُمم، بحيث لا يختلف فيه اثنان، كأصل العدل والظلم، ويستتبعان من الحسن والقبح، والوجوب والحرمة، ونحو ذلك ممّا يرجع إلى سنن الحياة عند الإنسان، وأصل اجتماعه، وتعتبر مادّة الحياة الخلقية للإنسان.

ومنها: الدِّين الذي هو عبارة عن مجموعة حقائق ومعارف وعقائد وأحكام عملية، ترجع إلى صلاح حال الإنسان في الدُّنيا والآخرة، وتستعقب الثواب والعقاب، وهي وإن رجعت إلى كمال الإنسان من حيث عقائده التي يجب أن يعتقد بها ويلتزم بها، أو أخلاقيات ترجع إلى مكارم الأخلاق، التي لا بدّ أن تتصف النفس بها، أو أحكام عملية وسياسات ترجع إلى تنظيم النظام العام في المجتمعات

ص: 403

الإنسانية، إلّا أنّ جميعها ترجع إلى المصالح العامّة التي تصلح شأن الإنسان في الدارين، وقد أمر اللّه تعالى بها وحكم بتلك المجموعات التي تشكّل هيئة الدِّين، باعتباره يراعي تلك المصالح، فهو عزّ وجلّ لم يأمر إلّا بالحسن الجميل، ولا ينهى إلّا عن القبيح الذي فيه الفساد، ولا يحكم إلّا بما يراه العقل حسناً، ولا ينهى إلّا ما يراه العقل قبيحاً وينبغى تركه، وإيصال هذا الأمر العظيم إلى الإنسان لا يكون خارجاً عن الطرق المتعارفة المألوفة بين الأفراد في إيصال مقاصدهم، والسنن الاجتماعية الدائرة في طرق تفكيرهم، وتلقى الحقائق بينهم، فهو تعالى الربّ العظيم والمعبود الحقيقي، والعقل يقضي على العابد والمربوب مراعاة حق العبودية، وتطبيق الدِّين الذي أنزله اللّه تعالى من دون إلجاء وإكراه، وبذلك قد احتفظ لنفسه عزّ وجلّ مقام الربوبيّة والعظمة، فلا يصحّ أن نخلط بين الربّ العظيم وبين ما أنزله من الدِّين، الذي هو جملة من المعارف والآراء الاجتماعية، ممّا يرجع إلى صلاح حال الإنسان، كما أشار إليه قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»(1).

الأقوال في أفعاله المقدّسة

ومن جميع ما ذكرناه يظهر الفرق بين الفعلين من وجوه:

الأوّل: إنّ أفعاله تبارك وتعالى وشرائع دينه، وإن كانت معلّلة بالمصالح، و ترجع إلى جهات الحسن، ولكنّها ليست حاكمة على إرادته تعالى، بل إنّ فعله نفس الكون الخارجي والوجود العيني، بخلاف غيره عزّ وجلّ فإنّها حاكمة على أفعال العقلاء، فهي دواع وعلل غائية لها، فهو عزّ وجلّ يفعل ويحكم لأنّه اللّه ويترتّب على فعله ما يترتّب على أفعال العقلاء من المصلحة والحسن، كما قال تعالى: «وَيَمْحُ اللّه الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الحقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(2).

ص: 404


1- سورة الزخرف: الآية 4.
2- سورة الشورى الآية 24.

الثاني: إنّ أفعال العقلاء مسؤول عنها، وأفعاله تعالى غير مسؤول عنها، كما قال تعالى: «لَا يُسْتَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون»(1).

الثالث: إنّ أفعاله سبحانه حقائق واقعيّة ومجرّدة عن الاعتبار بخلاف أفعالنا، قال تعالى: «لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ»(2).

الرابع: إنّ أفعالنا معلّلة بالأعراض والغايات والمصالح، دون أفعاله عزّ وجلّ فإنّها لا تكون تحت تأثيرها وسلطنتها، كما قال تعالى: «وَاللّه يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ»(3).

***

بحث عرفاني وفيه ما يتعلّق باصلاح النفس

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة تتعلّق بإصلاح النفس، وتبيّن الآثار العظيمة الوخيمة المترتّبة على اتّباع الهوى، ممّا يجعل الإنسان عبداً لها، فلا يمكنه التخلّص من العواقب السيئة، كمال قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(4). وأن فيه الابتلاء بنار الفراق العظيم، ولذا نهى سبحانه نبيّه عن اتّباع الهوى في آية المقام وغيرها لسوء آثاره، وبين عزّ وجلّ أمرين مهمين لهما التأثير الكبير في حياة الإنسان المعنوية:

أحدهما: الضلال، كما قال تعالى: «قَدْ ضَلَلْتُ إِذا» ولا ريب أنّه يستتبع الابتعاد عن الحقّ وأهله.

والآخر: سلب الهداية: «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ».

ص: 405


1- سورة الأنبياء: الآية 23.
2- سورة القصص: الآية 70.
3- سورة الرعد: الآية 41.
4- سورة الجاثية الآية 23.

وكلّ واحد منهما يؤدي إلى الهلاك المعنوي، وضياع الجهود في سيره وسلوكه التكاملي، الذي هو بحاجة إلى توفيق ربّاني، واستعداد نفسي معين، وكيف يتحقّق ذلك؟! إذا كان باتّباع الهوى يوجب فقدان البيئة التي تفصل بين الحقّ الذي يجب اتباعه والباطل الذي يلزم الابتعاد عنه، وانتفاء الحجّة، ولذا عقّب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ما أمره اللّه تعالى بأنّه على بينة من ربّه واضحة، يعتمد عليها في تمييز الحقّ عن الباطل، فلا يتحقّق منه اتّباع الهوى الذي من سماته أيضاً الكذب بآيات اللّه الواضحة، ونسيان ذكره، ومن ضلاله أنّه يستعجل العذاب الذي فيه هلاكه، فهو لم يستند على أساس وثيق، فانعزل عمّا يوجب هدايته، وأنساه اللّه تعالى نفسه، والتخلّص من الهوى إنّما يتحقّق بالتقوى، واتّباع النور الذي ينشرح به الصدور ليكون على الهدى، وإيكال الأمر إليه عزّ وجلّ، فإنه الحَكَم الحقّ وخير الفاصلين. فإنّ الأمر دقيق ومن مزالق الأقدام، وقد حذّرنا اللّه تعالى منه في غير موضع من القرآن الكريم.

***

ص: 406

سورة الانعام، الآية 59-62

إشارة

الآية 59 - 62

«وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَر وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّى ثمّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثمّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ حتّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثمّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمْ الحقّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِينَ (62)».

تتضمّن الآيات الكريمة جملة من الصفات الإلهيّة التي تفرد بها اللّه سبحانه وتعالى، فاستحقّ بها الأُلوهيّة والربوبيّة العظمى، فقد أثبتت سعة علمه الذي تعلّق بما سواه من الكلّيات والجزئيات، فهو يملك مفاتح الغيب، ويعلم الغيب والشهود، يتصرّف في الخلق بما يشاء، وهو القاهر فوق عباده، لا يشاركه أحدٌ منهم فيما اتّصف به، وأنّ مرجع الخلق كلّهم إليه، فيحاسبهم على ما عملوا ثمّ يجازيهم عليه، ولا أحد من آلهة المشركين يكون كذلك، فكانت الآيات حجة أُخرى دامغة على بطلان عقيدة المشركين وفساد عبادتهم، ومنه يظهر وجه الارتباط بما سبق من الآيات التى أثبتت له عزّ وجلّ الحكم الفصل والقضاء الحقّ، وأن ذلك يستلزم أن يكون عالماً بالغيب، وجميع ما يرتبط بشؤون خلقه، مالكاً لزمامهم، متسلّطاً

ص: 407

عليهم تسلّط قدرةٍ وقهارية، وذكر بعض المفسِّرين في وجه الارتباط ما لا يخلو من نقاش، فراجع.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ»

التفسير

قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ».

آية عظيمة تدلّ على سعة علمه عزّ وجلّ، وانحصاره به، فلا يشاركه أحد غيره، وكلمة «وَعِنْدَهُ» تفيد معنى الشهود المطلق، والثبوت بنوع خاصّ في هذا المقام بلا زمان ولا مكان، ولا حدّ من حدود الإمكان، ولا ممّا يكون من ملابسات المادّة، وهو يختلف عن الحضور، سواء أكان علمياً أم غيره، كما ستعرف، ومثل هذا الشهود الخاصّ لا يكون إلّا عند اللّه تعالى، فكان لهذه الكلمة الوقع الخاص في النفوس المستعدّة التي تأثرت بمهابته عزّ وجلّ، فأفادت أمراً عظيماً، فكان من أروع براعة الاستهلال، تثبت المطلوب، وتقرّبه إلى الذهن، مع قوّة البرهان وفصاحة البيان.

و (مفاتح الغيب) إمّا جمع (مفتح) بكسر الميم، وهو كمفتاح آلة الفتح، وقيل: أنّه جمع مفتاح، كما في محراب محاريب، ويؤيِّده القراءة الشاذة (مفاتيح). أو جمع (مفتح) بفتح الميم وهو المخزن، ويؤيّده ورود كلمة خزائن في سبعة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: «لا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِن اللّه»(1).

وقوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيءٌ إِلا عِنْدَنا خَزائتُهُ»(2).

وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ»(3).

ص: 408


1- سورة الأنعام: الآية 50.
2- سورة الحجر: الآية 21.
3- سورة المنافقون: الآية 7.

وقوله تعالى: «أمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبَّكَ»(1).

وقوله تعالى: «أمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبَّكَ»(2).

والظاهر أنّهما متلازمان، فإنّ من عنده مفاتح الخزائن، وهو عالم بما فيها، قادرٌ على التصرّف فيها، يكون كمن عنده الخزائن نفسها وهو مالك لها.

وكيف كان، فإنّ الكلام على الاستعارة، حيث شبّه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالأقفال، وأثبت لها المفاتيح تخيّلاً، وهي باقية على معناها الحقيقي.

وأمّا إذا أُريد منها العلم، فتكون الاستعارة مكنية، وتقديم الخبر لإفادة الحصر، حيث أفاد هذا الأسلوب البلاغي المتين للزيادة في التأثير والمهابة في النفوس.

والمراد من الغيب أو خزائن الغيب المغيبات وعلمها التي هي محجوبة عن الخلق، وهي عند اللّه سبحانه، العالم بها شهود محض، يتصرّف فيها بما يشاء، وتقدّم الكلام في معنى الغيب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ»

قوله تعالى: «لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ».

تأكيد لمضمون ما قبله وبيان لاختصاص العلم بالمقدورات الغيبية به سبحانه وتعالى، بعد بیان انحصار القدرة التامّة والسلطة الكاملة عليها به عزّ وجل. ولبيان عموم علمه جلّ وعلا، وفيه الإشارة إلى ما سبق من وعده لرسوله بالنصر المؤزّر، ووعيدٌ لأعدائه بالعذاب والقهر، فإنّهما من مقدوراته، والتأخير إنّما هو الحكمة متعالية.

والآية الكريمة تبيِّن حقيقة واقعية، وهي أنّ الغيوب التي هي في خزائن

ص: 409


1- سورة ص: الآية 9.
2- سورة الطور: الآية 3.

الغيب، ووقعت في أستار،الخفاء، وأقفال الإبهام، لابدّ أن لا تحيط بها الحدود الإمكانية التي تحيط بالأشياء في عالم الشهود، وإلّا لم تكن من الغيوب المخزونة عند اللّه تعالى، إلّا أن تخرج عن حكم الحدّ والقدر، وليس الإنسان كذلك، فإنّه لا يحيط إلّا بما هو محدود ومقدر، فالأشياء قبل وجودها بالوجود المحدود المقدور تكون غيباً عند اللّه، وثابتة بنوع من الثبوت عنده عزّ وجلّ، وإن كانت كيفية ثبوتها وخصوصيّاتها مجهولة لنا، لا يمكن الإحاطة بها، فيكون الذي يحيط بها عالماً بالكيفية التي تكون عنده جميع المفاتيح، فيمتلك جميع الوسائل التي يتوصل بها إلى العلم بالغيب، وهو اللّه سبحانه الذي يعلم علماً ذاتياً بها، وهو الذي يكون عنده مفاتح الغيب، وغيره عزّ وجلّ جاهلٌ بالذّات، لا يستطيع أن يعلم شيئاً منها إلّا بإعلام منه عز أسمه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»

قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ».

تعميم لمتعلّق علمه ليشمل كلّ ما يمكن أن يتعلّق به علم غيره بوجه من الوجوه، فربّما يكون حاضراً عند بعض وهو غائب عن بعض آخر، وتقديم ما في البر لقربه إلى المخاطبين، أو للترقّي من الأدنى إلى الأعلى، فإنّ في البحر عظيم عجائبه، وإن كانت خفايا البحر كخفايا البرّ أكثرها غائب عن غالب الخلق.

والبر والبحر متقابلان يعرفهما الناس، وأصل البحر كلّ مكان واسع جامع للماء الكثير، والغالب عليه أن يكون أُجاجاً ملحاً، ويُطلق على غيره توسّعاً، والبرّ هي الأرض اليابسة.

وعلمه تبارك وتعالى بما في البحر والبرّ، إنّما هو من علم الشهادة، وإحاطة علمه بكل ما يرتبط بشؤون الحياة الدنيوية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا»

قوله تعالى: «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعْلَمُهَا».

ص: 410

بيان لإحاطة علمه سبحانه بالجزئيات مهما كثرت واستصعب على غيره العلم بها، أو أنّ العلم بسقوط أوراق الأشجار، وما يؤول إليه أمرها، وما كانت عليه قبل سقوطها، وتميّز بعضها عن بعض، ممّا يدلّ على سعة العلم، ودوام المراقبة على الأحوال الطارئة عليها، ومثل هذا العلم منفىٌّ عن غيره عزّ وجلّ، فإنّه إحاطي يدلّ على شدّة المراقبة ودوامها، وعظمة علمه ممّا يجلّ عن الوصف، ولعلّه من أجل ذلك أعاد حصر العلم به.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ»

قوله تعالى: «وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ».

بيان لدقّة علمه عزّ وجلّ، وتعلّقه بالمبهمات والغوامض من الموضوعات، فإنّ الرطوبة واليبوسة من الأحوال الطارئة التى لها الدخل في تشكّل الماهيات، وقد ذكر المفسِّرون أنّها عطف على (ورقة) أي ولا يسقط من رطبٍ ولا من يابس، وهما يختصّان بما من شأنه السقوط كالثمار، كما هو مقتضى العطف. ولكن الصحيح أن يكون العطف فى الحكم، أي ويعلم كل رطب ويابس أياً كانت أنواعهما وخصوصيّاتهما، وتكون الثمار ونحوها من أظهر أفرادهما، لاستئناس الذهن بهما.

ما يتعلّق بقوله تعالی «إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينِ»

إشارة

قوله تعالى: «إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينِ».

كناية عن العلم بأبلغ وجه، وفيه التأكيد على ثبوته وتحقّقه، أي إنّ المذكورات واقعة ومكتوبة في كتاب مبين، لا تخلّف فيها، وهو يستلزم العلم بها، وفي التعبير كمال العناية بأنه لا يطرأ على هذا العلم المكتوب ما يطرأ على غيره من الخفاء والستر، أو التغيير والتبديل، وهذا من أهمّ صفات العلم الربوبي.

وتوصيف الكتاب بالمبين، لدرء كلّ ما يحتمل في علم غيره من الطوارئ الإمكانية عن علمه عزّ وجلّ، بلا فرق بين أن يكون المبين بمعنى المظهر أو

ص: 411

الظاهر، فانّه يستلزم أحدهما الآخر.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام، فإنّه تجريد للآية عن المعنى الحقيقي السامي لها.

والآية الكريمة بمقاطعها المتعدِّدة، في أسلوبها البديع المشتمل على الألفاظ الفصيحة التي تهتزّ النفوس لها، فقد ذكر فيها البرّ والبحر، وسقوط الأوراق، وبذور النباتات التي تبذر في ظلمات الأرض، وثمرات تلك البذور، وغير ذلك ممّا يُحبب مضمون الآية إلى المخاطبين، وتبيّن أوصاف العلم الإلهي، التي من أهمّها أنّ علمه لا يقبل الطوارئ التي تطرأ على سائر الممكنات، من التغيّير والتبديل والانقلاب كالزيادة والنقصان والسهو والنسيان وغيرها من صفات الإمكان، وقد بيّنت أُموراً:

الأوّل: إن كون خزائن الغيب و مفاتيحها عند اللّه تعالى، يقتضي الشهود المطلق، والسيطرة التامّة الكاملة، فالأشياء كلّها حاضرة لديه عزّ وجلّ حضور علم، وهي مقهورة تحت إرادته، مربوبة بربوبيّته العظمى، فلا غيب في المقام الربوبي بكلّ معانيه وجميع ما يمكن تصويرها عند غيره تعالى.

وتقسيم العلم في ذلك المقام السامي إلى الغيب والشهود، إنّما هو بلحاظ مدركاتنا وأفهام المخاطبين.

ما يتعلّق بالغيب وأقسامه

الثاني: تقسيم المعلومات إلى أنواع متعدّدة.

منها: الغيب المطلق الذي لا تحصره الأقدار والحدود، والنسب والإضافات، فهي خزائن الغيب، ومثل هذا الغيب من مختصّاته عزّ وجلّ، ومن خصائصه أنّ له خزائن تشمل جميع ما سواه، وعليها أغلاق لها مفاتيح عند اللّه، لا يمكن لمن هو في عالم الإمكان دركه بوجه من الوجوه، فلا يصحّ توصيفه بالحدود الإمكانية كالزمان، فهي قبل وقوعها وحدوثها ثابتة عند اللّه عزّ وجلّ،

ص: 412

نوعاً من الثبوت قد لا يمكن دركه بمداركنا، والإحاطة بكيفية ثبوتها، فإنّه ربما لا تكون مسانخة لما هو المعهود في عالم الشهود.

ومنها: الغيب النسبي، ومورده تلك الأشياء التي خرجت من خزائن الغيب، وتلبست بالحدود والأقدار الإمكانية، ومن خصائصه كون متعلّقه عاماً يشمل جميع الأشياء دقيقها وجليلها، عاليها وسافلها، بعد وجودها وتحقّقها وتسربلها بلباس الحدّ،والقدر، فهو وإن رجع إلى الغيب باعتبار كونه مورد جهل غیره عزّ وجلّ، لكنّه لا يأبى أن يتعلّق به علمنا، فينقلب إلى الشهود، فيكون قبل أن يتعلّق به العلم غيباً، ولهذا كان من الغيب النسبي، يختلف بِطُرُوّ الإضافات والنسب عليها. وحينئذٍ يكون غيباً لبعض وشهوداً لآخر، وقد بيّنت الآية الكريمة موارد تعلّق هذا النوع من الغيب بجميع ما يطرأ عليها من الحدود الإمكانية.

ومنها: الغيب المتعلّق بالمتغيرات والحوادث، التي تتّصف بالتحوّل والتغيّر كالرطب واليابس والورق الساقط من الأشجار.

ومنها: الغيب المتعلّق بالجزئيات التي يحيط بها كتاب التكوين، فهي وإن كانت غائبة عن الشهادة، فتكون من الغيب المطلق قبل نزولها إلى كتاب التكوين، فيكون هذا الكتاب بمنزلة المرآة لخزائن الغيب، تنطبع فيه تلك الجزئيات التي تعلّقت إرادته تبارك وتعالى بإيجادها وتحقّقها في الخارج، واقترانها بالحدود الإمكانية، والأقدار الحادثة، فيكون المراد من الكتاب المبين صفحة الوجود، أو المراد منه لوح المحو والإثبات الذي يقابل أم الكتاب، كما في قوله تعالى: «ويَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1).

يكون التغاير بين الكتاب المبين والخزائن الإلهيّة التي تكون مفاتيحها عند

ص: 413


1- سورة الرعد: الآية 39.

من يعلم الغيب المطلق، من جهات متعدّدة:

الأولى: أنّ الأخير أصل الأوّل، فإنّه ما من شيء يتحقّق في صفحة الوجود، ويتنعّم بنعمة الخلق والإيجاد إلّا وله أصلٌ في خزائن الغيب يستمدّ منه.

الثانية: إنّ الكتاب المبين يحصي الموجودات في عالم الصنع والإيجاد، بما لها من الحدود والصفات، والشروط وسائر جهاتها، وأمّا خزائن الغيب فهي أعلى درجة، لأنّها تشمل الأشياء قبل وجودها ودخولها في عالم الأقدار والحدود، كما

عرفت.

الثالثة: إنّ الكتاب المبين يحصى جميع قوانين عالم المادّة والإمكان، بحيث لا يتخلّف شيء عن تلك القوانين المجعولة من قبل خالقها وبارئها، فيكون بمنزلة صفحة،الذهن، والمتصوّرات فيه بالنسبة إلى ما هو الواقع في الخارج، وله نظائر كثيرة.

الرابعة: إنّ ما في الكتاب يشمل ما هو كائن وما كان وما يكون، فلا يشذّ عنه شيء، فيكون شاملاً غيب كلّ شيء، كما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلّا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا تُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(1).

ومنها: الغيب في عالم المادّة الذي يحتجب عن حسّ الإنسان، وإن أمكن علمه به باستخدام الوسائل العلميّة، كما يدلّ قوله تعالى: «وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسِ».

ومنها: الغيب الحاصل من كثرة الأفراد، بحيث يصعب على غيره عزّ وجلّ العلم بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعْلَمُهَا».

ومنها: الغيب الحاصل من دقّة الشيء إمّا للطافته، أو رقته، وإن أمكن العلم

ص: 414


1- سورة الحجر: الآية 21.

به بأسباب أُخرى غير الأسباب العادية عند الإنسان، مثل الحواس الظاهرة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» لما فيها من الدقائق واللّطائف.

ومنها: الغيب الحاصل من عدم تمييز الأفراد، لتعاقب الأحوال، وتوارد الحدثان، كما هو ظاهر قوله تعالى: «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ»، فإنّ أوراق الأشجار ممّا يطرأ عليها الأحوال، ويصعب على الإنسان تمييز بعضها عن بعض.

الثالث: علمه تبارك وتعالى بما يحدث في الأرض، وجميع ما يتعلّق بها من الشؤون والحوادث، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَلاً رطب ولا يابسٍ» وأنّها مكتوبة في الكتاب المبين، كما هو المستفاد من قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ»(1).

الرابع: شموليّة علمه عزّ وجلّ، سواء كان غيباً مطلقاً، أو نسبياً بالمعنى الذي تقدّم، ويدلّ عليه مجموع الآية صدرها وذيلها.

الخامس: إنّ علمه سبحانه بالجزئيات كعلمه بالكليات، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ»، وقوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ».

السادس: عدم تأثّر علمه بالتغيّرات والحوادث الطارئة، فإنّ المعلومات مطلقا مذكورة في كتاب مبين، فهو يحصيها قبل وجودها وحينه وبعده، والتغيّر إنّما هو في الموجود الخارجي دون العلم الإلهي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ»

قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ».

بيان لأظهر مصاديق علمه عزّ وجلّ الذي تبتني عليه حكمته المتعالية،

ص: 415


1- سورة الحديد: الآية22.

وقدرته التامّة والتوفّي أخذ الشيء وافياً أي تاماً كاملاً، ويقابله التوفية وهو إعطاء الشيء تامّاً كاملاً، يقال: وفّاه حقّه فتوفّاه منه، واستوفاه، ومنه قوله تعالى: «وَوَجَدَ اللّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ»(1).

ويُطلق التوفّي على الموت، إمّا من أجل استيفاء المتوفّى سني عمره كاملاً، فيكون من إطلاق اللازم على الملزوم، أو لأنّ الأرواح تُقبض وتُؤخذ أخذاً تاماً، أو لانقطاع تصرّف النفس في البدن، وبهذا الاعتبار يُطلق على النوم، فعُدت الإنامة توفّياً كما في الآية الكريمة، كما عدّت الإماتة كذلك في قوله تعالى: «اللّه يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَ»(2)، ويقابلهما البعث وعود النفس إلى تصرفها فى البدن بعد الانقطاع.

ومن ذلك يظهر أنّ التوفّي أعمّ من الموت، وتقدّم بعض الكلام في هذه المادّة في قوله تعالى: «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ»(3)، فراجع.

والتقييد باللّيل، إنّما هو بحسب العادة والغلبة في الخارج، كالبعث في النهار، وهو مقتضى الطبع أيضاً.

وفي الآية دلالة على أنّ المنام يوجب منع تصرف النفس في الابدّان، وزوال الإحساس، بل تدلّ على أنّ الروح الإنسانية هي تمام حقيقة الإنسان مقابل من يعتقد بأنها هي البدن الذي ينعدم بالموت، وتتلاشى أجزاؤه في الأرض، كما حكاه عزّ وجلّ في كتابه الكريم، قال تعالى: «وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وَكَّلَ بِكُمْ

ص: 416


1- سورة النور: الآية 39.
2- سورة الزمر: الآية 42.
3- سورة آل عمران: الآية 55.

ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(1).

ومقابل من يعتقد بأنّ للإنسان نفسين تفارقه: إحداهما عند النوم، وتفارقانه عند الموت، كما يرمز إليه قوله تعالى: «اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(2). وإن أمكن النقاش في ما استفادوه من الآية الكريمة، فإنّ ظاهرها التقسيم باعتبار الأفراد دون الفرد الواحد، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

وكيف كان، فالنوم والموت يشتركان في انقطاع تصرف النفس في البدن، وبهذا الاعتبار عدت الإنامة والإماتة توفّياً، كما قال عزّ وجلّ: «اللّه يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا»(3).

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ»

قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ».

الجرح يطلق على الأعمال والكسب بالجوارح، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع، وفي قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(4)، ويُطلق على الخير والشرّ، ولعلّ استعماله في الشر في آية الجاثية من أجل صيغة الاستفعال، فلا وجه لما يقال بأنه يختصّ بالشرّ فقط.

والمعنى: ويعلم ما كسبتم بالنهار، وإنّما ذكر لفظ الجرح دون سائر الألفاظ

ص: 417


1- سورة السجدة: الآية 10 - 11.
2- سورة الزمر: الآية 42.
3- سورة الزمر: الآية 42.
4- سورة الجاثية: الآية 21.

التي تدلّ على الكسب والعمل، إمّا من أجل المقابلة بين المنام في اللّيل الملازم للهدوء والسكينة، والعمل في النهار المقترن بالجهد والكسب، الملازم للجدال والمخاصمة غالباً.

أو لأنّ النوم في اللّيل لابدّ أن يستعقب الكسب والعمل في النهار، فإنّه لا يمكن استدامة أحدهما دون الآخر، لما فيه من الضرر والفساد، كما هو واضح، وهذا من حِكَم القرآن الكريم التي أخبر بها قبل أن يصل إليها الإنسان بالطرق العلميّة الحديثة.

أو من أجل أنّ ما يكسبونه من الأعمال وهم على حالهم من الكفر والعصيان، بمنزلة حال الجوارح من السباع والطير.

والآية الكريمة تدلّ على إحاطته عزّ وجلّ العلميّة بالإنسان، وربوبيّته العظمى له، فهو سبحانه الذي يتوفّى الأنفس، فيعرض عليكم النوم بالليل، ويعلم جميع أعمالكم، وبذلك تستقيم أحوالكم في الدُّنيا.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ»

قوله تعالى: «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ».

الضمير يرجع إلى النهار، والبعث - كما تقدّم مرارا - هو إثارة الشي وتوجيهه، يطلق على الإحياء بعد الموت، والإيقاظ بعد النوم. وإنّما ذكر في المقام مجاراةً لتسمية النوم توفّياً، فيكون المراد من البعث بعد الإنامة في النهار، وقد أُخّر فى ظاهر العبارة؛ إمّا إيماءً بأنّ الرعاية الإلهيّة التي شملت الإنسان في الدُّنيا بإلقاء النوم عليه في اللّيل والحركة في النهار، وهما يستلزمان من الأُمور - لاسيما الأخير - ما يجعله مسؤولاً عن أفعاله وأقواله، فلا بُدَّ من البعث لنيل الجزاء، فيكون ذكره بعدهما للتنبيه على هذا الأمر الأهمّ، والتوجيه إليه، ويرشد إليه حرف التراخي، فكأنه قال تعالى: هو الذي يتوفّاكم باللّيل، ويعلم ما جرحتم بالنهار،

ص: 418

والإنسان إنّما يقضي أجله في هذين استعداداً للبعث العظيم.

أو لبيان ترتّب المقصود من البعث، وهو الأجل المسمّى المعلوم عند اللّه تعالى. أو للإشارة إلى أنّ من عظيم الإحسان إليهم، التنبيه على أنّ ما يكسبونه من الإثم في النهار، هو ما يجعلهم من المستأهلين للتوفّي بل الهلاك، ولكن مع ذلك فهو يفيض عليهم الحياة، ويمهلهم حتّى البعث العظيم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّى»

قوله تعالى: «لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّى».

وهو القضاء الذي لا يتخطّاه كلّ فرد من أفراد الإنسان، كما قال تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتقدّمونَ»(1).

وهو أجل بقائه في الدُّنيا، وهو الوقت المعلوم عند اللّه تعالى، فإنّ لكلّ فرد عمراً مقدّراً مكتوباً لا بُدَّ من قضائه وإتمامه، وفي جعل قضاء الأجل المسمّى غاية:

إمّا أن يرجع إلى أنّ ما ذكر من النوم في اللّيل والكسب في النهار، إنّما هو أمر مؤقت، ولابدّ من الأجل المسمّى الذي فيه تنتهي الأعمّار.

أو لبيان أنّ الجرح بالنهار وعمل المعاصي، وارتكاب السيِّئات، يستدعي أخذهم بغتةً، وهو عزّ وجلّ أسرع الحاسبين لولا قضاء سابق، كما قال عزّ وجلّ: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»(2). وهو الوعد الذي وعد به سبحانه لأبينا آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حين»(3).

ص: 419


1- سورة الأعراف: الآية 34.
2- سورة الشورى: الآية 14.
3- سورة الأعراف: الآية 24.

أو للإشارة بأنّ التوفّى للإنامة والإيقاظ للكسب، إنّما هو من مقدّرات هذه الحياة الدُّنيا المنقضية والتي تقضى الآجال فيها، فلابدّ من أخذ الأُهبة والاستعداد للقاء والجزاء، كما تدلّ عليه الآية التالية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ»

قوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ».

فإنّه بعد أنّهاء آجالكم وحلول الموت بكم، يكون المرجع إليه وحده، فينبئكم آثار ما كسبتم، وتنالون جزاء أعمالكم.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»

قوله تعالى: «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

بيان لوظيفة المرجع الذي يرجع إليه العباد بعد البعث من الموت، لأنّه العالم بالحقائق وخفايا النفوس والقادر على المجازاة بعد الحساب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه»

قوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه». تأكيدٌ لما سبق، فإنّ جميع ما ذكر مورد علمه عزّ وجلّ وقضائه وقدره، وقد قهر عباده عليها، فلا تخلّف ولا تبديل، فتكون من الثوابت التي لا تقبل التغيير، وتقدّم تفسير الآية الشريفة من هذه السورة فراجع آية 17.

وكلمة (فوق) تدلّ على الغلبة، ومقهورية العباد تحت إرادته المطلقة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ»

إشارة

قوله تعالى: «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ».

جملة مستأنفة، وعطفها على (القاهر) أيضاً صحيح، دون العطف على (يتوفّاكم) وما بعده من الأفعال المضارعة. و (عليكم) متعلّق ب ( يرسل)، كما أنّ فيه معنى الاستيلاء. وتقديمه على المفعول الصريح، اعتناء بالمقدّم، والتشويق إلى المؤخّر. و(حفظة) جمع حافظ ككتبة وكاتب.

ص: 420

والجملة لبيان قهاريته المطلقة، وربوبيّته العظمى، فإنّ إرسال الحفظة وتعيين صلاحياتهم، ومنحهم القدرة على تنفيذ ما أمروا به، من شؤون ربوبيّته سبحانه وتعالى.

في المراد من الحَفَظة

واختلفوا في المراد من الحفظة بعد الاتّفاق على أنّهم الملائكة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(1). وقوله تعالى: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمر اللّه»(2).

فقيل: إنّهم الملائكة الحَفَظة على الأعمال، الذين يحصون أعمال العباد بكتابتها وحفظها، وهم الكرام الكاتبون المذكورون في الآية المتقدّمة، وجعلوا آيات الانفطار مفسِّرة لآية المقام، ويشهد لهذا القول صدر الآية الكريمة التي بيّنت أعمال العباد، وبعثهم بعد الموت، ورجوعهم إلى اللّه سبحانه الذي يُنبئهم بما كانوا يعملون.

وقيل: إنهم الملائكة الذين من شأنهم حفظ الإنسان من كلّ بليّة تتوجّه إليه، ومصيبة تبغيه في هذه الدار التي بُنيت على التزاحم والتغالب، وقد عبّر عنهم عزّ وجلّ في آيات الرعد بالمعقبات الذين يذبون عنه مردة الشياطين وهوامّ الأرض، وغيرهما من الآفات، كما أنّها تحفظه من طوارق الحدثان، وعاديات الدهر، وما يؤدّي إلى الهلاك، إلى أن يأتي أجله فتدعه إلى البلاء بعد رفع أيديها عنه، كما تدلّ عليه جملة من الأخبار، وذيل الآية الكريمة «حتّى إذا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ».

والحقّ إنّ الملائكة التي وكّلت لحفظ الإنسان، إنّما تؤدّي المهمتين معاً فهي تحفّظه وتحفّظ أعماله وتحصيتها، فيكون المحفوظ كل من الأنفس والأعمال،

ص: 421


1- سورة الأنفطار: الآية 10 - 12.
2- سورة الرعد: الآية 11.

ويدلّ عليه إطلاق الآية الكريمة في الإرسال والحفظ، وورود الأمرين في الآية الشريفة، فقد سبق ذكر الأعمال والإخبار عنها، وهو يستدعى الحفظ، كما أنّ جعل الغاية مجيء الموت يرشد إلى أنّ شأن المرسلين ذلك أيضاً، لاقتضاء النشأة التي خلق فيها الإنسان بالتفاعل والتزاحم وإنّما الدُّنيا هي دار الابتلاء بالتنازع والتغالب، ولا ريب أن الإنسان من أكثر أفراد هذا العالم تأثراً بتلك المزاحمات، وأعظمها ابتلاء بالمتباينات، فقد خُلق من أجل استكمال المسيرة، والاستزادة ممّا خلقه اللّه تعالى في هذا الوجود، كلّ ذلك يقتضي أن يكون له حَفَظة من البلايا والمصائب حتّى الوقت المعلوم الذي حدّده اللّه عزّ وجلّ، وإصابته بأعظم مصائبه وهي الموت الذي لابدّ من أن يلاقيه، ومن حدود ذلك حفظ أعماله وجميع شؤونها، استعداداً لنيل الجزاء المناسب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»

قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا».

بيان لبعض أعمال الرُّسل الحَفَظة، وهو قبض روح من جاء أجله، واستوفى مدّته من حياته، وجاءت أسباب الموت الذي لا مفر منه، وحينئذٍ ينتهي عمل الرُّسل وحفظ الحفظة.

والمتحصّل من مجموع الآية المباركة، أنّ هناك أعمالاً يقوم بها الحفظة الذين هم رسل اللّه تعالى:

الأوّل: كتابة الأعمال، كما يُرشد إليه قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.... ثمّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، وهو أعمّ من المباشرة والتسبيب.

الثاني: حفظ الإنسان من طوارق الحدثان ومحن الزمان، حتّى الأجل المحتوم، ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةٌ»، وهما من شؤون القهاريّة العظمى التي أثبتها سبحانه لنفسه تعالى، وهو فوق عباده.

الثالث: قبض الأرواح، وإنزال بلاء الموت بظهور أسبابه، ولا ريب أنّهم

ص: 422

أعوان ملك الموت الذي وكلّت إليهم هذه المهمة، كما في قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَك الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ»(1). وهو لا ينافي أن يكون له أعوان، كما أنه لا ينافي نسبة التوفّي إلى اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: «اللّه يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»(2)، فإنّ أزمة الأُمور طُرّاً بيده، فهو عزّ وجلّ المالك والمتصرّف على الإطلاق، وقد فوّض إلى ملك الموت قبض الأرواح، وهو يتوسّل في فعله بالأعوان، لأنّ جميع ما في عالم الإمكان يدور على قانون الأسباب والمسبّبات، إلى أن ينتهي إلى المسبِّب الأوّل الأزلي الابدّي.

وهذا المقدار ثابتٌ من مجموع الآيات المباركة في المقام. نعم، يبقى شيء وهو أنّ هؤلاء الرُّسل هل هم متعدِّدون، فلكلّ وظيفة أرسل يقومون بها، أم المجموع يقومون بتلك الوظائف؟ ولا يستفاد من الآية الشريفة شيء من ذلك، وإن كان القول بأنّ العمل الأخير يختلف عن الأوّلين، بأن يكون له رسلٌ معيّنون وجيهاً، ويشهد له مجيء فعل الردّ مبنيّاً للمفعول، حيث يفيد اختلاف الرُّسل، وأنّ لله تعالى رسلاً آخرین غیر رسل الحفظة ورسل الكتابة

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ»

قوله تعالى: «وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ».

أي لا يتساهلون ويتسامحون في الأمر الإلهي الموكّل إليهم، وهو من التفريط وهو التقصير إذا قُرئ بالتشديد، ومن الإفراط إذا قُرئ بالتخفيف، وهو مجاوزة الحدّ بالزيادة أو النقصان، كما في قوله تعالى: «إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلا يَسْتقدّمونَ»(3)، ولكن المعنى الأوّل أشمل وأتمّ، ويلازمه الثاني

ص: 423


1- سورة السجدة: الآية 11.
2- سورة الزمر: الآية 42.
3- سورة يونس: الآية 49.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه»

قوله تعالى: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه».

أي أنّ الجميع يردّون إلى اللّه تعالى، بعد طيّ المسيرة التي هيّأها اللّه سبحانه لهم في الحياة الدُّنيا، والردّ إلى اللّه عزّ وجلّ إنّما يكون بعد البعث والرجوع إليه سبحانه، والرضوخ إلى حكمه الذي لا مفرّ منه، ويستفاد من الردّ أنّه لا اختيار لأحد فيه، فالجميع يعمهم الموت، ويرجعون إليه، فالرد حتم عليهم.

وقيل: إنّ الضمير فى (ردوا) يرجع إلى الرُّسل، وهو خلاف الظاهر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «مَوْلاهُمُ الحقّ»

قوله تعالى: «مَوْلاهُمُ الحقّ».

أي أنّ جميع ما ذكر في الآيات، إنّما هو من شؤونه المقدّسة، لأنه تعالى،مولاهم، فهو مالكهم حقيقةً، والمتصرّف فيهم على الإطلاق بإيجادهم وتربيبهم وإرجاعهم بعد الموت للحساب والجزاء، لأنّه الحقّ الثابت الذي لا زوال له، ولا باطل يتطرّق إليه، وهو يتولّى أمورهم بالحقِّ، ويحكم بالعدل فيهم، ومن أجل ذلك استحقّ المولوية المطلقة بالحقّ والحقيقة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَلا لَهُ الْحُكْمُ»

قوله تعالى: «أَلا لَهُ الْحُكْمُ».

إرشادٌ إلى أعظم صفة له تعالى التى لها مظاهر مختلفة، وأعظمها ما يظهر في ذلك الموقف العظيم، الذي إليه تعالى يُردّ الخلائق، والحُكم منحصر فيه سبحانه وحده، وليس لغيره نصيبٌ منه، ولا يختصّ هذا الحكم في يوم الحشر، بل يشمل مراتب خلقه عزّ وجلّ، ومراحل وجود مخلوقاته، وتدلّ عليه آيات كثيرة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ»

قوله تعالى: «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ».

بيان لأظهر مصاديق الولاية المطلقة وعلمه الأتمّ، وحقيته عزّ وجلّ الثابتة الذي لا يتطرق إليه الظلم والبطلان، فهو أسرع الحاسبين إحصاءً ومحاسبةً، إنّما

ص: 424

يؤخِّرهم للوقت المعلوم. وأمّا كيفية ذلك الحساب، فلا يمكن أن تحيط بها العقول، وإن ورد بعض الخصوصيّات في الأخبار، كما ستعرف.

**

ص: 425

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق باعراب بعض الآيات الكريمة

بحث أدبي:

لا ريب أن قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» قد أشتمل على أدق المعاني الواقعيّة، في أفصح عبارة وأبلغ مقال وأبدع أسلوب، ففيه الاستعارة حيث شبّه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالإقفال وإن اختلف العلماء في نوع التشبيه والاستعارة.

واللّام في الغيب للاستغراق، وتقديم الخبر« عنده» لإفادة الحصر.

والجملة بعد إلا في قوله تعالى: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعْلَمُها» في موضع الحال من الفاعل، وجاءت الحال نكرة لاعتمادها على النفي، والتفريغ في الحال شائع سائغ

وقيل: إنّها موضع النعت لنكرة.

و(ما) في قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَر وَالْبَحْرِ.... وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ» مبهمة تقع على كلّ شيء، فلا تختص بما لا يعقل، كما نبه عليه جمع من النحويّين منهم سيبويه.

وما ذكر إنّ «فِي ظُلُماتِ الأَرَضِ» كناية عن الباطن، لأنه لا يُدرك فيه كما لا يُدرك في الظلمة.

ليس بشيء، لما عرفت من أنّ الظلمات تشمل مطلق ما لم يكن في العيان، وما لا تدركه حواس الإنسان.

وقوله تعالى: «وَلا رَطْبٍ وَلا يابسٍ» عطفٌ على ورقة، وقُرئ بالرفع على العطف على محل (ورقة)، وجوّز بعضهم أن يكون الرفع على الابتداء، والخبر «إلاً

ص: 426

فِي كِتابٍ»، وهو المناسب للمقام.

وقوله تعالى: «ثُمَّ يَبْعَكُمْ فِيهِ» عطف على يتوفّاكم، وتوسيط (ويعلم) لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم، وجعل بعضهم ضمير (فيه) جارياً مجرى اسم الإشارة عائداً على مضمون كونهم متوفّين وكاسبين، و (في) بمعنى لام العلّة، كما في قولك: فيمَ دعوتني. ولكنّه لا يخلو من تكلف. وقيل غير ذلك.

وقوله تعالى: «ويرسل» إمّا مستأنف، أو عطف على القاهر، لأنّه بمعنى الذي يقهر، أو عطف على (يتوفّاكم) وما بعده من الأفعال المضارعة، أو جعله حالاً من الضمير (القاهر)، أو في الظرف، لأنّ الواو الحالية لا تدخل على المضارع، والجميع لا يخلو من ضعف إلّا الأوّل وبعده الثاني.

ثمّ إنّ كلمة (فوق) تستعمل في المكان والزمان والحجم والعدد والمنزلة، فإنّ (فوق) العلوّ يقابله تحت وفوق الصعود يقابله الأسفل. وفوق العدد يقابله القليل أو الأقل منه، وفوق الحجم يقابله الصغير أو الأصغر منه، وفوق المنزلة يكون الفضيلة.

وفي قوله تعالى: «حتّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا...» التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأنّ ما قبله خطاب منه سبحانه للمكلّفين. والتفات آخر من التكلّم إلى الغيبة.

والتعبير في قوله تعالى: «ثم ردّوا» بالماضى، للدلالة على تحقّق الوقوع حتّى كأنّه وقع وانقضى، والإلتفات فيه لبيان كون رسل الردّ غير رسل الموت والحفظة.

وقيل: إنّ الالتفات في جعل ضمير الخطاب الذي للجماعة ضمير غيبة لهم، لدفع تكلّف القول برجوعه إلى الكل المدلول عليه ب(أحد).

ولكنّه ضعيف، إذ لا نحتاج إلى الالتفات فإنّ حكم الموت يعمّ كل واحد،

ص: 427

وهذا كافٍ في جعل الضمير للجمع.

و (ألا) حرف استفتاح يذكر في ابتداء الكلام للتنبيه لما بعده إذا كان مهماً وعظيماً.

***

بحث دلالي في ما تدل عليه الآيات الكريمة

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الكريمة على أُمور:

الأوّل: يتضمّن قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ» أمراً عظيماً، ومعنىً سامياً، تتحيّر فيه العقول، وتقصر الأفكار عن الوصول إلى حقيقته، ويعتبر من أعظم صفات الباري عزّ وجلّ، اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يقرّ تلك الصفة المتعالية عن الوصول إليها بعقول الممكنات، بذكر الجزئيات المحسوسة بأسلوب،بلاغي، وعبارات فصيحة، تهتزّ لها مشاعر المخاطبين، فقد بدأ عزّ وجلّ بذكر الخزائن المشتملة على نفائس الخلق، وما يتعلّق بشؤون المخلوقات التي يعتزّ بها مالكها، فجعل عليها أغلاقاً وأقفالاً يستحيل الوصول إليها من كلّ أحدٍ، إلّا مَنْ كان عالماً بأسرار تلك الأغلاق، وكيفية استعمالها، وهو عزّ وجلّ الذي أوجدها وأودع فيها تلك المخزونات التي يعلم أسرارها، وجميع خصوصيّاتها، فكان ابتداء الكلام لبيان حقيقة واقعيّة، وهي أن من عنده الخزائن لابدّ أن يكون عالماً بجميع ما فيها من المخزونات، ثمّ بيَّن عزّ وجلّ أنّه ليس في الوجود شيء غائب عن اللّه تعالى، وفي بيان اللّازم لهما ذكر أنّ ما سواه كله من مظاهر علمه الأتمّ، وهو إما موجود أو معدوم، والأوّل إمّا حاضر مشهود أو غائب فى حكم المفقود، وعلمه عزّ وجلّ إمّا علم غيب أو علم شهادة، وقد بيّن عزّ وجلّ سعة علمه المبارك بذكر الأمثلة المحسوسة، ليشمل ما يمكن أن يتصوّره أهل العلم من خلقه.

ويستفاد ممّا ورد في الآية المباركة أنّ الموجودات إمّا حاضر مشهود، أو

ص: 428

حاضر غير مشهود، کالجنّ والملائكة وغيرهما، أو غائب عن الشهود، ولكنّه على استعداد لدركه لو كان حاضراً، أو غائبٌ لا استعداد لدركه كذلك. والأخير غيب حقيقي وقبله غيب إضافي، وقد خصّ سبحانه بالذكر أموراً ثلاثة ممّا في البر، علمه بكلّ ورقة تسقط من كل نبتة، وعلمه بالحبة المتمكِّنة في باطن الأرض استعداداً للنمو، وتَنَقّلها في أطوار الخلق والتكوين، وعلمه بالصور الطارئة على الأشياء من الرطب واليابس، فكان الأوّل مثالاً للكثرة، والثاني للدقّة، والثالث للمتغيرات، والجميع يشترك في الإمكان والحدوث بعد العدم.

الثاني: تشير الأمثلة التي وردت في الآية الكريمة إلى أسباب الحياة الدنيوية ومتعلّقاتها وموادها، فربما تكون ورقة تتغذّى عليها الحيوانات، أو تكون سبباً في إحياء نبات آخر، وربما تكون حبّة تسقط في ظلمات الأرض، فينشأ عنها نبات جديد، أو تكون ممّا يتغذى عليها حيوان أرضي أو طائر سماوي، وأما الرطب واليابس فيشملان جميع أنواع الحياة، فهو تعميم بعد تخصيص، فتكون الآية المباركة قد استوعبت جميع أنواع الحياة وأطوارها، وما يلازمها من الأُمور، ولعلّ في قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما ورد في تفسيرها إشارة إلى ذلك، فقال: «الورقة السقط، والحبّة الولد، وظلمات الأرض الأرحام، والرطب ما يحيى، واليابس ما يغيض»، ويأتى مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى

وربما تكون إشارة إلى ما في عالم المُلك من التحوّلات والتعاقب والتبادل، وما يطرأ عليها من عوارض هذا العالم من العدم والوجود، والحياة والموت، وغير ذلك من شؤون هذا العالم، ويظهر ذلك بوضوح أنّه بعدما بين سبحانه حكم المغيّبات، سواء كانت من العالم الربوبي أو من عالم الملكوت، أو من عالم الملك والشهادة، أو من عالم الأشباح والأظلة، فإنّ جميعها واقعة تحت تصرّفه المطلق، ويحيط بها علمه الأتمّ، فتكون الأمثلة تخصيصاً بعد تعميم لتقريب المعنى إلى

ص: 429

ذهن المخاطبين، ولما تشتمل من الغيب الذي لا يحيط به الإنسان إلّا ما يفاض عليه من اللّه تعالى، وغير ذلك من الإشارات والوجوه التي تتضمنها الآية المباركة.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ» على التوحيد العلمي الذي لا يحيط بكنهه إلّا اللّه عزّ وجلّ، فإنّ أسلوب الحصر يفيد أنّ العلم عنده لا عند غيره، فلو حصل موجودٌ آخر على مثل هذا العلم، لكان مفاتح الغيب عنده، وحينئذٍ يبطل الحصر، وهو سبحانه منزّهٌ عن الضدّ والندّ، فكان متوحِّداً في العلم الربوبي، لا يشاركه فيه غيره، فتدلّ الآية الكريمة على اختصاص المقدّرات الغيبية به عزّ وجلّ علماً، بعد بیان اختصاصها به عزّ وجلّ من حيث القدرة في الآية السابقة.

الرابع: يدلّ إطلاق قوله تعالى «مَفاتِحُ الْغَيْبِ» على عدم الاختصاص بمورد خاصّ، فهو يدلّ على الغيب المطلق الذي لا تحيط به الحدود الإمكانية، كما عرفت آنفاً، إلّا أنّها إذا نزلت إلى مهابط الحدود ومنازل الشهود، تلبّست بقواعد الإمكان والقدر، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلّا عِنْدَنَا خَزَائِتُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُوم»(1).

ومن ذلك يظهر أن ما ذكره بعض المفسّرين في توجيه الآية الكريمة مردود، فراجع ما ذكره الجمهور في تفسيرها.

الخامس: يشير قوله تعالى: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ....» إلى أنّ تعلّق علمه بالمتغيرات كتعلّقه بالذوات من دون تفاوت في العلمين، وتخصيص حال السقوط بالذكر، إما لبيان ذلك، أو من أجل الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال. كما أن

ص: 430


1- سورة الحجر: الآية 21.

ذكر الورقة وما عطف عليها دون غيرها ممّا في البرّ والبحر من الموجودات، باعتبار المثال لغيرها، كما عرفت آنفاً.

السادس: يرمز قوله تعالى: «فِي ظُلُماتِ الأَرَضِ) إلى بعض الشروط في نموّ الحبّة، بأن تكون في ظلمات الأرض وبطنها، حفظاً لها عن نور الشمس ووصول الحشرات، أو انتقالها من موضع إلى موضع آخر، وغير ذلك ممّا ذكره أهل الاختصاص فراجع.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ» على شمول العلم لكل الأُمور الحادثة التي تتّصف بالصفات الإمكانية، ويمكن إرجاعهما إلى صفتين جامعتين، بأن يكون المراد من الرطب تلازم قبول الصور والإشكال، واليابس عُسر قبولها، ومن أظهر مصاديقهما الثمار، فتكون إخباراً بأنّه عالم بالكليات والجزئيات، مستأثرٌ بعلمه وعلم غيره، وقدَّم البرّ لقربه من حواسّنا، ومشاهدة الإنسان إلى ما يشتمل عليه من المدن والقرى والمدن والمفاوز والجبال والحيوان والإنسان والنبات والمعادن، ثمّ البحر بما يشتمل من العجائب، ثمّ ذكر جزءين لطيفين: أحدهما علوي وهو سقوط الورق إلى أسفل، والثاني سفلي وهو اختفاء الحبة في بطن الأرض، ثمّ أُعيد الاستثناء على سبيل التوكيد على إحاطة علمه بجميع الأشياء، وثبوتها في كتاب مبين، فما ذكره بعض المفسّرين في المقام من التخصيص بها غير سديد، بل مضمون الآية الكريمة من الكلّيات التي يمكن تطبيقها على موضوعات كثيرة.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: «إلّا فِي كِتَابٍ مُبِيْن» على أنّ الحوادث الإمكانية ثابتة في كتاب يثبت فيه جميع ما يتعلّق بالموجودات من التقادير قبل وجودها، وهي محفوظة فيه بعد فنائها، وهذا الكتاب يختلف عن مفاتح الغيب التي هي غير محدودة ولا مقدّرة، ولذا كانت المحفوظات فيها لها من الشمولية والتعميم

ص: 431

والتجرّد، والخلوص من شوائب الحدود الإمكانية ما أوجب الافتراق والبينونة بينها وبين الكتاب المبين الذي فيه المقدّرات الإمكانية التي تتنزل من خزائن الغيب.

وبعبارة أُخرى: إنّ الموجود في الخزائن من الغيب المطلق، وما هو الموجود في الكتاب من الغيب النسبي، أي الحوادث الجارية في هذا العالم الكياني، سواء كانت من الغيب عندنا أو من الشهود لنا. ولذلك لا يأبى هذا الكتاب أن يطلع عليه غيره عزّ وجلّ، دون الخزائن التي ينحصر العلم بها باللّه تعالى، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: «فِي كِتَابٍ مَكْنُونِ لا يَمَسُّهُ إِلّا الْمُطَهَّرُونَ»(1). وقد ورد ذكر هذا الكتاب فى القرآن الكريم في أكثر من عشرة موارد:

منها: قوله تعالى: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2)، ويقرب منه الآية الثالثة من سورة سبأ.

وقوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(3).

وقوله تعالى: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينِ»(4).

وقوله تعالى: «قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى»(5).

وقوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ

ص: 432


1- سورة الواقعة: الآية 78 – 79.
2- سورة يونس: الآية 61.
3- سورة هود: الآية 6.
4- سورة النمل: الآية 75.
5- سورة طه: الآية 51-52.

مِنْ قَبْل أَنْ تَبْرَأَهَا»(1).

وقوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً»(2).

إلى غير ذلك من الآيات.

والمستفاد منها عظمة هذا الكتاب، فإنّه يحصى ويثبت فيه جميع شؤون الحياة الدنيوية، غيبها وشهودها، موجودها وما طرأ عليه العدم، وما قبل الوجود، صغيرها وكبيرها، وله من الاستيعاب لكلّ ما ينزل من الغيب المطلق، وهو ينقسم إلى أُمّ الكتاب، وكتاب المحو والإثبات؛ كما يدلّ عليه قوله تعالى: «يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(3)، ولجلالة هذا الكتاب وعظمته لم تبين الآيات الكريمة ماهيّته، وإن بيّنت بعض آثاره وصفاته، فإنّ منها كونه إماماً لجميع الكتب التي يطرأ فيها العلم، ومن أفاض اللّه عليه من هذا العلم، كما قال عزّ وجلّ: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(4).

ومنها: كونه مبنيّاً غير قابل للتغيير والفساد وإن اشتمل على ما كان قابلاً للتغيّر والتبدّل، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ»(5).

ومنها: إنّ الحكمة في جعل هذا الكتاب لبيان إحاطة علمه عزّ وجلّ بأعيان الموجودات والحوادث الجارية، لا سبيل للضلال والنسيان إليه.

ومنها: إحاطته بجميع ما يتحقّق في عالم الصنع والإيجاد ممّا كان وما هو كائن، وما يكون من حيث تقدرها وتحدّدها، ومنها كونه ظاهراً بحدّ نفسه،

ص: 433


1- سورة الحديد: الآية 22.
2- سورة النبأ: الآية 29.
3- سورة الرعد: الآية 39.
4- سورة يس: الآية 12.
5- سورة ق: الآية 4.

ومظهراً لاسترة ولا خفاء فيه، كما عرفت.

وقيل: ربما يحدس أن المراد بالكتاب مرتبة واقعية الأشياء، وتحقّقها الخارجي الذي لا سبيل للتغيّر إليه، وهو الذي يقال إنّ الشيء لا يتغيّر عما وقع عليه.

ولكنّه،مردود، بأنّ ما يتضمّنه الكتاب مطلق ما هو كائن وما يكون وماكان، ولا يقتصر على ما هو الموجود، كما هو مقتضى قوله تعالى: «مِنْ قَبْل أَنْ تَبْرَأَهَا»(1)، ولأنّ هذا الكتاب كتاب إحصاء لما يمكن أن يثبت لا يشذّ عنه شاذّ لا يمكن أن يتغيّر عمّا هو عليه، كما عرفت.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ.... وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُها....» على علمه عزّ وجلّ بالجزئيات، كعلمه بالكليات، بل يبين عدم تغيير علمه بتغيير الجزئيات، ومنه يظهر بطلان قول من أنكر ذلك، وإنّما أظهر علمه في الكتاب لبيان أنّ مقادير الخلق مكتوب أزلاً وأبداً، وعلى المخلوق التسليم لأمره والاستعانة به عزّ وجلّ.

العاشر: يستفاد من قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْل» أنّ مظاهر علمه الأتمّ قد ظهر في خلقه، ولاسيما الإنسان الذي تدور حياته بين الكسب والكدح في النهار، والنوم والراحة في اللّيل، ثمّ الأجل الحتمي والموت، ثمّ البعث والنشر للحساب والجزاء. وإنّما قدّم التوفّى باللّيل لبيان أنّ الإنسان تحت إرادة الجبار، وقهر القهّار الذي حَكَم عليه بثوابت الحياة، في جميع حالاته فيمنع تصرف الأنفس في الابدّان عند المنام في وقت معيّن من اليوم وجعله وقت راحة، وفيه ينقطع عمل الإنسان عادةً، ثمّ جعل النهار للحركة، ويلازمهما الجرح، فإنّها لا

ص: 434


1- سورة الحديد: الآية 22.

تنفكّ من الاستباق إلى كسب العيش والتصرّف الذي يحتاج إلى المدافعة والتنافر، كما تفعله الجوارح من الحيوانات لتستولي على طعامها، كلّ ذلك لا يخرج عن العلم الإلهي، فلا عذر للإنسان في ترك الطاعة، وإنّما خصَّ عزّ وجلّ علمه بما جرحه الإنسان في النهار، لأنّه الذي يقع مورد الحساب والجزاء، وإلّا فالإنسان لا يخرج عن علمه في جميع حالاته.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «لِيُقْضى أجَلٌ مُسَمَّى» على أنّه مع علمه تبارك وتعالى بما كسبوا في النهار، وأنّ ذلك يستدعي الحساب والجزاء، لولا تحقق قضاء سابق على إمهالهم، وقضاء الآجال التي قدرها اللّه تعالى لهم، كما نبه عليه قوله تعالى: «وَمَا تَفَرَّقُوا إِلّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»(1)، وهذا من كمال رحمته بعباده، ولهذا استدعى بيان قهاريّته المطلقة لتربيب المهابة، وبيان الإحاطة بهم.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ....» على أنّ من شؤون القهارية المطلقة، والحكمة التامّة اللّه سبحانه وتعالى، أن يرسل الحفظة من الملائكة ليكون شأنهم حفظ الإنسان من الآفات والبلايا والمصائب، وتكون مهمّتهم مغيّاة بمجيء الموت. وفيه التنبيه الكامل للإنسان أن يعمل ويطيع، ولا يشغل نفسه بالحفظ، ويترك الأهمّ والغاية من خلقه، ويرشد إليه قوله تعالى الآتي.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى «مَوْلاهُمُ الحقّ»، على أنّ جميع شؤونه تبارك وتعالى حقّ، ونفس ذاته المقدّسة وصفاته تعالى ثابتة ثبوتاً لا يقبل الزوال، ويمتنع أن يطرأ عليه التغيير والانتقال، كما أنّ أفعاله حقّ لا بطلان يتطرّق إليها، ومن هنا كانت ولايته حقّاً وأنّ ما ذكره سبحانه فى ما تقدّم من هذه الآية بمنزلة التعليل

ص: 435


1- سورة الشورى: الآية 14.

لمعنى المولى فكانت تامّة وكاملة وعظيمة وحقيقية وحقّة ثابتة بخلاف ولاية غيره وإن بلغت من الكمال ما بلغت.

ويترتّب على كونه مولى الخلق انحصار الحكم به عزّ وجلّ، فقد ثبتت له الوحدانية في الحكم، كما كانت له الوحدانية في الذّات والصفات، وإنما ذكر سبحانه: «ألا لَهُ الْحُكْمُ» لإيقاظ الهمم بالرجوع إليه، وترك العدول عنه، وتنبيه الإنسان بترك الغفلة.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبينَ» على أنّ رأفته بعباده ورحمته التامّة بهم لا تنافي كونه أسرع الحاسبين، فهو تعالى يحاسبهم بنفسه، ويجازيهم على أعمالهم، ولا يؤخّرهم عن الوقت الموعود لهم، وأنّ من مظاهر حقيته وولايته المطلقة أنّه أسرع الحاسبين، إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها، وصيغة التفضيل لبيان ذلك.

***

بحث روائي في الروايات الواردة في تفسير الآيات

بحث روائي:

في «الدّر المنثور» في قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُو» قال: أخرج أحمد والبخاري وحشيش بن أصرم في «الاستقامة» وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلّا اللّه: لا يعلم ما في غد إلّا اللّه، ولا يعلم متى تغيض الأرحام إلّا اللّه، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلّا اللّه، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلّا اللّه، ولا يعلم أحدٌ متى تقوم الساعة إلّا اللّه تبارك وتعالى».

أقول: لا منافاة بين ما ورد في الرواية وبين عموم الآية الكريمة، فتحمل الرواية على ذكر بعض المصاديق، كما هو شأن الأعداد، فإنّه لا مفهوم لها، كما هو ثابت في علم الأصول. ويمكن أن تحمل الرواية على الغيب النسبي، وهو العلم

ص: 436

بالحوادث قبل حدوثها، دون الغيب المطلق، كما هو ظاهر آية المقام، وآية سورة لقمان.

وفي «تفسير العيّاشي» عن أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُها.... إلى قوله تعالى: إلّا فِي كِتَابٍ مُبين» قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): الورقة السقط، والحبة الولد، وظلمات الأرض الأرحام، والرطب ما یحیی، و، واليابس ما يغيض، وكلّ ذلك في كتاب مبين».

أقول: رواه الكليني والصدوق عنه، والقمّي مرسلاً. وقد عرفت في التفسير أنّ مضمونه لا ينافي تطبيق الآية الكريمة، فإنّ فيها إشارات ورموزاً إلى ما في الموجودات على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها، فما ذكره بعض السادة المفسّرين من أنّ الرواية لا تنطبق على ظاهر الآية غير سديد.

ومنه يظهر بطلان قول الآلوسى معقباً به على الرواية، من أنّه يجلّ أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن التفوّه بهذا التفسير. فإنّ ما ذكره قصور في فهم كلمات معادن العلم والعصمة؛ لابتعادهم عنهم.

في «الدّر المنثور » أخرج الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف عن ابن،عمران، أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «ما مِنْ زرع على وجه الأرض، ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا رزق فلان بن فلان، وذلك قوله تعالى: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعْلَمُها وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرَضِ وَلَا رَطْبٍ ولا يابس إّلا فِي كِتَابٍ مُبين».

أقول: الرواية باعتراف ناقلها ضعيفة، ومضمونها لا تنطبق عليه الآية، إلّا أنّه يمكن توجيهها بوجه بعيد.

وهناك روايات أُخرى يرويها الفريقان، يحتاج تطبيقها على الآية الكريمة إلى توجيهات بعيدة، فالإعراض عن ذكرها أولى.

***

ص: 437

بحث عرفاني عن الآيات التى فيها اشارات عرفانية

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة المتقدّمة فيها من الإشارات لأرباب السير والسلوك، ما يوجب الترقي في المقامات، والصعود في سُلَّم الكمال، فهي ابتداء تنبه العارف إلى أنّ الخزائن المشتملة على الغيوب حاضرة لذاته، ولا يعلمها إلّا هو سبحانه وكذلك أبواب تلك الخزائن مغلقة، ومفاتيحها بيده سبحانه لا يطّلع على ما فيها أحدٌ غيره عزّ اسمه، وقد يفتح منها ما شاء لمَن شاء، ومن أراد الوصول إلى ذلك المقام فعليه الخروج من برّ النفوس التي تشتمل على ألوان الشهوات، والتحليّ من بحر القلوب والأخذ من لآليء الحِكَم ومرجان العرفان، حتّى ينهل عليه من أوراق أشجار اللّطف والقهر، والإستفادة من بذر الجلال والجمال ومحو ظلمات الطبايع والأشباح، وتلقّي رطب الإلهامات التي ترد على القلوب، لتخرج النفس من يابس الوساوس والخطرات التي تعتبر من أشدّ العوائق وتفزع النفس منها، كلّ ذلك في علم الباري وإحاطته القيوميّة، وفي ظلّ محو الذّات، والتوفّي بإخراج الروح وطيرانه في الملكوت، وسيره فى اللّاهوت ليتجلّى الجلال عليه بالعمل والطاعة في نهار الأعمال، ليعلم اللّه تعالى فيما كسبه العارف فيتهيأ لنيل التجلّي الجمالي، ثمّ يبعثه اللّه تعالى فيما جرح من صور أعماله الحسنة والقبيحة، ليقضى الأجل المسمى، وإنّما يكون السير في تلك المقامات بعين اللّه تعالى، فهو المبدأ وأنّه إليه،مرجعه فينبّئه بما كان يعمل بإظهار صور الأعمال، فيجازي بها لأنّه تعالى القاهر فوق عباده والجميع عدم وهو الموجود المطلق، وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة المتعالية. وقد تعلّق أمل العارفين باللّه تعالى فأنقطع رجاؤهم عن غيره لينالوا ما عند بارئهم، وهو تعالى قد رحمهم بإنزال أرجى آية فأرسل عليهم حفظة تحفظهم من الصعق، وتحثهم على تهذيب القوى التي ينطبع فيها الخير والشر، وسوف تظهر عند انسلاخ الروح، فتتصور بصور مناسبة للأعمال، وهم

ص: 438

يردّون على اللّه الحقّ وهو مولاهم الذي يلي سائر أمورهم وأحوالهم، إذ لا وجود إلّا به، وأنّه الحقّ، وكلّ ما سواه وهمٌ،وخيال فهو مولى الحقّ، والذي يقاضي عباده ويحاسبهم على أعمالهم، لأنّ له الحكم وهو أسرع الحاسبين.

وقد اشتاقت نفوسهم للقاء اللّه تعالى، بعد أن منحهم هذه العطيّة العظيمة، ووفقهم للسير في المقامات، فهو اللّه الحقّ المولى الذي يطمح كلّ مخلوق أن تناله هذه المولوية الكريمة، فقد تضمّنت الآيات حقائق لمن يريد السير إلى اللّه تعالى ونيل القُربى لديه، فلا يغفل السالك عنها، بل هى ومضات تنير طريق السالكين ليتزوّد منها، نسأل اللّه التوفيق.

وعدّ بعضٌ الآية الكريمة أرجى آية في كتاب اللّه تعالى، فإنّه عزّ وجلّ أخبر بأنّ المخلوقات تحت إحاطته العلميّة، وأنّ العبد يرجع إليه سبحانه، ولا يكون إلّا بخروجه عن سجن الدُّنيا،والبدن، وإنهاء مهمّة الحَفظة الكاتبين، واصفاً نفسه بأنّه مولاهم الحقّ، ولا شكّ أنّه أعزّ للعبد أن يكون مردّه إلى اللّه، وقد قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): كفى بي عزّاً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي فخراً أن أكون لك عبداً». وهنا بحث قيّم يرجع إلى علم اللّه تعالى سنذكره في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

***

ص: 439

سورة الانعام، الآية 62 - 67

إشارة

الآية 62 - 67

«وقُلْ مَنْ يُنَجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (63) قُلْ اللّه يُنَجِيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثمّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)».

احتجاج آخر من الإحتجاجات الكثيرة المتعدِّدة الجهات التي وردت في هذه السورة المباركة، فقد بيّن سبحانه في الآيات السابقة سعة علمه وإحاطته ما سواه، وشمول قدرته واستعلاء قدره، فكان مولاهم الحقّ. وفي هذه الآيات يرشد الناس إلى ما أودع في الفطرة من الدُّعاء اللّه عزّ وجلّ لجلاء الكروب وكشف الهموم، وقد حذّرهم عزّ وجلّ من الشرك بعد الدعوة، واستجابتها التي هي من لوازم الولاية المطلقة التي أثبتها لنفسه فيما سبق. ثمّ بين بعض ابتلاءات الأُمّة المرحومة إن هم نكصوا عن الطاعة، وأعرضوا عن الحجّة، وابتعدوا عن المحجّة، فهو القادر على بعث العذاب عليهم، أو تفريقهم وتمزيق جمعهم، أو ابتلائهم بالمنازعات والحروب، وقدرته على ذلك من مظاهر قهاريته التامّة، وفيه التنبيه للغافلين المعاندين للحقّ، المكذِّبين له، فإن لم يتفقّهوا فسوف يعلمون أنّها أنباء

ص: 440

مستقرّة، وهي تتحقّق لا محالة، وفيها من الوعد والوعيد ما تبهر منه العقول وتضطرب النفوس، ومضمونها من التنبؤات القرآنية.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر».

خطابٌ لأشرف خلقه بأهمّ مضمون، وهو المودع في الفطرة، وفيه التحذير الشديد للمعرضين عن طاعته، سواءً كانوا من المشركين أو المسلمين، ومن حكمته عزّ وجلّ البالغة أنّه إذا كان هناك أمر عظيم، فإنّه يخاطب نبيّه الكريم ليبلّغه الناس أو المسلمين، وموضوع هذه الآيات الكريمة من الأُمور المهمّة التي تتعلّق بمصير الأُمّة، إن هم نكصوا عن الطاعة، وأعرضوا عن الحقّ، وفي الآية التأكيد على الوهيته عزّ وجلّ بعدما ذكر من الدلائل عليها من العلم التامّ والقدرة الكاملة، وفي المقام يذكر بعض الآثار لهما، وهو الإنجاء من الشدائد، وفيه من الإنكار والتوبيخ والتنبيه على سوء معتقد عَبَدة الأوثان والأصنام، ممّن أشرك باللّه عزّ وجلّ، وترك الذي ينجيّه من الشدائد ومن يلجأ إليه في كشفها، وفيه الإبلاغ بعجز الشركاء وانحطاط قدرهم.

المراد فى ظلمات البرّ والبحر

والمراد من ظلمات البرّ والبحر شدائدهما وأهوالهما التي يُبتلى بها الإنسان في هذه الحياة، فإنّ الظلمة إنّما تطلق على الشدّة التي تزيد في الاضطراب والحيرة في دفعها، كما أنّ الظلمات لها التأثير الكبير في شدّة المكاره والمخاوف. وقد جمعت باعتبار مواردها، واعتبرها أكثر المفسّرين من المجاز عن شدائد البر والبحر وأهوالهما ومخاوفهما. وكيف كان، فإنّ في العبارة من التهويل والتخويف ما لا يخفى.

وقد خصّ البر والبحر بالذكر، وإن كانت الأهوال كثيرة ومتعدّدة، وعموم

ص: 441

النجاة من كلّ سوء ومكروه، إمّا لأنّ أكثر شدائد الإنسان وتعبه في هذه الحياة يرتبط بالبرّ والبحر، أو هما مثالان لكلّ شدّة، كما سيأتي.

والجملة في مقام التقرير والاستفهام، يُراد به الإنكار والتوبيخ، والتوقيف على سوء معتقد المشركين وخيبتهم، وإثارة ما في ضمائرهم في ترك الذي يُنجيهم من من كلّ شدّة، ويلجأ إليه في كشفها، فالاستفهام في المقام من أبلغ الأساليب في التنبيه والإثارة، أي من ينجي الإنسان من الأهوال والشدائد التي يبتلى بها في جملة حياته.

و« يُنَجِّيكُمْ» بالتشديد من التنجية، وقُرئ بالتخفيف من الإنجاء، والمعنى وإن كان واحداً في كليهما، إلّا أن في التشديد من المبالغة والدلالة على التكرار ما لم يكن في التخفيف. وفي الخطاب من التأثير في النفس ما لا يمكن إنكاره.

ما يتعلّق بقوله تعالی «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً»

قوله تعالى: «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً».

بيان لما هو المكنون في فطرة البشر من الإيمان الفطري والحاجة، أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها، والتضرّع المبالغة في إظهار الضراعة، وهي الذل والخضوع، وهو وصفٌ باد على الإنسان، والخفية بالضمّ والكسر الخفاء والإستتار، وهما وصفان طارئان على الدُّعاء، ممّا يوجب قربه إلى الاستجابة. أو لبيان الحالة التي تطرأ على الإنسان عندما تنزل به المصائب والمكاره، فيبدأ بالإسرار بالدُّعاء، ثمّ يتدرّج في الدُّعاء إلى حالة التضرّع والانقطاع إلى اللّه تعالى عندما تلوح له آثار اليأس من الأسباب المحيطة به. والآية الكريمة تبيِّن ما هو المكنون في الفطرة من الحاجة والإيمان كما عرفت، فتختصّ بالحاصل من إخلاص دون غيره ممّا يصدر من الإنسان في غير حالة اليأس، ولذا كانت الاستجابة مترتّبة عليه، وفي الآية كمال عناية اللّه تعالى بخلقه وعباده.

ص: 442

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»

قوله تعالى: «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

إظهار لمكنون ضمائرهم على مقولات ألسنتهم، وفيه بيان إبلاس حالهم ويأسهم من الشركاء، ولجوئهم إلى الذي هو قادرٌ على كشف ما هم فيه، ولعلّه لذلك صدر القول منهم في أسلوب القَسَم، أي مقسمين وقائلين لئن أنجانا اللّه عزّ وجلّ من هذه الظلمات، ومعاهدين منهم ضمن دعائهم لنكونن من الشاكرين المداومين عليه، ويلزمهم الرجوع عن الشرك، فإنّ الشكر على النِّعم يستلزم الاعتراف بإلوهيته عزّ وجلّ، وبربوبيّته العظمى، والطاعة له سبحانه، وهو ينافي البقاء على الكفر.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ»

قوله تعالى: «قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ».

توبيخ لهم في دعائهم إيّاه عزّ وجلّ عند الشدائد، وهم يدعون غيره في حالة الرخاء، ومادّة (كرب) تدلّ على الإثارة والقلب، ومنه كَرْبُ الأرض - بسكون الراء- وهو قَلْبُها، ومثله الكراب على البقر، ومنه أيضاً كربت الشمس إذا دنت للمغيب، لأنّ غيبوبتها تثير الظلمة والهموم، كما أنّ منه الكرب وهو الغمّ الشديد، لأنه يُثير النفس ويزيد في شجونها، والكربة هي الغمّة، والكَرَب (بالتحريك) العقد الغليظ في رشا الدلو، ويمكن إرجاعه إلى المعنى الأوّل أيضاً، وقد وردت هذه المادّة في القرآن في أربعة موارد كلّها تدلّ على رأفته بعباده؛ قال تعالى: «وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظيم»(1).

وقال تعالى: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ العَظِيم»(2).

وإضافة كلّ كرب إلى ظلمات البر والبحر في كشف الجميع؛ إمّا تعميم بعد

ص: 443


1- سورة الصافات: الآية 115.
2- سورة الأنبياء: الآية 76.

تخصيص، أو لبيان أنّ ما يعتري الإنسان من العوارض النفسية والبدنية ممّا لا تتناهى، كأنواع المرض ووجوه السقم، أو للإعلام بأنّ الإنسان لا تخلو حالاته مدّة حياته من الكروب والغموم، فيكون الدُّعاء والمسألة من لوازم وجوده، ويعمّان جميع حالاته.

ما يتعلّق بقوله تعالی «ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ»

قوله تعالى: «ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ».

تقريع وتوبيخ، لأنّ الحجّة بعد قيامها توجب الإخلاص، ولكنّهم أبدلوه بالإشراك، ومن أجل ذلك وبخّوا، ومنه يظهر الوجه في العطف ب(ثم). وفي إبدال الشكر بالشرك وقد كان المناسب،العكس، مجاراةً للوعد السابق للإعلام بأنّ الشرك خروج عن الفطرة، وأنّ المشرك لا يعبد اللّه أبداً. وإيذاناً بأنّهم مع علمهم بأنّ النجاة لم تكن إلّا من اللّه تعالى وحده - كما يدلّ عليه تقديم المسند إليه- فقد أشركوا وتركوا عبادته عزّ وجلّ، فكان ذكر الشرك في موقعه، ولكنّه حُذف متعلّقه لبيان رداءة الشرك، واستبعاده في أي مظهر كان.

والمعنى: أنّه بعد ابتلائكم بالشدائد المظلمة، والمكاره المتكرّرة، وعند انقطاع السُّبل بكم، وحصول اليأس منها، واستشعرتم الفاقة، وحصل الانقطاع، تلجأون إلى اللّه تعالى خالقكم وبارئكم بما جبلت عليه الفطرة، فتعرضون عن غيره من الشركاء، وتجزمون أنّ عبادتكم لغيره عزّ وجلّ لا فائدة فيها، لعجزها عن تحقيق مقاصدكم، فيحصل لكم القطع بأنّ الرجوع إليها ظلمٌ كبير، وإثمٌ عظيم؛ لأنّ اللّه سبحانه هو القادر على كشف ما حلّ بكم من الشدائد والكروب، وتملي عليكم فطرتكم الدُّعاء والمسألة، فتدعونه تضرّعاً وخفية مقسمين على أنفسكم أنّه بعد انجلاء الكروب ترجعون إلى التوحيد والطاعة، ولكن بعد الإنجاء منه عزّ وجلّ تنقضون ميثاقكم وترجعون إلى شرككم، وتعودون إلى سابق الكفر، وهذا

ص: 444

من أقبح الأُمور.

والآية الكريمة تدلّ على أُمور:

الأوّل: أنّها تثبت الفطرة المكنون فيها التوحيد ولوازمه.

الثاني: إنّ الشرك خلاف الفطرة، ولذا حَسُن التوبيخ لهم على هذه الجهة، لأنّه خروج عن الفطرة.

الثالث: إنّ التوحيد أساس العبادة وملاك الأمر.

الرابع: الدلالة على رسوخهم في الشرك والكفر إذ نقضوا العهد والميثاق.

الخامس: سياقها يدلّ على الاحتجاج على المشركين، والتوبيخ على شركهم وحنث عهدهم وميثاقهم.

السادس: إنّ الآية الكريمة من أقوى دلائل التوحيد، حيث الوعد منهم بالرجوع عن الشرك والحلف عليه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً»

إشارة

قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً».

تذكيرٌ لهم بقدرته عزّ وجلّ المطلقة التامّة، بعد إشعارهم ببعض مننه عليهم، فهو الذي يُنجيهم من الظلمات والكروب، وإعلامٌ لهم بأنّ نقضهم الميثاق، وحنتهم العهد واليمين، ورجوعهم إلى سابق شركهم، من أقوى موجبات العذاب، فهو القادر على أنّ يبعث عليكم العذاب، فتكون عاقبة كفرهم وشركهم نزول النقمة عليهم، وحلول العذاب العظيم. فالآية تبيّن عظيم قدرته، وشمولها لهم مجموعين وأفراداً. فهو القادر على الإنجاء من الكرب، كما هو قادر على التعذيب وإنزال العذاب.

المراد من البعث

وإنّما ذكر لفظ (البعث) لبيان الإقامة والإنهاض، وأنّ العذاب من شأنه أن يتوجّه إليهم ويقع عليهم، لما فيهم من الكفر والعصيان، إلّا أن يمنع مانع من الطاعة

ص: 445

والإيمان، فالمقتضي للعذاب واستحقاقه موجود فيهم، ولأجل ذلك يشمل أُمّة خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولعلّ هذا المعنى مأخوذٌ من لفظ البعث الذي معناه إثارة الشيء وتوجيهه، وهو قسمان:

بشري كبعث البعير، وبعث الإنسان في حاجة.

وإلهى إمّا بإيجاد الأعيان والأجناس والأنواع من العدم، وذلك يختصّ بالخالق البارئ عزّ وجلّ، وغيره لا يقدر عليه أبداً، أو إحياء الموتى وقد يخصّ اللّه عزّ وجلّ بعض أوليائه به كعيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمثاله، وقد ذكرنا فيما سبق بعض ما يتعلّق بهذه المادّة، فراجع.

والتنوين في «عذاباً» للتفخيم، وقدّم «عَلَيْكُمْ» على المفعول الصريح لتهويل أمر المؤخر، وفي الآية التهديد وتهويل العذاب، وهو كافٍ في الإخافة والإنذار، لاسيَما مع وجود الاستحقاق له.

ثمّ إنّ الآية وإن دلّت على كمال قدرته عزّ وجلّ وثبوتها له، لكنّها لا تدلّ على فعله كما هو معلوم، إلّا أنّ القرائن التي تحتفّ بالمقام تدلّ على الفعل لاستحقاقهم للعذاب، وقد أقرّ الكافرون فيما حكى عنهم في الآية السابقة به، وإصرارهم على الكفر بعد اعترافهم بعنايته عزّ وجلّ، ولطفه بهم في دفع الكروب ورفع الشدائد عنهم، ممّا يدلّ على استحقاقهم للعذاب، وبعثه عليهم، إلّا أن يتحقّق منهم ما يرفع عنهم ذلك كالإيمان والطاعة، فالآية متضِّمنة للوعيد المؤكّد.

وكيف كان، فالمعنى: قُل يا محمّد لهؤلاء الكفّار العُصاة، هو القادر لا غيره على أن يرسل عليكم عذاباً سريعاً لا يعلم كنهه إلّا اللّه تعالى.

المراد من قوله تعالی «مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ»

قوله تعالى: «مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ».

أي عذاب من جهة العلوّ أو عذاب من جهة السفل، وإهمال نوع العذاب

ص: 446

النازل من قبلهما، ليشمل كلّ ما يمكن أن يتصوّر، فمن الفوق كالصيحة والصاعقة والحجارة، والطوفان، والريح العاصف، ويشمل أيضاً ما اخترعه الإنسان كالطائرات وغيرها، ومن تحت الخسف والزلزلة ونحو ذلك، وقد تحقّقت جملة منها في الأُمم السابقة، وإطلاق الآية الكريمة يشمل جميع ما كان وما يحدثه البشر، فينطبق اللّفظ على كل المعاني، فلا وجه لتخصيصه بنوع معيّن، كما فعله بعض المفسّرين، وقد ذكر سبحانه في القرآن الكريم بعضاً منها، قال تعالى: أأمِتتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِثْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ»(1).

وقد وقع كلا القسمين في الأقوام السابقة، كقوم عاد و ثمود، وقوم شُعيب وقوم لوط، وأصحاب الفيل، وفرعون وقارون. إلّا أُمّة خاتم الأنبياء والرُّسل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ). فإنّه وإن تحقّق مناط الاستحقاق فيهم، لاسيما في ابتداء الدعوة، ولكن لم ينزل عليهم مثل تلك الأنواع لوعد وعده اللّه سبحانه له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، إذ جعله رحمةً للعالمين، فقال عزّ وجلّ «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(2)، ولكنّهم ابتلوا بأمور أُخرى لا تقلّ عمّا أبتُليَتْ به الأُمم السابقة، كما حكى عزّ وجلّ في الآيات اللاحقة وغيرها، لنكوصهم عن الطاعة، وافتراقهم عن الحقّ، وقد حذّرهم عزّ وجلّ منها، فقال تعالى «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلِهِ»(3)، فإنّ الاختلاف والتفرق سبب النزول العذاب.

ما يتعلّق بقوله تعالی «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً»

قوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً».

ص: 447


1- سورة الملك: الآية 16 - 17.
2- سورة الأنبياء: الآية 107.
3- سورة الأنعام: الآية 153.

أُسلوب كنائي بديع يثير الدهشة والاضطراب من التفرق والاختلاف، بأن يكون كاللّباس يغطى جميع ما يمكن أن يتحقّق به الاتّحاد، ويضمّ فيه الاجتماع، ويخلط الأمر، فيجعل الأُمّة مختلفي الأهواء، فترجع إلى شيع وفرق مختلفين وأحزاب متشتّتين، وتحدث مذاهب متفرِّقة كلّ فرقة تشايع إماماً وتتخذ آراء وأفكاراً معيّنة، تدعو إلى العصبية البغيضة، كلباس الجاهلية يقاتل بعضهم بعضاً، وليس نتاجها إلّا الحروب والدمار، فتبتعد عن الدين وحريمه، والإسلام وروح،ه و هذا ما نراه في أُمّة الإسلام بعد ارتحال زعيمها إلى الرفيق الأعلى، وهو المشاهد في حالنا، وقد استولت الفتنة علينا، يقتل بعضنا بعضاً، ويستبيح حرمة الآخر، فضعفت همّتنا، وغدا الخور في نفوسنا، فاستولى العدوّ على أنفسنا وديارنا، وأوكل اللّه عزّ وجلّ الأمر إلينا، فليس لنا نجاة إلّا بالرجوع إلى القرآن، واتّباع منهج الإسلام، لعلّ اللّه سبحانه يرحمنا، وإلّا فالفتن شديدة، والحوادث جمّة، نعوذ باللّه منها.

وتثير كلمة (شيعاً) الرعب والخوف عندما يتصوّر الإنسان ما يترتّب على الاختلاف والتفرّق، وما حدث في الأُمّة، حتّى آل أمرها إلى الشيع والفرق والأحزاب، تهيّج كلّ فرقة أتباعها ضدّ الأُخرى، ويتقوّى كلّ حزب بأفراده، كما تتقوىّ وتتهيّج النار إذا أُلقي عليها الحطب، وهي جمع شيعةً، كسدرة وسدر، وهم كلّ قوم اجتمعوا على أمرٍ، وهو منصوب على الحال.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ»

إشارة

قوله تعالى: «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ».

البأس الشدّة كالحرب والفتنة والقتل، ولا ريب أنّ تصوّر مثل هذه الأُمّة المتشرذمة المتفرّقة، التي يقتل بعضهم بعضاً، يوجب خفاء الحقيقة، واستتار الواقع عندهم، وإلّا فإنّ مجرّد الاختلاف في الفكر والرأي لا يوجب الاقتتال، بل هو

ص: 448

الذي يوجب خفاء الحقّ، ونصرة الباطل، وفقد كلّ خير وصلاح يرتجى من الدخول فى السلم ونبذ القتل والاقتتال.

اقوال المفسرين حول العذاب

وقد اختلف المفسِّرون في وحدة العذاب أو تعدّده:

فذهب بعضهم إلى اتّحاد العذابين نظراً إلى أن جعل الثاني عذاباً مستقلّاً يرجع إلى أن يكون بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق، ولا يحسن مقابلة المطلق المقيد إلّا بعناية زائدة.

ويرد عليه: بأنّ الاختلاف والتفرق واختلافهم متشايعين وفرقاً متشبعة، إنّما يوجب خفاء الحقيقة واستتار الواقع، فإنّ كلّ أُمّة أو دين إنّما تتشكّل من مجموعة حقائق ومعارف و آداب وتعاليم، فإذا ابتلى أفرادها بنار الاختلاف والتفرّق، واصطلوا بشرارة الأوهام والخيالات، أوجب ذلك خفاء حقيقة ذلك الدين، فيطرأ الضعف في النفوس، وتهيّج الضغائن والشكوك فتؤدي إلى التنافر والتناحر، ويؤدّي ذلك إلى القتال، فيكون كلّ واحد من الأمرين عذاباً مستقلّاً، فإنّ الأوّل يوجب إخفاء الحقيقة والولوج في الأوهام، والثاني مترتّب على تشتّتهم وكونهم أحزاباً متفرّقين يكذّب كلّ واحد من الأحزاب الطرف الآخر، فيوجب القتال، ولعلّه من أجل ذلك كان العطف بالواو.

ولكن ممّا يهوّن الخطب أنّ الأوّل بمنزلة المعدّ والمقتضى للآخر.

والمعنى: إنّ من عاقبة التكذيب بالحقّ والتكبّر عليه، والشرك باللّه عزّ وجلّ والكفر بآياته، ونقض العهد والميثاق الذي واثقتم اللّه عزّ وجلّ عليه، أن يبعث العذاب عليكم، ويضرب بعضكم ببعض، وتكونوا شيعاً مختلفين متنازعين متحاربين، يُذيق بعضكم بأس بعض، وهو عامٌ يشمل الكافرين والمسلمين، وكلّ من جحد الحقّ وتكبّر عليه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات»

قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات».

ص: 449

التصريف هو التحويل من نوع الى نوع آخر أي تحويل الدلائل والبراهين والآيات التدوينيّة، ونجعلها على طرائق شتّى من وعد ووعيد وغيرها. ومنها ما يرجع إلى الحسّ أو إلى العقل، فبينّها لهم لعلّهم يدركون الحقيقة، ويفهمون الحقّ ويدركونه، فيرجعون إلى الإيمان ويتركون العناد واللجاج، فإّن تصريف الآيات واختلافها يقتضي الفهم، فإنّ عزبت آية فلم تعزب الأُخرى، مضافاً إلى أنّ الآيات من أهمّ الدلائل لمعرفة الحقّ وأسبابه وأدلّته والفقه هو فهم الشيء مع بعض الخصوصيّات. والخطاب وإن كان لأشرف خلقه، ولكنّه يرجع إلى أهل العقول بوساطة العقل الأوّل.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَكَذَّبَ ِبهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ»

قوله تعالى: «وَكَذَّبَ ِبهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ».

تمهيد لما سيأتى من النبأ الذي تضمنه الإنذار السابق، كما أنّه إنذار لأُمّة الإسلام أيضاً. والضمير في (به) يرجع إلى القرآن المشتمل على الآيات التي تُقرِّبُ الإيمان إلى العقل والوجدان، وما يشتمل من الوعد والوعيد، والدعوة إلى التوحيد.

وقال بعضهم: إنّه يرجع إلى العذاب ونسبه الآلوسي إلى غالب المفسّرين، ولكن تكذيب العذاب لابدّ أن يكون مسبوقاً بالتكذيب لجملة الإيمان، والإنذار إنّما يتحقّق على الثاني دون الأوّل.

وقيل: مرجعه تصريف الآيات، وهو بعيد.

والمنصرف من القوم هم قريش، وإن دخل غيرهم أيضاً بقرينة بعض الآيات، وفى التعبير إيذانٌ بسوء حالهم، فإنّ تكذيبهم للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع كونهم قومه، لدليلٌ على غاية عتوّهم وطغيانهم على الحقّ ومكابرتهم له.

وقد أكّد سبحانه بأنّ المكذوب به هو الحقّ، للدلالة على عظيم جرمهم

ص: 450

وجنايتهم على الحقّ الذي يجب عليهم التمسّك به، والاجتماع عليه، والتحرّز من أن يتسرب إليهم الكفر، ويدبّ فيهم الخلاف، حتّى لا يستحقّوا عذاب اللّه تعالى الموعود به، وفي التعبير بأنّه الحقّ، لبيان أن ما ورد في هذه الآيات هو من الحقّ الذي لا بديل له، ولا تغيّير فيه، فهو من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم، وأنبأ به الذكر الحكيم.

ومضمون الآية الكريمة وإن كان عامّاً، لكن الظاهر منها أنّه إنذار إلى قوم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأُمّته، فإنّهم وقعوا فيما أنذر به الأقوام السابقون، فدبَّ الخلاف بعد ارتحال الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وتمكّنت المشاحنات والمنازعات بينهم، وا، واستفحل أمر الذين كانوا في عصر الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فأصبحوا مصدر تهديد للقرآن والإسلام، كما حكى القرآن حالهم في مواضع عديدة، وحذّر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أُمّته منهم، حتّى وصل الحال بالمسلمين فيما نراه في الوقت الحاضر، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى في ما سيأتي: «لِكُلِّ نَيَا مُسْتَقَر».

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيل»

قوله تعالى: «قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيل».

تأكيد لما ورد في الآية المباركة، وإعلام لهم بأنّ الأمر قد قُضي ولا رجوع فيه، وإنّما الأمر يرجع إليكم في اختيار أحد الأمرين؛ إمّا الإيمان والطاعة، أو التكذيب والنكوص، ولم يفوّض الأمر إلى الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتّى يمنع العذاب، ولم يبلّغ بإكراهكم على التوحيد والطاعة، فهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بشيرٌ ونذيرٌ بعذاب شديد يحلّ بكم إذا تحقّق منكم الإعراض، وفي الآية الكريمة إرشادٌ لهم بأنّ هذا القضاء الإلهى لا يقبل الشفاعة عند تحقّق أسبابه ومقتضياته. والوكيل هو الذي يدافع عنك المكاره والأسواء، وقد نفى عزّ وجلّ مثل هذا النوع من الوكالة عن الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ). وقد ذكر المفسِّرون في المقام وجوهاً، فإن لم يرجع إلى ما

ص: 451

ذكرناه المستفاد من ظاهر الآية الكريمة، وإلّا فهي مردودة، وفي آية الزمر ما فيها إرشاد إلى ذلك، فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لِكُلٍّ نَيَا مُسْتَقَر»

قوله تعالى: «لِكُلٍّ نَيَا مُسْتَقَر».

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة التي أخبر بها الذكر الحكيم، فإنّه يشتمل على أخبار ومغيّبات، وكلّها حقائق لابدّ أن يكون لها مستقرّ وحصول، وفيه التصريح بالوقوع الحتمي، وهو تتمة قول نبينا الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و تمام ما أمره اللّه عزّ وجلّ أن يقول لأُمّته.

والنبأ الخبر الذي له شأن يهتمّ به، والمراد به المدلول الذي يقع مصداقاً له، أو المعنى المصدري. والمستقر من الاستقرار بمعنى الثبات الذي لا تحوّل فيه، والمراد به وقت استقرار وحصول لابدّ منه.

وقيل: إنّه مصدر ميمي، وليس بشيء.

والمعنى: لكلّ نبأ من الأنباء القرآنية وخبرٌ من أخباره مستقرّ تظهر فيه حقيقته، ومنه ما أنبأ به القرآن الكريم فيما سبق ذكره. والخطاب في ابتداء الكلام وإن كان متوجِّهاً إلى المشركين -كما عرفت - لكنّه يشمل غيرهم، لا سيما الأُمّة الإسلامية؛ لأنّ الاعتبار بالسبب وهو موجود فى هذه الأُمّة، فقد ابتليت بما ورد في ذيل الآية الكريمة من التفرّق والتشتّت والاقتتال فيما بينهم، وشهد به العيان، وقد شابهوا من هذه الجهة الأمم السابقة، كما أخبر به نبيّنا الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الحديث المعروف: (ستفترق أُمّتي من بعدي إلى ثلاث وسبعين فرقة)، وقد حصد الأواخر ما بذره الأوائل من التكذيب والاختلاف، ولا ضير في ذلك، فإنّه من الأُمور الاجتماعية التي أقرّ بها العقل والنقل، وقد تكرر في القرآن الكريم الحكم على الأواخر بما فعله الأوائل لوجوه عديدة ذكرناها في سورة البقرة، فراجع.

ص: 452

ثمّ إنّ في القرآن الحكيم الكثير من الآيات المنبئة - سواء كانت من النصر أو العذاب - وقد ظهر مستقرّ بعضها وبقي الأكثر ممّا تنبأ به الذِّكر الحكيم وننتظر تحقّقها، ومن أعظمها قوله تبارك وتعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(1)، كما أنّ آية المقام تتطابق مع آيات الزمر، وتبيّن الأخيرة بعض الإشارات في الأُولى، قال تعالى: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللّه الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنيا وَلَعَذَابُ الأخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» إلى أن قال سبحانه: «قُلْ يَا قَوْمِ أعمّلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالحقّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل»(2).

والتعمق في القرآن الكريم يزيد الإنسان فهماً ومعرفة في أنباء القرآن، وأنّها حقائق لابدّ من حصولها، وقد تحقّق بعضها وسيتحقّق الآخر، ممّا يثبت حقّية القرآن العزيز، وصدق ما ورد فيه، وعلى العلماء والباحثين دراسة آيات القرآن لاسيّما تلك التي تتضمّن الأَنباء، فإنّ لها التأثير الكبير في معالجة أحوال الأُمّة وواقعها المرير لعلّ اللّه سبحانه يرحمنا، وتشملنا عنايته المباركة، ويُلهمنا الحلول التي تجلب السعادة في الدارين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»

قوله تعالى: «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

تأكيد لما سلف، وتهديد آخر، ومبالغة في الوعيد، أي وسوف تعلمون

ص: 453


1- سورة الأنبياء: الآية 105.
2- سورة الزمر: 25 - 41.

مستقرّ ما أنبأ به القرآن في الدُّنيا والآخرة، وتعلمون ما ستؤول إليه أمر الأُمّة من وخيم العاقبة، وتعلمون وبال تكذيبهم من وعيد، وعلى العاقل التضرع إلى اللّه في دفع الشدائد والعذاب، وأن لا يصرّ على الذنب، فإنّه سبب الابتلاء، وأنّ الذنوب ظلمات تتراكم على النفس، وتحجبها عن خالقها، وتمنع عن وصول فيضه إليها.

***

ص: 454

بحوث المقام

بحث دلالي حول الآيات الشريفة المذكورة

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» على شمول قدرته واستعلائه على مخلوقاته بالقهر، بعد بيان إحاطة علمه في الآية السابقة، فتمّت بذلك قهاريته التامّة وربوبيّته العظمى، وثبتت الوهيته الكبرى، وبطلت دعاوي المشركين، وظهر زيف الشركاء، وعجز ما اتّخذ شريكا اللّه عزّ وجلّ، وانحطاطها عن رتبة الأُلوهيّة. وهي من أعظم الآيات التدوينيّة التي تدلّ على إثبات الإله الواحد الجامع لصفات الكمال، وبطلان الشرك مطلقاً، ولاشتمال هذه السورة المباركة على مثل هذه الآية، أصبحت من جلائل السور التي تتضمّن الأدلّة والبراهين على توحيد الإله.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: «مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» أنّ الشدائد تحيط بالإنسان وتؤثِّر فيه تأثيراً كاملاً، كما تؤثّر الظلمات فيه وتزيد في اضطرابه وحيرته، وعجزه عن دفع المكاره عن نفسه، ولا نحتاج إلى تكثير الأمثلة في تحديد ظلمات البر والبحر بعد استفادة المناط من الآية المباركة، وهو إحاطة الشدائد والأهوال بالإنسان وتأثيرها فيه وتأثره بها، ولا تخلو حالاته التي يتعرّض لها إمّا أن يكون في البر أو في البحر فتعمّ الشدائد جميع أحواله، وتمكّنت منه فأعيته طرق علاجها وأظلّم عليه الخلاص منها، ولعلّه لأجل ذلك خصّ سبحانه الظلمات بالذكر، أو من أجل الإعلام بشدة المكاره.

الثالث: يشير قوله تعالى «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً» إلى أمر فطرى مركوز

ص: 455

عند الإنسان وسنّة اجتماعية متّبعة، وهو الدُّعاء عند من هو قادر على استجابة دعائه وإنجائه من الشدائد، وهو الذي يثير الإيمان الفطري المودع في أنفس البشر، وقد بيّن سبحانه في الآيات التالية صور الدُّعاء التي يرتقي فيها الداعي من التذلّل والضراعة، ورفع الصوت مع البكاء، أو الخفاء والإسرار بالمناجاة. وهما صفتان تعرضان على الداعي، وتظهران على دعائه، فهو عندما يستغيث في شدّة احتياجه بمن هو قادر على قضاء حاجته، ورفع الشدائد التي أحاطت به، فيصدر الدُّعاء عن إخلاص من الداعي، وهو في حالة التضرّع والتذلّل والاستكانة؛ فتارةً يجأر بالدُّعاء معلناً حاجته رافعاً صوته، وأُخرى يسرّ الدُّعاء ويخفيه، وهو في الحالتين يدعو مخلصاً محتسباً لا يبالي بمن حوله ممن يطلع على ذلّته واستكأنّه، وهذه الحالات هي من السنن الاجتماعية التي تنبع عن أمر فطري مركوز عند الإنسان.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

سنة اجتماعية أُخرى، وهي مأخوذة من عادة جارية بين الأفراد بعضهم مع بعض، في أنّ الضعيف العاجز عن خلاص نفسه من المشاكل التي تحيط به، عندما يستغيث بمن هو قادر على حلّها، فإنّه يعده بوعود استمالة لعطفه، وتطيّيباً لنفسه، أو تقرّباً إليه، وإيقاظاً لهمّته، أو بعثاً لعزيمته، وتختلف تلك الوعود حسب حالات الداعي وصاحب الحاجة، فإن كان غنيّاً يعده بالمال، أو فقيراً فبالطاعة، أو فهيماً فبالوفاء والثناء، وغير ذلك، فهي سُنّة جارية، فالإنسان مع ربّه يضيف إلى دعائه عهداً يقدمه إلى ربّه، ووعداً يعده به، أنّه لو كشف عنه ليكونن من الشاكرين، فيرجع عن سابق كفره إلى الإيمان والطاعة، بل يمكن أن تجعل هذه السنة الاجتماعية المبنية على التبادل والمعاطاة، سُنّة كونية تجري وفق قانون الأخذ والعطاء، إلّا أنّ الفرق بين العبد وخالقه، وإن كان مرجعه الفطرة أيضاً أنّ اللّه تعالى

ص: 456

لم يفعل فعلاً يعود نفعه إليه، فإنّه الغنى المطلق والكريم الذي لا حساب لكرمه، ولا حدّ لفضله، فهو الذي أودع التوحيد في فطرة البشر ليعود إليه بالإيمان والطاعة في دعائه الفطري، ويترتّب عليه أنّه إذا انقطعت به الأسباب، واشتدّت عليه الأُمور، وغاص في المكاره والأسواء، تنبّه في الخلاص منها، فأفاق من غفلته ورجع إلى رشده، وتوجّه بالإخلاص إلى بارئه، متضرِّعاً إليه معترفاً بالظلم والتقصير، وأقرّ بالخيبة والحرمان، واستحقاق العذاب يظلّ ملتمساً ربّه سبحانه متضرّعاً إليه، واعداً له بالشكر والطاعة لعلّه يكسب عطفه عزّ وجلّ، ويصححّ صورته عنده سبحانه ليظهر استحقاقه لكشف ضرّه واستجابة دعائه، فإذا قضيت حاجته، وانفتل فرحاً مسروراً عاد إلى ما كان عليه من الشرك والعصيان، ناسياً ما وعد به ربّه من الشكر والإيمان، فكان ما ذكره سبحانه في هذه الآية وما بعدها، راجعاً إلى هذه العادة التي اتّخذها الإنسان في هذه الدار المبنيّة على التعامل والمعاطاة، ولكن مع الاختلاف الذي ذكرناه المتحقق بين سائر أفراد الإنسان، وما يجري بينهم سبحانه الغني الكريم، وجميع هذه الآيات من آيات التوحيد المودع في أعمّاق الفطرة، الذي لا يمكن لأي فرد مهما بلغ من الشرك والكفر أن ينكره.

الخامس: يرشد قوله تعالى «تَدْعُونَهُ» إلى رجحان الدُّعاء مطلقاً، وكونه من أهمّ الأسباب في نُجح المطلوب، ونيل المقصود، وهو على قسمين:

اختياري صادر عن إرادة وعلم وفهم.

أو تكوينى مودع في الفطرة.

وقد يختلف الأوّل عند الغافلين، ولكن الثاني حاصل على كلّ حال، ويظهر على الجوارح، لاسيّما اللّسان عند الشدائد المظلمة، وهو يعمّ الموجودات كلها، ويرجع نفع الدُّعاء مطلقاً إلى الداعي، وقد ورد في الأخبار في شأن الدُّعاء وما يترتّب عليه من الآثار الحسنة ما تبْهَر منه العقول، واستجابة الدُّعاء منه عزّ وجلّ

ص: 457

من شؤون ربوبيّته العظمى، ومظاهر رحمته الواسعة، فلا تتخلّف عن الدُّعاء إذا تحقّق مع شرائط الاستجابة، وما في الحديث: «الدُّعاء يردّ البلاء وقد أبرم إبراماً»، يرمز إلى الآية الكريمة اللّاحقة «قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثمّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ»، فإنّ الإنجاء قد ترتب على الدُّعاء الصادر منهم، مع الإخلاص وانقطاع الأسباب.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» أنّ الدهشة والاضطراب قد خلبا مشاعرهم، والخوف قد استولى على قلوبهم، والحيرة أطبقت على عقولهم من شدّة ما هم فيه، فلا يهمّهم إلّا نجاة أنفسهم منها، فلو لم تطمس الفطرة عندهم بسبب ارتكابهم المعاصي والآثام، ولم يركنوا إلى الشرك والأوهام، لكان نورها يسطو على قلوبهم، وحينئذٍ يطلبون من اللّه عزّ وجلّ الهداية والعافية من الأُمور العظام، ولذا كان العهد منهم مؤكّداً. وأُسلوب كلامهم يدلّ على شدّة تمسكهم بالعهد الذي ضربوه على أنفسهم، بالدوام على الشكر، بل رسوخهم فيه، وهم بذلك يزيدون عهداً على عهودهم التي كانت مع اللّه عزّ وجلّ، ولم يتنبهوا إلى لزوم وفائهم بعهدهم هذا، وسوف يؤاخذهم اللّه عزّ وجلّ على نقضه، وليس ذلك منهم إلّا أنهم لم يعرفوا من الحياة إلّا الظاهر منها، ولا يريدون إلّا البقاء فيها، كما قال عزّ وجلّ:« يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(1)، وعند ارتفاع الشدائد والنجاة منها عادوا إلى ما سالف الشرك والطغيان، ناسين ما عاهدوا به ربهم ووعدهم له كانوا عليه من بالشكر، كما يؤمئ إليه ذيل الآية التالية «ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ».

السابع: يرمز قوله تعالى «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» إلى أنهم على معرفة من

ص: 458


1- سورة الروم: الآية 7.

أنّ سبب وقوعهم في البلاء واحتفافه بهم هو الشرك والعصيان، والإعراض عن الإيمان باللّه تعالى، وعند الاستضاءة بنور الفطرة، اعترفوا بذلك، ولكنّهم تركوا الاستفادة منه فرجعوا إلى ما كانوا عليه، وهي لحظة حاسمة في حياتهم المعنوية والظاهرية، فلو كانوا قد طلبوا منه عزّ وجلّ الهداية لأؤتوها لأنها ساعة استجابة الدُّعاء حيث صدر منهم بإخلاص، ولكن أنّى لهم ذلك، وقد رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسبون، وفي هذه الآيات الشريفة إيقاظات لأصحاب الهمم بالاستفادة من تلك اللحظات الحاسمة في حياتهم، وقد قال سيِّد الأولياء أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اغتنموا الفرص فإنّها تمرّ مرَّ السحاب).

الثامن: يدلّ قوله تعالى: «قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ»، على عموم رحمته وسعتها، لتشمل نجاتهم من كلّ كرب واستمرار هذه النجاة لهم مع ما همّ عليه من الشرك البغيض.

وبعبارة أُخرى: إنّ المقتضي لاستجابة الدُّعاء موجود، ولكن المانع هو الشرك واقتراف المعاصي والآثام، وإليه يشير قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ». فهو عقبة كبيرة لابدّ من إزالتها عن طريق الاستكمال، فإن الشرك يزيل كلّ مكرمة، وأنّه لا يجتمع مع عبادة اللّه تعالى أبداً القادر وحده على الإنجاء.

ومن هنا لا بدّ من توجيه ما يصدر من أهل التوحيد من الاستشفاع بالأولياء في قضاء الحوائج، ولا يصحّ الحكم عليهم بالشرك، فإنّ هذه الآيات وإن كانت من آيات التوحيد، لكنّها من ناحية الشفاعة مطلقة، وإذا لاحظنا آيات الشفاعة والشفعاء، وأنّ اللّه تبارك وتعالى قد أذن لبعض الشفعاء في قضاء الحوائج، أو التوسط بين المستشفع وبينه سبحانه، لابدّ من تقييدها بالأخيرة. وقد ذكرنا ذلك مكرّراً فى هذا التفسير، فلا يصغى إلى ما يقال من أنّ التوسّل بالأولياء هو الشرك، فإنّه صادر عن قلة الفهم والتدبّر، كيف يكون شركاً مع أن المتوسل بهم لو عرف

ص: 459

بأنّه شرك باللّه عزّ وجلّ لأعرض عن التوسّل بهم وأصله.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً» على أنّ العذاب كامن فيهم بسبب عقائدهم الفاسدة وارتكابهم للمعاصي والآثام، فالاستحقاق من عند أنفسهم والعذاب فيهم، وأنهم من حصب جهنم، وتدلّ عليه جملة من الآيات والروايات، ولعلّه لأجل هذه النكتة ورد هذا اللّفظ دون لفظ يرسل ونحوه، كما في آيات أُخرى، وعليه يترتّب قوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» فإنّه عذاب من داخل الأُمّة، وفي النفوس الملتهبة، فتشمل الآية كلا النوعين من العذاب: الإرسال من الفوق أو من تحت، أو العذاب الداخلي الكامن في النفوس، وفي كلّ منهما يكون البعث من اللّه تعالى، فإنّه عزّ وجلّ هو القادر على أنّ يثيره عليهم.

وفي الآية الكريمة جرت سُنّة اللّه تعالى حيث يجمع بين البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، ليجعل الإنسان بين الرجاء والخوف، لحكمة متعالية قد ذكرناها في هذا التفسير. فكانت هذه الآية تذكيراً لهم بالقدرة على تعذيبهم، إثر التذكير بقدرته على تنجيتهم، والتنبيه على أنّ عاقبة كفران النِّعم زوالها ونزول النقم.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» على اختلاف هذا العذاب عن سابقيه في العدّة والمدّة، والكيف والكم، فإنّ في سابقيه تكون العدة إمّا الصيحة أو الحجارة أو الزلزلة أو نحو ذلك ممّا ذكرناه، وفى هذا العذاب تكون نفس الإنسان والأفراد بعضهم مع بعض، وأمّا في المدّة فإنّها في سابقيه محدودة بوقت قصير، وأمّا في هذا العذاب فهي طويلة تمتد مع الزمان، وأمّا في الكيف فإنّ عذاب الشيع تجتمع فيه أنواع العذاب من الهموم والغموم والقتل والتشريد والفقر والحرمان ونحو ذلك، وأمّا من حيث الكم فهو كاللباس يحيط بالأفراد إحاطة اللباس بالبدن فلا يستثنى منه فرد، وكم لهذا العذاب من التأثير في الفكر والثقافة والأفراد

ص: 460

والاجتماع من جميع النواحي، وقد ذكرّنا سبحانه بواحدٍ من أنواع عذاب الشيع أنّه يذيق بعضكم بأس بعض، فهو الاقتتال وسفك الدماء وهتك الحرمات، وكم يكون له من التأثير في النفوس والقلوب، وكفى بذلك تحذيراً، وقد ذاقته أُمّة الإسلام في مرّ العصور، كما وقع في أمة الكفر قبل الإسلام، قال تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(1)، فإنّها آيات تشبه آيات المقام، أَوَلَمْ تكف النذر فيرجع المسلمون إلى رشدهم، وينبذوا الخلاف، ويقيموا أحكام القرآن، ويحكموا تعاليم الإسلام. فقد بلغ السيل الزُّبى، وإلى اللّه المشتكى، ونسأله أن يعجل فى فرج وليّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفرج أمته،به إنه سميعٌ مجيب.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيل» على أنّ ابتلاء الأُمّة بعذاب الشيع والتفرّق، والوقوع في لوازمه، من الأُمور التي لا تقبل الشفاعة، فقد قضى الأمر إلا أن يقلعوا أسبابه، وقد وقع القول عليهم، والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بشّر وأنذر وأتمّ الحجّة تلو الحجّة، واللّه تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وقد جمعت آيات سورة الأنبياء جميع أنواع الاحتجاج والبشارة والإنذار والتخويف، قال تعالى: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتِكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا ترَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلَّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ»(2) إلى آخر الآيات، وتضمّنت الآيات من التصريف وأنواع الكلام، وأساليب الخطاب، ما لا يدع مجالاً للشك والجدال.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ» على أنّ

ص: 461


1- سورة الروم: الآية 31 – 32.
2- سورة الأنبياء: الآية 92 - 95.

التكذيب حاصل في قوم الرسول وأُمّته، فإنّ الأوائل قد صدر منهم التكذيب، وقد تبعهم الأواخر، فابتليت الأُمّة بأسرها بهذا النوع من التكذيب الذي أوجب الابتلاء بعذاب التفرّق، والواقع الاجتماعي يدلّ على ذلك، فإنّه قد أُصيب المجتمع الإسلامي بالوهن والانحطاط، والتشتّت في الكلمة، ما نراه ونحسّ،به ويتألّم كلّ فرد مسلم منه، وإنكاره مكابرة للحقيقة والواقع، فما ذكره عزّ وجلّ في القرآن الكريم، وما أنبأ به قد تحقّقت وكان وقوعه حقّاً لا يقبل الجدال.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: «لِكُلٍّ نَيَا مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» على ما سيوا في الأُمّة من وخيم العاقبة ووبال السيّئة، وفي القرآن الكريم الشيء الكثير من الأنباء التي تبيّن واقع الأُمّة وما ستُبتلى به، وقد حذّرنا اللّه تعالى منها، وكان الرسول الكريم من الناصحين لأُمّته.

وهذه الآية الكريمة من جلائل الآيات التي تدلّ على حقية التنبؤات القرآنية، وحتميّة، وقوعها وابتلاء جميع الأُمّة بها، وهي من الآيات التي تبيّن ابتلاء الأواخر بما فعله الأوائل، فما أسوء العمل لو أعرضنا عنها، وأسوء التقصير لو أهملنا البحث عن مداليلها، فإنّها تمسّ حال الأُمّة من حيث السعادة والشقاء، فهل من مدّكر؟!!.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» على أنّ تصريف تلك الأنواع من العذاب واقع في هذه الأُمّة، وأنّهم سيبتلون بها دون استثناء، إلّا أن يرجعوا إلى رشدهم ويتفقهوا فى أحوالهم.

***

بحث روائي عن الروايات الواردة في تفسير الآيات

بحث روائي:

في «المجمع» في قوله تعالى: «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً» روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «خير الدُّعاء الخفيّ وخير الرزق ما يكفي»، ومرّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بقوم رفعوا

ص: 462

أصواتهم بالدُّعاء، فقال: «إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً».

أقول: إنّ الدُّعاء بنفسه محبوب وراجح ذاتاً، وإنّما تتعلّق الكراهة بلوازمها، فيكون خير الدُّعاء الخفي، لأنّه أسلم من الشرك، وأمّا رفع الصوت بالدُّعاء فهو أيضا محبوب إذا لم يستلزم مرجوحاً، كما إذا أوجب الإيذاء لآخر، أو تشويش الفكر واضطراب النفس ونحو ذلك، وقد تقدّم في التفسير وجه للتضرّع والخفية في الدُّعاء، كما تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالدعاء وآدابه، فراجع.

في «تفسير القمّي» قال: «وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ»: هو الدخان والصيحة، «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» وهو الخسف، «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» وهو اختلاف في الدِّين، وطعن بعضكم على بعض، «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ»، وهو أن يقتل بعضكم بعضاً».

وكلّ هذا في أهل القبلة، يقول اللّه: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ».

أقول: إنّه قد دلّت روايات مروية عن الفريقين على ابتلاء هذه الأُمّة بما أوعد به اللّه عزّ وجلّ من العذاب في الآية الكريمة، وأنّ تصريف تلك الأنواع النازلة فوقهم ومن تحت أرجلهم بما لها من المصاديق الكثيرة، وتبدّلها من نوع إلى نوع آخر، واقترانها بالخصوصيات التي لا يعلمها إلّا اللّه تعالى، ستقع في هذه الأُمّة حتّى يفقهوا ويغيّروا ما بأنفسهم، وأمّا عذاب الشيع والتفرّق وإذاقة بعضهم بأس بعض، فهو أمرٌ مفروغ عنه، ووقوعه فيهم شاهدٌ كبير لا يقبل الجدال.

والظاهر أنّ ما ورد في هذا الحديث في عذاب الفوق والتحت إنّما هو ضرب من المثال، كما تدلّ عليه روايات أُخرى.

ص: 463

وفي «المجمع» قال «مِنْ فَوْقِكُمْ» السلاطين الظلمة، «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» العبيد السوء ومن لا ضير فيه قال: وهو المروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وقال في قوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً»: قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والبغضاء. وهو المروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وقال في قوله تعالى: «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض» قيل: هو سوء الجوار، وهو المروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).

أقول: إنّه من باب الجري، وإنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل الأنواع المختلفة. ويشهد عليه اختلاف الروايات، كما عرفت.

وفي «تفسير القمّي»: وقوله: «يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ»، قال: السلطان الجائر، «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ»، قال: السفلة ومن لا ضير فيه، «أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» قال: العصبية، «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» قال: سوء الجوار.

أقول: تقدّم أنّه من باب الجرى والظاهر أنّ ما ورد فيه إنّما هو من ذكر بعض اللّوازم.

وفي «الدّر المنثور»: أخرج عبد الرزاق بن حميد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، ونعيم بن حماد في «الفتن» وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات»، عن جابر بن عبد اللّه قال: لما نزلت هذه الآية: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ»، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «أعوذ بوجهك «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» قال: أعوذ بوجهك «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» قال: هذا أهون وأيسر».

أقول: وقريب منه ما روي عن ابن مردويه عن جابر.

وفيه أيضاً: أخرج أحمد والترمذي وحسّنه، ونعيم بن حمّاد في «الفتن»، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه الآية:

ص: 464

«قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «أما إنّها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».

وقد روى ابن كثير في «تفسيره» والسيوطي في «الدّر المنثور» وغيرها عدة روايات في هذا المضمون، وأنّه لمّا نزلت الآية: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» استعاذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى ربّه، ودعاه أن يعذِّب أُمّته بما أو عدهم من أنواع العذاب، فأجابه ربّه إلى بعضها ولم يجبه إلى بعض آخر، وهو أن يلبسهم شيعاً ولا يُذيق بعضهم بأس بعض.

أقول: الروايات المرويّة من طرق الجمهور كثيرة ومختلفة المضامين، ولكن لا يمكن الالتزام بها وهى مردودة بوجوه:

الأوّل: أنّها مخالفة لظاهر الآية الكريمة من أوجه شتّى، إذ أنّها تدلّ على الوقوع كما هو صریح قوله تعالى: «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»، فإنّه تهديد بالوقوع البتة، كما أنّ الآية تدلّ على قبولها للنقض والبداء، كما هو ظاهر قوله تعالى: «لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ»، وهى تدلّ على أنّ هذه الأُمّة شأنها شأن غيرها عند النكوص عن الطاعة، والارتداد عمّا جاء به القرآن كما هو المستفاد من قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ».

مضافاً إلى أنّ الآيات التي اشتملت على تلك الأنواع من العذاب لم ترد فيها إشارة إلى قبولها للبداء والتغيير، بل الأمر على خلافه، كما عرفت.

الثاني: إنّها مختلفة المضامين ومتعارضة فيما بينها، فلا تتّفق لا في عدد المسائل التي سألها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولا في عدد ما أُجيب إليه، ولا في نفس المسائل، راجعها تجد الاختلاف فيما بينها بوضوح.

الثالث: إنّها تعارض تلك الروايات التي نقلها الفريقان من وقوع تلك الأنواع من العذاب ونزولها وابتلاء الأُمّة بها على مرّ العصور، منها ما رواه

ص: 465

السيوطي عن عبد الرازق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن شدّاد بن أوس، يرفعه إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أنّه قال: «إنّ اللّه زوى لى الأرض حتّى رأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ مُلك أُمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإنِّي أُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنّي سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسنة عامّة، وأنّ لا يلبسهم ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إنّي إذا قضيت قضاءً فإنّه لا يُردّ، وإنِّي أعطيتك لأُمّتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أُسلّط عليهم عدوّاً من سواهم فيهلكوهم، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً. فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): إنّي أخاف على أُمّتي الأئمّة المضلّين، فإذا وضع السيف في أُمّتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة».

وهذه الرواية ومثيلاتها تكون من الشواهد التي يمكن أن نجمع بها بين الروايات المختلفة، فإنّه ليس ما يدلّ على كون الدُّعاء إثر الآية الكريمة، فهي سالمة عن الإشكالين السابقين الذين أوردناهما على تلك الروايات.

وكيف كان، فإنّه لابدّ من حمل ما ورد في هذه الرواية أنّ السؤال كان في رفع الهلاك العام والسنة العامّة التي تبيد الأُمّة؛ لأن من الأُمور التي جرى عليه القضاء الحتمي الذي لا يقبل البداء، هو بقاء الأُمّة إلى يوم القيامة، وقيام الدين إلى آخر الدُّنيا، ويدلّ عليه الذكر الحكيم، والسنّة المطهّرة من الفريقين. أما غير عذاب الاستئصال، فلا تدلّ الروايات جميعها على رفعه، بل قد وقع في الأُمّة وقد لاقت الأمرّين منه، وكفى به شاهداً على صدق ما أخبر به القرآن والرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

وفي تاريخ الإسلام الشيء الكثير منها، ما لقيته الأُمّة من المغول والصليبيِّين وغيرهما فراجع.

وفي «الدّر المنثور» أخرج النحّاس في ناسخه، عن ابن عباس، في قوله «ولَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلِ»، قال: نسخ هذه الآية آية السيف: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

ص: 466

وَجَدْتُمُوهُمْ».

أقول: عرفت في التفسير أنّ ما ورد في الآية الكريمة من القضاء الحتم الذي لا يقبل التغيير والنسخ.

***

بحث عرفاني حول الحُجُب الظلمانية والغواشي المانعة

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة المتقدّمة هى من أهمّ الآيات التي تستحقّ التوقّف عندها، والتمعّن في دلائلها ومضامينها، وهي تتضمّن الحُجُب الظلمانية، والغواشي المانعة التي أوجبت احتجاب الولي، وعدم إمكان الوصول إليه، وجعلته يصرف عطفه عن الناس والمسلمين، وهى تدعو السالكين إلى التوقّف عند أحوال النفس والالتفات إليها، فإنّها السبيل الوحيد للدخول في الحريم، والوصول إلى المقامات، فإذا تراكمت عليها الغواشي، ووقع السالك في الحُجُب من الصفات التي تطرأ على القلب، فمَنْ الذي يُنجيهم منها؟ فلابدّ من الرجوع إلى اللّه تعالى، والخضوع له والخشوع لديه لكشفها، فإنّها من أشدّ الموانع وأكبر،العوائق متضرِّعين ومظهرين شدّة الفقر والحاجة لدى جنابه عزّ وجلّ، ملتزمين أشدّ الآداب في دعواتهم، طوراً معلنين وآخر مُسرِّين فإنّهما حالتان تعرضان على الداعي عند إظهار الضراعة والدُّعاء كلّ في موطنه، فإنّ له مواقف مع ربّه في دعائهم وحالات في سؤاله ومسكنته، ولابدّ من التماسها رجاء استجابة المدعوّ لدعائه. فإنّ السفر طويل والمشاق كثيرة والظلمات متعدّدة، فإنّ بعضها تأتى من نفس السالك، وبعضها تكون في الطريق المسلوك، والثالث تكون في النيّات والقلوب، وهو في بداية الطريق، ولم يكن مؤهّلاً لتلقّي الخطاب الربوبي، فكان الخطاب لسيِّد الخلائق، وإمام أرباب القلوب، وقائد السالكين،ووليهم، ليخبرهم بما هم عليه، فإذا تنبهوا ودعوا اللّه تعالى بما هو الحقّ لينجيهم منها بأنوار التجلّيات ليكشف الظلمات

ص: 467

ويزيل الغواشي، ولابدّ للدّاعى أن يثبت على ذلك، فيتعهّد بالشكر على نعمة الإنجاء بالاستقامة، والتمكن فضلاً عن الطاعة وترك المعصية.

فإذا تحقّق الشرط وظهرت القابلية، تحقّقت النجاة منها، بل من كلّ كرب يطرأ على السالك المجذوب، فإنّه في كلّ أن يخاف الوقوع في الخلاف والطرد عن الباب، فإنّ النفس أمارة بل هي غدّارة تبطن الشيء المخالف ولا تظهره سنين متمادية، وهم قد اعترفوا بذلك، فأعطوا العهد على المداومة على الشكر، والاستقامة على الطاعة ونبذ العصيان، ولكنّهم لم يخلصوا من شرك النية، فوقعوا في مزالق الأقدام، وظهرت بواطن الكفر والعصيان، وتمكّنت فيهم عبادة الأهواء والرجوع إلى الإنانيّة البغيضة التي توقع النفس فى الهاوية، فحينئذٍ لا يقدر أحدهم أن يفقه ما يجري عليه، وما يريده اللّه منه، فيختلط عليه الأمر، ويلتبس عليه الحقّ بمنازعات النفس، ويستحقّ أنواع الحرمان، وهو من أشدّ العذاب على السالك، إذ يبتلى بعذابٍ من فوقه فيحُجَب عن النظر في الملكوت بالحُجُب الروحانية، أو من تحت أرجله بأن لا يقوم بالوفاء بعهود العبودية، ولا يسهل عليه القيام على باب الربوبيّة، فيحتجب بالحُجب الطبيعية، ومن أشدّ البلايا على مَن هم كذلك، أنّهم فقدوا الإمام الذي يرجعون إليه في الهداية عند شدّة البلاء، وحرُموا من وليٍّ يتولّى أمورهم، فدبّ الخلاف بينهم، فكانوا أحزاباً متشتّتين، وشيعاً مختلفين، ليس لهم إمامٌ يهتدون به الذي هو من أعظم النِّعم، فإنّ به يتقربون إلى اللّه تعالى، وهو الذي يبعدهم عن الشيطان والعصيان، فمن اختلاط أمرهم أن ظهر فيهم مدّعين زائفون، عون كلّ منهم يثبت لنفسه مقام الولاية، فيوقع بينهم الخصام، ويتحقّق قتل النفس بالأوهام الذى هو أشدّ من القتل الظاهري، لأنّها السبيل في السير والسلوك، ونيل المقصود، فإذا قتل بالمنازعات والدخول في أنواع المخاصمات، ووقع صاحبها في الأوهام والخيالات، واحتجب عن الحقّ واختفت الحقيقة، فما يبقى للإنسان

ص: 468

إلّا أن يكون كالأنعام، ولعلّه من أجل ذلك حكم عليهم سبحانه في هذه الآيات بالفقه والتدبّر، والرجوع إلى الحقّ والتماس الحقيقة، وإلّا كانوا كالأنعام، فقال عز اسمه: «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ»، وعندما تظهر سورة النفس الحيوانية، ويختفي الجانب المعنوي، وهي من الحقائق التي لا لبَسَ فيها، وكانت من الأنباء التي أخبر بها القرآن، ووقعت في مجتمع الإنسان، لاسيّما من دخل في الإسلام الذي كان جديراً به أن يكون مستسلماً لربِّه وسِلْماً لإخوانه، وهو لم يستفد من هذه النِّعمة الجليلة، وأعرض عن الطاعة، وكذب بالحقّ الذي أمر به بجميع مظاهره، وحَرم نفسه من أعظم النِّعم وهو الانتماء إلى رفقة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فلم يجعله إماماً لنفسه يقتدي به ويهتدي بنوره، وحرم نفسه من دعائه و شفاعته، فلم يتعهد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لعهودهم، وهذه الآية الكريمة شديدة على المسلمين إذا فقهوا مضمونها، والتفتوا إلى معانيها، وهم باختلافهم وابتعادهم عن تعاليم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، حرّموا أنفسهم من عطفه ورأفته، وهو الذي أرسله اللّه رحمة للعالمين، فضلاً عن أنّهم فقدوا إماماً يقتدون به في الظلمات التي تحيط بالإنسان من جميع جوانبه، وعَدَلوا عن ولّي يُنير لهم الدرب، ويهديهم لمعرفة نواقص النفس، ليرفعوا بها الحُجب المانعة عن الوصول إلى المقامات العالية، فقد ركنوا إلى الدُّنيا، واستبدلوا الخسيس الأدنى، بما كان سبباً للنجاة والوصول إلى المقام الأعلى، فكان التهديد عظيماً منه عزّ وجلّ: «وسوف تعلمون»، حين يكشف عنكم الحُجُب وتنقشع عنكم الغواشي، أعاذنا اللّه تعالى منها فإنّها مهلكات.

فهذه الآيات تبين المقام الرفيع للولي والإمام الذي يجب الإقتداء به، كما تبيّن سرّ الإعراض عنه والآثار المترتبة عليه.

***

ص: 469

سورة الأنعام، الآية 68 - 70

إشارة

الآية 68 - 70

«وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنيا وَذَكِرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أَوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)».

هذه الآيات تبيّن أقبح ما اتّخذه المشركون والمنافقون وسيلة للاستهزاء بالحقّ ودين اللّه عزّ وجلّ والصادع به، وأعظم ظلم اقترفوه عليه، وذلك لإضعافه فى القلوب، وإبعاد الناس عنه بعد تكذيبهم بآيات اللّه سبحانه، وهو الخوض فيها والغرض منه معلوم، فإنّهم يريدون به تنزيل الحقّ ودين اللّه وقَدره، مع ما له الأهمّية العظمى فى القلوب، وإضعاف تأثيره وجعله بمنزلة ما يتّخذه الإنسان لعباً ولهواً، فقد كان الردّ عليهم شديداً، فأمرنا اللّه سبحانه بالإعراض عن هؤلاء الخائضين، والابتعاد عن مجالسهم، وعن الاستماع لأحاديثهم، ولكن قد توجب العلاقات الاجتماعية نسيان الحكم والتساهل معهم، إلّا أنّ الابتعاد عنهم بعد الذكرى هو الفيصل الحقّ، فلا يتغيّر بالنسيان وغيره، ولابدّ من التقوى والامتثال فإنّها تظهر حقيقة العبد المطيع، ثمّ ليس عليه سبيل من حساب الظالمين، وإنّما هي

ص: 470

تذكير وموعظة لمن يتّقي، ثمّ يبين سبحانه حقيقة من اتّخذ دين اللّه لعباً ولهوا؛ الذين ركنوا إلى الدُّنيا وغرّتهم زخرفها وزبرجها، فقد أُبسلوا من كلّ حقيقة، وحُبسوا عن كلّ فضيلة، ومُنعوا عن كلّ مكرمة، فليس لهم وليّ ولا شفيع يستمدّون به من اللّه تعالى الهداية، والتوفيق للطاعة وكسب الحسنات، وهذا حقيقة الإبلاس فقد حُصروا في أعمالهم التي اكتسبوها، وهي لا تنفعهم، بل تكون شراباً حميماً وعذاباً أليماً بسبب كفرهم وطغيانهم على اللّه.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا»

التفسير

قوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا».

مظهر آخر من مظاهر التكذيب بآيات اللّه، وهو اتّخاذ الدِّين هزواً ولعباً، والاستهزاء بآيات اللّه تعالى البيّنات، وقد كان هذا النوع من التكذيب معروفاً عند الكفّار، لاسيّما قريش في أنديتهم، وعليه سيرة الملأ وأهل الأهواء من جميع الفرق الباطلة، وإن كانوا مسلمين، فإنّ مضمون الآية عام، وتطبيقاتها متعدّدة.

والمراد من آيات اللّه عزّ وجلّ، الحقّ المبين الذي دلّت عليه الآيات التدوينية، كما أنّ الخطاب عام، وإن كان المخاطب سيِّد الأنبياء والمرسلين باعتبار كونه مظهر الفيض، كما عرفت مكرّراً.

ومادّة (خوض) تدلّ على الدخول في أمر لا أمان فيه، ومنه الخوض في الماء بالدخول والمشي فيه، ومرور الإبل في السراب، ووميض البرق في السحاب، كما يطلق على الدخول في الباطل مع أهله، والاندفاع في الحديث والاسترسال فيه، ولهذا كان أكثر ورودها في القرآن الكريم فيما يذمّ الشروع فيه، قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ»(1).

ص: 471


1- سورة التوبة: الآية 65.

وقال تعالى: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ»(1).

وأشدّها وقعاً على الخائضين قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمكذِّبين الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ»(2).

فيكون المراد من الخوض في آيات اللّه تعالى هو التكذيب والردّ والاستهزاء، وله مظاهر متعدّدة؛ كالشروع في الآيات على سبيل الطعن فيها، أو الدخول في باطل الحديث والتوغّل فيه، كل ذلك كان من عادة أهل الكفر والعناد، ومنها المراء والجدال والخصومة، إتباعاً للأهواء والتخليط في المفاوضة على سبيل العَبَث واللّعب وغير ذلك ممّا هو عادة أهل الشقاق والنفاق، وقد ورد في الحديث عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تجالسوا أهل الأهواء، فإنّهم الذين يخوضون في آیات اللّه».

والمعنى: إذا تحقّق عندك - يا رسول اللّه - أنّهم خائضون في آيات اللّه تعالى بالدخول في باطل الحديث والرؤية بصرية، ولذلك تعدّت إلى واحد والمراد بها التحقّق والثبوت لأنّهما بها أليق

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ»

قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ».

أي انصرف عنهم واتركهم، فهو أمر لمنابذتهم حتّى يذعنوا للحقّ، ويتركوا الخوض والإستهزاء، وهو يتحقّق بالقيام عنهم أو الخروج من بينهم، والانصراف عنهم، فإنّ لكلّ مجلس حالاً، ولكل مقام مقالاً.

ما يتعلّق بقوله تعالی «حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»

قوله تعالى: «حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ».

ص: 472


1- سورة الزخرف: الآية 83.
2- سورة الطور: الآية 11 - 12.

تحديد للحكم السابق، أي انصرف عنهم واتركهم ماداموا كذلك، فيكون محدوداً بالأنّهاء عمّا هم عليه، بأنّ يخوضوا في حديث غير ذلك الحديث الذي كانوا يخوضون فيه. فالآية تدلّ على أنّ النهي عن مجالستهم والإقبال عليهم ليس على سبيل العموم في جميع الزمان، أو يشمل جميع الحالات، فلا يكون الترك كلياً، فإنّ ذلك منافٍ لحكمة بعث الأنبياء والرُّسل، فيجوز مجالستهم والقعود معهم لغرضٍ حقّ. والضمير في (غيره) يرجع إلى الحديث الذي كان يُخاض فيه، وموضوعه الكفر بآيات اللّه والاستهزاء بها.

وعرفت أنّ مضمون الآية عامّ، لاسيما إذا كان الملاك في النهي كون الجلوس معهم ظلماً على الحقّ، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

ولا ريب أنّ الاستهزاء بآيات اللّه من أشدّ أنواع الظلم وأقبحه، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النساء: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً»(1)، إِلَّا أَنّ فيه الدلالة الظاهرة على تعميم الحكم والتشدّد فيه، ولعله يرجع إلى كون المخاطبين هم المنافقين، وقد حصل القعود مع المستهزئين بعد العلم بالنهي بخلاف آية المقام

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ»

قوله تعالى: «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ».

خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقصد به التأكيد على الحكم السابق وبيان أهمّيته، والتشديد على النهي، ولا ريب أنّه يقصد به غيره لوجوه:

ص: 473


1- سورة النساء: الآية 140.

الأوّل: إنّ مقام النبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يجلّ عن ارتكاب مثل هذا النهي، مع ما للمنهي عنه من عظيم الأثر على الدِّين الحقّ، كما عرفت، ولا يعقل أن يجلس مع الذين يستهزئون بآيات اللّه، ويغفل عن الحكم الإلهي، وينسى آثاره الوخيمة، فإنّ فيه إخلالاً بالدِّين، كما هو معلوم

الثاني: قد ثبتت عصمة الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهي تنفي وقوع مثل هذا النسيان على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، و عليها عقيدة الإماميّة، وقد أقاموا عليها البراهين القويمة.

الثالث: إنّ أصل الخطاب متوجه إلى الأُمّة، وإنما وجه إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)مبالغة في الحذر من المخالفة، ودفع وساوس الشيطان المؤدية إليها، فقد ورد في آية النساء: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ»، والمراد به آية المقام ولا آية غيرها، وعليه يكون المقصود من الخطاب في كلا الخطابين الأُمّة، وإن كان ظاهراً موجهاً إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فيكون من قبيل إياك أعني المنزّل عليه أكثر الخطابات القرآنية.

اللّه، الرابع: قوله تعالى في الآية التالية: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» الذي وجّه فيه الخطاب إلى المؤمنين المتّقين، فيكون دليلاً على أن المراد في هذه الآية هم الأُمّة دون النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

الخامس: على فرض توجه الخطاب إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّه محض احتمال، كما تدلّ عليه كلمة (إن) الشَرطية - فلا يلزم وقوعه - وأنّى يكون للشيطان سبيل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو الذي نُزّل فيه «سَنُقْرِتُكَ فَلا تَنْسَى»(1)، وقد بلغ مقام جمع الجمع، فهو دائم الحضور في جميع حالاته وكل أوقاته. ولعلّ مقصود من قال بأنّ الخطاب موجّه إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما ذكرناه مبالغة في الزجر، وإلّا فالدليل العقلى والنقلي يبطلان وقوع المخالفة منه مطلقاً ولو نسياناً، ويأتى البحث عن عصمة الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)

ص: 474


1- سورة الأعلى: الآية 6.

في الموضوع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المفسّرين في تفسير الآية الكريمة، لم يكن مبنيّاً على حجّة، وإنّما هو ضرب من التفسير بالرأي.

ثمّ إنّه يستفاد من نسبة النسيان إلى الشيطان، أن إشغال المؤمنين عن النهي عن مجالستهم إنّما يصدر منهم غفلة ومن الشيطان دون التعمّد والعصيان، فإنّ قبح مجالستهم ممّا تنكره العقول، فكأنّه لم يصدر منهم بعد التنبيه على قبحه، نظير ما ورد في قتل المؤمن «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلّا خَطَا»(1)، فإنّ القتل عظيم فلو صدر من مؤمن إنّما يصدر خطأ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»

قوله تعالى: «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

بيان لعلّة الخوض في الآيات، والتجاوز عن حدود ما أنزله اللّه سبحانه، إنّما هو الظلم والطغيان، وفيه التشنيع عليهم، ولعلّه لذلك وضع المظهر موضع المضمر لبيان أنّهم ظالمون في ارتكابهم هذا الإثم الكبير، إذ جعلوا الاستهزاء موضع التصديق والتعظيم. وفيه الدلالة على كون الخطاب السابق متوجِّهاً إلى الأُمّة، كما تقدّم.

والآية تدلّ على المبادرة في تنفيذ الحكم وعدم التهاون فيه والمسارعة في القيام من بينهم وإلّا كانوا ظالمين.

والمعنى: وإن كان أحدٌ منكم ينسى الحكم ويغفل عن النهي ويجلس مع القوم المستهزئين، فلا يقعد معهم بعد التذكّر، فإنّهم ظالمون، وإلّا كان مثلهم، كما دلت عليه آية النساء، كما عرفت.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»

قوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ».

ص: 475


1- سورة النساء: الآية 92.

تثبيت للحكم السابق، وتطمين للمؤمنين بعد بيان قبح مجالسة المستهزئين، فإنّه ممّا تنكره العقول كما عرفت، فلا ينبغي صدور القعود معهم من المؤمنين، فإنّ تقواهم تمنعهم عن ذلك، إلّا إذا كان هناك عذرٌ شرعيٌ يبيح لهم مثل ذلك التصرّف، وحينئذٍ فما يكتسبه الخائضون من الإثم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، إلّا إذا كان الجالسون معهم مثلهم في الرضا والعمل والضمير في «حِسَابِهِم» عائدٌ على الخائضين المستهزئين بالآيات، و «مِنْ شَيْءٍ» في محلّ الرفع على أنّه مبتدأ للخبر المتقدّم عليه وهو «على الذين».

وكيف كان، فالآية الكريمة تبعث الاطمئنان في نفوس المؤمنين الذين يجالسون الكفّار المعاندين والمنافقين. فإنّ ذلك من الأُمور الاجتماعية التي لم يغفل الشرع الحنيف عنه، بل عليه يتوقف التبليغ والإرشاد، فإنّه مع صدور ما يوجب الوهن في النفوس من التكذيب والاستهزاء باللّه تعالى ورسوله، والشريعة الغراء والدين المبين، والمقدّسات عند المؤمنين، فإنّهم بمأمن من حساب هؤلاء بشرط التقوى، وثبات المؤمنين عليها، وهي تتحقّق بترك متابعتهم اعتقاداً وقولاً، وترك مشاركتهم في أفعالهم، فليس على المؤمنين شيء ممّا يحاسب هؤلاء الخائضون عليه من الجرائم والآثام.

ومن ذلك نستفيد أنّ الآية الكريمة لا تأمر المؤمنين بالإعراض عنهم، وترك القعود معهم بالكليّة، كيف وإنّ التبليغ والإرشاد والنصيحة من أهمّ أعمال المؤمنين، بل من صميم وظيفتهم الشرعيّة، فهي تَنْهى عن العقود معهم ما داموا مشتغلين بالإستهزاء، لا الإعراض عنهم مطلقاً، بل قد يجب إذا استلزم النهي عن المنكر المعاشرة معهم، كما يرشد إليه ذيل الآية الكريمة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»

قوله تعالى: «وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

أي فإن قعد المؤمنون مع الخائضين فليذكّروهم لعلّهم يتقون اللّه عن ترك ما

ص: 476

هم عليه. فتكون الغاية من القعود هي التذكير والموعظة، والمنع عن الخوض في آیات اللّه تعالى.

وربّما تكون الآية الشريفة في مقام بيان الحكمة في تشريع هذا الحكم الإلهي العظيم، الذي فيه حفظ الشريعة ودوامها وثباتها في النفوس، وهي كون التشريع والنهى موعظة وتذكيراً للمؤمنين والخائضين كليهما، فيتّقون جميعاً بترك الخوض، وكلّ ما يمسّ العقيدة من الاستهزاء وسماعه، فتكون تقوى بعد تقوى بترك ما عليه الخائضون، وهذه التقوى المرجوّة هى عامّة من جهة تشمل المؤمنين وغيرهم بعد تذكيرهم وموعظتهم، وخاصّة بالمؤمنين من جهة أُخرى بالتذكير أولاً، ثمّ تذكير غيرهم بالموعظة والنكير عليهم وترك مجالستهم إن اقتضى الأمر ذلك، فإنّ له الأثر الكبير في اجتنابهم الخوض، ولو كان لأغراض خاصّة عندهم إمّا كراهة مساءة المؤمنين، أو الخوف منهم، أو الحياء منهم وغير ذلك ممّا هو معروف، بل قد تتأثّر النفوس بعد طول الزمان، وتعتاد على ترك المنهي عنه، ولاسيما مثل هذا الأمر الذي يمسّ العقيدة.

والحاصل: إنّ هذه الآيات الشريفة تشتمل على أُمور دقيقة، تبيّن الأثر الكبير المترتب على الخوض في آيات اللّه سبحانه، وتأثيره على المؤمنين، فتزعزع العقيدة في النفوس، وتهدم كيان الشريعة وثباتها، وتبيّن العلاج في حكم إلهي رصين فيه من الحكمة والتأثير على الجميع، وترشد إلى علاج هذا العيب الكبير الذي يضرّ الجميع ولم يسلم من أثره أحدٌ، وقد أمر سبحانه بالتقوى المكررة تأكيداً وتثبيتاً لما ورد فيها من دعائم التوحيد وردعاً للظالمين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَذَر الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً»

إشارة

قوله تعالى «وَذَر الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً». بيان لما يترتب على الخوض في آيات اللّه تعالى، فقد أمر سبحانه ابتداءً

ص: 477

بتركهم وعدم التعلّق بهم، فإنهم أهل تعنّت وشقاق، وإن كان مأموراً بوعظهم، أو يكون المراد تركهم على سبيل التهديد، فليفعلوا ما شاء واكما في قوله تعالى:«ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا»(1)، وعلى كلا الاحتمالين لا تدلّ الآية الكريمة على الترك الكلّي حتّى تكون منسوخة، كما قيل.

ثمّ بين سبحانه وتعالى أنّ الخوض في آيات اللّه تعالى يؤدّي إلى الاستخفاف بالدِّين، وجعله من الأُمور العادية التي يقع فيه اللّعب واللّهو، فإنّ من استرسل في هواه، وخاض في غمار الحياة الدُّنيا المادّية، وغرّته مظاهرها وزبرجها، لزم منه الإعراض عن الحقّ والابتعاد عن الفطرة التي تدعوه إلى الجدّ في أموره، وتعاطي الحكمة في أفعاله، والتحرّز عن الهزل واللّعب في شؤونه التي من أهمّها الدِّين الحقّ الذي فرضه اللّه عليه، وحكم بإتّباعه العقل والفطرة، وحكما عليه بأنّ يأخذه عن جدّ وقوّة، كما قال تعالى: «خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ»(2)، ولا يتّخذه هزلاً يتصرّف فيه كما تشتهيه نفسه، ولعباً يحوله حسب أهوائه، كما يفعل في أُموره المادّية.

في المراد من اللّهو واللّعب

واللّهو واللّعب معروفان تقدّم الكلام فيهما، ولهما مظاهر مختلفة وأساليب متعدّدة، تختلف شدّة وضعفاً حسب إقبال اللّاهى واللّاعب على الدُّنيا واغتراره بها وأُنسه بحياتها، وإعراضه عن اللّه عزّ وجلّ وبعده عن آياته، وقد حكى اللّه سبحانه جملة منها في كتابه الكريم، لاسيّما عند بيان أحوال المشركين والكافرين، واستهزاءهم بالكتب السماويّة والتشريعات الإلهيّة وأنبياء اللّه تعالى، فقد بلغ بهم أنّهم انتحلوا اللّعب واللّهو ديناً، وهو أقصى مراتب الفساد الذي استولى على النفوس، فأصبحت الحقائق عندهم أوهاماً، والشريعة دعاوىً وأحلاماً.

ص: 478


1- سورة الحجر: الآية 3.
2- سورة البقرة: الآية 93.

وأمّا ما ذكره المفسِّرون في تفسير الآية الكريمة، إنّما هو تجريد لها عن معناها السامي الذي هو بمنزلة حقيقة قرآنية لها الأثر البليغ في تهذيب النفس، وإذكاء نور الفطرة التي أودعها اللّه سبحانه فيها، وإنارة الضمير الواعي في الإنسان، فالدِّين معروفة معالمه وحقيقتة لا تحتاج إلى بيان، وعلوّ منزلته في القلوب معلومٌ، وإنّ حجب بفعل الآثام وأهمل بالركون إلى الدُّنيا، فإنّه يكفي فيه إثارة دفائن العقول، ويكفي وضوح الدِّين الحقّ في أنّ من يتّخذه لهوا ولعباً يعلم ما هو المقصود من الآية الكريمة، والسُّبل التي يتوسل بها لجعل دينه كذلك، فلا نحتاج إلى ضرب الأمثلة وتكثيرها.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنيا»

قوله تعالى «وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنيا».

بيان لأهمّ الأسباب التي دعتهم إلى اتّخاذ الدين لعباً ولهواً، فإنّه الاسترسال فى التمتع بلذائذ الحياة الماديّة، وإيثار الدُّنيا على الآخرة، والاغترار بمظاهرها وزبرجها وزخرفها، فقد تحقّق الإعراض عن الحقّ والحقيقة، والجدّ والواقع، واستولت الغفلة على نفوسهم، فنسوا ذكر اللّه تعالى، ومُنعوا عن الفيوضات الربّانيّة، وانشغلوا بالأُمور الحقيرة، واستبدلوها بالذي هو خيرٌ لهم في الدُّنيا والآخرة ممّا أنزله اللّه تعالى من الكتب والتشريعات، وما جاء به الأنبياء والمرسلون من الآيات البيّنات، ونبذوا التدبّر والتفقّه فى العواقب، فما أعظمها من آية ترشد الإنسان إلى الداء والعلاج.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ»

قوله تعالى: «وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ».

مادّة (ب س ل) تدلّ على الحبس والمنع بالقهر، ومنه أسدٌ باسل لأنّه متمنّع، أو أنّ فريسته لا تفلت منه، والباسل هو الشجاع لامتناعه ممّن قربه، وتختلف بحسب الغايات، فتارةً يكون البسل من أجل الرهن، وأُخرى للذنب

ص: 479

والجريرة، وثالثة لأجل الهلاك، ورابعة من أجل الحرمة، فيقال للمحرم بسل، والفرق بينه وبين الحرام الذي هو عام، سواء بالحكم أو بالقهر، والبسل يختصّ بالأخير فقط، يقال متبسل الوجه وهو باسل من أجل حبس أسارير الوجه وتقطيبه.

وكيف كان، فقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في موضعين، كلاهما في هذه السورة، أحدهما المقام، والثاني فيما يأتي في قوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ»، والضمير في (به) راجع إلى القرآن والشواهد تدلّ عليه.

والمعنى: وذكِّر الناس بالقرآن ووعظهم به لئلا تبسل نفس وترتهن في العذاب، بسبب ما كسبت من السيّئات، وتسلّمها للمؤاخذة والعقاب، فتحرم عليها النعيم والسعادة الابدّية، وهذه المعانى متلازمة، وقد تضمن القرآن جميع أسباب

السعادة والشقاء لئلا يكون للناس على اللّه الحجّة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ»

قوله تعالى: «لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ».

جملة مستأنفة تفيد حالة من حالات الإبلاس التي ابتلي بها المستهزئون الخائضون، فإنّه ليس لتلك النفوس من دون اللّه وليٌّ ينصرها، ولا شفيعٌ يشفع لها عند اللّه عزّ وجلّ، فيدفع عنها بمسألته عذابه وعقابه عزّ وجلّ، وظاهر الآية وإن كان في يوم القيامة الذي لا ظلّ فيه إلّا ظلّه، ولا شفيعٌ إلّا من بعد إذنه سبحانه. ولكن يمكن تعميمها للدنيا والآخرة، فإنّ الإنسان يحتاج إلى الولاية والشفاعة في الدُّنيا والآخرة، كما حقّق في محلّه.

قوله تعالى: «وإنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا».

العدل بالفتح ما عادل الشيء وساواه، وهو مصدر، وفي المقام يُراد به الفداء، لأنّ الفادي يعدل الفداء بمثله.

ص: 480

والمعنى: وإن تفد النفس المبسلة كلّ فداء لا يؤخذ منها ولا يقع موقع الأخذ، وبالأولى لا يكون مورد القبول، وتقدّم في قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ»(1)، ما يرتبط بالمقام أيضاً، والمستفاد من مواضع عديدة في القرآن الكريم، حتى جُعل ذلك حقيقة من الحقائق القرآنية، وهى أنّ يوم القيامة يوم الجزاء على الأعمال، لا يوم البيع والشراء، كما قال تعالى: «لا ييع فيهِ وَلاَ خُلةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ»(2).

ما يتعلّق بقوله تعالی «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا»

قوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا».

إستئنافٌ إثر تحذير لبيان أنّهم المبتلون بالإبسال، والضمير عائد إلى المتّخذين دينهم لعباً ولهواً، المغترّين بالحياة الدُّنيا، الذين أسلموا أنفسهم للهلكة، وارتهنوا بالعقاب، فمنعوا عن السعادة وما يترتّب عليها من الآثار الحميدة، وقد عرفت تلازم المعاني التي ذكرناها سابقاً في معنى الإبسال، كل ذلك بسبب أعمالهم الشنيعة وعقائدهم الزائفة. والجملة تأكيد لما ورد في الآيات القرآنية من أنّ الابتلاء إنّما يأتي من ناحية الإنسان وما اكتسبه من الآثام.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ»

قوله تعالى: «لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ».

استئناف مبيّن للآثار المترتّبة على ابتلائهم، وإخبارٌ عن كيفية الإبسال الموعود لهم، وهي الماء الحار الشديد الحرارة، كما قال تعالى: «وَسُقُوا مَاءً حَمِيمَاً»(3).

ص: 481


1- سورة البقرة الآية 122.
2- سورة الزمر: الآية 45.
3- سورة محمد: الآية 15.

والعذاب المؤلم لهم الذي لا يوصف إيلامه، جزاء كفرهم واستهزائهم بآيات اللّه، واتّخاذهم دين اللّه لهوا ولعباً. والجملة «بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ» قد اشتملت على السبب وهو الكفر، وإفادتها استمرارهم عليه، وترشد إلى أنّ رسوخهم في الكفر والعناد والطغيان، وإصرارهم عليه، هو السبب في نيل العذاب، ووقوعهم في ذلك الجزاء الابدّي الدائمي، وهو ما دلّت عليه الأدلّة الأربعة.

والحميم قد ورد في القرآن الكريم بمظهر العذاب في خمسة عشر موضعاً:

منها قوله تعالى: «يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ»(1).

وقوله تعالى: «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ»(2).

وقوله تعالى: «فِي الْحَمِيمِ ثمّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ»(3).

وغير ذلك.

وقيل: إنّه الماء المغلي الذي يتجرجر في البطون وتتقطع به الأمعاء، وقد عبّر عنه القرآن تارةً بالماء الحميم، وأُخرى بالشراب الحميم، وثالثة يطلق.

والمستفاد من الآيات الكريمة المتقدِّمة أنّ الحميم نوع خاصّ من العذاب يختلف عن النار، يختصّ به طائفة معيّنة من المعذّبين، منهم هؤلاء المبسلون الذين كان الجزاء مناسباً لأعمالهم الفظيعة، وأفعالهم الشنيعة، واعتقاداتهم الزائفة، كما يقتضيه قانون المجازاة الذي ثبت بالأدلّة النقلية والعقلية، ومن أجله جمع هؤلاء العذابين الحميم والنار بما فيهما من الأنواع المؤلمة.

***

ص: 482


1- سورة الرحمن: الآية 44.
2- سورة الحج: الآية 19.
3- سورة غافر: الآية 72.

بحوث المقام

بحث ادبی حول الآيات المذكورة

بحث أدبي:

يستفاد من تعليق الحكم على مأخذ الاشتقاق في قوله تعالى «فَاعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» على حرمة القعود مع الخائض كلّما خاض، فيفيد التكرار.

و(إمّا) في قوله تعالى: «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ» شرط فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وهو كثير في القرآن الكريم، ويجوز حذف ما في غير القرآن وحذف نون التوكيد، وحذف أيّهما شئت. وقرأ ابن عباس وغيره ( ينسّينّك) بتشديد السين على التكثير، ونسّى بمعنى أنسى.

وما أحسن الشرط الأوّل (وإذا رأيت ) التي هي للتحقّق؛ لأنّ كونهم يخوضون في الآيات محقّق وفي الشرط الثاني بأنّ (وإمّا ينسّينّك) لأنّ أن لغير المحقّق.

وأمّا قوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» ففيه كلام:

فالمعروف أنّ (من) زائدة للاستغراق، وشيء في محلّ الرفع مبتدأ و(ما) تميمية أو اسم لها وهي حجازية، وقيل خبره ( على الذين) أو (من حسابهم) حال منه، لأنّ نعت النكرة إذا قُدِّم عليها أعرب حالاً.

وقيل: «عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» خبرٌ لمّا الحجازية، على رأي من لا يجوّز إعمالها في الخبر المقدّم مطلقاً، أو منصوب وقع خبراً ل(ما) على رأي من يجوّز إعمالها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرف جرّ.

ومحل (ولكن ذكرى) في محلّ نصب عند كثير من العلماء، أي ولكن

ص: 483

يذكّرونهم ذكرى أو يذكّروهم. وقيل في موضع رفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي ولكن عليهم ذكرى، وجوّز بعضهم النصب والرفع أيضاً، وقُدّر في الأوّل نذكّرهم ذكري بنون العظمة، وفي الثاني هذه ذكرى.

وهنا بحث في اشتراك المعطوف في قيود المعطوف عليه، وخلاصة الكلام:

إنّهما إذا كانا مفردين فاشتراك المعطوف في قيود المعطوف عليه مسلّم ومفروغ عنه، لأنّها قيد العامل منسحب على جميع معمولاته، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءاً من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف، كما في قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتقدّمونَ»(1).

هذا، إذا لم تقم القرينة على خلافه، كما في قولك: جاءني من تميم رجلٌ وامرأة من قريش. وذكر بعضهم بأنّ تخصيص هذه القاعدة بتقدّم القيد وادّعاء اطّرادها، ممّا يقتضيه الذوق، ومنهم عمّمها، فقالوا: إنّ العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد، فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد، إلّا أن تكون قرينة صارفة فيحال الأمر عليها.

والآية الكريمة ظاهرها مشاركة المعطوف (ولكن ذكرى) في قيد المعطوف عليه، وإن لم يجوّز الزمخشري عطفه على محلّ (من شيء)، لأنّ من حسابهم يأباه، إذ يصير المعنى عنده ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى. ولكن ردّه جمعٌ من المحقّقين، فراجع.

ونصب (لعباً) على أنّه مفعول ثان ل(اتّخذوا).

وقيل: إنّه مفعول أوّل و دينهم ثانٍ، وفيه إخبارٌ عن النكرة بالمعرفة.

وقيل: إنّه مفعول من أجله، و(اتّخذ) متعدٍّ لواحد.

ص: 484


1- سورة الأعراف: الآية 34.

وجاء اللّعب مقدّماً على اللّهو فى أربعة مواضع وقد نظّمت:

وكَم مِنْ موضعٍ هو في القران***وفى الأنعام منها موضعان

إذا سألت عن لعبٍ ولهو***فحرف في الحديد وفي القتال

وتنكير نفس فى قوله تعالى: «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ» للعموم، مثله في قوله تعالى: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ»(1).

و(كل) في قوله تعالى: «وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ» منصوبٌ على المصدرية؛ لأنّه بحسب ما يضاف إليه مفعول به.

وقيل: إنّه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل، كقولك: هو رجلٌ، أي كامل في الرجولية، والتقدير عدلاً كلّ عدل.

ولكنه مردود، كما هو مسطور في النحو.

واسم الإشارة في قوله تعالى: «أَوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا» مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد درجة المشار إليهم في سوء وء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة استينافٌ سيق إثر تحذيرهم من الإبسال لبيان المبتلين بذلك.

وشرابٌ في قوله تعالى: «لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيم» بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم، ولا يقاس فعال بمعنى مفعول، فلا يقال: ضرّاب بمعنى مضروب ومقتول.

والحميم - كما عرفت - هو الماء الحار الشديد الحرارة، وذكر في «القاموس» إنّه يطلق على الماء البارد فهو من الأضداد.

بحث دلالي في ما تدل عليه الآيات الكريمة

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الكريمة على أمور:

ص: 485


1- سورة التكوير: الآية 14.

الأوّل: إن الخوض في الآيات استهزاء وتكذيباً، بل جميع أنواع الباطل فيه، من أشدّ القبائح وأعظم المنكرات، لأنّه يمسّ الدِّين الحقّ والدعوة إلى التوحيد، ويجعلهما فاقدي التأثير ليس لهما وقع فى النفوس، ويحطّهما من قدره، ومن المعلوم أنّ الدِّين و آيات اللّه يقوم أساس الاعتقاد بهما على احترام النفوس لهما وهيبتهما عند الناس، فإذا فقدا التأثير في القلوب، وقلّت أهمّيتهما عند الناس، واعتبروهما من الأُمور الحقيرة التي لا يعتنى بها، فلم يعد الإنسان يحترم الدين الحقّ، ويتّخذه لهواً ولعباً، كما هو المحسوس في الأُمور المادّية، حينما يستهزئ بها الناس، ويخوضون فيها باللعب واللّهو، فإنّه ينحّط قدرها عندهم، وتقلّ رغبتهم فيها. ولعلّه من أجل ذلك كان التشديد في هذا الأمر، وجاء النهي عن الخوض في صورة الإعراض عن الخائضين، فكأنّه جعل أصل الخوض في الآيات ممّا لا ينبغى أن يصدر عن عاقل، بل هو الظلم الذي تنكره العقول، فإذا صدر من فرد فإنّه يجب الإعراض عنه حتّى يخوض في حديث غيره، ومن ذلك يستفاد أنّ الآية لا تختصّ بنوع خاصّ، بل تعمّ الأنواع كلّها إذا كان المناط في النهي هو كون الخائضين من الظالمين.

الثاني:إنّ الخوض في آيات اللّه تعالى ليس فيه أيّة فائدة، ولا غاية يتوخّاها الخائضون من خوضهم كخوض الإبل في السراب، ولا يجتنى منه سوى التبعات والآثار السيّئة، بل إنّ الكلام في مثل ذلك ممّا يوجب سلب الفكر فيسترسل في الحديث، ويندفع في الكلام من غير روّية، فالآية الكريمة تدلّ على أنّ الخوض فى آيات اللّه تعالى ليس من الحكمة ولا من التعقّل في شيء، ومن المعلوم عند كلّ عاقل ما يترتب على الخوض من الآثار السيّئة.

الثالث: يستفاد من مجموع الآيات القرآنية التي ورد فيها الخطاب لسيِّد الأنبياء، أنّ كلّ أمرٍ له من الأهمّية الكبرى بالنسبة إلى الدِّين الحقّ والأمّة

ص: 486

المرحومة، أو يكون أمراً عظيماً يمسّ العقيدة الحقّة، يوجّه الخطاب إلى رئيس الأُمّة وقائدها باعتباره واسطة الفيض والمسؤول عن أُمّته بل البشرية كلّها، والمراد بها غيره، وهذا من عادته تبارك وتعالى في الذكر الحكيم، نظير قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(1)، وليس ذلك إلّا من أجل عظيم أمر الشرك عنده عزّ وجلّ، وقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تقدّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيماً»(2)، فإنّه الشهيد على أُمّته، والغفران إنّما يكون للمشهود عليه دون الشاهد المعصوم، فكان مقام الشهادة والقيادة لأُمّته يستدعي الخطاب له بالغفران، وغير ذلك من الشواهد التي تدلّ بنفسها على نزاهة ساحة قدّسه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن كلّ سيّئة،ومنقصة، إذا أمعن النظر فيها بفكر ورويّة، وآية المقام من هذا القبيل، إذ أنّ أهمّية موضوع الآية يستدعي الخطاب لرسوله الكريم، فإنّه القدوة وعلى المؤمنين الاقتداء به وإتّباع شريعته.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» على الترك وعدم المشاركة فيما يخوضون فيه، ولم يبيّن سبحانه موجبات الإعراض إيكالاً له إلى ما يقتضيه الحال، كالقيام عنهم والخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: «حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» أَنَّ الخائضين في آيات اللّه قد فقدوا الفكر والتعقل في الأُمور، فكان كل أحاديثهم من الخوض سواء في آيات اللّه سبحانه الذي يترتّب عليه الآثار الوضعية والتكليفية أم غيرها، وليس ذكر الخوض من مجرّد المشاكلة كما يدّعيه جمع من المفسّرين.

وهو يدلّ أيضاً على أنّ الأمر بالإعراض عنهم ماداموا يخوضون في آيات اللّه ومشتغلين به، وليس الإعراض مطلقاً، كما عرفت في التفسير.

ص: 487


1- سورة الزمر: الآية 65.
2- سورة الفتح: الآية 2.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ» أنّ موضوع الآية الكريمة من الأهمّية بمكان، لأن ثبات الدعوة وديمومتها وتأثيرها في النفوس وإحاطتها للقلوب، لا يتحقّق بالخوض في آيات اللّه والاستهزاء بها، فإنّهما يوجبان زعزعة أركان الدعوة والشريعة، وسلب قابليتهما في التأثير في النفوس، كما عرفت آنفاً، فلابدّ من سدّ الباب على هذا الظلم النوعي حتّى لا يقع المؤمن في الغفلة والنسيان، ويؤدّي إلى العصيان، فكان توجيه الخطاب للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لإعلام المؤمنين بأخذ الحيطة الشديدة فى هذا الأمر، وإرشادهم إلى التوجّه والتنبّه التام، وعدم الغفلة عنه، فإنّ أثره عظيم يمسّ حياتهم الدينيّة والدنيوية، فلو حصل نسيانٌ إنّما يكون من الشيطان الذي لا سلطة له على نبيّنا الأعظم، وهو أعظم عباد اللّه المخلَصين الذين استثناهم إبليس من سلطانه، كما حكى تعالى عنه في عدة آيات منها قوله: «إِلّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»(1)، وهذا وغيره من الشواهد والثوابت ممّا يدلّ على عدم وقوع السهو والنسيان منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وإن نُسب النسيان إليه في هذه الآية، فما وقع من بعض المفسّرين في تفسير الآية الكريمة غير صحيح، بل ينافي المقام السامي للرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فهو أجل شأناً وأعظم عليه كعباً من أن يستولي عليه الشيطان، وينسيه حكماً إلهياً تتجلّى فيه القيم الدينيّة ومصير الدين، فيقع في أمر مبغوض لدى مولاه تبارك وتعالى، فلابدّ أن تكون نسبة النسيان إليه لأجل ما ذكرناه، أو من أجل نصيحة المؤمنين الذين يخالطون المشركين والكافرين والمنافقين في حياتهم اليومية، الذين يتّصفون بما ورد في الآية الكريمة من الخوض في آيات اللّه والاستهزاء بالدِّين الحقّ، فعلى المؤمنين التذكر لئلا يقعوا في النسيان.

ص: 488


1- سورة الحجر: الآية 40.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» أنّ الجلوس مع الخائضين بعد العلم والذِّكر، يستلزم كون الجالس من الخائضين ما داموا مشتغلين بالخوض وإن لم يكن الجالس مشتركا معهم فيه لوحدة المناط فيهم وهو كون الخوض ظلماً، وهو يدلّ على نهي المشاركة مع الظالمين في ظلمهم، ويدلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّكُمْ إِذا مِثْلُهُمْ»(1)، فإنّ من حام حول المعاصي يوشك أن يقع فيها.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أنّ المشاركة في مجلس الخائضين والقعود معهم، لا يؤمن من مشاركتهم في المؤاخذة والجزاء، فهو يرمز إلى الاستمرار على التقوى والثبات عليها، والورع عن محارم اللّه تعالى.

التاسع: يستفاد من ذكرى التقوى مرّتين في الآية الكريمة، الاهتمام بهذا الحكم الإلهي، وعظيم هتكه والاجتراء عليه سبحانه، فالتقوى العامة في قوله:تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» إِنّما هي من أجل الاجتناب عن مطلق المعاصي، والتقوى عمّا لا يرضاه سبحانه وتعالى، ومنه الاجتناب عن مجالسة الخائضين، والقعود مع أهل الهتك والاجتراء على اللّه تعالى، لئلا تهون عليهم الجرأة عليه عزّ وجلّ وآياته البينات، فيقترب من المعصية، ويشرف على الهلكة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» في ذيل الآية الكريمة، فيكون التأكيد على التقوى لأجل ملازمة الاحتياط، وشدّة التقوى، لأنّ الموضوع من الأهمّية ما يستدعي التقوى الشديدة، أو لأجل ردع الخائضين عن فعلهم، فإنّ عدم مشاركة المؤمنين معهم من أهمّ السُّبل في ارتداعهم عن الخوض.

ص: 489


1- سورة النساء: الآية 140.

فيكون تشريع هذه الأحكام إما لإرشاد المؤمنين إلى أهمّية الموضوع، أو بيان سموّ الحكم المشرّع فيه، أو لتنبيه الغافلين، فتكون ذكرى للمؤمنين، وتذكيراً للغافلين بالعواقب والآثار الوخيمة المترتّبة على الاستهزاء بآيات اللّه، وردعاً للخائضين عمّا يصدر عنهم في هدم أساس الدين وقيمه الواقعيّة، فكان هذا التشريع ضماناً لبقاء الدين وتحديد قيمته الواقعيّة.

ومن جميع ذلك يستفاد أنّ ما ذكره بعض المفسِّرين من نسخ الآية واختلافهم في الناسخ من الوهم.

***

بحث روائى عن الروايات الواردة في تفسير الآيات

بحث روائي:

في «تفسير القمّي» في قوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا» بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «مَن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام، أو يغتاب فيه مسلم، إنّ اللّه يقول في كتابه: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

أقول: الحديث يبيِّن بعض مصاديق الخوض وصغرياته، فلا يختصّ بالطعن في العقيدة، بل يشمل مجالس ارتكاب المحرّمات التي تؤدي إلى هتك حرمة الدين والمؤمنين به، كسّب الإمام وغيبة المؤمن، وإن كان الجلوس مع أرباب المعاصي له حكم معيّن، كما ورد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى اللّه فيه ولا يقدر على تغييره».

وفي «تفسير العيّاشي» عن ربعي بن عبد اللّه، عمّن ذكره، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)في قول اللّه: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا...» قال: «الكلام في اللّه،

ص: 490

والجدال في القرآن «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» قال: منه القصّاص».

أقول: وهو يدلّ على التعميم لعموم الملاك، ولكنّه يختصّ بتلك المحرّمات التي تؤثر في العقيدة والطعن فيها، كما عرفت، فيكون المراد من الكلام في اللّه تعالى ذلك الذي يزعزع عقيدة التوحيد، وما ورد النهي في التكلم فيه، كالتكلّم في ذات اللّه تعالى، فلا يشمل ما يرجع إلى تثبيت دعائم التوحيد وأركان الإيمان، وممّا ذكر يظهر أنّ النزاع في أنّ الاستدلّال والمناظرة في ذات اللّه تعالى وصفاته هل هو داخل في الخوض المنهي عنه أو لا؟ إنّما هو نزاع لفظي.

وفي «علل الشرائع» بإسناده إلى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، قال: حدّثني علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: قال علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ليس لك أن تقعد مع مَن شئت لأنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»».

أقول: الحديث يدلّ على ما استفدناه من الآية الكريمة من الاحتياط التامّ والتقوى المؤكّدة في هذا الموضوع المهمّ، مع أنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعتبر القعود مع الخائضين من الخوض.

وفي «الدّر المنثور» أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في «الحلية» عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «لا تجالسوا أهل الخصومات فإنّهم الذين يخوضون في آيات اللّه».

أقول: عرفت في التفسير ما يرتبط بهذا الحديث، فإن أهل الخصومات ليس غرضهم إلا إيقاع الشك في قلوب المؤمنين، وحبط معنوياتهم، وزلزلة عقيدتهم.

وفيه اخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي، قال: «إنّ أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات اللّه».

ص: 491

أقول: عرفت الوجه في ذلك ممّا تقدّم.

و في «المجمع»: قال أبو جعفر لما نزل «فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلّما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، فلا ندخل إذاً المسجد الحرام، ولا نطوف بالبيت الحرام، فأنزل اللّه «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أمر بتذكيرهم وتبصرهم ما استطاعوا.

أقول: الحديث يرشد إلى ما ذكرناه في التفسير من كون المراد من التذكير عمومه، ليشمل المؤمنين والخائضين، ولا تنافي بين الرواية وما دلّ على نزول السورة دفعة واحدة. إذ من الممكن أن المسلمين لم يتضح وجه الذكرى لهم فكان ذلك استبياناً منهم، ولتذكيرهم ما استطاعوا.

وفي «الدّر المنثور»: أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ، عن ابن جريح، قال: كان المشركون يجلسون إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يحبّون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت الآية: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ... الآية». قال: فجعلوا إذا استهزءوا قاموا. فحذروا وقالوا: لا تستهزئوا فيقوم، فذلك قوله: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أن يخوضوا فتقوم، ونزل: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أن تقعد معهم ولكن لا تقعد، ثمّ نسخ ذلك قوله بالمدينة: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ - إلى قوله - إِنَّكُمْ إِذا مِثْلُهُمْ» نسخ قوله «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ... الآية».

أقول: الخبر على ظاهره لا يمكن الأخذ به، إذ لا تنافي بين الآيات الثلاث وهي آية المقام، وآية المائدة، وقوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» حتّى يتحقّق النسخ بينها، فتنسخ الثانية الأُولى، وهي منسوخة بالثالثة، مضافاً إلى أنّه لا يصحّ أن يكون النسخ بين آيتين هما متحدان معنىً.

ونظير ذلك ما رواه في «الدّر المنثور» عن النحاس في «ناسخه» عن ابن

ص: 492

عباس، في قوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» قَالَ: هذه مكّية نسخت بالمدينة بقوله: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا - الآية ».

***

بحث کلامی حول سهو النبي (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم)

بحث كلامي:

وقع الخلاف بين العلماء في سهو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونسيانه بعد اتّفاق الإماميّة على عدم جوازهما عليه صلوات اللّه عليه مطلقاً، وما ورد في بعض الآثار ممّا يدلّ على وقوع السهو عليه، إمّا مؤوّل أو إرادة الإسهاء منه أو مطروح، وجعلوا عدم سهوه ونسيانه من القواعد الثابتة عند الإماميّة مطلقاً، فهو منزّه عن النسيان لقوله تعالى «سَنُقْرتُكَ فَلاَ تَنسَى»(1). وغيره من الأدلّة المذكورة في كتبهم، فما ذكره الآلوسي في «تفسيره» بقوله: والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنّهم يجوزون النسيان وكذا السهو على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وكذا سائر الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) فيما يؤدّيه عن اللّه تعالى من القرآن والوحي، وأمّا ما سوى ذلك فيجوّزون عليه صلوات اللّه عليه وآله أن ينساه ما لم يؤدِّ إلى إخلالٍ بالدِّين.

غير صحيح، ولم أعلم الكتب التي استفاد منها هذا التفصيل، بل هي مشحونة في نفي النسيان والسهو عنه صلوات اللّه عليه وآله مطلقاً، وقد فصّلوا الكلام فيه، فراجع

وأمّا الجمهور فاختلفوا اختلافاً كبيراً:

فقد ذهب جمهور علمائهم إلى جواز النسيان على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أحكام الشرع، وقالوا إنّه ظاهر القرآن والأحاديث، ولكن اتّفقوا على أنّه عليه

ص: 493


1- سورة الأعلى: الآية 6.

الصلاة والسلام لا يقرّ عليه بل يعلّمه اللّه تعالى.

ثمّ قال الأكثرون: يشترط تنبّهه عليه الصلاة والسلام على الفور متّصلاً بالحادثة، كما عليه الأكثر، وجوزت طائفة تأخيره مدّة حياته، واختاره أبو المعالي الجويني.

ولكن منعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبارات الشرعيّة. واتّفق العلماء جميعاً على منعه في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك.

وذهب أبو المظفر الاسفراييني إلى عدم جواز النسيان عليه، وإنّما ينسى قصداً ويتعمد صورة النسيان ليُسّن.

وجميع تلك الأقوال تحتاج إلى دليل، مع أنه يدلّ على نفيه عنه مطلقاً، وكيف يشمله النسيان ويقع في السهو وهو في مقام الحضور دائماً، ومن خصائصه أن يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وقد بلغ مقام جمع الجمع، ودنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، والتفصيل يطلب من محلّه، ومن العجائب أنّ الآلوسى يقول في «تفسيره»: ( والحقّ الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال يمتنع ذلك على الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) في كلّ خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمداً ولا سهواً لا في صحة ولا في مرض ولا رضا ولا غضب، وحسبك في ذلك أنّ سيرته (عَلَيهِم السَّلَامُ) وكلامه وأفعاله مجموعة يعتني بها على مرّ الزمان، ويتناولها الموافق والمخالف، والمؤمن والمرتاب... إلى أخر كلامه).

فإنّ كلامه واضح في المراد، فكيف وقع منهم ما وقع في قضية الصحيفة التي أراد صلوات اللّه عليه وآله أن يكتبها!! وفيه مصير الأُمّة بأكملها، وإخراجهم من الضلالة مدى الدهر، فهل هناك تأويل لما فعلوه؟!!

***

ص: 494

بحث عرفاني حول أخسّ الصفات وأرذلها

بحث عرفاني:

الآيات الشريفة تبيِّن أخسّ الصفات وأرذل الدركات التي يصل إليها الإنسان، إذا أهمل نفسه ولم يواظب على تكميلها، ولم يراقبها في طريق السير والسلوك إلى اللّه سبحانه، وقد ذكرت أُمّهات الرذائل الخلقية التي تتشّعب إلى صفات ذميمة، وعمدتها هي:

الأُولى: الاسترسال فى الكلام من دون فكر وروية، فإن كثرة الكلام ممّا يوجب الوقوع في المكروهات، فإنْ لم يشتمل على الحرام فإنّه بنفسه مكروه،مذموم، لاسيما الذين يريدون أن يطئوا بساط القُرب والتوجّه إليه سبحانه، ولذا كان من صفات العرفاء قلة الكلام، كما في الحديث النبوي المعروف: «مَن عرف اللّه قلَّ كلامه»، فالخوض في الكلام مذموم عقلاً وشرعاً، ولذا لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا في موارد الذمّ، وكفى به رادعاً لمَن كان بصيراً متنبّهاً ولم يكن من الغافلين.

الثانية: الخوض في آيات اللّه تعالى بالمعنى العام الذي يشمل المعارف الحقّة، والاعتقادات الصحيحة، والمقدّسات الدينيّة، والدين الحقّ الأُصول والفروع، وسائر الذوات المقدّسة كالأنبياء والأوصياء وأئمّة الدِّين صلوات اللّه عليهم أجمعيّن والمؤمنين، بالاستهزاء والسخرية والافتراء والإهانة، وقد بين القرآن الكريم في غير موضع منه وسائل الخوض ومظاهره كالاستهزاء، قال تعالى: «وَلَقَدْ اسْتَهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»(1).

وقال تعالى: «وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُواً»(2).

ص: 495


1- سورة الأنبياء: الآية 41.
2- سورة البقرة: الآية 231.

وقال تعالى: «ولا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً»(1).

وقال تعالى: «وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً»(2).

وقال تعالى: «وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً»(3).

والسخرية، قال تعالى: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنيا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا»(4).

وقال تعالى: «وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ»(5).

واللّعب، قال تعالى: «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمكذِّبين الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ»(6).

وقال تعالى: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنيا»(7).

واللّهو، قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ»(8).

والإعراض بالتقوّل على الحقّ، قال تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ»(9).

والمجادلة بالباطل، قال تعالى: «وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحقّ»(10).

ص: 496


1- سورة المائدة: الآية 57.
2- سورة المائدة: الآية 58.
3- سورة الكهف: الآية 106.
4- سورة البقرة: الآية 212.
5- سورة الصافات: الآية 14.
6- سورة الطور: الآية 11 - 12.
7- سورة الأعراف: الآية 15.
8- سورة لقمان: الآية 6.
9- سورة القمر: الآية 2.
10- سورة غافر: الآية 5.

وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ منير»(1).

وتلبيس الحقّ بالباطل، قال تعالى: «وَلاَ تَلْبِسُوا الحقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحقّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»(2).

كما أنّ مجالس المعاصي ممّا تشمله الآية الكريمة، كما روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أنّه قال: «مَن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسبّ فيه إمام، أو يغتاب فيه مسلم، وذكر الآية الكريمة». وغير ذلك ممّا هو كثير، وهي وإن كانت تختلف عن الخوض مفهوماً، ولكنّها تتصادق في المورد كثيراً، و تقدّم عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ الكلام في اللّه، والجدال في القرآن، إنّما هو من الخوض، وكذلك القصّاص أي الردّ عليهم بالخوض كما فعلوه. ولا ريب أنّ الخوض في آيات اللّه بالمعنى المزبور من أشدّ الذنوب وأعظمها تأثيراً فى النفس، فإنّه يجعلها فاقدة التأثّر بالآيات الإلهيّة والدِّين الحقّ الذين هما من أهم سُبل الكمال، وأعظم الطرق للسير والسلوك، فإنّ فيهما العلّة المادّية والغائية من السير والسلوك فما أعظمها!! وما أشدّ الخوض فيهما من التأثير في القلب والنفس!! ويجعلهما يباباً لا يرجى لهما الخير، ولذا كان الأثر المترتّب عليه عظيماً، وهو الإبلاس والحرمان من كلّ فضيلة ومكرمة. ولقد رهن الخائضون في آيات اللّه أنفسهم بالغفلة عن اللّه تعالى والحرمان من فيضه وجوده، وقد أفاض سبحانه وتعالى عليهم بآيات تهدي نفوسهم إلى السعادة، وتقرّبهم إلى المبدأ الفيّاض، فكان للخوض فيها التأثير الشديد، حيث رهنوا أنفسهم بالغفلة والحرمان، فهل يبقى للإنسان من باقية إذا فقد القابلية للتأثّر بالآيات الإلهيّة؟ فما باله لا يتذكّر ما

ص: 497


1- سورة لقمان: الآية 20.
2- سورة البقرة: الآية 42.

يؤول إليه من الحرمان، ويبتلى بالخسران.

الثالثة: إنّ الآيات الكريمة ترشد المؤمنين إلى أمر مهمّ في حياتهم، ويعتبره العارفون من الركائز في سيرهم وسلوكهم، وهو اتّخاذ القرين، فإنّ المرء يعرف بقرينه، وله التأثير في جميع العوالم الذي يرد عليها، وقد ميّز اللّه سبحانه في الآيات المتقدِّمة بين قسمين من القرناء:

أحدهما: القرين السوء، وأمر المؤمنين بترك مجالسته والإعراض عنه، فإنّه يؤثِّر في صاحبه، وتشمله الآثار السيّئة التي تترتّب على سيّئات أقواله وأفعاله، ففي نهج البلاغة، قال: «إيّاك ومصاحبة الفساق، فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق» وأشدّه ظلمة للنفس وسلب التوفيق، وقد قال الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ليس لك أن تقعد مع مَن شئت، لأن اللّه تعالى يقول: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ»، فجعل القعود معهم من الخوض المنهي عنه، كما ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيّته لأبنه محمّد بن الحنفيّة: ففرض على السمع أن لا تصغي به إلى المعاصي، فقال عزّ وجلّ: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ». ويرتفع الأثر عند التغيير، كما قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى اللّه فيه ولا يقدر على تغییره».

ومن الآثار التي تترتّب على مجالستهم ما ورد في الحديث عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه عن على (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مجالسة الأشرار تورث الظنّ بالأخيار».

كما أنّ من الآثار السيّئة أيضاً أنّه إذا نزلت نقمة يصيب الجالس أيضاً، كما قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيمن جالس الظالم: «أمّا تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً».

وقد مدح اللّه تعالى المتّقين ووعدهم بالحُسنى، حيث آمنهم من حساب

ص: 498

الخائضين المحجوبين، فلتكن مجالستهم معهم تذكيرهم وتغييرهم عما هم عليه لعلهم يتّقون، فتنالهم رحمة منه عزّ وجلّ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فكانت آية تذكّر الطرفين بالأفعال والأقوال، وما يجري عليهم من سوء الحال والمآل.

ثمّ ذكّرهم سبحانه بالعلاج عن مخالطة هؤلاء المحجوبين، الذين رسخ العناد واللّجاج فى نفوسهم، فاتّخذوا دينهم الذي أنزله اللّه تعالى لتكميلهم وتهذيبهم عن قبائح الأعمال وسيّئات الصفات لعباً ولهواً، حيث أنِسُوا بالدُّنيا واطمأنوا إليها، وتخلّفوا عن الآخرة، وما سيؤول أمرهم فيها، فإنّ من عادة أرباب الدُّنيا اللّهو واللّعب، وهما من أهمّ العلل فى الحجب عن سماع الآيات والنُّذر والتأثّر بها، وقد ذكّرهم اللّه سبحانه بالقرآن وبما فيه من المواعظ والعِبر، والوعد والوعيد لإرشادهم وخروجهم عن ضلالهم وعنادهم، لئلّا يصل الأمر بهم أن يكون ما كسبوه ملكات ظلمات تتراكم بعضها فوق بعض، فلا ينفع التذكير، وفيه الموعظة للمؤمنين بأنّ لا يغتروا بالدُّنيا فيتخذوا اللّعب واللّهو سبيلهم، فيستهزئوا بالدين الحقّ، فإنّ الشوق إلى اكتساب الكمال والوصول إلى اللّقاء، مودعٌ في النفوس، وإليها يسعى الإنسان ويكدح، إلّا أن تمنعه الملكات الرذيلة كي تستولي على القلوب، وتردعه عن سماع الآيات، فإنّها حُجب ظلمانية، توصلها إلى حدّ الإبلاس، فيحترق بنار الشوق التي تمنعه من الاستكمال، وعذاب أليم بالحرمان عن الكمال بسبب احتجابهم بما اكتسبوا وما اعتقدوه، فهذه آيات كريمة تبيِّن أعظم ما يبتلى به الإنسان من الحيرة والاضطراب، وما يفقده من الشوق الذي هو العلة للاستكمال، وما يتحقّق فيه من الحرمان، ولم يترتّب هذا النوع من الأثر السيء - أي الإبلاس – إلّا على هذا النوع من الأفعال، وهو اتّخاذ دين اللّه لعباً ولهواً. فما أضرّهما بإنسانية الإنسان وما أشد أثرهما حيث يخمدان الشوق الذي هو العلّة في السعى إلى اكتساب المكارم، والوصول إلى مقام اللّقاء، وما أفظع

ص: 499

محلهما حيث يحلّان الإنسان في دار البوار؟!!

***

بحث فقهى حول جملة من الاحكام الشرعيّة.

بحث فقهي:

تدلّ الآيات الكريمة على جملة من الأحكام الشرعيّة:

منها حرمة الخوض بجميع مظاهره التى تقدّم ذكرها، وقد بيّن عزّ وجلّ حرمته بذكر اللازم وهو وجوب الإعراض عنهم، كما قال تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتّى يَخُوضُوا في حَدِيث غَيرَه»، ولكن الحرمة ترتفع بالانتقال إلى حديث آخر غير الخوض.

ومنها: حرمة القعود مع الخائضين وسماع أقوالهم، لدلالة النهي في قوله تعالى: «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى».

ومنها: وجوب تذكير الخائضين، لقوله تعالى: «وَلَكِنْ ذِكْرَى»، إمّا بالقول أو الفعل أو الإنكار القلبى، كما هو معروف فى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ التذكير في الآية يشملها جميعاً، أو التغيير كما ورد في الحديث الذي تقدّم نقله.

ومنها: عدم مؤاخذة الإنسان بما يصدر منه في حال النسيان، لقوله تعالى: «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى» فإنّ الحرمة إنما تتحقّق بعد الذكران، ويدلّ عليه حديث الرفع المروي عند الفريقين عن نبيِّنا الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «رُفع عن أُمّتى النسيان»؛ والمراد من الرفع هو رفع المؤاخذة لا رفع الحكم فإنّه خلاف الامتنان المستفاد من سياق الحديث الشريف، ولذا تثبت الكفّارة والإعادة والقضاء، وتفصيل الكلام موكول إلى علم الأُصول فراجع.

ومنها: إنّ الاضطرار إلى مجالسة الكفّار والمشركين قد يوجب الوقوع في الخوض، ولكنّه لا يضر إذا كان الذي يريد القعود معهم متّقياً في نيّته، بأن لا يكون

ص: 500

من نيته مشاركتهم في الخوض وسماعه منهم، ولا يريد الدخول معهم في الخوض ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ».

***

ص: 501

سورة الانعام، الآية 71 - 73

إشارة

الآية 71-73

«قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى انْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِمُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالحقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحقّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)».

بعد بيان دلائل التوحيد وعلاماته، ومعاملة المستهزئين بها وسوء حالهم ومنقلبهم، بيّن سبحانه في هذه الآيات حججاً أُخرى للمشركين المعاندين، فقد ضرب مثلاً لمن يعقله منهم، فذكر أمراً يلازم الإقرار بالتوحيد الذي شرحه في الآيات السابقة، بأن نهاهم عن دعاء غير اللّه سبحانه من الآلهة التي لا تنفع ولا تضرّ، وإتّباع الأهواء المضلّة التي تسخّرها الشياطين في إضلالهم وإيقاعهم في أسوء المهالك، وإخراجهم من زمرة المؤمنين باللّه، وإيكالهم إلى أصحاب الغواية، وقد أوضح سبحانه لهم بأن هدى اللّه هو الهدى الذي يجلب لهم السعادة وينقذهم من الهلكة، وقد شرح سبحانه تلك الهداية بأنّها سلم لرب العالمين، وأنّها

ص: 502

مجموعة من الدِّين الحقّ والطاعة، وتقوى اللّه الذي إليه تحشرون، وهناك يكون الحساب والجزاء، ثمّ بيّن سبحانه دلائل عظمته وصدق وعده ووعيده، وكمال حكمته وعلمه. وجميع تلك الآيات في سياق واحد، وهو الاحتجاج على المشركين، وإقامة دلائل التوحيد ونبذ الأنداد، واثبات عبادة الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال.

***

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا»

التفسير

قوله تعالى: «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا».

احتجاج آخر على المشركين في أُسلوب الإنكار الذي بين علّة الإنكار والتعجب منه، وهو ممّا يدلّ على عدم وقوع شيء ممّا ذكر، أي لا يقع النفع إن دعونا، ولا يضرّنا إن تركناه، بل اللّه سبحانه النافع الضارّ الفعّال القادر على ما يريد. والجملة تدلّ على التوحيد في الفعل، بعدما دلّت الآيات السابقة على التوحيد في العلم، والتوحيد في الحكم، والتوحيد في المعبودية، فهي آيات متتالية مترتّبة تدلّ على أنحاء التوحيد، ونبذ أنحاء الشرك ووجوهه.

والآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى كيفيّة الدعوة، واتّخاذ الحجّة في المخاصمة مع المعاندين، وفيها تعليم كيفيّة الخصومة والجواب عنها وأحكامها. ومنه يظهر أنّها لا تختصّ بشخص معيَّن بل إنّ مضمونها صدر من المشركين. فقد كان أسلوباً من أساليب افتتان المسلمين ودعوتهم إلى الكفر، كما حكي عنهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم.

وإنّما ذكر سبحانه من الأوصاف خصوص النفع والضرّ ونفاهما عن الشركاء، لما عرفت مكرّراً أن المشركين إنّما اتّخذوا الآلهة لهذين الأمرين، وأنّ أقصى ما وصلت إليه أوهامهم باعتبار توجّه مشاعرهم إلى أحد أمرين، إمّا الرجاء

ص: 503

أو الخوف، فإذا كانت آلهتهم لا تنفع ولا تضرّ، فلا تستحق العبادة والتقرّب إليها بالدعاء، فيكون سلب هذين عنها دليلاً على عدم قدرتها، ولا ريب أنّ أدنى مراتب العبودية عند أمثالها، القدرة على ذلك، بل إن اطمئنان النفوس في كلّ عبادة إنّما يتحقّق إذا كان المعبود قادراً على نفعه إن عبده، أو ضرّه إذا ترك عبادته، وبذلك يرتفع اضطرابها الذي ينشأ من الخوف والرجاء الكامن في النفوس، فيكون القادر عليها هو المستحقّ للعبادة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه»

إشارة

قوله تعالى: «وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه».

بيان للضلالة التي كان عليها أهل الشرك وعبادة الأوثان وهم أهل الجاهلية الذين هداهم اللّه تعالى إلى الإسلام وعبادة الواحد الأحد، ونبذ الشرك والأوثان. ومضمون الآية من الحجج الكثيرة التي تضمنتها هذه السورة المباركة، فإنّ الرجوع إلى الضلالة بعد الهداية من اللّه عزّ وجلّ من أقبح السير. ولذا عبّر عنه عزّ وجلّ بالردّ على الأعقاب، الذي يزيده تقبيحاً على تقبيح لكونه رد ّالقهقري، وهي المشية الدنيئة، مضافاً إلى كونه مشياً من خير إلى شرّ، وهو مثلٌ يُضرب لمَن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدّة، وصار يطلق على كلّ تحوّل مذموم.

ما ورد حول الاعقاب

والأعقاب جمع عقب - بالفتح وكسر القاف - مؤخّر القدم، مؤنّث وتصغيره عقيبة، واصلها من العاقبة والعُقبى، وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه العقوبة لأنّها تالية الذنب وعنه تكون، كما أنّ منه عقب الرجل، وأفضلها قوله تعالى: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

ويستفاد من الآية الشريفة أُمور:

ص: 504


1- سورة الأعراف: الآية 128.

الأوّل: إنّ دعاء من لا ينفعنا ولا يضرنا من الضلالة والردّ على الأعقاب بعد الهداية من اللّه تعالى.

الثاني: إنّ الاقتصار على الاستفهام الإنكاري، وإتيان جملة (ندعوا) ممّا يدلان على أنّه إذا حصل ذلك من أحد، فهو إنما يكون مجرد لفظة ولقلقة لسان من دون أن يكون عن فهم وإدراك وتعقّل، لأنّ جميع ذلك يدعو إلى عبادة اللّه الواحد الأحد القادر الفعّال لما يريد، فقد حصل الإنكار لأنّ المدعوّ خلاف الفطرة، كما دلّت عليه الآيات السابقة من هذه السورة المباركة، ولعلّه من أجل ذلك ذكر لفظ (الدُّعاء) دون غيره كالعبادة ونحوها.

الثالث: إن قوله تعالى: «وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا»، يدلّ على أنّ الهداية إذا كانت من اللّه تعالى فالرجوع منها إلى الضلالة من أقبح الرذائل، ولا يُقدم عليه العقلاء، فإنّه رجوع من المرتبة العالية من الكمال إلى أخسّ الرذائل ومجمع الفساد، ولعلّه من أجل ذلك ورد التأكيد على كون الهداية من اللّه تعالى، لأنّها مجمع الكمالات والفضائل، ومنتهى كلّ خير، ومن اقتنع بذلك فلا يعدل عنه إلى غيره.

الرابع: إنّ التعبير ب(نرد) المبني للمجهول دون غيره، لبيان أنّ الارتداد خارج عن حيّز الاحتمال فلا يحتاج إلى نفيه،وإنكاره، فإنّه تحوّل مذموم ليس من شأن العاقل أن يقع منه، وفيه التعريض بالمخالفين على أنّ آمالهم قد خابت بمخالفة المؤمنين لهم، وقطع أطماعهم السخيفة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِنُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ»

إشارة

قوله تعالى: «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِنُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ».

تشبيه بليغ يبيّن أقبح الحالات التي يمكن أن تؤول إليها أحوالهم، وفيه تمثيلُ حال الإنسان المتحيّر الذي عميت بصيرته، ولم يتفكر في عواقب الأُمور، و تلاشت عزيمته، فلا يُرجى له السعادة، فقد ترك أحسن الطرق لكسبها، وأقوم

ص: 505

السُّبل للفوز بها، فبقي متحيراً بين أصحاب له اهتدوا ونالوا ما قصدوه، وهم يدعونه إلى الهدى، وبين شياطين تغويه وتزيّن له هواه فجعلوه حيران في الأرض، كالذي ذهبت به الشياطين ومَرَدة الجن وأضلّته بعدما كان على حالة مستقيمة ووضع قويم، والتشبيه حقيقى لا أن يكون تنزيلياً، كما يدّعيه بعض المفسّرين، فإنّ من أرتكب مثل هذا الذنب العظيم، واستهزأ بآيات اللّه تعالى، ودعا من دون اللّه ما لا ينفعه ولا يضرّه، ونكص على عقبيه بعد الهداية والدخول في طاعة اللّه تعالى، فهو في غاية الاضطراب والدهشة والضعف، لأنه فقد البصيرة في أموره، وأعرض عن أقوم السُّبل لنيل مقصوده، وهو يشبه التمثيل الوارد في الربا. قال تعالى: «لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»(1)، فإنّ تعاطى الرِّبا والتوغّل في ارتكابه، يستلزم التخبّط في الأُمور، وفقد الصواب في تميّيز ما هو النافع عمّا هو الضارّ له.

حول ما تستبع ارتكاب المحرمات واتيان قبائح الأعمال

وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ ارتكاب المحرمات وإتيان قبائح الأعمال، تستتبع آثاراً،واقعية، تنطبع في النفس، وتظهر في السلوك، ولها تأويل حقيقي يظهر في الآخرة، بل قد يظهر في دار الدُّنيا حسب مراتب تلك الآثار شدّة وضعفاً، وعليه يبتني قانون تناسب الجزاء مع العمل، وهو الأساس في الخلود في العذاب، فليس المراد من الأمثال القرآنية مجرّد تشبيه حتّى يبحث عن المشبّه أو المشبّه به، وأنّه في المقام مَثَل للعرب قبل الإسلام، فنلتمس الجنّ والغيلان ومردة الشيطان، بل الآية الكريمة أسمى وأجلّ من كلّ ذلك، بل تبين حقيقة هذا الإنسان الحائر الذي ارتكب هذا العصيان، وأعطى زمام أمره لهواه، وقاده الشيطان فاتّخذ دین اللّه سبحانه لهواً، واستهزأ بآياته ونكص على عقبيه، فإنّ مثل هذه الذنوب

ص: 506


1- سورة البقرة الآية 275.

العظيمة تستتبع مثل هذا الأثر الكبير، وهو زوال الثقة باللّه تعالى والدين الحق، وزرع الاضطراب في النفس، واستيلاء الحيرة والدهشة على العقول والضعف في القلوب، فليس لهؤلاء عزيمة راسخة في كسب السعادة. ويبقى في جميع حالاته كذلك، وهي ظاهرة له لو لم يكن من العميان.

ومما ذكرناه يظهر وجه الضعف في كثير ممّا ذكره المفسِّرون في المقام وغيره، فراجع.

ثمّ إنّ الاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي، إذا ذهب فيها، كالذي ذهبت به الشياطين ومردة الجن وأضلّته في الطريق.

وقيل: إنّها المودّة والميل، أي كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى لمهْمَه والقفر وهما متقاربان.

والحيران الذي لا يهتدي لجهة أمره. يُقال: حار يحار حيراً وحيرة أى تردّد، وبه سميّ الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً، كما أنّ الحائر الموضع الذي يتحيّر فيه الماء.

وكالذي حال أي كائنٌ كالذي حار، وقيل في موضع نصب على أنه نعت المصدر محذوف أي ردّاً مثل ردّ الذي. و (حيران) نصب على الحال، وهو لا ينصرف، ومؤنّثه حيرى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى انْتِنَا»

قوله تعالى: «لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى انْتِنَا».

أي أنّ له أصحاباً هم من دُعاة الهدى ثابتون على الهداية، يدعونه إلى ما همّ عليه من الهداية أن ائتنا وتابعنا، ولكنّه حائر لا يدري ما يفعل وهو ضالّ؛ والآية الشريفة تبيِّن شدّة حيرته واضطرابه، بخلاف المؤمن الذي آمن وأطاع اللّه تعالى، واتّخذ الصراط المستقيم، وتمسّك بهدي اللّه ورسوله، ومن الآية الكريمة نستفيد

ص: 507

شدّة الفرق بينهما، فقد وصف الفريق الأوّل بأُمور ثلاثة هي:

أولاً: استهوته الشياطين في الأرض فهو هائم فيها، يدور أمره بين هبوط واستواء، فلا تكون له أحوال مستقيمة، بل له نفسيّة متذبذبة مضطربة.

ثانياً: إنه حيران ضالّ عن الهداية والصراط المستقيم لا يدري ما يصنع.

ثالثاً: إنّه مدعوّ من أصحاب له لينقذوه من حيرته واضطرابه، لكنّه لا يثق بأحدٍ، لأنّه فقد الثقة بنفسه.

وهذه أوصاف إذا اجتمعت في أحد توغّل في الضلالة، وابتعد عن الهداية، فلا يُرجى منه الخير، إلّا إذا رجع إلى نفسه وأخرجها من الحيرة والاضطراب، وزرع فيها الثقة.

وأمّا الفريق الآخر فهم على أوصاف أيضاً:

منها: إنّهم ثابتون على الصراط المستقيم، ليس فيهم ضلالة.

ومنها: إنّ لهم قلوباً مطمئنة ونفوساً هادئة.

ومنها إنّهم أسرفوا على ما يبعون من الإيمان والطاعة، فهم أصحاب هداية.

ومنها. إنّهم أحبّوا الخبر لأنفسهم ولغيرهم، فدعوا غيرهم إلى الهدى والمجيء إليهم.

فيكون المستفاد من مجموع الآية الكريمة، أنّهما فريقان منقابلان في الادراك والصفات والعمل والهدف.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى»

قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى».

تأكيد بليغ على براءة هداية اللّه تعالى عن الشرك والضلالة، فيكون الاعتصام منحصراً بها، ويجب الإيمان بهداه دون غيره، فإنّ الأمر يدور بين دعوة اللّه عزّ وجلّ التي توافق الفطرة ويدعو إليها العقل، وهي الهداية الحقّة الحقيقية،

ص: 508

بخلاف غيرها التي هي دعوة الشيطان وفيها الضلالة والغواية، فيكون هدى اللّه هو الهدى وحده وما عداه ضلالاً وغواية.

وفيه الدلالة على أنّ الحقيقة والواقع في هدى اللّه سبحانه، وتقابلها دعوة الشيطان التي تشمل الغواية والضلالة والزيف والشكّ، ولا ريب أنّ اللّبيب لا يترك ما فيه الحقيقة التي تجلب الاطمئنان والسعادة، إلى ما فيه الغواية والشكّ والتردد، وفيه التوطئة لما يأتي.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»

إشارة

قوله تعالى: «وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ».

حكم إرشادي إلى ما حكم به العقل ودعت إليه الفطرة، وهو عطفٌ بيان لما سبق، فيكون الأمر بالإسلام من أهمّ مظاهر الهداية، وأعظم مصاديقها، والجملة لبيان إيقاع الأمر بالإسلام والتسليم، وهو أبلغ في المقصود، واختلفوا في اللّام في (النسلم):

فقيل: للتعليل، أي أُمرنا كى نُسْلِم.

وقيل: للإلصاق؛ تقول العرب، أمرتك لتفعل، وأمرتك بأنّ تفعل، فالباء للإلصاق، والمعنى وقع الأمر بهذا الفعل. ومن قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار. ومن قال: أمرتك لتفعل، فالمعنى أمرتك للفعل.

وقيل: إنّها للمصدرية، أي وأُمرنا أن نُسْلِم اللّه ربّ العالمين.

وكيف كان، فالتعرّض لوصف الربوبيّة، لتعليل الأمر والتأكيد على وجوب الامتثال به. كما أنّه أبهم فاعل الفعل في (أمرنا)، ليكون تمهيداً لوضع قوله (لربّ العالمين) موضع الضمير، وللدلالة على علة الأمر، كما عرفت.

حول التسليم لرب العالمين

والإسلام في المقام هو التسليم والانقياد لله رب العالمين، والطاعة له سبحانه، وذلك لدفع تشكيك المشكّكين، وإبطال زيف المنافقين، والإعتراض

ص: 509

على استهزاء المشركين الكافرين بآيات اللّه سبحانه، لأنّه ربّ العالمين، وهو يقتضي التسليم لأمره، فإنّه المبدأ وإليه المنتهى، ومنه يستمدّ العون في نُجح المقاصد، وإنجاز ما يحتاج إليه الإنسان في الدُّنيا والآخرة، فلا ربّ سواه دون ما يدّعيه المشركون من الأرباب. فتكون الآية الكريمة تفسيراً لما أجمل في قوله تعالى: «إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى»، وبيانٌ لمصداق الهداية الإلهيّة وهو التسليم والطاعة، كما أن في الآية إنكاراً لما صدر من المشركين وبيّنته الآيات السابقة.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ»

قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ».

عطف على (التسليم) أي للاستسلام، ولإقامة الصلاة ولتقوى اللّه، ودخلت (أن) المصدرية على الأمر فينسبك منه مصدر أي الإقامة.

والجملة لبيان أعظم ما يصدق عليه التسليم والانقياد له عزّ وجلّ، وأهمّ ما يتحقّق به الأمر به،بالإسلام، فإنّه ليس مجرّد اعتقاد وشهادة لفظية، بل لابدّ من تصديق للاعتقاد يظهر على الجوارح والأركان، وقد ذكر سبحانه أمرين مهمّين لهما الارتباط الوثيق بالموضوع الذي نزلت فيه آيات المقام:

أحدهما: الصلاة التي هي من أعظم الروابط بين الإنسان وخالقه، وهي قربان كلّ تقىّ، كما أنّها توجب توثيق الروابط بين آحاد المسلمين، بل توجب تنظيم أمور الناس، لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكّي النفوس، وهي وصية الأنبياء والمرسلين لأُممهم، وقد اهتمّ القرآن الكريم بها اهتماماً بليغاً، والصلاة عقيدة وعمل وترابط وإخاء، وفيها الحثّ إلى الطاعة والترغيب في الانقياد، والترهيب عن المعصية، ولا يعقل أن يصدر ممّن جعل الصلاة عمله أن يستهزئ بالآيات، أو يتخذ دين اللّه لعباً ولهواً، فهى مجمع الكمالات، وبها تنتظم أُمور العبادات والطاعات، ولا يتصور اجتماعها مع الاستهزاء بآيات اللّه تعالى، ولعلّه

ص: 510

من أجل ذلك ذُكرت في المقام.

الثاني: تقوى اللّه رب العالمين، فإنّها ضمان الإسلام والعمل بالشريعة، ومظهر عظيم للتسليم بالمأمور به، فلا فائدة له بدونها، ولأنّ التقوى تردع المسلم عن الاستهزاء بآيات اللّه واتّخاذ دين اللّه لعباً ولهواً، وفيها التأكيد على ما ذكر من الأمر بالإسلام وإقامة الصلاة، وفيها أيضاً زجر المنافق وتحريض المسلم لئلّا يقترف مثل تلك المعاصي الكبيرة. كما أنّها إجمال جمال تفاصيل الأعمال والطاعات.

ومنه يعرف فساد ما ذكره بعض المفسِّرين من أنّ ذكر التقوى بعد إقامة الصلاة من مجرّد التفنّن في سرد الكلام. فإنّ الموضوع الذي نزلت فيه آيات المقام من أكثر الموضوعات أهمّية وارتباطاً بالدِّين، كما عرفت، فلابدّ من معالجته وبيان الآثار التي تترتّب عليه.

ولعلّ التقوى المأمور بها في المقام أوسع من التقوى المعروفة عند المفسِّرين وغيرهم، من أنّها امتثال الأمر واجتناب النهي.

وبالجملة: فقد اجتمعت في الآية الكريمة الأُسس التي يقوم عليها انقياد العباد لربّ العالمين، وطاعتهم له عزّ وجلّ.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»

قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

جملة مستأنفة تتضمّن الترغيب والتخويف لمن ترك امتثال ما أمره عزّ وجلّ، وتبيّن وجه الطاعة والعبادة، وعلّة الانقياد والتسليم، والحكمة لامتثال ما أمره سبحانه، وردعاً للمشركين عن شركهم، فإنّه إليه سبحانه تحشرون لا إلى غيره يوم القيامة، وهو الذي يحاسبكم على الأعمال ويجازيكم عليها، فالحشر إليه والحساب والجزاء بيده تعالى، فلابدّ أن يتحقّق التسليم له، وأنّ يُتّقى. وفي الآية الكريمة التأكيد على مراعاة ما تضمّنته، وعدم التغافل عنه.

ص: 511

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»

إشارة

قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ».

بيان ما يتعلّق باوصاف اللّه تعالى.

بيان لأهمّ الأوصاف التي اتّصف بها ربّ العالمين الذي أُمرنا أن نُسْلِم له، وبها استحقّ الأُلوهيّة العظمى والربوبيّة الكاملة التامّة، وفيه من البرهان القويم على بطلان عقائد المشركين، واثبات كون هدايته هي الهدى الحقّ الحقيقي الذي يجب الاعتقاد به، والأخذ به وطاعته تعالى فيه، ليتحقّق التسليم لربّ العالمين الذي من شؤون ربوبيّته أن يكون الرجوع إليه بالنشر والحشر، وحسابهم على ما أمرهم به ممّا تضمنته الآيات السابقة.

وأوّل وصف ذكره سبحانه في هذه الآيات التي تعتبر كالبرهان لما ورد في الآيات السابقة، أنّه هو الذي خلق السماوات والأرض بما اشتملتا من الآيات والبراهين والسنن المطّردة، والحكمة البالغة الدالّة على عظمته وعلوّ صفاته وسموّ أفعاله، ونزاهته عن كلّ ندٍّ وشريك، فقد انحصر الخلق به عزّ وجلّ، ولا ريب أنّ الخالق كذلك يكون مالكاً لأُمور خلقه ومسلطاً عليهم تسلّط قدرة كاملة وربوبيّة تامّة، فتختصّ الهداية به، وتكون هدايته حقّة حقيقية، وإنّما اثبت سبحانه انحصار الخلق به تعالی، لبیان کون الرجوع إليه للتلازم بين المبدأ والمعاد، فكانت الغاية من الخلق هي رجوعهم إليه سبحانه.

ما يتعلّق بقوله تعالی «بِالحقّ»

قوله تعالى: «بِالحقّ».

وهو الوصف الثاني الذي يدلّ على أنّ خلقه سبحانه إنّما هو بالحقّ، لأنه الحقّ فلا يصدر منه إلّا الحقّ، وقد عرفت في التفسير أنّ الحقّ صفة قائمة به بأي معنى يتصور من الثبوت والدوام والبُعد عن الأوهام والخيال والبطلان، فيكون اتّصافه تعالى به على الحقيقة والواقع، واتصاف غيره به بفعله سبحانه، لأنّه مخلوق له عزّ وجلّ، فكانت أفعاله ميزاناً للحقّ.

ص: 512

وهو من عظيم الأوصاف وإن كان في مخلوقاته، فإنّ بالحقّ تثبت الحقائق وتزول الأوهام وتبطل الدعاوى، فهو أساس كلّ خير، وقد ظهرت حقيّته سبحانه على أفعاله وآثاره، حيث اشتملت على أعظم الحِكَم البالغة، وأتمّ السُّنن المطّردة التي تدلّ على وجوده سبحانه وصفاته العليا لسموّ معناه فيه عزّ وجلّ، فقد عبّر سبحانه عنه في موضع آخر بما يضاده. قال تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا»(1)، تقريباً للمعنى إلى الذهن.

وهذان الوصفان يثبتان وجوده سبحانه ووحدانيته وأحديّته؛ لأنّه خالق السماوات والأرض، وهما الأمران العظيمان بما يشتملان من الآثار والصنع والحِكَم والدقائق، التي لا يمكن العقول الإحاطة بها، فعظيم خلقها يشهد على عظمة خالقهما، واتّصافه بالأُلوهيّة العظمى، والربوبيّة التامّة، فمن تربيبه لخلقه أنّه تعالى جعل ما سواه قائماً بالحقّ، فكلّ ما يصدر عنه عزّ وجلّ إنّما يكون حقاً، فتكون هدايته سبحانه حقّة حقيقية، ومن شؤون هدايته أنّه لا يترك مخلوقاته سُدى، فهو عزّ وجلّ يرعاهم بهدايته، ويدبّر أُمورهم، فيجزى كلّ واحد من عباده بما يسعى، وهو يستدعي الرجوع إليه سبحانه، لأنّه خلقه بالحقّ، فذانك برهانان على المعاد والرجوع إلى المبدأ، وهما ركنا الإيمان وما سواهما يرجع إليهما.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ»

قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ».

بيان لأعظم مصاديق حقيته تعالى، فإنّه لا تخلّف بين المراد والإرادة التكوينيّة، وفيه من القدرة والقهارية وتربيب المهابة ما لا يخفى.

والواو للاستئناف، واختلفوا في إعراب الجملة المباركة.

فقيل: إنّ اليوم - والمراد به الحين - متعلّق بمحذوف خبر مقدّم، وقوله «قَوْلُهُ

ص: 513


1- سورة ص: الآية 27.

الحَقُّ» مبتدأ مؤخّر، وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت، أو للحصر.

ونفاه آخرون لعدم مناسبته.

وقيل: إنّ التقديم لأنّه الشايع في تقديم الخبر الظرفي.

وأشكل عليه بأنّ تقديم الخبر الظرفي إنّما يصح فيما إذا كان المبتدأ نكرة موصوفة أو غير موصوفة، أمّا إذا كان معرفة فلم يقل به أحدٌ. فقالوا بأنّ «قَوْلُهُ الحقّ» مبتدأ، وخبره (يوم) وهو ظرف لمضمون الجملة، والتقديم للاعتناء به من حيث إنّه مدار الحقّية.

ولكن عرفت مكرّراً أنّ الكتاب الكريم هو المعيار في صحة الأحكام النحوية، فما ورد فيه هو المعيار للصحيح من تلك الأحكام، وإن خالف ما ذكره علماء النحو أو إجماعهم.

وقيل غير ذلك من الوجوه الإعرابية، ولكنّها ليست بشيء، فالحقّ هو الوجه الأوّل، والاعتناءَ به من حيث إنّه مدار الحقّية.

كما إنّهم اختلفوا في المراد من الظرف (يوم):

فقيل: إنّه المراد به (الحين) كما عرفت آنفاً، وقيل إنّه يوم الحشر، وهو عطف على السماوات، ومفعول ل(خلق) مثله، أي وهو الذي خلق السماوات والأرض، وأوجد يوم الحشر والمعاد.

وعليه فإمّا أن يكون المراد من المقول له هو يوم الحشر، أو يكون التكوين إحياء الأموات للحشر.

والصحيح إنّه وقت الإيجاد والتكوين، فيكون المراد به إنّه لا مردّ لأمره التكويني ولا تخلّف حين كون الأشياء وإحداثها، ويدلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1)، ويكون المقول له هو يوم الحشر،

ص: 514


1- سورة يس: الآية 82.

فيكون المعنى يوم يقول ليوم القيامة كُن فيكون، ويترتّب على ما ذكر أُمور:

الأوّل: إثبات المعاد في الآخرة، وأنّ إيجاده كإيجاد السماوات والأرض وما فيهما في الدُّنيا، فهما سيّان في الخلق عنده سبحانه وتعالى.

الثاني: إنّ إثبات القدرة التكوينيّة في إيجاد يوم الآخرة على نحو لا يتخلّف المراد عن الإرادة فيها، وإنّما يكون دليلاً واضحاً على سعة علمه وكمال قدرته وقهاريته، وهو ممّا يوجب تسهيل الاعتقاد به، وتطمين نفوس المؤمنين، فإنّ المعاد والحشر والنشر ممّا يصعب الاعتقاد بها.

الثالث: إثبات الرجوع إليه عزّ وجلّ، الذي هو أحد ركني الإيمان بالمنظور القرآني، وهما الإيمان بالمبدأ والمعاد، وقد عرفت أن هذه السورة المباركة إنّما نزلت لإثبات هذين المبدأين المباركين بالبراهين والحجج القويمة، وفيه الردّ على اعتقاد المشركين وزيف مقالاتهم.

الرابع: إنّ إثبات الإرادة التكوينيّة في إيجاد يوم المعاد والرجوع إليه عزّ وجلّ، يستلزم تحققها في كلّ،مخلوق، لأنّ الاعتقاد بها في الغيب في ذلك المشهد العظيم يستلزم الاعتقاد بها في الخلق الأوّل والشهود بطريق أولى.

ما يتعلّق بقوله تعالی «قَوْلُهُ الحَقُّ»

قوله تعالى: «قَوْلُهُ الحَقُّ».

تعليلٌ لما سبق، والجملة من المبتدأ والخبر بيانٌ للوصف الثالث من الأوصاف المذكورة في هذه الآية المباركة، أى قوله حقّ بكل ما يتصوّر فيه من المعنى فلا مردّ له، مضافاً إلى أنّ قوله سبحانه فعله، ولا مبدّل لكلماته، وقد عرفت مظاهر كلماته المباركة فى جملة من الآيات، فقد وصف خلقه بالحقّ، وفعله بالحقّ، وهنا يثبت قوله الحقّ، فتكون جميع شؤونه حقّاً، فهو اللّه الحقّ بكلّ ما يتصوّر من معنى الحقّية في جميع العوالم والأدوار والأكوان، والآية الكريمة تثبت

ص: 515

بطلان ما يكون خلاف ذلك من الشرك وسائر عقائد المشركين.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّور»

إشارة

قوله تعالى: «وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّور».

حول ثبوت الملكية التامّة اللّه سبحانه وتعالى

وصفٌ رابع وهو ثبوت الملكية التامّة له سبحانه مطلقاً، لاسيّما في يوم لا ملك ولا مالك غيره ولو مجازا، كما قال عزّ وجلّ «يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللّه مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(1)، والاقتصار على ذلك اليوم مع أنّه سبحانه له الملك دائماً أبداً في جميع العوالم، لبيان العجز الذي عليها العباد وافتقارهم إليه عزّ وجلّ في يوم القيامة، ولإظهار تماميّة الملك عند ظهور انقطاع الأسباب وزوال الروابط، فلا تملك نفسٌ شيئاً، ولإثبات عجز من يدعونه من الأنداد، فلا يمكن أن يدّعيه أحدٌ غيره عزّ وجلّ.

حول النفخ فى يوم القيامه

وقد وصف سبحانه ذلك اليوم بأنّه يوم النفخ في الصور الذي هو الحقّ الثابت، كما أخبر به تعالى آنفاً، وذكره بالخصوص لتربيب المهابة، وإظهار كمال قدرته وتمامية سلطانه، وللإعلام بالحساب والجزاء.

والنفخ معروف، وقد وردت مادّة (نفخ) في القرآن الكريم في عشرين موضعاً؛ أكثرها في نفخ الصور في يوم القيامة، وفي نفخ الروح في النشأة الأولى، قال تعالى: «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(2). وإن كان الاختلاف بين النفخين أنّ في النشأة الأُولى نسبه سبحانه إلى نفسه بخلاف النفخ في الأُخرى.

والنفخ يوم القيامة يكون في موضعين:

أحدهما عند ارادته سبحانه صعق المخلوقات، كما قال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّه»(3).

ص: 516


1- سورة غافر: الآية 16.
2- سورة الحجر: الآية 29.
3- سورة الزمر: الآية 68.

والثاني: عند البعث والنشر للحساب والجزاء، قال تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»(1).

وقال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ»(2).

وقد ذكر الصور والنفخ فيه في جميع الكتب الإلهيّة، وأقرت به الأديان السماويّة من دون ذكر الخصوصيّات.

وأمّا الصور: فالمستفاد من مجموع ما ورد فيه أنّه سببٌ لنزع أو عود الصور والأرواح إلى الأجسام، ولعلّه من أجل ذلك سُمّي بالصور، ويشهد له ما ورد أنّ (الصور فيه صورة الناس كلّهم). أو تشبيهاً بالصور الذي ينفخ فيه لاجتماع أفراد العسكر لأمرٍ مهمّ، أو كونه مثله بما يناسب ذلك العالم، ويدلّ عليه قوله تعالى: «فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ»(3).

وذكره في المقام لإظهار قدرته التامّة في إفناء الخلائق وإعادتهم، والفصل بينهم والحكم التامّ عليهم، كما قال عزَّ من قائل: «فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).

والبحث في نفخ الصور يحتاج إلى بحث وتأمّل وتحقيق، يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

وكيف كان، فإن الآية الكريمة لا تبيّن أى واحد من النفخين، ولعلّ الإطلاق يشملهما لتربيب المهابة، وبيان عظيم القدرة لمن يملك ذلك اليوم، وفيها الإشارة إلى حضور المخلوقات لدى ساحة قدسه، وعدم غياب خصوصيّاتهم وشؤونهم عن

ص: 517


1- سورة الزمر: الآية 68.
2- سورة يس: الآية 51.
3- سورة المدثر: الآية 8.
4- سورة يس: الآية 54.

علمه الأتم، كما تشير إليه الآية التالية.

ما يتعلّق بقوله تعالی «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ»

قوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ».

وصفٌ خامس يبين إحاطته تعالى العلميّة، فلا تخفى عليه خافية، ويترتّب عليه حسن حساب عباده و جزائهم، فإنّ النشر والحشر والفصل والقضاء إنّما يتقوم بكون المالك لزمام أُمورهم عالماً بكلّ من الغيب والشهادة. وإنّما قدَّم الغيب لأنّ العلم به يستلزم العلم بالشهود، أو لأهمّية الأوّل بالنسبة إلى الثاني، أو لنفي اشتراك غيره عزّ وجلّ في هذا العلم، وقد تقدّم البحث في علم الغيب، فراجع.

ما يتعلّق بقوله تعالی «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»

قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».

وصفان آخران يتعلّقان بمضمون ما ورد في الآيات المباركة، وفيه التقرير أيضاً، فهو عزّ وجلّ بحكمته قد أتقن تدبير خلقه وتربيب شؤونهم، وقد وضع كلّ شيء في موضعه، فلا يحكم جزافاً، ولا يتصرّف ظلماً، وهو سبحانه أيضاً خبير بجمیع الأُمور دقائقها وخفاياها، فلا يفوته دقيقٌ لدقّته ولا جليلٌ لجلالته، وبهذين الوصفين قد أحاط بجميع خلقه إحاطة تامّة، وتمّت ملكيّته لهم، فتكون هدايته هي الهداية الحقيقية الحقّة، ودينه دين الحقّ والفطرة، وقد خلق ما سواه لغاية محكمة متقنة، وقد تعلّقت إرادته عزّ وجلّ برجوع الخلق إليه، وأنّ جميع شؤونه سبحانه حقّ لا مردّ له، وفى ذلك كله ردّ على مزاعم المشركين وبيان فساد عقائدهم، فلا إله سواه عزّ وجلّ.

وتبيّن الآيات الكريمة أهمّ أركان الإيمان وأصل الهداية وأساس الدِّين الحقّ، وهو إثبات الإله الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال، والمسلوب جميع النواقص، وبذلك استحقّ الأُلوهيّة العظمى والربوبيّة الكبرى، فكان عزّ وجلّ بذاته حقاً وجميع شؤونه حقاً بكلّ ما يتصوّر من معنى الحقّية، فكانت

ص: 518

الآيات الكريمة من أتمّ الحجج والبراهين الدالّة على ثبوت المبدأ والمعاد، وبطلان الشرك ومزأعمّ المشركين، فسوف يحشرون ويرجعون إليه عزّ وجلّ، ويحاسبون حساباً عسيراً.

***

ص: 519

بحوث المقام

بحث دلالي فيما تدلّ عليه الآيات الشريفة

بحث دلالی

تدلّ الآيات الشريفة على أُمور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا» على أنّ الهداية الحقّة إنّما هى الابتعاد عن الشرك واتّخاذ الأنداد، ولا تكون إلّا على عبادة الواحد الأحد، وغيرها زيف وضلال، وهي دين الفطرة،، ولعّله من أجل ذلك كان الاحتجاج في أسلوب الاستفهام الإنكاري الدالّ على الإستغراب والتعجّب.

وقد ذكر عزّ وجلّ من بين أوصاف الإله المعبود الدالّة على جلاله وجماله، خصوص القدرة مجاراةً لعقيدة المشركين، وعبادتهم لآلهتهم المبنية على أحد أمرين هما: الطمع والخوف، وذلك مبلغهم من العلم، كما قال عزّ وجلّ، بخلاف العبادة الحقّة، فإنّها إنّما تكون لأجل استحقاقه للأُلوهيّة المطلقة، وإنّه المعبود المطلق سبحانه وتعالى.

الثاني: إنّ هذه الآية الكريمة من أدلّة إثبات الفطرة التي تعتبر كل شيء خارج عنها مثاراً للعجب والإنكار، فما ذكره بعض المفسِّرين في تفسيرها إنّما هو خارج عن مدلولها، وربما يكون من التفسير بالرأى.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: «وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه»، أنّ الابتعاد عن الصراط المستقيم إنّما هو الضلال وردُّ على الأعقاب بعد الهداية الإلهيّة، فكان مثاراً للذمّ والاستنكار، ولعلّه لذلك جيء بالفعل مبنياً للمجهول لبيان أنّ مثل ذلك لم يقع من عاقل، فإنّه لا يختار الرجوع عن الهداية، وهذا

ص: 520

لا يختصّ بمن كان مسبوقاً بالشرك، فإنّ نفس تصوّر هذه الحالة وهي الرجوع عن الهداية والدخول في الضلالة، المسمّى بالردّ على الأعقاب والارتداد، يكفي في استنكاره العقول وتأباه الفطرة، ومنه يظهر فساد قول من احتّج بهذه الآية وأمثالها ممّا اشتمل على لفظ الردّ والعود، كقوله تعالى: «قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِ جَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّه كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّنَا»(1)، على أن الأنبياء كانوا قبل بعثتهم على الكفر، لدلالة لفظ الردّ والعود على انتحالهم له واعتقادهم به سابقاً.

وقد عرفت أنّ المراد من تلك الألفاظ بيان أنّ الردّ والعود ممّا لا يصدر من العاقل بعد معرفة الهداية والدخول فيها، فإنّ من شرح اللّه تعالى صدره للإسلام، وأنقذه اللّه من الضلالة، لا يستطيع أحد ردّه إليها، فلا دلالة فيه على كون المهتدي ممّن كان كافراً. وعلى فرض الدلالة إنّما هو بملاحظة المجموع من حيث المجموع، فلا يشمل الأنبياء أو من دخل في الإسلام في ابتداء بلوغه.

وبعبارة أُخرى: الموضوع في الآية من قبيل القضايا الحقيقيّة من دون النظر إلى الأفراد.

يضاف إلى ذلك أنّ أصل الشبهة فاسدة، لما عرفت مراراً من عصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها من كلّ معصية، كبائرها وصغائرها، فضلاً عن الشرك باللّه تعالى.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ» أسوأ الحالات التي يمكن أن يصل إليها الإنسان الذي لم تكن عنده عقيدة راسخة، ولا بصيرة ثابتة نافذة، قد فقد الثقة بنفسه، فليس له ملجأ يأوي إليه

ص: 521


1- سورة الأعراف الآية 88- 89.

ولا موطأ قدم يعتمد عليه، فصار مطمع الشيطان ومبتغاه، يتصرّف فيه بالغواية والضلالة.

وإنّما يتخلّص منه بأحد أمرين ذَكَرتهما الآية الكريمة:

إمّا الرجوع إلى الهدى وتثبيت العقيدة وترسيخها في النفس.

أو الرجوع إلى اصحابه المؤمنين لرفع حيرته واضطرابه بأخذ نصائحهم وإرشاداتهم.

وبدونهما ضاع في بحر الخيال وظلمات التصوّرات، فليس له ما يمكن الاعتماد عليه لدفع همزات الشياطين ووساوسها.

وتشتمل الآيات الكريمة على أُمور جليلة نافعة لدفع مكائد الشيطان وإضلاله وحيرة الإنسان واضطرابه، وهى

منها: الدخول فى هدى اللّه تعالى فإنّه وحده الذي يجب الاعتقاد به والعمل بأحكامه، لأنّه الجامع للفضائل والكمالات، والمانع عن السلوب والنواقص، فلا سبيل للشيطان مع وجوده، كما قال تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ»(1). فلا نجاة إلّا التمسّك بهدى اللّه تعالى.

ومنها: التسليم لربّ العالمين الذي لا مؤثِّر في الوجود غيره سبحانه، وهو الربّ الذي يرعى شؤونه، فلا يخاف غيره، ومعه لا يقدر الشيطان أن يؤثّر فيه أو يتأثّر به، كيف وقد دخل في مرتبةٍ من مراتب اليقين الذي هو أعلى درجة من الإيمان، وهو أعلى درجة من الإسلام.

ومنها: إقامة الصلاة بحفظها مع اللّه بالإسرار، فإنّها مجمع الكمالات الروحية، وتقدّم في التفسير، فراجع.

ص: 522


1- سورة الزمر: الآية 37.

ومنها: التقوى التى بها تظهر حقيقة الفرد المسلم المطيع، فتبيّن مقدار تأثّره بالتكاليف الإلهيّة، فلا شغل له إلّا طاعة اللّه سبحانه، وهي أساس الكمالات الخلقية والأخلاق الفاضلة، فتكون له واقية عن جميع النواقص التي يكون مصدرها الشيطان.

وهي أُمور مهمة لتثبيت حقيقة عبودية الفرد لخالقه المعبود، وبها تتحقّق أركان إيمانه، وتكون النفس معها مطمئنة ثابتة بعد أن كانت متردّدة مضطربة، فلا تتأثر بإغواء الشيطان ومكائده.

بحث حول الهداية الحقّة

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى»، أنّ الهداية الحقّة الحقيقية الجامعة المانعة، إنّما تكون فى هدى اللّه سبحانه، وما عداه ضلال صرف. وقد اتّصفت بهذه الصفة لوجوه عديدة:

منها: موافقة هدى اللّه للفطرة، فلا شك يعتريه حينئذٍ.

ومنها: مطابقته للواقع، ولا واقع إلّا اللّه وشؤونه، فلا يعدوه هداه.

ومنها: إنّه الهدى الحقيقي الذي يجب الاعتقاد به والالتزام به عملاً دون دعوة الشيطان.

ومنها يلبّي جميع حاجات الإنسان المادّية والروحية، الدنيوية والأخروية.

ومنها: إنّه يمنع تردّي الإنسان في الانحراف والضلالة.

ومن أجل ذلك وغيره كان مثل هذا الهدى منحصراً باللّه تعالى، لأنّه ينطق عن صنع اللّه وإيجاده، ويحكي عن غناه تعالى وافتقار خلقه إليه، ويرشدهم أنّه مرجعهم، كما كان مبدأهم، فما أعظم من هدى!!

السادس: يستفاد من قوله تعالى: «وَأُمِرْنَا لِمُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»، أنّ الأمر بالتسليم له عزّ وجلّ إنّما هو العلّة في الدخول في هُدى اللّه تعالى، وقبول طاعته

ص: 523

عزّ وجلّ بامتثاله، وهو أيضاً الغاية من قبول الهدى، فاجتمعت العلّتان الفاعلية والغائية في التسليم اللّه تعالى، وهو يدلّ على عظيم شأنه، وأصبح أحد أركان اليقين. والتسليم اللّه تعالى إنّما يتحقّق بالانقياد التامّ له عزّ وجلّ، وإطاعته والخضوع لإرادته تعالى، ليكون مظهراً من مظاهر العبودية لربّ العالمين، وفيه يتجلّى سموّ الروح والذّات، حيث يُسلّم المخلوق أمره لخالقه، الربّ الذي يرعى شؤونه، وفيه الإنكار لما يعتقده المشركون في شركائهم الذي هو عين الضلال.

السابع: يدلّ قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ» على أنّ التسليم لرب العالمين ليس مجرّد اعتقاد، بل هو عقيدة وعمل، فلابدّ من الطاعة والتقوى وأهم رموزها الصلوة، كما عرفت، وإقامتها ممّا يجعل الفرد المهتدي مستعدّاً لتلقّي الفيض الربوبي.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» على أنّ جميع ما ورد في الآية الكريمة من الأمر بالدخول في هدى اللّه، والتسليم له سبحانه، وإطاعته بإقامة الصلاة والتقوى، إنّما هو لأجل أن يكون مستعدّاً للحشر إليه ثمّ الحساب والجزاء، وأنّ ذلك من شؤون ربوبيّته العظمى، وأن الاهتداء بذلك يتحقّق بالتسليم لربّ العالمين، كما أنّ منه يظهر السر في التأكيد على ذكر اسم الرب.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» على أنّ رب العالمين الذي كان من شؤون ربوبيّته العظمى هداية العباد، والأمر بالتسليم له، وإنّ الحشر إليه، لابدّ أن يكون متّصفاً بصفات تدلّ على كونه الإله الذي استحقّ الأُلوهيّة العظمى، فوجب بحكم العقل طاعته، وقد ذكر في آية المقام تلك الصفات التي تدلّ على كونه ربّ العالمين، وأنّه الإله الواحد الأحد، فكان هو المبدأ والمنتهى، وإنّها تدلّ على كونه حقّاً، بكلّ معنى الكلمة، فكانت آيات متتالية تامّة في الدلالة، يرتبط بعضها مع البعض، وكلّها حجج وبراهين تدلّ على ألوهيته

ص: 524

العظمى ووحدانيته الكبرى، ونفي ما عداه، وبطلان مزأعمّ الكَفَرة المشركين.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: «بِالحقّ» على أنّ الخلق لا يمكن أن يصدر بغير الحقّ، فإنّ من كان موصوفاً بتلك الصفات العليا، وموسوماً بتلك الأسماء الحسنى، وكان الحقّ،وصفه، فإنّه يستحيل أن يكون الخلق الصادر منه بغير الحقّ، ولعلّه من أجل ذلك ذكر بعضهم من أن خلقه فعله وإيجاده.

والحقّ له مظاهر متعدّدة، ومراتب سامية، وقد اجتمعت كلّها في اللّه تعالى وشؤونه المختصّة به، فهو عزّ وجلّ الحقّ ومنه يصدر الحقّ وإليه ينتهي الحقّ، وقد بيّن عزّ وجلّ أن قوله حقّ وفعله حقّ وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال، وأمّا معنى الحقّ فقد يراد منه الثبوت أو ما يقابل الباطل، أو غير ذلك ممّا ذكروه، وفيه تبارك وتعالى يكون الحقّ غايته ومنتهاه كسائر صفاته المقدّسة.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحقّ» على أن إرادة اللّه التكوينيّة اجتمعت فيها مظاهر العظمة والكبرياء، والقدرة التامّة والحكمة المتعالية، فصارت حقّاً ثابتاً لا يعتريه البطلان والفساد والنقص، وقد اختصّ يوم القيامة بمزيد اهتمام، فصار قوله فعله لا تخلّف بين الإرادة والمراد، فكان خلق يوم القيامة إنّما هو خلق إيجاد وتكوين من دون مادّة ومدّة، ولأجل ذلك كان الاعتقاد بذلك اليوم الأثر الكبير في اهتمام الفرد بالطاعة، وتثبيت الإيمان في النفس، وردعها عن المعصية والطغيان، كما أنّ ظلال ذلك اليوم يفسد عيش الكافرين الملحدين، وينغّص عليهم حياتهم وإن لم يؤمنوا به، فإنّ الحشر إلى اللّه تعالى والرجوع إليه أمر فطري، ولعلّه لأجل ذلك صار حقّاً ثابتاً لا يستطيع أحد إنكاره، وربما يكون ذكره في المقام للإعلام بأنّ الإرادة في ذلك اليوم لا تخلّف فيها، كما أنّه كذلك في دار الدُّنيا، فلابدّ من التسليم لأمره التكليفي بلا حرج في النفس ولا ضيق، لأنّه تعالى حقّ وإرادته مطلقاً حقّة.

ص: 525

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ» الحضور العام الذي يناسب ذيل الآية السابقة الذي دلّ على أنّ الحشر إليه، فالحشر إخراج الناس ونشرهم للحساب، والصور هو مظهر إحضارهم وسوقهم.

والآية الكريمة بأسلوبها البليغ، ومضامينها العالية، واشتمالها على الإشارات الرفيعة، تدلّ على تلازم المبدأ والمعاد، واتّصاف المبدأ بصفات استحقّ بها أن يكون الإله الواحد الأحد، فكان ربّ العالمين الذي يكون هداه هو الهدى وأنّه أُمرنا بالتسليم له، لأنّه ربّنا الذي يرعى شؤوننا، فلا محيص عن طاعته والتقرّب إليه بالصلاة، والابتعاد عمّا يوجب سخطه، وكلّ ذلك حجج دامغة لمَن حاد عن جادّة الصواب، وابتعد عن الصراط الذي يقرّبنا إليه، وأنّ الجميع سوف يحشرون إليه للحساب ونيل الجزاء، وقد ظهر من جميع ذلك بطلان اعتقاد المشركين.

***

بحث روائي حول الروايات الواردة في ذيل الآيات الشريفة

بحث روائي:

في «تفسير البرهان» عن ابن بابويه بإسناده عن ثعلبة بن ميمون، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه عزّ وجلّ: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ»، فقال: «عالم الغيب مالم يكن، والشهادة ما قد كان».

أقول: تقدّم سابقاً تفسير الغيب والشهادة، والخبر يبيّن بعض مصاديقهما، وهو الأقرب إلى الأذهان.

وأمّا الروايات التي وردت في الصور والنفخ فيه، فسيأتي ذكرها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

***

بحث عرفاني حول القواعد الثابتة التى ترشد الانسان الى الاستكمال.

بحث عرفاني:

ص: 526

الآيات الكريمة تشتمل على قواعد ثابتة ترشد الإنسان الذي يريد الاستكمال، ويجاهد في التقرب إلى اللّه تعالى، ويكافح للوصول إلى الحقّ المنشود، فلابدّ من مراعاتها في سيره وسلوكه، كما أنّها تبيِّن الأُسس التي ينبغي الاعتماد عليها حتّى يقربه إلى مقصوده، وتتضمّن من الإرشادات والتوجيهات لتثبيت العقيدة وزيادة العزيمة، فلا سبيل غير ما ورد في الآيات الكريمة، ولا سلوك إلّا طريق القرآن الكريم، ولا عرفان إلا بالسير على نهج الآيات الشريفة، واتّباع ما شرّعه اللّه العظيم، فإنّه الصراط المستقيم الذى أُمرنا باتّباعه، وهو الحقّ الذي يجب الإذعان له والتمسّك بعروته. ومضمون هذه الآيات ورد في مواضع متفرِّقة من القرآن الكريم، ولعظمة ما ورد فيها فقد ورد لفظ الحقّ مرّتين، ولا ريب أنّه الهدف الرئيس الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، ولكن الحقّ ينكره، بل إنّ أكثرهم للحقّ كارهون، فعلى الفَهِم البصير أن يستفيد ممّا ورد في هذه الآيات من رموز وإشارات وإيقاظات، التي ترتبط بالعقيدة والإيمان، والعمل والسير والسلوك والجهاد مع النفس الأمارة.

وأوّل ما ذكّر به سبحانه وتعالى المؤمنين، هو نبذ الشرك، وترك عبادة من ليس له الأهليّة لها، ولا قدرة له على شيء أبداً، بلّ إن نفى القدرة المطلقة يدلّ على نفي وجوده في هذا المقام، فتكون الآلهة المدعاة مجرد وهم وخيال يتخيّله المشرك.

والشرك إمّا باتّخاذ الأوثان والأصنام، أو بإتّباع الهوى، كما قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(1). وفى تقديم نبذ الشرك الدلالة على كون الشرك أُمّ

ص: 527


1- سورة الفرقان: الآية 43.

الرذائل الذي لا يصدر منه إلا الشر والفساد، ولا ينبت معه أيّة فضيلة ومكرمة، والمانع عن كلّ خير، وهو الظلم العظيم، فهو ظلم فردي ونوعي، وظلم على النفس وعلى الغير، وهو ظلم على الخالق والمخلوق، فما أعظمه من رذيلة!!.

وقد بيَّن سبحانه من عظيم الآثار المترتّبة على الشرك، أنّ الرجوع إليه إنّما يكون من الردّ على الأعقاب ويعني به التخلّي عن كل الفضائل والمكارم، بل هو ردّ لكلّ شيء حَسَن جميل، ويتمثل المشى على الأعقاب في ترك الاستقامة في العقيدة، ونبذ الاستواء في المشاعر والأحاسيس، ويكفي في مبغوضية الشرك أنّه يترتّب عليه هذا الأثر الشديد الذي يسلب استواء الإنسان واستقامته، الذين هما الجناحان يطير بهما المجاهد في سماء المكارم واكتساب الفضائل، ولا ريب أنّ السالك يحتاج إليهما في سيره وسلوكه، وإلّا كان جهاده ضياعاً، ومسعاه يباباً.

وصريح الآية الكريمة أنّ الإعراض عن هداية اللّه سبحانه، يوجب الردّ على الأعقاب، ومعناه سلب الكمالات، وأهمّها البصيرة في الأُمور وفقد التبصّر في عواقبها، ومقتضى المقابلة بين هداية اللّه عزّ وجلّ التي هي منبع الكمالات وأسّ الفضائل وأساسها، فيكون الارتداد عنها هو الرجوع إلى المفاسد والشرور، وسلب القابليات، وهو مرفوض بفطرة العقول.

ثمّ بيَّن عزّ وجلّ أنّ الذي يرجع عن هُدى اللّه سبحانه، يكون مورد إغواء الشيطان، فيستهويه ويتصرّف فيه، كما يسلب منه الفكر الصائب، ويضعف همّته، فلم تستقرّ له حالة، ويقع في صراع مرير بين ما أودع فيه من الفطرة والعقل، وأصحاب له يدعونه إلى الإيمان، وبين حالة الشكّ والتردّد، وضعف العزيمة والهمّة التي جلبتها الردّة والرجوع عن الهداية فيضَلُّ حيران قد فقد الاستقرار والطمأنينة التي كان يجلبها له الهدى الذي يدعو إليه العقل والقوى النظرية، وهما ممّا يحتاج إليهما الإنسان في جهاده مع النفس وقوى الشرّ، التي تدعوانه إلى الرذيلة، كما أنّ الأصحاب المؤمنين الذين يرجون الخير لمَن يصحبهم ويدعونه

ص: 528

إلى الصراط السوي، وهو طريق الحقّ الذي لا حيرة فيه ولا اضطراب، ويحتاج إليهم السالك في معرفة الصواب، إذ الحيرة والاضطراب قد يحدثان للمؤمن في صراعه المرير مع النفس الأمارة والدُّنيا والشيطان الذي يريد الإغواء، وإن كان العقل والقوى النظرية لهما الدور الكبير في استقراره.

وربما يحدث هذا التردّد والحيرة عند اضطراب القوى وتعارضها في النفس، إلّا إذا وصل في الإيمان إلى درجة اليقين الذي هو الحدّ الفاصل بين القوى المتصارعة، ويرشد إليه ما ورد من أنّ اليقين أعلى درجة من الإيمان. والسالك في جهاده وسيره وسلوكه يطلب اليقين في مسعاه، ليزيل به كلّ حيرة واضطراب وتردّد، كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(1)، والسالك يحتاج إلى خُطى ثابتة، ونفس مستقرّة، ليتمكّن من تحصيل المقامات

العالية. فالآية تبيِّن فضل الأصحاب المؤمنين وتأثيرهم في الصاحب.

ثمّ إنّ الآية الكريمة تستطرد بعد ذكر الموانع والعوائق التي ترد الإنسان إلى أسفل سافلين، والتي يجب التخلّي عنها، والابتعاد منها، حتّى يؤثّر المقتضيات ويستفيد منها السالك، وهي كما ورد في الآية الكريمة.

التمسك بهدي اللّه تعالى «قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى»، فإنّه طريق التوحيد ومجمع الكمالات، وهو الجامع للفضائل والمانع عن الرذائل، وهو طاعة اللّه تعالى، والعمل به، وهو الذي يوجب القُرب إلى اللّه عزّ وجلّ، ولعلّه لأجل ذلك حصرت الآية الهداية في هدى اللّه سبحانه، دون غيره الذي هو الضلال، والمراد بهدى اللّه تعالى تعاليمه وتشريعاته وإرشاداته ونصائحه سبحانه، ولكن الدخول في هدي اللّه تعالى يحتاج إلى استعداد وقابليّة، فلابدّ من التسليم لربّ العالمين الذي خلق العالم برحمته، وأعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، وقد خلق كلّ فرد

ص: 529


1- سورة البقرة: الآية 260.

وجعل له استعداداً خاصّاً لتلقي الواردات الإلهيّة، والتسليم لربّ العالمين هو الشرط. فيكون التسليم اللّه تعالى خلقاً كريماً ومن أهمّ شروط الإيمان، وهو لا يتحقّق ولا يمكن كسبه إلّا بمحو الصفات، وله الأهمّية الكبرى في العبودية للخالق العظيم، ومن عظيم أمره أنّه قد اجتمعت فيه العلّة الفاعلية والغائية.

والتسليم اللّه تعالى له مراتب متعدّدة، أقصاها محو الصفات، فلا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه عزّ وجلّ، وأهمّ مجاليها العبودية الحقّة، فتتجلّى هداية اللّه الحقّة الحقيقية. ومن أبرز مظاهر التسليم إقامة الصلاة التي هي الحضور، ولما فيها من الأثر الكبير في تهذيب النفس، الذي هو أساس التقوى المأمور بها، لكونها مجمع الكمالات، وهي الغاية من الجهاد. ففي التسليم تظهر العبودية، وفي الصلاة يكون الحضور، وفي التقوى الطاعة الكاملة، فيكون فرداً ربّانياً يصل إلى حدّ أن يجعل اللّه تعالى له وقاية بالتخلّص عن وجوده، فلا يكون إلّا هو عزّ وجلّ، وهو غاية التوحيد الحقيقي.

ومما ذكرنا يظهر الوجه في ارتباط قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» فإنّه إشارة إلى فناء الذّات والصفات.

ثمّ بين عزّ وجلّ بعض الصفات التي تدلّ على سموّ ذاته المقدّسة، وعلوّ صفاته وأفعاله وأقواله الكريمة، ممّا تشهد على كونه تعالى حقّاً في جميع شؤونه، فمن دخل فى هداه كان مظهراً من مظاهر حقيته، فيكون فرداً حقانياً، وسيظهر حقيقته في يوم ظهور الحقائق في أتمّ صورة، يوم حضور العباد عند خالقهم الذي أفاض بحكمته على القوابل حسب القابليّات بخبرة تامّة، انعكست آثارها على مخلوقاته، نسأل اللّه تعالى أن يُلهمنا إصلاح أنفسنا، ويرشدنا إلى ما يوجب القرب لديه، ويرزقنا التسليم لوجهه الكريم.

***

ص: 530

الفهرس

« الفهرس »

سورة الأنعام الآية 1 - 3

ما يتعلّق بسورة الأنعام من حيث المضمون العام...5

ما يتعلّق بقوله تعالى: الحمد للّه...7

حقيقة حمده عزّ وجلّ...8

أركان الحمد...9

المراد من قوله تعالى «الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض»...9

المراد من قوله تعالى «وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُّورِ»...11

المراد من قوله تعالى «يَعْدِلُونَ»...14

المراد من قوله تعالى «هَوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِيْنٍ...» إلى آخر الآية...15

الفرق بين الأجل المقضى والأجل المسمّى...17

الوجوه العديدة التي اوجبت الجمع بين الأجلين...19

آراء العلماء والمفسّرين في الأجلين...21

ما يتعلّق بمادّة مري...22

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهَوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض»

بحوث المقام

فضل سورة الأنعام...28

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات المباركة...30

بحث روائي وفيه ذكر الروايات التي وردت في تفسير الآيات...37

بحث فلسفي وفيه ما يتعلّق بقاعدة السنخية وأصالة الوجود وما يتعلّق بالأجلين المذكورين في الآية...42

ص: 531

الفرق بين الأجلين...46

سورة الأنعام الآية 4 - 11

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَمَا يَأْتِيْهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيُاتِ رَبِّهِمْ»...48

المراد من الانباء...50

ما يتعلّق بمادّة قرن..52

ما يتعلّق بمادّة مكن...53

اقتراحات المشتركين وما يتعلّق بها...57

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكَاً لجعناه رَجُلاً»...65

ما يتعلّق بمادّة لبس...67

موارد البس على الغير...69

آراء المفسّرين في قوله تعالى: «ولَلَبِسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ»...71

وجه الحكمة في عدم جعل الرسول ملكاً...72

الفرق بين الاستهزاء والسخرية...74

ما يتعلّق بقوله تعالى: «سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا»...75

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق باعراب بعض الآيات الكريمة...77

بحث دلالي وفيه ما يتعلّق بالآيات الكريمة...80

بحث روائي وفيه ذكر ما ورد من الاحاديث المذكورة في المقام...87

بحث عرفاني يتعلّق ببيان بعض العقبات المهمّة في طريق السالكين...88

سورة الأنعام الآية 12 - 18

اشتمال قوله تعالى «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» على برهان المعاد...91

ما يتعلّق بقوله تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةِ»...93

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»...95

ص: 532

ما يتعلّق بلفظي «السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»...100

ما يشير إليه قوله تعالى «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ اتَّخِذُوا وَلِيَّاً»...102

شرح برهان انحصار العبادة باللّه تعالى...104

ما يتعلّق بمادّة «فطر»...106

ما يتعلّق بقوله «قُلْ إِنِّي أخَافُ أَن عَصَيت»...108

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ»...112

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بإعراب الآيات الكريمة...115

بحث دلالي وفيه ما يتعلّق بالآيات الشريفة...117

بحث روائي وفيه ذكر الاحاديث التي وردت في تفسير الآيات....125

بحث كلامي وفيه بيان دلائل التوحيد والبراهين عليه وامتيازها عن غيرها...126

يبحث عرفاني وفيه البحث عن التوحيد العملي...131

سورة الأنعام الآية 19 - 24

ما يتعلّق بمفهوم الشيء...135

ما يتعلّق بقوله تعالى «لِأُنذِرَكُمْ بِهِ»...139

ما يستفاد من قوله تعالى «وَمَنْ بَلَغَ»...140

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبَاً»...146

تفسير قوله تعالى «إِنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»...149

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا یَفْتَرُونَ»...156

بحوث المقام

بحث أدبى ما يتعلّق باعراب الآيات الكريمة...160

بحث دلالي وفيهما ما يتعلّق بالآيات الشريفة...164

بحث روائي وفيه ذكر ما ورد من الروايات...169

ص: 533

بحث عرفاني وفيه البحث عن رذيلة الشرك...172

سورة الأنعام الآية 25 - 32

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرَأ»...176

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ»...180

ما يستفاد من قوله تعالى «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ»...181

ما يتعلّق بقوله تعالى «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ»...184

ما يتعلّق بقوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه»...191

ما يتعلّق بالسّاعة...192

الفرق بين اللّعب واللّهو...199

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بالجهات الأدبية للآيات الكريمة...201

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات الشريفة...208

بحث روائي وفيه ذكر الروايات الواردة في تفسير الآيات...215

بحث قرآني وفيه بيان بعض الحقائق الواقعيّة التي كشف عنها القرآن...219

سورة الأنعام الآية 32 - 36

ما يستفاد من قوله تعالى «وقَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ»...225

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ»...229

ما يتعلّق بقوله تعالى «أَوْ سُلّماً فِي السَّمَاءِ»...233

ما يستفاد من قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى»...235

ما يتعلّق بقوله تعالى «فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ»...238

ما يتعلّق بالاستجابة...240

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بإعراب الآيات الشريفة...244

ص: 534

بحث دلالي وفيه يستفاد من الآيات الشريفة...246

بحث روائي وفيه بعض الاحاديث الواردة في تفسير الآيات...249

بحث علمي وفيه علاج بعض ما يطرأ على النفس ممّا يوجب سلب استقرارها..... 251

سورة الأنعام الآية 37 - 45

ما يستفاد من قوله تعالى «قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةٌ»...257

ما يدلّ عليه كلمتی «نَزّلَ ويُنَزّلُ»...258

المستفاد من الآيات التي تبين اقتراحاتهم...259

ما تدلّ عليه آية « وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ»...260

الوجوه المتصوّرة في المماثلة...262

أقسام المقاصد التي يسعى إليها الحيوان والإنسان...265

وجوه الاستدلّال على تماثل الحيوان والإنسان...266

ما يتعلّق بقوله تعالى «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء»...272

ما يتعلّق بقوله تعالى «ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»...274

ما يتعلّق بكلمة «أَرَأَيْتُكُمْ»...280

الفرق بين البأساء والضرّاء...284

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق بالجهات الأدبية للآيات الشريفة...291

بحث دلالي ما تدلّ عليه الآيات الكريمة...295

بحث روائي وفيه بعض الروايات التي وردت في تفسير الآيات الشريفة...306

ما يتعلّق بالقضاء والقدر...309

بحث عرفاني وفيه بعض الإشارات إلى أهل السير والسلوك...311

سورة الأنعام الآية 46 - 55

ما تدلّ عليه قوله تعالى «مِنْ إِلَهٍ غَيْرَ اللّهِ يَأْتِيَكُم بِهِ»...321

ص: 535

المراد من بغتةً...324

ما يستفاد من قوله تعالى «لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ»...328

المراد من الغيب...330

ما يدلّ عليه قوله تعالى «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ»...338

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيَ»...345

المراد من الوجه...343

ما يتعلّق بقوله تعالى «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء»...345

ما يتعلّق بقوله تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةِ»...352

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه بعض وجوه الإعراب...357

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآيات الكريمة...359

بحث روائي وفيه بعض الاحاديث الواردة في تفسير الآيات الشريفة...367

بحث عرفاني وفيه بعض الرموز والمشارق والمقامات التي تزيد في همّة العارفين... 371

سورة الأنعام الآية 56 - 58

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَكَذَّبْتُمْ بِهِمَا»...378

ما يتعلّق بمادّة حَكَم...380

ما يتعلّق بقوله تعالى «يَقُصُّ الحقّ»...383

ما يتعلّق بقوله تعالى «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»...385

بحوث المقام

بحث دلالي وفيه ما يستفاد من الآية الكريمة...389

بحث كلامي وفيه عن بعض الصفات الإلهيّة كالحكم وقص الحقّ وفصله...391

المقام الثاني ما يستفاد من قوله تعالى «وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»...399

الأقوال في أفعاله المقدّسة...401

ص: 536

الأقوال في أفعاله تعالى وأفعال العباد...404

بحث عرفاني وفيه ما يتعلّق باصلاح النفس ...405

سورة الانعام، الآية 59-62

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ»...408

ما يتعلّق بالغيب وأقسامه...412

في العراد من الحَفَظَه...421

بحوث المقام

بحث أدبي وفيه ما يتعلّق باعراب بعض الآيات الكريمة...426

بحث دلالي في ما تدلّ عليه الآيات الكريمة...428

بحث روائي في الروايات الواردة في تفسير الآيات...436

بحث عرفاني عن الآيات التى فيها اشارات عرفانية...438

سورة الانعام، الآية 62 - 67

المراد فى ظلمات البر والبحر...441

المراد من البعث...445

المراد من قوله تعالى: «مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُم»...446

اقوال المفسّرين حول العذاب...449

بحوث المقام

بحث دلالي حول الآيات الشريفة المذكورة...455

بحث روائي عن الروايات الواردة في تفسير الآيات...462

بحث عرفاني حول الحُجُب الظلمانية والغواشي المانعة...467

سورة الأنعام، الآية 68 - 70

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا»...471

في المراد من اللّهو واللّعب...478

ص: 537

ما يتعلّق بقوله تعالى «لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ»...481

بحوث المقام

بحث ادبی حول الآيات المذكورة...483

بحث دلالي في ما تدلّ عليه الآيات الكريمة...485

بحث روائى عن الروايات الواردة في تفسير الآيات...490

بحث کلامی حول سهو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)...493

بحث عرفاني حول أخسّ الصفات وأرذلها...495

بحث فقهى حول جملة من الاحكام الشرعيّة...500

سورة الانعام، الآية 71 - 73

ما ورد حول الاعقاب...504

حول ما تستبع ارتكاب المحرمات واتيان قبائح الأعمال...506

حول التسليم لرب العالمين...509

ما يتعلّق بقوله تعالى: «وَأَنْ اَقِيمُوا الصَّلَاة وَاتَّقُوهُ»...510

بيان ما يتعلّق باوصاف اللّه تعالى...512

حول ثبوت الملكية التامّة اللّه سبحانه وتعالى...516

حول النفخ فى يوم القيامه....516

بحوث المقام

بحث دلالي فيما تدلّ عليه الآيات الشريفة...520

بحث حول الهداية الحقّة...523

بحث روائي حول الروايات الواردة في ذيل الآيات الشريفة...526

بحث عرفاني حول القواعد الثابتة التى ترشد الانسان الى الاستكمال...527

الفهرس...531

ص: 538

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.