مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 11

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة المائدة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7) تعتبر الآيتان الشريفتان من الآيات التربويّة التهذيبيّة، التي تهتم بالجانب المعنوي من الإنسان أكثر من الجانب المادي الذي سبق الاهتمام به في الآيات السابقة، حيث ذكر سبحانه و تعالى فيها ما يتعلّق بلذائذ الطعام، و طيّبات الأكل، و ملذّة النكاح و غيرها.

و خصّ تبارك و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين الصلاة بالذكر؛ لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها، و تعدّ بحقّ من أعظم الروابط الخلقيّة مع خالقهم و أكبر الطاعات.

و لا ريب أنّ الصلاة لها من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم تكن في غيرها من الطاعات، فذكر في الآية الأولى أعظم مقدّمة من مقدّماتها و شرطا عظيما من شروطها، و هي الطهارة - الحاصلة من الوضوء و الغسل و التيمّم - التي

ص: 5

تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و يحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة، فهي حسن على كلّ حال، كما ورد في الحديث، و لأهمّيّتها فقد ذكر عزّ و جلّ حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا، فقال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: 43]، إلاّ أنّ آية المقام أوضح أسلوبا و أبين حكما، حيث ذكر مواضع الطهارة و طريقتها و موجباتها و الغاية منها و شروطها.

ثمّ بيّن سبحانه و تعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام و التكاليف هو تطهير النفوس - من درن الرذائل و الآثام - و الأبدان من أنواع الخبائث و الأدناس. و لم يرد سبحانه و تعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج و المشقّة، فإنّه تعالى أعظم و أكبر من ذلك، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم و يخفّف عنهم.

و أخيرا صرّح عزّ و جلّ أنّ تلك التكاليف و التشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزّ و جلّ العهد عليها من المؤمنين بالسمع و الطاعة، فيجب عليهم الوفاء بها و تنفيذها و مراقبته تعالى بالتقوى و الشكر على تلك النّعم الإلهيّة.

و بذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله، و هو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا و عمليّا، و تربيته بالتربية الإلهيّة، و إرشاده إلى الكمال الواقعي و السعادة الحقيقيّة.

و يرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة، و إشارات عرفانيّة، و حقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها اللّه تعالى عليهم.

ص: 6

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي، و ذكرنا أنّه يشتمل على جملة من العهود و الالتزامات و التوجيهات و الإرشادات، و يكفي في عظمته أنّه تعالى يخاطب أحبّ عباده إليه، و يورده متى ما أراد تشريع حكم و بيان إرشاد أو توجيه ربوبي.

قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ .

بيان لشرطيّة الطهارة للصلاة، و إرشاد إلى أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة، و تأكيد لحفظ شرعيّة الوضوء و حفظ صورته بالقيام بما ورد في الشريعة من الأحكام و الآداب فيه.

و تقدّم الكلام في مادة (قوم) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ [سورة البقرة، الآية: 3] و اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من القيام في المقام، و لكنّ الظاهر المنساق من الآية الكريمة أنّ المراد منه هو إرادة الصلاة بالتهيؤ إليها، فإنّه قد يعبّر بالفعل و يراد منه إحدى المقدّمات القريبة منه، كما أنّ العكس أيضا صحيح، إما لعلاقة الملازمة و السببية، أو لعلاقة الأوّل و المشارفة، أو لشدّة الارتباط بينهما، و قد ورد كلاهما في الاستعمالات الصحيحة و كلمات الفصحاء، ففي القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ [سورة النساء، الآية: 102]، حيث استعمل الفعل و هو القيام و أريد منه المقدّمات القريبة الملازمة للقيام للصلاة، أي: إذا أردت و أقمت لهم الصلاة، و قال تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 20]، أي: إذا طلّقتم زوجا و جئتم بأخرى.

و في المقام يراد من القيام إرادة الصلاة، فليس المراد منه القيام مقابل الجلوس الذي هو فعل من أفعال الصلاة؛ لأنّه قيام للصلاة كالركوع و السجود، لا

ص: 7

قيام إلى الصلاة، و يدلّ على ما ذكرنا سياق التعبير في الآية المباركة إِلَى اَلصَّلاةِ و موقعه العملي؛ لأنّها عمل و كلّ عمل لا يتحقّق إلاّ بالإرادة. و بعض الروايات، في تفسير العياشي: «عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ قلت:

ما عنى بها؟ قال عليه السّلام: من النوم». و مثلها غيرها، فإنّها تدلّ على أنّ المراد هو القيام التهيؤي للصلاة بالخروج عن الأحداث الموجبة للطهارة، و ذكر النوم إنّما هو من باب المثال، فتكون هذه الروايات مخصصة لعموم الآية الشريفة الدال على وجوب الوضوء لكلّ صلاة، فإنّها تختصّ بالمحدثين من المكلّفين، و أما غيرهم فيستحبّ لهم الوضوء لما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، و لما يستفاد من ذيل الآية الشريفة من أنّ الغرض من تشريع الطهارات هو تطهير النفوس و الأبدان، و هو حسن على كلّ حال، و سيأتي في البحث الفقهي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .

تفصيل لأعمال الوضوء بتعيين مواضعه حسب الترتيب، و هي غسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين.

و الغسل (بالفتح) إمرار الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ و غيره و تنظيفه منه، و إطلاقه من دون تحديده بأمر يقتضي الأخذ بما يجري عليه العرف في الغسل بالماء على النحو الذي لا يؤتى به لإزالة الوسخ و الدرن، لاحتياجه إلى كثرة إفاضة الماء و استيلائه على الوجه، بل يكفي فيه ما يحصل به غسل ما هو نقي عن الوسخ و الحاجب للماء عن البشرة.

و لا ريب في أنّ العرف و العادة في مثل ذلك يقضي بإمرار الماء باليد اليمنى - المعدّة للأعمال المحترمة - من دون الغسل بكلتا اليدين، إلاّ في مقام كثرة الإفاضة زيادة على مسمّى الغسل، كإزالة الخضاب و نحوه، و استعمال اليد اليسرى لا يكون

ص: 8

إلاّ في ما هو خارج عن الغسل، كصبّ الماء من الإناء في اليمنى و نحو ذلك، فلا دخل لها في الغسل.

و الرجوع إلى العرف في تشخيص المراد و تعيينه و بيانه هو القاعدة المتبعة في كلّ الموضوعات المأخوذة في الشريعة الإسلاميّة، إلاّ إذا أورد من الشرع بيان أو تحديد خاصّ فيجب اتباعه حينئذ، و المسألة محرّرة في علم الأصول. هذا ما يتعلّق بالغسل.

و أما الوجوه، فهي جمع وجه، و هو ما يستقبل من الشيء عند المواجهة و المشافهة و الرؤية، و في الإنسان ما فيه العين، و الأنف، و الفم، و هي ما يستقبل عند الرؤية. و إطلاقه يشمل جميع ما يسمّى وجها عند العرف، فيشمل شعر اللحية و الشارب أيضا، و ما هو الظاهر منه دون البواطن، لأنّها ممّا يستقبل عند الرؤية، و حدّه عندهم من جانب الطول من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة إلى آخر الذقن، و من جانب العرض ما دارت عليه الإبهام و الوسطى، و هذا هو المنقول في الروايات الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، فتدلّ على أنّه لم يرد تحديد خاصّ من الشرع المقدّس في الوجه، فالمرجع فيه العرف، فهو كما ذكرناه، فإذا لم يغسله كلّه لم يتحقّق منه الامتثال.

كما أنّ المعتاد الذي ينسبق إليه الذهن أن يكون من أعلاه إلى أسفله، دون العكس، و العرف هو المناط في الإطلاق، فلو أراد المتكلّم غيره، فلا بدّ من بيانه و النصّ عليه بما يكون حاضرا في ذهن المخاطب حين الامتثال، كما هو مفصّل في علم الأصول. و قد ذكر العلماء و المفسّرون في بيان الغسل و الوجه أمورا لا تخلو عن المناقشة، و الحقّ ما ذكرناه فيهما فراجع كتب الفقه و التفسير.

قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ .

أي: و اغسلوا أيديكم إلى المرافق، تقدّم الكلام في الغسل، و الأيدي جمع يد، و هو اسم للعضو المعروف من أطراف الأصابع إلى الكتف، و لا يدخل في مسماّها الشعر، فلا يكفي غسله عن غسل البشرة.

ص: 9

و مرافق: جمع المرفق (بالكسر فالفتح) و قرئ بالعكس، و لكنّ الأوّل أفصح، و هو مجمع عظمي الذراع و العضد، و إنّما ذكر بلفظ الجمع باعتبار صورة الخطاب بالجمع يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ، و إن كان لكلّ مكلّف مرفقان فإنّه يصحّ الخطاب به أيضا، نظرا لانحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة، كما هو الشأن في كلّ عامّ إفرادي، إلاّ أنّه لا يصحّ حلّ جمع الأيدي إلى أفرادها، فيقال: و يدكم إلى المرافق، و سيأتي مزيد بيان.

و تحديد غسل الأيدي إلى المرافق قد جرى على ما هو المتعارف أيضا، لأنّ معظم مقاصد اليد إنّما يحصل بما دون المرفق إلى الأصابع، و أنّها المعرّضة لما يحتاج إلى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف إلى المرفق، و لأجل ذلك تسمّى هذه القطعة باليد، تسمية البعض باسم الكلّ ، كما تقدّم، فصار اليد مشتركا عند العرف، و لعلّ ذلك كان هو الموجب لتحديد اليد في المقام و نصب القرينة عليه بتقييد اليد إلى المرافق، ليكون الواجب هو غسل اليد إليها، و لم يكن الأمر كذلك في الوجوه، فكان المرجع فيها العرف، كما عرفت آنفا.

و من ذلك يعرف أنّ (إلى) في المقام لتعيين المغسول و تحديده، كما هو المعروف في نظائر المقام، تقول: اغسل ثوبك إلى جيبه، و اخضب كفّك إلى مفصل الزند، و اصقل السيف إلى ضبّته و نحو ذلك، فيكون الغسل مطلقا غير مقيّد بالغاية، فيصحّ أن يبتدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع، كما يحتمل العكس، و حينئذ لا بدّ في تعيين أحد الاحتمالين من الرجوع إلى القرائن الحافّة، أو ما ورد في السنّة الشريفة.

أما القرائن، فإنّ المتعارف في مثل غسل اليد أن يكون الابتداء من الأعلى إلى الأنامل، و أنّ النكس في مثل ذلك ممّا يستلزم صعوبة، و حينئذ لا يبقى إطلاق للآية الشريفة.

و أما السنّة، فقد ورد من الفريقين ما يدلّ على كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل، فقد أخرج الدّارقطنيّ و البيهقيّ في سننهما عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان

ص: 10

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه»، فإن ظاهره هو الابتداء من المرفق.

و أخرج أحمد و مسلم عن عمرو بن عتبة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديثه: «و إذا غسل وجهه - كما أمره اللّه تعالى - الاّ خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء - الحديث»، فهو بجملته يدلّ على أنّ منتهى مجرى الغسل و مجرى الماء هو أطراف اللحية و أطراف الأصابع.

و أما ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السّلام في أنّ الابتداء بالمرافق إلى أطراف الأصابع، فهو كثير بلغ حدّ التواتر، و عليه إجماع الإمامية و عملهم، و سيأتي نقل بعضها في البحث الروائي.

و بعد ذلك فلا غرابة في الحكم بابتداء الغسل من المرافق، كما زعمه الآلوسي في تفسيره، مدّعيا بأنّه لم يجد في ذلك مستمسكا، فإنّ الحكم صحيح، و المستمسك ظاهر الآية الكريمة مع القرائن و السنّة الشريفة، كما عرفت.

و من ذلك كلّه يعرف أنّه لا وجه للأخذ بإطلاق الغسل تمسّكا بإطلاق ما ورد في نظائر المقام، لأنّ القرائن و ما ورد في السنّة الشريفة لا يبقي إطلاقا للآية الشريفة.

كما يظهر بطلان ما ذكره جمع من رجوع القيد إلى الغسل دون المغسول، فيكون ظاهر قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وجوب الابتداء في الغسل من أطراف الأصابع و الانتهاء إلى المرافق، فإنّ ما ذكرناه آنفا لدليل على عدم رجوع كلمة (إلى) إلى الغسل، فيكون الظاهر من الآية المباركة منضما إلى ما ذكر من القرائن و السنّة هو وجوب الابتداء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع، فلو نكس، لم يصحّ و ضوؤه، لأنّه خلاف المأمور به.

ثمّ إنّه قد أطنب الكلام في دخول المرافق في الغسل، فكأنه لم تكن في الآية

ص: 11

الشريفة بحوث إلاّ هذا البحث، و الحقّ أنّه لا يمكن أن يستفاد من الآية المباركة دخولها في الغسل و لا عدم دخولها، فهي مجملة من هذه الناحية، فلا بدّ أن يستفاد أحد الاحتمالين من الخارج و قد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على دخولها في الغسل، و تقدّم حديث جابر الحاكي عن فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّ دخولها يكون ممّا زاده صاحب الشريعة مثل ما زاد في الصلوات الخمس، كما نطقت به الأخبار الصحيحة، أو من باب المقدّمة العلمية.

و أما القول بأنّ (إلى) بمعنى مع، أو القول بدخول الغاية في المغيّى إذا كانا من جنس واحد، فلم يقم عليه دليل معتبر، و سيأتي مزيد بيان في البحث الأدبي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ .

المسح: إمرار اليد أو كل عضو لا مس على الشيء مباشرة أو بآلة، و هو تارة: يكون مع الاستيعاب، و اخرى يكون بغير استيعاب، و يختلف باختلاف القرائن، و المعروف بين العلماء أنّه إذا عدّي بنفسه أفاد الاستيعاب، و إذا عدّي بالباء سواء كانت للآلة أم غيرها، دلّ على التبعيض، يقال: مسحت العرق بالمنديل، أو مسح يده بالمنديل، أو مسح الشيء بالماء ليزيل ما علّق به من غبار و نحو ذلك.

و لا ريب في أنّ المسح يتقوّم بتحريك الماسح على الممسوح، فوضع اليد أو الإصبع على الرأس لا يسمّى مسحا.

و أسلوب الآية المباركة يدلّ على كفاية مسح بعض الرأس، لمكان الباء، و هو ما يسمّى مسحا في اللغة أيضا.

و أما تعيين الجانب الذي يجب إمرار الماسح عليه و مقدار المسح، فهما خارجان عن مدلول الآية الشريفة، فلا بدّ من تعيينهما من السنّة الشريفة، و قد ورد فيها ما يدلّ على كونه في مقدّم الرأس، و كفاية مقدار إصبع واحدة في الامتثال، و إن كان الأفضل أن يمسح بمقدار ثلاث أصابع.

ص: 12

و إطلاق الآية الكريمة يدلّ على جواز النكس في مسح الرأس، فإنّه لم يكن هنا عرف أو دليل آخر ليكون موجبا لصرف الإطلاق، كما كان في غسل الوجه و اليدين، و لكنّ الأفضل تركه لما دلّت عليه بعض الروايات.

و على جميع الأحوال فلا تدلّ الآية الكريمة على وجوب مسح جميع الرأس. هذا و أنّ لعلماء الجمهور و مفسّريهم في تفسير الآية المباركة أقوالا و مذاهب هي بعيدة عن سياقها، بل تنافي فصاحة القرآن الكريم و الذوق الأدبي الرفيع، فراجع.

قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ .

مادة (كعب) تدلّ على العلو، و منه سمّيت الكعبة. و كعبت المرأة إذا فلك ثديها، و الكاعب هي الجارية التي نهد ثديها و علت، و كعب القناة هو أنبوبها، و في الحديث: «و اللّه لا يزال كعبك عاليا»، دعاء بالشرف و المجد تشبيها.

و الكعبين قيل: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق و القدم عن الجنبين.

و قيل: هو عظم مائل إلى الاستدارة، واقع في ملتقى الساق و القدم نات في ظهر القدم، و يدخل نتوئه في طرف الساق، و هو الذي يطلق عليه المفصل، لمجاورته له.

و إذا راجعنا كلمات أهل اللغة و علماء التشريح، يظهر أنّ المعنى الثاني هو المراد من الكعب حيث أطلق، إلاّ إذا دلّ دليل على غيره، و يظهر ذلك أيضا من التتبع في الأخبار المعصومية عليهم السّلام كما يأتي نقل بعضها، و عن ابن الأثير أنّه «مذهب الشيعة»، و استشهد بأحاديث تدلّ على ذلك.

و الرجل يطلق على الكلّ و الأبعاض، فتطلق على القدم، و على ما تحت الركبة، و على ما يشمل الفخذ، فقد حدّ عزّ و جلّ الرجلين إلى الكعبين، ليكون غاية للممسوح، على نحو ما ذكره في غسل اليدين. و أما المسح بالبعض أو الكلّ فسيعرف من البحث الآتي.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في إعراب الجملة على وجوه:

الأوّل: النصب عطفا على الأيدي، فيكون العامل «اغسلوا»، فيجب غسل الأرجل، و قد استدلّ على هذا الوجه بأمور:

ص: 13

الأوّل: أنّه قراءة متواترة، كما ادّعاه بعض، فقد قرأها نافع، و ابن عامر، و حفص، و الكسائي، و يعقوب و غيرهم.

الثاني: أنّ في الآية المباركة تقديما و تأخيرا، أي تأخير الأرجل، و لكنّها في الواقع مقدّمة، فقد روى أبو عبد الرحمن قال: «قرأ عليّ الحسن و الحسين عليهما السّلام فقرأ:

«و أرجلكم إلى الكعبين»، فسمع علي عليه السّلام ذلك و كان يقضي بين الناس فقال:

«و أرجلكم» هذا من المقدّم و المؤخر من الكلام»، و مراده عليه السّلام كما نقله السدي:

اغسلوا وجوهكم و اغسلوا أرجلكم إلى الكعبين و امسحوا برءوسكم.

الثالث: أنّ غسل الأرجل هو قول جمهور الفقهاء و المفسّرين، و عليه عمل الصدر الأوّل، بل إجماع الصحابة عليه. و من ذهب إلى المسح من الصحابة قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.

الرابع: أنّ السنّة الصحيحة تدلّ عليه، و أحسن ما نقل في هذا الباب ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «تخلّف عنّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفره فأدركنا و قد ارهقنا العصر، فجعلنا نتوضّأ و نمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرّتين أو ثلاثا». و قال البخاري: «إنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح، لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل»، و غيرها من الروايات التي نقلها أرباب الصحاح و السنن.

الخامس: إمكان إرجاع قراءة الجرّ إلى قراءة النصب، و قد ذكروا له توجيهات. منها: أنّ العطف في الواقع على الأيدي، و أنّ الجرّ إنّما هو للاتباع، كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية 30]. و قولهم: هذا حجر ضب خرب، فجرّوه و إنّما هو رفع.

و منها: أنّه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى، كقوله: علقتها تبنا و ماء باردا.

و منها: أنّ العطف و إن كان في محلّه، إلاّ أنّ المسح خفيف الغسل، فهو غسل بوجه، فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، و يقوي ذلك أنّ التحديد إنّما

ص: 14

جاء في المغسول، و هو و الوجوه و الأيدي، و لم يجيء في الممسوح، فالتحديد في الأرجل يدلّ على أنّ الحكم فيها الغسل.

و منها: أنّه يجوز تقدير: امسحوا قبل «ارجلكم»، فيكون من عطف الجمل، فإذا تعدّد اللفظ فلا بأس بأن يتعدّد المعنى، فيكون المسح المتعلّق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، و المسح المتعلّق بالأرجل بالمعنى المجازي، و لا بأس بأن يجمع بين الحقيقة و المجاز، أو يستعمل المشترك في معنييه.

السادس: أنّ الغسل و المسح كليهما مرويان عن السلف من الصحابة و التابعين، و قد عمل بهما جمع كثير، و لكنّ العمل بالغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلاّ في مسح الخفّين.

السابع: أنّه يمكن الجمع بين القرائتين و الآراء المختلفة في الغسل دون المسح، و لا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، فيتمسح في أثناء الغسل، لأنّ الغسل هو إمرار الماسح على الممسوح و إلصاقه به، و صبّ الماء لا يمنع منه، بل يتحقّق به.

و إطلاق الأمر يقتضي المسح و لو ببل اليد بالماء و مسحها بالرأس، لمكان باء الإلصاق، و لم يكن الأمر كذلك في الرجلين، فكان الظاهر أن يغسلهما و يمسحهما في أثناء الغسل بإدارة اليد عليهما.

الثامن: أنّ الغسل: يجمع المسح و زيادة فإنّه تحصل به الطهارة، أي: المبالغة في النظافة التي شرع الوضوء و الغسل لأجلها، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة، فالمسح يدخل في الغسل دون العكس.

التاسع: أنّه لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة حكمة، بل هو خلافها، لأنّ طرو الرطوبة القليلة على العضو الذي أصابه غبار و وسخ، يزيد في و ساخته و ينال اليد الماسحة حظّ من هذه الوساخة.

العاشر: أنّهم اتّفقوا على أنّ من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه،

ص: 15

و اختلفوا في من مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به على ترجيح قراءة النصب و الحكم بالغسل في طهارة الرجلين.

الوجه الثاني: الجرّ عطفا على لفظ «رؤوسكم»، فيكون العامل (الباء)، و هي قراءة جمع غفير مثل ابن كثير، و حمزة، و ابن عمرو، و عاصم، كما هي قراءة أهل البيت عليهم السّلام، فقد روى الشيخ الطوسي قدس سره عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله اللّه تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ على الخفض هي أم على النصب ؟ قال عليه السّلام: و هي الخفض». و ادّعى جمع تواتر هذه القراءة، فيكون الحكم في طهارة الرجلين هو المسح دون الغسل.

و أهمّ ما استدلّوا به على هذا الوجه امور:

منها: القرب و عدم الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه، الذي هو من المرجّحات المعروفة، بل المسلّم عليه عند النحويين.

و منها: أنّ العطف على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة و أسلوب العربية، فإنّ اللّه تبارك و تعالى بيّن حكم الغسل و مواضعه، ثمّ قطع الكلام و بيّن حكم المسح و مواضعه، فلا يصحّ أن يعطف أحدهما على الآخر بعد القطع بينهما، و يدلّ عليه ما رواه زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين ؟ فضحك ثمّ قال: يا زرارة - الحديث».

و منها: الأخبار الكثيرة التي تدلّ على أنّ المسح كان فعل صاحب الشرع صلّى اللّه عليه و آله و بعض أصحابه مثل علي عليه السّلام و ابن عباس، و أنس و غيرهم، و التابعين، و أهل البيت عليهم السّلام عامّة و شيعتهم و تابعيهم، و قد اشتهر الحديث المروي بطرق مختلفة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء غسلتان و مسحتان، من باهلني باهلته».

و أما الأخبار المرويّة عن الأئمة الهداة (سلام اللّه تعالى عليهم)، فقد بلغت حدّ التواتر و لا يمكن إنكاره، و هي تنصّ على أنّ الحكم هو المسح، و أنّ غيره

ص: 16

باطل، و شدّدت النكير على مخالفيهم، و سيأتي نقل بعضها، و حمل العلماء ما يدلّ على الخلاف على بعض المحامل، كما هو مذكور في الفقه.

الوجه الثالث: الرفع، و هي قراءة الحسن، و لم تنسب إلى غيره، على أن تكون «أرجلكم» مبتدأ و الخبر محذوف، و قد حمل بعضهم هذه القراءة على قراءة النصب بتقدير (مغسولة). كما حملها آخرون على قراءة الجرّ بأن يكون (ممسوحة).

إذا عرفت ذلك، فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الثاني، لأنّ الوجه الأخير غير معروف، و خلاف الإجماع المركّب، و مخالف لظاهر الآية الشريفة و القواعد المعروفة في علم النحو كما هو واضح، يضاف إليها أنّه لا يمكن استفادة حكم معيّن منها كما عرفت آنفا.

و أما الوجه الأول، فهو مردود من جهات كثيرة، و ما استدلّوا به لإثباته قابل للمناقشة، نذكرها في المقام على نحو الإيجاز، و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.

أما أوّلا: فإنّ دعوى تواتر قراءة النصب كما مرّت غير ثابتة، لأنّ التواتر قد حصل بعد عصر النزول و بعد ثبوت قراءة الجرّ و روايتها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و بعض كبار الصحابة، مثل علي بن أبي طالب الذي ورد فيه: «أنّه مع الحقّ »، و ابن عباس الذي يعدّ حبر هذه الأمة، و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و لا ريب أنّ قراءتهم أحقّ أن يتبع، لأنّهم أدرى بما في البيت.

و ما قيل: من رجوع القائلين من الصحابة بالمسح، فلم يثبت، لأنّ الروايات التي نقلت عن الأئمة الهداة أولاد علي بن أبي طالب عليهم السّلام كلّها تؤكّد عدم رجوعهم عن قراءتهم.

و على فرض التنزّل و القول بثبوت تواتر هذه القراءة و تعارضها مع دعوى تواتر قراءة الجرّ و فقد المرجح بينهما، فلا بدّ من الرجوع إلى الأدلة الخارجيّة التي سيأتي الكلام فيها.

ص: 17

و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ في الآية الكريمة تقديما و تأخيرا، فإنّه لم يعلم نسبته إلى علي عليه السّلام.

و ثانيا: أنّ ما ذكر في ترجيح قراءة النصب من التوجيهات النحويّة لا يمكن الاعتماد عليها، فإنّ تطبيق الآية المباركة على احتمالات بعيدة لا يزيدها إلاّ بعدا عن الواقع، و سيأتي في البحث الأدبي بعض الكلام.

و ثالثا: أنّ ما ذكر في ترجيح الغسل على المسح من أنّه خلاف الحكمة، أو أنّ الغسل هو المسح و زيادة و غير ذلك ممّا عرفت، فإنّ كلّ ذلك من مجرّد الاستحسان، و احتمالات لا يمكن ابتناء الأحكام الشرعيّة عليها، فإنّ الوضوء و الغسل و التيمّم أمور تعبديّة توقيفيّة، لا بدّ من ورود دليل من الشرع في جميع خصوصياتها، فإذا أمر بالغسل في موضع، لا يجوز المسح فيه، و كذا بالعكس، فإنّه تشريع محرّم يوجب بطلان العبادة، كما هو معلوم.

و لا إشكال من أحد في أنّ الغسل و المسح مفهومان متغايران عند العرف، و يشترط في كلّ واحد منهما ما لا يشترط في الآخر، و من ذلك أنّه يشترط في المسح أن يكون الممسوح خاليا عن الرطوبة الغالبة على ما يكون على الماسح من الرطوبة، و إلاّ لم يتأثّر الممسوح برطوبة الماسح الذي هو قوام المسح، فلو تحقّق الغسل قبل المسح تكون الرطوبة غالبة فيبطل المسح، لانتفاء الشرط، و إن كان بعده فلا فائدة فيه، إلاّ أن يكون بقصد التشريع و الورود، فيوجب البطلان، فلا يمكن الجمع بين الغسل و المسح.

و أما الحكمة المزعومة في الغسل دون المسح، فلا ريب و لا إشكال في أنّ الطهارة و النظافة أمران مندوبان و قد حثّ عليهما الشرع المبين، و لكنّهما لا تنحصران في الوضوء فقط، فإنّ لها طرقا و سبلا متعدّدة، مع أنّ الحكمة في الوضوء لا تنحصر في النظافة الظاهريّة، فلعلّ الغاية منه الطهارة الباطنيّة، ففي الحديث المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء نور»، و ما ورد في تفسير الغرّ المحجلين

ص: 18

و غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ العمدة هي الطهارة الباطنيّة.

و رابعا: أنّ القول بأنّ الغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلاّ في مسح الخفّين، فلا يصير مرجّحا، فإنّ العمدة دلالة الدليل و ما يستفاد من ظاهره، مع أنّ للقائلين بالمسح أن يقولوا بأنّ المسح مرويّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصحابة - كما اعترف به الخصم - و هو الذي غلّب عندهم و استمر، و لا مرجّح لمذهب غيرهم على مذهبهم.

و خامسا: أنّ ما ذكره بعضهم من أنّ جعل الغاية في الرجلين، لدليل على أنّ المطلوب هو الغسل. كما أنّ جعل الكعبين دليل آخر، لأنّ الغسل لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجلين.

فهو غير صحيح، فإنّ جعل الغاية لا يدلّ على كون المطلوب هو الغسل، بل هو أعمّ كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّ الغاية ليست للغسل، بل هي غاية للممسوح، على نحو ما ذكرناه في غسل الأيدي.

و أما ما ذكر في معنى الكعب، فقد تقدّم الكلام فيه، و ذكرنا أنّ المراد منه هو العظم البارز في ظاهر القدم، و تقدّم الكلام في وجه إتيان صيغة التثنية، و قلنا: إنّ مثل هذه الخطابات تنحلّ إلى خطابات متعدّدة بتعدّد المخاطبين المكلّفين، فذكر الكعبين باعتبار كلّ مكلّف، و لم يسمع في فصيح الكلام أن تنحل جمع الأرجل إلى أفرادها، فيقال: و أرجلكم إلى الكعب، باعتبار الرجل الواحدة، إلاّ أن يقال:

(و امسحوا بأرجلكم، كلّ رجل إلى الكعب)، و السرّ في ذلك أنّ غير الجموع الخطابيّة لا علاقة لها بحلّها إلى المفردات، إلاّ أن يشار إلى المفرد بالتصريح في الخطاب، كما يقال: كلّ رجل يجب مسحها إلى الكعب، و هو خلاف الفرض.

و من ذلك يعرف أنّه لو كان المراد من الكعب هما العظمين الناتئين في جانبي الرجل لقال: إلى الكعاب، لأنّ في كلّ رجل كعبين، بخلاف ما إذا كان كعب في كلّ رجل، كما عرفت فافهم.

ص: 19

و سادسا: بعد أن عرفت عدم صلاحية تلك الوجوه لترجيح قراءة النصب، ننتقل إلى أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على الإماميّة، و هي الأخبار التي استدلّوا بها على وجوب غسل الرجلين، و فيها أنّه إذا كانت الآية تدلّ على المسح، فتكون الأخبار ناسخة لها، كما قال به بعض السلف كأنس و الشعبي، فقد نقل عنهم أنّه قال: «أتى جبرئيل بالمسح و السنّة بالغسل»، فحينئذ يأتي الكلام في أنّه هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد؟ و البحث طويل.

يضاف إلى ذلك أنّها متعارضة في ما بينها، فإنّ بعضها يدلّ على الغسل، و بعضها يدلّ على المسح، كما أنّها معارضة بالأخبار التي ينقلها الإماميّة الدالّة على المسح، فلا بدّ من التماس المرجّحات السنديّة و الدلاليّة فيما بينها، و كلّ طائفة تدّعي الترجيح و لو فرضنا تعادلها من جميع الجهات، فيطرحان و يرجع إلى كتاب اللّه تعالى، و قد تقدّم أنّه يدلّ على المسح دون الغسل. هذا موجز الكلام في المقام و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.

و الحقّ أنّ الآية المباركة هي بعيدة عن تلك الوجوه و الاحتمالات الواهية، و لو عرضناها على مستقيم الطبع - الخالي من الشوائب - و الذهن الصافي يأبى حمل الكلام البليغ عليها، و يفهم من ظاهر الآية الكريمة: أَرْجُلَكُمْ معطوفة على ما تقدّم عليها بلا فصل، أي: بِرُؤُسِكُمْ ، و يحكم بوجوب مسح الأرجل في الوضوء، و الأخبار إنّما تؤكّد هذه الجهة فقط و ترشد إليها، لا أن تضيف إلى الآية الكريمة شيئا جديدا. و قد كانت الأمة في غنى عن هذا الجدل العنيف إذا رجعوا إلى كتاب اللّه العزيز و طرحوا التعصّب و العناد، و لم يصل الأمر إلى الآلوسي في تأليف كتاب في الردّ على الإماميّة و التحامل عليهم و اتهامهم بالكذب و توهينهم، حتّى قال صاحب المنار: «إنّ في كلامه - أي الآلوسي - تحاملا على الشيعة و تكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة»، مع أنّهم كانوا بحاجة إلى موضوعات أكثر أهميّة و أشدّ نفعا، لو لا التعصب و الجهل اللذان ابتلت بهما هذه الأمة فوقعت في ما

ص: 20

وقعت فيه الأمم الماضية. و قد حذّرنا اللّه تعالى منها أشدّ تحذير، نسأله جلّت عظمته الهداية و التوفيق لما فيه الخير و السعادة.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .

بيان لنواقض الطهارة و موجباتها، و هي على قسمين: الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل، و هي الجنابة. و الحدث الأصغر الموجب للوضوء، و هو البول و الغائط. ثمّ يذكر عزّ و جلّ مسوّغات التيمّم، و به تتمّ الطهارات الثلاث مع ذكر موجباتها و نواقضها و واجباتها.

و الجنب بضم الجيم و النون، من أصابته الجنابة، التي هي معروفة عند المكلّفين، و لها سببان:

أحدهما: ما ذكره عزّ و جلّ في ما يأتي أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ، الذي هو كناية عمّا يستقبح ذكره، أي: الوقاع و الجماع، بلا فرق بين خروج المني و عدمه، فإنّ الموجب هو الدخول.

و الثاني: خروج المني في اليقظة أو المنام، كما دلّت عليه السنّة الشريفة، على ما يأتي في البحث الروائي.

و الجنب مصدر استعمل بمعنى الوصف، و يقع على الواحد، و الاثنين و الجمع، و المذكر و المؤنث، كما يقال: رجل عدل، و امرأة عدل و قوم عدل. و تقدّم الكلام في اشتقاقه و معناه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43].

و الطهارة: تطلق تارة، و يراد منها المعنى المصدري، أي: نفس الفعل الذي هو الاغتسال. و اخرى: يراد بها معنى الاسم المصدري، أي: الأثر الحاصل من الغسل، و المراد بها في المقام المعنى الأوّل، أي: الاغتسال، كما دلّ عليه قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43]، و كذلك دلّت عليه جملة من الأخبار، و قد استدلّ بعضهم بالتبادر أيضا.

ص: 21

و الآية الشريفة تبيّن أنّ للطهارة إطلاقين، أحدهما نفس الفعل الذي هو الاغتسال، كما بيّنته آية النساء و الآخر الطهارة الحاصلة بالغسل، فإنّها أثر مترتّب على الفعل الذي هو الغسل.

و الجملة: عطف على جزاء الشرط الأوّل، أي: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم جنبا فتطهّروا.

و قيل: إنّها عطف على جملة الشرط السابق، فلا تكون حينئذ مندرجة تحت القيام إلى الصلاة، بل هي مستقلّة برأسها، فتدلّ الآية الكريمة على وجوب الغسل لنفسه، و استدلّوا على هذا القول بأمور سيأتي ذكر بعضها في البحث الأدبي.

و يستفاد من سياق الآية الكريمة المبالغة في أمر الصلاة، و التأكيد على الطهارة و مطلوبيتها لنفسها. كما أنّها تدلّ على شرطيّة الطهارة لطبيعة الصلاة، و كفاية الغسل للدخول في ما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، و مسّ كتابة القرآن، و قراءة آية السجدة في سور العزائم الأربع، و الدخول في المساجد و غير ذلك، لأنّ المسوّغ في الدخول في ذلك كلّه إنّما يكون بالطهارة و رفع الجنابة، و هو إنّما يتحقّق بالاغتسال، و تدلّ عليه جملة من الروايات، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى .

شروع في مسوّغات الطهارة الترابيّة بعد ذكر الطهارة المائيّة، و بيان لموارد ترك الوضوء و الغسل و إتيان بدلهما و هو التيمّم. و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الأمور تجمعها عناوين ثلاثة: العجز، و المشقّة، و عدم وجدان الماء، فتكون المذكورات في الآية المباركة بعض المصاديق لها، و هي الأربعة التي يكثر ابتلاء المكلّفين بها و تصاحب فقدان الماء، إما غالبا كالمرض و السفر، أو اتفاقا كالتخلّي و مباشرة النساء، فتدخل في أحد العناوين الثلاثة المتقدّمة.

و لكن ما ذكره عزّ و جلّ منه ما يكون حدثا بنفسه يستوجب الطهارة، كالأخيرين المعطوفين على الأوّلين بكلمة (أو). و منه ما لا يكون كذلك، بل يكون

ص: 22

مظنة لتحقّق الحدث فيه، و هما الأوّلان، أي: المرض و السفر، فإنّهما ليسا بنفسهما يستوجبان الطهارة، بل لأنّهما مظنّة لتحقّق الحدث - سواء أ كان أصغر أم أكبر - فلم تكن المقابلة بين الأخيرين و الأوّلين حقيقيّة، و لذا احتمل بعضهم أن تكون (أو) بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصفات، الآية: 147]. و لكنه بعيد، لما ذكرناه آنفا من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان مسوّغات التيمّم التي تجمعها العناوين المتقدّمة، و لا ريب في أنّ شاهد الحال و العرف يقضيان باعتبار الحدث في كلّ ما يسوغ التيمّم، فتكون (أو) باقية على ظاهرها من التقسيم و التنويع، لكون المقام مقام التردّد فيه بالطبع، فلا يحتاج إلى التجوّز.

و المراد بالمرض في المقام ما يضرّ معه استعمال الماء، و ما يكون سببا للعجز عن تحصيله، بلا فرق فيه بين أن يكون شديدا أو يسيرا، إلاّ أن يكون يسيره ممّا ليس فيه مشقّة و كلفة، بحيث لا يصدق عليه المرض عرفا.

و إنّما يحكم بالمرض و أقسامه الذي يسوّغ التيمّم التجربة و أهل الخبرة، و تدلّ على ذلك جملة من الروايات، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

فرد آخر من الأفراد التي قد يبتلى بها المكلّف ممّا لا يمكن تحصيل الماء فيه، كما يرشد إليه تنكير (سفر)، و الجملة عطف على قوله تعالى: فَامْسَحُوا .

و المعنى: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم على سفر و لم تجدوا ماء فتيمموا، فلا يستفاد من الآية المباركة أنّ هذه الجملة قيد لغيرها من المذكورات.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل السفر الطويل و القصير بما يسمّى سفرا عرفا، بحيث يشقّ فيه تحصيل الماء و يغلب فيه فقدان الماء.

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ .

الكلام في عطف هذه الجملة نفس الكلام في سابقتها، و التقدير: إذا قمتم إلى

ص: 23

الصلاة و قد جاء أحد منكم من الغائط فلم يجد ماء، فيتيمم. و قد ذكرنا أنّ هذا الفرد بنفسه موجب للطهارة.

و الآية الشريفة في غاية الأدب و منتهى الفصاحة، حيث كنّي فيها عمّا يستقبح ذكره بأسلوب أدبي رفيع، و بولغ في الإبهام من دون الإضافة التي شوب التعيين رعاية لجانب الأدب.

و الغائط: المكان المنخفض من الأرض، و قد كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس و تأدّبا. و قيل: إنّه المطمئن من الأرض. و قيل: عمق الأرض الأبعد.

و كيف ما كان، فسمّي الحال باسم المحلّ حتّى غلب استعماله في معناه المعروف، و هو النجوّ نفسه، كالعذرة التي هي بمعنى عتبة الدار و فنائها، فغلب استعمالها في معناها المعروف، و هو ما يخرج من الأسفل من بقايا الطعام، و المراد به في المقام مطلق الحدث الأصغر الموجب للطهارة الخارج عن أحد السبيلين، كما بيّنته السنّة الشريفة.

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ .

كناية عن الجماع، و هو أيضا أدب قرآني، صونا للسان عمّا يستقبح ذكره، و قد ذكرنا في سورة البقرة أنّ المسّ و اللمس بمعنى واحد. و لعلّ التصريح به في المقام مع أنّه داخل في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ، لبيان أحد موجبات الجنابة، فيكون تفسيرا لها، أو للإشعار بأنّ الأمر ممّا تقتضيه الطبيعة كسابقه، و لكثرة وقوعها. و لكنّهما يفترقان في أنّ الأوّل حدث أصغر يوجب الوضوء، و الثاني حدث أكبر يوجب الغسل، بخلاف المرض و السفر اللذين هما أمران اتفاقيان.

و قد استجمعت الآية الشريفة جميع الحالات الطارئة للإنسان، الطبيعيّة منها و الاتفاقيّة، و عالجتها بأسلوب أدبي رفيع يفهمه كلّ مكلّف، و هو من إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي تحدّى جميع الكتب السماويّة و خضعت له الفصاحة و البلاغة.

ص: 24

و ممّا ذكرناه يعرف فساد ما نسب إلى بعضهم من كفاية مطلق لمس النساء في الطهارة، أخذا بظاهر اللفظ و إبقاء له على معناه الحقيقي من دون حمله على معناه الكنائي، الذي هو أسلوب من الأساليب البلاغيّة المعروفة، مع أنّ سياق الآية الكريمة لا يلائمه، لأنّ الآية المباركة بيّنت الحدث الأكبر ابتداء، ثمّ ذكرت الحدث الأصغر في الحالة الاعتياديّة، ثمّ ذكر الحدث الأصغر في الحالة الاضطراريّة، فلو حملناه على المعنى الذي ذكره يستلزم منه إهمال فرض من الفروض، و هو الحدث الأكبر في الحالة غير الاعتيادية، و عدم بيان حكمه، و هو التيمّم بدل الغسل، و أنّ به تستوفى الفروض.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً .

جواب الشرط «إن كنتم»، فيكون المراد من عدم الوجود أعمّ من عدم الوجدان و العجز من تحصيله، و عدم التمكّن من استعماله من جهة المرض و غيره، و هو الأنسب، و العطف بالفاء لبيان أنّ عدم الوجدان إنّما يكون معتبرا لعدم حصول هذه الأسباب.

و قال بعضهم: إنّه معطوف على قوله: «جاء»، فيكون قيدا للسفر، و الغائط، و ما عطف عليه. و يكون حكم من كان المرض مانعا له عن تحصيله - لا استعماله - مستفادا من دليل آخر، و لكنّه تبعيد للمسافة.

كما أنّ القول بأنّه معطوف على «لامستم»، لأنّه أقرب لفظا.

مردود أيضا كما هو واضح، و قد تقدّم الكلام في هذه الآية المباركة في سورة النساء الآية - 40.

و الظاهر منها أنّ المراد بوجود الماء، وجود ما يكفي للطهارة، فلو وجد ما يكفي لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم الفاقد لها أجمع، كما أنّ الظاهر منها أنّه إذا كان قادرا على الطلب في الجملة يجب عليه، إذ مع وجوده في أحد أطرافه لا ينطبق عليه عنوان أنّه لم يجد، و سيأتي في البحث الفقهي ما يناسب الموضوع.

ص: 25

قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .

التيمّم: هو القصد، و قد استعمل في الشرع في مسح الجبهة و اليدين بالتراب.

و الصعيد: هو وجه الأرض. و قيل: الصعيد هو الغبار الذي يصعد، أي: من الصعود، و لهذا قالوا لا بدّ للمتيمم أن يعلق بيده الغبار.

و لكن ادّعى الزجاج عدم الخلاف بين أهل اللغة أنّه مطلق «وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن»، و نقل المحقّق عن ابن الأعرابي ذلك أيضا. إذا لا وجه لهذا القول كما هو واضح.

و الطيب: هو الخالص المنزّه عمّا يستخبث و يكره، سواء كان بحسب حاله و ذاته أو المراد منه أو يرغب فيه و منه، فيشمل الطهارة و الإباحة و عدم خروجه عن حالته الطبيعيّة بالطبخ و نحوه، فتكون من وجوه الطيب، و هذا هو الظاهر من موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب و السنّة الشريفة، فيكون ما ورد في السنّة الشريفة مؤكّدا لما تدلّ عليه الآية الكريمة.

و قيل: إنّ المراد بالطيب الطاهر، فيكون دليلا على اشتراط الطهارة لما يتيمم به، و لكنّه تخصيص للآية المباركة بغير دليل، و قد تقدّم الكلام في سورة النساء الآية - 40 فراجع.

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ .

بيان لكيفيّة التيمّم بعد ذكر المتيمم به بلفظ بليغ، و هو بإيجازه يشمل كثيرا من المعاني، و تقدّم الكلام آنفا في المسح، و الوجه، و اليدين، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها في التيمّم ما يراد منها في الوضوء، فإنّهما من باب واحد، إلاّ أنّ في التيمّم يكفي مسح الوجه و بعض اليدين، لمكان (الباء)، و قد حدّدتهما السنّة الشريفة بما بين الجبينين إلى أطراف الأنف في الوجه، و بما دون الزند إلى أطراف الأصابع في اليدين، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام.

و لكن لا ينبغي الشكّ في دلالة الآية المباركة على أنّ المسح يتقوّم بالماسح

ص: 26

و الممسوح و الممسوح به، و تدلّ عليه الروايات البيانيّة و غيرها التي تبيّن كيفيّة تيمّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما سيأتي في البحث الروائي.

و إنّما اكتفى القرآن الكريم بذكر تيمّم بالصعيد الطيب و ذكر الممسوح به و الماسح، و استغنى عن ذكر الضرب على الصعيد أو مسّه بباطن الكفين، لأجل التفنّن في العبارة و البراعة فيها، إلاّ أنّ الأسلوب يدلّ على ما ذكرناه كما عرفت، و الضمير في «منه» يرجع إلى الصعيد.

و اختلف في «من» فقيل: إنّها تبعيضيّة، أي: ببعض الصعيد بما علق باليدين من تراب و غبار، فتدلّ الآية الشريفة على اشتراط العلوق، أي: بقية الصعيد على اليدين، فلا يصحّ التيمّم إن لم يكن عليهما بقيّة منه.

و قيل: إنّها ابتدائيّة، أي: يجب التيمّم مبتدأ من الصعيد.

و الحقّ : أنّه لا فرق بين أن تكون (من) تبعيضيّة أو ابتدائيّة في عدم استفادة العلوق باليدين في التيمّم، فإنّ التيمّم ببعض الصعيد أو مبتدأ منه باعتبار كونه مورد ضرب اليدين أو الاعتماد عليه، أجنبي عن تعلّقه باليدين، إلاّ أن يستفاد بضميمة القرائن الخارجيّة، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من عدم اشتراط العلوق إشارة إلى ما ذكر.

و بالجملة: أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب ضرب اليدين على الصعيد و كونه موردا لاعتمادهما، بلا فرق بين أن يكون مبتدأ أو يكون الضرب على بعضه و مسحهما على بعض الوجه و بعض اليدين، كما تدلّ عليه الروايات البيانيّة، و سيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ .

بيان لقاعدة من القواعد التسهيليّة الامتنانيّة التي بنيت عليها الشريعة السمحاء، و تمسّك بها الفقهاء في مواضع كثيرة في الفقه، و أسموها ب «قاعدة نفي الحرج»، و تعتبر من إحدى الحكم في تشريع الطهارات الثلاث التي سيذكرها جلّ

ص: 27

شأنه في الآيات الكريمة التالية، و من سرد تلك الحكم في المقام يستفاد أهميّة تلك الأحكام و عظيم أثرها في تهذيب النفس و تزكيتها.

و أسلوب الآية الشريفة يدلّ على نفي جعل و تشريع كل الأحكام الإلهيّة التي يراد بها الحرج على المؤمنين، فإنّ نفي الإرادة أبلغ من نفي الفعل و أشدّ في تأكيده، كما عرفت في نظائر هذا الأسلوب في الآيات المباركة السابقة، و تؤكّد ذلك أيضا دخول «من» الجارّة على مفعول «ما يريد»، فتكون بيانيّة لا زائدة، كما زعمه بعضهم.

و يدلّ على ما ذكرناه أيضا قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الدالّ على نفي الحرج في ملاكات الأحكام مطلقا، فإنّها شرّعت لأجل مصالح و حكم واقعيّة، لا لغرض الحرج و المشقّة.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل نفي كلّ حرج، سواء كان في التكاليف الأوليّة، أو التكاليف الثانويّة، فإنّه إذا عرض ما يوجب الحرج و المشقّة اتفاقا في حكم، فإنّه ينتقل إلى البدل فيه إن كان ممّا له بدل - كما في الصوم و غيره من التكاليف غالبا - و إلاّ فيسقط الحكم رأسا في تلك الأفراد الحرجيّة، و لا يسقط غيرها.

و الحرج: هو الضيق و المشقّة، قال تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [سورة النساء، الآية: 65]، و قال سبحانه و تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78].

و المعنى: لم يكلّف اللّه تبارك و تعالى المؤمنين بتحصيل الطهارة المائيّة على وجه يستلزم الحرج و المشقّة عليهم، إما بإتلاف مال أو بالتغرير بالنفس أو الضرر عليها و نحو ذلك ممّا فيه كلفة عليهم، فإنّه ينتقل إلى البدل و هو الطهارة الترابيّة، فقد كلّفهم بها بما لم يستلزم المشقّة و الحرج أيضا، و إلاّ فيسقط الحكم رأسا، كما هو مذكور الفقه، فإنّ اللّه تعالى ما يريد من الأمر بالطهارة المائيّة ثمّ الترابيّة إلاّ التوسعة على المؤمنين، لا الحرج و المشقّة، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

ص: 28

قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ .

حكمة اخرى، أي: إنّما يريد اللّه تعالى - من الوضوء و الغسل و التيمّم - تطهيركم، فاللام تكون للتعليل. و الجملة مفعول (يريد) المحذوف. و ذكر الرضي أنّ اللام زائدة، و (يطهّركم) مفعول بتقدير (أن) بعد اللام، كما هو الشأن في نظائر المقام، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: 26].

و كيف ما كان، فإنّ إطلاق الطهارة يشمل الطهارة المعنويّة الحاصلة من رفع الحدث بأحد تلك الأسباب الثلاثة التي يشترط الصلاة بها، و النظافة الظاهريّة من الدرن و الأوساخ. و أما الطهارة من الخبث، فإنّها قد تحصل بالعرض، فلا تدلّ الآية المباركة عليها.

و يستفاد من الآية الكريمة أنّ الشرط في القيام إلى الصلاة هو الطهارة، فلو كان متطهّرا لا يجب عليه الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إليها مرّة اخرى.

قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ .

الإعراب فيه كما ذكرناه في الجملة المتقدّمة، و سبق الكلام في معنى النعمة و إتمامها في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، و المراد بالنعمة في المقام تلك الأحكام و التوجيهات و المعارف التي نزلت لتكميل الإنسان و إرشاده إلى سعادته في الدارين، و منها تلك التي ذكرت آنفا التي يستلزم العمل بها الدخول في ولاية اللّه تعالى، الذي هو المقصد الأسنى في خلق الإنسان.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل النعمة التي أرادها اللّه تعالى للمؤمنين، و هي طهارة النفوس من درن الذنوب و آثارها و تزكيتها، التي هي غاية خاصّة لتشريع الطهارات الثلاث، و نعمة الدين الذي هو مجموعة أحكام و توجيهات و إرشادات قيّمة لتكميل النفوس المستعدة و إعدادها لنيل الفيوضات الإلهيّة و هدايتها إلى ما يوجب سعادتها، فاجتمعت في هذه الآية المباركة الغايتان الخاصّة - للتشريعات الثلاثة المتقدّمة - و العامّة لمجموعات الأحكام الإلهيّة.

ص: 29

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

غاية اخرى، و هي إعداد الإنسان إعدادا علميا و عمليا لطاعته و القيام بشكره، ليكون سببا لدوام نعمه عزّ و جلّ ، و هو القائل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 7].

و الآية الشريفة جمعت كلّ ما له دخل في سعادة الإنسان و ما يهديه إلى الكمال المنشود، و من ذلك كلّه يظهر أهميّة الأحكام الإلهيّة في حياة الإنسان الظاهريّة و المعنويّة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

ترغيب إلى دوام طاعة اللّه سبحانه و تعالى، و حثّ على الوفاء بعهده، و تذكير لهم بما أنعم اللّه تعالى على المؤمنين من الفيوضات العليّة و المواهب الجميلة و الدخول في الإسلام الذي جمعهم بعد أن كانوا متباغضين متفرّقين، و أرشدهم إلى الكمالات و المعارف الواقعيّة بعد أن كانوا في جاهلية عمياء، مع أنّ حالهم في الإسلام من حيث أمنهم و غناهم، و صفاء قلوبهم، و خلوص نياتهم، و طهارة أعمالهم معروف لا يمكن إنكاره، و تبيّن هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: 103].

فيكون المراد بالنعمة في المقام تفضيلهم على سائر الناس بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم، و أنزل عليهم الكتاب الذي اشتمل على جميع المعارف الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة الذي فيه تفصيل كلّ شيء، و شرع الأحكام و التشريعات التي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و تزكيتها، و يجمع الكلّ الإسلام الذي ارتضاه اللّه تعالى دينا لهم و منهاجا، و لعلّ في الآية الشريفة الإشارة إلى ما ذكر في أوائل هذه السورة في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً .

قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ .

الميثاق هو العهد المؤكّد، و تذكيرهم بالميثاق لأجل دوام الطاعة و حثّهم على

ص: 30

العمل بما أخذ عليهم من الميثاق، و المراد به تلك العهود و الأحكام التي أنزلها اللّه تعالى عليهم و أخذ منهم العهد بالعمل بها، و الدخول في ولاية اللّه تعالى التي تستلزم قبول ولاية رسوله الكريم و من نصبه صلّى اللّه عليه و آله وليا على المؤمنين.

قوله تعالى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا .

بيان لقوله تعالى: واثَقَكُمْ بِهِ و تذكير لهم بوجوب مراعاته بعد التزامهم بالسمع و الطاعة و المحافظة عليه، فقد أعطوا السمع و الطاعة للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بأن يطيعوا اللّه تعالى في تعليماته و توجيهاته، منها تلك التي يتعلّق بالطهارات الثلاث، و تحريم المحرّمات، و الدخول في ولاية اللّه تعالى و الرسول و المؤمنين.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد آخر على المحافظة على عهود اللّه تعالى و مراعاة أحكامه المقدّسة، فلا يكونوا كالذين أخذ اللّه منهم الميثاق فنسوا حظا ممّا ذكروا به، و قد حرّفوا الكلم عن مواضعه، و نقضوا حدود اللّه بالزيادة و النقصان فيها، كما حكي عنهم عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

تحذير لهم في نسيان نعمه، و نقض مواثيقه، و ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخيانة و السوء، فإنّ اللّه تعالى عالم بخفايا القلوب و ما تضمره النفوس، و لعلّ الأمر بالتقوى في آخر الآيات المتقدّمة، لأنّها روح تلك التشريعات، و بها تتّصف بالخلوص، و يسلم العمل عن كلّ نقص و عيب.

ص: 31

بحوث المقام

بحث أدبي:

اختلف العلماء في إعراب الآية الشريفة اختلافا كبيرا، و قد ذكرنا شطرا منه في التفسير، و نذكر الشطر الآخر في هذا البحث.

قال بعض العلماء: إنّ الوجه مشتقّ من المواجهة، و اشتقاق الثلاثي من المزيد إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه شائع، بل قال بعضهم: إنّ ما ذكر من منع الثلاثي من المزيد إنّما هو في الاشتقاق الصغير، و أما في الاشتقاق الكبير الذي يكون بين كلمتين بينهما تناسب في اللفظ و المعنى، فهو جائز.

ثمّ إنّهم اختلفوا في معنى (إلى) في قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فقيل: إنّها بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [سورة هود، الآية: 52]، و قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ * [سورة آل عمران، الآية: 52]، و قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [سورة النساء، الآية: 2].

و يردّ عليه: أنّه لا إشكال في مجيء (إلى) بمعنى (مع)، إلاّ أنّ الآية المباركة كما تحتملها تحتمل أن تكون بمعنى (من)، كما ذكره بعض أعاظم النحويين كابن هشام في المغني و غيره، مستشهدين بقول الشاعر:

تقول و قد عاليت بالكور فوقها *** أ يسقى فلا يروى إليّ ابن احمرا

أراد منّي. و نحن في غنى عن هذا الخلاف، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على تحديد المغسول كما ذكرنا في التفسير، فتكون (إلى) بمعناها الحقيقي و هو الانتهاء، و مجيئها بمعان اخرى في غير المقام لا يصير دليلا على كونها في المقام كذلك، لا سيما أنّ بعض الآيات التي استشهد بها في إثبات المطلوب إنّما كان لأجل قرائن خاصّة

ص: 32

حفّت بها، مثلا فقد ضمن الأكل في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ معنى يتعدّى بهذا الحرف (إلى)، كالضمّ و نحوه.

و القول بأنّ الباء في قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ زائدة، باطل، لأنّه خلاف الأصل، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم، فهي بمعنى التبعيض، كما دلّت عليه الاستعمالات الفصيحة، و انشد ابن مالك:

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت *** متى لجج خضر لهن نتيج

و أما قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ ، فقد عرفت الخلاف العظيم في إعرابه و ذكرنا الحقّ في التفسير، و نزيد هنا أنّ مجال النحو واسع، و العمدة هو الرجوع إلى العرف و الأذهان المستقيمة و كلمات الفصحاء في استفادة الظاهر من الكلام و تعيين المراد منه، كما عرفت آنفا.

ثمّ إنّه يستفاد من تغيير الأداة في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً مع أنّ الآية الشريفة تصدّرت بكلمة (إذا)، اهتماما بأمر الصلاة و التأكيد عليها، و أنّ (إذا) تدلّ على ما هو متيقن الوقوع، تنبيها على أنّ المؤمن لا يكفّ عن إقامة الصلاة و لا يتركها بحال.

مع أنّ الاختلاف يرشد إلى أنّ مدخول (إذا) كثير الابتلاء، بخلاف (ان) التي تدلّ على أنّ مدخولها نادر و قليل الحدوث.

و قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في أعلى مراتب الفصاحة و البلاغة، حيث يدلّ على نفي الفعل بنفي الإرادة. و قيل: إنّ هذا الأسلوب من مختصّات الكتاب العزيز. و اختلف النحاة في اللام، فقيل: إنّها زائدة لتأكيد المفعول. و قيل: إنّ المفعول مقدّر و اللام للتعليل. و الحقّ هو الثاني، كما عرفت من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

ص: 33

بحث دلالي:
اشارة

الآيتان الشريفتان من أعظم الآيات القرآنيّة التي تبيّن أحكام الطهارات الثلاث التي يشترط بها أهمّ العبادات في الإسلام، و هي الصلاة التي تعتبر عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها و إن ردّت ردّ ما سواها.

و قد بيّن عزّ و جلّ في هاتين الآيتين المباركتين جمع ما يتطلّبه هذا الحكم الإلهي، فذكر تعالى واجباته، و شروطه، و آدابه، و الضمان على تنفيذه، و يستفاد من الآية الكريمة أنّ هذا الحكم ممّا أخذ عزّ و جلّ عليه الميثاق، لبيان أهميته، و لعلّ السرّ في ذلك علمه عزّ و جلّ بتهاون جمع كبير به، و اختلاف الامّة فيه مع علمهم بأنّ له شأنا كبيرا في تطهير النفوس و تزكيتها و توقّف امور كثيرة عليه.

و

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا اشتراط الصلاة بالطهارة، إما أنّها واجبة لنفسها، أو واجبة للغير، قيل: بالثاني، لدلالة الفاء على الترتيب، كما يشهد بها العرف و التبادر. و قيل بالأوّل، كما تدلّ عليه ذيل الآية المباركة وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ و يشهد له بعض الأحاديث، و الفاء إنّما تدلّ على الترتيب لو لم تكن في البين قرينة على الخلاف كما في المقام، بل يمكن أن يقال: إنّ الفاء إنّما استفيد منها الفرعيّة في المقام كما هو واضح، أما كون الطهارة واجبة بالوجوب النفسي أو الغيري، فلا يمكن أن تستفاد من الآية الكريمة لوحدها، إلاّ مع انضمام القرائن الخارجيّة التي تدلّ على الثاني، كما هو الحقّ ، و المسألة محرّرة في الكتب الاصوليّة و الفقهيّة.

الثاني:

ص: 34

المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثالث:

يستفاد من أسلوب الآية الشريفة الترتيب - في واجبات الوضوء و التيمّم - و الموالاة بينها، فيجب غسل الوجه ثمّ اليدين، ثمّ مسح الرأس، ثمّ مسح الرجلين تسبقها النيّة، و لعلّ ما ورد في الأخبار: «ابدءوا بما بدأ اللّه»، مأخوذ من مثل هذه الآيات الشريفة، و تدلّ عليها روايات متعدّدة.

و قد يستدلّ على الترتيب بالواو التي تفيد الترتيب، كما صرّح به بعض أعاظم النحويين. و لكنّه مشكل، فإنّها حقيقة في مطلق الجمع، و أما الترتيب فهو يستفاد من القرائن.

و كيف كان، فإنّ سياق الآية المباركة بل ظاهرها الذي هو الترتيب فهو يستفاد من في مقام البيان، يفيد ما تقدّم.

الرابع:

يستفاد من ظاهر قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، أنّ التيمّم مساوق للوضوء و الغسل، فيباح به كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، فيجوز أن يصلّي بتيمم واحد صلوات متعدّدة، أو يمسّ كتابة القرآن كذلك إذا كان العذر باقيا، و لا يجب عليه الإعادة مطلقا بعد رفع العذر.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت باليسر في أحكام الدين، لا سيما في أحكام الطهارات الثلاث و نبذ المشقّة فيها، و لعلّ ذكره في المقام عقيب الطهارات الثلاث، لشدّة ابتلاء المكلّفين بها، و لعلمه تعالى بما يلاقونه من المصاعب و المتاعب و وسوسة الشيطان لهم، خصوصا للفاقدين من المعرفة لأحكام الدين.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، أنّ أحكام اللّه تعالى الفرعيّة هي من نعمه عزّ و جلّ التي أتمّها على عباده المؤمنين و أحكمها عليهم، و يجب عليهم شكرها بالتذكير و دوام الطاعة، لا سيما بعد أن أخذ اللّه تعالى عليهم الميثاق بالسمع و الطاعة، فاجتمع داعي العقل و داعي الشرع في الوفاء بعهود اللّه تعالى.

ص: 35

و لا يخفى أنّ قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إشارة إلى ما ذكره عزّ و جلّ في أوّل هذه السورة من الوفاء بالعهود، فيكون المقام قرينة اخرى على أنّ المراد من العقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هو العهود.

السابع:

يستفاد من إطلاق الآية الشريفة كفاية الغسلة الواحدة، و مسمّى المسح في الوضوء و التيمّم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ إطلاق قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا يدلّ على وجوب غسل جملة البدن كلّه من دون استثناء، فيدخل فيه كلّ ما يمكن إيصال الماء إليه، إلاّ ما خرج بالدليل - كبواطن العين و الاذن و الأنف و الفم - فإنّه عزّ و جلّ لم يقيّد أن تكون الطهارة ببعضه.

و الحقّ : أنّ الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل إنّ إطلاقها يدلّ على كفاية مسمّى التطهير و لو لم يستوعب جميع البدن كلّه، و إنّ الاستيعاب قيد مشكوك و كلفة تنفى بالأصل. إلاّ أنّ السنّة الشريفة البيانيّة منها و غيرها بيّنت الاستيعاب في الغسل و ذكرت خصوصياته بأتمّ وجه و أكمل بيان، فلا مجال حينئذ للأصل.

نعم، لو فرضنا الشكّ في تحقّق الاستيعاب، فمقتضى الأصل بقاء الجنابة، إلاّ إذا حصل الاستيعاب، و يكفي مسمّاه.

الثامن:

إطلاق قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يشمل جميع أنواع الطهارة و أقسامها من طهارة الباطن و الظاهر، ففي الحديث عن الكاظم عليه السّلام: «من توضّأ للمغرب، كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في النهار، و من توضّأ لصلاة الصبح، كان ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليله»، و قريب منه غيره.

و ذكر بعضهم أنّ الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل، و طهارة الذكر من النسيان، و طهارة اليقين من الشكّ ، و طهارة العقل من الحمق، و طهارة الظنّ من التهمة، و طهارة الإيمان بما دونه، و طهارة القلب من الإرادات. و إسباغ طهارة الظاهر يورث طهارة الباطن، و إنّ إتمام الصلاة يورث الفهم و اليقين و القرب لديه عزّ و جلّ .

ص: 36

بحث روائي:

عن الشيخ بإسناده عن ابن بكير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى:

إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ ما يعني بذلك ؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع و لا يسمع الصوت».

أقول: يستفاد من هذه الصحيحة امور:

الأوّل: أنّ النوم ناقض للوضوء و رافع للطهارة، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة ذكرها المحدّثون في كتبهم و استقر عليه المذهب، فما عن صاحب المنار في تفسيره من أنّ الشيعة ذهبوا إلى عدم نقض النوم للوضوء، مجرّد افتراء، و كم لهم من هذه الافتراءات على هذه الطائفة التي تلقّت أحكامها من عين صافية مرتبطة أشدّ الارتباط بالمبدأ جلّ شأنه، لا من الأمور الوهميّة الظنيّة. و كيف كان غفر اللّه تعالى لنا و له.

الثاني: أنّ المدار على تحقّق النوم لا مقدّماته، و يعرف ذلك بعلامات أقواها الغلبة على السمع، لأنّ حاسة السمع من أدقّ الحواس، فإذا فقدت ذهبت البقيّة غالبا، و في بعض الروايات: «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم، أي: لا يسمع»، و لعلّ ما ورد في تلقين المحتضر أن يدنو الملقّن فمه إلى اذنه أو يجعله على اذنه، لأجل هذه الجهة، لضعف سمعه في تلك الحالة، أعاننا اللّه تعالى في تلك الشدّة.

إن قلت: إنّ الواقع خلاف ذلك، فقد يكون حسّ اللمس أقوى، إذ النائم يحرّكه و خز الإبرة مثلا أو و خز الهوام، مع أنّه لا يسمع صوت من بجنبه.

قلت: على فرض الكلّية في ذلك لا ينافي ما تقدّم، لأنّ الصوت و الوخز من الأمور التشكيكيّة، قابلة للشدّة و الضعف في الجسم السليم.

الثالث: أنّ النوم ناقض لمطلق الطهارة، سواء حصلت من الوضوء أو الغسل، مثل غسل الجنابة أو التيمّم.

ص: 37

الرابع: لا فرق في النوم بين ما حصل مقدّماته بالاختيار أو بغير الاختيار، بواسطة دواء - كما إذا شرب أو بلع من الأدوية العصريّة المنوّمة - أو تعب، كلّ ذلك لإطلاق ما تقدّم.

الخامس: أنّ المدار في عدم السماع النوع و الغالب، فلو كان شخص فاقد السمع لصمم أو غيره، يرجع فيه إلى العلامات الاخرى المقرّرة في الشرع، كالغلبة على البصر، أو عدم الإحساس مثلا، فإن حصل له الاطمئنان بالنوم بطلت طهارته، و إلاّ فيرجع إلى الحالة السابقة.

و في الدر المنثور للسيوطي بإسناده عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ : «انّ ذلك إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم».

أقول: القيام إذا تعدّى ب (إلى) يفيد العزم و الإرادة كما مرّ، و إذا تعدّى ب (من) يفيد الانتهاء، و الجامع فيه العزم، سواء أ كان بالشروع في الشيء و الابتداء فيه، أم الفراغ و الانتهاء منه.

و عن الشيخ، عن المفيد، بإسناده عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ على الخفض أم على النصب ؟ قال: بل هي على الخفض».

أقول: تقدّم أنّ الخفض هو الموافق للقواعد الأدبيّة.

و في سنن البيهقي بإسناده عن رفاعة بن رافع: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

للمسيء صلاته: إنّها لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه، يغسل وجهه و يديه إلى المرفقين، و يمسح رأسه و رجليه إلى الكعبين».

أقول: الرواية ظاهرة بل ناصّة في مسح الرأس و الرجلين كما تقدّم في التفسير، و إنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يديه إلى المرفقين» قيد للمغسول لا للغسل، أي: أنّ اليد إلى المرفق تغسل، لا كلّها.

و عن البيهقي في السنن بإسناده عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه».

ص: 38

أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا، و إنّها مطابقة للمرتكز العرفي.

و في الكافي بإسناده عن الهيثم بن عروة التميمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ فقلت: هكذا؟ و مسحت من ظهر كفّي إلى المرافق، فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنّما هي: (فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق)، فقام ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه».

أقول: فسّر الإمام عليه السّلام الآية المباركة قولا و فعلا، و المراد من التنزيل التفسير و نقل الآية الشريفة بالمعنى.

و عن ابن عباس: «الوضوء غسلتان و مسحتان».

أقول: ورد مثله عن أئمتنا عليهم السّلام، و هو يدلّ على مسح الرأس، كما يدلّ على مسح الرجلين.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قلت له: أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي له أن يتوضّأ، الذي قال اللّه عزّ و جلّ ، فقال: الوجه الذي أمر اللّه بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه و لا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، و إن نقص منه أتمّ ما دارت عليه السبابة و الوسطى و الإبهام من قصاص الرأس إلى الذقن، و ما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه، و ما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت: الصدغ من الوجه ؟ قال: لا».

أقول: ما ورد في الرواية من باب التحديد الشرعي، و الإتيان لأجل المقدّمة العلميّة، و الاحتياط لا بأس به في الزيادة، و أما النقيصة فيأثم لعدم إتيان المأمور به، و الصدغ بضمّ الأوّل ما بين العين و الاذن.

و في الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أخبرني عن حدّ الوجه، أ رأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء».

ص: 39

أقول: طلب ما تحت الشعر بإجراء الماء عليه نحو حرج، و الآية الشريفة و الرواية تنفيانه.

و في الكافي بإسناده عن زرارة و بكير: «أنّهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فافرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرافق، ثمّ غمس كفّه اليمنى ففرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق و صنع ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه، لا يحدث لهما ماء جديدا، قال: و لا يدخل أصابعه تحت الشراك، ثمّ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلاّ غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلاّ غسله، لأنّ اللّه يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، ثمّ قال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ، فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه، فقلنا: أين الكعبان ؟ قال: هنا، يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق و الكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك اللّه و الغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذراع ؟ قال: نعم إذا بالغت فيها و اثنتان يأتيان على ذلك كلّه».

أقول: التور إناء صغير يجعل فيه الماء، و هذه الصحيحة من امّهات الروايات البيانيّة التي تبيّن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تشرحه شرحا وافيا غير قابل للشكّ فيه، و قد تمسّك الفقهاء بها في باب الوضوء لنفي الشرط أو الجزء المشكوكين، و قد جمع فيها الإمام عليه السّلام الفرض و السنّة و تعيين السنّة لا تكون إلاّ بروايات اخرى.

و يستفاد من هذه الصحيحة و أمثالها أنّ الوضوء - الذي هو شرط لصحّة طبيعة الصلاة التي هي عمود الدين - في غاية اليسر، لعموم الابتلاء به، و لم يكن

ص: 40

فيه أي تعقيد و تضييق، و لعلّه لأجل ذلك ختمت الآية المباركة بنفي الضيق و الحرج.

و في الكافي بإسناده عن حريز، عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين ؟ فضحك ثمّ قال:

يا زرارة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نزل به الكتاب عن اللّه تعالى، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال:

وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ، فعرفنا حين قال: برؤسكم، أنّ المسح ببعض الرأس، لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس - كما وصل بالوجه - فقال: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس فضيعوه، ثمّ قال: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، فلما وضع الوضوء إن لم تجدوا ماء، أثبت بعض الغسل مسحا، لأنّه قال: بِوُجُوهِكُمْ ثمّ وصل بها وَ أَيْدِيَكُمْ ، ثمّ قال: مِنْهُ ، أي: من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ و لا يعلق ببعضها ثمّ قال: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».

أقول: سؤال زرارة - مع جلالة قدره، و أنّه من أجّلاء الأصحاب و أكابر الرواة، و به و بأمثاله حفظ اللّه الحقّ ، و لو لا هم لاندرست معالم الدين و أطفئت أنوار اليقين - لا موضوع له بعد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و لعلّ ضحكه عليه السّلام تلويح إلى ذلك. و كيف كان فالإمام عليه السّلام استدلّ بالكتاب لجميع أجزاء الوضوء و التيمّم استدلالا وافيا غير قابل للشكّ .

و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السّلام قال: «الأذنان ليسا

ص: 41

من الوجه و لا من الرأس، قال: و ذكر المسح فقال: امسح على مقدّم رأسك و امسح على القدمين و ابدأه بالشقّ الأيمن».

أقول: الأذنان من الرأس في الإحرام، و أما في الوضوء فليستا من الرأس، بل هو منبت الشعر فقط و هو مع الأذنين رأس الصائم، و في الغسل مع الرقبة، كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ ، و إلاّ فمقتضى اللغة لا تكونان منه، و كذلك أنّهما ليستا، من الوجه فلا يجب غسلهما و لا مسحهما، و ذيل الرواية يدلّ على الترتيب مقدّما الرجل اليمنى على اليسرى.

و في تفسير العياشي عن زرارة بن أعين و أبي حنيفة، عن أبي بكر ابن حرم قال: «توضّأ رجل فمسح على خفّيه فدخل المسجد، فصلّى، فجاء علي عليه السّلام فوطئ على رقبته فقال: ويلك تصلّي على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطاب، فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال: انظر ما يروي هذا عليك ؟ و رفع صوته فقال: نعم أنا أمرته أنّ رسول اللّه مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي و أنت لا تدري ؟ سبق الكتاب الخفّين».

أقول: يعتبر في المسح المماسة، و لا يجوز المسح على الحائل، خفّا كان أو غيره، و الظاهر من هذه الرواية أنّ المسح على الخفّين شاع في عصر الخليفة الثاني، و بعد نزول آية الوضوء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه لم يمسح على الخفّين أصلا، بل و قبله أيضا، و ذلك متّفق عليه، و لأجل ذلك كان المسح على الخفّين في زمن عمر محلّ خلاف شديد بين المسلمين، و الشاهد على ذلك ما رواه الكافي بإسناده الصحيح عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: في المسح على الخفّين تقيّة ؟ فقال عليه السّلام: ثلاث لا أتقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر، و المسح على الخفّين، و متعة الحجّ »، فيستفاد منها أنّ استنكار المسح على الخفّين ممّا ذهب إليه أغلب المسلمين في زمن الخليفة الثاني كاستنكار شرب المسكر، فلا مجال للتقيّة فيهما، كما لا مجال لها في متعة الحجّ .

ص: 42

و من هنا لو استلزم المسح على الخفّين في مورد قتل نفس محترمة أو إهانتها أو غيرهما، تجري التقيّة بلا شكّ ، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ .

و ما قيل: إنّه ورد عن طرق العامّة أن جمعا: كبراء و بلال، و حرير، و غيرهم - رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين.

مردود، أمّا أولا: فإنّه تنافيه الروايات البيانيّة التي صدرت عن المعصومين عليهم السّلام كما تقدّم بعضها، بل و غيرها كما ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور و غيره.

و ثانيا: محمول على مورد خاصّ و فرد نادر لأجل مصالح خاصّة مسح على الخفّين، فانتهى أمد الحكم برفعها.

و كيف كان، فإنّه بعد نزول الآية المباركة لا يبقى مجالا للمسح على الخفّين، لأنّها تثبت المسح إلى الكعبين، و الخفّ ليس من القدم بالوجدان، فاستنكار علي عليه السّلام في محلّه.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام أنّ عليا عليه السّلام خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطاب، قالوا: رأينا النبي صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين. فقال على عليه السّلام: قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: و لكن أدري أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة، و لأنّ أمسح على ظهر حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين، و تلا هذه الآية:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله تعالى - وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ».

أقول: الرواية تدلّ على ما تقدّم، و التنزيل إنّما هو في عدم الأثر.

و فيه أيضا عن محمد بن أحمد الخراساني قال: «أتي أمير المؤمنين عليه السّلام رجل فسأله عن المسح على الخفّين، فأطرق في الأرض مليا ثمّ رجع رأسه فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أمر عباده بالطهارة و قسّمها على الجوارح، فجعل للوجه منه نصيبا،

ص: 43

و جعل للرأس منه نصيبا، و جعل للرجلين منه نصيبا، و جعل لليدين منه نصيبا، فإن كانتا خفّاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما».

أقول: استدلاله عليه السّلام بالآية المباركة لنفي المسح على الخفّين كان استدلالا وافيا غير قابل للخدشة، و منه يظهر عدم جواز المسح على العمامة أو الخمار و الحذاء.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت: يمسح الرأس ؟ قال: إنّ اللّه يقول: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ، فما مسحت من رأسك فهو كذا. و لو قال: (امسحوا رؤوسكم) فكان عليك المسح كلّه».

أقول: تقدّم ما يدلّ على ذلك، فإنّ التبعيض ظاهر من الآية الشريفة.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن التيمّم فقال: إنّ عمّار بن ياسر أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: أجنبت و ليس معي ماء؟ فقال: كيف صنعت يا عمّار؟ فقال: نزعت ثيابي ثمّ تمعكت على الصعيد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، ثمّ وضع يديه جميعا على الصعيد ثمّ مسحهما ثمّ مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه ثمّ ذلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكفّ ، بدأ باليمين».

أقول: هذه الرواية من الروايات البيانيّة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بيّن كيفيّة التيمّم.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».

أقول: الآية المباركة و السنّة الشريفة هما من أدلّة «قاعدة نفي الحرج»، التي يأتي البحث عنها.

و في الأسماء و الصفات للبيهقي بإسناده عن معاذ بن جبل قال: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك الصبر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

سألت البلاء فاسأله المعافاة. و مرّ على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك تمام

ص: 44

النعمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن آدم هل تدري ما تمام النعمة ؟ قال: يا رسول اللّه دعوت بها رجاء الخير. قال صلّى اللّه عليه و آله: تمام النعمة دخول الجنّة و الفوز بالنجاة من النار. و مرّ على رجل و هو يقول: يا ذا الجلال و الإكرام. قال صلّى اللّه عليه و آله: قد استجيب لك فسل».

أقول: عن بعض مشايخي في العرفان: أنّ ذكر «يا ذا الجلال و الإكرام» له آثار كثيرة، منها كشف المهمّات، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اشتدّ عليكم البلاء فلوذوا بيا ذا الجلال و الإكرام»، و قد ورد هذا الذكر المبارك في كثير من الدعوات المأثورة عن أئمتنا المعصومين عليهم السّلام.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال: «لما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية قالوا: سمعنا و أطعنا، نقضوا ميثاقه».

أقول: الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها، و يناسب ذلك الربط بين الآيات المباركة.

و عن الطبرسي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام: «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات، و كيفيّة الطهارة، و فرض الولاية».

أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و أنه تابع لمتعلّقه.

و في الكافي باسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ، قال: هو الجماع، و لكنّ اللّه ستير يحبّ الستر فلم يسم كما تسمّون».

أقول: من أدبه سبحانه و تعالى أن يكنّى عن مطلق ما يستقبح ذكره، لأنّه تعالى حيي و يحبّ الحياء.

و في الدر المنثور عن ابن عباس: «انّه كان يطوف بالبيت بعد ما ذهب بصره و سمع قوما يذكرون المجامعة، و الملامسة، و الرفث و لا يدرون معناه واحد أم شتى ؟ فقال: اللّه أنزل القرآن بلغة كلّ حي من أحياء العرب، فما كان منه لا يستحي الناس من ذكره فقد عناه، و ما كان منه يستحي الناس فقد كنّاه، و العرب يعرفون

ص: 45

معناه لأنّ المجامعة، و الملامسة، و الرفث - و وضع إصبعيه في أذنيه ثمّ قال: ألا هو النيك».

أقول: لعلّ وضع حبر الامّة إصبعيه في أذنيه مع أنّه يعلم شرف المكان و قداسته، و ما عرض عليه من الانقطاع إليه جلّ شأنه بذهاب بصره كما هو الغالب، لأجل إعلامهم و تفهيمهم معاني الكلمات بتصريح يصحّ ذكره، و اللّه العالم.

بحث فقهي:

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام و القواعد التالية:

الأوّل: شرطية الطهارة للصلاة، و بطلانها بلا طهارة. و هذا الشرط واقعيّ لها لا علميّ بالأدلّة الثلاثة، فمن الكتاب الآية المباركة كما عرفت، و قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: 43].

و يمكن تأسيس قاعدة كلّية، و هي: «أنّ كلّ شرط ورد في الكتاب الكريم واقعيّ ، إلاّ إذا دلّ دليل معتبر على أنّه علميّ »، كالطهارة و الاستقبال في الصلاة، و الرضاء في التجارات، و شرائط الإرث مطلقا و غيرها، و ما خرج بالدليل كالتسميّة في الذبيحة، و سيأتي الاستدلال على هذه القاعدة و الاستثناء عنها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و من السنّة روايات كثيرة بلغت التواتر، ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور»، و عن علي عليه السّلام في المعتبرة: «افتتاح الصلاة الوضوء»، و في الصحيح أيضا عن الصادق عليه السّلام: «الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود»، و غيرها من الروايات التي يستفاد منها أنّ الطهارة شرط واقعي

ص: 46

للصلاة، فإذا انتفت انتفى المشروط.

و من الإجماع ما هو ضروري بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، بل و آرائهم المتشتّتة.

و ممّا ذكرنا يمكن استفادة قاعدة كلّية، و هي: «كلّ صلاة لا تصحّ إلاّ مع الطهارة»، عدا صلاة الميت و فاقد الطهورين.

و لا فرق في الطهارة المبيحة للصلاة بين مناشئها كالوضوء و التيمّم - إن حصل مسوّغاته - و غسل الجنابة لا مطلق الغسل المندوب و غيره، على ما ذهب إليه المشهور، و من فقهائنا (رضوان اللّه عليهم أجمعين) و هو المؤيّد المنصور.

الثاني: يستفاد من الآية المباركة اعتبار النيّة في الوضوء، و الصلاة، لقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ ، و قوله تعالى: فَاغْسِلُوا ، و قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا ، و غيرها من الأفعال المتقوّمة بالقصد و الإرادة، فلا تصحّ طهارة الساهي و صلاته، و كذا الغافل، بل كلّ صلاة فاقدة للنيّة، أو كلّ عبادة إذا لم يتحقّق فيها النيّة و قصد التقرّب إليه تعالى، محكومة بالفساد.

الثالث: كفاية وضوء واحد - أو طهارة واحدة - لصلوات متعدّدة أو كلّ ما يشترط فيه الطهارة، و كذا غسل واحد و إن تعدّدت الأسباب، كتعدّد الجماع و غيره، لإطلاق الآية الشريفة و كثير من الروايات، و نصوص خاصّة، منها:

قوله عليه السّلام: «إذا اجتمع عليك من اللّه حقوق، يكفيك غسل واحد»، و يعبّر عن ذلك بقاعدة: «التداخل»، و هي و إن كانت خلاف الأصل، و لكنّها في الطهارات متّفق عليها، لما تقدّم، و التعدّي عنها يحتاج إلى دليل.

ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة تعميم الحكم لمطلق المكلّفين - المحدثين و غيرهم - أي: كلّ من قام إلى الصلاة، و لكن خصّ ذلك بالمحدثين، لما تقدّم من الروايات. نعم ورد في بعض الروايات: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، الظاهر منه الاستحباب، فإنّ في كلّ وضوء تقرّبا إليه تعالى، و لا يجري ذلك في غيره من ذوات الأسباب، كغسل الجنابة و غيرها، فتأمّل و اللّه العالم.

ص: 47

الرابع: مقتضى الأصل في الطهارات الغسل بالماء مع الشرائط، إلاّ ما دلّ دليل على بدليّة التراب، حدثا كان أو خبثا، و مستند هذا الأصل الآية الشريفة، و السنن المعصوميّة، و سيأتي في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ما يتعلّق به.

الخامس: يستفاد من هذه الآية الكريمة و غيرها من آيات الأحكام قاعدة كلّية، و هي: «إتيان المكلّف العمل العباديّ مباشرة مع تمكّنه، إلاّ ما خرج بالدليل»، و يدلّ عليها قوله تعالى: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ، و من السنّة الشريفة روايات مذكورة في الأبواب المتفرّقة.

و يمكن إقامة الدليل العقليّ عليها، فإنّ التكليف - أو المسؤولية المتوجّهة إلى الشخص - لا يسقط إلاّ بقيامه بالعمل بنفسه، و لو أتى به غيره فمقتضى الأصل بقائه و عدم سقوطه، و الفطرة المستقيمة تدلّ على ذلك أيضا. و أما الاستعانة في مقدّمات العمل العباديّ كصبّ الماء في الغسل، فيجوز - حتّى ورد ذلك في غسل الميت - و لكن في خصوص الوضوء تكره فيه، للنصّ المحمول عليها.

السادس: ظاهر الآية الشريفة يدلّ على إيصال الماء إلى جميع محال الوضوء أو الغسل برفع الموانع عنها، لأنّ التعبير فيها بالغسل دون الصبّ أو الجري، و لعلّ ما ورد في السنّة من وجوب إيصال الماء إلى جميع محالّ الوضوء أو الغسل، مأخوذ من الآية المباركة. نعم هناك موارد خاصّة لا يضرّ الحجب، لأدلّة خاصّة مذكورة في الفقه يعبّر عنها بالجبيرة.

كما أنّ المستفاد من إطلاق المسح في الآية المباركة بالرأس و الرجل، المسح على بعضهما، لمكان الباء، و جواز النكس في مسح الرأس، بل إطلاقها يدلّ على جواز المسح بماء مستأنف و مطلق الرطوبة، كما في التيمّم، حيث لا حاجة فيه إلى العلوق - إلاّ أنّ الروايات البيانيّة و غيرها قيّدت ذلك ببقيّة بلل الكفّ من الوضوء.

السابع: الآية المباركة تدلّ على وجوب الترتيب بالنيّة مقارنا لغسل الوجه

ص: 48

ثمّ اليد اليمنى و بعده اليسرى ثمّ مسح الرأس، و ينتهي الوضوء بمسح القدمين، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ابدءوا بما بدأ اللّه به».

كما يستفاد منها الموالاة، لأنّ الأمر - الوارد في أعمال الوضوء المذكورة فيها بقرينة قول الصادق عليه السّلام في صحيحة الحلبي: «اتبع وضوءك بعضه بعضا»، و للروايات البيانيّة و الإجماع - للفور، و ذكرنا معنى الموالاة في كتابنا (مهذب الأحكام) في باب الوضوء.

الثامن: إطلاق الآية الكريمة يقتضي كفاية مرّة واحدة في الوجه أو اليدين، و أنّ الغسلة الثانية مستحبّة، لأجل روايات خاصّة، و في المسح يكفي مرّة، لظاهر الآية المباركة.

التاسع: ذكر سبحانه و تعالى في الآية المباركة أصحاب الأعذار في استعمال الماء، فمنها: المرض، و إطلاقه يشمل جميع أقسامه و أنواعه، بلا فرق بين أن يحصل باستعمال الماء، أو كان حاصلا و يتأخّر البرأ منه باستعماله، فالمدار كلّه المرض الذي يضرّه استعماله الماء، إما بالوجدان أو بإخبار أهل الخبرة. نعم لو كان المرض لا يضرّه الماء، كوجع الاذن مثلا، أو الأمراض الباطنيّة التي ظهرت في هذه الأعصار، كمرض ضغط الدم، أو بعض أقسام الصداع، فحينئذ يجب الوضوء بلا شكّ .

و منها: السفر كما هو الغالب خصوصا في البراري و الصحاري، و يدلّ على ذلك تنكير (سفر).

و منها: مطلق الحدث الأصغر، سواء كان المحدث مسافرا أو مريضا أو صحيحا في بلده و لكن يعجزه تحصيل الماء.

و منها: ما يوجب الغسل بالجماع أو الاحتلام، و الآية الشريفة ذكرت الفرد الغالب أو الأكثر من محلّ الابتلاء بالكناية كما تقدّم.

فهذه اصول الأعذار و ما سواها يرجع إليها كما هو واضح.

ص: 49

العاشر: يستفاد من الآية المباركة الواردة في التيمّم الأحكام التالية:

الأوّل: عدم وجود الماء الأعمّ من عدم الوجدان، أو عدم التمكّن من استعماله، سواء لم يجد ما يكفيه للطهارة، أو وجد ما يكفيه لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم العدم، لأنّ المراد من قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا لتحصيل الطهارة المبيحة لما هو مشروط بها.

الثاني: القصد مقارنا لضرب اليدين على الأرض، لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا .

الثالث: أن يكون التيمّم بمسمّى الأرض - سواء كان ترابا أم صخرا أو مدرا أم حصى - لإطلاق الصعيد الوارد في الآية الكريمة.

الرابع: أن يكون طاهرا و غير مغصوب، لإطلاق قوله تعالى: طَيِّباً .

الخامس: أن يكون المسح بباطن الكفّ ، لقوله تعالى: فَامْسَحُوا ، فإنّ المتبادر من المسح لغة و عرفا إمرار باطن الكفّ على الممسوح، إلاّ أن تكون قرينة على الخلاف أو مانع شرعيّ فيه.

السادس: مقتضى إطلاق الآية الشريفة كفاية وضع اليدين معا على ما يصحّ به التيمّم، إلاّ أنّ الوارد في السنّة المباركة (الضرب)، و هو الوضع المشتمل على الاعتماد، لا مجرّد الوضع، لصحيحتي الكاهلي و زرارة المذكورتين في الفقه.

و لا يشترط العلوق باليد، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة.

السابع: مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين و إلى الطرف الأعلى المتصل بالجبهة، لأنّه القدر المتيقّن من التبعيض الوارد في الآية الشريفة، مضافا إلى الروايات البيانيّة و غيرها.

الثامن: أن يكون المسح بباطن كلّ من كفّيه معا، لظاهر الآية الشريفة و ما ورد من الروايات. نعم لا يجب المسح بتمام كلّ من الكفّين، و يكفي المسح ببعضهما على نحو يستوعب الجبهة و الجبينين.

كما يكفي الضربة الواحدة فيه، لظاهر الآية الشريفة، سواء كان بدلا عن

ص: 50

الوضوء أم الغسل، و لكن المسألة محلّ خلاف، و لا مبرّر لذكره هنا، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

التاسع: مسح ظاهر الكفّين، و حدّهما الزندان، لظاهر الآية الشريفة و الروايات البيانيّة و غيرها.

العاشر: الترتيب - بأن يضرب على الأرض بعد النيّة، ثمّ يمسح الوجه، ثمّ ظاهر اليمنى باليسرى ثم ظاهر اليسرى باليمنى - و الموالاة، لظاهر الآية الشريفة بإعانة الروايات التي سبقت للبيان، و ذكرنا ما يتعلّق بمعنى الموالاة في الوضوء و التيمّم في الفقه.

الحادي عشر: أنّ الضرب للتيمم واحد في جميع الأغسال، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة في بيانه.

الثاني عشر: ظاهر الآية الشريفة أنّه يباح بالتيمم كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، لمساوقته لما قبله، فيجوز أن يصلّي بتيمّم واحد صلوات متعدّدة، و لا يجب عليه الإعادة بعد المكنة من الماء، و يتعقّب المقام فروع كثيرة ذكرناها في الفقه. كما أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التيمّم أيضا، لما تقدّم.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، على قاعدة عامّة تجري في جميع أبواب الفقه، و هي: «قاعدة نفي الحرج»، و أنّها من امّهات القواعد الفقهيّة، و تختصّ بالأحكام الفرعيّة الإلزاميّة، كما هو شأن كلّ قاعدة فقهيّة، و مقتضاها سقوط الحكم الحرجيّ إن لم يكن له بديل لا حرج فيه، و إلاّ ينتقل الحكم إليه.

و المراد من الحرج عدم الطاقة و الشدّة في امتثال الحكم أو إتيان التكليف من ناحية المكلّف، و أما لو كان التكليف في حدّ نفسه حرجيّا بحسب الظاهر - كالجهاد، و الحجّ ، و أداء الحقوق الشرعيّة، و الصوم - فلا تشمله القاعدة أصلا، لأنّ التشريع كذلك، ففي الواقع لا حرج، فالأحكام تابعة للمصالح و المفاسد.

ثمّ إنّ الحرج المنفي فيها الحرج العرفيّ الشخصيّ ، كما في المرض و الخوف

ص: 51

و غيرهما، لاختلاف النفوس و الاستعدادات حسب الأفراد، فإذا كان في امتثال الحكم حرج بحسب الأنظار العرفيّة و الأمزجة الخاصّة، يتبدّل الحكم أو يرتفع.

و مستند القاعدة الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و غيره كما يأتي.

و من السنّة روايات مختلفة مذكورة في أبواب متفرّقة، منها ما عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، كيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه السّلام: تعرف هذا و أشباهه في كتاب اللّه تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ».

و من الإجماع، فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

و من العقل حكمه بقبح التكليف في مورد الضيق و الشدّة، و أنّ العسر على الإطلاق غير مرغوب فيه، و لعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت بالشريعة السمحاء السهلاء» في مقام الامتنان إشارة إلى ذلك.

و ممّا تقدّم ظهر أنّ استيعاب محال الوضوء بالتراب في التيمّم ليكون على نحو الطهارة المائيّة، حرج مرفوع لم يكلّف اللّه تعالى به العباد.

و هذه القاعدة لا تجري في حلّية المحرّمات، فمن كان في حرج من عدم الاغتياب أو التهمة أو الكذب، لا تحلّ له، للإجماع، و لأنّ مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص. و أنّها مقدّمة على جميع الأحكام و القواعد حتّى قاعدة: «لا ضرر».

و ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول) الفرق بين الضرر المرفوع في الشرع و الحرج، بأنّ الأوّل أعمّ من الثاني.

و قاعدة «لا حرج» كقاعدة «لا ضرر» ترخيصيّة امتنانيّة، لا أن تكون على نحو العزيمة، و تظهر الثمرة فيما لو ارتكب العمل مع الحرج بناء على الترخيص، يصحّ العمل دون العزيمة.

ص: 52

و دعوى: سقوط الأمر لأجل الحرج، فلا وجه لصحّة العلم العباديّ المتقوّم بقصد الأمر.

مدفوعة: بأنّ سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك، و مقتضى الأصل بقاؤه إلاّ أن يدلّ دليل على سقوطه أيضا.

و الفرق بين الحرج و الضرر أنّ الأوّل أعمّ موردا من الثاني، لشموله للمشقّة التي لا تتحمّل عادة، و إن لم يكن نقص في البين، و قد ثبت في محلّه أنّ الأمور إما دون الطاقة، أو بقدرها، أو فوقها، و الأول مورد في جملة من الأخبار، و الثاني مورد الحرج، و الثالث مورد الضرر.

و نفي الحرج كنفي الضرر يحتاج إلى التقدير، و فيه أقوال ذكرناها في علم الأصول، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (تهذيب الأصول) و اللّه العالم.

بحث عرفاني:

الإنسان المتخلّق بأخلاق اللّه تعالى يكون مظهرا من صفات لطف الحقّ ، و لذا يكون قبوله قبول الحقّ ، و ردّه ردّ الحقّ ، و لعنه لعن الحقّ ، و يكون دعاؤه دعاء الحقّ و كذا صلاته، فإذا صلّوا على أحد كان صلاتهم صلاة الحقّ ، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى:

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

162]، و قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب، الآية: 43].

و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلاّ بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيّا، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ : قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل - كما هو المصطلح عند العرفاء -.

ص: 53

و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلاّ بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيّا، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ : قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل - كما هو المصطلح عند العرفاء -.

و أهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا، فمرتبتهم و إن كانت راقية و لكنها دون مرتبة الصف الأوّل، كما هو واضح و هم الخواص.

و أهل الصف الثالث آمنوا بعد ما سمعوا الخطاب سماع فهم و رواية، و هم المرتبة النازلة عن المرتبتين، و هم المسلمون و عوام المؤمنين.

و أهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا، لأنّهم ما عاينوا، و لا شاهدوا، و لا سمعوا، فكانوا بعيدين عن خطاب الحقّ فلم يسمعوه، و إنّما انتظروا و لم يؤمنوا حتّى سمعوا جواب أهل الصفوف، و كان سماعهم سماع قهر و نكاية، و هم المنافقون المذنبون.

و أهل الصف الخامس و هم اعترفوا ثمّ أنكروا، لقربهم إلى الشيطان و بعدهم عن الرحمن، و هم الكافرون.

و أهل الصفوف آمنوا في ذلك العالم - بالعيان أو المشاهدة، أو السماع، أو التقليد - كذلك آمنوا في هذا العالم حسب ذلك الإيمان، كما سيأتي في قوله تعالى:

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا .

و لعلّ المراد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ من نوم الغفلة، و خرجتم من ظلمات الجهالة، و انتبهتم من رقدة الفرقة و من عتاب الأحبّة، إِلَى اَلصَّلاةِ التي بها تصفي النفوس من لوث الأشباح، و هي المعراج للرجوع إلى مقام القرب، و إنّها أرق و أصفى من المناجاة مع الربّ :

و لقد خلوت مع الحبيب و بيننا *** سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه، و قامت الملائكة يصلّون بصلاته»، فإذا تمّت

ص: 54

التصفية، و استخفّت الروح و رفع الحجاب، فحينئذ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ ، و قبل ذلك كلّه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، التي توجّهتم بها إلى الأغيار و دنوتم بها إلى الشيطان، بماء التوبة و الاستغفار، وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فاغسلوا أيديكم عن الدنيا كلّها حتّى عن الصديق الموافق و الرفيق المرافق، و في الأثر: «انّ المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين خوفا منه». و توجّهوا إلى بارئكم، و خالقكم، و رازقكم، وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ببذل نفوسكم و فنائها حتّى تشرق عليها شوارق الأنوار، وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ اغسلوا أرجلكم عن تراب الأنانيّة و طين الشهوة إلى أن يحصل لكم شرف حضور القلب بكعب مقام الخلّة، وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً بالالتفات و التوجّه إلى الحجب الماديّة بالسير في الملذّات النفسانيّة، فَاطَّهَّرُوا النفوس عن المعاصي، و القلوب عن رؤية الأغيار، بذلّ العبوديّة للّه تعالى و مخالفة الهوى، ففي الأثر: «انّ سلمان الفارسي سافر في زيارة بعض الأصحاب من العراق إلى الشام راجلا و عليه كساء غليظ غير مضموم، فقيل له:

أشهرت نفسك ؟ فقال: الخير خير الآخرة، و إنّما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا اعتقت لبست حلّة لا تبلى حواشيها»، فلا بدّ بطهارة الأرواح عن الاسترواح من غيره، وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بمرض حبّ الدنيا و طلب الجاه، و النيل إلى المقام أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى و السير في زوايا الأوهام بالاستيناس مع الأغيار، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ في قضاء حاجة مادّية و شهوة شيطانيّة، أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ بتحصيل لذّة من اللذّات بالبيع من الأشباح أو شراء ما يوجب الاستيناس بغيره جلّ و علا، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للطهارة عن الأدناس بالبعد عن الحقائق، و لم يهدكم أحد إلى التوبة و الاستغفار من ضعف نفوسكم، فَتَيَمَّمُوا بالتمعّك في تراب أقدام الأنبياء، فإنّه طهور للذنوب العظام و سبيل للدخول في نعم الرحمن، فإنّ الجنّة تجرّ أهلها، قال صلّى اللّه عليه و آله: «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسلاسل»، فلا تيئسوا من رحمته و فيوضاته، صَعِيداً طَيِّباً فإنّ إخلاصهم للّه

ص: 55

تبارك و تعالى يوجب خلاصكم و نجواهم معه جلّ شأنه سبب لنجاتكم، و في الأثر:

«من صلّى خلف مغفور، غفر اللّه له»، فطهّروا نفوسكم بالاقتداء بهم، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ من غبار نعالهم و شمّروا لخدمتهم، ففي الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما صنعت يا بلال ؟! سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة، فقال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم اتطهّر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلاّ صلّيت بذلك الطهور»، فسيروا على نهجهم و تمسّكوا بهم، وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي: اعتصموا بقوّة لهم، لأنّهم حبل اللّه الأعظم، بهم ينوّر اللّه تعالى قلوب العباد، و بهم يخرجون الناس من الظلمات و ترفع الحجب المهلكات، ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، لأنّه تعالى يحبّ خلقه فلا يريد لهم الذلّة بالضيق في الحجاب، وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينقيكم من الشرك بالرقي إلى المقام الرفيع، بالنيل إلى الإخلاص و الفوز بالجزاء، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، و الوصول إلى ساحة القرب بالوصال: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بكسر أنوار الهواية و الاستقرار في الجنّة العالية، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بعد هدايتكم للنعم الإلهيّة و الأنوار الربانيّة و الهبات السماويّة، فاذكروا تلك النعم و اشكروه حتّى يزيدكم من فضله، وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ ، فلا تنسوا آلائه تعالى عليكم، و ما منّ عليكم بختم النبوّة في أشرف الكائنات و فخر الموجودات، و بالولاية لسيّد الأوصياء الذي اصطفاه لحبّه و اجتباه لحضرته، وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ في ظهر آدم و عالم الميثاق، أو الميثاق الذي أخذه نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين بايعه المسلمون، فعن أبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) قال: «بايعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسا و أوثقني سبعا و أشهد اللّه عليّ سبعا أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»، فهو (رضوان اللّه عليه) رفض الدنيا و هاجر إلى ربّه بعد ما مدّ يد البيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دافع عن الحقّ و الولاية بوحده، حتّى عاش وحده زاهدا و مات وحده شهيدا، و هاجر إلى ربّه مظلوما، فسلام اللّه تعالى عليه حين أسلم و حين قام و قعد و حين رجع إلى

ص: 56

ربّه مطمئنا و فاز بما وعد اللّه تعالى له على لسان النبي الأمين إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ، لأنّه أخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود، فسمعتم قول ربّكم حيث قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، و أطعتم حيث قلتم «بلى» حسب اختلاف تأهّلكم، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في نقض ميثاقه و نسيان نعمه، إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ ، لأنّه يعلم الأسرار و الخفايا و ما يكن في الصدور، فأوفوا بعهوده و لا تنقضوها، و اتّقوه في جذب الأخلاق المرضية، و ابتغاء الوسيلة إليه بفناء الناسوتيّة في بقاء اللاهوتيّة و تخلّص العبد من ظلمة الأوصاف الناشئة من الزلات النفسانيّة، بالجهاد في سبيل اللّه تعالى لاضمحلال الأنانيّة.

اللهم اجعلنا ممّن سبقت له العناية، و أفضت عليه توفيق العبادة، و تفضّلت عليه بالرقيّ إلى المقامات العالية، إنك سميع مجيب.

ص: 57

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ ت.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (11) وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (13) وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) الخطاب للمؤمنين يذكرهم عزّ و جلّ بأهمّ قضية من القضايا التي تمسّ حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و الماديّة و المعنويّة، و هي من شؤون القضية الرئيسة في جميع الأديان الإلهيّة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، التي آمنوا و أعطوا السمع و الطاعة بما تتضمّن من العهود و الأحكام و التوجيهات و الإرشادات و المعارف،

ص: 58

التي تعدّهم إعدادا علميا لنيل الكمالات و الفوز بالسعادة، و هي التي تجعلهم خير امّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و لا ريب أنّ هذه المنزلة العظيمة تستدعي أن يكون المؤمن مستعدا استعدادا متكاملا علميا و عمليا و خلقيا لذلك.

و هذه الآيات الشريفة تشتمل على جملة من التوجيهات و الإرشادات التي تهدي المؤمنين و تهيؤهم للوصول إلى تلك المنزلة التي أرادها اللّه تعالى لهم، فأمرهم عزّ و جلّ أوّلا بالقيام بوظائف العبوديّة و أداء حقوق الربوبيّة بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن مناهيه، فإنّه أوّل المنازل، و الاستقامة عليه، و أحكم ذلك بالأمر بابتغاء العدل في جميع الأمور و مراعاته في كلّ الأحوال، و الشهادة بالقسط ليصلوا إلى تلك المنزلة العظيمة التي هي أقرب ما يمكن أن يصل به المؤمن إلى الكمال، و هي التقوى التي هي السبيل الأمثل في تصفية النفوس و تخليتها عن الرذائل و تحليتها بالمكارم و الفضائل، و أمر بالعدل و أكّد عليه تأكيدا شديدا، لأنّه الميزان الأقوم في تقويم الأعمال و تمييز صحيحها عن سقيمها.

ثمّ ذكر أحوال الأمم السابقة التي آمنت ثمّ نكصت عن إيمانها، فنكثت المواثيق التي أخذها اللّه تعالى منهم و أعطوا السمع و الطاعة عليها، فكان عاقبتهم البعد عن الكمال، و الشقاء و الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة، فكانت أحوالهم خير معين لتزكية النفوس و وقايتها من الوقوع في مهاوي الرذيلة و البعد عن الكمال.

كما ذكرهم بالنّعم العظيمة التي تستدعي دوام الشكر عليها و استدامة الطاعة و القيام بوظائف العبوديّة.

و قدّم عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة التحلية بفضيلة القيام للّه تعالى و الشهادة بالعدل، و العمل به، و التحلّي بالتقوى على التخلية عن الرذائل. مع أنّ الأمر الثاني مقدّم على الأوّل كما هو معلوم، لأنّ ما ذكره عزّ و جلّ في المقام هو

ص: 59

العلّة التامّة للتخلية عن بعض الصفات الرذيلة التي تكون مانعة عن التحلّي بمكارم الأخلاق و نيل الكمالات.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ .

القوام من صيغ المبالغة، و المراد به كثرة القيام له عزّ و جلّ بالملازمة لأداء حقوقه، و الوفاء بعهوده، و الإخلاص في الأعمال ابتغاء لمرضاته عزّ و جلّ حتّى تصير عادة لكم، و خلقا كريما فيكم، فتكونوا مظهرا من مظاهر أسمائه المقدّسة، و لتكونوا دعاة إلى اللّه تعالى بأعمالكم و أقوالكم.

قوله تعالى: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ .

القسط هو العدل، و تقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا [سورة البقرة، الآية: 282]، و سبق الكلام في معناه في آية - 135 من سورة النساء.

و المعنى: كونوا شهداء بالعدل بابتغاء الحقيقة في الشهادة و أداء الواقع على ما هو عليه، بغير ميل و لا حيف اتباعا للهوى، و الآية المباركة تشابه الآية الكريمة التي وردت في سورة النساء يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الآية: 135)، فإنّهما تشتركان في جملة من الأمور:

منها: الأمر بالقيام بالوظائف العبودية، و الوفاء بعهود اللّه تعالى بتنفيذ أحكامه المقدّسة و الشهادة بالقسط بإخلاص، ابتغاء لوجه اللّه تعالى و رضائه، و طلبا لإقامة القسط و العدل، و بيان الواقع.

ص: 60

و منها: النهي عن اتّباع الهوى بالانحراف عن القسط في الشهادة، إما ميلا إلى أحد الأطراف، أو حيفا و ظلما عليه لسابق عداوة و بغضاء بينهما.

و منها: اتّحادهما في بيان أهميّة العدل و عظيم أثره في جميع العوالم و كلّ الشؤون في عالم الشهادة، فإنّ به تنظم حياة الإنسان الدنيويّة و الاخرويّة، و يصل كلّ فرد إلى جزاء عمله. و عليه تتوقّف استقامة الأمور، و هو القاعدة الرصينة المحكمة التي تعتمد عليها جميع الفضائل و به تتهذّب النفوس و تزول الرذائل، و قد عدّه بعض أعاظم فلاسفة اليونان أساس كلّ فضيلة، و ميزان كلّ عمل و عقيدة، و به يميز الصالح من الأعمال عن الطالح، فإذا انضم إليه القيام للّه تعالى، كان العمل زاكيا خالصا من كلّ ما يوجب الشين و الفساد، و صار الفرد مخلصا و دخل في زمرة عباد اللّه المخلصين الذين استثناهم الشيطان من غوايته، قال تعالى حاكيا عنه:

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ * [سورة الحجر، الآية: 40].

و لكنهما تختلفان في الغرض الذي سيقت له الآيتان الشريفتان، فإنّ الغرض من آية النساء هو الردع عن الانحراف في الشهادة اتباعا للهوى بالتحيّز لأحد الأطراف، سواء كان قريبا أم بعيدا، ابتغاء للنفع، و لذلك أمر عزّ و جلّ بالشهادة للّه ابتغاء لرضائه، فنهى عن اتّباع الهوى، فقال تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا .

و أما آية المائدة فإنّ الغرض منها هو الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة استجابة للنزعة العصبية، بالحيف على من له سابق عداوة معه، فيقيم الشهادة على غير القسط و العدل انتقاما من المشهود عليه، و لذلك أمر عزّ و جلّ بالشهادة بالقسط، التي هي من مظاهر القيام للّه تعالى، و لذلك فرّعها عليه.

و يمكن أن يقال أيضا: إنّ آية النساء بمضمونها الرفيع، كالمقتضي لآية المقام، حيث أمر جلّ شأنه بالقيام بالقسط و الشهادة للّه عزّ و جلّ و النهي عن اتّباع الهوى، فإنّه المانع عن العدل الذي به تساس العباد و تقام أركان الحياة، و يساق الناس إلى يوم المعاد، و به يصل العبد إلى منزلة القيام للّه تعالى بتخليص نفسه من الرذائل

ص: 61

و الآثام، و طاعة اللّه و العمل بشرائعه و تكاليفه، و هذه المنزلة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلاّ بطي مراحل، منها: الخروج عن التكاليف الربانيّة و المواثيق الإلهيّة بسلام و أمان، و منها: إقامة الشهادة للّه تعالى و القيام بالقسط في جميع الأمور حبّا له عزّ و جلّ ، لا يستفزه حبّ مال أو جاه أو شخص قريبا كان أم بعيدا، فتكون آية النساء كالمقتضي لآية المائدة و المعدّ لها.

و تجمع الآيتين رابطة محكمة قويمة و هي التقوى، لأنّها أساس الكمالات و روح كلّ عبادة و عمل صالح. و لذا أكّد عليها عزّ و جلّ و حذّر على تركها بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا .

ردع عن الظلم في الشهادة و تحذير من عدم العدل فيها، و تقدّم الكلام في مادة (جرم) في آية - 2 من هذه السورة و الشنآن شدّة البغض و العداوة.

أي: و لا يحملنكم شدّة بغضكم لقومكم و عداوتكم لهم على أن لا تعدلوا في أمرهم، بأن لا تشهدوا لهم في حقوقهم بالعدل، فلا تظلموا أحدا حتّى لو كان عدوّا لكم.

قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .

تأكيد على مراعاة العدل في جميع الأمور، و في خصوص الشهادة على المشهود له و إن أبغضه، بأن لا تكون عداوته أو كفره مانعا عن العدل عليه، و الضمير (هو) يرجع إلى العدل الذي تضمّنه الفعل.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ العدل من الأسباب القريبة للتقوى، التي هي نهاية الطاعة و أسمى الكمالات و أساس المكارم و منها تنبثق سائر الفضائل، لأنّ العدل طاعة تناسب طاعة التقوى، و لهذا تحقّق القرب بينهما.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

فإنّ التقوى هي الغاية من إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الأحكام،

ص: 62

و فيه التأكيد الشديد على التقوى، و التنبيه على أنّها الغرض من تشريع تلك التوجيهات الربوبيّة و الأحكام التربويّة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

تحذير عن المخالفة و الإعراض عن الطاعة، فإنّ اللّه تعالى عالم بالخفايا و ما خطرت على قلوبكم فكيف بأعمالكم، فيجازيكم حسب أعمالكم و يحاسبكم بما استقرّت في نفوسكم من النوايا السيّئة.

قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ .

تأكيد لما سبق و بيان لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، فذكر أوّلا جزاء المؤمنين الذي عملوا الصالحات، و هي التي تصلح أمر العباد في معاشهم و معادهم ممّا شرعه اللّه تعالى من الأحكام و الإرشادات، و منها ما تقدّم في الآية السابقة من العدل و التقوى اللذين هما أساس كلّ تكليف و روح العمل الصالح، كما عرفت آنفا.

و إنّما قدّم جزاء المؤمنين اهتماما بشأنهم و تعظيما لأجرهم، كما أنّه تعالى ذكر الإيمان و العمل كليهما، لبيان أنّ أحدهما غير كاف للفوز بالمغفرة الإلهيّة و نيل الجزاء العظيم، كما دلّت عليه آيات عديدة في مواضع متفرّقة، بل لم يذكر عزّ و جلّ في القرآن الكريم الإيمان إلاّ مقرونا بالعمل الصالح، للدلالة على ذلك.

و عن بعض المفسّرين أنّ المراد من الإيمان هنا هو الحاصل بالبيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بالعمل الصالح البيعة مع علي عليه السّلام، و هذا تفسير بالمصداق الكامل، لأنّ العمل الصالح أعمّ ممّا ذكر، و أنّ المراد من الإيمان هو الإيمان باللّه العظيم، و إن استلزم ذلك الإيمان بنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سائر الأنبياء و الأوصياء.

قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

بيان لما وعد به عزّ و جلّ لهم، و هي جملة مستأنفة تدلّ على أهميّة الموعود و التأكيد عليه. و هذا الأسلوب أبلغ من تعلّق الوعد بالموعود، كما في قوله تعالى:

ص: 63

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، لأنّه يدلّ على مزيد عناية، بتقريره و إنشاء الوعد صريحا من غير دلالة عليه ضمنا، بخلاف آية الفتح.

و المغفرة: الستر، أي أنّ إيمانهم و عملهم الصالح يوجبان غفران اللّه تعالى لهم بستر ذنوبهم و محو آثارها من نفوسهم. و أما الأجر العظيم، فهو الجزاء المضاعف الذي لا حدّ لعظمته، لأنّ المفاض منه كذلك.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ .

بيان لفرد آخر ممّن يعلمه اللّه تعالى، و من سنّته عزّ و جلّ في القرآن الكريم أن يقرن الوعد بالوعيد، و يذكر الطائفتين المؤمنة و الكافرة، إتماما للحجّة و إيضاحا للمحجّة و وفاء بحقّ الدعوة، و لأنّ الجمع بين الترغيب و الترهيب من الأساليب البديعة في الكلام.

و الجحيم اسم من أسماء النار - أعاذنا اللّه تعالى منها - و هو مأخوذ من الجحمة، و هي شدّة تأجّج النار، كما أنّه اسم لدرك من دركات النار.

و إنّما جمع عزّ و جلّ بين الكفر و تكذيب الآيات، إما لبيان أنّ الكفر كان عن عناد و استكبار، و لأجل الإعلام بأنّ كفرهم بلغ إلى حدّ إنكار الحقّ مع العلم بكونه حقّا، فيخرج من لم يبلغ كفره كذلك كما في كفر المستضعفين. أو الإيماء إلى أنّ كفرهم بلغ حدّ النكوص عن طاعة اللّه تعالى بالإعراض عن أنبيائه و تشريعاته.

و كيف كان، فقد ذكر عزّ و جلّ الحدّ بين الطاعة و الإعراض، و لكلّ منهما مراحل متعدّدة و منازل كثيرة، و على اختلافها تختلف درجات الثواب و العقاب.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم من النصر و العزّة و الغلبة على الأعداء و المشركين، و حفظهم من مكائدهم و شرورهم، و الآية المباركة تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ على المؤمنين التي خصّهم بها في جميع الغزوات و الوقائع التي دارت بين

ص: 64

المسلمين و الكفّار، الذين كان همّهم الوحيد محو أثر الإسلام و القضاء على دين الحقّ ، ممّن كان في عصر النزول و من هم بعده إلى يوم القيامة.

منها: تثبيت الهمم و ترسيخ العقيدة و الإيمان، و التأسّي بالسلف الصالح في تحمّلهم المشاقّ و حثّهم على تحمّل الجهد.

و منها: الحثّ على الصبر على البلاء و المحن في سبيل اللّه تعالى.

و منها: ترغيبهم إلى الشكر، فإنّه السبب في إدامة النعمة و زيادتها، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 7]، و غير ذلك من المصالح قوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ .

الهمّ هو القصد، و البسط هو المدّ، و يختلف باختلاف متعلّقه، فإذا استعمل في اليد كان المراد به هو البطش بها بالقتل و الإهلاك، و في اللسان هو الشتم و السباب.

و في تقديم الجار و المجرور على المقول الصريح، لبيان أنّ ضرر البسط راجع إليهم، و حملا للمؤمنين على الاعتداد بنعمة دفعه. و الجملة بيان لبعض أفراد النعمة التي أنعم تعالى بها على المؤمنين.

قوله تعالى: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ .

الفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة و كمالها و تحقّقها بعد الهم بلا فصل، و إظهار الأيدي «أيديهم» لزيادة التقرير.

و المعنى: أنّه منع أيديهم أن تصل إليكم و عصمكم منها بعد أن أرادوا بسطها عليكم، و في ذلك مزيد العناية و اللطف و كمال النعمة كما لا يخفى، حيث لم يجعلها أن تمتد إليكم بالأذى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد على مراعاة التقوى في عموم الأحوال، لا سيما في ما ذكره عزّ و جلّ آنفا بأداء حقوق تلك النعمة و رعايتها، و يستفاد من الأمر بالتقوى التحذير الشديد عن تركها، لأنّ لها الأهميّة العظمى في الشريعة و تهذيب النفوس و تكميلها.

ص: 65

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ .

أمر بالتوكّل على اللّه تعالى خاصّة دون غيره من الأسباب، استقلالا و مشاركة معه عزّ و جلّ . و إنّما قدّم التقوى للإعلام بأنّ التوكّل على اللّه تعالى كذلك لا يمكن أن يحصل إلاّ بعد معرفته عزّ و جلّ و إتيان جميع السبل الموصلة إليه تعالى و ترك ما لا يرضيه، فمن أعرض عن الطاعة و تنكّب عن سنّة اللّه تعالى و خالف شريعته، لا يسمّى متوكّلا عليه عزّ و جلّ ، و تقدّم في قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران، الآية: 160] بحث في التوكّل يتضمّن جوانب عديدة فيه فراجع، و الآيتان متشابهتان في النسق و التعبير.

و إطلاق الآية المباركة هنا يشمل جميع الأمور التشريعيّة و التكوينيّة، بأن يوكلوا أمر الدين عليه عزّ و جلّ و يكفّوا عن إبداء الرأي فيه، فإنّ عليهم الطاعة في ما أنزله تعالى من التشريعات من دون تصرّف فيها، و عليه الكلاءة لهم في جميع أمورهم، فإنّه القادر وحده على صرف ما يريده الأعداء من السوء.

و الآية المباركة تحذّر المؤمنين من ترك التقوى و ترك التوكّل عليه عزّ و جلّ ، لما له من الأثر السيء، و يظهر ذلك بوضوح فإنّه عزّ و جلّ ذكر ذلك بعد سرد أحوال أهل الكتاب، لا سيما اليهود منهم خاصّة الّذين أخذ منهم الميثاق و أعطوا السمع و الطاعة ثمّ نقضوه و أعرضوا عن الطاعة، فابتلاهم اللّه تعالى بأنواع البلاء و المحن و لعنهم لعنا وبيلا، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في ما تقدّم، فكان ذلك داعيا للمؤمنين بالتمسّك بحبل اللّه و إعطاء السمع و الطاعة و متابعة الرسول، حتّى لا يقعوا في ما وقع فيه أهل الكتاب، فكان المقام يقتضي تحذيرهم عن مخالفة التقوى و ترك التوكّل على اللّه عزّ و جلّ ، و إن كان ظاهر الكلام بصورة الأمر فإنّه ادعى للتحذير، و للاعتبار بأحوال الماضين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ .

كلام مستأنف لمزيد التقرير على ذكر النعمة و شكرها و مراعاة حقّ الميثاق،

ص: 66

و تحذير المؤمنين من نقضه، و تذكير لهم بما حلّ على بني إسرائيل من صنوف البلاء و المحن و العذاب جراء نقضهم المواثيق الإلهيّة، فتكون أحوالهم داعية للاعتبار بها، كما عرفت آنفا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أسلوب القسم و أظهر الاسم الجليل، لإفادة التأكيد و تفخيم الميثاق و تهويل الخطب في نقضه.

قوله تعالى: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً .

تذكير آخر للمؤمنين بما جرى على بني إسرائيل من أحكام دينهم و تثبيت أمرهم. و الجملة تدلّ على كمال الاهتمام و التشويق لما في الالتفات في الكلام و تقديم المفعول.

و مادة (نقب) تدلّ على الأثر الحاصل في الشيء و الذي له عمق، و منه النقب في الحائط أو الجلد، أي: الثقب فيهما، و منه النقب في الجبل، أي: الطريق فيه، يقال:

سلك الرجل المناقب، أي: سار في طرق الجبال، كما يقال: فلان حسن النقبة، أي:

جميل الخلقة، و منه النقيب بمعنى مطلق التفتيش، قال تعالى: فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلادِ [سورة ق، الآية: 36]، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس»، أي أفتش و اكشف عنها.

و النقاب مصدر يطلق على العالم بالأشياء الكثيرة الباحث عن الأمور.

النقيب: الشريف و السيد الباحث عن أحوال القوم، باعتبار كونه أمينا و كفيلا عليهم و يفتش عنهم و يعرف مناقبهم.

و تدلّ الآية الشريفة على أنّ النقباء في بني إسرائيل كانوا من عند اللّه تعالى، بعثهم عليهم لمراعاة أحوالهم و كفالة أمورهم و إقامة شعائر دينهم.

قوله تعالى: وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ .

إيذان بالمراقبة و الحفظ و المعونة و النصر، و ذلك مشروط بالطاعة و حفظ المواثيق، كما تدلّ عليه الآية التالية. و هذا القول منه عزّ و جلّ لموسى عليه السّلام مخاطبا به

ص: 67

بني إسرائيل، و كان الأنبياء يبلّغونهم ذلك و يذكّرونهم بحفظ المواثيق و يحذّرونهم من نقضها و يوعدونهم عليها، كما فعله موسى عليه السّلام لقومه.

قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ .

بيان للشرط و هو مركّب من الإيمان و العمل الصالح، و إنّما قدّم عزّ و جلّ الأخير، لأنّهم كانوا مؤمنين باللّه و رسوله و معترفين بنبوّة موسى عليه السّلام، و لبيان أهميّة العمل الصالح، مع علمه تعالى بأنّهم يعرضون عن الطاعة، و لذا أكّده سبحانه و تعالى حيث أتى بأسلوب القسم، و جمع بين فردين من أفراد الطاعة، أحدهما تطهّر النفوس و تزكّيها و هي الصلاة و الإقامة عليها بإتيانها تامّة جامعة للشرائط، و الثانية تطهّر الأموال و تزكّيها، و إن كانت تطهّر النفوس من رذيلة البخل و الشحّ أيضا.

قوله تعالى: وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ .

بيان للفرد الآخر من الشرط المزبور، و هو الإيمان بجميع الرسل السابقين منهم و اللاحقين و التصديق بهم. و مادة (عزر) تدلّ على المنع و الذبّ ، و منه العزر كالارز، و هما القوة، فإنّ في التقوية منعا لمن قويته عن غيره، كما أنّ منه التعزير في الشرع، و هو ما كان دون الحدّ، لأنّه ردع و منع عن ارتكاب القبائح و الفحشاء، فالتعزير تارة يكون بالردّ عن المرء ما يسوؤه و يضرّه، و اخرى ما يكون بردّه عمّا يضرّه، فالأول هو تعزير الرسل و الأنبياء، و الثاني هو تعزير مرتكبي القبائح.

و المراد به في المقام هو النصرة مع التعظيم، أي: و نصرتموهم، فإنّها نصرة دين اللّه تعالى و تقدّس.

قوله تعالى: وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً .

أي: و أنفقتم في سبيل اللّه تعالى بالمعروف من دون أن يتبعه منّا و لا أذى، و هو عامّ يشمل الإنفاق بالمال و غيره، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى:

مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245].

ص: 68

و الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، فهو استعارة عن وعده الجميل و جزائه العظيم بذكر القرض الذي يقضى بمثله، و إنّما ذكره عزّ و جلّ في المقام و أخذ عليه الميثاق لأهمّيّته في ترويض النفوس و شدّ الأزر و التعاون بين أفراد المجتمع و سدّ الحاجة، و لأنّهم عرفوا بالشحّ و البخل فأراد سبحانه و تعالى تطهيرهم منهما، فإنّ الشحّ رذيلة مهلكة.

قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

التكفير هو الستر و التغطية، و تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادة، و الجملة جواب للقسم، أي: إن وفيتم بالعهد و الميثاق، بالعمل بتلك الحسنات الخمس، لأسترن عليكم سيئاتكم بمحوها و رفع آثارها من نفوسكم فتطهر بتلك الحسنات، فإنّها تذهب السيئات كما اقتضت سنّته عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ العلّة في الدخول في جنّات تكون في غاية البهاء و النضرة و الجمال، إنّما يكون بتطهير النفوس من الذنوب و ستر العيوب، ضرورة تقدّم التخلية على التحلية، فلا يدخلها إلاّ من هو طاهر النفس.

قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ .

بعد بيان الوعد الجميل و ما يوجب نيل الجزاء العظيم، ذكر تعالى حكم من كفر بما هو داخل في حيّز الشرط المزبور المستلزم للكفر باللّه تعالى أيضا، تقوية للترغيب و الترهيب، فتكون الفاء للترتيب، و المراد بقوله تعالى: بَعْدَ ذلِكَ ، أي:

بعد أخذ العهد و الميثاق على العمل بما شرطه و وعده عزّ و جلّ ، و جيء به لبيان أنّ الكفر منهم إنّما يكون عن عناد و لجاج، و بعد تماميّة الحجّة عليهم.

و لعلّ تغيير الخطاب في الموردين حيث لم يقل: (و إن كفرتم)، لإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، أو لإسقاط احتمال كفر الجميع عن حيز الاحتمال.

ص: 69

قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ .

أي: من كفر كفرا واضحا لا شبهة فيه و لا عذر معه، خرج به عن السّبيل السوي الذي يوصل سالكه إلى الكمال المنشود و السعادة التي تصلح بهما دينهم و دنياهم و آخرتهم، و يجعله أهلا لمورد الإفاضة و حبّه عزّ و جلّ و جواره في تلك الجنّات الخالدات، و من خرج عن سواء السّبيل يدخل في إحدى السبل الباطلة الموبقة التي تفسد الفطرة و ينتهي سالكها إلى سوء العاقبة، و يدنس النفس، و يورد صاحبها إلى الجحيم، بخلاف الكفر قبل ذلك، فإنّه قد يكون معه شبهة و عذر، فيأتي الامتحان و الاختبار لكشف الحقيقة و إظهار الواقع.

قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .

تفصيل بعد إجمال، فإنّه تعالى بعد ذكره جزاء الكفر بالميثاق الذي أخذ منهم و هو الضلال، ففي هذه الآية الشريفة يبيّن تفصيلا لما يوجب الضلال، كتحريف الكلم عن مواضعه، أو نسيان الحظّ الذي أوتوه، و نقض المواثيق، و أنواع النقم، كاللعن و قساوة القلوب و غيرهما.

و الباء في قوله تعالى: «فبما» للسببيّة، و «ما» للتأكيد، أي: بسبب نقضهم لميثاقهم، و كفرهم باللّه جلّت عظمته، و إعراضهم عن الطاعة، حلّت البلايا و الرذائل عليهم.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ النقض هو السبب الوحيد في ما حلّ بهم من أنواع البلاء و ما استحقّوه من الجزاء لا غيره، لا استقلالا و لا انضماما.

و المراد من الميثاق هو ما ذكره عزّ و جلّ في ما سبق من الآيات، و هو الإيمان باللّه تعالى و رسله، و نصرتهم، و تنفيذ أحكامه المقدّسة، و قد ذكر عزّ و جلّ أنواعا من الآثار المترتبة على الضلال، بعضها يتعلّق بالدنيا، و الاخرى بالجزاء الاخروي، و ثالثة بالنفوس.

قوله تعالى: لَعَنّاهُمْ .

اللعن هو الطرد عن الرحمة الإلهيّة التي هي السبب الوحيد في السعادة

ص: 70

و التوفيق للاستكمال و الوصول إلى مقام القرب و الدخول في النعم الأبديّة، و اللعن إنّما يتعلّق بمن انهمك في العصيان و نقض المواثيق على الدوام، و أفسد فطرته بارتكاب الآثام و هتك حرامات اللّه تعالى، و قسى قلبه بالتعدّي على حدود الرحمن، فلم تنفعه آيات اللّه تعالى و مواعظه، و لذلك اتّخذها هزوا و لعبا.

قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً .

أي: صلبة غليظة لا تنفعل عن الآيات و النذر، و لا تخضع للحقّ ، كما لا تخشع لآيات السماء، و لا تتأثّر برحمته عزّ و جلّ ، قال تعالى: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [سورة الحديد، الآية: 16]، و هي مأخوذة من قسوة الحجارة، أي: صلابتها، بحيث لا يؤثّر فيها الماء و لا ينبت عليها الزرع و النبات.

و إنّما جعل قلوبهم كذلك، لأنّهم انهمكوا في الطغيان بسبب نقضهم الميثاق و ما يترتب عليه من الكفر و المعاصي و ارتكاب الآثام، فأثّرت تلك في نفوسهم فأبعدتهم عن الرحمة الإلهيّة و فضله العظيم، و أقست قلوبهم حتّى لا تؤثّر فيها حجّة و لا موعظة، و لا تكاد تركن إلى الحقّ ، و هذا معنى جعله عزّ و جلّ قلوبهم قاسية، فإنّه حصل بفعلهم، و من سنّته عزّ و جلّ تأثير الأعمال و السجايا و الأخلاق في القلوب و النفوس، إلاّ من أدركته الرحمة الإلهية، و لعلّه لذلك قدّم سبحانه و تعالى اللعن على القسوة، فإنّ الأوّل هو المقتضي للثاني.

قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ .

بيان لبعض آثار قسوة القلب، فإنّها توجب انتهاك حرمات اللّه تعالى و عدم تعظيم شعائره، فلا مرتبة أعظم من الاجتراء على كلام اللّه تعالى بتحريفها بما لا يرضاه عزّ و جلّ و الافتراء عليه، و قد عرفوا بالتحريف، و لعلّه لذلك أتت الجملة على صيغة المضارع لاستحضار تلك الصورة و لبيان استمرارهم عليه.

ص: 71

و عموم التحريف يشمل الحذف و التبديل و الزيادة و التغيير و التقديم و التأخير، و تحريف الألفاظ و المعاني بحمل اللفظ على غير ما أريد منه، و قد حصل كلّ ذلك منهم في كلام اللّه تعالى، كما حكي عنهم في غير موضع من القرآن الكريم، و أثبتته كتب التواريخ، فراجع كتب شيخنا البلاغي (رحمة اللّه عليه)، فإنّه قد كفانا مؤنة النقل، جزاه اللّه تعالى خير جزاء العاملين.

قوله تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ .

أي: بسبب تحريفهم لكلام اللّه تعالى أن فاتتهم حقائق واقعيّة و معارف ربوبيّة و توجيهات و إرشادات إلهيّة من الدين التي لم تكن إلاّ حظا سعيدا لهم، فأفسدوا سعادتهم بسبب هذا النسيان و الضياع، فلا يكون عقابها إلاّ الشقاء و الحرمان.

و قد حكى تبارك و تعالى في القرآن الكريم جملة ممّا تركوه، كقولهم بالتشبيه، و تحريمهم للطيبات، و الإعراض عن الإيمان بخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و عصيانه و غير ذلك، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة آل عمران، الآية: 23]. و هذا من جملة الملاحم القرآنيّة التي تنبّه المؤمنين إلى لزوم الطاعة و اتّباع كتاب اللّه تعالى و عدم الوقوع في ما وقع فيه أهل الكتاب، و إلاّ أصابهم بمثل ما أصابهم.

قوله تعالى: وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ .

الخائنة بمعنى الخيانة، كالكاذبة، و اللاغية، و القائلة، فتكون مصدرا على وزن فاعلة، و قد يعبّر بصيغة الفاعل بالمصدر و بالعكس أيضا.

و قيل: إنّها وصف لمحذوف إما مذكر و الهاء للمبالغة، كما في راوية لكثير الرواية. و إما مؤنّث بتقدير موصوف مؤنّث كالفرقة، و الطائفة و نحوهما.

و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله، أي: أنّ الخيانة عادة مستمرة فيهم، فلا تزال تطلع

ص: 72

على الخيانة منهم، أو على طائفة خائنة منهم، فلا تكن في مأمن من مكرهم و خيانتهم، فإنّهم قوم لا أمان لهم مع ما هم عليه من نقض المواثيق و قساوة القلب و اللعن و التحريف.

قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

تقدّم الكلام في مثل هذا الاستثناء، و هو لا ينافي ثبوت اللعن و العذاب للمجموع من حيث هو مجموع، و لا يختصّ بمن سبق إيمانه. بل يشمل كل من تشمله العناية الإلهية، فيدخل في الإيمان و يصير كواحد من المؤمنين.

قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ .

بعد إعلامه صلّى اللّه عليه و آله بأنّ في أهل الكتاب - لا سيما اليهود منهم - على خائنة يتربّصون بدين الحقّ و برسوله و المؤمنين الدوائر، و يضمرون السوء و العدوان، و تحذّره صلّى اللّه عليه و آله منهم.

و في هذه الآية المباركة يرشده إلى عدم المبادرة إلى العقوبة و التريث في التوبيخ و المؤاخذة، و يأمره بالعفو عنهم و الستر على مظالمهم، و الصفح عن مسيئهم، لعلّهم يرجعون إلى دين الحقّ و يهتدون بهدي الإسلام، و يقتدوا بالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فينبذون العداء و يتركون البغضاء.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

تعليل للأمر السابق، و إرشاد إلى أنّ العفو من باب الإحسان، و يتضمّن الوعد الجميل بمعاملتهم بالإحسان الذي يحبّه اللّه تعالى، و الرسول أحقّ الناس أن يتبع ما يحبّه اللّه تعالى.

و الآية الشريفة من الآيات التربويّة الإصلاحيّة التي تهذّب النفوس و تروضها على العفو و الإحسان، و تظهر أهميّة مضمونها أنّها ذكرت في آخر الآيات التي تبيّن حقيقة تلك النفوس المريضة التي اعتادت على جميع سبل الشرّ، و القلوب القاسية التي ما برحت على هتك حرمات اللّه تعالى.

ص: 73

و من ذلك يعرف أنّه لا وجه للقول بنسخها، أو أنّ المراد بها الذين تابوا أو دخلوا في الإسلام، فإنّه لا دليل عليهما، مع أنّ التوبة و الإسلام يجبّان ما قبلهما، فلا مؤاخذة حينئذ حتّى يأمره بالعفو و الصفح، هذا مع أنّ عموم الآية المباركة و إطلاقها يدلاّن على ما ذكرناه.

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ .

بيان حال النصارى بعد بيان نبذة من أحوال اليهود و قبائحهم ملزيد العبرة، و النصارى اسم لاتباع عيسى بن مريم عليهما السلاّم، و لعلّ ذكره عزّ و جلّ له في المقام لمزيد التشنيع و التوبيخ، فإنّ من يدّعي نصرة اللّه تعالى و يتسمّى بهذا الاسم، لا بدّ و أن يعمل بموجبه و يلتزم بما يتعهّد و لا ينقض المواثيق، فهم في الواقع ليسوا بنصارى و إن قالوا إنا نصارى.

و إنّما أخذ عزّ و جلّ منهم الميثاق لنصرة دين اللّه تعالى بشريعته، و الإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه السّلام.

قوله تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ .

أي: أنّهم بسبب انهماكهم في نقض الميثاق و الإقبال على الدنيا و ملاذها، نسوا النصيب الوافر من العلم و المعرفة التي ترشدهم إلى سعادتهم، ممّا ذكرهم به عيسى بن مريم عليه السّلام الذي كان نبي الرحمة و العطف، و التآلف، و الصلح، و الوئام، فقد بدّلوا كلّ ذلك إلى أضدادها، كما حكي عزّ و جلّ عنهم، و ساروا في السبل التي تبعّدهم عن الأخلاق السامية، و الفضائل الرفيعة، و الأوصاف النبيلة و غيرها ممّا كانت هدف الأنبياء عليهم السّلام و بنيّة المجتمع الراقي و محور الإنسانيّة، و لذلك فشت الصفات الرذيلة بينهم كما ذكره جلّ شأنه.

قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

مادة (غرى) تدلّ على اللصوق، و منه الغراء، و هو ما يلصق به و يتّخذ من أطراف الجلود و السمك، و هو بالمدّ أو القصر، و أغريت فلانا بكذا إذا ألهجته فلصق

ص: 74

به، و غريت بالرجل غرى أو غراء بالمد إذا لصقت به، و الفاء للسببيّة.

و المعنى: كان نسيانهم الحظّ العظيم الذي ذكرهم به نبيّهم، سببا لوقوعهم في معادات في الأفعال و مباغضة في القلوب، لصقت بهم حتّى صارت من سجاياهم و صفاتهم المرتكزة في نفوسهم، فاختلفوا من حين رفع المسيح عليه السّلام إلى أهواء متشعّبة و فرق متعدّدة، تبغض كلّ فرقة أختها و تلعنها، فبدّلوا نعمة اللّه نقمة و وبالا عليهم و الهدي ضلالا.

قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ .

أي: عند ما يحاسبهم اللّه تعالى في يوم القيامة سوف ينبّئهم اللّه تعالى بحقيقة حالهم و ما هم عليه من الضلال، و يجازيهم على كلّ ما صنعوه في الدنيا بالعقاب و العذاب.

و كلمة «سوف» لتأكيد الوعد، و التعبير عن العمل بالصنع للإعلام برسوخهم فيه، كما أنّ التعبير بالإنباء لبيان أنّهم لا يعلمون حقيقة حالهم، فيكون في ذلك الوقت كشف الحقيقة لا إخبار عنها. و الكلام مسوق للتوعيد و التهديد.

ص: 75

بحوث المقام

بحث أدبي:

تقديم الجار و المجرور على المفعول الصريح في قوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، لبيان رجوع ضرر البسط و غائلته إليهم، كما أنّ تقديم المفعول الصريح على الجار و المجرور في قوله تعالى: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، و إن كان هو على الأصل، إلاّ أنّه لزيادة التأكيد، و إظهار الأيدي عليكم بعصمتكم منهم و منع أيديهم أن تصل إليكم.

و قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ، في أعلى درجات الفصاحة و البلاغة، حيث اشتمل على الحكم و علّته و بعض الخصوصات، فتضمّن جملة من الأمور التي أوجبت كونها في غاية الفصاحة.

منها: أن يكون التوكّل على اللّه جلّت عظمته خاصّة دون غيره مطلقا، و ذلك بتقديم الجار و المجرور الدال على الحصر.

و منها: اشتمال الآية الشريفة على ما يدعو إلى الامتثال، و البعد عن الإخلال، كما يقتضيه إيثار صيغة الأمر الغائب و إسنادها للمؤمنين.

و منها: أنّها تدلّ على وجوب التوكّل على المخاطبين بطريق برهانيّ ، كما هو مقتضى سياقها.

و منها: انّها تشمل على علّة الحكم، و ذلك بتقديم الجار و المجرور و إظهار الأمر الجليل.

و منها: أنّها و إن كانت جملة تذييليّة، إلاّ أنّها تضمّنت من الأمور ما يدلّ على استقلالها.

ص: 76

و اللام في قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ ، موطئة للقسم المحذوف.

و (قرضا) في قوله تعالى: قَرْضاً حَسَناً ، يحتمل المصدر و مفعول مطلق.

و قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، قيل: إنّه دال على جواب الشرط المحذوف و ساد مسدّه معنى، و قيل: إنّه جوابه، و قيل: إنّه جواب للقسم لما تقرّر في محلّه أنّه إذا اجتمع شرط و قسم، أجيب السابق منهما إلاّ أن يتقدمه ذو خبر، و الكلّ صحيح لا يضر بالمعنى.

و قرأ بعضهم (قسيّة) في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، و هي إما مبالغة قاسية، لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم (درهم قسي) إذا كان مغشوشا. و قيل: إنّ قسي غير عربي بل معرب، و لكنّه ليس بشيء.

و يشمل قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ، على الإطناب غير المخلّ بالفصاحة، إيماء إلى أنّهم على دين النصرانيّة بزعمهم، و لكنّهم على خلافها لعدم العمل بموجبها.

و الضمير في «بينهم» في قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ ، إما راجع إلى النصارى، أو إلى اليهود و النصارى، و لا ضير في ذلك، فإنّه تعالى قد أخبر في غير هذا الموضع أنّهم على خلاف و عداوة بينهم.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على شدّة العناية بأهل الإيمان و كمال العطف و الرحمة بالمؤمنين، فقد ذكّرهم عزّ و جلّ بالنعمة لإدامة الطاعة بالشكر، و بيّن عطفه عليهم أن صرف عنهم ما أراده الكفار من السوء لشخص الرسول الكريم الذي هو واسطة الفيض و به حييت قلوب المؤمنين، فكانت حياتهم متعلّقة بحياته.

و ترشد الآية الشريفة إلى أهمّ أمر في هذا الدين المبين، و هو شدّة المخالطة بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، فكأنّهم مجموعون في شخص واحد و أعضاء جسد

ص: 77

متحد، و ما أراده الأعداء من السوء لشخص الرسول الكريم، إنّما كان يرجع إلى المؤمنين أيضا، و ما صرفه عزّ و جلّ من البلاء عنه صلّى اللّه عليه و آله، إنّما صرفه عن المؤمنين، و لا بدّ و أن تكون الحال كذلك، لأنّ الإيمان وحدة جامعة لجميع الكمالات، و بوتقة فيها تنصهر جميع الأغيار و ما يوجب التفرقة و النفرة.

و في الآية الشريفة درس عمليّ للمؤمنين، باتّخاذ الحذر من الأعداء، و الرجوع إلى الإيمان و تعاليمه و اجتماعهم فيه، فإنّه الحافظ لهم، و لا يحصل ذلك إلاّ بالتقوى، التي هي أهمّ الكمالات و أساس كلّ خير و صلاح، و التوكّل على اللّه تعالى، فإنّه عزّ و جلّ الكافي لعباده و الناصر للمؤمنين المتوكّلين، يمدهم بعونه و يفيض عليهم من رحمته و عطفه.

و من عنايته جلّ شأنه بالمؤمنين أن سرد جملة من أحوال أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ليكونوا على معرفة بأحوال الماضين عن صدق، و يتّخذوها دروسا و عبرا لهم، لا يحيدون عنها فيقعوا في ما وقع فيه تلك الأمم و يصيبهم ما أصابهم، فبيّن أنّه أخذ الميثاق من بني إسرائيل و أرسل عليهم النقباء ليرشدوهم إلى ما يصلحهم و يسعدهم، و عدّد المواثيق التي أخذها منهم في المقام، و هي جامعة لجميع الفضائل و حاوية لكلّ الكمالات، بها تتطهّر النفوس، و تتزكّى القلوب، و يسعد الفرد و المجتمع و يصلان إلى الكمال المنشود، و هي الصلاة التي هي قربان كلّ تقي، و الزكاة المطهّرة للأموال و النفوس، و الإيمان بجميع الرسل وسائط الفيض و الأدلاء على اللّه تعالى، الذي هو الهدف الأسمى في حياة العباد بالرجوع إلى اللّه عزّ و جلّ و الاعتماد عليه، فلا بدّ من دليل يرشد إليه، و ليس هو إلاّ الأنبياء، و لا يمكن الاستغناء عنهم في الحياة، سواء كانت مادّية أم معنويّة، فكأن الإيمان بهم شرط في إحراز كلّ كمال، و لا يجوز التفرقة بينهم في الإيمان، فإنّ نصرتهم إنّما تكون بالإيمان بجميعهم و تنفيذ تعاليمهم و احترامهم بما يليق بشأنهم، فإنّ احترامهم احترام لمن أرسلهم و نصرتهم نصرته، فكان ذلك قرضا حسنا منهم يقرضونه إلى اللّه

ص: 78

تعالى فيوفيه بأحسن وجه.

و حذّر تعالى من الكفر و ترك الطاعة، بعد ما أخذ عليهم المواثيق و أعطوا السمع و الطاعة، فإنّ الكفر حينئذ إنّما يكون عن عناد و لجاج، و هو يستوجب العذاب الشديد، فليس له بعد ذلك سبيل يوصله إلى الحقّ و يهديه إلى الخير و السعادة.

و عدّد سبحانه و تعالى جملة ممّا حلّ بهم جراء نقضهم المواثيق، حيث خرجوا عن ربقة الإنسانيّة، و طردوا عن رحمة اللّه تعالى التي هي السبب في حياة الإنسان، بل هي الحياة لوحدها و غيرها من شؤونها و لوازمها، فتراهم قد قست قلوبهم و أحلّوا كلّ ما حرّمه اللّه تعالى، و هتكوا حرماته عزّ و جلّ ، و اعتادت أنفسهم على الخيانة حيث خانوا عهد اللّه تعالى، فكان البغض و العداوة نتيجة حتمية لتلك الخيانة، فلم تبق لهم وليجة بعد قطع كلّ أواصر المودّة و الرحمة، يتنافرون في الأعمال و الأقوال لفقد الثقة بينهم.

و ما عدّده عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة، هي أمهات الرذائل التي تسلب كلّ سعادة و تضلّ عن سواء السبيل الذي يرشدنا إلى الكمال، فيكفي في ذلك عبرة لمن اعتبر.

ثمّ إنّه

يستفاد من الآيات الشريفة الأمور التالية:
الأول:

يدلّ قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ ، على أنّ ما بيّنه عزّ و جلّ من الخصال الخمس، إنّما هو سواء السبيل الذي يورد سالكه إلى النعيم المقيم، و هو الصراط المستقيم الذي ينبغي طلب الهداية من اللّه تعالى إليه، و يجب العمل على مقتضاه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا ، على أنّ بعض المعاصي يوجب نسيان العلم و الخروج عن حقيقته، و تدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة و الروايات، و في ذلك قول الشافعي:

ص: 79

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

و أخبرني بأنّ العلم نور و نور اللّه لا يهدي لعاصي

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ، على أنّ التوكّل على اللّه تعالى منضما إلى تقوى العبد التي هي عمله و من كسبه، هو السبب في كمال العبد و الوصول إلى المقامات العالية، و أنّه لا يمكن للمؤمن الاستغناء عن توفيقه عزّ و جلّ في الهداية و العمل بالميثاق.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ «التقوى»، لأنّها من عمل العبد، و بدونه لا يمكن أن يتحقّق التوكّل، فإنّ تركه و الاعتماد على التوكّل لا يسمّى توكّلا، بل هو من الأماني التي حذّرنا اللّه تعالى منها، و هي من سبل غواية الشيطان.

و من هذه الآية المباركة نستفيد جملة من شروط التوكّل التي تقدّم الكلام فيه، منها العمل و الاعتماد عليه وحده دون غيره من الأسباب، لا استقلالا و لا اشتراكا، راجع بحث التوكّل في ضمن الآية المباركة: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران، الآية: 160].

الرابع:

يستفاد من الآيات الشريفة أنّ من أهمّ ثمرات العمل بالمواثيق هي معيّة اللّه تعالى للعاملين، رعاية و حفظا و تربيبا و هداية دنيا و آخرة، و هي من أعظم الأمور في حياة المؤمن الماديّة و المعنويّة.

بحث روائي:

في المجمع للطبرسي عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ : «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع، من تحريم المحرّمات و كيفيّة الطهارة و فرض الولاية».

أقول: الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها، لأنّ ما بيّنه صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع من إكمال الدين الذي يوجب السعادة و الوصول إلى الكمال المنشود في

ص: 80

الدينا و الآخرة، و قد أخذ العهد المؤكّد منهم على ذلك.

و المراد من تحريم المحرّمات، التخلية عن الرذائل مطلقا، كما أنّ المراد من الطهارة، الأعمّ من الظاهريّة و المعنويّة، و بها تتحقّق التحلية، و المراد من الولاية المفروضة على العباد، الطريق الصحيح الواقعي الذي يوصل سالكه إلى الحقيقة و يبعّده عن السبل الفاسدة، و لم يتمكن أحد من بيانه إلاّ من كان مرتبطا بالوحي ارتباطا كاملا، و ينحصر ذلك في نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ خلفائه المعصومين عليهم السّلام، لما أودع عندهم من معالم الدين و أسرار الشرع المبين، و لذلك كان أخذ الولاية لعلي عليه السّلام فرضا عقليّا لبقاء الدين و علّة مبقية له، و لا ينافيه الامتنان كما تقدّم مكرّرا. و قريب من هذه الرواية غيرها.

و في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير الآية المباركة قال: «لما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا و أطعنا، نقضوا ميثاقه».

أقول: المراد من الميثاق العهد المؤكّد، و نقضوا ذلك كما نقض غيرهم من الأمم السالفة التي أغواهم الشيطان، فحلّت بهم البلايا و المحن.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، يعني: «أهل مكّة من قبل أن يفتحها، فكفّ أيديهم بالصلح يوم الحديبية».

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق.

و في الدلائل للبيهقي بإسناده عن جابر بن عبد اللّه: «انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نزل منزلا فتفرّق الناس في العضاة يستظلّون تحتها، فعلق صلّى اللّه عليه و آله سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسلّه ثمّ أقبل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: من يمنعك مني ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

اللّه. قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثا: من يمنعك مني ؟ و النبيّ يقول: اللّه، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي، و هو جالس إلى جنبه».

ص: 81

أقول: قريب من هذه الرواية ما أخرجه الحاكم و صحّحه، و الرواية كما قبلها من باب التطبيق. و العضاة الشجر الكبير الذي له شوك، و شام الأعرابي السيف، أي: أغمده و خبّأه، و الرواية تبيّن أثر الحقيقة، و أنّ الحقّ لا تحجبه السواتر مهما كانت، و أنّ الأعرابي تأثّر بالحقّ و جذبته الحقيقة.

و عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني: «نقض عهد أمير المؤمنين عليه السّلام، و جعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قساوة القلب المستلزم للمعاصي المختلفة كثيرة، منها تحريف الكلم عن مواضعه، و هو من الآثار الوضعيّة لنقض الميثاق.

و المراد من التحريف، تغيير أحكام اللّه تعالى عن واقعها المعلوم و تبديلها، بما يوجب النفع الدنيويّ المزعوم.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، قال: «من نحّى أمير المؤمنين عليه السّلام عن موضعه، و الدليل على أنّ الكلمة أمير المؤمنين، قوله تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني الإمامة».

أقول: الرواية من باب التطبيق أيضا، و الكلمة هي الشيء الثابت التي لها امتيازها الخاصّ ، و لذلك فسّرت بالإمامة في الرواية. و عن ابن عباس تفسير الكلمة بحدود اللّه تعالى، و هو من باب التطبيق كما هو واضح.

و في الدّر المنثور للسيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ ، قال: «نسوا الكتاب».

أقول: و في بعض الروايات: «نسوا الولاية»، و لا فرق بينهما، لأنّ أحدهما يستلزم الآخر ثبوتا.

و عن علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ ، قال: منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

ص: 82

أقول: المراد من النسخ التخصيص، فإنّ قوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ ، عامّ و قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ ، خاصّ ، و كذا الجمع بينه و بين قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ ، و إطلاق النسخ على التخصيص شائع عند المفسّرين.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، قال: «قال علي عليه السّلام: إنّ عيسى بن مريم عبد مخلوق، فجعلوه ربّا، فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ ».

أقول: نسيان عهد اللّه تعالى ضياعه، و عدم المبالاة بتكاليفه، كما أنّ عهوده تعالى، لطائفه التي لا تقبل الأعمال إلاّ بها.

ثمّ إنّه ورد في تفسير قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ، روايات دالّة على أنّه تعالى أغرى بعضهم بعضا بالخصومات و الجدال في الدين و اتباع الأهواء المختلفة، و كلّ ذلك باختيارهم، و لذلك أنّهم تأثّروا بالبعد عن الحقّ و إخفاء الحقيقة و التيه في الظلمات الماديّة، كما نشاهد في عالمنا المعاصر.

بحث عرفاني:

معيّة اللّه تعالى مع العباد، معيّة علم و قدرة، أي: يسمع كلامهم و يرى أعمالهم و يعلم ضمائرهم، فيجازي العباد حسب علمه جلّ شأنه، سواء كان في عالم الشهادة أم في عالم الآخرة.

و أما المؤمنون الكمّل من عباده، فلهم مزيّة على تلك المعيّة، و هي المظهريّة لأسمائه و صفاته جلّت عظمته، حسب تقرّبهم إلى ساحته عزّ و جلّ ، كما في كثير من الروايات، منها روايات النوافل، فإنّ المؤمن الواقعيّ مظهر من مظاهر أسمائه أو صفاته تعالى، لأنّ به ظهرت الصفات السامية و الكمالات الخلقيّة و المكارم النبيلة الرفيعة، و قد اجتمع فيه جوانب متعدّدة و مظاهر متنوّعة - سواء كانت لنفسه أو

ص: 83

لغيره، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «بهم ترزقون، و بهم تمطرون، و بهم يدفع اللّه البلاء»، فهو الجامع لاسمي الصفات و نبل الكمالات، و هذا ممّا لا شكّ فيه، كما دلّت عليه البراهين العقليّة و النقليّة.

و لكن هذه المناقب أو المنازل بل الرتب السامية، لم تكن وليدة الطينة و الطبيعة فقط، بل لا بدّ لها من أسباب و شرائط تؤهّل العبد لنيل تلك المقامات و الوصول إلى تلك المنازل و القمم، و هي كما قال جلّ شأنه في كتابه الكريم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً ، و إنّما قدّم الصلاة على غيرها، لأهمّيّتها، و أنّ صلاة العارفين لا يوازيها شيء - و هي ليست كصلاة الغافلين - فإنّها الصلاة الدائمة بين الخالق و العبد، و أنّها الرابطة القويّة بين الباري جلّ شأنه و المؤمن، و بها تكشف الظلم، و تزول الأستار، و ترفع الحجب.

و هي لا تختصّ بطائفة دون اخرى، فتعمّ الطبقات كلّها، و لها درجات حسب معرفة العبد و إيمانه، لأنّها المعراج إلى الحقّ ، فيستمر العروج و يدوم إلى أن تظهر الحقيقة في نشآتها، و يتجلّى الحقّ كما تجلّى يوم الميثاق.

و لها مراتب حسب أهلية العبد و انقطاعه إلى اللّه تعالى و بعده عن المادة و الماديات، و تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ السير إلى الكمال و الترقي بالمنازل و الرقي إلى المقام، لها مراتب و حظوظ و أنواع، و لكلّ منها أسباب و شرائط، و الصلاة جامعة لها.

و لعلّ تركّبها من الطهور و الركوع و السجود - كما ورد في بعض الروايات - إيماء إلى ذلك، فبالطهارة ترتفع الخاصيّة التي توجب الحجاب عن مشاهدة الحقّ ، لأنّ بها تزال الأدناس الظاهريّة و المعنويّة، كما بالقيام نحوه تعالى تزال الصفات الماديّة المتعلّقة بالنفس، كالشهوات بأنواعها.

و بالركوع تزال الأنانيّة و التكبّر، و به تسير النفس من أوّل خطوة إلى أرقاها، فيخضع للّه عزّ و جلّ و لمن تجلّى فيه أسمائه و صفاته جلّت عظمته.

ص: 84

و بالسجود تزال الأطماع البشريّة الكائنة في النفس و المرغّبة إلى الأهوية النفسانيّة، و به ترغم أنوف الشياطين و تبعّدهم، كما بالتشهد ترتفع العلاقة المتعلّقة بما سواه تعالى، فإذا تخلّص العبد من سبل الشيطان و رقى إلى تلك الدرجات مناجيا به جلّت عظمته و شاهدا له - كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «اعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» - حصلت المعيّة مع المظهريّة، و بانت القاعدة المشهورة لدى العرفاء الشامخين: «قرّة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود».

و أما إيتاء الزكاة، فإنّه إيثار لوجهه عزّ و جلّ ، لجلب رضاه و التقرّب لساحته ببذل ما تعلّق به النفس، و لرفع حاجة المؤمن حتّى يسود العدل الاجتماعيّ الواقعي بين الأفراد.

مع أنّ كلّ ذلك لا بدّ و أن يكون مستندا إلى العقيدة الخالصة المتعلّقة بالمبدأ جلّ شأنه، و ذلك لا يتحقّق إلاّ بالإيمان بالرسل كلّهم و جميعهم، فمثل هذه العقيدة لها الدخل الكبير في إتيان العمل منزّها عن الشوائب و الرذائل، فإنّ الإيمان الصحيح الجامع للشرائط و المانع عن الأغيار و النقائص، لا يكون إلاّ كما قال تعالى:

وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ ، و الإيمان برسله تعالى يستلزم نصرتهم و تقويتهم بتطبيق شرائعهم و سنّتهم، حتّى تصفو النفس و تليق بالصلة مع اللّه الواحد الأحد، فحينئذ يقترض اللّه قرضا حسنا منه، لأنّه تعالى شهد بعبوديّة مخلوقه، و أنّ المولى الرءوف الرحيم لا يأنف أن يقترض من عبده، بعد ما تخلّى بتكفير سيئاته، و تحلّى بالمكارم في عالم الشهادة و في عالم الآخرة، بالدخول في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار بالارتواء منها، و هي نهر المعرفة، و نهر الوصال، و نهر الإشراق، أو نهر التحلّي، و نهر التقرّب، و نهر الأنوار و غيرها، كما سيأتي المراد منها و من الجنّات.

و أما من زال عن تلك الدرجات و كفر بالرسل و لم يؤمن باللّه العظيم، فقد هلك و ضلّ و بعد عن الفطرة المستقيمة، و نقض الميثاق، و لم ينل تلك الدرجات المعدّة للمؤمن، و ردّ إلى أسفل السافلين، فصار قلبه قاسيا لم تؤثّر فيه آيات السماء و لا عجائب الأرض، و إلى ذلك تشير الآية المباركة و اللّه العالم.

ص: 85

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَن.......

اشارة

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) تذكير لأهل الكتاب بالحجّة بعد تقريعهم بنقض الميثاق الذي أخذ منهم على نصرة رسله و تعزيرهم، و العمل بما أتوه من الكتاب و التشريعات الإلهيّة، فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به، كما عرفت في الآيات المباركة السابقة.

و في هذه الآيات الشريفة تذكير لهم بالإيمان برسله و الكتاب الذي أنزله عزّ و جلّ عليه و تعريفهم بهما، و يقيم سبحانه و تعالى الحجّة عليهما و ينوّه بهما و يعظم شأنهما، ثمّ يوبّخ النصارى على مقالتهم الباطلة في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلاّم، و يبطلها ببرهان قويم يقتنع به كلّ من ألقى السمع و هو شهيد، حيث أثبت لنفسه

ص: 86

الملكية التامّة على خلقه بما فيهم المسيح عليه السّلام، إيجادا و تدبيرا و افناء، و أطلق السلطة التامّة له عزّ و جلّ على جميع مخلوقاته، فهو يخلق ما يشاء و يفني ما يشاء.

ثمّ يعنّف السياق مع اليهود و النصارى في مقالتهم: نحن أبناء اللّه تعالى و أحباؤه، و يردّها، و يوعدهم على ذنوبهم. و في ختام الآيات الشريفة يرجع إلى ما ذكره تعالى في صدرها من تذكيرهم برسالة رسوله الكريم، و يقيم الحجّة عليهم و يفصل الكلام معهم.

و تشترك الآيات السابقة مع اللاحقة في غرض معين، و هو إثبات الإيمان المطلوب بالبرهان، و إبطال ما يخالفه.

التفسير

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا .

التفات إلى خطاب الفريقين - اليهود و النصارى - و الكتاب اسم جنس يصدق على الواحد و الكثير، فيشمل كتب اليهود و النصارى.

و التعبير عنهم بهذا العنوان لزيادة التشنيع، فإنّ أهلية الكتاب تقتضي مراعاته و العمل بما ورد من الأحكام و التوجيهات.

و في الآية المباركة تعريف للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و إقامة البيّنة و الحجّة على صدقه و حقية الكتاب الذي انزل عليه، و تذكير لهم بأنّ الرسول الذي أرسله اللّه تعالى، شأنه التبليغ و شرح الحقائق الواقعيّة و المعارف الإلهيّة، و بيان ما أخفوه مع علمهم بأنّه الحقّ الذي يجب الإيمان به.

و نسبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى ضمير العظمة، للتشريف و التنويه بمقامه و عظيم منزلته عنده جلّ شأنه، و فيه الإشارة إلى وجوب اتباعه، فإنّه من اللّه تعالى الذي آمنتم به عزّ و جلّ .

ص: 87

قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ .

إرشاد إلى أهمّ أعمال الرسل و الأنبياء، فإنّهم عليهم السّلام رسل اللّه تعالى في بيان الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و إقامة الحجّة و البرهان على ذلك.

و الآية الشريفة أصدق شاهد على صدق رسالة الرسول الأمّي، الذي لم يقرأ كتبهم، و لكن أخبر بما أوحى اللّه تعالى إليه، مع أنّ مثل هذا البيان يتطلّب الإحاطة بجميع كتبهم و العلم بمواضع التحريف و المطالب الحقّة التي وردت فيها، و لا يحصل ذلك إلاّ بوحي إلهيّ ، لدقّة الموضوع و أهميّته، فكان هذا الإخبار و البيان لشاهد صدق على حقيّة رسالته و ما أتى به صلّى اللّه عليه و آله. و أما إخفاء ما في التوراة و الإنجيل، فقد عرف به اليهود و النصارى، و هو أعمّ من الحذف و التغيير في كتبهم و التبديل و التأويل الباطل، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و من أهمّ ما أخفوه تلك الآيات التي وردت في كتبهم التي تبشّر برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و الأحكام المقدّسة التي وردت فيها، كما أشار إليه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ [سورة الفتح، الآية: 29]، و قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ * [سورة البقرة، الآية: 146].

و أما إخفاء الأحكام المقدّسة و المعارف الحقّة، فقد حكي القرآن الكريم الشيء الكثير منه، مثل تحريم الطيبات، و إحلال الصيد المحرّم عليهم في يوم السبت،

ص: 88

و حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحقّ كما بيّنه صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي ذكره في قوله تعالى: لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ [سورة المائدة، الآية: 41].

قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ .

أي: و يعفو عن كثير ممّا كانوا يخفونه من الكتاب. و المراد بالعفو إما الترك، أي: لم يذكر سبحانه كثيرا ممّا كانوا يخفونه و لم يظهره عزّ و جلّ ، فإنّ ذكر البعض يكفي لإتمام الحجّة عليهم، و يشهد لذلك ما اشتملت عليه كتبهم، ممّا يتعلّق بالتوحيد و النبوّة و المعاد ما لا يصحّ نسبته إليه تعالى، كالتجسّم و الحلول، و لا انتسابه إليه جلّ شأنه، كالكفر و ارتكاب الفحشاء و الزلاّت، و اشتمال كتبهم على بعض العقائد الوثنيّة، و عدم ذكر المعاد في بعضها، مع أنّه من دعائم الإيمان و التوحيد في الأديان الإلهيّة.

أو يكون المراد من العفو هو التوبة إذا رجعوا إلى دين الحقّ ، فيكون ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام.

و اعترض على هذا الوجه بأنّ هذا الكثير كالكثير السابق، فيتعيّن المعنى الأوّل.

و لكن يمكن المناقشة فيه بأنّ الكثير أمر نسبي، مع أنّ الظاهر اختلاف اللفظين، و اشتهر أنّ النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة.

و كيف كان، فالمراد واضح، و هو إقامة الحجّة على صدق الرسالة و افتضاح أهل الكتاب.

قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ .

تعظيم لشأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه، فإنّ التعبير بالمجيء يدلّ على أنّ الجائي قائم به عزّ و جلّ بأي نحو كان من القيام.

و النور: معروف، و هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، فإنّه لو لا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات، و هو على قسمين: نور ظاهريّ جسمانيّ ، و معنويّ ،

ص: 89

و الثاني أهمّ من الأوّل، و هو المراد به في المقام، فإنّ به تحيى القلوب و تهتدي البصيرة، و تستضيء به النفس، و يسير به الإنسان في ظلمات الجهل و المادة، و يسلك به الصراط المستقيم، قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى . قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى [سورة طه، الآية: 126].

و يطلق على الرسول صلّى اللّه عليه و آله كما في قوله: وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 46]، كما يطلق على القرآن الكريم كما في عدّة آيات، قال تعالى: وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 174]، و قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8].

كما اطلق على ما انزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الأحكام و الإرشادات و التوجيهات، أي الإسلام، قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ * [سورة البقرة، الآية: 257].

و يطلق على الفطرة أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: 40].

و يطلق على العقل أيضا، كما في عدّة من الروايات التي ذكرت في كتاب العقل و الجهل.

و يطلق النور على اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [سورة النور، الآية: 35]، و لكنّ هذا النور الحقيقي لا يعلم أحد كنهه إلاّ اللّه تعالى، فهو الحياة، و العلم، و الإرادة و غيرها من صفات ذاته عزّ و جلّ ، و من هذا النور يستضيء سائر الأنوار. و سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و لأجل اختلاف المصاديق، اختلف العلماء و المفسّرون في المراد به، فقيل: إنّه

ص: 90

الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قيل: إنّه القرآن، فيكون قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ عطفا تفسيريّا له، و قيل: إنّه الإسلام، و قيل: إنّه النعم الثلاث التي خصّ بها العباد: النبوّة، و العقل، و الكتاب، بقرينة الآية التالية التي اشتملت على أحكام ثلاثة يرجع كلّ واحد منها إلى نعمة ممّا تقدّم، فقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ، و قوله تعالى:

يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ ، و قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، يرجع إلى قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ .

و الحق: أن يقال: إنّ المراد به جميع ما تقدّم، أي الرسول، و العقل، و القرآن، و الإسلام، لأنّ المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب الذين أتمّ اللّه تعالى الحجّة عليهم بتلك الحجج الثلاث، مع أنّها متلازمة، فإنّ كلّ واحدة منها تهدي إلى الاخرى و تدعو إليها، و الآثار التي ذكرها عزّ و جلّ في الآية التالية تترتّب على كلّ واحدة منها، فإنّ بها يخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، فيكون ذكر الكتاب لبيان أهميّته و عظمته في هداية النفوس و تكميلها.

و المبين: هو الظاهر في نفسه المظهر لما يحتاج إليه الناس، و هو من أوصاف القرآن الكريم لهدايتهم، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: 174-175].

قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ .

الضمير في (به) يرجع إلى ما تقدّم و لا يضر توحيده على القول بتعدّد ما في الآية السابقة، لاتّحاد المرجع في الحقيقة و الواقع، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و القرآن يشتركان في الهداية، و كلّ واحد منهما سبيل ظاهريّ من سبلها، و قد نسب سبحانه و تعالى

ص: 91

الهداية إلى القرآن الكريم و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله في عدّة آيات، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: 56]، و قال تعالى: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى، الآية: 53]، و لكنّ الجميع يرجع إلى اللّه تعالى، فإنّه الهادي حقيقة، و غيره سبب ظاهريّ لها.

و تقديم المجرور على اسم الجلالة للاهتمام، كما أنّ إظهار الاسم الجليل، لكمال الاعتناء بأمر الهداية.

و كيف كان، فالآية الشريفة تبيّن أهمّ الآثار المترتّبة على هذا النور، و هي ثلاثة:

الأوّل: أنّه يهدي بسبب رسوله و كتابه من اتّبعهما و يبتغي بذلك رضاه، باتباع أوامره و الانتهاء بنواهيه عزّ و جلّ ، فيورده تعالى سبيلا من سبل السلام التي يسلم بها في الدنيا و الآخرة من كلّ ما يوجب شقاؤه و ما يرد به إلى سوء العذاب، فيتخلّص ممّا يلزم منه إخلال سعادته في الدنيا و الآخرة.

و سبل السلام و إن كانت متعدّدة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69]، إلاّ أنّها تتّحد في الغرض العظيم المترتّب عليها، و هو الإيصال إلى كرامته عزّ و جلّ ، و لعلّه لأجل ذلك و صف تلك السبل بالصراط المستقيم الذي يوافق الفطرة المستقيمة في قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153].

و من ذلك يستفاد أنّ الهداية إلى السلام و السعادة، مشروطة باتباع رضوان اللّه تعالى، و هو الإيمان المطلوب، و الإعراض عن كلّ ما يوجب سخطه، و ذلك بالاجتناب عن أنواع الظلم و ما يوجب الانخراط في سلك الظالمين، و قد أكّد عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم أنّ لا هداية لمن كان كذلك، و أنّه محروم

ص: 92

عن نيل هذه الموهبة العظيمة و الكرامة الإلهيّة، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * [سورة الجمعة، الآية: 5].

و يبيّن ما في هذه الآية الكريمة قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [سورة الأنعام، الآية: 82]، حيث ذكر عزّ و جلّ أنّ الأمن من العذاب و الهداية إلى السعادة، مشروطان بالإيمان و ترك الظلم و الاجتناب عن ما يوجب الانخراط في الظالمين.

ثمّ إنّ الرضوان بكسر الراء أو ضمّها لغتان بمعنى واحد، كما أنّ السبل بضمّ الباء و التسكين كذلك. و الأوّل الرضاء الكثير و أعظمه، فإنّ لرضائه جلّ شأنه مراتب، و إنّ أعلى مراتبه كانت رضوانا، بحيث أظهر كلّ واحد من الربّ و العبد الرضا العظيم لا مطلقه، فإنّ ذلك التراضي لا الرضوان. و الثاني الطرق كما تقدّم.

قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ .

هذا هو الأثر الثاني، و هو الخروج من الظلمات التي هي فنون الكفر و الضلال و الجهل و العناد إلى نور الإيمان، و لعلّ ذكره عزّ و جلّ الظلمات جمعا و النور مفردا، إشارة إلى أنّ طريق الباطل متعدّد، بخلاف طريق الحقّ ، فإنّه واحد و إن كان متعدّدا بحسب الظاهر و المواقف، و قد أكّد ذلك القرآن الكريم في عدّة مواضع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الانعام، الآية: 153].

و التقييد بأنّ الخروج هذا إنّما يكون بإذنه، لبيان أنّ أمر الهداية و الدخول في الإيمان و الخروج عن كلّ الظلمات، لا بدّ و أن تكون بعلمه و توفيقه، و أنّه السبب الحقيقيّ فيها، و أنّ الرسل و الأنبياء و الكتب الإلهيّة إنّما هي سبل ظاهريّة نازلة من السماء، لم يكن لها الاستقلال في السببيّة - مقابل المبدأ تعالى - قال عزّ و جلّ : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: 5]، فلم يقيّد عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة الإخراج من الظلمات إلى النور بالإذن، لاشتمال الأمر الصادر منه تعالى على معناه، و أنّ موسى عليه السّلام كان واسطة في

ص: 93

التبليغ، بخلاف قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، فإنّه تعالى قيّده بالإذن، ليخرجه عن الاستقلال في السببيّة.

و كيف كان، فإنّ الهداية من الأمور العظيمة في حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة، الدنيويّة و الاخرويّة، و تحتاج إلى العلم بجميع خصوصيات المهتدين و ما يوجب الهداية و أثرها، و هذا لا يمكن أن يتحقّق من غير اللّه تعالى، فإنّ له السلطة التكوينيّة و التشريعيّة على خلقه، إلاّ إذا أفاض عزّ و جلّ شيئا منها على بعض المخلصين من عباده، فيكون المراد من الإذن في الآية المباركة التوفيق الخاصّ الذي يتوقّف على العلم، فحينئذ لا فرق بين أن يكون المراد من الإذن هو التوفيق أو العلم، كما ذكره بعض المفسّرين.

قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

تقدّم الكلام في الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، و ذكرنا أنّه الصراط الموصل إلى دين الحقّ ، لا يضل سالكه، و هو أقرب إلى اللّه تعالى، و هو عين الهداية، و فيه اجتمعت العلّة الفاعليّة و الغائيّة من الإسلام و دين الحقّ المهيمن على الطرق كلّها، فالهداية إليه هداية عامّة مهيمنة على سائر أفراد الهداية التي تتعلّق بالسبل الجزئية، و هي التي تتّحد في الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذه الهداية هي الهدف من الهداية إلى السبل الجزئيّة. و لعلّ التنكير في الآية المباركة يرشد إلى ذلك، أو لتعظيم شأن الصراط المستقيم و تفخيم أمره.

كما أنّ تكرار لفظ الهداية إمّا لأجل حيلولة قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ بين الهدايتين، أو لبيان أنّ الهداية الثانية هي المهيمنة على الاولى، أو لأجل أنّ الاولى هي الموجبة للهداية الثانية.

قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ .

بيان لكفر النصارى، و ما كفروا به خاصّة بعد إقامة الحجّة على أهل الكتاب

ص: 94

عامّة، و القائلون بهذه المقالة هم طائفة خاصّة من النصارى.

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّ القائلين بها كانوا يعتقدون العينيّة، فإنّ القصر فيها للمسند إليه على المسند، أي: أنّ المعبود منحصر في المسيح لا غير، و إن أمكن تطبيق الجملة على البنوّة و على القول بثالث ثلاثة، كما حكى عنهم عزّ و جلّ في ما تقدّم من الآيات المباركة، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه العقيدة في سورة النساء مفصّلا فراجع.

و التأكيد على ذكر النسبة في المسيح لبيان أنّه عليه السّلام منسوب و متولّد من امرأة و محلّ للحوادث، و كلّ ذلك ينافي القول بألوهيّته كما عرفت.

قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

برهان قويم يدلّ على بطلان مقالتهم تلك، و هو يرجع إلى أمرين أحدهما:

إثبات مناقضة قولهم، و الثاني: تثبيت الألوهيّة لنفسه عزّ و جلّ ، بإثبات السلطة التامّة له تعالى، و قدّم الثاني في الذكر بقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، لأنّه الأصل، فتكون له السلطنة التامّة على جميع خلقه، و هم مملوكون له تعالى مسخّرون تحت إرادته و سلطانه، يحكم فيهم بما يشاء و ما يريد، لا مانع يؤثر عليه عزّ و جلّ بأي وجه كان و يقطع تأثير سلطنته عن شيء فيغلبه عليه فيه، فهو اللّه تعالى مالك الملك وحده لا شريك له، و لا مالك غيره يبطل سلطانه أو يحدّ منه، فإنّ مشيئته لا يردّها شيء.

و الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، حيث نفي الاستطاعة عن دفع الشرّ عن نفسه بنفي ما يمنع عن تأثير إرادته عزّ و جلّ و قدرته، فها هو المسيح بن مريم لما نزل الصلب عليه لم يقدر على دفعه عن نفسه، فاستغاث بربّه خائفا، و جلا، ضارعا، خاضعا، ليصرف عنه ذلك الكأس، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قوله تعالى: إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً .

بيان لتهافت أقوالهم في المسيح بن مريم عليه السّلام و تناقضها، فإنّ كون المسيح إلها

ص: 95

يناقض وصفهم له بأنّه ابن مريم، فإنّه يدلّ على كونه بشرا تامّا، و أنّه مربوب له تعالى و واقع تحت سلطانه عزّ و جلّ و إرادته جلّ شأنه، كسائر أفراد البشر، مضافا إلى كون أمّه أيضا مثله في البشريّة و مسانخة له من دون ريب، يجري عليها ما يجري على جميع من في الأرض، فإنّ الحكم في الجميع على حدّ سواء، و هذا من أعظم الأدلة على برهان الإمكان الذي ينافي الألوهيّة، التي تتّصف بالوجوب.

و خلاصته: أنّ المسيح مخلوق يماثل سائر أفراد البشر، يجوز عليه ما يجوز على غيره، كما أنّه لا يجوز عليه ما لا يجوز عليهم، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد، و منه الألوهيّة، فإنّها لا تجوز لغيره، فلا بدّ أن لا تجوز عليه أيضا، كما أنّ غيره يجوز عليه الهلاك، فيجوز عليه ذلك، و لا مانع هناك يمنع منه، و لو كان هو اللّه سبحانه و تعالى لما جاز ذلك.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أمّ المسيح مع اندراجها في عموم المعطوف، لزيادة تأكيد عجز المسيح، و زيادة للتقرير و التبكيت، و إما لتعميم إرادة الهلاك مع حصول الغرض بقصرها على المسيح عيسى عليه السّلام، لتهويل الخطب و إظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكلّ تحت إرادته و قهره تعالى لا يقدر على دفع ما يريده فضلا عمّا يريده غيره.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما .

تعليل للجملة السابقة و تأكيد لما اعترف به النصارى من ثبوت الملكية المطلقة للّه تعالى، فيكون دليلا آخر لإبطال الوهيّة المسيح عيسى بن مريم، إذ لو كان إلها لكانت له هذه الملكية المطلقة، و قد أكّد عزّ و جلّ هذه الملكية في هذه الآية الشريفة بأمور:

منها: التصريح باسم الجلالة الدالّ على اختصاصها به تعالى، و نفيها عن ما سواه استقلالا و اشتراكا.

و منها: التنصيص بذكر «و ما بينهما»، على أنّ الكلّ تحت قهره و مملوكيته تعالى، فيكون الكلام أقرب إلى التصريح و أبعد من الشبهات، أي: أنّ له وحده

ص: 96

ملك جميع الموجودات و التصرّف المطلق فيها، إيجادا و إعداما و تربيبا، و ليس لأحد سواه ذلك، و من كان كذلك فهو حقيق باختصاص الألوهيّة به.

قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ .

تعليل للجملة السابقة، و بيان لبعض أحكام الملك و الألوهيّة، فإنّ الملكية المطلقة تقتضي ثبوت السلطنة التامّة له عزّ و جلّ و تعميم قدرته، فلا يمنع من نفوذ مشيئته مانع، فهو يخلق ما يشاء من الأشياء.

و الآية الشريفة ردّ لمزاعم النصارى من أنّ المسيح قد صدرت منه أعمال غريبة لا تصدر من عامّة البشر، و أنّ خلقه كان خلاف المتعارف و السنّة العامّة في خلق سائر البشر، فإنّ كون خلقه كذلك و صدور بعض المعاجز على يديه عليه السّلام، لا يدلاّن على كونه إلها مالكا لجميع ما في السموات و الأرض، يتصرّف فيه بما يشاء، بل أنّ ذلك من بعض الفيوضات التي منحها عزّ و جلّ له، إذ لا يخرج بذلك عن كونه مخلوقا كسائر خلقه يتصرّف فيهم عزّ و جلّ بما يشاء، فبالحقيقة لا بدّ أن ينسب إليه عزّ و جلّ دون من أجراه اللّه تعالى على يديه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تقرير لمضمون ما سبق و تأكيد له، و بيان لتعميم قدرته إلى ما هو الأوسع من عالم الوجود و إرشاد إلى برهان قويم، و هو أنّ الإله لا بدّ أن يتّصف بتمام القدرة و شمولها لجميع الأشياء، و إلاّ فلا يكون إلها، و لعلّه لأجل ذلك ذكر اسم الجلالة، لبيان أنّه الإله المستجمع لجميع صفات الكمال التي منها الملكية المطلقة للسماوات و الأرضين و ما بينهما، و ثبوت القدرة التامّة، فهو يخلق ما يشاء بما يشاء، و هو يدلّ على أنّه لا شريك له في الألوهيّة.

قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ .

حكاية لبعض ما صدر عن الفريقين من الدعاوي الباطلة بعد ذكر ما صدر من أحدهما في غيره عزّ و جلّ . و هذه الحكاية تدلّ على جرأتهم على اللّه تعالى،

ص: 97

و عدم مبالاتهم بالمواثيق و العهود التي أخذت منهم على العمل بمقتضاها، فلا تفيد الادعاءات و الشعائر في القرب إلى اللّه تعالى و نيل جزائه العظيم.

و الابن: تارة يطلق و يراد منه المعنى الحقيقي، و هو المراد في الاستعمالات الدائرة عند العرف، و هو محال على اللّه تعالى، لأنّه يستلزم الاختلاط و المجانسة مع مخلوقاته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و قد نفاه عزّ و جلّ عنه في ما سبق من الآيات التي حكي فيها مقالتهم عن بنوّة المسيح و شدّد النكير على قائليها، و أقام البراهين الكثيرة على إبطالها.

و اخرى: يطلق و يراد منه المعنى المجازي، أي: القرب و الرحمة، حيث إنّ الأولاد مقرّبون من آبائهم و موارد رحمتهم و عنايتهم، و لعلّ هذا المعنى هو المناسب في المقام، فيكون قوله تعالى: وَ أَحِبّاؤُهُ ، عطفا تفسيريّا له، و يدلّ على ذلك أنّهم لم يدّعوا البنوّة الحقيقيّة لغير ما ادّعوها فيه كالمسيح، و عزيز، فلا اليهود تدّعي تلك حقيقة و لا النصارى، فكانوا يطلقونها على أنفسهم تشريفا.

و المتتبع في كتبهم المقدّسة يرى أنّ لفظ الابن قد استعمل فيها كثيرا، فقد اطلق على آدم عليه السّلام و على يعقوب و داود و على أقوام، و على المسيح، و لم يريدوا منه المعنى الحقيقيّ سوى ما اطلق على الأخير فقط، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في عدّة آيات، كما اطلق على الملائكة و المؤمنين الصالحين، و هذا الاستعمال كثير في العهد الجديد، فقد روى متى في وعظ المسيح على الجبل: «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء اللّه يدعون» (متى - 9:5)، و في الرسالة الاولى من رسالتي يوحنا: «كل من هو مولود من اللّه لا يعقل خطيئته لأنّ زرعه يثبت فيه و لا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من اللّه بهذا أولاد اللّه ظاهرون و أولاد إبليس» (يوحنا - 3 الآيتان 9 و 10)، فيستفاد من ذلك أنّهم أرادوا من إطلاق الابن عليهم لأجل إظهار أنّهم مورد عنايته عزّ و جلّ و عطفه و محبّته، فلا يجازيهم على أفعالهم، كما لا يؤاخذ الأب الحنون ولده المسيء، فهم من اللّه تعالى بمنزلة الأبناء من الأب، فلهم أحكام

ص: 98

خاصّة تختلف عن سائر الخلق، فيكون الغرض من هذا الاختصاص هو معافاتهم عن العذاب و العقوبة، و أنّهم مهما عملوا من القبائح لا سبيل إلى تعذيبهم، لأنّه يناقض ما خصّهم به من المزيّة و الفضل و ما حباهم من الكرامة، فلا محالة مصيرهم إلى النعمة الدائمة و الكرامة الأبديّة، و لأجل ذلك كان الردّ عليهم حاسما و واضحا من دون تأويل و شبهة.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى أمر عظيم، و هو ترك التقوّل على اللّه تعالى و التزام الأدب معه عزّ و جلّ ، فإنّه لا يجوز نسبة صفة أو قول إليه تعالى إلاّ إذا وردت الرخصة فيه، و من هنا كانت أسماء اللّه تعالى توقيفيّة، لا بدّ من ورود الإذن في إطلاق اسم عليه جلّ شأنه.

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ .

احتجاج عليهم إلزاما و تبكيتا. و الخطاب لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه واسطة الفيض، و تتضمّن هذه الحجّة أمورا أحدها النقض عليهم، و الثاني الردّ عليهم بما هم معترفون به، و الثالث البرهان على بطلان دعواهم بالمرّة، تأكيدا و إرشادا لهم بالابتعاد عن تلك المقالة و ما يماثلها في الفساد.

أما الأمر الأوّل، فإنّ مقالتهم تلك تقتضي عدم تعذيبهم بذنوبهم و أمنهم من كلّ عذاب دنيويّ أو اخرويّ ، مع أنّه عزّ و جلّ يجازيهم على أعمالهم و يعذّبهم بذنوبهم و يؤاخذهم على خطاياهم و ما اقترفوه من المعاصي و الآثام، و منها هذه المقالة التي تقوّلوا بها على اللّه تعالى بغير حجّة و لا برهان؛ فهم كسائر أفراد البشر، فإذا كنتم أبناء اللّه تعالى و أحباءه فلا بدّ أن لا يعذّبكم، فإنّ الأب لا ينكل بابنه و المحبّ لا يعذّب حبيبه، فلستم إذا أبناءه و لا أحباءه.

و إطلاق الآية المباركة يشمل العذاب الدنيويّ و الاخرويّ ، و قد حكي عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلا النوعين من العذاب الواقع عليهم، لا سيما اليهود الذين قصّ القرآن المجيد الشيء الكثير من أحوالهم.

ص: 99

و عذابهم هذا يختلف عن البلايا و المحن، التي تقع على المؤمنين و أولياء اللّه تعالى، فإنّها ليست مؤاخذة على ذنب عملوه، و لا عذاب بسبب معصية اقترفوها، و لا هي ناجمة عن سخط إلهي نكالا و وبالا عليهم، بل هي لزيادة القرب و الدرجات و نيل الكمالات أو للتربية و تهذيب النفس و السريرة، فهي بالأحرى نعمة و كرامة على المؤمنين و عذاب و وبال على الكافرين المعاندين، و في الأثر المعروف: «البلاء للولاء»، و في الحديث: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء عليهم السّلام، ثمّ الأمثل فالأمثل»، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ البلايا و المحن و المصائب الدائرة في هذا العالم إنّما يشترك فيها المؤمن الصالح و الفاجر الصالح على حدّ سواء، و هي من سنّة اللّه تعالى على خلقه، و إنّما تختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض، فإنّها للمؤمنين كرامة و منحة ربانيّة حاصلة من محبّة إلهيّة لهم، و عذاب و نكال لغيرهم، كما أثبتنا ذلك غير مرّة، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ . وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 140 - 140]، فإنّه عزّ و جلّ جمع بين النوعين من البلاء الواقع على الطائفتين، و بيّن تعالى أنّه يختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض.

قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ .

بيان للأمر الثاني من الأمور التي احتجّ اللّه تعالى بها عليهم، و هو الردّ عليهم بما هم معترفون به، فإنّهم لا ينكرون أنّهم من أفراد البشر من جنس ما خلقه اللّه تعالى من غير مزيّة لهم على غيرهم، و يتضمّن هذا الدليل نفي البنوّة عنهم مطلقا، فإنّ البشر لا يصلح لأنّ يكون ابنا للّه جلّت عظمته، لإمكان صدور القبيح و الزلاّت و الهفوات منه، و أنّه يؤخذ بما يصدر منه، و الابن مسانخ لأبيه، فإذا ادّعوا بنوّتهم له تعالى، فلا بدّ أن لا يصدر منهم ذلك و لا يؤاخذوا بما يصدر منهم.

قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

تتمّة للدليل السابق، و يمكن أن يكون نتيجة الأدلّة التي تناقض دعواهم،

ص: 100

أي: أنّه إذا أقرّوا بأنّهم بشر من جملة ما خلقه اللّه تعالى، داخلون تحت سلطانه يتحكّم فيهم إرادته و مشيئته، فلا يحابي أحدا من مخلوقاته، و هو تعالى الحكم العدل يجازي عباده على أعمالهم، فيغفر لمن يشاء منهم، و يعذّب من يعلم بأنّه يستحقّ العذاب، ماض حكمه، فلا يمنع من مشيئته مانع أو يتحكّم في إرادته شيء.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما .

بيان للأمر الثالث الذي احتجّ عزّ و جلّ به عليهم، و يتضمّن هذا الدليل البرهان على نفي البنوّة عنه مطلقا، فهو الخالق للسموات و الأرض و ما بينهما من المخلوقات، فالجميع مملوك له عزّ و جلّ ، و مربوب له مقهور تحت إرادته، فلا ينتمي شيء منها إليه تعالى إلاّ بالمعبوديّة و المملوكيّة، يتصرف فيها بما شاء إيجادا و إعداما، إحياء و إماتة، إثابة و تعذيبا. و هو الغني عن خلقه، فلا يحتاج إليهم، بل هم محتاجون إليه، فلا يمكن أن يتصور له بنون.

و هذه الآية الشريفة تماثل الآية التي ذكرت آنفا، إلاّ أنّها ختم تلك بقوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، لأنّها في مقام نفي الغرابة في الخلق و امتياز بعضهم على بعض، فأثبت القدرة التامّة لنفسه على خلقه، فلا امتياز له عليهم من هذه الجهة، و أما آية المقام فإنّها في مقام بيان الجزاء على الأعمال، فختمها بقوله تعالى: وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ ، فإنّه سيجازيهم على أفعالهم و أقوالهم.

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ .

فإنّه سيحاسبهم على أفعالهم و أقوالهم، فيثيب المحسن على إحسانه و يعاقب المسيء على إساءته، و لا يصرفه صارف عن ذلك الجزاء.

و في الآية المباركة إشعار بأنّه سيعذّب أصحاب تلك الدعاوي الباطلة، على كفرهم و غرورهم و تقوّلهم على اللّه تعالى بغير حقّ .

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ .

خطاب لهم بالرجوع عن غيّهم و الدخول في دين الحقّ ، بعد ما دحض

ص: 101

شبهاتهم التي غرّتهم في دينهم، و الخطاب يتضمّن اللطف في الدعوة، و هو تأكيد للخطاب السابق في الدعوة إلى الإيمان، إلاّ أنّهما يفترقان في أنّ الأوّل دعوة إلى الرسول الذي أيّده اللّه تعالى بكتاب يهدي بإذنه عزّ و جلّ إلى ما فيه الخير و السعادة، و هذا الخطاب يتضمّن مضافا إلى الدعوة إلى ما ورد في الخطاب السابق، أنّه يقطع جميع الأعذار عنهم، فيكون سياقه إتمام الحجّة عليهم، مع أنّه لا يخلق هذا الخطاب عن لطف، فإنّه عزّ و جلّ بعد ما أقام الحجّة عليهم بدحض دعاويهم الباطلة، حسن منه أن يذكّرهم بحجّته عليهم يوم القيامة إذا أصروا على غرورهم و لجاجهم و ضلالهم.

و حذف المتعلّق في قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ ، تفخيما للأمر و تعميما له، ليشمل كلّ ما هم محتاجون إليه في سبيل سعادتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و ما يوجب صلاح أنفسهم و إصلاح أمورهم الفرديّة و الاجتماعيّة، الماديّة و المعنويّة. و يدخل فيه بيان ما كانوا يخفون من الكتاب، و ما يدلّ على أنّه حجة اللّه تعالى عليهم، و ما بيّنه عزّ و جلّ في دفع شبههم و دعاويهم، فيكون من أقوى الأدلة على أنّه رسول اللّه تعالى نزل عليه الوحي المبين.

قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ .

مادة (فتر) تدلّ على السكون و زوال الحدّة من الشيء، قال الراغب:

«الفتور: سكون بعد حدّة، و لين بعد شدّة، و ضعف بعد قوّة»، فتختصّ هذه المادة بالسكون الخاصّ ، لا كلّ سكون، و في حديث ابن مسعود لما مرض بكى فقال:

«إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة و لم يصبني في حال اجتهاد»، أي: في حال سكون و تقليل من العبادات و المجاهدات.

و المعنى: على سكون خال عن ظهور رسول من رسل اللّه تعالى، و على انقطاع من الوحي، فكانت الحاجة ماسّة إلى بيان الشرائع و الأحكام بعد ما كتموها.

ص: 102

و تدلّ الآية الشريفة على كتمانهم للحقّ ، و تحريفه عن كتبهم، و شدّة الحاجة إلى البيان، و ترشد إلى هذا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله هو الرسول الذي بشّرت به الكتب الإلهيّة السابقة، إذ لم يكن رسول آخر غيره في هذا المقطع الخاصّ من الزمان، الذي اختلف في مدته. و المشهور أنّها خمسمائة سنة أو أكثر بقليل، فجاء رسولنا يبيّن لكم جميع ما تحتاجونه في حياتكم، ليقطع معذرتكم و يفند حجّتكم في يوم القيامة، فكانت هذه الفترة من موارد الامتحان و الابتلاء.

قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ .

بيان للعلّة التي أوجبت مجيء الرسول، و تقدّم الكلام في إعراب مثل هذه الجملة في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سورة النساء، الآية: 176]، و قلنا: إنّ التقدير: كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.

و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قطع معذرتهم، من توهّم اندثار الشريعة و انطماس آثارها و انقطاع أخبارها، فلا شريعة و لا بشير و لا نذير يهديهم إلى مواطن الوعد و الوعيد.

و هذه الآية المباركة تشير إلى ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية:

41]، من أنّ الأمم يوم القيامة تجحد تأدية رسالات رسلهم، و تقول: ما جاءنا من بشير و لا نذير، و يكون الرسل و الأنبياء عليهم حجّة و تقول: بلى قد جاءكم بشير و نذير.

قوله تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ .

ردع لمعذرتهم و قطع لها، فقد جاءكم بشير و نذير يبيّن لكم امور دينكم.

و الآية الشريفة تدلّ على عدم انقطاع الوحي بالمرّة، و في الحديث عن علي عليه السّلام: «لا تخلو الأرض عن قائم للّه بحجّة، إما ظاهر مشهور، و إما خائف مغمور».

من هنا ذهب علماؤنا (قدس اللّه أسرارهم) إلى أنّ في زمان الفترة بين

ص: 103

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين عيسى عليه السّلام أنبياء و أئمة مستورين خائفين، منهم خالد بن سنان العبسي و غيره، فيكون المراد من الفترة هو أن لا يكون نبيّ و لا وصيّ نبيّ ظاهر مشهور.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تعليل لجميع ما سبق، فإنّه قادر على إرسال الرسل و إنزال الشرائع تترى من دون انقطاع، فلم تكن فترة حقيقيّة، و لكنه عزّ و جلّ جعل تلك الفترة خالية عن الرسل الظاهرين المشهورين لحكم كثيرة، فهو القادر على كلّ شيء، فلا يعجزه نصرة نبيّه الكريم و إعلاء كلمته.

و الآية المباركة ردّ على اليهود الذي يزعمون أن لا شريعة بعد شريعة التوراة، زعما منهم بامتناع النسخ و البداء عليه عزّ و جلّ ، فإنّ ذلك ينافي عموم قدرته، فهو القادر على كلّ شيء و لا يعجزه أمر.

ص: 104

بحوث المقام

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

تدلّ مجموع الآيات الشريفة على حقيقة أعمال الرسل و بعض خصوصياتهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أنّ الأنبياء و الرسل إنّما بعثوا لهداية الناس إلى الكمالات، و إخراجهم من الظلمات إلى النور، و هدايتهم إلى الصراط المستقيم، الذي يوردهم إلى السعادة و الفوز بالفلاح و الدخول في الجنّة.

و بيّنت الآيات الشريفة أنّ الأنبياء عليهم السّلام هم من أفراد البشر لا يختلفون عنهم، فليسوا خارجين عن هذه الحقيقة، و لم تكن لهم مزيّة عن بقية أفراد الناس إلاّ بما ميّزهم اللّه تعالى بالفيض القدسيّ و الوحي الإلهيّ ، و صفاء السريرة، و تميّزوا بالتقوى و العمل الصالح، و قد شدّد النكير على من يخرجهم عن هذه الحقيقة و يدخلهم في مصاف الإله أو الملائكة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، على أنّ أهل الكتاب قد أخفوا كثيرا من الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و كان لإخفائهم لها أساليب متعدّدة و مظاهر مختلفة، و قد حكى القرآن الكريم العديد منها في مواضع متعدّدة، و هو يدلّ على تحريفهم لكتبهم المقدّسة و بعدهم عن الحقّ و انطماس نور الفطرة فيهم.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، على أنّ غرض الكتاب الإلهيّ و القرآن العظيم هو بعث نور الفطرة في النفوس و إزاحة ما يوجب انطماسه و اضمحلاله، و بيان ما أفسده الزائفون المضلّون.

و تعدّ هذه الآية الشريفة من معاجز القرآن الكريم، فإنّه لو لا هذا النور المبين

ص: 105

لضلّ الإنسان في ظلمات الجهل و الكفر، و لا نطمس نور الفطرة بالشبهات و الأكاذيب، و لما عرف الناس ما يحتاجون إليه لهدايتهم.

و الآية المباركة تخبر عن حقيقة ما طرأ على التوراة و الإنجيل من الضياع و الفساد، و ما فعله رؤساء اليهود و النصارى في دينهم و ما عبثوا به في كتبهم المقدّسة.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، على أنّ هذا الجائي قائم بهذا النور بنحو من أنحاء القيام المعروفة، فإنّه نور من اللّه العظيم، موضح لغوامض الكتاب المبين، و مبيّن للمعارف الربوبيّة.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ ، اشتراط فعليّة الهداية الإلهيّة باتباع رضوانه، فتدور الهداية إلى السلام و السعادة مدار اتباع رضوان اللّه تعالى، و تختصّ الهداية في المقام بأن تورد من اهتدى سبل السلام جميعها أو بعضها، حسب لياقة الشخص و مقدار استعداده.

و الظاهر من الآية الكريمة أنّ اتباع الرضوان هو ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و قرّرته الشرائع الإلهيّة، و لا ريب أنّ اتباع الرضوان لا يتحقّق إلاّ بالعمل بما تأمر به الفطرة و الشريعة، و الانتهاء بنواهيها و اجتناب سبيل الظلم الذي نفى عزّ و جلّ منه الهداية عن الظالمين، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * [سورة الجمعة، الآية: 5]، فالآية الشريفة تعدّ الفرد المؤمن إلى هداية عظمى، و هي الهداية إلى الصراط المستقيم، المهيمنة على جميع سبل الهداية، و هي الغاية القصوى من إنزال الشرائع الإلهيّة.

كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الميزة الأساسيّة لهذه الهداية الخاصّة، هي كونها تورد المهتدي إلى تلك السبل التي تدعو إلى السلام و الخضوع للّه تعالى و الاستسلام له، و بهذه الميزة يمكن تمييز هذه السبل عن سبل الشيطان، التي تدعو إلى العصيان و الخروج عن الطاعة و تورد سالكها إلى الشقاء و الحرمان.

ص: 106

و يمكن عدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن حقيقة السبيلين سبيل اللّه و سبيل الشيطان.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ ، أنّ الخروج من الظلمات إلى النور الذي هو من آثار الكتاب المبين لا بدّ أن يكون بإذنه عزّ و جلّ و مورد مشيئته و علمه، لما له من الأهميّة العظمى في تهذيب النفوس و رفع الشبهات و الشكوك و تنوير القلوب، كما عرفت في التفسير، و بهذا القيد يمكن إبطال دعوى المدّعين الزائفين الذين يدّعون الكمال و إخراج الناس من الظلمات، فقد يكون الأمر بالعكس و هو لا يعلم بذلك، فلا بدّ من التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور من صاحب الشرع فقط، و يؤيّد ذلك ما يأتي من الآيات المباركة، حيث ذكرت جملة من دعاوي أهل الكتاب و عقائدهم و هم يعتقدون صحّتها و أنّها تهدي من يعتقد بها إلى الصراط و تخرجه من الظلمات، و قد عدّها عزّ و جلّ من الظلمات و أنّها من سبل الشيطان.

و من جميع ذلك تعرف أهميّة هذا القيد (بإذنه) في المقام لسدّ جميع الذرائع الفاسدة و الدعاوي الباطلة، و التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور ممّن يعلم جميع الخصوصيات و بيده الكمال و السعادة.

السابع:

يستفاد من ذكر امّ المسيح في الآيات الشريفة، التنصيص على أنّ المسيح مخلوق حادث، و أن له امّا، فكيف يكون إلها؟! كما أنّ الآيات الشريفة تحدّد حقيقة الإله في القرآن الكريم و سائر الكتب الإلهيّة، و هي أنّه لا يتعلّق بشأن من شؤون الإله و لا بشيء من مخلوقاته قدرة غيره، فضلا عن أن يعجزه شيء منها إذا تعلّقت إرادته بهلاكها، و إلاّ فلا يكون إلها، و لا ريب في عدم انطباق هذا الحدّ على المسيح بن مريم عليه السلاّم، فإنّ عجزه بيّن كما هو معلوم، فلا يستحقّ الألوهيّة.

و المستفاد من سياق قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ ، أنّ الإهلاك و الإماتة و الإعدام لم يكن عن سخط و غضب، بل لإظهار القدرة التامّة، و للإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره و ملكوته سبحانه و تعالى، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى و اختصاصها لنفسه عزّ و جلّ .

ص: 107

و المستفاد من سياق قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ ، أنّ الإهلاك و الإماتة و الإعدام لم يكن عن سخط و غضب، بل لإظهار القدرة التامّة، و للإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره و ملكوته سبحانه و تعالى، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى و اختصاصها لنفسه عزّ و جلّ .

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، على انحصار الألوهيّة فيه جلّت عظمته، لأنّ كلّ شيء مملوك له تعالى، و منه المسيح، و المملوكيّة تنافي البنوّة، كما يدلّ على نفي الشريك في ألوهيته ببيان نفوذ مشيئته و شمول قدرته، لأنّه اللّه الجامع لجميع صفات الكمال، و لعلّه لذلك كرّر لفظ الجلالة في هذه الآية الكريمة مرّات.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ، على أنّ الناس من هذه الحيثية و هي كونهم بشرا خلقهم اللّه تعالى، كسائر خلقه على حدّ سواء، لا مزيّة لأحدهم على الآخر، فهم مخلوقون مربوبون، لا يمكن لأحد منهم الاستغناء عن خالقه و مربوبه، و القرب و البعد عن رحمته، إنّما يحصلان من ناحية العبد المخلوق، فمن آمن و عمل صالحا فسوف يغفر اللّه تعالى له، فيستحق المعافاة، و من كفر فسيعذّبه اللّه، و هذا ينافي ما ادّعاه أهل الكتاب من أنّهم أبناء اللّه و أحباؤه، كما عرفت في التفسير.

العاشر:

إنّما ذكر سبحانه و تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ دون ما يرادفه من الألفاظ كالإنسان، لأنّ البشر متمحّض في المادة و تحمّل المكاره دون الإنسان و غيره، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سورة ص، الآية:

71]، فعبّر عن الخلق من المادة (طين) بالبشر، و كذا قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً [سورة الفرقان، الآية: 54]، فتدلّ الآية الشريفة على بطلان زعمهم من أنّهم أبناء اللّه.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، وحدانيّة اللّه تعالى و انحصار الألوهيّة فيه و نفي الشريك، و نفوذ مشيئته و إرادته، و أنّه لا يعجزه شيء من ما ملكه، فإنّه مقهور تحت إرادته و سلطانه و عاجز عن معارضته.

ص: 108

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، وحدانيّة اللّه تعالى و انحصار الألوهيّة فيه و نفي الشريك، و نفوذ مشيئته و إرادته، و أنّه لا يعجزه شيء من ما ملكه، فإنّه مقهور تحت إرادته و سلطانه و عاجز عن معارضته.

و تعدّ هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة على إثبات تلك الأمور، و لعلّه لذلك كرّره عزّ و جلّ في المقام للتأكيد، و للإعلام ببطلان دعاوى الزائفين الضالّين، فإنّ اللّه جلّ شأنه هو المستجمع لجميع صفات الكمال، و ليس غيره كذلك.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، قال: «يبيّن لكم النبيّ ما أخفيتموه ممّا في التوراة من أخباره، و يدع كثيرا لا يبيّنه».

أقول: لعلّ عدم بيانه صلّى اللّه عليه و آله لما في التوراة لمصالح كثيرة رحمة منه صلّى اللّه عليه و آله عليهم، لأنّه نبيّ الرحمة و رسول الرأفة، أو كان ذلك من المعارف التي وردت في القرآن نظيرها، أو الأحكام التي لا تختلف مع ما ورد في الشريعة الإسلاميّة. أو كان ذلك التأخير حتّى تستكمل عقولهم بالبراهين الربّانيّة، إلى غير ذلك ممّا يمكن إن يقال في المقام.

و في الدّر المنثور عن ابن عباس قال: «من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ ، قال: فكان الرجم ممّا أخفوا».

أقول: قد تقدّم أنّ الإيمان بالقرآن وحدة متكاملة و إنكار أحد أحكامه يوجب الكفر بجميعه، و أنّ المراد بالكفر الوارد في الحديث هو الإنكار له المستلزم للكفر، و أنّ الرجم كغيره من الأحكام، ورد في التوراة المصونة من يد التحريف، كتمته اليهود و بيّن ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 109

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، بإسناده عن أنس قال: «مرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه و صبي في الطريق، فلما رأت امّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى و تقول: ابني ابني... فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللّه ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا و اللّه، و لا يلقي حبيب حبيبه في النار».

أقول: لا شكّ أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه حتّى بعذاب الفراق و حرّ ناره، و لو عذّبه كذلك في عالم الشهادة و صبر، يكون ذلك لرفع مقامه و علو درجته و لتقرّبه إليه جلّ شأنه، و أنّ عدم عذابه في الآخرة لا ينافي ابتلائه في الدنيا لرقيه إلى سمو مراتب الحبّ له، رزقنا اللّه تعالى رشحة من رشحات فيض حبّه، و جعلها مستقرّة في قلوبنا.

و في الكافي بإسناده عن أبي الربيع قال: «حججنا مع أبي جعفر عليه السّلام في السنة التي حجّ فيها هشام بن عبد الملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب، فنظر إلى أبي جعفر في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس ؟! فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة، هذا محمد بن علي عليه السّلام، فقال: اشهد لآتينه و لأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلاّ نبيّ . قال: فاذهب فاسأله لعلّك تخجله، فجاء نافع حتّى اتكئ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر عليه السّلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، قال: فرفع أبو جعفر عليه السّلام رأسه فقال: سل عمّا بدا لك، فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمّد من سنة ؟ فقال: أخبرك بقولي أو بقولك ؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا، قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما قولك فستمائة سنة».

أقول: تقدّم في التفسير أنّ الفاصل الزماني بين الرسولين لم يكن فيه نبيّ معلن و حجّة ظاهريّة، و إلاّ فالحجّة الواقعيّة - سواء كانت نبيّا أو وصيّا - غير

ص: 110

معلنة لا تنقطع في سلسلة الزمان كما ثبت ذلك في علم الكلام.

و أما الاختلاف في الفترة بين الرسولين فكثر، فذهبت الإماميّة إلى أنّها خمسمائة سنة كما في الرواية، و ذهب قتادة و غيره إلى أنّها ستمائة سنة أو ما شاء اللّه من ذلك، و عليه الجمهور، و ذهب الضحاك إلى أنّها أربعمائة سنة و بضعا و ثلاثين، و ذهب ابن جريح إلى أنّ الفترة كانت خمسمائة سنة، و قال الكلبي: خمسمائة و أربعون.

و يمكن الجمع بين الأقوال بأنّها على سبيل الاستنتاج من سلسلة الزمان، و أنّه على نحو التقريب لا التحديد الواقعي، و مثل هذا الاختلاف و إن كان كثيرا، إلاّ أنّه لا يضرّ بشيء، و لا يترتب عليه أي حكم، و اللّه العالم.

و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اليهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه و حذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، و سعد بن عبادة، و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل اللّه من كتاب من بعد موسى و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده، فأنزل اللّه تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ - الآية».

أقول: الرواية تدلّ على عناد اليهود و انحرافهم عن الفطرة المستقيمة و إنكارهم للحقّ الواضح، و يظهر منها مصلحة الفترة، أي: حتّى يعترفوا بالحقّ و يقرّوا به فيها، و قد كشف القرآن الكريم عن نواياهم الفاسدة بعد ذلك، و اللّه العالم بالحقائق.

و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، قال: «أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابن ابيّ و بجرى بن عمر و و شاس بن عدي، فكلّمهم و كلّموه، و دعاهم إلى

ص: 111

اللّه و حذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن و اللّه أبناء اللّه و أحباؤه، كقول النصارى، فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، لأنّها تشمل كلّ من ادّعى المنزلة عند اللّه تعالى، و لم يقنت له جلّ شأنه، و تعدّى حدوده تعالى و أحكامه، فهو يعذّبه سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس، فالمدار على التقرّب على الإيمان و العمل الصالح، كما أنّ المناط في العذاب على الكفر و العمل السيء.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، قال: «يعني بالنور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السّلام».

أقول: لأنّ بهم أخرجنا اللّه تعالى من ظلمات الجهل و الكفر إلى نور العلم و المعرفة، و أنّ الأئمة المعصومين كالعلل المبقية للعلّة الأصليّة، كما تقدّم مكرّرا.

بحث عرفاني:
اشارة

ورد لفظ النور في الكتب السماويّة كثيرا، لا سيما في القرآن الكريم باختلاف متعلّقه و إضافته، فتارة: أضيف إلى نفسه الأقدس، قال جلّ شأنه: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [سورة النور، الآية: 35]، و قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: 40]، و في الدعاء المأثور: «أنت نور السموات و الأرض».

و اخرى: أضيف إلى خلقه، مثل قوله تعالى محكيا عن أحوال المؤمنين في يوم الحساب: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [سورة التحريم، الآية: 8].

و قال تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة، الآية: 17].

و ثالثة: إلى الكتب النازلة من عنده عزّ و جلّ على رسله الكرام، كما قال جلّ

ص: 112

شأنه: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قال تعالى:

وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى:

فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8]، و هو القرآن الكريم.

و رابعة: أضيف إلى الرسل و الأنبياء، قال تعالى في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اَللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 45-46]، بل اطلق على خلفائه المعصومين عليهم السّلام، كما في الروايات.

و خامسة: أضيف إلى الدين النازل من السماء، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 43]، و الجامع بين هذه الأقسام هو الحقّ ، فيدور مداره.

و سادسة: اختصّ النور بغير هذا العالم، أي: عالم البرزخ و القيامة، قال تعالى:

وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الزمر، الآية: 69]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اَللّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اِغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم، الآية: 8].

و يمكن أن يقال: إنّ جميع تلك الأقسام يرجع إليه سبحانه و تعالى، لما اختصّ به من إشراق الجلال و سبحات العظم التي تضمحلّ دونها كلّ شيء، و إنّ سائر الأنوار بارقة و رشحة من ذلك النور العظيم - كما في بعض الدعوات المأثورة - و لولاه لكانت الظلمة فاشية و مستقرّة. نعم للإضافة أثرها الخاصّ يحصل من الاستعداد و الأهليّة أو القابلية، و إنّ الاختلاف فيه حصل منها و بها.

حقيقة النور:

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ كثيرا من حقائق الأشياء - خصوصا

ص: 113

المعنويات التي هي بعبدة كلّ البعد عن عالم المادة - مستورة عنّا و محجوبة عن ادراكاتنا، إلاّ ما أصابتها عقولنا في عالم الإمكان بقدرها، و أنّ ذلك لا يظهر الحقيقة و لا يبيّن الواقع، بل هو كشف عن بعض الآثار الدالّة على الوجود، و عن بعض الفلاسفة أنّ التعاريف للحقائق كلّها ليست إلاّ لبيان بعض الآثار، لا من باب الكشف للحقيقة، لأنّه على وجه التحديد غير ممكن، للاختلاف في الأنواع، و للسير الاستكمالي فيها و تفاوت الاستعدادات، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكروها، و لذلك قالوا: «العلم بحقائق الأشياء صعب المنال جدا، و يظهر ذلك أكثر وضوحا في مثل الروح، و العلم، و الوحي، و الموت، و الحياة، و الوجود، و غيرها.

و من ذلك: النور، فقد عرّفوا حقيقته بتعاريف متعدّدة، لعلّ أسلمها: «أنّه كيفيّة خاصّة ظاهرة بنفسها»، و أنّه «خلاف الظلمة»، و المناقشة فيه واضحة، لأنّه لم يعرف حقيقته و واقعه. و عن ثالث: «هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره»، و هذا يرجع إلى الأوّل. و عن رابع: أنّ حقيقته الوجود، و التغائر بينهما لفظي. و فيه: أنّ الوجود أعمّ بالكتاب و السنّة و العقل كما هو واضح. و عن خامس: أنّه الصراط المستقيم الموصل للحقيقة. و فيه: على فرض التنازل أنّه تعريف بأحد المصاديق.

و عن سادس: أنّه القوّة، أو الحلاوة في الباطن، أو الوصول إلى الحقّ ، و المناقشة فيه واضحة جدا، و أنّ ما ذكر من المصطلحات الصوفيّة التي هي بعيدة عن الماء المعين و منهج الشرع المبين و الصراط المستقيم.

فالصحيح ما تقدّم من أنّ النيل إلى الواقع و الحقيقة غير ميسور، و أنّ هذه التعاريف كلّها تقريبيّة، قد يقنع الذهن بها و إن لم تقتنع النفس، و عدم النيل إلى الحقيقة لا يضرّ بالسير و السلوك بعد الدرك أنّه من جند القلب، و به تكشف المبهمات و ترفع الظلمات و يتميّز الحقّ من الباطل، فيحقّ الحقّ و يبطل الباطل، فينتصر القلب بإقباله على الحقّ بالنور المشرق عليه، و تنهزم الظلمات و توابعها، إذ لا بقاء للظلمة مع إشراق النور و وضوحه.

ص: 114

اختلاف النور:

النور كالوجود ينقسم إلى حقيقة و مجاز، فالنور الحقيقي هو نور المبدأ جلّ شأنه، كما هو الوجود الحقيقيّ ، و سائر الأنوار إشراق منه، و هذا معنى ما ورد في الدعاء المأثور: «أنت نور الأنوار»، أو «أنت ربّ الأنوار». و إنّ اختلافه في عالم الشهادة و الإمكان حسب سعة إشراقه و انتشاره أو تحديده، بل يختلف بمدى أثره و بارقته على القلب و حسب مناشئه و مصادره.

و لا يمكن تحديد هذا الاختلاف، لتفاوت النفوس، و اختلاف الأسباب و الآثار، و التقرّب إليه مرتبة و درجة، و دنوا و بعدا، إلاّ أنّ الجامع الذي ممّا لا ريب فيه هو الكشف للنور، كما أنّ للبصيرة الحكم، و للقلب الإقبال و الأدبار، و لكن جميعها تختلف باختلاف المراتب و الدرجات.

أما النور الحقيقيّ الذي لا يتصوّر فيه التشكيك، فهو النور المختصّ بالمبدأ جلّ ثناه، الذي تجلّى به، و سمّى نفسه به، فقال تعالى: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، فإنّه اللامحدود من جميع الجهات - جلالا و جمالا، و إشراقا و ملكوتا - فلا يتصوّر نور دونه، و الأنوار كلّها فائضة من بحر جبروته، كما ورد في الدعاء المأثور: «يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدّر النور، يا نور كلّ نور، يا نورا بعد كلّ نور، يا نورا فوق كلّ نور، يا نورا ليس كمثله نور»، فالكائنات كلّها رشحة من رشحات نوره، و فيض من بحار أنواره، فعليه لا يعقل أن يكون الكون ظلمة - كما عن بعض أهل العرفان - لإضافته إليه و خلقه بالإرادة التكوينيّة، إلاّ أن يراد من الظلمة في حقّ أهل الحجاب، لا لأهل الحقّ و العرفان.

و بتعبير أوضح: أنّ ذاته تعالى حقيقة النور الذي لا يوصف و لا يمكن تحديده إلاّ بسلب النقائص عنه، مستور عنّا كنهه، جامع للكمالات و إليه تنتهي الكمالات، و منه أفاضت الأنوار.

ص: 115

و ممّا ذكرنا تسقط دعوى بعض أهل العلم من أنّ النور جسم و عرض، و الباري جلّ شأنه منزّه عنهما، فلا بدّ من التأويل في الآية الشريفة، فإنّ ذلك النور ليس كسائر الأنوار كما عرفت، فلا حاجة إلى التأويل.

على أنّ مقام المظهريّة، و التجلّي، و الإشراق غير مقام الذات، و في بعض روايات نفي الرؤية: «كيف أراه و حجابه النور»، أي: أفاض من نور ذاته نور حجابه، فهو تعالى محجوب، و في الدعاء المأثور: «اللهم ربّ النور العظيم»، أو قوله عليه السّلام مخاطبا له جلّت عظمته: «أنت نور النور».

و الحاصل: أنّ تجلّيه تعالى بالنور، ليس من قبيل النور المتّصف بالكيف و العرض في عالم الإمكان المحدود بالمعقول، و إن كانت السموات و الأرضين كلّها أنوارا أشرقت من نوره العظيم بعد ما كانتا معدومتين، فلا داعي لالتماس المجاز في الآية المباركة: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، أي: المنوّر لهما، و إن كان ذلك صحيحا في حدّ نفسه، كما لا معنى للمبالغة فيها أصلا كما عن بعض، و البحث نفيس جدا نتعرّض له في الآية الشريفة المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و قد تقتبس النفوس المستعدة أنوارها من الصحف المطهّرة النازلة من السماء على قلب الرسل و الأنبياء عليهم السّلام، فتهتدي إلى الكمال اللائق، و تصل إلى المقام الراقي.

كما أنّ النور يشرق من وجود الرسل و الأنبياء عليهم السّلام على القلوب القابلة أو اللائقه للسير و السلوك لعرفان الحقّ و التوجّه للخالق، و كذا من الأولياء بل العلماء العاملين بعلمهم المتّقين، الذين وصفهم علي عليه السّلام في خطبة همام.

و قد يشرق النور من جميع الممكنات التي وجدت بالإرادة التكوينيّة، الدالّة على خالقها و بارئها و جاعلها على النفوس القابلة للوصول إلى معرفة موجدها و مدبرها.

و هذه الأنوار كلّها قابلة للشدّة و الضعف، و لها مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و في كلّ درجة منازل، و في كلّ منزلة مراحل، و تفصيل ذلك خارج عن موضوع الكتاب.

ص: 116

آثار النور:

الأنوار الإلهيّة تؤثّر في القلوب و توجب سعادة النفس و رقيها، و تخلّف حقائق هي السبل للفوز بالكمالات، فبالنور يميّز الإنسان الحسن من القبح، و بعد ذلك البصيرة تذعن أو تحكم على الحسن بحسنه و عن القبيح بقبحه، ثمّ القلب يقبل على ما ثبت حسنه و يدبر عن ما ثبت قبحه، فتحصل السعادة بعرفان الحقّ ، فهذه الحقائق تستند إلى النور، و هو السبب لها، و لذا اشتهر عندهم «الأنوار مطايا إلى العلاّم»، لأنّها تشرق على النفوس المستعدة، فتوصلها إلى وادي المعرفة و تربطها مع خالقها.

و لا فرق في تلك الأنوار الفائضة منه جلّ شأنه أن تشرق من الرسل، و الكتب، أو الأكوان، كلّ لها أثرها الخاصّ على النفس، إن لم تكن على القلوب أكنة.

أقسام النور:

الأنوار المحسوسة بعين البصر المنتشرة من الأجسام النيرة، كالقمرين و النجوم و الأرض و غيرها أنوار خارجيّة لها أثرها الخاصّ في عالم الإمكان، و لسنا في مقام بيانها لأنّها مدركة لكلّ أحد حتّى البهائم، فلا خصوصية لها سوى الآثار، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً [سورة يونس، الآية: 5]، و الضوء أخصّ من النور، و في الدعاء المأثور: «يا خازن الليل في الهواء، و خازن النور في السماء».

و أما الأنوار المعنوية التي تدركها البصيرة، فهي على قسمين: دنيويّة، و اخرويّة، و الأول كنور العقل و العلم، و نور الإيمان. و إنّ الحياة في هذا العالم متقوّم بهذه الأنوار، و لو لا ها لم تسعد حياة، و هو المراد من الآية الشريفة: وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و في الحديث: «العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء».

ص: 117

و من الأنوار المعنويّة التي تدركها البصيرة، النور الذي يشرق من الكتب السماويّة، لاستضاءة السبل و إيصال السالك إلى منزل القرب إليه تعالى، و كذا الأنبياء و الأولياء كما مرّ.

و هناك أنوار اخرى ذكرها علماء العرفان، و هي:

الأوّل: نور الطالبين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة و يظهر نور اليقظة، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و في الدعاء المأثور: «وهب لي نورا ترفع به ظلمة الجهل عني، و اطلب به رضاك».

الثاني: نور السائرين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار و يظهر به بهجة المعارف و الأسرار، و في كثير من الدعوات السؤال منه جلّ شأنه بإفاضته علينا، و يعبّر عنه بنور الإقبال، و لعلّه المراد من الحديث الوارد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر و انفسح، قيل: يا رسول اللّه هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل نزوله».

الثالث: نور الوصال أو التوجّه، و به يحصل الشهود و يشهد القلب مولاه.

و هناك تقسيم آخر، و هو قريب ممّا ذكرنا، نور الإسلام، و نور الإيمان، و نور الإحسان، فبالأوّل الانقياد و الإذعان، و بالثاني يكشف ظلمات الشرك الخفي و يظهر بهجة الإخلاص و الصدق و الوفاء، و بالثالث تنكشف ظلمة الآنية و يظهر نور وجود المبدأ كما هو، و لهذه الأنوار مراتب و درجات.

و عن بعض العرفاء المحققين: أنّه بنور الإسلام الواقعيّ يتحقّق الفناء في الأفعال، و بنور الإيمان يتحقّق الفناء في الصفات، و بنور الإحسان يحصل التمكين في الفناء في الذات.

و استغنى بعض منهم عن النور الثالث بذكر الثاني، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الفناء في الصفات قريب من الفناء في الذات، و أنّ الصفات لا تفارق الموصوف، فمن يرى سمعه باللّه تعالى و بصره باللّه سبحانه - كما في بعض الروايات - يرمى وجوده

ص: 118

باللّه جلّت عظمته، فمهما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر، و لكن لا على نحو الوجود و الموجود حتّى يستلزم المحاذير، بل على نحو المظهريّة و الفناء فيه جلّ شأنه، و لذيل الكلام بحث نفيس طويل ننتظر الفرصة للتعرّض له إن شاء الربّ جلّت عظمته و أراد.

و أمّا الثاني: فهو يختصّ بالمؤمنين و الأولياء و الصالحين، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اَللّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا [سورة التحريم، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [سورة الزمر، الآية: 69]، أي: بوجود الأنبياء و الأولياء و المؤمنين العالمين في أرض الحساب.

و هناك تقسيم آخر لنوره جلّ شأنه و هو نور الأعظم، و نور العظيم، و نور العظمة، كما ورد في الدعوات المأثورة، و يحمل ذلك على مراتب تجلياته أو يحمل على ادراكاتنا لتلك الأنوار و اللّه العالم.

إشراق الأنوار:

كما أن للأنوار المحسوسة شروقا و غروبا تدلّ على وجودها و آثارها الخاصّة، كذلك للأنوار المعنويّة، فإنّ لها إشراقها على القلوب و النفوس، و لا بدّ فيها من إزالة الحجب المانعة من الإشراق، و هي تعلّق القلب بالمادة و الماديات و توطين حبّ الدنيا فيه، و قد يغرب النور عنه و تخمد الفطرة، كما عن عليّ عليه السّلام: «انّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان»، و أنّ القلوب تقبل على ما يوجب التصفية و تدبر عمّا يمنعه من التخلية و التحلية، إلاّ إذا وصلت إلى مرحلة لا تؤثّر فيها الأنوار مطلقا، و أظلمت من جميع الجهات، و حسب التعبير القرآني: القساوة، أو أشدّ من الحجارة، أو ران على قلوبهم، فحينئذ يتمثّل الإنسان في الشرّ و يصير مصداقا للشرور (نستجير باللّه تعالى)، و مع ذلك كلّه فهو قابل للرجوع إلى الفطرة و الاستعانة بها لإزالة الخبائث عنه و رفع الحجب، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 119

لوازم النور:

الأصل في النور الخير، و الفرح، و السرور، و الطاعة للّه جلّت عظمته كما أنّ الظلمة، يتعقّبها الحجاب، و الشرّ، و الجهل، و القسوة و الضيق و الشدّة و البعد عن اللّه تعالى، فالخير للنور، من قبيل لوازم الماهية في الأشياء، لا يمكن التفكيك بينهما أصلا، مثل الزوجيّة للأربعة، و في المقام لازم الحقيقة، و الظلمة تتعقّبها الصفات السيئة المضادّة للنور و صفاته.

و مرادنا بالأصل ذلك، لا الأصل المصطلح في علم الأصول و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك في الآيات المناسبة، كما يأتي أقسام الخير و الفرح و السرور أيضا.

منازل النور و درجاته:

تقدّم أنّ النور الحقيقي الذي لا يمكن تحديده منحصر به تعالى، و أنّ ما سواه على منازل و درجات حسب الإشراق منه جلّ شأنه، فأوّل نور أنزله تعالى عن ذاته الأقدس و أظهره بنور قدرته من العدم، كان نور نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، ففي الحديث: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعة عشر ألف عام، و كان يسبح ذلك النور و تسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق اللّه آدم أودع ذلك النور في صلبه»، و في الحديث عن ابن عباس عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه آدم عليه السّلام أهبطني في صلبه إلى الأرض و جعلني في صلب نوح في السفينة و قذفني في صلب إبراهيم ثمّ لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام الطاهرة حتّى أخرجني بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط».

و أما أنوار الأئمة المعصومين عليهم السّلام، فهي أشرقت من نوره عزّ و جلّ ، و كانت في العرش كما في بعض الروايات، ثمّ هبطت إلى عالم الشهادة و بعد ذلك ظهرت

ص: 120

الموجودات بوجود نوره جلّت عظمته على حسب الترتيب؛ المجرّدات العلويات ثمّ السفليات، و كلّما كانت أقرب إلى العلويات و المجرّدات كانت أشرف منزلة، و هكذا بالنسبة إلى المؤمنين حسب درجات إيمانهم، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا من اللّه و المؤمنون مني».

و على ضوء ما ذكرنا ظهر مراد ما هو المشهور بينهم من أنّه تعالى أوّل ما خلق العقل الأوّل ثمّ بقية العقول العشرة، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك مفصّلا.

ص: 121

ص: 122

فأوقعهم عزّ و جلّ في التيه، لتهذيب تلك النفوس المريضة و ترويضها على تحمّل التكاليف.

و في سرد هذه القصة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين العبرة و الموعظة و التذكير.

و بيان كيفيّة نقضهم للمواثيق التي أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، و قد ذكر جلّ شأنه جملة منها في ما سبق من الآيات الشريفة، و في آيات المقام ذكر تعالى جملة اخرى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

تذكير لليهود بالنعم الجسام، و توطئة لبيان شناعة فعلهم في نقض المواثيق و كفران نعم اللّه تعالى. و تفصيل لكيفيّة نقضهم المواثيق و تسجيل عليهم بما سلف منهم من الجنايات.

و الخطاب للرسول الكريم إعراضا عن خطابهم، و قد ذكر عزّ و جلّ نداء موسى عليه السّلام لليهود الدالّ على كمال القرب و المزيّة لهم بالاعتناء بهم، حيث أضافهم إلى نفسه ثمّ عقّبه بتذكيرهم بما خصّهم من الآلاء و النعم الجسام، استمالة بهم و نصحا لهم في تنفيذ مواثيقه عزّ و جلّ .

و تقدّم الكلام في معنى النعمة في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة، الآية: 3]، و هي إما مصدر أو اسم مصدر و نسبتها إلى اللّه تعالى تدلّ على شرفها و عظيم النعمة منه عليهم.

و المراد منها في المقام جنس النعمة و مجموع النعمة التي أنعم اللّه عليهم و خصّهم بها، و في ذكرها بالمقام التذكير باستزادتها، و استتمامها و طاعتهم للّه تعالى و رسوله شكرا منهم على تلك النعمة، و تنشيط همّهم لتنفيذ أحكامه عزّ و جلّ ، و الوفاء بعهوده عموما، و الدخول في الأرض المقدّسة خصوصا، لأنّ دخولهم لها

ص: 123

يحتاج إلى مزيد الهمّة و النشاط، فإنّ به تتمّ النعمة و تتّضح حقيقتهم بعد الجهد المرير و العمل الدؤب في إصلاحهم، كما أنّ به يتحقّق استقلالهم.

و كيف كان، فإنّ النعم التي اختصّت بها بنو إسرائيل كثيرة، و قد ذكر تعالى في المقام ثلاثة أنواع منها للتذكير، و الموعظة، و مزيد الاعتناء، و تذكيرهم بالوقت الذي وقعت فيه النعمة أبلغ من تذكيرهم بما وقعت فيه.

و ظاهر الآية الكريمة أنّ ما ورد فيها كان بعد خروجهم من مصر و إنجاء اللّه تعالى لهم من ظلم فرعون و المصريين، و أنّ قضية التيه كانت في الشطر الأخير من زمان مكث موسى عليه السّلام فيهم، و يؤكّد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه عليه السّلام مات في التيه.

قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ .

تفصيل بعد إجمال، و قد قسّم سبحانه و تعالى النعم التي أنعمها على بني إسرائيل إلى نعم معنويّة - منها: جعل الأنبياء فيهم الذين هم واسطة الفيض و سبب الاستكمال و ظهور المعجزات الباهرات على أيديهم التي كانت السبب الوحيد في ظهور الحقّ و إنقاذ بني إسرائيل من الظلم و خروجهم من مملكة الجبابرة و العتاة - و إلى نعم ظاهريّة، و هي جعلهم ملوكا ذوي كيان مستقل بعد أنّ كانوا أذلاء مستعبدين في حكم الطغاة، كما حكى عزّ و جلّ حالهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، فكانت هذه الآية المباركة من أهمّ الآيات الشريفة التي تذكّرهم بضروب الآلاء و النعم، و تعرّفهم باعتنائه سبحانه و تعالى بهم و تفضيلهم على من عاصرهم و من تقدّمهم من الأمم، فقد خصّهم بأعظم النعم و أشرفها، و هي أنّه تعالى جعل كثيرا من الأنبياء فيهم، الذين هم من عمود نسبهم و من قومهم بالخصوص، و قد ذكر عزّ و جلّ أسماء جملة منهم في القرآن الكريم، مثل إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف و الأسباط، و موسى، و هارون، و غيرهم ممّن هم من المستعلنين، و أما المستخفون الذين لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم فهم كثيرون، و قد امتازت بنو إسرائيل بهذه النعمة العظيمة، فلم تكن امّة من الأمم في مرّ

ص: 124

العصور أن يبعث منهم هذه الكثرة من الأنبياء، و لعلّ في قوله تعالى وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 47]، إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً .

بيان للنوع الثاني: من النعم التي أنعم اللّه تعالى على بني إسرائيل، و هي النعمة الظاهريّة. و تغيير الأسلوب فيها إنّما هو لبيان أنّ هذه النعمة قد شملتهم بأجمعهم من دون استثناء، بخلاف النعمة الاولى التي اختصّت ببعضهم، فقال تعالى:

إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، و إن كان أثرها يرجع إليهم جميعا، لأنّ النبوّة أمر إلهيّ يخصّ اللّه تعالى به من يشاء من عباده، بخلاف الملوكيّة، فإنّها قد تشمل الجميع.

و مادة (ملك) تدلّ على التسلّط و الاستيلاء، و هو يختلف باختلاف متعلّقه، و له مراتب متفاوتة جدا، أعظمها و أعلاها مرتبة هو ملكية اللّه تعالى لما سواه، فإنّ هذه الملكية هي الحقيقيّة، و غيرها ترجع إليه بنحو من الأنحاء، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يزيد عن مائة و ثلاثين موضعا، و تستعمل بالنسبة إلى جميع العوالم، قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ، و قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة غافر، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ * [سورة آل عمران، الآية: 189]، و قد تقدّم ما يتعلّق بها في سورة الفاتحة فراجع.

و المراد به في المقام هو الاستقلال بالنفس و التسلّط عليها و مالكيتهم لأمرهم بالحرية و التدبير و الملكية، بعد أن كانوا عبيدا أرقاء للقبط و الفراعنة، ليست لهم أيّة سلطة على أنفسهم و أموالهم و امور معاشهم، يسومونهم سوء العذاب كما ذكر عزّ و جلّ في عدّة مواضع من كتابه الشريف، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة إبراهيم، الآية: 6].

و الفرق بين هذه الآية الشريفة و آية المقام أنّ الأخير في مقام تعظيم النعم

ص: 125

و التعريف باعتنائه عزّ و جلّ بهم و تفضيلهم على غيرهم، فناسب ذلك ذكر نداء موسى عليه السّلام إيّاهم بقوله: يا قَوْمِ ، بالإضافة إلى ضميره، إيماء بالقرب و المزيّة، بخلاف آية النداء.

و كيف كان، فإنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على صيرورتهم ملوكا، إذ لم يذكر عزّ و جلّ : «و جعل فيكم ملوكا»، كما هو الشأن في النعمة الاولى، و هذا يؤكّد على أنّ المراد من الملوكيّة غير ما هو المعروف، بل هو التسلّط على أنفسهم و الاستيلاء على شؤونهم و أموالهم، و إن قدّر اللّه تعالى أن يكون فيهم ملوك كطالوت، و داود، و سليمان، و غيرهم، و لكن ذلك حصل بعد عصر موسى عليه السّلام بزمان كثير، و الآية الشريفة تدلّ على حصولها لهم في عصره عليه السّلام و تحقّقها فيهم في زمانه عليه السّلام.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المفسّرين في المقام، من أنّ المراد من جعلهم ملوكا هو ما قدّر اللّه تعالى فيهم من الملك، الذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فتكون الآية المباركة وعدا بالملك و إخبارا بالغيب، فإنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت.

و قال بعضهم: إنّ المراد به مجرّد ركوز الحكم فيهم، كما كانت عليه العرب قبل الإسلام. و يرد عليه ما أورد على سابقه.

و كيف كان، فالآية الكريمة تعظّم أمر هذه النعمة فيهم، فإنّها نعمة الحرية، و الاستقلال و الخروج عن التبعيّة و الاستذلال.

قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ و عناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات، من فلق البحر، و نجاتهم من بطش فرعون، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى، و انفجار الحجر، و غير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و التي اختصّوا بها من بين سائر الأمم، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه السّلام ما توفّرت و تواردت على بني إسرائيل، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية، و لعلّ في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 122] إشارة إلى ذلك، و اللام في العالمين للاستغراق، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم، و لا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة و جهات متعدّدة، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى، و حينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة و القول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.

ص: 126

نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ و عناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات، من فلق البحر، و نجاتهم من بطش فرعون، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى، و انفجار الحجر، و غير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و التي اختصّوا بها من بين سائر الأمم، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه السّلام ما توفّرت و تواردت على بني إسرائيل، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية، و لعلّ في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 122] إشارة إلى ذلك، و اللام في العالمين للاستغراق، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم، و لا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة و جهات متعدّدة، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى، و حينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة و القول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.

قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ .

أمر بدخول الأرض المقدّسة، بعد استمالتهم و استنشاط هممهم بذكر نعم اللّه تعالى عليهم و استثارتهم بتذكيرهم آلائه العظيمة. و يستفاد من القرائن الحافّة بالكلام أنّهم كانوا يبغون التمرّد على الامتثال و النكوص عن الطاعة، و لذا كرّر النداء مع الإضافة التشريفيّة، حثّا على الامتثال و اهتماما بشأن الأمر، ثمّ أكّده بالنهي عن الارتداد و إلاّ كان عاقبته الخسران.

و مادة (قدس) تدلّ على التنزّه و الطهر، يقال: تقدّس اللّه، أي: تنزّه. و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ روح القدس نفث في روعي»، يعني جبرئيل عليه السّلام، لأنّه خلق من طهارة، و الروح هو النفس و مركز القلب، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، و تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة، الآية: 30]، فراجع.

و الأرض المقدّسة هي الأرض المطهّرة من رجس الشرك، و التي يمكن إقامة الدين فيها، و لعلّ هذا هو معنى البركة التي وصف عزّ و جلّ الأرض التي وعدهم بها، قال تعالى: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، فإنّ البركة هي الخير الكثير، و أعلاه مرتبة هو إقامة الدين

ص: 127

و بسط الحقّ و العدل و رفع قذارة الشرك، و بذلك يمكن الجمع بين كلمات المفسّرين في المراد من المقدّسة في المقام.

و اختلفوا في تعيين الأرض المقدّسة، فقيل: هي الشام، و قيل: هي الطور و ما حوله، و قيل: اريحاء، و قال بعضهم: دمشق و فلسطين، و قال آخر: الأردن، و قيل غير ذلك.

و الحقّ أن يقال: إنّه لم يرد في القرآن الكريم و لا في السنّة الشريفة تحديد هذه الأرض الموعودة، إلاّ أنّ توصيفها بالبركة كما قال تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1] يقرب أنّه المسجد الأقصى و ما حوله، فيستفاد أنّ هذه الأرض المقدّسة هي هذه المنطقة بالخصوص، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من أنّها الشام، هو أقرب الاحتمالات، فإنّ أرض الشام موصوفة بالبركة عبر العصور و مرّ التاريخ، و هي تشمل المسجد الأقصى و ما حوله.

و مادة [كتب] تدلّ على الثبوت و اللزوم، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا، و كلاهما ورد في القرآن الكريم و تقدّم البحث عنها في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183]، و المراد به قضاؤه عزّ و جلّ في توطّنهم في الأرض المقدّسة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة القصص، الآية: 6]، و هذه الكتابة و إن كانت مجملة من حيث الوقت و الأفراد الذين يسكنون تلك الأرض، إلاّ أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد و الأشخاص و أحوالهم، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة، كما أنّ هذه الكتابة و إن كانت مطلقة في المقام، إلاّ أنّها مشروطة بالاستعانة باللّه و الصبر على الطاعة و تحمّل المشاق، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السّلام: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 128-129]، و إطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية، و الصبر في الحوادث و تحمّلها، و اكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة، و عند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ ، كما دلّت عليه الآية الشريفة: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137].

ص: 128

و مادة [كتب] تدلّ على الثبوت و اللزوم، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا، و كلاهما ورد في القرآن الكريم و تقدّم البحث عنها في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183]، و المراد به قضاؤه عزّ و جلّ في توطّنهم في الأرض المقدّسة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة القصص، الآية: 6]، و هذه الكتابة و إن كانت مجملة من حيث الوقت و الأفراد الذين يسكنون تلك الأرض، إلاّ أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد و الأشخاص و أحوالهم، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة، كما أنّ هذه الكتابة و إن كانت مطلقة في المقام، إلاّ أنّها مشروطة بالاستعانة باللّه و الصبر على الطاعة و تحمّل المشاق، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السّلام: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 128-129]، و إطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية، و الصبر في الحوادث و تحمّلها، و اكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة، و عند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ ، كما دلّت عليه الآية الشريفة: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137].

و المستفاد من مجموع الآيات الشريفة أنّ استيلائهم على الأرض المقدّسة و توطّنهم فيها، إنّما كان كلمة إلهيّة و قضاء ربانيّا مشروطا بالاستعانة باللّه عزّ و جلّ و الصبر بجميع أقسامه و اكتساب التقوى، فإذا تحقّقت منهم يتنجّز الوعد، و عند انتفائها تشتدّ التكاليف الإلهيّة الشاقّة عليهم، كما تدلّ عليه آيات كثيرة تبيّن أحوالهم و أخبارهم، مذكورة في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

و من هنا حرم عليهم دخول الأرض المقدّسة، لما أنكروا ذلك و أعرضوا عن الطاعة، كما أخبر سبحانه و تعالى في قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 26]، و هذا أيضا يؤكّد على أنّ دخول الأرض المقدّسة كان مكتوبا عليهم، مشروطا غير قابل للتغيير و التبديل، و إن لم يكن الوقت معلوما في الآيات الشريفة، و لذا قيل: إنّ المشافهين بخطاب الدخول إلى الأرض المقدّسة ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدّسة إلاّ أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون. و قد ورد ذكر الوعد مع الشرط في كتاب العهد القديم، راجع سفر التكوين 5:26، و سفر تثنية الاشتراع 6:1 و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ .

تأكيد في أنّ الأمر بالدخول مشروط و لا يمكن أن ينال ذلك إلاّ بالعمل بالشرط، و بيان في أنّ النكوص عن الطاعة يرجعهم إلى الأدبار، فينالوا الأمرّين من العذاب، فيكون انقلاب خسران بجميع النعم التي أرادها اللّه تعالى لهم، و منها

ص: 129

الدخول إلى الأرض المقدّسة و الكرّة على أعداء اللّه تعالى و إقامة دين الحقّ و بسط العدل، فالمراد من الخسران خسران الدارين.

و يستفاد من الآية الشريفة أهميّة هذا الحكم الإلهيّ في تكوينهم و تحقيق سعادتهم، و عظيم أثره في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، لأنّ الجزاء المترتّب على النكوص و الإعراض كان عظيما.

قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ .

بيان لكيفيّة إعراضهم عن الطاعة، و نقضهم للميثاق.

و مادة (جبر) تدلّ على إصلاح الشيء بضرب من القهر، و في حديث علي عليه السّلام: «و جبّار القلوب على فطرتها»، أي: إصلاحها و تثبيتها على ما فطرها من معرفته جلّت عظمته و الإقرار به، شقيّها و سعيدها، و منه الجبّار من الآدميين الذي له السطوة و القوّة، فيجبر غيره على ما يريد ظنّا منه الإصلاح و على نحو العلو، و منه الجبر، و هو الإكراه، و في الحديث المعروف: «لا جبر و لا تفويض»، كما أنّ منه جبر العظم، و هو إصلاحه، كما مرّ في الحديث، و في الدعاء المأثور عن علي عليه السّلام: «يا جابر كلّ كسير، و يا مسهّل كلّ عسير»، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، كلّها تدلّ على الذمّ ، إلاّ ما اطلق عليه تبارك و تعالى، قال عزّ و جلّ : اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر، الآية: 23]، و معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر أو نهي، أو يقهر خلقه على الموت و النشور.

و قيل: هو العالي فوق خلقه، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى، فإنّ الجبّار من الناس هو الذي يجبر نفسه بنقيصته بادّعاء منزلة من التعالي الذي لا يستحقّها، أو يجبر غيره على ما يريد على نحو العلو و التكبّر و القهر، و لأجل هذا قيل: نخلة جبّارة و ناقة جبّارة، يتصوّر القهر بالعلو على الأقران، فهي صفة مذمومة، قال تعالى: وَ خابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ [سورة إبراهيم، الآية: 15]، و قال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم: وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية:

32]، و قال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة القصص، الآية: 19].

ص: 130

32]، و قال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة القصص، الآية: 19].

و إذا أطلقت عليه عزّ اسمه كان حقيقة و صفة كمال، لأنّه استحقّ كلّ علو و كبرياء، فيجبر خلقه بضروب من التدبير و الحكمة المتعالية، فهي صفة ذمّ و مدح - كالمتكبّر و المتعال - فإنّها مدح للخالق و ذمّ للمخلوق، لأنّها تنبئ عن نقص فيه، بخلاف الخالق جلّت عظمته.

و الجبّار صفة مبالغة، و قال الفرّاء: «لم اسمع فعالا من أفعل إلاّ في موضعين:

جبار من أجبر، و دراك من أدرك»، و قد اختلفوا في المراد من هؤلاء الجبّارين، و ذكروا أمورا فيهم لا تنطبق على القواعد و السنن الطبيعيّة، فتكون أقرب إلى الخرافات منها إلى الحقيقة و الواقع.

و كيف كان، فإنّ المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّهم أناس أولوا بطش و قوّة قد سكنوا الأرض المقدّسة.

قوله تعالى: وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها .

اشتراط منهم في تنفيذ هذا الحكم و دخول الأرض بخروج القوم الجبّارين، و هذا الشرط يكشف عن ضعف كامن في نفوسهم و شعور بالذلّ حتّى أثّر على قواهم الجسديّة، فصار الخور و الجبن ملازمين لهم، فتمنّوا خروج الجبابرة بطرق اخرى غير القتال، لتكون تلك الأرض غنيمة باردة لهم، و نظير ذلك واقع في مرّ التاريخ، و يعاني منها الشعوب المستضعفة الذين قهرت إرادتهم و سلبت حريتهم الولاة العتاة الجبابرة، و نقل لنا التاريخ أنّ بعض العبيد كانوا يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم أثناء الحملة على تحريرهم في القرن الماضي، فلا بدّ حينئذ للقائد لمثل هؤلاء أن يتصرّف بسرعة لإصلاح نفوسهم، و تنشيط هممهم، و جلب النفع لهم، و لا يقتصر على التخيل و الأمور الوهميّة.

و قد تضمّنت هذه الآيات الشريفة على امور تربويّة دقيقة في إصلاح تلك النفوس المريضة، فقد بدأت بتذكيرهم نعم اللّه تعالى و ايتائهم من الأمور العظام التي لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ أمرهم بالدخول في الأرض المقدّسة، ليتحقّق أهمّ

ص: 131

عامل من عوامل التكوين السياسيّ لهم، و أعظم دعامة من دعامات التحرير و الاستقلال فيهم. و بعد ظهور حقيقتهم في رفضهم الدخول بالقتال جبنا، و لانهيار معنوياتهم بسبب العبوديّة المقيتة الطويلة، ثمّ يأتي الوعظ و الإرشاد، فإذا لم ينفع ذلك يأتي دور الإصلاح النفسيّ و البدنيّ في ترويضهما على الطاعة و بعث روح المقاومة و الشجاعة في نفوسهم و تحمّل المشاق في سبيل تكوين سيادتهم، و هذا ما تحقّق في التيه الذي كتب اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين عاما، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ .

وعد منهم بالدخول و إن كان حقيقته هو الردّ للحكم الإلهيّ و النكوص عن طاعة موسى عليه السّلام، و إنّما ذكروا ذلك تصريحا مع أنّه مفهوم ممّا سبق، تأكيدا و تنصيصا على أنّ امتناعهم من الدخول إنّما هو لأجل وجود الجبابرة فيها، فلا بدّ أن يخرجوا منها بأي سبب كان من غير قتال، فإنّه لا طاقة بهم، و يؤكّد ذلك إتيان الجملة الاسميّة المصدرة ب (ان) في الجزاء، للدلالة على تحقّق الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و هذا القول منهم يثبت ما ذكرناه آنفا من تأثّر نفوسهم من العبوديّة الطويلة، فلم يتقبّلوا بسهولة حريتهم و رجوع استقلالهم، فقد أحبّوا خروج الجبابرة بسبب من الأسباب التي لم يكن لهم أي ارتباط به.

قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ .

بيان لمنهج آخر من مناهج التربية الإلهيّة في إصلاح النفوس، و هو الوعظ و الإرشاد و التذكير بعواقب الأمور.

و في الآية المباركة التعريض لهم بأنّ الخوف لا بدّ أن يكون ممّن يخاف سطوته التامّة و قدرته الكاملة، فلا يخاف من مخلوق يدّعي القوّة و السطوة و هو مقهور تحت إرادة خالقه، فيدلّ السياق على أنّ المراد بالمخافة هي مخافة اللّه عز و جل، بالتحرّز عن عصيانه و الإعراض عن طاعته.

و قد حذف اسم الجلالة لتربيب المهابة و تنشيط هممهم، و الإرشاد بأنّ الذين

ص: 132

يخاف منهم ليسوا كذلك، و أنّ الخوف حقيقة إنّما ينبغي أن يكون من اللّه تعالى.

كما أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ في القوم رجالا كانوا يخافون اللّه جلّت عظمته و يتّقونه في أحكامه المقدّسة، و منهم هذان الرجلان، و قد اختلفوا في اسم هذين الرجلين، فقيل - و هو المعروف و به وردت بعض الروايات -: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا (يفنه)، و ذكر بعضهم أنّهما وردا في التوراة أيضا، و قيل غير ذلك.

و كيف كان، فقد قال بعضهم: إنّ ضمير الجمع في (يخافون) عائد إلى بني إسرائيل، و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، فمعنى ذلك: و قال الرجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم اللّه عليهما بالإسلام، و ذكروا وجوها في تثبيت هذا القول.

منها: ما رووه عن سعيد بن جبير، كما يأتي في البحث الروائي.

و منها: ما قرأه بعضهم (يخافون) بضمّ الياء، و جعلها الزمخشري شاهدة على هذا القول، أي: من الذين يخافوهم بنو إسرائيل، و لكنّ ظاهر الآية الكريمة و سياقها يدلان على ما ذكرناه، و غيره ممّا تكلّفوا يحتاج إلى دليل، لا سيما أنّ ما استدلّوا به لم تثبت حجيّته.

و منها: ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الخوف من العدو أقرب إلى الذهن من غيره.

و فيه: أنّ ذلك أبعد، و الأقرب هو الخوف منه جلّ شأنه.

قوله تعالى: أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا .

بالاطمينان و التثبيت و الوقوف على الحقّ و الثقة بوعده جلّ و علا، و هو صفة ثانية من صفات الرجلين اللذين يخافان اللّه تعالى. و لا شكّ أنّ هذه النعمة عظيمة، حيث أوصلتهم إلى مقام الخوف من اللّه تعالى، الذي لم يصل إليه إلاّ من خصّه اللّه تعالى بالكرامة و حباه بالنعمة العظيمة، و هو من صفات الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام.

و لا ريب أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ مخافتهما لم تكن من أولئك

ص: 133

القوم الجبّارين، و إلاّ لما اختصّا بهذه النعمة و لم يكد يتحقّق فيهم الاهتداء من الخروج من هذا المأزق، فيرشدوا قومهم بالدخول عليهم الباب كما سيذكره عزّ و جلّ ، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ هذه النعمة هي نعمة الولاية التي اختصّ بها المؤمنون المخلصون، و من أهمّ درجات الإخلاص الحقيقيّ هو الخوف من اللّه جلّ شأنه، بل هو حقيقته و قوامه، و أولياؤهم الذين لا يخشون غيره تعالى، قال جلّ شأنه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس، الآية: 62].

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين أن يقال: إنّ متعلّق (أنعم) هو الولاية، أو يكون الخوف، فإنّه بالآخرة يرجع إلى الأوّل، كما عرفت.

قوله تعالى: اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ .

أي: باغتوهم و لا تمهلوهم ليجدوا للحرب مجالا، و على هذا فلا يختصّ بباب البلدة كما قيل، بل يشمل أوّل بلدة من بلاد الجبابرة تلي بني إسرائيل، فإنّ عنصر المباغتة لا يختصّ بأمر معيّن، فإنّ الظروف المتاحة تعيّن ذلك، فلعلّ المراد بالباب ما له شأن في ضعف قواهم و يمهّد الطريق للاستيلاء عليهم، فإنّ ذلك استعمال شائع، لا سيما في مثل هذه الظروف.

قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ .

وعد منهما بالنصر و الغلبة على العدو، و تأكيد منهما لهم بذلك، و إنّما حصل لهما هذا الجزاء و التأكيد إما اعتمادا على وعد منه عزّ و جلّ لموسى بن عمران عليه السّلام بتوريث الأرض لبني إسرائيل كما أخبر به موسى عليه السّلام لهما، أو أنّهما عرفا ذلك بإلهام منه عزّ و جلّ لهما، لأنّهما كانا من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر، أو أنّهما عرفا ذلك من القرائن الحافّة و حالات الجبّارين، فإنّهم أجسام لا قلوب فيها، فلا يحتاجون إلى قتال إذا باغتوهم و عملوا بما اقترحه هذان الرجلان.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

تشجيع لهم و تطييب لنفوسهم، و حثّ لهم بالاعتماد على اللّه تعالى و التوكّل

ص: 134

عليه، و ترك التواني و التواكل، فإنّه يلزم عليهم أن يعملوا بما عندهم من الطاقة، فإنّ التوكّل إنّما يكون بعد بذل الوسع و مراعاة قانون الأسباب و المسبّبات في عالم الإمكان، كما عرفت ذلك في بحث التوكّل، فراجع سورة آل عمران الآية - 160.

و إنّ الشرط في إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ محقّق لموضوع التوكّل، فإنّ الإيمان به عزّ و جلّ حقّ الإيمان، و التصديق بوعده ممّا يوجب التوكّل عليه حتما، فيجب عليهم القيام بما يقتضيه إيمانهم، و يستفاد منه التهييج و الإلهاب.

قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها .

عناد الرجلين منهم و إصرار على التمرّد و العصيان، و إعراض عن مخاطبة الرجلين الذين دعوا بما دعى إليه موسى عليه السّلام، ازدراء بهما، و الجملة تتضمّن العناد عن الدخول في الأرض المقدّسة و إياسا من النصر، و اشتملت على وجوه من الإهانة و التهكّم بمقام موسى عليه السّلام، فقد صرّحوا بالمخالفة و أصرّوا على الاستكبار و نقض الميثاق، و لذا أوجزوا في الكلام مع موسى عليه السّلام بعد ما أطنبوا فيه في بادي الكلام، و من المعلوم أنّ الإيجاز بعد الإطناب في مقام الجدال و المخاصمة لا يخلو عن الإهانة و كراهة استماع الحديث، ثمّ التأكيد على الإعراض باستعمال أداة النفي الدالّة على التأبيد، و تأكيده بقولهم أَبَداً ، و مجابهته بجواب تنبئهم بكلام خارج عن حدود الأدب.

قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا .

بيان لجهلهم لصفات الربّ عزّ و جلّ ، و فساد فطرتهم و جفاء طبائعهم، فإنّ كلامهم هذا يدلّ على كونهم مشبّهين وثنين، إذ وصفوه تعالى بالذهاب و الانتقال، و هما من صفات الأجسام، و قد أخبر عزّ و جلّ أنّهم نكصوا عن التوحيد و عبدوا العجل، فقال حكاية عنهم: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138]، و من هنا تعرف أنّ هذه الجملة على معناها الحقيقي، فلا نحتاج إلى التكلّف في إخراجها عنه و حملها على المعنى المجازي

ص: 135

كما فعله بعض المفسّرين، فإنّهم قصدوا ذهابهما حقيقة، كما يستفاد من ظاهر العطف أَنْتَ وَ رَبُّكَ ، و قوله تعالى: فَقاتِلا ، و يدلّ عليه ذيل الآية الكريمة: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

و هذه العبارة تدلّ على جفائهم، و بعدهم عن الأدب الرفيع و منتهى التمرّد، و المبالغة في العصيان، و الاستهانة و الاستهزاء به عزّ و جلّ و برسوله، و عدم المبالاة بهم.

قوله تعالى: إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ .

أي: لا نبرح عن مكاننا و لا نقاتل، و قد قالوا ذلك استهانة باللّه تعالى و برسوله موسى عليه السّلام.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي .

استنصار من موسى عليه السّلام في إجراء الأمر الإلهيّ ، و شكوى منه عليه السّلام إلى ربّه لحال نفسه و أخيه، و الاعتذار إليه تعالى، و التنصّل من فعل قومه و فسقهم، فإنّه عليه السّلام لم يتعرّض لحال غيرهما من المؤمنين، فإنّ المقام يقتضي التعرّض لحال أنفسهما، لا حال من خرج عن الطاعة و فسق عن أمره.

و العبارة تدلّ على غاية الانقطاع إليه عزّ و جلّ ، فقد توجّه إلى ربّه جلّ شأنه بقلب مليء بالحزن مشفق خائف و جل، و بمثله تستجلب الرحمة و تستنزل النصرة، و ذكرنا أنّ اسم «الربّ » له أهميّة خاصّة في الدعاء و أثر عظيم في استجابته، و هذا القول يدلّ على عظم هذا الأمر و أهميّته في حياة بني إسرائيل، فإنّه عليه السّلام لم يتركهم على حالهم و لم ينصرف عنهم بمجرّد إعراضهم و استهانتهم له، فإنّ هذا الأمر له الأثر الكبير في تثبيت دعوته و استمرارها، و إنّه أساس كلّ أمر و نهي فيهم، و في الإعراض عن هذا الأمر تشتّت كلمتهم، و إهدار وحدتهم، و لهذا فقد بثّ شكواه إلى ربّه جلّت عظمته، و طلب منه عزّ و جلّ إصلاح الأمر بعد ما بلّغ هذا الحكم و دعاهم إليه بأبلغ وجه فأعذر فيه، فلو لم يكن الموضوع بمثابة من الأهميّة كما عرفت، لكان مقتضى الحال أن يرجع إلى ربّه و يطلب الفصل بينه و بين قومه

ص: 136

الفاسقين الذين واجهوه بأشدّ الامتناع، و يستمد منه العون في إحلال هذه العقدة، كما صنعه الأنبياء الذين سبقوه و الذين لحقوه عند ما كان أقوامهم يعارضونهم بالردّ و الامتناع، و هو شأن التبليغ و الدعوة، فيقول: إنّي بلّغت و أعذرت و لا أملك لهم أمرا إلاّ نفسي و أخي و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف، بل رجع إلى ربّه و اشتكى إليه و بثّ حزنه ممّا فعله قومه، و استنصره في إجراء الأمر الإلهيّ مع بذل نفسه و نفس أخيه في سبيل تطبيقه، فإنّ كلّ واحد منهما يملك من نفسه السمع الطاعة و الامتثال، كما يملك من نفس هارون فإنّه خليفته و وصيّه و وزيره، و هذا لا ينافي أنّه عليه السّلام كان يملك من غيره ممّن أخلص للّه تعالى و له من المؤمنين السمع و الطاعة، كما حكي عنهم في ما سلف من الآيات المباركة.

و من ذلك يعرف فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ هذه العبارة تدلّ على أنّه لم يكن يوقن بثبات الذين أخبر اللّه تعالى عنهما آنفا، فإنّها لا تدلّ على ذلك بشيء من الدلالات، فهو عليه السّلام إنّما اقتصر على نفسه و أخيه، لأنّهما واسطتا الفيض و المبلّغان عن اللّه تعالى - فقد بالغا في الدعوة و ناضلا أشدّ النضال في سبيل تنفيذ هذا الحكم، و لكنّهما جوبها بأشدّ الامتناع و الاستهانة من قومهما، كما حكي عزّ و جلّ .

و كيف كان، فلا يستفاد من قوله عليه السّلام الردّ لما أمر به ربّه، و لا الاعتذار منه عن عدم الدخول، بل كان مصرا على تنفيذه طالبا منه النصرة و العون، فإنّ فيه حياتهم الماديّة و المعنويّة، و فيه تثمر جهوده.

و الظاهر من العبارة أنّ قوله: وَ أَخِي ، معطوف على الياء في قوله:

إِنِّي . و المعنى: أنّي لا أملك إلاّ نفسي و أخي مثلي لا يملك إلاّ نفسه، فهما اللذان يملكان نفسيهما على الطاعة و الامتثال و يعرفان حقّ المعرفة ما لهذا الأمر الإلهيّ من عظيم الأثر.

و قيل: إنّه معطوف على قوله: نَفْسِي ، أي: أنّي لا أملك إلاّ نفسي و أملك أخي، فليس لي غيرهما، فلا ناصر لي و لا معين، فإنّ القوم أعرضوا عن الطاعة

ص: 137

و امتنعوا عن الامتثال، و لا بأس به أيضا، فإنّه يرجع إلى الأوّل، فإنّ كلّ واحد منهما يملك نفسه على الطاعة و الامتثال، فكان يملك موسى أخاه هارون على السمع و الطاعة له، فإنّ طاعته من طاعة اللّه، كما يملك الخلّص من المؤمنين به على قلّتهم.

قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

دعاء منه عليه السّلام في القضاء الفصل و بيان الحكم العدل من دون طلب للعذاب الإلهيّ عليهم، فإنّه عليه السّلام كان الشفيق عليهم من السخط الربوبيّ و حريصا عليهم من نزول النقمة، و لكنّه كان يعلم أنّ بقاءهم كذلك يفوّت الغرض الذي بعث لأجله إليهم، فلا بدّ من معالجة الموضوع و إصلاحهم و تهذيب نفوسهم، فاختار عزّ و جلّ التيه و كتبه عليهم، و هو أمر تربويّ إصلاحيّ ، و إن تضمّن المشقّة و العذاب عليهم، فإنّه لا بدّ منه، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فإنّه وعد منه عزّ و جلّ على عدم نزول العذاب عليهم و إنّما هو تربية و إصلاح.

و الآية المباركة تدلّ على أنّهم بإعراضهم عن الطاعة و الامتثال و مجابهة رسولهم بأسوأ كلامهم، قد خرجوا عن خالص الإيمان و التوحيد و دخلوا في التشبيه و ارتكبوا إثما كبيرا.

و مادة (فرق) تدلّ على الفصل و التمييز. و منه فرق الشعر إذا فصله و ميّز بينه، و منه القضاء و فصل الخصومات، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 105]، و قال تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران، الآية: 103]، و هذا هو المراد به هنا، أي: الفصل بينه و أخيه عليهما السّلام و بين قومه الذين عاندوه و أعرضوا عن طاعته بالحكم العدل، و هو يدلّ على حصول البينونة و المباعدة بين الطائفتين بسبب فسقهم، فقد صارا خصمين.

و الفرق هو الفصل بين شيئين، و قال بعضهم: فرقت - بالتخفيف - في المعاني، و فرّقت - بالتشديد - في الأعيان، كما يقال: فرقت في الكلام، بالتخفيف، و فرّقت بين العبدين، بالتشديد.

ص: 138

قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ .

بيان حكم العدل و القضاء الفصل، و منه يستفاد أنّه عليه السّلام لم يطلب منه عزّ و جلّ نزول العذاب و السخط الإلهيّ ، بل طلب ما هو صلاحهم فيه، فإنّهم عانوا ما عانوا من شدّة العذاب الدنيويّ ، من فرعون و آله، كما حكى عزّ و جلّ في كتابه الكريم، فكان موسى عليه السّلام شفيقا عليهم فاستجاب عزّ و جلّ دعاء نبيّه فحرم عليهم دخول الأرض المقدّسة حتّى طهرت نفوسهم و تزكّت بتحمّل المشاق.

و الحرمة هنا حرمة منع، أي: التحريم التكوينيّ ، و هو القضاء، لا التحريم التعبديّ التشريعيّ ، فإنّهم كانوا مأمورين بدخولها من دون نسخ، كما يقال: حرّم اللّه وجهك على النار، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ [سورة القصص، الآية:

12]، و قال تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 95].

و مادة [تيه] تدلّ على التحيّر، يقال: تاه، يتيه، تيها، و توها، إذا تحيّر، و في حديث معرفة اللّه تعالى: «فتاهت به سفينته»، أي: إذا ضلّ و تحيّر، و الأرض التيهاء هي التي لا يهتدى فيها، و قد استعملت بالياء و الواو، أي: تيهته أو توهته، و الياء أكثر، و اللام في الأرض للعهد.

و المعنى: أنّهم ممنوعون من الأرض المقدّسة، فلا يدخلونها و لا يملكونها مدّة أربعين سنة، يسيرون في الأرض تائهين متحيّرين لا يرون طريقا و لا يدرون إلى أين ينتهي مسيرهم، فلا هم أهل مقام في البلد، و لا هم أهل بدو يعيشون كعيشة القبائل.

و التحريم في هذه المدّة له من الحكم الكثيرة و المصالح المتعدّدة، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين ميزة خاصّة و أثارا مهمّة في إصلاح النفس و تهذيبها، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

الأسى هو الحزن، و قال الراغب: «و حقيقته اتّباع الفائت الغم، يقال: آسيت

ص: 139

عليه أسى، و أسيت له»، أي: فلا تحزن على القوم الفاسقين، و الخطاب لموسى عليه السّلام، و فيه تقرير منه تعالى لوصفه عليه السّلام إيّاهم بالفاسقين في دعائه، و هو يدلّ على أنّ سبب نزول النقمة هو أنّهم فاسقون استحقّوا وبال عصيانهم، فلا ينبغي أن يحزن على مثل هؤلاء.

و قال بعضهم: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد بالقوم الفاسقين معاصروه صلّى اللّه عليه و آله من بني إسرائيل لما عاندوه. و هذا صحيح، لكنّ ظاهر الآية الشريفة يأباه، و إن أمكن القول بأنّ الغرض من نقل قصص بني إسرائيل هو العبرة و الموعظة و الإرشاد و تطييب نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا لاقاه منهم.

ص: 140

بحوث المقام

بحث أدبي:

ذكرنا غير مرة أنّ (إذ) في مثل قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ، مفعول لفعل محذوف خوطب به سيّد الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، بطريق تلوين الخطاب و صرفه عن أهل الكتاب.

و قوله تعالى: يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ في غاية الفصاحة و البلاغة، فإنّ توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت إِذْ قالَ ، أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه و إن كان هو المقصود بالذات. و عَلَيْكُمْ إما متعلّق بالنعمة إن جعلت مصدرا، أو بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما، أي: اذكروا أنعامه عليكم.

و ذكرنا أنّ تغيير الأسلوب في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً يدلّ على أنّهم تغيّرت أحوالهم عمّا كانت عليه سابقا، فصاروا كلّهم ملوكا، و هو يدلّ على أنّ المراد بالملك غير ما هو المصطلح عليه في علم السياسة و التدبير.

و اللام في قوله تعالى: مِنَ اَلْعالَمِينَ للعهد، أي: عالمي زمانهم و ما سبقهم، أو للاستغراق لجميع من سبقهم، كما عرفت في التفسير.

و قوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف، و هو الظاهر، أو منصوب في جواب النهي من قبيل: لا تكفر فتدخل النار، و ناقش فيه جمع.

و الجملة الاسميّة: «فإنّا داخلون» المصدّرة ب (ان) فيها الدلالة على تقرير الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و فيه التأكيد على عدم دخولهم ما داموا فيها.

و القراءة المعروفة في قوله تعالى: (يخافون) بفتح الياء، و قرأ بعضهم بضمّها.

و جعلها الزمخشريّ شاهدة على أنّهما من الجبّارين، و قد عرفت ما يتعلّق بذلك في التفسير، و فيه احتمالان آخران مذكوران في الكتب المفصّلة، فراجع.

ص: 141

و جملة: أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا صفة ثانية لرجلين، أو اعتراض. و قيل غير ذلك.

و (أبدا) في قوله تعالى: إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ، معنى الدهر الطويل، و «ما داموا فيها» بدل من «أبدا»، إما بدل البعض، أو بدل الكلّ من الكلّ ، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين.

و يجوز في أخي رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي وجوه من الإعراب، منها: إنّه منصوب بالعطف على اسم «ان»، أو أنّه مرفوع بالعطف على فاعل (املك) للفصل، أو أنّه مبتدأ خبره محذوف، أو أنّه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي بعض النحويين. و أشكل على بعض الوجوه بأمور مذكورة في محلّها فراجع.

و أما قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، فالمعروف أنّ الأربعين ظرف منصوب ب (محرمة)، فيكون التحريم مؤقتا بهذه المدّة، فلا تنافي بينه و بين قوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، لأنّ الكتابة غير مؤقتة و التحريم مؤقت، و هو الظاهر من الآية المباركة كما عرفت آنفا، و يأتي في البحث الدلالي مزيد بيان.

و قيل: إنّ الأربعين ظرف لقوله تعالى: يَتِيهُونَ مقدّما عليه، فيكون التحريم مؤبدا، إذ التقدير: فإنّها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة.

و الظاهر هو الوجه الأوّل، و يؤيّده أنّ الغالب في الاستعمال تقديم الفعل على الظرف، لا تأخّره عنه. و على فرض القول بالوجه الثاني، فإنّ التحريم لا يكون مؤبّدا، لقوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.

و قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ إما بيانيّة لكيفيّة حرمانهم، أو حال من ضمير (عليهم).

ص: 142

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ على فضل بني إسرائيل و عظيم ما أنعم عليهم، لجملة من النعم الماديّة و المعنويّة، و لم تكن في القرآن الكريم مثل هذه الآية الشريفة التي تعدّ على بني إسرائيل أنواع النعم، و تدلّ على تفضيلهم على غيرهم و ما حباهم اللّه تعالى من الكرامة و الفضل العظيم، فلم تسبقهم امّة من الأمم بمثل هذه النعم، و لكنّهم كفروا بها و أعرضوا عمّا أمرهم به اللّه تعالى، و مع ذلك فإنّه عزّ و جلّ لم يتركهم سدى، فقد ابتلاهم بأنواع المحن و البلاء، فقد ابتلوا على قدر الكفر، و لعلّ كتابة التيه عليهم لأجل ازدرائهم بالنعم، و وقوعهم في اضطراب فكري و نفسي، فكان لا بدّ من تيه ماديّ لتصلح به نفوسهم و ترجع أفكارهم إلى السداد و تهتدي قلوبهم إلى الرشاد، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

الثاني:

يستفاد من سياق الآيات الشريفة في المقام النظام الإلهيّ في تنظيم شؤون الناس، و هو يمرّ بمراحل متعدّدة.

منها: التهذيب بالتزكية و التعليم بإرسال الرسل و الأنبياء، و هذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ .

و منها: النضج الفكريّ و جعل الإنسان حرّا، مالكا لنفسه، حرّا في تصرفاته، لا تؤثّر عليه الأفكار الدخيلة و لا يقبل الابتزاز و الظلم و العدوان، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً .

ثمّ مرحلة الاختصاص و التمييز بما يمنحهم ربّهم من أنواع النعم الماديّة و المعنويّة التي لها الدخل الكبير في تكوين هويتهم و شخصيتهم، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

و لأجله تميّز بنو إسرائيل عن غيرهم من سائر الأمم.

ص: 143

ثمّ المرحلة الأخيرة، و هي الاستقلال في الأرض التي تعتبر المرحلة الأشدّ صعوبة من تلك المراحل الأخيرة، فإنّها تحتاج إلى جهاد و كفاح مستمر، فإنّ على الأرض تطبيق واقع النظام الإلهيّ التي تبقى مهدا للأجيال القادمة و مدرسة للتهذيب و الإصلاح، و يدلّ عليه قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، و يمكن أن يكون قوله تعالى: كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ إشارة إلى جميع تلك المراحل، فإنّها ممّا كتبه اللّه تعالى على كلّ امّة تريد السعادة و الصلاح لها، فإنّها بدون هذا النظام الدقيق لا يمكن الوصول إليهما.

و هذه المراحل هي متكاملة مترابطة ترابطا دقيقا، و لكلّ واحدة منها أسسا و قواعد متقنة، قد شرحها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و بيّنتها السنّة الشريفة بيانا شافيا، و لا يمكن نيل الغرض المحمود منها إلاّ بتطبيقها تطبيقا كاملا، فإنّ الإعراض عن هذا النظام الربانيّ يوصل الإنسان إلى طريق مسدود، لا يوقعه إلاّ في متاعب تسلب راحته، و لا يهدأ له البال و تزدحم عليه المشكلات التي ليست لها علاج صحيح إلاّ بالرجوع إلى الطاعة و تطبيق نظام الشريعة الغرّاء.

و في أحوال بني إسرائيل - من ابتداء حياتهم في مصر حتّى خروجهم منها و الدخول في التيه، و ما لاقوه من المتاعب - العظة و العبرة لمن أراد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا، و أسوة لمن أراد الخير و الصلاح و السعادة للمجتمع و إيصاله إلى سمو الرقي.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ، أنّ الإعراض عن طاعة اللّه تعالى و اتّباع أنبيائه الكرام يوجب سلب السعادة و الوقوع في الخسران، و إطلاقه يشمل جميع أنواع الخسران المادّي و المعنويّ .

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها ، على غاية الإحباط و الشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل و تذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في الحديث:

ص: 144

يدلّ قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها ، على غاية الإحباط و الشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل و تذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في الحديث:

«انّ الظلم يذر الديار بلاقع من أهلها»، و قد دلّت عليه التجربة.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا ، أنّ الخوف من اللّه تعالى يوصل الإنسان إلى المقامات السامية و المنازل العالية، و أنّه ممّا يوجب أن ينعم اللّه تعالى عليه بأنواع النعم الإلهيّة.

السادس:

يمكن أن يستفاد من حذف المتعلّق في قوله تعالى: يَخافُونَ العموم، أي: الخوف من اللّه العظيم و العمالقة، و خوفهم من اللّه تعالى؛ لأنّهما كانا على درجة من الإيمان، و الخوف من العمالقة؛ لأنّهم كانوا ذوي سطوة و قوّة و لا يمكنهم الغلبة عليهم إلاّ بالحيطة و الحذر و اتخاذ الأسباب الظاهريّة، ثمّ التوكّل على اللّه تعالى، و لذا اقترحا على قومهم من بني إسرائيل بالدخول عليهم الباب، و الخوف من أبناء قومهم في إظهار الحقيقة و بيان الواقع لهم لضعف إيمانهم، و لوجود الذلّ الكامن في نفوسهم، و لذا دأبوا على إنكار الحقّ و مجابهة المحقّ بأسوأ إنكار.

و على هذا تكون الآية الشريفة من الأدلة على تشريع التقيّة و جوازها - بل وجوبها - في مورد الخوف و الضرر حسب اختلاف الموارد.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي ، على غاية رقي الإنسان في مدارج الكمال، بحيث يملك نفسه و يقدر في التسيطر على مشاعره و توجيهها إلى الصراط المستقيم و جعلها تحت إرادته عزّ و جلّ و اتّباع شرائعه و توجيهاته و إرشاداته، و لا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة الراقية من الكمال إلاّ بالمجاهدات الكبيرة و التزام الطاعة و التقوى و اجتياز المراحل الصعبة التي تكون في هذا الطريق، و لم يصل إلى هذه المرتبة إلاّ المخلصون من عباد اللّه تعالى الذين استثناهم إبليس من غوايته، كما حكي تعالى عنه بقوله: وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: 39-40].

و الآية الشريفة تدلّ أيضا على عظمة هارون أخي موسى عليهما السّلام، فقد كان

ص: 145

الوفي لأخيه و المطيع لأوامره و تعليماته و المنفذ لتشريعاته، حتّى انتهى به الأمر إلى جعل نفسه بين يديه، فصار موسى عليه السّلام مالكا لها كما ملك نفسه، و هذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الطاعة للّه تعالى و لنبيّه عليه السّلام، و لم يصل إلى هذه المرحلة إلاّ إذا ملك نفسه بالمجاهدة.

و من هنا تعرف أنّه لا فرق بين أن نقول: إنّ كلمة (أخي) عطف على (نفسي)، أو على الضمير في (لا املك) فإنّ أحدهما يلازم الآخر كما هو معلوم.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، على أنّ الفسق و الخروج عن الطاعة يوجب البينونة بينه و بين اللّه تعالى و أنبيائه العظام، فإنّ بني إسرائيل أعرضوا عن الطاعة و فسقوا عن أمر ربّهم و تعليماته، و لذا طلب موسى عليه السّلام أن يفرّق بينه و بين قومه بحكم يكون فيه الفصل و الحدّ عن فسقهم و طغيانهم، و ذكرنا أنّ هذا الدعاء منه عليه السّلام لم يكن طلبا لنزول العقاب عليهم، فإنّه عليه السّلام جاهد جهادا مريرا معهم حتّى أوصلهم إلى هذه المرحلة من حياتهم، فلا بدّ من علاج ذلك حتّى لو استلزم المشقّة الشديدة، فكتب اللّه تعالى لهم التيه، و قد كان موسى و أخوه عليهما السّلام في غنى عنه، و لكنه جعل نفسه و نفس أخيه تحت إرادته و مشيئته تعالى. و من هنا يظهر السرّ في تقديم رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي على دعائه.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، مناسبة العقاب مع العصيان، فإنّهم أعرضوا عن طاعة اللّه و رسوله و لم ينفذوا ما أمرهم تعالى بدخول الأرض المقدّسة الذي أراد عزّ و جلّ منه استقلالهم و تطبيق شريعته فيها، و قد جابهوا نبيّهم أسوء مجابهة، و أظهروا ما هو كامن في نفوسهم من التردد و الحيرة و الاضطراب و لم يبدوا العزيمة، فكان ذلك سببا في الدخول في التيه الذي هو الحيرة و الاضطراب أيضا، و لكن فعل بهم هذا في الأرض لتمرين نفوسهم على تحمّل المشاقّ و قبول المتاعب و الصعاب، فتستقر على أمر واحد، بخلاف ما كانوا عليه قبل التيه من اضطراب فكري، و ضعف في الإرادة و الصعوبة في قبول الخير

ص: 146

و الصلاح، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، أنّ حرمة الدخول إلى تلك الأرض المقدّسة مغياة إلى أربعين سنة، فإنّ هذه المدّة كافية لتصفية النفوس و تزكيتها و تهذيب القلوب من الفساد و تربية الأبدان على تحمّل المشاقّ ، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين الأثر الكبير في ذلك.

و ذكر بعضهم أنّ الحرمة أبديّة، جزاء أعمالهم السيئة و هتكهم لحرمات اللّه تعالى و جرأتهم على نبيّه الكليم و مجابهته بأسوإ مجابهة، و لكنّ هذا القول ينافي ظاهر الآية الشريفة، فإنّ الحرمة فيها لم تكن تشريعيّة بحتة، بل للحرمة التكوينيّة فيها مجال واسع، فإنّه بعد ظهور نواياهم الفاسدة و سريرتهم المريضة لا يبقى موضوع للدخول إليها، فإنّه مشروط بأمور أغلبها إن لم تكن كلّها منتفية عندهم آنذاك، فلا بدّ من علاج ذلك ليتسنّى لهم الدخول، فإنّهم امّة تميّزت عن غيرها بأن أنعم اللّه تعالى عليها بعد العذاب المرير الذي قاسوه مدّة مكثهم في مصر، على أنّ أرض اللّه تعالى لم تكن ملكا لأحد من عباده، فإنها يرثها عباد اللّه الصالحون، فكانت فترة التيه كافية لتربيتهم على الصلاح، فإن كانوا كذلك، فهم الوارثون و إلاّ فسيرثها غيرهم من الصالحين، و للبحث تتمّة يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ، يعني: في بني إسرائيل لم يجمع اللّه لهم النبوّة و الملك في بيت واحد، ثمّ جمع اللّه ذلك لنبيّه».

أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله على موسى عليه السّلام،

ص: 147

فجعل في بيته صلّى اللّه عليه و آله النبوّة، و الملك، أي: الولاية كما يأتي، و أما في بيت موسى عليه السّلام لم يكن كذلك، و إنّما كان في بني إسرائيل.

و عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ؟ قال عليه السّلام: الأنبياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إبراهيم و إسماعيل و ذريّته و الملوك الأئمة، قلت: و أي الملك أفضل ؟ قال: ملك الجنّة و النّار».

أقول: الرواية - مع قطع النظر عن السند - مضطربة المتن. و لعلّ الإمام عليه السّلام أراد ذكر أجل المصاديق لمطلق الأنبياء - لا تفسير الآية المباركة - لأنّ ما ورد فيها من ذكر الأنبياء عليهم السّلام لم يكونوا من بني إسرائيل، كما هو واضح، و كذا بالنسبة إلى الأئمة للملوك، و المراد من الذيل الملك (بالفتح) و الأولى ردّ علمها إلى أهله.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال:

«كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة و الخادم و الدار، يسمّى ملكا».

أقول: سياق الآية الشريفة الامتنان على بني إسرائيل، كما تقدّم في التفسير، و ما ورد في الرواية سار في جميع الأمم و لا يستحقّ ذلك الامتنان من اللّه جلّت عظمته، و لعلّ المراد التفوّق النسبي، و من كان كذلك عدّ في بني إسرائيل ملكا، لأنّهم كانوا عبيدا للفراعنة. و كيف كان، فقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فلا بدّ من صناعة التأويل فيها حتّى تلائم سياق الآية المباركة.

و عن الشيخ المفيد في آماله بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لما انتهى بهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لكم و لا ترتدوا على إدباركم فتنقلبوا خاسرين، و قد كتبها اللّه لهم، قالوا: يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين، و إنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللّه عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون و على اللّه فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها

ص: 148

أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، قال: ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين، فلما أبوا أن يدخلوها حرمها اللّه عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة، يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم استتموا الرحيل فيرتحلون بالحدّ أو الزجر، حتّى إذا أسحروا أمر اللّه الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه، فيقولون: قد أخطأتم الطريق، فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المن و السلوى حتّى هلكوا جميعا، إلاّ رجلين يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناءهم، و كانوا يتيهون في نحو من أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم، قال: و كان معهم حجرا إذا نزلوا ضربه موسى عليه السّلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكلّ سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابة، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ موسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لهم، ثمّ بدا له فدخلها أبناء الأبناء».

أقول: الظاهر التصحيف و الاشتباه من النساخ، و الصحيح قال: قال أبو جعفر عليه السّلام، فتكون رواية واحدة كما يقتضي السياق، و إلاّ فالرواية متعدّدة.

و كيف كان، فالروايات في كيفيّة التيه و ما جرى عليهم فيه كثيرة منقولة عن طرق الشيعة و السنّة، كما أنّ التيه في نفسه خارق للعادة، و كان لأجل مصالح و حكم كذلك، و ما جرى على بني إسرائيل فيه من خوارق الطبيعة، و أنّ الروايات الواردة في حياة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السّلام تدلّ على أنّ ذلّ الرقيّة كان فاشيا في مجتمعهم، و لم تكن لهم أيّة نفسيّة توجب اندفاعهم للخروج عنها إلاّ بتغيير جذري لطبائعهم، و هو قد حصل في التيه، و لعلّ خوارق العادة أو انثلام الطبيعة فيه لم تكن إلاّ لأجل إرشادهم إلى الخالق الرحيم، و إنّه قادر على تغيير ما ارتكز في نفوسهم من الذل و الانكسار كما تقدّم في التفسير، و لا بد أن يكون كذلك بحكم العقل و الفطرة.

ص: 149

ثمّ إنّ اختلاف الروايات في ما جرى عليهم في التيه لا يضرّ، لأنّها قريبة المعاني نوعا ما، و لا شيء فيها ما يخالف الكتاب، و لذلك لا جدوى في سردها و الجمع بينها، و سيأتي ما يتعلّق بالبداء إن شاء اللّه تعالى.

و في رواية حريز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتّى لا تخطون طريقهم و لا يخطئكم سنّة بني إسرائيل، ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: قال موسى عليه السّلام لقومه: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، فردّوا عليه و كانوا ستمائة ألف: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا أحدهما يوشع بن نون و الآخر كالب بن يوفنا هما ابنا عمّه فقالا: اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ إلى قوله تعالى: إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، قال: فعصى أربعون ألفا و سلم هارون و ابناه و يوشع بن نون و كالب بن يوفنا، فسمّاهم اللّه فاسقين، فقال: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا، فكانوا حذو النعل بالنعل، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما قبض - الحديث».

أقول: أما قاعدة ركوب السنن الماضية حذو النعل بالنعل في هذه الامّة، فقد وردت فيها روايات كثيرة مروية عن طرق الشيعة و السنّة، و دلّت التواريخ المعتبرة على ذلك، و لا مجال لنقل الوقائع بعد كثرة الشواهد.

و أما ذكر العدد في الرواية، فهو تقريبيّ لا دقّي، و لا يضرّ الاختلاف في الأقل و الأكثر، كما مرّ.

و تطبيق الآية الشريفة على ما حصل من الحوادث بعد ارتحال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إلى الملأ الأعلى من باب التطبيق، و القاعدة المتقدّمة تشهد على ذلك.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «خلق لهم ثياب لا تخلق و لا تذوب».

أقول: يمكن أن يكون ذلك من متانة الصنع و المادة بحيث يعمر الثوب

ص: 150

أربعين سنة و أكثر. و أما الكيفية من الطول و القصر و غيرهما، فكانوا يغيّرونها باختيارهم، لأنّ أكثر ما يطرأ على الثياب من الفساد من كثافات البدن الحاصلة من الغذاء، و كان غذائهم المن و السلوى، و لم يكن فيهما الكثافة كما في غيرهما من الأغذية.

كما يمكن أن يكون ذلك من الإعجاز و خوارق العادة، كانفجار الماء من الصخرة، و يدلّ على ذلك ما ورد في الدرّ المنثور، قال: «ظلّل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة، كلما أصبحوا ساروا غادين، فإذا امسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، فكانوا كذلك أربعين سنة و هم في ذلك ينزل عليهم المن و السلوى و لا تبلى ثيابهم، و معهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا»، و في رواية اخرى فيه أيضا:

«كانت بنو إسرائيل إذا كانوا في تيههم تشبّ معهم ثيابهم إذا شبّوا»، و ذكرنا مرارا أنّ خوارق العادة تعمّ الجمادات و غيرها.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال في قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، قال: فإنّ ذلك نزل لما قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ، فقال لهم موسى عليه السّلام: اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ف إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها ، فقال لهم موسى عليه السّلام: لا بدّ أن تدخلوها، فقالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، فأخذ موسى بيد هارون و قال كما حكي اللّه: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي - يعني هارون - فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فقال اللّه: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، يعني مصر لن يدخلوها أربعين سنة يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، فلما أراد موسى أن يفارقهم فزعوا و قالوا: إن خرج موسى من بيننا انزل علينا العذاب، ففزعوا إليه و سألوه أن يقيم معهم و يسأل اللّه أن يتوب عليهم، فأوحى اللّه إليه: إنّي قد تبت عليهم على أن يدخلوا مصر و حرّمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا ، فدخلوا كلّهم في قرية و التيه إلاّ قارون،

ص: 151

فكانوا يقومون في أول الليل و يأخذون في قراءة التوراة فإذا أصبحوا على باب مصر دارت بهم الأرض فتردّهم إلى مكانهم، فكان بينهم و بين مصر أربعة فراسخ، فبقوا على ذلك أربعين سنة، فمات هارون و موسى في التيه و دخلها أبناؤهم و أبناء أبنائهم، فروي أنّ الذي حفر قبر موسى ملك الموت، تمثّل في صورة البشر، و لذلك لا يعرف بنو إسرائيل قبر موسى، و سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن قبره ؟ فقال: عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر، قال: و كان بين موسى و بين داود خمسمائة سنة، و بين داود و عيسى ألف و مائة سنة».

أقول: المستفاد منها و من الروايات الواردة في ضمن جميع الآيات الشريفة المتعلّقة بقصة التيه المذكورة - بعضها في سورة البقرة، الآية: 61 و بعضها في المقام - امور:

الأوّل: أنّ الأرض المقدّسة هي الصحراء الممتدة من الشام إلى مصر، أي:

صحراء سيناء، و حدّدت جوانبها كما يأتي في البحث التأريخي.

الثاني: أنّ بني إسرائيل بعد ما خرجوا من مصر و خلّصوا أنفسهم من عذاب فرعون، لم يخضعوا لموسى عليه السّلام مع ماله من الفضل عليهم، و لذلك وقعوا في الشدّة و العذاب الإصلاحيّ و التربويّ ، فأصابهم ظمأ و مجاعة في صحراء قفر - كما تقدّم في موجز حياتهم في سورة البقرة، الآية: 61 و سيأتي مزيد بيان - فأمرهم موسى عليه السّلام بالهبوط إلى مصر لشدّ عزائمهم و ليجدوا مآربهم، فأبوا دخولها لما لاقوه سابقا من العذاب المرير و الذلّة القاسية، فعاندوا موسى عليه السّلام و أساؤا الأدب بربّهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، فوقع عليهم العذاب التربويّ ، أي: حرم عليهم دخول مصر أربعين سنة، و الحكمة في ذلك كثيرة كما تقدّم.

الثالث: أنّ السير في التيه إما أنّه معجزة خارقة للعادة كما في الرواية، «درأت بهم الأرض».

أو سلب اللّه مشاعرهم التي تدلّهم على الطرق، فجهلوها و وقعوا في متاهاتها، فكانوا يسيرون السير الدائريّ مثلا و هم لا يشعرون.

ص: 152

أو أنّهم لا يتمكّنون من السير المحدود، فسلب اللّه تعالى قدرتهم من السير أكثر، لمرض أو غيره من حوادث الجو أو الأرض.

أو ضيّق عليهم زمان السير، فكانوا ينامون أكثر اليوم ثمّ يسيرون في متاهات الأرض في زمان محدود خاصّ .

و يمكن أن يقال: إنّ جميع هذه الاحتمالات موجودة فيهم حسب الإيمان به عزّ و جلّ و التقرّب لديه تعالى، فدارت الأرض على بعضهم و تاه آخرون فيها، و أنهك بعضهم المرض من السير، أو ضيّق عليهم الزمان، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تحتمل فيهم.

و أمر بني إسرائيل في زمان حياة موسى عليه السّلام لم يكن عاديا، بل إنّ المعجزات و خوارق العادة كانت حافة بحياتهم و سارية في مجتمعاتهم.

و في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّه سئل عن قول اللّه اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، قال عليه السّلام: كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، و اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب».

أقول: ظاهر الرواية البداء في حقّهم، فكتب لهم الدخول ثمّ حرّمه تعالى عليهم. و لكنّ سياق الآية المباركة لا يدلّ على ذلك، لأنّ حرمة دخولهم فيها أربعين سنة كانت من الآثار الوضعيّة لأعمالهم، و لذلك دخلها أحفادهم بعد ما تركوا تلك الأعمال و أصلحوا أنفسهم، إلاّ أن يراد من البداء غير معناها المصطلح.

و في تفسير العياشي بإسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ قال عليه السّلام: «كتبها لهم ثمّ محاها».

أقول: إنّ المحو كان نتيجة أعمالهم و من آثارها، و كان مؤقتا.

و عن الصادق عليه السّلام في رواية أبي بصير: «انّ بني إسرائيل قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة، فلم يدخلوها حتّى حرّمها عليهم و على أبنائهم، و إنّما دخلها أبناء الأبناء».

ص: 153

أقول: الرواية ظاهرة في ما تقدّم، إلاّ أن يقال: إنّ جميعهم امّة واحدة، و إنّ الخطاب متوجّه إلى الامّة، فحينئذ يتحقّق البداء بملاحظة الأفراد، و يدلّ على ذلك رواية إسماعيل الجعفي عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: أصلحك اللّه اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، أ كان كتبها لهم ؟ قال: أي و اللّه لقد كتبها لهم، ثمّ بدا له لا يدخلونها - الحديث».

و عن ابن سنان، عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ قال: «كان في علمه أنّهم سيعصون و يتيهون أربعين سنة ثمّ يدخلونها بعد تحريمه إيّاها عليهم».

أقول: تقدّم أنّ من دخل الأرض المقدّسة كانوا أحفادهم، لا نفس المخاطبين، فلا يكون من البداء إلاّ بالوجه الذي تقدّم.

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كان هارون أخا موسى لأبيه و امه ؟ قال: نعم، أما تسمع اللّه يقول:

يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي ؟! فقلت: أيّهما أكبر سنّا؟ قال: هارون، قلت:

كان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: الوحي ينزل على موسى عليه السّلام و موسى يوحيه إلى هارون، فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي، كان ذلك إليهما؟ قال عليه السّلام: كان موسى عليه السّلام الذي يناجي ربّه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل، و هارون يخلفه إذا غاب عن قومه للمناجاة. قلت: فأيّهما مات قبل صاحبه ؟ قال عليه السّلام: هارون قبل موسى، و ماتا جميعا في التيه، قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرّية له».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ موسى عليه السّلام و هارون كليهما قادا بني إسرائيل، و لكن كان لموسى عليه السّلام الفضل و الشرف على هارون، و الأخبار مختلفة في موضع قبر موسى عليه السّلام، و لكنّ أكثرها تدلّ على أنّه في التيه، لأنّه توفى فيه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر»، كما مرّ.

و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

ص: 154

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مات داود النبي يوم السبت مفجّوا، فأظلّته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم اللّه في التيه، فصاح صائح من السماء: مات موسى و أيّ نفس لا تموت».

أقول: لعلّ الوجه في تظليل الطير بأجنحتها كان احتراما و إكراما لداود، و كان الصياح في السماء نعيا على موسى، لأجل أهميّة الحادثة و تجليلا لشأنه عليه السّلام.

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ، قال: «أبدا»، و في قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ قال: أربعين سنة».

أقول: ما ذكره خلاف ظاهر الآية الشريفة و أنّهم دخلوا الأرض المقدّسة كما في الآية الشريفة، و تقدّم أنّ الحرمة وضعيّة لا تكليفيّة.

بحث تأريخي:
اشارة

ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حياة بني إسرائيل كانت مليئة بخوارق العادات، حافلة بالقصص العجيبة و الحكايات الغريبة، قلما تكون امّة غيرها بهذه المثابة، فقد تميّزت بأنّها كانت مورد لطفه عزّ و جلّ و عنايته و إحسانه، فأنعم عليها بما لم ينعم على غيرها من الأمم قبلها، قال تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية 122].

و قال تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ [سورة المائدة، الآية:

20]، و قد حكى القرآن الكريم جملة منها فصارت هذه الامة مثالا للكرامة الإلهيّة، نستلهم ممّا أفاض عزّ و جلّ عليها من التشريعات و الإرشادات و التوجيهات في تكوين الفرد تكوينا صالحا، و بناء مجتمع سعيد وفق قواعد حكيمة متقنة.

و الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه و تعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل، و هي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ و المجتمع السعيد، فقال عزّ و جلّ : وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ ، و تقدّم في بحثي الدلاليّ و الروائيّ بعض الكلام فراجع.

ص: 155

و الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه و تعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل، و هي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ و المجتمع السعيد، فقال عزّ و جلّ : وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ ، و تقدّم في بحثي الدلاليّ و الروائيّ بعض الكلام فراجع.

إلاّ أنّ هذه الامّة مع عظم فضلها و كبير ما أنعم عليها، كان الواجب عليها شكر تلك النعم بإطاعة من أنعم عليها و خصّها بها، فتفي بعهودها التي أخذت منها، و لكنّها نكصت عن إيمانها و أعرضت عن طاعة ربّها، و نقضت عهودها، و لقد حذّرهم اللّه تعالى مكرّرا و علّق استدامة تلك النعم على الوفاء بالعهد، فقال تعالى:

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 40]، و وعظهم نبيّهم موسى بن عمران عليه السّلام و حذّرهم من وبال أفعالهم و عاقبة أمرهم، فأصروا على العناد و اللجاج استكبارا، حتّى استحكم فيهم العصيان و نقض المواثيق، فلم تنفعهم الزواجر، فعاقبهم اللّه تعالى بأنواع العذاب، فصاروا مثلا للعبرة و الموعظة بعد ما كانوا مثالا للكرامة الإلهيّة، و قد انغرس فيهم بعض الصفات السيئة و العادات الباطلة، فظلّت أجيال بني إسرائيل تتوارثها على مرّ العصور، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في القرآن الكريم، و لقد عانى الأنبياء و المصلحون في سبيل إصلاحهم و تهذيبهم، و تحمّلوا أنواع الشدائد و المشاقّ ، فلم ينالوا ما يريدونه لتماديهم في الغي و شدّتهم في التمسّك بعاداتهم الباطلة و صفاتهم السيئة و قسوتهم على أنبيائهم، حتّى قتلوا منهم جمعا كبيرا.

و لعلّ من أحد أسباب كثرة إرسال الأنبياء فيهم أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت بتهذيبهم و إرجاعهم إلى رشدهم و إصلاحهم و تزكيتهم، و قد اقتضت حكمته تعالى أن ينزل من التشريعات الشديدة و الأحكام القاسية في الوصول إلى الهدف الذي أرسل الرسل إليه، بسبب عنادهم و غيّهم.

و نحن نذكر في هذا البحث من تلك الأحكام قضية التيه التي ذكرت في جميع الكتب الإلهيّة المعروفة، و التي كتبها اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين سنة، و هي قضية مهمّة في حياة بني إسرائيل، و تعدّ هذه القضية منعطفا تاريخيا في حياة بني

ص: 156

إسرائيل، و تعتبر من أعظم الأحداث في التأريخ الإنساني، لما وقع فيه من خوارق العادات و غرائب الأمور، فصار التيه بحدّ نفسه مدرسة تربويّة إصلاحيّة، و قد طال زمانه حتّى مات فيه جمع كبير ممّن خرج مع موسى بن عمران عليه السّلام، و مات هو و أخوه في التيه، فلم يبق منهم إلاّ اثنان، أحدهما يوشع بن نون الذي تولّى قيادة بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، و كان من أحد أصفيائه، فاستطاع هو و من معه من أحفاد بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة بعد عناء شديد.

و نذكر في هذا البحث حقيقة التيه، و أسبابه، و مدّته، و مكانه، و الحكمة فيه، و الحوادث الواقعية فيه.

حقيقة التيه:

لمعرفة حقيقة التيه يجدر بنا أن نتعرّف على حياة بني إسرائيل في مصر قبل الخروج منها و لو على سبيل الإيجاز، فقد تقدّم في سورة البقرة بعض الكلام أيضا، فنقول: اتّفق المؤرخون على اختلاف مذاهبهم على أنّ بني إسرائيل كانوا في مصر شعبا مستضعفا ذليلا، فقد استعبدهم المصريون، و أذلّهم الفراعنة و ساموهم سوء العذاب، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، و كان من نتائج ذلك أن تأثّرت نفوسهم بسبب الظلم المستمر عليهم، فضعفت فيهم روح الثأر و الانتقام و خسروا ملكة الشجاعة و الإقدام، فأنسوا بالذلّ و العبوديّة، و ألفوا الظلم و الاستعباد، فلم تكن الحرية عندهم شيئا ذا أهميّة و لم يعيروا لها أيّ اهتمام، فأحبّوا القعود و رضوا النكد من العيش، و رفضوا التحلّي بمكارم الأخلاق، فكاد أن تنطفئ فيهم ملكة الاستكمال، حتّى تعلّقت إرادته عزّ و جلّ أن يبعث فيهم من يخلّصهم من العذاب و يهديهم إلى سواء السبيل، فالتفوا حول موسى بن عمران عليه السّلام و هم بمصر، لا كرسول و نبي همام، بل كقائد مقدام يرجى على يده الخلاص من ظلم المصريين و استعبادهم، و لذلك لم يكادوا يتحقّقون من نجاتهم من فرعون حتّى شغبوا على موسى نبيّهم العظيم عليه السّلام و أعرضوا عن طاعته بعد ما أخذ

ص: 157

منهم المواثيق، فصاحوا به و بأخيه هارون: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا [سورة الأعراف، الآية: 129]، و قد نقلت لنا التوراة صورا متعدّدة من ذلك التمرّد، و ورد في إحداها أنّهم قالوا: «ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع» 160 سفر الخروج: 2-3، و السرّ في ذلك واضح، فإنّ الحرية لم تكن عندهم شيئا يذكر، و لم تبعثهم الكرامة الإنسانيّة و لم ينهض بهم طلب الفضائل، فقد تربّوا على الذلّة، و الصغار، و نقض العهد و الميثاق، و الخروج عن الطاعة، فصار العناد و اللجاج من سماتهم المعروفة. و من هنا كان الأمر بدخول الأرض المقدّسة عليهم عظيما، لأنّه يستلزم الحرب بينهم و بين السكان الذين يقطنون فيها، و هم يخافون الحرب، و قد بذلت محاولات عديدة لإرضائهم بالدخول، و وعدهم عزّ و جلّ بالنصر، و لكنّهم أصروا على موقفهم، كما حكى عنهم القرآن الكريم فقالوا: إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، و مقالتهم هذه تكشف عن كبير عصيانهم و عظيم جبنهم، فأحبّوا أن يكون الدخول إلى الأرض المقدّسة عن طريق المعجزة الإلهيّة، لأنّهم كانوا يدركون أنّهم شعب احتفت بهم الكرامة الإلهيّة و كثرت فيهم المعاجز و خوارق العادات، حتّى عرفوا بها و لم يتنبهوا أنّ تلك المعاجز إنّما كانت لأجل ايقاظهم عن سباتهم و بعث روح الاستكمال فيهم، و تربيتهم بالتربية الإلهيّة الصالحة، تدفع عن نفوسهم تلك الذلّة و الصغار التي تربّوا عليها.

و من هنا نعرف أنّ التيه الذي كتبه اللّه تعالى عليهم إنّما كان الغرض منه هو إعدادهم إعدادا ماديا و معنويّا، لتحمّل المسؤولية الإلهيّة، و تربيتهم تربية صالحة، التي لا بدّ من توفّرها في كلّ شعب يريد السعادة في الحياة، فكانوا في تيه فكريّ لا يمكنهم معرفة تلك الحقائق و ما تتطلبه الحياة من الوسائل التي لا يمكن أن تنال إلاّ بإصلاح نفسيّ و بدني وفق منهج تربويّ دقيق، و هذا هو الذي أراده موسى عليه السّلام حين طلب من ربّه أن يفرق بينه و بين القوم الفاسقين، فإنّه لم يطلب

ص: 158

العذاب لامّة لا تعرف الحياة الكريمة و هي في عمى و جهالة.

و من جميع ذلك نعلم أنّ حقيقة التيه تبتني على إصلاح الفكر و النفس عن طريق ترويضها على تحمّل المشاق و تربيتها على حرية البداوة، وفق منهج إصلاح تربويّ ، لطرد ما يكمن في النفس من مفاسد الأخلاق و غرس مكارمها، و هذا يحتاج إلى وقت طويل تبعا لشدّة تلك المفاسد و قوّتها و مقدار رسوخها في النفس و كميتها، فكانت مدّة التيه أربعين سنة، و هي ليست بكثيرة بعد ما عرفت من مفاسد أخلاقهم و شدّة عنادهم و لجاجهم.

أسباب التيه:

لا شكّ أنّ ما يجري في هذا العالم إنّما يكون وفق قانون الأسباب و المسبّبات، لكن قد يكون بعض الأسباب معروفة، و ربما يكون بعضها الآخر قد خفي علينا، و لا بدّ حينئذ لمعرفتها من علم إلهيّ ، إما عن طريق الوحي أو الإلهام.

و التيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يخرج عن هذا القانون، فإنّ له أسبابا متعدّدة.

منها: ما يرجع إلى ضعف الروح المعنويّة عندهم بسبب الظلم المستمر عليهم و تربيهم على الذلّ و الصغار، فخارت قواهم و احتقروا أنفسهم، و يستفاد هذا من قوله تعالى حاكيا عنهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ .

و منها: الاضطراب الفكريّ الذي حصل لهم نتيجة العبوديّة المفروضة عليهم أثناء وجودهم في مصر، فإنّ شعور الفرد بأنّه مسلوب الإرادة ممنوع من كثير ممّا خلقه اللّه تعالى لعباده في الأرض، لهو كاف في فقدان الأمل و إخماد غريزة الاستكمال فيه و إيقاعه في حيرة و اضطراب فكريّ .

و منها: فساد الأخلاق، لأنّ الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد و التي تستأنس بالظلم و الاضطهاد، تفسد أخلاقها و يذهب بأسها و تذلّ نفوسها و تشعر بالذلّ و المسكنة و تألف الخضوع، و إذا طال زمان الظلم تترسّخ هذه الأخلاق في النفوس و تصير مغروسة حتّى تكون كالغرائز و الطبائع.

ص: 159

و منها: عدم رسوخ الإيمان المطلوب في قلوبهم، و لم تتهذّب نفوسهم بالتعليمات و التوجيهات التي أتى بها موسى بن عمران عليه السّلام، و لذا تراهم يتمرّدون عليه و يعصون أوامره مرّة بعد اخرى، بل رجعوا إلى عبادة العجل، لأنّ الوثنيّة التي عاشوا فيها في مصر كانت عالقة في أذهانهم، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم، قال تعالى وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138].

و منها: الجهل بكثير من الحقائق التي تقوم عليها هذه الحياة، و إعراضهم عن قبول ما يكون سببا في صلاحهم و سعادتهم.

و لأجل هذه الأسباب و غيرها ممّا حكى لنا القرآن الكريم صورا متعدّدة منها، فشلوا في تنفيذ الأمر الإلهيّ بدخول الأرض المقدّسة التي أراد عزّ و جلّ منها إصلاحهم و تكوينهم امّة واحدة لها كيانها، و قائدها، و شريعة، و دستورا و حاكما يتولّى أمرها و شؤونها، وفق نظام إلهيّ ، بعد أن كانوا اسرة صغيرة متفرّقة في أرض مصر، عرضة للعبوديّة و السخرية و الإهانة و الاستبداد، فأعرضوا عمّا أراده اللّه تعالى لهم و عصوا أمر ربّهم، فابتلاهم اللّه تعالى بالتيه أربعين سنة لإصلاحهم و تهذيبهم فيه، و كان لا بدّ من ذلك بحسب قانون الأسباب و المسبّبات التي تقوم عليه الحياة، و يظهر للمتتبع كثير ممّا ذكرناه و غيرها إذا رجع إلى التوراة سفر العدد، الذي هو السفر الرابع من أسفارها، الفصلين الثالث عشر و الرابع عشر، فإنّ فيهما تفصيلا لقصة التيه.

مكان التيه:

المعروف أنّ التيه هي الصحراء التي تقع بين الشام و مصر، أي أرض سيناء، و بالتحديد قلب شبه جزيرة سيناء، التي تقع في الطرف الجنوبيّ الأقصى لفلسطين، على مقربة من أيلة، بينهما عقبة لا يصعدها راكب لصعوبتها، و التي لا بدّ من

ص: 160

اجتيازها للوصول إلى الأرض المقدّسة من بلاد الشام، و كان طولها أربعين فرسخا.

و ينتهي أحد حدودها إلى بحر فاران الذي غرق فيه فرعون، و فاران مدينة على تل بين جبلين. و حدّها الآخر شرقا أرض بيت المقدس و جنوبيّ فلسطين، و هي صحراء رمليّة، و فيها مواضع صلبة قفر لا نبات بها إلاّ في بعض المواضع.

و من مدن التيه و مواضعه حويرك، الخلصة (الوسا) و الخلوص (لسا) السبأ (بيرسبه) المدرة، و جبل هور الذي دفن فيه هارون عليه السّلام، و الكثيب الأحمر الذي دفن فيه موسى بن عمران عليه السّلام، حيث كان يرى أرض فلسطين دون أن يدخلها، و قد ورد بعض هذه الأسماء في الدعاء المعتبر المشهور بدعاء السمات.

و في هذه الصحراء هام بنو إسرائيل و لم يدخلوا مدينة و لا آووا إلى بيت.

و جاء في التوراة: «و في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ ... فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، و بنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، و يحملون فجوركم حتّى يفتن جثثكم في القفر، تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي - أنا الربّ قد تكلّمت لأفعلن هذا بكلّ هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ . في هذا القفر يفنون و فيه يموتون» (سفر العدد الفصل الرابع عشر الآيات 22-35)، و قد ضرب موسى و هارون خيمة الاجتماع، و هي المسماة في بعض الدعوات المعتبرة قبّة الرمّان - أو قبّة الزمان - و فيها البقعة المباركة من جانب الطور الذي هو جبل كان يذهب إليه موسى عليه السّلام لتلقي التوراة أو للمناجاة، كما في بعض الروايات.

مدة التيه:

اختلف المؤرخون غير المسلمين في مدّة التيه التي كتبت على بني إسرائيل، و لكن ليس لكلّ طائفة منهم دليل صحيح تستدلّ على مدّعاها، بحيث تقنع النفس به، و الذي صرّح به الكتاب العزيز و السنّة الشريفة أنّها أربعون سنة، و هذه المدّة كافية لإصلاح النفس و تهذيبها من الصفات الرذيلة.

ص: 161

و في هذه المدّة لا هم مدنيّون يعيشون عيش السعة، و لا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل، و كانوا في العذاب الاصطلاحي و الدوران التربويّ و المجتمع الفاقد للنظام، فتمزّقوا و تفكّكوا و لم يبق منهم إلاّ أقلّ القليل، فدخلوا الأرض المقدّسة.

الحوادث في التيه:

ينقل المؤرخون كثيرا من الحوادث التي وقعت في التيه، و لكنّ تلك تحتاج إلى دليل يعتمد عليه، و المهم هو أنّ التيه - كما عرفت - عملية تأديبيّة تهذيبيّة إصلاحية أرادها اللّه تعالى لهم.

و لا ريب في أنّ مثل هذه العملية تحتاج إلى ظروف و أحكام خاصّة تتلائم مع وظيفة التأديب و الطبيعة التي وقع فيها التيه، و الهدف الذي كتب لأجله على بني إسرائيل، و لم يخلو من بعض المعاجز و الكرامات، إتماما للحجّة عليهم، و نذكر في المقام بعض ما ذكره المؤرخون و وردت به بعض الروايات.

منها: أنّهم هاموا في الأرض و تاهوا فيها، فكانوا يمشون في الأرض طول اليوم، فإذا حلّ بهم الليل قطنوا في مكان و ناموا فيه، ثمّ إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ابتدءوا السير منه، و قد ذكر العلماء في تفسير ذلك وجوها ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

و يمكن أن يكون ذلك عقوبة إلهيّة جرّاء شنيع أفعالهم، أو لأنّهم لم يعرفوا حدود تلك الأرض التي وقع فيها التيه و لا مسارها و سائر خصوصياتها، فكانوا يهيمون في الأرض تائهين، فإذا تعبوا حلّوا في مكان لم يعرفوا أنّهم في نفس المكان الذي ابتدءوا منه السير.

و منها: موت أكثرهم، بل جميع الذين خرجوا مع موسى عليه السّلام من مصر، إلاّ يوشع و كالب، لعصيانهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و رسوله بعد ما أرآهم عزّ و جلّ عجائب الآيات، فأخذهم اللّه بذنوبهم و أهلكهم و أنشأ من بعدهم جيلا هم أقرب إلى تقبّل الأحكام، و عدل الشريعة من آبائهم، و جعلهم الوارثين للأرض المقدّسة.

ص: 162

و منها: موت موسى بن عمران الذي تحمّل من العناء و التعب الشديدين في سبيل هدايتهم و إصلاح قومه، و كذا مات هارون أخو موسى عليه السّلام و وزيره و وصيّه، و قد كان موتهما بلا شكّ خسارة عظيمة لقومهما، لا سيما أنّهم كانوا يجتازون أصعب الاختبار و الامتحان.

و منها: إنشاء أماكن محترمة و معدّة للعبادة أصبحت من شعائر اللّه تعالى، كقبّة الرمّان التي كانت خيمة لموسى بن عمران و أخيه هارون، و طور سيناء و غيرها ممّا ورد ذكره في التوراة.

و منها: ظهور الآيات العظيمة، كنزول المن و السلوى، و الحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عينا، كما حكى اللّه تعالى في القرآن الكريم.

الحكمة من التيه:

ظهر ممّا ذكرنا الحكمة في التيه، و أهمّها كما مرّ تهذيب الامّة و إصلاح المجتمع الذي ذاق طعم عذاب الذلّة و القسوة، بحيث انهارت جميع ركائزها. و لو لا التيه لما تمكّنت بنو إسرائيل من إصلاح أنفسهم ممّا فرض عليهم في مصر، و صارت كطبيعة ثانويّة لهم، لا يمكن إزالتها إلاّ بالدور الذي كتبه اللّه تعالى لهم. و قد تقدّم في التفسير بعض حكم اخرى فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من الآيات المباركة و السنّة الشريفة أنّ العذاب النوعيّ - أو الشخصيّ - الواقع على الأمم أو الأفراد لم يكن مجرّد نقمة من اللّه تعالى، فإنّه خير محض و إليه ينتهي الخير و منه يصدر كلّ خير، و لا يمكن نسبة الشرّ إليه جلّت عظمته، كما يأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى، فالامم التي حلّت بهم النكبات و وقع عليهم العذاب، هي المسؤولة عن ذلك، و هي التي

ص: 163

باختيارها أنزلت البلايا، فإنّ العذاب و النكبات مسببات لا بدّ لها من أسباب - سواء كانت ظاهريّة أو معنويّة، طبيعيّة كانت أو شرعيّة - و قد يكون العذاب يؤثّر تأثيرا معاكسا، بحيث تصلح النفس و يتهذّب المجتمع و ينشطه للقيام بإصلاح أسسه و ركائزه، و أكثر الأمم التي حلّ بهم العذاب كما يحكيه القرآن الكريم كان من قبيل ذلك. و من هنا لا وقع للإشكال الذي ذكره بعض الفلاسفة من أنّ العذاب الإلهيّ ينافي محبّته لخلقه و علاقته تعالى بهم، لأنّ ذلك إما من الآثار الوضعيّة، أو للإصلاح، أو الكفّارة لبعض الأعمال السيئة، أو للقرب إليه جلّ شأنه. و لذلك قال بعضهم: إنّ العذاب إن تعلّق به رضاه جلّت عظمته و إن كان دخول النار، كان عذبا لأهله لا عذابا، كما عن سيّد العرفاء أمير المؤمنين عليه السّلام في دعواته الشريفة، و دعاء كميل أكبر دليل على ذلك.

بل عن بعض أكابر الصوفيّة إنكار العذاب من أصله، و لكن لا يمكن الالتزام بذلك بالأدلّة العقليّة و النقليّة، خصوصا بالنسبة إلى الكافرين و المنافقين. و للبحث تتمّة نتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 164

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِ.......

اشارة

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الآيات الشريفة تحكي قصة ابني آدم، اللذين قتل أحدهما الآخر ظلما و حسدا من القاتل، و أنّه ندم على فعلته الشنيعة - كما تبيّنه الآيات المباركة - و لما ينفعه الندم فأصبح من الخاسرين. و قد فقد صوابه فجهل ما يفعل بجسد أخيه، حتّى تعلّم من الغراب ما تمكّن أن يواري جسده في التراب، و يظهر من ذلك أنّه أوّل قتل وقع على وجه الأرض، فكان ظلما فظيعا و حدثا عظيما، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة، فكان هذا الحدث سببا في أن يكتب عزّ و جلّ على بني إسرائيل أنّ من قتل نفسا محترمة من غير سبب شرعيّ ، يكون ظلما على الناس جميعا، و أن من أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعا. و قد أرسل جلّ شأنه الرسل بالبينات لهداية الناس، إلاّ أنّهم أعرضوا عن التشريعات الإلهيّة و عصوا أوامرهم و أسرفوا

ص: 165

في ذلك، فكانت النتيجة هي انتشار الفساد و خسران الإنسان.

و ممّا ذكرنا يظهر ارتباط هذه الآيات بسابقتها، من حيث أنّها تبيّن أنّ المنشأ لقتل ابن آدم أخاه هو الحسد الكامن في النفس، الذي له مظاهر مختلفة، فقد ظهر في ابني آدم فأوجب قتل أحدهما الآخر، و في بني إسرائيل له صور و مظاهر متعدّدة، التي أوجبت ابتعادهم عن الحقيقة و إبائهم عن الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إعراضهم عن الحقّ استكبارا.

ثمّ إنّ هذه الآيات المباركة تمهيد لما سيأتي ذكره من بيان حكم المحاربة و بيان جنايات بني إسرائيل.

التفسير

قوله تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ .

خطاب لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة الحقّ عليهم، إعلاما لهم بأنّ ما هو الموجود عندهم باطل، و إرشادا لهم بأنّه لا يمكن لأحد التقوّل في ذلك إلاّ بوحي إلهيّ ، فيكون حجّة عليهم، و تقدّم الكلام في مادة (تلو)، و قلنا: إنّها بمعنى تبع، و منها التلاوة، لمتابعة الكلمات بعضها تلو بعض. و لم تكد تستعمل إلاّ في قراءة كلام اللّه تعالى المجيد، قال تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [سورة البقرة، الآية: 121]. أي:

يقرءونه و يتّبعونه حقّ اتّباعه.

و النبأ: هو الخبر الذي له شأن من الفائدة و الجدارة بالاهتمام، فلا يقال لكلّ خبر نبأ.

و المراد ب (آدم) هو أبو البشر الذي ورد ذكره في القرآن الكريم بهذا الاسم.

و أبناه هما اللذان من صلبه، و المعروف في كتب التاريخ أنّهما هابيل الذي تقبّل اللّه تعالى قربانه المحسود عليه، و قابيل الحاسد و هو القاتل أخاه ظلما و عدوانا.

ص: 166

و ذكر بعضهم أنّ المراد بآدم رجل من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربانه، فتقبّل من أحدهما دون الآخر، فقتل الذي ردّ قربانه أخاه الذي تقبّل منه قربانه، و لذلك قال تعالى بعد سرد القصة: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

و لكن هذا القول مردود من جهات، و يكفي فيه أنّه لم يقم دليل معتبر عليه، مع أنّ المتبادر من ذكر (آدم) في القرآن الكريم هو أبو البشر، و لم يرد غيره بهذا الاسم فيه.

كما أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه، فإنّ أوّل قتل وقع على هذه البسيطة هو الذي حكاه عزّ و جلّ من ابني آدم، فكان قتلا فظيعا و حدثا عظيما، و كان سببا في تشريع قاعدة كلّية في مطلق القتل، و فيها من الحكمة ما يستفيد منها جميع الأمم كسائر المواعظ و الحكم، حيث لا تختصّ بامة دون اخرى.

و أما وجه كتابة هذه الحكمة على بني إسرائيل، إما لأنّ شريعتهم أوّل شريعة عامّة، أو لأجل أنّهم امّة العناد و اللجاج و الاستكبار، و تأريخهم معروف بالفتن و الحروب.

و سياق الآية الشريفة يدلّ على وعظهم و تحريضهم على الإيمان و نبذ العناد مع الرسول الكريم و اتّباع الحقّ .

و كيف كان، فقد ذكر المفسّرون و العلماء في المقام روايات غربية و حكايات عجيبة، لا يمكن الاعتماد عليها، و إنّما ذكر عزّ و جلّ القصة على وجه الإجمال في المقام لبيان الحقّ فيها، فإنّها لم تخل عن تحريف و تزييف فيها، فإنّها ذكرت في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، و فيها من القرائن كتجسّم الباري عزّ و جلّ . و لكشف غريزة البشر و إظهار أنّ الحسد كامن في نفوسهم، و هو الذي يؤدّي إلى التباغض و التباين و البغي و القتل، إلاّ أن يهذبه الإنسان و يستفيد منه على الوجه السليم. و قد ذكرنا أنّ الحسد أمر غريزي في كلّ إنسان، و لا يمكن الاستغناء عنه في حياته، إلاّ أنّه لا بدّ من الاستيلاء عليه و كبح جماحه، لئلاّ يؤدّي إلى الفساد، و قد سنّت الشرائع الإلهيّة من الأحكام و التوجيهات و الإرشادات ما

ص: 167

يجعله في الطريق الصحيح و الاستفادة منه على الوجه المطلوب، و من جملة تلك ما ورد في هذه الآيات الكريمة على ما ستعرف، فكانت في هذه القصة العبرة و الموعظة و التعريض ببني إسرائيل على ما فعلته من الجرائم و تحريضهم على الإيمان بالحقّ و نبذ الحسد و التباغض و العناد.

قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً .

القربان كفعلان، ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى و غيره من ذبيحة و غيرها، و هو في الأصل مصدر، و يجمع على قرابين أيضا، و قد غلب استعماله عندنا في ذبائح النسك. و السياق يدلّ على أنّ كلّ واحد منهما قرّب قربانا يتقرّب به إلى اللّه تعالى، و تشهد به الروايات الآتية، و احتمال أنّهما قرّبا قربانا واحدا كانا شريكين فيه، ضعيف.

و لم تبيّن الآية الشريفة ماهيّة القربان و لا كيفيّة التقرّب به، فإنّ لكلّ قوم شأنا فيها، و القربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم.

قوله تعالى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ .

التقبّل هو القبول، لكن مع اهتمام بالمقبول و زيادة عناية به، فيكون أخصّا منه، و إنّما تقبّل من أحدهما لأنّه أخلص النيّة للّه تعالى و رضي بحكمه و عمد إلى أحسن ما عنده، و لم يتقبّل من الآخر، لأنّه لم يخلص النيّة في قربانه و سخط بحكم اللّه تعالى و لم ينل من التقوى شيئا.

و لم تبيّن الآية الشريفة كيفيّة القبول و لا طريق علمهما به، و لكن ورد في بعض الروايات أنّ القبول كان محسوسا، و ذلك بورود نار إلهيّ تأكل القربان، و يشهد له قوله تعالى: بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ .

و كيف كان، فهو لا يضرّ بعد أن علما بالقبول.

قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ .

توعيد بالقتل ممّن لم يتقبّل منه القربان و هو القاتل، لفرط الحسد الذي نشأ من قبول قربان أخيه و رفعة شأنه عند ربّه عزّ و جلّ ، و الظاهر من الآية المباركة أنّ

ص: 168

الحسد هو السبب في القتل فقط، فلم يكن هناك سبب آخر غيره، لأنّ المقتول لم يجرم بحقّ أخيه جرما يستحقّ القتل.

قوله تعالى: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في قانون المجازاة و قبول الأعمال و العبادات، و هذه الحقيقة تبتني على قاعدتين مهمّتين، هما أساس قانون الجزاء في الإسلام.

الاولى: ثبوت المجازاة، الذي لا يتمّ إلاّ بإيصال كلّ عامل إلى جزاء عمله و تقديره بميزان القسط و العدل، فيثاب المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء على إساءته، ليكون سببا لارتداع الظالم الذي يعدّ جزاء أعماله بنفسه، و يرغّب المحسن إلى الزيادة في الإحسان.

و هذه القاعدة لا تتمّ إلاّ بنظام خاصّ متقن يقوم على العلم و القدرة و الحكمة المتعالية، و لذا كان من شؤون الربوبيّة العظمى لربّ العالمين، و قد تقدّم بعض الكلام في سورة الفاتحة فراجع.

الثانية: و هي أنّ قبول الأعمال مطلقا إنّما يدور مدار التقوى، التي هي أساس الكمالات، و لا يمكن تحصيلها إلاّ بجهد شخصيّ مرير، و تدلّ عليها جملة من الأدلّة، منها هذه الآية المباركة التي ترمز إلى معنى دقيق يعدّ بنفسه من أسس قانون المجازاة الإلهيّة، و هو أنّ حرمان الإنسان من جزاء عمله إنّما يكون من تقصيره، و لا بدّ من السعي في إزالة ما يكون مانعا عن القبول، و لا يمكن ذلك إلاّ بالتقوى، فلا بدّ من الاجتهاد في تحصيلها مهما أمكن، ليكون محظوظا عند ربّ العالمين، لا السعي في إزالة حظّه و نعمته، فإنّ ذلك يضرّه و لا ينفعه.

و من ذلك يعلم أنّ القصر في قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ قصر القلب، ردّا لما زعمه القاتل من قبول عمله حسبانا منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى، و أنّ التقي و غير التقي في ذلك على حدّ سواء، إلاّ أنّ الآية الشريفة قصرت القبول على المتقي فقط، فلا حظّ لغيره من عمله.

و الظاهر من الآية المباركة و ما ورد في تفسيرها عن المعصومين عليهم السّلام

ص: 169

و التأمّل في أحوال قابيل و ارتداده عن شريعة آدم عليه السّلام، أنّ المراد من التقوى هنا هو الموت على الإيمان، لا التقوى الخاصّ ، فكيف بالأخصّ ، فلا يصحّ التمسّك بهذه الآية الشريفة لعدم قبول أعمال فساق المؤمنين إن ماتوا على الدين الحقّ ، و يمكن استظهار ذلك من جملة كثيرة من الأخبار، و من قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8].

و كيف كان، ففي الآية الكريمة العبرة و الموعظة للعاملين بأن لا يغترّوا بأعمالهم، إذ المناط كلّه هو التقوى، فما أنعى هذه الآية الشريفة على العاملين أعمالهم و هي ترشد المؤمنين إلى إزالة ما يكون مانعا عن قبول أعمالهم.

قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ .

بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق التي تحثّ الشرائع الإلهيّة إليها، و تحرّض الناس على التحلّي بها، و هو يرشد إلى أصل من اصول الأديان السماويّة، و هو أصل احترام الدماء و النفوس، الذي يعدّ من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي، و فيه من الحكمة البالغة و الموعظة الحسنة ما يكون سببا في السعادة و الفلاح و نيل الكمالات، و يبيّن أنّه لا بدّ من نبذ روح الانتقام و عدم إضمار السوء و الشرّ بالنسبة إلى الآخرين، حتّى إذا أرادوا الشرّ له، لأنّ السبب في ذلك هو الخوف من اللّه تعالى، الذي هو من أسمى الغايات و أجلّها.

و من ذلك يعرف أنّ ذلك لا ربط له بمسألة وجوب الدفاع عن النفس و إن أدّى إلى القتل إذا توجّه الضرر إليها، لأنّ المسألة تبيّن حكما شرعيّا في ظروف خاصّة، في حين أنّ الآية المباركة تبيّن حكما أخلاقيّا يعدّ من الكمالات الواقعيّة، فإنّها تدلّ على أنّ أحد الأخوين أضمر السوء لأخيه و أخبره بأنّه يريد قتله ظلما و عدوانا، إلاّ أنّ الأخ الآخر أظهر عدم إضمار السوء له، و لم يرد أن يقابل الجناية بمثلها، لا جبنا و لا خوفا منه، بل خوفا من اللّه تعالى فقط، فإنّه يرى سعادته في ذلك، فهو و إن كان يحقّ له دفع الظلم عن نفسه، لكنّه اختار شقاء أخيه باختياره

ص: 170

قتله لأن يسعد هو من دون أن يتلبّس بظلم، لأنّه ينافي التقوى، و لا يتّفق مع الخلق الكريم الذي يريد أن يتحلّى به، ليكون أقرب إلى الكمال، و قد أكّد ذلك كلّه ب (لام) القسم، و بجملة النفي الاسميّة المقرون خبرها بالباء، و ذكر الصفة (بباسط) دون الفعل، لأنّ نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل، و لبيان التبري عن متمّمات الفعل فضلا عنه، كلّ هذا التأكيد للإعلام بأنّه لا يضمر السوء، و أنّه بعيد عن الانتقام، و أنّه يسعى إلى نيل الكمال، لا إعمال غريزة من الغرائز الإنسانيّة و نيل لذّة وقتية مباحة له من قبل الشرع، و ترك سعادة أبديّة و كمالا واقعيا، و هذه هي روح الشرائع الإلهيّة و أصل من اصول المعارف الدينيّة أراد الأخ العالم المتّقي أن يلقيه إلى أخيه الجاهل، ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، فهو لم يستسلم لأخيه القاتل، و إلاّ لقال: إنّك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك استسلاما لك، و إنّما قال: «لأقتلك»، أي: إذا أردت البغي و الظلم فلم أرد ذلك لا خوفا و لا جبنا، فكن في مأمن من قبلي، و يدلّ على ذلك ما في بعض الروايات أنّ قابيل كان يخاف من هابيل، و قد قتله غيلة، فلا يعارض بأنّ قابيل و إن أفرط في الظلم، و لكن هابيل قصّر في التصدّي عن الاعتداء و لم يقابله بالدفاع عن نفسه، فإنّه كما عرفت لم يرد القتل فقط، و لم يقل: إنّي لم أدافع عن نفسي.

و الآية المباركة تبيّن صفاء فطرة هابيل و طهارة طينته.

قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ .

تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله بألطف أسلوب و أبلغ موعظة و أحسن استعطاف، أي: لا أريد أن يراني اللّه تعالى باسطا يدي لقتل أخي و ظالما له، فإنّ ذلك من موجبات سخطه و عقابه، و هو ربّي و قد أحسن إليّ و أنعم عليّ بأنواع النعم، و ربّ العالمين الذي يربيهم بفضله و إحسانه، فلا ريب أنّ الاعتداء عليهم أعظم مفسدة و إخلال بالغرض.

و في الآية الشريفة: إرشاد إلى لزوم خشية اللّه تعالى على أتمّ وجه، فإنّه ربّ العالمين الذي يربيهم بالعدل، فيجازي المعتدي بالعذاب بما يغرس في نفوسهم

ص: 171

غريزة الخوف منه عزّ و جلّ ، فلا يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة و الخسران.

قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ .

تعليل آخر لامتناعه عن البسط و بيان له أيضا، و لذا ترك العطف بينهما، و المراد بالإرادة هنا هي اختيار أحد الأمرين عند دوران الأمر بين الخير و الشرّ، فإنّه قد اختار طريق الخير، و هو الموت مع السعادة و عدم تحمّل تبعات الإثم و آثاره السيئة، و إن استلزم شقاء أخيه باختياره السيء الحياة مع الشقاء و الخسران و الدخول في سخط اللّه تعالى، فيتحمّل إثم فعلي لو فعلته، الذي تركته باختيار السعادة و ترك المقابلة بالمثل، و أثم فعله الشنيع أيضا.

و مادة (بوء) تدلّ على اللزوم، و منه أبوء بنعمتك، أو أبوء بذنوبي، أي: أقرّ و ألتزم، منه الرجوع، قال تعالى: فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية:

16]، أي: رجعوا إليه و التزموا به، و تقدّم الكلام فيه فراجع.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما قيل في المقام من أنّه ذكر إرادته لتمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب حتّى يكون هو سعيدا، فإنّه لم يرد تمكين أخيه من قتله، لأنّه من التسبيب إلى ضلال أحد و شقائه، و هو ظلم محكوم بالفطرة، و إنّما هو أراد ذلك إن اختار أخوه قتله، و قد ذكرنا آنفا أنّه لم يمكّن نفسه من القتل أبدا، و إلاّ اشتركا في الإثم، فالآية الكريمة بمجموعها تدلّ على أنّ هابيل لم يضمر الشرّ لأخيه أبدا، و لم يحدّث نفسه في التعدّي على أخيه، و إن أضمر أخوه الشرّ له، فإنّ ذلك لا يكون سببا في الهلاك و الخسران، فإذا اختار الأخ قتله، فإنّه يرجع إلى نفسه الشريرة، فهو يتحمّل تبعات فعله، لأنّه المباشر للقتل، و تبعات إثمي لو فعلته، فيحمّله إثم المقتول على تقدير قتله إيّاه.

أو أنّ المراد من الآية الشريفة أنّه لو اختار القتل فقتل أخاه، تحمّل جميع آثامه، لأنّه اعتدى على مظلوم لا يستحقّه، فيورث القاتل جميع آثام المقتول، الذي لو لم يقتله لجازاه اللّه تعالى بها، إلاّ أنّه بقتله إيّاه أورثه اللّه تعالى إيّاها، و قد وردت ذلك في بعض الروايات.

ص: 172

قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ .

الآية من قبيل ترتّب المسبّب على السبب، الذي هو اختيار طريق الشرّ، أو ارتكاب المآثم التي توجب النار و يكون من أصحابها، فيدرك ألمها و عذابها.

قوله تعالى: وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ .

تقرير لما قبله، و فيه التعليل على كونه من أصحاب النار التي أعدت للظالمين. و في الآية المباركة الدلالة على أنّ تحمّل القاتل إثم المقتول إنّما هو لأجل التنبيه بالظلم، و لا ينافي ذلك قوله تعالى: أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة النجم، الآية: 38]، فإنّ ذلك صحيح بالنسبة إلى أصل القضية و طبع كلّ عامل.

و أما إذا كان هناك دليل من الخارج على تحمّل بعض إثم الآخرين، فلا إشكال حينئذ و العقل لا يحكم بقبحه، و بعبارة اخرى: أنّ مؤاخذة الإنسان بذنب غيره قبيح لو لم يكن سببا في تحمّله له، فإنّ الأسباب تتبّع المصالح، كما بالنسبة إلى أحكام العقل العمليّ التي تتبّع المصالح، فإذا اعتبر الشارع أو المجتمع الإنسانيّ أنّ الفعل الصادر عن أحد هو فعل صادر عن غيره، فيحكم بمؤاخذته به، كما ورد أنّ :

«من سنّ سنّة سيئة كتب له وزرها و وزر من عمل بها»، لأنّه السبب في إيقاع غيره في الذنب، أو كان الذنب عظيما، له الأثر في إخلال الأمن في المجتمع و شيوع الفساد فيه، فإنّ المجتمع قد يسلب عن الباغي جميع حسناته و يؤاخذه بسيئات غيره، أو يعتبر أوزار المظلوم أوزارا للظالم، لأنّه بفعله قد تملّكها بسبب الظلم عليه، فهذه الآية الشريفة تبيّن وجه تحمّل قابيل إثم هابيل، و لا نحتاج بعد ذلك إلى أقوال المفسّرين، الذين لهم في تفسير هذه الآية وجوه لم يقم دليل على اعتبارها، و لا يساعد عليها ظاهر الآية المباركة.

قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ .

الآية الشريفة في غاية الفصاحة و البلاغة تبيّن الصراع المرير داخل النفس الإنسانيّة بين قوى الخير و قوى الشرّ، و تغلّب النفس الأمّارة و انقيادها لتنفيذ الشرّ، و لا ريب أنّ ذلك لا بد أن يمرّ بمراحل و خطوات و همسات في النفس

ص: 173

و وساوس، فإن تغلّب إحدى القوّتين على الاخرى لا تكون بسهولة، إلاّ إذا اعتادت النفس على إحداها، فتكون طوع إرادة الإنسان، و هذا ما تدلّ عليه كلمة «طوّعت»، التي هي أبلغ من (أطاعت) و نظيراتها، فإنّ الاولى تدلّ على الانقياد التدريجيّ ، كما أنّ الإطاعة تدلّ على الدفعيّ ، فيستفاد منها أنّ النفس لم تصل إلى الطوع و الانقياد إلاّ بعد اقترابها إلى الفعل السيء تدريجا، و في خطوات حثيثة، و يدلّ على ذلك سياق الآية المباركة، فإنّها تبيّن المراحل التي تقدّمت على الفعل، فابتدأت بإثارة النفس بقبول قربان هابيل دون قربان قابيل، و قد بيّن أوّل السبب في عدم قبول قربان الأخير و كان عليه إزالة المانع، إلاّ أنّ الإثارة تلك تبدّلت إلى حسد رهيب في النفس استولى على مشاعره، فنشأت الإرادة إلى القتل، ثمّ الجزم إليه بعد انقياد النفس الأمّارة و استيلائها على العقل و الفطرة، فوقع القتل.

فالآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن واقع النفس الإنسانيّة، و الصراع الواقع بين قوى الشرّ و قوى الخير، و لتجاذب الواقع بين دواعي الحكمة و الموعظة، و صوارف الفطرة و دواعي النفس الأمّارة.

و بالجملة: أنّ هذا التنازع يحسّ به كلّ إنسان عند إرادة ارتكاب جريمة، أو فعل شنيع، كما تدلّ عليه آيات أخر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و سيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و قد اختلف المفسّرون في معنى «طوّعت»، فذكر بعضهم بأنّها تأتي بمعنى شجّعت، و آخرون بمعنى زيّنت، فيكون قوله تعالى: قَتْلَ أَخِيهِ مفعولا به.

و قيل: طاوعت أي: طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض.

و الحقّ أن يقال: إنّ ذلك و إن كان صحيحا إلاّ أنّ لها دلالتها الدقيقة، لا تظهر في الذي ذكروه في المقام كما عرفت، فقد انقادت له نفسه في قتل أخيه و أطاعت أمره بعد سلسلة من الصراع و التجاذب بين النفس الأمّارة و الفطرة و العقل، فكانت طاعة تدريجيّة بتذليلها، و هذا المعنى لا يظهر في ما ذكره المفسّرون.

ص: 174

قوله تعالى: فَقَتَلَهُ .

بعد أن لم تنفعه المواعظ و الزواجر و تغلّبت صوارف الفطرة و الحكمة و العقل، فانقادت له نفسه الأمّارة، فقتل أخاه ظلما و عدوانا.

قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

الذين خسروا كلّ ما يمكن أن ينال به الفوز و الفلاح، فقد خسر نفسه بإفساد الفطرة، و خسر دنياه إذ بقي مدّة عمره نادما محزونا، و خسر آخرته بارتكاب الظلم، فلعنه اللّه تعالى و لعنه اللاعنون، فلم يكن أهلا لنعيم الآخرة، لأنّها دار المتّقين.

قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ .

إعلام لسقوط نفس قابيل عن قابلية الإلهام و الإفاضة عليها بلا واسطة من اللّه جلّ جلاله، أو من التعلّم من والده النبيّ المعصوم عليه السّلام بطريق السئوال مثلا على نحو الكلّية لا لخصوص الواقعة. ثمّ لا يخفى كمال رأفته تبارك و تعالى بالصالحين من عباده، حيث لم يرض عزّ و جلّ بأن يكون جسد عبده الصالح مورد افتراس السباع، فدبّر تعالى له كيفيّة دفنه بهذا التدبير الحسن.

و البحث التفتيش و الطلب عن شيء، و سمّيت سورة التوبة بسورة البحث، لما تضمّنت من البحث عن أسرار المنافقين، و هو إثارتها و التفتيش عنها. و قيل: إنّ أصل استعماله إنّما هو في البحث في التراب، و المراد به هنا الحفر الحاصل من استمرار البحث و إطالته، كما يدلّ عليه الفعل المضارع.

و اللام في «ليريه» للتعليل، و الضمير المستكن فيه يعود إلى اللّه تعالى، أو للصيرورة و العاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب، و الثاني هو الأقرب و إن كان المعنى صحيحا على التقديرين.

و جملة (كيف يواري) مفعول ثان (ليري)، و مادة «ورى» تدلّ على الستر، و منه التواري، أي: التستّر، و يطلق الوراء على ما هو خلف الشيء. و المراد بالمواراة هو الدفن، بحيث يستر الجسد عن أعين الناس. و السوأة هي ما يكرهه الإنسان؛

ص: 175

و تطلق على العورة لما تسوء ناظرها، و المراد بها في المقام جميع الجسد.

و ظاهر الآية المباركة أنّ اللّه بعث غرابا إلى المكان الذي يراه القاتل، يبحث في الأرض برجليه و يفتش فيها مستمرا حتّى إذا أحدث حفرة، اهتدى قابيل كيف يواري جسد أخيه المقتول، بعد أن كان متحيّرا في كيفيّة التخلّص منه. هذا هو المعنى الظاهر من الآية الشريفة.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لِيُرِيَهُ ، أنّ قابيل كان بعيدا عن كلّ ما يمكن أن يتوصّل به إلى كيفيّة التخلّص من سوأة أخيه، لا سيما بعد ما ذكر أنّ ظلمه كان سببا لانقطاع الفيض عنه، و قد تعلّم ذلك من الغراب الذي بعثه اللّه تعالى لأجل هذه الغاية فقط، فلا بدّ أن يكون تعليمه له مستجمعا للخصوصيات التي توجب رفع الحيرة عنه، التي هي من أهمّ موجبات شذوذ الذهن و عدم اهتدائه إلى شيء أيضا، فمن المحتمل أن يكون الغراب قد تنازع مع غراب آخر فاقتتلا، ثمّ بحث القاتل مستمرا في الأرض ليحدث حفرة يدفن فيها الغراب المقتول، فكان في ذلك النكاية و التقريع و الإرشاد و التعليم، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من ذكر بعض الخصوصيات إنّما هي مأخوذة من ظاهر الآية الشريفة.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ القصد من بعث الغراب إنّما هو إراءة المواراة و كيفيّتها، و قد حصلت ببحث الغراب في الأرض ثمّ دفنه فيها شيئا. و ما ذكره صحيح، إلاّ أنّه لم يتحقّق جميع تلك الغايات التي ذكرناها آنفا، مع أنّه لا يتّفق مع سذاجة الفهم و الحيرة التي كانت مستولية على قابيل، فكانت حالته تقتضي مزيدا من التعليم و الدقّة فيه.

و كيف كان، فقد بعث عزّ و جلّ الغراب بالخصوص، لما ذكر أنّ من عادته دفن بعض الأشياء في الأرض، الذي هو مظهر من مظاهر حيطته و حذره الشديد، فقد ورد في بعض الأخبار: تعلّموا من الغراب حذره.

قوله تعالى: قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي .

تحسّر و تلهّف و تأسّف على ما فاته من الفائدة، و ندم على إهماله التفكير في

ص: 176

الاستفادة ممّا عنده من الإمكانات في التماس الحيلة لمواراة سوأة أخيه حتّى تعلمه من الغراب بسهولة، و تقريع للنفس بالعجز أن يكون مثل الغراب في المواراة، و توبيخ لها في إيقاعها في الشقاء مدّة من غير سبب، و تأنيب للضمير في فعله الشنيع بإظهار الندامة عند ما عرف أنّه أهمل الأسباب المؤدّية إلى دفع المضرّة عن نفسه، و بيان تألّمه على حاله، كلّ ذلك يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

و كلمة «يا ويلتا» التي تدلّ على التحسّر و التلهّف تقال عند حلول الدواهي و العظائم، و الويلة كالويل الهلكة و البلية، و الألف في الكلمة بدل ياء المتكلّم.

و الأصل (يا ويلتي)، و النداء للويلة لإفادة ما فاته من السبب و الوسيلة، كما عرفت آنفا.

و الاستفهام للتعجّب من عجزه، و الخطاب مع نفسه كما هي العادة في مثل هذه الحالة، و فيه التعجّب من عجزه ممّا اهتدى إليه الغراب و كونه أشرف منه.

قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ .

بيان للحالة التي تعرض لكلّ إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ و الفعل الشنيع و ارتكابه ما يكره أن يطّلع عليه الناس أو يرفضه المجتمع، و ربّما يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من اللّه تعالى و التألّم من التعدّي على حدوده و ارتكاب ما لا يرضاه عزّ و جلّ ، و في الحديث: «كفى بالندم توبة». و أما إذا كان سببه فوت منفعة أو حدوث مضرّة، فلا يكون الندم حينئذ توبة، كما هي العادة في ما إذا ظهر للإنسان بعد ارتكابه الفعل أنّه قصّر في تدبير أمره و اتخاذ الحيطة اللازمة عند ارتكابه الجريمة، و لذا لو عاد فإنّه يصلح ما فاته في المرّة الاولى، فلا يكون مثل هذا الندم توبة.

الظاهر من الآية المباركة أنّ ندامته من جهة عجزه عن مواراة سوأة أخيه، أو ندمه على أصل القتل قبل أن يتّخذ جميع الإجراءات، و قبل أن يعرف ما يصنع بجسد أخيه، فالندامة تأثير روحيّ خاصّ في الإنسان يعرض عند ارتكاب الخلاف، و لكن يختلف أسبابها، فقد يكون من اللّه تعالى، فتكون حميدة موجبة

ص: 177

للتخفيف عن الظالم، كما يحدث كثيرا عند المجرمين عند حصول النقمة عليهم.

و كيف كان، فإنّ ندم قابيل لا يفيده لما ارتكبه من الفعل الشنيع الذي لا يغفر بمجرّد الندم، لما عرفت في بحث التوبة من عدم كفاية الندم في رفع آثار الذنب في بعض الجرائم الموبقة.

قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

تشديد في أمر القتل و تأكيد على حرمة إراقة الدم من غير سبب شرعيّ ، و بيان إلى أنّ قتل النفس المحترمة يستعقب الغضب الربوبيّ و السخط الإلهيّ .

و مادة (أجل) تدلّ على الجرّ، و منه الأجل و هو الوقت الذي يجرّ إليه الأمر المتقدّم، و الآجل نقيض العاجل، و أجل بمعنى نعم، لأنّه انقياد إلى ما جرّ إليه، و الإجل للقطيع من بقر الوحش، لأنّ بعضه ينجرّ إلى بعض، كما أنّ منه قولهم:

فعلت ذلك من أجل كذا (بفتح الهمزة)، أو من إجلاك، و قد أحل عليهم أجلا (بفتح الهمزة و قد تكسر)، أي: جني و جرّ عليهم، فتطلق الأجل على الجناية لأنّها تجرّ على مرتكبها الوبال لما يخاف من أجلها.

و كيف كان، فقد استعملت الكلمة في التعليل، و غالب استعمالها في الرديء و الشرّ، و اسم الإشارة (ذلك) إلى قصة ابني آدم، و الجرم الذي أجراه أحد الأخوين على الآخر ظلما و عدوانا، فأوجبت تلك الجناية أن كتب اللّه على بني إسرائيل هذه الحقيقة الاجتماعيّة، التي بها تستقيم الحياة الإنسانيّة، و التي تعدّ من أهمّ الأحكام التي تنظم العلاقات بين الأفراد، و تستقيم أمورهم الدنيويّة التي تقتضي جلب السعادة و الفوز بالفلاح.

و يستفاد من الآية المباركة التشديد في هذا القضاء الإلهيّ ، لما في طباعهم من الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى و التعنّت و اللجاج، و قد عرفوا بسفك الدماء و إثارة الغضب الإلهيّ ، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في القرآن الكريم، إلاّ أنّها عامّة تشمل جميع الأمم، فإنّها من التوجيهات الربوبيّة القيّمة التي تشدّد في هذا الأمر و تعطي له أهميّة خاصّة، و يثبت للإنسان قيمته الواقعيّة من بين الموجودات.

ص: 178

و ذكر بعضهم أنّ اسم الإشارة يرجع إلى قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ ، أي: كان ذلك سببا لندامته، و لكنّه بعيد كما هو معلوم، فإنّ ندامته لم تغيّر الواقع، و إنّ جنايته هي التي سببت ندامته، فكانت فاجعة عجيبة و سببا للكتابة على بني إسرائيل.

قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ .

استثناء من قتل النفس المحرّم، و هو ما إذا كان قتل النفس مقابل نفس اخرى، أي القود و القصاص، الذي أثبته عزّ و جلّ في قوله الآتي: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، و قد أباحه في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى [سورة البقرة، الآية: 178].

و الباء للمقابلة، أي: من قتل نفسا بغير قتل نفس يوجب القصاص و القود، كما ذكرنا التفصيل في الفقه، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ .

أي: بغير فساد، و هو عام يشمل كلّ ما يقابل الصلاح. و قد ورد بعض المصاديق في الكتاب و السنّة، منها ما يذكره عزّ و جلّ في الآية التالية: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً .

و منها: الشرك و قطع الطريق و الخروج على الإمام المعصوم عليه السّلام، و نحو ذلك ممّا ستعرف.

و منها: القتل بغير سبب من تلك الأسباب التي أذن بها الشارع، فالقتل كذلك يكون فسادا في الأرض.

قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً .

لأنّ الفعلين يشتركان في الفظاعة و هتك حرمة الدماء و عصيان اللّه تعالى، و لأنّ الواحد بمنزلة النوع، فمن استحلّ دم أحد بغير حقّ ، فقد استحلّ دم غيره و هانت عليه المآثم و ارتكاب المحرّمات و هتك الحرمات بلا وازع ديني أو غيره.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً .

أي: و من كان سببا لحياة نفس محترمة بانقاذها من الهالك و موجبات

ص: 179

الموت بوجه من الوجوه، كانقاذ الغريق و فكّ الأسير و نحو ذلك، فكأنّما أحيا الناس، لأنّ الإنسانيّة حقيقة واحدة في جميع الأفراد، و يشترك فيها الفرد كما يشترك فيها الأفراد، و لازم ذلك أنّ قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الجميع و إحيائها بمنزلة إحياء الناس جميعا، و أنّ الباعث في الصورة الأخيرة هو احترام الإنسانيّة و معرفة قيمة الحياة، و نزعة الشفقة و الرحمة التي هي من صفات الباري عزّ و جلّ ، فيكون إحياء نفس واحدة احتراما للإنسانيّة و قياما بحقوقها.

يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدقّ ، و هو الإشارة إلى الطبع الإنسانيّ المشتمل على الهوى، و الحسد، و نزعة التقلّب، و حبّ التسلّط على الغير، فإذا كبح جماح هذه النزعة و جعلها تحت زمام الحكمة و العقل، تحقّقت السعادة و الصلاح، و وصل الفرد و المجتمع إلى الكمال المنشود، و صارا من مظاهر الخالق و المعبود. و أما إذا اقترن الطبع الإنسانيّ مع الهوى و الحسد، حملاه على المنازعة و التباغض و هتك الحرمات، و قتل النفس المحترمة، فإنّ في ذلك الفساد و إبطالا للغرض الإلهيّ الذي من أجله خلق اللّه تعالى الإنسان، لأنّه يستدعي سلب الأمان و بعث روح الانتقام و الفناء و الإفناء.

و هذا ما يشير إليه قول ابن آدم المقتول: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ ، لأنّه علم بأنّ القتل بغير الحقّ منازعة لربّ العالمين و ضدّ الغرض الالهي، فلأجل سدّ جميع أبواب العدوان، و لئلاّ يحمل الإنسان أيّ سبب واه على التعدّي و القتل و الظلم، ممّا ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة من الحسد، و الكبر، و اتّباع الهوى، و جحد الحقّ الذي طالما اتّصف اليهود بها، و كانت الأسباب في صدور الفجائع و القبائح عنهم، كما قصّ تعالى قصصهم، و لأجل كلّ ذلك كتب عزّ و جلّ عليهم أنّ النفس الواحدة بمنزلة الجميع، فيكون قتلها بمنزلة قتل الجميع، و إحياؤها بمنزلة إحياء الجميع، لتقوّمه بالافراد، و لأن صلاح الفرد صلاح المجتمع.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما استشكل به في المقام من أنّ التنزيل يفضي إلى

ص: 180

نقص الغرض، الذي هو بيان عظمة قتل النفس من حيث الإثم و الأثر، فكلّ ما زاد عدد القتل ازدادت الأهميّة، و هذا التنزيل يفضي إلى خلاف ذلك، فإذا كان قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع، يستلزم أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء، لأنّ الواحد مقابل الجميع و يبقى الباقي و ليس بإزائه شيء، و لأنّ قتل الواحد إذا كان بمنزلة قتل الجميع، فإن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد، كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره، و هو باطل، و إن أريد قتل الجميع باستثناء هذا الواحد، كان معناه: من قتل نفسا فكأنّما قتل غيرها من النفوس، و هو بعيد عن سياق الآية الشريفة و باطل في نفسه.

و الجواب عن جميع ذلك بأنّ الآية المباركة لا تنظر إلى هذا التنزيل العددي منه، بل تشير إلى معنى دقيق كما عرفت، فتنزل الواحد منزلة الجميع من حيث الحقيقة الإنسانيّة، كما عرفت آنفا.

و هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة في القرآن الكريم التي تعطي الأهميّة للإنسانيّة، و تثبت حقوق الإنسان التي تنادي بها الجاهلية المعاصرة، تجاهلا منها بالحقيقة الإنسانيّة، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ .

تقرير لما كتب آنفا و تأكيد له، و تشديد عظيم للأمر، و تجديد للعهد، و الجملة عطف على صدر الآية الشريفة، أي: و لقد جاءتهم رسل اللّه تعالى بالآيات الواضحة يحذّرونهم القتل و ما يترتّب عليه من الفساد و الدمار.

و التأكيد بالقسم لكمال العناية بمضمون الآية المباركة، كما أنّه تبارك و تعالى قال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا ، تصريحا بوصول الرسالة إليهم و تناهيهم في العتو و الاستكبار.

قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ .

تأكيد آخر لما تقدّم، و يستفاد منه عظيم منزلة ما ورد في الآية الشريفة من مجيء اسم الإشارة الذي وضع موضع الضمير، للإيذان بكمال تميّزه و انتظامه

ص: 181

لسلوكه مسلك الأمور المشاهدة، و إتيان (ثمّ ) الدالّ على التراخي في الرتبة و الاستبعاد، و للدلالة أيضا على أنّه متمّم للكلام السابق.

و المعنى: لقد جاءتهم رسلنا بالبراهين الواضحة، و بيّنوا لهم آثار سفك الدماء و قتل النفس المحترمة، و حذّروهم من عواقبها، و لكنّهم أصرّوا على الاستكبار و أسرفوا في الأرض بالقتل، و فرّطوا في شأن الأحياء، و هتكوا المحارم و سفكوا الدماء و جاوزوا الحقّ ، فلم تغن عنهم تلك السيئات، و لا اهتدت نفوسهم و لم تتهذّب عقولهم.

و الإسراف في كلّ شيء هو التجاوز عن حدّ الاعتدال مع عدم المبالاة به، قال تعالى في شأن نهي ولي المقتول عن تجاوز حدّ القصاص: فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ [سورة الإسراء - 33]، و الغالب في استعماله في مورد الإنفاق، قال تعالى:

وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [سورة الفرقان، الآية: 67].

ص: 182

بحوث المقام

بحث أدبي:

(إذ) في قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ، ظرف منصوب بقوله تعالى: نَبَأَ و جوّز بعضهم أن يكون متعلّقا بمحذوف وقع حالا منه، و أشكل عليه بوجوه مذكورة في الكتب المطوّلة.

و قيل: إنّه بدل من النبأ على حذف المضاف، أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت.

و ردّ بأنّ (إذ) لا يضاف إليها إلاّ الزمان، نحو: يومئذ و حينئذ، و النبأ ليس بزمان. و أجيب عنه بالمنع بأنّه لا فرق بين نبأ ذلك الوقت و نبأ (إذ).

و قال الزمخشري: يقال: قرّب صدقة و تقرّب بها، لأنّ تقرّب مطاوع قرب.

و ردّ بأنّ تقرّب ليس من مطاوع قرب، لاتّحاد فاعل الفعلين، و المطاوع يختلف فيه الفاعل، فيكون من أحدهما فعل و من الآخر انفعال، نحو: كسرته فانكسر، فليس قربت صدقة و تقرّبت بها من هذا الباب.

و يجاب عن ذلك بأنّ حقيقة المطاوعة إنّما هي تجاوز الفعل عن الفاعل، سواء كان هناك فعل آخر أم لم يكن، ففي الحديث: «من عادى وليّا لي فقد بارزني بالمحاربة»، و ما ذكره المستشكل هو الغالب، لا أن تتقوّم حقيقة المطاوعة به، فافهم.

و تقدّم الكلام في قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، و نزيد هنا أنّ المعروف في علم النحو أنّه إذا اجتمع قسم و شرط، كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدّمهما ذو خبر، و في المقام يمكن أن تكون الجملة جوابا للقسم، و عرفت أنّ الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، فقد تضمّنت المبالغة في نفي أنّه ليس من شأنه القتل و لا ممّن يتّصف به، بل تبرّأ عن مقدّمات القتل، فضلا عنه.

ص: 183

و قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ من التطوّع، و هو الانقياد، و أصله طاع، أي: انقاد، ثمّ عدّي بالتضعيف، فصار الفاعل مفعولا، و قرئ فطاوعت، بمعنى فعل، و (له) لزيادة الربط، و لا يتمّ الكلام و الربط بدونه.

و (أصبح) في قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ، بمعنى صار، و لم يدلّ على الوقت، و الجملة تدلّ على المبالغة على خسرانه، إذ لم يقل سبحانه: «فأصبح خاسرا».

و الغراب طائر معروف، و يجمع في القلّة على أغربة، و في الكثرة على غربان، و قيل: إنّه مشتقّ من الاغتراب.

و «كيف» في قوله تعالى: كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ، منصوب بقوله:

«يواري»، و الجملة استفهاميّة في موضع مفعول ثان ل «يريه».

و الاستفهام في قوله تعالى: يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ ، للتعجّب من عجز نفسه، و المعروف (يا ويلتا) بألف منقلبة عن الياء، و قرئ (يا ويلتى) على أصل ياء المتكلّم.

و ما في قوله تعالى: فَكَأَنَّما في الموضعين كافّة مهيّئة لوقوع الفعل بعدها، و «جميعا» حال من «الناس»، أو تأكيد.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ على أهميّة هذا النبأ و عظمته، و لا غرو في ذلك فإنّه أوّل قتل وقع على هذه البسيطة، و أوّل حدث يكشف عن غريزة البشر التي جبلت على التباين و الاختلاف و التحاسد، المفضي إلى البغي و الظلم و القتل و ما يترتب على ذلك من آثار، و أوّل موضوع بيّن وجه الحكمة في ما شرّعه اللّه تعالى من الأحكام على البغاة و الظالمين و القتلة من الأفراد و الجماعات و الشعوب و القبائل، و أوّل حادثة بيّنت احتياج الإنسان إلى الأحكام

ص: 184

و التشريعات و التوجيهات، و أوّل فعل كشف عن حرية الإرادة و الاختيار في الإنسان على هذه الأرض.

و لعلّ ذكر الحقّ في المقام، لبيان تلك الوجوه و غيرها ممّا لم نذكره، و للإشارة إلى أنّه قد ذكر فيه ما لم يستند إلى دليل معتمد، و أنّ بني إسرائيل هم الذين حرّفوا هذا الموضوع و ادخلوا فيه بعض الأباطيل.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ ، على مشروعيّة تقديم القرابين، بل هو من الفطريات، و لم تخلو شريعة من الشرائع السماويّة منها، و إن اختلفت في بعض الخصوصيات، إلاّ أنّها اتّفقت على أن يكون القربان خالصا لوجهه الكريم، و لا يختصّ بنوع خاصّ ، فيشمل كلّ ما يصحّ التقرّب به إليه عزّ و جلّ .

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، على حقيقة واقعيّة تدعو إليها الفطرة المستقيمة، و قد أخبر بها هابيل في وقت لم تنطمس الفطرة بالحجب و الموانع.

و يستفاد من الحصر أنّ القبول يدور مدار التقوى التي لها مراتب متفاوتة جدا، و تختلف درجات القبول مدارها، و من المعلوم أنّ التقوى التي كانت مطلوبة في زمان ابني آدم، غير التقوى المطلوبة في الشرائع المتأخّرة، و العظمى من تلك المراتب ما عليه في شريعة الإسلام التي حوت من الكمالات أسماها و من مراتب التقوى أكملها و أغلاها، فكان الجزاء عظيما على قدر عظمة التشريعات فيها، و سيأتي في البحث الكلاميّ ما يرتبط بالمقام.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ ، على أنّ الخوف منه جلّت عظمته هو من أعظم الحواجز عن ارتكاب المحرّمات، و أهمّ المعدات لنيل ملكة التقوى، و العلّة الوحيدة التي يمكن أن تكبح الشهوات و النفس الأمّارة و تقويمها بمكارم الأخلاق و تزيينها بمحامد الصفات، و قد تقدّم الكلام في الخوف، و ذكرنا أنّه من الصفات السيئة، إلاّ الخوف من اللّه تعالى، فإنّه صفة حميدة، و لم ينلها إلاّ من بلغ مرتبة من العلم و العمل الصالح.

ص: 185

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ، على أنّ بعض المعاصي ممّا يوجب كسب مظالم الغير و تحمّل آثامه، لشناعتها و فظاعتها، و ممّا يعتبرها العرف و العقل موجبا لتحمّل آثامه و تبعات من وقع عليه الظلم، كالقتل العمديّ و البغي على الآخرين، فإنّه يوجب انتقال إثم المقتول ظلما إلى قاتله، مضافا إلى إثمه، و يدلّ أيضا على أنّ المظلوم ممّن ينتصر اللّه تعالى له إن عاجلا أو آجلا.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ، على حقيقة من الحقائق الواقعيّة التي يدركها الإنسان عند ما يهمّ بالمعصية و ارتكاب الآثام.

و المستفاد منه أنّ النفس يصعب عليها ارتكاب المعصية، لا سيما القتل؛ فإنّه مستصعب عظيم على النفوس، و لا يصل الفرد إلى حدّ الارتكاب إلاّ بعد صراع بين القوى الداخليّة، فتردّه النفس الأمّارة بالسوء طائعا منقادا، حتّى يوقع صاحب هذه النفس في الموبقات و المهالك، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك فراجع.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ ، إمكان انتفاع الإنسان بالحسّ و تعيين خواصّ الأشياء من ناحية الحسّ الحاصل من التجربة، و بعد ذلك يتوصّل الإنسان إلى الكلّيات من التفكّر في ما حصله من التجربة و الحسّ .

و تعتبر هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة الحاكية عن حال الإنسان من حيث علومه و معارفه، و ما يفضي به البحث العلمي المبتني على الحسّ ، ثمّ الاستنتاج و التفكّر و تنظيم القواعد و الكلّيات ممّا يحسّه الإنسان من الجزئيات، و بذلك اختلفت نظرية المعرفة الإسلاميّة عن غيرها ممّا تقصر المعرفة على واحد من تلك المنابع، إما الحسّ أو التذكّر أو العلم الفطريّ أو غيرها، فإنّ الإسلام لا ينكر هذا الجانب أيضا، و يقول بتعدّد ينابيع المعرفة، و لا يهمل الجانب الحسيّ أبدا، و لكن لا يعدّه المنبع الوحيد في المعرفة الإنسانيّة حتّى يستلزم إشكالات متعدّدة ذكروها في الكتب الفلسفيّة، و اعتبر تلك المنابع المتعدّدة هي وحدة متكاملة يكمل أحدها الآخر، فصارت للمعرفة مصادر متعدّدة لا يمكن

ص: 186

الاعتماد على واحد منها مع غضّ النظر عن المصادر الاخرى، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ [سورة النحل، الآية: 78]، و آيات اخرى وردت في مواضع متفرّقة، و بسبب هذه النظرية الشاملة اتّسعت المعرفة الإنسانيّة و شملت جميع الأمور، حتّى ما وراء الحسّ ، و عليها ابتنت مسألة التوحيد التي هي أبعد المسائل عن الحسّ ، و لكن استثنت هذه النظرية بعض المسائل عن المعرفة أو خصّصتها ببعض الطرق و الينابيع، كما هو الشأن في استنباط الأحكام الشرعيّة و تشخيصها، فخصّ العلم بها بالوحي و الفطرة و ما ورد في الكتاب و السنّة الشريفة، و كذا في التفكّر و التذكّر، فخصّهما بما إذا لم يكن فيه إبطال للسلوك العلميّ الفكريّ ، أو مخالفا للتقوى، و البحث نفيس يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ، على أنّ هذه القصة التي ذكرت بهذا التصوير الرائع للطبع الإنسانيّ ليست هي الوحيدة في نوعها، فإنّ الطبع يقضي باتّباع الهوى و الحسد، فيأتي بما يماثلها، فيحمله على ارتكاب المآثم إن وافقته الأسباب على المنازعة و إبطال غرض الخلقة بارتكاب جريمة القتل، فكانت هذه القصة هي السبب في تشريع حكم إلهيّ يحفظ الأفراد من مثل هذه الجريمة، فاعتبر الإنسان أفراد نوع واحد و أشخاصا لحقيقة متّحدة، يحمل الفرد الواحد من الإنسانيّة ما يحمله الكثيرون و النوع، فجعل الاعتداء على الواحد كالاعتداء على النوع، و الإحياء له إحياء للنوع، لما فيه من حفظ الكرامة الإنسانيّة و تحقيق الغرض الإلهيّ من خلقة هذا النوع.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه

ص: 187

تبارك و تعالى عهد إلى آدم عليه السّلام أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها فأكل منها، و هو قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ، فلما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض، فولد له هابيل و أخته توأم، و ولد له قابيل و أخته توأم، ثمّ إنّ آدم أمر هابيل و قابيل أن يقرّبا قربانا، و كان هابيل صاحب غنم، و كان قابيل صاحب زرع، و قرّب هابيل كبشا من أفاضل غنمه، و قرّب قابيل من زرعه ما لم ينق، فتقبّل قربان هابيل و لم يتقبّل قربان قابيل، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ ، و كان القربان تأكله النار، فعمد قابيل إلى النّار فبنى لها بياتا، و هو أوّل من بنى بيوت النار، فقال:

لأعبدنّ هذه النار حتّى تتقبّل منّي قرباني، ثمّ إنّ إبليس (لعنه اللّه) أتاه و هو يجري من ابن أدم مجرى الدم في العروق، فقال: يا قابيل! قد تقبّل قربان هابيل و لم يتقبّل قربانك، و إنّك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك و يقولون: نحن أبناء الذي تقبّل قربانه، فاقتله لئلاّ يكون له عقب يفتخرون على عقبك، فقتله، فلما رجع قابيل إلى آدم عليه السّلام قال: يا قابيل أين هابيل ؟ فقال: اطلب حيث قرّبنا القربان، فانطلق فوجد هابيل قتيلا، فقال آدم عليه السّلام: لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل، و بكى آدم على هابيل أربعين ليلة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: يحتمل أن يكون المراد من العهد الوارد في الآية المباركة وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [سورة طه، الآية: 115]، العهد التكوينيّ ، أي: الذي ركز في عقل آدم عليه السّلام بأن لا يقرب الشجرة الخاصّة التي تميّزت ببعض الصفات التي تنفر عنها العقل، و أنّ ما ترتّب على مخالفة ذلك العهد من الآثار الوضعيّة - من الخروج عن الجنّة، و السير الطبيعيّ الاستكماليّ في هذه الدنيا، و الخلود في الجنّة و النّار، و غيرها - كانت في الأزل مقرّرة، و أنّ إرادته تعالى تعلّقت بذلك.

و بناء على هذا، يسقط النزاع في أنّه كيف صدر من آدم عليه السّلام المعصية ؟ فإنّ

ص: 188

العهد لم يكن مولويّا صرفا، و يدلّ على ما ذكرنا قوله عليه السّلام: «فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها»، و أما وسوسة الشيطان لم يكن لأجل إغواء آدم عليه السّلام و التسلّط عليه، و إنّما كان لأجل إغواء ذرّيته و التسلّط عليهم، و سيأتي في الآيات المناسبة تقييم هذا الاحتمال و دفع ما يطرأ عليه من الشبهات.

الثاني: أنّ أصل النسيان في البشر من لوازم وجوده و طبيعته. نعم للنسيان مراتب متفاوتة، و تختلف حسب درجات الإيمان، و حسب سير الطبيعة، و قد يكون النسيان من الشرور التي يقرب الشيطان الإنسان إليها، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: أنّ تقديم القربان إليه جلّت عظمته من لوازم الإيمان و العبوديّة للّه تعالى، سواء كانت هناك شريعة و منهج إلهيّ أو لا، لأنّه ممّا يستحسنه العقل و يعترف به.

و لا يختصّ القربان بالذبح و النحر - و إن كان أفضله - بل يتحقّق بتقديم كلّ شيء حتّى الزرع الذي لم ينظف، و إنّ القبول حسب مراتب الإخلاص و الكمال في الشيء.

ثمّ إنّه قد ورد في كثير من الروايات أنّه كانت علامة قبول القربان من اللّه جلّ شأنه أن تأتي نار من السماء و تأكله. و لعلّه كان ذلك لأجل الترغيب إلى إصلاح النفس و تهذيبها - و لا يكون ذلك من المعجزة، و إن كان مقتضى عموم رحمته و عدم تحديده بشيء، و أنّه يظهر الجميل و يستر القبيح، أن لا يظهر قبح من لم يتقبّل قربانه في هذه الدنيا. نعم عن بعض العرفاء أنّ للقبول آثارا معنويّة تظهر على النفس، و أنّ سترها - خوفا من العجب - من أسمى الكمالات.

الخامس: ظاهر الرواية أنّ عمل قابيل لم يكن خالصا لوجهه تعالى، و من أثر ذلك صدر منه المعصية الشنيعة، و كان غرضه السمعة و الشهرة.

السادس: أنّ بناء قابيل بيتا للنار و عبادته لها، لا تدلّ على أنّه كان مجوسيّا، و إنّما كان ذلك عن حبّ للسمعة، كما يعبد أهل الدنيا الماديات، و إلاّ كانت

ص: 189

الفطرة المستقيمة ترشد إلى الخالق الأزليّ ، خصوصا في أوّل بدأ الخلقة.

السابع: جريان إبليس مجرى الدم في عروق الإنسان، لا يدلّ على نفي الاختيار عنه، بل المراد السيطرة عليه في جميع مشاعره و أحاسيسه لإغوائه، و يقابله بعث الرسل و الأنبياء.

الثامن: يستفاد من الرواية أهميّة النسل و العقب للإنسان، و أنّهم يفتخرون بمجد الآباء، فإنّ ذلك صار سببا لإغواء قابيل.

التاسع: يستفاد من الرواية تصارع قوى الخير و الشر من بدء الخلقة، و أنّ الشرّ قد يغلب الخير، و لكن ذلك لا ينافي الحكم و المصالح، و قد ثبت في محلّه أنّ الشرّ قد يعقب خيرا و أنّ الخير قد يعقب شرّا، و في إخفاء المصالح على البشر مصالح.

العاشر: يستفاد من هذه الرواية و غيرها من الروايات الكثيرة أنّ الأرض قد تكون شريرة و ملعونة، و قد تكون خيّرة و مقدرة، كالإنسان، بل الزمان أيضا كذلك، كما في غير واحد من الروايات، و الأسباب في ذلك مخفيّة علينا، و تعيين تلك الصفات إما بواسطة الأنبياء و الرسل، أو التجربة بالآثار الوضعيّة، و عن بعض العلماء أنّه جرّب في بعض الحيوانات و بعض البيوت.

الحادي عشر: أنّ بكاء آدم عليه السّلام و سائر الأنبياء و الأولياء على فقد عزيز لهم أو ما يرد عليهم من المصاب، لا ينافي التوكّل و الإخلاص و الرضا بالقدر و القضاء، و ذلك إما أنّه لأجل الحزن الذي يرد على طبيعة البشر و أنّهم بشر، بل عن بعض الفلاسفة أنّ الهموم و الغموم تعمّ الموجودات كلّها ما سواه تعالى، و تبرز آثارها فيها حسب وجودها.

أو لأجل الخوف منه تعالى، لئلاّ يسلب منهم جزاء النعمة التي أنعمها عليهم من القرب إليه جلّ شأنه أو المحبّة، أو اللطف بهم.

أو لأجل الطمع في التقرّب إليه أكثر و الرجاء في الثواب، إلى غير ذلك من الوجوه.

ص: 190

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن ثوير قال:

«سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يحدّث رجالا من قريش، قال: لما قرّب ابنا آدم القربان، قرّب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، و قرّب الآخر ضغثا من سنبل، فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل، و لم يتقبّل من الآخر، فغضب قابيل فقال لهابيل: «و اللّه لأقتلنك»، فقال هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ، فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس فعلّمه، فقال:

ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه، فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتّى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر الذي بقي في الأرض بمخالبه و دفن فيه صاحبه، قال قابيل: قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ ، فحفر له حفيرة و دفنه فيها، فصارت سنّة يدفنون الموتى، فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل، فقال له آدم عليه السّلام: أين تركت ابني ؟ قال له قابيل: ارسلتني عليه راعيا، فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، و أوجس قلب آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السماء: تعست كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدم، فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوما و ليلة، فلما جزع عليه شكا ذلك إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه أنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل، فولدت حواء غلاما زكيا مباركا، فلما كان يوم السابع أوحى اللّه إليه: يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة اللّه، فسمّاه آدم عليه السّلام هبة اللّه.

أقول: الفرق بين الروايتين بسيط، و يستفاد من الرواية الثانية أنّ العلوم مطلقا إلهاميّة - و إن كان يختلف سبب الإلهام - و لكن بعضها يرجع إلى الحسّ ، و لعلّ المعصية التي ارتكبها قابيل كانت سببا لعدم قابليته للإلهام، و في بعض

ص: 191

الروايات: «مسخ اللّه عقله و خلع فؤاده تائها حتّى مات»، و لذا الهم الغراب بذلك دون قابيل. نعم إنّ ما اقتضته الفطرة غير قابل للجهل، كما ورد في بعض الروايات:

«مهما أبهموا لا يبهموا عن ثلاث: خالقهم، و محلّ رزقهم، و محلّ سفادهم».

و أنّ فعل الغراب كان منحصرا بالفرد و لم تكن من طبيعته كذلك كما قيل، و إن ذكر بعضهم أنّ نوعا منه يدفن موتاه وراثيا، و منه ذلك الغراب.

كما يستفاد منها أنّ تنبؤ آدم عليه السّلام قتل ولده هابيل كان من الإلهام، و لم يكن من الوحي، لقوله عليه السّلام: «لما أوجس في نفسه من ذلك»، و هذا قد يعرض على الإنسان خصوصا الأخيار منهم.

و أمّا عدم شرب الأرض الدم، فله أسباب عديدة و حكم كثيرة، لعلّ منها بقاء أثر دم المظلوم و عدم زواله.

و أما أمر آدم عليه السّلام لعن قابيل لأجل ما صدر منه من الفعل الشنيع باختياره، و أنّ نداءه في السماء بواسطة بعض الملائكة، للدلالة على بعده عن رحمته تعالى لأجل ما صدر منه.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض، فولد له هابيل و أخته توأم، ثمّ ولد قابيل و أخته توأم - إلى أن قال: - ثمّ إنّ آدم عليه السّلام سأل ربّه ولدا، فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه، لأنّ اللّه و هبه له و أخته توأم، فلما انقضت نبوّة آدم عليه السّلام و استكمل أيامه أوحى اللّه إليه أن يا آدم قد قضيت نبوّتك و استكملت أيامك، فاجعل العلم الذي عندك و الإيمان، و الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك عند هبة اللّه ابنك، فإنّي لم اقطع العلم و الإيمان و الاسم، و آثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك إلى يوم القيامة، و لن ادع الأرض إلاّ و فيها عالم يعرف به ديني، و يعرف به طاعتي، و يكون نجاة لمن يولد فيما بينك و بين نوح، و بشّر آدم عليه السّلام بنوح و قال: إنّ اللّه باعث نبيّا اسمه نوح، فإنّه يدعو إلى اللّه و يكذّبه قومه فيهلكهم اللّه تعالى بالطوفان، و كان بين آدم و نوح عشرة آباء، كلّهم أنبياء.

ص: 192

و أوصى آدم عليه السّلام إلى هبة اللّه أن من أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه و ليصدق به، فإنّه ينجو من الغرق، ثمّ إنّ آدم مرض المرضة التي مات فيها فأرسل إلى هبة اللّه، فقال له: إن لقيت جبرئيل و من لقيت من الملائكة فاقرأه منّي السلام و قل له: يا جبرئيل! إنّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة، فقال جبرئيل: يا هبة اللّه! إنّ أباك قد قبض و ما نزلنا إلاّ للصلاة عليه فارجع، فرجع فوجد آدم عليه السّلام قد قبض، فأراه جبرئيل كيف يغسّله، فغسّله حتّى إذا بلغ الصلاة عليه قال هبة اللّه: يا جبرئيل! تقدّم فصلّ على آدم، فقال له جبرئيل: إنّ اللّه أمرنا أن نسجد لأبيك آدم و هو في الجنّة، فليس لنا أن نؤم شيئا من ولده، فتقدّم هبة اللّه فصلّى على أبيه آدم و جبرئيل خلفه و جنود الملائكة، و كبّر عليه ثلاثين تكبيرة فأمره جبرئيل فرفع من ذلك خمسا و عشرين تكبيرة، و السنّة اليوم فينا خمس تكبيرات، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يكبّر على أهل بدر سبعا و تسعا. ثمّ إنّ هبة اللّه لما دفن آدم أتاه قابيل فقال: يا هبة اللّه! إنّي قد رأيت أبي آدم عليه السّلام قد خصّك من العلم بما لم يخصني به أنا، و هو العلم الذي دعاه به أخوك هابيل فتقبّل منه قربانه، و إنّما قتلته لكي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبي يقولون: نحن أبناء الذي تقبّل منه قربانه و أنتم أبناء الذي ترك قربانه، و إن أظهرت من العلم الذي اختصّك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل، فلبث هبة اللّه و العقب من بعده مستخفين بما عندهم من العلم و الإيمان و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار علم النبوّة، حتّى بعث اللّه نوحا و ظهرت وصية هبة اللّه في ولده حين نظروا في وصية آدم عليه السّلام فوجدوا نوحا نبيّا قد بشّر به أبوهم آدم، فآمنوا به و اتّبعوه و صدقوه، و قد كان آدم عليه السّلام أوصى إلى هبة اللّه أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كلّ سنة، فيكون يوم عيدهم يتعاهدون بعث نوح و زمانه الذي يخرج فيه، و كذلك في وصية كلّ نبي، حتّى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ المواريث المعنويّة الموجودة عند الأنبياء عليه السّلام في عالم الشهادة لا

ص: 193

تزول بموت النبيّ أو الوصيّ ، و إنّما تنتقل من نبيّ أو وصيّ ، خصوصا الاسم الأعظم منها، فإنّه موجود عند الحجّة بن الحسن (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف).

الثاني: لعلّ بشارة آدم عليه السّلام بنوح، لأنّه الأب الثاني للبشريّة كما هو الأب الأوّل لهم، فله من الأهميّة ما لم تكن في غيره من الأنبياء، كما أنّه بشّر بمحمد، لأنّه الغاية من الخلق، و هو أشرف الخلائق.

الثالث: أنّ تعليم الشرائع الإلهيّة كما يكون بالإلهام بواسطة الأنبياء عليهم السّلام، كذلك قد يكون بواسطة الملائكة في هذه الدنيا.

الرابع: تدلّ زيادة التكبيرات على شرفه و تقرّبه إلى اللّه تعالى، و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يزيد فيها في صلاته على الشهداء، و ذلك لا ينافي الفرض الذي هو خمسة عندنا، و أقلّ عند غيرنا، و أنّ ما رفع جبرئيل منها كان نفلا لا فرضا.

و عن هشام بن الحكم قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لما أمر اللّه آدم أن يوصي إلى هبة اللّه، أمره أن يستر ذلك، فجرت السنّة في ذلك بالكتمان، فأوصى إليه و ستر ذلك».

أقول: لعلّ السرّ في كتمان الأمور التي لها شأن - كما حثّ عليه في كثير من الروايات - هو كونه أحفظ من مكائد الشيطان، كالتحريف و التضييع و غيرها.

ثمّ إنّ هناك روايات أخرى تتعلّق بالقصة، و في بعضها نوع من الخلل فلا بدّ من التأويل، فإنّ الحال و الزمان لا يدعان مجالا لذكرها و تأويلها و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً ؟ قال: له في النّار مقعد، لو قتل الناس جميعا لم يرد إلاّ ذلك المقعد».

أقول: و مثله غيره من الروايات، و تقدّم في التفسير أنّ التنزيل في الآية المباركة حقيقيّ لما ارتسمت في نفس القاتل من الصفات السيئة، و لا تنافي ذلك زيادة العذاب لو قتل أكثر من واحد، كما دلّت عليه رواية حمران عن الباقر عليه السّلام:

«فإن قتل آخر؟ قال عليه السّلام: يضاعف عليه».

ص: 194

و في الكافي أيضا بإسناده عن سماعة، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً ، قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

أقول: المراد من الحياة و الممات في الرواية الحياة المعنويّة و الممات المعنويّ ، كمن أخرجها من الكفر إلى الإيمان، و تقدّم سابقا أنّهما أفضل من الحياة الجسميّة، كما تدلّ عليه الآيات المباركة و الروايات المستفيضة، و الرواية من باب التطبيق على أكمل الأفراد و أجلاها، أو من باب التأويل الأعظم كما في بعض الروايات، و لا تنافي النجاة من الحرق و الغرق و غيرهما، لشمول الإحياء له كما هو المعلوم.

و في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار، عن الصادق عليه السّلام قال: «من يسقي الماء في موضع يوجد فيه الماء، كان كمن أعتق رقبة، و من سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء، كمن أحيا نفسا، و من أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا».

أقول: الرواية من باب ذكر بعض الأفراد و المصاديق.

و عنه بإسناده أيضا عن حمران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اسألك أصلحك اللّه تعالى ؟ فقال: نعم، فقلت: كنت على حال و أنا اليوم على حال أخرى، كنت ادخل الأرض فأدعو الرجل و الاثنين و المرأة، فينقذ اللّه من يشاء أن اليوم لا ادعو أحدا؟ فقال: و ما عليك أن تخلي بين الناس و بين ربّهم، فمن أراد اللّه أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه، ثمّ قال: و لا عليك إن أنست من أحد خيرا أن تنفذ إليه الشيء ابتداء، قلت: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً ، قال: من خرق أو غرق، ثمّ سكت، ثمّ قال: تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له».

أقول: ورد في كثير من الروايات أنّ دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب لا يردّ، و أنّ تأخير الآثار لا ينافي ذلك. و تبدّل الحالات النفسانيّة في الإنسان كثير، مؤمنا كان أو كافرا، و الرواية من باب التطبيق، و لعلّ المراد من التأويل الأعظم

ص: 195

ذكر أجلى المصاديق و أكملها للآية المباركة، و هو المراد من ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام.

و في الدرّ المنثور عن علي عليه السّلام: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: بدمشق جبل يقال له قاسيون، فيه قتل ابن آدم أخاه».

أقول: على فرض صحّة الرواية، فإنّها لا تنافي أن يكون الدفن في محلّ آخر، لما في بعض الروايات: «مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة».

و في الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قتلت نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم القاتل الأوّل كفل من دمها، لأنّه أوّل من سنّ القتل».

ص: 196

و هذه الروايات لا بدّ من حملها على ما إذا لم يستلزم تضييع الحقّ و لا التعدّي على حرمات اللّه تعالى، و إلاّ فإنّ الدفاع عن النفس، و انتصار الحقّ ، و كشف الكرب عن المظلوم بردع الظالم، و حفظ مشاعر الدين عن المعتدين بالجهاد و غيرها، من الواجبات العقليّة النظاميّة، أكد عليها الشرع.

و من المحتمل أنّ الروايات صدرت عن أشخاص أرادوا منها جوانب خارجية، لعلّ منها صرف المسلمين عن الحرب مع علي عليه السّلام ضدّ معاوية أو الخوارج أو طلحة و الزبير، أو تجميد دوافعهم التي كانت تؤيّد الحقّ و تسانده.

و كيف كان، فلا بدّ من حمل الروايات و إلاّ فتطرح.

و هناك روايات اخرى تتعلّق بقصة قابيل و مجازاته، ذكرها أرباب التفاسير - كالسيوطي و غيره - لا يقبلها العقل، و هي أشبه بالقصص الوهميّة أو الخرافات الخياليّة، فلا بدّ من طرحها أيضا و اللّه العالم.

بحث كلامي:

وردت كلمة التقوى في القرآن و السنّة - بل في الكتب السماويّة - كثيرا، و حثّت عليها الشرائع الإلهيّة و رغّبت إليها. و هي صفة - أو حالة نفسانيّة - تعرض على الإنسان الملتزم بالدين، و قد تزول عنه حسب العوامل النفسيّة و المكائد الشيطانيّة، فهي من الأمور الإضافيّة، تختلف حسب درجات الإيمان و الثقة بالمبدأ عزّ و جلّ .

و هي في اللغة: جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوى، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه.

و قد عرّفت في الشرع بتعاريف متعدّدة، و لعلّ أسلمها: حفظ النفس عمّا يؤثم. و ذلك بترك المحظور، و يتحقّق باجتناب بعض المباحات، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام، لما روي: «الحلال بيّن و الحرام بيّن، و من رتع حول

ص: 197

الحمى فحقيق أن يقع فيه»، و غيره من الروايات قال اللّه تعالى: فَمَنِ اِتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف، الآية: 35].

و قيل: إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المأثم و المشتبهات، و هذا التعريف يرجع إلى الأوّل، و إنّما الاختلاف في التعبير.

و قيل: هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى، و هذا أعمّ ممّا تقدّم.

و كيف كان، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلاّ بترك المشتبهات، فضلا عن المحرّمات، ففي رواية يونس عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ : «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك و المبلغ إلى جنّتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، و نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه و أعجب برأيه كان كرجل سمعت غناء الناس تعظّمه و تصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محلّه، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غثاء العامّة، فوقفت منتبذا عنهم متغشّيا بلثام، انظر إليه و إليهم، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم و فارقهم، و لم يقر، فتفرّقت جماعة العامّة عنه لحوائجهم، و تبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغفّله فأخذ من دكانه رغيفا مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول:

و ما حاجته إذا إلى المسارقة، ثمّ لم أزل اتّبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين و الرمّانتين بين يديه و مضى، و تبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء، فقلت له:

يا عبد اللّه لقد لحقت بك و أحببت لقاءك فلقيتك، لكنّي رأيت منك ما شغل قلبي، و إنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي، قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء حدّثني من أنت ؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: حدّثني ممّن أنت ؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: أين بلدك ؟ قلت:

ص: 198

المدينة، قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت:

بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرّفت به و تركك علم جدّك و أبيك، لأنّه لا ينكر ما يجب أن يحمد و يمدح فاعله، قلت: و ما هو؟ قال: القرآن كتاب اللّه، قلت: و ما الذي جهلت ؟ قال: قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، و قال تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها ، و إنّي لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات. فلما تصدّقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست و ثلاثون. قلت: ثكلتك امّك، أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، و لما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات و لم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت و تركته». و يستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقا يدور مدار التقوى، و لولاها فالأعمال مجرّد صور لم يكن لها لبّ . نعم لكلّ منهما مراتب و درجات. و التقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه و لاستقرار حبّه تعالى في القلب. و قد ذكر علماء السير و السلوك أنّ مقامات الرقي هي مراتب التقوى، و قسّموها إلى تقوى العوامّ و تقوى الخواصّ ، و تقوى أخصّ الخواصّ . ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، هو مجرّد التقرّب إليه عزّ و جلّ مع تقريره به، لا التقوى المصطلح، لتناسب ذلك لبدء التشريع و تلائمه مع بثّ النسل، و لم تكمل الحجّة بتمام جهاتها. و لكن تقدّم أنّ للتقرب إليه تعالى مراتب و درجات، و أنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلاّ في هذه الآية فقط.

ص: 199

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُ.......

اشارة

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الآيتان الشريفتان تبيّنان أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يقوم عليها النظام العامّ و ثبات الأمن و الأمان، و تحرّمان المحاربة و الإفساد المخلّين للنظام و الموجدين للخوف العامّ .

ففي الآية الشريفة الاولى يبيّن تعالى حدّ المحاربة، الذي هو شديد على قدر عظمة الجرم، الذي هو المحاربة مع اللّه العظيم و رسوله الكريم، و كان الحدّ مركّبا من الخزي في الدنيا بالقتل و الصلب و القطع من خلاف و النفي من الأرض، و العذاب العظيم في الآخرة.

و في الآية الثانية يبيّن عزّ و جلّ حكم من تاب قبل القبض و الاستيلاء عليه، و غفران اللّه تعالى له.

و لا يخلو ارتباط هاتين الآيتين بما سبق، كما تشمل المحاربة القتل الذي بيّنته الآيات السابقة في قصة قتل ابن آدم أخاه، و ما كتبه اللّه تعالى على بني إسرائيل من أجله، الذي لا يعدو أن يكون منعا للإفساد و المحاربة، إفساد للنظام، فكانت هذه الآيات المباركة بيانا لعقاب الإفساد الذي خلت الآيات السابقة منه.

ص: 200

التفسير

قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ .

مادة (حرب) تدلّ على التعدّي و ما يضادّ السلم و السلام من الأذى و القتل و الضرر على النفس و المال، و الحرب (بالتحريك) هو أن يسلب الرجل ماله، يقال:

حربه يحربه - على وزن تعب - إذا أخذ ماله، فهو حريب و محروب. و المستفاد من اشتقاق هذه الكلمة أنّ الحرب أعمّ من القتل، فتشمل الاعتداء و السلب و إزالة الأمن و الإخلال بالنظام العامّ ، و لا ريب أنّ ذلك يستلزم بحسب الطبع و العادة استعمال السلاح و التهديد، و ربّما القتل و أنحاء الأذى و الضرر. و قد ورد في السنّة الشريفة تفسير الآية المباركة بشهر السيف و نحوه ممّا ستعرف، فهو إنّما يكون من باب المثال.

و المحاربة مفاعلة، و قد ذكرنا في مواضع متعدّدة أنّ المفاعلة لا تتقوّم حقيقة معناها بطرفين كما يدعيه بعض، بل هذه الهيئة تدلّ على صدور الفعل من شخص و إنهائه إلى آخر، سواء صدر منه فعل أم لا.

و المحاربة مع اللّه تعالى بالمعنى الحقيقيّ مستحيلة، فلا بدّ أن يكون المراد منها مخالفة أحكامه المقدّسة و الاستهزاء بتعاليمه و تشريعاته و نقضها، كما أنّ محاربة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي إبطال ولايته في الأمور التي ثبتت من جانبه عزّ و جلّ ، و يدخل فيه أذيّة أولياء اللّه تعالى الذين ثبتت ولايتهم من جانب الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأمر من اللّه تعالى، فتكون محاربة اللّه و رسوله معاداة اللّه تعالى و مخالفة أحكامه و نقضها و عدم تنفيذها و إبطال ولاية أولياء اللّه تعالى و إعلان مخالفتهم و معاداتهم.

و بعبارة اخرى: تكون المحاربة مع اللّه و رسوله هي عدم الإذعان لدينه بعدم حفظ الحقوق و عدم إقامة تشريعاته، و الاستهزاء بشعائر الدين و مقدّساته، فترجع المحاربة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المحاربة مع اللّه تعالى، فإنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مظاهر الحقّ ، كما أنّ منها ولاية أولياء اللّه تعالى.

ص: 201

قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً .

بيان لبعض مصاديق محاربة اللّه و رسوله التي تقدّم معناها، و الفساد ضدّ الصلاح، و من عمل شيئا كان سببا للفساد يقال: إنّه أفسده، و السعي فسادا، أي الإفساد في الأرض، و هو ما كان سببا للإخلال بالنظام العامّ و إزالة الأمن و الأمان، فيدخل فيه قطع الطرق و قتل الناس ظلما و غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في المقام، و يرجع كلّ ذلك إلى عدم الإذعان بدين اللّه تعالى و تضييع الحقوق، فيتلازم الوصفان، و من ذلك يعرف أنّه لا يكفي مجرّد المحاربة مع المسلمين إذا لم نرجع إلى ما ذكر. و يدلّ عليه أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم ينفّذ في المحاربين من الكفّار بعد الظهور عليهم و الظفر بهم حدّ المحارب عليهم، و سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ .

بيان لحدّ المحاربة و جزائه. و الجملة خبر المبتدأ في قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ . و التقتيل و التصليب و التقطيع، تفعيل من القتل و الصلب و القطع، الدالّة على زيادة في المعنى المجرّد. و لعلّها إما لأجل الزيادة على القصاص، لأنّه حدّ شرعيّ و حقّ إلهيّ ، لا يسقط بعفو الولي، أو لأجل التكثير و المبالغة في القتل باعتبار الأفراد، لأنّهم سعوا في الأرض فسادا، و الصلب قتلة مؤذية، و الكلمة مشتقّة من الصلب (بالتحريك). و الصليب بمعنى الودك (الدهن) أو الصديد الذي يخرج من بدن الميت. و الهيئة التي تشبه المصلوب تسمّى صليبا.

و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف، أي: تقطع مختلفة، بمعنى إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. و صيغة التفعيل في هذا النوع أظهر. و المراد بقطعها، قطع بعضها دون الجميع، أي: إحدى اليدين و إحدى الرجلين مع مراعاة الاختلاف في الجانب.

و أما النفي من الأرض، فهو بمعنى الطرد من البلد إلى بلد آخر، و هو مضافا إلى أنّه عقاب ظاهرا، هو عملية إصلاحية تأديبيّة. و قيل: إنّ المراد بالنفي هو

ص: 202

الحبس، لكنّه لا دليل عليه، سيما بعد كونهما عقوبتين.

و لفظة «أو» إنّما تدلّ على التفصيل و الترديد، المقابل لمطلق الجمع، و أما الترتيب أو التخيير فلا بدّ أن يستفاد من القرائن الخارجيّة، لأنّ المحاربة و الفساد على مراتب متفاوتة جدا و وجوه شتّى، فقد شرّعت لكلّ مرتبة منها عقوبة معينة و حدّ خاصّ ، و في الروايات المروية عن الأئمة الهداة عليهم السّلام الدلالة على أنّ الحدود الأربعة مترتّبة بحسب درجات المحاربة و الإفساد، و سيأتي نقل بعضها إن شاء اللّه تعالى.

و قيل: إنّ (أو) للتخيير، فللإمام أن يحكم على من يشاء من المحاربين، و يمكن إرجاعه إلى ما سبق، و إلاّ فلا دليل عليه في المقام، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا .

الخزي الفضيحة و الذلّ ، أي: ذلك الجزاء من القتل، و الصلب، و القطع، و النفي ذلّ و هوان للمحاربين المفسدين في الدنيا، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ .

لا يعلم قدره لعظم جنايتهم. و إنّما اقتصر في الدنيا على الخزي و في الآخرة على العذاب، لأنّ الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، و عذاب الآخرة أعظم من الخزي في الدنيا.

و الآية المباركة تدلّ على الجمع بين عقاب الدنيا و عذاب الآخرة، و هو يدلّ على عظم الجناية لما لها الأثر الكبير في النفوس و تدنيسها بارتكاب الفواحش و الآثام، و قلّما تكون جناية يجمع فيها بين الأمرين، فإنّه قد دلّت روايات متعدّدة على أنّ الحدّ في الدنيا و الجزاء الدنيويّ يرفع العقاب في الآخرة، إلاّ في بعض الجنايات، منها هذه الجناية، كما تدلّ عليه الآية الشريفة، فلا يستفاد منها قاعدة كلّية.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .

الاستثناء من عقاب المحاربين المفسدين في الأرض، الذين حكم عليهم بالخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.

ص: 203

و حطّ العذاب عنهم بشرط التوبة قبل القبض عليهم، فإنّها ناشئة عن العلم بقبح عملهم و العزم على عدم العود، و هي التوبة النصوح.

و أما بعد القبض، فلا أثر للتوبة، فإنّ منشأها الخوف من عقاب الدنيا، و لذا لا يسقط الحدّ عنهم.

قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

لأنّه بالتوبة صار أهلا لمغفرته و رحمته. أي: فاعلموا أنّ اللّه يغفر لهم ذنوبهم، و يرحمهم برفع العقاب عنهم.

و قيل: إنّ الآية المباركة تدلّ على تعلّق المغفرة بغير الأمر الاخرويّ . و لكن يمكن القول بشمول المغفرة و الرحمة لكليهما، العقاب الدنيويّ و العذاب الاخرويّ .

ص: 204

بحوث المقام

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ ، على أنّ محاربة اللّه و رسوله من الأمور المبغوضة عند الفطرة الإنسانيّة، حيث لم يذكر سبحانه و تعالى حكم المحاربة، و أوكله إلى الفطرة، و ذكر جزاءها الذي يدلّ على أنّها من المعاصي الكبيرة التي أوعد اللّه تعالى عليها النّار، و المحاربة مع اللّه تعالى و رسوله معلومة لكلّ إنسان تدعو فطرته إلى عبادة خالقه و الوفاء بعهوده، التي منها الالتزام بأداء التكاليف و مراعاة حقّ العبوديّة معه عزّ و جلّ ، و لأجل ذلك أطلق الكلام في المقام و لم يذكر خصوصيات المحاربة، و إن بيّن في بعض الموارد و في مواضع من القرآن الكريم و السنّة الشريفة، قال تعالى في النهي عن الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة البقرة، الآية: 279].

و المستفاد من جميع ذلك أنّ المحاربة تتحقّق بمحاربة الشرع و مقاومة تنفيذه و الاستهزاء بالأحكام الإلهيّة و هتك حرمات اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك التعليل الوارد في بناء المنافقين لمسجد ضرار: وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة التوبة، الآية:

107]، و عموم الآية الشريفة يشمل الجميع، فلا تختصّ المحاربة بالمسلمين فقط، بل يشمل الكفّار أيضا، فكلّ من انطبق عليه عنوان المحارب مع اللّه و رسوله، يشمله حكمه و ينفذ فيه جزاؤه في جميع الأعصار و بأي شكل كانت المحاربة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً ، على أنّ مجرّد

ص: 205

الفساد ليس كافيا في صدق عنوان المحارب على المفسد، بل لا بدّ أن يكون سعيا منه في الفساد و الإفساد. و لم يبيّن عزّ و جلّ خصوصيات الفساد في المقام، لمعلوميته لدى كلّ عاقل، و قد ذكر في القرآن الكريم من مصاديقه قتل النفس المحترمة، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ [سورة البقرة، الآية: 30].

و منها: قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، قال تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ * [سورة البقرة، الآية: 27].

و منها: إهلاك الحرث و النسل، قال تعالى: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [سورة البقرة، الآية: 205].

و منها: ترك بعض الأمور الاجتماعيّة الواجبة التي لها دخل في تنظيم المجتمع الإسلاميّ و إقامة أركان العدل الإلهيّ ، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال، الآية: 73].

و منها: الطغيان في البلاد، قال تعالى: اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي اَلْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا اَلْفَسادَ [سورة الفجر، الآية: 11-12].

و منها: ابتغاء العلو في الأرض، قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً [سورة القصص، الآية: 83]، و قد ورد في شأن فرعون:

يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ [سورة القصص، الآية: 4].

و منها: بخس النّاس أشياءهم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * [سورة هود - 85].

ص: 206

و منها: بخس النّاس أشياءهم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * [سورة هود - 85].

و من ذلك يعلم أنّ ما ورد في السنّة الشريفة إنّما هو من باب المثال، كقطع الطريق و إخافة الناس و إزاحة الأمن و الأمان و السلب و النهب و الإخلال بالنظام.

و الظاهر من الآيات الشريفة الواردة في مواضع متفرّقة أنّ الفساد في الأرض من مظاهر محاربة اللّه و رسوله، بل هما متلازمان، فإذا اطلق أحدهما يراد به الآخر أيضا.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ، أنّ المحاربة على مراتب و درجات، لكلّ مرتبة منها حدّ خاصّ موكول إلى نظر الإمام العادل المخالف لهواه في تشخيصه، و يدلّ على ما ذكرناه بعض الروايات.

و المستفاد من الآية المباركة أنّ المناط في إجراء الحدّ ليس مجرّد القتل و الصلب و غيرهما، بل الغرض هو تطهير الامّة منهم و تهذيب نفوس الأشرار، فيحتاج إلى مزيد عناية في القتل و الصلب و القطع بأن يكون كلّ واحد من الأربعة عملية إصلاحية تربويّة، فيكون تقتيلا مع شدّة ليكون ردعا للغير و إصلاحا للامة، و كذا الصلب و القطع.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ، على أنّ الحدّ و الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة إنّما يكون خاصّا بهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، الذين قد يتّفق أن يكون عملهم عمل المحارب، ما لم ينطبق عليهم عنوان المحاربين، كما يدلّ على أنّ العذاب في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير فسادهم و إفسادهم، و ذلك قد يلازم الخلود كما فصّلناه سابقا.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه، و التصدير بجملة: «فاعلموا»، للدلالة على تحقّق الغفران و ثبوته فوق كلّ شيء من العواطف و الأهواء و النزعات، و تقدّم الكلام في نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة فراجع.

ص: 207

بحث روائي:

في التهذيب للشيخ بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقيموا عندي، فإذا برأتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبو الها و يأكلون من ألبانها، فلما برأوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبعث إليهم عليّا عليه السّلام، و إذا هم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن، فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللّه، فنزلت الآية: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ .

أقول: و قريب منه ما في الكافي. و أكل اللبن محمول على أكل الأقط المتّخذ من اللبن.

و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات تدلّ على أنّ القوم من بني عرينة أو عكل، و سمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعينهم لأنّهم سملوا أعين الرعاة، و في بعضها نهي عن سمل الأعين بعد ذلك، و لم يرد في رواياتنا سمل الأعين على ما تفحّصت عاجلا، لأنّ ذلك من المثلة، و قد نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها.

و كيف كان يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أمور:

الأوّل: أنّ الخيانة و الغدر و الإفساد مرفوضة في الشرع بجميع وجوهها، و لا بدّ من التصدّي لمنعها بكلّ السبل.

الثاني: أنّ جزاء الخيانة لا بدّ أن لا يتعدّاها، لقاعدة المثليّة في العقوبات، و قد تكون الخيانة عظيمة و الغدر كبيرا، فجزاؤهما يكون كذلك.

الثالث: أنّ الجزاء المترتّب على الخيانة المعبّر عنه في الشرع بالحدّ أو التعزير أو القصاص و النفي، لا بدّ أن يكون تحت إشراف ولي الأمر، سواء كان نبيّا أو نائبا عنه، كالفقيه الجامع للشرائط، و لا يستلزم إراقة الدماء و هدرها بلا مبرر، لأنّه

ص: 208

يوجب الفوضى في المجتمع.

و الرواية من باب التطبيق، و إنّ نزول الآية في واقعة لا يصير مخصّصا لها، كما هو واضح.

و في الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد اللّه المدائني، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع ؟ فقال: إذا حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال، نفي من الأرض، قلت: كيف ينفى في الأرض، و ما حدّ نفيه ؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه، فيفعل ذلك به سنة، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره، كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة، قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها».

أقول: ظاهر الرواية الترتيب في إجراء الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد، و لكن ذكرنا في الفقه أنّ ذلك يدور مدار نظر الحاكم الشرعيّ و ما يترتّب من المصالح و المفاسد، حسب اختلاف الظروف و الأشخاص، فيصنع بهم على قدر جنايتهم، كما تدلّ على ذلك رواية جميل بن دراج عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية المباركة، «قلت له: أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّاها اللّه عزّ و جلّ؟ قال عليه السّلام: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل. قلت: النفي إلى أين ؟ قال عليه السّلام: ينفى من مصر إلى آخر، و قال: إن عليّا عليه السّلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة».

على أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرنا من التخيير للإمام الذي يراعى المصالح، و ما دلّ على الترتيب يحمل على الأولويّة و الأفضليّة، و تقدّم البحث

ص: 209

في كتاب الحدود من (مهذب الأحكام)، من شاء فليرجع إليه.

ثمّ إنّ المستفاد من الآية المباركة و السنّة الشريفة أنّ حدّ المحارب هو ما تقدّم بلا طرو موجب آخر، فمن شهر سيفا أو سعى في الأرض فسادا و قتل نفسا تؤخذ منه الدية لو رضي أولياء المقتول بها ثمّ يقتل، لأنّه محارب و مفسد، أو ينفى من الأرض حسب ما يراه الحاكم الشرعي، كما ورد في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أصلحك اللّه، أ رأيت إن عفى عنه أولياء المقتول ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله، لأنّه قد حارب و قتل و سرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية و يدعونه، ألهم ذلك ؟ قال: لا، عليه القتل» و تمام الكلام موكول إلى الفقه.

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من حارب اللّه و أخذ المال و قتل، كان عليه أن يقتل و يصلب، و من حارب و قتل و لم يأخذ المال، كان عليه أن يقتل و لا يصلب، و من حارب و أخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن يقطع يده و رجله من خلاف، و من حارب و لم يأخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن ينفى، ثمّ استثنى فقال: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ، يعني يتوبوا من قبل أن يأخذهم الإمام».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بصدر الرواية، و أما ذيلها فإنّ مقتضى سعة رحمته و بسط فضله و حبّه لخلقه أن يكون الأمر كذلك، و اللّه العالم.

و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات توافق مضمونها مع ما تقدّم، فلا حاجة إلى سردها و المناقشة في الأمور البسيطة فيها.

و في الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أيّ شيء يقول فيه من قبلكم ؟ قلت: يقولون هذه دغارة معلنة، و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك ؟ قلت: دار الإسلام، فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ - إلى آخر الآية».

ص: 210

و في الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أيّ شيء يقول فيه من قبلكم ؟ قلت: يقولون هذه دغارة معلنة، و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك ؟ قلت: دار الإسلام، فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ - إلى آخر الآية».

أقول: ما ذكره الراوي من أنّ المحارب يختصّ بالمشركين، وردت بذلك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور، و إنّ مقتضاها تفوق أهل الشرك على المسلمين في هذا الحكم، و هذا ممّا لا يرضاه العقل و النقل، كما أشار إليه الإمام عليه السّلام، و لا يخفى أنّ الرواية من باب التطبيق لا التخصيص، و اللّه العالم.

بحث عرفاني:

تقدّم سابقا أنّ الأسباب في تطهير النفوس المنحرفة عن فطرتها المستقيمة و تزكيتها كثيرة جدا، بل عن بعض أنّها معسورة الحصر، و عدّوا منها الحدود و التعزيرات، كما ورد في بعض الروايات التصريح بذلك.

و التعبير بأنّ الحدود و التعزيرات فيوضات إلهيّة و مكارم ربانيّة لأجل صلاح المجتمع و إصلاحها في عالم الشهادة و الفوز بالمقامات السامية في عالم الآخرة، كان مطابقا للواقع. هذا كلّه إذا لم تكن الجريمة ممّا يوجب غضبه تعالى و سخطه، و إلاّ لا يطهّره الحدّ و التعزير في عالم الشهادة، لأنّ الظرف غير قابل لذلك، فينتقم اللّه منه في عالم الآخرة، و لعلّ ما ورد في بعض العقوبات أنّه لم يجعل الشارع له حدّا خاصّا في الدنيا لأجل ذلك و أنّه يوجب سخطه.

إن قلت: إنّ الصفات السيئة و الأفعال القبيحة كلّها توجب غضبه و سخطه، و إنّ الحدود جزاء شرعيّ ، و إنّ العقاب تابع لسخطه و غضبه.

قلت: أوّلا: أنّ غضبه و سخطه لهما مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا - بل متابينة - و أنّ الحدود توجب رفعهما و إزالة الجريمة و الخبث الباطنيّ ، فيرضى اللّه عنه.

و ثانيا: أنّ الحدود توجب محو الذنوب، و إنّها كالتوبة، و بعد ذلك لا وجه لأنّ يكون العبد مورد غضبه و سخطه.

و الحاصل: أنّ الغضب الإلهيّ و السخط الربانيّ يرتفعان بما قرّره الشارع

ص: 211

لرفعهما، سواء كان حدّا أو تعزيرا أو توبة نصوحا. نعم جعل العبد نفسه مورد تعلّق غضبه تعالى ينافي العبوديّة و يضاد الانقياد، و لا يناسب السير و السلوك، و عن بعض أعلام العرفاء: التخلية بترك المساوئ و هجرها أولى من التحلية بفعل الحسنات. و إنّ بعض الآيات المباركة تشير إلى ذلك أيضا، و اللّه العالم، و للبحث ذيل يأتي في الموارد المناسبة للآيات الشريفة.

ص: 212

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُف.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40) لما بيّن عزّ و جلّ جزاء المحاربة و عظيم جنايتها لما لها من الأثر السيء في النفوس و تعطيل النظام، فكان الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة، و في هذه الآيات الشريفة ذكر سبحانه و تعالى بعض الطرق لإصلاح النفوس و ترويضها على احترام المواثيق و العهود و نبذ الفساد و الإفساد، فأمر عزّ و جلّ بالتقوى لعظيم أثرها في تهذيب الإنسان و إصلاحه ثمّ بالطاعة و الإخلاص له لترويض النفوس على التوجّه إليه تعالى و التوسّل به في قضاء الحاجات و صرف النظر عمّا ليس بمحمود، ثمّ بيّن حال الذين كفروا في يوم القيامة و سوء منقلبهم و خلودهم في النار و العذاب المقيم، و في ذلك الموعظة و العبرة. ثمّ ذكر جزاء السارق و السارقة اللذين يختلفان عن المحاربين في أنّهما يسرقان خفية دون المحاربين، و جعل عقاب السارقين بما اجتمع فيه الوازع النفسيّ و التهذيب و الإصلاح و الخوف من العقاب و النكال و العبرة، فلم يقتصر فيه على جانب واحد و جعل الباب مفتوحا لمن يتوب و يريد الإصلاح، فإنّ اللّه غفور رحيم يقبل توبة عباده إذا صلحوا. ثمّ ختم الآيات الشريفة بإثبات القدرة التامّة و نفوذ حكمه في مخلوقاته، زيادة في المهابة

ص: 213

و تحقيقا للهداية و الموعظة التي ما برح القرآن الكريم عنهما بأساليب متعدّدة متميّزة لا تبلى جدّتها و لا تملّ قراءتها، فإنّ كلّ أسلوب منها يتضمّن من الأمور البلاغيّة الأدبيّة، و يتخلّله من أسماء اللّه و صفاته العليا، و يشتمل على المعارف و التوجيهات و طلب تقواه تعالى و التوجّه إليه و الإخلاص له، ما يجعل الكلام محبّبا للنفوس، و لذلك ترى أنّ القرآن و إن اشتمل على أهداف معينة و أغراض معلومة قد ذكرت في مواضع متعدّدة، لكنّها ليست من التكرار المملّ ، و هذا من معاجز هذا الكتاب العظيم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ .

بيان لأحد الكمالات الواقعيّة التي لا بدّ من السعي إليها، و تقدّم الكلام في هذا النداء الربوبيّ الذي يتضمّن من اللطف و التذكير و الموعظة ما لا يتضمّنه أي خطاب آخر، و قد أمر تعالى المؤمنين بالتقوى لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها بالكمالات الواقعيّة و إزالة الموانع و الحجب و ما يوجب سخطه عزّ و جلّ ، فيكون ترتّب ما يأتي على هذا الحكم كترتّب المعلول على العلّة التامّة.

قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ .

مادة (وسل) تدلّ على التقرّب و التوصّل إلى أمر بشيء. يقال: وسل إلى كذا، أي: تقرّب إليه بشيء، و الوسيلة فعيلة بمعنى ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى و يتوصّل إليه عزّ و جلّ ، من ترك المعاصي و فعل الطاعات مع الرغبة إلى من يتقرّب إليه و ما يتقرّب به، و قال الراغب: إنّها أخصّ من الوصيلة، لتضمّنها معنى الرغبة، و حقيقة الوسيلة إلى اللّه تعالى مراعاة سبيله بالعلم و العبادة و تحرّي مكارم الشريعة.

أقول: لا ريب أنّ التقرّب إليه تعالى و التوسّل به إلى ثوابه و الزلفى منه، إنّما

ص: 214

يشترط أن يكون موافقا لما ورد في الشرع المبين، كما أنّ فعل الطاعات و ترك المعاصي لا بدّ أن يكون مع العلم و تحرّي مكارم الشريعة، و قد ورد في بعض الأخبار: «انّ اللّه لا يقبل دعاء قلب ساه أو لاه»، فالعلم و موافقة الشرع المبين من مقوّمات التقرّب إلى اللّه تعالى. و من هنا كان ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ من شؤون العبوديّة للّه تعالى، التي لا تتحقّق إلاّ بإيجاد الرابطة بين العبد و ربّه، فيكون المراد من ابتغاء الوسيلة ابتغاء الطاعة للّه تعالى التي لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بذلّ العبوديّة و توجيه المسكنة و الفقر إليه عزّ و جلّ و التضرّع لدى جنابه و الخشية منه تعالى، و لا يمكن الوصول إلى ذلك إلاّ باتّباع الشريعة و التقوى، فكانت التقوى هي العلّة و الغاية، و هذا يدلّ على أهميّة التقوى، فإنّه قلما اجتمع في شيء العلّة الفاعليّة و الغائيّة. و لعلّه لأجل ذلك أمر بالتقوى أوّلا، ثمّ بابتغاء الوسيلة إليه، و هذه الآية الشريفة على إيجازها البليغ تتضمّن جميع الكمالات الواقعيّة، فهي الذريعة لكلّ خير و سعادة، و منجاة من كلّ شقاء و عذاب، و فيها تظهر حقيقة العبوديّة و تزول الحجب و الأغيار، فإنّه لا منجى إلاّ بالتوسّل إليه عزّ و جلّ و الإعراض عمّا سواه، و ابتغاء الوسيلة إليه تبارك و تعالى لا يختصّ بطريقة معينة، بل كلّ ما يوجب التوسّل به إليه فهو صحيح، ففي الحديث: «انّ الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق»، إلاّ ما ورد النهي عنه في الشريعة الغرّاء كما في عبادة الأصنام و الذبح لغير اللّه تعالى و غيرهما ممّا حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم و ما ذكر في السنّة الشريفة، و ليس من الأخير التوسّل بالأنبياء و الأولياء كما يزعمه بعض، فإنّ اللّه تعالى جعلهم أبواب رحمته في الأرض، و قد قال تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [سورة البقرة، الآية: 189]، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ .

كمال آخر من الكمالات الواقعيّة، و ترتّبه على سابقه من قبيل ترتّب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر)، فيكون المراد من الجهاد الأعمّ من الأصغر

ص: 215

و الأكبر، كما أنّ المراد من سبيله هو الجهاد في ما يرتضيه تبارك و تعالى.

فيكون المعنى: جاهدوا أنفسكم بحملها على اتّباع الحقّ و ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و كفّها عن الأهواء، و جاهدوا أعداء اللّه تعالى الذين يصدّون عن الحقّ ، و احتمل بعضهم أن يكون المراد منه هو الجهاد مع الكفّار، نظرا إلى تقييده بكونه في سبيل اللّه تعالى، الذي إذا ذكر مع الجهاد يكون المراد منه القتال، بخلاف ما إذا أريد الأعمّ فإنّه يكون خاليا عن التقييد، كقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 69].

و على هذا، يكون ذكره بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لأهمّيّته. إلاّ أنّه ممّا يبعد هذا الاحتمال سياق الآية الشريفة و القرائن المحفوفة بها، التي تدلّ على أنّ المراد منه الأعمّ ، و التقييد بكونه في سبيل اللّه لا يصرفه عن المعنى العامّ ، لا سيما بعد كون الجهاد مع النفس من أصعب الأمور، و تتداخل فيه كثير من الأوهام و الظنون، و هو مزلّة الأقدام و ممتحن الرجال، فلا بدّ من تحديد مسلكه و تعيين طريقه بكونه في سبيل اللّه، لئلاّ يكون مرتع الشيطان، و نظير هذا قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 218].

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

أي: إذا تحقّق ذلك كلّه منكم فهو السبب للفوز بالفلاح، الذي هو أقصى الغايات و أبعدها، فإنّه الوصول إليه عزّ و جلّ و الفوز بكرامته و السعادة في المعاش و المعاد، و هذا هو الكمال الذي يسعى إليه الإنسان في سعيه و تحمّله الجهد و المشقّة في ابتغاء مرضاة اللّه تعالى و التقرّب إليه.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً .

تعليل لمضمون ما قبله، و تأكيد على وجوب مراعاة الأحكام السابقة، و ترغيب في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و بيان إلى بطلان ما توسّل به الكفّار يوم القيامة للنجاة من العذاب. و الآية تدلّ على أنّ سبب الفلاح و النجاة

ص: 216

كامن في نفس الإنسان و لا يجديه شيء خارج إذا لم يكن راجعا إلى كسب الإنسان و فعله، و قد أكّد عزّ و جلّ ذلك في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها. وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [سورة الشمس، الآية: 9-10].

و معنى الآية: أنّ الذين كفروا لو افتدوا جميع ما في الأرض لينجيهم من عذاب يوم القيامة لم ينفعهم ذلك، و لا يكون بدلا عمّا ذكره عزّ و جلّ في صدر الآية من التقوى و ابتغاء الوسيلة و المجاهدة في سبيله، فإنّ تلك هي التي تصرف العذاب عن أنفسكم. و إنّما اقتصر عزّ و جلّ على الفدية بما في الأرض، لأنّها أقصى ما يقدر عليه ابن آدم من الملك الدنيويّ عادة.

قوله تعالى: وَ مِثْلَهُ مَعَهُ .

زيادة في الرغبة و تأكيد على كينونة ما في الأرض، و المثل على طريق المعيّة لا بطريق التعاقب، لبيان فظاعة الأمر و هول الموقف.

قوله تعالى: لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

أي: ليجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

أي: لا يتقبّل اللّه ذلك منهم و لا ينقذهم من العذاب الذي استحقّوه بسبب أعمالهم و لا سبيل لخلاصهم منه، بل هم في عذاب مؤلم في كمال الإيلام لهم، لأنّ من سنّته عزّ و جلّ أنّ الذي ينجيهم من العذاب إنّما هو الإيمان و العمل الصالح. و تقدّم أنّه إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين، فلا تنفع الكافرين الفدية، و لا ترفع عنهم العذاب الذي استحقّوه بكفرهم و سيئات أعمالهم.

قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها .

بيان لحالهم في النّار، و هو يدلّ على كمال إحساسهم بالعذاب، و أنّ الفطرة الأصليّة التي كانت تتألّم من العذاب في الدنيا لم تتغيّر و لم تنتف عنهم، بل تتأثّر بالنّار و يتألّمون و يريدون الخلاص من العذاب و الخروج من النار، فإنّها دار العذاب و الشقاء و ما هم بخارجين منها البتة، و الجملة تدلّ على الثبوت و الدوام، و الآية الشريفة تدلّ على عدم قبول الشفاعة و العدل و الفدية منهم.

ص: 217

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ .

تعليل لما سبق، و هو يدلّ على عدم تناهي العذاب كما و كيفا و مدة، أي: لهم عذاب ثابت لا يزول و لا يفارقهم أبدا.

قوله تعالى: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .

جملة مستأنفة و الواو للاستئناف، و دخول الفاء على الخبر يدلّ على أنّ الكلام في مقام التفصيل.

و التقدير: و أما السارق و السارقة... إلخ. و السرقة هي أخذ الشيء في خفية، و منه استراق السمع، و سارقة النظر، و منها السرقة في الفقه الإسلامي، أي: أخذ مال الغير خفية. و السرق و السرقة (بكسر الراء فيهما) اسم للشيء المسروق، و المصدر من سرق يسرق سرقا (بفتح الراء)، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس، و مستلب، و منتهب، و محترس الذي يسرق حريسة الجبل، يشمل الجميع الغصب.

و قد تستعمل السرقة في مطلق النقص، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«و أسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته، و قيل: و كيف يسرق من صلاته ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يتمّ ركوعها و لا سجودها».

و القطع هو الإبانة و الإزالة، و الآية الشريفة و إن كانت مطلقة، إلاّ أنّ السنّة الشريفة بيّنت شروط الحكم، فلا يصحّ إجراء الحدّ إلاّ إذا توفّرت جميع الشروط المعتبرة في السارق و الشيء المسروق و المسروق منه، فليس كلّ سرقة يجري عليها الحكم المزبور، كما هو مذكور في الفقه. راجع كتانا مهذب الأحكام.

و اليد هي الجارحة المعروفة، و تطلق في الإنسان على المحدود من المنكب إلى أطراف الأصابع، و قد يطلق على الأبعاض أيضا كما عرفت في آية الوضوء. و المراد منها في المقام جزء معين، و هو الأصابع كما دلّت عليه الروايات المتعدّدة، و سيأتي نقل بعضها.

و ذهب الجمهور إلى أنّ القطع من الرسغ، و قيل: من المنكب، و المسألة محرّرة في الفقه.

ص: 218

و استعمال الجمع (أيديهما) مع أنّ المراد منه التثنية، إما لأجل ما قيل من أنّه استعمال شائع في أعضاء الإنسان المزدوجة، كالقرنين و الأذنين و اليدين و الرجلين و القدمين، فكلّ شيء يوجد في الإنسان إذا أضيف إلى مثنى جمع، تقول: أشبعت بطونهما و هشّمت رؤوسهما، قال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [سورة التحريم، الآية: 4].

أو لأجل أنّ كلّ مفرد إذا أردت به التثنية قد يجمع، كما حكي: وضعا رحالهما، يريد به رحلي راحلتيهما، و قيل غير ذلك.

و الظاهر أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدق من تلك، و هو أنّ الموضوع لما كان من الأمور الاجتماعيّة التي تضرّ بالاجتماع و يفسد أخلاق أفراد المجتمع، فإذا قام أحد منهم بالسرقة فالمجتمع هو المسؤول عن تقويمه و تهذيبه، و إلاّ كانوا مقصّرين، يشترك كلّ واحد من أفراده في هدم كيان المجتمع، و لعلّه لذلك استعمل لفظ الجمع لإلقاء المسؤوليّة على المجتمع في الحفظ و التربية و الإصلاح.

و كيف كان، فالمخاطب في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا من له أهليّة إقامة الحدود، كالأنبياء و الأوصياء و حكّام الشرع المبين، فليس لكلّ أحد إقامة الحدّ، إلاّ إذا رجع إليهم و أذنوا له بإقامة الحدّ. و التصريح بأنّ الحدّ يشترك فيه الرجال و النساء كما في حدّ الزنا، لأنّ كلّ واحد من الذنبين يقع من كلّ منهما، فأراد اللّه تعالى زجرهما معا و التأكيد على قبحه، و إن كانت النساء تشترك مع الرجال في الأحكام. و إنّما قدّم السارق في آية السرقة، و قدّم الزانية في آية الزنا، لأنّ السرقة في الرجال أشيع منها في النساء، لأنّها مبنيّة على القوّة، و هي في الرجال أكثر، كما أنّ الزنا في النساء أشيع منه في الرجال، لأنّه مبنيّ على الشهوة، و هي في النساء أشدّ.

قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا .

تعليل لما سبق، و هو منصوب إما لكونه مفعولا لأجله. أو حالا من القطع الفهوم من قوله سبحانه فَاقْطَعُوا . و الباء للسببية، أي: فاقطعوا أيديهما جزاء

ص: 219

لهما بعملهما الشنيع و كسبهما السيء، و إنّما ذكر الكسب لبيان أنّ السرقة إنّما تباشر بالأيدي فتقطعان لما باشراه من الكسب.

قوله تعالى: نَكالاً مِنَ اَللّهِ .

مادة (نكل) تدلّ على الحجز و المنع، و استعملت في العقوبة لأنّها تمنع الناس عن الذنب، و منه النّكل (بالكسر) لقيد الدابة.

و لا ريب في أنّ قطع اليد من أجدر العقوبات لمنع السرقة، فإنّه يفضح صاحبه و تكون علامة من علامات الذلّ و العار، ليكون منعا له عن ارتكاب الجرم، و عبرة يعتبر بها غيره من الناس فيكونوا في مأمن من أموالهم و أرواحهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه غالب على أمره لا يقهره أحد، حكيم في أفعاله و تشريعاته.

قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ .

تفريع على ما ذكره عزّ و جلّ من كون الحدّ جزاء بما كسبا و نكالا، فإنّ الهدف من تشريعه هو المنع من السرقة و رجوع المنكول به عن معصيته. فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه على نفسه و على الآخرين، و رجع عن ذنبه رجوع ندم على ما فعل، و عزم على الترك، و أصلح نفسه بالتزكية، و أرجع ما سرقه إلى أصحابه، و تفصى من تبعاته، و قد عرفت في بحث التوبة أنّ ما اجتمع فيه حقّ اللّه تعالى و حقّ الناس لا تتمّ التوبة إلاّ بأداء الحقّين، و يكفي في حقّ اللّه تعالى الندم و العزم على الترك. و أما حقّ الناس فيعتبر فيه الإصلاح، و هو يختلف باختلاف الموارد، ففي السرقة يجب ردّ المسروق إلى مالكه و الاسترضاء منه.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ .

أي: يقبل اللّه تعالى توبته، فلا يؤاخذه بالجريرة و يغفر له و يسقط عنه العذاب. و إطلاق الآية الشريفة يقتضي سقوط الحدّ عنه، كما يدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تعليل لما سبق، أي: أنّ ذلك من مقتضى رحمته، و هو الغفور الرحيم، و الآية

ص: 220

تدلّ على أنّ التوبة و المغفرة تفضّل منه تبارك و تعالى.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

تعليل يبيّن وجه الحكمة في التشريع السابق، و الخطاب لنبيّه الكريم إرشادا لمن له أهليّة الخطاب، و فيه إيماء إلى أنّ السارق الذي يريد من السرقة جمع المال فهو مخطئ في ذلك، فإنّ اللّه له ملك السماوات و الأرض، يهب لمن يشاء و يمنع عن من يشاء، فهو القادر على كلّ شيء.

قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ .

بيان لبعض شؤون ملكيته لما سواه، فإنّ له أن يحكم في مملكته و رعيته بما يشاء و يريد من عذاب و رحمة. و في الآية التعليل أيضا على قبول توبة السارق و السارقة إذا تابا و أصلحا من بعد ظلمهما. و إنّما قدّم العذاب على الرحمة خلافا لما هو المعهود من تقديم الأخيرة على الأوّل، لمراعاة الترتيب في صدر الآية الشريفة، حيث ذكر جزاء السارق و السارقة ثمّ ذكر التوبة، فلا ينافي سبق رحمته على عذابه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تقرير لمضمون ما سبق، و تعليل لقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، فإنّ من شؤون الملك هو القدرة التامّة، التي هي من مظاهر قيوميته المطلقة. و قد تقدّم في آية الكرسي من سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

ص: 221

بحوث المقام

بحث أدبي:

الظرف في قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، متعلّق ب (الوسيلة) قدّم عليها للاهتمام، و هي صفة لا مصدر حتّى يمتنع تقدّم معموله عليه، و قيل: متعلّق بالفعل قبله. و قيل: بمحذوف وقع حالا منه. و (لو) في قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ ، خبر (ان) في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، و جوابها ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ . و (مثله) في قوله تعالى: وَ مِثْلَهُ مَعَهُ ، معطوف على (ما) في قوله تعالى:

ما فِي اَلْأَرْضِ ، الذي هو اسم (أن) و (لهم) خبرها. و قيل غير ذلك. و إنّما ذكر (لو) لتهويل الأمر و تفظيع الحال. و (جميعا) توكيد للموصول، أو حال منه. و قال بعضهم: إنّ (الواو) في وَ مِثْلَهُ مَعَهُ بمعنى (مع)، فيتوحّد المرجوع إليه. و قد فصّل الكلام في المقام بما لا تستدعيه الحال، و من شاء فليراجع الكتب المفصّلة.

و لم يذكر عزّ و جلّ الافتداء المفهوم من الكلام، إيذانا بأنّه أمر محقّق الوقوع غني عن الذكر، و للمبالغة في تحقّق الرد. و ذكر بعضهم أنّ الجملة: «ما تقبّل منهم» تتضمّن التمثيل، و يقصد منها تنزيل التفصي عن العذاب منزلة من يكون له ذلك الأمر العظيم و يحاول التخلّص من العذاب فلا يتقبّل منه، و قال بعضهم: إنّه لا يراد منها الاستعارة التمثيليّة، بل إيراد مثال و حكم يفهم منه لزوم العذاب لهم.

و (يريدون) في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ ، ظاهر في المعنى الحقيقي، و قيل: محمول على معنى: يكادون يخرجون منها لقوّتها و شدّة عذابها.

و كيف كان، فإنّ في ذكر هذه الحكمة الدلالة على شدّة الحاجة. و الإتيان بالجملة الاسمية: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ، المصدّرة ب (ما) الدالّة على تأكيد النفي لدخول الباء في خبرها، فيه الدلالة على سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم

ص: 222

منها، فإنّها تدلّ على دوام الثبوت. أما قوله تعالى: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ ، فالقراءة المعروفة فيهما هي الرفع على الابتداء و الخبر محذوف، و التقدير حكمهما، و قيل: الخبر هو جملة (فاقطعوا). و ردّ بأنّ الفاء لا تدخل إلاّ في خبر المبتدأ الموصول بظرف أو مجرور أو جملة صالحة لأداة الشرط. و قرئ بالنصب على تقدير اقطعوا السارق و السارقة... فيكون النصب على الاشتغال. و ردّ بما هو مذكور في الكتب المفصّلة فراجع.

و الجار و المجرور في قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، خبر مقدّم، و مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مبتدأ، و الجملة خبر (أن)، و هي مع ما في حيزها سادة مفعولي (تعلم).

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

تعتبر الآية الشريفة يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، من الآيات المعدودة التي اشتملت على أهمّ المعارف الربوبيّة، و هو علم المبدأ و المعاد، و السبيل الموصل إليه تعالى و الفوز بكرامته في الآخرة، و التوجيهات السامية و الإرشادات القيّمة التي تعدّ المؤمن إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للفوز بالسعادة و الفلاح. فقد احتوت من المعارف على أسماها، و من الكمالات على أعلاها، و من المكارم على أشرفها و أغلاها، و عالجت أهمّ قضية من قضايا المؤمن بأسلوب موجز فصيح. فأمر عزّ و جلّ أوّلا بالتقوى لأنّها أساس كلّ كمال، و أصل التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل، و هي المعدّة لابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و المقتضية لامتثال التكاليف الإلهيّة و الجهاد في سبيله، ثمّ إنّ ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ من أعظم غايات خلق الإنسان، فهو العلّة للدخول في رضوان اللّه تعالى و الفوز بكرامته، و سيأتي في البحث الروائي ما

ص: 223

يدلّ على أنّ الوسيلة هي أعلى درجة في الجنّة، فاجتمعت العلّتان الفاعليّة و الغائيّة في هذا الأمر، و هو يدلّ على أنّه من الأهميّة بمكان عظيم، فإنّ فيه تظهر العبوديّة و تتحقّق الطاعة المطلوبة، و هو الطريق الموصل إلى اللّه تعالى و الصراط المستقيم، و به يستعدّ و يتهيّأ لنيل الفيوضات الربانيّة و الواردات الإلهيّة، و هو الملجأ القويم في التخلّص من مكائد الشيطان و وساوسه، و هو المنجاة من سخط اللّه تعالى و عذابه، و هو الركن الوثيق الذي تركن إليه النفس الإنسانيّة عند تزاحم الصوارف و توارد الهموم و الغموم. و بالجملة: فهو الكمال الذي ينشده الإنسان و يسعى إليه، بل هو الجامع لجملة من الكمالات الواقعيّة.

و لم يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة كيفيّة الابتغاء، و لا خصوصيات الوسيلة، و لعلّ السرّ في ذلك واضح، فإنّ فطرة كلّ مخلوق تدعو إلى التوجّه إلى خالقه و التوسّل إليه بكلّ ما أمكنه من الوسائل و العلل لنيل مقصوده، فكلّما صفت الفطرة و خلصت النية من الشواغل الماديّة و الصوارف الشيطانيّة، كانت الوسيلة أنجح و أدلّ على المطلوب، و قد ذكر في الكتاب و السنّة التأكيد على بعض الوسائل، منها: العبادات، و أعظمها الصلاة التي تنهى عن الفحشاء و المنكر. قال عزّ و جلّ من قائل: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 45].

و منها: الدعاء الذي هو من أعظم الوسائل إليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [سورة الفرقان، الآية: 77]، و في الحديث: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدين، و نور السماوات و الأرض»، و تقدّم في بحث الدعاء ما يتعلّق به.

و منها: الصدقات الواجبة و المندوبة، ماليّة كانت أو غيرها، التي حثّ الشرع المبين و أكّد عليها تأكيدا بليغا. قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 217].

ص: 224

و منها: إقامة الشعائر كالحجّ و زيارة المساجد و القبور و غيرها ممّا ندب إليه الشرع، قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ [سورة الحج، الآية: 32].

و منها: التوسّل بخاتم الأنبياء و المرسلين و ذرّيته الطاهرين عليهم السّلام، و زيارة قبورهم و الاعتناء بشأنهم، فإنّهم مظاهر رحمته و مورد لطفه و عنايته، قال تعالى:

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 64]، و قد ورد في السنّة الشريفة روايات متواترة تدلّ على استحباب زيارتهم و التوسّل بهم إلى اللّه تعالى لقضاء الحاجات و نجح المهمات، من شاء فليراجع الكتب المعدّة لذلك.

و منها: الالتزام بإتيان المندوبات و ترك المكروهات، فإنّها من حمى اللّه تعالى، كما في الحديث.

و منها: ذكر اللّه تعالى، كما ندب إليه القرآن الكريم و السنّة الشريفة، قال تعالى: اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 41]. و من ذكره عزّ و جلّ ذكر النبيّ و الأئمة الطاهرين بالصلاة عليهم و بيان فضائلهم، فإنّ ذكرهم من ذكر اللّه كما ورد في أحاديث كثيرة.

و يمكن القول بأنّ الوسيلة بمعناها الوسيع يشمل كلّ أمر حسن، فإنّ الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، إلاّ ما ورد النهي عنه في الشرع المبين، كعبادة الأوثان و الشرك باللّه تعالى و المحرّمات الشرعيّة.

و منها: التنزيه عمّا حثّ الشارع على تركه، كالمكروهات. و يستفاد من قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، أنّ التقوى و ابتغاء الوسيلة لا يتّمان إلاّ بالجهاد و الصبر على الطاعة أو عن المعصية، و هو محفوف بالمكاره و الصعاب.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، على أنّ الوسيلة التي شرّعها اللّه تعالى للوصول إلى مرضاته و الفوز بكرامته، ما كانت سببا لتزكية النفوس، و ما يعدّ إليها هو العمل المشروع كما عرفت آنفا، و يدلّ على ذلك كلمة

ص: 225

(الابتغاء) الدالّة على التحمّل المكرّر و الجهاد المرير، و ما ذكر من الجزاء الذي أعده لمن يبتغي الوسيلة و هو الفلاح و النجاة.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، على أنّ المجاهدة إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيلة، و أما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد، فيستفاد منه أنّ الجهاد لا بدّ أن يكون بأمر من الإمام المعصوم و تحت إرشاده.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ على أنّ الفلاح هو الغاية القصوى من عمل الإنسان، لأنّه الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة، و لذا نرى أنّه لم يذكره عزّ و جلّ إلاّ بعد بيان جملة من الإرشادات و التعليمات التي تعدّ المؤمن لتلقّي هذا الجزاء العظيم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200] و غيرها من الآيات الكريمة.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ ، أنّ الخلاص من العذاب منحصر في التوسّل بالوسيلة و المجاهدة في سبيله، و أنّ من كفر فلا طريق له إلى الخروج من العذاب و لا منجى له من سخطه عزّ و جلّ و عقابه.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ ، على أنّ الاختيار ثابت في الآخرة أيضا، فلو كان مسلوبا عن الناس يومئذ لما صحّت الإرادة من أهل النار بالخروج منها، فهم يقصدون ذلك و يطلبون المخرج منها، و لكنّهم مقهرون فيها، لأنّه سبقت كلمته عزّ و جلّ أن يعذّب الظالمين بالنار. ففي الحديث: «يقال لأهل الجنّة: لكم خلود و لا موت، و لأهل النّار: يا أهل النّار خلود و لا موت».

السابع:

يدلّ قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ ، على أنّ الحدود التي شرّعها اللّه تعالى في هذه الدنيا إنّما هي جزاء على الأفعال التي اكتسبها الناس، و يطابق الجزاء مع العمل، كما أنّها حدود تربويّة إصلاحيّة لإصلاح النفوس

ص: 226

و تزكيتها و تطهير لهم من الذنب الذي ارتكبوه، فليست هي انتقاما من فرد لصالح أفراد أو مجتمع.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، على تمام قدرته و نفوذ سلطانه في مملكته بأبلغ أسلوب و أتمّ وجه.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ ، على أنّ التوبة في المقام لا بدّ أن يظهر أثرها على المذنب بأن يكون عليه سيماء الصالحين التائبين، و قد تقدّم أنّ الصلاح في كلّ ذنب يناسب ذلك الذنب.

العاشر:

يدلّ قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ، على أنّ العذاب هو الأصل القريب من الإنسان، و إنّما يصرفه عنه الإيمان و التقوى و ابتغاء الوسيلة، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [سورة مريم، الآية: 71 - 72]، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل عمران، الآية: 185].

بحث روائي:
اشارة

في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الوسيلة: «أنّها أعلى درجة في الجنّة».

أقول: يستفاد من الحديث أنّ الوسيلة اسم لأعلى درجة في الجنّة، و لعلّه من باب إطلاق السبب على المسبّب.

و في مجمع البيان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة لا ينالها إلاّ عبد واحد، و أرجوا أن أكون أنا هو».

أقول: بعد ما دلّ على أنّ الوسيلة هي أعلى درجة في الجنّة، فلا تكون إلاّ لمن نال الشرف العظيم و الدرجة الرفيعة و حاز قصب السبق على جميع الأنبياء

ص: 227

و المرسلين، فينحصر في الفرد الواحد و هو خاتم الأنبياء و المرسلين، و يلحق به الأئمة الطاهرون، فإنّهم الوسيلة إلى اللّه تعالى.

و أما طلبه من امّته أن يسألوا اللّه له هذه الدرجة، فإنّما هو لأجل تعليمهم الدعاء و التضرّع لديه عزّ و جلّ ، فإنّه لم ينل أحد الدرجة إلاّ من أفاضها اللّه تعالى عليه.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، قال:

«الأئمة من ولد الحسين من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه، و هم العروة الوثقى و الوسيلة إلى اللّه».

أقول: الروايات في مضمون ذلك متعدّدة، و هي من باب بيان أجلى المصاديق و أهمّها، بل يستفاد من ظاهر الآية الشريفة الآمرة بالتقوى و الجهاد في سبيله أنّ الوسيلة منحصرة فيهم عليهم السّلام، فلا يمكن أن تتحقّق في غيرهم، فإنّ بهم يكمل الإيمان و تتمّ التقوى و يتحقّق الجهاد، و من ذلك يظهر الوجه فيما رواه العياشي عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ، قال: أعداء عليّ عليه السّلام هم المخلّدون في النار أبد الآبدين و دهر الداهرين».

و أما آية السرقة، فهي من آيات الأحكام التي تمسّك بها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة لإثبات أحكام السرقة، و نحن نذكر في المقام الروايات الواردة في السرقة، و المال المسروق، و ما ورد في حدّ السرقة و التوبة منها، و نذكر بقية الأحكام في البحث الفقهيّ إن شاء اللّه تعالى.

ما ورد في السرقة:

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام: «كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه، فهو يقع عليه اسم السارق، و هو عند اللّه السارق».

أقول: ظاهر الحديث أنّ كلّ شيء كان في حرز إذا أخذ منه يعدّ سرقة، و لكنّ في رواية السكوني عن جعفر، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام قال: «كلّ مدخل

ص: 228

يدخل فيه بغير إذن يسرق منه السارق فلا قطع عليه، يعني الحمّام و الأرحية».

أقول: ظاهره أنّ الأخذ من الموضع الذي يحتاج في الدخول إلى الإذن يعدّ سرقة فهو يشمل ما إذا كان في حرز أو لم يكن، فيكون ما ورد في صحيحة محمّد ابن مسلم من باب المثال لكلّ تصرّف يتوقّف على رضا صاحب المال و الإذن منه، و يدلّ على ما ذكرناه ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في من سرق من منزل أبيه فقال: «لا تقطع، لأنّ ابن الرجل لا يحجب من الدخول إلى منزل أبيه، هذا خائن». و كذا ما ورد في من سرق من أخيه و أخته. و في الأجير و الصنف، فإنّه لا قطع عليهم جميعا.

فالمستفاد من جميع ذلك أنّ السرقة التي توجب القطع هي الأخذ من الحرز، أو من موضع لم يكن لغير المتصرّف فيه الدخول إلاّ بإذن صاحبه و حرز كلّ شيء بحسبه، و المسألة مذكورة في الكتب الفقهيّة فراجع.

و من ذلك كلّه يستفاد أنّ السرقة لا بدّ أن تكون سرّا فلا تقع في العلن، و ذكرنا أنّ اشتقاق الكلمة أيضا يدلّ على ذلك.

ما ورد في المال المسروق:

وردت روايات كثيرة على أنّه يعتبر في القطع أن يكون المال المسروق بمقدار ربع دينار.

ففي التهذيب عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: في كم تقطع يد السارق ؟ فقال عليه السّلام: في ربع دينار. قلت له: في درهمين ؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ، قلت: أ رأيت من سرق أقلّ من ربع الدينار، هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ؟ و هل هو عند اللّه سارق في تلك الحال ؟ فقال عليه السّلام: كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه فهو يقع عليه اسم السارق و هو عند اللّه سارق، و لكن لا تقطع إلاّ في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت يد السارق فيما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة الناس مقطعين».

ص: 229

أقول: هذه الرواية حاكمة على جميع أخبار الباب، لأنّها بين النفي و الإثبات، و بمضمونها روايات اخرى من الخاصّة و الجمهور عمل بها المشهور من الفقهاء.

ففي صحيح البخاري و مسلم بإسنادهما عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعدا».

و بإزائها روايات اخرى تدلّ على أقلّ من ذلك أو أكثر، و لكنّها إما محمولة أو مطروحة، كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و يستفاد من صحيحة محمّد بن مسلم أنّ حكم القطع عن الأقلّ ارفاقي و تخفيف من اللّه تعالى، رحمة منه بعباده.

ما ورد في حدّ السرقة:

ذكرنا في آية الوضوء و التيمم أنّ اليد في الإنسان تطلق على ما هو المحدود من أطراف الأصابع إلى الكتف، و تطلق على أبعاض ذلك أيضا، إطلاق اسم الكلّ على الجزء بقرينة خاصّة حاليّة أو مقاليّة، و هذا يجري في آية السرقة أيضا و إن كانت مطلقة، إلاّ أنّ الروايات دلّت على أنّ القطع مقيّد بجزء خاصّ ، و يدلّ على ذلك ما رواه الكليني في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «أنّه سئل عن التيمم، فتلا هذه الآية: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ، و قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، قال: فامسح كفّيك من حيث موضع القطع».

أقول: المستفاد منه أنّ اليد محدود فيهما، و أنّ القطع يقع على جزء من اليد التي يجب غسلها في الوضوء.

و في التهذيب عن إسحاق بن عمّار، عن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «تقطع يد السارق و يترك إبهامه و صدر راحته، و تقطع رجله و يترك عقبه يمشي عليها».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ القطع يقع على أطراف الأصابع.

و في تفسير العياشي عن زرقان صاحب ابن أبي داود و صديقه بشدة قال:

«رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم و هو مغتم فقلت له في ذلك، فقال:

ص: 230

وددت اليوم أنّي قدمت منه عشرين سنة، قلت له: و لم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمّد بن علي بن موسى عليه السّلام اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم، قلت له: و كيف كان ذلك ؟ قال: إنّ سارقا أقرّ على نفسه و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمّد بن علي عليه السّلام، فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قلت: من الكرسوع، لقول اللّه في التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ . و اتّفق معي على ذلك قوم، و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: و ما الدليل على ذلك ؟ قالوا: لأنّه لما قال: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق، قال: فالتفت إلى محمّد بن علي عليه السّلام فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال: دعني بما تكلّموا به، أي شيء عندك ؟ قال:

اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه، فقال: أما إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول: إنّهم أخطئوا السنّة، قال: القطع يجب أن يكون من مفصل اصول الأصابع فيترك الكفّ ، قال: و ما الحجّة في ذلك ؟ قال عليه السّلام:

قول رسول اللّه عليه السّلام: السجود على سبعة أعضاء الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال اللّه تعالى: وَ أَنَّ اَلْمَساجِدَ لِلّهِ يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، فَلا تَدْعُوا مَعَ اَللّهِ أَحَداً و ما كان للّه لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ ، قال ابن أبي داود: قامت قيامتي و تمنّيت أنّي لم أك حيّا. قال زرقان: إنّ ابن أبي داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، و إنّي أكلمه بما أعلم أنّي أدخل به النار. قال: و ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماؤهم لأمر واقع من امور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر المجلس بنوه و قواده و وزراؤه و كتّابه و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه

ص: 231

الامة بإمامته و يدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغيّر لونه و انتبه لما نبّهته له، و قال: جزاك اللّه عن نصيحتك خيرا - الحديث».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، و أنّه لا يمكن الأخذ بإطلاق آية مع الإعراض عن القرائن الاخرى مطلقا، كما يدلّ على أنّه لا يمكن الاستغناء عن المعصوم عليه السّلام في فهم ظواهر الآيات، فإنّهما لن يفترقا. و هناك أقوال اخرى في قطع اليد أغلبها مروية عن العامّة، و أما الخاصّة فاتّفقت كلمتهم على أنّ القطع إنّما يقع على الأصابع فقط، و التفصيل مذكور في الفقه. و الرواية تدلّ أيضا على أنّ الإقرار يوجب القطع، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

سقوط الحدّ بالتوبة:

ذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة تدلّ على سقوط الحدّ عن التائب عن السرقة، و أنه تفضّل من اللّه تعالى عليه. و الروايات و إن دلّت على ذلك أيضا إلاّ أنّها خصّصت ذلك بما إذا كانت التوبة قبل الثبوت عند الحاكم.

فقد روى الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا جاء السارق من قبل نفسه تائبا إلى اللّه تعالى و ردّ سرقته على صاحبها، فلا قطع عليه».

أقول: وردت في مضمون ذلك روايات متعدّدة و قد أخذ بها المشهور (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين). و يدلّ على ذلك أيضا ما ورد من النهي عن تعطيل حدّ من حدود اللّه تعالى، و بإزاء هذه الأخبار بعض الروايات التي تدلّ على أن للإمام العفو، و قد أخذ بها جمع من الفقهاء و خصّ بعضهم بما إذا كان ثبوت السرقة بالإقرار دون ما إذا ثبتت بالبينة، و المسألة مذكورة في كتب الفقه فراجع.

و هناك أقوال اخرى منسوبة إلى غير الإماميّة من شاء فليراجع مظانها.

ص: 232

بحث فقهي:

اشتراط الفقهاء في السرقة التي يترتّب عليها الأحكام المزبورة أمورا:

الأوّل: أن يكون الأخذ سرّا، فلا تقع السرقة علنا و إن كانت حراما و تسمّى سلبا و نهبا، كما عرفت.

الثاني: أن يكون أخذ المال بغير إذن صاحبه، كما عرفت.

الثالث: أن لا يدّعى شبهة محتملة فيه.

الرابع: أن لا يكون أمينا كالمستودع و الأجير و مثلهما الضيف، و أن لا يكون والدا و لا مملوكا، فلو سرق الأب مال ولده أو المملوك من مال سيّده، فلا قطع، و لا مكرها على السرقة.

الخامس: أن يكون المسروق بمقدار ربع دينار، فلا قطع فيما دون ذلك.

و تثبت السرقة بالبينة و الإقرار مرّتين. و هناك فروع مذكورة في الفقه من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

بحث عرفاني:

يعدّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، من الآيات القويمة في السير و السلوك إلى اللّه تعالى، لأنّه يقوي الروابط بين العبد و خالقه و يشدّد على إظهار العبوديّة و يجعل جميع حالات العبد تحت المراقبة و المراعاة، فقد أمر سبحانه بابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ الذي هو من شؤون العبوديّة الحقيقيّة، و أكّد على ذلك بالاهتمام به و اتّخاذه مطلبا حقيقيّا و بغية له، و الإعراض عن غيره عزّ و جلّ ، و لأهمّيّة ذلك في شؤون العبد فقد حفّه تبارك و تعالى بأمرين مهمّين، لهما الأثر العظيم في تحقّقه على الوجه المطلوب و ترتّب الأثر عليه، و هما التقوى، و الجهاد في سبيله تعالى، و لا ريب أنّ

ص: 233

الاستكمال و طلب الزلفى لديه عزّ و جلّ إنّما يصحّ بعد تزكية النفس أوّلا من رذائل الصفات و ذمائم الأخلاق، فإنّها من أقوى الحجب الظلمانيّة المانعة من الكمال و الاستكمال، ثمّ تحلية النفس بالصفات الحميدة و الأخلاق المرضية، ليتحقّق القرب و الاستعداد، و أخيرا أمر عزّ و جلّ بالجهاد في سبيله، فإنّ الوصول إلى تلك المرتبة لا يكون بسهولة و يسر، و إنّما يحتاج إلى جهاد و صبر و مثابرة، و لعلّ الآية الشريفة ترشد إلى أنّ المؤمن لا بدّ له من مراحل ثلاث: شريعة، و حقيقة، و فيض، فإذا تحمّل بالشريعة و توجّه إلى اللّه تعالى بابتغاء الوسيلة، اشتاقت نفسه إلى حضرة الملك و تغلّب عليها الشوق بالتوجّه إليه عزّ و جلّ ، فيشتغل بمجاهدة النفس و محاسبتها، و أوّل المنازل هو ترك الدنيا و العزوف عن زخرفها و زبرجها، ثمّ إسقاط جميع الروابط بمخالفة الهوى و الاشتغال بالتوجّه إليه عزّ و جلّ ، فمن خرق عوائد نفسه تحقّق سيره و وصوله، و يعرف ذلك بحبّ اللّه تعالى و ابتغاء الوسيلة إليه و جعله شغله الشاغل، فإذا جاهد الإنسان نفسه حتّى هذّبها و أظهرها من الحجب و الموانع، رجعت نفسه إلى أصلها، و هو الحضرة التي كانت فيها، فإنّه لم يكن بينها و بين محلّها إلاّ الحجب الظلمانيّة، فإذا تخلّصت عادت إلى محلّها الأرفع، و لعلّ هذا هو الفلاح الذي وعد عزّ و جلّ للسالكين في طريق الحقيقة و السائرين بنور معرفته، فإنّ الروح مهما تطهّرت و صفت من كدرات الحسّ عرجت إلى عالم الجبروت، فلم يحجبها عن خالقها شيء، فالآية الشريفة تبيّن الأثر العظيم لابتغاء الوسيلة، و منها يظهر أنّ المجاهدة إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيلة، و أما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد، و لعلّه لذلك عقّب عزّ و جلّ على ذلك بأنّ الخروج عن تلك التعليمات كفر، و من يتبع غير ذلك السبيل لا يمكنه الوصول إلى تلك المقامات مهما حاول و بذل كلّ ما في وسعه، فإنّه لا يزيده إلاّ بعدا و حجابا (ما تقبّل منهم)، فإنّ القبول إنّما ينحصر طريقه في ما ذكره عزّ و جلّ .

ص: 234

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ (44) وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (45) وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (47) الآيات الشريفة لا تخرج عن الغرض الذي أنزلت هذه السورة المباركة

ص: 235

لأجله، و هو بيان العهود و المواثيق المأخوذة عليه و الإيمان المطلوب منه، و الحثّ على العمل بها و التحذير عن مخالفتها، و قد ذكر عزّ و جلّ فيما سبق السبل الموصلة إلى الحقّ و الطرق المفضية إلى العمل بالشريعة، و اعتبر أنّ من يعرض عنها يكون كافرا منكرا للحقّ ، فلا ينفعه ما يفديه للنجاة من العذاب الأليم الذي أعدّه لنفسه، و في هذه الآيات يذكر تعالى الأصناف الذين زاغوا عن الإيمان و تمادوا في الغي، فأنكروا الحقّ و نكثوا عهود اللّه و مواثيقه، فذكر تعالى المنافقين الذين يؤمنون بأفواههم خوفا أو طمعا و لم تؤمن قلوبهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في آيات اخرى. ثمّ ذكر اليهود الذين كفروا بالحقّ و أعرضوا عن الطاعة و خالفوا أوامر اللّه تعالى، فذكر من صفاتهم ما يدلّ على تماديهم في الغي، منها: أنّهم سماّعون للكذب يتّبعونه و لا يتّبعون الحقّ . و منها: تحريفهم لكلام اللّه تعالى بما تمليه أهواؤهم، و منها:

أكلهم للسحت و ارتكابهم لجميع المحرّمات. و قد حذّرهم عزّ و جلّ و أوعدهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة. ثمّ أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم، فإنّهم قوم لا خلاق لهم، و وعده صلّى اللّه عليه و آله بالنصر، و أمره بالحكم بينهم بالقسط إذا تحاكموا إليه. ثمّ بين عزّ و جلّ حقيقة حالهم بأنّهم كابروا الحقّ بعد ما عرفوه، فلم يحكموك إلاّ بما يكون فيه نفعهم، و قد ردّهم عزّ و جلّ بأنّ عندهم التوراة التي أنزلها اللّه تعالى لهدايتهم، و فيها من الأحكام و المواثيق و التوجيهات التي حكم بها النبيّون و الربانيّون و الأحبار الذين حفظوا حدودها و عملوا بها و كانوا شهداء على صحّتها و عدم تحريفها. ثمّ أمر عزّ و جلّ المؤمنين بعدم الخشية من اليهود الذين نصبوا العداء للحقّ ، و أنّ الخشية إنّما تكون من اللّه تعالى فقط. و أخيرا ذكر تعالى من أحكام التوراة التي دخلت في جميع الشرائع الإلهيّة و اعتبرها الإسلام من القواعد المهمّة في تنظيم النظام. ثمّ ختم تعالى الآيات الشريفة بذكر أهل الإنجيل الذي فيه هدى و نور، و هو المصدق لما ورد في التوراة من الأحكام و الإرشادات الربانيّة و التوجيهات الإلهيّة، فأمرهم سبحانه و تعالى بالعمل بحكم اللّه، و من لم يحكم بما أنزله اللّه تعالى فأولئك هم الفاسقون، و الآيات جميعها تهدف إلى تثبيت أحكام اللّه التي نزلت في سبيل سعادة الإنسان و تنظيم النظام على أحسن ما يرام.

ص: 236

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ .

تسلية للرسول الكريم و تطييب لنفسه الشريفة ممّا لاقاه صلّى اللّه عليه و آله من المنافقين الذين يسارعون في الكفر، و الذين هادوا، و الخطاب بالرسالة فيه غاية التشريف و القرب، و لم يرد مثل هذا الخطاب في القرآن الكريم إلاّ في موردين كلاهما في هذه السورة، أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [سورة المائدة، الآية: 67]، و هو يدلّ على عظمة الأمر و أهميّته عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و له الأثر العميق في نفسه الشريفة، فيكون هذا الخطاب تسلية له، و فيه ما يوجب عدم الحزن و الخوف.

و أما خطاب (يا أيها النبي) فقد ورد في القرآن الكريم ما يزيد على عشرة مواضع.

و في كلا الخطابين التعليم للمؤمنين بمراعاة الأدب في الخطاب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الحزن ضدّ السرور، و هو ألم في النفس يحدث عند فوت ما يحبّ .

و الفعل منه ما يكون متعدّيا بنفسه، يقال: حزنه الأمر. و منه ما يكون متعدّيا ب (على)، يقال: حزن على ولده. و منه ما يكون متعدّيا بالهمزة، يقال: أحزنه موت ولده. و هو مذموم في الشرع المبين، إلاّ ما كان على شيء يوجب القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ ، كما في حزن الرسول صلّى اللّه عليه و آله على الذين يسارعون في الكفر و يصدّون عن الحقّ و الوصول إلى الكمال، و الحزن أمر طبيعي و من لوازم طبيعة الإنسان، فيكون النهي عنه في الشرع نهيا عن اللوازم الاختياريّة المترتّبة عليه، كالجزع الشديد و عدم الرضا بقضاء اللّه تعالى و قدره و نحو ذلك. و النهي عنه لا يستلزم إيجاد مقابله و هو الفرح، فإنّه مذموم أيضا، قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [سورة الحديد، الآية: 23]، إلاّ إذا رجع إلى ما

ص: 237

تفضّل اللّه تعالى به عليهم، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اَللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس، الآية: 58].

و المسارعة هي السير الحثيث و المشية السريعة، و المسارعة إلى الشيء غير المسارعة في الشيء، فإنّ الاولى هي السرعة إليه من الخارج، و أما الثانية فهي السرعة من الداخل. أي: يظهر من الأفعال و الأقوال التمادي في الكفر. فتكون في كلمة (في) الدلالة على أنّهم مستقرّون في الكفر لا يبرحون عنه فينتقلون من صنف من الكفر إلى صنف آخر، فتظهر عليهم موجبات الكفر مرّة بعد اخرى، و في الوصف (يسارعون في الكفر) إشعار بعلّة النهي عن الحزن، أي: أنّ تلك المسارعة هي السبب لحزنه صلّى اللّه عليه و آله. و المعنى: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر، فإنّهم لم يؤمنوا حقيقة، فإذا سنحت لهم الفرصة أظهروا الكفر. و الجملة تدلّ على التسلية بأبلغ وجه، فإنّ النهي عن أسباب الشيء و مباديه نهي عنه و قطع له عن أصله، فليس المراد منه نهي الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما النهي للكفّ عن أن يحزنوه بمسارعتهم في الكفر، و تسلية له صلّى اللّه عليه و آله بعدم تأثيرهم عليه فإنّه الرسول المؤيّد و المنصور المسدّد.

قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ .

بيان للذين يسارعون في الكفر، فإنّ مسارعتهم فيه إنّما هو لأجل عدم الإيمان حقيقة، بل آمنوا بألسنتهم دون أن تؤمن قلوبهم، و هذه أوصاف المنافقين الذين عانى منهم الأنبياء (سلام اللّه عليهم أجمعين) أشدّ معاناة، و كان حزنه صلّى اللّه عليه و آله منهم شديدا، لأنّ ضررهم على الإيمان و أهله كبير و عظيم.

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا .

عطف على قوله: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا ، فيكون المسارعون في الكفر على قسمين: المنافقين، و اليهود، و على هذا فقوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم سماّعون، و ذكر بعض المفسّرين أنّ الجملة وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا جملة مستأنفة تقديرها: «و من الذين هادوا قوم سماّعون للكذب...».

ص: 238

و الظاهر من السياق هو الوجه الأوّل، فإنّ الصفات التي يذكرها عزّ و جلّ فيما يأتي هي لبيان حال الطائفة الثانية من المسارعين في الكفر، و أما المنافقون المذكورون في صدر الآية، فإنّ حالهم لا توافق هذه الأوصاف و إن كان بعضها توافقهم. لكنّ العبرة بظاهر اللفظ، و المنساق منه هو ما ذكرناه.

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ .

بيان لحال الذين هادوا بذكر أوصافهم، و الجملة خبر لمبتدأ محذوف، أي:

هم سماّعون، و اللام إما للتقوية كما في قوله تعالى: فَعّالٌ لِما يُرِيدُ . أو للتعليل، أي: سماّعون الكلام ليكذبوا عليك.

و المعنى: أنّهم يكثرون من سماع الكذب، مع العلم بأنّه كذب، و من داوم على سماعه كان كاذبا. و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سماّعون للكذب فيك، كما يحتمل أن يكون المراد منه. سماّعون كلامك ليكذبوا عليك، و قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قرينة على الثاني، و لعلّ حذف المتعلّق يشمل الجميع، فإنّهم ما رسوا كلا الكذبين.

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ .

أي: كثير السماع سماع قبول و طاعة لقوم آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك إما خوفا أو إفراطا في البغضاء. و يحتمل أن يكون المراد منه سماّعون منك لأجلهم، و للإنهاء إليهم، و كلاهما محتمل فيهم، فإنّهم قوم توغّلوا في البغضاء و العداء للحقّ و أهله و لشخص الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من الكتاب العزيز.

قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ .

صفة اخرى لهم، و قد ذكرها عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم بأساليب مختلفة حتّى عرف اليهود بأنّهم أهل التحريف.

و المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، أي: من بعد استقرار الكلم في المواضع التي وضعها اللّه تعالى فيها، و هو يدلّ على زيادة في التشنيع.

ص: 239

و إطلاق التحريف يشمل اللفظيّ منه، أي: تغيير الألفاظ و تبديل الكلام و هو يشمل الكتمان أيضا، و المعنويّ بالتفسير بالباطل و التأويل الفاسد و حمل الكلام على غير المراد و نحو ذلك. و قد ذكرنا ما يتعلّق به في غير المقام فراجع.

قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .

في الآية الشريفة إشارة إلى واقعة ابتلى اليهود بها فحكم فيهم حكامهم بغير ما أنزله اللّه تعالى، فأرسلوا طائفة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله لتحكيمه في تلك الواقعة، فقالوا لهم: إنّ حكم صلّى اللّه عليه و آله بما أفتى به حكامهم المحرّفون فليأخذوه، و إنّ حكم بغير ذلك فليحذروا من قبوله.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

الفتنة الاختبار، و الجملة معترضة لبيان أنّهم في حال الاختبار في دينهم و مفتونون بفتنة إلهيّة لإظهار حالهم في الكفر و الضلال، تطييبا لنفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ الأمر يرجع منه و إليه تعالى، فإنّك لن تستطيع أن تغيّر شيئا إذا أراد اللّه تعالى ذلك، فلا موجب للتحزّن فيما لا تملك فيه سلطانا.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ .

أي: أنّهم بلغوا في الغي و الضلال مبلغا لم تتعلّق إرادة اللّه تعالى أن يطهّر قلوبهم من الكفر و النفاق و الخبث و الضلالة، فهي باقية على قذارتها و ختم عليها بالكفر. و إنّ من سنّته تعالى أن لا يطهّر قلب من تكرّر منه العصيان، و انغمس في الكيد و الضلال، فأضلّهم اللّه و ما يضلّ به إلاّ الفاسقين.

قوله تعالى: لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ .

توعيد لهم جزاء على أفعالهم الشنيعة، فقد أذلّهم اللّه تعالى في الدنيا، و كتب عليهم الجلاء من ديارهم و أظهر كذبهم و كفر المنافقين، و أثبت الخوف في قلوبهم من المؤمنين. و أما في الآخرة فإنّ لهم العذاب العظيم الذي لا يعرف كنهه و أمره إلاّ اللّه تعالى. و الضمير في (لهم) يرجع إلى كلتا الطائفتين اليهود و المنافقين. و قيل:

لليهود خاصّة، و التكرير مع اتّحاد المرجع لزيادة التقرير و التأكيد.

ص: 240

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ .

تعليل لثبوت العذاب لهم، و الإعادة إما تأكيدا، أو تقريرا، أو تمهيدا لما سيأتي، أو اهتماما بشأن هذه الأوصاف و التأثير على النفس ليعرف المخاطب آثارها الوخيمة، فيتصدّى لإصلاح حاله، و الأوصاف التي يذكرها عزّ و جلّ هي لمجموع القوم من حيث هو، و قد يختصّ بعضهم ببعض الأوصاف، فإنّ قوله سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ وصف لليهود الموجودين حين البعثة، الذين وصفهم عزّ و جلّ فيما سبق، و التابعين لهم باعتبار تقليدهم لآبائهم، فإنّ ذلك سماع للكذب أيضا، فإنّ اليهود سماّعون للكذب بجميع معانيه من حيث الكذب على الحقّ ، و الكذب على المؤمنين، و كذب بعضهم على بعض و تقليدهم للسلف كذبا و زورا.

قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ .

وصف آخر قد يكون لبعض القوم إن كان المراد من السحت الرشوة، فإنّها كانت منتشرة في طبقة خاصّة من أحبارهم و علمائهم كما حكى عزّ و جلّ في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، و إن كان المراد من السحت مطلق الحرام، فإنّ الوصف يكون لعامّة القوم لما ذكره عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن العظيم من أنّهم هتكوا حرمات اللّه تعالى و تعاطوا المنكرات و استحلّوا المحرّمات، و تدلّ عليه صيغة المبالغة (أكّالون)، و قد سبق في سورة النساء بعض أوصافهم فراجع.

و مادة (سحت) تدلّ على الشدّة و الهلاك. يقال: سحت الشيء يسحته، قشره قليلا قليلا، أي: استأصله. و منه الحرام، لأنّه يذهب بالطاعات و يستأصلها فيسحت دين المرء و مروءته. و منه السحت (بالفتح) لشدّة الأكل و الشرب.

و أسحت الشيء استأصله، قال تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [سورة طه، الآية:

61]، أي: يستأصلكم بعذاب. فإذا كان السحت يشمل الحرام و الكسب المحرّم، فيكون له مصاديق متعدّدة. و لعلّ ما ورد في الحديث أنّ للسحت أنواعا كثيرة مأخوذ من هذه الآيات الشريفة، ففي الخبر: «كلّ شيء غل من الإمام، فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر، و ثمن

ص: 241

الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البينة - أي بعد التحريم - فأما الرشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله»، و سيأتي نقل بعض الروايات في البحث الروائي إن شاء اللّه تعالى.

و إطلاق الآية يشمل كلّ أنواع المحرّمات التي ارتكبها اليهود، فإنّهم نقضوا العهود و المواثيق و هتكوا حرمات اللّه تعالى. و قد أخبر عزّ و جلّ عن جملة منها في عدّة مواضع، و من أعظم ما ارتكبه أحبار اليهود و رؤساؤهم الرشوة في الحكم، التي أخبر بها عزّ و جلّ في قوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 188].

قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ .

تفريع على ما سبق، أي: إذا كان حالهم كما عرفت، فإن جاءك اليهود للتحكيم بينهم، فأنت مخيّر بين أن تحكم بينهم أو تعرض عنهم، و من المعلوم أنّ التخيير إنّما يتّبع المصالح التي يراها صلّى اللّه عليه و آله.

و الخطاب و إن كان مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أنّ الحكم فيه عامّ لجميع حكّام الشرع المبين.

و لعلّ ما ورد عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله مأخوذ من هذه الآية الشريفة، قال عليه السّلام: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم و إن شاء تركهم»، و ثبوت التخيير له صلّى اللّه عليه و آله لا ينافي الحكم بينهم بما أنزل اللّه، كما في قوله تعالى: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، فإنّه يدلّ على أنّه إذا اختار الحكم بينهم، فلا بدّ أن يكون الحكم بما أنزل اللّه تعالى من القسط، لا أن يكون بما هو الموجود عندهم.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً .

تفصيل بعد إجمال و بيان لحال الأمرين، و فيه تضمين لرسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله من أي ضرر يحتمل أن يصيبه من قبلهم، كما أنّ فيه التقرير للتخيير المزبور بأنّه ليس

ص: 242

عليه صلّى اللّه عليه و آله ضرر لو أعرض عنهم و ترك الحكم فيهم، فإنّ اللّه تعالى يعصمه منهم، و فيه التنبيه على أنّه لا يكون حكمك عن خوف منهم و لا استمالة لهم.

قوله تعالى: وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ .

بيان لحال الأمر الثاني و يتضمّن التعليل أيضا. أي: و إن اخترت الحكم فإنّه ينبغي أن يكون الحكم بينهم بالعدل الذي أمر اللّه تعالى به، لا بما يبغون، فإنّ اللّه لا يرضى أن يجري بينهم إلاّ حكمه، فإما أن تعرض فلن يضرّوك و إن ساءهم إعراضك، و إما أن تحكم بالقسط، و قد تقدّم معنى القسط في سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ .

تعجيب من اللّه تعالى لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله من حالهم، فإنّهم امّة ذات كتاب و شريعة، فكيف يرغبون عنهما و يتحاكمون إلى نبيّ هم منكرون لنبوّته و كتابه و شريعته، و الآية الشريفة تشير إلى أنّ ذلك التحكيم له من عندهم لم يكن لمعرفة الحقّ و تطبيق العدل، و إنّما هو لتضعيف منزلة الرسول الكريم و طلب الأهون و إن لم يكن حكم اللّه تعالى.

قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ .

أي: كيف يحكمونك و عندهم ما فيه الحقّ الذي يغني عن التحكيم ثمّ يتولّون عنه من بعد ذلك التحكيم و بيان حكم اللّه في الواقعة، و في الآية التأكيد على الاستبعاد و التعجّب. و من ذلك يعرف أنّ المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أي: من بعد بيان حكم اللّه تعالى الموافق لكتابهم.

قوله تعالى: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ .

تقرير لما سبق، و حذف المتعلّق يدلّ على العموم، أي فما هم بالمؤمنين لكتابهم لإعراضهم عنه، و لا بك لأنّهم لم يرتضوا بحكمك الذي وافق ما في التوراة أيضا.

و الإتيان باسم الإشارة (أولئك) قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح، و لبيان العلّة بأنّهم تميّزوا عن غيرهم أكمل تمييز حتّى انتظموا في سلك المشاهدة.

ص: 243

و قيل: إنّه إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود بأنّهم لا يؤمنون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بحكمه أصلا، و لا فرق بينهما.

قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ .

جملة مستأنفة تتضمّن التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و لبيان فظاعة حالهم ببيان علوّ شأن التوراة بأحسن وجه.

و هذه الآية و ما بعدها تدلان على أنّ لكلّ امّة من الأمم الماضية شرائع و أحكاما أودعها عزّ و جلّ في كتب أنزلها إليهم، ليهتدوا بهداها و يستضيئوا بنورها، فيرشدوا إلى طريق الحقّ و يكتسبوا سعادة الدنيا و الآخرة، و أمر أنبياءه العظام أن يتحفّظوا عليها من التغيير و التبديل، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه و يحكموا بها فيما شجر بينهم و يخافوا اللّه فيها و لا يخشوا غيره، و أكّد على ذلك بأنواع التأكيدات و أخذ عليهم المواثيق و العهود و حذّرهم من اتّباع الهوى و متابعة الشيطان.

و المعنى: إنّا أنزلنا التوراة فيها من الهداية التي يهتدى بها و النور الذي يستبصر به في ظلمات الجهل و الضلالة، و من المعارف و الأحكام و الإرشادات و التوجيهات. و الآية و إن دلّت على أنّ التوراة فيها الهداية و النور، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 145]، لكنّها بالنسبة إلى القرآن الكريم فهي جزئي من جزئياته، فإنّه المهيمن على الكتب الإلهيّة و الجامع لجميع المعارف و الأحكام و يقتضيه السير الاستكمالي للإنسان.

قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا .

جملة مستأنفة تبيّن فضل التوراة و سموّ رتبتها، فإنّ فيها من المعارف و الأحكام ما يمكن أن يحكم بها النبيّون الذين انقادوا للّه تعالى و استسلموا لأمره، فلا يستنكفون عن قبول شيء من أحكامه و شرائعه. و الجملة تدلّ على عظم شأن النبيّين و التنويه بفضل هذه الصفة، فإنّ الإسلام من أشرف الأوصاف لأنّه ينبئ عن معرفة اللّه تعالى و الإخلاص له و طاعته و الاستسلام لأمره بانقياد تامّ ،

ص: 244

و الإسلام دين اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]. فهو دين جميع الأنبياء، و أنّه الدين الواحد الذي يجمع جميع الأديان الإلهيّة، و فيه التعريض باليهود بأنّهم بمعزل عن الإسلام و دين اللّه تعالى.

و اللام في (للذين) للاختصاص، أي: يحكمون لأجلهم و بما يرجع نفعه إليهم، فهم المستفيدون من تلك الأحكام، لأنّها نزلت في سبيل سعادتهم سواء أ كانت تلك الأحكام لهم أم عليهم، و فيه التعريض بهم أيضا بأنّهم أعرضوا عمّا هو نافع لهم.

و لا تختصّ الآية الشريفة بأنبياء بني إسرائيل، فإنّ في التوراة أحكاما إلهيّة لا تقتصر على امّة واحدة، و إنّ القرآن العظيم مصدق لها كما نطق به التنزيل غير موضع.

قوله تعالى: وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ .

الربّانيون: أي المنسوبون إلى الربّ ، و هم العلماء المنقطعون إلى اللّه تعالى العرفاء به علما و عملا، الذين لهم شأن في تربية الناس بالتربية الربّانيّة. و في الحديث المعروف عن علي عليه السّلام: «أنا ربّانيّ هذه الامّة»، أي: مربّيهم تربية إلهيّة.

و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 146].

و مادة (حبر) تدلّ على الجمال و الزينة، و يقال: شعر محبّر، أي: مزيّن بنكت البلاغة. و ثوب محبّر، أي: منقش بالنقوش، و منها الحبرة، أي: البردة، و هي ثوب ذو خطوط بألوان متعدّدة.

و الأحبار جمع الحبر (بفتح الحاء و كسرها). و المراد بهم العلماء العاملون الذين يحكمون بما أمرهم اللّه تعالى، و ظاهر الآية الشريفة أنّ الربانيين هم الأئمة عليهم السّلام دون الأنبياء المبعوثين الذين يربّون الناس بعلمهم، و الأحبار دون الربّانيين، و يدلّ عليه بعض الأخبار.

قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ .

تعظيم لشأنهم، و الضمير يرجع إلى (الربّانيون و الأحبار)، أي: بالذي

ص: 245

استحفظوه من كتاب اللّه تعالى. و المراد به التحفّظ العملي عن ظهر القلب، يقال:

حفظ فلان حرمة زيد، أي: عمل فيه بما هو وظيفة احترامه، و منه قولهم: «يحفظ الرجل في ولده». و إنّما ذكر عزّ و جلّ : «استحفظوا» دون حفظوا أو حملوا و نحو ذلك، باعتبار أنّهم حفظوها بالعمل بما ورد فيها من الأحكام، و حفظوها بالتبين، و حفظوها من التغيير و التبديل، فكانوا أمناء على التوراة.

قوله تعالى: وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ .

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّهم لما أمروا بحفظ التوراة فكانوا أمناء اللّه تعالى عليها، فلا ريب أنّهم شهداء على كتاب اللّه، بل تعتبر الشهادة من شؤون الحفظ المأمور به. و يمكن أن تكون الآية تأكيدا على ما سبق، يعني: أنّهم مضافا إلى عملهم بكتاب اللّه تعالى يشهدون أنّ هذا تكليفهم أيضا.

و كيف كان، فإنّ في الكلام تعريضا للذين هادوا في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّهم خرجوا عن أهليّة حفظ التوراة و الشهادة عليها، و قد ذكر المفسّرون في الآية وجوها يبطلها السياق.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ .

تفريع على ما سبق، أي: لما كانت التوراة منزلة من اللّه تعالى و مشتملة على الهداية و النور، و شريعة يقضي بها النبيّون و الربّانيون و الأحبار، و قد أخذ منهم الميثاق على حفظها، فاعملوا بها كما عمل السلف، و لا تكتموا شيئا من أحكامها بأن تحرّفوها أو تعدلوا عنها خشية النّاس و خوفا منهم. و عموم الآية الشريفة يشمل جميع المخاطبين الحكّام و غيرهم من المسلمين و غيرهم، فلا بدّ أن تكون خشيتهم من اللّه تعالى بالوفاء بعهده و ميثاقه و العمل بشرائعه، لا أن تكون الخشية من الناس، و قد تقدّم الكلام في مثل هذه الآية في أوّل هذه السورة فراجع.

قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً .

أي: و لا تستبدلوا حكما من أحكام اللّه تعالى طمعا بمال أو جاه دنيويّ

ص: 246

و غيرهما من الحظوظ الدنيويّة، فإنّها قليلة و مسترذلة مهما بلغت من الكثرة بالنسبة إلى ما فاتهم بمخالفة الأمر و الحكم الإلهيّ ، و قد تقدّم مثل هذه الآية الشريفة في سورة البقرة أيضا فراجع.

و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ متفرّعة على قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ، بتقريب أنّ الآية تدلّ على أخذ العهد و الميثاق منهم على الحفظ و العمل، و أشهدهم عليه بأن لا يغيّروه فلا يخشوا في إظهاره غيره تعالى و تقدّس، و لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، و استشهد على ذلك بآيات اخرى، كقوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [سورة آل عمران، الآية: 187]، و قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ اَلْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة الأعراف، الآية:

170]، و هذا المعنى و إن كان صحيحا إلاّ أنّ عموم الآية يشمل اليهود و غيرهم، فإنّ اللّه قد أخذ من الجميع العهد على العمل بأحكامه و تشريعاته إلاّ ما أذن بتركه. و قد بيّن تعالى أنّ التوراة فيها الهداية و النور و قد عمل بها النبيّون و الربّانيون و الأحبار، و أمرهم بحفظها، فالمناط الموجود في اليهود موجود في غيرهم أيضا، و يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ .

تقرير لما سبق و تأكيد له و تشديد في الأمر بأبلغ وجه، أي: كلّ من رغب عن حكم اللّه تعالى اتّباعا لهواه، فأولئك هم الكافرون، لأنّه لم يصدق بما أنزله اللّه تعالى، فيكون ذلك كفرا. و في الآية أشدّ التحذير عن الإخلال بما أنزله اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ .

بيان لبعض ما فرضه اللّه تعالى في التوراة قد بقيت هذه الكتابة عليهم

ص: 247

و قرّرتها الشرائع الإلهيّة الاخرى، و كانت خاتمتها الشريعة الإسلاميّة التي جعلت هذا الفرض قانونا إلهيّا بأبهى صورة و أبلغ تعبير في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 179]، و قد اعتبر أحسن تشريع في هذا الموضوع، حيث اهتمّ بجميع الجوانب المرتبطة به، و تقدّم البحث فيه في سورة البقرة فراجع.

و الجملة عطف على قوله تعالى: أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ ، و المراد بها بيان حكم القصاص في جميع أقسام الجنايات، من القتل و القطع و الجرح و غيرها. أما القتل، ففي قوله تعالى: أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، أي: أنّ النفس تعادل بالنفس و تقتل بها عند القصاص منها، و إطلاق الآية يشمل الحرّ و العبد، و لعلّه كان في شريعة موسى عليه السّلام كذلك، و أما في الشريعة الإسلاميّة، فالحرّ و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.

بيان لاختيار المجنيّ عليه أو وليّه في إعمال حقّه أو العفو عنه، و قدّم الثاني

ص: 248

ترغيبا إلى العفو و حثّا على الصدقة، فتكون الآية نظير قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [سورة البقرة، الآية: 178].

و المعنى: فمن تصدّق بما ثبت له من حقّ القصاص بالعفو عن الجاني، فهو - أي: العفو - كفّارة لذنوب المتصدّق، و اللّه يعفو عنه كما عفا هو عن الجاني، ففي الحديث عن الصادق عليه السّلام: «يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»، و في النبويّ : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه، إلاّ رفعه اللّه به درجة و حطّ عنه به خطيئته». و يمكن أن يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أنّ العفو ممّن ثبت له الحقّ كفّارة عن الجاني في جنايته أيضا عند اللّه تعالى، و إن لم تسقط عنه الكفّارة ظاهرا، و لا بأس به.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

بيان للفرد الآخر ممّا يحقّ للمجنيّ عليه أو وليّه، و هو عدم التصدّق بما ثبت له من الحقّ ، أي: فإن لم يتصدّق فليحكم بما أنزل اللّه تعالى و لا يتعدّاه، فإنّ من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد جملة كثيرة ممّا قيل في تفسير هذه الآية الشريفة.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ : هُمُ اَلظّالِمُونَ ، و في السابق: هُمُ اَلْكافِرُونَ ، لأنّ الآية الاولى وردت لبيان عدم تصديقهم بما أنزله اللّه تعالى، و هو يستلزم الكفر، و في المقام إنّما كان إعراضا في التطبيق على الوجه الذي أنزله اللّه اتّباعا للهوى بعد التصديق به، فكان ظلما و ذنبا كبيرا.

قوله تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ .

بيان لبعض أحكام الإنجيل أثر بيان أحكام التوراة. و في الآية الدلالة على أنّ عيسى بن مريم عليه السّلام سلك نفس المسلك الذي سار عليه الأنبياء و الربّانيون و الأحبار، في الدعوة إلى اللّه تعالى و الإسلام له و التسليم بشرائعه و تعليماته.

و مادة (قفي) تدلّ على الاتّباع، مأخوذة من القفا، و هو مؤخر العنق، و تأتي متعدّية بنفسها، نحو: قفا فلان أثر فلان، إذا تبعه، و بالباء إلى المفعول الثاني مثل:

ص: 249

قفيته بفلان إذا اتبعته إيّاه، و تستعمل في المحسوس و غيره. يقال: فلان يقفي آباءه و أشياخه، أي: يتلوهم و يسير على طريقتهم.

و الآثار: جمع الأثر و هو ما يحصل من الشيء، ممّا يدلّ عليه، و قد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة، و غلب استعمالها في الشكل الحاصل من القدم.

و المعنى: و بعثنا عيسى بن مريم عليه السّلام بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بما أنزل اللّه تعالى في التوراة، متبعا لآثارهم و جاريا على سنّتهم.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

جملة حاليّة من عيسى بن مريم تبيّن ما ورد في الجملة السابقة، و تشير إلى منزلة هذا النبيّ العظيم، و أنّ دعوته هي دعوة موسى عليه السّلام و العمل بما ورد في التوراة من الأحكام.

قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ .

أي: أعطيناه الإنجيل، و قد وصف سبحانه و تعالى الإنجيل بأوصاف ثلاثة:

الأوّل: أنّه كتاب بشريّ ، فإنّ الإنجيل يأتي بمعنى البشارة، و قد احتوى على جملة من التشريعات و الحكم و الآداب و المواعظ التي تهدي العامل بها إلى السعادة و الكمال المنشودين و يبشّره بالنعيم الدائم، و لم يبيّن عزّ و جلّ خصوصيات الإنجيل بالنسبة إلى غيره من الكتب الإلهيّة، فإنّه تعالى قال في حقّ التوراة: قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 144]. و أما القرآن فقد فصّل القول فيه، لأنّه المهيمن على الكتب كلّها. و الآيات النازلة في حقّه المفصّلة لخصوصياته و شؤونه و كيفيّة نزوله كثيرة مذكورة في مواضع متفرّقة منه.

و يستفاد من جملة (آتيناه) أنّه تعالى أعطاه هذا الكتاب دفعة واحدة.

و الإنجيل بكسر الهمزة و هو اسم أعجمي.

الثاني: أنّ فيه الهداية و النور، أي: يشتمل على ما يهدي من الزيغ و الضلال، و نور يبصر به طالب الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى ذلك بالنسبة إلى التوراة

ص: 250

أيضا، فإنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في ذلك. و الظاهر أنّ المراد من الهداية هي تلك المعارف التي تهدي إلى الاعتقاد الصحيح و الإيمان الحقّ . و النور هو تلك التشريعات التي تهدي إلى تعيين الحقّ في مجال العمل، و كلاهما يشترك في تعيين الصراط المستقيم و تمييزه عن السبل الباطلة.

قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

وصف ثالث للإنجيل بأنّه مصدّق لما ورد في التوراة من أحكام اللّه تعالى.

و يستفاد منه أنّ شريعة عيسى عليه السّلام لم تكن إلاّ امتدادا لشريعة موسى عليه السّلام، و أنّ الإنجيل تابع للتوراة و يدعو إليها إلاّ ما استثنى، على ما حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 50]. و من ذلك يظهر أنّه ليس من التكرار المؤكّد، بل الآية الاولى وصف لنفس الرسول عيسى بن مريم عليهما السّلام، فإنّه مصدّق لما جاء به من قبل موسى عليه السّلام، و الثانية وصف للإنجيل، فإنّ ما جاء فيه إمضاء لما جاء في التوراة، فتكون شريعتهما واحدة إلاّ ما ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

بعد بيان اشتراك الإنجيل مع التوراة في كونها هدى و نورا، ذكر عزّ و جلّ ما يتميّز به الإنجيل، و هو كونه هدى يهتدي به المتّقون في استكمال نفوسهم و تزيينها بالفضائل و مكارم الأخلاق، فإنّ أكثر ما ورد في الإنجيل هو من المواعظ و الحكم، فيكون قوله تعالى: مَوْعِظَةً عطف تفسيريّ لقوله: هُدىً ، و لذا كانت شريعة موسى عليه السّلام تأسيسيّة مشتملة على دستور في الحياة و منهج عمليّ للإنسان.

و أما شريعة عيسى عليه السّلام، فهي شريعة إمضائية تقريريّة إصلاحية أكثر اهتمامها بإصلاح النفوس من مفاسد الأخلاق بسبب انتشار الفساد الأخلاقي في اليهود، كما حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، و بهذا يتميّز أهل الإنجيل عن غيرهم. و ممّا ذكر عزّ و جلّ المتّقين لأنّهم هم الذين يؤثّر الوعظ فيهم، فيكون الوعظ وعظا لهم دون غيرهم.

ص: 251

قوله تعالى: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ .

أي: أنّ أهل الإنجيل لما علموا بأنّ ما ورد فيه هو من اللّه تعالى، فلا بدّ أن يذعنوا به، و يستسلموا لأحكامه تسليم إذعان و طاعة، و من جملة ما يجب الإذعان به هو الإيمان برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و الطاعة له.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

تشديد في الأمر و تأكيد في الحكم بما أنزل اللّه، و الفسق هو الخروج عن طريق الشرع المبين و العقل، أي: أنّ أهل الإنجيل إذا لم يحكموا بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون، لأنّهم حرّفوا دين اللّه و خرجوا عمّا أمره عزّ و جلّ بالاعتقاد بالوحدانيّة و العمل بشريعة موسى عليه السّلام، فهم بدّلوا ذلك و أسّسوا لهم دينا مستقلا، و اعتقدوا التثليث و نبذوا الوحدانيّة المأمور بها، ففسقوا عن أمر ربّهم.

و الآيات مطلقة لا تختصّ بقوم أو طائفة معينة، و هي تشمل جميع صور الحكم التي هي أربع:

الاولى: ما إذا علم بما أنزل اللّه و لكنّه أعرض عنه و عانده، فهذا كافر و يدخل في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ .

الثانية: ما إذا علم بما أنزل اللّه و لكنّه ردّه بأن غيّره أو بدّله، و هذا ظلم يدخل في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

الثالثة: ما إذا لم يعلم بما أنزل اللّه تعالى و حكم به، فهذا هو الفسق و يدخل تحت قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

الرابعة: ما إذا علم بما أنزل اللّه تعالى و حكم به فهو الحقّ ، و يدلّ عليه قوله تعالى فيما يأتي: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ [سورة المائدة، الآية: 48].

و الصورتان الاولى و الثانية يتّصف بهما اليهود، كما عرفت. و أما الثالثة فيتّصف بها النصارى، فإنّهم خرجوا عن دين اللّه بما أوّله المتأوّلون، فاشتبه الأمر عليهم. و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من تقسيم القضاة إلى أربعة مأخوذ من

ص: 252

هذه الآيات الشريفة، و هي مطلقة لا تختصّ بالقضاء، فتشمل التكوينيّات و التشريعيّات، كما لا تختصّ بالحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى، بل يشمل عدم الحكم بما أنزله اللّه تعالى أيضا. و ممّا ذكرنا يظهر السرّ فيما ورد عنهم عليهم السّلام في القضاء: «لا يجلس فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقي»، و قد اختلف المفسّرون في تفسير الآيات السابقة، و أنت في غنى عن بيان ضعف كثير ممّا ذكروه بعد ما عرفت.

بحوث المقام

بحث أدبي:

جملة: «و لم تؤمن قلوبهم»، حال من ضمير (قالوا). و قيل: إنّها عطف على (قالوا)، و أما قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا ، فهو عطف على قوله: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا ، و قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سماّعون، و ذكرنا ما يتعلّق بالضمير في التفسير فراجع. و اللام في قوله: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ للتقوية، و قيل: لتضمين السماع معنى القبول. و منه: «سمع اللّه لمن حمده»، أن تقبّل منه حمده.

و اعترض على ذلك بوجوه. و قيل: إنّ اللام للعلّة و المفعول محذوف، أي:

سماّعون كلامك ليكذبوا عليك. و الأمر سهل بعد وضوح المعنى و تلازم الوجوه، فإنّ الجملة جارية مجرى التعليل للنهي. و الكلام في (اللام) في قوله تعالى:

سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، نفس الكلام في (اللام) السابقة. و (آخرين) صفة ل (قوم)، و جملة: (لم يأتوك) صفة اخرى، و قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، صفة ثالثة ل (قوم)، و إتيان الفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو و المكابرة و الاجتراء على اللّه تعالى.

ص: 253

و قيل: الجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب. و قيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم. و ذكر (بعد) للتنبيه على معرفة مواضع الحقّ و تحريفه. و (شيئا) في قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، مفعول به ل (تملك)، و قيل: إنّه مفعول مطلق. و تنكير (خزي) في قوله تعالى لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ للتفخيم، و هو مبتدأ و لَهُمْ خبره، و فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ متعلّق بما يتعلّق به الخبر من الاستقرار.

و قوله تعالى: وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ، الواو للحال و جملة: (عندهم التوراة) مبتدأ و خبر، و جملة: (فيها حكم اللّه) حال من التوراة. و (حكم) مرفوع على الفاعليّة بالجارّ و المجرور، أي: كائنا فيها حكم اللّه، و قيل غير ذلك. و جملة:

فِيها هُدىً وَ نُورٌ اسميّة (فيها) خبر مقدّم و (هدى) مبتدأ، و الجملة حال من التوراة، و كذا جملة: «يحكم بها النبيّون». و قوله تعالى: اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيّين على سبيل المدح.

و استشكل بعضهم بأنّ المدح إنّما يتحقّق بالصفات الخاصّة التي يتميّز بها الممدوح، و الإسلام أمر عامّ . و يردّ بأنّ الإسلام على درجات، فما اختصّ به النبيّون غير ما هو الموجود عند غيرهم، مضافا إلى أنّ الصفة قد تذكر لتعظيم نفسها، و أنّ المتّصف بها عظيم الشأن و القدر. و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

و أما قوله تعالى: وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ... ، فالمعروف أنّه على النصب عطفا على النفس. و قرئ (العين)، و ما عطف عليها بالرفع باعتبار أنّها جمل معطوفة على جملة: أَنَّ اَلنَّفْسَ من حيث اللفظ، و قيل غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المفصّلة.

و النفس إن أريد منها الإنسان بعينه فهو مذكر، و لذا يقال: ثلاثة أنفس، على معنى ثلاثة أشخاص. و إن أريد بها الروح، فهي مؤنّثة لا غير و تصغيرها على (نفيسة).

و أما العين بمعنى الجارحة المخصوصة، فهي مؤنّثة، و أشكل على إطلاق هذا القول، و الاذن مثلها. و الأنف مذكّر و السنّ مؤنّثة و لا تذكّر. و القاعدة المعروفة في

ص: 254

أعضاء الإنسان: أنّ ما منها اثنان في البدن كاليد و الضلع و الرجل فمؤنّث، و ما منها واحد كالرأس و الفم و البطن فمذكّر. و لكنّها غير مطردة، فإنّ الحاجب و الصدغ و الخدّ و المرفق و الزند كلّ منهما مذكّر، مع أنّ الموجود منها في البدن اثنان. و الكبد و الكرش مؤنّثان و ليس منهما في البدن إلاّ واحد، و نظم بعض الشعراء هذا الخلاف في قوله:

و هاك من الأعضاء ما قد عدّدته *** تؤنّث أحيانا و حينا تذكّر

لسان الفتى و الإبط و العنق و القفا و عاتقه و المتن و الضرس يذكر

و ألحق بعضهم بما ذكر الذراع و الكراع و المعي و العجز، و بعضهم ذهب إلى تأنيث الذراع لا غير، و التفصيل يطلب من محلّه.

و أما قوله تعالى: وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على اسم (أنّ ) و (قصاص) هو الخبر.

و في الآيات التفات إلى الخطاب أو الغيبة، اهتماما بشأن الموضوع و تذكيرا للمخاطب.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ ، على استمرار الصراع بين الحقّ و الباطل الذي هو قديم جدا، و امتناع إبطال الحقّ و إزالته مهما بلغ الباطل من القوّة و مسارعته في ذلك، و لا بدّ أن لا يكون ذلك موجبا لحزن أهل الحقّ . و في الآية وعد منه عزّ و جلّ لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بانتصار الحقّ و زهوق الباطل، و قد ذكر عزّ و جلّ جميع وجوه الباطل المتمثّلة بالمسارعة في الكفر، و النفاق، و سماع الكذب، و العمل به، و تحريف الكتب الإلهيّة، و ارتكاب المحرّمات، و أكل السحت، ثمّ ذكر أحوال أهل الكتاب بالنسبة

ص: 255

إلى الحقّ و ما أنزله اللّه تعالى، و أمرهم عزّ و جلّ بتطبيق ذلك، فكانت هذه الآيات جامعة لجملة كثيرة من وجوه الباطل التي تصدّ عن الحقّ و تمنع من تطبيقه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، على أنّ النفاق من مظاهر الكفر، بل أنّه من المسارعة فيه، و قد قرن اللّه تعالى المنافقين بالذين هادوا، الذين وصفهم عزّ و جلّ بأوصاف تدلّ على خبثهم و كمال جرأتهم على اللّه تعالى في نقضهم العهود و المواثيق و ارتكابهم المحرّمات، كما أنّه عزّ و جلّ وصف المنافقين بأوصاف عديدة في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، تدلّ على أنّهم أضرّ بالحقّ و أهله من غيرهم من الكفّار، و شنّع عليهم، و أظهر نواياهم الخبيثة، و أمر المؤمنين بالحذر منهم و معالجة النفاق و إصلاح المنافقين بطرق قويمة. فإنّه من مرض القلب الذي يصعب علاجه إلاّ بما بيّنه عزّ و جلّ .

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ على أنّ الإصرار على سماع الكذب مرجوح في حدّ نفسه، و أنّ كثرة الجلوس مع الكذّابين يوشك أن يعدّ منهم، و تدلّ عليه جملة من الأحاديث. ففي الخبر: «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمعه».

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ على أنّ التحريف إنّما كان عن علم و عمد منهم لكتاب اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة و تشريعاته الحكيمة، و هذا يدلّ على شناعة فعلهم و كمال بعدهم عن الحقيقة و ضلالهم و استكبارهم على اللّه تعالى، و يؤكّد ذلك قوله عزّ و جلّ حكاية عنهم:

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، أنّ بعض المعاصي و الآثام يوجب قطع العصمة بين من يرتكبها و بين اللّه تبارك و تعالى، فلا تؤثّر شفاعة الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام و لا دعاؤهم في رفع ما حلّ به نتيجة المعاصي و ما جناه من الأفعال الشنيعة، و تدلّ عليه جملة من الآيات

ص: 256

و الروايات، و تقدّم في بحث الشفاعة بعض الكلام فراجع. كما أنّ المستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، أنّ الواردات الإلهيّة و تحقيق الرابطة بين اللّه و عبده إنّما تكون بتطهير القلوب من درن الآثام و مفاسد الأخلاق، و لا تحصل هذه الطهارة إلاّ بالتخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل، و أنّ التصدّي من العبد لهذا الأمر يوجب تعلّق إرادة اللّه تعالى في التطهير و التوفيق له، فالآية الشريفة بمنزلة التعليل لما سبق و ما يذكره عزّ و جلّ من الخزي و العذاب العظيم، و هذه من الآيات المعدودة التي تبيّن السرّ في سلب التوفيق عن العبد و انقطاع العصمة بينه و بين اللّه تعالى و أنبيائه العظام، فلا تؤثّر فيه جميع الأمور إلاّ ما إذا حصل من نفس العبد ما يوجب رفع المانع منه، و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الموانع العظيمة في الآيات الشريفة، و إنّما على الأنبياء بيان سبل الهداية و التوفيق، ثمّ الحكم عليهم بما يلائم أفعالهم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، فليس لهم التوسّط بينهم و بين اللّه تعالى في تطهير نفوسهم و رفع ما حلّ بهم من الخزي و النكال ما لم يطهروا قلوبهم من تلك الرذائل.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ، أنّهم انهمكوا في ارتكاب المحرّمات و أكل الحرام من أيّ وجه كان، حتّى غلب على الحلال و صار أمرا مستساغا عندهم، و يمكن أن يستفاد من صيغة المبالغة تعدّد مصادر السحت و عدم اختصاصه بالرشوة فقط، كما ذكره بعض. و الآيات تدلّ على ذمّ الظلم و القدح في الحرام، و مدح العدل و القسط بين الأنام.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، أنّ الإيمان بالتوراة و سائر الكتب الإلهيّة و الرضا بما أنزله اللّه تعالى فيها، من أجزاء الإيمان المطلوب، فقد نفى عزّ و جلّ عنهم الإيمان لمّا أعرضوا عن حكم اللّه تعالى فيها.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ ، أنّ العلماء في جميع الأديان الإلهيّة هم حفظة كتب اللّه تعالى، يجب عليهم أن يحفظوا حدودها و أحكامها و معارفها من التضييع و التحريف على الإطلاق، و أن يكونوا دعاة إليها

ص: 257

قولا و عملا. ففي الحديث: «العلماء أمناء اللّه في أرضه»، فصاروا شهداء على كتاب اللّه تعالى، و الشهيد لا يمكن أن يخشى أحدا في شهادته، و أنّ الخشية إنّما تكون من اللّه عزّ و جلّ فيما إذا خالف الميثاق الذي أخذ منه على العمل به، فيكون قوله تعالى:

فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ ، بيانا لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في مجال العمل و التطبيق للشريعة الغرّاء.

التاسع:

ذكرنا في التفسير وجه التكرار في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ - أو - اَلظّالِمُونَ - أو - اَلْفاسِقُونَ ، و نزيد هنا أنّ الآيات الثلاث استوعبت جميع الفروض التي يمكن فرضها في مجال العمل بالأحكام الإلهيّة، و من جملتها القضاء، فهي تشمل عدم الحكم بما أنزل اللّه، و الحكم بغير ما أنزله عزّ و جلّ ، و يدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار: «الحكم حكمان:

حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهلية»، كما أنّها تشمل كلّ الوجوه في الإخلال بها و استبدالها من التغيير و الزيادة و النقص و التأويل الباطل و نحو ذلك، بلا فرق في ذلك كلّه بين أن يكون عن علم أو عن جهل، أو كان عن إعراض و نكران للحكم الذي هو الكفر، أو بترك الحكم لأجل تغيير ما أنزله اللّه تعالى و تبديله و هو الظلم، أو بالخروج عن الحدود و القيود التي لها الأثر في تهذيب النفوس و تزكيتها، فهو الفسق، و قد ذكر جميع الأديان الإلهيّة في هذه الآيات لبيان أنّ ما ذكر من الحقائق الإلهيّة التي لا تختصّ بدين معين.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ ، أنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في هدف واحد، و هو هداية البشر و إنارة الطريق له، و تكشف ما أبهم عليهم من الأحكام، كلّ بحسب لياقته و استعداده، و تدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة.

ص: 258

بحث روائي:

في المجمع عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ - الآية، أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، طمعا في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف، و كعب بن أسيد، و شعبة بن عمرو، و مالك بن الصيف، و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم، فقالوا: يا محمّد! أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا: نعم. فنزل جبرائيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه لهم، فقال النبي: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له:

ابن صوريا، قالوا: نعم. قال: فأيّ رجل هو فيكم ؟ قالوا: أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى. قال: فأرسلوا إليه ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا، فقال له النبي: إنّي أنشدك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، الذي أنزل التوراة على موسى و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المن و السلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا: نعم، و الذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذّبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم. قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى، فقال له النبيّ : فماذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه ؟ قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزنى في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه، فقال له قومه: لا حتّى ترجم فلانا، يعنون به ابن عمّه، فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف

ص: 259

و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسود وجوههم ثمّ يحملان على حمارين و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم، فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده، و قال:

أنا أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأنزل اللّه فيه: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ عن ذلك، ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه، فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي، فقال: صدقت، و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه امّه شيء، أو بامّه ليس فيه من شبه أبيه شيء، فقال: أيّهما علا و سبق ماء صاحبه كان أشبه له، قال: قد صدقت فأخبرني ما للرجل من الولد، و ما للمرأة منه ؟ قال: فأغمي على رسول اللّه طويلا، ثمّ خلي عنه محمرّا وجهه يفيض عرقا. فقال: اللحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل. قال له: صدقت، أمرك أمر نبي، فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال: يا محمّد! من يأتيك من الملائكة ؟ قال: جبرئيل، قال: صفه لي، فوصفه النبي. فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، و أنّك رسول اللّه حقّا. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمّد! إخواننا بنو النضير، و أبونا واحد، و نبيّنا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد و أعطونا ديتهم سبعين وسقا من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر. و إن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منّا، و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم، فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات».

ص: 260

أقول: روي قريب منه في كتب أهل السنّة و تفاسيرهم، و يستفاد من الحديث أنّهم كانوا يعرفون أنّه النبيّ الموعود الذي بشّر به كتبهم، و لكنّهم خالفوه و عاندوه عتوا و استكبارا، كما أنّه يدلّ على أنّ الحكم الذي حكم به الرسول صلّى اللّه عليه و آله موجود في كتبهم، و أقرّ به ابن صوريا، و لكنّهم حرّفوه و بدّلوا دين اللّه تعالى كما أخبر به عزّ و جلّ . و ذكر جمع من المتتبعين أنّ الموجود في التوراة الحاليّة الدائرة بينهم يقرب ممّا هو المذكور في الحديث، راجع التوراة الأصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية، كما أنّ الموجود فيها من حكم الدية يقارب ما ورد في الحديث، راجع الأصحاح الحادي و العشرين من سفر الخروج.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: إنّ اللّه أنزل: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ - أو - اَلظّالِمُونَ - أو - اَلْفاسِقُونَ ، أنزله اللّه في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى في الجاهلية حتّى ارتضوا و اصطلحوا على أنّ كلّ قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، و كل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتّى قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ لم يظهر عليهم، فقامت الذليلة فقالت: و هل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، و نسبهما واحد، و بلدهما واحد، و دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنّما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، و فرقا منكم، فأما إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهم، ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهم، ففكرت العزيزة فقالت: و اللّه ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا إلاّ ضيما و قهرا لهم، فدسوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبر اللّه رسوله بأمرهم كلّه، و ماذا أرادوا فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ - إلى قوله - وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ، ثمّ قال: فيهم و اللّه نزلت».

أقول: روى قريب منه القمّي في تفسيره مع الاختلاف في كيفيّة التطبيق.

و ممّا يهون الخطب أنّها من روايات أسباب النزول التي قلّما سلمت من الإشكال، و العمدة هي الأخذ بظواهر الآيات و ما تدلّ عليه.

ص: 261

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء، و فتح مسامع قلبه، و وكل به ملكا يسدده، و إذا أراد اللّه بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء و سدّ مسامع قلبه، و وكل به شيطانا يضلّه، ثمّ تلا هذه الآية:

فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً - الآية، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، و قال: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ .

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و هي تبيّن كيفيّة توفيق اللّه عبده الذي لا بدّ له من الاستعداد و القابلية الحاصلتين من عمل العبد و كسبه.

و في الكافي: عن عمّار بن مروان قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول، فقال: كلّ شيء غل من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و للسحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر و ثمن الخمر. و النبيذ المسكر، و الربا بعد البينة، فأما الرشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله صلّى اللّه عليه و آله».

و فيه: أيضا عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة من الخاصّة و العامّة و إن اختلفت في السعة و الضيق، و هي تدلّ على أنّ المراد من السحت مطلق الحرام، و من ذلك يعرف أنّ اختصاص بعض روايات السحت بالرشا في الحكم إنّما هو لأجل الأهميّة و بيان فظاعة الأمر فيه.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، قال: نسختها هذه الآية: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ .

أقول: روى قريبا منه النحاس في ناسخه، و الطبراني و الحاكم - و صحّحه - و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس أيضا، و تقدّم في التفسير أنّه لا منافاة بين الآيتين، لا لأجل نزولهما دفعة واحدة، فلا معنى للنسخ حينئذ، فإنّ ذلك لا

ص: 262

يستوجب منعا للنسخ لو تحقّق التنافي بين الآيتين، بل لأجل أنّ الآية الاولى تثبت الخيار للرسول في الحكم بينهم و الإعراض عنهم، و الآية الثانية تبيّن أنّه لو اختار الحكم بينهم لا بدّ أن يكون بما أنزله اللّه تعالى لا بما يريدونه، و سياق الآيات أيضا يدلّ على ذلك. و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى إرجاع الضمير في قوله تعالى:

بَيْنَهُمْ إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصّة، و إن كان ذلك لا يضرّ بأصل المطلب، فافهم.

و في التهذيب روى الشيخ عن عبد اللّه بن مسكان رفعه قال: «قال رسول اللّه: من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه، كان من أهل هذه الآية: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ ، فقلت: و كيف يجبر عليه ؟ فقال:

يكون له سوط و سجن فيحكم عليه، فإن رضي بحكمه و إلاّ ضربه بسوط و حبسه في سجنه».

أقول: رواه الكليني أيضا. و المراد منه هو الحكم على خلاف ما أنزله اللّه تعالى مطلقا عن علم به بأن يكون حكما بتّا و قطعا، كما يدلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يجبر عليه»، لا مجرّد إنشاء الحكم.

و يستفاد من الحديث عموم الآية و شمولها لغير اليهود أيضا. و يدلّ عليه إطلاق الآيات الشريفة. و منه يظهر أنّه لا وجه لتخصيصها باليهود كما ذهب إليه جمع.

و في الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير، قال: «سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم تنزل علينا، قال: اقرأ ما قبلها و ما بعدها، فقرأت عليه، فقال: لا، بل نزلت علينا. ثمّ لقيت مقسما - مولى ابن عباس - فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم ينزل علينا. قال: إنّه نزل على بني إسرائيل و نزل علينا. و ما نزل علينا و عليهم فهو لنا و لهم، ثمّ دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة و حدّثته أنّي سألت عنها

ص: 263

سعيد بن جبير و مقسما، قال: فما قال مقسم ؟ فأخبرته بها، قال: صدق، و لكنّه كفر ليس ككفر الشرك، و فسق ليس كفسق الشرك، و ظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال، قال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته ؟ قال: لقد وجدت له فضلا عليك و على مقسم».

أقول: ظهر ممّا سبق الوجه في عدم اختصاص الآيات ببني إسرائيل، و المراد من قول علي بن الحسين عليه السّلام: «كفر ليس ككفر الشرك...» بعض مراتب الكفر و الفسق و الظلم، و أنّ الشرك أعلاها مرتبة.

و في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال علي عليه السّلام:

من قضى في درهمين بغير ما أنزل اللّه فقد كفر. قلت: كفر بما أنزل اللّه، أو بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله. قال: ويلك إذا كفر بما أنزل على محمّد فقد كفر بما أنزل اللّه».

أقول: المراد منه أنّه لا فرق في موارد القضاء بغير ما أنزل اللّه بين أن يكون عظيما أو حقيرا. و ظاهره عدم الفرق أيضا بين أن يكون الحكم بغير ما أنزله اللّه تعالى. و عدم الحكم بما أنزله اللّه تعالى، و ذيل الرواية يدلّ على أنّ ما جاء به نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هو ممّا أنزل اللّه تعالى، فالحكم على خلافه حكم بغير ما أنزل اللّه، و من جملة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله ولاية أوصيائه المعصومين عليهم السّلام و اتّباع أوامرهم، فيكون الردّ عليهم ردّا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و الردّ عليه كفر باللّه العظيم، و يدلّ على ذلك ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «الرادّ علينا كالرادّ على اللّه تعالى».

و روى الشيخ في التهذيب عن زرارة عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ :

اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، قال عليه السّلام: هي محكمة».

أقول: ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية من الآيات الحكيمة التي قرّرتها جميع الشرائع الإلهيّة، لا سيما الشريعة الإسلاميّة، فقد فصّلتها و بيّنت جميع خصوصياتها.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ، قال صلّى اللّه عليه و آله: «الرجل تكسر سنّه أو تقطع يده، أو يقطع الشيء، أو يجرح من بدنه فيعفو عن ذلك فيحطّ عنه قدر

ص: 264

خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، و إن كان الثلث فثلث خطاياه، و إن كانت حطّت عنه خطاياه كذلك».

أقول: روى مثله الديلمي عن ابن عمر، و يدلّ عليه بعض الروايات المنقولة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما عرفته في التفسير. و لعلّ ذكر الدية مع أنّ العفو إنّما كان عن القصاص، لأنّها قابلة للتبعيض، بخلاف القصاص الذي لا يكون قابلا له.

بحث كلامي:

يدلّ قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ ، على المنزلة العظيمة التي منحها عزّ و جلّ لهذه الطوائف الثلاث، النبيّين و الربّانيين و الأحبار، فقد جعلهم تعالى حكّام الشرع المبين الذين يحكمون بما أنزل اللّه لبسط العدل بين الناس و إقامة النظام الربّاني فيهم، و إيصالهم إلى الكمال المنشود، كلّ حسب لياقته و استعداده. و المستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء هم الأصل في هذا المنصب الجليل، ثمّ يأتي في المرتبة الثانية الربّانيون الذين هم حفظة الشرع المبين ببيان الحقائق و كشف ما أبهم من الشريعة، ثمّ الأحبار الذين هم أمناء اللّه على أحكامه المقدّسة، و لا ريب أنّ تلك لا يمكن أن تنال إلاّ إذا توفّرت شروط الولاية و الإمامة، و الآية تبيّن أهمّ تلك الشروط، و هي ثلاثة:

الأوّل: كونهم ربّانيين يدعون إلى اللّه تعالى قولا و عملا، و قد تقدّم الكلام في معنى هذه الكلمة في سورة آل عمران. و هي لم ترد في القرآن الكريم إلاّ في صفات الأنبياء و الأوصياء.

الثاني: العلم الحاصل من تعليم اللّه تعالى لهم خصوصيات الشريعة و الكتاب، بل الآية الكريمة تدلّ على معنى أدق، لأنّ الحفظ يدلّ على العلم و التحفّظ على ما علم من الضياع و التبديل و التغيير، فيكون أخصّ من مجرّد العلم،

ص: 265

فإنّ الأوّل عبارة عن إيجاب الحفظ و رؤيته في المراقبة قولا و عملا من كلّ من وجب عليه الحفظ دون الثاني، فإنّه لم ينظر فيه هذه الخصوصية، و لعلّ هذا الفرق أوجب أن يكون هذا الوصف من صفات الأوصياء، كما أنّ هناك فرقا آخر أيضا، و هو أنّ الاستحفاظ يدلّ على العلم التامّ بخصوصيات الكتاب و ما أنزله الله تعالى و التكليف بالحفظ و بيان ما كمن في نفوسهم الطاهرة من العلم، بخلاف مجرّد العلم، و لذا اعتبر في علم المعصوم أن يكون محيطا بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلال الشريعة و حرامها، و العلم بالكتاب و شؤونه. ففي الحديث المروي عن أبي عمر الزبيريّ ، المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّ ممّا استحقّت به الإمامة العلم المنور - و في نسخة المكتونة - بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصّة و عامّة، و المحكم و المتشابه، و دقائق علمه أو غرائب تأويله، و ناسخه و منسوخه، قلت: و ما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلاّ عالما بهذه الأشياء التي ذكرت ؟ قال عليه السّلام: قول اللّه تعالى فيمن أذن اللّه لهم بالحكومة و جعلهم أهلها: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ ، فهذه الأئمة دون الأنبياء الّذين يربّون الناس بعلمهم، و أما الأحبار فهم العلماء دون الربّانيون، ثمّ أخبر فقال: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ، و لم يقل: بما حملوا منه»، فإنّه (عليه الصلاة و السلام) يشير إلى معنى دقيق، و هو أنّ علم الأنبياء أعلى مرتبة من علم الأوصياء الذي يختلف عن علم العلماء للذين حملوا علم الدين بالتعليم و التعلم، و الأوصياء ليسوا كذلك، فإنّهم علموا الكتاب بما وصل إليهم من الأنبياء و ما ألهمهم اللّه تعالى، و لذا كلّفوا بالحفظ و يسألون عنه، نظير قوله تعالى: لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 8]، أي: يسألهم عمّا كلّفوا به من الصدق في الأقوال و الأفعال و ما كمن في نفوسهم من صفته.

إن قلت: إنّه قد ذكر عزّ و جلّ الأحبار الذين هم علماء الدين في سياق الربّانيين، فلم لم يشترط فيهم ما اشترط في الأنبياء و الربّانيين من العلم و العصمة.

ص: 266

قلت: إنّه مضافا إلى عدم الدليل على اشتراطها فيهم، بل وردت الأدلة على عدمه، لأنّ المقتضي للاشتراط في الأنبياء و الأوصياء هو ما أخبر به عزّ و جلّ من صفة الاستحفاظ فيهم و تكليفهم بالحفظ، فإنّهم رسل اللّه تعالى و امناؤه على الشريعة و مبيّنوا حلالها و حرامها و المكلّفون بحفظها، و احتياج الامّة إليهم كما عرفت آنفا، و هذا بخلاف الأحبار و العلماء، فإنّه و إن أخذ العهد و الميثاق منهم على بيان الأحكام الإلهيّة و حفظها، إلاّ أنّه مجرّد ثبوت شرعيّ ، لا ثبوت حقيقيّ مبني على العلم و العصمة عن الخطأ و الغلط، و الدين الإلهيّ لا يتمّ إلاّ بالأخير دون الأوّل.

الشرط الثالث: العصمة من الغلط و الخطأ، فإنّ العلم بالمعنى المزبور في الربّانيين الذي تبتني عليه الشهادة يستدعي العصمة، فإنّها شهادة غير ما هي المتداول عند الناس، و هي شهادة على الشريعة و الكتاب كشهادتهم على الأعمال يوم القيامة، التي تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]. و هي شهادة حضور و مراقبة و حفظ، و هي تختصّ بالأنبياء و الأوصياء، و لا ريب أنّ مثل هذه الشهادة تستلزم العصمة، و إلاّ استلزم الخلف، فهي شهادة حقيقيّة خالية عن الخطأ و الغلط و المعاصي، و يدلّ عليه ما ورد في الحديث المزبور المروي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام: «انّ ممّا استحقّت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة التي توجب النار».

و ممّا ذكرنا يظهر معنى قوله عليه السّلام في الحديث المزبور: «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم»، فإنّهم أوصياء الأنبياء و الأئمة على الخلق و الحجّة عليهم، لأنّهم علموا بالكتاب حقّ العلم و شهدوا عليه بحقّ الشهادة.

و الآية الشريفة و إن نزلت في الأنبياء و الربانيين و الأئمة من بني إسرائيل، إلاّ أنّ المناط موجود في غيرهم من الأنبياء و الأئمة، لأنّ الاستحفاظ و الشهادة اللذين لا يقوم بهما إلاّ الربّانيون، يكونان في كلّ كتاب إلهيّ نزل من عند اللّه تعالى يشتمل

ص: 267

على المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة، و يدلّ على ذلك ما رواه العياشي عن مالك الجهني، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ - إلى قوله تعالى: - بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ . قال عليه السّلام: «فينا نزلت»، لأنّ القرآن الكريم الذي احتوى من المعارف الإلهيّة على أسماها، و من الأحكام الشرعيّة على أكملها»، و من المكارم على أجلاها و أعلاها هو الذي يستدعي لأن يكونوا عليهم السّلام المصداق الأكمل لهذه الآية الشريفة.

ص: 268

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ .......

اشارة

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) بعد ما بيّن عزّ و جلّ شأن التوراة و الإنجيل و أنّهما كتاب هدى و نور، و قد حتم على بني إسرائيل الحكم بما أنزل فيهما و إقامتهما، و شدّد عليهم من ترك الحكم بهما، و اعتبر ذلك كفرا و ظلما و فسقا، يذكر تعالى في هذه الآيات شأن القرآن العظيم و مكانته العظيمة بين الكتب الإلهيّة، فهو المهيمن عليهما، و أمر نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بإقامته و الحكم بما انزل فيه، و الإعراض عمّن صدّ عن الحقّ ، ثمّ بيّن سبحانه الحكمة في تعدّد الشرائع و المناهج، و اعتبرها مقدّمات لهذا الدين الذي هو المقصد و النتيجة لها، فكان آخر الأديان الإلهيّة، و أمر رسوله العظيم بالاستقامة و الإعراض عن الكافرين، و حذّرهم من الصدّ عن إقامة الحقّ و اتّباع حكم الجاهلية، فإنّه سيجازيهم بأعمالهم في الدنيا و سيصيبهم عذاب الآخرة بما كسبت أيديهم.

ص: 269

التفسير

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ .

تعظيم لشأن القرآن الكريم، و تنويه بعظيم فضله و تفوّقه على سائر الكتب الإلهيّة، و بيان بأنّه الفرد الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا على الإطلاق، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه لفظ الكتاب، و تظهر أهميّته بعد التصريح باسم كتاب موسى عليه السّلام، و كتاب عيسى عليه السّلام، فيكون اللام للعهد و التعظيم. و (بالحق) حال مؤكّدة من الكتاب، أي: أنزلناه حال كونه بالحقّ ، و إطلاقه يشمل نزوله و علومه و أحكامه و جميع شؤونه، فهو حقّ من حقّ و في حقّ ، فلا يأتيه الباطل من أيّة جهة من جهاته.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ .

بيان لأحد أوصاف القرآن الكريم، و هو أنّه مصدّق لما بين يديه من الكتب الإلهيّة التي نزلت من عند اللّه، و مقرّر لما جاء فيها من الأحكام، إلاّ ما نسخه الإسلام، و في الآية الشريفة الشهادة على أنّها كتب إلهيّة، و أنّ الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم و لم يكذبوا في رسالتهم و تبليغهم بها.

قوله تعالى: وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ .

وصف ثان له يدلّ على عظيم شأنه بين الكتب، و مادة (همين) تدلّ على السلطة على شيء لأجل القيام بشئونه، و يستلزم ذلك المراقبة و الاهتمام و الشهادة، و هذه حال القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب الإلهيّة، فإنّه القائم بشئونها و المتسلّط عليها بحفظها و مراقبتها و أنواع التصرّف فيها، فهو كتاب تبيان لكلّ شيء، كما وصفه عزّ و جلّ في غير المقام، فيحفظ ما يكون قابلا للحفظ كالأصول الثابتة، و ينسخ ما يكون قابلا للتغيير و التبديل، كالفروع التي تتغيّر حسب حاجات الإنسان و ما يقع في طريق استكماله، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فالقرآن مصدّق لما ورد فيها أنّها من عند اللّه تعالى و مبيّن لها، و له حقّ التصرّف فيها بما يشاء من النسخ و التكميل، هذا ما يمكن أن يستفاد من هذه الكلمة بمعونة القرائن المتعدّدة الواردة في مواضع متفرّقة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لها معاني متعدّدة ربّما تبلغ خمسة، و المتمعّن فيها يرى أنّها من لوازم المعنى، و ليست هي المعنى الحقيقيّ لها، و كم لهم خلطا بين المعنى الحقيقيّ و لوازمه، و من هنا جاء المشترك و المترادف، و يحقّ لنا القول إنّ كثيرا من المعاني المترادفة أو المعاني المشتركة ترجع في حاقّ الواقع إلى معنى واحد، لكنّه مبهم في ضمن لوازم متعدّدة، و على الباحث أن يستخرج ذلك المعنى منها و يجهد في ذلك، نظرا لدقّة الموضوع، و قد سبق منّا بعض الموارد فراجع.

ص: 270

وصف ثان له يدلّ على عظيم شأنه بين الكتب، و مادة (همين) تدلّ على السلطة على شيء لأجل القيام بشئونه، و يستلزم ذلك المراقبة و الاهتمام و الشهادة، و هذه حال القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب الإلهيّة، فإنّه القائم بشئونها و المتسلّط عليها بحفظها و مراقبتها و أنواع التصرّف فيها، فهو كتاب تبيان لكلّ شيء، كما وصفه عزّ و جلّ في غير المقام، فيحفظ ما يكون قابلا للحفظ كالأصول الثابتة، و ينسخ ما يكون قابلا للتغيير و التبديل، كالفروع التي تتغيّر حسب حاجات الإنسان و ما يقع في طريق استكماله، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فالقرآن مصدّق لما ورد فيها أنّها من عند اللّه تعالى و مبيّن لها، و له حقّ التصرّف فيها بما يشاء من النسخ و التكميل، هذا ما يمكن أن يستفاد من هذه الكلمة بمعونة القرائن المتعدّدة الواردة في مواضع متفرّقة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لها معاني متعدّدة ربّما تبلغ خمسة، و المتمعّن فيها يرى أنّها من لوازم المعنى، و ليست هي المعنى الحقيقيّ لها، و كم لهم خلطا بين المعنى الحقيقيّ و لوازمه، و من هنا جاء المشترك و المترادف، و يحقّ لنا القول إنّ كثيرا من المعاني المترادفة أو المعاني المشتركة ترجع في حاقّ الواقع إلى معنى واحد، لكنّه مبهم في ضمن لوازم متعدّدة، و على الباحث أن يستخرج ذلك المعنى منها و يجهد في ذلك، نظرا لدقّة الموضوع، و قد سبق منّا بعض الموارد فراجع.

قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ترتّب هذا على سابقه كترتّب المعلول على العلّة التامّة، أي: إذا كان هذا شأن القرآن و منزلته، و أنّه الحقّ النازل من عند اللّه، فهو حقّ في موافقته مع الكتب الإلهيّة، و حقّ فيما خالفها، فلا بدّ أن تحكم بين الناس - و لا سيما أهل الكتاب - بما أنزل اللّه عليك من الأحكام و الشريعة، فإنّه الحقّ الذي لا محيص عنه، و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأمر يتعلّق بالحكم بين أهل الكتاب، و هو و إن كان صحيحا، لكن يبعده احتياجه إلى التقدير، أي: إن حكمت بينهم فاحكم بما أنزل اللّه. فإنّه عزّ و جلّ خيّره صلّى اللّه عليه و آله بين الحكم و الإعراض عنهم في قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، و يمكن القول بأنّ ذلك كان في وقائع خاصّة، أو قبل أن يأمره اللّه بالحكم بينهم بما أنزل، فإنّه القرآن المهيمن على الكتب، و شريعته ناسخة لجميع الشرائع، فلا موجب لاختصاص الضمير في (بينهم) باليهود - كما ذكره بعضهم - أو بأهل الكتاب. بل الأنسب التعميم بالنسبة إلى جميع

ص: 271

و كيف كان، فإنّ في تقديم (بينهم) الاعتناء بتعميم الحكم، كما أنّ في وضع الموصول موضع الضمير، التنبيه على علّية ما في حيز الصلة للحكم، و الترهيب عن المخالفة.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ .

أي: بعد وضوح الحقّ فلا تتبّع أهواء الكافرين و المعاندين الزائفة بالإعراض و العدول عمّا جاءك من الحقّ الذي لا مرية فيه، و لا يجوز العدول عنه، و ذكر الحقّ للتأكيد على أنّ ما سواه باطل، و للدلالة على كمال الاجتناب عن اتّباع الأهواء، و نهي المعصوم عليه السّلام عن اتّباع الأهواء إما لأجل تعليم الغير، أو لأنّ النهي لمن لا يتصوّر منه وقوع المنهي عنه جائز لا إشكال فيه.

قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الاجتماعيّة.

و أساس هذه الحقيقة هو اختلاف استعداد أفراد الإنسان و لياقتهم، فإنّ اللّه تعالى لم يخلقهم شرعا سواء في القابلية و الاستعداد و الملكات، و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما ورد قبلها من الأمر و النهي، و فيها التأكيد على متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الانقياد لحكمه بما أنزل اللّه تعالى، لأنّ السابق و إن كان منهاجا و شريعة، إلاّ أنّ الذي كلّفوا به هو ما جاء به الرسول الأعظم، فإنّه الحقّ دون غيره ممّا نسخته هذه الشريعة التي هي أكمل الشرائع و أتمّها و أجمعها، و لا وجه لأخذ الناقص، و لا سيما أنّ الإنسان لم يبق على واحدة، فهو في طريق الاستكمال و الترقّي.

و مادة (شرع) تدلّ على السبيل الموصل إلى المطلوب، و منه شريعة الماء، أي:

الطريق الموصل إليه، و منه أيضا: ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، و منه: شرع سواء، إذا تساوى القوم في أمر، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من خمسة موارد، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [سورة الجاثية - 18]، و قال تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً [سورة الشورى، الآية: 13]، و الشرع مصدر ثمّ جعل اسما للطريق النهج فقيل: يشرع و شرع و شريعة، و تطلق على المادّيات كما عرفت في شريعة الماء، و في المعنويّات،

ص: 272

يقال: شريعة اللّه، و هي الطريقة الإلهيّة الموصلة إلى الحياة الأبديّة، و هي التي تطهّر العامل من درن المعاصي و الأوساخ المعنويّة، كما يطهّر الماء الأوساخ الظاهريّة.

و كيف كان، فقد اختلفوا في معنى الشريعة، و الظاهر أنّ المراد منها هي الطريقة العمليّة التي تهدي الإنسان إلى إقامة دين اللّه تعالى، فتختصّ بالأحكام العمليّة من الأحكام و الفرائض و الحدود، و أما الدين، فهو أوسع و أشمل من حيث يشمل جميع جوانب الحياة، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ [سورة الشورى، الآية: 21]، فإنّه عزّ و جلّ أنكر عليهم التشريع في الدين بغير إذن اللّه تعالى، فكانت الشريعة حصّة خاصّة من الدين، بها يتديّن المرء، و لذا استعملت هذه الكلمة في خصوص تلك الأديان الإلهيّة السابقة التي شرّعت فيها أحكاما و فرائض ممّا ذكره عزّ و جلّ في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى، الآية:

13]، هذا ما يتعلّق بالشريعة، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى. و أما المنهاج فأصله الطريق الواضح البيّن، و منه طريق نهج، أي: بيّن واضح، و أنهج الأمر و نهج، إذا وضح. و منهج الطريق، و منهاجه، و قيل: هو الطريق الواضح في الحياة، فإنّ لكلّ قوم عاداتهم و تقاليدهم و سننهم في الحياة، ممّا لم تنسخه الشريعة و لم يردع عنها اللّه تعالى. و الحقّ أنّ المنهاج هو الطريق الموضح للشريعة، فيكون تابعا لها، أى: لطريقة الهداية التي يهدي سالكها إلى الصلاح و تزكية النفوس. و من هنا جاء في بعض الأخبار: «انّ المنهاج السنّة، و الشرعة السبيل، و أمر كلّ شيء بالأخذ بالسبيل و السنّة»، و هما مختلفان باختلاف استعداد البشر و أحوال الاجتماع، و المراد من الجعل في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا ، الجعل التشريعيّ التابع للجعل التكوينيّ كما عرفت، و المعنى: جعلنا لكلّ امّة من الناس شريعة و منهاجا لا يمكن أن تتخطّاها، و الاختلاف و إن كان في الفروع و الأحكام العمليّة، و لكن الشرائع كلّها اتّفقت على أصل الدين و جوهره، و هو المبدأ و المعاد، أي: توحيد اللّه تعالى

ص: 273

و الدعوة إليه و تسليم الوجه له، و الأنبياء مهما اختلفوا في الأحكام الفرعيّة، إلاّ أنّهم اتّفقوا في ذلك، و الآية لا تدلّ على بطلان شرع من قبلنا، كما زعمه بعض المفسّرين، فإنها ليست في مقام بيان هذه الجهة، فقد تتّحد الشرائع في كثير من الأمور، و إنّما تختلف فيما يرجع إلى استعداد البشر و حال الاجتماع و الظروف التي تحيط بكلّ امّة، و قد تبادلت الشرائع فيما بينها و اختلفت في الأخذ و العطاء، فأخذت شريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الملّة الحنفيّة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام، و أقرّت كثيرا من الأحكام التي نزلت في بقية الشرائع الإلهيّة، فإنّ طريق الهداية واحدة و إن اختلفت المسالك إليها.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً .

بيان للسبب في اختلاف الشرائع، أي: و لو شاء اللّه تعالى أن يجعلكم أيها الناس امّة واحدة بأن يخلقكم مع استعداد واحد لا اختلاف في القابليات، فتتّحد جميع الشرائع و المناهج، فيكون المراد من الجعل هو الجعل التكوينيّ ، بمعنى خلقهم على مستوى واحد من الاستعداد و التهيؤ و القابلية، لا أن يكون المراد منه النوعيّة الواحدة، فإنّ الناس أفراد نوع واحد، أي: لم يخلقهم كسائر أنواع الخلق يقفون عند استعداد واحد، بل اختلفت العطايا الإلهيّة و الفيوضات الربّانيّة لأفراد هذا النوع، فجعلهم على تفاوت كبير في القابلية و الاستعداد، فاقتضى ذلك أن تختلف الشرائع و المناهج، لتتمّ سعادتهم و تكون سلما لارتقائهم درجات الرقي و الكمال، و الأمم التي اختلفت الشرائع فيها قد ذكرها عزّ و جلّ في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ... [سورة الشورى، الآية: 13].

قوله تعالى: وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ .

تعليل لما سبق و بيان لأحد وجوه الحكمة في تردّد الشرائع، أي: لما كانت العطايا الإلهيّة لأفراد نوع الإنسان مختلفة و متفاوتة لجهات كثيرة و حكم متعدّدة، فكان لا بدّ من تعدّد الشرائع طبقا لمراتب الاستعداد و القابليات، و العلّة في ذلك هي أنّ إرادته تعالى تعلّقت بأن يكون ذلك امتحانا لكم فيما أنعم عليكم من

ص: 274

الأحكام و التكاليف المجعولة، و معرفة مقدار صبركم على الطاعة و صبركم عن المعصية، و يتميّز الصالح منكم عن الطالح و المحسن عن المسيء.

قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ .

ص: 275

و هذا القسم يختصّ بالحكم بما أنزل اللّه تعالى، و هو الحقّ الذي لا محيص عنه، و العلم بأنّه حقّ ، و منه يعلم أنّه لا تكرار في المقام، فإنّ الآيات السابقة إنّما تضمّنت بقية الأقسام، فكان الأمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى عقيبها لبيان الحكم الواقعيّ ، و نفي ما عداه، مضافا إلى أنّ آية المقام تأمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى و تحذّر من اتّباع أهواء الناس، لأنّ الحق قد وضعت معالمه و استقرّت دعائمه و أركانه بنزول هذه الشريعة، فالواجب على الناس أجمعين أن يستبقوا الخيرات في تطبيقها.

و أما قوله تعالى في الآية السابقة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، فإنّه أمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى بعد بيان نوعية المخالفة، و يبيّن أنّ توليهم عنه كاشف عن إضلال إلهيّ لفسقهم، كما قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 26]، فيكون توطئة لهذه الآية، و هي توضح ما تضمّنته الآية السابقة و تبيّن ما أجمل فيها، فإنّ إعراضهم عمّا أنزل اللّه تعالى إنّما هو لأجل كونهم فاسقين، و قد أراد اللّه تعالى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين من تفسير الآية الشريفة، فإنّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

قوله تعالى: وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ .

تحذير أكيد له صلّى اللّه عليه و آله من إضلالهم له صلّى اللّه عليه و آله بالصرف عن بعض ما أنزل اللّه إليه، و قطع لأطماعهم فيه صلّى اللّه عليه و آله، و إعادة (ما أنزل اللّه إليك) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب. فإنّ لهم أساليب متعدّدة خفيّة و جليّة في إضلال الناس و إغوائهم، و قد حكى عزّ و جلّ جملة منها في مواضع من القرآن الكريم و كشف عن بعض أساليبهم الخبيثة التي لها تأثير كبير في هذا المجال، قد تخفى على كثير من الناس، إلاّ من عصمه اللّه تعالى. و منه يظهر أنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بالحذر عن فتنتهم مع كونه معصوما، إما لأجل إعلامه صلّى اللّه عليه و آله بفظاعة الأمر و شدّته، فإنّ فتنتهم له بالصرف عن بعض ما أنزل اللّه إليه و لو كان أقلّ قليل، هو عظيم عند اللّه تعالى، أو لأجل التأكيد له بأنّهم جادون في إضلاله صلّى اللّه عليه و آله و لو كان في أقلّ قليل من الحكم، و لهم في ذلك أساليب متعدّدة، أو لأجل تعليم غيره صلّى اللّه عليه و آله من امّته من الحذر منهم، أو لأجل بيان أنّ

ص: 276

العصمة فيه لا توجب سقوط التكاليف عنه صلّى اللّه عليه و آله، فهو مختار في كلّ فعل، إلاّ أنّ العلم الذي علّمه اللّه تعالى يمنعه من ارتكاب السوء و الفحشاء، و قد تقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ .

تطييب لنفس الرسول الكريم و إرشاد له صلّى اللّه عليه و آله بأن لا يحزن إذا تولّوا عن الدعوة و أعرضوا عن قبول ما أنزله اللّه تعالى، فإنّهم غير معجزين اللّه تعالى، و أنّ حكمه نافذ و سيحاسبهم على ما أجرموا، و الآية الشريفة تبيّن ضلالهم بعد ما بيّنت أنّهم فاسقون قد خرجوا عن طاعة اللّه تعالى عند ما أعرضوا عن قبول حكمه، و في قوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ ، إيماء إلى أنّ توليهم هذا إنّما هو بتسخير إلهيّ ، لأنّهم سلبوا التوفيق عن أنفسهم بالإعراض عمّا أنزله اللّه تعالى، فلا موجب للحزن عليهم بعد ما اختاروا ذلك بأنفسهم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً. إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 6-8]، فإنّه يدلّ على أنّ اللّه إنّما خلق الدنيا و ما فيها لأجل اختبار الإنسان و امتحانه في قبوله الحقّ و تمييز المحسن الذي أحسن عملا عن المسيء الذي أساء في عمله، فهو الذي يختار أحد الطريقين، و قد بعث اللّه تعالى الأنبياء و المرسلين مبشّرين و منذرين، لينيروا لهم الطريق، فلا موجب للحزن عليهم، و إنّما ذكر عزّ و جلّ : بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، و هو ذنب التولّي و الإعراض الذي هو ذنب عظيم، إيذانا بأنّ لهم ذنوبا، فهذا واحد من جملتها، و إيماء بتغليظ العقاب، فإنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم، أيّ بعض كان، فيهلكوا أو تسوء عاقبتهم، فيكون الإبهام لتعظيم ذنب التولّي. و في الآية الإشارة أيضا إلى كمال لطفه بعباده، بأنّه لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة وحدة.

قوله تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ .

تعليل لما سبق، أي: أنّ اللّه تعالى إنّما أضلّهم و يصيبهم ببعض ذنوبهم، لأنّهم فسقوا عن أمر ربّهم و أعرضوا عن قبول ما أنزله اللّه، و فيه التسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن

ص: 277

امتناع القوم من الإقرار بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و إعراضهم عن قبول الحقّ ، فإنّ أهل الإيمان قليل و أهل الفسق كثير، فلا ينبغي أن يحزن و يعظم ذلك عنده، كما عرفت.

قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .

إنكار و توبيخ و تعجيب من حالهم، فإنّ التولّي عن حكم اللّه عجيب، و طلب حكم الجاهلية أقبح و أعجب، و فيه إشارة إلى أنّه ليس وراء ما أنزله اللّه تعالى إلاّ حكم الجاهلية، فإذا تولّوا عن حكم اللّه عزّ و جلّ فليس هناك إلاّ حكم الجاهليّة الذي يبتني على اتّباع الهوى و متابعة النفس الأمّارة، و يستفاد من الآية الشريفة أنّهم يعلمون أنّ ما أنزل اللّه تعالى هو الحقّ ، فإذا تولّوا عنه فإنّما يبغون حكم الجاهلية و هذا شيء عجيب، و لذا جاءت الجملة تفريعا على ما سبق بنحو الاستفهام، و قد تقدّم الكلام في مادة (بغى) التي تدلّ على الطلب، كما أنّ المراد من الجاهليّة هي كلّ ملّة باطلة و حكم جائر، الذي يكون منشأها العناد و اللجاج و الإعراض عن الحكم الحقّ ، اتّباعا للهوى. و قد ورد في الحديث: «انّ الحكم حكمان، حكم اللّه، و حكم الجاهليّة»، كما ستعرف.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً .

إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه عزّ و جلّ ، فلا أحد أحسن حكما من اللّه تعالى، و لا ريب في أنّه لا يتبع حكم إلاّ لحسنه.

و إنّما اطلق الحسن، لأنّ حكم اللّه تعالى يجمع حسن الدنيا و الآخرة، و يجتمع فيه جميع أنحائه.

قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .

تقرير لما سبق، و اللام إما بمعنى عند، أو للبيان متعلقة بمحذوف كما في هَيْتَ لَكَ [سورة يوسف، الآية: 23]، «و سقيا لك»، أي: إنّما يتبيّن حسن الأحكام و قبحها لقوم يؤمنون و يتدبّرون الأمور، و أما غيرهم فلا يعلمون ذلك.

و إنّما أخذ عزّ و جلّ صفة اليقين للإعلام بأنّهم لو صدقوا في دعواهم الإيمان باللّه تعالى، فلا بدّ أن يذعنوا لأحكامه و آياته و لا يبغوا غيرها، و ينكروا بأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم اللّه عزّ و جلّ .

ص: 278

بحوث المقام

بحث أدبي:

اللام في الكتاب وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ للعهد و التعظيم، كما أنّ اللام في قوله تعالى: مِنَ اَلْكِتابِ للجنس، و يصحّ أن تكون للعهد، أي: تلك الكتب المعهودة، بِالْحَقِّ حال مؤكّدة من الكتاب.

كما أنّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً... حال اخرى من الكتاب. و أشكل على ذلك بأنّه لا يصحّ كونه حالا ممّا ذكر، إذ لا يكون حالان لعامل واحد، و هي حال من الضمير المستكن في الجارّ و المجرور قبله.

و تقدّم الكلام في معنى المهيمن، و فعله هيمن و الهاء أصليّة، و له نظائر مثل بيطر، و خيمر، و سيطر، و زاد بعضهم: بيقر و شيطن، و حيعل و فيصل، و قيل: إنّها مبدلة من الهمزة، و مادته من الأمن، كمهراق، فقالوا: إنّ المهيمن أصله مؤمن، و هو من أسمائه عزّ و جلّ ، فصغّر و أبدلت همزته هاء، و أبطله جمع آخرون، بل جعلوه كفرا، لأنّ أسماء اللّه تعالى لا تصغّر، و كذا كلّ اسم معظّم شرعا.

و تقديم (بينهم) في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، للاعتناء بتعميم الحكم لهم.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله تعالى: بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، تنبيها على علّية ما في حيّز الصلة، و ترهيبا عن المخالفة.

و اللام في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، للاختصاص.

و (منكم) متعلّق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه التنوين، أي: و لكلّ امّة كائنة منكم.

و أشكل على ذلك بعضهم بأنّه لا تجوز الوصفية، لأنّه يوجب الفصل بين الصفة و الموصوف بالأجنبي، كما يوجب الفصل بين الفعل (جعلنا) و معموله، و هو (شرعة). و أجيب عنه في المطولات فراجع.

ص: 279

و قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، استئناف مسوق للتعليل لاستباق الخيرات بما فيه الوعد و الوعيد، و (جميعا) حال من الضمير المجرور.

و قوله تعالى: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، قيل: إنّه عطف على الكتاب، و التقدير: (و أنزلنا إليك الكتاب و قولنا احكم، و قيل: إنّها عطف على الحقّ ، و لا حاجة إلى تقدير القول. و قيل: إنّها جملة مستأنفة اسميّة، بتقدير مبتدأ، أي: و أمرنا أن احكم. و الحقّ : إنّها جملة مستأنفة تفيد التأكيد على تثبيت حكم اللّه تعالى و اتّباع الكتاب و الحكم بما ورد فيه.

و الفاء في قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: يتولّون عن قبول حكمك بما أنزل اللّه إليك، فيبغون حكم الجاهليّة، و قيل: محلّ الهمزة بعد الفاء، و إنّما قدّمت لأنّ لها الصدارة، و تقديم المفعول (حكم) للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار و التعجّب، و المشهور أنّ (أ فحكم) مبتدأ و (يبغون) خبره، و العائد محذوف. و قيل: الخبر محذوف و المذكور صفته، أي: حكم يبغون، و لكن استضعف حذف العائد من الخبر. و أجيب عن ذلك بأنّه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصفة و الصلة.

و كيف كان، فإنّ في الآيات موارد من الالتفات يظهر للمتمعّن فيها.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ ، على شرف القرآن الكريم و عظيم منزلته و فضله على جميع الكتب الإلهيّة، فقد تشرّف هذا الكتاب و تعظّم بالنزول من عنده عزّ و جلّ ، فقال تعالى وَ أَنْزَلْنا ، و قد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ كلّ مورد كان فيه نوع اهتمام و أراد عزّ و جلّ إظهار القدرة و المهابة و العظمة فيه أسنده إليه بنون العظمة كما في المقام، ثمّ أسنده إلى الرسول الكريم

ص: 280

الذي بان فضله على جميع الأنبياء و المرسلين، فقال تعالى إِلَيْكَ ، و التأكيد على كونه بالحقّ في جميع شؤونه لا يأتيه الباطل بجميع أنحائه، ثمّ بيّن عزّ و جلّ بعض خصائصه في كونه مصداقا لما بين يديه من الكتاب، لأنّه نازل من اللّه أيضا، و فيه من الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و كونه مهيمنا على جميع الكتب الإلهيّة، و لا ريب أنّ الهيمنة التي ذكرها عزّ و جلّ في صفات القرآن الكريم هي من جميع الجهات، فهي هيمنة رقابة، فما في تلك الكتب إن طابق ما في القرآن العظيم، أخذ به، و إلاّ فلا يمكن الاعتماد عليه، كما أنّها هيمنة علميّة، فإنّ ما ورد في القرآن الكريم يفوق على جميع الكتب الإلهيّة، فإنّ فيه تفصيل كلّ شيء، و لعلّه لهذا أمر عز و جل نبيّه الكريم بالحكم بما أنزل فيه و الإعراض عمّا سواه و الحذر منهم بأن لا يضلّوه باتّباع أهوائهم، فإنّهم ذوو أساليب متنوعة في إظلال الناس.

ثمّ إنّه عزّ و جلّ اهتمّ بالقرآن الكريم في هذه الآية الشريفة بما لم يهتم بغيره من التوراة و الإنجيل اللذين تقدّم ذكرهما، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ الكتب الإلهيّة السابقة إنّما هي مقدّمات لهذا الكتاب العظيم، و أنّه يعتبر آخر حلقة من حلقات الكمال، فليس من المعقول الإعراض عنه و التغاضي عن معارفه و أحكامه، فلا كمال إلاّ بالرجوع إليه و تطبيق أحكامه و شرائعه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، على انحصار الحكم و القضاء بين الناس بما ورد في القرآن الكريم و أنّه الحقّ ، فلا يجوز الحكم بغيره و إن كان حكما في الكتب السابقة، إلاّ ما قرّرته الشريعة الإسلاميّة. و يؤكّد ذلك النهي عن اتّباع أهوائهم التي لها مظاهر مختلفة، منها تحريف الكتب الإلهيّة و تغييرها و تبديلها، و غير ذلك ممّا حكى القرآن الكريم عنه في مواضع متعدّدة، و تقدّم بعض الكلام فيه.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، على حقيقة واقعيّة داخلة في صميم خلق الإنسان، و هي اختلاف أفراد الإنسان في الاستعداد و قبولهم للكمالات، فإنّ لكلّ فرد أو طائفة من الناس شرعة خاصّة و منهاجا

ص: 281

معيّنا ينهجه في حياته العمليّة، و الظاهر أنّ الشرعة و المنهاج يشيران إلى ما تقوم به حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة و الدنيويّة و الاخرويّة، فإنّ سعادته لا تتحقّق إلاّ بتطبيقها على الوجه المطلوب.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ للكمال درجات متفاوتة لا يقتصر على طائفة معينة و نوع خاصّ و أمر معيّن، فلا كمال إلاّ و فوقه كمال آخر حتّى يصل إلى الكمال المطلق، و هو اللّه تعالى الذي لا كمال فوقه أبدا، و أنّ اللّه عزّ و جلّ قادر على أن يجعل الإنسان امّة واحدة تقتصر على كمال معيّن خاصّ لا ترى سعادتها إلاّ في الوصول إلى ذلك الكمال المعيّن، كما بالنسبة إلى الحيوانات، فإنّها لا ترى سعادتها إلاّ في درك تلك اللذّة الوقتيّة، ثمّ بعد الوصول إليها تبقى جامدة حتّى تعود إليها الغريزة مرّة اخرى، بخلاف الإنسان فإنّه يختلف في خلقه و تركيبه عن سائر المخلوقات، ففيه استعداد كبير في نيل الكمالات، فإذا وصل إلى كمال استعدّ إلى نيل كمال آخر، و لا يحدّه عن ذلك إلاّ الحوادث الكونيّة و صوارف الدهر. و كمال كلّ فرد بحسب استعداده اللائق به، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات التي تبيّن حقيقة الإنسان من حيث حياته العمليّة، و هي من أهمّ الآيات التي تبني أهمّ أسس علم الاجتماع، و على علماء هذا العلم دراسة هذه الآية الكريمة بدقّة و تمعّن، فإنّ فيها كنوزا، و يفتح منها أبواب من العلوم و المعارف.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ ، على أنّ الكمال الذي يسعد الإنسان إنّما يكون في الخيرات، فلا بدّ أن تكون غاية سعيه و مجده في هذه الحياة.

و هي الغاية الحميدة التي لا بدّ أن يتسابق إليها، لأنّها الجامعة لجميع الكمالات.

و إطلاق الآية يشمل كلّ خير. و قد ذكر عزّ و جلّ في القرآن الكريم مصاديق مختلفة للخير في مواضع متفرّقة، و هي تشمل جميع الأحكام الشرعيّة و الفضائل و المكارم و غيرها من الأمور التي لها المدخليّة في سعادته.

و هو يدلّ أيضا على أنّ اختلاف الشرائع لا بدّ أن يكون سببا للتنافس في الخيرات، لا سببا للعداوة و البغضاء، كما أنّه يدلّ على حرية الإرادة في الإنسان.

ص: 282

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، أنّ آثار الاستباق إلى الخيرات إنّما تظهر في يوم القيامة، يوم الرجوع إلى اللّه تعالى و الحشر إليه و يوم الجزاء أو الحقّ ، فيجزي المستبقين إلى الخيرات الجزاء الحسن، و يجازي الذين يختلفون في هذا الأمر على أفعالهم.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الاستباق إلى الخيرات هي الوحدة الجامعة لجميع الشتات التي تجتمع فيها جميع الكمالات، و تطرح فيها كلّ فرقة و اختلاف، و هو الطريق الموصل إلى اللّه تعالى، فهذه الآية الشريفة من الحقائق الواقعيّة التي لا بدّ أن يتأمّل الإنسان في خصوصياتها و يستفيد منها في حياته العلميّة و العمليّة، و لأجل أهميّة هذه الآية الكريمة في حياة الإنسان فقد ذكر فيها عزّ و جلّ الضمان على نفسه، فبيّن فيها الجزاء الفاصل بين الحقّ و الباطل الذي لا يبقى معه شكّ في أمر الدين و الدنيا.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، أهميّة الحكم في حياة الإنسان، فقد تكرّر الأمر منه عزّ و جلّ لنبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل اللّه تعالى، الذي يعلم مصالحهم و يعرف خصوصياتهم و جميع شؤونهم، فلا يحكم إلاّ بالحقّ و لا ينزل إلاّ ما يكون في صلاحهم و سعادتهم، و لأجل دقّة الموضوع و خطره، فقد نهى عزّ و جلّ عن اتّباع الأهواء التي هي أم الرذائل و أساس كلّ فساد، لا سيما في هذا الأمر الخطير الذي قلّما يسلم منه أحد إلاّ من عصمه اللّه تعالى، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ ، و اتّباع الأهواء من موجبات الفساد، و له مظاهر مختلفة و صور متعدّدة، ذكر عزّ و جلّ جملة منها في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم و بيّنتها السنّة الشريفة.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، لطف اللّه تعالى بعباده، حيث لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة واحدة.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، أنّ ما سوى

ص: 283

حكم اللّه تعالى هو حكم الجاهليّة الذي لا يفي بالأغراض و لا يوصل إلى المطلوب، و لا يسلم من اتّباع الأهواء، و لا يرفع الخلاف، بل يوجب الفرقة و الاختلاف، كما حكى عزّ و جلّ عنه في آيات متفرّقة.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام بن سالم بن سليمان، عن خالد، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، قال عليه السّلام: «لا يحلف اليهوديّ و لا النصرانيّ و لا المجوسيّ بغير اللّه، إنّ اللّه يقول: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ».

أقول: و مثله ما رواه العياشي أيضا، و ما ورد في الرواية إنّما هو من باب التطبيق، فإنّه بعد أن أمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى بينهم، فلا يجوز الحلف بغيره تعالى.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، قال: «لكلّ نبيّ شريعة و طريق».

أقول: المراد منه أنّ المنهاج هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه، و يختلف كلّ نبيّ عن آخر بما يختصّ به من مميزات شخصيّة أو نوعيّة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى أيضا: «و المنهاج سبيل و سنّة، قال عليه السّلام: و أمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل و السنّة. و كان من السبيل و السنّة التي أمر اللّه بها موسى أن جعل عليهم السبت».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك، و هذا الحديث يؤكّد ما ذكرناه من أنّ الطريق هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه الذين يختلفون كمّا و كيفا، و في سائر الخصوصيات.

و في الكافي أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «القضاة أربعة، ثلاثة في النار و واحد في الجنّة، رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالجور و هو لا

ص: 284

يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة»، و قال عليه السّلام: «الحكم حكمان، حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بالجاهليّة».

أقول: في ذلك روايات متعدّدة عن الفريقين مذكورة في كتب التفسير، و الآيات الشريفة تدلّ على ذلك، فقد أمر عزّ و جلّ نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل اللّه، فهذا يختصّ بحكم اللّه تعالى، ثمّ أمره عزّ و جلّ ثانيا بالحكم بينهم بما أنزل اللّه و نهاه عن اتّباع أهوائهم كما جاء من الحقّ ، فهو يدلّ على أنّ ما سوى حكم اللّه تعالى هو من اتّباع الهوى الذي نهاه عزّ و جلّ عنه، و هو يشمل الأقسام الثلاثة، الحكم بالجور مع العلم به، و الحكم بالجور مع عدم العلم به، فإنّه جور أيضا بالملازمة، و الحكم بالحقّ مع عدم العلم به، لفقد شرط الحكم بالحقّ الذي هو العلم بكونه حقّا، و إلاّ كان حكما بالجور الذي هو من اتّباع الهوى، و يشمل الجميع حكم الجاهليّة الذي هو في مقابل حكم اللّه تعالى مقابلة واقعيّة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في كتاب القضاء من مهذب الأحكام فراجع.

و في الكافي عن الصادق عن أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليهما -: «الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم بحكم الجاهليّة، و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ».

بحث فقهي:

الآيات الشريفة المتقدّمة من أهمّ الآيات القويمة التي تدلّ على مشروعيّة القضاء و الحكم بين الناس، و تذكر دعائهما في الإسلام، و هي الحكم و القاضي و المقضي عليه، و قد أكّد عزّ و جلّ عليها و ذكر خصوصياتها، ففي الحكم قال عزّ و جلّ وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، و هو يدلّ على وجوب الحكم بين الناس بما أنزله اللّه تعالى، فيختصّ بالعالم بكونه ممّا أنزله اللّه تعالى، و هو حكم اللّه.

ص: 285

و يستفاد منه أنّ غير ذلك هو ممّا لم ينزله اللّه تعالى، فيكون حكما جاهليا. و هو يشمل الحكم بالجواز عالما به أو غير عالم، و الحكم بالحق مع الجهل به، و الثلاثة حكم الجاهليّة الذي أنكره عزّ و جلّ غاية الإنكار في قوله: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .

و لعلّ ما ورد في الروايات من أنّ الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهليّة، و ما ورد في تقسيم الحكم و القضاة إلى أربعة - كما عرفت سابقا - كلّ ذلك مأخوذ من هذه الآيات الشريفة.

و في القاضي ذكر عزّ و جلّ : وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، و هو يدلّ على وجوب الحكم بالحقّ الذي يثبت بالطرق الشرعيّة المعروفة، فلا يجوز اتّباع الهوى الذي هو خارج عن الطرق الشرعيّة، و يشمل ذلك جميع ما ورد في آداب القاضي و القضاوة في الإسلام. منها: وجوب الإنصاف و الإنصات و التسوية بين الخصوم و نحو ذلك. و أما الميل القلبي مع الحكم بين الخصوم بالحقّ ، فالآية الشريفة لا تشمله و إن دلّت بعض الروايات على كراهته أيضا، بل و حرّمته في بعض الموارد.

و بيّن سبحانه و تعالى أنّ عدم الحكم بما أنزله اللّه يجعل القاضي كافرا أو ظالما أو فاسقا، و في المقضي له أو عليه فقد ذكر عزّ و جلّ : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، و قال تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، فإنّه يدلّ على لزوم مراعاة الحكم و وجوب الإذعان للحكم، فإنّه الحقّ الذي ينبغي اتباعه و إلاّ كان ظالما لنفسه فيصيبه اللّه بذنبه، بل يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، أنّ اليقين في الأحكام الربوبيّة من مقامات العبوديّة.

بحث عرفاني:

إنّ السلوك إلى اللّه تعالى و الطريق إليه عزّ و جلّ له مظاهر مختلفة و سبل

ص: 286

متعدّدة تختلف حسب استعداد كلّ فرد، و لكن لا بدّ أن يكون موافقا للشرع و حكم اللّه تعالى، و إلاّ فلا يكون الطريق موصلا إليه عزّ و جلّ . و لعلّ ما ورد في الآيات الشريفة السابقة إشارة إلى ذلك، فقد نزل في القرآن الكريم من الأحكام و التكاليف و الكمالات ما استوعب جميع الجوانب الظاهريّة و المعنويّة للإنسان، ممّا جعلته مهيمنا على سائر الكتب الإلهيّة فأصبح فريد نوعه، فصار غاية للسالكين و أنيسا للمستوحشين و مجمعا للخيرات، ففيه السبق و به المسابقة، و عن طريقه تستكمل النفوس و تتخلّى عن الرذائل، و لأجل هذا أمر سبحانه نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزله فيه بعد أن حكم عليه بأنّه المهيمن على جميع الكتب، فإذا ثبتت له الرقابة الإلهيّة، فلا بدّ أن تمرّ منه الطرق و تستنير به النفوس، فإنّه و إن كان لكلّ واحد منكم شرعة لتهذيب النفوس و منهاج للوصول إلى الكمالات و اجتياز المراحل حتّى الوصول إلى الكمال المطلق، إلاّ أنّها لا بدّ أن تتوجّه إلى ما أمر اللّه تعالى به، و هذا هو مطلوب العارف باللّه الذي به يختلف عن غيره، فاستبقوا الأمور الموصلة لكم إلى الكمال حتّى يستفيض كلّ بحسب استعداده و يستنير بما له من القابلية، و لا خير إلاّ فيما أنزله عزّ و جلّ ، فإنّه الموصل إليه، و به ترجعون إليه فينبئكم بما أوجب اختلافكم و تفرّقكم عمّا فيه الخير لكم، فيظهر لكم آثار ما اقتضاه الاختلاف، و هنالك الوعد الحق، فلا تكون مظاهرهم سببا للفتنة و لا تكون موجبة للانحراف عن جادة الصواب و الإعراض عن ابتغاء الخير و الوصول إلى الكمال، فإنّ الحكم هو حكم اللّه تعالى، و يكفي في الإعراض و النكوص أنّ اللّه يحرمه من لذّة الوصال و يحجبه عن اللقاء، و لذا كان أكثر الناس فاسقين، لأنّهم التفتوا إلى ذواتهم، فاشتبه عليهم حبّ الذات عن حبّ اللقاء، فيحكمون على أنفسهم بالمحبّة و الوصال - و شتان ما بينهما - و هذا هو حكم صادر عن النفس الأمّارة، لا عن علم إلهيّ ، فصار حكما جاهليّا.

فلا تلتفت في السير غيرا و كلّ ما *** سوى اللّه غير فاتخذ كرهه حصنا

و كلّ مقام لا تقم فيه انه حجاب فجد بالسير و استنجد العونا

و قل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى و لا طرفة تجنى

ص: 287

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَل.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (51) فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) الآيات الشريفة الثلاثة تبيّن أهمّ الأمور الاجتماعيّة التي فيها حياة الإسلام و استقلال المسلمين و ثبات عقيدتهم، فقد حذّر سبحانه و تعالى المؤمنين اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، و اعتبر توليتهم ظلما يسلب الهداية التي يحتاج إليها المسلم في حياته الظاهريّة و المعنويّة، و هدّدهم بأنّه من فعل ذلك يكون منهم، لا علاقة له بهذا الدين، ثمّ ذكر عزّ و جلّ بعض صفات المنافقين الذين لم يبرح الإسلام و المسلمون يعانون منهم الأمرين، يثبّطون العزائم و يبثّون الأكاذيب لزلزلة العقائد و إزالة الثبات و الطمأنينة عن النفوس. ثمّ يبيّن حال اليهود و النصارى و الذين اتّخذوهم أولياء ينتصرون بهم على الإسلام و دين الحقّ ، أنّهم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

و الآيات الشريفة تبيّن حاجة المؤمنين إلى وليّ يعصمهم من أعدائهم، يطبق فيهم ما أنزله اللّه تعالى، فينهى عن موالاة الكافرين و يثبت موالاة المؤمنين و إطاعة من جعله اللّه وليّا يرعى شؤونهم و يدبّر أمورهم، فكانت هذه الآيات و ما بعدها حلقة وصل بين التشريع و التنفيذ و الضمان على تنفيذ أحكام اللّه تعالى و تشريعاته.

فقد أمر عزّ و جلّ في الآيات السابقة تنفيذ أحكام اللّه و ما أنزله على رسوله و الإعراض عن غيره. و يأتي في الآيات اللاحقة أنّه عزّ و جلّ أمر المؤمنين باتّباع

ص: 288

الرسول و من جعله اللّه وليّا عليهم، ينفذ فيهم أحكامه و يسعى في تطبيق تشريعاته و أوامره، فكان لا بدّ من الضمان على ذلك من الذين يعتبرون تهديدا على الإسلام و المسلمين، فنهى عن مولاة الكافرين و المنافقين الذين يتربّصون بدين اللّه الدوائر.

و من ذلك كلّه تعتبر هذه الآيات مع سابقتها و لاحقتها على ارتباط تامّ وصلة وثيقة، و كلّ آية منها في حدّ نفسها حلقة لا يمكن الاستغناء عنها في تثبيت ما ورد فيها من الأحكام، و تأويلها إلى غير ظاهرها يكون إبطالا لمعانيها السامية و أحكامها القويمة، و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع في توجيه هذه الآيات و صرفها عن معانيها على ما ستعرف.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ .

خطاب تحبّب و اهتمام بالمؤمنين و اعتناء بالموضوع اعتناء بليغا، و قد تقدّم الكلام في مثل هذا الخطاب. و مادة (أخذ) تدلّ على تناول شيء اعتمادا عليه. و منه:

أخذ منه العلم، أي: تناول منه معتمدا عليه في نقله. و منه: الاتّخاذ الذي هو الاعتماد على شيء لإعداده لأمر ما، و هو افتعال باب، و المعنى لا تعتمدوا على اليهود و النصارى مستنصرين بهم، تلقون إليهم بالمودّة و المحبّة، تعاشرونهم معاشرة الأحباب.

و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مظاهر لهذا الاتّخاذ، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، كما حدّد سبحانه و تعالى المحبّة لهم، فقال: لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، فإنّ المستفاد منه أنّ شروط المحبّة هي أن لا يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم و لم يظاهروا العداء للمسلمين.

ص: 289

و أما المحبّة، فلا بدّ أن تقتصر على البرّ بهم و القسط إليهم، فلا تشمل جميع أنواع المحبّة التي يجب تحقّقها بين أفراد المؤمنين. و من ذلك يستفاد أنّ التعبير بالاتّخاذ في المقام له دلالته الخاصّة، لا سيما بعد ذكر المتعلّق، و هي الولاية.

و أما الولاية، فقد تقدّم الكلام في معناها، و ذكرنا أنّ مادة (ولي) تدلّ على التبعية و تحقّق شيئين أو أكثر حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و لذلك مصاديق مختلفة، منها: الوليّ ، و هو الذي يلي أمر غيره، فيكون تابعا له، كوليّ اليتيم، و وليّ المرأة، و وليّ الأمر، و نحو ذلك. و التبعية تشتدّ و تضعف في الموارد، و قد اختلط على كثير هذه المراتب، فاعتبروا لكلّ مرتبة معنى خاصا لها، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك.

و منها: الصديق و القريب، إلى غير ذلك ممّا ذكروه، و الجميع إنّما هي مصاديق لهذه المادة التي لها مراتب مختلفة شدّة و ضعفا، فكلّما اشتدّت التبعية و القرب الذي له دواعي و أسباب متعدّدة، كانت الولاية شديدة، أعلاها الولاية التكوينيّة و التشريعيّة، الثابتتان للّه تعالى و رسوله و أولياء اللّه تعالى، و قد جمعت في قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة المائدة، الآية: 55]، فتكون جهة الولاية هي الطاعة، و قد تكون من جهة التقوى و الانتصار، فالوليّ هو الناصر، و إن كانت جهة الالتيام في المعاشرة و المحبّة التي هي الانجذاب الروحيّ . و إن كانت من جهة النسب، فالوليّ هو الذي يرثه من غير مانع يمنعه، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها في هذه المادة التي هي إلى الدواعي أقرب، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في غير المقام أيضا، فالولاية نوع اقتراب و معاشرة مع شيء، توجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما، و يختلف شدّة و ضعفا، كما تختلف من جهة الدواعي، و أعظمها ولاية اللّه تعالى لعباده المؤمنين التي هي أشدّ مراتبها التي تجتمع فيها الكثير من الجهات و الدواعي، ففيها النصرة و التقوى و المحبّة و الطاعة، و الوليّ فيها هو الذي يحكم في أمره بما يشاء، و غير ذلك ممّا ذكروه.

و الولاية قد تكون ولاية الانتصار، فحينئذ يكون الولي هو الناصر الذي لا يمنعه شيء عن نصرة من اقترب منه، و قد تكون ولاية المحبّة التي هي الانجذاب،

ص: 290

فالولي هو الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و قد تكون ولاية النسب الذي هو نوع اقتراب بين المنتسبين تكوينا، فالوليّ هو الذي يرث من الآخر من غير مانع يمنعه، و سيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و أما سياق الآية الشريفة، فهو يدلّ على أنّ المراد من الولاية هي ولاية النصرة و المحبّة، اي: لا تعاشروا اليهود و النصارى معاشرة الأحباب، تلقون إليهم بالمودّة و تستنصرونهم في بعض شؤونهم، كما هو الأمر بالنسبة إلى ولاية المشركين. قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، و يدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة التي تقيّد إطلاق صدرها، فيختصّ النهي عن تلك الولاية التي توجب المحبّة و الخلطة بينهم، بحيث يستلزم النصرة و الامتزاج الروحيّ ، و يرشد إلى ذلك ما اعتذر به المنافقون الذين حكى عنهم عزّ و جلّ : نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فتدور عليهم الدائرة فتصيبهم منهم و من غيرهم الجور فيتأيدون بنصرة اليهود و النصارى و يتخذونهم أولياء بالمحبّة و النصرة ليسلموا من دائرتهم و دائرة غيرهم.

و قد نهى عزّ و جلّ المؤمنين عن مثل هذه الولاية.

و ممّا ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة التي تجري بين شخصين أو قومين التحالف و التعاهد على نصرة أحدهما الاخر عند الحاجة، كما كانت دائرة في الجاهليّة، فيختصّ النهي بجماعة المسلمين دون جملتهم، كيف و قد حالف النبي صلّى اللّه عليه و آله يهود المدينة و قد أصرّ على ذلك و أنكر أشدّ الإنكار أن تكون ولاية المحبّة فقط، كما ذكره جمع كثير من المفسّرين، و اعتبر كون الولاية بمعنى ولاية المحبّة ممّا تتبرّأ منه الآية الشريفة في مفرداتها و اسلوبها، كما يتبرّأ منه سبب نزولها و الحالة العامّة التي كان عليها المسلمون و غيرهم في عصر التنزيل.

و استغرب أن تحمل الآية الشريفة على النهي عن المعاشرة معهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي ذمّة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و مع

ص: 291

الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة.

و الحقّ أنّ الآية الشريفة تدلّ على معنى أعظم ممّا ذكره، فإنّها تدلّ على حكم اجتماعيّ له الأثر الكبير في حفظ كيان الإسلام و المسلمين و عدم ضياع معالمهم و حفظ أخلاقهم السامية، فإنّ النهي عن محبّتهم و التودّد إليهم يستوجب كراهة عقيدتهم و أعمالهم المنافية مع تعاليم الإسلام الحنيف و عدم الاستنصار منهم، و قد غفل عمّا ترمز إليه الآية الشريفة، و ما ذكره في توجيه مراده لا يمكن الاعتماد عليه، فإنّ الإسلام لم يضيع حقّا من حقوق أهل الأديان الإلهيّة التي تكون في بلاده، فإنّ التزامهم تنفيذ شروط الذمّة ممّا يجعلهم في مصاف الموادين للإسلام و عدم صدور ما يغيض المسلمين أو يكرهه الإسلام. و ما ذكره من براءة الآية بمفرداتها و اسلوبها من ذلك فهو عجيب، فإنّ الآية باسلوبها الرفيع و دلالة سياقها و أجزائها تدلّ على أنّ المراد هو الأعمّ دون ولاية الحلف فقط، فإنّ قوله تعالى:

بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، فإنّ ذلك كلّه يدلّ على أنّ المراد من الولاية الأعمّ ، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران، الآية:

28]، فإنّه صريح في ذلك، و يزيد أنّ هذه الولاية المنهي عنها قد يحتاج إليها في موارد الضرورة، كما كان هناك معاهدات و أحلاف بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين اليهود و المشركين، فلو كانت مختصّة بولاية المحبّة فقط، لما كان وجه لجوازها عند الضرورة، فإنّ المحبة القلبيّة لا تصل إليها الضرورة، كما في سائر الأمور النفسيّة و القلبيّة، و سيأتي ما يرتبط بالمقام.

و بالجملة: الآية الشريفة تدلّ على النهي عن تولّي اليهود و النصارى بالمحبّة و النصرة، فإنّ من تولّى قوما لحق بهم، و قد قيل: إنّ المرء مع من أحبّ ، و توجب الدخول في زمرتهم.

و إنّما ذكر اليهود و النصارى دون أهل الكتاب كما عبّر به في غير المقام، لبيان

ص: 292

سبب المعاداة بينهم و بين المسلمين، و أنّه الأوهام الباطل، لا من حيث كتابهم، فإنّه لو عبّر به لكان فيه إشعار إلى قربهم من المسلمين نوعا ما يوجب إثارة المحبّة، فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء، هذا بخلاف ما ورد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 57]. فإنّ توصيفهم باتّخاذهم دين اللّه هزوا يستدعي أن يكون الوصف، أي: كونهم ذو كتاب، ذمّا لهم و نقصا لا مدحا، فإنّ كونهم ذوي كتاب تقتضي أن لا يتّخذوا دين دين اللّه هزوا و لعبا، فإنّ ذلك يكون ادعى لأنّ لا يتّخذوا أولياء.

قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .

بيان و تأكيد لما سبق، و تعليل للنهي السابق في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى . و المعنى: لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم مع تفرّقهم و اختلافهم و شقاقهم و مضادتهم و تنافرهم فيما بينهم، لكنهم أولياء في العون و النصرة على الحقّ و أهله، فقد اتّحدت آراؤهم و تجاذبت نفوسهم بسبب تلك الولاية البغيضة التي ثبتت فيما بينهم على الاستكبار عن قبول الحقّ ، و اجتمعت كلمتهم على المعاداة له و إطفاء نور اللّه تعالى و تناصرهم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين، لأنّهم استرسلوا في اتّباع الهوى و انغمسوا في مشتهيات النفس، فالكلّ متّفقون على الكفر، مجمعون على مضارّتكم و مضادّتكم، فلا يرجى منهم خير و لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة و المحبّة، فلا يتصور بينكم و بينهم موالاة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .

وعيد لمن خالف النهي، و تهديد شديد مبالغة في الزجر. و (من) تبعيضية، و التولي: هو الاتّخاذ، أي: و من يتّخذهم منكم أولياء، فإنّه يكون من جملتهم و جماعتهم، و يكون حكمه حكمهم تنزيلا، و مثل ذلك كثير، فإنّ ارتكاب نهي من المناهي الشرعيّة أو إتيان فعل من أفعال أعداء اللّه تعالى، أو ترك واجب من الواجبات الإلهيّة، قد يوجب الكفر و يلحق المؤمن بالكافرين، و إن كان على الإيمان

ص: 293

ظاهرا، لأنّ للإيمان و الكفر مراتب متفاوتة و كثيرة، شدّة و ضعفا، قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة سورة يوسف، الآية: 106]، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

و السرّ في هذا التنزيل و إلحاقهم باليهود و النصارى، لأنّهم لم يسلكوا سبيل الهداية و الرشاد الذي هو الإيمان، بل سلكوا سبل أعداء اللّه تعالى، فكانوا من أهل دينهم و ملّتهم، فيؤول أمرهم إلى ما يؤول إليه أمر الكافرين، فلا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق في إيمانه.

و الآية الشريفة إنّما تبيّن أصل التنزيل، و أما سائر الخصوصيات فلا بدّ من الرجوع فيها إلى السنّة الشريفة، نظير قوله: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية:

297]، فإنّه يدلّ على أنّ من خالف هذا الحكم يكون من الكافرين تنزيلا، و أما الأحكام الفرعيّة المترتّبة على هذا التنزيل، فلا يمكن أن تستفاد من إطلاق هذه الآيات، لأنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

تعليل للوعيد السابق، و بيان لجهة التنزيل، أي: أنّ من يتولاّهم من المؤمنين لا يكون سالكا سبيل الإيمان، بل هو ظالم مثل من تولاّهم، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين، فهم قد ظلموا أنفسهم، لأنّهم حرموها من الهداية الإلهيّة و ظلموا قومهم بمولاتهم للكفّار الذين نصبوا الحرب للمؤمنين.

قوله تعالى: فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ .

تفريع على ما سبق، فإنّ من آثار عدم هداية اللّه تعالى للقوم الظالمين أنّهم يسارعون في الغواية و الضلال و موالاة الكافرين.

و مرض القلب الذي اختصّ القرآن الكريم بذكره من أسوأ الأمراض التي تصيب الإنسان، فإنّه يخرجه عن استقامة الفطرة و الطريق السوي إلى الشكّ و الريب اللذين يستوليان على عقيدته و دينه و خلقه، فلا يمكن له أن يحصل ثبات

ص: 294

و اطمئنان و استقرار في إدراكاته الدينية، فيكون ضعيف الإيمان متذبذبا فيه غير مستقرّ على خلق كريم، و يظهر أثره على عمله، فيصدر منه ما يناسب الكفر و النفاق، كما في المقام، فإنّك ترى أنّ مرضى القلوب يبتدرون في توثيق ولائهم مع الكافرين و توكيده، فيسارعون في هذا الطريق مسارعة من يرغب في شيء و يجدّ في طلبه. و سيأتي في البحث الأخلاقيّ مزيد الكلام في هذا المرض العجيب و الداء العضال.

قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ .

تقدّم الكلام في معنى المسارعة، و تختلف المسارعة في الشيء عن المسارعة إليه، فإنّ الاولى حاصلة من الداخل في الشيء و الثابت فيه المستقرّ، و إنّما كانت مسارعة من مرتبة إلى اخرى، فهم إنّما يسارعون في مولاتهم للكافرين لزيادة تمكّنهم فيها و ثباتهم عليها. بخلاف المسارعة إلى الشيء الداخل فيه من خارجه.

قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ .

بيان لبعض وجوه الضلال التي أوجبت المسارعة في مولاة الكافرين، و هي خشية وقوعهم في المصائب و الدواهي، فيرجون منهم النصرة، فهم لم يسارعوا فيهم لخشية إصابة الدائرة عليهم، و إنّما يخشون إصابتها لهم فيستنجدونهم و تكون لهم يد عند ما تدور الدوائر و تكون للكافرين الدولة و السلطة الظاهريّة على المؤمنين، و هذا من آثار مرض القلب الذي أحاط بهم فأخرجهم عن استقامة العقيدة و سلوك الطريق السويّ ، فلم يوقنوا بوعد اللّه تعالى و نصرته للمؤمنين، و لم يعتقدوا بصدق وعد اللّه تعالى، و لم يفكروا إلاّ فيما يرجع إلى نفعهم الظاهريّ ، فأخطأ ظنّهم و لم يجنوا من دعواهم هذه إلاّ الدخول في مسلك الكافرين و الحلول معهم.

قوله تعالى: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي ظهور الحقّ و غلبته على الباطل و زهوقه، و أنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل و توسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى آنفا أنّه: لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، فيفضحهم و يظهر للملأ بطلان ذرائعهم و فساد عقيدتهم، و في المقام بيّن عزّ و جلّ وعده للمؤمنين بالفتح و الغلبة على الكافرين، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود و النصارى و أنّهم يخشون الدائرة عليهم، فقد تولّوا أعداء اللّه تعالى و خالفوا النهي الإلهيّ ، فلا بدّ من إظهار كذبهم و كشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين ما ليس في قلوبهم، فكانوا في شكّ من قدرة اللّه تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزّ و جلّ ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم، و من غيره ترج، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من الوعد، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه و توكيد وعده.

ص: 295

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي ظهور الحقّ و غلبته على الباطل و زهوقه، و أنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل و توسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى آنفا أنّه: لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، فيفضحهم و يظهر للملأ بطلان ذرائعهم و فساد عقيدتهم، و في المقام بيّن عزّ و جلّ وعده للمؤمنين بالفتح و الغلبة على الكافرين، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود و النصارى و أنّهم يخشون الدائرة عليهم، فقد تولّوا أعداء اللّه تعالى و خالفوا النهي الإلهيّ ، فلا بدّ من إظهار كذبهم و كشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين ما ليس في قلوبهم، فكانوا في شكّ من قدرة اللّه تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزّ و جلّ ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم، و من غيره ترج، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من الوعد، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه و توكيد وعده.

و مادة (فتح) تدلّ على الفصل في الشيء و القضاء فيه، قال تعالى: رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف، الآية: 89]، أي: افصل بيننا و بينهم. و منه فتح البلاد، قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ [سورة السجدة، الآية: 28]، و منه المفتاح و نحو ذلك.

و اللام في الفتح للجنس و ليس للعهد كما ذكره جمع من المفسّرين، فاختلفوا في تعيينه، فقيل: إنّه فتح مكّة الذي كان به ظهور الإسلام، و به أنجز اللّه تعالى وعده لرسوله.

و ردّ بأنّه غير صحيح إلاّ إذا نزلت الآيات هذه قبل فتح مكّة، و هو أوّل الكلام، و ايّد هذا القول بأنّه المراد في أغلب موارد استعمال الفتح في القرآن الكريم، و لكن يشكل أنّه إذا كان المراد به ذلك فقد وصفه عزّ و جلّ بأنّه لا ينفع الكافرين إيمانهم بعد الفتح، و هو لا ينطبق على فتح مكّة و لا على غيره، قال تعالى:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [سورة السجدة، الآية: 28-30]. و من المعلوم أنّه لا ينطبق هذا الوصف على فتح مكّة و لا على سائر الفتوحات التي أعزّ بها الإسلام، فإنّ الإيمان منهم يقبل، فلا بدّ أن يكون هذا

ص: 296

الفتح الذي لا ينفع معه الإيمان إما ذلك الفتح الذي يتبدّل فيه الحياة إلى حياة اخرى، فيرتفع التكليف حينئذ، كما في تبدّل نشأة الدنيا و بالآخرة، أو لأجل تبدّل حالات الإنسان إلى حالة لا تفيد معها الإيمان بارتكابه المعاصي و الآثام، فقسى قلبه قسوة لا رجاء معها للرجوع و التوبة، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [سورة الانعام، الآية: 158]. و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في مباحثنا السابقة.

و قيل: إنّ المراد به فتح بلاد اليهود كخيبر و غيرها، و قيل: إنّه فتح بلاد النصارى.

و كيف كان، فإنّ جنس الفتح ينطبق على كلّ فتح يظهر اللّه عزّ و جلّ به الإسلام و يعزّ الدين، و ينصر المؤمنين على الكافرين، و يفضح به أعداءهم و يكشف حقيقتهم و نواياهم. فتكون الآية الشريفة من الملاجم القرآنيّة التي ينبئ فيها تعالى إعلاء كلمة الإسلام و ظهوره على الكفر كلّه، بعد ما تستقبل الامّة من الحوادث ممّا تزعزع عقيدة كلّ فرد مؤمن إلاّ من عصمه اللّه تعالى، فلا تختصّ الآية الشريفة بعصر النزول و لا بطائفة خاصّة، كما ذكره المفسّرون من أنّها نزلت في المنافقين، كعبد اللّه بن ابي و أصحابه الذين كانوا يشاركون المؤمنين في اجتماعاتهم و يظهرون إيمانهم و التودّد إليهم و هم يضمرون المحبّة و التولّي لليهود و النصارى، استدرارا للطائفتين، فإنّ حكم الآية عامّ يشملهم كما يشمل غيرهم ممّن فيه الصفات التي ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآيات، و من ذلك يعرف أنّه لا وجه للإشكال بأنّ مراد الآية غير هؤلاء المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم، إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاء مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف عدم وقوع ما كان يخاف وقوعه، فإنّ الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة التي لا تستتبع لوما و لا ذما.

و يردّ عليه: أنّ الاحتياط الذي لا يستتبع اللوم و الذمّ هو ما كان صحيحا و معتبرا عند العقلاء و قرّره الشرع، لا مثل المقام الذي يكون الاحتياط فيه بين الحقّ و الباطل، و قد نهى عزّ و جلّ عن مولاة الكافرين، فهم لم يطمئنوا بوعد اللّه

ص: 297

من الفتح و النصرة، و من هنا كان وجه الاشتراك بين من تضمّنته الآية الشريفة و سائر المنافقين، فإنّ للنفاق مظاهر مختلفة و سبلا متعدّدة هذه أحدها، فلا بأس بالقول بأنّهم منافقون أظهروا الإيمان و خالطوا المؤمنين طمعا بهم إن هم ظفروا بالكافرين، و والوا اليهود و النصارى طمعا بهم إن هم ظفروا بالمؤمنين و وقعت الدائرة عليهم.

و كيف كان، فالآية الشريفة من الملاحم القرآنيّة التي فيها إخبار عن حالات هذه الامّة، و وعد منه عزّ و جلّ في نصرة هذا الدين و الفصل بين المؤمنين و الكافرين و المنافقين - فقد وعدهم اللّه تعالى بالفتح المبين عليهم - و أمر فيه إعزاز هذا الدين و إظهار الإسلام و إذلال المشركين الكافرين.

و هي لا تختصّ بحكم خاصّ ، بل تشمل كلّ ما فيه هذا المناط و لو كان من الأحكام الإلهيّة و التشريعات الربّانية التي فيها عزّة الإسلام و نصرته و غيرها.

قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ .

أي: أنّهم أسروا في أنفسهم النفاق و تولّي اليهود و النصارى، و جدّوا في المسارعة فيه إرضاء للشهوات الدنيئة في نفوسهم، لينالوا به ملاذ الدنيا و إطفاء نور اللّه عزّ و جلّ ، و هو الذي مراد اليهود و النصارى أيضا، و لكنّهم غفلوا عن عواقب الأمور و أنّ اللّه محيط بهم، فقد يفضحهم و يقطع أملهم فيصبحوا على ما أسروه نادمين. و قد ذكر عزّ و جلّ في الآية التالية سبب ندامتهم، و هو حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم. و الندامة إنّما تحصل من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه، و هم قد فعلوا كليهما، فقد تركوا حبّ دين اللّه و المؤمنين، ففعلوا العجائب في دينه تعالى، منها الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تولّي الكافرين، و يكفي الواحد منهما في الندامة و قطع كلّ أمل لهم في الدارين بعد ما أنزل اللّه تعالى من الفتح و الأمور من عنده، و سوف يخسرون كلّ شيء و يبطل سعيهم بعد فتح اللّه الأكبر و ظهور الحقّ و محو الباطل و زهوقه.

ص: 298

قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ .

الجملة في مقام بيان التقريع لحالهم و تخييب رجائهم و انعكاس تقديرهم، لوقوع ضدّ ما كانوا يتوقّعونه و يترقّبونه ممّن تولّوهم.

و اختلفوا في إعرابها، فقيل: إنّها معطوفة على ما قبلها عطف المحلّ ، و (يقول) بالرفع على أنّه مبتدأ. و قيل: إنّها مرفوعة بغير واو على أنّها جواب سؤال محذوف تقديره: فماذا يقول المؤمنون حينئذ. و قرئ: (و يقول) بالنصب عطفا على (يأتي)، أي: فعسى اللّه أن يأتي بالفتح و أن يقول. و قيل: إنّها عطف على قوله:

فَيُصْبِحُوا ، فإنّ ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم، و قول المؤمنين: «أ هؤلاء» جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم و مسارعتهم فيه.

و كيف كان، فإنّ الجملة على كلّ حال تقريع و توبيخ لهم كما عرفت.

أي: و يقول المؤمنون للمنافقين تعجّبا من حالهم و تقريعا لهم بعاقبة أمرهم و تبجّحا بما منّ اللّه على المؤمنين من الإخلاص و النصرة، فالخطاب للمنافقين الذين في قلوبهم مرض، و اسم الإشارة لليهود و النصارى، أي: أنّ المؤمنين يخاطبون الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء اليهود و النصارى الذين أقسموا باللّه ببالغ الإيمان و أغلظها إنّهم لمعكم. و يمكن العكس. و قيل: إنّ المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض متعجّبين من عاقبة الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء الذين أقسموا باللّه أغلظ الإيمان و آكدها إنّهم منكم أيها المؤمنون و على دينكم، كما في قوله تعالى:

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ، أي: يخافون.

و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم، و كيفما كان فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و تكريم لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم، بل يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران،

ص: 299

فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم، فالقول يمكن أن يكون لفظيّا صادرا من المؤمنين، و يمكن أن يكون حكاية عمّا يدور في نفوس المؤمنين لكشف حقيقة أعداء اللّه تعالى و المنافقين لهم في هذه الدار الفانية، و يرشد إلى ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة في المقام و مواضع اخرى في القرآن الكريم.

قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ .

جملة مستأنفة تبيّن حقيقة حالهم و ما عليه مآلهم، بلا فرق بين أن نقول هي حكاية المؤمنين، أو قول اللّه تعالى، فإنّ فيها التعجّب منهم من أنّه كيف آل أمرهم إلى الخسران و حبطت أعمالهم مع مسارعتهم في تولّي أعداء اللّه تعالى، و الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قد أعطوه الأيمان المغلّظة على أنّهم مع المؤمنين، فحبطت أعمالهم التي كانوا يتكلّفونها نفاقا، و خسروا ما كان يترتّب عليها من الأجر و الثواب لو كانوا في إيمانهم صادقين.

و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حبط الأعمال يختصّ ببعض الذنوب الكبيرة، و المقام منها، فإنّ النفاق و التلاعب بأحكام اللّه تعالى ممّا يوجب حبط الأعمال و الخسران.

ص: 300

بحوث المقام

بحث أدبي:

جملة (بعضهم أولياء بعض) من مبتدأ و خبر في موضع النعت لأولياء، و هي جملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها و تأكيدا لإيجاب الاجتناب، و إنّما وضع المظهر موضع المضمر (هم) في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، تنبيها على أنّ تولّيهم ظلم. كما أنّ الإتيان بالموصول دون ضمير القوم للإشارة بما في حيز الصلة إلى أنّ ما ارتكبوه من التولّي بسبب ما كمن من المرض.

و جملة: (يسارعون فيهم) حال المفعول، و قيل: إنّها في موضع المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبيّة، و هو الأصحّ . و قد ذكرنا أنّ إيثار كلمة (في) للدلالة على الاستقرار و الثبات في المولاة. و ذكر الزمخشريّ أنّ المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله ب (في)، و لكن عدل عنه المفسّرين لأنّه تفسير بالأخفى.

و قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون.

و الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، و أصلها داورة، لأنّها من دار يدور.

و قوله تعالى: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فيه البشارة و الوعد لرسوله و المؤمنين، و قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ في تأويل المصدر و هو خبر (عسى). و قيل:

إنّه مفعول به لئلاّ يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، و هو سهل عند آخرين، و النزاع معروف في كتب النحو.

و الفاء في فَيُصْبِحُوا للسببيّة، و هو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر (عسى)، و هما جملتان في عداد جملة واحدة، فلذا استغنى عن الضمير العائد على الاسم. و (نادمين) خبر (يصبحوا).

ص: 301

و قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا... كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة. و قرئ: (و يقول)، بالنصب عطفا على فَيُصْبِحُوا . و قيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى، كأنّه قيل: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الذين... إلخ.

و فيه كلام طويل، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في التفسير أيضا فراجع.

و قوله تعالى: أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا اسم الإشارة مبتدأ و ما بعده خبر، و الهمزة للإنكار و لها الصدارة في الكلام.

و جملة (إنّهم لمعكم) لا محلّ لها من الإعراب، لأنّها تفسير و حكاية لما أقسموا به. و جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنّه مصدر ل (أقسموا) من معناه، أي:

أقسموا اقساما مجتهدا فيها، و قيل: إنّه حال بتأويل مجتهدين، و أصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال هي الجملة في الحقيقة. و قال غير واحد: إنّه لا ضير في تعريف الحال هنا، لأنّها في التأويل نكرة.

و كيف كان، فهو متعارض جهد نفسه إذا بلغ وسعها.

و جملة: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ إما جملة مستأنفة مسوقة لبيان مآل أمرهم و عاقبة فعلهم من ادّعاء الولاية و القسم على المعيّة في كلّ حال، و يكون الاستفهام للإنكار.

و يمكن أن تكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل هو الخبر، و الموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فيكون الاستفهام حينئذ للتقرير، و فيه معنى التعجّب، و قيل غير ذلك، و قد عرفت في التفسير بعض الكلام. و أغلظها أنّهم لمعكم، و قيل: إنّ اسم الإشارة لليهود و النصارى، و قوله: (معكم) خطاب للذين في قلوبهم مرض، و يمكن العكس، و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم.

و كيفما كان، فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و كرامة لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة أيضا بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم. بل

ص: 302

يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران، فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم.

بحث دلالي:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ ، على أحد أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يحفظ بها المسلمون استقلالهم و وحدتهم و مشاعرهم اتّجاه بعضهم البعض، فيكونوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص أمام أعدائهم الذين يتربّصون بهم الدوائر، و لأهمّيّة هذا الحكم الإلهيّ فقد ذكره القرآن الكريم في مواضع متفرّقة، و تعرّض إلى بعض الأسباب التي تدعو إلى اتّخاذهم أولياء، و المخاطر التي تترتّب عليه. و حذّر عزّ و جلّ المؤمنين من اتّخاذ أعدائهم أولياء، و بيّن الآثار الظاهرة المترتّبة عليه في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

أما الأسباب التي دعت المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إلى اتّخاذهم أولياء، فهي كثيرة، منها: ما ورد في الآية التي تقدّم تفسيرها، قال عزّ و جلّ حكاية عنهم: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ .

و منها: ما ذكره تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 144]. فإنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ممّا يوجب تعرّض المتولّي لسخط اللّه، و يجعل اللّه على نفسه الحجّة فيضلّه و يخدعه.

منها: الغفلة عن اللّه تعالى و قدرته و سلطانه و مكره، قال عزّ و جلّ : وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 3]، و غير ذلك ممّا ذكره عزّ و جلّ في هذا الموضوع. و يمكن إرجاع ذلك إلى الغفلة عن اللّه و الشكّ في قدرته و سلطانه، كما أشارت إليه الآية المتقدّمة. و أما الآثار التي تترتّب على هذا

ص: 303

الظلم الفرديّ و الجمعيّ ، فهي كثيرة، و يكفي في شدّتها و هولها و فظاعة هذا الأمر أنّ اللّه تعالى يسلب الهداية عمّن اتّخذ أعداءه أولياء، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ . و من نتائج سلب الهداية عنهم أنّهم خسروا الدنيا و الآخرة و في العذاب هم خالدون، و أنّ ولاية أعداء اللّه توجب الدخول فيهم و أن يكون من زمرتهم، و سيحشره اللّه تعالى معهم، قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، و سيحرمه اللّه تعالى ممّا تمنّاه في ولايتهم، قال تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فإنّه عزّ و جلّ يرفع عنهم العزّة بعد ما اتّخذوهم أولياء لابتغاء العزّة عندهم. و قال عزّ من قائل: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ، و تأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الثاني:

تدلّ الآيات الشريفة على ملحمة قرآنيّة، و هي ما يؤول إليه أمر هذه الامّة إذا تحقّق منهم الموالاة لأعداء اللّه تعالى، و أنّها توجب انهدام بنية هذا الدين، و أنّها تقطع أواصر الترابط بين أفراده و لا يعود إلى عزّته و نشاطه و تأثيره، إلاّ أن يبعث اللّه من يقوم بالأمر و يعيد مجد هذا الدين و يحيى تراثه و معالمه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث:

يدلّ سياق الآيات الشريفة على أنّ الولاية المنهيّ عنها إنّما هي الولاية التي يترتّب عليها الأثر من المخالطة و التشبّه بأعمالهم و أفعالهم و الدخول في زمرتهم، دون ولاية المحبّة فقط، و إن كانت مبغوضة أيضا. كما تدلّ عليه جملة من الروايات، و سيأتي في البحث العرفانيّ ما يتعلّق بالمقام.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، على أنّ أعداء اللّه تعالى على تفرّقهم و تشتّتهم طرائق و مذاهب، إلاّ أنّهم أولياء بعض في مقابل الحقّ و المؤمنين، و لا تختص هذه الحقيقة بعصر النزول، بل هم كذلك ما دام الصراع بين الحقّ و الباطل قائما، و يكفي تصوّر هذه الحقيقة في الابتعاد عنهم و عدم اتّخاذهم أولياء.

ص: 304

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، على أنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ظلم عظيم يوجب دخول المتولّي في زمرة الكافرين، لأنّ المحبّة و المودّة تجمع المتفرّقات و توحّد النفوس المختلفة، و تؤثّر على الأحاسيس و الإدراكات، فتتأثّر الأخلاق و تتشابه الأفعال، فيحذوا المتولّي حذو من تولاه في شؤون الحياة و مستوى العشرة، و لذا أوجبت الولاية البعد عن اللّه تعالى، و المتولّي لا يكون منه من شيء، فكلّما اشتدّت المحبّة و المودّة لأعداء اللّه، كلّما ابتعد عن اللّه تعالى و اقترب منهم حتّى يصير واحدا منهم و يلتحق بهم، و لذا قيل: من أحبّ قوما فهو منهم.

السادس:

يستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ الولاية المنهيّة التي توجب لحوق قوم بقوم و كونهم منهم، هي ولاية المحبّة و المودّة، دون ولاية الحلف التي تنعقد لمصالح خاصّة، و قد عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع المشركين و الكافرين في ظروف خاصّة. و يدلّ على ذلك ما ورد نظيرها عنه تعالى ناهيا عن ولاية المشركين: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ - إلى أن قال عزّ و جلّ : - وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ [سورة الممتحنة، الآية: 1-9]، فإنّ الولايتين من باب واحد، فتكون الولاية التي تقتضي لحوق من تولّى بمن تولاه هي ولاية المحبّة، و هذا ما يقتضيه الاعتبار أيضا، فإنّ التولّي و التودّد لا يكون إلاّ بين اثنين بينهما السنخيّة التي تقتضي الدخول في الأسناخ و الأشباه. و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير فراجع.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، على أنّ تولّي الكافر ظلم، لأنّه تعريض النفس للعذاب و ابعاد لها عن مواضع الرحمة و قطع لمسيرة الكمال الذي ينشده الإنسان في الحياة الدنيا، و اللّه لا يهدي من كان ظالما و مانعا عن سبل الهداية و الكمال، بل يخلّيه و شأنه و يكله إلى نفسه، و هو ممّا تعوّذ منه الأنبياء و الرسل، فإنّه فيه هدم للكيان الإنسانيّ خلقيّا و عقائديّا.

ص: 305

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، على أنّ القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، فلا بدّ أن تكون لها صحّة و سلامة، إذ هما من المتضايفان لا يتّصف الموضوع بأحدهما إلاّ إذا أمكن اتّصافه بالآخر، و لا ريب أنّ مرض القلب الذي يخبر عنه القرآن الكريم أسوأ من سائر الأمراض، فإنّه يميت القلب عن كسب الكمال و يخرجه عن استقامة الفطرة و يوجب انحرافه عن الصراط السوي الذي يوصله إلى الكمال المنشود. و المستفاد من الموارد التي وردت فيها هذه الكلمة أنّ مرض القلب يوجب الإرباك في العقيدة و الشكّ و الارتياب في الإيمان باللّه تعالى و عدم الطمأنينة بآياته و أحكامه و تشريعاته، و بالآخرة يؤثّر ذلك على الأعمال و الأفعال التي تصدر ممّن مرض قلبه، فتكون أقرب إلى الفسق و الكفر منها إلى الطاعة و الإيمان. و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ، على أنّ اللّه تعالى يظهر المنويّات في الدار الدنيا من القلوب قبل الآخرة، فإذا كانت حسنة ظهرت على الأقوال و الأعمال، و إن كانت سيئة ظهرت كذلك لا محالة، فترى الذين في قلوبهم مرض و استبطنوا النفاق و الشكّ و الارتياب يسارعون في الكفر و موالاة أعداء اللّه تعالى، و يعرضون عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و اتّباع أحكامه و تشريعاته، فسيظهر اللّه تعالى أعمالهم و يصبحوا خاسرين لا تنفعهم أمانيهم و لا أعمالهم في دفع ما استحقّوه من العذاب.

بحث روائي:

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أخرج ابن إسحاق و ابن جرير، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر عن عبادة بن الوليد: «انّ عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تشبّث بأمرهم عبد

ص: 306

اللّه بن سلول و قام دونهم، و مشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبرّأ إلى اللّه و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله من حلفهم، و كان أحد بني عوف ابن الخزرج و له من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد اللّه بن ابي، فخلعهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، و أبرأ إلى اللّه و رسوله من حلف هؤلاء الكفّار و ولايتهم».

و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول إنّ لي موالي من يهود كثير عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولاية يهود، و أتولى اللّه و رسوله، فقال عبد اللّه بن ابي: إنّي رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعبد اللّه بن ابي: يا ابن الحباب! أ رأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه ؟ قال: إذن أقبل، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ - إلى ان بلغ قوله - وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ .

و فيه - أيضا -: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «إنّ عبد اللّه بن ابي بن سلول. قال: إنّ بيني و بين بني قريظة و النضير حلفا، و إنّي أخاف الدوائر، فارتد كافرا، و قال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى اللّه من حلف قريظة و النضير، و أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ - إلى قوله - فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ ، يعني: عبد اللّه بن ابي - الحديث».

أقول: الروايات في شأن نزول الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها كثيرة رويت بطرق مختلفة، و تقدّم مكرّرا أنّ ذلك لا يكون سببا لتقيّد إطلاق الآية أو تخصيصها، فالآية الكريمة عامّة تشمل ولاية المحبّة و المودّة و نحوها، و لا تختصّ بمنافقي عصر النزول و لا الكافرين فيه، يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة كغيرها قد ذكر فيها النصارى و الروايات تختصّ باليهود و لم يكن فيها للنصارى نصيب.

على أنّ الرواية الأخيرة تذكر الآيات من 51 إلى 67، و هي لا ترتبط بالقصة البتة

ص: 307

و لا اتّصال بين تلك الآيات، و فيها ما نزلت في موضوع معين و فرد خاصّ بالاتّفاق.

و بالجملة: فإنّ جميع ذلك ممّا يوجب و هن تلك الروايات، لا سيما الأخيرة منها.

و في الدرّ المنثور: «أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ نزل في بني قريظة إذ غدروا و نقضوا العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم و قريشا ليدخلوهم حصونهم، فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، و كان طلحة و الزبير يكاتبان النصارى و أهل الشام، و بلغني أنّ رجالا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا يخافون العوز و الفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة و النضير، فيدسّون إليهم الخبر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، يلتمسون عندهم القرض و المنفع فنهوا عن ذلك».

أقول: الرواية تؤيّد ما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة من أنّ المراد من الولاية هي ولاية المحبّة و المودّة، و لكنّها لا توجب تخصيص الآية أو تقييدها، فإنّها تبيّن بعض المصاديق، و يدلّ على ذلك ما ورد في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام من تطبيق الآية على بعض الأفراد الذين أضلّوا الناس، و أنّهم ممّن قال اللّه تعالى فيهم: أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [سورة المائدة، الآية: 53].

بحث أخلاقي:

قد عرفت أنّ الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، تدلّ على أنّ للقلوب مرضا كما أنّ للأبدان مرضا، بل لا يخلو من ارتباط المرضين بعضهما مع البعض

ص: 308

لشدّة ارتباط القلوب بالأبدان، و من المعلوم أنّ المرض إذا أحلّ في مكان، فلا بدّ أن لا تكون هناك صحّة، إذ المرض و الصحّة متقابلان، تقابل العدم و الملكة، لا يتحقّق أحدهما في محلّ إلاّ بعد إمكان تلبّسه بالآخر، فإنّه لا يتّصف الجدار بالمرض لعدم شأنيّته للصحّة، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع، قال تعالى: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [سورة الأنفال، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً [سورة الأحزاب، الآية: 12]. و المستفاد من مواضع استعماله أنّ مرض القلب يخرج صاحبه عن الاستقامة و يوجب انحراف الشخص عن سواء الطريق و يجعل صاحبه في معرض الشكّ و الارتياب، كما قال عزّ و جلّ عنهم في الآية السالفة: ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ، فيكدر صفو الإيمان باللّه و رسوله، و يسلب الطمأنينة إلى آياته و تشريعاته، و يوجب خلط الإيمان بالشرك، فلا يقدر صاحبه على التمييز بين ما هو نافع له أو ضار. و لذلك ترى أنّه يصدر عن صاحب هذا القلب في مقام العمل ما يناسب الشرك و الكفر باللّه تعالى و آياته، حتّى يصل إلى حدّ الكفر.

و يختلف هذا المرض كسائر الأمراض الجسمانيّة شدّة و ضعفا و كثرة و قلّة، كما تدلّ عليه الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 125].

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذا المرض ربّما يزيد و يستقرّ في القلب حتّى يطبع المريض في مرضه، ثمّ ينجرّ به إلى الهلاك و الموت على الكفر، لكثرة معاصيه و موبقاته، قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الروم، الآية: 10].

ثمّ إنّ ظاهر قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ * [سورة الأنفال، الآية: 49] أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين، و إن كانا

ص: 309

يشتركان في كثير من الأفعال و الآثار، إلاّ أنّ النفاق لا يكون إلاّ في موت القلب و الكفر الخالص، و لكنّ مرض القلب يجتمع مع ضعف الإيمان و الشكّ و التردّد، فيميل مع كلّ ريح و يتبع كلّ ناعق. و أما المنافق فهو يبطن الكفر و يظهر الإيمان ليستميل المؤمنين و يكون معهم ظاهرا، لتنفيذ مآربه كما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع من القرآن الكريم، و ربما يشتركان في عدم استقرار الإيمان و عدم اشتمال باطنهم منه، كما يتّفقان في بعض الأفعال. و قد يكون مبدأ النفاق هو مرض القلب، فإذا لم يعالجه صاحبه ينتهي به إلى الكفر و النفاق، كما قال عزّ و جلّ : وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - إلى أن قال تعالى: - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً ... وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ ... [سورة البقرة، الآية: 7-20] فإنّ المستفاد منها أنّ القوم كانوا في ابتداء أمرهم مرتابين فزادهم اللّه مرضا حتّى هلكوا بإنكارهم الحقّ و استهزائهم له. ثمّ إنّ مرض القلب تقابله سلامته التي هي الاستقامة مع الإيمان و الطاعة للّه عزّ و جلّ و الرسول و اتّباع أحكامه و عدم اتّباع الهوى و الإعراض عمّا سوى اللّه تعالى، قال عزّ من قائل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، فإنّه يدلّ على أنّ سلامة القلب إنّما تكون في الانقطاع إليه عزّ و جلّ و الخلوص و الإخلاص له و الإعراض عمّا سواه تعالى. و على اختلاف درجات الانقطاع إليه و الخلوص له تختلف درجات السلامة، و بذلك يمكن أن يعالج مرض القلب، فإنّه يتحقّق بالإيمان به عزّ و جلّ و الاعتصام بحبله و إصلاح النفس و الإسراع بالتوبة إليه عمّا فعل من الموبقات، و ترويض القلب على الطاعة و حسن النيّة و العمل الصالح، و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم، و قد تقدّم في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ - الآية - [سورة البقرة، الآية: 177]، الذي جمع الكمالات الواقعيّة المعنويّة و الظاهريّة و طرق معالجة الأمراض النفسيّة التي تؤثّر

ص: 310

على حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة.

و في خصوص مرض القلب الذي أوجب محبّة أعداء اللّه تعالى فقد ذكر عزّ و جلّ كيفيّة معالجته في قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 146].

بحث عرفاني:

قد عرفت أنّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، يدلّ على النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء، و ذكرنا أنّه حكم اجتماعيّ يحفظ به كيان الإسلام و هويّة المسلمين. و أنّ من أهم آثار هذا الفعل - أي: التودّد إليهم بالمحبّة و النصرة - أنّه يعتبر منهم و يكون حكمه حكمهم في الآثار الوخيمة المترتّبة على الكفر، لأنّه من ما يبغضه ربّ العباد و يوجب الابتعاد عن الحقّ ، و لا يمكن اجتماع محبّة اللّه تعالى و محبّة أعدائه في قلب واحد، و كلّما ضعفت إحداهما تشتدّ الاخرى، فإذا استولت إحداهما على المشاعر لا يصدر من صاحبها إلاّ ما يناسبها من الخير و العمل الصالح و التوجّه إلى اللّه عزّ و جلّ و الإخلاص له إن كانت المحبّة للّه تعالى، أو الشرّ و العمل الطالح إن كانت المحبّة لأعدائه الذين لا مناسبة بينهم و بين الحقّ ، و من المعلوم أنّ النوايا و خفايا القلوب لها الأثر الكبير في حياة الإنسان العمليّة. و قد ورد التأكيد على الإعراض عمّا يبعد الإنسان عن اللّه تعالى، و الابتعاد عن أعدائه عزّ و جلّ ، و في بعض الأحاديث: «لا تلبسوا ملابس أعدائي، و لا تسكنوا مساكنهم، لأنّها من مظاهر العدوان، و هي مبغوضة عند اللّه تعالى، و المحبّ لا بدّ أن يبتعد عمّا

ص: 311

هو مبغوض لدى جنابه، فإنّ لها الأثر في سلوك المحبّ ، فمن يريد التقرّب إلى اللّه تعالى و مظاهر صفاته و أسمائه العليا، لا بدّ أوّلا أن يبتعد عمّا يكدر القلوب و يزيل صفاءها، فإنّها مجبولة على حبّ اللّه و الاقتراب إلى الحقّ و العمل به، و من أعظم ما يكون سببا في ذلك تولّي أعداء اللّه تعالى و محاكاتهم في الأقوال و الأعمال، فإذا تحقّق ذلك يميل الإنسان إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ بتنفيذ أحكامه و شرائعه، فإنّ ذلك كمال الإنسان و لا كمال فوقه، و أنّ فيه سعادة الدراين.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا

ص: 312

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.