مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 10

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تتمة سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) الآيتان الشريفتان من الآيات المباركة المعدودة في القرآن الكريم الّتي تعدّ هذه الامّة إعدادا عمليا صالحا لتحمّل المهمّة الكبرى الّتي أنيطت إليها، حيث جعلها خير أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و أنّها أمة وسط شهداء على الناس، و قد ميّزها عزّ و جلّ بهاتين المهمتين، أي الشهادة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الّذين يكونان تطبيقا عمليا للعقيدة.

أما الآية الاولى، فهي آية تربويّة توجيهيّة لإقامة العدل الإلهي في هذه الأرض المليئة بالعدوان؛ ليتنعّم البشرية و تقوم بالقسط. و هذه المهمة لا يمكن أن يقوم لها أساس إلاّ بتربية من يقوم بها تربية خاصّة صالحة؛ ليتجرّد للحقّ و إقامة العدل، فإنّ الإنسان عرضة للميل إلى الأهواء، فأمر عزّ و جلّ أن يكونوا قوامين شديدي التمسّك بالقسط في كلّ شؤونهم و ما يتعلّق أو من يتعلّق بهم حتّى يكونوا شهداء للّه تعالى، لا إلى المصالح و المنافع و لا رئاء الناس، و هو يتطلّب التضحية، فلا يكون الغنى و الفقر و لا غيرهما هو الميزان في العدل، بعد أن كان إقامة القسط و العدل للّه تعالى و أنّ مرضاته عزّ و جلّ هي الهدف و الغاية، لا الأهواء الّتي تزيغ الإنسان و تحدّه عن إقامة العدل.

ص: 5

و الآية المباركة تؤكّد على أخذ الحيطة و الاجتناب عن اتّباع الهوى الّذي هو السبيل الوحيد للضلال، و يعتبر جانب الضعف في الإنسان الّذي به يستولي الشيطان على مشاعره، فهذه الآية الشريفة من الآيات التربويّة الّتي تعدّ الأمة إعدادا فكريا تربويا لتطبيق العدل الرباني ليكونوا شهداء على الخلق أجمعين.

و أمّا الآية الثانية، فهي تحدّد الإيمان تحديدا دقيقا، و تبيّن الأركان في الإيمان باللّه العظيم و قواعده الّتي بها يمكن أن تصل الأمة إلى المنزلة الّتي أعدّها اللّه تعالى لها، فأمر عزّ و جلّ بالتمسّك بالإيمان الّذي آمنوا به أوّلا، إذ مجرّد الإيمان من دون أن يكون راسخا في النفوس لا أثر مهم يرجى منه، فأمرهم بالإيمان ثانيا في أسلوب ملفت للنظر، ليثير الإحساس فيتهيّأ للعمل على تنميته و الاستقامة عليه، ثم شرح الإيمان باللّه تعالى شرحا وافيا؛ ليبيّن أنّ الإيمان به لا يمكن أن يكون مجهولا كما كان عليه أهل الجاهليّة، فإنهم أيضا كانوا يدّعون الإيمان قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ [سورة الزمر، الآية: 38] إلاّ أنّ الإيمان المطلوب هو الإيمان باللّه العظيم مقرونا بالإيمان بالرسول و بالكتاب الّذي نزّل عليه و ما اشتمل عليه من الأحكام و التوجيهات و الإرشادات، ثم يؤكّد ذلك ببيان ضدّه - و هو الكفر باللّه تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر - للإعلام بأن الإيمان ليس أمرا ادعائيا يدخل فيه كل من اعتبر نفسه مؤمنا إلاّ إذا تحقّقت تلك القواعد و الأركان الّتي أعدّ اللّه تعالى لهذه الأمة.

و الآيات الشريفة ذات صلة بالآيات المباركة السابقة من حيث أنّها تشرح الإيمان و تبيّن التقوى بيانا كافيا.

ص: 6

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

سبق الكلام في هذا الخطاب الدالّ على كمال العناية بالمؤمنين، حيث جعلهم عزّ و جلّ مورد الإفاضة و اللطف و تشريع الأحكام دون غيرهم، إلاّ أنّه نزيد هنا أنّ هذا النداء الربوبي يشير إلى معنى دقيق لا يوجد في أي خطاب آخر، و هو أنّ المؤمنين لمّا تشرّفوا بالإيمان و أعرضوا عن جميع المميزات و نبذوا كلّ الحواجز الّتي ابتداعها أهل الزيغ و الضلال فصارت رابطة الإيمان أقوى الروابط الّتي تشدّ بعضهم مع بعض و أشدّها تأثيرا عليهم، فلم تبق رباطة اخرى تحرّكهم و تؤثّر عليهم من الروابط الّتي أقامتها الجاهليّة الغابرة و الحاضرة لاستيعاب الدين و العقيدة و الحدّ من تأثيرهما، كرابطة الجنس و اللغة و اللون و غيرها، و خمدت كلّ الصرخات الباطلة و الأهواء الزائفة و العادات السيئة، فأصبحوا بفضل الإيمان أمة واحدة بررة متحابّين يشدّ بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، لا تمييز فيها و لا فضل إلاّ بالتقوى لأنهم عبيد اللّه و المؤمنون به، فتشرّفوا بهذا النداء الربوبي، و ناداهم الجليل تعالى بأهل الإيمان و أمته لأنّهم أمة متميّزة، لا أمة الجنس، و لا اللون، و لا أمة اللغة و لا القوم و لا العصبية، و لا الأرض، لأنّهم آمنوا باللّه تعالى و تربّوا بتربيته عزّ و جلّ ، و تميّزوا بعقيدة خالصة و تحمّلوا أعظم مسؤوليته، و هي التبليغ و الشهادة؛ لأنّهم علموا بأنّ هذه العقيدة لا بدّ أن تطبق على واقع الأرض، فأصبحوا شهداء للّه تعالى على خلقه، فهذا النداء الربوبي يتضمّن العقيدة و التوجيه و التربية و الإعداد، فما أعظمه و أشدّ تأثيره على المؤمنين الّذين تميّزوا بخالص العقيدة، و لذا ورد في الحديث: أنّ جميع ما ورد في القرآن الكريم من هذا الخطاب فعلي عليه السّلام رأسه و أميره، و السرّ في ذلك معلوم لأنّه عليه السّلام تميّز بصدق الإيمان و خالص العقيدة و ثباتها و عرف ما يتضمّن هذا النداء من المسؤولية فآمن و عمل بمقتضاه، فصار بحقّ رأسه و أمير المؤمنين.

ص: 7

و ممّا ذكرنا يعرف السرّ في الابتداء بهذا النداء؛ لأنّه يعدّ المؤمن لتلقي حكما إلهيا عظيما و يهيّئوه للدخول في الأفق الأعلى.

قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ .

إرشاد إلى حقيقة واقعية، و هي: أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى ما خلقه اللّه تعالى لأجله الّذي فيه كماله و سعادته، و لا يصحّ له أداء الأمانة الكبرى الّتي عرضها سبحانه و تعالى على السموات و الأرض و الجبال و أشفقن منها و حملها الإنسان، أنه كان ظلوما جهولا. فإنّ هذه الأمانة لا تقوم إلاّ بإقامة القسط، و لا تصلح هذه الأمة المرحومة - الّتي جعلها اللّه تعالى قائدة و رائدة لسائر الأمم و حمّلها مقام الشهادة على سائر الخلق - لهذه المهمة الكريمة إلاّ بهذه الصفة و هي أن تكون قوامة للقسط و العدل فقط لا لهوى و مصلحة و غيرها، و لا يكون هدفها سوى إقامة القسط و بسط العدل و الشهادة للّه تعالى؛ لأنّ هذه الصفة من أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ و إقامته و ملازمة الصدق و الدنو إلى مقام الرضا.

و القوام: من القيام بالشيء، أي المواظبة عليه و ملازمته، و هي من صيغ المبالغة، و قد أوضحنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه لا معنى للمبالغة في الاستعمالات الواردة في القرآن الكريم؛ لأنّها ضرب من الادعاء، و هو لا يصلح لمقام هذا الكتاب الإلهي العظيم، بل يمكن أن يقال إنّ أبنية المبالغة الملحقة بالكلام العادي الّذي يحاول صاحبه أن يجتنبه عن ما يبعده عن الواقع بعيد، فيراد من استعمال هذه الصيغ في أمر إلفات النظر و توجيه المخاطب إلى التمسّك به بشدّة و إتيانه بأتمّ الوجوه و أكملها و أدومها، ففي المقام يراد به شدّة القيام بالقسط و ملازمته على كلّ حال و إقامته على أحسن الوجوه و أكملها و الاحتراز عن الجور، ففي هذا الأسلوب دلالته الواضحة، و هو يلفت النظر دون سائر التعابير. هذا ما يستفاد من أسلوب المبالغة، و هو يرشد إلى أنّ القسط و العدل و سائر الأمور الدينيّة لا اعتبار بها ما لم تكن مستقرة دائمة، فلا تكفي المرّة أو المرّات، بل لا بدّ أن تكون ملكة راسخة، و في المقام لا بدّ من القيام بالقسط حتّى يصير عادة لهم داخلة في واقع إيمانهم و جزءا لا ينفكّ منه.

ص: 8

و القسط: هو العدل، و من أسمائه تعالى «المقسط» أي العادل، و سمّي الميزان القسط أيضا؛ لأنّ به يتحقّق العدل في الشيء، و في الحديث: «انّ اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط و يرفعه»، و هو كناية عن ما يقدّره اللّه للعباد من رفع شؤونهم و تنزيلها. و في صفات المؤمنين: «إذا قسّموا أقسطوا»، أي: عدلوا.

و تقدّم ما يتعلّق بهذه الكلمة في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى [سورة النساء، الآية: 3] فراجع.

و القيام بالقسط من معدّات مقام الشهادة، فلا يمكن أدائها بصدق و أمانة إلاّ بإقامة القسط، على ما عرفت فراجع. و من هنا كان الابتداء بهذه الصفة له دلالته الخاصّة في أنّها من أهم مقوّمات الشهادة و لا يمكن أدائها إلاّ مع القيام بتلك الصفة، بل لا يتيسر للمؤمنين الشهادة إلاّ بعد أن يكونوا قوامين بالقسط، فتكون الشهادة في المقام ممّا اجتمع فيها الغاية و الهدف و المقتضي و الإعداد، فهي مقوّم من مقوّمات إقامة القسط، و هذا يدلّ على أهمية الحكم و عظمته.

و إطلاق الأمر يدلّ على لزوم القسط في جميع الشؤون في الحياة الاجتماعيّة و الحياة الزوجيّة، و في علاقة الفرد مع خالقه أو مع نفسه و مع الآخرين.

قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ .

الشهداء جمع الشهيد، و هذه الصيغة تدلّ على الصفات الراسخة، كعليم و حكيم و غيرهما، و تقدّم معنى الشهادة في قوله تعالى: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 282] و غيره من الآيات الكريمة.

و تدلّ الآية الشريفة على لزوم الشهادة و العناية بها، بأن تكونوا على استعداد و مراقبة تامّين، و هما يحصلان بالعقيدة الخالصة و العمل بالأحكام الإلهيّة، و اللام في اسم الجلالة (للّه) للغاية، أي تكون الشهادة خالصة للّه جلّت عظمته لا لغرض آخر، فلا تكون للهوى و لا للمصالح و المنافع و لا للسمعة و رئاء الناس، و لا محاباة لأحد، و لا حبّ الثناء و نحو ذلك، بل لا بدّ أن تتمّ الشهادة للّه تعالى.

و التأكيد على هذا الأمر لأجل أنّه التوجيه الصحيح الّذي يعدّ المؤمن إعدادا

ص: 9

عقائديّا و عمليّا و نفسيّا، فلا غرض له إلاّ بسط العدل و إقامة الحقّ ، و تثبيت كلمة اللّه تعالى و ابتغاء رضاه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ .

أي: كونوا شهداء لوجه اللّه تعالى و ابتغاء مرضاته، و لو كانت الشهادة فيها ضرر على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين، فلا يحملنكم حبّ هؤلاء كتمان الواقع و الشهادة على خلاف الحقّ ، فإنّه ليس من البرّ للوالدين و لا هو من صلة الأرحام إيقاعهم في الضرر و الهلاك بكتمان الحقّ عليهم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ المذكورين، لأنّهم أوثق الصلة بالنفس و من أهمّ ما يمكن أن يكون سببا لإعراض الإنسان عن حاسة العدل و الابتعاد عن الحقّ .

و إنّما عطف الوالدين ب (أو) لأنّه مقابل الأنفس، بخلاف الأقربين، فإنّه لا مقابلة بينهما فعطف بالواو.

و معنى الآية الكريمة واضح أي: أنّ الشهادة لا بدّ أن تكون بالقسط و في الحقّ و لو أدّت إلى ضرر بحاله أو بحال والديه و الأقربين، بلا فرق بين أن يكون المتضرّر هو الشاهد - أو المشهود عليه بلا واسطة أو معها - كما لو تخاصم اثنان و كان الشاهد متحملا لأحدهما، بحيث لو أدّى الشهادة لتضرّر به نفس الشاهد أيضا كالمتخاصم الآخر.

قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً .

تحذير آخر من وقوع الميل عن الحقّ و الزيغ في الشهادة، و تأكيد على عدم جعل المصالح هي الهدف في الشهادة، فإنّ العدل هو الميزان الثابت الّذي لا يتغيّر و لا يتبدّل، فلا الغنى و لا الفقر و لا شيء آخر من المصالح لها دخل في ميزانه، فلا بدّ أن تكون الشهادة للّه تعالى و أنّ رضاه عزّ و جلّ أحقّ أن يتّبع، فلا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحقّ طمعا في برّه و طلبا لرضاه أو خوفا من شرّه.

و بعبارة أخرى: لا تكون ممالأة ذوي الجاه و السلطان و المال و النفوذ للحصول على مصلحة منهم داعية لترك الشهادة أو إقامتها على غير العدل،

ص: 10

و كذلك لا يكون فقر الفقير صارفا عن الحقّ و موجبا لترك الشهادة له، تهاونا به أو عليه رحمة به.

قوله تعالى: فَاللّهُ أَوْلى بِهِما .

أي: أنّ إقامة الشهادة بالحقّ هي الّتي خير للشاهد و المشهود له أو المشهود عليه، بلا فرق بين أن يكونا غنيين أو فقيرين أو مختلفين، و أنّ القسط هو المطلوب في الشهادة، و اللّه تعالى أولى بالاتباع من الغني و الفقير؛ لأنّه أعلم بمصلحتهما و أرحم بهما و انظر لهما، و قد شرّع سبحانه و تعالى من الأحكام ما يرجع نفعه و يعود خيره للجميع.

و ضمير التثنية يرجع إلى الغني و الفقير. و (أو) في الآية الكريمة يدلّ على الترديد و الإبهام و هو يرجع إلى ما يمكن أن يتحقّق أو يفرض من الأفراد، و الأقسام هي كثيرة، فإنّ الشهادة تعمّ الشهادة للمشهود له أو عليه، و كلّ واحد منهما قد يكون غنيا و الآخر فقيرا، و قد يكون بالعكس، و قد يكونان فقيرين، و قد يكونان غنيين، و عدم ذكر الأقسام أوجب مجيء (أو) ليرجع إلى المذكور المتعدّد.

و بعبارة اخرى أنّ ضمير التثنية يرجع إلى المشهود له أو عليه بأي وصف كان عليه.

و ذكر الرضي أنّ الضمير الراجع إلى المذكور المتعدّد الّذي عطف بعضه على بعض ب (أو)، يجوز أن يوحد و أن يطابق المتعدّد، و ذلك يدور على القصد، و يمكن ارجاعه إلى ما ذكرنا، فإنّ المقام يستدعي الإبهام و الترديد ليشمل جميع حالات الفقير و الغني.

و قيل في وجه تثنية الضمير امور اخرى، و الحقّ ما ذكرناه.

قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى .

بيان للسبب الّذي يوجب الميل عن الحقّ و الإعراض عن العدل و الزيغ في الشهادة، و هو اتّباع الهوى بجميع أنواعه و صوره، من مراعاة صداقة أو عداوة أو عصبية، أو انتهاز فرصة أو غنيمة أو ممالأة ذوي الجاه و السلطان و النفوذ و نحو

ص: 11

ذلك. و هو يرجع إلى حبّ النفس الّذي يكون منشأه حبّ الدنيا. و الهوى هو نقطة الضعف في الإنسان و مزلّة الأقدام و مبعث الضلال و الشقاء و الكفر و النفاق، و قد حذّرنا اللّه تبارك و تعالى من اتّباعه تحذيرا أكيدا في عدّة مواضع من كتابه الكريم، و عالج الموضوع بجميع صوره و جوانبه و خصوصياته بما لم تكن كذلك في أي موضوع آخر، لما له الأهميّة في حياة الإنسان الدنيويّة و الاخرويّة، و لما له دخل في شقائه و سعادته، فهو السبب الوحيد لوقوع الإنسان في حبائل الشيطان و خدعه و كيده، و إنّه الوسيلة الّتي بها يسطير إبليس على الفرد، و هو الّذي يحبط منزلته و يصدّه عن الكمال، و يصرفه عن طاعته عزّ و جلّ و يوقعه في شرك الشيطان، و بالآخرة يرجعه إلى أسفل السافلين، قال تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ [سورة ص، الآية: 26]، و لا يسلم منه أحد إلاّ بترويض النفس على التقوى و ارغامها على الصبر على طاعة اللّه و ترك المعاصي و الآثام و مراقبتها على الدوام، و لعلّ في تقديم الأمر بإقامة القسط إشارة إلى أنّها السبب في إعداد الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للتسلّط على الهوى و ترك اتّباعه، فيسهل عليه إقامة الشهادة بالعدل و بسط الحقّ .

و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضوع المهمّ من الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا .

و هو إمّا من العدول بمعنى الميل من الحقّ ، أو من العدل مقابل الجور، و منه (العدل) الّذي من أسمائه تعالى، أي الّذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، فوضع موضع العادل و هو أبلغ؛ لأنّه جعل المسمّى نفسه عدلا.

و إمّا مفعول لأجله للنهي أو المنهي عنه، أو مجرور بتقدير اللام متعلّق بالاتّباع المنهي عنه، أي: لا أن تعدلوا، فالاحتمالات خمسة:

ص: 12

الأوّل: أن يكون بمعنى العدول، و يكون علّة للمنهي عنه، أي: فلا تتبعوا الهوى لئلا تميلوا من الحقّ ، و حينئذ فلا حاجة إلى التقدير.

الثاني: أن يكون كذلك و هو علّة للنهي، فيحتاج إلى التقدير، أي: أنهاكم عن اتباع الهوى مخافة العدول عن الحقّ و الابتعاد عن القسط.

الثالث: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي عنه، أي لا تتّبعوا الهوى في إقامة الشهادة كراهة أن تعدلوا، أو بتقدير اللام كما عرفت، أي: لأن تعدلوا و لا تجوروا فلا تتبعوا الهوى، فيحتاج إلى التقدير أيضا.

الرابع: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي، فلا يحتاج إلى التقدير كالاحتمال الأوّل، أي أنهاكم عن اتّباع الهوى للعدول و عدم الجور.

الخامس: ما تقدّم بتقدير اللام.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا .

تحذير آخر ينبئ عن إنذار شديد إذا هم حرّفوا الشهادة أو أعرضوا عن إقامتها بعد تحملها، و تلووا - بسكون اللام و ضمّ الواو - من اللّي بالشيء و هو إتيانه على غير وجهه، أو في المقام سواء كان بالتحريف في الشهادة أو إتيانها على غير وجهه أو تبديلها و الحكم بالباطل، أو تعرضوا عنها و تكتموها فلا تؤدّوها رأسا.

و قرئ (تلوا) بضم اللام و اسكان الواو من الولاية، أي: إن وليتم إقامة الشهادة و آتيتم بها أو أعرضتم عنها، فإنّ اللّه تبارك و تعالى هو الخبير بجميع أعمالكم و نواياكم.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

إنذار، أي: أنّكم إذا تصدّيتم لأمر الشهادة بأي نحو كان بالأداء أو بالتحريف أو بالإعراض، فإنّ اللّه تعالى خبير يعلم دقائق الأمور، مطّلع على جميع مقاصدكم - من الغشّ و الخيانة و نحوهما - و على جميع أعمالكم - من التحريف و الكتمان - فيجازيكم عليها، و إنّما لم يبيّن سبحانه و تعالى نوع الجزاء لتهويل الأمر، و أنّه حسب ما يترتّب عليه من الفساد و الضرر من الشدّة و الضعف.

ص: 13

و هذه الآية الشريفة تضمّنت أحكاما دقيقة في الشهادة، و إقامة القسط لو عمل بها الأمة المؤمنة لأمكنها أداء الأمانة لنفسها و حملت ميزان العدل الرباني و طبّقته على الأرض بأحسن وجه و تخلّقت بالأخلاق الربوبيّة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تأكيد يلفت النظر و يسترعي الانتباه، يدلّ على أنّ الّذين اتصفوا بصفة الإيمان لم يكونوا على أهلية تامّة؛ لأنّه لم يرد من هذا النداء تحصيل الحاصل و ما هو متحقّق بالفعل، بل المطلوب أمر آخر مهم في نظر القرآن، و هو إمّا الأمر ببسط الإيمان على جميع الجوارح و الجوانح بعد أن كان مقتصرا على اللسان فقط، أو الأمر بالثبات و زيادة الطمأنينة و اليقين، أو الأمر بالاستزادة منه، أو التمسّك به و العمل على تنميته، أو الاستقامة عليه حتّى لا يصيبه ما يوجب زعزعته و نقصانه، فهو على كلّ حال يثير التساؤل في نفوس المؤمنين و يكشف لهم حقيقة خفية عليهم، لما يلاقونه من الهموم و الغموم و ما يصيبهم من الكدح و الملل في هذه الحياة.

ثم إنّ هذا النداء إجمالا يثير الهمم على كشف تفاصيله، فإنّ الأمر بالإيمان مرّة اخرى على هذا النحو من الإجمال بعد التلبّس به، يبعث المؤمن على طلب التفصيل و مزيد البيان، فكأنّ في الإيمان المتلبسّ به نقصا لا بدّ من تلافيه.

كما يبيّن سبحانه و تعالى تفصيلا لقواعد الإيمان و أركانه، قطعا لكلّ تساؤل و حسما لكلّ نزاع، و تفصيلا لإيمان هذه الامة على إيمان سائر الأمم و إيضاحا لكلّ من الإيمان و الكفر حتّى لا تبقى حجّة و عذر للمعرض المعاند.

قوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ .

تفصيل بعد إجمال و بيان لحقيقة الإيمان، و إرشاد للمؤمنين بأن المطلوب ليس إيمانا مبهما، فلا بدّ من بسط إجمال إيمانهم على ما يفصّله عزّ و جلّ من الحقائق، الّتي هي معارف ربوبيّة يرتبط بعضها مع بعض، و بينها من التلازم بحيث يكون الإيمان بواحدة منهما مستلزما للإيمان بالأخرى، كما أنّ إنكار واحدة منهما

ص: 14

موجب لإنكار جميعها، فيكون كفرا عند إظهار الإنكار و نفاقا مع الإخفاء، فالإيمان المطلوب الّذي حدّده عزّ و جلّ هو الإيمان باللّه الواحد الأحد الّذي له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و الإيمان بالمبدأ يستلزم الإيمان بالمعاد و الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و بالكتاب - الّذي نزل عليه - المتضمّن على جميع شروط الإيمان و صفاته، و يبيّن المعارف الإلهيّة، و الكتاب الّذي نزل على الأنبياء السابقين الّذي يحتوي على اصول الأحكام و الشرائع. و مجموع ذلك يدعو إلى العمل و التخلّق بمكارم الأخلاق.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً .

شرح لما ورد في صدر الآية الشريفة في تفصيل دقيق و بيان وافي بأنّ الإيمان وحدة متكاملة، و أنّ الكفر بواحدة منها يوجب الكفر بالجميع بعد الدعوة إلى الإيمان بالجميع، و إرشاد بأنّ التفصيل الّذي ورد في صدر الآية يتضمّن أجزاء اخرى مترابطة و إن لم تذكره الآية المباركة، فليست هذه الآية الشريفة شيئا آخر مغايرا لما ورد في صدرها، فإنّ قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يتضمّن جميع ما ورد في هذا الذيل، فالإيمان المطلوب على وجه الدقّة هو الإيمان باللّه تعالى و الملائكة - الّذين هم رسل اللّه سبحانه و تعالى - و الأنبياء - الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهداية خلقه إلى ما يرشدهم و يسعدهم و يحذّرهم عمّا يوجب شقائهم - و الإيمان باليوم الآخر - و هو يوم الجزاء - و الإيمان بالكتب الإلهيّة الّتي تضمّنت جميع المعارف و الأحكام و الشرائع.

و تبيّن الآية الكريمة أنّ الكفر بالمجموع هو كفر و ضلال بعيد، و ليس الأمر كذلك في كفر البعض، فإنّه و إن كان كفرا و ضلالا و لكن غير متّصف بالبعد؛ لأنّ للضلال مراتب، و وصف الضلال بالبعيد هو من أبلغ الوصف و أكمله، فإنّ الكفر يبعّد الإنسان عن طريق الهداية و سبل الخير.

ص: 15

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ يدلّ على الثبوت و التحقّق، و لا ملازمة بها بالاستمرار.

(شهداء) في قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ لم ينصرف، لكونها جمعا نهائيا قائما مقام السببين - كالأمناء، و الرقباء، و العرفاء - و هي منصوب على النعت ل (قوامين)، و يحتمل أن يكون منصوبا على الحال للضمير المستكن في (قوامين) الراجع إلى (الّذين آمنوا).

و ردّه بعضهم بأنّ ذلك يستلزم تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة.

و احتمل بعضهم أن تكون خبرا بعد خبر، و قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ متعلّق ب (شهداء).

و (أو) في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً للترديد؛ لاحتواء جميع الفروض الّتي يمكن أن تتحقّق في المقام كما عرفت في التفسير.

و قيل: إنّها بمعنى الواو، أي: إن يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بالخصمين، و لكنّه ليس بشيء.

و تثنية الضمير في قوله تعالى: بِهِما لرجوعه إلى ما تقدّم ذكره من المشهود و المشهود عليه، و يحتمل أن يكون بمعنى: فاللّه أولى بكلّ واحد منهما. و قرأ بعضهم: (فاللّه أولى بهم) بضمير الجمع، و تقدّم ذكر الاحتمالات في قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا .

و تقدّم أنّ (تلووا) من اللي بمعنى الميل و التحريف، و قال بعضهم بمعنى الولاية و المباشرة من قولك: و ليت الأمر. و لكنّ الحقّ أنّه لا معنى للولاية هنا.

ص: 16

و قيل: (تلووا) من لويت فلانا حقّه ليا إذا دفعته به، و الفعل (لوى) و المصدر (ليا).

و قرأ بعضهم (نزّل) و (انزل) في قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ بالضمّ ، و أما الباقون فقد قرءوا بالفتح فيهما.

بحث دلالي

تدلّ الآيات المباركة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ على أهميّة القسط و شرف العدل و عظيم أثره في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة و الدنيويّة و الاخرويّة، و يستفاد ذلك من الأمر بملازمة القسط في جميع الحالات و في كلّ الشؤون، حتّى تصير ملكة راسخة عند الفرد، و يدلّ على أهميّة هذا الحكم أنّ الفعل فيه يدلّ على ملازمة القسط و الثبات عليه و لم يقبل التخصيص و التقييد في مورد، و مثل ذلك نادر في الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ القسط هو الصراط المستقيم و الّذي يوصل سالكه إلى الكمال، و أنّ به يتحدّد كلّ شيء و تتجلّى الحقيقة، و فيه يتحقّق الصلح و الطمأنينة و يصل كلّ فرد إلى ما يستحقّه.

و يدلّ على أهميته أيضا ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بالعدل قامت السموات و الأرض».

و قد ذكر عزّ و جلّ أثرا مهمّا من آثار القيام بالقسط و هو الشهادة للّه تعالى، فإنّ القيام بالقسط يعدّ الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للوصول إلى مقام الشهادة للّه تعالى و طرح جميع الأغيار، فلا يكون متّهما و لا انتهازيا طالبا للجاه و النفوذ و المال يجرّ من شهادته النفع إليه، فإنّ القسط هو الّذي أعدّه لذلك و جعله يطلب رضاء اللّه تعالى في جميع أموره، و منها الشهادة. و قد خصّها تعالى بالذكر؛ لأنّ لها الأثر في تشريع الأحكام و تثبيت الحقوق و تحقيق الصلح و رفع النزاع.

ص: 17

الثاني: قد جمعت الآية الشريفة جميع ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن أن يقع مورد الجنف و الظلم، فذكرت شهادة المرء على نفسه، و فيها إقراره بالحقوق الّتي عليها. ثمّ ذكر الوالدين لوجوب البرّ بهما و عظم قدرهما، و من البرّ لهما الشهادة و لو كانت عليهما و تخليصهما من الباطل، ثمّ ثنّى بالأقربين، إذ هم مظنّة التعصّب و المودّة، و أمّا الأجنبي فهو أحرى أن يقام عليه بالقسط و يشهد عليه، فالآية الشريفة جمعت حقوق الخلق في الأموال و غيرها.

الثالث: إطلاق قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ يعمّ الشهادة في الأموال و غيرها، خلافا لما ذكره بعض المفسّرين من اختصاصها بالشهادة في الأموال، بقرينة قوله تعالى: عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ ، و لكنّه ليس بشيء كما هو معلوم.

كما يدلّ قوله تعالى أيضا على ردّ كلّ شهادة لم تكن للّه تعالى، فتردّ شهادة المتّهم و الكافر على المسلم و غيرهم ممّا هو مذكور في الفقه.

الرابع: يمكن أن يكون قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ إشارة إلى مقام الحضور و مظهريّة العبد لصفات اللّه تعالى و توحيده، فإنّه عزّ و جلّ بعد أن أمر المؤمنين بالتوحيد العملي في الآيات الكريمة السابقة، أمرهم في هذه الآية الشريفة بالثبات عليه و التلبّس بالعدالة الّتي هي أشرف الفضائل و أسماها، و هي من الصفات العليا الّتي أمر عزّ و جلّ المؤمنين بالتحلّي بها بعد أن علم منهم الأهليّة، و أنّ بها تقوم سائر الفضائل و المكارم، فلا قوام لها بغيرها، و أنه لا بدّ أن يكون المؤمن قواما بحقوقها لا تظهر معها رذيلة و لا اتباع هوى و لا جور، فينال مقام جنّة اللقاء و القرب لديه عزّ و جلّ ، و يكون شهيدا للّه تعالى مظهرا من مظاهر وحدانيّته و كمال صفاته و مرآة لحقية أحكامه المقدّسة، فلا نظر له إلاّ اللّه تعالى و رضاه و ليس للغير فيه مطمع، و هذا من أجلّ المقامات و أعلاها، و لا يمكن الوصول إليه إلاّ بالعمل بهذه الآية الشريفة و تطبيقها تطبيقا كاملا في جميع الأمور، فيكون اتباع الهوى من موانع الوصول إلى هذا المقام العظيم، فإنّه من ترك اتباع الهوى يستعد للاتّصاف بصفة العدالة و يتهيّأ لمقام الشهادة بالوحدانيّة.

ص: 18

الخامس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى على أنّ اتّباع الهوى من أشدّ الرذائل تأثيرا على النفس في إبعادها عن الواقع و أكبر الموانع من الوصول إلى المقامات العالية، و تظهر أهميّته من أهميّة الفضيلة الي ذكرها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا أنّ المعصية الّتي يمكن أن تتحقّق في الشهادة هي التحريف و التبديل و الشهادة بالباطل، و ما ذكره عزّ و جلّ آنفا من الشهادة لغير اللّه و جرّ النفع و الجور فيها أو الإعراض عنها بالكليّة بأن يكتمها و لا يؤدّيها، و هذا شاهد على ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من تناسب المعصية مع الأفعال و الأقوال، فإنّ كلّ معصية تتناسب مع الموضوع الّذي وقعت فيه المعصية، ففي الأقوال مثلا الكذب و البهتان و الزور و نحو ذلك، كما أنّ في كلّ جارحة لها معصيتها، ففي العين النظر إلى المحرّم، و في اليد السرقة و الخيانة في الأمانة و لمس الأجنبيّة، و في الرجل السعي إلى الحرام و هكذا، فالمعصية في الشهادة هي الّتي فيها بالمعنى الأعمّ و الإعراض عنها.

و على هذا، يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً تفسيرا لهذه الآية المباركة - و هي إجمال لصدرها، و هي تدلّ على كونها في مقام تعداد معاصي الشهادة - قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الظاهر في التهديد و التوبيخ لمن يجور في الشهادة.

السابع: عموم قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ يشمل جميع أنحاء الإيمان إيمان العيان، و إيمان البرهان، و الإيمان العيني، و تجريد الإيمان للّه تعالى و تخليصه من كلّ أنحاء الشرك الجلي و الخفي و جميع الشبهات و الاعتراضات و الإيمان بالمجموع، و إيمان التسليم و التفويض و الإيمان التفصيلي، فإنّ الإيمان له مراتب و كلّ فرد يستفيد من الآية الكريمة حسب استعداده و ما يفاض عليه من المبدأ الفيّاض جلّ جلاله.

ص: 19

الثامن: يدلّ قوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ، على أنّ الإيمان الإجمالي لا اعتبار به ما لم يكن عن تفصيل، فإنّ الوثني أيضا يعتقد باللّه و يؤمن، كما حكي عنه عزّ و جلّ ، قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ [سورة الزخرف، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ [سورة الزخرف، الآية 87]، و مع ذلك فهو في عداد المشركين و الكافرين، فالإيمان بحسب نظر القرآن وحدة جامعة للإيمان باللّه تعالى و الرسول الكريم و الكتاب الّذي انزل عليه و الكتاب الّذي انزل من قبل على سائر الأنبياء و المرسلين. و هذه الوحدات متكاملة يستلزم بعضها البعض لا تقبل التجزّؤ، و تشتمل على جميع المعارف الإلهيّة الّتي شرحها القرآن الكريم في سوره و آياته المباركة.

و من هنا نرى أنّ الآيات الكريمة التالية تنبئ عن ماهية الإيمان بصورة دقيقة، و تشرح حقيقته شرحا وافيا. و تقسّم الكافرين حسب درجات كفرهم من حيث إنكارهم لمجموع الوحدات أو لبعضها، فيصف عزّ و جلّ من أنكر المجموع بالضلال البعيد، كما يصف من يفارق بعضها بالنفاق، و يبيّن أنّه من الكفر التقرّب إلى الكفّار و موالاتهم و تصديقهم في ما يرمون به المؤمنين و الاستهزاء بالإيمان و أهله، و هذا ما نراه في الآيات الكريمة التالية.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ أركان الإيمان الصحيح، و هي: الركن الأوّل الإيمان باللّه الواحد الأحد المستجمع لجميع صفات الكمال، و المنزّه عن النواقص الّتي هي صفات الجلال، و هذا الاعتقاد يستدعي نبذ الشرك و الأنداد و الاتّصاف بصفات الواحد المنّان.

الركن الثاني: الإيمان بجنس الملائكة الّذين هم رسل اللّه تعالى، لا يعصون اللّه ما أمروا به، و هم وسائط الوحي و الفيض.

الركن الثالث: الإيمان بالكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء و الرسل،

ص: 20

الحاوية لجميع المعارف الإلهيّة و التشريعات السماويّة. و الإيمان بالكتب يستدعي نبذ التعصّب و اتّباع الهوى.

الركن الرابع: الإيمان بجميع رسل اللّه تعالى الّذين هم وسائط الفيض، أرسلهم عزّ و جلّ لهداية البشر و إرجاعهم إلى المبدأ و تذكيرهم منسي الفطرة.

الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، و الاعتقاد به يستدعي مراقبة النفس و العمل بما أمره اللّه تعالى، فإنّ ذلك اليوم يوم الجزاء على الأعمال و لا يفلت منه أحد، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8].

هذه هي أركان الإيمان المطلوب في الإنسان، و هي مجمع الخير و السعادة، و أما غير ذلك فهو الضلال و البعد عن منبع الخير و الكمال، و هو يستدعي الشقاء و الحرمان.

بحث روائي

روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي سويد، عن أبي الحسن عليه السّلام: «كتب إليّ في رسالته و سألته من الشهادات لهم ؟ قال: فأقم الشهادة للّه عزّ و جلّ و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت على أخيك ضيرا فلا».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ الشهادة للّه، لأنّها من أسباب بسط العدل بين الناس، و أنّ العدل و القسط هما ميزان اللّه تعالى في أرضه و من مظاهر صفاته.

الثاني: أنّ الأنساب لا تعوق الحقّ أو القسط مهما بلغ ذلك من الشرف و الحسب، قريبة كانت أو بعيدة، و لا يختصّ ذلك بالأنساب، و إنّما ذكر الأنساب في الآية المباركة و الروايات؛ لأنّها الأهمّ و الغالب فيشمل غيرها كالمادّيات و الاعتباريّات بالأولى.

ص: 21

الثالث: ذيل الرواية محمول على ما إذا كان الحكم الّذي يحكمه الحاكم مخالفا للواقع، و لا يصل الحقّ إلى صاحبه، أو يستلزم ضررا على المشهود عليه.

و في تفسير علي بن إبراهيم: «انّ اللّه أمر الناس أن يكونوا قوامين بالقسط - أي بالعدل - و لو على أنفسهم أو على والديهم أو على أقاربهم، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ للمؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقّا و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ ، ثم قال: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا يعني الحقّ ».

أقول: ظهر ممّا تقدّم الوجه في هذه الرواية، و يستفاد منها التعميم في معنى الشهادة لإظهار كلّ حقّ و بأي وجه كان، و أنّ المراد من الحقّ الأعمّ من الوضعي الشرعي أو التكليفي أو المجاملي، و أنّ الشهادة في الأموال و الأنفس واجبة شرعا وجوبا كفائيا لو كانت بعد الطلب و الاستشهاد، و إلاّ فلا.

و عن الطبرسي في المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنْ تَلْوُوا أي: تبدّلوا الشهادة، أَوْ تُعْرِضُوا أي: تكتموها، فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

أقول: التبديل أعمّ من التحريف و التغيير أو الاسقاط - كما تقدّم في التفسير - و الكتمان أعمّ من جميعها أو بعضها، و الرواية من باب ذكر بعض الأفراد.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ يعني: يا أيها الّذين آمنوا أقرّوا و صدّقوا.

أقول: يعني أقرّوا باللّه تعالى، و صدّقوا رسوله، و معنى تصديق رسوله العمل بما جاء به من الأحكام بعد الإيمان باللّه العظيم، و إلاّ فلا يكون تصديقا حقيقيّا.

و عن البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ قال:

«أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا بالحقّ و لو على أنفسهم، أو آبائهم، أو أبنائهم، لا يحابوا

ص: 22

غنيا لغناه و لا يرحموا مسكينا لمسكنته، و في قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فتذروا الحقّ فتجوروا، وَ إِنْ تَلْوُوا يعني: ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها».

أقول: إنّ العدل الإسلامي و الحقّ الواقعي يقتضي عدم الفرق في القضاء - الّذي هو منصب إلهي به يصان أعراض الناس و يحفظ أموالهم و يراعى شؤونهم - بين الأصناف و الأفراد، بل الأديان السماويّة غير المنحرفة جاءت لتثبيت ذلك في الأرض، و الرواية لا تدلّ على شيء أزيد ممّا ذكرنا كما تقدّمت رواية علي بن إبراهيم الدالّة على ذلك.

و في الدرّ المنثور في ضمن رواية: «انّ نبي اللّه موسى عليه السّلام قال: يا ربّ أي شيء وضعت في الأرض أقل ؟ قال: العدل أقلّ ما وضعت».

أقول: وجود الشيء غير كميّته أو كيفيّته، فأصل وجود العدل الّذي هو من ذاته الأقدس و به قامت السموات و الأرض و به بعث الأنبياء و الأوصياء موجود و ممّا لا ريب فيه، و هو من مظاهر صفاته و أسمائه، و أما مقداره الّذي وضع في الأرض و جاء به الأنبياء، فكان ذلك حسب أهليّة سكناها، و هو غير معلوم فلو كان أكثر من القليل لما احتاجوا الناس إلى القضاء و ما وقع الأنبياء عليهم السّلام في المشقّة و التعب، و الحكمة في ذلك أنّه بالأقلّ يميّز الخبيث من الطيب، مع أنّ الأقلّ من الأمور الإضافيّة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ، قال عليه السّلام: «سماّهم مؤمنين بإقرارهم، ثم قال لهم: صدقوا له».

أقول: إقرارهم كان في عالم الذرّ كما في بعض الروايات، و تصديقهم كان في عالم الشهادة، و الفرق بين عالم الذرّ و الفطرة أنّ عالم الذرّ هو الفطرة قبل بعثة الأنبياء و قبل خلق عالم الشهادة، و الفطرة بعد البعثة و مجيء آدم عليه السّلام.

و بعبارة اخرى: عالم الذرّ عالم من العوالم، و الفطرة هي الّتي على ما هي عليه.

ص: 23

و أخرج الثعالبي عن ابن عياش: «انّ عبد اللّه بن سلام و أسدا و أسيدا ابني كعب، و ثعلبة بن قيس و سلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام، و سلمة ابن أخيه و يامين بن يامين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و موسى و التوراة و عزير، و نكفر بما سواه من الكتب و الرسل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل آمنوا باللّه و رسوله محمّد و كتابه القرآن و بكلّ كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ قال: فآمنوا كلّهم».

أقول: الرواية مطابقة للواقع، لأنّ الكتب السماويّة منزلة من اللّه عزّ و جلّ و كلّ ما نزل منه تعالى لا بدّ من الإيمان به إلاّ إذا نالته يد التحريف فتسقط الكتب عن شأنها، فالاعتقاد بالتوراة و الإنجيل الواقعي كالاعتقاد بالقرآن، فلا فرق بينهما من جهة القداسة و الاعجاز و الحجيّة.

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ قال: «نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و آله اختصم إليه غني و فقير، و كان ضلعه مع الفقير، رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني، فأبى اللّه تعالى إلاّ أن يقوم بالقسط في الغني و الفقير فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ حتّى بلغ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما ».

أقول: الرواية - على فرض صحّة السند - لا تنافي العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم السّلام؛ لأنّ رجحان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفقير على الغني كان لمصلحة ظاهريّة يراها النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزلت الآية المباركة و انتهى أمد تلك المصلحة، فالمصلحة كانت وقتيّة لا دائميّة.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.

ص: 24

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في الأحكام المستفادة منها امور:

الأوّل: ذهب جمع من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم الشريفة) إلى قبول شهادة الولد على والده، و استدلّوا على ذلك بأمور:

الأوّل: قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ، بدعوى أنّ الآية المباركة صريحة في وجوب إقامتها و يستلزم ذلك قبولها.

الثاني: السنّة المعصوميّة، فعن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «أقم الشهادة للّه و لو على نفسك أو الوالدين»، و قول الصادق عليه السّلام: «أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد»، و مثلهما غيرهما من الروايات.

الثالث: يستفاد ذلك من كلام الشهيد و غيره.

و يمكن المناقشة في جميع ذلك، أمّا الآية الكريمة فسياقها الشهادة في اصول الدين - لا مطلق الشهادة - بقرينة صدر الآية الكريمة شُهَداءَ لِلّهِ ، و قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [سورة المجادلة، الآية:

22] و ما يأتي من الروايات، فلا مجال للتمسّك بإطلاق الآية الشريفة بعد احتمال أنّ الشهادة في اصول الدين.

و أمّا السنّة، فلا مجال للتمسّك بها؛ لإعراض المشهور عنها و هجر العمل بإطلاقها فيسقط عن الاعتبار كما ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول)، مضافا إلى معارضتها بالأقوى منها، مثل قول الصادق عليه السّلام في الصحيح: «لا تقبل شهادة الولد على والده»، و قريب منه غيره.

ص: 25

و أمّا كلماتهم الشريفة، فإنّها لا تصير دليلا ما لم يبلغ حدّ الإجماع، و قد ادّعى الإجماع على عدم قبول شهادة الولد على الأب غير واحد من الأعلام. نعم ما تقدّم يصلح للاحتياط كما ذكرناه في الفقه.

و يمكن رفع الاختلاف و الجمع بين الروايات بأنّ ما دلّ على الجواز في ما إذا كان الوالد غير مبال بدينه و متجرّ في مخالفة الأحكام الإلهيّة، و أن شهادة ابنه عليه موجبة لإرشاده و هدايته، و ما دلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الأب من أصحاب الوجوه و الشرف و ملتزما بالانقياد للأحكام الشرعيّة، فتكون شهادة الابن على والده نحو إهانة له و خلافا لاحترامه و لا تكون من المعروف المأمور به في الكتاب و السنّة، و هذا نحو جمع عرفي كما ذكرناه في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) و الحمد للّه.

و لا فرق فيما تقدّم بين الأب و الام، و هل يشمل الحكم الجدّ و الجدّة ؟ و جهان يظهران ممّا تقدّم.

الثاني: أنّ الشهادة لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه - بل الحكم الصادر من الحاكم الجامع للشرائط يكون كذلك أيضا - لأنّ المدار المأمور به هو الواقع الحقّ ، فإذا انكشف يسقط ما سواه، و أنّ الشهادة طريق للوصول إليه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس إنّما أنا بشر مثلكم و أنتم تختصمون و لعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، و إنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذ به، فإنّما أقطع له قطعة من النار».

الثالث: يختصّ وجوب أداء الشهادة بموارد الاستشهاد؛ لقوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [سورة البقرة، الآية: 282]، و مع عدمه فهو بالخيار في الأداء؛ لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد و إن شاء سكت».

الرابع: لا يتوقّف تحمّل الشهادة على الاستشهاد و الاستدعاء من المشهود، فإذا سمع ما تصحّ الشهادة تقبل الشهادة، فلو سمع الإقرار و العقد أو الإيقاع أو رأى

ص: 26

ما تصحّ الشهادة به كالقتل، فلا يعتبر فيها القصد في خصوص الشهادة و لا الاستشهاد، لوجود المقتضي و فقد المانع و أصالة البراءة عن شرطية الاستدعاء و الاستشهاد بعد توفّر سائر الشروط كالعدالة و غيرها، و هناك فروع ذكرناها في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) - و من شاء فليرجع إليه -. و الفرق بين الإقرار و الشهادة أنّ الأوّل إخبار بما يرجع إلى نفس المخبر، و الشهادة إخبار على الغير بما علم به بالحضور فيه، كما ذكرنا في محلّه.

بحث عرفاني

الإخلاء عن العيوب الكائنة في الباطن و نبذ الصفات الذميمة عن النفس يعبّر عنه في العرفان ب (التخلية)، و عن بعضهم: أن السعي إلى إزالة ما بطن فيك من العيوب خير من السعي إلى ما حجب عنك من الغيوب. و السرّ في ذلك أنّها بمنزلة الإعداد لها، فهي تطهير القلب الّذي هو السبب للحياة الأبديّة للنفس. و أنّ العيوب الباطنيّة مانعة عن رقي النفس، فهي موجبة هلاكها. و أنّ الفيوضات الإلهيّة لا تفاض على الإنسان إلاّ بعد التخلية.

و من هنا قالوا: إنّ الحقّ ليس بمحجوب إنّما المحجوب أنت عن النظر إليه؛ لأنّ الحقّ محال في حقّه الحجاب، قال تعالى: هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّاهِرُ وَ اَلْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ * [سورة الأنعام، الآية: 61]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و عن بعضهم: أنّ الأوصاف البشريّة تناقض خلوص العبوديّة. و المراد من الأوصاف العيوب الكائنة في نفس البشريّة الّتي تحصل من متابعة الهوى بإغواء الشيطان بالبعد عن الحقّ و إراءة الواقع غير ما هو عليه بالأوهام، و قد يوجب الأوهام الحجب عن الحقّ تعالى، و الوهم أمر عدمي و سراب محض لا حقيقة له أصلا.

ص: 27

و لا شكّ في أنّ اتّباع الهوى يختلف باختلاف الأشخاص و الحالات، و له مراتب متفاوتة شدة و ضعفا و كيفيّة وجهة، و أن قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى يشمل جميعها، و لا بدّ للسائر و السالك إلى اللّه جلّ جلاله من التخلية بإزالة العيوب الباطنيّة و غيرها. و أهمّها ثلاثة:

الأوّل: عيوب النفس، و هي ما تتعلّق بالشهوات الجسمانيّة، كطيب المآكل، و الملبس، و المركب، و المسكن، و المنكح و غيرها، و من كلّ هذه العيوب تتفرّع عيوب و مساوئ اخرى.

الثاني: عيوب القلب، و هي تتعلّق بالشهوات القلبيّة كحبّ الجاه و الرياسة و العزّ، و الكبر، و الحسد، و الحقد و غيرها ممّا يرد على القلب بالتخيلات و الأماني الشيطانيّة، الّتي لا واقع لها بل هي مجرّد و هم بعيدة عن الحقّ و الحقيقة كلّ البعد.

الثالث: عيوب الروح، و هي ما تتعلّق بالحظوظ الباطنيّة، كطلب الكرامات و المقامات عن غير الصراط المستقيم المبيّن من الشرع الأمين.

و هذه العيوب - عيوب النفس، و عيوب القلب، و عيوب الروح - كلّها تحصل من متابعة الهوى و البعد عن الحقيقة، و مع هذه الأغيار كيف تستعدّ النفس للواردات الإلهيّة ؟! و كيف تحظى بالرقي إلى المقامات العالية ؟!. أم كيف تصل إلى جنّة المعرفة ؟!. و كيف تشرق عليها الأنوار الربوبيّة ؟! و كيف تخرق أبصار القلوب حجب النور حتّى تصل إلى معدن العظمة ؟. و كيف يمرّ على النار و أنّها تناديه: «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» المعدّة للمؤمن ؟! و كيف يدخل الجنّة و هي الّتي أزلفت له و به نال رضاءه تعالى عنه ؟! و كيف يشفّع في قومه و هو يحمل أوزار نفسه ؟! فإذا زالت هذه الأغيار و رفعت الأوزار و اخترقت الحجب و أزيلت الأستار، فحينئذ تحلّت النفس بالمعرفة، فالتخلية ثمرتها التحلية، و القرآن الكريم يحرص على إزالة هذه العيوب و رفع هذه الحجب، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة ص، الآية: 26]، و قال تعالى مخاطبا موسى عليه السّلام: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [سورة طه، الآية: 16]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه صلى اللّه عليه و آله:

ص: 28

و هذه العيوب - عيوب النفس، و عيوب القلب، و عيوب الروح - كلّها تحصل من متابعة الهوى و البعد عن الحقيقة، و مع هذه الأغيار كيف تستعدّ النفس للواردات الإلهيّة ؟! و كيف تحظى بالرقي إلى المقامات العالية ؟!. أم كيف تصل إلى جنّة المعرفة ؟!. و كيف تشرق عليها الأنوار الربوبيّة ؟! و كيف تخرق أبصار القلوب حجب النور حتّى تصل إلى معدن العظمة ؟. و كيف يمرّ على النار و أنّها تناديه: «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» المعدّة للمؤمن ؟! و كيف يدخل الجنّة و هي الّتي أزلفت له و به نال رضاءه تعالى عنه ؟! و كيف يشفّع في قومه و هو يحمل أوزار نفسه ؟! فإذا زالت هذه الأغيار و رفعت الأوزار و اخترقت الحجب و أزيلت الأستار، فحينئذ تحلّت النفس بالمعرفة، فالتخلية ثمرتها التحلية، و القرآن الكريم يحرص على إزالة هذه العيوب و رفع هذه الحجب، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة ص، الآية: 26]، و قال تعالى مخاطبا موسى عليه السّلام: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [سورة طه، الآية: 16]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه صلى اللّه عليه و آله:

وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اِتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [سورة الكهف، الآية: 28]، و قال تعالى كذلك: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ [سورة القصص، الآية: 50]، و قال تعالى: وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى * فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى [سورة النازعات، الآية: 41].

و لعلّ قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ يشير إلى ذلك، أي التحلّي بأسمى صفاته و مظاهر أسمائه و هو العدل، فيستلزم ذلك التخلّي عن المساوئ و المفاسد و البعد عن أخلاق الشياطين كالكبر، و الحسد، و الحقد، و الغضب، و كتمان الشهادة، و الحدّة و البطر و الأشر و غيرها، و لأجل ذلك أتى عزّ و جلّ بصيغة المبالغة (قوامين) الدالّة على الشدّة و تهويل الأمر و التحمّل مع التعب و المشقّة.

كما يحتمل أن يكون قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ أي: شهداء للّه و في اللّه، غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة، و هذا مقام أخصّ الخواصّ ، لا شهداء للّه الحاضرين مع اللّه بالفردانيّة، و إن كان ذلك مقاما ساميا أيضا و هو مقام الخواصّ ، فضلا عن الشهادة بالتوحيد و هو أوّل اصول الدين، و إن كان صحيحا إلاّ أنّه يختصّ بعوام المؤمنين.

و بعبارة اخرى: تحصيل المعرفة و الشهود بالوحدانيّة تارة، يكون بالدليل و البرهان، فهذا معرفة العوام؛ لعدم التقليد في اصول الدين.

و اخرى: بالمشاهدة و العيان، و هذا معرفة الخواص، و هي من أجلّ المقامات.

و ثالثة: بالفناء عن ما سوى الرحمن، و هذا معرفة أخصّ الخواص.

و كذا الشهادة للّه فتارة: تكون سمعيّة، و اخرى: عينيّة، و ثالثة: فنائيّة بعد رفع حجب الأنانيّة عن النفس و إزالة الأغيار عنها بالتجريد، فإنّ الشهادة لو كانت على النفس لإحقاق الحقّ بإيصاله لأهله و كانت للّه تعالى، استلزمت اضمحلال الأنانيّة و التطهير من الذنوب، خصوصا لو كانت مخالفة للهوى، و كذا لو كانت على

ص: 29

الوالدين و الأقربين بنبذ العواطف النفسانيّة و اللجوء إلى رضاء الحقّ و تقديم خشيته جلّ شأنه على رضائهما، من غير أن يبالي أنّ المشهود عليه كان فقيرا أو غنيا بعد ما علم أنّ الغناء الواقعي في جلب رضاه جلّت عظمته و الفوز فيه، فهؤلاء هم الّذين أيّدهم بروح منه وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اَللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 30

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) بعد أن بيّن سبحانه و تعالى أركان الإيمان و قواعده و فصّله تفصيلا دقيقا و حدّده تحديدا كاملا؛ ليعرف الإنسان حقيقة ما يريد الاعتقاد به، و يكون بصيرا بالإيمان المطلوب منه و هو على بيّنة من أمره، و لئلاّ يتميّع الإيمان فيدخل فيه كلّ

ص: 31

مؤتفك يدّعي معرفة اللّه تعالى و يتعبّده بصورة من التعبّد.

و هذه الآيات الشريفة تفصل بين الفئات الزائغة عن الإيمان المفارقة لمجتمع المؤمنين المدّعية عليهم بالأباطيل و المستهزئة بهم استهزاءهم بالحقّ ، و الموالية للكافرين، و بين الصادقين في الإيمان و أهله. و تشدّد الأمر عليهم تشديدا وثيقا، و تذكّر الكافرين المعاندين و تصنّفهم إلى أصناف متعدّدة، فيذكر عزّ و جلّ ابتداء الكافرين الّذين ضلّوا ضلالا بعيدا و الرادّين على اللّه عزّ و جلّ و الرسول، و يبيّن جلّ شأنه حالهم و جزاء أعمالهم و حرمانهم عن ما تقتضيه فطرتهم الصافية، فلم يهتدوا سبيلا.

ثم يذكر صنفا آخر، و هم المنافقون الّذين يوادّون الكافرين و يوالونهم دون المؤمنين، فيظهرون الإيمان و لكنّهم يبطنون الكفر، ثم يصفهم وصفا دقيقا ليتحرّز المؤمنون عنهم، فيجتنبوا عنهم فلا يتّصفوا بصفاتهم.

كما حذّرهم عن القعود مع الكافرين و المنافقين الّذين يكفرون بآيات اللّه تعالى و يستهزئون بها؛ لئلاّ يفسد إيمانهم فيدخلوا فيهم و يشاركوهم في الجزاء، و قد حذّرهم عزّ و جلّ عن ذلك بأسلوب رفيع يجعلهم يحسّون بما يلاقونه من المكروه من أوّل الأمر، فإنّهم إن لم يحسموا أمرهم منذ الخطوة الاولى لوقعوا في الهاوية.

و قد ذكر جلّ شأنه المحكّ الحقيقي للإيمان و هو التوبة، و الرضا و التسليم، و الإخلاص للّه تعالى و الاعتصام به، و وعدهم الأجر العظيم، ثم نبّههم إلى حقيقة واقعيّة، و هي أنّ اللّه غني عن عذابهم، فلا يعذبهم إن هم آمنوا و شكروا ربّهم و عملوا الصالحات.

و هذه الآيات المباركة هي من الآيات المعدودة في القرآن الكريم الّتي تذكر صفات المؤمنين و الكافرين و المنافقين بأوصاف دقيقة، و تشرح الإيمان شرحا وافيا. و يمكن تسميتها بحقّ آيات الإيمان، و فيها وقفات دقيقة تسترعي الانتباه لا بدّ من التأمّل فيها حقّ التأمل إذا كان المرء يطلب الحقّ و يريد تصحيح إيمانه و عقيدته.

ص: 32

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً .

بيان للآية السابقة، و شرح لحال من ضلّ ضلالا بعيدا، و يبيّن تعالى حقيقة الردّة و أحوال أهلها، فإنّ الردّة هي الذبذبة في الإيمان و عدم الاستقرار فيه، و المرتد من يدعي الإيمان ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر ثم يزداد في الكفر و الطغيان، فلم يستقر الإيمان في قلوب أهل الردّة، و لم يصدر منهم صدورا جديّا، بل يتلاعبون به و يستهزئون أمر اللّه تعالى فيه، و لأجل تكرار الردّة منهم و ذبذبتهم في الأمر كان الجزاء عليهم عظيما موافقا لطبيعة عملهم و نفسيتهم المتردّدة و تماديهم في الكفر، و هو حرمانهم من رحمة اللّه تعالى و عدم مغفرته لهم و عدم اهتدائهم سبيلا لاستكمال أنفسهم. هذا إذا لم يصدر منهم التوبة فيؤمنوا إيمانا جدّيا و إلاّ فتشملهم المغفرة و الرحمة و يقبل اللّه تعالى توبتهم؛ لأنّ التوبة تشمل جميع الذنوب كما عرفت ذلك في بحث التوبة، و إن كان مثل هؤلاء المتمادين في الكفر لم يوفقوا إلى الإيمان و التوبة و لانقطاع سبل الهداية عنهم، كما أخبر عزّ و جلّ في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ * خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ [سورة آل عمران، الآية: 86-90].

و ظاهر الآية الشريفة قبول توبتهم إذا كانت عن صدق، و أصلح ما أفسده بالكفر و الردّة، و لكنّها تدلّ على عدم قبول التوبة ممّن ازداد كفرا بعد الإيمان.

و السبب في ذلك أنّ الردّة إن كان عن جحود و عناد و ازدياد في الكفر، لا يكون إلاّ عتوا و استكبارا عن قبول الحقّ ، فلا يتحقّق فيه الرجوع إليه تعالى، فمن كان هذا

ص: 33

حاله كيف تقبل توبته ؟! بل لا يوفّق إلى التوبة أصلا.

و قد ذكر المفسّرون في بيان معنى الآية المباركة وجوها لا تخلو بعضها عن المناقشة، و لكن يمكن إرجاع جميعها إلى شيء واحد، و هو ما ذكرناه من عدم استقرار أهل الردّة على الإيمان و عدم الثبات فيه و التذبذب في الاعتقاد، و يتّبعون الأهواء الباطلة و يطلبون المنافع و المصالح، فطبع الغي و الطغيان على قلوبهم، و استقرّ الاستكبار و اللجاج في نفوسهم، فلم يهتدوا سبيلا؛ لأنّ بصائرهم عميت عن الحقّ ، و انقطع المدد الربوبي عنهم، و انطفأ نور الفطرة فيهم، فلا يرجى لهم الاهتداء و قد خسروا خسرانا مبينا.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه النقاش في ما ذكره بعضهم من أنّ المراد من الآية الكريمة هو أنّ الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام ثمّ كفروا به، ثم آمنوا بعيسى عليه السّلام ثمّ كفروا به ثمّ ازدادوا كفرا لعدم إيمانهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله، فإنّه يرجع إلى ما ذكرناه، إلاّ أنّه ذكر مصداقا لما قلناه.

و في قوله تعالى: ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً كمال البعد عن الحقّ و تماديهم في الغي، و إصرارهم على الطغيان، و انسهم بالكفر و انهماكهم فيه، و من آثاره كفرهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله مع وضوح الحقّ فيه.

قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً .

لأنّ ذلك من الأثر الوضعي لما ازدادوا في غيهم و كفرهم، و من باب ترتّب المسبّب على السبب، نتيجة لأعمالهم الباطلة و عقائدهم الفاسدة، فإنّ انهماكهم في الكفر و انسهم به و استقرار العناد و العتو في قلوبهم، كلّ ذلك يستدعي حرمانهم عن الرحمة الإلهيّة، فلم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا يفضي إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ و الدخول في رحمته تعالى، و نفي المفغرة و الهداية إنّما ثبت لعدم وجود المقتضي لهما، و هو الإيمان الخالص المستقرّ في القلوب، و هذا و إن كان مطلقا إلاّ أنّه لا يأبى الاستثناء لو تحقّقت الاستتابة و اتّفق الإيمان الواقعي و الاستقامة عليه، كما عرفت آنفا.

ص: 34

قوله تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

بيان لحال طائفة اخرى زائفة، و هم المنافقون الّذين يتظاهرون بالإيمان و يبطنون الكفر و العناد و تهديد لهم. و تبيّن الآية الكريمة وجه النفاق فيهم و الوصف الّذي جعلهم من المنافقين.

و البشارة مأخوذة من البشرة، أي: انبساط بشرة الوجه و طلاقته إذا اخبر الإنسان بما يسرّه، كما أنّ السرور مأخوذ من انبساط أساريره، و غالب استعمالهما في الأخبار بما يسرّ، و قد يستعملان في غيره تهكّما كما في المقام، ففي الكلام استعارة تهكّمية استعملت فيها (بشّر) موضع (أنذر) تهكّما بهم.

و عن الفرّاء إذا ثقّل (بشّر) فمن البشرى، و إذا خفّف (بشر) فمن السرور. و في حديث عبد اللّه بن مسعود: «من أحبّ القرآن فليبشر»، أي: فليفرح و ليسرّ، و هو كناية عن خلوص الإيمان.

و قيل: إنّ البشارة تستعمل فيما يسرّ و يسوء استعمالا حقيقيّا، فلا استعارة حينئذ؛ لأنّ أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، سواء كان انبساطا أو انقباضا.

و كيف كان، ففي الآية الكريمة تهديد للمنافقين بأنّ لهم عذابا شديد الألم.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

تعليل لاتّصافهم بصفة النفاق و استحقاقهم للعذاب الأليم، أي: أنّ المنافقين هم الّذين يتّخذون الكافرين المعاندين أولياء يحبّونهم و يقتدون بهم، تاركين ولاية المؤمنين الّذين أمر اللّه تعالى بموالاتهم و الدخول في جماعتهم و اتخاذ سبيلهم.

و النفاق له مراتب كثيرة قد بيّنها عزّ و جلّ في كتابه الكريم في مواضع متعدّدة، و بعضها أشدّ من الكفر، و لقد كان خطره على الإسلام كبيرا و شديدا.

و ابتلى المؤمنون بالمنافقين من صدر الإسلام، و في المقام يبيّن عزّ و جلّ مرتبة من تلك المراتب و هي موالاة الكافرين أعداء الدين و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و قد كانت مثل هذه الطائفة الّتي كانت تتصل بالكافرين باطنا موجودة

ص: 35

من أوّل البعثة؛ لاعتقادهم أنّ الدولة ستكون للكافرين، و لمّا يستحكم الإيمان في قلوبهم، و يدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين هم المراد من الآية الشريفة ذيلها، حيث وصف تعالى حالهم في النفاق وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ، فإنّه عزّ و جلّ أثبت لهم شيئا من ذكر اللّه تعالى، و هذا لا ينافي حال المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم أبدا، فإنّ له سبحانه و تعالى كلاما معهم في موضع آخر، و كانوا أشدّ خطرا على الإسلام من سائر الفرق كما ستعرف، كما لا ينافي شمول قوله تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً لجميع أصناف المنافقين، فإنّ لهم عذابا أليما و إن اختلفوا في كيفيّته.

و من ذلك تعرف أنّه لا وجه لإنكار وجود مثل هؤلاء في وقت نزول هذه الآية الشريفة الّتي نزلت بمكّة المكرّمة، بدعوى أنّ الخطاب إنّما توجّه الى المؤمنين لا المنافقين و نهيهم عن مجالسة الكافرين و المستهزئين؛ لأنّ نجم النفاق إنّما ظهر بالمدينة، و أنّ النفاق الّذي ظهر في المدينة إنّما كان مرتبة اخرى غير الّتي كانت بمكّة، و النهي إنّما توجّه لهؤلاء المؤمنين الّذين وصفهم عزّ و جلّ بالنفاق لمجالستهم الكافرين و المستهزئين بالمؤمنين؛ لضعف إيمانهم و اعتقادهم بأنّ الدولة أو الحكومة ستظهر فيهم فتكون لهم يد عندهم، فكان هؤلاء المنافقون غيرهم الّذين ظهروا في المدينة.

و إنّما كانت موالاة الكافرين نفاقا؛ لأنّ الحضور في مجالسهم يستلزم التخلّق بأخلاقهم و تصديق بعض ما يعتقدونه و ما يتذاكرونه ممّا لا يرتضيه اللّه تعالى، فنسبته الى الدين ثم الرضا بأفعالهم و أعمالهم هو الكفر؛ لأنّ فيه انفصالا عن مجتمع المؤمنين و تجاوزا عن ولايتهم و إعراضا عن الدين، فلو حضر مجالس المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدين و ذكر اللّه تعالى قليلا، لقرع سمعه آيات اللّه و أحكامه دون الوصول الى قلبه حتّى يعرض عن الكافرين، و هكذا إذا أعادوا الكرّة مع الكافرين فإنّه يوجب الازدياد في الكفر، فصار له وجهان، وجه مع

ص: 36

المؤمنين و وجه مع الكافرين أعداء الدين، فاتّصف بصفة النفاق الّتي حذّر اللّه تعالى المؤمنين منها و بيّن آثارها و نتائجها و أوعد عليها أشدّ الوعيد.

قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ .

استفهام إنكاري يفيد التقريع و التوبيخ. و الجملة تقرّر قبلها و تتضمّن التعليل أيضا.

و العزّة في المقام يراد بها الشرف و رفعة القدر و المنفعة و الغلبة الّتي يتعزّزون بها، و منه قوله تعالى: وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطابِ [سورة ص، الآية: 23] أي غلبني، و في حديث مدح الإسلام: «و أعزّ أركانه على من غالبه»، أي حماها ممّن قصد هدمها، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله قال لعائشة: «هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة ؟ قالت: لا، قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلاّ من أرادوا»، أي تشديدا على الناس و تكبّرا عليهم فيمنعونهم من الدخول فيها إلاّ من أرادوا.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً .

جواب يتضمّن الإنكار لما زعموه، أي: أنّ العزّة مختصّة به عزّ و جلّ يعطيها لمن يشاء من عباده، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله: «كلّ عزّ ليس باللّه فهو ذل». و قد تقدّم في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 26] أنّ العزّة من فروع الملك و هو للّه عزّ و جلّ وحده، فهو المالك الحقيقي، و غيره يملك بالاعتبار، فمن أراد العزّة فلا بدّ أن يتعزّز باللّه العظيم، و قد كتب لأوليائه و المؤمنين العزّة كما قال عزّ و جلّ : وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً [سورة فاطر، الآية: 10].

قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ .

خطاب عامّ لجميع الامة يتضمّن التوبيخ الشديد لما صدر من المنافقين،

ص: 37

و تحذير للمؤمنين أن لا يقعدوا مع الكافرين و المنافقين و هم يكفرون بآيات اللّه و يستهزئون بها، و في هذا التحذير من الحكمة ما لا يخفى، فإنّه إذا لم ينته في أوّل الطريق فإنّ آخر مطافه الكفر الّذي لا ريب فيه.

و الآية المباركة تشير الى ما ورد في قوله تعالى الّذي نزل بمكّة: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية:

68]، و الخطاب فيه و إن كان متوجّها إلى الرسول الكريم صلى اللّه عليه و آله إلاّ أنّه يراد منه العموم.

كما أنّ الآية الشريفة الأخيرة لم تكن متضمّنة من التوبيخ الشديد ما تضمّنته الآية الكريمة الّتي في هذه السورة؛ لعظم قبح أفعال المنافقين من موالاة أعداء اللّه تعالى مع تحقّق ما يمنعهم عن ذلك، فكأنّ الآية المباركة تقرع أسماعهم بقبح أفعالهم و تقول: «أ تتّخذونهم أولياء» و الحال أنّه تعالى نزّل عليكم من قبل في هذا الكتاب العظيم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ، و هذا كاف في الانزجار عن مجالستهم فضلا عن تحقّق الموالاة و الاعتزاز بالكافرين.

و إضافة الآيات الى اسم الجلالة لبيان خطرها و عظيم شأنها و تهويل أمر الكفر بها.

و هي تشمل الأحكام المقدّسة و المعارف الربوبيّة و مظاهر تجلّياته عزّ و جلّ ، كالرسول صلى اللّه عليه و آله و الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما ورد في الحديث. بل تشمل كلّ حقّ ، و في الحديث عن الصادق و الرضا عليهما السّلام: «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في أهله، فقم من عنده و لا تقاعده»، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات إن شاء اللّه تعالى.

و عموم الآية المباركة لا بدّ و أن يقيد بما إذا لم يمكن ردّهم و الإنكار عليهم و بيان الواقع لهم، و إلاّ فهو جائز بل واجب إذا احتمل التأثير، فإنّ الامتناع عن

ص: 38

مجالستهم هو أوّل خطوات النهي عن المنكر الّذي يجب على المؤمنين، فإن لم يفعله رهبة أو مجاملة فقد خالف أمر اللّه تعالى و وضع قدمه على المنزلق الّذي يؤدّي به إلى الكفر ثمّ الهلاك و سوء العاقبة.

قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ .

تعليل للمنهي عنه و فيه تقريع شديد و تحذير كبير ينزعج منه الحسّ ، و بيان لعاقبة أمرهم إن لم ينتهوا عن مجالسة أعداء اللّه تعالى، فإنّ المؤمن لو لم يحسم أمره معهم منذ الخطوة الاولى لانزلق معهم و وقع في الهاوية، و قد حذّر اللّه تعالى المؤمنين من الاستهانة بأحكام اللّه تعالى. و قد سجّل عزّ و جلّ على الأمم السابقة - لا سيما اليهود - هذا الأمر و وبّخهم أشدّ توبيخ و لعنهم، فإنّ قبح الاستهانة بالمولى - لا سيما اللّه تعالى و أحكامه - ضروري عقلي، فيعمّ جميع الأمم، قال تعالى: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة، الآية: 78-79].

و المثليّة تارة: تتحقّق في الكفر إن كان القعود مع الكافرين و يستلزم الموالاة و الرضا بمعتقداتهم و أعمالهم. و اخرى: تتحقّق في الإثم إن لم يكن القعود كذلك. هذا إن لم تكن ضرورة في الاجتماع، و إلاّ فالضرورات تبيح المحظورات.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

و عيد للفريقين المنافقين الموالين للكافرين المستهزئين بآيات اللّه تعالى، و تعليل لكونهم مثلهم؛ لأنّ ذلك يستلزم اشتراكهم في العذاب.

و أقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم، و بيانا لعلّة استحقاقهم للعذاب، و بيانا لصفة من صفات المنافقين و هي مراقبة إخوان المؤمنين لينتفعوا بها على حسابهم، كما هو شأن كلّ مخادع لم تكن مصاحبته عن صدق و إخلاص، و هذه من أظهر صفات المنافقين و أجلاها.

ص: 39

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ .

التربّص: الانتظار، و عدم ذكر متعلّق التربّص ليشمل كلّ أمر مكروها كان أو محمودا و محبوبا. أي: ينتظرون وقوع أمر بالمؤمنين.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ .

تفصيل لما أجمله آنفا. و المعنى: و إن كان للمؤمنين فتح من اللّه تعالى برعايته لكم و إفاضته عليكم ما أوجب الظفر على أعدائكم قال المنافقون: ألم نكن معكم نظاهركم و نجاهد عدوكم فاسهموا لنا فيما غنمتم.

و تقييد الفتح بكونه من اللّه لبيان أنّه وعد منه عزّ و جلّ ، كما قال تعالى:

وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم، الآية: 47].

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

مادة [حوذ] تدلّ على الحوط، يقال: حاذه حوذا إذا حاطه، و منه الحاذيان و هما جانبا الفخذين من الوراء، و سمّي السائق للبعير و غيره من الدواب حوذيا؛ لأنّه يضرب حاذين البعير، و منه استحوذ على الشيء، أي: غلب عليه و تمكّن من تسخيره و التصرّف فيه، و منه المحاذي للشيء، فإنّ معنى الإحاطة مأخوذ في جميعها، و في الحديث: «ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل بخفّة الحاذ كما يغبط اليوم أبو العشرة»، أي الاستيلاء على المال أو العيال، و ذلك كناية عن القلّة و الخفّة فيهما. و الفعل استحوذ و نستحوذ جاء على الأصل من غير إعلال - كما جاء استروح و استصوب - خارجة عن أخواتها نحو: استقال و استقام و أشباههما، فلو أعلّ لكان: ألم نستحذ، و الفعل على الإعلال استحاذ فيستحيذ.

و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين، أحدهما المقام، و الثاني في قوله تعالى: اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطانُ [سورة المجادلة، الآية: 19].

و المعنى: أنّهم يقولون للكافرين إذا أصابهم حظّ من الحرب و الظفر منّا عليهم: ألم نستول عليكم و نتمكّن من قتلكم فلم نفعل بكم و نمنعكم من وصول

ص: 40

المؤمنين إليكم بأن خذلناهم و ألقينا عليهم ما أوجب ضعف قلوبهم و الحدّ من صولتهم.

و يمكن أن يكون المراد: أ لم نكن سببا في غلبتكم على المؤمنين و نمنعهم منكم بتخذيلهم. و المعنيان متقاربان.

و كيف كان، فقد عبّر عزّ و جلّ عن ظفر المؤمنين بالفتح، و في الكافرين بالنصيب؛ اهتماما بشأن المؤمنين و تعظيما لما أصابوه من الفتح و إهانة للكافرين و تحقيرا لحظّهم، و بشارة للمؤمنين بأنّه سيكون لهم الفتح على الكافرين، و أنّه وعد منه عزّ و جلّ لهم، و إن كان في البين ظفر للكافرين عليهم فإنّه لم يكن فتحا بل مجرّد استيلاء لم يكن دائميا سيزول و ينطفئ ضياؤهم، فإنّه لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا، فيهدم كيانهم و يبطل معالمهم، و لعلّ قوله تعالى في المقام إشارة الى ما سيأتي من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، و المراد من الآية الشريفة نفي الجعل الإلهي كما في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، فلا تنافي ثبوت الولاية موقتا؛ لأنّها حاصلة من بعض أعمال المؤمنين و بعدهم عن الحقائق و الواقعيات.

قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

الخطاب يشمل كلتا الطائفتين تغليبا أو على الحذف، أي: بينكم و بينهم.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى يفصل بين المؤمنين و المنافقين و الكافرين يوم القيامة الّذي هو يوم الفصل بين المحبّين الموالين للّه تعالى، و بين المنافقين المعادين له عزّ و جلّ ؛ فيثيب أحباءه و يعاقب أعداءه، و إنّما خصّ التفصيل و الحكم بينهم بالآخرة؛ لأنّ المنافقين في الدنيا قد حقنت دماؤهم بالإسلام ظاهرا، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «فإذا قالوا - أي كلمة لا إله إلاّ اللّه - فقد عصموني دماءهم و أموالهم».

ص: 41

قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي لا تقبل التغيير و التبديل، و هي أنّ السبيل للمؤمنين و لن ينعكس أبدا، و تتضمّن الوعد منه عزّ و جلّ لهم الغلبة و النصر على الكافرين، و تأييس للمنافقين بأنّ الغلبة للمؤمنين فلا ينفعهم موالاة الكافرين. و من القرائن الحافّة بهذه الآية الشريفة يستفاد أنّ السبيل المنفي يشمل جميع أنحائه من الظاهري - و هو الغلبة و النصر، و الاستيلاء - و المعنوي و هو الحجّة و البرهان، فإنّ قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ إشارة الى القسم الأوّل، و قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إشارة الى القسم الثاني، فإن كان للكافرين غلبة و قوّة في الحال و لكن للمؤمنين الغلبة و النصر في المآل كما وعد عزّ و جلّ قال تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 139].

و أمّا الغلبة في الحجّة و البرهان فلا ريب فيها من أحد، و تخصيص الآية الشريفة بأحد القسمين: الظاهري - بأن لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تامّا بالاستئصال كما حكى عن السدي - أو المعنوي، كما قلنا.

كما أنّ الإشكال بأنّ الغلبة الظاهريّة للكافرين قد تحقّقت في كثير من الأعصار، فلا تشمل الآية الكريمة السبيل الظاهري.

غير صحيح؛ لأنّ ذلك مؤقت، و ذلك لا يضرّ بعد وعد اللّه تعالى بالنصر للمؤمنين و ما حصل للكافرين من الغلبة، لا لأجل كونهم على الحقّ ، بل لإصرارهم على الباطل و الاعتماد على تلك الأسباب الماديّة و عملهم بها بدقّة و إحكام، بخلاف المسلمين الّذين أهملوا هذا الجانب، كما أنّهم أعرضوا عن كثير من تعاليم الإسلام، و قد وعد اللّه لهم بالنصر إن كانوا مؤمنين و عاملين بالأحكام الإلهيّة. و تدلّ عليه آيات كثيرة و نصوص مستفيضة، منها ما تقدّم من قوله تعالى:

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ [سورة آل عمران، الآية: 139]، أي مؤمنين إيمانا صحيحا يدعو الى العمل بما اعتقدتموه.

ص: 42

و قد استدلّ الفقهاء بهذه الآية الشريفة في عدّة مواضع من الفقه لنفي السبيل عن المؤمنين، و جعلوها قاعدة فقهيّة، و هي: «نفي السبيل للكافرين على المؤمنين»، و استدلّوا عليها بقول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، فتختصّ الآية المباركة بالشرعيات عموما، و قد ذكرنا ما يتعلّق بالقاعدة في مواضع من كتابنا «مهذب الأحكام»، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام عنها.

قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ .

صفة أخرى من صفات المنافقين، و هي خداع الرسول و المؤمنين بإخفاء الحقيقة.

و المخادعة: هي شدّة الخديعة و الإكثار منها، و هي تمويه الحقيقة و إبهامها و إظهار خلاف ما يخفيه. و تقدّم اشتقاق الكلمة في سورة البقرة الآية - 9.

و مخادعة اللّه هي مخادعة الرسول و المؤمنين تعظيما لشأنهم، تنبيها على فظاعة فعل المنافقين و شناعته لكونه مبغوضا عنده جلّ شأنه، و أنّ المعاملة مع الرسول معاملة مع اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ : إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ [سورة الفتح، الآية: 10].

و مخادعة اللّه تعالى إنّما تتحقّق بالاستهزاء بدينه و الغشّ في تعاليمه المقدّسة، فإنّهم يظهرون الإيمان بذلك كلّه و يبطنون الإعراض عنها و مخالفتها و تكذيبها و يتقرّبون الى الرسول و المؤمنين كيدا بهم، و لأجل تكرار ذلك منهم أو حصول الخداع منهم في كلّ واحد من تلك الأحكام الإلهيّة و التعاليم الربوبيّة، و الاستهانة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين صارت مخادعة منهم.

قوله تعالى: وَ هُوَ خادِعُهُمْ .

أي: و الحال أنّ اللّه تعالى هو خادعهم، أي يجازيهم على خداعهم، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى عن فعله بالخداع مشاكلة، و هي نوع من أنواع البديع كما في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 54]،

ص: 43

و السبب في ذلك أنّ الخديعة و المكر إنّما يستعملان في الشرور و المعاني المذمومة غالبا، و قد عبّر عنها في فعله عزّ و جلّ و سنّته في خلقه فيهم مخادعة؛ لأنّهم أوقعوا أنفسهم في ما يضلّون به أنفسهم و ينتهي بهم الى العقاب و النكال.

أو المراد أنّ اللّه تعالى هو مخادعهم في تركهم معصومي الدماء و لم يمنعهم و لم يعجّل على أعمالهم الشنيعة، فكان ذلك خدعة منه عزّ و جلّ لهم كما أرادوا خديعته تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في سورة البقرة فراجع.

و (خادع) اسم فاعل من الثلاثي، و مثل هذا الوزن يدلّ على الغلبة و المغالبة، أي أنّ اللّه تعالى يغلبهم في آخر المطاف مهما توغّلوا في الخديعة، فيجعل وبال خداعهم عليهم لا لهم.

قوله تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى .

كسالى [بضم الكاف] جمع كسلان، و قرئ [بفتحها] بمعنى المتثاقل عمّا ينبغي النشاط فيه، أو الفتور في مورد القوّة، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ليس في الإكسال إلاّ الطهور»، أي: جماع الرجل زوجته ثمّ يدركه فتور فلم ينزل، و في كتاب العين:

«كسل الفحل إذا فتر عن الضّراب».

و الآية المباركة تشير إلى صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي تدلّ على أنّ قيامهم ببعض الشعائر تثاقلا كالمكره على الفعل ليراءوا الناس أنّهم من أهل الإيمان، فإنّ مجرّد دعواهم أنّهم منهم لا تكفي في مجتمع المؤمنين الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، فلا بدّ من قيامهم ببعض الشعائر لا عن عقيدة بها، بل لأجل إراءة أنفسهم الى الناس أنّهم من المؤمنين خديعة و تغريرا بالمؤمنين، و لو لا ذلك لما أمكنهم الوقيعة بهم و إعمال كيدهم فيهم.

قوله تعالى: يُراؤُنَ اَلنّاسَ .

أي: أنّ قيامهم بالصلاة إنّما هو لأجل أن يراهم الناس المؤمنين حتّى يعدوهم منهم فيتمكّنوا من إعمال كيدهم فيهم.

ص: 44

و المراءاة مشاركة في الرؤية، أي يكون المرء في مشهد من الناس بحيث يراه الناس و هو يراهم قصدا منه رؤية الناس لأعماله فيحسبونه من المؤمنين.

و الرياء: من الصفات الذميمة المهلكة - إلاّ إذا أذن الشارع فيها كما في بعض التوصليات - و يكفي في قبحها أنّها من صفات المنافقين، و هي إظهار الجميل ليراه الناس لا عقيدة به و لا لاتباع أمر اللّه تعالى فيه، و هي من الشرك الخفي كما نطقت به جملة من الأخبار.

ص: 45

قليلا مهما عظم، فعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يقلّ عمل مع تقوى، كيف يقلّ ما يتقبّل ؟!»، فلم يكن لهم توجّه إليه عزّ و جلّ أبدا، فإنّ من أحبّ شيئا خلب مشاعره، فإذا كان عملهم للّه تعالى حبّا و طاعة له، فإنّه يستولي على قلبهم و جميع جوانحهم و جوارحهم، فيكونون ذاكرين للّه تعالى حاضرين لديه مراقبين لنفسه.

و ممّا ذكرنا تعرف أنّ المراد بالذكر هو الأعمّ من الباطني القلبي و الذكر اللساني، فالمنافقون اقتصروا على القليل منه و لم يقبل منهم ذكرهم هذا؛ لعدم التقوى فيهم كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ .

صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي التردّد في الإيمان و الكفر، فلم يستقرّوا على أحدهما فلا هم مؤمنون حقيقة و لا كافرون محضا، و إنّما كانوا كذلك لتردّدهم بين مجتمع المؤمنين و الصلاة معهم رياء، و بين موالاة الكافرين و مجالستهم، و يدلّ على ذلك كلمة «بين» كما حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا. هذا بالنسبة الى حالتهم النفسيّة المتردّدة المشكّكة.

و أمّا عند اللّه فهم كافرون كما يدلّ عليه الطبع على الكفر في قوله تعالى:

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3] و غيره من الآيات الشريفة.

و مادّة (ذبذب) تدلّ على الحركة و الاضطراب، قال النابغة:

ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة *** ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

و منه حكاية صوت الحركه للشيء المعلّق، و منه أيضا المهتز المعلّق الّذي لا يثبت و لا يتمهّل، و الذال الثانية أصيلة عند الجمهور خلافا لبعض الكوفيين، حيث جعلوها مبدّلة من «باء». و قرأ ابن عباس: (مذبذبين) بكسر الذال الثانية، و هذا الوصف يدلّ على عدم حصول اليقين عندهم و فقدان الثقة في نفوسهم. و هذه الحالات تحصل للإنسان إذا اقتصر على الماديات بجحود الحقّ ، و ترك ما وراءها، و جعل همّه في الدنيا هو الاقتناء على وسائل العيش المادي و السعي وراء متاع

ص: 46

الدنيا و الإعراض عن تكميل النفس بالكمالات و التخلّق بمكارم الأخلاق، و السبب في ذلك هو حبّ الدنيا الّذي يعدّ رأس كلّ خطيئة، كما في الحديث.

قوله تعالى: لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ .

بيان للآية السابقة، أي: لا ينتسبون الى المؤمنين ليعدّوا منهم حقيقة، و لا الى الكفّار ليعدّوا منهم بالكليّة، و إنّما يميلون مع كلّ ريح و يطلبون النفع في انحيازهم الى الطائفتين.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً .

تعليل لما سبق، أي من لم يوفقه اللّه تعالى فهو ضال لم يهتد الى سبيل؛ لأنّهم اتّصفوا بتلك الصفات المهلكة الموبقة، فلم يهيئوا أنفسهم لنيل الفيوضات الربوبيّة و الوصول الى المقامات الكريمة، و لم يستعدّوا للتوفيق و لم يصلحوا للهداية، فأضلّهم اللّه عن السبيل، فلا سبيل لهم ليوصلهم الى الحقّ و الكمال.

و الخطاب في الآية الشريفة عامّ يشمل الجميع؛ ليكون رادعا لهم عن سلوك السبل حتّى تؤدّي بهم الى الهلاك و إعراض اللّه تعالى عنهم و سلب التوفيق عنهم.

و قيل: إنّ المراد من السبيل هو المذهب و الدين الحقّ ، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ المتديّن بالحقّ قد اكتسب و اقتنى أهمّ الكمالات الواقعيّة و العواقب الحميدة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

خطاب للمؤمنين بعد بيان صفات المنافقين و ما أوجب إضلال أنفسهم و عدم اهتدائهم سبيلا يفضي بهم الى الحقّ .

و الآية الشريفة تحذّر المؤمنين عن أهمّ ما يوجب ضعف إيمانهم و الدخول في زمرة المنافقين، و تعظهم بعدم التقرّب الى ما يوجب سخط اللّه تعالى، و إشارة الى أهمّ تلك الموبقات، ألا و هي ولاية الكافرين الّتي هي صنيع المنافقين، و إلاّ كانوا مثلهم، و تؤكّد الآية الكريمة النهي السابق عن موالاة الكافرين الّتي هي حبّهم

ص: 47

و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم، فتكون الولاية المنهي عنها هي نفس الولاية المأمور بها للمؤمنين من دون فرق، فإنّ اللّه تعالى يأمرنا بولاية المؤمنين، و هي حبّهم و الدخول في زمرتهم و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم و نصرتهم، و هذه هي الّتي نهى المؤمنين أن يتّخذوها مع الكافرين.

و لعلّ السرّ في التأكيد على هذا الأمر أنّ ولاية الكافرين تستلزم كلّ تلك الصفات الذميمة الّتي اتّصف بها المنافقون، فأوجبت إضلال أنفسهم و تحيّرهم و عدم اهتدائهم السبيل الّذي تنجيهم من الشقاء و الهلاك، و أنّ فيها محو أثر الإسلام و اطفاء نور الإيمان في القلوب، و تضعيف الروح المعنويّة في النفوس المؤمنة بالآخرة و المنقطعة إليه عزّ و جلّ ، و هدم كيان المجتمع النبيل عن شريعة اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة و الدخول في سخطه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً .

تأكيد للنهي السابق و تهويل أمر ولاية الكافرين و بيان عظيم أثرها في نفوس المؤمنين كما عرفت. و السلطان هو الحجّة و البرهان، و هو ممّا يجوز فيه التذكير - باعتبار البرهان - و التأنيث باعتبار الحجّة. و المبين: الواضح.

و المعنى: أ تريدون أن يكون للّه تعالى عليكم حجّة ظاهرة واضحة في استحقاقكم للعذاب إذا اتّخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ لأنّ ولاية الكافرين دليل النفاق و الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى و دين الحقّ ، و هذه حجّة.

و الآية المباركة تشير الى أمرين:

أحدهما: أنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، و هذه حجّة.

الثاني: أنّ موالاة الكافرين أوضح دليل على النفاق، و هذه حجّة ثانية، و كلتا الحجّتين قد ذكرهما عزّ و جلّ في الآيات السابقة، و إحديهما تكفي في استحقاق العذاب.

قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ .

الدرك - بسكون الراء و فتحها - هي الطبقة، و سمّي بها لأنّها طبقات متتابعة

ص: 48

متداركة بعضها فوق بعض كالدرج، إلاّ أنّ الأخير يقال باعتبار الصعود و الدرك باعتبار الهبوط؛ و لذا كانت للجنّة درجات و للنّار دركات، و في حديث الدعاء:

«أعوذ بك من درك الشّقاء»، و الجمع أدراك - و هي منازل في النار - و قيل أدرك كفلس و أفلس.

و تدلّ الآية المباركة على وجود طبقات و منازل للنار، و هي سبع: تسمّى الاولى جهنم، و الثانية لظى، و الثالثة الحطمة، و الرابعة السعير، و الخامسة سقر، و السادسة الجحيم، و السابعة الهاوية، و قد تسمّى جميعها باسم الطبقة الاولى كما يسمّى بعض الطبقات باسم الطبقة الاخرى، و لفظ النار يجمعها أعاذنا اللّه تعالى بلطفه و رأفته و جميع المؤمنين برحمته و كرمه منها بحقّ محمّد و آله الأطهار و إنّما استحقّ المنافقون الدرك الأسفل؛ لأنّهم شرّ أهلها، و قد جمعوا بين الكفر و النفاق و اتّصفوا بصفات موبقة و مهلكة أفسدت عليهم فطرتهم، و جعلت أنفسهم أخسّ الأنفس و أرداها فاستحقّوا بها هذه الطبقة من النار كما حكي عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة، فإنّ واحدة منها تكفي في استحقاق النار، و تدلّ الآية الشريفة على تناسب الجزاء مع العمل.

قوله تعالى: وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً .

إرشاد الى استيلاء النفاق على جميع مشاعرهم و تنبيه الى أنّ النفاق يوجب انقطاع العصمة بينهم و بين كلّ شفيع و نصير يخرجهم من النّار أو يخفف من عذابها.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة بيانا لقوله عزّ و جلّ : فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً في الدنيا و الآخرة فالنصير من السبيل الّذي نفاه عزّ و جلّ عنهم، فإنّ اللّه تعالى لم يوفقهم في الدنيا للهداية و كسب المكارم و لم يجعل لهم نصيرا ينصرهم من عذاب اللّه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا .

استثناء عمّا سبق ذكره في النفاق و المنافقين و الوعيد الّذي ذكره عزّ و جلّ فيهم. و قد اشترط تعالى للرجوع عن النفاق شروطا ثقيلة لم تذكر في غيره من

ص: 49

المعاصي و الآثام، فإنّ في بعضها تكفي التوبة الجامعة للشرائط و الإنابة الى اللّه تعالى، و في بعضها التوبة و الإصلاح، و في بعضها الاعتصام باللّه تعالى و الإخلاص في الدين. و لا يكفي واحدا منهما للرجوع عن النفاق و الدخول في جماعة المؤمنين و نيل جزاءهم، و هذا يدلّ على أنّ النفاق أسوء بكثير من المعاصي و سائر الصفات الرذيلة و الملكات السيئة، بل الكفر الصريح الّذي اكتفى فيه عزّ و جلّ بالإيمان و العمل الصالح، قال عزّ و جلّ : فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ [سورة التوبة، الآية: 11]، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الكافر مستقيم الفطرة لكنّه على قاعدة منحرفة، فإذا أزال المانع و رجع الى الدين الحقّ اكتفي منه بالإيمان و الالتزام بلوازمه، بخلاف النفاق الّذي له منبت عميق في القلب و جذور متشعّبة في النفس، ممّا يوجب اختلال الفطرة المستقيمة، فيتكون للمنافق تركيبة سيئة مضطربة لم تقم على قاعدة و هي في غاية السوء، بخلاف بقية المعاصي؛ لأنّ في جميعها لم تضطرب الفطرة، و لأجل ذلك النفاق احتاج الى إصلاح كثير و جهاد مرير مع النفس يرجع المنافق الى رشده و يصلح نفسه حتّى يستقيم طبعه، فلم تكن هذه الشروط لتهويل الأمر و بيان فظاعة النفاق و شدّة أثره في النفس و الفطرة فحسب؛ لأنّ لكلّ شرط أثرا مختصّا به في الإصلاح و التربية، فأوّل تلك الشروط هو التوبة بالرجوع الى اللّه تعالى و العزم على ترك النفاق، و الندم على ما صدر منه.

و هذا الشرط هو القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها التوبة عن جميع الذنوب و الآثام، و تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بها، و ذكرنا أنّ التوبة بالمعنى المعروف الّذي سبق ذكره ممّا له الأثر النفسي و التربوي في المذنبين النادمين و العازمين على ترك المعاودة مع التدارك بما أمكنه من الأعمال الحسنة كما مرّ.

قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا .

و هو الشرط الثاني، أي الإصلاح الّذي يقترن بالتربية و ترويض النفس و قهرها على العمل بأحكام اللّه تعالى، فإنّ النفاق أفسد النيات و الأحوال

ص: 50

و الأعمال، و هذا الشرط له الأثر في تأسيس قاعدة قويمة محكمة يمكن أن يعتمد عليها المنافق فيخرج عن التذبذب و الاضطراب.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ .

هذا هو الشرط الثالث، و هو التمسّك بحبله المتين و اتباع تعاليم الرسول الكريم، فإنّه السبيل الّذي عيّنه سبحانه و تعالى لمن يريد أن يدخل في جماعة المؤمنين و يسلك مسلكهم، و غيره هو سبل الشيطان الّتي يتفرّق بكم عن سبيله عزّ و جلّ . و هذا يفضي الى الدخول في جماعه المؤمنين و هدايته، قال تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: 175]، و قد عرفت آنفا أنّ اللّه تعالى قطع عن المنافق فيضه فجعله ضالا لا يهتدي سبيلا.

و الاعتصام باللّه عزّ و جلّ يجعل له استعدادا للفيض بعد ما أفسده النفاق، و بهذا الشرط و سابقه تستقيم العقيدة و يحصل الجزم في النيّة و يزول الشكّ و التردّد.

قوله تعالى: وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ .

هذا هو الشرط الرابع، و هو الإخلاص للّه تعالى و نبذ الشرك و الرياء و التواني في طاعته، و بهذا الشرط تستقيم الفطرة بعد ما أفسدها النفاق، و يجعل نفسية المنافق نفسية صادقة مطمئنة مستقيمه ليس لها منبت سوء، فإذا تحقّقت جميع تلك الشروط و استقامت الفطرة و تحقّقت القاعدة الحكيمة المبنية على تعاليم اللّه عزّ و جلّ و دينه الحقّ و ثبت الإخلاص خرج عن النفاق و دخل في جماعة المؤمنين و نال الثواب الجزيل الّذي وعده سبحانه و تعالى لهم.

و هذه الصفات هي صفات المؤمنين المخلصين الّذين تمحّضوا في الإيمان، و قد وردت في الآيات الكريمة الّتي ذكر فيها صفات المؤمنين المخلصين، و قد تقدّم بعضها.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

أي: أولئك التائبون الّذين رجعوا عن النفاق و أصلحوا أنفسهم بعد ما

ص: 51

أفسدوها مع المؤمنين في الدارين و يعدون من عدادهم؛ لأنّ المنافقين قد أفسدوا فطرتهم فلم يمكنهم الرجوع بمجرّد التوبة بالشروط المذكورة، بل يحتاج الى جهاد و تحمّل مشقّة في ترويض النفس على الإيمان حتّى تستقرّ في قلوبهم تلك الأوصاف؛ و لذا كانوا في ابتداء الأمر مع المؤمنين الى أن يوفّقهم اللّه تعالى بالدخول فيهم فيكونوا منهم حقيقة.

قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً .

أي: و سوف يعطي اللّه المؤمنين جميعا - من تقدّم منه النفاق ثمّ تاب، و من لم يتقدّم منه النفاق - أجرا عظيما لا يعلم كنهه و قدره إلاّ اللّه تعالى، فيساهم التائبون المؤمنين في ذلك الأجر.

قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ .

تأكيد للوعد السابق للمنافقين بأنّهم إن تابوا فإنّ اللّه تعالى لن يعذبهم؛ لأنّه ما يفعل بعذابهم إن شكروا و آمنوا، و تطمين لقلوب المؤمنين جميعا بأنّ اللّه تبارك و تعالى لا يحبّ عذاب أحد، و إعلام لجميع الناس بأنّ اللّه غني لا يعذب أحدا من دون استحقاق له، و أنّ عذابه لم يكن انتقاما و لا تشفيا من الغيظ ليخمد ثورة الغضب الكامن في قلبه كما هو شأن الإنسان حين ما يغضب، كما لا يكون عذابه لدفع ضرر و لا لجلب منفعة، فهو الغني المتعال عن جميع ذلك.

و في التعبير ايحاء عجيب، و كمال العطف بخلقه، و يستفاد من هذا الأسلوب البديع الّذي اشتمل الاستفهام فيه (ما) على النفي على الموجب عن العذاب بنفي الفعل، و هو أسلوب بلاغي فصيح، فما يفعل اللّه تعالى بعذاب أحد لأنّه لم يكن فيه موجب لعقابه تعالى، فلم يحبّ أن يعذب أحدا من غير استحقاق منه، بل يعاقب المسيء المصرّ على الإساءة؛ لأنّه يكشف عن فساد نيّته و سوء سريرته، فإذا زال ذلك بالشكر و الإيمان و نقّى نفسه و طهّرها بالتوبة، تخلّص من تبعات الكفر و الآثام، فكان في مأمن من العذاب كما وعد عزّ و جلّ .

ص: 52

قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ .

بيان بأنّ العذاب وجودا و عدما إنّما هو يرجع الى كفرهم، أو شكرهم و إيمانهم، فلا موجب لعذابكم إن شكرتم اللّه تعالى على ما أنعم عليكم من الفواضل و الفضائل و آمنتم به و عملتم بشرائعه و تعاليمه المقدّسة.

و قد ذكر المفسّرون في وجه تقديم الشكر على الإيمان وجوها:

منها: أنّ الشكر يستدعي معرفة النعمة، و هي تقتضي معرفة المنعم ثم الإيمان به.

و منها: أنّ الشكر طريق موصل الى الإيمان، بل هو أولى درجاته.

و منها: أنّ الكلام مبني على تقديم المؤخّر، أي: آمنتم و شكرتم. و قيل غير ذلك، و لا يخفى ما في بعضها من المناقشة و الخروج عن الذوق البلاغي.

و الحقّ أن يقال: إنّ الآية المباركة تشير الى معنى أدق مما ذكروه، و هو أنّ الشكر من شؤون العبوديّة الّتي خلق اللّه تعالى الجن و الإنس لأجلها، قال عزّ و جلّ : وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 5]، و العبوديّة جوهرة تتضمّن جميع الحقوق على المخلوق اتّجاه خالقه، و الشكر للّه عنوان العبوديّة و من أهمّ أماراتها؛ لأنّه يوجب صرف جميع ما أنعم اللّه تعالى على العبد في ما خلق لأجله، و به يستعد الإنسان لنيل الفيض من خالقه المنعم عليه، فهو من أوثق الروابط بين المنعم و المنعم عليه؛ و لذا ورد التأكيد على الشكر في عدّة مواضع من القرآن الكريم حتى عدّوه من الحقوق الّتي تدعو الفطرة بمراعاتها و أدائها؛ لأنّه يستدعي معرفة النعمة و المنعم.

و الكفر يعني الخروج عن ناموس الفطرة و قطع تلك الرابطة و تحدّي ناموس الكون، و هو يعني الخروج عن شريعة اللّه تعالى و اتّخاذ المذاهب و الشرائع الّتي هي من صنع البشر، و هذا يعني حدوث الفساد في الأرض.

و دفعا لذلك لا بدّ من الشكر و مراعاة النعمة و أداء حقّ الخالق المنعم بها علينا، ثم يستتبع الإيمان عن قاعدة رصينة و اعتقاد جازم، و لعلّ الإتيان به في

ص: 53

المقام مع الإيمان باللّه تعالى لدفع العذاب، و لأجل إزالة الشكوك في النفس و التذبذب في الاعتقاد الّذي كان عليه المنافقون، و فيه التأكيد على مراعاة المنهج الّذي وضعه عزّ و جلّ لمن يريد الرجوع عن النفاق و التوبة منه لشدّة أثره في النفس و القلب و العقيدة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً .

أي: أنّ اللّه تعالى يرضى عن الشاكرين و يثيبهم على شكرهم، عليم بجميع الأمور الجزئيّة و الكليّة، فهو يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، و يعلم الصادق في إيمانه و الراجع عن نفاقه فيثيبه، و يعلم الكاذب فيجزيه على كفره.

و (الشكور) من أسمائه المقدّسة، و يراد منه الجزاء الكثير و العطاء المتواصل على القليل من الطاعات، و في الدعاء: «يا من يقبل اليسير و يعفو عن الكثير».

ص: 54

بحوث المقام

بحث أدبي

اختلف النحويون في مثل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً فذهب الجمهور الى أنّ الخبر في أمثال هذا الموضع محذوف و به تتعلّق اللام، و التقدير: ما كان اللّه تعالى مريدا للغفران لهم، و نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.

و ذهب غيرهم الى أنّ اللام زائدة و الخبر هو الفعل.

و قد أشكل عليه بأنّ انتصاب ما بعدها إن كان باللام فليست زائدة، و إن كان ب (ان) فإنّه يستلزم الإخبار بالمصدر عن الذات و هو فاسد.

و أجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من العمل مع الزيادة، كما في حروف الجر الزائدة.

كما أجيب عن الثاني بأنّه لا مانع من الإخبار بالمصدر عن الذات.

و أشكل عليه بما هو مذكور في المطولات، فراجعها.

و (أن) في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها مخفّفة من الثقيلة و اسمها ضمير الشأن مقدّر، و ذكر بعضهم أنّ المقدّر ضمير المخاطبين، أي (انكم).

و أشكل عليه بأنّ (ان) المخفّفة لا تعمل في غير ضمير الشأن.

و أجيب عنه بأنّه يجوز و لو لم تكن ضرورة و التفصيل مذكور في محلّه.

و (إذا) في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ملغاة؛ لأنّ شرط عملها الّذي هو النصب في الفعل أن تكون مصدرة و (مثل) خبر عن ضمير الجمع، و يستوي فيه الواحد المذكر و غيره؛ لأنّه كالمصدر الّذي يقع على القليل و الكثير، و في المقام قد أضيف الى ضمير الجمع فيدلّ على العموم، و قد يطابق ما قبله في الجمع و الإفراد

ص: 55

كقوله تعالى ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ، و يكتسب البناء إذا أضيف الى المبني، سواء كان (ما) كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [سورة الذاريات، الآية: 23] أم غيرها. و اشترط بعض النحويين في اكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية و الجمع - كدون، و غير، و بين. و لم يصحّ ذلك في (مثل) فراجع المطولات.

و جامع في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ بالتنوين حذف تخفيفا لأنّه بمعنى: (نجمع).

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالقلّة في قوله تعالى: وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً العدم.

و استشكل عليه توجيه الاستثناء، و أجيب بأنّ المعنى يرجع الى وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ملحقا بالعدم، و لكن جعل القلّة بمعنى العدم مجاز يحتاج الى عناية، إلاّ على طريقة قولهم:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ إمّا حال من فاعل يُراؤُنَ ، أو من فاعل يَذْكُرُونَ ، أو يكون منصوبا على الذمّ بفعل مقدّر.

و (يؤت) في قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ حذفت الياء منه في اللفظ كما حذفت في الخط لسكونها و سكون اللام الّتي بعدها، و مثله حذف الياء في قوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ اَلْمُنادِ ، و قوله تعالى: سَنَدْعُ اَلزَّبانِيَةَ ، و قوله تعالى:

يَوْمَ يَدْعُ اَلدّاعِ ، فإنّها حذفت لالتقاء الساكنين.

بحث دلالى

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً على كمال الاختيار في الإنسان و الحرية في الاعتقاد؛ لأنّ التقلّب في

ص: 56

الإيمان و الكفر ينافي الجبر عليها و الالتزام بأحدهما، و يدلّ عليه أيضا امور يستفاد من الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها.

منها: أنّه لو كان مجبورا لما اختلف في الإيمان و الكفر، و لم يكن متردّدا بينهما، ثم الازدياد في الكفر، و التوغّل في الطغيان، فإنّ ذلك ينافي الجبر كما هو واضح.

إن قلت: إنّ الجبر قد يتعلّق بذات التردّد أيضا، كما يتعلّق بالإيمان أو الكفر.

قلت: على فرض كون الجبر يتعلّق بالتردّد أيضا و كان له وجه معقول، و لكن الازدياد و الطغيان الحاصلان من العبد في كلّ من الإيمان و الكفر ينافي الجبر و لا يتعلّق بهما، فإنّ كلا منهما من فعل العبد و اختياره.

و منها: أنّ الجزاء الّذي ترتّب على الكفر و الارتداد عظيم جدا؛ لعظمة الذنب الّذي اقترفوه، و هو عدم الغفران و عدم اهتدائهم السبيل و العذاب الأليم، و هو يدلّ على اختيارهم، إذ لا وجه للجزاء على فعل يكون الإنسان مجبورا على إتيانه.

كما يدلّ على نفي التفويض أيضا، فإنّه غير معقول أن يفوض اللّه تعالى الأفعال الى العباد، و لم يهدهم سبيلا للرشاد، و لم يوفقهم الى خيرهم و سعادتهم و يبعدهم عن رحمته.

و منها: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ فإنّ الاتّخاذ نصّ على الاختيار مادّة و هيئة كما هو واضح، إذا لا جبر في البين؛ لأنّ الاتّخاذ فعل العبد، فيدلّ على الاختيار، كما في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 57]، و قوله تعالى: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً [سورة التوبة، الآية: 31]، و قوله تعالى: اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ * [سورة النساء، الآية: 153]، بخلاف (أخذ) فإنّه أعمّ كما في قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ * [سورة الذاريات، الآية:

44]، و قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ * [سورة المؤمنون، الآية: 41].

و قد استعمل القرآن هذه الهيئة (اتخذ) في التردّد و العصيان غالبا، بخلاف الأخذ كما عرفت.

ص: 57

و منها: قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فإنّ إثبات المثليّة بين طائفتين في الإيمان و الكفر لا تحصل إلاّ في ظرف الاختيار، و لا يمكن أن تتحقّق بين طائفتين مجبورتين على الإيمان و الكفر؛ لأنّه لا يمكن أن يخرج المجبور عن ما اجبر عليه.

إن قلت: إنّ الذمّ قد يتعلّق لصفة غير اختياريّة، كما يقال مثلا: الحنظل مرّ.

قلت: إطلاق الذمّ على أمر غير اختياري شيء و العقاب عليه شيء آخر، و انّه يتعلّق بأمر مختار، فبالاختيار يأكل الحنظل و يترتّب عليه آثاره الوضعيّة، و كذا في الكفر و هكذا، و للكلام تفصيل موكول الى محلّه.

و منها: قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً فإنّه يدلّ على أن من أراد الكفر فقد اختار إلزام نفسه بالحجّة، و أراد لنفسه العقاب، و لا وجه لثبوت الحجّة على أمر هو مجبور على فعله أو مفوض إليه، كما هو واضح.

و منها: قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ فإنّه يدلّ بوضوح على نفي الجبر و التفويض، إذ العذاب وجودا و عدما معلّق على اختيار الإيمان و الكفر.

و مجموع الآيات الشريفة تدلّ على النظرية الّتي أسّسها الأئمة الهداة عليهم السّلام في أفعال الإنسان، و هي نظرية الأمر بين الأمرين، فإنّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً يدلّ على أنّ الهداية و التوفيق من اللّه تعالى، فلا بدّ منهما في كلّ فعل من الأفعال، فمن يختار الإيمان و الطاعة إنّما يكون بتوفيق منه عزّ و جلّ ، و من كفر و أعرض عن الطاعة فقد سلب منه التوفيق، و من المعلوم أنّ التوفيق لم يكن العلّة التامّة في تحقّق أحدهما، و إلاّ كان مناقضا للأدلّة المتقدّمة الدالّة على نفي الجبر و ثبوت الاختيار.

إن قلت: إنّ التوفيق و الهداية من اللّه تعالى و إن لم تكونا العلّة التامّة، و لكنهما جزء العلّة، و المعلول ينتفي بانتفاء أحد أجزاء العلّة.

قلت: نعم إنّ التوفيق جزء العلّة، و لكن الجزء الآخر هو اختيار الإنسان،

ص: 58

فالتوفيق له أثر كما أنّ لبقية الأمور من الزمان و المكان لها الأثر في تحقّق المعلول.

و قد تقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق بالمقام فراجع.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً على أنّ التقلّب في الكفر يوجب الطغيان على اللّه تعالى و التمرّد على تعاليمه. فإنّ من أنس بالكفر و طبع قلبه عليه و تمرّن على الردّة و كان الإيمان و الطاعة عنده أهون شيء، كيف يمكن أن يكون مؤهّلا للمغفرة و مهيئا للهداية ؟! و هو يوجب فساد الفطرة و انتشار الفساد و تغلّب الشرّ، و في ذلك ضياع للإنسانيّة.

و لا تختصّ تلك بالتقلّب في الإيمان و الكفر و الارتداد، بل الإصرار على ارتكاب المعاصي و الآثام و التطبّع عليها و التقلّب فيها توجيها أيضا. ألا ترى أنّ ما أصاب الإنسانيّة الحاضرة من الجاهليّة البغيضة ليست إلاّ نتيجة ارتكاب المعاصي و الخروج عن طاعة اللّه تعالى، و هو ممّا حذّرنا اللّه تعالى عنه بأحسن بيان و أبلغ أسلوب، و يكفي لوصول الإنسان الى المرتبة الدانية الّتي يعبّر عنها عزّ و جلّ ب أَسْفَلَ سافِلِينَ [سورة التين، الآية: 5] عدم تأثير تلك المواعظ البليغة في تلك القلوب الّتي طبعت على التمرّد و الأقسى من الحجارة، و قد أثّرت في القلوب الّتي كانت في عصر النزول مع ما عليها من الانحطاط و التخلّف و البعد عن الحقّ و الواقع، فما أبعد ما بين الجاهليتين، و ما أشدّ الثانية و أقساها، فقد أنست الإنسان نفسه، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية: 18-19]، و لا يمكن أن يتصوّر أمر أشدّ خطرا على أحد أن ينسى نفسه و لا يدري أنّه إنسان شرّفه اللّه تعالى على سائر خلقه، و هو من المهلكات، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً أنّ

ص: 59

التوفيق و الهداية لا بدّ منهما في حياة الإنسان المادّية و المعنويّة، و لا يمكن بدونها أن يصل الى الكمال، بل و لا يستعدّ للاستكمال. و في الدعاء المأثور: «ربّنا لا تكلنا الى أنفسنا، فإنّك إن وكّلتنا الى أنفسنا تباعدنا من الخير و تقرّبنا الى الشرّ».

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً جواز إطلاق الإيمان على الإيمان غير المستقرّ، كما يدلّ أيضا على أنّ للايمان مراتب، و كذا الكفر.

الخامس: يستفاد من الآيات المباركة العلل الّتي توجب النفاق، و هي عديدة، و منها راجعة الى نفسيّة المنافق، كالتذبذب في الاعتقاد، و عدم اليقين بآثاره الحسنة الّتي تقع في النفس، و من هذا القسم الرياء أيضا. فإنّه يرجع الى عدم الاعتماد على اللّه تبارك و تعالى لانتفاء الثقة به عزّ و جلّ .

و منها: راجعة الى العمل، كالكسل في العبادة و ابتغاء المنفعة في جميع الأفعال.

و منها: راجعة الى فساد النيّة، و هي الخديعة، و عمدتها الاستهزاء باللّه و آياته و تعاليمه المقدّسة، و اتّخاذ الكافرين أولياء بالقعود معهم و إلقاء المودّة إليهم، و ابتغاء العزّة عندهم بالإعراض عن المؤمنين و طريقهم إلاّ في ما يثبتون نفاقهم به.

و الآيات الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تبيّن الجوانب المتعدّدة في صفة النفاق، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أنّ القعود مع أهل الكبائر و الجلوس مع أرباب المعاصي، يستلزم الانخراط فيهم و الاشتراك معهم في المعصية، و انطباع آثارها عليهم، و لو لم يكن من آثارها إلاّ سلب التوفيق لكفى في الابتعاد عنهم، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) عند تعداد ما يوجب سلب التوفيق قال عليه السّلام: «أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني و بينهم خليتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني».

ص: 60

السابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أنّ المنافق بحكم الكافر، و أنّهما يشتركان في العذاب و إن اختلفا في شدّته، فإنّ المنافق في الدرك الأسفل من النار.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً أنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين بإحباط جميع محاولات الكافرين للتسلّط عليهم و الاستيلاء على منافعهم، فإنّهم أقوى حجّة و أسدّ رأيا و أثبت عزيمة و أشدّ ثباتا، فلا يضرّهم استيلاؤهم برهة من الزمن على المؤمنين.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أنّ العذاب الإلهي إنّما يكون عن حجّة ملزمة للمعذّبين، فكل ضلال و سخط إلهي - سواء أ كانا في الدنيا أم في الآخرة - إنّما يكون عن حجّة واضحة يجعلها العباد على أنفسهم بسبب أعمالهم، فتكون من قبيل المقابلة و المجازاة، فلن يبدأ اللّه تبارك و تعالى بعذابهم أبدا، فالعذاب أو ما يستوجبه من الضلال و المعاصي إنّما يكون من قبلهم.

فما يظهر من بعض الآيات المباركة من إسناد العذاب إليه عزّ و جلّ ، إنما يكون من قبيل إسناد الأثر الى موجده، و أما السبب في الاستحقاق و الأهلية فمن ناحية العبد.

العاشر: تدلّ الآية الشريفة إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ أنّ أمر التوبة من النفاق شديد - و ليست كسائر المعاصي - فلن تتحقّق إلاّ مع الشروط المذكورة، كما عرفت من أنّ النفاق مرض عضال يفسد النيّة و العقيدة و يؤثّر في النفس و العمل، و قد تكفّلت هذه الشروط جميع تلك الجوانب كما عرفت في التفسير.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّ المنافق إذا طهّر قلبه عن النفاق و أخلص عقيدته بالتوجّه إليه تعالى، يكون مع المؤمنين لا امتياز بينهم و بينه، و أنّ أوزاره ذهبت بالتوبة الّتي استجمعت تلك الشروط، و لعلّ

ص: 61

قاعدة الجب المستندة الى قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله، و التوبة تجبّ ما قبلها» - أي يمحوان ما كان قبلهما من الكفر و النفاق و المعاصي و الذنوب - مأخوذة من هذه الآيات المباركة و أمثالها.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً أنّه في مقام الامتنان على المؤمنين - سواء من تقدّم منه النفاق أو من لم يتقدّم منه - و لا يضرّهم النفاق السابق بعد التوبة الخالصة، و أنّ كلمة الإطماع أو الترجئة (و سوف) من اللّه تعالى إيجاب؛ لأنّه أكرم الأكرمين، و وعد الكريم إنجاز.

و اتّصاف الأجر بالعظمة إما لأنّه من الكريم، و ما يفيض منه لا يقدر بقدر فيكون عظيما، كما في القدسيات: «من تقرّب إليّ شبرا، تقرّبت إليه ذراعا، و من تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا، و من أتانى يمشي أتيته هرولة»، فمن توجّه الى عالم الغيب بالإيمان الكامل يهب له من نفحاته إلى أن يصل قرب ساحة كبرياء أنسه.

و إمّا لأهليّة الطرف، فإنّ الإيمان باللّه و صيرورة العبد مؤمنا باليقظة عن نومة الغفلة، بالرجوع الى الحقّ ، يقتضي أن يكون أجره عظيما؛ لقانون النسبة و التناسب.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ أنّه سبحانه و تعالى منزّه عن الصفات غير الحميدة، و هي الصفات السيئة الّتي تخصّ الملوك غالبا، كالتشفّي من الغيظ و أخذ الثأر و استجلاب النفع و غيرها؛ لأنّه جلّت عظمته غني لذاته و بذاته، و في الحديث: انّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: «ما خلقت النار بخلا مني، و لكن أكره أن أجمع أعدائي و أوليائي في دار واحد»، و قد أدخل سبحانه تعالى بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنّة و مقدار ما دفع اللّه عنهم من عظيم النقمة، و لتعظيم النعمة الّذي هو واجب عقلي.

الرابع عشر: يستفاد من تقديم الشكر على الإيمان في قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ أنّ المؤمن لا بدّ أوّلا أن يعترف بنعمة العبوديّة للّه تعالى، ثمّ

ص: 62

يتدرّج للوصول الى الكمالات بالإيمان و الطاعات؛ لأنّ الشكر من العبد اعتراف منه بعبوديته و من اللّه تعالى رضى باليسير من طاعة عباده.

الخامس عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً كمال العناية و اللطف بالمؤمنين، فإنّهم مع كونهم مخلوقين مربوبين لا يمكنهم الحياة إلاّ بألطافه المقدّسة، فإنّ اللّه تعالى يمنحهم عطية اخرى و يلطف بهم أن يشكرهم على يسير أعمالهم، و أنّه عليم بشكركم و إيمانكم، فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم.

بحث روائي

ذكر الكليني في الكافي، و العياشي في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً روايات تدلّ على أنّ الآية الشريفة نزلت في شأن جماعة معينة لم يكن إيمانهم ناشئا من الواقع و الحقيقة، و إنّما كان إيمانهم باللّه العزيز و برسوله الكريم لأجل منافعهم الشخصيّة و مصالحهم الخاصّة الّتي كانت في نيّاتهم؛ و لذلك كانوا يكفرون باللّه العظيم و برسوله الأمين إن تعارض الإيمان مع تلك الأماني المزعومة أو تمسّ بمكانتهم الاجتماعيّة، فيؤمنون باللّه تعالى إن وافق الإيمان معها ثم يكفرون إن عاد التعارض و التباعد بينهما، فإذا يئسوا من التوافق بقوا على كفرهم و نموا عليه، كما هو شأن كلّ منافق.

و لكن هذه الروايات كلّها من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص، لأنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بزمن معين - كعصر نزول القرآن أو ما حصل من الحوادث - كالغزوات و غيرها - في عصر الرسول الأمين أو بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله الى الملأ الأعلى.

كما لا تختصّ بأفراد معيّنة خاصّة، بل إنّ مضمونها يشمل كلّ عصر و زمان و كلّ فرد انطبقت الآية المباركة عليه و اتّصف بالتذبذب؛ لأنّها في مقام بيان قاعدة

ص: 63

كلّية سارية في جميع الأزمنة و المجتمعات. و لا حاجة بعد ذلك الى سرد تلك الروايات و المناقشة فيها بعد ما عرفت.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير قال: «سمعت الصادق عليه السّلام يقول:

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أنّ الزنا حرام ثمّ زنا، و من زعم أنّ الزكاة حقّ و لم يؤدّها.

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ المعصية - سواء كانت فعل محرّم أو ترك واجب - مرتبة من الكفر و لو كانت أدناها، فلا تنافي بين هذه الرواية و ما تسالموا عليه من أنّ ترك الواجب أو فعل الحرام لا يوجب الكفر، أي بالمرتبة العالية.

أو يجمع بينهما بأنّ الرواية في مقام بيان إنكار أصل الحكم و جحوده، فيرجع الى إنكار الضروري الّذي يؤدّي الى الكفر بالاتّفاق، كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

الثاني: سياق الآية المباركة و إن كان في الكفر في اصول الدين بأعلى مراتبه - كما يدلّ ذيلها - إلاّ أنّ تمسّك الإمام عليه السّلام بها في الكفر في الفروع تكون قرينة على أنّ الكفر الوارد فيها عامّ بجميع مراتبه، فيشمل الكفر في الفروع أيضا.

الثالث: لا بدّ في الإيمان من الحجّة الظاهريّة؛ لأنّ الاعتقاد أو الزعم لا يتحقّق إلاّ بها و أنّ المدار عليها، لا الواقع المستور عنا، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتابنا (تهذيب الأصول).

الرابع: أنّ للاختيار دخلا في كلّ منهما، فلا عبرة بما لا يكون كذلك، كما هو المنساق من الآية المباركة و ظاهر الرواية.

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يقول كلّ يوم أنا ربّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

ص: 64

أقول: على فرض صحّة الحديث إنّ المراد من قوله تبارك و تعالى نوع من الإلهام الفطري لخلقه حتّى لا يستلزم أي محذور، و إنّ العزّة فيه جلّ شأنه هي بمعناها الحقيقي الواقعي، أي الغالب الّذي لا يغلب أصلا، و إنّه يهب العزّ لمن يشاء من عباده؛ لكرمه وجوده، و من أسمائه تعالى (المعزّ).

و أما أن إطاعته تستلزم عزّ الدارين، فإنّه من باب الترتّب المسبّب على السبب، فإنّ الانقياد الى العزيز الفياض يوجب ذلك.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً قال: نزلت في بني امية حيث حالفوهم على أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم. ثم قال: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ يعني: (القوة).

أقول: الرواية من باب التطبيق و الجري لا الحصر و التخصيص.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها قال: «آيات اللّه هم الأئمة عليهم السّلام».

أقول: إنّ ذلك من باب ذكر أكمل المصاديق و أجلّها، و إلاّ فإنّ آيات اللّه تشمل كلّ خلق يدلّ على وحدانيته و قيّوميته الجامعة لجميع صفات الكمال، بل إنّ نظام الكون يدلّ على ذلك.

و في الكافي بإسناده عن شعيب العقرقوفي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها الى آخر الآية فقال: إنّما عنى بهذا الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في الأئمة، فقم من عنده و لا تقاعده كائنا من كان».

أقول: و مثله ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام إلاّ أنّ فيه: «و يقع في أهله»، و الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة من باب النهي عن المنكر و من مراتبه، فإنّ العنصر الفاسد الّذي يعلم بالحقّ و يجحده لا بدّ من مقاطعته - إن لم تؤثّر فيه المراتب المذكورة في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر - حتّى لا يفسد المجتمع.

ص: 65

و في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه السّلام قال: «فرض اللّه على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه، و أن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللّه عزّ و جلّ عنه و الإصغاء الى ما أسخط اللّه عزّ و جلّ ، فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ قال: ثم استثنى اللّه تعالى عزّ و جلّ موضع النسيان فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ ».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ التعبير الوارد في هذه الرواية و أمثالها من تعلّق التكليف بالجارحة، كقوله عليه السّلام: «فرض اللّه على السمع»، إنّما هو باعتبار أن الجارحة الخاصّة هي المباشرة للعمل أو الصادرة منها، و إلاّ فإنّ التكليف يتعلّق بالنفس الكاملة - لا بالجوارح الّتي هي تحت إرادة النفس - فإنّها المسؤولة عن التكاليف، كالغيبة مثلا تصدر عن اللسان أو الكذب أو غيرهما، فإذا كان شخص لم يكن له لسان كالأخرس فأشار بما يسوء أخاه المؤمن المعيّن أو كتب ذلك، فهل لا تشمله أدلّة حرمة الغيبة بدعوى أنّ الوارد فيها فرض اللّه على اللسان مثلا؟! مع أنّ العقاب على النفس و تمام الجسم كما ثبت في علم الكلام، و في المقام: «فرض اللّه على السمع» باعتبار أنّ السمع هو المباشر، و إلاّ فالتكليف متوجّه الى النفس.

إن قلت: مقتضى الآية الشريفة أنّ الأعضاء هي المسؤولة، قال تعالى: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [سورة الإسراء، الآية:

36].

قلت: أولا: إنّ الآية المباركة في مقام بيان طلب الإقرار في يوم القيامة، نظير قوله عزّ و جلّ : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: 24]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يس، الآية: 65]،

ص: 66

و قال سبحانه و تعالى: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اَللّهِ إِلَى اَلنّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة فصلت، الآية: 19-21].

و ثانيا: على فرض العموم في الآية الشريفة أنّ المسؤولية فيها باعتبار الروح أو النفس الّتي تعلّق بها، فالمدار على الإرادة مع العمل، و إلاّ فنفس العضو لم يكن مسئولا لو صدر منه العمل بلا إرادة أو لا اختيار، و يدلّ على ما ذكره قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 7-9] و غيره من الآيات الشريفة.

الثاني: ورد فيها الاستماع، و هو قصد السماع الى ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه. أما لو سمع - أي بلا قصد منه - فلا يشمله الحكم، لفرض عدم الإرادة و فقدان القصد.

الثالث: إحراز عنوان ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه، فلو شكّ في تحقّق العنوان فلا يشمله الحكم المذكور في الآية المباركة.

الرابع: أنّ التكاليف - و منها النواهي - متقوّمة بالعلم و الاختيار، ففي حالة الجهل أو النسيان و الاضطرار لا يتنجّز التكليف، كما يستفاد ذلك من قوله تعالى:

فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية: 68] و غيره من الآيات الشريفة.

الخامس: أنّ ارتكاب المناهي و المحرّمات ظلم على النفس؛ لإخراجها باختياره عن الفطرة المستقيمة و كسب استحقاق العقاب لها كما ذكرنا ذلك مكرّرا.

الكشي في رجاله بإسناده عن محمّد بن عاصم قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفيّة، قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال عليه السّلام: «لا تجالسهم، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني بالآيات الأوصياء و الّذين كفروا يعني الواقفية».

ص: 67

الكشي في رجاله بإسناده عن محمّد بن عاصم قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفيّة، قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال عليه السّلام: «لا تجالسهم، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني بالآيات الأوصياء و الّذين كفروا يعني الواقفية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة معهم إمّا من باب حرمة إعانة الظالم في ظلمه، أو من باب وجوب النهي عن المنكر عملا. و الواقفية طائفة من الشيعة وقفوا على موسى بن جعفر عليهما السّلام، و قد ورد عن أبي الحسن الرضا (سلام اللّه عليه) التشنيع في حقّهم و ذمّهم كثيرا، و له مراتب كما مرّ.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسّمه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ و قد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت أختها، فمنها: أذناه اللتان يسمع بهما، ففرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا لا يحلّ له فيما نهى اللّه عنه، و الإصغاء الى ما أسخط اللّه تعالى فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، ثمّ استثنى موضع النسيان. فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ ، و قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ ، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، و قال تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ، فهذا ما فرض اللّه على السمع من الإيمان و لا يصغي الى ما لا يحلّ و هو عمله و هو من الايمان».

أقول: تقدّم في الرواية السابقة ما يتعلّق بفرض الإيمان على الجوارح و بسطه عليها، و الآيات الكريمة المذكورة فيها كلّها من باب ذكر أحد المصاديق، و الرواية من باب التطبيق.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّها: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين قعدوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم احد، فكان إذا ظفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكفّار قالوا له: ألم نكن معكم، و إذا ظفر الكفّار قالوا: أ لم نستحوذ عليكم، ألم نعينكم و لم نعن عليكم، قال اللّه تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ».

ص: 68

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّها: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين قعدوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم احد، فكان إذا ظفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكفّار قالوا له: ألم نكن معكم، و إذا ظفر الكفّار قالوا: أ لم نستحوذ عليكم، ألم نعينكم و لم نعن عليكم، قال اللّه تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ».

أقول: الرواية تبيّن حقيقة النفاق، و أنّها من باب ذكر أحد المصاديق.

و في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قول اللّه جلّ جلاله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً قال: فإنّه يقول: «و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين حجّة، و لقد أخبر اللّه تعالى عن كفّار قتلوا أنبياءهم بغير الحقّ ، و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل اللّه لهم على أنبيائه سبيلا».

أقول: إنّ تفسيره عليه السّلام السبيل بالحجّة أعمّ من أن تكون في هذه الدنيا أو في الآخرة، فلا تنافي بينه و بين ما يأتي عن علي عليه السّلام، و المراد من ذيل الرواية أكثر أنبياء بني إسرائيل الّذين لم يتحقّق لهم الظفر الظاهري في هذه الدنيا مع أنّ الحجّة كانت معهم.

و في الدرّ المنثور عن ابن جرير عن علي عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً قال: «في الآخرة».

أقول: و كذا عن ابن عباس أيضا، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ ذلك اليوم هو يوم تجلّى الحقّ و ظهوره، كما في الآية المبارك: ذلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ، و أنّ الحجّة هي الحقّ و المؤمن مع الحقّ في جميع عوالمه، و الكافر مع الباطل كذلك، و لكن في يوم القيامة يتجلّى ذلك.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا تنافي بينها و بين الرواية السابقة، و لنفي السبيل في الدنيا أو الآخرة مراتب كثيرة و جهات متعدّدة أشرنا إليها في التفسير.

و في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ قال: «الخديعة من اللّه العذاب و إذا قاموا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 69

الى الصلاة قاموا كسالى، يراؤن الناس أنّهم مؤمنون: وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ أي: لم يكونوا من المؤمنين و لم يكونوا من اليهود».

أقول: المراد من عذاب اللّه تعالى للعاصين و الخادعين هو جزاء أفعالهم الشنيعة، أو ما يترتّب على أعمالهم السيئة، سواء كان ذلك وضعيّا أم غيره، ففي الأثر: «يلقى على كلّ مؤمن و منافق نور يمشون به يوم القيامة حتّى إذا انتهوا الى الصراط طفئ نور المنافقين، فيقومون في ظلمهم، و مضى المؤمنون بنورهم»، فكلّ من الطائفتين نال جزاء عمله، أو من باب أثره الوضعي، فخديعة اللّه تعالى في الحقيقة ليس إلاّ الجزاء، ففي المؤمن حسنة، و في المنافق كعمله خديعة، و أمّا ذيل الرواية فمن باب ذكر أجلى صفات المنافقين في أفعالهم الخارجية و هي الرياء لعدم رسوخ الإيمان و استقراره في قلوبهم. و قريب منها ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام.

و في الكافي بإسناده عن أبي المعزى قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ذكر اللّه عزّ و جلّ في السرّ، فقد ذكر اللّه كثيرا، أنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية و لا يذكرونه في السرّ فقال اللّه عزّ و جلّ : يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ».

أقول: المراد من ذكر اللّه تعالى في السرّ هو الفرائض الواجبة على المؤمن، و سمّي بذلك لأنّها بين العبد و المولى فقط لا يطّلع عليها أحد، و في حديث معاذ بن جبل في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرائِرُ [سورة الطارق، الآية: 9] قال: «سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله ما هذه السرائر الّتي تبلى بها العباد يوم القيامة ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: سرائركم من الصلاة و الصيام و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض، فالأعمال كلّها سرائر خفيّة، فإن شاء قال: صليت، و لم يصل»، فالمؤمن مع اللّه تعالى دائما في السرّ بأداء الفرائض.

و في صفات المؤمن: أنّ سرّه و علانيته واحد بخلاف المنافق، فيختلف كلّ منهما حسب مصلحته الشخصيّة.

ص: 70

و الذكر أعمّ من الذكر اللفظي و القلبي أي التوجّه، أو العملي كالصلاة و الحجّ و غيرهما كما مرّ ذلك. و المنافق إنّما يذكر اللّه علانية لأجل إغواء المؤمنين، و لجلب منفعته و مصلحته، و ليست الرواية في مقام بيان قلّة الذكر و تحديده.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لا تقم الى الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّهما من خلال النفاق، فإنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا الى الصلاة و هم سكارى، يعني سكر النوم، و قال للمنافقين:

وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً .

أقول: الكسل هو ثقل انبعاث النفس للخير مع استطاعتها على ذلك، بخلاف العجز، و الوجه في تكاسل المنافقين في خصوص الصلاة لأنّها من الشعيرة الّتي بها يتميّز المسلم عن غيره، و هي الرابطة الكاملة بين العبد و مولاه؛ و لذلك كانت الصلاة عليهم ثقيلة، بخلاف المؤمن فيجد فيها الراحة و العروج له.

و الخلال: جمع خلّة كالخصلة و الخصال لفظا و معنى، أي: أنّ التكاسل و التثاقل من خصلة النفاق و علائمه.

و في العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: «سألت علي بن موسى الرضا عليه السّلام عن قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ؟ فقال: اللّه تبارك و تعالى لا يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه آنفا بالوضوح.

و في العيون أيضا بإسناده عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام: «انّ رسول اللّه سئل: فيم النجاة غدا؟ فقال: إنّما النجاة غدا في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، فقيل: له كيف يخادع اللّه ؟ قال: يعمل بما أمره اللّه عزّ و جلّ ثم يريد به غيره، فاتّقوا الرياء فإنّه شرك باللّه عزّ و جلّ ، إنّ المرائي يوم القيامة ينادى بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له».

ص: 71

أقول: إنّ ما يستفاد من هذه الروايات و الآيات المباركة أنّ اللّه تبارك و تعالى يحبّ الحقيقة و الواقع في كلّ شيء و يبغض العمل المزدوج و المكر و الخديعة في كلّ أمر، و من خادع معه جلّ شأنه يجازيه حسب عمله و يخلع منه الإيمان الفطري، فلا يستقيم في مناهجه و لا يثبت في عقيدته، فيكون في التذبذب دائما؛ لأنّه يضمر شيئا و يظهر شيئا آخر، فتكون نفوسهم في الشقاء الدائم و العذاب المستمر حتّى في الدنيا فكيف بالآخرة ؟! و لا يتنعّمون في الدارين، و الاختلاف في الأسماء لعلّه من باب الاختلاف في الجزاء و البعد عنه عزّ و جلّ .

و في الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر عن علي عليه السّلام قال: «لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل ما يتقبّل ؟!».

أقول: التقوى و الإخلاص في العمل بمنزلة الروح في الجسد، فالعمل إن لم يكن فيه إخلاص و تقوى، لم يكن له وزن أصلا و إن كان في غاية الكثرة، و لو كان فيه إخلاص فهو كثير و يدوم و يبقى و لو كان العمل قليلا، و لو وقع العمل مورد قبوله تعالى فهو يزكي و ينمو، كما يدلّ عليه كثير من الآيات الشريفة و الروايات المعصوميّة.

و في سنن البيهقي عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تلك صلاة المنافق، يجلس و يرقب الشمس حتّى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر اللّه إلاّ قليلا».

أقول: ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله كناية عن الاستخفاف بالصلاة و عدم توقيرها. و إتيان مجرّد هيئة عجفاء، لأنّها لم تنبعث عن نفس مطمئنة بالإيمان.

و لعلّ المراد من ذيل الحديث: «قرني الشيطان» التشبيه، فكما أنّ الإنسان ينادي و يخاف من القرن الّذي في جانبي رأس الحيوان، فكذلك من الشيطان لأنّه يبثّ جميع قوّاده و أعوانه عند طلوع الشمس و يجمعهم عند غروبها، ففي الوقتين يحتاج الى القوّة فيكون كالحيوان الّذي يجمع قواه في رأسه للدفاع عن نفسه أو لفريسته.

ص: 72

أو أنّ المراد حين تطلع الشمس يتحرّك الشيطان برأسه لإغراء الناس في يوم جديد.

أو التمثيل لمن يسجد للشمس، فكأنّ الشيطان سوّل له ذلك، فإذا سجد لها كان الشيطان مقترنا بها.

أو أنّ المراد أنّ الشيطان مكبول بقرنيه و مغلوب تحت آية من آيات اللّه تعالى، فلو أراد التجاوز أهلكته بعذابها و نارها.

أو كناية عن تحديد قوى الشيطان، لها طلوع و افول، و لم يكن عنده الاستيلاء التامّ ، فيكون المراد من القرن القوّة.

و كيف كان، فهو من جوامع كلماته الشريفة الّتي تفتخر أمته بإعطائها له صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس: «كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة».

أقول: سمّي الحجّة سلطانا؛ لأنّها تستقرّ في القلوب و تتأثّر بها، أو أنّ أكثر تسلّطه على أهل العلم و الحكمة من المؤمنين، و لكنّها تختلف حسب الإشراق و كسب الكمال، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ * [سورة هود، الآية: 96]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ * [سورة غافر، الآية: 35].

و في سنن النسائي بإسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّما ينصر هذه الامة بضعيفها، بدعوتهم و صلاتهم و إخلاصهم».

أقول: المراد من الضعيف من لا حول له و لا قوّة في هذه الدنيا، و أنّ انقطاعه الى اللّه تعالى أكثر من غيره، كما هو الغالب.

و المراد من الإخلاص: من كان عمله للّه تعالى و لا يحبّ أن يحمده الناس عليه، كما في بعض الروايات.

و يستفاد منها أنّ ما ورد فيها من أهمّ أسباب النصرة، فلا تنافي غيرها من الروايات.

ص: 73

و فيه أيضا عن الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما أخلص عبد للّه أربعين صباحا، إلاّ ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

أقول: للإخلاص آثار وضعيّة كثيرة، منها ما تقدّم في الرواية، و كان بعض مشايخنا في العرفان (رحمة اللّه تعالى عليه) يدّعي التجربة في ذلك.

و منها: البعد عن المشقّة بكثرة العمل، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لمعاذ بن جبل:

«أخلص دينك يكفيك القليل من العمل».

و منها: النيل الى مقام تربية الخلق و نجاتهم من عذاب الجهل و هلاك النفس، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدي تنجلي بهم كلّ فتنة ظلماء».

و منها: امتيازهم عن سائر الناس بعدم سؤالهم من غيره تعالى و إقرارهم بالعبوديّة، و التوكّل عليه و خوفهم منه تعالى، كلّ ذلك دلّت عليه الروايات.

و منها: حصول الثقة في جميع أعماله، و البعد عن القنوط و اليأس، الى غير ذلك من الآثار الوضعيّة المذكورة في كتب الأخلاق.

و أمّا تقييد الرواية بالصباح، فقد تقدّم في البحث الفلسفي في قوله تعالى:

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة، الآية: 51] ما يتعلّق بذلك.

و التقييد بأربعين فلعلّه أنّ لهذا العدد خصوصية في تهذيب النفس، أو به يحصل الانقطاع الكامل إليه جلّت عظمته، و اللّه العالم.

و في الدرّ المنثور عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قال: لا إله إلاّ اللّه مخلصا دخل الجنّة، قيل: يا رسول اللّه و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزها عن المحارم».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة مذكورة في جوامع الشيعة و السنّة، و لا شكّ أنّ التوحيد لو كان عن عقيدة كاملة و إخلاص يوجب الفوز بنعيم الجنّة؛ لأنّ للإخلاص أثره، و منه الحجز عن المحارم.

ص: 74

و عن البيهقي في سننه بإسناده عن أبي ذرّ: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، و جعل قلبه سليما، و لسانه صادقا، و نفسه مطمئنة، و خليقته مستقيمة، و اذنه مستمعة، و عينه ناظرة، فأمّا الاذن فقمع، و العين مقرة لما يوعي القلب، و قد أفلح من جعل قلبه واعيا».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة جدا في جوامع الشيعة و السنّة، و إنّ ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله من صفات المخلصين و لا شكّ أنّ لكلّ منها مراتب و درجات.

و القمع - بفتح القاف و كسر الميم - هو الإناء الّذي يترك في رءوس الظروف لتملأ بالمايعات من الأشربة و الأدهان، فيسقى به أو يفرغ منه في ظرف آخر. و إنّما شبه صلّى اللّه عليه و آله السمع الّذي يسمع القول و لا يحفظه و لا يعنيه به، لأنّ القول يمرّ على السمع بلا درك و إصغاء، كما يمرّ الشراب في القمع اجتيازا.

و العين مقرة لما يوعى القلب، أي: تكشف بالعين و تظهر ما وعاه القلب، و هو كناية عن أنّ السرائر لا محالة تنكشف.

و هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآيات المباركة لا حاجة الى نقلها بعد ما عرفت مكرّرا أنّها من باب الجري و التطبيق، و اللّه العالم.

بحث فقهي

تستفاد من الآيات المباركة بضميمة السنّة الشريفة الشارحة لها القواعد الفقهيّة التالية:

الاولى: قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم»؛ للنهي الوارد في قوله تعالى:

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، فإنّ الكفر و الاستهزاء بآياته عزّ و جلّ من مصاديق الإثم و الظلم، فيشمل غيرهما ممّا هو منهي عنه و يكون إثما.

ص: 75

و النهي عن القعود معهم يشمل عدم إعانتهم بالأولوية، أو المراد ذلك بالمنطوق، كما عن بعض المفسّرين، و يدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2] كما دلّت عليها روايات كثيرة ذكرناها في المكاسب المحرمة من كتاب (مهذب الأحكام).

و قد خصّصت القاعدة بموارد كالاضطرار، و التقيّة لحفظ النفس الّتي هي من باب تقديم الأهمّ على غيره، و هدايتهم الى الحقّ و غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.

و في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ دلالة واضحة على وجوب النهي عن المنكر إن توفّرت شروطه من القدرة و زوال العذر و التأثير، و إلاّ فإنّ من رضي بمنكر رآه و خالط أهله كان شريكهم في الإثم و إن لم يفعل، و أنّ ترك المنكر مع القدرة على رفعه و توفّر سائر شروطه، ذنب عظيم و خطيئة كبيرة.

و قيل: يستفاد من الآية المباركة أنّه يجوز مجالستهم في غير ما ذكر في الآية الشريفة من الاستهزاء و الخوض في آيات اللّه تعالى، كما لو خاضوا في حديث غيره، لأنّ (حتّى) غاية للتحريم.

لكن الأخبار الواردة في المقام تدلّ على وجوب الإعراض عن الكفّار المستهزئين، و تحريم الميل إليهم، ففي معتبرة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم»، و مثلها غيرها.

و إنّما اقتصر عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الأنعام، الآية: 68] على النهي عن القعود، و ذكر في هذه الآية الكريمة في هذه السورة إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ؛ لأنّ سورة الأنعام مكيّة، و إنّما كان المسلمون في مكّة عاجزين عن الإنكار، فكان تركهم له لعجزهم، و أمّا الآية الّتي في سورة النساء، فقد نزلت و المسلمون يقدرون على الإنكار، فإذا لم

ص: 76

ينكروا مع قدرتهم عليه يكون ذلك كاشفا عن رضى منهم، فيصيرون مثلهم في الإثم أو الكفر؛ لأنّ الرضا بالكفر كفر.

الثانية: قاعدة «نفي السبيل على المؤمنين» المستندة لقوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، و للأخبار الكثيرة المذكورة في أبواب متفرّقة من الفقه.

و يمكن أن يقال: إنّ هذه القاعدة فطريّة، و إنّ الآية المباركة و السنّة الشريفة من باب الإرشاد؛ لأنّ إكمال الدين - بقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3] و رضاؤه تعالى به، و ختم النبوّة به، يقتضي أن يكون متفوقا، أو ممتازا في جميع جهاته على غيره، ممّا يوجب البعد عنه تعالى، و إلاّ يستلزم الخلف و تعلّق رضائه بالناقص؛ لأنّ الإيمان الّذي يكون للكافر عليه سبيل لم يكن على حدّ الكمال فكيف يتعلّق رضاؤه به ؟! مع أنّ الأديان السابقة كلّها تكون مقدّمة لهذا الدين، فيستلزم عقلا أن يكون لهذا الدين تفوقا كاملا عليهم، و أنّ العمدة في التفوق الحجّة بل هي الأصل، و غيرها لا يكون تفوقا كما مرّ في التفسير.

و من هنا كانت القاعدة غير قابلة للتخصيص لما عرفت أنّها عقليّة، هذا إن فسّرنا السبيل بالحجّة، كما تقدّم في البحث الروائي.

و أمّا إن فسّرناه بمطلق السلطة و الاستيلاء كما عن بعض الفقهاء، حيث تمسّكوا بها في كتاب العتق في مسألة ما لو أسلم العبد و كان مولاه كافرا، و كذا لو أسلمت الزوجة دون الزوج، و في الخيار عند ردّ المشتري العبد المسلم بالخيار الى البائع الكافر فيرجع الى البدل، فحينئذ تخرج عن كونها عقليّة و تختصّ بموارد خاصّة.

و لكن سياق الآية المباركة يأبى عن ذلك، و انّ المراد من نفي السبيل نفي الحجّة.

ص: 77

و يمكن أن يكون المراد الأعمّ إن صحّ الجامع بينهما، و بقية الكلام موكولة الى الفقه.

الثالثة: قاعدة «كلّ رياء حرام و يوجب بطلان العبادة»، و الدليل عليها الآية الشريفة: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ ، أي مع أنّهم كسالى في إقامة الصلاة يراءون الناس، فلا تكون العبادة له عزّ و جلّ ، و قد أوعد على المرائي الويل في سورة الماعون أيضا، و تدلّ على ذلك الروايات المستفيضة الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام الدالّة على الحرمة؛ لأنّه نحو خديعة مع اللّه تعالى، و لذا عدّه سبحانه و تعالى من صفات المنافقين، كما تقدّم.

و أمّا كونه يوجب بطلان العمل لانتفاء الشرط المهمّ الّذي هو قصد القربة في العبادات، فتشمله قاعدة: «انتفاء المشروط بانتفاء شرطه» المقرّره لذي جميع العقلاء، هذا كلّه في العبادات.

و أمّا في غيرها ممّا لا يتوقّف على قصد القربة، فهو لا يوجب البطلان و إن وجب نفي الثواب، و المؤمن يبتعد عنه دائما لئلاّ يقع في شرك الشيطان.

و الرياء مبغوض عنده تعالى، و لم يترتّب عليه أي ثواب إلاّ في الخمر، ففي الحديث: «من ترك الخمر لا للّه أثابه اللّه»، و لعلّ ذلك من أجل مبغوضيّة الخمر و شدّة كراهته تعالى لها، أو بطرو عناوين اخرى يوجب الثواب. و اللّه العالم.

الرابعة: قاعدة: «عدم جواز اتّخاذ المؤمنين الكافرين أولياء»، و المراد منها عدم متابعة المؤمنين الكافرين و نصرتهم في عقائدهم أو في أعمالهم، الّتي تستلزم ترويج عقائدهم الفاسدة، من بثّها في المجتمع أو تقويتها أو الدفاع عنها. و أمّا الميل القلبي الى أعمالهم أو تعلّم كمالاتهم الدنيويّة دون عقائدهم إن لم تترتّب عليه مفسدة، فلا محذور فيه.

و كيف كان، فقد استدلّوا على القاعدة المتقدّمة بالأدلة الأربعة..

ص: 78

فمن الكتاب قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ و غيره من الآيات المباركة.

و من السنّة روايات كثيرة، منها الحديث المشهور المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، و غيره ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة في كتب الفقه.

و ضرورة الدين أيضا تقتضي ذلك، فضلا عن الإجماع.

و أمّا العقل، فحكمه البتي بالفساد في متابعة عقائدهم و نصرتها و أنّ ذلك يوجب خسران الدنيا و الآخرة.

و لا فرق في الفساد الّذي يكون موجبا لشمول القاعدة بين أن يكون في الحال أو في المستقبل من الزمان، فلو حصل للمؤمن الاطمئنان بأنّ متابعة الكافر تستلزم انقلاب عقيدته و فساد أخلاقه بتزلزل إيمانه في المستقبل، يحرم عليه المتابعة.

و هذه القاعدة عقليّة كشف عنها الشارع امتنانا، إذ العقل يحكم بالبعد عن ما يضرّ بالعقيدة و يوجب فسادها كما هو واضح، و تطبيق القاعدة على مواردها موكول الى الفقه.

الخامسة: قاعدة: «الإسلام يجب ما قبله»، و كيفيّة استظهارها من الآية الشريفة تقدّمت في البحث الدلالي فلا وجه للاعادة.

و عن بعض المفسّرين أنّه استشهد بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً ؛ للقاعدة المعروفة في القضاء من: «انّ أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة أو الرابعة».

و لكن الاستشهاد بها في غير محلّه؛ لعدم انطباقها على القاعدة، و أنّ سياقها في اصول الدين و العقيدة و القاعدة أعمّ ، و لا بدّ في مورد القاعدة التخلّل بالحدّ في مرتكب الكبيرة كما هو مصبها، و الآية الكريمة لا تدلّ على ذلك أصلا، فإنّ محو الكفر يتحقّق بالتوبة أيضا، و أنّ القتل في القاعدة يوجب محو الذنب و الغفران،

ص: 79

و الآية المباركة تدلّ على عدم الغفران، فالعمدة في القاعدة المذكورة الروايات الدالّة على القتل في الرابعة كما هو المشهور، و انّ ما ذكره لا يقع مورد القبول و اللّه العالم.

و عن ابن عباس قال: يكره للمؤمن أن يقول: «إنّي كسلان»؛ للآية الشريفة الّتي هي في مقام الذمّ . و لا بأس بقوله: لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

بحث كلامي

الإنسان بلحاظ عقيدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنّه إمّا مؤمن باللّه العظيم و نهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.

و بتعبير آخر: إمّا في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه و في طريق الغواية، و إمّا مزدوج بين الطريقين، و كلّ طائفة تنال جزاءها المختصّ حسب عمله الناشئ عن عقيدته.

و الإيمان باللّه تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلاّ أنّ السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختيار، و أنّ السبب التامّ هو الاختيار، فيختار إمّا السعادة - حسب فطرته - و إمّا الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر و شبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدّم في هذه الآيات المباركة و غيرها.

و أمّا الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شكّ أنّ المؤمن باللّه تعالى ينال جزاء عمله بالمقامات العالية و الدرجات الرفيعة، إما في هذه الدنيا - كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: 145] - أو في الآخرة من الجنّات و النعم و غيرها ممّا تشتهي الأنفس و تلذ الأعين، كما أنّ الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقابا دنيويّا أو اخرويّا.

و أمّا بالنسبة الى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئا بمقتضى عقيدته، فينال جزاءه السيء إمّا في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا. و إن كان العمل حسنا

ص: 80

و صالحا ينبئ عن أنّ بعض عقائده يرضى الشارع به، فيجازيه عزّ و جلّ إمّا في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام؛ و لقاعدة: «العدل و الإنصاف».

و بتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة و ثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمنا كان العامل أو كافرا، و أنّ الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء و إن اختلفت كيفيّته.

و أمّا جزاء أعمال المنافق، فالمستفاد من الآيات الشريفة و السنن المطهّرة أنّ أعماله الحسنة لا تفيده أصلا - لا في هذه الدنيا و لا في الآخرة - لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة و نهج معترف به، قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ ، أي: المنافق لا ينال جزاء المؤمن و لا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حالا من الكافر، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ، و لم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة الى الكفّار و إن كان الكافر يرد جهنّم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [سورة الإسراء، الآية: 8].

و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الّذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه و درجاته، فعذاب المنافقين أسوء و أشدّ كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.

إن قلت: مقتضى الآيات المباركة أنّ الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمنا أو كافرا أو منافقا، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8]، خصوصا على القول بأنّ الجزاء و الثواب من الآثار الوضعيّة للعمل، و إن كانت تختلف باختلاف العقيدة.

قلت: المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة و إرادة - لا كلّ عمل - و المفروض أنّ المنافق لم يكن له عقيدة؛ لأنّه مذبذب و مزدوج، فله صورة العمل و هيكله.

ص: 81

و على فرض الإطلاق، لا أثر لعمل المنافق؛ لأنّ الجزاء بيده تعالى، قال عزّ و جلّ : وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23]، و على فرض أنّ الجزاء أو الثواب من الآثار الوضعيّة - و أنّ الرياء مانع - لكن الآثار الوضعيّة من شؤون الإمكان، و تقدّم في أحد مباحثنا أنّ يد القدرة تنالها أيضا، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ صفة النفاق لها مراتب و درجات، و إنّ الجزاء في أعماله الصالحة تابع لها حسب الشدّة و الضعف أو المراتب و الدرجات. و فيه تأمل أيضا و اللّه العالم بالحقائق.

بحث أخلاقي

ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقيّة أنّ الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات، إنّه كائن أخلاقي له استعداد فطري بالاتّصاف بمكارم الأخلاق أو بمساويها، فهو يسعد أو يشقى بمكوّناته الأخلاقيّة، و ذكرنا أنّ نظرية القرآن تختلف عن سائر المذاهب الأخلاقيّة، فإنّ المهمّ في نظر القرآن الكريم أن يتّصف الإنسان بالتقوى و السعي في تحصيل هذه الملكة الّتي تجتمع فيها جميع الفضائل.

و لا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب و النظريات، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع و الحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة و العلماء، و قد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177]، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال و اكتساب المكارم و التحلّي بالفضائل.

ص: 82

و لا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب و النظريات، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع و الحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة و العلماء، و قد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177]، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال و اكتساب المكارم و التحلّي بالفضائل.

و أمّا ما يتعلّق بما يضاد تلك من مساوئ الأخلاق و رذائلها، فإنّ القرآن الكريم قد عدّ جملة منها و بيّن آثارها السيئة الّتي تؤثّر في النفس و الفرد و المجتمع.

إلاّ أنّ المستفاد من الآيات الّتي تقدّم تفسيرها أنّ النفاق يجمع كثيرا من الخصال السيئة و الأخلاق الرذيلة.

و يمكن القول بأنّ الآيات الشريفة تدلّ على أنّ النفاق و التقوى على طرفي النقيض في مساوئ الأخلاق و مكارمها، فقد ذكر عزّ و جلّ جملة من الصفات السيئة الّتي اتّصف بها المنافقون، الّتي تعدّ من أمهات الأخلاق السيئة و إليها ترجع سائرها، و هي:

الاولى: التذبذب في الإيمان، و الترامي في الكفر و انهماكهم فيه لطول انسهم به، و يعتبر الكفر و الشرك من أعظم الرذائل و أخسّها، قال تعالى حاكيا عن لقمان:

يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 13]؛ لأنّ الكفر و الشرك خروج عن ناموس الفطرة، و هدم للقاعدة الّتي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في حياته الأخلاقيّة.

الثانية: موالاة الكافرين الّذين هم أعداء الحقّ ؛ لأنّ فيها الإعراض عن تهذيب النفس بالاعتماد على إنسان تغلّب عليه الشرّ و التماس النفع المادي و المعنوي منه، و هي مع كونها في نفسها سيئة كبيرة و رذيلة أخلاقية، تستلزم سلب الثقة عن اللّه تعالى، و الاستهتار بالقيم الأخلاقيّة، و تذليل للنفس الّتي جعلها اللّه أبية ذات عزيمة و إرادة.

الثالثة: الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة، فإنّه يبعد الإنسان عن منبع الكمال و مصدر الاتقاء. و كيف يمكن لأحد أن يلتمس خيرا من شيء هو يستهزأ به. و في هذا هدم للإنسانيّة الّتي تبتني على قواعد حكمية و اصول قويمة.

الرابعة: المخادعة مع اللّه تعالى في إظهار الإيمان في مجالس المؤمنين، و هو

ص: 83

يبطن الكفر، و الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و بالمؤمنين. و المخادعة تؤثّر في النفس و تجعلها مشكّكة و تسلب الثقة عنها بالكليّة.

الخامسة: الرياء و الكسل في العبادة، فإنّ من لا يؤمن باللّه العظيم و لا يعتقد بآياته الكريمة و توجيهاته القيمة، و يطلب المنفعة في جميع أفعاله، و قد سلب الثقة عن جميع ما حوله، لا تصدر عنه العبادة، و لا رغبة له فيها، بل يأتي بها لأجل تحقق أغراضه و إرضاء نزواته الماديّة.

و الكسل في العبادة من آثار سلب التوفيق، و لم يكن شيء أعظم أثرا على الإنسان من سلب التوفيق، و لا يمكن أن يشعر به إلاّ من تخلّى عن تلك الرذائل.

هذه هي الصفات الّتي عدّها عزّ و جلّ من النفاق، و هي بحقّ أمهات الرذائل، و تتشعّب كلّ واحدة منها الى صفات اخرى مهلكة، فيكون النفاق مجمع الرذائل؛ و لذا كان الجزاء عليه عظيما، و إن كان يشترك مع الكفر في نار جهنّم إلاّ أنّ النفاق في الدرك الأسفل منها، و يدلّ عليه الشروط الّتي اشترطها عزّ و جلّ في التوبة منه؛ لأنّ النفاق يؤثّر في جميع جوانب الإنسان النفسيّة، و التربويّة، و الأخلاقيّة، و العقائديّة، و الفرديّة، و الاجتماعيّة، فهو الداء العضال الّذي لا يمكن أن يزول بأدنى استغفار كما في سائر المعاصي؛ لما له من الجذور الّتي يصعب قلعها من النفس، و يأتي التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ للنفاق وجوها مختلفة، فقد يكون في الاعتقاد، سواء كان بالنسبة الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأن يظهر الإيمان بعلمه مثلا و هو يعتقد جهله و العياذ باللّه تعالى و نحو ذلك.

أو بالنسبة إلى المؤمنين، كأن يظهر حسن النيّة و التصرّف معهم، و هو يعتقد فسقهم و فسادهم و نحو ذلك.

أو يكون في الأعمال، كأن يصلّي مع المؤمنين و هو يريد الخديعة بهم أو يحضر مجالسهم و هو يريد الإيقاع بهم، أو يصلّي رياء، أو ينفق و هو يطلب المنفعة أو الخديعة بالمنفق عليهم. و من هذا القسم إظهار الطاعة العلانية و عصيان اللّه

ص: 84

تعالى في الخفاء، و قد حذرنا عزّ و جلّ من هذا القسم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: 94]، و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 49].

أو يكون في الصفات و الملكات، كأن يظهر الحلم و هو على خلاف ذلك، أو يظهر السخاء و هو بخيل، و نحو ذلك.

أو يكون في الأخلاق، كما إذا أحسن القول صدقا و عفوا و هو على خلاف ذلك، و أعظم النفاق ما إذا استولى على جميع مشاعر الإنسان و جوارحه و جوانحه، و الآيات الشريفة المتقدّمة بيّنت هذا القسم و عظيم أثره و تومي الى بقية الوجوه، كما لا يخفى.

و كيف كان، فإنّ النفاق في أي وجه كان ربما يكون على دقّة لا يمكن التمييز بين الاعتقاد السليم عن غيره، و قد ورد في الحديث: «أنّه لا يغرّنكم كثرة صلاة أحدكم و صيامه، و لكن انظروا الى حسن عقيدته».

و لكن لا يخفى أنّ ذلك لا ينافي ما ورد من الحكم بإسلام المرء إذا صلّى و صام و عاشر المسلمين، فإنّ ما ورد في النفاق إنّما هو بينه و بين اللّه تعالى، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يخدعه لو أراد خديعته تعالى.

و في الآيات المباركة إيماء بأنّ نفاق الإنسان يظهر على أفعاله و أقواله و اعتقاداته، بعيدا أم قريبا، مهما اجتهد على اخفائه، و سيظهر أثر السيء على نفسيته ما لم يتب منه توبة نصوحا، كما فضّله عزّ و جلّ .

ص: 85

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُو.......

اشارة

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) يذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين أحد توجيهاته، القيمة الّتي لها الأثر الكبير في توحيد صفوف المؤمنين و اتّحاد كلمتهم، بعد أن حكي لهم عزّ و جلّ أحوال أعدائهم من الكافرين و المنافقين الّذين يريدون خديعتهم و الإيقاع فيهم، و إيجاد ثغرات ينفذ منها أعداء اللّه تعالى، ففي هذه الآية المباركة يومي عزّ و جلّ الى تصفية النفس من الأضغان و نبذ السوء من القول الّذي يؤثّر في النفوس فتوهن العزائم و يضعف التماسك، فيتخذها الأعداء وسيلة للنفوذ فيهم.

ص: 86

محبّة اللّه تعالى هي رضاءه و إنعامه بالثواب و تفضّله على عبيده، و عدم محبّته هو سخطه و عقابه، و تقدّم ما يتعلّق بها في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ [سورة البقرة، الآية: 165]، و ذكرنا في ضمن تفسيره بحثا عرفانيا يتعلّق بالحبّ .

و مادة (جهر) تدلّ على الظهور و البروز بوضوح، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من ستة عشر موضعا، استعملت جميعها في هذا العالم و ليس لها حظ في الآخرة، و متعلّقها إمّا حاسة البصر، كما في قوله تعالى حاكيا عن اليهود لموسى عليه السّلام: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية:

55]، و قوله تعالى حاكيا عن أهل الكتاب: فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [سورة النساء، الآية: 153]، أو حاسة السمع كما في قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ [سورة الرعد، الآية: 10]، و قوله تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها [سورة الإسراء، الآية: 110]، و لعلّ أشدّها ما ورد في قصة نوح عليه السّلام، قال تعالى حاكيا عنه ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [سورة نوح، الآية: 9].

و يستفاد منه أنّ الإعلان خلاف الإسرار، فيكون الإجهار خلاف الإخفات، و قد يستعمل خلاف الإسرار أيضا، و منه الحديث: «كلّ امتي معافي إلاّ المجاهرين»، و هم الّذين أظهروا المعاصي و كشفوا ما ستر اللّه عليهم منها.

و السوء: هو كلّ ما يغمّ الإنسان، سواء كان من الأمور الدنيويّة أم الأخرويّة، نفسيا كان أو بدنيا خارجيا كان، مثل فوت مال، أو شأنيا كفوات جاه أو فقد حميم، و السوء من القول كلّ ما يسوء المقول فيه فيشمل السبّ ، و القذف، ثم عمّم «السوء» أو حكمه حتّى يشمل الغمز و اللمز و الاتّهام بالسيء من الصفات و الأعمال، و البهتان، و إلصاق العيوب و كلّ ما ليس في الطرف الآخر، و الدعاء عليه و نحو ذلك ممّا يسيئه، و هو يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الأقوام، فربّ سيء في عصر و مصر أو عند قوم لا يكون كذلك عند غيرهم.

و لعلّ التعبير و عدم ذكر الخصوصية في المقام، ليشمل الجميع و كلّ ما ينطبق عليه السوء من القول عرفا، و التقييد بالقول من باب الغالب.

ص: 87

ثمّ إنّه تقدّم أنّ عدم محبّته تعالى لأمر يدلّ على مبغوضيته و هو كاف في النهي التشريعي، سواء أ كان تنزيهيا أم إلزاميا، و الأدلّة الخاصّة تبيّن أحدهما و الاقتصار عليه من دون ذكر النهي و التحريم فيه، للإشارة الى أنّ المؤمنين لما تربّوا بالتربية الإلهية، و تحقّق فيهم شعور خاصّ بالنسبة الى التوجيهات الربوبيّة و إحساس عميق بالالتزام بالتكاليف الشرعيّة، يكفي لهم في الزجر عن شيء و الامتناع عنه أن يقال لهم: «إنّ اللّه لا يحبّ الجهر بالسوء من القول».

أو لأجل بيان أنّ الامتناع عن الجهر بالسوء من القول - و تقييد اللسان بقيد حتّى لا ينفلت منه الكلام بغير حقّ - لا بدّ أن ينشأ عن شعور داخلي و ضمير حساس متصل بالحي القيوم لكلّ ما يصدر منه قولا و فعلا، من دون احتياج الى تكليف خارجي، و إذا تحقّق أيضا إنّما يكون تأكيدا لما في الضمير.

أو لأنّ الحكم في الآية الشريفة موافق للفطرة؛ لأنّه من أفراد الظلم الّذي هو مبغوض بالفطرة، و يكفي في أمثال ذلك إثارتها؛ و من أهمّ ما يثيرها إعلام الكراهية منه عزّ و جلّ و عدم محبّته للسوء من القول، و إليه يشير ما ورد في كلمات الفقهاء:

انّ التكاليف الواردة في الأحكام الفطريّة إنّما تكون إرشاديّة، لا أن تكون مولويّة.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ اسم الجلالة؛ لبيان أنّ التكاليف بجميع أنواعها سواء أ كانت مولويّة أم إرشاديّة و إثارة الفطرة، إنّما تكون من اختصاصه تعالى، و ليس لأحد غيره ذلك.

قوله تعالى: إِلاّ مَنْ ظُلِمَ .

استثناء منقطع من التحريم، و (ظلم) مبني للمجهول، أي: يحرم الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظلم فإنّه لا بأس له بأن يجهر بالسوء من القول انتصارا ممّن ظلمه، و إحقاقا للحقّ و إعلانا للواقع.

و يحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا بتقريب: لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء إلاّ الصادر ممّن ظلم، فإذا لوحظ الاستثناء باعتبار الحكم يكون منقطعا، و إذا لوحظ

ص: 88

باعتبار الموضوع يكون متصلا، و قرئ على البناء للفاعل (أي المعلوم)، فيكون المعنى:

لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء إلاّ الظالم فإنّه يحبّه فيجهر بالسوء، فيكون الاستثناء حينئذ متصلا، و لكن ظاهر الآية الشريفة خلافه.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ مَنْ ظُلِمَ لبيان أنّ الجهر بالسوء من مصاديق الظلم، و هو مبغوض بالفطرة، و إرشاد الى أنّ المظلوم إنّما يجوز له الانتصار ممّن ظلمه في الجهة الّتي ظلم بها، و لا يجوز التعدّي عنها.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً .

تعليل لما تقدّم، أي: أنّ اللّه سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم، فهو يعلم الظالم منكم و المظلوم.

و يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ جواز الجهر بالسوء للمظلوم لم يكن اعتباطيا أو يباح له على الإطلاق، بل لا بدّ له من التأكيد و التبيين في الأمر، فإنّ اللّه سميع للأقوال عليم بأنّه مظلوم أو ظالم، فلعلّ من يكون يجهر بالسوء في القول ظالما و هو لا يدري، فيرتكب ما لا يحبّه اللّه تعالى، فتكون الآية الشريفة مبيّنة لملاك الحكم.

و في قوله تعالى التحذير للظالم ليكفّ عن ظلمه، و للمظلوم حتّى لا يتعدّى عن الحدّ في الانتصار، و تثبيت الواقع و إحقاق الحقّ .

قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ .

توجيه ربوبي لتهذيب النفس و الترغيب الى الخير، و دعوة الى التحلّي بالعفو، و يظهر لطف هذا التوجيه التربوي الإصلاحي وقوعه بعد إباحة الجهر بالسوء، و قد تكفّلت الآية المباركة جميع صور الخير بادية و خافية، فإنّه لا يكتفي بالجهر بالخير و ابدائه، بل لا بدّ من إصلاح النفس و الهمس بالخير حتّى تتروض عليه، فيستولي على جميع مشاعرها.

و الخير يشمل كلّ ما ينطبق عليه هذا العنوان المحبّب الى النفوس، سواء كان

ص: 89

قولا أم فعلا أم النية، فيحسن أن تكون النيات حسنة و النفوس خيرة، ففي الألفاظ اليسيرة الّتي لها وقع في النفوس المستعدة معان كثيرة، و قد ذكر القرآن الكريم مصاديق كثيرة للخير، منها: قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 271].

و منها: العفو الّذي يذكره عزّ و جلّ بعد ذلك: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ .

و منها: الإيمان باللّه العظيم، قال تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ [سورة البقرة، الآية:

221].

و منها: الصلح و الإصلاح في مورد الخصومة و التباعد، قال تعالى:

وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128]، و قال تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [سورة البقرة، الآية: 220]، إلى غير ذلك من الموارد الّتي ذكرها اللّه تبارك و تعالى في القرآن الكريم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ إبداء الخير؛ لما فيه من الترغيب إليه و تشويق الناس له، كما ذكر الإخفاء فيه لقربه الى الخلوص و بعده عن الرياء؛ و لأنّ الإخفاء أوقع في النفس و أثبت.

قوله تعالى: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ .

تخصيص بعد تعميم تنويها لفضله و تنبيها لمنزلته العظيمة في تصفيه النفوس و ربط الصفوف، و بيان لأظهر مصاديق الخير.

و العفو عن السوء هو الستر عليه، و إطلاقه يشمل العفو في القول بأنّ لا يذكر ظلم ظالمه، و العفو في الفعل بالصفح عن المسيء و أن لا يواجهه بما يسيئه، و لا ينتقم منه، و أعظم منه أن يكافأه بالإحسان، فإنّ اللّه يحبّ المحسنين، كما في قوله

ص: 90

تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 135].

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً .

إرشاد الى أنّ العفو من صفات اللّه تبارك و تعالى، و لا بدّ للمؤمن أن يتحلّى بصفاته عزّ و جلّ الكماليّة و يكون مظهرا من مظاهرها.

و الآية الشريفة تبيّن أنّ العفو الّذي بيد المظلوم لا بدّ أن لا يكون من نوع عفو الذليل العاجز الّذي يخنع للظلم و يرضخ لسلطة الظالم، فإنّ ذلك أمر مرغوب عنه في الإسلام، بل هو التسامح بعد أن أباح الشارع له أن يقتصّ من الظالم و يجهر له بالسوء من القول، فيكون من العفو عند المقدرة، و هذا هو من الصفات الكماليّة له عزّ و جلّ .

و إنّما خصّ عزّ و جلّ العفو بالذكر مع أنّه يحبّ الخير و هو أيضا من صفاته عزّ و جلّ ؛ لأنّ المقام يستدعي التأكيد على العفو بعد الإباحة بالجهر بالسوء للمظلوم؛ و لأنّ العفو من مصاديق الخير، فيستدعي أن يكون الثاني أيضا من صفاته، ففي الكلام تلويح إليه.

ص: 91

بحوث المقام

بحث دلالي

تتضمّن الآيتان الشريفتان على حكم تربوي إصلاحي له الأثر الكبير في تهذيب النفس، و توحيد صفوف المجتمع الإسلامي الّذي طالما تمنّى الأعداء تقويضه باستعمال كلّ الأمور و الأساليب في إيجاد ثغرات ينفذون منها في تشتيت كلمتهم، و كان من أهمّ الأمور الّتي تفتّت عضد المسلمين و تشلّ قواهم و تهدّد كيانهم، و تقدح الفتنة بينهم، هي الأقوال السيئة الّتي تؤجّج البغضاء و العصبية، فإنّ ما يصدر من اللسان هو من أهمّ المؤثّرات في الإنسان، سواء أ كانت ايجابية أم سلبية، و قد ورد في الحديث: «و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم»، أي: ما يقطعونه من الكلام الّذي لا خير فيه.

و الآيتان الشريفتان تعالجان هذا الموضوع من جوانب متعدّدة، فمن جانب تثبت فيه حكما شرعيا، و هو التحريم بأسلوب لطيف يجعل المؤمن يشعر شعورا داخليا بأنّ الأمر مكروه و له مخاطر عديدة على النفس و المجتمع، فقال عزّ و جلّ :

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ ، و يكفي للمؤمنين هذا الخطاب الربوبي في إثبات إحساس داخلي متّصل بالحي القيوم بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه.

و من جانب آخر يثبت الموضوع السوء من القول و يعتبره من أفراد الظلم الّذي تشمئزّ منه النفوس و تنفر منه الطباع و تنكره الفطرة، و تعميمه بحيث يشمل جميع أفراده قولا كالبهتان و الشتم و السباب، أو عملا كالهمز، و جميع ما يوجب إثارة الشحناء و البغضاء.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ السيء من الأقوال لعظيم أثرها في النفوس؛ و لأنّها الوسيلة الوحيدة في تضعيفها، و انتشار السيء من الأفعال و منها ينفذ الأعداء، ثمّ

ص: 92

يعالج الفرد الواقع منه في المجتمع بأسلوب تربوي يحدّ من انتشار أمثاله و يقلّل من تأثيره على الإنسان المظلوم، فأباح له مثل ما ظلم به من سيء القول، و لم يبح له أكثر من ذلك، فقال عزّ و جلّ : إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ، و أعطى الضمان عزّ و جلّ لهذا الحكم فقال عزّ من قائل: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ، فإنّ اللّه تعالى يسمع أقوال الظالمين فيجازيهم عليها، كما يعلم شكاوي المظلومين و تظلّمهم، فأباح لهم التظلّم بإظهار ما ظلموا به.

و هذا الحكم و إن لوحظ في الجانب التربوي للتحديد من الظلم إلاّ أنّه لم يكن حاسما للموقف، فحبّب إليهم الخير و اعتبره عزّ و جلّ هو الأصلح في هذا الموقف الّذي لا بدّ من إزالة الشحناء و تطويق الخلاف، و اعتبره حكما إصلاحيا للنفوس بالترويض على الخير و جعله مستوليا على جميع مشاعرها، فلا يقتصر على الخير في حالة واحدة، بل من الأفضل تعميمه لجميع الحالات.

و خصّ من أفراد الخير العفو عن السيء كلّها؛ لأنّه من صفات الباري عزّ و جلّ ؛ و لأنّه يزيل ما أوجب كدر الصفو بين الأفراد، و يرجع الثقة بينهم، فتضمّنت هاتان الآيتان حكما تربويا إصلاحيا، و اشتملتا على خلق كريم نبيل هو من أخلاق اللّه عزّ و جلّ ، و قد عرفت في التفسير أنّ هذا الخلق له الأثر العظيم في ما إذا كان عند المقدرة، دون العفو التابع من الذلّة، فإنّه ليس بتلك المثابة و لم يعد أن يكون خلقا كريما.

و تعلّق حبّه تعالى بأمر عقلي كقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ * [سورة البقرة، الآية: 195] يدلّ على أنّ ذلك لا يختصّ بهذا الدين الحنيف، و إنّما يعمّ جميع الأديان السماويّة؛ لأنّ محبّة المحسنين أمر فطري، و كذا عدم حبّه لشيء تبغضه الفطرة، فيكون قبح الجهر ممّا لا يختصّ بهذا الدين.

و إنّ قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ يمكن أن يكون إشارة الى المراتب في العمل، فمن كان قادرا على الإبداء و الجهر بأن صان نفسه عن المهالك -

ص: 93

كالرياء و العجب و الغرور - يبدي في العمل، و إلاّ فيخفي حفظا عنها و صونا عن الشوائب و المكائد الشيطانيّة.

بحث روائي

في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ قال «من أضاف قوما فأساء ضيافتهم، فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».

أقول: قريب منه ما في الدرّ المنثور، و معنى الرواية أنّه لا يجوز التعدّي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة، فغاية ما يجوز له أن يقول مثلا: (لم يحسن ضيافتي، أو أساء في ضيافته)، فإنّ ذلك نوع من الظلم الخلقي، و من المعلوم أنّ للظلم أنواعا، و لكلّ نوع مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و الرواية من باب ذكر أحد المصاديق كما هو واضح منها.

و في تفسير العياشي عن أبي الجارود عن الصادق عليه السّلام: «اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ قال: أن يذكر الرجل بما فيه».

أقول: لا بدّ و أن يقيّد بما لم يكن من المستثنيات.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ قال: «لا يحبّ اللّه أن يجهر الرجل بالظلم و السوء و لا يظلم، إلاّ من ظلم، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم».

أقول: المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدّي عليه أو ينافي الشرع، و إلاّ فلا يجوز كما تقدّم، و في بعض الروايات: «انّ اللّه تعالى جعل لكلّ شيء حدّا، و جعل على من تعدّى الحدّ حدّا».

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ إن جاءك

ص: 94

رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح، فلا تقبله منه فكذّبه فقد ظلمك».

أقول: إمّا عدم القبول لعدم الحقيقة و نفي الواقع، و إمّا تكذيبه لإرشاده الى الواقع، و المراد من قوله عليه السّلام: «فقد ظلمك»؛ لأنّه قال فيك ما ليس فيك، فإنّه يوجب حبّ الثناء و المحمدة، و يعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أم الفساد و أصل المهلكات؛ لما يستلزم الغرور و صرف النفس عن نيل الكمال و البعد عن الحقائق و الوقوع في المساوئ و الضلال، و ذلك ظلم كبير.

و في المجمع: قال في الآية المباركة: «لا يحبّ اللّه الشتم في الانتصار، إلاّ من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ اللّه تبارك و تعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جدا، إلاّ من ظلم بما يجوز في الدين، فلو حصل التعدّي أو ممّا لا يجوز في الدين، فلم يرخّصه الشارع.

و في الدرّ المنثور: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من دعا على من ظلمه فقد انتصر».

أقول: ورد في الروايات المستفيضة أنّ دعاء المظلوم لا يرد، و أنّها تخرق الحجب السبع. و قد أخذ المظلوم حقّه ممّا يهبه سبحانه و تعالى له؛ و لذا انتصر.

نعم آثار الاستجابة قد تتأخّر لمصالح لا يمكن دركها في عالم الإمكان إلاّ لأخصّ الخواص.

و في بعض التواريخ يحكى عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالى عليه) معلم أبناء المتوكّل: جلس معه المتوكّل يوما فجاء المعتز و المؤيد ابنا المتوكّل، فقال له:

أيّما أحبّ إليك ابناي، أم الحسن و الحسين عليهما السّلام ؟ فقال ابن السكيت: و اللّه إنّ قنبر خادم علي عليه السّلام خير منك و من ابنيك، فقال المتوكل العباسي: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات، و من العجب أنّه أنشد قبل ذلك للمعتزّ و المؤيد.

ص: 95

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** و ليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه و عثرته في الرجل تبرأ على مهل

أقول: لعلّ ابن السكيت (رحمه اللّه تعالى) رأى تكليفه في إظهار الحقيقة و الواقع، و علم أنّ المتوكّل أراد قتله على أي حال استعمل التقية أو لم يستعملها، و إلاّ كان له الفرار من البلاء بذريعة التقيّة أو بغيرها و لم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع؛ لقاعدة تقديم الأهمّ و هو حفظ النفس المؤمنة على غيره و هو المهمّ ، أو هيّجه حبّه لأهل البيت عليهم السّلام، و كيف كان فرضوان اللّه تعالى عليه.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآية الشريفة: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إشارة الى ما تعرض على النفس من الحالات الّتي يتأثّر المؤمن بها، كالتحدّث مع النفس في الخواص، سواء أ كان ذلك في العقائد أم في العوائد، و لا فرق في العوائد بين أن تكون نفسيّة باطنية - كحبّ الجاه و الرياسة، و طلب الخصوصية، و حبّ المدح، و خوف الفقر و غيرها - أم ظاهريّة، مثل كثرة المخاصمة و العتاب و غيرها إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بداعي البشرية غير الاختياريّة كالابتلاء بالاضطرار، و دفع الحرج و غيرهما، فما يعرض على قلب المؤمن من الأوهام الّتي يتألّم و يتأثّر بها بلا أثر خارجي لتلك الأوهام و يصير المؤمن مظلوما، فلا عتاب عليه من المحبوب.

أو لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ بالخطرات الّتي تختلج على قلب أخصّ الخواص، فإنّها توجب النزول عن سمو مقامهم - كما في بعض الروايات - لأنّ ما تمرّ على قلوبهم لها دخل في حطّ تقرّبهم لديه جلّ شأنه و إن لم يكن كذلك عند الخواص فضلا عن العوام، فإنّ «حسنات الأبرار سيئات المتقرّبين»، و قال تعالى:

وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ [سورة المجادلة، الآية: 11] إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بالمنع من التمتع بحضرة قدسه بشهود الجمال بالاشتغال في امور العباد الّتي توجب

ص: 96

هدايتهم الى معرفة ربّ الأرباب، و نجاتهم من المهالك و الظلمات.

أو لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ بإفشاء أسرار الربوبيّة و إعلام المواهب الألوهيّة على من لا يليق بالتشرّف لساحة قدسه، و ران على قلبه، و تاه في الظلمات فعمى عليه معرفة الخير من الشرّ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال من إظهار شيء من الحجّة و البرهان، لا بإفشاء الأسرار و رفع الحجب.

و على أي حال، كانَ اَللّهُ في الأزل و الأبد سَمِيعاً لأقوالكم و عَلِيماً بأحوالكم و مقاماتكم. و إِنْ تُبْدُوا خَيْراً ممّا أفاض عليكم من النّعم و الحالات و ما وهب لكم من المكاشفات بترقّي النفوس الى المقامات و وصولها إلى أعلى الدرجات، أَوْ تُخْفُوهُ حفظا عن الشوائب و صونا عن المكائد أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بترك إعلام ما جعل اللّه إظهاره سوءا، أو تعفوا بما تدعوكم به النفس الأمارة بالسوء بأن لا تتّبعوها أو تصفحوا عن المسيء كما يصفح عنكم الجليل، فَإِنَّ اَللّهَ كان في الأزل و الأبد رحيما، و بمقتضى رحمته كان عَفُوًّا عنكم لو اتّصفتم بمظاهر أخلاقه جل شأنه، قَدِيراً على كلّ شيء، فإنّه قادر على أن لا يعفو عن أحد و يذلّ عبده بردّه إلى نفسه و هواه و إيكاله الى نفسه مع الاختيار و يؤاخذه لكفرانه، فإنّه لَظَلُومٌ كَفّارٌ [سورة إبراهيم، الآية: 34]، و لكن رحمته الّتي وسعت كلّ شيء، و محبّته لخلقه و رأفته لهم تقتضيان أن يعفو عن الجميع، فإنّه يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: 53]، و يعفو عن المسيء مهما توغّل في الظلمات و بعد عن ساحة قدس ربّ السماوات.

بحث فقهي

من المعاصي الكبيرة الغيبة، و هي: أن يذكر خلف إنسان ما هو مستور يغمّه لو سمعه، فإن كان صدقا سمّي غيبة و إلاّ فهو البهتان الّذي هو أشدّ من الغيبة، بل من الموبقات.

ص: 97

و لا فرق في الغيبة بين أن يكون بقصد الانتقاص أو لم يكن كذلك لإطلاق ما يأتي من الأدلّة، كما لا فرق في العيب المستور بين أن يكون في بدنه، أو في خلقه، أو في نسبه، أو في قوله، أو في دينه، أو دنياه. و سواء كان الذكر بالقول أو الكتابة أو بالحكاية بوجود العيب في الشخص المغتاب (بالفتح)، كالإشارات و التمثيليات، ففي جميع ذلك تتحقّق الغيبة.

و تدلّ على أنّها أم الرذائل الأخلاقيّة و من المعاصي الكبيرة الأدلّة الأربعة:

فمن الكتاب قوله تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ [سورة الحجرات، الآية 12]. فشبّه سبحانه و تعالى لما يناله المغتاب (بالكسر) من عرض المغتاب (بالفتح) بأفحش وجه كما هو معلوم. و قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ، أي: الّذي لا يبالي بالغيبة و هتك أعراض الناس. و قال تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ ، فإنّ الجهر بالسوء سواء كان أمام الطرف أو خلفه مبغوض عند اللّه تعالى، و إنّ إطلاق السوء فيها كما يشمل الغيبة و البهتان يشمل الكذب، بل يشمل ترك التقيّة المكلّف بها أيضا؛ فإنّه سوء للعامل أو الفاعل.

و من السنّة روايات كثيرة بلغت حدّ التواتر، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه و نقض وضوؤه و جاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة من الجيفة يتأذّى بها أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّمه اللّه تعالى»، المحمول في بطلان الصوم و نقض الوضوء على المرتبة النازلة من الكمال، أو على الاستحباب بالقضاء أو التجديد، و المراد من الاستحلال عدم المبالاة في ارتكاب الغيبة.

و عن الصادق عليه السّلام: «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه»، الى غير ذلك من الروايات المذكورة في كتب الأحاديث.

و من الإجماع ما هو مسلّم بين المسلمين بجميع مذاهبهم، بل عدّ حرمتها من الضروريات الدينيّة.

ص: 98

و من العقل حكمه بالقبح؛ لأنّه نوع من التعدّي على الغائب و ظلم عليه؛ لفرض أنّه يغمّه و يتأذّى لو سمع بذكر ما فيه.

و يعتبر فيها امور:

الأول: وجود سامع بقصد إفهامه، فلو لم يكن سامع لا تكون غيبة.

الثاني: تعيين المغتاب و تشخيصه، فلو قال: واحد من أهل البلد سارق، لا يكون غيبة، أو قال: أحد أولاد زيد جبان، لا يكون غيبة، أو قال: أحد أولاد الجار فاسق، لا يكون غيبة و إن حرّم من جهة انطباق عنوان الهتك أو الإهانة بالانتقاص.

الثالث: أن لا يكون المغتاب (بالفتح) داخلا في المستثنيات الّتي سنذكرها.

الرابع: أن يكون المغتاب (بالكسر) جامعا لشرائط التكليف، و لو فقد أحد هذه الشروط انتفى الحكم و إن تحقّق مفهوم الغيبة لغة في بعض الموارد.

و قد استثنى من حرمة الغيبة موارد كثيرة مذكورة في كتب الفقه، و لكن أهمّها هي:

الأوّل: المتجاهر بالفسق، فتجوز غيبته في العيب المتجاهر فيه - دون العيب المستتر فيه - إن قصد من غيبته ارتداعه عن فسقه بعد وصول الخبر إليه أو يحذّر الناس عنه، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»، فإذا علم أنّه لا يؤثّر فيه - كغالب الفساق الّذين انحرفوا عن الصراط المستقيم و ران قلوبهم - ففي غيبته إشكال من إمكان شمول قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة النور، الآية: 19]، و دعوى سياق الآية الشريفة في غير المورد تحتاج الى دليل، و من شمول إطلاق بعض الروايات مثل قوله عليه السّلام: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له» إن لم يدع الانصراف عن المورد. نعم تجوز من جهة تحذير الناس في عدم وقوعهم في المهالك.

الثاني: الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته في ظلمه للانتصار و بلا تعدّي؛

ص: 99

لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ، و إطلاق الآية الكريمة يشمل جميع أنواع الظلم و مراتبها، إلاّ إذا كان الظلم على نحو لا يعتنى به لدى عرف المتشرّعة و لا يحصل منه إيذاء، فالآية المباركة منصرفة عنه.

و لا فرق في ذلك بين ما كان في مجلس عامّ أو لم يكن فيه، كما لا فرق في الظلم من أن يطرأ على المغتاب، أو على من ينتسب إليه، كما إذا غصب زيد دار عمرو فمات عمرو، فيجوز لورثته غيبة زيد انتصارا لحقّهم، و كذا لا فرق بين أن يكون الظالم حيّا أو ميّتا، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة.

و هل تجوز الغيبة في ما لو وقع الظلم على شخص لا ينتسب الى المغتاب (بالكسر) أصلا إلاّ من باب الاخوة الإيمانيّة و لم يرد إليه نفعا؟ مقتضى الأدلّة عدم الجواز إلاّ من باب النهي عن المنكر إن توفّرت شرائطه.

الثالث: نصح المستشير لو استشاره شخص في أمر ذي بال كالتزويج، و شراء عقار، أو جعل وكيل، أو اتّخاذ أجير و غيرها، فيجوز نصحه و لو استلزمت الغيبة، و لا فرق في ذلك بين أن يكون ابتداء و من دون الاستشارة أو معها.

و هناك موارد اخرى مذكورة في الكتب الفقهيّة، كالخوف على الدين، فيجوز غيبته لئلاّ تترتّب عليه مفسدة دينيّة، أو كجرح الشهود، و قدح المقالات الباطلة و غيرها، و من شاء التفصيل فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 100

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْم.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

ص: 101

الآيات المباركة تتحدّث عن فريق آخر من أعداء الإسلام و المؤمنين، و هم اليهود، و يذكر سبحانه و تعالى فيها أفاعيلهم الباطلة، و يعدّد جرائمهم و مظالمهم بالنسبة الى الدين الحقّ و الأنبياء الكرام.

فمنها: التفرقة في الإيمان، فيؤمنون باللّه تعالى و يكفرون برسله، و قد عدّ سبحانه و تعالى هذه الصفة بأنّها كفر محض و أوعدهم النار.

و بيّن عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة أنّ المؤمنين هم الّذين لا يفرّقون بين اللّه و رسله. و وعدهم الأجر و الغفران و العاقبة الحميدة في الدارين.

و منها: سؤالهم إنزال الكتاب من السماء إعراضا منهم عن القرآن الكريم و الوحي النازل على رسوله الأمين، و ربّما يشترك النصارى مع اليهود في هذين المطلبين؛ لأنّهم أعرضوا عن الإسلام و لم يقتنعوا برسالة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

و منها: سؤالهم الرؤية و قولهم: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً جهلا بالحقيقة و عنادا للحقّ ؛ و لذلك فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ للتجرّي في سؤالهم و بعدهم عن الواقع باختيارهم.

و منها: اتخاذهم العجل معبودا لهم بعد ما جاءتهم البينات و لكنهم لم يتبعوها، لانغماسهم في الجهالة باتباع سبل الشيطان.

و منها: نقض الميثاق الغليظ الّذي أخذ منهم عند رفع الطور و تحت الشجرة، و قد تعهّدوا أن لا يخالفوا التعاليم الإلهيّة.

و منها: كفرهم بالآيات الّتي أتى بها موسى عليه السّلام و سائر أنبياء بني إسرائيل.

و منها: قتلهم الأنبياء عليهم السّلام بغير حقّ .

و منها: إعراضهم عن قبول الحقّ و قولهم: قلوبنا غلف.

و منها: تقوّلهم على مريم البتول الطاهرة و اتّهامهم لها بأعظم اتّهام.

و منها: تقوّلهم إنّهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. و قد ردّه عزّ و جلّ بنفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام.

و منها: أخذهم الربا و قد نهوا عنه.

ص: 102

و لأجل تلك الأفاعيل المنكرة و ظلمهم و صدّهم عن سبيل اللّه تعالى و غيرها، أنّه جلّ شأنه حرّم عليهم الطيبات و أعدّ لهم عذابا أليما جزاء لذنوبهم، فإنّها آيات عظيمة تبيّن حقيقة هذه الطائفة المعاندة للحقّ بعد ما بيّن حقيقة الطائفة الاخرى و هم المنافقون، و يبيّن عزّ و جلّ فيها أصل الإيمان و حقيقته، و تذكّر المؤمنين بوعده الحقّ و أجرهم العظيم.

و لا يخفى ارتباط هذه الآيات الكريمة بما سبقتها، فإنّها جميعا تبيّن تلك الحقيقة و تذكّر المؤمنين بأعدائهم و ترشدهم الى نواياهم و خصالهم الذميمة، حتّى يأخذوا الحذر منهم و من مكائدهم و خداعهم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ .

بيان لحقيقة الإيمان المطلوب المبني على أصلين لا يمكن التفكيك بينهما في الاعتقاد، و هما العمودان و سائر الأمور المطلوبة في الإيمان الواقعي ترجع إليهما و تعتمد عليهما.

و هما: الإيمان باللّه العظيم، و الإيمان بالرسل، فإذا تحقّق الأوّل من دون الثاني يكون إيمانا ادّعائيا، و في نظر القرآن كفرا و إن لم يكن كذلك في نظرهم.

و الآيات المباركة تشير الى طوائف متعدّدة، فمنهم: من آمن باللّه تعالى و كفر برسله أجمعين، زعما منهم بأنّ العقل يكفي لهداية البشر، أو لإنكارهم الوحي و أنّ ما جاء به الأنبياء و الرسل إنّما كان من عند أنفسهم.

و منهم: من آمن باللّه تعالى و كفر ببعض الرسل، و هم أهل الكتاب الّذين يؤمنون باللّه و يفرّقون بين الرسل. فترى اليهود أنّهم يؤمنون بموسى عليه السّلام و يكفرون برسالة عيسى و يحيى عليهما السّلام، كما أنّ النصارى تؤمن بموسى و عيسى عليهما السّلام و تكفر

ص: 103

بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كفرهم هذا ببعض الرسل أوجب أن يكونوا في عدد الكافرين باللّه تعالى و رسله جميعا، كما بيّنه عزّ و جلّ في الآيات التالية.

و منهم: من كفر باللّه جلّ شأنه و لم يؤمن برسله، كالمشركين و غيرهم من الكفّار المنكرين للمبدأ و المعاد و الرسل، و يأتي ما يتعلّق بهذه الطائفة في الآيات الكريمة في السور الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و منهم: من آمن باللّه و رسله، و هم المؤمنون، و لهم فضلهم و شأنهم عند اللّه تعالى كما يأتي.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ .

بيان للعلّة الّتي أوجبت دخول الطائفة الاولى في زمرة الكافرين، فإنّهم و إن اعتقدوا باللّه جلّ جلاله، و لكن ذلك بوحده غير كاف في الدخول في المؤمنين؛ لأنّ التفرقة بين اللّه تعالى و رسله كفر بهما معا.

و إنّما جعل ذلك من إرادتهم؛ لبيان أنّه لم ينزل اللّه به من سلطان، و إنّما كان بمحض إرادتهم و اختيارهم التابع لآرائهم الفاسدة و عقائدهم السخيفة.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ .

تفسير و توضيح لما أرادوه من التفرقة بين اللّه تعالى و رسله، و يقولون: نؤمن ببعض الأنبياء و نكفر بالبعض الآخر، كما فعله أهل الكتاب - أو الطائفة الثانية - مع أنّ الأنبياء عليهم السّلام جميعا رسل اللّه تعالى و الردّ على واحد منهم ردّ على اللّه تعالى، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع.

و الآيات الشريفة تبيّن حقيقة دينهم و ما يقتضيه مذهبهم في الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر، فإنّ ذلك كفر في الواقع و إن لم يصرّحوا به أو لم يشعروا به.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى ب وَ يَقُولُونَ ليماء الى أنّ ذلك مجرّد قول و ادعاء بالألسنة، و إلاّ فالحقيقة و الواقع خلاف ذلك، و قد اقتصر تبارك و تعالى على ذكر أهل الكتاب و لم يذكر الطائفة الاخرى المنكرين للرسالة بالكليّة لسخافة مذهبهم،

ص: 104

و وضوح بطلانه، و إنكارهم للّه تعالى؛ و لأنّ الكلام مع أعداء الإسلام من أهل الكتاب المدّعين للإيمان.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً .

عطف تفسيري لمقالتهم، أي: يريدون من ذلك القول و التفرقة بين الإيمان أن يسلكوا منهجا معينا لهم و يبتدعوا طريقا مختصّا بهم يتبعوه، يكون وسطا بين الإيمان و الكفر. مع أنّ الحقّ لا يختلف، و الواقع لا واسطة فيه، فإمّا الإيمان باللّه تعالى و رسله جميعا من دون تفرقة بينهم، و إمّا الكفر سواء كان باللّه و رسله أو بالأخير منهما، أو بالتفرقة بين الرسل، فلا سبيل إلاّ الإيمان باللّه و رسله جميعا؛ لأنّ الإيمان بهم إيمان باللّه تعالى، و الكفر بواحد منهم كفر به عزّ و جلّ ، فلا واسطة و لا سبيل غيره، و ما سواه كفر و باطل.

قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا .

بيان لحقيقة مذهبهم و واقع حالهم و تأكيد يزيل كلّ و هم و شكّ في إيمانهم، فأولئك المفرّقون هم كافرون حقّا لا مرية فيه و إن لم يشعروا به، فلم ينفعهم إيمانهم باللّه و ببعض الرسل إذا كفروا.

و في تأكيد الحكم بالجملة المعرفة بين الجزءين، و بضمير الفصل و بالمصدر المؤكّد قطع لكلّ إرادة باطلة و تقوّل فاسد، فإنّه لا حقّ أثبت و أصحّ ممّا يحقّه اللّه تعالى حقّا، و السرّ في ذلك واضح؛ لأنّ ما يتوسّلون به في إثبات التفرقة باطل، و أنّ لازم إيمانهم كذلك الردّ على اللّه عزّ و جلّ ، لأنّ الأنبياء وحدة متكاملة، يبشّر السابق باللاحق و يدعو إليه، كما ينوّه اللاحق بالسابق و يجعل الإيمان به من أجزاء الإيمان بدينه، فإذا أنكر واحد منهم، فقد أنكر الجميع، و هو الكفر باللّه العظيم، و لشناعة الفعل كان الجزاء عظيما.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً .

وعيد لهم بعد ما أثبت كونهم كافرين، و وضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصفهم الشنيع، و تعميما لجميع أصناف الكافرين، هذا الصنف و غيرهم، بعد ما

ص: 105

اجتمعوا في العلّة الّتي استحقّوا بها هذا العذاب المهين الّذي يشتمل على المذلّة و الإهانة، و في قوله تعالى التفات من الغيبة الى التكلّم مع الغير، إيماء الى أنّ العذاب تحقّق و قرب وقوعه، و للتنبيه و الإيقاظ لهم على ما غفلوا عنه.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ .

بيان للصنف المقابل لأولئك المفرّقين بين اللّه و رسله، و فيه تعظيم لمقامهم و تشريف لهم ببيان عظيم أجرهم، و منه تظهر حقيقة الإيمان المطلوب، و هي الإيمان باللّه و عدم التفرقة بين أحد من رسله العظام (صلى اللّه عليهم أجمعين).

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أَحَدٍ في المقام؛ للبيان بأنّه لا بدّ أن لا يفرّق بين جميع الرسل، سواء أ كانوا ممّن اعتقد به أولئك الكافرون و من أنكروا الإيمان به أم لم يكن منهم، و تنطبق الآية الشريفة على أمة خاتم المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فإنّهم آمنوا به التزاما منهم بالإيمان بجميع المرسلين.

قوله تعالى: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ .

تعظيم للجزاء و إيذان بقرب الوقوع، و يدلّ عليه أيضا كلمة (سوف) الّتي تدلّ على تأكيد الموعود به.

و إنّما لم يبيّن عزّ و جلّ نوع الأجور إيماء بأنّ المؤمنين يختلفون في الأجور، فكلّ يعطي بحسب حاله في العمل بعد ما ثبت فيهم أصل الإيمان المطلوب.

كما أنّه تعالى لم يذكر هنا (أولئك هم المؤمنون حقا) كما في الآية المباركة السابقة؛ للإعلام بأنّ ما ذكر إنّما هو أصل الإيمان المطلوب، و أمّا كماله الّذي يتمّ به الإيمان حقّا، فقد ذكر في آية اخرى، قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال، الآية: 2-4].

ص: 106

و من الآية الكريمة الأخيرة يظهر الفرق بين الوعدين، الوعد الّذي ذكر في المقام و هو إعطاء أجورهم على أصل الإيمان، و الوعد الّذي ذكر في الآية الشريفة على كمال الإيمان و هو المغفرة و الدرجات و الرزق الكريم جزاء لصالح أعمالهم.

قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ .

بعد أنّ بيّن عزّ و جلّ حقيقة مذهبهم و أنّه كفر محض لتفرّقهم بين اللّه و رسله، حيث آمنوا ببعض دون البعض الآخر، ففي هذه الآيات الشريفة يؤكّد تعالى ذلك ببيان جرائمهم و ظلمهم و يعدّد عليهم أفعالهم الشنيعة و عنادهم للحقّ و جحودهم له، و خصّ بالذكر اليهود الّذين لقى الرسول الكريم و دينه الحقّ و المؤمنون منهم الأذى و العناد و اللجاج في أشدّ وجوهها.

و المراد من أهل الكتاب هم الّذين فرّقوا بين الرسل و هم اليهود و النصارى كما عرفت، و هم المراد أيضا في القرآن الكريم حيث أطلق أهل الكتاب إلاّ إذا كانت قرينة على التخصيص، و السؤال إنّما وقع من كلتا الطائفتين - تحكّما و مجازفة و على سبيل التعنت و التعجيز - لا يقصد الحجّة و البرهان، لأنّهم عرفوا منزلة القرآن في الهداية و نفوس المؤمنين، و كانوا يعلمون أنّ كتاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ينزل دفعة واحدة و إنّما ينزل نجوما متفرقة إلاّ أنّهم لم يعدونه كتابا سماويا، و لا كانوا يؤمنون به دليلا على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله جحودا و استكبارا منهم للحقّ ، فاقترحوا جزافا على الرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا محرّرا بخط سماوي، و أن يكون جملة واحدة.

و اختلف المفسّرون في هذا الكتاب المقترح، فمنهم من قال: كتاب يحتوي على شريعة هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، كالألواح الّتي نزلت على موسى عليه السّلام.

و قيل: إنّه كتاب يشهد بأنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّه كتاب ينزّل باسم جماعتهم أو الى فرد معين من أحبارهم، أو بأسماء من اقترحوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك.

ص: 107

و كيف كان، فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّهم اقترحوا من عند أنفسهم - جزافا و جحودا للحقّ و من غير خضوع للحقيقة - إنزال كتاب من عند اللّه تعالى، و كانوا يريدون من ذلك تشويه الأمر على المؤمنين الّذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و قلب الحقيقة عليهم و سلب الطمأنينة من نفوسهم؛ لأنّهم طالما كانوا يواجهون المؤمنين بمثل هذه المقترحات الباطلة لتضعيف الإيمان في قلوبهم، و إلاّ فإنّهم كانوا يعلمون أنّ القرآن نزل مع التحدّي و عرفوا عجز الناس عن معارضته و تحديه، و هذا شأن كلّ متمرّد على الحقّ ، و من تعوّد الجحود و الكفر.

و لا يبقى بعد ذلك وجه للنزاع في أنّ المقترح هل هو كتاب خاصّ أو عامّ أو نحو ذلك، بعد ما كان المناط هو معرفة نواياهم الخبيثة و كيدهم بالمؤمنين و جحودهم.

و لقد شابهوا المشركين في هذا المقترح الباطل المعاند للحقّ الّذي صدر منهم في ابتداء الدعوة كما حكى عنهم عزّ و جلّ فقال: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ * [سورة يونس، الآية: 20] و قال تعالى: أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [سورة الإسراء، الآية: 93].

ثم إنّ المفسّرين ذكروا أنّ اليهود كانوا يغشّون المؤمنين و يغرّونهم بإنزال التوراة عليهم جملة واحدة، و أنّ شريعة موسى عليه السّلام قد نزلت دفعة واحدة و كذلك الإنجيل، فلم لم يكن القرآن كذلك و على خلاف تلك الكتب الإلهيّة، و أرادوا من ذلك تضعيف الإيمان في قلوبهم و إثبات الشكّ في نفوسهم.

و لكن الّذي يظهر من القرآن الكريم و بعض الفقرات في التوراة خلاف ذلك، فإنّ التوراة لم تنزل دفعة واحدة، و إنّ النازل كذلك هو الوصايا العشر الّتي نقشت في الألواح، فأتى بها موسى عليه السّلام الى قومه، و لما رأى عبادة العجل ألقى الألواح كما حكى عنه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، و أمّا شريعته عليه السّلام فإنّها نزلت متفرّقة و على سبيل التدرج و لم تنزل مكتوبة جملة واحدة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في كيفيّة نزول الكتب الإلهيّة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 108

قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً .

جواب عن مسألتهم تتبيّن فيه حقيقتان:

الاولى: أنّهم قوم متمادون في الجحود و منغمسون في الجهالة و الضلالة، ينكرون الحقّ و إن جاءتهم البينة، عرفوا بنقض العهود و المواثيق و اشتهروا بالكذب و البهتان، فمن كان هذا حاله لا يعتنى بمقترحاته و لا يجاب عن اسئلته، و من هنا عدّد عزّ و جلّ مظالمهم و موارد جحودهم على الحقّ و تمرّدهم على اللّه تعالى و أنبيائه العظام؛ لمعرفة تلك المفاسد الأخلاقيّة و ذلك الجحود و التمرّد على الحقّ .

الثانية: أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن مع التحدّي، و مقارنا مع الشهادة منه عزّ و جلّ و من ملائكته على صدقه و واقعيته، فكلّ مقترح في إنزال كتاب آخر غيره يكون كذبا و مقترحة (بالكسر) كاذب و جاحد للحقّ ، و قد تكفّلت هذه الجهة آيات التحدّي الّتي وردت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم كما في سورة الإسراء و يونس و هود و البقرة، و كذلك الآيات المباركة الّتي تدلّ على صدق القرآن و شهادته عزّ و جلّ عنه.

و أمّا الآيات الكريمة في المقام فقد تكفّلت لبيان الجهة الاولى، فذكر عزّ و جلّ في ردّهم أنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر ممّا سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله من تنزيل كتاب من السماء، فقالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً ، أي: واضحا نعاينه بأبصارنا، و هذا السؤال يدلّ على غاية الجهل و الطغيان و العناد، فكان أكبر من سؤال إنزال الكتاب؛ لأنّه يدلّ على العناد و اللجاج فقط.

و سؤال الرؤية و إن كان من أسلافهم إلاّ أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف و سيرتهم و هم جميعا في الأخلاق و الصفات سواء، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا، و قد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع، و هو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم، قال تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [سورة] [البقرة، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

ص: 109

و سؤال الرؤية و إن كان من أسلافهم إلاّ أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف و سيرتهم و هم جميعا في الأخلاق و الصفات سواء، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا، و قد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع، و هو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم، قال تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [سورة] [البقرة، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .

الصاعقة: هي النار السماويّة الّتي تحدث من أسباب معروفة في علم الطبيعة.

و إنّها و الفاقعة متقاربتان، إلاّ أنّ الثانية في الأجسام الأرضيّة و الاولى في الأجسام العلويّة.

و كيف كان، فقد عبّرت التوراة عنها بالنار و لا منافاة بينهما، فإنّ الآية الشريفة تفسّر تلك بالنار السماويّة.

و المراد من الظلم في المقام هو تشبيه الربّ بالماديات و طلب رؤيته. و هو ظلم مع علمهم بأنّها مستحيلة بالنسبة إليه عزّ و جلّ ، لتنزّهه عن مجانسة المخلوقات، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية: 55] الكلام في هذه المسألة، و قلنا إنّ الآية الشريفة تدلّ على امتناع الرؤية، فإنّ ظاهرها هو أنّ أخذهم الصاعقة لم يكن إلاّ بسبب ظلمهم أنفسهم، و هو لم يكن إلاّ لأنّهم طلبوا الرؤية و إلاّ لما سموا ظالمين، و لما أخذتهم الصاعقة.

و لا ينافي ذلك أن يكون السؤال عن تعنّت من اليهود، فإنّ كلّ ظلم منهم إنّما كان كذلك و إن اختلفت أسبابه، و العقاب قد يكون عليهما معا أو على أحدهما.

و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ العقاب إنّما كان على تعنّتهم لا على سؤالهم الرؤية.

و كيف كان، فالإماميّة يقولون بامتناع الرؤية لظواهر الآيات الشريفة، و نصوص وردت عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، و أمّا الأشاعرة فإنّهم على خلاف ذلك و المسألة معروفة في كتب الكلام.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

أي: أنّهم ارتكبوا ظلما أشنع و هو اتّخاذ العجل للعبادة مع علمهم بأنّها

ص: 110

شرك باطل، لقيام البينات و الحجج الواضحة الدالّة على توحيده و النافية للشرك، و ظهور البراهين لديهم على أنّ اللّه تعالى منزّه عن شؤون المادّة و شائبة الجسميّة.

قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ .

أي: فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، و العفو هنا خاصّ ، و هو رفع القتل عنهم كما حكى تعالى عن القصة في سورة البقرة: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 54]، و فيه تعليم للمذنبين، أي: أنّهم أذنبوا فتابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتّى نعفو عنكم.

قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً .

أي: أنّ اللّه تعالى أتى موسى عليه السّلام تسلّطا ظاهريا عليهم جميعا بما فيهم السامري و عجله، فخضعوا له فأمرهم ابتداء بقتل أنفسهم توبة عن اتخاذهم العجل، فاستولى على تمرّدهم و طغيانهم ثمّ انقادوا له فلم يخالفوه، و بذلك صارت له حجّة بيّنة قوى بها على من ناواه.

قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ .

أي: أنّ اللّه تعالى رفع الطور عليهم حتّى أخذ الميثاق منهم تحت الصخرة، و إنّما فعل ذلك تشديدا لأمر الميثاق و توكيدا عليه و ليأخذوا ما انزل إليهم بقوة و يعلموا مخلصين، و القصة مذكورة في سورة البقرة مرّتين، الاولى في الآية (63) و الثانية في الآية (96).

قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً .

بيان لمورد من الموارد الّتي أخذ الميثاق عليها، أي: و قلنا لهم: إذا خرجتم من التيه و دخلتم مدينة بيت المقدس، فادخلوها من الباب خاضعين كما أمر غير اليهود بأن يدخلوا البيوت من أبوابها.

و المراد من ذلك أنّ كلّ عمل يعمله الإنسان لا بدّ أن يكون من الوجه المشروع و لا يجوز أن يدخله من غير بابه الّذي شرّعه اللّه تعالى، و لعلّ ما أخذ من بني إسرائيل من الدخول من الباب إشارة إلى ذلك أيضا، فاتّحدت جميع الأديان

ص: 111

الإلهية على هذا الأمر و لا يقدح أن تكون الآية المباركة إشارة الى واقعة معينة، فإنّه قد يترتّب حكم كلّي على واقعة جزئيّة، كما هو معروف.

قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ .

بيان لمورد آخر من موارد الميثاق، أي: و قلنا لهم لا تتجاوزوا حدود اللّه تعالى و لا تحلّوا ما حرّمه اللّه تعالى في يوم السبت. و لكنّهم خالفوا أوامره عزّ و جلّ كما حكى عنهم في سورة البقرة.

قوله تعالى: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً .

أي: و أخذنا منهم عهدا وثيقا مؤكّدا ليأخذوا التوراة بقوّة و اجتهاد و يعملوا بها و يحفظوا عهودها و حدودها.

و إنّما وصف الميثاق بكونه غليظا إمّا لأجل تعهّدهم بالعمل بالتكاليف الإلهيّة و حفظ التوراة و مراعاة عهودها و التزامهم إذا أعرضوا، فاللّه تعالى يعذّبهم بأنواع العذاب، أو لأجل عظمة الميثاق الّذي أخذ منهم، و هو التصديق بنبوّة عيسى عليه السّلام و نبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، الّتي بشّر بها في جميع الكتب السماويّة.

قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .

تفريع على ما سبق، و فيه تعداد لموارد ظلمهم و ما خالفوا فيه من المواثيق و العهود. و بيان ما حلّ بهم من البلاء و ما نالوا من الجزاء في الدنيا و الآخرة.

و المجرور متعلّق بما يأتي في الآية الشريفة.

أي: بسبب نقضهم المواثيق و تحليلهم ما حرّمه اللّه تعالى عليهم و كفرهم، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ و قولهم: قلوبنا غلف، و غير ذلك من جرائمهم، فبسبب ذلك كلّه حرّمنا عليهم الطيبات و باءوا بالغضب و ضربت عليهم الذلّة و المسكنة.

و جوّز بعضهم أن يكون الجار متعلّقا بمقدّر، و قيل غير ذلك، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و تعداد جرائمهم في هذه الآية الشريفة إنّما هو لبيان أنّها أفسدت جميع أخلاقهم، و كدّرت صفاء نفوسهم، و أطفئت نور فطرتهم، فمرضت قلوبهم و ساءت

ص: 112

أحوالهم و تشتّت شملهم و ذهب ريحهم و قوتهم، فكلّ ما حلّ بهم من البلاء إنّما كان بسبب عصيانهم للّه تعالى و نقضهم المواثيق و كفرهم.

قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ .

المراد من كفرهم: مطلق أنواع الكفر الّذي صدر منهم بعد ظهور الحجج الواضحة الدالّة على صدق ما كفروا به، و قد ذكر عزّ و جلّ بعضا منها في ما سبق و بعضها في ما سيأتي، فمنها: كفرهم بأنّه منزّه عن شائبة الجسميّة، حيث طلبوا رؤيته كما حكى عزّ و جلّ في صدر الآية الكريمة.

و منها: كفرهم باتّخاذهم العجل معبودا.

و منها: إنكارهم للمعجزات الّتي صدرت من الأنبياء.

و منها: كفرهم بقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، و كفرهم بإنكار نبوّة بعض الأنبياء.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ نقض المواثيق في المقام مع أنّ الكفر كان مقدّما في الذكر آنفا؛ لأنّ في هذه الآيات الكريمة تتعرّض للجزاء الّذي يترتّب على أعمالهم بعد ما استجابوا للحقّ و آمنوا باللّه تعالى، و بعد ما أخذ منهم المواثيق، فكان ذكرها أنسب مع أنّ نقض المواثيق في كلّ دين يوجب الكفر، فيكون من قبيل المعدّ و المقتضي له.

قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

جريمة فظيعة تدلّ على طغيانهم على اللّه جلّت عظمته و تمرّدهم على الحقّ ، حيث قتلوا أنبياءه و رسله الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهدايتهم بغير جرم اجترحوه، مع أنّهم معصومون من كلّ نقص و بريئون من كلّ عيب، فلا حقّ يتوجّه عليهم، و قد أكّد تعالى على قبيح هذا العصيان و فظاعته كونه بِغَيْرِ حَقٍّ ، و إلاّ فإنّ قتل كلّ شخص بريء و محقون الدم هو قبيح و يكون بغير حقّ .

و للدلالة على أنّه لا حق مطلقا يتوجّه عليهم يستوجب هتك حرمتهم و قتلهم.

و اكتفى القرآن الكريم بذكر القتل عليهم إجمالا من غير تسمية، و لكن التاريخ قد سجّل عليهم قتل جملة من الأنبياء، كزكريا و يحيى عليهما السّلام و غيرهما.

ص: 113

قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ .

غلف: جمع أغلف، و هو الّذي عليه الغلاف ليمنع نفوذ الشيء إليه، كغلاف السيف، و قد ورد في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يفتح قلوبا غلفا»، أي: مغشاة مغطاة، يقال: قلب أغلف، أي عليه غشاء يمنع عن قبول الحقّ و نفوذه فيه.

و المعنى: قلوبنا في أغشية تمنعها من قبول الحقّ و تأثير المواعظ فيها و نفوذ ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله إليها، كما في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ * [سورة الانعام، الآية: 25]، و ما يحكى عنهم تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [سورة فصلت، الآية: 5].

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة أنّ قلوبنا في أوعية، فلا حاجة بنا الى علم جديد سوى ما عندنا و هو كاف.

و لكن الوجه الأوّل أولى بقرينة سائر الآيات الكريمة الّتي حكي فيها حال أقوام آخرين مع الدعوة الى الحقّ .

و الإباء عن الاستماع الى الحقّ لا يصدر إلاّ ممّن انهمك في العصيان و استولى عليه الفساد و الطغيان، و من أخذته العزّة بالإثم فاستكبر عن قبول الحقّ ، و هذا مرض نفسي عضال أعيى الأنبياء عليهم السّلام عن علاجه، و قد حكي عزّ و جلّ حال قوم نوح عليه السّلام من الدعوة و عدم قبول الحقّ ، فقال حاكيا عنه عليه السّلام: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْباراً [سورة نوح، الآية: 7].

و ظاهر الآية الشريفة أنّ ادعاءهم ذلك ناشئ عن خلقتهم كذلك و إن قلوبهم خلقت مغشّاة بأغشية تمنعها من قبول الحقّ . و قد ردّ عزّ و جلّ عليهم بأنّ ذلك نشأ عن كفرهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و انهماكهم في المعاصي و ارتكاب الآثام فطبعت عليها.

قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ .

ردّ لزعمهم الفاسد، أي: أنّ إباءهم عن قبول الحقّ و استماع الدعوة لم يكن

ص: 114

مستندا الى كون قلوبهم في غلف، و ليس في خلق اللّه تعالى لقلوبهم ما يمنع عن قبول الدعوة الحقّة، و إنّما هو راجع الى صنع اللّه عزّ و جلّ فيهم لأجل كفرهم و جحودهم للحقّ و عصيانهم، و لذلك ترى أنّ منهم من يؤمن بالحقّ و إن كانوا قليلين.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالطبع كالسكّة المطبوعة لبيان أنّ كفرهم الشديد و أعمالهم القبيحة قد أفسدت عليهم قلوبهم و طبعت عليها، فصارت قاسية لا تقبل غير ما طبع عليها، فإنّ القلوب لتتأثّر بكلّ ما يكسبه المرء و ينطبع عليها كما ينطبع على الصخرة الملساء ما ينقش فيها، فإن كان من الاعتقادات الحقّة أو الكمالات السامية و الأعمال الصالحة فهي تهتز و تنمو بإذن اللّه تعالى، و إلاّ فتفسد و تقسي كالصخرة أو أشدّ منها، كما حكي عزّ و جلّ حالها مع الإيمان و الكفر و الأعمال في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم، قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14]، و قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة، الآية: 74].

ثمّ إنّ الفرق بين الطبع (بالسكون) و الطّبع (بالتحريك) هو أنّ الأوّل: الختم كما تقدّم، و الثاني هو الدنس و الوسخ، و منه الحديث: «أعوذ باللّه من طمع يهدي إلى طبع»، أي: استجير باللّه العظيم من طمع يؤدّي إلى شين و عيب.

و عن بعض اللغويين: الرين أيسر من الطبع، و هو أيسر من الأقفال، و الأقفال أشدّ ذلك كلّه، و استدلّ بالآيات المباركة: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: 14]، و قال تعالى: طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ * [سورة النحل، الآية: 108]، و قال تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [سورة محمّد، الآية: 24].

و لكن الّذي يهوّن الأمر أنّ لكلّ منها مراتب، فيطلق كلّ مرتبة على غيرها كما يأتي في محلّه تفصيل ذلك.

ص: 115

قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً .

تأكيد الى أنّ غلف القلوب إنّما كان من صنع أنفسهم لا من صنع اللّه تعالى و خلقته، إلاّ بالمعنى الّذي تقدّم من أنّ كثرة ارتكاب المعاصي و الآثام و التمادي في الكفر و الطغيان يوجبان إعراض اللّه تعالى عنها، فيطبع اللّه تعالى أعمالهم فيها، فتصير قاسية لا تقبل الحقّ ، فلم يخلق اللّه تعالى قلوبهم مغشية بالغشاء، و إلاّ فلا يؤمن منهم أحد أبدا، فيكون إيمان بعضهم و لو كانوا قليلين دليلا على أنّ الغشاء على القلوب إنّما حصل من أعمالهم.

و ممّا ذكرنا يعرف معنى الاستثناء في المقام، و قد أتى به لإثبات هذه الجهة و لنفي الإلجاء الّذي يستفاد من ظاهر كلامهم، فيرجع المعنى الى أنّهم بكفرهم و قتلهم الأنبياء و ارتكابهم سيئات الأعمال و توغّلهم في العصيان قد أفسدت أخلاقهم حتّى انطبعت تلك الآثار السيئة على قلوبهم، فلا يؤمنون لأنّ قلوبهم في غشاء صنعوه بأنفسهم، إلاّ من هداه اللّه تعالى و لم يصل الى هذه المرتبة من الطغيان، فيقبل الحقّ و يهتدي بنور الإيمان، و قد ذكر المفسّرون في المقام أقوالا كثيرة ذكرنا جملة منها في أمثاله فراجع.

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة: لا يؤمن إلاّ إيمانا قليلا، و هو الإيمان بموسى عليه السّلام، و لكن ذلك باطل؛ لأنّ الإيمان القليل بالمعنى الّذي ذكر لا اعتبار به عند القرآن كما عرفت في صدر هذه الآيات المباركة.

كما أنّ ظاهر هذه الآية الكريمة أنّها في صدد ذكر كلتا الطائفتين الكافرتين اللتين طبع على قلوبهم، و المؤمنين الّذين هم ليسوا كذلك.

قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً .

نوع آخر من الكفر الّذي ارتكبوه و هو الكفر بعيسى عليه السّلام و نسبة الفحشاء الى مريم العذراء الطاهرة، و البهتان: الكذب الّذي يبهت من يقال فيه و يدهشه و يحيّره، و هو من أقبح الكذب.

و إنّما وصف هذا البهتان بكونه عظيما إمّا لكونه قد نسب الى من كانت

ص: 116

منزلتها عظيمة عند اللّه تعالى، و قد اختارها اللّه و اصطفاها على نساء العالمين مع علمهم ببراءتها ممّا نسب إليها لظهور الكرامات الدالّة على براءتها منها، كتكليمهم عيسى عليه السّلام و هو في المهد صبيا، فقال: إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 30]، فأنكروا المعجزات كلّها و نسبوا الى مريم البتول عليهما السّلام بما هي بريئة منه و تجاهلوا منزلتها عند اللّه تعالى و لم يقدّروا قدرها.

و إمّا لأنّ الجزاء الّذي يترتّب على هذا البهتان كان عظيما، و قد كانوا هم السبب في ما حلّ بهم من الغضب و اللعنة.

قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ .

جريمة اخرى من جرائمهم الدالّة على كمال جرأتهم على اللّه تعالى و الاستهزاء بآياته و رسله و تماديهم في الكذب و الطغيان، و إنّما عبّر عزّ و جلّ :

وَ قَوْلِهِمْ على سبيل التبجح، و لبيان أنّه مجرّد قول يحكي عنهم لا حقيقة له، و هو بعيد عن الواقع.

و قوله تعالى: رَسُولَ اَللّهِ إمّا وصف لعيسى بن مريم، فيكون من جملة أقوالهم المحكيّة الرسالة تهكما و استهزاء بدعوته.

أو على سبيل المدح و الاختصاص للإشارة الى رفعة شأنه و عظيم منزلته و لبيان فظاعة عملهم و كمال جرأتهم على اللّه تعالى و نفي الألوهيّة المزعومة فيه.

أو أنّ اللّه تعالى وضع الذكر الحسن مقام ذكرهم القبيح له، فإنّهم قد وصفوه بأقبح الصفات.

قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ .

إبطال لما زعموه من قتلهم رسول اللّه تعالى عيسى ابن مريم، و الجملة في موضع الحال، أي: و الحال أنّهم لم يقتلوه و لم يصلبوه. و إنّما نفى عزّ و جلّ القتل و الصلب معا عنه عليه السّلام، لبيان النفي التامّ ، بحيث لا يشوبه شكّ و ريب فلم تصل أيديهم إليه بأي نحو من أنحاء القتل، و دفعا به لما قد يتوهّم من أن نفي مطلق القتل عنه عليه السّلام، لا ينافي أن يكون قتله غير عادي، فنفى عزّ و جلّ عنه جميع أنحائه.

ص: 117

و إيماء الى الاختلاف بينهم في كيفيّة قتله عليه السّلام، فبعضهم قالوا: إنّهم قتلوه صلبا، و بعض آخر قالوا: إنّهم قتلوه بغير صلب.

قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ .

تأكيد آخر على نفي جميع أنحاء القتل المزعوم عن عيسى عليه السّلام، فقد وقعت لهم الشبهة و التبس عليهم أمره فأخذوا غيره فقتلوه إمّا صلبا أو غير صلب، و اشتباه الأمر في اجتماع لم يكن منتظما و لم يعرف القاتل شخصية المقتول أمر عادي، فإنّه ربما يكون قد أخطأ من يراد قتله، أو كان الأمر إلهيّا لحفظ رسوله فأوقع الشبه عليهم و أمر رسوله بالخروج أو بعدم حضور ذلك الاجتماع، كما نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله محمّدا ليلة المبيت و اشتبه الأمر على المشركين.

و كيف كان، فاقصة معروفة في كتب التاريخ من أنّهم هجموا على ذلك الاجتماع الّذي حضر عيسى عليه السّلام فيه فأرادوا قتله، فألقى شبهه على غيره فقتلوه، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في سورة آل عمران فراجع، و يأتي أيضا في البحث التاريخي مزيد بيان.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ .

أي: و إنّ الّذين اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام رسالة و قتلا و غيرهما لفي تردّد و حيرة منه، فكلّ يدعي شيئا ما لهم به من علم ثابت إلاّ التخمين و اتباع لما يرتابه أنفسهم.

و الشكّ : هنا التردّد و الجهل، فيكون أخصّ من الظن، و إن كان يستعمل في بعض الأحيان ما يضاد اليقين، فيشمل الشكّ و الظن في اصطلاح أهل المنطق.

و الاختلاف من أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السّلام كبير، فاليهود زعموا قتله و إن اختلفوا في كيفيّة قتله. و بعض نفى القتل عنه رأسا و القرآن الكريم يصرّح به كما عرفت، و قد نقلت لنا كتب التأريخ كثيرا من أباطيلهم في شأن عيسى عليه السّلام.

و أمّا النصارى فأمرهم في نبيّهم أشدّ، فبعضهم ادّعى ربوبيّته عليه السّلام و أذعنوا للقتل، و لكنهم يقولون صلب الناسوت و صعد اللاهوت، و بعض منهم - و هو

ص: 118

اليعقوبيّة - نفوا القتل عنه عليه السّلام و قالوا: إنّه باق باتّحاد الناسوت مع اللاهوت، و صار طبيعة واحدة، فلم يبق له ناسوت مميّز حتّى يموت و الشيء الواحد لا يمكن أن يقال له مات و لم يمت.

و بعض المحقّقين يرى أنّ المسمّى بالمسيح اثنان، و أنّ المتقدّم المحقّ غير مقتول، و المتأخّر المبطل هو المصلوب، و التاريخ المعروف بالميلادي لم يعرف أنّه ضبط من ميلاد الثاني أو من ميلاد الأوّل، و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة.

و كيف كان، فقد نقل في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أنّ المسيح عليه السّلام قال لتلامذته: «كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة» - (متي: 26-31 و مرقس: 14-27) و مع تصريحه عليه السّلام لتلاميذه بأنّه لا خبر صادق في أمره في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى شكّ في صحّة ما قاله القرآن الكريم في حقّه.

قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ .

الاستثناء منقطع، و المراد من الظن في اصطلاح القرآن الكريم هو كلّ ما خالف الواقع، كما أنّ المراد من العلم هو الاطمئنان، و ليس المراد منهما ما هو المعروف عند المنطقيين، أي: ليس لهم ما يوجب اطمئنان النفس و اليقين إلاّ الحدس و التخمين.

قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً .

الضمير يرجع الى عيسى عليه السّلام، و فيه التأكيد لما سبق من نفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام و بعد أن أبطل مزاعمهم و أنّ كلّ ما قيل في شأنه هو ضرب من الحدس و التخمين، بل هم في شكّ منه، إذ لم يستندوا الى علم صحيح و لم يعتمدوا على حجّة قاطعة، فيأتي القرآن الكريم و يضع الحدّ الفاصل في هذا الأمر المهمّ ، و أنّه ينفي القتل عنه يقينا، و هو الخير اليقين الّذي ينبغي أن يعتمد عليه.

و قيل: إنّ الضمير في قَتَلُوهُ يرجع الى العلم، و المراد من قتل العلم هو تمحيصه و تخليصه من شائبة الشكّ و الريب، و قيل: إنّه يعود الى الظن، أي: ما قتلوا ظنهم يقينا، أي: لم يثبتوا فيه. و لا يخفى بعدهما.

ص: 119

قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ .

تقدّم ما يتعلّق بهذه الآية الشريفة، في قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران، الآية: 5]، و يستفاد من كلمة الاضرار أنّ الرفع إنّما كان بالبدن و الروح، لا بالأخير فقط كما يدّعيه بعض، فإنّه تعالى بعد أنّ نفى القتل و الصلب عن بدنه و أضرب عن جميع ما قيل في ذلك، فأثبت له الحياة و أنّه تعالى رفعه بكليهما معا يقينا، فلو خصّصنا الرفع بالروح فقط لما كان فيه فائدة جديدة و لم تكن ميّزة خاصّة لعيسى عليه السّلام، إذ أنّ روح كلّ مؤمن إنّما يصعد بعد التوفّي و الموت إليه عزّ و جلّ ، فيكون المراد من الرفع هو تخليصه من العذاب الّذي أزمع اليهود أن يوقعوه فيه، و لكن لن يعرفه كيفيّة الرفع من نفس الآية الشريفة، فلا بدّ من الرجوع الى السنّة المعصوميّة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في سورة آل عمران فراجع.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ الرفع معجزة اخرى له عليه السّلام، كسائر معجزاته و معجزات سائر الأنبياء عليهم السّلام الّتي أثبتها لهم عزّ و جلّ ، و لا بدّ من التسليم بها و إن لم نعرف حقيقتها، فلا يضرّ في هذه المعجزة الّتي أثبتها الكتاب العزيز له عليه السّلام أن لا نعرف حقيقة الرفع و كنهه بأي نحو كان، و المناط كلّه على ما يسبق إليه الظاهر و ما في السنّة الصحيحة الّتي وردت من المعصومين عليهم السّلام في تفسير الآيات الشريفة.

و الآية الكريمة أوضح دلالة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت فهو حي، فتكون قرينة اخرى على آية سورة آل عمران فراجع آية - 55 منها أيضا.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .

أي: يفعل اللّه ما يشاء و لا يغالب فيما يريده، حكيم في أفعاله و من حكمته أنّه أنقذ عبده عيسى عليه السّلام من أيدي اليهود و ألقى الشبه على غيره و سيجزي كلّ عامل بعمله.

و في الآية الشريفة التأكيد على ما ورد في الآيات السابقة في شأن عيسى عليه السّلام، و فيها الدلالة على حفظه له من أيدي اليهود.

ص: 120

قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ .

تأكيد آخر على حياة عيسى عليه السّلام و عدم موته و (إن) نافية بمعنى (ما)، و الجار و المجرور متعلّق بمحذوف يدلّ عليه الكلام و هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، أي: و ما أحد من أهل الكتاب و الضمير في «به» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و أمّا الضمير في «موته» فقد اختلف فيه فقيل - و هو المعروف بين المفسّرين - أنّه يرجع إلى (أحد) المقدّر، و عود ضمير الجمع إليه لا بأس به لكونه في معنى الجمع، فيكون المعنى:

و إنّ كلّ أحد من أهل الكتاب قبل أن تزهق روحه و يدركه الموت ينكشف له الحقّ فيؤمن بعيسى عليه السّلام أنّه عبد اللّه و رسوله، فاليهودي يذعن أنّه رسول صادق غير دعي لم يقتل و لم يصلب، و النصراني يعلم أنّه عبد اللّه و رسوله، فليس هو إله و لا ابنه و لا ثالث ثلاثة، و يكون عيسى عليه السّلام شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة، فيشهد للمؤمن منهم في حال الاختيار و التكليف بإيمانه كما يشهد على الكافر بكفره؛ لأنّه مبعوث و كلّ نبي شهيد على قومه قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 41]. و استدلّ على هذا القول بأمور.

منها: أنّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر، و تخصيص عموم الآية الشريفة بخصوص الموجودين حين نزول عيسى عليه السّلام، كما ذكره بعضهم تخصيص بلا دليل عليه.

و منها: ما أخرجه ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: «قال لي الحجاج: يا شهر، آية من كتاب اللّه تعالى ما قرأتها إلاّ اعترض في نفسي منها شيء، قال اللّه تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ و إنّي أوتى بالأسارى فاضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه - أي إذا قرب خروجها كما في رواية اخرى - ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه اللّه

ص: 121

تعالى، و أنّه ابن اللّه سبحانه، و أنّه ثالث ثلاثة عبد اللّه و روحه و كلمته، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. و أنّ اليهودي إذا خرجت نفسه ضربت الملائكة من قبله و دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته عبد اللّه و روحه، فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى عليه السّلام آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم. فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن علي، قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم اللّه تعالى ما حدثنيه إلاّ أم سلمة، و لكنّي أحببت أن أغيظه».

و هذا الحديث يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سينزل فيؤمن به الأحياء من أهل الكتاب حين نزوله، كما يدلّ على أنّ أهل الكتاب قبل نزوله عليه السّلام أيضا يؤمنون به حين موتهم لانكشاف الحقائق حين الموت و إن لم ينفعهم هذا الإيمان، لانقطاع التكليف حينئذ كما يدلّ عليه ردّ إيمان فرعون حين أدركه الغرق قال تعالى: حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [سورة يونس، الآية: 90-92].

و منها ما رواه ابن المنذر و غيره عن ابن عباس في تفسير الآية كذلك، فقيل له: أ رأيت إن خرّ من فوق بيت ؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أ رأيت إن ضربت عنقه ؟ قال: يتلجلج بها لسانه» و غير ذلك من الروايات الّتي تدلّ على هذا المعنى.

و المستفاد من مجموعها أنّها تحرّضهم على الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه مع انتفاء الجدوى، كما في آخر لحظات الانتزاع كما تقدّم.

القول الثاني: أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و المراد به إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السّلام عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فتختصّ الآية المباركة بخصوص الموجودين عند نزوله، و استدلّ عليه بجملة من الروايات.

ص: 122

منها: ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير و يمحو الصليب، و تجمع له الصلاة، و يعطى المال حتّى لا يقبل، و يضع الخراج، و ينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما».

و أشكل على هذا القول بأنّه تخصيص لعموم الآية الشريفة بالإحياء عند نزول عيسى عليه السّلام بلا دليل، بل هو خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّ على إيمان جميعهم، و أمّا الأخبار الّتي استدلّ بها على هذا المعنى فإنّها لم ترد مفسّرة للآية المباركة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الأخبار هذه بمجموعها يمكن الاستدلال بها، لا سيما بعد ما ورد في بعضها من استشهاد أبي هريرة على ذلك بالآية الكريمة، فلا يمكن الإعراض عنها.

و قد استشكل بعضهم على هذا المعنى أيضا بأنّه مبني على القول بأنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع الى السماء قبل وفاته.

و ردّ: بأنّه لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينة له.

و لكن المناقشة بضميمة روايات صحاح متعدّدة دالّة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع عن العذاب، لا تبقي مجالا لهذا الإشكال.

و قيل: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى اللّه تعالى - و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، بل بعيد عن سياقها كما هو واضح.

القول الثالث: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و هو بعيد جدا، فإنّه لم يجر ذكره صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك حتّى يعود إليه الضمير. نعم ورد ذلك في بعض الروايات و لكنّه ليس من باب التفسير، بل هو من ذكر بعض المصاديق كما هو شائع في الروايات الّتي وردت في بيان الآيات الشريفة.

و الحقّ هو رجوع الضمير الثاني «موته» إلى عيسى عليه السّلام، فتدل الآية المباركة على حياته عليه السّلام و إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السّلام، و إن كان إيمان بعضهم اختياريا و هم الموجودون عند نزوله، و إيمان بعضهم الآخر اضطراريا و هم الّذين

ص: 123

يموتون قبل نزوله عليه السّلام كما عرفت، و لا يقدح ذلك في دلالة الآية الشريفة بعد ظهور عمومها، و يمكن أن يستدلّ عليه امور:

الأوّل: أنّه الظاهر المتبادر من سياق الآية الكريمة، و إرجاع الضمير الثاني الى المبتدأ المقدّر يحتاج الى قرينة خاصّة لا سيما بعد رجوع الضمير الأوّل إليه عليه السّلام، و أفراد الضمير الثاني كما هو معلوم.

الثاني: أنّ وقوع هذه الآية الشريفة، بعد قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - الى قوله تعالى - وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، لا بدّ أن يكون لبيان معنى زائد عمّا في الآية السابقة، و هو أنّ الّذين يدعون قتله و صلبه لا بدّ أن يذعنوا بأنّه حي لم يمت و يؤمنون به و لو كان إيمانهم اضطراريا.

الثالث: أنّ ذيل الآية المباركة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يدلّ على شهادة عيسى عليه السّلام عليهم جميعا يوم القيامة، و لا بدّ أن تكون شهادته عليه السّلام عامّة شاملة لجميع أفراد أهل الكتاب من حين بعثته عليه السّلام الى حين موته، فإذا كانت هذه الآية الكريمة تدلّ على إيمانهم جميعا به قبل الموت ينتج أنّه حي، ثمّ يمت حتّى تتمّ دلالة الآيتين المباركتين - الصدر و الذيل - معا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى حاكيا عنه عليه السّلام في خصوص الشهادة: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة، الآية: 116-117]، فإنّه يدلّ على أنّ شهادته كانت في أيّام حياته فيهم قبل توفيه، و ذيل الآية الشريفة المتقدّمة يدلّ على أنّ شهادته كانت على الجميع، فلو كان المؤمن به هو الجميع - كما يدلّ عليه صدر الآية المتقدّمة - فينتج أنّه لم يتوف إلاّ بعد الجميع، فهو حي و لم يمت و سيعود إليهم حتّى يؤمنوا به، فإن أدركه أحد منهم كان إيمانه اختياريا و إلاّ فيؤمنون به عند موته.

ص: 124

الرابع: جملة كثيرة من الروايات الّتي تدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود إليهم فيؤمن به أهل الكتاب، و يأتي نقل بعضها في البحث الروائي إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: أنّ هذا المعنى يجمع القولين المزبورين، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ أحد من أهل الكتاب يؤمن بحقيقة عيسى عليه السّلام قبل الموت و إزهاق روحه و إن كان إيمانه اضطراريا لا ينفعه، لانقطاع التكليف حينئذ - كما عرفت - و هو مفاد القول الأوّل، كما يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود و يؤمن به من كان حيّا من أهل الكتاب قبل موته عليه السّلام، و هذا هو مفاد القول الثاني.

و هذا المعنى الّذي استظهرناه يدلّ على إيمانهم جميعا قبل موته عليه السّلام، فمن كان حيا عند نزوله، فإيمانه مبني على اختياره، و إلاّ فهو يؤمن به عند موته لانكشاف الحقائق حين الموت، ففي الحديث: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا»، أي: إذا قرب خروج الروح تظهر الحقائق و تنكشف الواقعيات فيندم على ما فعل و قصّر، و لكن لا ينفعه الندم.

ثمّ إنّه يمكن أن يستشكل على هذا المعنى بوجوه، منها: ما تقدّم في القول الثاني و قد أجبنا عنه.

و منها: أنّ بعض الآيات المباركة الّتي وردت في مواضع متفرّقة ربما يستفاد منها خلاف ذلك، فإنّ قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً يدلّ على أنّ غلف القلوب هو نقمة عظيمة كتبها اللّه تعالى عليهم، لسوء أفعالهم و قبح صفاتهم و فساد أخلاقهم كما عرفت في تفسيره آنفا، فلا يؤمن هذا الجمع بما هو جمع الى يوم القيامة.

و لكن ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء الإيمان منهم البتة، بل الإيمان يتحقّق منهم و لو كان المؤمنون قليلا من كثير، يضاف الى ذلك أنّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يدلّ على تحقّق

ص: 125

الإيمان منهم قبل الموت، سواء كان إيمانا مقبولا أم لم يكن بأن كان اضطراريا، فهو يدلّ على وقوع أصل الإيمان منهم.

كما أنّ قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية: 55] يدلّ على أنّ من يكفر بعيسى عليه السّلام منهم من هو باق الى يوم القيامة، و إن كانوا مغلولبين من قبل المؤمنين به.

و لكن الإنصاف أنّه لا يدلّ على بقائهم بعنوان كونهم أهل الكتاب و كافرين بعيسى عليه السّلام بالخصوص، بل الآية الشريفة تدلّ على أن الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام سوف يكون لهم منزلة و شوكة بعد نزوله و إيمان الناس به و اتّحاد الأديان كلّها في الاعتقاد، و أنّهم فوق الّذين كفروا الّذين يعاندون الحقّ .

كما أنّ الاستدلال بقوله تعالى: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة، الآية: 117] على بقاء الكافرين بعد توفي عيسى عليه السّلام غير وجيه؛ لأنّ ظاهر الآية الشريفة تبيّن أنّه نبي مبعوث الى الناس جميعا، و أنّه منزّه عمّا نسب إليه، سواء كان من اليهود أم النصارى أم غيرهم، فهو بريء ممّا نسب إليه الناس مطلقا، فتكون شهادته على أعمالهم جميعا، و رقابته عزّ و جلّ بعد توفيه عليه السّلام لم تختص بأهل الكتاب بل الناس كلّهم. و أنّه سيبقى الكافرون لكن لا بعنوان كونهم من أهل الكتاب فقط.

و المتحصّل من جميع ذلك: أنّ الآية الشريفة في المقام بضميمة سائر الآيات الكريمة تدلّ على أنّ جميع أهل الكتاب بل جميع الناس سوف يؤمنون بعيسى عليه السّلام، و أنّه حي لم يمت و يعود فيؤمن به الأحياء، فتتّحد الأديان كلّها، و أمّا من مات من أهل الكتاب قبل نزوله فإنّه يؤمن بحقّيته عند موته، و تقدّم ما يتعلّق بعدم موت عيسى عليه السّلام في سورة آل عمران فراجع، و سيأتي في البحث الروائي و التاريخي ما يتعلّق به.

ثمّ إنّ الزمخشري ذكر في المقام أنّ الآية الكريمة يجوز أن يراد منها أنّه لا يبقى

ص: 126

أحد من جميع أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به على أنّ اللّه تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان و يعلّمهم نزوله و ما انزل إليه، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.

و ما ذكره قول بالرجعة، و قد دلّت الأدلة الكثيرة على ثبوتها و تحقّقها، لكن لها حدودا و قيودا مذكورة في محلّها، و ليست هي بهذا العموم و الشمول الّذي ذكره.

و كيف كان، فصدور مثل هذا الكلام عن مثل الزمخشري لدليل على الاعتقاد بالرجعة الّتي ينكرها جمع كثير من علماء الجمهور، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضع المهمّ إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً .

الضمير في «يكون» يرجع الى عيسى عليه السّلام، أي: و يوم القيامة يكون عيسى عليه السّلام شهيدا على أهل الكتاب جميعا ممّن آمن به إيمانا صادقا، فيشهد له كذلك، و من كان إيمانه اضطراريا لا ينتفع به يكون شهيدا عليهم.

و هذه الآية المباركة قرينة اخرى على أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا .

تفريع على ما سبق، و الباء للسببية، و التنوين في فَبِظُلْمٍ للتفخيم، و التنكير للتهويل، و إبهام الظلم و هو بدل ممّا تقدّم من مخازيهم و فجائعهم، و التعبير عن اليهود بهذا العنوان إيذانا لشناعة فعلهم و عظمة ظلمهم، كما هو دأبه تبارك و تعالى عند تقريعهم و تذكيرهم بمظالمهم و فجائعهم التعبير به كما في غير هذا المقام أيضا، و فيه تذكير لهم بأنّهم هم الّذين تابوا من عبادة العجل و المعاصي و أخذ منهم المواثيق.

و المعنى: أنّه بسبب ظلمهم العظيم الخارج عن حدود الوصف و الأشباه و النظائر، حرّمنا عليهم الطيبات بعد أن أحلّها اللّه تعالى عليهم.

قوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ .

فقد أحلّ عزّ و جلّ كلّ الطيبات لهم، كما يدلّ قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [سورة آل عمران، الآية:

ص: 127

فقد أحلّ عزّ و جلّ كلّ الطيبات لهم، كما يدلّ قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [سورة آل عمران، الآية:

93].

و في تقديم فَبِظُلْمٍ على حَرَّمْنا للدلالة على الحصر، أي: أنّ اللّه لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات إلاّ بسبب مظالمهم الفجيعة، و قد حكي عزّ و جلّ ما حرّم عليهم في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الانعام، الآية: 147]، و قد ورد في التوراة ذكر بعض ما حرّم عليهم من حيوانات البرّ و البحر أيضا.

و الآية الشريفة تدلّ على أنّ كلّ معصية و ظلم يصدر من الإنسان له أثر خاصّ به، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا أم يكون كلاهما معا، و من تلك الآثار أنّه يوقع صاحبه في شدّة من التكليف، فإذا كان الظلم نوعيّا صادرا من الامة، فإنّه يوجب رفع التوسعة عليهم، ففي الحديث: «لا تكونوا كبني إسرائيل، شدّدوا فشدّد اللّه عليهم».

قوله تعالى: وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً .

عطف على قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ المتكرّر و إعراضهم المستمر، و الصدّ الّذي هو من مظالمهم الفجيعة، فقد صدّوا عن سبيل اللّه بعصيانهم لأحكام اللّه تعالى و تعليمات موسى عليه السّلام و معاندتهم له و إعراضهم عن أنبيائه عزّ و جلّ و تكذيبهم لهم.

قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ .

ظلم آخر من مظالمهم الشنيعة، و هو يدلّ على هتكهم حرمات اللّه تعالى، فإنّه عزّ و جلّ حرّم عليهم الربا كما حرّمه علينا، و لكنّهم خالفوه و أخذوا الربا حتّى عرفوا به في مرّ التاريخ.

قوله تعالى: وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ .

أي بسبب أكلهم أموال الناس بالوجه المحرّم، كالرشوة و الخيانة و غيرهما من وجوه الظلم.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

ص: 128

عطف على حَرَّمْنا و هو بيان لجزائهم في الآخرة بعد بيان الجزاء في الدنيا، فإنّهم استوجبوا بسبب ظلمهم جزاءين..

أحدهما: في الدنيا، و قد حكى اللّه تعالى بعضه، من تحريم ما أحلّه اللّه تعالى من الطيبات. و هو عامّ يشمل جميع الّذين هادوا من الظالمين و غيرهم.

و الآخر: في الآخرة، و هو خاصّ بالكافرين منهم، و هو العذاب الأليم، و الاعتداد: التهيئة.

ص: 129

بحوث المقام

بحث أدبي

«جهرة» في قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً في موضع الحال إمّا من المفعول الأوّل أو من المفعول الثاني، أي: معاينيين، و لا ضير في ذلك لاستلزام كلّ واحد للآخر، و قيل: يتعين الثاني لقربه منه.

و «تعدوا» في قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا بمعنى: لا تتجاوزوا، و أصله (تعدوا) بواوين، فاستثقلت الضمّة على لام الكلمة فحذفت فالتقى الساكنان فحذفت الواو الأولى.

و قرأه بعضهم: (لا تعدّوا) بفتح العين و تشديد الدال، و هو افتعال من العدوان، فأريد ادغام تاؤه في الدال فنقلت حركتها الى العين و قلبت دالا و أدغمت.

و أمّا قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ، فقيل: في الكلام مقدّر و الجار و المجرور متعلّق به، و الباء للسببية. و «ما» مزيدة لتوكيدها، و يفيد سياق الجملة الحصر، و جوّز بعضهم أن تكون (ما) نكرة تامّة، و «نقضهم» بدلا منها.

و قيل: إنّ المقدّر (لعنّاهم) مؤخّرا لوروده مصرّحا به.

و ذهب جمع الى أنّ الجار و المجرور متعلّق «بحرّمنا» الآتي، فيكون قوله تعالى فَبِظُلْمٍ بدلا من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ .

و ردّه بعضهم بأنّ فيه بعدا، لكثرة الفواصل بين البدل و المبدّل منه؛ و لأنّ المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخّر بعض أجزاء السبب للتحريم، و ذكروا وجوها أخر في المقام، فراجع المطولات.

و أمّا قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ جملة معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه، مسارعة لردّ زعمهم الفاسد.

ص: 130

و «قليلا» في قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً قيل إنّه منصوب على أنّه نعت لمصدر محذوف، أي: إلاّ إيمانا قليلا. و قد عرفت فساد هذا الاحتمال آنفا، لأنّ الإيمان بالمعنى الّذي ذكروه - و هو الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر - لا اعتبار به، كما صرّح به في الآيات السابقة. و الصحيح أنّه منصوب على الاستثناء من ضمير «لا يؤمنون».

و أما «بهتانا» في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً منصوب إمّا على أنّه مفعول به ل قَوْلِهِمْ ، و إمّا أن يكون صفة لمحذوف، أي: قولا «بهتانا».

و «يقينا» في قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً صفة للمقدّر، أي: ما قتلوه قتلا يقينا، و قيل: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف، و التقدير: (تيقنوا ذلك يقينا)، و لكنّه تطويل بلا طائل تحته.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أنّ هذا السؤال الّذي يدلّ على عظيم جرأتهم على اللّه تعالى هو المقتضي للسؤال الثاني، و هو تنزيل كتاب من السماء، كما يدلّ على أنّ التجرّي على اللّه تعالى و رسله العظام ارتكز في نفوسهم من ذلك السؤال العظيم، و لعلّه لأجل هذا صار أكبر من السؤال الثاني.

و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ للإنسان مراقبة أقواله و أفعاله، فإنّه ربّما يوجب قول أو فعل سلب التوفيق عنه و يخلّف أثرا كبيرا على النفس و لو لم يظهر إلاّ بعد حين.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأقوال تكشف عن نوايا النفوس و مخفيات القلوب، مهما حاول الشخص إخفاء منوياته و الستر على بواطن نفسه إلاّ أنّه قد

ص: 131

تظهر على فلتات لسانه، فتؤدي به الى الهلاك و الخسران، و تخلّف آثارا و خيمة على الذرية و الأعقاب، كما حكى عزّ و جلّ عن اليهود في الآيات المباركة المتقدّمة، فإنّ كلّ ما حلّ بهم من البوار و الخسران إنّما كان نتيجة أقوال السلف و أفعالهم الشنيعة، كما عرفت آنفا.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أنّ النكوص عن الطاعة و الإعراض عن متابعة الرسل و الأنبياء و الإصرار على المعاصي و الآثام، كلّ ذلك يوجب التشديد في التكليف و تفويض الأمر الى الرسل في إنزال العقاب، و تدلّ عليه آيات كثيرة، و تقدّم في قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ بعض الروايات الدالّة على ذلك أيضا، فإن إيتاء موسى عليه السّلام السلطان المبين إنّما كان بعد العصيان و سؤال الرؤية الّتي تدلّ على كفرهم و اتّخاذ العجل معبودا، فقد فوّض اللّه تعالى إليه ما يريد الأصلح لامته.

الثالث: قد ورد في هذه الآيات الشريفة النازلة في حقّ اليهود و أحوالهم لفظ الميثاق ثلاث مرّات، و استعمل فيهم في غير المقام كثيرا، و لعلّ الوجه في ذلك إمّا للإعلام بحقيقة حالهم بالنسبة الى العهود و المواثيق حتّى عرفوا بنقضها، فلا يغتر غيرهم بهم.

أو لأجل كثرة إصرارهم على المعاصي و ارتكاب الآثام، فشدّدوا على أنفسهم بإحكام العهود و تشديد المواثيق عليهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم، فيعتبر غيرهم من الأمم منهم، فلا يضيّقوا على أنفسهم بالإصرار على المعاصي حتّى لا يضيّق اللّه عليهم.

أو لأجل أنّ شريعة موسى عليه السّلام الّتي هي واحدة من الشرائع الإلهيّة المعروفة تعتبر الركيزة الاولى في بقية الشرائع، بل هي أولى شريعة كاملة بعد شريعة نوح عليه السّلام، و قد نزلت في مرحلة ما من النضج الفكري للإنسانيّة، و لذا عرفت هذه الشريعة بشريعة الوصايا و المواثيق، و أمّا شريعة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله فقد عرفت بشريعة الكمال و الاستكمال، لأنّها احتضنت جميع الشرائع السماويّة، لا سيما

ص: 132

الحنيفيّة الّتي أقرب الى الفطرة، و أمّا شريعة عيسى عليه السّلام فقد كانت امتدادا لشريعة موسى عليه السّلام.

الرابع: يستفاد من القيد في قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أنّ قتل الأنبياء عليهم السّلام حرام في جميع الوجوه و الحالات، و أنّه لا يكون حقّا مطلقا، فإذا كان القتل حراما و باطلا لأنّه غير حقّ ، فيشمل الأذية و الإهانة و نحوهما؛ لأنّهما غير حقّ أيضا، فهي حرام و باطل بالنسبة إليهم.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ على نفي القتل الّذي زعمه اليهود و نفي الصلب الّذي يزعمه النصارى، و أنّ القتل أو الصلب كان في حقّ شبيه عيسى عليه السّلام، و لعلّ السرّ في هذا التشبيه هو أنّه لو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس، لاستحكمت شبهة الألوهيّة فيه و سرت إلى بعض المؤمنين به.

كما أنّه لو غيّب عنهم المسيح عليه السّلام و رفع الى السماء في الخفاء من دون إلقاء الشبه على غيره، لاتّهموا أهله و المؤمنين به بإخفائه فعمّهم البلاء و كثر فيهم القتل و التنكيل و فضيحة النساء طلبا لإظهاره، و لعلّه لذلك عقّب سبحانه هذه الآية الشريفة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، و هذا هو المكر الّذي أثبته لنفسه عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 54]، فإنّ مكره و تدبيره الخفي لا يكون إلاّ جاريا على الحكمة، و هو القوي العزيز الّذي لا يغلبه مكر الماكرين.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ أنّ الغاية من رفعه هو تكريم السيد المسيح برفعه من الأرض الّتي فيها الكافرون و الفساق و تطهيره منهم الى السماء الممحضة لتسبيحه عزّ و جلّ ، فكنّى سبحانه و تعالى عن ذلك برفعه إليه، و إلاّ فإنّ اللّه جلّ شأنه لا يخلو عنه مكان، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية:

55].

ص: 133

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ على حياة السيد المسيح عليه السّلام و أنّه حي، و هو في مكان بعيد عن متناول أيدي الكافرين و المعاندين، و سينزل فيؤمن به أهل الكتاب الأحياء فتتّحد الأديان، و لعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية: 55]؛ لأنّ النصارى الّذين يدعون الإيمان به عليه السّلام قد أشركوا باللّه العظيم و ألّهوا المسيح و ثلّثوا الآلهة فلم تبق لهم شريعة، و أمّا اليهود فحالهم معروفة و قد حكى اللّه تعالى عنهم في مواضع متفرّقة، فلم يبق من الّذين اتّبعوه على دين الحقّ سوى ملّة إبراهيم عليه السّلام، و هم المؤمنون الموحدون حقّ التوحيد من قومه و من بعدهم المسلمون بدعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهؤلاء فوق الّذين كفروا مستمرين الى يوم القيامة و هو يكون شهيدا عليهم، فيحكم على المؤمنين بإيمانهم و على الكافرين بكفرهم.

الثامن: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الرجعة الّتي هي رجوع بعض المؤمنين و بعض الكافرين عند ظهور مهدي هذه الامة [عجل اللّه تعالى فرجه الشريف]، نظرا لعموم قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ الشامل للأحياء الموجودين حين نزول المسيح عليه السّلام و بعضا من غيرهم الذين ماتوا على الكفر.

و كيف كان، فالرجعة هي من الأمور الّتي ثبتت بأدلّة كثيرة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: يدلّ سياق قوله تعالى: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً على أنّ سؤالهم الرؤية لم يكن لأجل الشوق و لا لألم الفراق، و لا لزيادة اليقين و نحو ذلك من الصفات الحسنة و الغايات المحمودة، بل كان عن عناد و لجاج و طغيان.

ص: 134

بحث روائي

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ أنّه نزل في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه المعصومين، فأقرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنكروا أمير المؤمنين عليه السّلام وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أي: ينالوا خيرا.

أقول: هذه الرواية و أمثالها كلّها من باب الجري و التطبيق و بيان أكمل المصاديق.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني في نقضهم ميثاقهم.

أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و قد أخذ اللّه تعالى منهم ذلك لأجل إكمال الحجّة عليهم؛ لأنّهم كانوا كثيرا ينقضون العهود، فأكّده سبحانه و تعالى بالميثاق، و مع ذلك نقضوه بكفرهم بآيات اللّه و قتل الأنبياء فحلّ عليهم العذاب.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ قال: «هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء و إنّما قتلهم أجدادهم و أجداد أجدادهم فرضوا هؤلاء بذلك، فألزمهم اللّه القتل بفعل أجدادهم، فكذلك من رضي بفعل فقد لزمه و إن لم يفعله و الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة البقرة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فهؤلاء لم يقتلوهم و لكنّهم رضوا بفعل آبائهم فلزمهم قتلهم.

أقول: لعلّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من رضي بفعل قوم حشر معهم» مأخوذ من هذه الآيات الشريفة، و تقتضيه القاعدة أيضا؛ لأنّه نوع من التأييد و أنّ العقل يحكم بأنّ تأييد الظلم ظلم و قبيح، فإنّ نفس المقدمات الّتي كانت موجودة في نفس الفاعل و بها حصل الفعل من العلم، و الاختيار، و رفع الموانع و الغرض المزعوم، كلّها

ص: 135

موجودة في نفس هذا الشخص، و إنّما لم يتحقّق الفعل خارجا لأجل ظروف خاصّة يترقّب فرصة رفعها حتّى يوجد الفعل، و يشمله قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يحشر الناس حسب نياتهم».

إن قلت: ثبت في باب التجرّي أنّه لا عقاب على الفعل المخالف للواقع، فكيف بالنية ؟! و أنّ الثواب و العقاب بيده تعالى، فجعل الثاني على الواقع و الأوّل أعمّ كما يدلّ عليه كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة.

قلت: هذا في الأحكام الفرعيّة و لا يجري في العقائد.

و ثانيا: أنّ المقام ليس من باب التجرّي أصلا؛ لأنّ حقيقته العلم - أو الاطمئنان المنجز شرعا أو عقلا - المخالف للواقع المتعلّق بالموضوعات الخارجيّة على تفصيل مذكور في علم الأصول، راجع كتابنا [تهذيب الأصول].

و ممّا ذكرنا ظهر دفع ما يقال: من أنّ العقائد هي أفعال الجوانح، فلا مانع من جريانه فيها كما في أفعال الجوارح، فإنّ العقيدة ليست موضوعا خارجيا، و إنّ الإيمان يدور مدارها.

و كيف كان، فإنّ المقام عناد مع الواقع - و الجهل و العلم أمران متضادان - أي: انتصار للباطل و تضييع للحقّ مع العلم و الاختيار و ذلك مبغوض عنده تعالى، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالمقام.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ، قال: إن تقرأ هذه الآية: «قالوا قلوبنا غلف يكبتها الى أدبارها».

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على التفسير، أي: تفسير هذه الآية هكذا، و إلاّ تدلّ الرواية على التحريف الّذي تنكره الإماميّة بل المسلمون، و قد دلّت روايات على صون التنزيل عن يد التحريف، و تعرّضنا لهذا البحث في المقدّمة للتفسير الّتي هي قيد التدوين نسأل اللّه تبارك و تعالى التيسر و التسهيل.

و في العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه

ص: 136

عزّ و جلّ : خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ قال: الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال اللّه عزّ و جلّ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً .

أقول: تقدّم أنّ الطبع و إن كان منه تعالى لأنّه نحو عقوبة منه على العبد إلاّ أنّه باختياره كما اختار الكفر، فالمقدّمات أو الأسباب من العبد و إيجاد المسبّب عليها منه تعالى، و تقدّم ما يتعلّق بالاستثناء.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً أي: قولهم: إنّها فجرت.

أقول: و عن ابن عباس قال: «رموها بالزنا». و كيف كان فالرواية تدلّ على شدّة عداوة اليهود مع النصارى، حتّى بلغت باتّهام السيدة العذراء والدة المسيح اتهاما عظيما.

و في العيون بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السّلام في حديث: «ألم ينسبوا مريم بنت عمران الى أنّها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف ؟!».

أقول: لعلّ الإمام عليه السّلام في مقام بيان أنّ الكافرين فرّطوا في الطغيان و تمادوا فيه، فقد افتروا على جميع المقدّسات حتّى بالنسبة الى الباري جلّ شأنه، قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 30]، فكيف بالأنبياء و الأوصياء الأمثل فالأمثل، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة.

و أخرج البخاري في تاريخه و الحاكم عن علي عليه السّلام قال: «قال لي النبي صلّى اللّه عليه و آله:

إنّ لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتّى بهتوا امه، و أحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الّذي ليس له».

أقول: هذا شأن كلّ ولي، فكيف بسيد الأوصياء و إمام العارفين، فقد شقي فيه فرقتان، أهل الإفراط و أهل التفريط، فمن أنزله عن مقامه الّذي جعله اللّه تعالى

ص: 137

له و أنكره فهو شقي، و من رفعه عن ذلك المقام بالغلو و عظّمه بأزيد ممّا وصفه اللّه تعالى فهو إفراط و معتقده كافر فهو في النار.

ثمّ إنّ الروايات الواردة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في فضل علي عليه السّلام فوق حدّ التواتر بكثير، مروية بطرق مختلفة عن العامّة و الخاصّة، و ليست الروايات من باب التمجيد و الترغيب، و إنّما هي من باب إظهار الحقيقة و الواقع و إعلام الحقّ الساطع، و سيأتي ما يتعلّق بها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و تقدّم ما في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: حدثني أبي عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب اللّه قد أعيتني، فقلت: أيّها الأمير أية آية هي ؟ فقال: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، و اللّه إنّي لآمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة الى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهودي و لا غيره إلاّ آمن به قبل موته و يصلّي خلف المهدي عليه السّلام، قال:

و يحك أنّي لك هذا؟ و من أين جئت به ؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، فقال: و اللّه جئت بها من عين صافية».

أقول: إنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة أنّ الأديان السماويّة النازلة بواسطة الأنبياء عليهم السّلام على وجه هذه البسيطة، إنّما هدفها إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و سوقها إلى السعادة و ترقيتها؛ للوصول الى أسمى الفضائل و منتهى الكمال اللائق من الربّ الجليل في إفاضته على من يعمّرها، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 66]، فإن لم يكن كذلك تكون الغاية حينئذ ناقصة و النقص في تعالى مستحيل، فالغاية لا بدّ منها.

و هذا الهدف تحقّق في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مع ما طرأ عليه من الكدر و الاتعاب

ص: 138

و الآلام - بل هذه السنّة جارية في كلّ عصر من حياة الأنبياء عليهم السّلام - و لكن بعد ارتحاله و ارتحالهم الى الملأ الأعلى لم يبق ذلك مع أنّه لا بدّ و أن يتحقّق و يستمر، و إلاّ يستلزم الخلف المذكور، فتطبيق القوانين الإلهيّة على عامّة سكنة هذه الأرض ممّا لا بدّ منه، و لا يتحقّق ذلك إلاّ بإشراف شخص كامل من جميع الجهات لائق، مؤيّد، مرتبط بالسماء، يعرفه جميع الأنبياء، فهذه الصفات لا تجتمع إلاّ في مهدي هذه الامة، فبه يملأ الأرض عدلا و ينشر القسط فيها، و يرفع الظلم عنها، و يهبط المسيح من السماء حينئذ و يقتدي بداعي اللّه تعالى بعد ما أشرقت الأرض بنور ربّها و تحقّقت الأهداف السماويّة، فلا بدّ من مهدي هذه الامة و هبوط المسيح من السماء للهدف المنشود. و للكلام تتمّة يأتي التعرّض له في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما اخترناه في التفسير، فراجع و لا حاجة للتكرار.

ثمّ إنّ السيوطي ذكر في الدرّ المنثور في ضمن الآية الشريفة وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ رواية عن شهر بن حوشب أيضا، و تقدّمت الرواية في التفسير و هي متّفقة في أصل المضمون مع السابقة و إن اختلفت في بعض الجهات و هو لا يضرّ، سواء كانتا من باب التعدّد في القضية أم غير ذلك.

و في الدرّ المنثور عن ابن حبان عن أبي هريرة: انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «الأنبياء إخوان لعلات أمهاتهم شتى، و دينهم واحد، و إنّى أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنّه لم يكن بيني و بينه نبي، و أنّه خليفتي على امتي، و أنّه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوا، رجل مربوع، الى الحمرة و البياض، عليه ثوبان ممصران، كأنّ رأسه يقطر و إن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يدعو الناس الى الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه الملل كلّها إلاّ الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه المسيح الدجال، ثمّ تقع الامنة على الأرض حتّى ترتع الأسود مع الإبل، و النمار مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و تلعب الصبيان بالحيات لا تضرّهم. فيمكث أربعين سنة ثمّ يتوفّى و يصلّي

ص: 139

عليه المسلمون و يدفنوه.

أقول: أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الأنبياء إخوان لعلات»، أي: أمهاتهم مختلفة و أبوهم واحد، فإنّ أكثرهم يرجعون الى إبراهيم عليه السّلام، و في حديث آخر: «الأنبياء أولاد علات»، أو لعلّه إشارة الى أن إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة حسب السير الاستكمالي، و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «عليه ثوبان ممصّران»، أي: الثياب الّتي فيها صفرة خفيفة.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما ذكرنا، و ذيل الحديث يدلّ على عموم ما دل أنّ كلّ حي يذوق طعم الموت إلاّ الحي القيوم.

و عن البيهقي في الأسماء و الصفات: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم».

أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا. و الأحاديث في ظهور المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن الفريقين متواترة، و قد جمع صاحب كتاب (كنز العمال) المتقي الهندي تلك الروايات في كتاب خاصّ ، كما أنّ الروايات في نزول عيسى عليه السّلام عند ظهور المهدي مستفيضة بين الفريقين، فلا يبقى مجال للشكّ في كلّ منهما.

و في تفسير العياشي عن الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه:

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية و أمثالها على محامل؛ لأنّها لا توافق ما تقدّم من الروايات، و مخالفة لسياق الآيات كما ذكرنا، و لعلّ مراده عليه السّلام - و اللّه العالم - أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام حسب ما يريده الربّ جلّت عظمته يستلزم الإيمان برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [سورة الصف، الآية: 6]، فيظهر

ص: 140

للكتابي حقيقة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما يظهر له أنّ عيسى عليه السّلام نبي من أنبيائه تعالى و أنّ شريعته كسائر الشريعة الإلهيّة الّتي هي على حقّ ، و أنّها في طريق الاستكمال و الكمال حسب ما تقتضيه الظروف و الأعصار. إذا لا منافاة بين الروايات، و قد تقدّم منّا مكرّرا أنّ الأديان السماويّة إنّما نزلت لأجل إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و استكمالها، و اختلافها إنّما يكون حسب اللياقة و الاستعداد، و إلاّ فالواقع و الحقيقة لا اختلاف فيها.

و في تفسير العياشي أيضا عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: «في قول اللّه تعالى في عيسى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: تقدّم الوجه في ذلك من أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام يستلزم الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ شريعة عيسى عليه السّلام الواقعيّة لا تخالف شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأجل مصالح كثيرة، و أنّ المؤخّر من الأديان امتداد لما سبق منها.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: «ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلاّ رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا من الأولين و الآخرين».

أقول: الإمام عليه السّلام في مقام التشبيه و التمثيل، و لا يستفاد منها أنّه في مقام التطبيق و التفسير، و قد دلّت روايات كثيرة على أنّ المؤمن يرى أولياء اللّه تعالى عند نزع الروح أو في عالم البرزخ.

و في تفسير العياشي أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقال: «هذه نزلت فينا خاصّة، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تاللّه لقد آثرك اللّه علينا».

أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب

ص: 141

أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب الجري، و المراد من قوله عليه السّلام: «فينا نزلت خاصّة» أنّ الجري و التشبيه ينطبق عليهم خاصّة، و غيرهم لا يمكن له التمثيل بالآية و التخصيص بولد فاطمة عليها السّلام؛ لأنّ فيهم من كان يرغب في الإمامة أو كان يدّعيها، و الإمامة منحة إلهيّة يهبها لمن له الأهليّة لها، و حين الموت يقرّ للإمام المعصوم و يعترف بإمامته، فإنّ الحقائق تنكشف في ذلك الوقت كما ثبت في محلّه.

و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوا عيسى عليه السّلام بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحر و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفوه و امه، فلما سمع عيسى عليه السّلام ذلك دعا عليهم فقال: «اللهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ امي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أمير هم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام، فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة، فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه تعالى شبهه عليه فقتل و صلب».

أقول: اختلفت الروايات في الرجل الّذي القي عليه شبه عيسى عليه السّلام، ففي بعض الرويات أنّه الرجل الّذي ينافق عيسى عليه السّلام فقتل و هم يظنّون أنّه عيسى عليه السّلام، و في بعضها أنّه طيفانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فلما خرج ظنّوا أنّه عيسى عليه السّلام فأخذوه و قتل. و قيل غير ذلك. و هذا الاختلاف طبيعي و لم يكن مستبعدا؛ لأنّه يحصل في المجتمعات الّتي لا يسيطر عليها النظام و لا الحكم، فعند ما يفقد القانون هيمنته و يحصل الهرج و المرج و يريد كلّ حزب أو فئة أن يأخذ السلطة، ترى أنّ البريء يؤخذ عوض المجرم و يشتبه العامل بغيره، فالاشتباه غير عزيز، و لا جدوى في تعيين المشتبه بالذات بعد ما عرفت أنّ أصل التشبيه كان من الخوارق.

ص: 142

و في رواية عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً قال: «خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ و أعوذ باللّه إن تدركوهن:

1 - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتّى يعلنوا بها إلاّ فشافيهم الطاعون، و الأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا.

2 - و لم ينقصوا الكيل و الميزان إلاّ أخذوا بالسنين و شدّة المؤنة و جور السلطان عليهم.

3 - و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ منعوا القطر من السماء، و لو لا البهائم لم يمطروا.

4 - و لم ينقضوا عهد اللّه و عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ سلّط اللّه عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم.

5 - و ما لم يحكم أئمتهم بكتاب اللّه و يتخيّروا فيما أنزل اللّه، إلاّ جعل اللّه بأسهم بينهم».

أقول: يستفاد منها أنّ الخصال السيئة و الصفات المذمومة لها آثار وضعيّة، و المعروف بين أهل العرفان: «ارتكاب المحظورات يستلزم تحريم المباحات»، و عن بعضهم - بل جرّب ذلك - من أنّ الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة.

ثمّ إنّ الآثار قد تعمّ و إن كان سبب وجودها أشخاصا معنيين، و قد تتّصف بالشدّة و الضعف.

و في الكافي بإسناده عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه و خرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم لمزارعيه و أكرته، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني: لحوم الإبل و البقر و الغنم، و قال: إنّ إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيّج عليه وجع

ص: 143

الخاصرة فحرّم على نفسه لحم الإبل، و ذلك من قبل أن تنزّل التوراة لم يحرمه و لم يأكله».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ قلّة الزرع و رفع البركة نحو عقوبة دنيويّة على ترك الواجب، و لعلّ المراد من قوله عليه السّلام: «خرج زرعه كثير الشعير» كناية عن قلّة الحنطة؛ لأنّه تطلق على مساحة حدّها ست شعرات من شعر البغل، أو من باب التنزيل.

و كيف كان، فالرواية من باب الجري و التطبيق.

بحث قرآني

تدلّ الآيات الشريفة على ذمّ أهل الكتاب و تأنيبهم و التشنيع على اليهود منهم خاصّة؛ لكثرة جرائمهم و فظاعة مظالمهم كما عدّدها عزّ و جلّ عليهم، و من المعلوم أنّ كثيرا من تلك الجرائم لم تصدر من اليهود الّذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل صدرت من أسلافهم الّذين سألوا موسى عليه السّلام: أرنا اللّه جهرة، و هم الّذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، و هم الّذين عبدوا العجل، و هم الّذين قتلوا الأنبياء و كفروا بهم، و هم الّذين بهتوا على مريم عليها السّلام و نسبوا إليها أعظم فرية مع علمهم بطهارتها و تفضيلها على نساء العالمين، و هم الذين ادّعوا قتل المسيح عيسى بن مريم و غير ذلك ممّا سجّله عزّ و جلّ عليهم من أنواع الكفر و الظلم، و مؤاخذة الخلف بما فعله السلف أمر مرفوض في الشرائع الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام فقد قال سبحانه و تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة فاطر، الآية: 18]، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين على سبيل منع الخلو.

أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 22]، و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين.

ص: 144

أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 22]، و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين.

و لم يصل الإنسان الى هذه المرحلة من عبادة السلف إلاّ بعد طي مراحل متعدّدة؛ لأنّ الإنسان كائن إرادي أخلاقي حساس مختار، فلا تصدر منه الأفعال عفوا من دون فكر و روية بخلاف غيره من الحيوانات الّتي يصدر منها كثير من الأفعال بالمتابعة فقط، فإذا وصل الإنسان الى هذه الحالة و صار كغيره من الحيوانات، فلا بدّ أن يكون له أسباب عديدة قد ذكرها العلماء في مواضع متفرّقة من العلوم الإسلاميّة - كعلم الأخلاق، و علم السير و السلوك، و علم الأديان.

و ذكرنا ما يتعلّق بهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة فراجع، و لعلّ قوله تعالى:

يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ إشارة الى هذا الوجه، فإن الخلف اتّبعوا سيرة السلف في السؤال عن امور من الأنبياء تكشف عن كفرهم و نقضهم للمواثيق.

ثانيهما: أنّ كثرة المعاصي الّتي صدرت من السلف و عظمتها كان لها الأثر الشديد في نفوسهم، بحيث سلبت منهم كلّ سبل الهداية كما يستفاد من قوله تعالى:

بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ، و لم تقتصر تلك الآثار عليهم فقط، بل تأثّرت بها الأجيال الّتي من بعدهم، فإنّ للذنوب و الآثام آثارا واقعيّة لا بدّ من تحقّقها و تأثّر النفوس بها، و لا يمكن التخلّف عن ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، و هذا ليس من باب الجزاء حتّى يقال إنّه يخالف قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة الأنعام، الآية: 164]، بل هي حقيقة واقعيّة لا دخل للاختيار فيها، إلاّ ما اختاره الشخص من السبب و المؤثّر، كما هو شأن سائر الحقائق الواقعيّة، فإنّ السمّ لا بدّ من أن يؤثّر في من

ص: 145

يشربه، و لا دخل للاختيار فيه إلاّ بالمعنى المعروف من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، و يمكن أن يستشهد لهذا الوجه بآيات المباركة كثيرة، منها: قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً [سورة نوح، الآية: 26 - 27]، و لعلّ قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ إشارة الى هذا الوجه، كما أنّ العلم الحديث كشف عن وراثة بعض الصفات عن الأسلاف.

و هذا البحث نفيس ذكرنا ما يتعلّق بأصل الموضوع في سورة البقرة و غيرها في جملة من الآيات الشريفة و لا يسع الحال للتفصيل فيه، و سيأتي ما يتعلّق بالبحث إن شاء اللّه تعالى.

بحث عقائدي
اشارة

كانت حياة المسيح عليه السّلام من حين حمله و ولادته الى رفعه إلى السماء مليئة بالمعجزات و خوارق العادات كحياة أكثر الأنبياء عليهم السّلام - إبراهيم، و موسى، و يوسف عليهم السّلام - و لخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أسماها و أشرفها. إلاّ أنّ هناك جوانب مهمة في حياة عيسى عليه السّلام اقتضت البحث عنها:

رفع المسيح الى السماء

الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها تدلّ بوضوح على نفي الموت بجميع أنحائه - من القتل، و الصلب، و حتف الأنف - عن عيسى عليه السّلام بوجوه كثيرة:

الأوّل: قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ ، فإنّه عزّ و جلّ نفى القتل الّذي يدّعيه جماعة من أهل الكتاب كما نفى الصلب عنه عليه السّلام كما يزعمه جماعة اخرى، و كذا حتف الأنف؛ لأنّ جميعهم يتّفقون على نفيه عنه عليه السّلام، فقد نفي عنه الموت بجميع أسبابه كما عرفت.

ص: 146

و ظاهر الآية الشريفة أنّهم يدّعون إصابة القتل و الصلب بشخصه البدني عليه السّلام الّذي رفعه اللّه تعالى إليه.

الثاني: قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، فإنّه يدلّ على أنّ القتل و الصلب المزعومين في حقّه عليه السّلام إنّما كان بالنسبة إلى الشخص الّذي أوقع اللّه تعالى عليه شبه عيسى عليه السّلام لحكم كثيرة كما عرفت آنفا. و أما هو فقد نجّاه اللّه تعالى من أيديهم و سلم من قتلهم و صلبهم و حتف الأنف أيضا.

الثالث: قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ ، فإنّه يدلّ على أنّ الرفع إنّما كان بهذا البدن الجسماني، فإنّ الإضراب عن ادّعاء القتل و الصلب بشخصه الجسماني لدليل واضح على أنّ الرفع بالبدن مع روحه لا أحدهما من دون الآخر، و إلاّ فلا فائدة في الإضراب، فإنّ الرفع لا يتمّ بمجرّد الروح بعد الموت بأي نحو كان، كما لا يتمّ بالبدن فقط.

و قد ذكرنا في التفسير أنّ الرفع هو تخليص له عليه السّلام من أيدي الكافرين المعاندين و نجاة من تعذيبهم، ثم بعد الرفع لا يعلم حاله من هذه الآية المباركة، بل دليل آخر يثبت حياته كما ستعرفه.

الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ، فإنّه يدلّ على حياته عليه السّلام و عدم موته بعد الرفع - كما عرفت في التفسير - و ليس هذا ببعيد عنه عليه السّلام، فإنّ حياته مليئة بالمعجزات من حين ولادته الى حين رفعه إليه عزّ و جلّ حتّى بعد نزوله و موته، فرفعه من الأرض تخليصا له من أيدي العتاة و الجبابرة و المعاندين و تكريما له، ثمّ حفظه تعالى بعد الرفع بعدم إصابة أي مكروه به و لا يذيقه الموت حتّى يقضي اللّه بنزوله.

و هذه كلّها خارقة للعادة دلّ الكتاب العزيز على ثبوتها و عضدته السنّة الشريفة، فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأويل المبغضين و زيغ المعاندين.

فهذه هي عقيدة المسلمين في المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّتي هي معروفة من عصر نزول القرآن الكريم.

ص: 147

عقيدة اليهود في رفع المسيح

قد عرفت أنّهم اختلفوا فيه، فمنهم من يقول إنّه قتل، و منهم من يقول إنّه صلب، تبعا لاختلاف الروايات الواردة عنهم في هذا الموضوع، فالمعروف بينهم أنّ قتله كان بوشاية من اليهود و سعايتهم في قتله لدى الحاكم الروماني في بيت المقدس آنذاك - و هو (بيلاطس) المعروف بالشدّة و القسوة - فصلبه.

و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحرة و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفه و امه، فلما سمع (عليه الصلاة و السّلام) ذلك دعا عليهم، فقال: «اللّهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ أمّي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أميرهم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره أنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة ؟ فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه شبهه فقتل و صلب، و قيل: كان رجل منافق فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى، فرفع عليه السّلام و ألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه، و هم يظنّون أنّه عيسى.

و قال جمع كثير من المتكلّمين: إنّ اليهود لما قصدوا قتله رفعه اللّه الى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم، فأخذوا إنسانا فقتلوه صلبوه، و لبّسوا على الناس أنّه هو المسيح، و الناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم.

و روي غير ذلك.

و جميع تلك الروايات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لضعفها و تعارضها و فقد المرجّح بينها، فيتعين الرجوع الى القرآن الكريم - الكتاب الإلهي - فما وافقه يؤخذ

ص: 148

به و غيره يطرح. و قد عرفت أنّه عزّ و جلّ ذكر هذا الموضوع بإسهاب و بأسلوب واضح رصين ممّا لم يذكره عزّ و جلّ في غيره من قتل الأنبياء و المصلحين الّذين عرفت اليهود بقسوتهم عليهم و ضراوتهم بسفك دمائهم.

و لعمري إنّ مسألة الصلب لا تكون أكثر أهميّة من قتل اليهود للأنبياء بغير حقّ ، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم حيث جعل ذلك من مظاهر كفرهم و شدّد النكير عليهم و وبخهم عليه أعظم توبيخ - لو لا أنّ النصارى جعلوها أساس العقيدة المسيحيّة و أصل الدين عندهم، فمن آمن بالصلب و الفداء فقد فاز بالملكوت الأعلى و صحبة المسيح و الصلحاء و نجي من المهالك، و من كفر به فقد خاب و كان في الآخرة من الخاسرين.

و لأجل ذلك نحن نذكر في هذا البحث عقيدة النصارى في هذا الموضوع و ما استدلّوا به في إثباته و ما يمكن أن يورد عليه من الدليل العقلي و النقلي و بعض شبههم على سبيل الإيجاز.

عقيدة النصارى في الصلب

ترى النصارى أنّ صلب المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام إنّما كان فداء عن البشر؛ لأنّ آدم أبا البشر لما عصى اللّه تعالى بالأكل من الشجرة الّتي نهاه عزّ و جلّ عن الأكل منها، صار بذلك هو و جميع أفراد ذرّيته الى يوم يبعثون خطاة مستحقّين للعقاب بسبب ذنب أبيهم.

كما أنّهم مستحقّون للعقاب بذنوبهم أنفسهم و لما كان اللّه تعالى متّصفا بالعدل و الرحمة، فإذا أراد أن يعاقب آدم و ذرّيته كان منافيا لرحمته. و إذا لم يعاقبهم كان منافيا لعدله، فلا يكون عادلا، فكان عزّ و جلّ متردّدا بين العقاب و العفو حتّى عصر المسيح عليه السّلام، فحلّ ابنه (عزّ و جلّ ) الّذي هو نفسه في بطن امرأة من ذرّية آدم عليه السّلام فأولده منها ليكون إنسانا كاملا من حيث هو ابنها، و إلها كاملا من حيث

ص: 149

هو ابن اللّه - فإنّ ابن اللّه هو اللّه في عقيدتهم - تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، فهو معصوم من جميع معاصي بني آدم، و إن كان مثلهم يأكل مثل ما يأكلون و يشرب ممّا يشربون و يتلذّذ مثل ما يتلذّذون و يتألّم و مثل ما يتألّمون، و قد سخّر (عزّ و جلّ ) أعداءه لقتله أفظع قتله - و هو الصلب - لأجل فداء البشر و خلاصهم من الخطايا.

و عن بعضهم أنّ المسيح و اثنين معه صلبوا و لم يكن المسيح وحده، و سيأتي في الآيات المناسبة بطلان ذلك.

فداء المسيح
اشارة

تعتقد النصارى أنّ المسيح فدى نفسه لأجل خلاصهم من الخطايا و الأدناس، كما قال يوحنا في رسالته الاولى: و هو كفّارة لخطايا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضا.

و استدلّوا على هذه العقيدة بأمور:

الأوّل: التواتر، فقالوا: إنّها متواترة ثابتة عندهم خلفا عن سلف، لا يمكن إنكاره كما في غيره من المتواترات.

الثاني: أنّها وردت في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، و هي كتب مقدّسة لا يجوز إنكار ما فيها.

الثالث: أنّ كتب العهد العتيق بشّرت بالصلب و الفداء و نوّهت بهما تنويها.

الرابع: أنّ المسيح إذا كان قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصّة، فأين ذهب ؟! و لما ذا لم يقف له أحد على عين و لا أثر؟!.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به لإثبات هذه العقيدة. و قبل أن نذكر المناقشة في أدلتهم تلك لا بدّ أن نطرح هذه المسألة على الأدلّة العقليّة.

ص: 150

الأدلة العقليّة تنافي الفداء

و الحقّ أنّ الأدلة العقليّة تنافي الفداء بوجوه كثيرة:

منها: أنّ هذه العقيدة تنادي بتجسّم الخالق و حلوله في أحد مخلوقاته و اتّخاذه أحد ذرّية آدم ابنا له، و كلّ ذلك مخالف للأدلّة القطعيّة الدالّة على أنّه الإله الواحد الأحد الّذي لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا، و ليس كمثله شيء، الّذي تنزّه عن مجانسة مخلوقاته. و قد ذكر العلماء تلك الأدلّة العقليّة و النقليّة في مواضع متفرّقة من علوم متعدّدة.

و منها: أنّه يستلزم منها نسبة الجهل إليه تعالى و أنّه ظلّ مترددا و جاهلا لحلّ تلك المعضلة حتّى العصر الّذي ولد فيه عيسى عليه السّلام، فتفطّن الى حلّها، فجمع بين الرحمة و العدل في فداء المسيح عليه السّلام. و كلّ ذلك باطل بأدلّة عقليّة و نقليّة مذكورة في محلّها.

و منها: أنّ القول بهذه العقيدة يستلزم منه نقيضها؛ لأنّه تبارك و تعالى جمع بين صفتي الرحمة و العدل في صلب المسيح بن مريم عليه السّلام و فداه عن جميع البشر، و هذا يستلزم إعدام شخص بريء و تعذيبه بأشدّ العذاب و هو لا يستحقّه، و قد كان عليه السّلام لا يرغب هذا العذاب - كما ستعرف - و هذا مناف لعدله عزّ و جلّ و رحمته، فصار عزّ و جلّ بذلك عادلا و غير عادل، و رحيما و غير رحيم، و هذا من التناقض الواضح.

إن قلت: يرد النقض بقوله تعالى بالنسبة لإبراهيم عليه السّلام حين أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه السّلام: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]، فعدم الاستحقاق مشترك بين الذبيح و بين أولئك فنتعدّى من فدية إبراهيم عليه السّلام الى فدية عيسى عليه السّلام.

قلت: أوّلا: أنّ فدية إبراهيم عليه السّلام لولده كان تكليفا شخصيا لأجل الوصول

ص: 151

الى المقام السامي الّذي خصّه اللّه تعالى به، كتكليف الجهاد بالنسبة الى من ثبتت شرائطه له أو التهجّد بالنسبة الى نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ كلّ شيء له خصوصية.

و ثانيا: فرق بين الفدائين فإنّ فداء إبراهيم لولده لأجل الوصول الى المقام الأعلى، فإبراهيم و ولده عليهما السّلام نالا تلك المنزلة بالعمل الخاصّ المأمور به أي كائن وضعي له، لا لأجل نفي الجزاء الّذي يستحقّه غيرهما كما تقول النصارى بالنسبة الى عيسى عليه السّلام، و سياق الآيات المباركة يدلّ على ما ذكرناه.

و منها: أنّ من يعتقد بهذه العقيدة يقول إنّها لا تفيد إلاّ إذا آمن بها الناس، فلم ينفعهم الصلب و الفداء إذا كانوا كافرين بها، فيردّ عليهم:

أوّلا: فما حال الأقوام الّتي قد خلت من قبل عيسى عليه السّلام، الّذين لم يعرفوه و لم يعتقدوا بهذه العقيدة.

و ثانيا: أنّها لا تفيد لبقية الأقوام الّتي لم تعتقد بهذه العقيدة، فيختصّ الفداء بأفراد معدودين، فليس هو فداء لجميع البشر.

ثمّ إنّ بعد مصادمة هذه العقيدة للعقل و الأدلّة العقليّة الكثيرة كما عرفت، فهل ينفع مثل هذه العقيدة الباطلة ؟ و هل تسمّى مثل ذلك عقيدة و إيمانا يرفع أهمّ أمر عن الإنسان و هو الجزاء الّذي استحقّه بعمله ؟! فالثاني ثابت بدليل قطعي يحتاج رفعه الى دليل قطعي آخر.

و منها: أنّ الاعتقاد بهذه العقيدة يستلزم الجرأة على اللّه تعالى و على ارتكاب المعاصي و الآثام، فإنّ من أمن من الجزاء و المؤاخذة على أعماله هانت عليه جميع المعاصي فيرتكب جميع الشرور و الآثام، و هو يستلزم الإباحيّة المطلقة، و هذا ممّا فرضه جميع الملل و الأديان.

و منها: أنّ القول بها يستلزم مساواة المجرم و غير المجرم، و كونهما على حدّ سواء، فإنّ من اعتقد بهذه العقيدة تغفر ذنوبه كلّها، فكأنّما ليس له ذنب، و من لم يرتكب ذنبا و كان صالحا ليس له ذنب فصارا سيان في هذا الأمر، فإن قالوا:

يعذّب المجرم على شروره و خطاياه، يقال لهم: فما فائدة هذه العقيدة. و إن قالوا: إنّه

ص: 152

لا فرق بينها و بين الشفاعة الّتي ترفع العقاب و تحطّ الذنب. نقول: إنّهما يفترقان في كثير؛ لأنّ الشفاعة إنّما تتحقّق في مورد يكون للشخص ذنب مؤاخذ عليه و يستحقّ به العذاب، فيأتي الشفيع و يطلب من اللّه تعالى الغفران له و التوبة عليه، و هما من صفات الباري عزّ و جلّ ، قال تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28].

و بعبارة اخرى: الشفاعة هي طلب من اللّه تعالى إسقاط حقّه عن العبد المذنب، فأين هذا و عقيدة الصلب و الفداء؟! نعم، العفو الابتدائي عن المسيء من اختياره جلّ شأنه لو كان المسيء قابلا لشموله بأداء ما عليه من الكفّارات و غيرها، و هذا غير مرتبط بالفداء الّذي تقول به النصارى.

و فداء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام أو فداء الحسين و موسى بن جعفر عليهم السّلام إمّا لأجل النيل الى أرفع المقامات، أو لأجل حفظ المبدأ و العقيدة، كالجهاد لأجل العقيدة، أو لأجل وجود صلاحية في المفدّين بكونهم مؤمنين منقطعين الى اللّه تعالى مظلومين، لا لكونهم ظالمين و معتدين على أنفسهم و على غيرهم، كما تقول النصارى.

إن قلت: طلب العفو ارتكاز كلّ خاطئ أو مسيء و لو لم يطلب خارجا، ففداء عيسى عليه السّلام و صلبه كان لأجل ذلك.

قلت: هذا نوع من تأنيب الضمير النفسي، فللعبد أن يخلّص نفسه بالتوبة و أداء ما عليه من الحقّ ، و لا ربط له بالفداء أصلا كما هو واضح.

و منها: أنّ جميع أفراد الإنسان يعتقدون أنّ العفو عن المسيء المذنب شيء حسن جميل، بل يعدّونه من مكارم الأخلاق و أحسن الفضائل، و لا يكون منافيا للعدل أبدا، فإذا كان من صفاته العليا المقدّسة العفو و الرحمة، فهو قادر على العفو عن المذنبين و غفران ذنوبهم من دون حاجة الى الصلب و الفداء، فيكون هذا عبثا و لغوا، و ينزّه الخالق عنهما.

ص: 153

هذه بعض الأدلّة العقليّة الّتي تدلّ على بطلان هذه العقيدة، و لأجل ذلك ذهب بعض من المسيحيين الى أنّ هذه العقيدة و عقيدة التثليث لا تعقل، و أنّ العمدة في إثباتهما النقل عن الكتب المقدّسة، و حينئذ لا بدّ من النظر في ما استدلّوا به كما ذكرناه آنفا.

المناقشة في ما استدلّوا على الفداء

أمّا الدليل الأوّل و هو دعوى التواتر، فهي مردودة؛ لأنّ التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير في كلّ طبقة، و لا يحتمل فيهم تواطؤهم على الكذب، قد أدرك الطبقة الاولى منهم الخبر عن حسّ و عيان لا شبهة فيه، و إذا لاحظنا التواتر الّذي ادّعوه في إثبات هذه العقيدة نرى أنّه لا تتوفّر فيه الشروط، فإنّ الطبقة الاولى لا تخبر عن الصلب مشاهدة و لا تستند عن حسّ و عيان، بل تستند الى الّذين كتبوا الأناجيل، و هم بعد عصر الصلب و لا يؤمن عليهم الاشتباه؛ لأنّهم غير معصومين و لم يصل عددهم الى حدّ التواتر. مضافا الى ذلك أنّ جماعة من النصارى أنكروا الصلب و هم فرقة كبيرة منهم التاتوتسيون اتباع تاتيانوس تلميذ بوستينوس الشهيد. فلم يتوفّر الشرط الآخر من التواتر و هو إخبار كلّ طبقة عن سابقتها، بحيث يؤمن عليهم الوهم و الالتباس. فلا يمكن دعوى التواتر في هذه المسألة المهمّة.

و أمّا الدليل الثاني و هو ورود هذه القصة في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، فيردّ عليه..

أوّلا: أنّها لم تكن معصومة عن الخطأ و التحريف، و لم يوجد دليل على نسبتها الى المعصوم.

و ثانيا: أنّها معارضة بإنجيل برنابا الّذي ينكر الصلب قبل أن تصل إليه يد التحريف، فلا ندري حال بقية الأناجيل.

ص: 154

و ثالثا: أنّ كثيرا من الكتب المتقدّمة على تدوين الأناجيل تنكر الصلب، قال فوتيوس: إنّه قرأ كتاب رحلة الرسل - فيه أخبار بطرس، و يوحنا، و اندرواس، و توما، و نولس - «أنّ المسيح لم يصلب و لكن صلب غيره، و قد ضحك من صالبيه». و لاشتمال هذه الكتب على كثير من الحقائق الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، فقد حرّمت المجاميع الاولى من كتبهم قراءة هذه الكتب و الرسائل الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، حتّى أنّهم أحرقوها و أتلفوها لئلاّ يقرأها أحد.

و رابعا: أنّ ما ورد في هذه الأناجيل من قصة الصلب و الفداء يناقض ما ورد في القرآن الكريم الكتاب الإلهي الّذي يقول في هذه القصة: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ كما هو الواقع كذلك، فلا دليل لهم على صحّتها، و سيأتي في الموضع المناسب البحث في حجّية الأناجيل الأربعة إن شاء اللّه تعالى.

و على فرض التنزيل، فإنّ الأناجيل في حدّ نفسها متعارضة في قضية الصلب، ننقل شاهدا واحدا، فإنّ النصارى يدّعون - كما عرفت - أنّ المسيح بذل نفسه باختياره فداء و كفّارة عن البشر، و لكن ورد في إنجيل متى أنّه حزن و كئب عند ما شعر بقرب أجله و طلب من اللّه أن يصرف عنه البلاء، فقد ورد فيه (ثم أخذ معه بطرس و ابني زبدي و ابتدأ يحزن و يكتئب (37)، فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتّى الموت امكثوا هنا و اسهروا معي (38)، ثم تقدّم قليلا و خرّ على وجهه و كان يصلّي قائلا: يا أبتاه إن أمكن، فلتعبّر عني هذه الكأس، و لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (39)... فمضى أيضا ثانية، و صلّى قائلا: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبّر عني هذه الكأس إلاّ أن أشربها فلتكن مشيتك» (متى 26 الآيات من 37-42). و مثله ما ورد في لوقا 22 الآيات من 43-45. فإنّه يدلّ على جهله عليه السّلام بالحال، و تألّمه بل طلبه من أبيه إبطال هذه القضيّة الّتي اجتمع فيها العدل و الرحمة، و هذا كلّه مناف لألوهيّته المزعومة.

و أمّا الدليل الثالث، و هو بشارة كتب العهد العتيق بمسألة الصلب، فهي

ص: 155

موهونة بأنّه لم يرد فيها شيء يشير الى هذه القضية فضلا عن بشارتها، و ما ذكروه إن هو إلاّ من الموضوعات الّتي ذكروها في كتبهم و نسبوه الى السيد المسيح عليه السّلام، كما اعترف به جمع ممّن له خبرة بهذه الكتب.

و أمّا الدليل الرابع، فإنّه أشبه بالسفسطة، فهو يردّ على من يقول بأنّه عليه السّلام توفّاه اللّه تعالى في الدنيا ثم رفعه إليه عزّ و جلّ كما رفع إدريس عليه السّلام، و أمّا من قال بأنّ اللّه تعالى رفع جسده مع روحه إليه، فهو في مأمن من هذا الإشكال، و مع ذلك فإنّه لا إشكال في اختفاء قبر عيسى عليه السّلام، كما اختفت قبور كثيرة من الأنبياء و الصالحين، فهذا إخوة موسى عليه السّلام مات و لم يعرفه أحد منهم كما هو منصوص في آخر سفر تثنية الاشتراع من أسفار التوراة، فليكن عيسى عليه السّلام كذلك فإنّه بعد أن فرّ من أعداء اللّه تعالى الّذين أحاطوا به و قد خذله جميع الناس. و انفضوا من حوله فمات في مكان مجهول، و لا غرابة فيه.

هذا بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب و الفداء الّتي يعتقد بهما المسيحيون، و قد عرفت أنّها بالمعنى الّذي ذكروه مرفوضة عقلا و نقلا.

الفداء لرفع المكروه

هناك موضوع آخر و هو الفداء، بأن يفدي وليّ من أولياء اللّه تعالى نفسه و يعرضها لأنواع البلاء و المحن و صنوف التعذيب و يريق دمه في سبيل اللّه تعالى فداء عن المؤمنين به ليرفع عنهم المكروه و البلاء كما مرّ، فإنّ هذا أمر معقول، بل هو من أسمى الكمالات، و لم يتحمّل الأنبياء و الأوصياء صنوف العذاب و البلاء إلاّ لهذا الغرض، ففي الحديث أنّه كلما اشتدّ أذى المشركين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال صلّى اللّه عليه و آله:

«اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون». و ورد في تفسير قوله تعالى: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]. أنّ اللّه تعالى رفع الذبح عن إسماعيل الذبح و دفع عنه المكروه بسبب فداء الحسين بن علي، فتحمّل أنواع المكاره و صنوف

ص: 156

العذاب من المؤمنين، و في بعض الأخبار أنّ موسى بن جعفر عليه السّلام دخل سجن هارون الرشيد و تحمّل من البلاء تفدية عن شيعته و دفع العذاب عنهم، فالفداء بهذا المعنى صحيح بل هو من المكارم و لم ينكره أحد، و لكنّه غير الفداء الّذي يدّعيه النصارى في رفع العذاب المستحقّ بسبب الذنوب و الآثام، فإنّ كلّ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، إلاّ أن يراد منه الشفاعة بضرب من التأويل، و لكن لها شروط و حدود خاصّة ذكرناها في بحث الشفاعة، فراجع.

ثمّ إنّ بعض المؤرخين ذكر أنّ لهذه القضية جذورا تاريخيّة ترجع الى ما قبل عصر عيسى عليه السّلام، فقد وجدت في الأمم الوثنيّة، قال: إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد عند الهنود الوثنيين و غيرهم، و ذكر الشواهد على ذلك. منها: ما يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود الّذي هو نفس الآله فشنوا تحرّك حنوا كي يخلّص الأرض من ثقل حملها، فأتاها و خلص الإنسان بتقديم ذبيحة منه»، و من أراد المزيد فليرجع الى كتب تأريخ الديانات.

الفرق بين الشفاعة و الفداء

قد عرفت أنّ الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون بالنسبة للسيد المسيح عليه السّلام لا يمكن قبوله لما يترتّب عليه من المحظورات العقليّة كما تقدّم.

و أمّا الشفاعة، فقد ثبتت بالأدلّة العقليّة و النقليّة، بل هي ممّا يأمله الخطاة الّذين عملوا السيئات و ذوو الحاجات في الدارين، و قد ذكرنا أنّ الشفاعة لها شروط خاصّة.

منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في الأعمال السيئة، فلا شفاعة في العقائد الفاسدة لجهة من الجهات، لا سيما إذا استلزمت الشرك باللّه العزيز.

و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في حقوق اللّه تعالى، و أمّا في حقوق الناس فلا بدّ فيها من التراضي عن صاحب الحقّ ، و لا تنفع الشفاعة بدون رضاه.

ص: 157

و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون لأولياء اللّه تعالى بإذنه جلّ شأنه، قال تعالى:

وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28]، و غير ذلك من الشروط الّتي ذكرناها في بحث الشفاعة، و لم تتحقّق واحدة منها في الفداء المزبور، فهما على طرفي التخالف، و لذا كانت الشفاعة أمرا مرغوبا و محبوبا، و أمّا الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون، فهو أمر لا يقبله العقل و يرفضه الشرع.

بحث عرفاني

الأنبياء - الّذين هم أفضل أفراد البشر و أكملهم حسب درجاتهم - كلّهم من مظاهر شؤونه تعالى و أفعاله، و كلّ واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصّة جلّ شأنه.

و فضّل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم الى حضرته جلّت عظمته - و إن كان جميعهم نالوا التقرّب إليه بمكانتهم و ارتباطهم معه تعالى - و لا يتحقّق ذلك التشرّف العظيم إلاّ بأداء أمانة الحقّ الملقاة على عواتقهم و تحمّل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عزّ اسمه و التكلّف مع المشقّة الشديدة في إبلاغ رسالته، و تحمّل الأذى في سبيل هداية البشر الى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك و القيام بالوساطة بينه تعالى و بين العباد.

و كلّما كانت الامة بعيدة عن الكمالات و المثل الإنسانيّة و الأخلاقيّة و منغمسة في الشرور و الماديات، كان تعب النبي و تحمّله أشدّ و تقرّبه الى اللّه أكثر، و لذا ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت» و لأجله - و لكمالات اخرى - تفوّق صلّى اللّه عليه و آله على جميع الأنبياء و إلاّ فإنّ الأنبياء جميعهم على حدّ سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [سورة المائدة، الآية: 75]، و قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [سورة آل عمران، الآية: 144].

و إنّما خصّ سبحانه و تعالى كلّ نبي بمعجزة خاصّة لتناسب زمانه بها

ص: 158

بالتحدّي من أهل عصره و قبولها من أمته؛ لأنّ المعجزات الصادرة عن الأنبياء عليهم السّلام ليست هي إلاّ خوارق العادات لإثبات دعوى رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدّعون الى الإيمان، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتى و شفاء المرضى و غيرهما من معجزات المسيح عليه السّلام، فهي ليست إلاّ كإلقاء العصا فتصير حيّة تسعى، و نجاة بني إسرائيل من العذاب، و غرق فرعون و غيرها من معجزات موسى عليه السّلام الّتي تناسب عصر كلّ منهما.

و كذا معجزات نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من تسبيح الحصا بين يديه، و نصرته في الغزوات مع قلّة عدد المسلمين، و تفوق حجّته على الخصام، و إخباره عن المغيّبات، و عروجه بجسمه الشريف الى السماء، و البشارة بنبوّته في كتب السماء على لسان الأنبياء عليهم السّلام و معجزته الباقية الخالدة (القرآن) و غيرها ممّا هو كثير.

ص: 159

و عن بعض الحكماء أنّ العقل الأوّل ليس إلاّ نفوسهم القدسية و باقي النفوس تتشرّف بالقرب إليه بالإفاضة من المعارف إليهم، أو التقرّب إليه تعالى بهدايتهم، أو استكمال نفوسهم بالإلهام منه عزّ و جلّ بواسطة تلك النفوس المعبّر عنها بالعقل الأوّل.

و كيف كان، فلا إشكال في قدسية نفوسهم و تفوّقها على البقيّة؛ و لذا يحصل لهم المعراج الجسماني لقرب نفوسهم به تعالى و تربية أجسامهم بالتربية الرحمانيّة و توطّن تلك الأرواح في تلك الأجسام، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

و أمّا نفس نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فهي في مقام جمع الجمع و مظهر للاسم الجامع الإلهي أصالة، فإنّ الكمالات و المعارف تفاض منها، و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «أنا أبو الأرواح و أنا من نور اللّه و المؤمنون فيض نوري»، فيستفاد منه أنّ الأرواح المقدّسة وارثة أوليّة منه، و أنّ الأبوة هنا بمعنى الأشرفيّة و الأكمليّة، و يستفاد ذلك من بعض الآيات الشريفة كما يأتي، فأقرب النفوس و الأرواح الى نفس الأقدس هي نفوس المؤمنين حسب درجاتهم، و هذا بحث دقيق شريف نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى، و إنّ قل الطالب له في هذه الأعصار.

ص: 160

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .......

اشارة

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (169) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى مظالم اليهود و جرائمهم من عنادهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نقضهم للمواثيق المؤكّدة، و كفرهم باللّه تعالى و آياته و رسله، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ ، و غيرها من المظالم الّتي عدّدها تفصيلا للتذكير، و التحذير، و الموعظة، و بين جلّ شأنه أنّ كفرهم إنّما كان عن عناد و لجاج.

كما بيّن عزّ و جلّ الجزاء الّذي استحقّوه بسبب ظلمهم و فعلهم السيئات، و قد ذكر تعالى نوعين من العقاب الدنيوي - و هو التكاليف الشاقّة من تحريم الطيبات، و الحدود و التعزيرات و غيرها ممّا ذكره في غير المقام أيضا - و الاخروي و هو العذاب الأليم الّذي أعدّه اللّه تعالى لهم.

يذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة جملة اخرى من الحقائق الّتي تتعلّق بأهل الكتاب، فقد استثنى عزّ و جلّ ممّا ذكره في اليهود آنفا الأخيار الّذين

ص: 161

آمنوا إيمانا صادقا، و هم الراسخون في العلم المؤمنون باللّه العظيم حق الإيمان فلا يشملهم ما شمل اليهود من الخسران و سوء العاقبة، فإنّ لهؤلاء المؤمنين أجرا عظيما لا يدركه أحد.

ثمّ يعقّب جلّت عظمته بعد بيان حال الطائفتين الكافرة الظالمة و المؤمنة إيمانا صادقا توطئة للمحاجّة مع النصارى بذكر حقيقة رئيسية في حياة الرسل و البشرية، و هي أنّ الوحي الى جميع الأنبياء و المرسلين شيء واحد، فما اوحي الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو ذاته الّذي اوحي الى النبيين من قبل، سواء كانوا المذكرين في القرآن الكريم الّذين قصّ عزّ و جلّ علينا أخبارهم أم غير المذكورين، فإنّه وحي واحد للرسل جميعا، و هو الدعوة الى عبادة الواحد الأحد الّذي لا شريك له كما أنّهم جميعا يشتركون في غاية واحدة، و هي لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ [سورة النساء، الآية: 165]، فلم يأخذ عزّ و جلّ الناس بميثاق الفطرة وحده، و لم يكلهم الى أنفسهم رحمة بهم، لأنّهم عرضة الأهواء الباطلة و الانحراف عن الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين لاختلاف طبائع الناس في هذا الأمر، و أخذ عهدا على نفسه أن لا يعذّب أحدا حتّى يبعث فيهم رسولا، فإذا كان الوحي واحد و الغاية متّحدة، فالإيمان بواحد من الرسل إيمانا صادقا يستدعي الإيمان ببقية المرسلين، فيكون الإيمان بخاتم المرسلين من جملة الإيمان بهم جميعا، و كفى بذلك شهادة على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ اللّه يشهد للرسول و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا، فلا يضرّه صلّى اللّه عليه و آله إنكارهم و لا عدم شهادتهم بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما يضرّوا أنفسهم، أو يضرّون مجتمعهم، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة.

و بعد إقامة الحجّة عليهم و تذكيرهم بالفطرة المستقيمة، يعنف السياق على المنكرين و ينذر الكافرين - الّذين يصدّون عن سبيل اللّه و يعرضون الناس عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله - سوء العاقبة و يوعدهم أشدّ الوعيد، فلم يهدهم طريقا إلاّ طريق جهنّم.

ص: 162

و يوجّه الخطاب بعد أن كان مع أهل الكتاب الى الناس كافّة بشأن بعثة خاتم المرسلين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد إقامة الشهادة على صدق نبوّته، و يأمرهم بالإيمان به و بالرسل جميعا على استقامة، فإنّ الإيمان خير لهم من الكفر الّذي يوردهم الى الخسران.

و تختتم الآيات المباركة بحقيقة واقعيّة فيها تذكير للكافرين بأنّ اللّه تعالى غني عنهم لا يضرّه كفرهم، فإنّ للّه ملك السموات و الأرض و هو العليم الحكيم، و من حكمته أنّه لا يعاقبهم بكفرهم إلاّ بعد إرسال الرسل و إقامة الحجّة مع علمه بالكافرين و المؤمنين منهم.

التفسير

قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ .

استدراك من قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل و العاجل، و استثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ و ثبتوا على علمهم، فلم ينكروه عنادا و لجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب، و لم يتّبعوهم في مظالمهم و جرائمهم، فلم يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا من السماء، إنكارا لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب و الحكمة في دعوته الى الحقّ ، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن بدعا - من الرسل - فهو مثل سائر الأنبياء و المرسلين لم يدعهم إلاّ الى ما دعوا إليه، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل إليه و ما انزل من قبله، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة و الغاية و هم مشتركون في أغلب السجايا و الأخلاق، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 7-8]، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة، و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10].

ص: 163

استدراك من قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل و العاجل، و استثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ و ثبتوا على علمهم، فلم ينكروه عنادا و لجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب، و لم يتّبعوهم في مظالمهم و جرائمهم، فلم يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا من السماء، إنكارا لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب و الحكمة في دعوته الى الحقّ ، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن بدعا - من الرسل - فهو مثل سائر الأنبياء و المرسلين لم يدعهم إلاّ الى ما دعوا إليه، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل إليه و ما انزل من قبله، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة و الغاية و هم مشتركون في أغلب السجايا و الأخلاق، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 7-8]، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة، و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10].

و يدلّ قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ على أنّ أهل الكتاب كلّهم كانوا يعلمون الحقّ و لكنهم أنكروه جحودا و عنادا، إلاّ من رسخ في علمه و ثبت عليه و استقام، فتحقّق فيه سجيّة اتّباع الحقّ و الإيمان بالرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .

وصف لهم بالإيمان بعد ما وصفهم بما يوجبه من الرسوخ في العلم، و إنّما عطف بينها ب (و) إيماء الى اختلافهما في الذات كما اختلفا في العنوان، و إعلاما بأنّ إيمانهم إيمان إذعان لا إيمان عصبيّة و جدل. و هذان الوصفان من أعلى الأوصاف، فإنّهما يدلان على كون الإيمان منهم على معرفة و يقين و ثبات، فلم يكن عن جهل و قوميّة أو عصيبة ظلماء، فيكون ذلك بأهل الكتاب أنسب منه بالمؤمنين من غيرهم، الّذين وصفهم عزّ و جلّ بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: 6]، و إنّما آمنوا بما انزل على الرسول و ما انزل من قبله؛ لأنّهم عرفوا أنّ الأنبياء كلّهم متّحدون في الدعوة و الغاية كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ .

جملة معطوفة على «الراسخون» - و مثلها جملة «و المؤتون الزّكاة» - تبيّن وصفا آخر و هو إقامة الصلاة، أي أدائها على وجه الكمال و التمام، كما عرفت في اشتقاق هذه الكلمة في غير المقام.

و قد اختلف العلماء في إعراب هذه الجملة، فقيل: إنّها منصوبة على وجه المدح و الاختصاص، أي: أعني و أخصّ المقيمين الصلاة، فإنّهم أجدر بالرسوخ في

ص: 164

الإيمان، فيكون لإقامة الصلاة شأن خاصّ في الرسوخ في العلم و توفيقهم الى الإيمان و عنايته عزّ و جلّ بهم. و اختلاف مفردات الخطاب في الإعراب أسلوب بلاغي رفيع؛ لأنّه ينبّه الذهن الى التأمّل فيه، و يهدي الفكر الى استخراج المزايا الّتي وردت في الكلام، و له نظائر كثيرة في النطق كالتغيير في جرس الصوت و رفعه و خفضه و نحو ذلك، و في غير النطق أيضا ممّا استحدثت في هذه الأعصار.

و قيل: إنّها جملة مستأنفة منصوبة على المدح و الاختصاص.

و قيل: إنّ «المقيمين» معطوف على المجرور قبله، فيكون المعنى: يؤمنون بما انزل إليك، و ما انزل من قبلك على الرسل، و بالمقيمين الصلاة و هم:

إمّا الأنبياء الّذين وصفهم اللّه عزّ و جلّ بإقام الصلاة، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، أو المؤمنون الّذين أمرنا اللّه تعالى باتّباع سبيلهم، قال تعالى:

وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ [سورة لقمان، الآية: 15].

أو الملائكة الّذين حكى تعالى عنهم: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات، الآية: 165-166].

و اعترضوا على القول السابق بأنّ النصب على المدح إنّما يكون بعد إتمام الكلام، و هنا ليس كذلك لأنّ الخبر سيأتي.

و الجواب عنه أنّه لا دليل على ذلك، فيجوز الاعتراض بين المبتدأ و الخبر، فالنصب يجوز أن يكون لأجل مزيّة خاصّة، فإذا قلت: مررت بزيد الكريم، فإن أردت أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إن أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت، و قلت: مررت بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم. و إن شئت رفعت فقلت: الكريم على تقدير الكريم.

و قال بعضهم: إنّه معطوف على الضمير في «منهم»، فيكون المعنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة.

و قال آخرون: إنّه معطوف على الضمير في «إليك».

ص: 165

و قيل: على الضمير في «قبلك»، أي: بما انزل من قبل و من قبل المقيمين الصلاة.

و روي أنّ الكلمة في مصحف ابن مسعود «و المقيمون الصلاة»، و ردّه بعضهم بأنّه ضعيف لم تثبت روايته عن ابن مسعود.

و الصحيح هو الوجه الأوّل؛ لما فيه من النكتة البلاغيّة الّتي لم توجد في غيره من الأقوال، و لبيان فضل الصلاة و عظيم أثرها من التوفيق و الهداية، و مثل ذلك غير عادم النظير في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء، و قد تقدّم مثله في سورة البقرة أيضا فراجع.

و من ذلك كلّه يظهر بطلان ما قيل في أنّ النصب و هم أو لحن، استنادا الى ما روي عن عروة عن عائشة، قال: «سألتها عن قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ و عن قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: 69]، و قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: 63]؟ فقالت: يا ابن اختي، هذا عمل الكتّاب أخطئوا في الكتاب»، و ما روي أيضا: «من أنّ في كتاب اللّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها»، كلّ ذلك لا دليل عليه و لم تثبت روايته.

قال الزمخشري في الآية الشريفة: «نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، و هو باب واسع قد كسّره سيبويه على أمثلة و شواهد، و لا يلتفت الى ما زعموا من وقوعه ظنّا في خطّ المصحف، و ربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب (أي كتاب سيبويه)، و لم يعرف مذاهب العرب و ما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، و غبي عليه أنّ السابقين الأوّلين كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام و ذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب اللّه ثلمة ليسدّها من بعدهم، و خرقا يرفوه من يلحق بهم».

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ .

وصف آخر من أوصاف الراسخين في العالم من أهل الكتاب، و هو إيتاء

ص: 166

الزكاة الّتي هي قرين الصلاة في القرآن الكريم.

و إنّما قدّم الصلاة عليها؛ لأنّ الصلاة تزكّي النفوس و تعلي همّة الإنسان، فيهون عليها بذل المال، فإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، قال تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً * وَ إِذا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ [سورة المعارج، الآية: 19-22].

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

عطف على «الراسخون» و بيان لوصف آخر و هو الإيمان بالمبدأ و المعاد، فإنّ الإيمان الحقّ ما كان مشتملا على الإيمان بالمبدأ الواقعي، و هو اللّه جلّ شأنه، و الإيمان بالمعاد، و الإيمان برسل اللّه تعالى الّذين أرسلهم لهداية البشر، و الإيمان بما جاء به الرسل من الحكمة و المعارف و التشريعات.

و قد وصف عزّ و جلّ إيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بأوصاف جليلة تبيّن علوّ منزلتهم و كبر شأنهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أركان الإيمان المطلوب كما عرفت، و وصف إيمانهم بأنّه إيمان علم و معرفة و إذعان، و هو من أعلى درجات الإيمان، و لعلّه لأجل ذلك تكرّر لفظ «المؤمنون» في الآية المباركة تنويها لشرفهم.

قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً .

أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجليلة الشأن سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يوصف كنهه و لا يدرك حقيقته أحد إلاّ اللّه تعالى؛ لتناسب العطاء مع المعطي جلّ شأنه.

و قد أكّد عزّ و جلّ هذا الوعد بذكر (السين) و فخّمه بتنكير الأجر، و بيّن أهميّته بذكره مقابل ما أوعدهم غيرهم من أهل الكتاب بالعذاب الأليم.

قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ .

تعليل لما سبق ذكره في إيمان المستثنين، و ردّ على ما زعمه أهل الكتاب من الفرق بين أفراد الموحى إليهم، فقد أنكروا نبوّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله، و طلبوا منه إنزال

ص: 167

كتاب من السماء، فالآية الشريفة تبيّن أنّه رسول اللّه و أنّ شأنه في الوحي شأن سائر الأنبياء (عليهم الصلاة و السّلام)، و أنّ الوحي النازل منه تعالى واحد للرسل جميعا، فإنّه عزّ و جلّ بما له من العظمة و الكبرياء و ما له من مقام رحمته الّتي هي من شؤون ألوهيته و ربوبيّته أنزل الوحي على نوح و النبيين من بعده، و أنزل الوحي على رسول اللّه خاتم النبيين لهداية البشر، و لم يسأل أحد من الأنبياء قبلك أن ينزل عليهم كتابا كما سألوك؛ عنادا و لجاجا و تشكيكا منهم في نبوّتك، و إن سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [سورة النساء، الآية:

153]، فإنّ الوحي لشاهد قوي على صدقك و صدق الأنبياء قبلك إلاّ الراسخين في العلم منهم فقد آمنوا بك؛ لأنّهم علموا أنّ الوحي واحد، و الأنبياء عليهم السّلام كلّهم على نهج واحد، فإنّهم رسل مبشرون و منذرون، أرسلهم اللّه تعالى لإتمام الحجّة، و أنزل عليهم الوحي الّذي يشتمل على التوجيهات و التكاليف الّتي هي في صالح البشر و ترشدهم الى كمالهم المنشود.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ نوحا لأنّه أوّل نبي انزل عليه الكتاب و جاء بشريعة، و أمّا الأنبياء بعده فقد كانوا على شريعته الى إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام، فقد جاء بالحنيفيّة و شريعة جديدة، ثم الأنبياء من بعده على شريعته الى عصر موسى كليم اللّه عليهم السّلام، الّذي أتى بشريعة جديدة و انزل عليه التوراة، و أمّا الأنبياء بعده، فإنّهم كانوا على شريعته و منهاجا حتّى عصر عيسى عليه السّلام الّذي انزل عليه الإنجيل و أتى بشريعة.

و ما هو المعروف من أنّ المسيح ليست له شريعة غير شريعة موسى عليه السّلام كما هو ظاهر الآية الشريفة - أيضا - النازلة في شأن عيسى عليه السّلام: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران، الآية:

50] و غيرها من الآيات المباركة.

يمكن المناقشة فيه من أنّ التغيير أو التبديل في الشريعة السابقة يكفي في تأسيس الشريعة، و قد تقدّم منّا مكرّرا من أنّ الشرائع كلّها متّحدة، و أنّ كلّ

ص: 168

شريعة مكمّلة لما قبلها، و أنّ شريعة خاتم الأنبياء أكملها، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت لاتّمم مكارم الأخلاق»، فشريعة عيسى عليه السّلام مكمّلة لشريعة موسى عليه السّلام و كانت شريعة عيسى عليه السّلام مستمرة الى عصر خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فقد انزل عليه القرآن الكريم و أتى بشريعة تضمّنت جميع الشرائع الإلهيّة، فصارت خاتمة لها، فهو صلّى اللّه عليه و آله: «الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل و المهيمن على ذلك كلّه».

قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً .

تفصيل بعد إجمال، فإنّ هؤلاء كلّهم أنبياء اللّه تعالى، و قد آمن بهم أهل الكتاب و انزل عليهم الوحي، و بعضهم جاء بشريعة و كتاب كإبراهيم و عيسى، و بعضهم أرسلوا بغير كتاب كأيوب و يونس، و هارون و سليمان و لكنّهم جميعا مشتركون في الوحي الإلهي، فلم يعترض عليهم أحد بإنزال كتاب كما اعترضوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّما قدّم إبراهيم عليه السّلام تشريفا له؛ لأنّه عليه السّلام أبو الأنبياء الّذين بعده، و قد اعترفت بنبوّته جميع الأديان الإلهيّة، و ذكر عيسى عليه السّلام مقدّما على غيره من الأنبياء عليهم السّلام تحقيقا لنبوّته و قطعا لمنازعة اليهود فيه.

و الأسباط: هم من ذرّية يعقوب عليه السّلام، و هي جمع سبط الّذي يطلق على ولد الولد، و هم اثنا عشر، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ * [سورة آل عمران، الآية: 84] بعض الكلام.

و إنّما خصّ زبور داود عليه السّلام بالذكر؛ لأنّ له شأنا خاصّا عند أهل الكتاب، و إلاّ فلا يخرج عن سائر أفراد الوحي.

قوله تعالى: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ .

أي: و أرسلنا رسلا غير هؤلاء المذكورين قد قصصناهم عليك من قبل

ص: 169

نزول هذه السورة، فإنّهم رسل اللّه تعالى و أوحى عزّ و جلّ إليهم ما أوحى الى هؤلاء المذكورين. و قد ذكر تعالى جملة من قصصهم في سورتي هود و الشعراء.

قوله تعالى: وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ .

فإنّ القرآن الكريم لم يذكر جميع الأنبياء و المرسلين، و إنّما ذكر بعضهم و بعضا من أحوالهم و أحوال أمتهم للعظة و العبرة.

قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً .

مزيّة خاصّة لموسى عليه السّلام لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السّلام حتّى عرف بينهم ب (كليم اللّه)، و هو نوع من أقسام الوحي الّتي سيأتي ذكرها في بحث خاصّ ، و قد تقدّم البحث في كلام اللّه تعالى في سورة البقرة الآية - 253 في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ .

و إنّما أكّد عزّ و جلّ ذلك بقوله: تَكْلِيماً ؛ لرفع كلّ تأويل و مجاز في المقام، فإنّ التكلّم حصل بين موسى عليه السّلام و بينه جلّ شأنه كرارا و مرارا، كما حصل لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج.

قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ .

أي: أنّ أولئك الرسل الّذين منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك إنّما هو ذو أحوال - أو أوصاف ثلاث - رسلا أرسلهم اللّه تعالى لهداية البشر و إخراجهم من الضلالة و العمى الى النور، و أوحى إليهم ما يوجب كمالهم، لعدم كفاية داعي الفطرة و العقل في الهداية، و عدم اغنائهما عن بعث الرسل، مبشرين لمن آمن و أطاع و عمل صالحا بالثواب الجزيل و الأجر العظيم، و منذرين: لمن تولّى و كفر و عصى بالوعيد و العذاب الأليم.

و إنّما كانوا مبشّرين و منذرين؛ لاختلاف طبائع الناس؛ لأنّ منهم من يكتفي فيه بالبشارة فيؤمن، و منهم من لا يهتدي إلاّ بالإنذار و التخويف.

أو لأنّ الإنسان لما كان مركبا من قوى متخالفة و ذا أمزجة متعدّدة فبعضها تقهر بالتطميع و التبشير، و بعضها لا يفيده إلاّ التخويف و التشديد، و العاقل إنّما

ص: 170

يتحكّم في هذه القوى بهاتين الركيزتين اللتين ذكرهما عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة، و هما مصدر الرجاء و الخوف.

بل يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الثواب و العقاب في القرآن الكريم أنّ الإنسان إنّما يحيي و يكون صالحا بهاتين الخصلتين - الخوف و الرجاء - و هما أهمّ الدعامات في التربية الإسلاميّة، و لا يمكن أن تستوفي الفوائد المترتّبة عليها إلاّ بهما، فلما اقترن ذكرها بأهمّ حدث في الإنسانيّة و هو الرسالة لعظيم أثرها و عدم استغنائها منهما.

قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ .

غاية من غايات بعث الرسل و الأنبياء، و هي تنبئ عن عظيم لطفه بعباده و عنايته بهم، حيث جعل لهم حجّة عليه عزّ و جلّ لو لم يبعث الرسل إليهم، و لم يكتف بما أنعم عليهم من السمع و الأبصار و الأفئدة، و ما أودع فيهم من الفطرة الداعية الى التوحيد و الحقّ و العدل، و أنّ من كرمه عزّ و جلّ بهم أنّه لم يكلهم الى أنفسهم رغم ما وهب لهم العقل، لعلمه الأتم بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و الضلال في العقل الموهوب، و انتكاس الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين و منذرين لينيروا لهم الطريق و يرشدوهم الى ما أفسدوه من الفطرة باتّباع الشهوات و فعل المعاصي و الآثام؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد إرسال الرسل و تبليغهم للشريعة، فلا يعتذروا بالجهل و يكون الثواب و العقاب على طبق قانون العقل.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .

أي: له العزّة و الحكمة المطلقتان، فلم يغلبه أحد في أمر يريده، و يستحيل أن يغلبه شخص بحجّة، فإنّ له الحجّة البالغة، لكن من حكمته أنّه قطع حجّتهم بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و تشريع الشرائع و إنزال الكتب لهدايتهم.

قوله تعالى: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ .

استدراك عمّا قبله و يتضمّن معنى الاستثناء و الردّ عليهم و تبكيتهم بإنكارهم

ص: 171

لنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و عدم شهادتهم بها مع علمهم بالمشهود به و وضوحه لديهم، و مع ذلك كلّه ينكرون و يكابرون بالشهادة و الإيمان و يكفرون به صلّى اللّه عليه و آله و بما أنزلنا إليه فيسألونه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و قد ردّ عليهم بأنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر من ذلك، و أنّهم في سؤالهم هذا مكابرون؛ لأنّ ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما اوحي إليه هو نفس ما اوحي الى سائر النبيين، و أنّ الوحي واحد و الغاية متّحدة، فإن لم تلزمهم الحجّة و يشهدوا لك بالنبوّة و الرسالة، فاللّه تعالى يشهد بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق ما انزل إليه، و هذه مزيّة خاصّة لنبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه عزّ و جلّ يشهد بحقيقة ما انزل إليه، و هو يكفي في الشهادة على نبوّته و صدقه صلّى اللّه عليه و آله لإعجازه، فلا يحتاج الى إنزال كتاب آخر، و فيه الردّ على سؤالهم و لجاجهم.

قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ .

تأييد آخر لصدق ما انزل الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حقيقته، و بيان الى أنّ ما انزل إليه إنّما كان عن علم بجميع خصوصيات المنزل و إحاطته به إحاطة تامّة يسلم عن كلّ باطل و زيغ، و تتضمّن الآية الشريفة أمورا كثيرة.

منها: أنّ ما انزل إليه صلّى اللّه عليه و آله هو من علمه الأتم، فيحتوي على جميع الحقائق الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة و التشريعات الربانيّة فتكون هذه مزيّة فائقة على جميع الكتب الإلهيّة.

و منها: أنّه أنزله بعلمه الخاصّ الّذي لا يعلمه غيره، فيكون معجزة خارقة للعادة، يعجز عنه كلّ بليغ و صاحب بيان.

و منها: أنّه أنزله بعلمه لئلاّ يفسده الشيطان، فيضع الباطل مكان الحقّ أو يخلطه، فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحقّ ، قال تعالى: عالِمُ اَلْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً [سورة الجن، الآية: 27-28].

ص: 172

و منها: أنّه أنزله بعلمه فقط فلم يعلم به غيره عزّ و جلّ أبدا، لا أنت و لا قومك و لا غيرهم، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة هود، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [سورة الشورى، الآية: 52].

و منها: انّما أنزله بعلم تامّ بأنّك أهل لإنزاله عليك، و علمه بأنّك تقوم بأعباء الرسالة خير قيام. و هذه الجملة المباركة تتضمّن هذه المعاني الدقيقة و غيرها ممّا لم يسع أفهامنا إليه، و هي تكفي في الدلالة على إعجاز هذا الكتاب العظيم و صدق المنزل عليه، و حقيقة ما جاء صلّى اللّه عليه و آله به، فسبحان من يعلم دقائق الأمور و خفياتها، كما فيه التبكيت العظيم لجهلهم و عنادهم.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً .

فإنّه تعالى هو العالم بجميع الأمور، فقد بالغ في الشهادة بجميع جوانبها و وجوهها على وجه لا تحتاج معه إلى شهادة غيره عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اَللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام، الآية: 19]، و قد حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم ما أوضح السبيل، و أنار الطريق، و نصب الدليل، و أزال الشبهة و كلّ ريب. و حقّا أن يقول سبحانه و تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الأسراء، الآية:

88].

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ .

الخطاب مع أهل الكتاب، و فيه من التعنيف و التشديد عليهم ما لا يخفى؛ لأنّ الكفر إنّما كان بعد بيان الحجّة البالغة و الاحتجاج عليهم بثبوت نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و شهادته عزّ و جلّ و شهادة الملائكة عليها و تصديقه لما أنزله عزّ و جلّ

ص: 173

عليه صلّى اللّه عليه و آله، و بيان أنّ ما أنزله من الوحي عليه إنّما كان مثل ما اوحي الى النبيين من قبله، فمن أعرض بعد وضوح الحجّة، فإنّما يكون إعراضه عن ضلال، و كفره عن عناد و لجاج.

و المعنى: أنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب بما انزل إليك، و صدّوا عن الحقّ بإنكار نبوّتك و كلّ ما يوجب السلوك الى رضوان اللّه تعالى، و حملوا غيرهم على الإعراض و التشكيك و التمويه و تلبيس الحقّ بالباطل، و المراد بسبيل اللّه هو بعثة خاتم الأنبياء و رسالته و الكتاب الّذي انزل عليه و كلّ ما اوحي إليه من التشريعات و التوجيهات و الحكم و المعارف.

و إنّما ذكره عزّ و جلّ بدل الكتاب؛ للدلالة على أنّه من طرق الحقّ و من سبل رضوان اللّه تعالى، و هذه شهادة اخرى على حقيقته، و ليشمل ما ورد في كتبهم من الأدلّة على نبوّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و البشارة ببعثته الّتي حرّفوها و أوّلوها بالباطل، و لبيان شناعة فعلهم بصدّهم عن سبيل اللّه تعالى مع ادّعائهم الإيمان به عزّ و جلّ ، و لترتيب الجزاء العظيم على فعلهم الّذي يذكره في الآية اللاحقة.

قوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً .

أي: فقد بعدوا عن الحقّ و سلوك طريق الهدى بعدا شاسعا بالكفر و الصدّ عن سبيل اللّه تعالى.

و إنّما كانوا على الضلال البعيد؛ لأنّهم كفروا و صدّوا و ضلّوا و أضلّوا، و لأن كفرهم كان بعد وضوح الحجّة و إلزامهم بها، فكان عن عناد للحقّ و استكبار عن قبوله، فكان ضلالهم بعيدا عن قبول كلّ ما يرشدهم الى الصراط المستقيم، فقد استولى الكفر على سمعهم و أبصارهم و لم يكادوا يفقهون سبيلا يوصلهم الى الحقّ .

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا .

تأكيد لما ورد في الآية الكريمة السابقة، و تثبيت لمضمونها لأهمّيّته، و المراد بالظلم هو الكفر و الصدّ عن سبيل للّه تعالى، فقد احتملوا ظلما كبيرا بصدّهم عنه و إضلال غيرهم عن الوصول الى الحقّ بكتمانه و تحريفه و تمويهه، فتكون الآية

ص: 174

المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية الشريفة السابقة، و تبيّن وجه كونهم على الضلال البعيد.

قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ .

لأنّ الظلم كان بعد وضوح الحجّة، و قد استولى الظلم على قلوبهم و أثّر في نفوسهم، فأفسد فطرتهم فلم تحتمل الغفران، و من سنّته جلّت عظمته أنّه لا يغفر لمن كان هذا حاله، بل يستحيل أن تتعلّق المغفرة بمثل هؤلاء.

قوله تعالى: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ .

لأنّهم ضلّوا ضلالا بعيدا و بعدوا عن جميع مسالك الخير و ما يوصل الى الكمال و الهداية و ابتعدوا عن سبيل اللّه تعالى، و ليس من سنّته عزّ و جلّ أن يهديهم طريقا يوصلهم الى الهداية و الجزاء الحسن إلاّ طريق جهنّم الّتي اختاروها بسوء أفعالهم و الفاسد من عقائدهم و أوغلوا السير فيه، فلم يستعدّوا للمغفرة و الهداية الى الحقّ و التوفيق الى الأعمال الصالحة الّتي هي طريق الجنّة.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً .

لسوء سرائرهم و فساد فطرتهم، فيدخلون جهنّم فيمكثون فيها أبدا، و إنّما أكّد الخلود بالتأييد لدفع احتمال أن يراد من الخلود المكث الطويل، أو للإعلام بأنّه لا تشملهم المغفرة و الشفاعة مطلقا.

قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أي: و كان ذلك الجزاء سهلا على اللّه تعالى، فإنّه القادر على كلّ شيء و لا يستعصي على قدرته ذلك، فلا ملجأ إلاّ الى اللّه تعالى و لا منجا من عذابه، فالكافرون و إن كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى و ضلّوا و أضلّوا و أوغلوا في الكفر و الظلم، و لكنّهم عاجزون أمام قدرته، و لا بدّ أن يرجعوا إليه ليروا جزاء أعمالهم، و لا مفرّ منه جلّ شأنه.

ص: 175

بحوث المقام

بحث أدبي

(من) في قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ تبعيضيّة متعلّقة ب «الراسخون»، و «منهم» في موضع الحال، و يشارك (المؤمنون) (الراسخون) في تعلّق (منهم) به كما عرفت.

و ذكر وصف الإيمان بعد وصف الرسوخ في العلم؛ لبيان أنّ الأخير هو الموجب له تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.

و قد ذكر ما يتعلّق بإعراب قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ ، و هو أحد المواضع في القرآن الكريم الّتي وقع الخلاف بين علماء النحو في إعرابها.

و الثاني: قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: 63].

و الثالث: قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: 69].

و الرابع: قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة المنافقون، الآية: 10].

و قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً مبتدأ و خبر. و الإشارة بالبعيد تنويها بجلالة قدرهم، و الجملة خبر لقوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، و السين لتوكيد الوعد، و التنوين للتفخيم. و لا يخفى المناسبة بين طرفي الاستدراك، حيث أو عد الأوّلين بالعذاب الأليم، و وعد الراسخين بالأجر العظيم.

و جوّز بعضهم أن يكون خبر المبتدأ الأول: «الراسخون» جملة «يؤمنون»، و لكن المناسبة على هذا غير تامّة.

ص: 176

و الأسماء في قوله تعالى: إِبْراهِيمَ ... وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ كلّها أعجميّة إلاّ «الأسباط»، فقد وقع الخلاف فيها، فالمعروف أنّها ليست بأعجميّة، و في «يونس» لغات أفصحها بضمّ النون من غير همز، و قيل:

يجوز فتحها و كسرها مع الهمز و تركه.

و (زبور) بفتح الزاي، و هي القراءة المعروفة، و هو فعول بمعنى المفعول - كالحلوب و الركوب - و قرأ بعضهم بضمّ الزاي حيث وقع، و هو جمع زبر بالكسر فالسكون بمعنى مزبور، أي: مكتوب. أو زبر بالفتح و السكون كفلس و فلوس.

و قيل: إنّه مصدر كالقعود و الجلوس، و قيل: إنّه جمع زبور على حذف الزوائد.

و كيف كان فهو اسم لما انزل على داود عليه السّلام.

و (رسلا) في قوله تعالى: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ منصوب بإضمار أرسلنا.

و جملة: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً برفع اسم الجلالة و نصب موسى، و قرأها بعضهم على القلب. و (تكليما) مصدر مؤكّد جيء به لرفع احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من التكليم وحيا. و رفع احتمال المجاز في الإسناد بأن يكون المكلّم رسله من الملائكة.

و قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إمّا أحوال ثلاثة و الأوّل حال و الأخيران وصفان له، أو أنّ الأوّل منصوب على المدح أو بإضمار (أرسلنا)، و قيل غير ذلك، و لكنّها بعيدة عن سياق الآية الشريفة.

و الباء في قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قيل: إنّها للملابسة؛ لبيان أنّ جميع ما ورد في الكتاب إنّما يكون مع علمه عزّ و جلّ . و قيل: إنّه للآليّة، كما يقال: فعله بعلمه، إذا كان متقنا، فيكون وصفا للقرآن الكريم بكمال الحسن و البلاغة و الإتقان.

ص: 177

بحث دلالي

يدلّ قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ على فضل العلم و أثره الكبير في كسب الكمالات و الحقائق الواقعيّة، و لعلّ ذكر قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بعده؛ لبيان أنّ هؤلاء هم المؤمنون حقّا، و يؤكّد هذا أنّه عزّ و جلّ قد ذكر من أحوال أهل الكتاب عموما و اليهود على الخصوص، و وصفهم بالتذبذب و عدم الرسوخ في العلم و عدم الاستقرار على شيء من الحقّ مع ما استوثق منهم المواثيق المؤكّدة و العهود الغليظة.

فتبيّن الآية فضل الّذين استثناهم اللّه تعالى؛ لأنّهم اتّصفوا بأوصاف تدلّ على علوّ منزلتهم و رفيع مقامهم، و عظيم أجرهم الّذي وعده اللّه عزّ و جلّ للمؤمنين.

كما تدلّ الآية الشريفة على أنّ الإيمان مع العلم أعظم درجة من غيره؛ لأنّهم تلبّسوا بحقيقته و علموا بالذي اعتقدوه، فآمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بما انزل إليه لما وجدوا أنّ نبوّته و الوحي الّذي انزل إليه مثل ما اوحي الى الأنبياء الماضين عليهم السّلام، فكان إيمانهم عن علم و معرفة، بخلاف غيرهم ممّن وصفه اللّه تعالى بالغفلة، فقال عزّ و جلّ : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: 6].

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في ذكر: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ؛ لأنّ الإيمان به يستلزم الإيمان بما انزل قبله، للتأكيد على صدق إيمانهم، و لأنّ المقام مقام الفرق بين المؤمنين حقّا و أهل الكتاب الّذين يدّعون الإيمان بما انزل الى الأنبياء السابقين، فاستدعي ذكر ما انزل قبلا.

و الآية الشريفة بمجموعها تدلّ على ما يوجب الرسوخ في العلم، و هو الإيمان باللّه العظيم و الإيمان بالأنبياء على أنّهم رسل اللّه تعالى، بلا فرق بينهم إلاّ ما فضّله اللّه تعالى بما ذكره عزّ و جلّ في هذا المقام و غيره، و أنّ الغاية من بعثهم هي

ص: 178

تبليغ أحكامه عزّ و جلّ و تشريعاته المقدّسة، و الإيمان بأنّهم حقيقة واحدة بالنسبة الى الوحي، بلا فرق بينهم من هذه الجهة إلاّ في سعة التكاليف الّتي أنزلها اللّه تعالى عليهم و ضيّقها، و لكن الوحي واحد، و لذا عدّد عزّ و جلّ ذكر الأنبياء في المقام؛ لبيان أنّهم و إن كثروا في الأفراد إلاّ أنّهم واحد في الوحي كما تقدّم، و يدلّ على ذلك أنّ اللّه تعالى حكى عن الّذين استثناهم بقوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - الى قوله تعالى - إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ الدال على أنّه بمنزل التعليل لإيمانهم.

كما أنّ المستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ من شروط الإيمان الواقعي و الرسوخ في العلم، هو العمل بما علمه الإنسان.

و يستفاد من قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ أنّ اللّه تعالى من عظيم لطفه بعباده و واسع رحمته أنّه لم يكل الإنسان الى نفسه، و لم يؤاخذهم بميثاق الفطرة؛ لعلمه بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و انتكاس الفطرة، فأثبت لهم حقّا قد يطالبوه به يوم الحساب، مع أنّ له الحجّة البالغة، فأرسل الرسل لهدايتهم و إرشادهم الى الكمال و تبيّن لهم الفطرة الّتي أودعها اللّه تعالى فيهم و تبعّدهم عن الفطرة المنحرفة الّتي تصدّهم عن الحقّ .

و تدلّ الآية الشريفة على أنّ هذا الحقّ الّذي أثبته عزّ و جلّ لهم لم يكن عن ضعف منه و غلبتهم عليه تعالى، بل كان عن حكمة متعالية رحمة بهم، و قد أكّد ذلك بقوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، فهذه الآية المباركة درس عملي تربوي للإنسان بأنه لا بدّ من أن يبذل جهده في أن لا يثبت لغيره حقّا عليه يطالبه به في يوم لا يمكنه الأداء.

كما أنّ قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يدلّ على عظيم فضل ما انزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث تشرّف على سائر ما انزل على الأنبياء العظام عليهم السّلام بأنّه وحي

ص: 179

خاصّ من علم الباري عزّ و جلّ العالم بحقائق الأمور، و قد أبان فضله بأنّه ممّا يشهد عزّ و جلّ بذلك و الملائكة يشهدون، فإذا لم يشهد أحد بذلك، فإنّ اللّه تعالى شهيد، فصار للايحاء إليه صلّى اللّه عليه و آله مزيّة تفوق على الإيحاء إليهم.

و قد ذكر عزّ و جلّ في آخر الآيات المباركة حكم الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى، و عنّف في الكلام معهم و شدّد النكير عليهم، و بيّن سوء حالهم يوم القيامة؛ لأنّهم ضلّوا عن عناد و لجاج و كفر بعد وضوح الحجّة و أضلّوا غيرهم، فكان عذابهم شديدا يناسب شناعة فعلهم.

و الآيات الشريفة بمجموعها تبيّن أحوال المؤمنين و الكافرين و المعاندين و تقابل بينهم في أوصافهم و جزاء أعمالهم؛ ليكون عبرة لغيرهم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن، فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، يعني: لم اسم المستخففين كما سميت المستعلنين من الأنبياء».

أقول: إخفاؤهم في القرآن لا يستلزم إخفاءهم في السنّة أو في التواريخ المعتبرة، و عدم إظهاره في القرآن لأجل مصالح لا يعلمها إلاّ هو.

و تقدّم الفرق بين الرسول و النبي، فإنّ الأوّل يوحى إليه بواسطة جبرائيل، بخلاف الثاني يوحى إليه بواسطة ملك آخر أو بنوع من الإلهام.

و في الكافي أيضا بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليهما السّلام: «قال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ، و أمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل و السنّة».

ص: 180

أقول: المراد من السبيل هو الدين الحنيف، أي ملّة إبراهيم، و المراد من السنّة هي الطريقة المتّبعة الخاصّة.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: «إنّي أوحيت إليك كما أوحيت الى نوح و النبيّين من بعده، فجمع له كلّ وحي».

أقول: يحتمل في الرواية وجوه:

الأوّل: أنّ الوحي النازل عليه كالوحي النازل على سائر الأنبياء لا تفاوت فيه، و يدلّ عليه ما تقدّم، و ما ورد عن ابن عباس قال: «قال مسكين و عدي بن زيد: يا محمّد ما نعلم اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السّلام، فأنزل اللّه في ذلك: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».

الثاني: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله أشرف و أكمل من الوحي النازل على غيره من الأنبياء؛ لتشرّف الموحى إليه على سائر الأنبياء، فمقتضى قاعدة التناسب و السنخيّة أن يكون وحيه كذلك، و يدلّ عليه ذيل الرواية.

الثالث: أنّ المعارف الإلهيّة و الأحكام الكليّة الّتي اوحيت الى سائر الأنبياء قد اوحيت إليك مع زيادة، و يدلّ على ذلك بعض الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و غيره من الآيات المباركة.

الرابع: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله هو الوحي النازل على سائر الأنبياء عليهم السّلام بعينه في الأحكام جزئيّة و كلّية، و هذا بعيد عن سياق الآيات الشريفة و لم يوافقه ظاهر الرواية.

و كيف كان، فالرواية من باب التفسير للآية الكريمة.

و في الكافي بإسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضّلت بالمفصل ثمان و ستين سورة».

ص: 181

أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة القرآن على غيره من سائر الكتب السماويّة، و السور الطوال في القرآن الكريم هي: البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و التوبة، على أن يعدّ الأنفال و البراءة سورة واحدة، و سمّيتا بالقرينتين.

و المئين من بني إسرائيل الى سبع سور؛ لأنّ كلا منها تقرب مائة آية، و المفصل من سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن الكريم، سمّيت به لكثرة الفواصل بينها.

و المثاني: بقية السور، و لا إشكال في أنّ المثاني من الأمور الإضافيّة، فيصحّ إطلاقها على جميع سور القرآن ما عدى الفاتحة، بل و يطلق عليها أيضا باعتبار تكرّرها في الصلاة كما تقدّم، و المراد من المثاني في المقام المعنى الإضافي لا الحقيقي، كما لا يخفى.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«إنّما نزلت في علي عليه السّلام، أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا».

أقول: الرواية من باب التفسير و التطبيق بأجلّ المصاديق و أشرفها، و لا يكون من التحريف و لا قراءة منه عليه السّلام.

و في الخصال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «انّ اللّه ناجى موسى عليه السّلام بمائة ألف كلمة و أربع و عشرين ألف كلمة في ثلاثة أيّام و لياليهن، ما طعم فيها موسى عليه السّلام و لا شرب فيها، فلما انصرف الى بني إسرائيل و سمع كلامهم، مقتهم لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: الظاهر أنّ العدد المذكور تقريبي - لا واقعي - فقد يكون أكثر أو أقلّ ، و إنّما كان ذلك في زمن معين لعلّه ذلك كان من سؤال موسى عليه السّلام من اللّه جلّت عظمته و من فعله، حتّى يستلذّ أكثر؛ و لذلك نسي كلّ شيء حتّى نفسه فلم يحس بالجوع و لا بالعطش. و بعد انصرافه عليه السّلام من المناجاة لم يألف بأي كلام و استوحش

ص: 182

منه و حصل له النفرة و البغض منه من أثر تلك اللذّة.

و في الاحتجاج في مكالمة اليهود النبي صلّى اللّه عليه و آله قالوا: «موسى خير منك ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و لم ؟ قالوا: لأنّ اللّه تعالى كلّمه أربعة آلاف كلمة، و لم يكلّمك بشيء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك، قالوا: و ما ذاك ؟ قال: قوله عزّ و جلّ : سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى ».

أقول: لا شكّ في أنّ المواجهة أفضل من المكالمة؛ لأنّ كلامه تعالى مع موسى عليه السّلام كان إحداث كلام في الشجرة - كما في بعض الروايات - منبعثا منها؛ و لذا كان يسمع من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّم اللّه موسى تكليما بلا جوارح و أدوات و شفة و لا لهوات، سبحانه و تعالى عن الصفات».

أقول: ثبت في الفلسفة الإلهيّة بالأدلّة القطعية تنزّهه سبحانه و تعالى عن الجسم و الجسمانيات، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بكلامه عزّ و جلّ فراجع.

في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: (ان الّذين ظلموا آل محمّد منهم لم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا إلاّ طريق جهنّم خالدين فيها أبدا و كان ذلك على اللّه يسيرا)، و قال: (يا أيّها الناس قد جاءكم الرسول بالحقّ من ربّكم في ولاية علي فآمنوا خيرا لكم و إن تكفروا بولايته فإنّ للّه ما في السموات و الأرض).

أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية بأنّ المراد من نزول جبرئيل الوحي مع التفسير بالمصداق، و إلاّ فالرواية تدلّ على نوع من التحريف، و نحن لا نقول به و ذكرنا في المقدّمة ما يتعلّق به.

و يحتمل أن يكون المصاديق من كلام الإمام عليه السّلام، ذكرها في ضمن الآية المباركة من باب الجري و التطبيق. و اللّه العالم.

ص: 183

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أنّ جميع الرسل و الأنبياء وحدة متكاملة و على سنّة واحدة، و هي الوحي من اللّه تعالى، و أنّ ما انزل الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله هو من سنخ ما انزل على سائر الأنبياء العظام عليهم السّلام، و احتجّ على أهل الكتاب بحجج دامغة، و ردّ على سؤال أهل الكتاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزيل كتاب من اللّه تعالى بأنّ رسوله جاء بالحقّ و انزل عليه ما فيه من الحجج القاطعة الّتي لا يحتاج بعدها الى تنزيل كتاب، ثمّ عنّف على المنكرين من أهل الكتاب.

ففي هذه الآيات الشريفة يوجّه الخطاب الى الناس جميعا بعد وضوح الحجّة

ص: 184

بشأن بعثة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ الحجّة إذا قامت على أهل الكتاب بشهادة من اللّه تعالى و شهادة الملائكة و وجب عليهم الإيمان، فبالأولى تقوم على غيرهم، و بعد ظهور صدق التسوية فإنّه تصحّ دعوة الناس كافّة الى الرسول و الى ما انزل إليه، ثمّ يوجّه الخطاب الى أهل الكتاب مرّة اخرى؛ ليكفّوا عن انحرافاتهم، و يخاطب النصارى منهم بالخصوص لنبذ الغلو في دينهم و يلحقوا بالموحّدين و يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و بالرسل جميعا على استقامة، و يقرّوا بعيسى عليه السّلام بما أقرّوا به في غيره من الأنبياء و الرسل عليهم السّلام بأنّهم عباد اللّه و رسله الى خلقه. و يقيم الحجّة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى عليه السّلام بأسلوب واضح رصين.

و يختم عزّ و جلّ الآيات المباركة بنداء ربوبي رقيق للناس جميعا بالإيمان باللّه جلّ شأنه و الاعتصام به، فإنّه عزّ و جلّ سيدخلهم في رحمة منه و فضل، و يهديهم الى ما يسعدهم في الدنيا و الآخرة.

و من الإعجاز القرآني أنّ هذا النداء الربوبي يشتمل على أسلوب رقيق يحبّب الإيمان الى قلوب الناس، بعد تلك الجولة الطويلة مع المؤمنين و الزائغين و الكافرين.

و ممّا زاد في تأثير هذا النداء أنّه يتضمّن الوعد فقط، و لم يذكر فيها جزاء الكافرين؛ لأنّه نداء التحبّب و العطف، و ليس نداء الإنذار و العنف، و من حسن الختام أنّه كان في آخر هذه السورة.

و قد نزل في ختام تلك الجولة الطويلة الّتي كانت مع الناس و تناولت العقيدة و الإيمان و السلوك و المشاعر، و قد اشتملت على جميع سبل التربية الإسلاميّة لأهمّ قضية في حياة الإنسان، و هي قضية الإيمان باللّه تعالى و ما يترتّب عليها من المقتضيات.

فكانت هذه السورة من أمهات السور القرآنيّة الّتي تناولت العقيدة بجميع جوانبها بأحسن أسلوب و أتمّ وجه، فاشتملت على جميع التوجيهات الّتي تعدّ الامة المؤمنة لتحمل الأمانة الكبرى.

ص: 185

و تضمّنت من الأحكام العمليّة الفرديّة و الاجتماعيّة الّتي تجعل الامة المسلمة سعيدة و مطمئنة. و هذه السورة و إن طالت و تعدّدت موضوعاتها إلاّ أنّها ذات وحدة شاملة تربط بين موضوعاتها بصورة واضحة، و لها شخصيتها المميّزة و إن تشابهت موضوعاتها مع غيرها من السور.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ .

خطاب عامّ لجميع الناس، فإنّه بعد وضوح الحجّة و ظهور صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شهادة اللّه تعالى على نبوّته و ما انزل إليه، فقد صلحت الدعوة إلى كافّة الناس و لزمت الحجّة كلّ الأفراد لعموم رسالته صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّما ذكر الرسول معرّفا؛ لأنّه هو الرسول الكامل المعروف لدى أهل الكتاب الّذي بشّر به، أو أنّه هو الّذي أقيمت الحجّة على صدقه و شهد تبارك و تعالى على بعثته آنفا، و أنّه قد ذكر موصوفا بالرسالة لتأكيد وجوب طاعته، و قد جاء بالحقّ من عند اللّه جلّ شأنه الّذي هو ربّكم و يريد من بعثته إليكم تربيتكم و إرشادكم الى الكمال اللائق بكم، فهذا تأكيد آخر و ترغيب للامتثال بعد الأمر بالإيمان به.

قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .

أي: إذا عرفتم ذلك و ظهرت الحجّة لكم فآمنوا به، فإنّ الإيمان خير لكم؛ لأنّه يزكّيكم و يطهّركم من الذنوب و الآثام و يؤهّلكم الى السعادة.

و اختلف العلماء في إعراب هذه الآية المباركة، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و في الآية الشريفة الترغيب الى الإيمان و تحبيب الناس إليه، فإنّ الإنسان بفطرته يسعى الى الخير و يطلبه في أي مورد كان.

ص: 186

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

أي: أنّ اللّه تعالى إنّما يأمركم بالإيمان لأنّه خير لكم، و إن عرضتم و كفرتم فإنّ اللّه غني عنكم و لا ينقص بكفركم منه شيء، فإنّ له كلّ شيء في السموات و الأرض - خلقا و ملكا و تصرّفا - فلا يتضرّر بالكفر كما لا ينتفع بالإيمان، فلا يخرج الإنسان بكفره عن ملكه و عبوديته، فهو القادر على جزائه بما يقتضيه كفره.

و تدلّ الآية الكريمة على أنّ الكافر مكابر لفطرته و عقله، فإنّه كيف يتأتّى منه الكفر مع علمه بأنّ له تعالى ما في السموات و الأرض.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

أي: أنّه تعالى عليم بجميع الأمور و محيط بمخلوقاته إحاطة علميّة لا يخفى عليه إيمان أحد و لا كفر آخر، حكيم في أفعاله، فلم يخلق عباده عبثا، فإذا أمر الإنسان بالإيمان، فلعلمه بأنّه خير له، و إنّه يعذّب الكافر لأنّه استكبر و لم يؤمن.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ .

آيات خاصّة نزلت في محاجّة النصارى بعد محاجّة اليهود الّذين كانوا على طرف النقيض مع النصارى في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام، فإنّه - كما حكى عنهم عزّ و جلّ - عرفوا بتحقيره و إهانته و رميه بما يمسّ كرامته، و الكفر به، فكانوا في أعلى درجات التفريط في حقّه عليه السّلام.

و أمّا النصارى فقد غلوا في تعظيمه و تقديسه و تجاوزا حدود اللّه تعالى فيه، فأفرطوا كلّ الإفراط، فلما أبطل عزّ و جلّ شبهات اليهود عقبه بإبطال شبهات النصارى و تفنيد مزاعمهم.

و إنّما وصفهم بأهل الكتاب مع أنّه خطاب عامّ يشمل اليهود أيضا؛ إرشادا لهم بعدم تجاوز الحقّ في شأن المسيح، و زجرا لهم عمّا هم عليه من الضلال البعيد.

و يمكن القول بأنّ الخطاب لهم جميعا، فإنّ اليهود كالنصارى غلوا في الدين و تجاوزوا الحقّ في شأن المسيح عليه السّلام، فالاولى غلت فيه ففرّطت كلّ التفريط، و الثانية غلت أيضا فأفرطت كلّ الإفراط، فيكون قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ تخصيصا بعد تعميم بتجريد الخطاب و تخصيص له بالنصارى بعد معلوميّة حكم اليهود من الآيات السابقة، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و كلمات البلغاء.

ص: 187

و يمكن القول بأنّ الخطاب لهم جميعا، فإنّ اليهود كالنصارى غلوا في الدين و تجاوزوا الحقّ في شأن المسيح عليه السّلام، فالاولى غلت فيه ففرّطت كلّ التفريط، و الثانية غلت أيضا فأفرطت كلّ الإفراط، فيكون قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ تخصيصا بعد تعميم بتجريد الخطاب و تخصيص له بالنصارى بعد معلوميّة حكم اليهود من الآيات السابقة، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و كلمات البلغاء.

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ .

بيان لنفي الغلو في الدين، و إرشادهم لهم بعدم نسبة أمر الى اللّه تعالى إلاّ الحقّ ؛ لأنّه حقّ و لا يصدر منه إلاّ الحقّ ، فيجب عليهم التماس الحقّ في جميع أمورهم.

و المراد من الحقّ هنا هو المعارف الإلهيّة و الحقائق الواقعيّة و التشريعات الربوبيّة و التوجيهات السماويّة الّتي أنزلها عزّ و جلّ على أنبيائه العظام عليهم السّلام، و ثبتت في القرآن الكريم.

كما أنّ المراد من القول هنا الأعمّ من الاعتقاد و الذكر اللساني، أي: لا تعتقدوا و لا تذكروا إلاّ الحقّ الثابت، فليس لكم أن تزعموا في دينكم ما لم يقم عليه برهان و تنسبوه الى اللّه تعالى، فتكون الآية الشريفة تمهيدا لنبذ ما زعموه في المسيح و إلزاما لهم بأنّهم أهل الكتاب، فيجب عليهم قول الحقّ و ابتغاؤه في جميع أمورهم، فتدلّ الآية الكريمة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى بن مريم من الحلول و الاتّحاد و غير ذلك من الأباطيل.

قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ .

تخصيص بعد تعميم الخطاب لأهل الكتاب تطبيقا لما بيّنه عزّ و جلّ من نفي الغلو و عدم نسبة شيء إلى اللّه جلّ شأنه إلاّ الحقّ ، و الخطاب موجّه للنصارى الّتي غلت في المسيح عليه السّلام و اعتقدت فيه الأباطيل.

و المسيح كلمة غير عربية قرئ مخفّفا - و هو المعروف - و مشدّدا بكسر الميم و تشديد السين كالسكّيت. و معناه المبارك.

و إنّما صرّح عزّ و جلّ باسمه و اسم الام؛ للدلالة على كونه إنسانا مخلوقا تكوّن في رحم امرأة كأي إنسان آخر. و حينئذ لا يقبل التفسير و التأويل بأي

ص: 188

وجه كان، و هي تدلّ على بطلان ما زعموه فيه من البنوّة له جلّ شأنه.

قوله تعالى: رَسُولُ اَللّهِ .

بيان لشأن المسيح عنده عزّ و جلّ ، الّذي يجب أن يعتقدوه فيه عليه السّلام، و هو الحقّ ، و غيره باطل لا يجوز نسبته إليه تعالى.

و هذه الصفة تدلّ على بطلان الألوهيّة في حقّه، و إنّما قدّمها على ما سيأتي تعظيما لشأنه عليه السّلام؛ و لبيان أنّ نفي الحلول و الاتّحاد و البنوّة عنه لا يوجب الانتقاص منه، فإنّه رسول اللّه، و لعلّ الوجه في تأخيرها لبيان أنّه لا يخرج بالرسالة عن كونه إنسانا، فهو فرد تولّد من رحم امرأة و يصيبه ما يصيب غيره من سائر أفراد الإنسان.

قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ .

بيان للحقّ الّذي لا بدّ أن يقال على اللّه تعالى، و ردّ لما زعموه فيه من الألوهيّة و البنوّة بتوضيح خلق المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام.

و المراد من الكلمة هي كلمة «كن» الدالّة على التكوين بمحض قدرته التامّة و إرادته الفعليّة الّتي تعلّقت بخلق عيسى عليه السّلام، و جملة: أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ تفسير لمعنى الكلمة.

و الإلقاء: هو الطرح و الإيصال، و يستعمل في الأمور الماديّة و المعنويّة، قال تعالى: وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ [سورة النحل، الآية: 87]، و قال تعالى:

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ [سورة النحل، الآية: 86]، و هو و إن كان مطلقا في المقام إلاّ أنّه عزّ و جلّ بيّنه في موضع آخر أنّه كان بواسطة الملك على نحو البشارة، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45].

قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

الروح: لها معان متعدّدة، و يجمعها أنّها من أمر اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ :

قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85].

ص: 189

و المعنى: أنّه روح مخلوقة للّه تعالى؛ بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الّتي أودعت في مريم الطاهرة، لا بواسطة نطفة و توالد.

و الآيات المباركة جميعها تدلّ على أنّ خلق عيسى عليه السّلام كان معجزة، و قد تحقّق بكلمة (كن) التكوينيّة، من غير دخل للأسباب العاديّة الّتي يجب أن تتحقّق في خلق سائر أفراد البشر من الأب و النكاح و غيرها، قال تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * [سورة آل عمران، الآية: 47].

إن قلت: إنّ ما سواه تعالى من المخلوقات هي كلمات اللّه تعالى، فليكن خلق عيسى عليه السّلام أيضا كذلك، و إنّما خصّه بالذكر تشريفا.

قلت: كون مصنوعاته تعالى كلماته عزّ و جلّ صحيح لا ريب فيه، إلاّ أنّه لا ينافي أن تكون مختلطة بالأسباب العاديّة القريبة و البعيدة المترتّبة في سلسلة التكوين، فإنّ اللّه تعالى أبى أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها. بخلاف خلق عيسى عليه السّلام، فإنّه كان أمرا خاصّا به تكوّن بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الخالصة من الأسباب العاديّة القريبة و البعيدة الّتي يجب تحقّقها في تولّد الإنسان، فكان خلق عيسى عليه السّلام آية من آيات اللّه تعالى أودعها في رحم مريم العذراء عليها السّلام.

إن قلت: إذ كان خلق عيسى عليه السّلام معجزة و خارق العادة، فلما ذا لم يخلقه عزّ و جلّ من دون رحم امرأة و بشارة الملك لها، فإنّ اللّه تعالى على كلّ شيء قدير.

قلت: نعم، و لكن ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأمور الخارقة للعادة الّتي تتحقّق بسبب كلمة (كن) التكوينيّة و المعاجز الّتي تقع على يد الأنبياء و الأولياء بإذن منه عزّ و جلّ ، اقتضت سنّته تعالى فيها أن يجريها في موضوع من الموضوعات الماديّة و يخرجها في هذا العالم - عالم الملك و المادّة - بالصورة المناسبة لهذا العالم، ففي خلق عيسى عليه السّلام مثلا هو قادر على أن يخلقه من غير أم و لا نفخ الملك، و لكنّه عزّ و جلّ خلقه من أم بواسطة بشارة ملك و نفخ منه؛ ليكون بمنزلة الأب و نفخه بمنزلة التلقيح، كما أنّ خلق ناقة صالح إنّما كان من الجبل ليكون بمنزلة الام، و كذا تسبيح الحصى في يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هكذا بقية المعاجز. هذا إن لم

ص: 190

يكن بعضها خارجة عن قانون الأسباب و المسبّبات، و إن كانت بظاهرها فاقدة لها إلاّ أن الأسباب تارة: تكون واضحة و معروفة، و اخرى: تكون خفيّة و غير معلومة لأحد إلاّ من علّمه عزّ و جلّ ، فيجريها الرسول أو الولي بالسبب الّذي علّمه عزّ و جلّ به. و البحث نفيس نذكره في الموضع المناسب إن اقتضى الحال إن شاء اللّه تعالى و ساعدنا الزمان بعد ما نستمد منه العون و التوفيق.

و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد من الروح هو النفخة، أي: أنّه خلق بنفخ الملك المعبّر عنه بالروح، و روح القدس في مريم عليها السّلام بأمره سبحانه و تعالى، و قد جاء تسمية النفخ روحا في كلامهم، كما قال ذو الرمة في إضرام النار:

فقلت له ارفعها إليك و أحيها *** بروحك و اجعلها لها فيئة قدرا

و قالوا: إنّ الّذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح، و إنّ أصل الريح روح (بالكسر) فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة، و جمعه أرواح و رياح، و إن كان أصل هذه الرواح.

و لكنّه ليس بشيء، فإنّ الروح و إن استعمل في غير المقام في النفخ، لكن لا يصير دليلا على كونه في المقام كذلك، لا سيما بعد دلالة القرائن الكثيرة على أنّ المراد به غير ذلك، فإنّ العطف بين الأمرين في المقام يقتضي المغايرة بينهما.

و الحقّ أن يقال: إنّ كلّ واحد من الأمرين يمثّل جانبا من جوانب هذا النبي العظيم الّذي ظهرت آيات اللّه تعالى فيه من قبل ولادته الى حين رفعه الى السماء و بعده أيضا، فإنّ الكلمة الّتي ألقاها الى مريم عليها السّلام من دون أب، و أمّا الجانب الروحاني منه عليه السّلام فيكون في أنّه خلق بروح منه، أي بأمر صادر منه عزّ و جلّ ، و هو أمر قدسي و سرّ إلهي يفيضه اللّه تعالى على من يشاء من خلقه و يختصّ به بعض عباده المخلصين، منهم آدم عليه السّلام أبو البشر كما عرفت؛ و لذا كان خلق كلّ واحد منهما خلاف السنّة في خلق الناس، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران، الآية: 59]،

ص: 191

و بهذا الأمر فاق على جمع كثير من الأنبياء عليهم السّلام، و يشهد لهذا أنّ الناس إذا وصفوا شيئا في غاية الطهارة و النظافة قالوا: إنّه روح، و لما كان عيسى لم يتكوّن من نطفة الأب، بل كان بأمر صادر منه عزّ و جلّ و نفخة من روح القدس، وصف بأنّه روح منه.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المتكلّفين من النصارى، حيث تمسّك بقوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ ؛ لإثبات دعواهم في المسيح عليه السّلام من كونه جزءا منه عزّ و جلّ ، جاعلا (من) للتبعيض و الجزاء الآخر هو روح القدس الّذي انبثق من الأب، بل إنّه عينه، و يستدلّون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح: «و متى جاء المعزى الّذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الّذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي»، و بعضهم عبّر عن الانبثاق بالخروج.

و كيف كان، فإنّ الآية المباركة بمعزل عن ما ذكروه، و إنّ (من) في المقام لا تكون تبعيضيّة، بل هي للصدور، و نظيره ما ورد في شأن آدم عليه السّلام، قال تعالى:

وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي * [سورة ص، الآية: 72].

قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ .

تفريع على صدر الكلام، أي: فإذا عرفتم أمر عيسى بن مريم عليه السّلام فآمنوا باللّه وحده الّذي اختصّ بالالوهية، و جمع جميع صفات الكمال و تنزّه عن جميع صفات الجلال. و آمنوا برسله كلّهم بوصف كونهم رسل ربّ العالمين، و لا تخرجوا واحدا منهم الى ما يستحيل وصفه من الألوهيّة و نحوها، فهم عبيد مأمورون خصّهم عزّ و جلّ بالفيض و أنزل إليهم الوحي.

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ .

و لا تقولوا: الآلهة ثلاثة، و هي المعرفة عندهم بالأقانيم - و هم الأب، و الابن، و روح القدس - فاللّه عندهم واحد بالجوهر و ثلاثة بالأقانيم، أي: أنّ كلّ واحد منها عين الآخر، و كلّ منها إله كامل، و مجموعها إله واحد.

و يمكن أن يكون المراد من الثلاثة هي الّتي حكى عزّ و جلّ عنها في قوله

ص: 192

تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، فيكون الثلاثة اللّه، و عيسى، و مريم، و لعلّ هذا الاعتقاد هو الأساس للاعتقاد الأخير في الأقانيم الثلاثة. و سيأتي في البحث العقائدي تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ .

أي: انتهوا عن مقالتكم الدالّة على الشرك و اتّصاف اللّه تعالى بصفات المخلوقين أو اتّصافهم بصفات الخالق، فإنّ هذا الانتهاء خير لكم في الدنيا و الآخرة، و إنّ الخير أن تؤمنوا باللّه الواحد الأحد المنزّه عن مجانسة المخلوقين و عمّا لا يليق به، و تؤمنوا برسله المبعوثين لهداية البشر.

قوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ .

بعد أن نفى مقالة النصارى و بيّن الإيمان الصحيح و ردف عزّ و جلّ ذلك بالنهي عن ما يوجب الشرك و ما يصادم المعقول، أكّد ذلك بأنّ اللّه تعالى واحد ليس له أجزاء، فهو واحد بالذات منزّه عن التعدّد مطلقا. و في ذلك ردّ على مقالتهم الّتي تدلّ على التعدّد.

قوله تعالى: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .

السبحان مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: «أسبحه تسبيحا و سبحانا»، و يتعدّى ب (من) و (عن)، و هو منصوب بنزع الخافض.

و المعنى: تنزّه و تقدّس عن أن يكون له ولد، كما تقوله النصارى في المسيح إنّه ابنه، فإنّه ليس كمثله شيء، و لم يكن له جنس يقترن به ليكون زوجا له، فتلد له ابنا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ لفظ الولد دون الابن الّذي يذكرونه في كلماتهم؛ للدلالة على أنّ الولد إنّما يكون مولودا من أب و أم و اقتراب منهما بالنكاح، و كلّ ذلك محال على اللّه تعالى.

الآية المباركة تدلّ على التعظيم و التنزيه. و ذلك يستلزم التقديس.

ص: 193

قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

جملة استينافيّة مسوقة للتعليل و الاحتجاج على وحدانيّة تعالى و نفي الولديّة منه و تنزّهه عن مجانسة مخلوقاته، فإنّ كلّ ما في السموات و الأرض مخلوق له و مملوك له في أصل ذاته و جميع آثاره، فتدلّ على وحدانيّته و مظاهر صفاته، فهو القيوم على جميعها، و لا يمكن أن يكون الأثر مماثلا للمؤثّر ليتّخذ صاحبة و ولدا - و قاعدة: «سنخيّة العلّة مع المعلول» المبحوث عنها في الفلسفة شيء آخر و لا ربط لها بالمماثلة، كما هو واضح.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً .

دليل آخر على ثبوت جميع ما ورد في الآيات السابقة. و الوكيل من أسمائه الحسنى، أي: أنّه الولي لما سواه و الحافظ له، يدبّر أمره و يرعى شؤونه، فهو الكافي و لا يكفي منه غيره، و أنّه يهديكم الى ما هو خير لكم و يدعوكم الى ما يسعدكم في الدنيا و الآخرة، و يراقب أعمالكم و أقوالكم فيحاسبكم عليها، إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا.

قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ .

تقرير لما سبق من التنزيه، و تأكيد على نفي الوهيّة المسيح مطلقا و لو فرض كونه ولدا له، و قد أخذ عزّ و جلّ على النصارى بما هو معترف به لديهم، فإنّهم لا ينكرون كون المسيح عبدا للّه و لن يستنكف عن عبادته، كما صرّحت به الأناجيل الدائرة عندهم أنّه كان يعبد اللّه تعالى.

منها: ما نقلناه في البحث السابق عن مرقس: «قال يسوع: إن نفسي حزينة حتّى الموت، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي للّه تعالى، و قال: أيّها الأب كلّ شيء بقدرتك، أخّر عني هذا الكأس، لكن كما تريد لا كما أريد، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي للّه تعالى»، و لا وجه لعبادة الولد الّذي يكون من سنخ الوالد الّذي يكون إلها، و لا معنى لعبادة الشيء لنفسه أو عبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي يكون هو المجموع، و كلّ واحد هو إله كما عرفت، و هذا من أحسن الحجج و أتمّها، حيث يذكر في

ص: 194

الاحتجاج ما هو المعترف به لدى الخصم، فيحاج به و يسمّى في علم المنطق ب دليل الاقتناع.

و مادّة (نكف) تدلّ على الامتناع عن الشيء و الانقباض منه أنفا و حميّة، يقال: نكفت الشيء نحيّته، و يقال: بحر لا ينكف، أي: لا يبلغ آخره، و غيث لا ينكف، أي: لا ينقطع، و منه الاستنكاف و هو التكبّر الّذي يكون الترك عن أنفة، و يتعدّى ب (من) و (عن).

و المعنى: لن يستكبر المسيح عن أن يعبد اللّه تعالى، و لن يأنف أبدا أن يكون عبدا له عزّ و جلّ ؛ لأنّ العبوديّة للّه العظيم شرف له، و إنّما المذلّة في غيرها ممّن ادّعى الألوهيّة لنفسه الّتي لا يستحقّها. و لا بدّ أن يستنكف عن عبوديّة غيره تعالى.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ العبوديّة دون غيرها من الألفاظ المرادفة؛ لأنّ الكلام مع الكفرة الّذين ادّعوا الألوهيّة فيه و رفعوه عن مقام العبوديّة؛ و لهذا قال عزّ و جلّ :

أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ ، و لم يقل: عن عبادة اللّه، و نحو ذلك.

و تدلّ الآية الشريفة على كمال نزاهته و عدم استنكافه بالكليّة؛ لأنّها تدلّ على العليّة، أي: علّة عدم استنكافه هي كونه عبدا للّه، بخلاف التعابير الاخرى الّتي لا تدلّ أكثر من اتّصافه بها و لو كانت مرّة واحدة، و لا تدلّ على الدوام و التجدّد.

و بعبارة اخرى: أنّ اتّصاف الشخص بالعبادة يكفي فيه أن يكون مرّة واحدة و تحقّقها فيه كذلك، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عدم الاستنكاف عن دوامها، و يدلّ على ذلك أيضا التعبير عن عيسى عليه السّلام بالمسيح الدالّ على العبوديّة؛ لأنّه مبارك و لا ريب في أنّ عبادة من يعلم عظمة اللّه تعالى و يقرّ بأنّه عبد للّه أفضل من كلّ عبادة.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ .

ص: 195

و توصيفهم بأنّهم مقرّبون فيه العلّية على كونهم عبيدا للّه تعالى؛ لأنّهم مقرّبون، فلو كانوا يستنكفون لما كانوا مقرّبين.

و يمكن أن ترجع هذه العلّة إلى المسيح أيضا؛ لأنّه عزّ و جلّ وصفه بأنّه مقرّب أيضا في موضع آخر، قال تعالى في شأنه: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45]، فهو يستنكف عن أن يكون عبدا لغيره لأنّه مبارك و مقرّب.

و على هذا، لا تدلّ الآية الشريفة على أفضليّة الملائكة من الأنبياء، كما زعمه بعض المفسّرين، مع أنّها غير ناظرة الى هذه الجهة أصلا، و البحث مذكور في علم الكلام، نذكره في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ .

الاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق، بمعنى أن يجعل نفسه كبيرة فوق ما هي عليه؛ غرورا و إعجابا، لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله.

و الاستكبار: مذموم بل هو أم المهالك، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: يا رسول اللّه، إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه جميل و يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ و غمط الناس»، أي: أن يجعل ما جعله اللّه تعالى حقّا - من توحيده و عبادته و قوانينه - باطلا، أو يتجبّر عند مطلق الحقّ ، فلا يقبله و لا ينقاد له. و غمط الناس، أي: استهانة بهم و استحقارهم، فالحديث يفسّر الكبر المذموم بأحسن وجه.

و المستفاد من الآيات الشريفة و الأحاديث الواردة في ذمّ الكبر أن للكبر درجات، أعظمها الّتي تمنع صاحبه عن دخول الجنّة، و هو الكبر على اللّه تعالى، و ذلك بعدم دخول الشخص في طاعته عزّ و جلّ كما مرّ، و أمّا سائرها فإنّها تشترك في أنّ الصدّ عن نيل الكمال، و تمنع السعادة و تؤدي بصاحبها إلى الخسران.

ص: 196

و ذكر بعض أنّ الاستكبار هو الاستنكاف، و لكنه ليس بشيء، فإنّ الاستكبار دون الاستنكاف كما عرفت آنفا، مع أنّ الأخير يستعمل حيث لا استحقاق مطلقا، بخلاف التكبير، فإنّه قد يكون باستحقاق كما هو في اللّه تعالى.

و كيف كان، فالآية الشريفة في موضع التعليل لما سبق، أي: كيف يستنكف المسيح بل الملائكة المقرّبون عن عبادته عزّ و جلّ؟! و الحال أنّ من يستكبر عن عبادته و يرجع عنها أنفة و حمية فسيحشرهم إليه جميعا.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى الاستنكاف و الاستكبار كليهما؛ لاختلاف درجات العباد في العلم و الجهل، فيشمل جميع الأفراد، سواء كان ترك العبادة عن استنكاف أم استكبار، فإنّ الاستنكاف قد لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا الأنبياء و الملائكة، فإنّ استنكافهم لا يكون إلاّ عن علم و التفات، فيكون تركهم عن استكبار، لكونهم عالمين بمقام ربّهم؛ و لهذا اكتفى بذكر الاستنكاف فقط في المسيح و الملائكة و لم يذكر الاستكبار، و في المقام ذكرهما معا ليشمل جميع عباده من الإنس و الجن و الملائكة.

قوله تعالى: فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً .

أي: فسيحشرهم اللّه تعالى إليه جميعا، سواء أ كانوا صالحين أم ظالمين و سيحاسبهم على أعمالهم و يجزون عليها، و الملائكة و المسيح يعلمون بذلك، فيكون تركهم للعبادة عن استكبار، فهذه الآية الشريفة تكون بيانا للآية المباركة السابقة.

أي: أنّ استنكافهم إنّما يكون عن علم، فتدلّ على نفي ذلك بالكليّة عنهم، فهذا تأكيد آخر على عبوديّتهم له تعالى.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ .

تفصيل بعد إجمال لبيان الجزاء المترتّب على كلّ واحد من الفريقين المستنكفين المستكبرين عن عبادته، و غيرهم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و لم يستنكفوا عن عبادة اللّه تعالى، و إنّما قدّمهم تعظيما لجزائهم و تنويها بشرفهم.

قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ .

ص: 197

التوفية هي الاستيفاء تامّا من غير نقص. أي: يعطيهم أجورهم من غير أنّ ينقص منها شيئا أصلا، جزاء لإيمانهم و أعمالهم الصالحة.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ عن الجزاء بالأجر لبيان أنّ أعمالهم محفوظة لديه جلّت عظمته، و قد استوفاها منهم تامّا، فسيجدون عوضها عنده سبحانه و تعالى كذلك، و هذا يدلّ على كمال عطفه و رعايته للمؤمنين.

قوله تعالى: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .

فيزيد المؤمنين العاملين في أجورهم بتضعيفها أضعافا مضاعفة؛ لأنّه الجواد الكريم ذو المن العظيم، و إطلاق الزيادة يشمل جميع أنحائها كما و كيفا و مدّة، و في جميع العوالم، فلا يعلم مقدارها و لا كنهها أحد إلاّ اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

بيان لجزاء الفريق الآخر الّذين استنكفوا و استكبروا عن عبادة اللّه تعالى، فيعذبهم عذابا مؤلما لا يحيط به الوصف كما يستحقّون، و لم تكن هنا زيادة؛ لأنّ الجزاء لا بدّ أن يكون على قدر العمل، فإنّ كان خيرا فالزيادة فيه إنّما تكون فضلا و امتنانا منه عزّ و جلّ ، و أمّا الزيادة في الشرّ فلا تجوز؛ لأنّهم لا يستحقّونها، فهو يجازي المسيء بالعدل فقط و يجازي المحسن بالعدل و الفضل كليهما.

قوله تعالى: وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً .

أي: لا يجدون لهم من غير اللّه تعالى وليا يلي أمورهم و يدبّرها و يرعى مصالحهم، و لا نصيرا ينصرهم من بأس اللّه تعالى و ممّا هم عليه من العقاب.

و إنّما ذكرهما عزّ و جلّ في المقام إبطالا لما زعموه في المسيح من الألوهيّة و التخليص من العذاب.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ .

نداء ربوبي الى الناس كافة يحبّب إليهم الإيمان بعد الجولة الطويلة مع الزائغين و الكافرين، إنّه نداء يرشدهم الى الكمال المنشود الّذي أعدّه اللّه تعالى لهم،

ص: 198

إنّه نداء توجيه و تربية تعدّ الامة إعدادا كاملا لتحمّل الأمانة الكبرى، و تحتل الصدارة بين الأمم، إنّه نداء للتحبّب و ليس للإنذار و التخويف، فقد تضمّن هذا الخطاب العطف و الرحمة من ربّ رؤوف رحيم، يعلم جميع مصالح عباده و يدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في الدنيا و الآخرة، و لأجل ذلك كان هذا الخطاب من المواضع المعدودة القليلة جدا في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين وحدهم دون أن يذكر في مقابلها جزاء الكافرين المعاندين.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ الحجّة قد تمّت على الناس و لزمتهم، فلم يبق بعد ذلك عذر لمتعذّر، و لا علّة لمتعلّل، قال تعالى: فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ [سورة الانعام، الآية: 149]، و تقدّم قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ [سورة النساء، الآية: 165].

و البرهان: هو بيان الحجّة يأتي مصدرا كما في المقام، و يأتي بمعنى الفاعل في ما إذا اطلق على نفس الدليل و الحجّة، و منه إطلاقه على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و المعنى: أنّه قد جاءكم من قبل ربّكم الّذي تكفّل تربيتكم و تزكية نفوسكم ما فيه الحجّة القاطعة الّتي يبيّن فيها حقيقة إيمانكم و جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم و دنياكم و آخرتكم و يتضمّن سعادتكم، و هو عامّ يشمل جميع ما يكون من قبله عزّ و جلّ ممّا له دخل في هداية الإنسان - كالأحكام الشرعيّة، و التوجيهات الربوبيّة، و الحقائق الواقعيّة - و نفس الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله فإنّه برهان عظيم، و مظهر الحقّ ، و مصداق العدل و القسط بين حقيقة الشريعة و واقعها بسيرته العمليّة، فهو معلّم البشريّة حقائق العلوم الإلهيّة و التوجيهات الربوبيّة، و مظهر صفات الخالق العظيم، و معجزة الدهر، فهو خير برهان و أتمّ دليل، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 21].

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً .

تأكيد لما سبق إذا كان المراد من النور هو البرهان، فإنّه نور بيّن في نفسه

ص: 199

و مبيّن للآخرين، فتتجلّى لكم الحقائق، و أمّا إذا كان المراد به القرآن الكريم فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإطلاق البرهان عليه لأنّه أقوى دليل و أتمّ حجّة على صدق ما جاء به الرسول الكريم، و أمّا كونه نورا فإنّه بيّن بنفسه و حقّ واضح لا يحتاج الى إثبات كونه من عند اللّه تعالى، فهو معجزة خالدة في أسلوبه و بلاغته و حقيقته، و قد تضمّن من المعارف الإلهيّة و الحقائق الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة و الأحكام التشريعيّة ما يبهر منه العقول، و هو مبيّن لغيره بإخراجهم من الظلمات الى النور و إرشادهم الى الحقّ .

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ .

بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و آمن بالنور الّذي أنزله على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ذكرنا أنّ هذه الآية الشريفة من المواضع المعدودة في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين الصادقين و إيمانهم، و لم يذكر فيها جزاء الكافرين و المعاندين؛ لأنّ أسلوب الخطاب أسلوب التحبّب و الرأفة، و لأنّه عزّ و جلّ ذكر جزاءهم في الآيات السابقة، و قد كان معهم جولة طويلة في هذه السورة، و لأنّه جلّ شأنه أراد أن يكون ختام هذه السورة باستثناء آية الكلالة بالذكر الجميل و الثواب الجزيل و العطف و الرحمة دون الخوف و الخيبة.

و الآية الشريفة تبيّن حقيقة الإيمان المطلوب من الناس، و هي الإيمان باللّه العظيم وحده لا شريك له، حسبما أوجبه البرهان الذي جاءهم دون ما يقترحه أهل الزيغ و الضلال.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ .

الاعتصام: التمسّك بما يعصم و يحفظ، و هو مأخوذ من العصام و هو الحبل الّذي تشدّ به القربة و الإداوة لتحمل به، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 103] ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة.

و الاعتصام به عزّ و جلّ هو الأخذ بكتاب اللّه عزّ و جلّ و اتّباع رسوله

ص: 200

الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فمن أطاعه عزّ و جلّ فيهما فقد اعتصم به تعالى و حصّن نفسه من زيغ الشيطان و مكائده و شبهات أهل الضلال و أكاذيبهم.

و هذه الآية الشريفة تبيّن الجانب العملي من الإيمان، فإنّ الاعتصام لا يتحقّق إلاّ بالعمل بكتاب اللّه و اتّباع رسوله العظيم صلّى اللّه عليه و آله، و إطاعتهما حقّ الطاعة.

كما أنّ الآية المباركة الاولى تبيّن الجانب العقائدي، و هو الإيمان باللّه الواحد الأحد الّذي اتّصف بجميع صفات الكمال و تنزّه عن جميع صفات الجلال، و الّذي ليس كمثله شيء، فاستجمع الإيمان ركيزتيه الّتي بهما يتمّ ، و هما العقيدة و العمل، كما أكّد عزّ و جلّ عليهما في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، و لا فائدة في الإيمان الّذي فقد فيه إحداهما؛ و لذا كان الجزاء عظيما بقدر عظمة الإيمان المطلوب.

قوله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ .

بيان لجزاء المؤمنين الّذين آمنوا حقّ الإيمان، بل إنّ ما ورد في هذه الآية المباركة آثار الإيمان الصحيح، و هي الدخول في رحمة منه عزّ و جلّ و هي الثواب العظيم الّذي لا يعرف كنهه إلاّ اللّه تعالى جزاء لإيمانهم و طاعتهم له عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ فَضْلٍ .

هو الإحسان الزائد على الجزاء، و هو أيضا لا يقدّر قدره و يمكن أن يكون بيانا؛ لقوله تعالى آنفا: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .

قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً .

أثر خاصّ مترتّب على الاعتصام باللّه تعالى كما بيّنه عزّ و جلّ في موضع آخر، قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101]، و الهداية الى الصراط المستقيم من أعظم عنايات اللّه تعالى على من يشاء من خلقه، و قد خصّ بها الأنبياء العظام عليهم السّلام و الأولياء الكرام و بعض الخلّص من عباده.

و المراد بها التوفيق للطاعة و العبادة الّتي توصلانه الى اللّه تعالى و يبلغ بها

ص: 201

الغاية من القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ و نيل جزائه العظيم و الدخول في رحمته، و قد تقدّم ما يتعلّق بالصراط المستقيم في سورة الفاتحة فراجع.

و ذكر الهداية إليه عزّ و جلّ في المقام إنّما هو للتأكيد على رعايته عزّ و جلّ للمؤمنين، و مقابلة لقوله تعالى في جزاء الكافرين المعاندين: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [سورة النساء، الآية: 169].

ص: 202

بحوث المقام

بحث أدبي

خيرا في قوله تعالى: اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره: افعلوا أو نحوه. و ذهب الفراء الى أنّه نعت لمصدر محذوف، أي: إيمانا خيرا لكم، فيكون صفة مؤكّدة لا للتبيين حتّى يستلزم أن يكون الإيمان منقسما الى خير و غيره، مضافا إلى أنّه لا اعتبار بمفهوم الصفة، بل لا مفهوم لها أصلا.

و قيل: إنّه خبر كان مضمرة، و التقدير: يكن الإيمان خيرا لكم. و ضعّف بأن (كان) لا تحذف مع اسمها دون خبرها إلاّ في مواضع معدودة.

و جملة: «ألقاها الى مريم» إمّا حال من الضمير المجرور في «كلمته»، بتقدير: قد، و العامل فيها معنى الإضافة.

و قيل: حال من ضميرها عليهما السّلام المستكن في ما دلّ عليه (و كلمته) من معنى المشتق الّذي هو العمل فيها.

و قيل: حال من فاعل (كان) مقدّرة مع إذ المتعلّقة بالكلمة، و التقدير: إذ كان ألقاها الى مريم.

و (من) في قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ متعلّقة بمحذوف صفة لروح، و هي لابتداء الغاية كما عرفت.

و قوله تعالى: أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ حرف الجر المقدّر إمّا (عن)، أو (من)، و الجملة دالّة على الاستمرار بما يقتضي وظيفة العبوديّة.

و إفراد فعل (يستنكف) و ما عطف عليه في قوله تعالى: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ مراعاة للفظ (من).

و أمّا الجمع في فَسَيَحْشُرُهُمْ ، فإنّه مراعاة لمعناه من صيغ العموم،

ص: 203

و قرئ فَسَيَحْشُرُهُمْ بكسر الشين كما قرئ: (فسنحشرهم) بنون العظمة، و فيه التفات من الغيبة الى التكلّم.

و أمّا التفصيل في قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فقد وقع فيه الكلام، فقيل: إنّه تفصيل للمجازاة لا الفريقين، فلا حاجة الى المطابقة مع آخر الآية الكريمة الّتي قبلها؛ لأنّ الجزاء لازم الحشر فبيّنه عقيبه. و ردّه بعضهم بأنّ (اما) يدخل على الفريقين، لا على قسمي الجزاء.

و قيل: إنّه لحشر الفريقين، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه؛ و لأنّ الإحسان للمطيعين العابدين يعمّ الفريق الآخر، فكان داخلا في التنكيل بهم.

و قوله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ، فإن كان المراد من الرحمة الثواب فيكون تجوّزا في الجار، لتشبيه عموم الثواب و شموله بعموم الظرف، و إن كان المراد منها الجنّة، فيكون تجوّزا في المجرور دون الجار.

و لكن لا فائدة في هذا النزاع، فإنّ كليهما يدلان على العموم و الشمول، و إنّ الجار للظرفيّة.

و أمّا «صراطا» في قوله تعالى: صِراطاً مُسْتَقِيماً إمّا منصوب على أنّه مفعول ثان لفعل محذوف مقدّر، أي: يعرفهم، أو مفعول ثان ليهديهم لتضمّنه معنى يعرفهم.

و قيل: إنّ الهداية تتعدّى إلى مفعولين حقيقة، فلا حاجة الى التضمين.

و قيل: إنّه بدل من (إليه) المتعلّق بمقدّر، أي مقرّبين إليه.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ على أنّ ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ الّذي يجب الاعتقاد و العمل به،

ص: 204

و أنّ العقل ينكر الابتعاد أو التعدّي عنه؛ لأنّ ما هو المخالف له يكون باطلا و يجب تركه، و أنّ دعوته صلّى اللّه عليه و آله عامّة لجميع الناس من دون استثناء.

و إطلاق الحقّ يشمل جميع ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله من المعارف الإلهيّة، و التوجيهات الربوبيّة، و الأحكام التشريعيّة، و ما جاء به في شأن الأنبياء و المرسلين، فتكون الآية المباركة توطئة لردّ ما اعتقده النصارى في المسيح عليه السّلام، و الى هذا يشير قوله تعالى في ما يأتي: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ ، فإنّ الحقّ في الموردين يرمز الى أمر واحد، و هو الّذي أنزله على الرسول و ما جاء به من عند اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ على أنّ الإيمان الّذي بيّنه عزّ و جلّ في ما سبق من الآيات المباركة، و ذكر فيها أصوله و ركائزه هو الوسيلة الوحيدة الّتي تجلب الخير و توصل الى السعادة، و أنّ حقيقة الخير تكمن في الإيمان باللّه إيمانا صحيحا على النحو المطلوب، و أنّ ما سواه - و هم و سراب - لا حقيقة له، و إطلاقه يشمل جميع الأنحاء الخير الدنيوي و الاخروي، المادي و المعنوي. و هو يدلّ على أنّ الإيمان مطلوب بالفطرة، كما أنّ الإنسان يطلب الخير بفطرته و طبيعته.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ على النهي في الغلو في الدين مطلقا من أي ملّة كان؛ لأنّ وصفهم بأهل الكتاب إنّما هو تذكير لهم بأنّ من كان كذلك لا بدّ أن يلزم بما جاء في الكتاب و لا يتعدّى عنه، و هذا المناط موجود في أهل القرآن أيضا، فيجب عليهم الاعتقاد بما جاء فيه و يحرم عليهم الغلو في دينهم.

الرابع: يشمل قوله تعالى: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على برهان قويم من البراهين الدالّة على التوحيد، و قد ذكره عزّ و جلّ في عدّة مواضع لسعة معناه و لطفه و قربه الى الفطرة، فإنّ وحدة الأثر لشاهد عظيم على وحدة المؤثّر، فهو من أتمّ الدلالة على التوحيد؛ لأنّ وحدة النظام و وحدة المسير و الغاية و الهدف في المخلوقات لدليل على أنّ لهذه المخلوقات خالقا واحدا

ص: 205

جامعا لجميع صفات الكمال و منزّها عن مجانسة مخلوقاته، و إلاّ كان كأحدها يصيبه ما يصيبها، و لعلّه الى هذا يشير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء، الآية: 22]، فإنّ لكلّ إله أثره الخاصّ به، فتختلف الآثار و يختل النظام، و هذا خلاف ما نراه في السموات و الأرض، فوحدة النظام تدلّ على وحدة الخالق.

ثمّ إنّ إحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها و استسلامها تحت إرادته و قهّاريته و تسخيرها في المسير الّذي حدّده عزّ و جلّ بها، كلّ ذلك يعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فإنّها لا تخرج بالمعصية عن قهّاريته جلّت عظمته، و لا توجب خروجها عن مسيرها التكويني و الهدف الّذي حدّده عزّ و جلّ لها، و إنّما يكون للإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية آثارها الوضعيّة الّتي تؤثّر في الموجودات ما سواه تعالى، و هو جلّ شأنه منزّه عن تلك الآثار، فهو المالك لأمرها و يدبّر شؤونها و يحيط بها، يثيب المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء بآثامه.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ على النهي عن التقوّل على اللّه تعالى إلاّ بما أذن به عزّ و جلّ ، فلا يجوز نسبته (تعالى) الى ما لا يرضيه، و يستفاد منه أنّ نسبة ما لا يليق بشأن الأنبياء إليهم هو تقوّل على اللّه تعالى؛ لأنّهم رسله و وسائط فيضه، كما أنّ الغلو في الدين الّذي أنزله اللّه تعالى على رسله هو قول على اللّه بغير الحقّ ، فهذه الآية الشريفة تشمل كلّ أمر ينسب إليه عزّ و جلّ ، سواء كان متعلّقا بذاته المقدّسة، أم صفاته العليا، أم بشأن الأنبياء العظام عليهم السّلام، أم بما يتعلّق بكتبه و شرائعه المقدّسة إذا لم يكن مأذونا منه، فهو تقوّل على اللّه تعالى.

السادس: يتضمّن قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ على براهين متعدّدة تدلّ على نفي الوهية المسيح عيسى ابن مريم:

ص: 206

الأوّل: كونه مولودا و متكوّنا في رحم امرأة و منسوبا إليها، و ينزّه الإله عن أن يكون كذلك، و يدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، فإنّ المسيح مولود من امرأة و منسوب إليها.

الثاني: أنّه مخلوق حادث و كان خلقه لأجل تعلّق الأمر به، يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ ، و الخلق و الحدوث من صفات المخلوقين دون الإله العظيم القدير.

الثالث: أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي تكوّن في الرحم، و روح قدسيّة أفاضها اللّه تعالى عليه في غاية النزاهة و الطهارة، و هي مخلوقة من أمر اللّه تعالى، و التركّب من صفات المخلوق الحادث، و ينزّه الإله العظيم عنه، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

و الحاصل: أنّ عيسى عليه السّلام ليس إلاّ عبدا كسائر العبيد، أنعم اللّه تعالى عليه حيث جعله آية، بأنّه خلقه من غير أب كما خلق آدم عليه السّلام كذلك، و شرّفه بالنبوّة، و صيّره عبرة عجيبة، قال تعالى في شأنه: إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الزخرف، الآية: 59].

و قد دلّت الآية الشريفة على قدسيّة المسيح عيسى بن مريم و مكانته العالية، حيث كان موردا للفيض و الإفاضة، و قد اختاره اللّه تعالى رسولا هاديا و لا يمكن أن يكون الاتّحاد و الحلول فيه، فهذه الآية الشريفة بايجازها البليغ تضمّنت من البراهين العقليّة ما يدلّ على نفي كلّ ما قاله النصارى في المسيح من الألوهية و الحلول و الاتّحاد، و كونه ابنا له جلّ شأنه.

السابع: يدلّ قوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً على التوحيد و نفي الشرك، و نفي ولدية المسيح له عزّ و جلّ ، و قد أشار تعالى إلى أمر فطري، و هو أنّ الإله الّذي يستحقّ العبوديّة و التعظيم يجب أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال و منزّها عن كلّ النقائص، و لا يعقل أن يكون متعدّدا و إلاّ استلزم الخلف، و يدلّ عليه قوله

ص: 207

تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ ، و مع ذلك فقد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أمورا ثلاثة تدلّ على التوحيد، و نفي الشرك، و نفي كون المسيح ابنا له.

منها: قوله تعالى: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ، فإنّه يدلّ على انتفاء الولد مطلقا و استحالته عليه؛ لأنّ الولد يماثل أبيه في سنخ ذاته؛ لأنّه متكوّن منه، و هذا يدلّ على الإمكان و الحدوث و نسبة صفات المخلوقين له، و هو منزّه عنها لأنّه أحد، فرد، صمد، ليس كمثله شيء.

و منها: قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ فإنّه يدلّ على إحاطة ملكه على جميع ما سواء تعالى، خلقا و تدبيرا و تصريفا، و احتياجها له و استغناؤه عزّ و جلّ عنها فلا يحتاج الى الشريك و الولد، بل لا يماثله شيء من الأشياء فلا ولد له.

و منها: قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً فإنّه يدلّ على احتياج الخلق إليه لتدبير شؤونهم و هدايتهم الى ما هو الخير لهم و إرشادهم الى سعادتهم، فإنّ ذلك يكفي استغناءه عن الولد و الشريك، بل إنّ التفكّر في معنى الألوهيّة و الربوبيّة يكون كافيا في الحكم بانتفاء الولد عنه عزّ و جلّ من دون احتياج الى برهان آخر، و لعلّ تذييل هذه الآية الشريفة بهذا الأمر لإرجاع الإنسان الى الوجدان و التفكّر في عظمة الباري عزّ و جلّ ثم الحكم بعد ذلك، و هذا من البراهين الاقناعيّة و الأمور التربويّة الّتي اعتمد عليها القرآن الكريم لإرجاع الإنسان الى رشده، و له الوقع الكبير في النفوس المستعصية، و قد ذكر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم.

و كيف كان، فهذه الآية المباركة تدلّ على توحيد اللّه تعالى و تنزيهه عمّا نسب إليه النصارى. مع أنّ الديانة المسيحيّة الصحيحة ديانة مبنيّة على التوحيد الخالص، و لكن يد التحريف دخلت في كتبهم فحرّفت ما كان منافيا لعقيدتهم من التثليث و الاتحاد و الحلول، و قد نبّه القرآن الكريم الى ذلك و برّأ عيسى بن مريم من قول اليهود و النصارى، قال تعالى: ذلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم، الآية: 34]، و في المقام نهى سبحانه و تعالى عن قول

ص: 208

التثليث لمنافاته لملّة إبراهيم المبتنية على التوحيد الخالص، و أمرهم بابتغاء ما هو الخير لهم، فقال عزّ و جلّ : اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، و لعلّ الخير هذا يشير الى ما ورد في صدر الآية الكريمة من قول الحقّ و الإيمان به، قال تعالى فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .

الثامن: يدلّ قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ على أنّ المسيح عيسى بن مريم خارج عن حقيقة الألوهيّة و داخل في حقيقة العبوديّة، فهو إنسان كسائر البشر، فاز بالنبوّة و الرسالة، و هو يستنكف عن أن يقال بأنّه ثالث ثلاثة؛ لأنّه ينافي العبوديّة الّتي يعترف بها و يعلم علما قطعيا بأنّه سيحشر إليه تعالى فيحاسبه على أعماله، فلا بدّ له من أن يعمل بمقتضى العبوديّة، فيؤمن به و يتّقيه و إلاّ لم يجد وليا و لا نصيرا.

فهذه الآية المباركة برهان آخر يدلّ على نفي الألوهيّة عنه؛ لأنّ الإله لا يكون عبدا يخاف من مولاه، و لكنه يختلف عن سائر البراهين المتقدّمة في أنّه مأخوذ من اعتراف المسيح و النصارى به فيحاجّون به.

و قد جمعت هذه الآيات الشريفة على جميع أقسام البراهين العقليّة المعروفة - مضافا إلى البرهان الوجداني النابع من صميم الفطرة و واقعها - الدالّة على توحيد اللّه تعالى، و نفي الشرك، و الحلول، و الاتّحاد، و نفي الولد عنه مطلقا.

و لا تختصّ هذه البراهين بخصوص هذا المورد، فيشمل كلّ مورد يدعي فيه تلك المزاعم.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا (عن عبادته) أنّ الاستكبار عن عبادة اللّه تعالى يوجب انقطاع العصمة بينه جلّ شأنه و بين المستكبرين عن عبادته، فلن يجد له وليا و لا نصيرا ليشفع و يرفع عنه العذاب و يكون واسطة لردّ العصمة بينه و بين مولاه عزّ و جلّ .

العاشر: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ على الدعوة العامّة لجميع الناس، و هو يدلّ على عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه البرهان الّذي يكون منزّها عن الخطأ و الزيف و عاصما لغيره من الوقوع في الضلال.

ص: 209

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ على أنّ الحقيقة الّتي لا بدّ أن يذعن بها الناس هي الإيمان باللّه و الاعتصام به لطاعته و العمل بأحكامه الشرعيّة، و هو الخير الّذي أمرنا عزّ و جلّ بابتغائه، و غير ذلك باطل و لا يجدي نفعا. و لعلّ ذكر الآية المباركة في ختام هذه السورة لكونها جامعة لجميع الحقائق الموجودة فيها.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أنّه عند اليهود ثاني اثنين، كما في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية:

30]، و ذلك لاشتراكهما في الشرك في الجملة.

الثالث عشر: قد تكرّر كثيرا في هذه السورة مادة [خ ي ر]، و كان الغالب في ذلك الآيات المباركة الأخيرة، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ هذه السورة تشتمل على كثير من الأحكام الشرعيّة - و هي متفرّدة من هذه الجهة - و لا شكّ أنّ الأحكام هي خير للبشرية، و لأجل ذلك كرّرت الكلمة فيها. أو لأجل المعارف المذكورة فيها، و لا شكّ أنّها خير، أي خير أسمى منها! أو لأنّ غالب آياتها في العقائد الموصلة الى الحقّ - كما في الآيات المتقدّمة و غيرها - و الكاشفة عن الحقيقة و الواقع، و ذلك هو المصداق الحقيقي للخير. و اللّه العالم.

بحث روائي

في المجمع للطبرسي سمّي عيسى المسيح؛ لأنّه ممسوح البدن من الأدناس و الآثام كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: المراد من الأدناس جميع أقسامها - الظاهريّة - كالجنايات، و الباطنيّة و سائر الصفات الرديئة من الجهل، و الحرص، و الشره و الأخلاق الذميمة.

كما أنّ المراد من الآثام مطلقها، سواء أ كانت من الأفعال الّتي توجب البعد

ص: 210

عن ساحة قدسه جلّ شأنه المبطئة للثواب، أم من الأمور النفسانيّة، فإنّ قلوب الأنبياء في التوجّه الدائم معه سبحانه و تعالى، بخلاف قلوب غيرهم كما تقدّم مكرّرا.

و سمّي الدجال مسيحا أيضا؛ لأنّه مسح عنه القوى المحمودة من العلم و الحلم، و الأخلاق الجميلة، و الصفات الحميدة، و المثل السامية.

و قيل: سمّي عيسى بن مريم مسيحا لكونه ماسحا في الأرض، أي: ذاهبا فيها، فإنّ أغلب الأنبياء كانوا مشّائين و سائحين بسيرهم في الأرض - كإبراهيم و موسى، و عيسى عليهم السّلام و غيرهم، و لعلّ السرّ في ذلك أنّه أسهل في إبلاغ ما أمروا به بإفشاء الحجّة على جميع من سكن هذه البسيطة.

و قيل: سمّي عيسى بن مريم مسيحا؛ لأنّه عليه السّلام كان يمسح ذا العاهة فيبرأ و لذلك سمّي به، و قيل غير ذلك.

و المسيح بالعبرانيّة: (مشيح)، كما أنّ موسى عليه السّلام (موشي).

و في الكافي بإسناده عن حمران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ ؟ قال: روح اللّه مخلوقة خلقها في آدم و عيسى».

أقول: إضافة الروح إليه جلّت عظمته إضافة تشريفيّة؛ لأنّها مخلوقة بإرادته عزّ و جلّ ، كقوله تعالى: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ أو يا عِبادِيَ ، و تقدّم أنّ خلق عيسى بن مريم كان بكلمة (كن) التكوينيّة الفعليّة، و لذلك تشرّف عليه السّلام بمعجزات خاصّة كإحياء الموتى، كما تشرّف آدم عليه السّلام بنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و بثّ النسل منه كما مرّ في أوّل السورة، و يدلّ الحديث على نفي القدم الّذي هو من صفات الألوهيّة عن عيسى عليه السّلام.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ ، أي: لا يأنف أن يكون عبدا للّه وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ .

أقول: أي: أنّ المسيح لا يمتنع أصلا عن أن يكون عبدا للّه تعالى و يخضع بالتشرّف للعبوديّة، و تقدّم معناها و مراتبها في التفسير مكرّرا.

ص: 211

و في الدلائل للبيهقي عن ابن مسعود قال: «بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى النجاشي و نحن ثمانون رجلا و معنا جعفر بن أبي طالب و بعثت قريش عمارة، و عمرو بن العاص و معهما هدية إلى النجاشي، فلما دخلا عليه سجدا له و بعثا إليه بالهدية، و قالا: إنّ ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا و قد نزلوا أرضك، فبعث إليهم حتّى دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقالوا: ما لكم لم تسجدوا للملك ؟! فقال جعفر: إنّ اللّه بعث إلينا نبيّه فأمرنا أن لا نسجد إلاّ للّه، فقال عمرو بن العاص: إنّهم يخالفونك في عيسى و امه، قال: فما تقولون في عيسى و امه ؟ قالوا: نقول كما قال اللّه: هو روح اللّه و كلمته ألقاها الى العذراء البتول الّتي لم يمسّها بشر، فتناول النجاشي عودا فقال:

يا معشر القسيسين و الرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذه، مرحبا بكم و بمن جئتم من عنده، فأنا اشهد أنّه نبي، و لوددت أنّي عنده فأحمل نعليه، فانزلوا حيث شئتم من أرضي».

أقول: لا شكّ أنّ انقياد النجاشي للواقع كان من أثر تلك الحقيقة الكائنة في نفس المرسل صلّى اللّه عليه و آله، و قد تجلّى في رسوله الّذي له الأهليّة للتجلّي بها و إظهار الحقّ و بيان الواقع، و نسأل اللّه جلّت عظمته أن يتجلّى فينا بتلك الحقيقة و يرزقنا قبسا من ذلك النور لنهتدي به في عالم الدنيا و الآخرة.

و في تفسير العياشي بإسناده عن عبد اللّه بن سليمان قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ، قال: البرهان محمد صلّى اللّه عليه و آله، و النور علي عليه السّلام، قال: قلت له: صِراطاً مُسْتَقِيماً ، قال:

الصراط المستقيم علي عليه السّلام».

أقول: قد ثبت في محلّه أنّه من أقسام العلل العلّة المبقية للشيء، و العلّة المظهرة له أو المبيتة للشيء، و لا شكّ عند المسلمين بل و عند غيرهم من الّذين سيّروا التاريخ الصحيح و ساروا فيه أنّ عليا عليه السّلام بلّغ دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و بيّنه بلسانه و فعله و أخلاقه بل بوجوده، فلا غرو أن يكون صراطه و منهجه صراط محمد صلّى اللّه عليه و آله و منهجه، فيكون نورا تهتدي به الامة.

ص: 212

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و ذكر أكمل الأفراد و أجلّها، لا من باب التخصيص كما هو واضح، و قد فسّر النور بالكتاب أيضا، و ذلك من باب التطبيق أيضا.

بحث عقائدي
اشارة

الآيات المباركة المتقدّمة من جلائل الآيات الّتي نزلت في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّذي اختلف فيه اختلافا كبيرا، فقد أبغضته اليهود حتّى رموه بما لا يليق بشأنه، و قدّسته النصارى حتّى ادّعوا فيه الألوهيّة و أنّه ابن اللّه و هو ثالث ثلاثة و كلا الفريقين غلوا في دينهم كما حكي عزّ و جلّ عنهما في القرآن الكريم، لا سيما هذه السورة المباركة، و أمرهم باتّباع الحقّ في عقائدهم و أقوالهم و نهاهم عن الغلوّ في الدين؛ لأنّ الإيمان بأنبياء اللّه تعالى - بكونهم رسلا مبشّرين و منذرين، و أنّهم عباد مكرّمون خصّهم اللّه عزّ و جلّ بالفيض - أحد أركان الإيمان المطلوب، قال تعالى: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة، الآية:

283].

و قد أشار سبحانه و تعالى في هذه السورة الى بعض ما اعتقده النصارى في المسيح، و خصّ بالذكر مسألة الصلب و الفداء و بيّن الحقّ فيها، و مسألة ألوهيته و أنّه ثالث ثلاثة و نهاهم عن القول فيها فضلا عن الاعتقاد بها، و إنّما خصّهما بالذكر لأهمّيّتهما في دينهم، و لأثرهما العميق في عقيدتهم، و لدلالتهما على بعدهم عن الحقيقة و الواقع، و شهادتهما على تحريفهم لكتبهم المقدّسة، و نهاهم عن قول ما يوجب الانحراف عن الواقع و الإعراض عن ما أنزله اللّه تعالى. و قد ذكرنا في أحد المباحث السابقة بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب و الفداء، و تعرّضنا لما ذكره المسيحيون فيها و ناقشناهم فيها فراجع.

ص: 213

و في هذا البحث نذكر ما يتعلّق بمسألة الوهيّة المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّتي لا تقلّ أهميّة عن سابقتها إن لم تكن بأعظم منها؛ لأنّها تمسّ عقيدة التوحيد الّتي بنيت عليها الأديان الإلهيّة، و لأثرها الخطير في الأحكام الشرعيّة، و لتأثيرها في النفوس و إطفاء نور الفطرة فيها.

و قد عالج جلّ شأنه هذه المسألة في آيات محكمة ذات أسلوب بلاغي رائع، فذكر خلق عيسى بن مريم، و رسالته، و أنّه عبد من عباد اللّه تعالى لا يستنكف عن عبادته، و بيّن الحقّ فيها و أقام الحجج و البراهين عليه، و نهاهم عن القول بالتثليث، فأثبت عقيدة: «لا إله إلاّ اللّه» الّتي لم ينفك القرآن الكريم عن الدعوة إليها.

و نذكر في هذا البحث الألوهيّة في القرآن الكريم و ما ذكره عزّ و جلّ في شأن هذا النبي العظيم الّذي يعد معجزة إلهيّة في جميع أحواله من خلقه و ولادته و مبعثه و رفعه الى السماء، ثم نذكر عقيدة المسيحيين و ما يتعلّق بها، كما نبيّن وجه البطلان فيها، ثم نذكر مآخذ هذه العقيدة و السبب في دخولها في المسيحيين إن شاء اللّه تعالى.

الإله في القرآن الكريم:

يعدّ القرآن المجيد من أمتن الكتب الإلهيّة و أعظمها في معالجة مسألة الألوهيّة و بيان خصائصها، فقد أثبت الإله الواحد الأحد و أشاد بعقيدة التوحيد و أسّس أسسها و قواعدها، و أقام دعائم الوحدانيّة و استدلّ عليها بأدلّ و براهين متعدّدة، الفلسفيّة منها و الوجدانيّة و الطبيعيّة و غيرها، حتّى جعلها أقرب الأمور الى النفوس و أعذبها إليها، و رفض الشرك بجميع أشكاله و عدّه من الظلم العظيم الّذي لا يغفر، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ * و اعتبره أمرا مرفوضا بالفطرة، و له آثار وضعيّة جسيمة على الإنسان و بقية المخلوقات، و حاجّ المشركين بجميع أصنافهم.

ص: 214

و أمّا التوحيد، فقد أودعه في الفطرة الإنسانيّة و أخذ العهد من بني آدم على تثبيته اعتقادا و عملا، فصار أمرا فطريا لا يقبل الإنكار، و لا محالة يلجأ إليه الإنسان عند ما تشتدّ به الحاجة و تنجلي عنه ظلمة الجهل مهما كابر و عاند، و عظّم القرآن الكريم أمر التوحيد ببيان جميع جوانبه، فأقام أركانه بإثبات الخالق العظيم و بيان صفاته عزّ و جلّ ، و ذكر قواعدها و بيّن خصوصياتها و قسّمها إلى صفات كماليّة يتّصف بها الباري تعالى، و صفات جلالية منزّه عنها سبحانه و تعالى، و ذكر من أفعاله و آثاره و إبداعه في خلقه ما يدلّ على علمه الأتمّ و حكمته المتعالية و قدرته التامّة و قهّاريته العظمى و قيّوميته الكاملة، بحيث لا يدع مجالا للشكّ في وجوده و وحدانيته و استجماعه لجميع الصفات العليا الجماليّة، فليس كمثله شيء، و برّأ ساحته عن مجانسة مخلوقاته مهما بلغت من الكمال؛ لأنّها خلقه عزّ و جلّ يدبّر أمرها - إيجادا و إبقاء و إعداما - إلاّ أنّ مسألة الألوهيّة مع كثرة اهتمام القرآن بها و تبسيطها الى أقرب الحدود، لكنها لا تخلوا من تعقيدات؛ لأنّها من الأمور الغيبيّة الّتي يتطرّق إليها الظنون و الأوهام، فلم تنج من شبهات الملحدين و زيغ المبطلين، فلا بدّ للمؤمن الّذي يعتقد بهذه المسألة الّتي لها الأثر الكبير في حياته الدنيويّة و الاخرويّة، كما يجب على المفكر الباحث أن يستقي المعلومات فيها من عين صافية بعيدة عن كلّ زيغ و ضلال.

و قد حدّد القرآن الكريم مصادرها، و هي إمّا الوحي من اللّه تعالى العالم بجميع الحقائق، و هذا خاصّ بمن اصطفاهم اللّه تعالى و ليس لغيرهم نصيب منه. أو يكون رسولا اصطفاه اللّه تعالى بالرسالة، و أفاض عليه من أنواع العلوم و المعارف الإلهيّة و حلّة الأمانة الكبرى لتبليغ شرائعه و تعليماته و توجيهاته إلى الناس، و أيّده بالمعجزات و خوارق العادات ما تثبت دعاويه، و هذا يختصّ بالحاضرين في عصره، فلا يشمل الغائبين المعدومين. أو يكون كتابا سماويا احتوى جميع ما يوجب رقي الإنسان و رشده الى كماله و سعادته في الدارين، و يشترط فيه أن يكون

ص: 215

مأمونا من التحريف، و هو ينحصر القرآن الكريم الّذي اتّفقت الامة على سلامته و أمنه من كلّ تحريف و بطلان، فكان معجزة إلهيّة من جميع جوانبه كما هو معلوم.

و أمّا سائر الكتب الإلهيّة، فقد ثبت تحريفها بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها إلاّ أنّ القرآن الكريم لما لم يمكن فهم مقاصده بسهولة، فلا بدّ أن يرجع في تفسيره و بيان مقاصده إلى من نزل القرآن المجيد عليه الّذي علّمه اللّه تعالى جميع رموزه و علّمه من أسرار التأويل ما يزيل كلّ شكّ و ريب. هذا موجز الكلام في هذه المسألة المهمة العظيمة و للتفصيل موضع آخر.

و من جميع ما ذكرناه يعرف أنّ الإله في القرآن الكريم لم يكن أمرا وهميّا كما يدّعيه بعض، و لا أمرا نسبيا كما يدّعيه آخرون، بل هو حقيقة واقعيّة، فهو الإله الواحد الأحد الّذي عرّفه القرآن الكريم بأمور أربعة لا يمكن أن تتحقّق في غيره.

الأوّل: أن يكون الإله واحدا أحدا لا مثل له و لا شبيه و لا ندّ له، فلو كان غير ذلك لظهر الفساد في الخليفة، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و لبان الاحتياج في الخالق، و هو منفي بالوجدان.

الثاني: أن يكون مستحقّا للعبوديّة؛ لكونه الخالق العظيم العليم الحكيم الغني الّذي لا يستغني عنه غيره و هو مستغن عنه، قال تعالى: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 23]، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الفاتحة فراجع.

الثالث: أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال - كالعلم و الحياة و القدرة و نحوها و إلاّ استلزم الخلف، و تقدّم في آية الكرسي - 255 من سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

الرابع: أن يكون منزّها عن جميع صفات الجلال - كالزمان و المكان و الجسميّة - و إلاّ احتاج الى غيره، و هو ينافي الألوهيّة.

ص: 216

و في الآيات الّتي تقدّم تفسيرها يبيّن عزّ و جلّ جملة من الصفات الكماليّة و الجماليّة.

منها: أنّه إله واحد؛ لأنّه اللّه المستجمع لجميع الصفات الكماليّة، قال تعالى:

إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ ، فليس له شريك و لا نظير و لا ولد.

و منها: أنّه مالك لما في السموات و ما في الأرض - خلقا و تدبيرا و تصريفا و إبقاء و إفناء - فهو الغني عن خلقه و هم محتاجون إليه و لا يحتاج الى معين أو ولد، و يدلّ على ذلك آيات كثيرة أيضا.

و منها: أنّه الولي على خلقه يدبّر شؤونهم و القيّم عليهم؛ فإذا كان اللّه تعالى واجدا لهذه الصفات الكريمة فلا يحتاج الى ولد، و هو منزّه عن أن يكون له ولد؛ لدلالته على احتياجه و اتّصافه بصفات المخلوقين، و لا يعقل الإله أن يكون كذلك.

و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك أيضا فراجع، فإذا ادّعى أحد الألوهيّة، فهو يرجع إمّا إلى تنزيل مقام الألوهيّة الى مقام الخلق، و هو خلف. و إمّا رفع المخلوق الى مقام الخالق الإله، و هذا أيضا باطل.

المسيح في القرآن الكريم:

عظّم القرآن المجيد الإنسان و أسمى شأنه و ميّزه من سائر مخلوقاته و أعزّ به، فقال جلّ شأنه: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14] و لم يعظم سائر مخلوقاته بمثل ما عظّم هذا المخلوق العجيب الّذي منحه العقل و الإرادة، و أودع فيه الأمانة الكبرى الّتي أبت السماوات و الأرض أن يحملنها و أشفقن منها فحملها الإنسان، إنّه كان ظلوما جهولا.

و قد خصّ بعض أفراد الإنسان بالفيض و جعلهم مورد الاستفاضة، و هم الأنبياء الّذين أرسلهم اللّه تعالى لهداية البشر، و أنزل إليهم الكتاب و فيه تبيان كلّ شيء، و اصطفى من الأنبياء بعضا فخصّهم ببعض الفيوضات الخاصّة. منهم عيسى

ص: 217

ابن مريم الّذي يعدّ معجزة إلهية في خلقه و حياته و رفعه إلى السماء، فقد خلقه عزّ و جلّ من غير أب و أسباب عادية الّتي لا بدّ من توفرها في سائر أفراد الحيوان، فتعلّقت الإرادة الأزليّة أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينيّة من غير سبب مادي عادي تعلّقت بمريم العذراء، فولد منها فكان محتاجا إليها حين الحمل و الولادة و الرضاعة و التربية، ثمّ خصّه بالفيض و اصطفاه بالرسالة، فكان رسولا مبلغا عن اللّه تعالى محتاجا إليه في الفيض و سائر شؤونه، و كان هذا الاصطفاء سببا في زيادة تعلّقه عليه السّلام بخالقه العظيم، فصار عبدا من عباده المخلصين الّذين عرفوا معنى العبوديّة و أدّوا لوازمها و حقوقها فلم يتخطّوا عن تلك، و إلاّ خرجوا عن مورد الفيض و هبطوا عن ذلك المقام السامي، فقال تعالى فيه: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة، الآية: 116]، فهو عبد اللّه تعالى اصطفاه و جعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حقّ ، فلم يدع الألوهيّة لنفسه و لا لامه الطاهرة الّتي هي مثله في الخلق و العبوديّة، و إلاّ خرج عن مورد الاصطفاء و لم يف بحقوق العبوديّة، و هذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم.

و الآيات الشريفة المتقدّمة تضمّنت أمورا عديدة تدلّ على نفي كلّ ما يدّعي فيه من الألوهيّة و حلول الباري عزّ و جلّ فيه و أنّه ولد اللّه تعالى، و غير ذلك ممّا يدّعيه النصارى في حقّ هذا النبي العظيم، فيخرجونه بها من حدود الإنسانيّة و يجعلونه في مصاف الألوهيّة، فهي الّتي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة.

منها: أنّه مخلوق مبارك لم يكن قديما اختصّ بالفيض فصار خلقه معجزة إلهيّة كما عرفت في التفسير، و الإله لا يعقل أن يكون مخلوقا حادثا كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة.

و منها: أنّه محدود، فإنّه منسوب إلى امرأة طاهرة هي امه، فهو محتاج إليها

ص: 218

في بعض مراحله، قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، و تعالى اللّه أن يكون محدودا و محلا للحوادث كما عرفت.

و منها: أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي و روح قدسيّة صارت مورد الفيض، قال تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ على ما تقدّم في التفسير، و الإله منزّه عن التركيب لدلالته على الاحتياج.

و منها: أنّه رسول اللّه تعالى تحمّل الأمانة الكبرى الى الناس يجب عليه تبليغها إليهم، و لا ريب أن جميع ذلك ينافي الألوهيّة، و الولديّة للّه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

المسيح في عقيدة النصارى:
اشارة

لم يكن المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام فردا عاديا كسائر الأفراد من بني البشر، فقد خصّه اللّه تبارك و تعالى بالكرامة بأن خلقه من غير أب و جعله مورد الفيض القدسي، و أجرى على يديه المعجزات الباهرات، فكانت حياته من حين انعقاد حمله الى رفعه الى السماء معجزة إلهيّة. و لا ريب في ثبوت ما له عليه السّلام من الشرف و المكانة السامية عند المسلمين و المسيحيين على حدّ سواء، فهم جميعا يحترمونه و يجلّونه و يقدّسونه، إلاّ أنّ مثل هذا الفرد لا يسلم من التقوّل عليه بما هو خارج عن حقيقته، و الغلو فيه و إخراجه عن طور الإنسانيّة و العروج به إلى مقام الألوهيّة، كما حكى عزّ و جلّ في الآيات الشريفة السابقة، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ [سورة النساء، الآية:

171]، و قد كان هذا النبي العظيم ملتفتا إلى هذه الجهة في حياته على الأرض، فكانت أفعاله و أقواله تدلاّن على أنّه إنسان ولد من أنثى و هي مريم العذراء، و أنّه يبقى برهة من الزمن على هذه الأرض ثم يموت كما يموت سائر المخلوقات، و أنّه

ص: 219

عبد للّه تعالى و هو ابن الأرض - كسائر أفراد البشر - و ليست سياحته في الأرض إلاّ لإعلام هذه الجهة، و قد أخذ المواثيق من حوارييه على عدم التقوّل عليه بعد رفعه كما حكى عزّ و جلّ عنه في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و في العهد الجديد الكثير من ذلك، و قد كان أتباعه أثناء حياته على الأرض على التوحيد و لم يعتقدوا فيه إلاّ ما كان حقّا، و كذلك كانوا بعد رفعه الى السماء برهة من الزمن حتّى دبّ الخلاف فيهم و اشتدّ الصراع بينهم في تفسير حياته عليه السّلام، فحصلت لهم آراء و مذاهب تشترك كلّها على الغلو فيه و تقديسه بما يقدّس الإله المعبود الحقّ ، و لكنّهم مع فرقهم المختلفة في شأنه عليه السّلام مجمعون على التثليث، فيقولون: إنّ اللّه جوهر واحد ثلاثة بالأقانيم الوجود، و الحياة، و العلم، فيريدون من الأب الوجود، و من الروح الحياة، و من الابن المسيح.

و اختلفوا في تفسير هذه المقالة اختلافا فاحشا بعد اتفاقهم على أنّ اللّه تعالى جوهر - بمعنى أنّه قائم بنفسه - غير متحيّز، و لا مختصّ بجهة، و لا مقدّر بقدر، و لا يقبل الحوادث بذاته، و لا يتصور عليه الحدوث و العدم.

و لعلّ منشأ الاختلاف في المسيح عيسى ابن مريم و ادّعاء الألوهيّة فيه يرجع الى امور يعتقدونها فيه عليه السّلام.

الأول: القول بتجسّد الكلمة، أي: أنّ اللّه تعالى تجسّد في المسيح عليه السّلام، و اختلفوا في كيفيّته، فقال بعضهم: إنّ الكلمة قد تجسّدت بمعنى أنّ الإله - اقنوم الابن ثالث الثالوث - الّذي هو واحد حقيقة، و ثلاثة حقيقة قد تجسّد في الأرض و توشّح الطبيعة البشرية فأخذ جسدا من مريم عليها السّلام و بقي اقنوم الأب، و اقنوم الروح القدس في السماء، و بعد ثلاثين سنة انفتحت السماء و نزل اقنوم الروح القدس و حلّ على اقنوم الابن المتجسّد، و بقي الأب في السماء، و صار اقنوم الابن المتجسّد، و اقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض - الى آخر ما ذكروه في المقام.

ص: 220

و قال آخرون: باتّحاد الكلمة بجسد المسيح فولدت مريم العذراء عليها السّلام إلها أزليا، و انقلبت الكثرة وحدة، فالمسيح ناسوت كلّي لا جزئي، و هو قديم أزلي، و هذا القول هو المعروف بينهم باتّحاد اللاهوت بالناسوت.

و قال ثالث: بأنّ الاتّحاد كان بمعنى الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء.

و قال رابع: بأنّه كان بمعنى الإشراق، أي: أرقت كإشراق الشمس من النور و هو قول بعض حكمائهم.

و قال جمع آخر: بأنّ الاتّحاد لم يبطل الأزليّة، فالمسيح إله تامّ ، و إنسان تامّ ، و هما قديم و حادث و الاتّحاد غير مبطل لقدم القديم و لا لحدوث الحادث، و القتل وقع على الناسوت دون اللاهوت.

و قال جمع آخر: إنّ الكلمة انقلبت لحما و دما، فصار الإله هو المسيح، و رووا عن يوحنا أنّه قال في صدر إنجيله: إنّ الكلمة صارت جسدا و حلّت فينا.

و قال جمع منهم: إنّ اللاهوت ظهر بالناسوت بحيث صار هو هو، و ذلك كظهور الملك لمريم العذراء عليها السّلام المشار إليه في القرآن الكريم: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 17].

و قال بعضهم: بالتركب، أي: جوهر الإله القديم و جوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن فصار جوهرا واحدا، و هو المسيح و هو الإله، فيقولون: صار الإله إنسانا و إن لم يصر الإنسان إلها، و إن مريم ولدت إلها و القتل و الصلب وقعا على اللاهوت و الناسوت جميعا، إذ لو كان على أحدهما لبطل الاتّحاد.

و منهم من قال: بالاتّحاد بين اللاهوت و الناسوت على نحو الظهور، فلم ينتقل من اللاهوت الى الناسوت شيء و لا حلّ فيه، و ذلك كظهور نقش الطابع على الشمع و الصور المرئية في المرآة، فإنّ القول بهذا النحو من التجسّد ممّا أوجب القول بالوهيّة المسيح، بلا فرق في القول بين الاتّحاد أو الحلول أو التركّب، و لشدّة ارتباط بينه عليه السّلام و بين مريم العذراء، فقد ادّعى الألوهيّة فيها، و هذا هو المحكي في

ص: 221

القرآن الكريم: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و كان هذا أصل الأقانيم الثلاثة و القول بالتثليث.

الثاني: من جهة الاختلاف في صفات الباري جلّت عظمته، فقيل: إنّ الأقانيم صفات للجوهر القديم و هي الوجود، و العلم، و الحياة، و عبّروا عن الوجود بالأب، و الحياة بروح القدس، و العلم بالكلمة، و هذا القدر من التفسير لا يدلّ على الشرك، و إن كان باطلا من جهة اخرى كما لا يخفى على الخبير، فإنّ الصفات مهما كثرت، فإنّها عين ذاته المقدّسة، و كذا تفسيره بما ذكروه.

و قيل: إنّ الأقانيم غير الجوهر القديم، و إنّ كلّ واحد منها إله، فصرّحوا بالتثليث، فكلّ واحد إله قديم حقيقة، و إنّ اللّه ثالث ثلاثة تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، و هذا يدلّ على الشرك في الذات، و هو باطل كما هو معلوم.

و قيل: إنّ اللّه تبارك و تعالى واحد و الأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته و لا نفس ذاته، و إنّ الاتّحاد كان بمعنى الإشراق كما عرفت آنفا، و هذا باطل و لم يعرف له وجه أبدا.

و قيل: إنّ اللّه تعالى واحد و هو الأب، و المسيح كلمة اللّه تعالى و ابنه على طريق الاصطفاء، و هو مخلوق قبل العالم، و هو خالق للأشياء كلّها، و هذا يدلّ على الشرك في الفعل و هو باطل أيضا، كما يدلّ على قدم الحادث و هو فاسد.

و المعروف بينهم أنّ اللّه تعالى هو الواحد الأب صانع كلّ شيء و مالك كلّ شيء و فاعل ما يرى و ما لا يرى، و أنّ المسيح ابن اللّه تعالى الواحد بكر الخلائق كلّها، الّذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها و ليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الّذي بيده اتّقنت العوالم و خلق كلّ شيء، الّذي من أجلنا - معاشر الناس - و من أجل خلاصنا نزل من السماء و اتّحد مع روح القدس و مريم و صار إنسانا و حبلت به و ولد من مريم البتول، و هذا القول باطل، لاستلزامه انقلاب الحقائق، و تعدّد القدماء، و قدم الحادث.

الثالث: من جهة خلق عيسى عليه السّلام من غير أب و صدور المعجزات الّتي

ص: 222

تخرج عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقدّر عليها موصوفا بالإلهيّة.

هذه هي عمدة ما يمكن أن يستفاد من أقوالهم المتفرّقة و آرائهم المتشتّتة في هذه المسألة، و قد خبطوا فيها كثيرا حتّى أخرجوها عن حدود الأدلّة و البراهين، و استدلّوا عليها بأمور عاطفيّة و ادّعاء الرؤية في المقام و غير ذلك ممّا لم يقم عليه برهان، بل ادّعى بعضهم: «بأنّ الوهيّة المسيح فوق المتعقّل، و لكنه معقول»، فإذا لم يكن متعقّلا فكيف يمكن أن يكون معقولا؟! فهل يكون الوهيّة اللّه تعالى الّتي اتّفقوا عليه أمرا غير متعقّل إلاّ أن يقال: بأنّ الوهيّة المسيح إنّما تكون كذلك لأنّه إنسان مخلوق حادث و يراد إخراجه عن حدود البشريّة و العروج به الى حدود الإلهيّة الّتي عرفت أنّها تختصّ بالواحد الأحد، و يستحيل أن يصل إليها أحد من المخلوقات.

و كيف كان، فنحن نتعرّض في المقام الى ما يمكن أن نذكره من المناقشات في ما ذكروه إجمالا، و التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

ما يتعلّق بعقائدهم:

ذكرنا جملة من عقائد المسيحيين في السيد المسيح عليه السّلام، و كثير منها إن لم تكن كلّها دعاوي مجرّدة لم يقم عليها دليل إن لم تكن الأدلّة على خلافها، و حاول بعضهم إقامة الأدلّة العقليّة و النقليّة عليها و لكنه لم يأت بشيء جديد سوى إضافة دعاوي جديدة عليها و الاستدلال بأمور عاطفيّة أو عنايات أو بما هو أقرب الى الجدل و السفسطة، كما لا يخفى على من راجعها في كتبهم. و لظهور فسادها اعترف بعضهم بأنّ مسألة تجسّد الكلمة - الّتي هي من أمهات عقائدهم - فوق عقولنا و لكنّه معقول، و لم يعلم وجه هذا القول، فإنّ المسألة إذا خرجت عن حدود فهم البشريّة و كانت فوق عقولهم كيف يمكن أن تكون معقولة و يقام عليها الأدلّة العقليّة ؟!.

ص: 223

و كيف كان، فنحن نذكر في المقام بعض القواعد المسلّمة عند جميع العقلاء - بما فيهم المسيحيون أنفسهم - الّتي تدلّ على فساد جملة كثيرة ممّا اعتقدوه في عيسى ابن مريم عليه السّلام، ثم نذكر ما يمكن الردّ عليها.

الاولى: اتّفق الملّيون الّذين يعتقدون بالإله الوحد الأحد أنّ اللّه تعالى ليس بجسم و لا بمتحيّز، و ليس في جهة و لم يكن محلا للحوادث، و قد أقاموا الأدلّة و البراهين القويمة العقليّة و النقليّة على ذلك، و أنّ القول بتجسّد الكلمة ينافي ذلك بلا ريب، فإنّ تجسّد الإله - سواء كان على نحو العينيّة أو الحلول أو التركب أو الإشراق و غير ذلك - يستلزم أن يكون الإله جسما و متحيّزا و في جهة، و أن يكون محلا للحوادث و مشابها لمخلوقاته، إلاّ أن يراد بتجسّد الكلمة غير الّذي أرادوا فلا بدّ من بيانه.

الثانية: امتناع قلب الحقائق فإنّه ممّا أجمعت عليه العقلاء، فيمتنع قلب حقيقة الى حقيقة اخرى مخالفة للأولى إلاّ بإعدامها. و القول بأنّ المسيح الّذي هو مخلوق حادث صار إلها قديما أزليا يصادم هذه القاعدة المسلّمة.

الثالثة: امتناع حلول صفات القديم بغير ذات اللّه تعالى، فيمتنع قولهم بأنّ الكلمة امتزجت بجسد المسيح و غير ذلك ممّا اعتقدوه في تجسّد الكلمة الأزليّة.

الرابعة: امتناع تعدّد الكلّي الواحد و الإشارة إليه و كونه مرئيا، كما هو مبيّن في علم المنطق، و القول بأنّ عيسى عليه السّلام إنسان كلّي باطل، فإنّ الإنسان الكلّي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي آخر، و قد اتّفق النصارى على كون المسيح مولودا من مريم عليها السّلام، فإن كانت مريم كلّيا كما يدّعيه بعضهم، فإن كان هو عين إنسان المسيح لزم أن يكون المسيح مريم و مريم المسيح، و لزم أن يولد الشيء من نفسه.

و كلاهما باطل، و إن كان إنسان مريم جزئيا، فالكلّي ما كان صالحا لاشتراك الكثرة فيه، فيلزم أن يكون المسيح جزءا من مفهوم مريم و بالعكس، و هو محال.

مضافا إلى أنّ الكلّي لا يمكن أن يقع مورد الإشارة إلاّ بالإشارة الى جزئي من جزئياته، أو يقع مورد القتل و التعذيب و الاضطهاد، فإنّه محال.

ص: 224

هذه بعض القواعد المسلّمة عند الجميع، الّتي يستلزم القول بها بطلان جملة كثيرة من معتقدات النصارى في المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام.

و أمّا القول بتجسّد الكلمة الأزليّة، فإنّه مجرّد دعوى بلا دليل، بل الأدلّة قائمة على خلافه، فإنّه إن كان المراد منه حلول الباري القديم عزّ و جلّ في المسيح الحادث و تقمّص جسده، فهو باطل بلا إشكال، و يدلّ على بطلانه ما دلّ على بطلان كون اللّه تعالى جسما، و امتناع حلول الحوادث فيه.

و إن كان المراد منه رفع المسيح الحادث الى مقام الألوهيّة، فهو من انقلاب الحقائق الّذي هو ممتنع عند الجميع، إذ كيف يمكن للمخلوق الحادث أن يكون إلها أزليا قديما.

و إن كان المراد منه إشراقا من اللّه تعالى عليه، فإن كان المراد من الإشراق إشراقا نوريّا كإشراق الشمس، فهو باطل لأنّه من لوازم الجسميّة، و اللّه تعالى منزّه عنها.

و إن كان المراد منه الفيض و نحوه، فهو لا يختصّ بالمسيح، فإنّ آدم عليه السّلام و سائر الأنبياء العظام لهم مثل تلك الفيوضات الربوبيّة، كلّ حسب استعداده.

و أمّا القول بالأقانيم، فإن كان المراد منها صفات اللّه تعالى، فلا بدّ من تطبيقها على القواعد المسلّمة الّتي ذكرت في الفلسفة الإلهيّة، من كونها عين الذات إذا كانت من صفات الذات، و إنّها أزلية أبدية لا يمكن تحديدها بحدّ كما لا يمكن تحديد الذات المقدّسة، و عدم اختصاصها بواحد أو اثنين أو ثلاثة بل المدار على ما ميّزوا به صفات الذات عن صفات الفعل و غير ذلك، فإن كان مرادهم من الأقانيم تلك، فلا مشاحة في الاصطلاح و لكنهم لا يقولون به.

و إن كان المراد تعدّد الآلهة كما يظهر من كلماتهم، فإنّ أدلّة التوحيد تنفي ذلك صريحا كما عرفت آنفا.

و أمّا القول بأنّ خلق المسيح عليه السّلام من غير أب يدلّ على كونه إلها، فإنّ آدم عليه السّلام أبا البشر أحرى بأن يكون إلها على ما يزعمون، فإنّه خلق من غير أب

ص: 225

و لا أم و هم لا يقولون بذلك، فليس الخلق من غير أب أو غير أم أو كليهما إلاّ لبيان تمام قدرة اللّه تعالى على خلقه.

و أمّا القول بأنّ صدور المعجزات الباهرات و خوارق العادات منه عليه السّلام لدليل على كونه إلها، إذ لم تصدر تلك إلاّ من الإله. فهو باطل أيضا، فإنّها إن صدرت منه استقلالا و من دون إقدار اللّه تعالى عليه، فكان أولى له أن يخلّص نفسه من العذاب الّذي حلّ فيه من أعدائه و لم يحتج الى التماسه من أبيه لينجيه من ذلك، كما ورد في العهد الجديد و قد تقدّم في البحث السابق، و إن لم تكن من مقدوراته، فهو عليه السّلام و جميع الأنبياء في هذه الجهة على حدّ سواء، فلم تكن ميزة له، ليدلّ على كونه إلها، و قد صدرت معجزات باهرات من موسى عليه السّلام و لم يدع الألوهيّة فيه، فإن نكروا ذلك فيحقّ لغيرهم أن ينكروا ما يدّعونه في المسيح عليه السّلام و لا يمكنهم ذلك، فإنّه لم يثبت ما يدعونه بأخبار التواتر إلاّ ما ورد في القرآن الكريم، و هم ينكرونه و يكذّبون من نزل عليه.

و أمّا الاستدلال على دعاويهم بما ورد في الأناجيل المعروفة عندهم، فيردّ عليه..

أوّلا: أنّه لا بدّ من إثبات ذلك، فإن الأناجيل المعرفة لم تسلم من يد التحريف، كما نطق به التنزيل.

و ثانيا: أنّه معارض بمثله، كما ورد في الأناجيل المذكورة، و لقد كفانا مؤنة ذلك شيخنا الجليل الشيخ البلاغي (طاب ثراه)، فمن شاء فليراجع كتابه (الهدى الى دين المصطفى) و تفسيره القيم (آلاء الرحمن).

و ثالثا: أنّه يمكن تأويله بما لا يصادم القواعد المسلّمة إن أمكن التأويل، و إلاّ فيردّ.

هذه خلاصة ما يمكن أن يقال في المقام، و لعلّ ما ورد في القرآن الكريم في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام بتعابير مختلفة، كنسبته الى امه العذراء الطاهرة؛ للدلالة على كونه منسوبا و مخلوقا كسائر أفراد الإنسان، و إثبات كونه رسولا،

ص: 226

و التأكيد على أنّ ما صدر منه من المعجزات إنّما كانت بإذنه جلّ شأنه، كما في سورة آل عمران و المائدة و غيرهما من التعابير الدالّة على كونه فردا كسائر الأفراد، كلّ ذلك لنفي ما يزعمه النصارى و ما يعتقدونه فيه.

أصل عقيدة التثليث:

لا ريب أنّ الشرك و كلّ عقيدة تدلّ عليه ليس لها أصل و لا واقع في الأديان الإلهيّة المبنية على التوحيد و نبذ الأنداد، و إذا ظهر شيء منها في دين إلهي أو أية عقيدة اخرى تتخذ التوحيد أساسا لها، فلا بدّ أن يكون لأحد امور على سبيل منع الخلو:

منها: فقدان المعلم المرشد الّذي يمثّل التوحيد قولا و عملا و يبيّنه بيانا واضحا لا لبس فيه لا تباعه.

و منها: احتكاك الامة مع الأمم الّتي تدين بالوثنيّة و تقليدهم فيها على عمى و جهالة.

و منها: تأويل من لا خبرة له و لا معرفة لما ورد في الكتب الإلهيّة و قول الأنبياء بما يوافق التشريك، فيكون مجالا خصبا لزيغ المبطلين و إفساد المفسدين.

و منها: إدخال الأعداء الآراء الهدّامة في الدين و دسّ الأفكار المضلّة في معارفه و أحكامه، فيكون سببا لاندراس اصول الدين و أركانه حتّى لا يبقى من الدين إلاّ اسمه و لا من الكتاب إلاّ رسمه، و لكلّ واحد من هذه الأمور طرق و شعب متعدّدة لا يسع المجال ذكرها.

و على ضوء ما ذكرناه تعرف أنّ عقيدة التشريك في النصرانيّة و الّتي هي دين إلهي، لا تخرج عن سائر الأديان الإلهيّة الّتي تتّخذ التوحيد أصلا من أصولها، بل أساس كلّ معتقد و فكرة فيها، ليس لها أساس و لا واقع و إنّما دخلت فيها نتيجة امور و ظروف معيّنة، و قد حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم عن عيسى بن

ص: 227

مريم عليه السّلام أنّه كان يأمر بالتوحيد و نبذ الأنداد، فقال تعالى: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة، الآية: 116-117].

و يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ عبادة اللّه تعالى الواحد الأحد كانت من أساسيات هذا الدين العظيم، و كان عيسى عليه السّلام يأمر بها و هو الشهيد على ذلك؛ لعلمه بأنّها كانت قائمة عند وجوده فيهم، و أمّا بعد ارتحاله و فقدان المعلم المرشد فيهم، فالأمر كان على خلاف ذلك، فقد دبّ الخلاف فيهم و تعدّدت الأناجيل و كثر المتأوّلون لآياتها، فضلّوا و أضلّوا كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم عنهم، و يدلّ عليه بعض الأناجيل أيضا، فقد روى يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله قول عيسى عليه السّلام: «و هذه هي الحياة الأبديّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الّذي أرسلته»، و هو يدلّ على أنّ اللّه تعالى واحد، و هو الإله فقط و المسيح رسوله، و هذا هو الّذي دعا إليه القرآن الكريم كما ورد في الآيات الّتي تقدّم تفسيرها. و نقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أوّل الوصايا:

«فأجابه يسوع أوّل الوصايا اسمع يا اسائيل الربّ إلهنا ربّ واحد»، و هو يدلّ على أنّ عقيدة التوحيد هي المعقول و أساس هذا الدين، فإذا كان شيء يخالف ذلك فلا بدّ من تأويله إن كان قابلا له، و إلاّ فهم أولى بتفسير كلمات كتابهم.

و يذكر علماء تاريخ الأديان الإلهيّة أسبابا عديدة لدخول عقيدة التثليث في النصرانيّة، و المعروف بينهم أنّ النصارى كانوا على دين الإسلام برهة من الزمن بعد ما رفع عيسى ابن مريم عليه السّلام الى السماء، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه كان بينهم بعض الحواريين الّذين اتّبعوا المسيح عليه السّلام حقّ الاتّباع، و هم الّذين نشروا تعاليمه في البلاد فكانوا أوصياءه عليه السّلام، و بعد غيابهم دخلت تلك العقيدة في النصرانيّة، فقيل: إنّ

ص: 228

السبب في ذلك هم اليهود الّذين عرفوا ببغضهم لهذا الدين، فادخلوا فيه هذه العقيدة لهدمه، و كانت لهم أساليب متعدّدة.

و ذكر بعضهم أنّه لما وقعت الحرب بينهم و بين اليهود خرج رجل يقال له بولس، فقتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السّلام، فاحتال لأن يفرّق جمعهم و يشتّت شملهم فأوقع فيهم الخلاف و أضلّهم بهذه العقيدة، على ما هو المذكور في كتب التأريخ.

و قيل: إنّ السبب هو نقل المتنصّرين الّذين دخلوا في النصرانيّة عقائدهم البدائيّة الوثنيّة، فأوّلوا آيات التوحيد و أدخلوا التحريف و التأويل فيها، و تدلّ عليه شواهد كثيرة؛ لأنّ النصرانيّة كانت محاطة بأمم تتّخذ التثليث عقيدة لهم، منهم البراهمة؛ و منهم البوذائيين، و منهم قدماء المصريين، و منهم الرومان، فقد تأثّرت النصرانيّة بعقائدهم. و قيل غير ذلك، فراجع كتب تأريخ الأديان و العقائد و اللّه العالم.

بحث فقهي:

اختلف الفقهاء (قدس اللّه تعالى أسرارهم) في نجاسة الكافر الكتابي و طهارته، كما أنّهم اتّفقوا في نجاسة المشركين من الكفّار بالأدلّة المقرّرة، و إنّ المسألة بجوانبها محرّرة في الفقه مفصّلا.

و بناء على طهارة الكتابي - كما ذهب إليها جمع من الفقهاء - فهل تشمل الأدلّة الدالّة على نجاسة الكفّار من المشركين الكتابي أيضا؛ لقوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ - الى أن قال تعالى - وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآية: 30-31]، و قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ و غيرهما من الآيات الشريفة، فيكون الكفّار مطلقا محكومين بالنجاسة أو لا تشملهم ؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عنوان الكتابي - من اليهود و النصارى و المجوس - غير عنوان المشرك، لما فيهم نحو إضافة الى الدين أو إليه سبحانه و تعالى و نزول الكتاب بواسطة أنبيائهم، فالكتابي و المشرك عنوانان متقابلان و إن كان بينهما عنوان مشترك - و هو الكفر - و كان بعض عقائدهم يشابه عقائد المشركين، إلاّ أنّ الأحكام مطلقا تابعة لعناوين موضوعاتها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج، الآية:

ص: 229

و بناء على طهارة الكتابي - كما ذهب إليها جمع من الفقهاء - فهل تشمل الأدلّة الدالّة على نجاسة الكفّار من المشركين الكتابي أيضا؛ لقوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ - الى أن قال تعالى - وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآية: 30-31]، و قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ و غيرهما من الآيات الشريفة، فيكون الكفّار مطلقا محكومين بالنجاسة أو لا تشملهم ؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عنوان الكتابي - من اليهود و النصارى و المجوس - غير عنوان المشرك، لما فيهم نحو إضافة الى الدين أو إليه سبحانه و تعالى و نزول الكتاب بواسطة أنبيائهم، فالكتابي و المشرك عنوانان متقابلان و إن كان بينهما عنوان مشترك - و هو الكفر - و كان بعض عقائدهم يشابه عقائد المشركين، إلاّ أنّ الأحكام مطلقا تابعة لعناوين موضوعاتها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج، الآية:

17]، فأفرد سبحانه و تعالى المشركين عن اليهود و النصارى.

و دعوى: أنّ المراد من الأمم في الآية المباركة غير المنحرفة إلى الشرك، أي دين اليهود الواقعي الّذي جاء به موسى عليه السّلام، أو النصرانيّة الّتي جاء بها المسيح عليه السّلام.

غير صحيحة: لأنّ التخصيص بذلك تخصيص بالفرد المعدوم أو القليل جدا، و إطلاق الآية الشريفة يشمل اليهود و النصارى الموجودين حال نزول الآية الكريمة و بعده، و هما لا يخلوان عن الشرك كما تنصّ الآيات المباركة الكثيرة.

أو تخصيص الأدلّة الدالّة على نجاسة المشركين بالأخبار الدالّة على طهارة الكتابي و فيها الصحيح، و تقدّم مرارا أنّ للشرك مراتب، و أنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكتابي تحمل على محامل مذكورة في الكتب الفقهيّة المفصّلة.

و أنّ الشرك الّذي محكوم بالنجاسة، و عدم الغفران، و الضلال البعيد، و الحرمان عن الدخول في الجنّة، و وجوب القتل إن تحقّقت شروطه، هو الشرك العظيم الّذي هو الشرك في الذات - أي المعبود - و العبادة، و الصفات - أو إنكار المبدأ بالكليّة - فإذا لم يكن كذلك خرج عن الحكم بالنجاسة و اتّصف بحكم آخر، و لا ينافي ذلك مبغوضيّته عند الشارع.

و بالجملة: أنّ عقيدة الكتابي بالشرك لا تنافي القول بطهارتهم - لو قلنا بها -

ص: 230

و القول بنجاسة المشركين كما عرفت من الوجوه، و حتّى لو التزمنا بنجاسة الكتابي فالاستدلال بتلك الآيات - الدالّة على شركهم - بنجاستهم مشكل، فتأمّل جيدا.

هذا كلّه لو قلنا بطهارتهم، و أمّا لو قلنا بنجاستهم فلا موضوع لهذا البحث أصلا كما هو واضح.

بحث عرفاني

تقدّم في أحد مباحثنا العرفانيّة السابقة أنّ للقلب حياة و ممات، و لكلّ منهما علامات تأتي في ضمن تفسير الآيات الكريمة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى. فمن علامات موت القلب الغفلة عن اللّه تعالى، و إرسال الجوارح في معاصيه جلّ شأنه، و عدم المبالاة بالزلاّت، و أنّ الجامع الباعث لموته حبّ ما سواه تعالى.

و حياة القلب لا تكون إلاّ بمعرفة اللّه تعالى، فكلّما كانت المعرفة أكثر و أعمق تكون آثارها كذلك، و من تلك الآثار ظهور آياته جلّت عظمته بدرك القلب الّذي فيه الحياة لها، و يعبّر عنها بالتجلّي في مصطلح أهل العرفان.

و لم ترد التجلّيات إلاّ على القلب الّذي سلم من يد الأغيار في حياته، و استعدّ للواردات الربوبيّة بشهود أنواره، و صار محلا لدرك الإفاضات بصفاته، و لذلك كان ظهور التجلّيات في صنف الأنبياء و الأولياء أكثر من غيرهم لكمال معرفتهم باللّه العظيم و انسهم بخالقهم، و بعدهم عن الأوهام، و خوفهم من سخطه، و تقرّ بهم الى ساحة كبريائه.

و قد فاز بالحظّ الأوفر من التجلّيات الإلهيّة سيد الأنبياء و خاتمهم نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؛ لكمال استعداده؛ و عظيم معرفته؛ و منتهى أنسه بربّه، كما نصّت عليه الآيات الشريفة الّتي يأتي شرحها و تفسيرها و البراهين العقليّة.

و أعظم تلك التجلّيات كان لإبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام، و أسماها لموسى بن عمران عليه السّلام، قال تعالى: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف، الآية:

ص: 231

143]، ففي الحديث: «انّه برز من نور العرش مقدار الخنصر، فتدكدك به الجبل و صار مستويا بالأرض» أي ترابا، و كذلك لمريم ابنة عمران عليها السّلام، فقد تجلّى ربّها لها بإرسال الأمين و تمثّل بالبشر عندها، فولد عيسى منها بلا أب، و غير ذلك ممّا ظهر لها في المحراب، و أمّا تجلياته جلّ شأنه لعيسى بن مريم فهي كثيرة، من إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطير، و إحياء الموتى بإذن ربّه، و رفعه الى السماء و غيرها.

و تختلف تلك التجلّيات حسب اللياقة و الصفاء، و الزمان، و الانس بالربّ و حسب المصالح الّتي لا يعلمها إلاّ هو جلّت قدرته، كما هي مذكورة في كثير من الآيات الشريفة و الكتب السماويّة المصونة من يد التحريف، و تفصيل ذلك خارج عن موضع هذا الكتاب، و يأتي ما يتعلّق بذلك في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا التجلّيات للمؤمنين، فتختلف حسب اختلاف درجات إيمانهم و حياة قلوبهم و قرب منزلتهم لديه جلّ شأنه، و إن كانت أصولها تنقسم الى أقسام ثلاثة:

الأوّل: التجلّي بعد الانتباه من الغفلة الى اليقظة، و يعبّر عنه بالإقبال، فيغيب عمّا سواه تعالى و لا ينظر إلاّ الى آثاره تعالى، و هو المرحلة الاولى للسالكين إليه عزّ و جلّ ، و له مراتب متفاوتة، و في كلّ مرتبة درجات.

الثاني: التجلّي بالوصال و هو مختصّ بالأوصياء و الكمّل من الأولياء، و في دعوات الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة و دعاء كميل شواهد كثيرة على ذلك، و له أيضا مراتب و في كلّ مرتبة درجات.

الثالث: التجلّي بالفناء، بكشف الحقيقة أو بفناء النفس في جنبه، و هو مختصّ بالخلّص من الكمّل، و الغور فيه بالبحث عنه مزلّة الأقدام، فطوبى لمن نال بقبس من ذلك النور و فاز برشحة منه.

و هناك تقسيم آخر للتجلّي و هو العظيم، و الأعظم، و الأكبر كما ورد في الدعوات المأثورة، و البحث عنه موكول للآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و عن بعض العرفاء أنّ العوالم كلّها ساحة تجلّياته تعالى، و يدركها الإنسان إن تحقّقت المعرفة، و رفعت الحجب، و أزيلت الأستار، و انفصلت الأغيار عن النفوس،

ص: 232

و صفي القلب عن الشوائب، و إلاّ فدركها بالعقول المشوبة بالمادّة و النفوس المختلطة بالأوهام غير ممكن، كما قال الشاعر:

و للعقول حدود لا تجاوزها *** و العجز عن درك الإدراك ادراك

قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في بعض الدعوات المأثورة: «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي»، و في الدعاء عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا» هذا.

و لعلّ ما ورد في كلمات المسيحيين من حلول المبدأ جلّ شأنه في المسيح مرادهم التجلّي له، كما حصل ذلك لإبراهيم و موسى عليهما السّلام، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله في المعراج، و إنزال الروح الأمين على قلبه، و انشراح صدره، و تجاوزه قاب قوسين أو أدنى الى غير ذلك من تجلياته، و إلاّ فإنّ الحلول محال و غير ممكن كما عرفت سابقا، و يشهد لذلك أنّ مثل هذا التعبير قد وقع في جملة من كلمات مشايخ العرفان و أكابر الصوفيّة، و مرادهم نوع من التجلّي لا الحلول الواقعي كما هو واضح و اللّه العالم بالحقائق و الشاهد على السرائر.

ص: 233

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ .......

اشارة

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176) الآية الشريفة هي ختام هذه السورة الّتي اشتملت على جملة من المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة و التوجيهات و الإرشادات الواقعيّة، و قد عالجت أهمّ قضية في الأديان السماويّة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، و كانت فيها جولات مع الكافرين و المنافقين المعاندين و بيّنت صفاتهم و نواياهم الخبيثة.

و في هذه الآية الكريمة ردّ على فتوى المستفتين في فريضة من الفرائض الإلهيّة الّتي سبق ذكرها في هذه السورة أيضا، و إنّما الفرق بينهما أنّ هذه الآية المباركة تبيّن حكم كلالة الأب خاصّة، و أمّا الاولى فهي تبيّن حكم كلالة الام فقط.

كما أنّ في هذه الآية الكريمة تفصيلا لأقسامها و بيان فرائض كلّ قسم، بخلاف الاولى، فإنّها اعتبرت كلالة الام قسما واحدا، فكانت فرائضها قليلة.

و كيف كان، فإنّ وقوع هذه الآية الشريفة في ختام السورة؛ لبيان كمال عناية اللّه تعالى بالمؤمنين، فهي رحمة من ربّ العالمين لهدايتهم، كما أنّ فيها إيماء باستكمال المؤمنين بالتوجيهات الربوبيّة، فإنّ طلب الفتوى علامة من علامات الإيمان و التسليم و الطاعة للّه و رسوله، الّتي أمر عزّ و جلّ بها في هذه السورة.

التفسير

قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ .

تقدّم في الآيات المباركة السابقة الكلام في معنى الاستفتاء و الإفتاء

ص: 234

و الكلالة، و قلنا إنّها إخوة الرجل و أقاربه غير الوالد و الولد، فمأخوذ في معناها فقد الوالدين و الأولاد، و تطلق على الوارث و المورّث من جهة انتساب كلّ واحد منهما الى الآخر، و تتناول الذكر و الأنثى.

و المعنى: يستفتونك في أمورهم و أحكامهم قل: لهم اللّه يفتيكم في الكلالة. أو أنّ المعنى: يستفتونك في الكلالة، حذفت لدلالة الجواب عليها.

قوله تعالى: إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ .

جملة استئنافية لبيان الفتيا، و (إن) شرطيّة مختصّ بالفعل المستكن في (هلك)، و الولد يشمل الذكر و الأنثى للإطلاق، خلافا لما ذهب إليه بعض من تخصيصه بالذكر للتبادر، فإنّه بلا دليل، و قد تقدّم في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أن إطلاق الولد يشمل الذكر و الأنثى، و في حكم الولد ولد الولد كما مرّ.

و نفى الولد هنا للتأكيد؛ لما تقدّم آنفا من أنّ معنى الكلالة مأخوذ فيه فقد الوالدين و الولد، و يدلّ عليه مضافا الى ذلك ظاهر الآية الشريفة، فإنّه لو كان أحدهما موجودا لذكر سبحانه و تعالى سهمه؛ لأنّ الآية المباركة في مقام البيان، و يدلّ عليه أيضا السنّة الشريفة و الإجماع.

و إنّما اكتفى عزّ و جلّ بنفي الولد دون الوالد، إمّا تغليبا، أو لأجل معلوميّة الحكم من الآيات المباركة السابقة الواردة في الفرائض، أو لأجل الردّ على بعض العادات الّتي كانت سائدة في العصر الجاهلي من تقديم الإخوة على الأولاد.

قوله تعالى: وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ .

المراد من الإخوة هنا إخوة الأب و الام، أو الأب خاصّة. و بعبارة اخرى:

أنّ الآية الشريفة تبيّن حكم كلالة الأبوين أو الأب خاصّة، و أمّا كلالة الام فقد تقدّمت في الآية الاولى.

و المعنى: إن مات امرؤ عادم للولد، أو غير ذي ولد، و كان له أختا من أبويه معا، أو من أبيه فقط، فلها نصف ما ترك.

ص: 235

قوله تعالى: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ .

أي: أنّ المرء يرث أخته إذا لم يكن لها ولد - ذكرا كان أم أنثى - و لا والد، كما عرفت من أنّ نفي الولد مأخوذ في معنى الكلالة، فيكون ذكره للتأكيد، و هو يرثها المال كلّه؛ لأنّ فريضة النصف مشروط بكون الوارث أختا للميت، سواء كان ذكرا أم أنثى، و أمّا لو انعكس بأنّ كان الوارث ذكرا و أخا للميت، فالفريضة السابقة لا تشمله لفقد الشرط، فيرث المال كلّه، فلا أثر لذكوريّة الميت أو انوثته في الفريضة، و إنّما المدار على الوارث.

و إطلاق الآية الكريمة يدلّ على بطلان قول من ذهب الى أنّ الأخ يرث مع البنت نصف مال الاخت، و كذلك الاخت ترث نصف ما تركته أختها مع البنت؛ لأنّ الولد إنّما يطلق على الذكر دون الأنثى.

و يردّ عليه ما ذكرناه آنفا من إطلاق الولد عليهما؛ و لأنّ إحراز الأخ جميع المال مشروط بانتفاء الولد بالكليّة، لا ثبوت الإرث لهما في الجملة.

ثمّ إنّه عزّ و جلّ ذكر قسمين من أقسام إرث كلالة الأب في المقام، و هما: أن يكون الوارث أختا واحدة للميت و لم يكن غيرها، و فريضتها النصف، و ترث الباقي ردّا.

و أن يكون الوارث أخا للميت كذلك، و هو يرث المال كلّه، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

و ظاهر الآية الشريفة أنّ ذلك فريضة، و يدلّ عليه بعض الأخبار أيضا، كما ذكرناه في الفقه أيضا.

و بقي قسمان آخران يعلم حكمهما ممّا ورد في الآية المباركة، و هما أن يكون الوارث و المورث أختين، و سهمها النصف أيضا؛ لإطلاق الآية الكريمة؛ و ما ذكرناه آنفا من عدم دخل مال الميت في الذكورة و الأنوثة في اختلاف الفرائض في المقام و المدار على حال الوارث. و الرابع أن يكون الوارث و المورث أخوين و سهمه المال

ص: 236

كلّه أيضا لما عرفت، و لأنّه لو كانت هناك فريضة اخرى لهذين القسمين لذكرت في الآية الشريفة؛ لأنّها في مقام البيان.

و لا يخفى أن إرث هؤلاء مشروط بالانفراد و الوحدة، و إلاّ فالحكم يختلف كما سيبيّنه عزّ و جلّ في ما يأتي.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ .

عطف على الشرطيّة الاولى؛ لبيان سهم الأختين فصاعدا، فلهن الثلثان ممّا تركه الميت، سواء كان أخا للوارث أم أختا له، كما عرفت آنفا. و إنّما ذكر عزّ و جلّ اثنتين دون الأختين و غيره؛ لأنّ العبرة بالعدد.

و استشكل بعضهم في الإخبار عن ضمير التثنية «كانتا» بالاثنتين؛ لأنّ الخبر لا بدّ أن يفيد ما يفيده المبتدأ، و ضمير التثنية دالّ على الاثنينية، فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا.

و أجيب عنه بوجوه عديدة لا تخلو أغلبها عن المناقشة، كما لا يخفى على من راجعها.

و الحقّ أن يقال: إنّ اثنتين حال مؤكّدة، و لبيان أنّ العبرة بالعدد و الخبر محذوف، أي: فإن كانت الأختان الوارثتان له اثنتين أو أكثر، هذا كلّه حكم صورتي الانفراد و التعدّد من كلالة الأب لكن مع الوحدة. و بغير زوج أو زوجة كما هو المفروض في جميع ما تقدّم.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

بيان لحكم التعدّد و الاختلاف، أي: و إن كان من يرث إخوة من الكلالة و أخوات رجالا و نساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فإنّه القاعدة في باب الإرث في ما إذا اجتمع الذكور و الإناث من الوارث، فللذكر مثل حظ الأنثيين، إلاّ ما خرج بالدليل كما ذكرنا في الإرث من كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 237

و في الآية المباركة تغليب الذكور على الإناث، و أنّ قوله: رِجالاً وَ نِساءً بدّل كما هو واضح.

قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا .

تعليل لما سبق، أي: يبيّن اللّه تعالى لكم أحكامه المقدّسة و امور دينكم؛ لئلاّ تضلوا، أو كراهة أن تضلّوا، على الخلاف المعروف بين البصريين و الكوفيين في مثل هذه الجملة.

و قيل: يبيّن اللّه لكم الضلالة من الهداية، فتجتنبوا الاولى و تتّقوها و تأتوا بالثانية.

و كيف كان، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ الأحكام الإلهيّة من سبل هداية الإنسان، و من طرق الوصول الى الكمال و السعادة المنشودتين.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

أي: أنّ اللّه تعالى يعلم ما يوجب خيركم و جميع خيركم و جميع مصالحكم، فلم يشرّع لكم من الأحكام إلاّ لأجل سعادتكم.

و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لتشريع ما سبق من الأحكام المبتنية على المصالح.

ص: 238

بحث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيتان الشريفتان على أنّ إرث الكلالة مطلقا مشروط بانتفاء الوالدين و الأولاد مطلقا، فيستفاد منهما أنّهم من الطبقة الثانية، كما أنّ الوالدين و الأولاد من الطبقة الاولى، و قد دلّت الأخبار الواردة من المعصومين عليهم السّلام على أنّ الأجداد يشاركون الإخوة و الأخوات فيكونون من الطبقة الثانية أيضا، و قد ذكرنا جملة منها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

كما أنّ الأخبار دلّت على أنّ إرث الأعمام و الأخوال مشروط بانتفاء الإخوة و الأجداد، فعلم من ذلك أنّهم من أهل الطبقة الثالثة، على التفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة.

و أنّ الآيتين الشريفتين تدلاّن على تفصيل توريث كلالة الأبوين أو الأب خاصّة على الإطلاق، حيث لم تشترط فقد الإخوة من كلالة الام.

و الكلالة: هي القرابة غير الوالد و الولد كما تدلّ عليه الآية المباركة و السنّة الشريفة و آية الكلالة مذكورة في هذه السورة المباركة في موضعين، و في كلتيهما يبيّن عزّ و جلّ معنى الكلالة بأحسن بيان، ففي قوله تعالى: إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ بيان لمعنى الكلالة، فيستفاد منه أنّ الكلالة ليست في عمود النسب.

و في كلمة «هلك» و التعبير به دون مات أو توفي أو أمثالهما، إشارة لطيفة بأنّ من لا ولد له فهو هالك.

و في الآية الشريفة قرينة على أنّ المراد بالكلالة المتقرّب بالأبوين أو الأب فقط، فتدبّر فيها و في ما مرّ من آية الكلالة.

ص: 239

كما أنّ الآية الاولى الّتي وردت في كلالة الام دلّت على توريثها على الإطلاق كما عرفت، فيعلم من ذلك أنّ الكلالتين تجتمعان و قد تفترقان، و كذا حالهما مع الأزواج، فإذا اجتمعت كلالة الأب و كلالة الام فإن كانت الأخيرة واحدة، فالسدس لها، و إن كانوا أكثر فيقتسمون الثلث بينهم بالسوية مطلقا، و أمّا الباقي فيعطى لكلالة الأب، فإن كانت أختا واحدة فلها النصف من الثلثين و البقية يردّ عليها، و إن كانت أختين فصاعدا يعطى لهما ثلثا الثلثين و الباقي يردّ عليهما، و إن كانوا ذكورا و إناثا فيعطى لهم الثلثين، للذكر مثل حظ الأنثيين، و لا شيء عندنا للعصبة، فيعطي له نصيبه الأعلى، فإن بقي شيء فللكلالة، بالتفصيل الّذي ذكرناه في الإرث من (مهذب الأحكام).

و المستفاد من الآيتين الشريفتين أنّ السهام المذكورة لكلالة الأب فيهما هي سهم الاخت الواحدة و هو النصف، و سهم الأختين و هو الثلثان، و سهم الأخ الواحد و هو المال كلّه، مشارك غيره من الزوج أو الجدّ كما دلّت عليه النصوص.

و سهم الإخوة ذكورا و إناثا، و هو المال كلّه، للذكر مثل حظّ الأنثيين، و من ذلك يعلم بقية السهام، و هي سهم الأخوين، و هو المال كلّه بينهما بالسوية، و منها الأخ مع الاخت، فللذكر مثل حظّ الأنثيين، و يصدق على الجميع الإخوة.

و يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ على أنّ تشريع الأحكام يختصّ بمن كان عالما بجميع الأمور - حقائقها و مصالحها - و ما تتعلّق بمحياكم و مماتكم، و بمقدار قدرة العباد في تحمّلها، فيعلم من ذلك بطلان أيّ تشريع آخر صادر من غيره عزّ و جلّ ، فإنّه ضلال و لا يجلب إلاّ الشقاء و الحرمان، كما يدلّ عليه قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا .

كما أنّ في الآية الشريفة إشارة الى أنّ اللّه تعالى لم يكل تشريع الأحكام الى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما هو رسول و مبلّغ من عنده جلّ شأنه.

ص: 240

بحث روائي

علي بن إبراهيم بسنده عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا مات الرجل و له اخت، لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت، و النصف الباقي يردّ عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كلّه؛ لقول اللّه: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية و الثلث الباقي بالرحم، وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ و ذلك كلّه إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة».

أقول: الرواية من باب التفسير و التوضيح للآية المباركة كما تقدّم.

العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ : «إنّما عنى اللّه الاخت من الأب و الام، أو الاخت من الأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، و قال: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ، فهؤلاء الّذين يزادون و ينقصون و كذلك أولادهم يزادون و ينقصون».

أقول: الرواية كسابقتها، و نصيب كلالة الام تقدّم في الآية الّتي تقدّمت في أوائل السورة.

و فيه أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا ترك الرجل امه و أباه و ابنه و ابنته، فإذا هو ترك واحدا من هذه الأربعة فليس هو من الّذي عنى اللّه في قوله: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ، ليس له أن يرث مع الام و لا مع الأب و لا مع الابن و لا مع الابنة إلاّ زوج أو زوجة، فإنّ الزوج لا ينقص من النصف إذا لم يكن معه ولد، و لا تنقص الزوجة من الربع شيئا إذا لم يكن معها ولد».

أقول: و قريب منه ما عن زرارة، و تقدّم تفصيل المراتب في الإرث من كتاب

ص: 241

(مهذب الأحكام)، و الرواية من باب التفسير للآية المباركة.

و في المجمع عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي - أو سبع - فدخل عليّ النبي صلّى اللّه عليه و آله فنفخ في وجهي فأفقت فقلت:

يا رسول اللّه ألا أوصي لأخواتي بالثلثين ؟ فقال: أحسن. قلت: الشطر؟ فقال:

أحسن. ثمّ خرج و تركني و رجع إليّ فقال: يا جابر إنّي لا أراك ميتا من وجعك هذا، و إنّ اللّه تعالى قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، و كان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ ».

أقول: الرواية تتضمّن كرامة للنبي، و كم له صلّى اللّه عليه و آله منها في كلّ يوم من أيّام عمره الشريف، و كان في مرض جابر مصالح و بركات.

و في الدرّ المنثور عن جابر بن عبد اللّه قال: «دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا مريض لا أعقل، فتوضّأ ثمّ صبّ عليّ فعقلت فقلت: إنّه لا يرثني إلاّ كلالة، فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض»، و قال جابر: «أنزلت فيّ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ، هكذا في رواية أبي حاتم».

أقول: الظاهر وحدة القضية، و أنّ النفخ كان من مقدّمات صبّ الماء على وجهه، و أنّ الشفاء حصل بمجرّد النفخ، و صبّ ماء الوضوء كان لمنقبة اخرى و مفخرا لجابر؛ لأنّ المسلمين كانوا يتسابقون للتبرّك بقطرة من ماء وضوئه صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدلائل للبيهقي عن البراء قال: «آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ».

أقول: اختلف المفسّرون في آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي في المحلّ المناسب التعرّض له.

و في الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن الكلالة ؟ فقال: تكفيك آية الصيف».

أقول: تسمية الآية الكريمة بآية الصيف لنزولها في ذلك الموسم، فإنّ اللّه

ص: 242

تعالى أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و اخرى في الصيف و هي هذه الآية.

و في تفسير العياشي عن بكير قال: «دخل رجل على أبي جعفر عليه السّلام فسأله:

عن امرأة تركت زوجها و إخوتها لامها و أختا لأب ؟ قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم و للإخوة من الام الثلث سهمان، و للاخت للأب سهم، فقال له الرجل: فإنّ فرائض زيد و ابن مسعود و فرائض العامّة و القضاة على غير ذا يا أبا جعفر! يقولون: للاخت للأب و الام ثلاثة أسهم نصيب من ستة تعول الى ثمانية، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و لم قالوا ذلك ؟ قال: لأنّ اللّه تعالى قال: وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، فقال أبو جعفر عليه السّلام: فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجّون بأمر اللّه بإنّ اللّه سمّى لها النصف، فإنّ اللّه سمّى للأخ الكلّ ، و الكلّ أكثر من النصف، فإنّه تعالى قال:

فَلَها نِصْفُ ، و قال للأخ وَ هُوَ يَرِثُها : يعني جميع المال، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فلا تعطون الّذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئا و تعطون الّذي جعل اللّه له النصف تامّا؟!».

أقول: إن ردّه عليه السّلام كان بالنقض كما هو واضح، و ذكرنا التفصيل في الإرث من (مهذب الأحكام)، فمن شاء فليرجع إليه.

تمّت هذه السورة المباركة و الحمد للّه الّذي أذهب عنا الحزن بالتوفيق للتفسير، إنّ ربّنا لغفور شكور، جعلنا اللّه تعالى من العاملين بما أنزل فيها من الأحكام.

و المتخلّقين بما ورد فيها من الآيات في مكارم الأخلاق، و أسمى الحسنات و سجايا الصفات.

و المعتصمين بما ذكر فيها من الأسماء و الصفات.

و الذاكرين بما سرد فيها من الأذكار، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم: «إنّ الّذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر اللّه يدخلون الجنّة و هم يضحكون».

ص: 243

و السالكين في ما تلطّف عليها فيها من السبل الى عتاب حضرته.

و من المجذوبين بآياتها النازلة في الجذب بالعناية الى ساحة كبريائه.

و من العارفين بما أفاض علينا فيها من المعارف الربانيّة.

و من العاشقين لحضرة جماله و أنواره، متجرّدين عن كلّ مرغوب و مرهوب، منفردين من كلّ مطلوب و محبوب، بما منّ علينا فيها من آيات العرفان، و نسأله جلّ شأنه أن لا يقطع عنّا عونه و فيضه، و يمدّنا بالتوفيق، إنّه سميع مجيب.

ص: 244

ص: 245

ص: 246

ص: 247

سورة المائدة

اشارة

ص: 248

<سورة المائدة و هي مائة و عشرون آية> بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْ.......

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (2) هذه السورة المباركة نزلت في حجّة الوداع فيما بين مكّة و المدينة و هو صلّى اللّه عليه و آله على ناقته، فبركت من ثقلها كما في بعض الأخبار.

و عن بعض المفسّرين أنّها مدنيّة إلاّ آية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فإنّها نزلت بعرفة عام حجّة الوداع.

و كيف كانت، فإنّها - كسائر السور القرآنيّة - اشتملت على جملة من المعارف الإلهيّة، و الإرشادات الربوبيّة، و التوجيهات السماويّة، و عالجت قضية القرآن الرئيسة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، و إثبات رسالة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، و الدعوة إلى الإيمان الصحيح، فكان القسم الأعظم من هذه السورة في محاجّة اليهود و النصارى مع ذكر المنافقين و المشركين، و لم تخرج عن الغرض العظيم الّذي يهدف إليه القرآن الكريم، و هو إرشاد الإنسان إلى الكمالات الواقعيّة، و بيان طرق

ص: 249

استكماله، فذكرت كثيرا من الأحكام العمليّة الفرديّة و الاجتماعيّة و التربويّة الّتي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و إصلاحها و تزيينها بالأخلاق الفاضلة.

و يمكن بحقّ أن تسمّى هذه السورة بسورة الأحكام و المواثيق؛ لأنّها اشتملت على أمهات التكاليف في الأصول و الفروع، و يكفي شاهدا على ذلك أنّه ذكر فيها أهمّ موضوع بعد التشريع، و هو الاعتناء ببقاء الشريعة و دوامها، فذكرت بأسلوب رصين له وقع كبير في النفوس.

كما سمّيت السورة بسورة الأحبار؛ لقوله تعالى فيها يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ ، و هم العلماء.

و لعلّ الابتداء بالدعوة إلى الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق، و تخصيص الخطاب بالمؤمنين و ذكرهم في مفتتحها و فوزهم بشرف النداء الربوبي؛ لأنّهم استعدّوا بعد الجولة الطويلة معهم له و عرفوا عظيم هذا الأمر في بقاء الشريعة الختميّة و حفظها من كيد الأعداء و الضياع.

مع أنّ ذلك من أجمل براعة الاستهلال المعروفة في علم البديع؛ لأنّ فيها تلقين النفوس و ترويضها على قبول هذا الحكم الإلهي؛ لأنّه من كمال الدين و إتمام النعمة.

و الآيات الاولى منها تشتمل على جملة من الأحكام العمليّة الّتي تتعلّق بالنظام العامّ و الحجّ ، و ابتدأ عزّ و جلّ بالدعوة إلى الوفاء بالعقود الّتي هي أساس كلّ تكليف إلهي، فإنّ التكاليف عهود و مواثيق بين اللّه تعالى و بين عباده، و من جملتها العقود الدائرة بين الناس، فيجب الوفاء بها.

كما أنّه سبحانه و تعالى أمرهم بالتعاون على البرّ و التقوى، الّذي هو من الدعائم القويمة في الإسلام، و أساس كلّ خير و فضيلة، و حذّرهم عزّ و جلّ من التهاون بهذا الأمر، و أمرهم بالتقوى بالايتمار بأوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن مناهيه، فإنّه شديد العقاب لا يغفل عن عقاب العاصين.

ص: 250

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي في سورة النساء، و ذكرنا أنّه يتضمّن كلّ معاني الإسلام و الطاعة و الإخلاص، فهو يدلّ على عظيم شرف المؤمنين و استعدادهم لتلقي الفيض من العزيز العليم.

و افتتاح السورة به لبيان أنّ العمل بما ورد فيها يجعل الفرد مؤمنا مستسلما للّه تعالى مطيعا له عزّ و جلّ .

و من الجدير بالذكر أنّ هذا النداء يذكر في كلّ مورد يبيّن عزّ و جلّ حكما عمليّا، أو شرطا من شروط الإيمان المطلوب، أو ما يتعلّق بتهذيب النفس و مكارم الأخلاق، و قد ذكرت جميع ذلك في هذه السورة المباركة.

قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

مادّة [وفي] تدلّ على أخذ الشيء وافيا و الإتيان به تامّا لا نقص فيه، و أوفينا الكلام في قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 76]، و قوله تعالى: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية: 185].

و الوفاء بالعقد: هو حفظ ما يقتضيه العقد و إتيانه تامّا بالقيام لموجبه، يقال:

وفي و وفيّ و أوفى، و جميعها وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [سورة النجم، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج، الآية: 29].

و مادّة (عقد) تدلّ على الربط و الشدّ محكما، بحيث يصعب انفصال أحد الأطراف عن الآخر، و تستعمل في الأمور المحسوسة، كعقد الحبل و عقد البناء، و غير المحسوسة كعقود المعاملات من البيع و الإجارة و الصلح و نحوها، و منها عقد

ص: 251

النكاح، قال تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ [سورة البقرة، الآية:

237]، و في دعاء الصحيفة الملكوتيّة: «و أسألك بمعاقد العزّ من عرشك»، أي:

بالصفات الّتي استحقّ بها المجد و العزّ للعرش، فيها انعقد و بوجودها تشرّف، فلا يمكن الانفصال بينهما، و لعلّ تلك الخصال أو الصفات تجليات خاصّة من ربّ العزّة استحقّ العرش بها المجد و العظمة.

و الوفاء بالعقد: هو الالتزام بلوازمه و عدم نقضه، و إطلاق الكلمة يشمل جميع العهود و المواثيق الخالقيّة، و الخلقيّة، ما لم يرد نهي عن الشارع المقدّس عن الوفاء به؛ لأن في كلتيهما يتحقّق معنى الاستيثاق و الشدّ، و أنّ ذكر بعضهم بأنّ العقد يختلف عن العهد في أنّ الأوّل ما كان انشاؤه بين اثنين، بخلاف الثاني فإنّه قد ينفرد به واحد، و لكنه لا يضرّ بأصل المعنى الّذي اشتركا به.

و ربّما يستفاد من موارد استعمال المادتين أنّ العهد أشدّ من العقد، فإنّ الأخير ربط بين شيئين، بحيث يلزمه و لا ينفكّ عنه بينما يكون الأوّل ربطا بين العاهد و المعهود له فيه تمكين من النفس. فلا يمكن للعاهد أن ينقضه، و لعلّه لأجل ذلك كان استعمال العهد أكثر من العقد في القرآن الكريم، فقد ورد العهد فيه ما يقرب من خمسين موضعا و لم يبلغ العقد العشرة، و أكّد القرآن على الوفاء بالعهد فقال تعالى: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً [سورة الإسراء، الآية: 34].

و هو يشمل كلّ مصاديق العهد و جميع معانيه من الفرديّة و الاجتماعيّة، و العقود الدائرة في المجتمع، و النذور، و هذه الثلاثة هي ركائز الحياة و لا غنى للإنسان عنها، فإنّ جميع الحقوق الفرديّة و الاجتماعيّة مبنيّة على الوفاء بها، و في نقضها هدم للكيان الإنساني فلا تقوم له قائمة، و يكفي في ذمّه أنّه إبطال للعدل الاجتماعي الّذي هو الركن الأساسي في حياة الإنسان، و هو مأواه من الظلم و الطغيان، و به ينتظم سلك الاجتماع و تتحقّق السعاة، ففي العقد و العهد بجميع معانيهما قوام حياة الإنسان في كلّ علاقاته مع خالقه و مع نفسه و مع الآخرين؛ لأنّه الوسيلة الوحيدة في اكتساب المزايا و الحظوظ الدنيويّة و الاخرويّة؛ و لذا أكّد القرآن الكريم على الوفاء

ص: 252

بهما و مدح الموفين بعهودهم و عقودهم، و شدّد النكير على نقضهما و عدم الاعتناء بهما و ذمّ الناقضين لهما ذمّا بالغا، و السرّ في ذلك واضح؛ لأنّ الإسلام يعتبر الوفاء بالعقد و العهد من مكارم الأخلاق و مظهرا من مظاهر صفاته عزّ و جلّ ، مضافا الى أنّ فيه حياة الامة، و أنّه أساس كلّ عدل فردي و اجتماعي، بلا فرق بين أن ينتفع العاقد من العقد أم لا، إلاّ أن يتضرّر منه، و ينقض كلّ عقد يستلزم الظلم و يوجب سلب الحقّ عن الآخرين.

و بعبارة اخرى: أنّ الإسلام يجعل العقد و العهد و الوفاء بهما خدمة للحقيقة و وسيلة لرعاية الحقّ ، لا أن يكون لهما موضوعيّة خاصّة فقط، و بهذا افترق في احترام العهد و العقد عن سائر الأمم و القوانين الوضعيّة، فإنّها إنّما تحترم العقود و العهود إذا جلبت المنافع، أو استلزم منها تثبيت حقّ ، أو كانت وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين و السيطرة على المحرومين.

و بتعبير أوضح أنّ الأمم إنّما تحترم العقد و العهد إمّا لأنّهما تجلب المنفعة أو تدفع المفسدة، و كلاهما لا يكون غاية في احترام العهود و العقود في الإسلام كما عرفت.

إن قلت: إنّ العقود و العهود في أدلّة وجوب الوفاء هي المتداولة بين أعراف العقلاء، فلا وجه للتفاوت و التفصيل بينها.

قلت: البحث في الدافع لاحترامها و المحفّز للالتزام بها، فتارة: يكون لأجل رعاية الحقّ و حفظ الحقيقة و لا يراعي الجوانب الاخرى - مثل المنافع أو المفاسد - و غيرهما و هذه نظرية الإسلام.

و اخرى: يكون الدافع أو المحفّز المنافع أو دفع المفاسد، و هذه نظرية الأمم أو القوانين الوضعيّة، فلا وجه للإشكال كما هو واضح.

ثمّ إنّ العقود من الأمور العقلائيّة الدائرة في المجتمع، و لا تختصّ بالإسلام، و إن احترامها من الأمور الفطريّة؛ لأنّ البشر من أوّل وجوده على هذه البسيطة - مع قطع النظر عن الديانات - كان يحترمها، فيكفي في اعتبارها عدم ورود المنع في

ص: 253

الشريعة، و لها مصاديق كثيرة مثل البيع و الإجارة و الصلح و غير ذلك، سواء أ كانت فرديّة أم اجتماعيّة.

اللهمّ إلاّ أنّ في احترام العهود الاجتماعيّة بسط العدل على وجه الأرض و انتظام شؤون الناس و تحقيق سعادتهم، و في نقضه هدم كيان الامة و السبب في شقائها، و حرمانها عن الترقي بالوصول الى الكمال، و على أية حال يحرم نقض العهد مطلقا إلاّ ما أذن الشارع - الّذي هو عالم بالمصالح و المفاسد - في نقضه.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في كثير ممّا نقله المفسّرون في المقام، فقد قال بعضهم: إنّ المراد من العقود الّتي كانت في الجاهليّة يعاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة على من يبغي عليهم أو يقصدهم بسوء، و نقل بعض أرباب التواريخ أنّها كانت كثيرة جدا، و لعلّ تكرار ذكره في القرآن الكريم لأجل أنّه كان شائعا في عصر نزوله.

و قال آخرون: إنّ المراد بها هي الّتي يتعاقدها الناس - كعقد البيع و الإجارة، و المضاربة، و النكاح، أو ما يعقدها الإنسان على نفسه، كعقد اليمين و النذر و العهد.

و قال ثالث: إنّ المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بالتوراة و الإنجيل، و غير ذلك ممّا ذكره أرباب التفاسير.

و الحقّ أنّ جميع ذلك خلاف ظاهر الآية الكريم، و تخصيص لها بغير دليل يقنع العقل به أو يكون منقولا شرعيا.

و استظهر الزمخشري و تبعه آخرون: أن يكون المراد عقود اللّه تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه؛ لما فيه من براعة الاستهلال، و من التفصيل بعد الإجمال.

و لا يخفى أنّ ما ذكره و إن كان وجيها، إلاّ أنّه لا ينافي التمسّك بعموم اللفظ و الحكم بأنّه يعمّ جميع ما ألزمه اللّه تعالى على عباده و عقد عليهم من التكاليف و الأحكام و ما يعقدونه بينهم من العقود و العهود و غيرهما مما يجب الوفاء بها، فإنّ به يجمع بين ما يقتضيه اللفظ من الوجه الأدبيّة البلاغيّة، و من المقصود الظاهر من الكلام.

ص: 254

قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ .

حكم امتناني إلهي يبيّن ضروريات الإنسان في معاشه، و هو من العهود الّتي أمر اللّه تعالى بالوفاء بها؛ لما له من الأهميّة في حياة الناس، و فيه تفصيل بعد إجمال فقد ذكر عزّ و جلّ القاعدة العامّة في ما يحل أكله من الطعام، ثمّ استثنى ما يكون محرما، و ذكر بعض الحالات الّتي يحرم فيها الصيد و أكله.

و الإحلال: الإباحة، و في الحديث المشهور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الصلاة تحريمها التكبير و تحليلها التسليم»، أي: صار المصلّي بالتسليم يحلّ له ما حرّم عليه فيها بالتكبير من الكلام و الأكل و سائر المنافيات، كما يحلّ للمحرم بالحجّ بالتقصير و طواف النساء ما كان حراما عليه، و قد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا [سورة البقرة، الآية:

275].

و مادّة (بهم) تدلّ على الغمض و الإغلاق و عدم التمييز، و منه باب مبهم، أي:

مغلق، و ليل بهيم أو بهمة، للشجاع الّذي لا يدري من أين يؤتى له، و في الحديث:

«يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهما»، و معناه: يحشر الناس و ليس فيهم شيء من العاهات و الأعراض أو الأمراض الّتي تكون في الدنيا كالعمى، و العور، و العرج، و إنّما هي أجساد مصحّحة للخلود إمّا في الجنّة أو في النار، و لكنّهم لا ينطقون لهول المحشر و ما سيطر عليهم من الغلق و الرعب فأبهموا عن البيان، و ممّا ذكرنا ظهر معنى ما ورد عن ابن عباس: «أبهموا ما أبهم اللّه».

و البهيمة: اسم جنس لكلّ ذات الأربع من دواب البرّ و البحر، سمّيت بها لعدم تمييزها و إبهام الأمر عليها، و الجمع بهائم و بهم، و في الدعاء: «و البهم الصافين الحافّين حول عرشك» و المراد بهم الملائكة، و لعلّ الوجه في تسميتهم بها؛ لأنّ أحوالهم و سائر شؤونهم قد ابهمت على غالب الخلق، أو لأنّهم شاهدوا التجلّيات و ظهرت لهم الحقائق، فلم يتمكنوا من بيانها و إظهارها و لذلك أبهموا، و إفراد البهيمة لإرادة الجنس.

و الأنعام: جمع النعم، و هي الدواب المعروفة، و اللفظ يشمل جميع الأنواع ممّا

ص: 255

يحلّ أكله - كالأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام كما يأتي - و ألحقت بها الظباء و بقر الوحش بدليل السنّة، و كذا الحمار و الفرس و غيرهما، إلاّ إذا ورد في الشريعة ما يدلّ على حرمة أكله أو كراهته.

و إضافة البهيمة الى الأنعام بيانيّة كثوب الخز، أي: أحلّ لكم البهيمة من الأنعام، و هي الأزواج الثمانية الّتي ذكرت في سورتها، و تدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي.

و اعترض عليه بأنّه من قبيل إضافة الجنس الى النوع منه، فإنّ البهيمة اسم جنس و الأنعام نوع منه، و لا فائدة في مثل هذه الإضافة، بل هي مستقبحة كإضافة الحيوان الى الإنسان.

و يردّ عليه: بأنّ مثل هذه الإضافة شائعة و ليست من إضافة الجنس الى أنواعه، بل إضافة النوع الى أصنافه، مضافا الى ذلك أنّ إضافة الجنس الى النوع لا يكون مستقبحا إذا كانت فيها فائدة مستحسنة كما في المقام، فإنّها لإزالة الإبهام من البهيمة و تعميمها للأزواج الثمانية، و رفع الحظر الّذي فرضه أهل الجاهليّة على بعضها.

و قيل: المراد من الآية المباركة جنين الأنعام، فتكون الإضافة لامية و ورد، فيه بعض الروايات.

و قيل: إنّ المراد من البهيمة غير الثمانية ممّا يشابهها - كالظباء، و بقر الوحش، و نحوهما ممّا يماثل الأنعام في بعض صفاتها كالاجترار و نحوه، فتكون إضافتها للأنعام لملابسة المشابهة بينهما، و جوّز بعضهم أن تكون الإضافة في مثل ذلك إمّا بمعنى اللام إن أريد منها الاختصاص بين المشبّه و المشبّه به، أو بمعنى (من) البيانيّة إن أريد الاتّحاد بينهما.

و كيف كان، فالحقّ أن يقال: إنّ الظاهر من الآية الكريمة هو العموم الشامل لكلّ ما يصدق عليه عنوان الأنعام المعروف عند اللغة و العرف، من غير اختصاص بصنف خاصّ و إن كثر إطلاقه عليه - كما في الإبل - فإنّه لا يصير سببا للتخصيص كما هو المعروف في علم اصول الفقه، فيشمل الجنين أيضا لأنّه من الأنعام عرفا،

ص: 256

و لا فرق فيه بين أن تكون وحشية - كبقر الوحش و الظباء - أو أليفة؛ لصدق العنوان عليها جميعا، إلاّ إذا خرج صنف عن هذا العنوان، فلا تشمله الآية الشريفة، أو ورد دليل على التحريم - كالموطوءة و كالجلال - و الكراهة و البحث مذكور في الفقه، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

و المراد من الحليّة هي حليّة أكل لحومها، لمناسبة الحكم و الموضوع الّتي هي من القرائن المعروفة الّتي يعتمد عليها العلماء، و تقدّم مثلها في سورة البقرة آية (168) أيضا. و لأنّ الأكل هو الّذي حرّمه أهل الجاهليّة على أنفسهم لبعض الأنعام، كما هو مذكور في سورة الأنعام.

قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ .

استثناء من الحليّة، أي: يحلّ أكل لحوم بهيمة الأنعام إلاّ ما حرّمه عزّ و جلّ في ما يأتي من الآيات الكريمة، و ما ورد في السنّة الشريفة.

قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ .

حال من ضمير الخطاب في قوله عزّ و جلّ : أُحِلَّتْ لَكُمْ ، و الصيد يحتمل المصدر و المفعول أي: المصيد، كقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 95].

و قيل: لا يقال للشيء الصيد حتّى يكون ممتنعا، حلالا، لا مالك له، و لكن ذلك كلّه من الشروط و القيود الشرعيّة، و إلاّ فإنّ الصيد هو أخذ الحيوان الممتنع بحيلة و دهاء.

و تبيّن الآية الشريفة قيدا من قيود الحكم المزبور، فيكون تخصيصا لعمومه، فتحرم بهيمة الأنعام الممتنع إذا كان اصطيادها في حال الإحرام، و تبقى الحلّية في سائر الأحوال، و المراد من محلّي الصيد أي: لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه.

و قيل: إنّ الجملة حال من قوله: «أوفوا»، أو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى: يُتْلى عَلَيْكُمْ . و لا يخفى بعدهما.

ص: 257

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ .

حال من الضمير في «محلي»، و حرم - بضم الحاء و الراء - جمع محرم، و بكسر الراء الرجل يحرم للطواف حول البيت الشريف.

و المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام في غير حال امتناعكم من الصيد و أنتم محرمون؛ لئلا تقعوا في مشقّة و حرج. و قال بعضهم: إنّ المراد منه الدخول في الحرم، يقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم، و لكن التخصيص للصيد في حال الإحرام أولى.

و للقوم في تفسير الآية المباركة وجوه و أقوال لا تخلو من المناقشة، بل هي بعيدة عن سياقها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ .

أي: أنّ اللّه تعالى يقضي ما يريد من الأحكام حسب ما تقتضيه حكمته البالغة و علمه الأتمّ ، و لو كان الحكم خلاف المعهود عند الناس.

و (يحكم) يتعدّى بالباء، و لكن ضمن معنى يفعل فعدّى بنفسه.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ .

خطاب مجدّد للمؤمنين تشريفا لهم و تكريما بهم و تعقيبا لما بيّنه عزّ و جلّ - من حرمة إحلال الصيد في حال الإحرام الّتي هي من شعائر الحجّ - ذكر تعالى النهي عن إحلال سائر الشعائر، و فيه التأكيد على شدّة العناية بحرمات اللّه تعالى و تهويل الأمر في إحلالها.

و الإحلال: الإباحة بغير مبالاة بمنزلة المأتي به و حرمته في الدين، و هتك كلّ شعيرة إنّما يكون بحسبها، فإحلال شعائر اللّه تعالى هو عدم احترامها و التهاون بها و إباحة العمل لها، و إحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته بالقتال بعد ما منع القتال فيه.

و الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة، و هي ما جعله اللّه تعالى شعائر الدين و معلما من معالمه كشعائر الحج و غيرها، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 158]، و في

ص: 258

الحديث أنّ جبريل عليه السّلام قال له: «مر أمتك حتّى يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنّها من شعائر الحج»، و منه إشعار البدن، أن يجعل لها علامة من شقّ أحد جنبي سنام البدنة حتّى يسيل دمها.

و إضافتها الى اللّه تعالى في الآية المباركة لتشريفها و تهويل الخطب في إحلالها.

و المعنى: يا أيها الّذين آمنوا لا تتهاونوا بحرمات اللّه عزّ و جلّ و تهتكوا شعائر اللّه تعالى فتجعلوها حلالا تعملون فيها كما تشاؤن. و خصّ بعض المفسّرين الآية الكريمة بشعائر الحجّ ، و لكنه تخصيص لها بغير دليل.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ .

أي: و لا تستحلّوها بالقتال و الغارة و هما محرمان عليكم، و أشهر الحرم في الإسلام أربعة، واحد فرد و هو شهر رجب، و ثلاثة سرد و هي ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرم الحرام. و إفراده في المقام لإرادة الجنس.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ .

أي: و لا تحلّوها، و الهدي واحدة هديّة. و المراد بها ما يساق للحجّ من الغنم، و البقر، و الإبل.

و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلّد به الهدي من نعل و نحوها؛ ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له، و هي سنّة إبراهيميّة بقيت حتّى الإسلام. و إحلالهما هو عدم التعرّض لهما بالغصب و المنع من دخول محلّه.

و التعرّض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرّض لذواتها، كما قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [سورة النور، الآية: 31]، فإنّ النهي عن إظهار الزينة نهي عن إظهار محلّها بالأولى.

و إنّما خصّهما بالذكر تعظيما لهما و لكونهما من شعائر الحجّ ، فتعظيمهما يكون تعظيما له، كما أنّ ذكر الخاصّ (القلائد) بعد العامّ (الهدي)؛ للتنبيه على فضلها و شرفها.

ص: 259

قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ .

يعني: القاصدين له، اسم فاعل من أمّ إذا قصد، يقال: أممت كذا، أي:

قصدته. أي: و لا تستحلّوا القاصدين للبيت الحرام بأن تمنعوهم من دخوله، و لا يختصّ ذلك بخصوص الشهر الحرام، بل هو عامّ يشمل جميع الأزمنة، بل و حتّى المشركين الّذين يقصدون البيت لولا منعه تبارك و تعالى عن دخولهم الحرم.

و يختلف الأمّ عن القصد في أنّ الأوّل هو التوجّه الى الشيء و قصده قصدا مستقيما لا يعني الى غيره، بخلاف القصد.

قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً .

الجملة إمّا في موضع الحال من ضمير (آمين)، أو صفة لآمين، و حينئذ يكون المراد منهم المسلمين؛ لأنّهم هم الّذين يطلبون ذلك، فتكون الآية الشريفة غير منسوخة، كذا قيل.

و في الآية المباركة إشارة الى تعليل النهي و استنكار المنهي عنه، لما ذكر فيها من اسم الربّ من التشريف لهم، و كونهم قاصدين البيت الحرام الّذي من قصده كان من الآمنين.

و الفضل هو الأجر و المال، أي: منهم يبغي و يقصد البيت للتجارة و الربح، و منهم من يطلب رضوان اللّه تعالى.

و في الآية المباركة لطف من اللّه عزّ و جلّ لمن يقصد البيت الحرام، و استئلاف منه جلّ شأنه لغير المسلمين؛ لتنبسط النفوس فيردون الموسم فيستمعون القرآن و يدخل الإيمان في قلوبهم.

و خصّ بعض المفسّرين الحكم بالمشركين، ثمّ قال: إنّه نسخ بقوله تعالى:

فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5]، و أيّده بما رواها جمع في سبب نزول الآية الشريفة و كونها في المشركين.

و الحقّ أنّ الآية المباركة على إطلاقها و عمومها كما تقدّم، و أنّها تدلّ على عدم التعرّض لحرمات اللّه تعالى، و أنّ المؤمن لا بدّ له من التسليم و العمل بما أنزله

ص: 260

اللّه جلّ شأنه، و أنّ التعليل المزبور يشمل كلا الفريقين فيكون النهي عن استحلالهم و منعهم عن حجّ البيت، إلاّ إذا حصل المنع منه جلّ شأنه عن دخول حرمه.

بل إنّ الآية الشريفة ترشد الى التحلّي بخلق كريم، و هو نبذ الاعتداء و الإصرار على أخذ الثأر بما فعله المشركون بالمسلمين قبل الفتح، فيمنعوهم عن المسجد الحرام كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا .

رفع للحظر المفروض على الاصطياد في حال الإحرام، فيفيد الإباحة، و الحلّ و الإحلال بمعنى الخروج من الإحرام، أي: يباح لكم الصيد بعد الإحلال من الإحرام.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ غاية حرمة الصيد هي الإحلال من الإحرام المستفاد من قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ . و إنّما خصّه بالذكر لشدّة ابتلائهم به و حرصهم عليه.

قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا .

تأكيد للحكم السابق من عدم التعرّض لحرمات اللّه تعالى و عدم هتك شعائر الدين و معالمه، و بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي أمر بها الإسلام و قد بعث رسوله صلّى اللّه عليه و آله لا تمامها، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

و مادّة (جرم) تدلّ على القطع، يقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، و في الحديث:

«لا تذهب مائة سنة و على الأرض عين تطرف، يريد تجرم ذلك القرن» أي:

انقضاؤه و انصرامه، و أصله من الجرم، أي: القطع. و منه الحمل على شيء، يقال:

جرمني كذا على بغضك، أي: حملني عليه، قال الشاعر:

و لقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فإنّ في الحمل على شيء قطعا عن غيره، كما أنّ منه جرم بمعنى كسب؛ لانقطاعه إلى الكسب، يقال: فلان جريمة أهله، أي: كاسبهم، و أجرم فلان، أي:

اكتسب الإثم، و منه قول الشاعر:

ص: 261

جريمة ناهض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا

أي: كاسب قوت. و (ناهض) اسم لفرخ العقاب، (و نيق) أرفع موضع في الجبل، و (الصليب) الودك، و هو أسلم اللحم.

و (جرم) بمعنى حقّ ؛ لأنّ الحقّ يقطع عليه، قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّارَ أي: حقّ لهم العذاب و قطع عليه، و منه الجريمة لمعصية؛ لأنّها مقطوعة على صاحبها فيحتمل و بالها، و في الحديث: «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته».

و يفترق الجرم عن الكسب أنّ الأوّل يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه بخلاف الكسب، و لعلّه هو السبب في إيثاره في المقام، و لكنّهما يتّفقان في التعدّي إلى مفعول واحد و إلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو: كسبه، و جرعته ذنبا، نحو: كسبته إيّاه، و قد يتعدّى إلى مفعولين بالهمزة، كما يقال: أكسبته ذنبا.

و مادّة (شنأ) تدلّ على البغض و العداوة، يقال: شنئت الرجل أشنؤه، شنأ، و شنأة، و شنآنا، و شنآنا بسكون النون إذا أبغضه، و في الحديث عن علي عليه السّلام:

«و مبغض يحمله شنآني على أن يبهتني».

و شنآن - بفتح النون. و قرئ بالسكون - إمّا أن يكون مصدرا على وزن فعلان (بالفتح) مصدر ما يدلّ على الحركة، و هو بعيد؛ لأنّه لا دلالة له على الحركة، مضافا إلى كونه متعدّيا في المقام، مع أنّ هذا الوزن لا يكون لفعل متعدّ.

أو يكون مصدرا على وزن فعلان (بسكون اللام)، و لكن هذا الوزن قليل في المصادر، نحو: لوّيته ليانا إذا مطلته، كما ذكر في الكتب الأدبيّة.

أو يكون صفة على وزن فعلان (بالسكون) الّذي هو كثير في الصفات كسكران، أو يكون (بالفتح) و هو قليل في الصفات كحمار قطوان، أي: عسر السير، و تيس عدوان، أي كثير العدو، فإن كان مصدرا، فهو مضاف إلى المفعول، أي: أن تبغضوا قوما، و احتمل بعضهم أن تكون الى الفاعل، أي: أن يبغضكم قوم، و لكنّه بعيد، فإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض، و تكون الإضافة بيانيّة.

و المعنى: و لا يحملنكم عداوة قوم لكم بأن صدّوكم عن المسجد الحرام

ص: 262

و منعوكم عن إتيان الحجّ و الزيارة أن تعتدوا عليهم انتقاما منهم، بعد ما أظهركم اللّه عليهم.

و عموم الآية الشريفة يشمل المشركين و غيرهم، فإنّ مضمونها يرجع الى النهي عن الاعتداء على سبيل الانتقام و البغي و جعلهما من صفات النفس، و لما كان لذلك أسباب و مبادئ، فالنهي عنها نهي عنه بالأولى، كما هو معلوم في العلوم البرهانيّة، و في المقام نهي عن البغض و الشنآن، فهو يرجع الى النهي عن الاعتداء و البغي، فلا ينفي ذلك الاعتداء بالمثل إذا كان في سبيل الحقّ ، كما في قوله تعالى:

وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة، الآية: 191].

و استشكل بعضهم بأنّ الآية المباركة نزلت بعد فتح مكّة، و لم يكن يتوقع صدّ من أحد.

و يمكن الجواب عنه بما تقدّم آنفا من أنّ الآية المباركة لا تختصّ بالمشركين، و أنّها في مقام بيان خلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي دعا إليها الإسلام، و لنفي توهّم المماثلة في هذا الاعتداء فيصدّ المسلمون المشركين عن المسجد الحرام كما صدّوهم عنه انتقاما منهم.

أو يقال: إنّ المقصد من هذا الحكم هو احترام الشعائر و تعظيمها و المحافظة على حرمات اللّه تعالى، كما هو ظاهر سياق الآية الشريفة الّتي ذكرت بعد نهي المؤمنين عن إحلال شعائر اللّه تعالى، فلا تختصّ بالمشركين.

قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ .

هذه الآية المباركة من جوامع الكلم الّتي تبيّن قاعدة من القواعد الّتي تبتني عليها سعادة المجتمع الإنساني، و ركن من أركان الهداية الاجتماعيّة الّتي تقوم على التعاون بما ينفع الناس في دنياهم، و أساس مهم من أسس الاجتماع الإنساني.

و قد بنى الإسلام هذه القاعدة الاجتماعيّة المهمّة على ركيزتين، هما: التحلية بالتقوى و الطاعة و العمل الصالح، ممّا يجعل المجتمع وحدة متكاملة له هدف معين

ص: 263

و نظام واحد قويم، فأمر بالتعاون على البرّ. و التخلية عن أضدادها، و أكّدها بالنهي عن إعانة الإثم، أي: المفاسد كالبغضاء و العدوان و مساوئ الأخلاق و غيرها من الصفات السيئة؛ و نهى عن كلّ ما يعوق عن تنفيذ هذا الحكم و يكون مانعا من تأثيره و سببا في الشقاء و الحرمان، و هو العدوان الّذي يجعل أفراد المجتمع أعداء متباغضين ليس لهم هدف و نظام، بل يفكّك عري المجتمع و يهدّد كيانه و يفسد سعادته.

و الآية الشريفة على ايجازها البليغ و اسلوبها البديع تبيّن نظرية الإسلام في الاجتماع و تتضمّن خلقا كريما من مكارم الأخلاق، و لأهمّيّته في الحياة الاجتماعيّة و دخله في سعادة الفرد و المجتمع و كرامتهما، ذكر عزّ و جلّ فيها جميع ما يتطلّب هذا الحكم، من الدعوة الى التضامن بالتعاون و موضوعه و مورده و آثاره في المجتمع و ضمان هذا الحكم و الغرض منه و ترغيب الناس إليه و التأكيدات عليه.

و التعاون على وزن التفاعل من أعان يعين إعانة و تعاون يتعاون تعاونا، و لا يخفى تقوّم هذه الصيغة في المقام بالطرفين، فيكون هذا خطابا لكلّ اثنين بأن يعين كلّ فرد غيره في البرّ و التقوى، كأن يعين زيد عمرا على البرّ و التقوى، و يعين عمرو زيدا كذلك، و كذا النهي عن التعاون على أسباب الإثم و العدوان. و منه يعلم حكم الإعانة من طرف واحد أيضا، فإن كانت على البرّ و التقوى فهي محبوبة، و إن كانت على الإثم و العدوان فهي مبغوضة.

و البرّ معروف، و قد ورد في القرآن الكريم في عدّة مواضع، و تقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [سورة البقرة، الآية: 177]، و قد بين عزّ و جلّ فيه أهمّ أركانه، و له مصاديق كثيرة يجمعها الإيمان - إيمانا صحيحا صادقا - و الإحسان في جميع الأمور، فيدخل فيه العفو و الإعفاء و غير ذلك ممّا ذكر في المقام.

و التقوى: هي مراقبة اللّه تعالى في أوامره و نواهيه، فيكون المراد من التعاون على البرّ و التقوى هو الاجتماع على الإيمان و الإحسان و الطاعة، مع مراقبة اللّه تعالى فيها بأن لا يتخطّى تشريعاته و توجيهاته عزّ و جلّ .

ص: 264

و الإثم معروف، و هو كلّ ظلم و معصية، و العدوان هو التعدّي على حقوق الناس و مجاوزة حدود اللّه تعالى مطلقا، و هما من أهمّ العوائق الّتي تصدّ عن السعادة و الكمال، سواء أ كان فرديا أم اجتماعيّا، و تورث الشقاء و الحرمان، و بهما يزول الوئام و يختلّ النظام، و تسود روح الانتقام بين الأنام، فيفسد الضمائر و ينطمس نور الفطرة و تخور داعية العقل، فلا يأمن أحد على نفسه أو عرضه أو ماله، و لا يكون العيش إلاّ نكدا و الحياة إلاّ برما.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد آخر على مراعاة حدود اللّه تعالى و مراقبته في جميع الأمور، و منها اتّقاء مخالفته في أوامره و نواهيه الّتي ذكرت آنفا. و فيه الدلالة على أنّ الغرض من جميع التشريعات و التوجيهات الربوبيّة هو تحصيل هذه الملكة، فإنّها الغاية القصوى من الشرائع السماويّة - خصوصا الإسلام - و بدونها لا يمكن تحصيل الهدف المنشود منها، فهي روح تلك الأحكام الإلهيّة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

تعليل لما سبق و بيان لعظيم قدرته، أي: أنّ من أعرض عن تلك الأحكام، فيستحقّ عقابه و هو شديد العقاب، فإنّ انتقامه أشدّ لمن لم يتقه و لم يراع سنّته في خلقه.

بحوث المقام

بحث أدبي

الآيات الشريفة المتقدّمة بإيجازها البليغ و اسلوبها البديع ممّا جعلتها في أعلى درجات الفصاحة، فقد تضمّنت خمسة أحكام مهمّة لها دخل كبير في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة، الدنيويّة و الاخرويّة، و تعتبر قواعد عامّة يتفرّع منها فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة.

ص: 265

يحكى أنّ أصحاب الكندي قالوا له: «اعمل لنا مثل القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما ثمّ خرج فقال: و اللّه ما أقدر و لا يطيق هذا أحد، إنّي فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء و نهى عن النكث، و حلّل تحليلا عامّا ثمّ استثنى استثناء بعد استثناء، ثمّ أخبر عن قدرته و حكمته في سطرين، و لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجلاد».

و (أوفوا) من أوفى و هو و وفّي لغتان بمعنى واحد، و قد جمعهما الشاعر في قوله:

أما ابن طوق فقد أوفى بذمّته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها

و ذكرنا في التفسير أنّهما وردا في القرآن الكريم.

و البهيمة: اسم جنس يطلق على ذوات أربع، و الأنعام جمع نعمة، و المراد بها الإبل، و البقر، و الغنم، و هي الثمانية الأزواج الّتي وردت في سورتها كما ذكرنا في التفسير.

و في مفردات الراغب: «و النّعم مختصّ بالإبل، و جمعه أنعام، و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم (أي العرب) أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم أو المعز، و لا يقال لها أنعام حتّى يكون في جملتها الإبل».

و الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ متّصل من بهيمة، و قيل من فاعل (يتلى).

و (غير محلّي الصيد) قيل: إنّه استثناء ممّا يليه من الاستثناء. و ذهب بعضهم إلى أنّ انتصاب (غير) على الحاليّة من ضمير (لكم)، كما تقدّم في التفسير فراجع، و ذكروا أيضا وجوها اخرى لا تخلو عن المناقشة، و «محلّي» أصله (محلّين الصيد) حذفت النون بالإضافة.

و (الهدي) في قوله تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ قرئ مخفّفا كما هو لغة أهل الحجاز، و قرئ مثقّلا (الهديّ ) كما هو لغة تميم، و قد قرئ بهما. و واحد الهدي هدية كما أنّ واحده بالتثقيل هديّة و جمع المخفّف إهداء.

و (آمين) في قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ اسم فاعل، و وجه

ص: 266

العمل فيه ظاهر. و جوّز بعضهم على حذف مضاف، أي: قتال قوم آمين، أو أذى قوم آمين و نحو ذلك.

و قرئ: (و لا آمي البيت الحرام) بالإضافة و البيت مفعول به لا ظرف.

و قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ إمّا حال من المضمر في (آمين)، أو صفة. و ضعّف بأنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الّذي عمل، لأنّ الموصوفيّة تبعد الشبه؛ لأنّها من خواص الأسماء.

و أجيب عنه بأنّ الوصف إنّما يمنع من العمل إذا تقدّم المعمول، فلو تأخّر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه.

و تنكير (فضلا و رضوانا) للتفخيم، و (من ربهم) متعلّق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة (لفضلا) مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي: فضلا كائنا من ربّهم.

و أمّا قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ فقد تقدّم الكلام فيه في التفسير فراجع.

و (أن) في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنّه علّة للشنآن، أي: لأن صدوكم، و قرئ بكسر الهمزة على أن تكون شرطيّة.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: تتضمّن الآيات الكريمة المتقدّمة على أهمّ الأحكام و التشريعات الإلهيّة الّتي لها دخل كبير في تنظيم النظام العامّ و تحسين المعاش و تحقيق السعادة، و اشتملت على أهمّ القواعد العامّة الّتي تمسّ حياة الإنسان مطلقا، فذكر سبحانه و تعالى أوّلا ما يتعلّق بالنظام العامّ و تثبيت دعائم العدالة الاجتماعيّة، و هو الوفاء بالعقود الّتي يدور عليها نظام الحياة و تتوقّف عليها جميع الحقوق الحيويّة الّتي تمسّ

ص: 267

حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة، و لها قاعدة عريضة تشمل جميع العقود و العهود، و الوفاء بها، ممّا تدعو إليه الفطرة المستقيمة الّتي تبغي الكمال و تسعى الى الاستكمال.

ثمّ ذكر ثانيا ما يتعلّق بالمعاش و نظام الغذاء، فأحلّ أكل لحم بهيمة الأنعام الّتي هي من أطيب المأكولات.

و أخيرا أمر بالتعاون على البرّ و التقوى، اللذين هما أساس الرقي و أصل الأمن و الاستقرار الفرديين و الاجتماعيين، و هما مهمّان لمن يريد الاستكمال بالكمالات الواقعيّة و تحلية النفس بمكارم الأخلاق و تخليتها عن الرذائل.

و لأهمّيّة هذه الأحكام و التوجيهات الربوبيّة ذكرها عزّ و جلّ في إطار أخلاقي محكّم، و أكّد عليه بأشدّ التأكيدات، فأمر بالتقوى، و حرّم إحلال الشعائر، و هتك حرمات اللّه تعالى و اعتبره من أعظم الجرائم و أوعد على من يخالفها بالانتقام و شدّة العذاب.

و تبيّن الآيات المباركة أنّ الإسلام نظام دين و دنيا يكمل أحدهما الآخر، و لا يمكن الاستغناء عنهما أبدا.

الثاني: انّما ذكر عزّ و جلّ العقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ليشمل جميع الروابط الفرديّة و الاجتماعيّة و جميع العهود و المعاملات، و تعتبر هذه الجملة البليغة المختصرة أساس العقود في الإسلام و الدليل على شرعيّتها، إلاّ إذا ورد من الشرع ما يدلّ على فساد عقد خاصّ ، كالعقود المبنيّة على الربا من بيع أو قرض ربوي.

و إطلاق الأمر في الآية الشريفة يدلّ على لزوم كلّ عقد، فلا يجوز نقضها إلاّ إذا دلّ دليل على جوازه كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و تعرّضنا لذلك موجزا في البحث الفقهي أيضا هنا.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ على أنّ وجوب الوفاء بها هو لأجل أنّها روابط اجتماعية و عهود و حقوق تجب رعايتها، و أنّ احترامها يعتبر من مكارم الأخلاق و من سبل الهداية الاجتماعيّة و إقامة العدل الاجتماعي، و لم يلاحظ

ص: 268

القرآن الكريم النفع مطلقا، فأوجب الوفاء بها سواء انتفع منها العاقد أم لا؛ لأنّها جعلت لرعاية الحقّ كيف ما كان، و هذا بخلاف ما عليه النظرية الماديّة و القوانين الوضعيّة، و ما عليه الجاهليّة المعاصرة من أن احترامها إنّما يكون لأجل النفع أو دفع المفسدة. و بعبارة اخرى: أنّ ابتغاء المادّة من جميع العلاقات أو العقود هو الهدف عندها و إن دحض بها الحقّ .

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ وجه الحكمة في حلّية الأنعام للإنسان فإنّ اللّه تبارك و تعالى إنّما خلقها بهائم حقيرة الشأن؛ لأنّها غير قابلة للاستكمال، و لعلّ من كمالها أنّ خلقها اللّه تعالى في خدمة أشرف مخلوقاته، و في ذلك ردّ على من زعم أنّ قتلها لأجل استفادة الإنسان منها إيذاء لها، لا سيما مع عدم قدرتها على دفع الضرر عن أنفسها، و هو ممّا يرفضه الطبع، بل هو قبيح عقلا، فكيف يرضى به الإله الرحيم، فإنّ اللّه تعالى خلقها بهائم لا تشعر بما يشعر به الإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات، فلا قبح عقلا في جعل شيء منها غذاء للإنسان و مورد استفادته بعد إذن خالقها في ذلك، و انّها من نعم اللّه تعالى أنعم بها على عباده كما هو واضح.

و ما عن بعض من أنّ البهائم لا تدرك؛ و لذا يحلّ قتلها.

غير صحيح؛ لأنّها تدرك الآلام الواردة عليها كما في بعض الروايات، و إن كانت آلامها مقدّمة لكمالها بصيرورتها جزءا من الكامل - و هو الإنسان - بالغذاء له كما قلنا، و لو لا ذلك يحرم إيذاؤها بقطع بعض أطرافها أو جرحها، بلا غرض عقلائي، و يحرم شرعا كما ذكره الفقهاء في حرمة الصيد اللهوي الّذي لا يقصد منه إلاّ التلذّذ بالتفريح لقتل الحيوانات.

و بالجملة: كمالها بأن تصير غذاء لأشرف المخلوقات، و لولا ذلك لم يأذن الشارع بقتلها أو إيذائها من دون مسوّغ عقلي و غرض عقلائي.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ أنّ إحلال محرّمات اللّه تعالى له دخل في تضييق التكليف و الوقوع في بعض العقوبات الدنيويّة، فإنّ اللّه تعالى أحلّ بهيمة الأنعام على المؤمنين في ما إذا لم يحلّوا الصيد حال الإحرام الّذي

ص: 269

حرّمه اللّه تعالى، فإذا أحلّوا الصيد و اصطادوا الوحش من الأنعام فيحرم عليهم أكلها كما هو مذكور في كتب الفقه، و قد تقدّم في الآيات السابقة نظير ذلك بالنسبة إلى اليهود، فإنّهم أحلّوا ما حرّمه اللّه تعالى عليهم فأوقعوا أنفسهم في المشقّة، إذ كلّفهم عزّ و جلّ ببعض التكاليف الشاقّة نتيجة جرأتهم على هتك حرمات اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة إشعار للمؤمنين بأن لا يفعلوا شيئا يوجب وقوعهم في المشقّة و تكليفهم بتكاليف أشدّ و أصعب. و من ذلك يعرف وجه التأكيد على النهي عن إحلال ما حرّمه اللّه تعالى و هتك حرماته و تعداد جملة ممّا حرّمه اللّه تعالى في الحجّ ؛ لأنّه من أعظم الشعائر و لشدّة ابتلائهم به، و أنّه ممّا امتحن به المؤمنين.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى على أنّ المجتمع الصالح ما إذا كان بين أفراده التعاون، و انحصر أن يكون ذلك على البرّ و التقوى.

و قد جمعت هذه الآية الشريفة باختصارها البليغ جميع وجوه الخير و الكمالات الواقعيّة، فلا يمكن أن نتصوّر خصلة من الخصال الحميدة، و لا خلقا كريما إلاّ و هي موجودة في هذه العبارة البليغة المختصرة الّتي تشير أيضا الى أنّ الأفراد و المجتمع لا يمكن أن يصل كلّ واحد منهما الى هدفه إلاّ بالعمل بما ورد فيها، فهي من أهمّ سبل الهداية الاجتماعيّة.

و تبيّن الآية الكريمة نظرية الإسلام في المجتمع، فإنّه يرى أنّه لا بدّ أن يكون إعداده إعدادا صالحا يتحمّل جميع أفراده المسؤوليّة في تنظيمه و مراقبته؛ لئلاّ يخرج عن المسير الصحيح الّذي أمر به اللّه سبحانه و تعالى، فيكون المراد من التقوى في المقام التقوى الجمعي و الشعور بالمسؤوليّة و مراقبة جميع أفراد المجتمع بالتعاون بينهم على البرّ، و نبذ كلّ ما يكون مانعا عن الوصول إلى الهدف المنشود، و لا توجد عبارة مهما بلغت من الفصاحة و البلاغة تشتمل على معاني دقيقة و مطالب رفيعة متقنة مثل هذه العبارة، فسبحان من بهرت آياته، و ظهرت قدرته و لا يمكن عدّ نعمائه.

ص: 270

بحث روائي:

العياشي في تفسيره بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي عليه السّلام قال: «ليس في القرآن: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ و هي في التوراة يا أيّها المساكين».

أقول: إنّ الإيمان الحقيقي باللّه تعالى هو التصديق بالتوحيد و الإيمان بشرائعه و رسله، و المسكين هو الّذي خضع و ذلّ و أخبت للّه جلّ شأنه، و في دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم احيني مسكينا و امتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين»، فأراد صلّى اللّه عليه و آله من الدعاء كمال التواضع للّه تعالى و الإخبات له جلّت عظمته، و أن لا يكون من الجبّارين المتكبّرين، فكلّ هذه الصفات من أعلى مراتب الإيمان به عزّ و جلّ ، إذا لا فرق في الواقع بين التعبيرين كما تقدّم ذلك مكرّرا.

و فيه: أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ما نزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ و علي شريفها و أميرها، و لقد عاتب اللّه أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في غير مكان و ما ذكر عليا إلاّ بخير».

أقول: أمّا صدر الرواية فمن باب ذكر أجلّ المصاديق و أشرفها؛ لأنّه عليه السّلام تميّز بصفات خاصّة، فلا ينافي إطلاقها على غيره عليه السّلام من سائر المؤمنين، و في صحيفة مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «ليس في القرآن آية يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ في حقّنا».

و أمّا ذيل الرواية، فإنّما يكشف عن الواقع، و يدلّ على كماله عليه السّلام و بعده عن النقائص و الأوصاف غير الممدوحة، و تقرّبه الى ساحته عزّ و جلّ بحبّ ذاته له.

و فيه: أيضا عن عبد اللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: العهود».

أقول: و مثله ما عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس و السيوطي في الدرّ المنثور. و تقدّم في التفسير أنّ ذكر العقود في الآية الكريمة من باب الغالب

ص: 271

فتشمل كلّ الروابط الاجتماعيّة كالعهود و العقود و الإيقاعات، لفظيّة كانت أو كتبيّة حتّى الأخلاقيّة، إلاّ إذا نهى الشارع عنها.

و في الحديث: «انّ عجوزا دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله فسألها فاحفى و قال: إنّها كانت تأتينا في زمن خديجة، و إنّ كرم العهد من الإيمان».

أقول: لا شكّ أنّ ذلك من مكارم أخلاقه و سمو صفاته و من أدبه الرفيع الّذي اختصّ به؛ لأنّه ادّبه ربّه، و بهذه السجايا الحميدة فاز على جميع الأنبياء و الرسل.

و لعلّ ذلك كان إكراما لشأن خديجة (سلام اللّه تعالى عليها)، فإنّ لها المنزلة العظيمة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي أم الزهراء، و أم الائمة الأطهار، و أم المؤمنين، فإنّها كانت تحميه في زمن الشدّة و الكربة و الغربة، ففي صحيح البخاري و مسلم - كما في ينابيع المودّة للشيخ سليمان الحنفي القندوزي - بإسنادهما عن عائشة قالت: «ما غرت على أحد من نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل ما غرت على خديجة و ما رأيتها، و لكن كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكثر ذكرها و ربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدايق خديجة (عليها و على ابنتها السلام) فقلت له: لم تكن في الدنيا إلاّ خديجة ؟! فيقول صلّى اللّه عليه و آله: إنّها كانت حبيبة لي و كانت عاقلة و كان لي منها ولد»، و زاد مسلم في صحيحه: «و انّي قد رزقت حبّها».

و كيف كان، فالرواية تدلّ على أنّ الوفاء بالعهد من دعائم الإيمان.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عن قتادة قال: «بالعهود و هي عقود الجاهليّة الحلف».

أقول: مقتضى القواعد الفقهيّة أنّ عقود الجاهليّة مطلقا يجب الوفاء بها إلاّ إذا أبطلها الشارع الأقدس كالعقود الربويّة مثلا أو رفع عنها الوجوب، و تساند ذلك الإطلاقات و العمومات، كما يجب على الكفّار الوفاء بها أيضا لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول.

و في تفسير القمّي بسنده عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد عليهم

ص: 272

لعلي عليه السّلام بالخلافة في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الّتي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه السّلام».

أقول: العشرة من باب ذكر الأهمّ و الأشهر، و إلاّ فهو أكثر بكثير كما لا يخفى من سبر حياته و سيرته صلّى اللّه عليه و آله.

و كيف كان، فالرواية من باب الجري و ذكر أجلّ المصاديق، و يمكن أن يقال إنّ ذلك من باطن التنزيل و اللّه العالم.

و عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن حبان قال: «بلغنا في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يقول: أوفوا بالعهود يعني العهد الّذي كان عهد إليهم في القرآن في ما أمرهم من طاعته أن يعملوا بها و نهيه الّذي نهاهم عنه، و بالعهود الّذي بينهم و بين المشركين و فيما يكون من العهود بين الناس».

أقول: تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الإيمان باللّه هو المعاهدة معه جلّ شأنه في الائتمار بأوامره و الانزجار عن نواهيه، فيجب عقلا على المؤمنين الوفاء بهذه العهود، و إطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ عهد مطلقا، إلاّ إذا نهى الشارع عنه.

و في التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ فقال: الجنين في بطن امه إذا أشعر و أوبر فذكاته ذكاة امه الّذي عنى اللّه تعالى».

أقول: و قريب منه ما عن ابن عباس كما في الدرّ المنثور، و في المأثور:

«الأنعام كلّها حلّ »، و سيأتي في البحث الفقهي أنّ ذلك مقتضى القاعدة المستندة الى الكتاب و السنّة، و لا بدّ من توفّر سائر الشروط في الجنين كما يأتي ذكرها في ذلك البحث، و الرواية من باب التطبيق.

و عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن جعفر بن محمد عليه السّلام «انّ عليا عليه السّلام سئل عن أكل لحم الفيل و الدبّ و القرد؟ فقال: ليس هذا من بهيمة الأنعام الّتي تؤكل».

أقول: الحكم بالحرمة في الحيوانات المذكورة من باب الخروج الموضوعي، فإنّ العرب لا تعرف معنى للأنعام إلاّ الإبل و البقر و الغنم، كما مرّ في التفسير؛ فلذلك لا تكون غيرها حلالا، و هي غير صالحة للأكل شرعا.

ص: 273

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قال: «الشعائر:

الإحرام، و الطواف، و الصلاة في مقام إبراهيم عليه السّلام و السعي بين الصفا و المروة، و المناسك كلّها من شعائر اللّه، و من الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حجّ ثمّ أشعرها - أي قطع سنامها أو جلدها أو قلّدها ليعلم الناس أنّها هدي فلا يتعرّض لها أحد - و إنّما سمّيت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، و قوله: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ و هو ذو الحجّة و هو من الأشهر الحرم، و قوله: وَ لاَ اَلْهَدْيَ و هو الّذي يسوقه إذا أحرم المحرم، و قوله: وَ لاَ اَلْقَلائِدَ ، قال: يقلّدها النعل الّتي قد صلّى فيها، و قوله:

وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قال: الّذين يحجّون البيت».

أقول: الشعائر هي المعالم الّتي أمر اللّه عزّ و جلّ بالقيام عليها أو ندب إليها، فتشمل شعائر الحجّ مطلقا كالتلبية و الوقوف، و الطواف، و الرمي، و الذبح و غيرها، كما تشمل الصلاة أيضا يقال إنّها من شعائر العبادة و الخضوع للّه جلّ شأنه، و الشعائر جمع شعيرة كما تقدّم.

و في المجمع للطبرسي: «قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم» و نقل عن السدي أنّه قال: «أقبل الحطم ابن هند البكري حتّى أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فدعاه فقال:

إلام تدعو؟ فأخبره و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: انظرني لعلّي أسلم و لي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر، فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ ، فقال ناس من أصحابه: يا رسول اللّه، خلّ بيننا و بينه فإنّه صاحبنا، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قد قلّد! قالوا: إنّما هو شيء كنّا نصنعه في الجاهليّة، فأبى عليهم فنزلت الآية فانتهى القوم».

ص: 274

أقول: الرواية - مع قطع النظر عن السند - من باب الجري و التطبيق لما ورد من الاختلاف في شأن النزول.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ قال:

كان المشركون يحجّون البيت الحرام و يهدون الهدايا، و يعظّمون حرمة المشاعر، و ينحرون في حجّهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال اللّه تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ ، و في قوله تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ يعني: لا تستحلّوا قتالا فيه، و في قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يعني: من توجّه قبل البيت، فكان المؤمنون و المشركون يحجّون البيت جمعا، فنهى اللّه المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحجّ البيت، أو يتعرّضوا له من مؤمن أو كافر، ثمّ أنزل اللّه بعد هذا: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا .

أقول: تقدّم منّا مكرّرا أنّ شأن النزول في الآيات الشريفة لا يصير سببا للتخصيص و لا يجدي نفعا و لا ضررا؛ لما تضمّنته الآيات الكريمة من المعارف و الأحكام، و مكارم الأخلاق، و الكلّيات الّتي لها مصاديق كثيرة في مرّ الزمن، و أنّ الآية المباركة في مقام بيان قاعدة أخلاقيّة و دستور إلهي.

على أنّ ما ورد عن ابن عباس لا يصحّ أن يصير سببا لنزول الآيات الكريمة المذكورة؛ لما تسالموا عليه أكثر المفسّرين من أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع، و قد سبقتها سورة البراءة في النزول، فيكون قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ بعد قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ، و كذا بعد قوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ ، فلا مجال عليهم إلاّ أن نقول بالنسخ، فيكون قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ منسوخا بما ورد في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، فيدلّ على ما ذكرنا، و تقدّم أنّ الآية الكريمة هي على إطلاقها و عمومها فلا تنافي عدم دخول المشركين الى الحرم الإلهي، و أنّها في مقام المنع و الردع عن التعرّض لحرمات اللّه تعالى من المشركين و غيرهم.

ص: 275

و كيف كان، فما ذكر في سبب النزول كلّه من باب الجري و التطبيق.

و عن البيهقي في شعب الإيمان عن النواس قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن البرّ و الإثم في قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ ، فقال: ما حاك في نفسك فدعه، قال: فما الإيمان ؟ قال: من ساءته سيئته و سرّته حسنته، فهو مؤمن».

أقول: المراد من صدر الرواية - مع قطع النظر عن سندها - ما كان في قلبك من الشكّ و الريب و كرهت أن يطّلع عليه الناس فدعه.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «البرّ حسن الخلق، و الإثم ما حك في نفسك و كرهت أن يطلع عليه الناس».

أقول: للبرّ مراتب أسماها حسن الخلق الّذي هو من غر الصفات الحميدة، و إنّ الأديان السماويّة كلّها نزلت لأجل غرس أسسه و تشييد أركانه.

و في الدرّ المنثور عن البخاري في تأريخه عن وابصة قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا لا أريد أن ادع شيئا من البرّ و الإثم إلاّ سألته عنه، فقال لي: يا وابصة أخبرك عمّا جئت تسأل عنه أم تسأل ؟ قلت: يا رسول اللّه أخبرني! قال: جئت لتسأل عن البرّ و الإثم، ثمّ جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها صدري و يقول:

يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك، البرّ ما اطمأن إليه القلب و اطمأنت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب و تردّد في الصدر و إن أفتاك الناس و أفتوك».

أقول: لعلّ تنكيته صلّى اللّه عليه و آله لأجل التفاته و توجّهه لمقاله صلّى اللّه عليه و آله بارجاعه الى الفطرة، و إنّ كلّ ما قبلته الفطرة من الصفات فهو من البرّ، و ما نبذته أو شكّ فيه فهو من الإثم، و اللّه العالم.

بحث فقهي

تدلّ الآيات المباركة على قواعد فقهيّة متينة ترتبط بالحياة الفرديّة

ص: 276

و الاجتماعيّة قد كثر الابتلاء بها و تمسّك الفقهاء بها في أكثر أبواب الفقه، خصوصا في المعاملات:

الاولى: قاعدة: «الوفاء بالعقود مطلقا إلاّ ما أخرجه الدليل، و هي قاعدة قيّمة، و ركيزة في التجارات، و عبّروا عنها ب «أصالة اللزوم في العقود، إلاّ إذا دلّ دليل على الخلاف»، و لا جدوى في اختلاف التعبير هنا.

و معنى القاعدة أنّ كلّ عقد جامع للشروط المعتبرة - في العقد و العاقد و العوضين - لو تحقّق في الخارج يكون ثابتا و دائما لا يجوز حلّه مطلقا، إلاّ بسلطة الشرع كما في مورد الخيارات، أو برضاء الطرفين الجامعين للشرائط الشرعيّة كما في مورد الإقالة.

بل يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنشاء جامع للشرائط - عقدا كان أو إيقاعا حتّى لو كان مبايعة مع أوليائه تعالى - يجب الالتزام بمضمونه مطلقا و لا يجوز نقضه اختيارا، إلاّ إذا ورد ترخيص من الشرع في ذلك، و ما ورد في الآية الكريمة من العقود إنّما هو من باب ذكر الغالب لا التقييد. فتأمّل.

و لا فرق في العقد بين أن يكون خلقيّا كأغلب العقود مثل البيع و الإجارة و غيرهما، أو خالقيّا كالنذور و الصدقات، أو مشوبا به كالنكاح، و كذا في الإيقاعات كالطلاق و العتق.

و استدلّ للقاعدة بالأدلّة الأربعة: فمن الكتاب آيات:

منها: قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، فاللزوم و إن كان حكما وضعيّا، و لكن منشأه الأمر التشريعي أو التقريري، و إطلاقه يشمل كلّ عقد و عهد، الجامعين للشرائط العقلائيّة، في كلّ زمان، أي: أنّ وجوب الوفاء استمراري في جميع اللحظات الزمانيّة، كما يشمل كلّ عاقد و أي نوع من أنواع الثمن أو المثمن.

و منها: قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [سورة النحل، الآية:

91]، و عهد اللّه هو ما شرّعه تعالى - عقدا كان أو إيقاعا منوطا بقصد القربة كالعبادات، أو لم يكن كذلك كالمعاملات - و هو في مقابل عهد الشيطان، أي: العهود الّتي فيها مفسدة كشف الشارع عنها بنهيه، فكلّ عهد صدر من الخلق هو من عهد

ص: 277

اللّه تعالى ما لم يرد فيه نهي منه سبحانه، إذ أنّ التشريعيّات كالتكوينيّات ترجع إليه جلّ شأنه، و قد خصّصت الآية المباركة بموارد بيّنتها السنّة الشريفة.

و منها: قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [سورة الإنسان، الآية: 7]، الّذي هو في مقام الإنشاء و التشريع بقرينة قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج، الآية: 29]، و ذكر النذر ليس من باب التخصيص و التقييد، و إنّما هو من باب ذكر أحد الأفراد للعقد بقرينة ما تقدّم.

و من السنّة روايات كثيرة، منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، فيستفاد منه أنّ الخيار حكم عارضي للعقد محدّد بزمان خاصّ ، و إلاّ فإنّ من ذات العقد اللزوم، و لولا ذلك لم يكن معنى ل (جعل الخيار) إلاّ بنوع من التجوّز، و هو خلاف الظاهر، كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.

و منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الناس مسلّطون على أموالهم»، فبعد انتقال السلطنة بالعقد حلّها - أو هدمها - لا يجوز إلاّ برضاء الطرفين، و قد استفيدت من هذه الرواية قاعدة اخرى، و قد عبّر عنها ب «قاعدة السلطنة»، و هي تدعم قاعدة «الوفاء بالعقود»، و سيأتي البحث عن مقدار دلالتها في المورد المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 278

قرّرها الشارع المقدس، و أنّ الأدلّة الشرعيّة ترشد الى ما قرّرته العقلاء.

و قد خصّصت القاعدة بموارد دلّت عليها الأدلّة الشرعيّة.

الأوّل: الخيارات بأقسامها و أنواعها كخيار المجلس، و الحيوان و خيار العيب، و الغبن و غيرها، كما هي مذكورة مفصّلة في الكتب الفقهيّة، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الثاني: ما إذا حكم الشارع بعدم اللزوم و جواز الفسخ، كبعض أقسام الهبة و الوكالة و الوديعة، و مثل هذه الموارد تحتاج الى دليل خاصّ .

الثالث: ما إذا اشترط من الطرفين أو كلّ واحد منهما الحلّ أو الفسخ و قرّره الشرع، لأنّ اللزوم في العقود هو الحكم الأولي، أي: الطبيعي لها، و هو قابل للرفع لو اتّفق الطرفان على ذلك، و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة تقتضي التسهيل و التيسير على الامة المرحومة فتكون امتنانيّة.

ثمّ إنّ موارد التمسّك بهذه القاعدة كثيرة، أهمّها ثلاث:

الأوّل: عند الشكّ في اللزوم و عدمه بعد تحقّق العقد، فمقتضى القاعدة هو الحكم باللزوم.

الثاني: العقود المستحدثة إن لم يدخل في أحد العقود الّتي كانت في عصر الشرع، كما في عقد التأمين و غيره ممّا حصل في التجارات الحديثة.

الثالث: عند الشكّ في اعتبار أمر زائد على الشروط الأوليّة المتّفقة عند العقلاء في العقد المقرّرة لدى الشرع.

و بعض الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم) جعل موردا رابعا في المقام، و هو الرجوع إليها إن لم يدلّ دليل على الجواز أو الخيار، لكنّه داخل في القسم الأوّل، لا أن يكون قسيما له فتأمّل.

و لا بدّ من إحراز هيكل العقد عند التمسّك بهذه القاعدة، و إلاّ يكون من التمسّك بالعامّ في الفرد المردّد، فتكون الشبهة مصداقيّة، و إحراز ذلك لا يكون إلاّ بتحقّق الشرائط الرئيسة المتّفقة عند العقلاء، كرضاء الطرفين و تعيين كلّ من الثمن و المثمن.

ص: 279

و هذه القاعدة كما تجري في العقود التمليكيّة كذلك تجري في العقود الإذنيّة، إلاّ أنّ الشارع حكم فيها بالجواز كالوكالة و الوديعة، و لا شكّ أنّ الأدلّة الخاصّة - لفظيّة كانت أو لبيّة - حاكمة عليها كما ثبت ذلك في علم الأصول.

أو نقول: إنّ الجواز في العقود الإذنيّة من مقتضيات ذواتها؛ تمسّكا بقاعدة «السلطنة»، فإنّ الناس يأذنون لمن شاؤوا بما شاؤوا، فلا يكون الجواز لدليل خاصّ ، و إنّ ما ورد يكون إرشادا لما عرفت.

و على أي حال أنّ الخروج في العقود الإذنيّة إمّا خروج حكمي أو موضوعي، فقاعدة اللزوم لا تجري فيها إلاّ إذا ورد دليل خاصّ على اللزوم فيها، فتأمّل.

الثانية: قاعدة كلّية تختصّ باللحوم من الأطعمة، و هي: «كلّ ما في الأنعام يحلّ أكله بعد التذكية، إلاّ ما خرج بالدليل»، و يلحق بالأنعام الحيوانات المحلّلة شرعا كالظبي، و الطيور، و الأسماك، فتعميم القاعدة تكون من هذه الجهة.

و استندت القاعدة على الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب آيات كثيرة:

منها: قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ ، فإطلاقها يشمل جميع أجزاء الحيوان إلاّ ما أخرجه الدليل أو الاستثناء في الآية الكريمة، كما يأتي.

و منها: قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ ، فإنّ الأمر فيها للرخصة لا للوجوب، و إطلاقه يشمل القاعدة، و هناك آيات كريمة اخرى يأتي الاستدلال بها في محالها.

و من السنّة الشريفة روايات كثيرة، منها: معتبرة داود بن فرقد عن الصادق عليه السّلام: «كلّ شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه - من لبن أو بيض أو انفحة - كلّ ذلك حلال طيب»، و ذكر الثلاثة ليست من باب الحصر، و إنّما يكون من باب الغالب، و أنّها لا تحلّ الحياة كما هو واضح، و قريب منها غيرها، و تدلّ على هذه القاعدة: «قاعدة الحلية في الأشياء» أيضا، و سيأتي في المورد المناسب البحث عنها.

و من الإجماع، فهو ممّا لا شكّ فيه كما عبّر في كلمات جمع من الفقهاء.

ص: 280

و من العقل، قاعدة: «قبح العقاب بلا بيان»، إذ بعد إحراز الحلّية في المذبوح لا بدّ من الشارع بيان حرمة ما فيه، و إلاّ فالتكليف به قبيح.

و كيف كان، فهذه القاعدة من المسلّمات الفقهيّة، و قد خصّصت و خرجت عنها بالدليل في الذبيحة أربعة عشر جزءا، كلّها محرّمة على المشهور، و هي: الدم، و الغدد، و الطحال، و القضيب، و الأنثيان، و الفرث، و المثانة، و المرارة، و المشمية، و الفرج، و العلباء، و النخاع، و خرزة الدماغ، و الحدقة، و الظاهر أنّ جميعها من الخبائث. هذا في غير الطيور، و أمّا فيها فتكون خمسة: الرجيع، و الدم، و الطحال، و المرارة و البيضتين في بعضها.

و لعلّ تمسّك الإمام عليه السّلام بإطلاق الآية الشريفة: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ ؛ لحلّية الجنين و أنّ ذكاته ذكاة امه؛ لأجل التنبيه على هذه القاعدة و إرشادنا لها، فعن أبي جعفر (سلام اللّه تعالى عليه): «أنّ المراد بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ أجنّة الأنعام الّتي تؤخذ من بطون أمهاتها إذا أشعرت و قد ذكيت الأمهات و هي حيّة، فذكاتها ذكاة أمها»، و تضمّنت هذه الرواية شروط تذكية الجنين من تذكية الام - فإذا ماتت بلا تذكية و مات الجنين في جوفها حرم أكله - و موت الجنين قبل خروجه من بطن الام - فإذا خرج حيّا و مات بلا تذكية حرم - و تمام الخلقة بأن يكون قد أشعر أو أوبر، فإذا فقد أحد هذه الشروط حرم.

و هذه القاعدة لا تجرى في الأجزاء المبانة من الحي؛ لأنّ قوامها التذكية كما ذكر في عنوانها، كما أنّها تجري في موارد الشكّ في الأجزاء إن لم يدلّ دليل على الاستثناء، و لم يحرز أنّها من الخبائث الّتي يأتي تفسيرها في الآية المباركة، كالكلى و اذني القلب مثلا، و لا فرق في منشأ الشكّ حينئذ و اللّه العالم.

الثالثة: قاعدة كلّية مذكورة في كتاب الحجّ و تختصّ به، و هي: «لا تحلّ تروك الإحرام إلاّ بالإحلال منه»، و مواطن الإحلال ثلاثة: التقصير، و الهدي، و الطواف، بلا فرق في الإحرام بين أن يكون للعمرة مطلقا أو للحجّ ، و إن كان الإحلال في الاولى بالتقصير و في الثاني بالحلق، على تفصيل مذكور في محلّه، و تدلّ على هذه القاعدة الأدلّة الثلاثة.

ص: 281

أمّا الكتاب، فآيات كثيرة مذكورة في سورتي البقرة و الحجّ ، و منها هذه الآية الكريمة: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ - إلى قوله تعالى - وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ، أي: الأنعام كلّها حلّ إلاّ ما كان منها وحشيا، فإنّه صيد و لا يحلّ ذلك للمحرم إ إذا أحلّ منه.

و الصيد من أهمّ تروك الإحرام كالرفث، و الفسوق، و الجدال و يلحق بها سائر التروك لأجل أدلّة خاصّة.

و من السنّة روايات كثيرة مذكورة في كتاب الحجّ ، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

و من الإجماع ما هو مسلّم في أصل القاعدة. و يقتضيه الأصل أيضا، فيتمسّك بالقاعدة في بعض الموارد الّتي نوقش في الأصل.

ثمّ إنّه يستفاد من الآيات الشريفة أحكام:

الأوّل: أنّه يحرم على المحرم صيد الحيوان البري - طيرا كان أو غيره - و ذبحه و أكله و إمساكه و اتلافه، لإطلاق الآية الشريفة. و أمّا ذبح الحيوان الأهلي كذبح الدجاج الأهلي أو الغنم كذلك، فلا يجري عليه حكم الصيد البري، فيجوز لأنّه ليس بصيد عرفا و لا شرعا.

الثاني: يجوز قتل السباع الضاريات و كلّ حيوان خيف منها؛ لأنّه ليس بصيد موضوعا، و إنّما يكون لدفع الضرر عن نفسه، مضافا الى أدلّة خاصّة دالّة على الجواز.

نعم، لا يجوز مع الأمن عنها كما ذكرناه في كتاب الحجّ من (مهذب الأحكام).

الثالث: أنّ الأمر في قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا كالأمر في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ [سورة الجمعة، الآية: 10] للرخصة و رفع الحضر، فلا يستفاد منه العزيمة و التكليف، أي: إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل.

الرابعة: قاعدة: «كلّ صيد حلال إلاّ ما خرج بالدليل»، و الصيد لا يطلق في

ص: 282

اللغة إلاّ على الحيوان الممتنع؛ لأنّه أخذ الحيوان بحيلة، و في الشرع يعتبر في تملّكه امور، و هي: أن لا يكون للحيوان مالك، و أن يستولي عليه بالأخذ أو بوقوعه في شبكته أو يصير الحيوان غير ممتنع، و أن يكون قصده الصيد، فلو انتفى أحد هذه الأمور لم يتحقّق التمليك في الصيد شرعا، كما لا يطلق على الحيوان الأهلي الّذي يقدر الاستيلاء عليه كالبقر و الغنم إلاّ إذا توحّش و امتنع فيكون صيدا لغة.

و كيف كان، فقد دلّت الأدلّة الثلاثة على هذه القاعدة، فمن الكتاب قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ، و إطلاقه يشمل جميع أقسام الحيوانات، و في جميع الأوقات إلاّ ما خرج بالدليل، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد للّهو و اللعب، أو ما إذا فقد أحد الشروط المتقدّمة بالنسبة الى تمليك المالك.

و من السنّة روايات كثيرة ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام)، و التعرّض لها يوجب الخروج عن الموضوع، و من شاء فليرجع إليه.

و من الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء، بل هو من المسلّمات عندهم؛ لأنّه من سبل العيش و إبقاء الحياة، فكيف يمنعه الشارع ؟! نعم له أن يحدّده بما يراه و بما فيه المصلحة. هذا.

و يختصّ حلّ الاصطياد بالحيوان أن يكون كلبا و معلّما و مرسلا، و المرسل مسلما، و أن يذكر اللّه تعالى عند الإرسال، و يستند الموت الى جرحه، كلّ ذلك للأدلّة الخاصّة من الكتاب - كما يأتي - و من السنّة ذكرناها في الفقه، و من أراد فليرجع إليه، فلو فقد أحد هذه الشروط انتفت الحلّية و صار ميتة. و إن حصلت الملكية إن توفّرت الشروط السابقة.

كما يعتبر في الآلة أن تكون سلاحا، و أن تكون قاطعة - أو شائكة - و أن يستند القتل الى الآلة، و أن يكون الرامي مسلما، و يذكر اللّه تعالى عند الرمي، و أن يكون الرمي بقصد الاصطياد، و تستقلّ الآلة المحلّلة في القتل، كلّ ذلك للأدلّة الخاصّة أيضا، فلو انتفى أحد هذه الأمور انتفت الحلّية.

و يصحّ التمسّك بالقاعدة في موارد:

ص: 283

الأوّل: عند الشكّ في اشتراط وجود شيء أو اشتراط عدمه، و لم يكن دليل معتبر عليه، مثل إباحة آلة الصيد، أو أصل موضوعي كالشكّ في الإحلال من الإحرام.

الثاني: حلّية اللحم بعد تحقّق الصيد و كان الحيوان ممّا يؤكل شرعا، فمقتضى القاعدة الحليّة، و لا تصل النوبة الى أصالة عدم التذكية إلا إذا شكّ في وجود شرط من الشروط المتقدّمة، على تفصيل مذكور في الكتب المفصّلة.

الثالث: عند الشكّ في وجود زمان قابل للتذكية، فتارة: يحرز أنّ الزمان متسع للتذكية، فلا يحلّ إلاّ بها.

و اخرى: يحرز أنّ الزمان غير قابل لها، كما إذا كان في اللحظة الأخيرة من حياته.

و ثالثة يشكّ في الزمان هل هو قابل للذبح فيمكن التمسّك بالقاعدة في هذه الصورة، و لكنّه مشكل. فتدبّر و إن كان الاجتناب طريق النجاة.

و لا فرق في تحقيق الذكاة بالاصطياد بين الحيوان المأكول اللحم و غيره كالسباع، فإنّها تصير ذكية به و يجوز الانتفاع بجلدها، إلاّ إذا كان الحيوان نجس العين، و لكن تحقّق الذكاة بالاصطياد بالكلب المعلّم في الحيوان غير المأكول إشكال تعرّضنا له في كتابنا (مهذب الأحكام)، و هناك فروع اخرى مذكورة في الكتب المفصّلة.

الخامسة: يستفاد من الآية الشريفة: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً قاعدة: «عدم جواز هتك حرمات شعائر الدين»، أو نقض إعلامه و التعدّي عن حدود اللّه تبارك و تعالى من أمره، و نهيه، و فرائضه، و أحكامه، و مواثيقه، و عهوده، و يكون عطف الأمور المذكورة في الآية المباركة من قبيل عطف الخاصّ على العامّ ، أو التقييد بعد الإطلاق، و هذا شائع في الاستعمالات المحاوريّة، و تدلّ عليها روايات كثيرة مذكورة في محالها.

ص: 284

و ذهب جماعة منهم الشيخ أنّه لا يجوز قتل الصيد و هو يؤم الحرم و لم يدخل فيه، و تمسّكوا بإطلاق قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ و بجملة من الأخبار.

و لكن الأخبار معارضة بأخبار اخرى، فالحمل على الكراهة طريق الجمع بينهما كما ذهب إليه المشهور، و كذا الاصطياد في حرم الحرم، و هو يريد من كلّ جانب. نعم احترام حدود حرم اللّه تعالى لازم عقلا و لكن إثبات الحكم الشرعي بما تقدّم مشكل.

السادسة: تدلّ الآية المباركة: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا على قاعده كلية، و هي: «عدم جواز الاعتداء على الأشخاص الّذين ينقضون عهد اللّه و يصدّون المؤمنين من إقامة شعائر الدين»، و أنّ الانتقام منهم لأجل نقض عهد اللّه تعالى نحو اعتداء و لا يقبل الشارع به. نعم لو استلزم ذلك جناية على شخص أو على امور عامّة للمسلمين، فالضمان أو القصاص كما حكم به الشرع، و تدلّ عليها روايات كثيرة مذكورة في الأبواب المتفرّقة، و سيأتي في قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة الإسراء، الآية: 15] ما يتعلّق بالمقام.

السابعة: تدلّ الآية المباركة: وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ قاعدة عامّة، و هي: «قاعدة حرمة الإعانة على الإثم»، كما أنّ صدرها: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى تدلّ على قاعدة اخرى، و هي: «حسن الإعانة على كلّ خير و برّ، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها تدلّ على قاعدتين عامّتين مهمّتين، و الروايات الواردة فيهما فوق حدّ الإحصاء، قال الصادق عليه السّلام في المعتبر: «و ليعن بعضكم بعضا، فإنّ أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: إنّ معونة المسلم خير و أعظم أجرا من صيام شهر و اعتكافه في المسجد الحرام».

و قال عليه السّلام: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة».

و عنه عليه السّلام: «اللّه في عون المؤمن ما دام المؤمن في عون أخيه»، الى غير ذلك

ص: 285

من الروايات. فإعانة المؤمن من حيث هي راجحة و مندوبة، و قد يعرض عليها الوجوب لأجل عناوين اخرى.

و لا شكّ في أن ذلك هو المتسالم عليه عند الفقهاء، بل إنّ مقتضى المرتكزات و الفطرة حسن المعاونة على البرّ و الخير و قبح الإعانة على الشرّ و القبيح، و أنّ الآيات المباركة و السنّة الشريفة إرشاد إليهما.

و لا يخفى أنّ الإعانة المبحوث عنها - سواء أ كانت راجحة أم مرجوحة - ما إذا انحصرت جهة الراجحيّة أو المرجوحيّة في مجرّد الإعانة من حيث هي، لا ما إذا كان المعان بها بذاته راجحا أو مرجوحا، فإعانة الظلمة بنفسها محرّمة في الشريعة مثل قبول الرشوة، أو الإعانة على الصدقة بنفسها راجحة يثاب كلّ يد و إن تجاوز الى سبعين، كما في بعض الروايات.

ثمّ إنّ الإعانة بكلا قسميها تتصوّر على وجوه تبلغ عشرة، ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام) مفصّلا، فمن شاء فليرجع إليه.

و تقوم الإعانة بأمور:

الأوّل: العلم بتحقّق المعان عليه، فإذا لم يعلم لم تتحقّق الإعانة.

الثاني: القصد في الجملة و لو كان حاصلا من العلم، سواء قصد التوصّل أم قصد غير ذلك.

الثالث: تحقّق الفعل خارجا، و لا فرق في ما ذكرنا بين الإعانة الراجحة أو المرجوحة.

و أمّا قاعدة: «حرمة الإعانة على الإثم» فتدلّ عليها - مضافا إلى ما مرّ - روايات كثيرة، منها ما عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في الصحيح: «من أعان ظالما على مظلوم، لم يزل اللّه ساخطا عليه حتّى ينتزع عن معونته».

و عنه عليه السّلام: «العامل بالظلم، و المعين له، و الراضي به، شركاء ثلاثتهم»، و تقدّم مكرّرا أنّ المناهي الشرعيّة مطلقا ظلم.

و لا بدّ من إحراز عنوان الإعانة للحرام من القصد، و التحقّق، و العلم كما مرّ،

ص: 286

فإذا انتفى أحد هذه الأمور أو تحقّق الحرام بعد وسائط كثيرة و لم تكن من العلّة التامّة أو جزء العلّة - كما في بيع العنب و التمر لمن يعلم أنّه يعمله خمرا - لم تتحقّق؛ للشكّ في صدق الإعانة حينئذ، فلم تكن محرّمة، و الروايات الواردة الدالّة على الجواز - كما هي مذكورة في المكاسب المحرّمة من كتاب البيع - ليس من باب التخصيص، و إنّما هي من باب التخصص كما عرفت.

و لا فرق في الحرام الّذي تكون الإعانة عليه حراما بين أن يكون من الكبائر أو الصغائر، معلوما تفصيلا أو بالإجمال، مسلما كان العامل أو كافرا بناء على تكليف الكفّار بالفروع كتكليفهم بالأصول، كما هو المشهور، كلّ ذلك للعموم و الإطلاق. و إنّ الإعانة على الإثم تابعة للإثم المعان عليه، فإن كان كبيرة فهي كبيرة و إلاّ فصغيرة.

و هناك فروع للقاعدة تعرّضنا لها معها في كتاب الاجتهاد و التقليد من (مهذب الأحكام)، و من أراد فليرجع إليه و اللّه العالم.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآيات الشريفة إشارة إلى معاني عرفانيّة، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه الى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إشارة الى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنيل مقصودهم - و هو رضاه - و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق الى دنوّه، فأنت الّذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207].

ص: 287

يمكن أن تكون الآيات الشريفة إشارة إلى معاني عرفانيّة، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه الى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إشارة الى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنيل مقصودهم - و هو رضاه - و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق الى دنوّه، فأنت الّذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207].

أو إشارة الى أنّ ما تفضّل به على الإنسان و وهب له أعضاء يستخدمها في حياته، فكلّ عضو - نعمة وهبة - له عقد معه جلّ شأنه بأن لا يصرفه في معاصيه و نواهيه، فلا بدّ من الوفاء بهذه العقود الّتي عقدت معه تعالى، و يدلّ عليها روايات كثيرة ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم.

أو إشارة إلى ما بذلوا من الجهد في هداية خلقك، و مهّدوا السبيل لهم للفوز إلى القرب من حضرة جمالك، و تعاقدوا ببذل أغلى و أعلى ما عندهم بقبولك بالدخول مع عبادك.

أو إشارة الى إماتة الإنسيّة للنيل الى المقامات العالية و العقد على مخالفة الهوى و طرد الشيطان؛ لتلقّي أنوارك.

و كيف ما كان، فمن أوفى بعهوده و دام على عقوده و صبر على بلائه و نجح في امتحانه، فقد فاز بمقصوده و تلقته السعادة، و تمثلته الإنسانيّة، و دخل الجنّة بعد ما أزلفت له.

و لعلّ المراد من قوله جلّ شأنه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ احلّ ذبح بهيمة النفس الّتي هي كالأنعام بل أضلّ سبيلا، و قتل الأهواء الشريرة حتّى تنكشف الحقائق و تزيل الأوهام، فعن علي عليه السّلام: «المؤمن ينظر بنور اللّه»؛ لأنّه من اللّه تعالى و الى اللّه تعالى، و هو في نور اللّه و يرى بنور اللّه، إن عرف اللّه و أزال الحجب بينه و بين اللّه تعالى، و هذه الأنوار غير محدودة، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة، و لكن الاستعداد و اللياقة بل الأهليّة لها دخل فيها.

و لعلّ الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ يشير الى الخلّص من عباده، و هم النفوس المطمئنة الثابتة الّتي فازت بالقرب الى ساحة جماله، و تشرّفت بالخطاب الأبدي الربوبي، فسمعت باذن نقية داعية قوله تعالى: اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي ؛ لأنّها أحرمت بالتنفّر عن الدنيا و ما فيها و توجّهت الى كعبة الوصال بتلبية الشوق، و تمسّكت بعرى العشق لحضرة الجمال، و آنست مع الطائفين

ص: 288

حول بيت الحقيقة و الأمان، و أوت الى الركن خوفا من الأغيار، و تجرّدت عن ما سواه، و انفردت عن كلّ محبوب و مطلوب بالتوجّه الى المقام؛ و لذلك كلّه يرى في كلّ شيء جماله جلّت عظمته كما عن سيد العرفاء و إمام الموحّدين عليه السّلام.

و لا شكّ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ بترقي النفوس اللائقة و بذبح النفس إن اتّصفت بصفات البهيمة، و رعت في مراتع الحيوانات السفليّة، و رفثت كما ترفث الحيوانات البريّة، و تشبّهت بالحيوانات السبعيّة حتّى تنال طعمة من المآكل الدنيّة.

ما يُرِيدُ كما يشاء و يريد، فإنّه رؤف كريم يحبّ أن يرى آثار نعمه على عباده، و في الحديث: «انّ اللّه جميل و يحب الجمال»، الأعمّ من الظاهري و المعنوي، و لا يحبّ القيود و السلاسل «و يبغض العبد القاذورة». أي: الصفات الذميمة المتوطنة في النفس أو الأوساخ الظاهرة على الجسد.

و لعلّ المراد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ لا تقطعوا السبل عمّن أراد وجهه تعالى؛ لأنّ الجهة عظيم لا السالك شريف - إلاّ إذا كان مؤمنا - فإنّ القلوب تتسارع الى الفضائل إن انكشفت لها الحقائق و تؤمن باللّه العظيم و ملائكته و رسله؛ لأنّ العبرة بالخاتمة، فلا تتهاونوا بحرمات اللّه تعالى بصدّ السير للسالك الى المنازل و الصعود من المواقف الدنيّة إلى التجرّد للقائه تعالى.

كما أنّ بعض النفوس المؤمنة تشرّفت بالقرب لساحته جلّ شأنه و فازت بنيل رضاه بالإفاضة عليها، كذلك بعض الأمكنة أشرق عليه نور ربّه جلّ شأنه فتشرّف و سمى على غيره، و كذا بعض الأزمنة فضّل على غيره لتجلّيه تعالى فيه، و هو تعالى فضلّ الأشهر و الأيام و الأوقات و الأمكنة بعضها على بعض، كما فضّل الرسل و الأمم بعضها على بعض؛ لتتسارع النفوس المستعدّة لشوق اللقاء بعد تطهيرها عن الرذائل و الأغيار، ثمّ التحلية بصفات الأخيار، فقال تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ ، أي: لا تستحلّوا المآثم فيه و قدّموا التخلية بإزالة الصفات الذميمة حتّى تنالوا شرف التحلية فيه، فإن للزمان و المكان و الصاحب و الأستاذ الدخل الكبير في تأثير النفس للايصال إلى المقصود بها، و في تحلية النفوس فيها.

و لا تمنعوا قوما أرادوا التشرّف الى كعبة الآمال و ساقوا الهدي للقربان

ص: 289

لأجل التوصّل لما يوجب الغفران من الآثام، حيث قال تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ ، أي: لا تحلّوا الهدي الّذي يريد صاحبه التقرب به، و لا القلائد الّتي أسعرت بالشدّ لفكّ الشدّة.

و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ أنّ كلّ مخلوق من حيث إضافته الى خالقه جلّ شأنه حسن، مع قطع النظر عن كونه سعيدا أو شقيا؛ لأنّه تعالى خلقه بيديه و من روحه و هو على صورته كما في بعض الأخبار، و إن لم يرض المولى بكفره - فإحسانه لخلقه لا لكفره - و إذا قصد بيت الأمن و الأمان و أراد التوجّه إليه بالمقام، فلا تصدّوه عنه علّه يتحلّى بمكارم الأخلاق و محاسن الأفعال و يتشرّف بهدي الإسلام؛ لأنّهم كسائر العباد يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً من التجارة في العاجلة أو الرضوان في الآخرة حسب زعمهم، و اللّه يهدي لرضوانه من يشاء حسب لياقته و شأنه، فلا يجوز تحقيرهم بمنعهم عن الوصول الى حرم الأمان، إلا إذا خبثت ضمائرهم، فخرجت عن قابلية الصلاح و الإصلاح، فحينئذ لا يؤم البيت الحرام.

و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا الوصول الى مرحلة التطهير بتمييز الحقّ عن الباطل بالعيان؛ لأنّه إذا حلّيت النفوس بعد التخلية و قربت الى ساحة جماله بأداء شعائره، و رقّت الأرواح حتّى وصلت الى شهود أنواره، و خلت للأجسام النظر الى صفاته و الأخذ من رياض بهجته و بهائه، و استعدّت القلوب بعد ترويض النفوس و تزكيتها للمقام الرفيع، فحينئذ نالت مرحلة: «كلي و اشربي و قرّي عينا»، فأحاط التعظيم بها من كلّ جانب و شاهدت ما شاهدت و ميّزت الخبيث من الطيب، و ذاقت النفس طعم الحبّ و ألم الفراق، و قال بعض العرفاء:

لا محبّة إلاّ بأصول *** و لا وصول إلاّ غالي

و لا شراب إلاّ مختوم و لا مقام إلاّ عالي

و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أن لا يصدّكم عن السير نحو الكمال بالوصول الى مقام

ص: 290

التسليم و الرضا بعد الخلع بالبعد عن مساوئ نفوسكم الّتي هي الأغيار في جنوبكم، أو لا تمنعكم الصفات الذميمة في غيركم - الّذين هم في زيّ الصادقين و عملهم عمل المعرضين - عن إصلاح سرائركم و تنوير قلوبكم و النيل بالأحبّة و الفوز بمقام الخلّة بالتحلّي بصفات الغرّة، و قال شاعرهم:

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم *** و أرى نساء الحي غير نسائها

لا و الّذي حجّت قريش بيته مستقبلين الركن من بطحائها

ما أبصرت عيني خيام قبيلة إلاّ بكيت أحبّتي بفنائها

قال تعالى: لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 8]، فإذا سأل الصادقين عن صدقهم أ يترك المدّعين من غير سؤال ؟! فإنّ البعد عن الحقّ و الحقيقة، و النيل من العزّ بذلّ العبوديّة بالأهواء ظلم و اعتداء؛ لأن الادّعاء أعمّ من الواقع و الحقيقة، فلا تحملنّكم الصفات الذميمة على الاعتداء بالهبوط عن رفيع المقام و أسمى المنزلة أشرف الملكات الّتي هيّأها اللّه تعالى لكم.

و إنّ المراد من قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ أنّ كلّ ما يشغل القلب عن ما سواه و يمنع عن الوصول الى الحقّ و الحقيقة، فدفعه إعانة على البرّ، و لا يمكن دفع ذلك إلاّ بواسطة الشرع المبين. و أنّ تمكين حبّ الدنيا في النفس، و تكدير الروح بعد صفائها، و تسويد القلوب بعد جلائها هي من الإعانة على الإثم، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع الحالات، و في كلّ الأمور و عند كلّ مقام، و منزلة ف إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ فاتّقوه حتّى تنجوا من عقابه الشديد و عذابه المديدة، فمن عقابه عدم الوصول الى تلك المنازل، و من عذابه عدم نيل رضاه، و عدم الظفر بالحقّ و الحقيقة. و اللّه العاصم من الزلل و الخطأ.

بحث اجتماعي

الاجتماع - الّذي يحتاجه الإنسان بل هو قوام حياته؛ لأنّ المودّة و المواصلة

ص: 291

من فطرته لا يمكن العيش بدونهما - فحقيقته مركب من اصول، و أحكام، و روابط هي أسس له، يقوم الاجتماع و المجتمع عليها، فهي كلّما كانت متقنة - بمعنى كونها مأخوذة من مصادر غير قابلة للخطأ و الانزلاق - كان المجتمع أقرب الى الكمال المنشود، و هذا غير قابل للإنكار.

و أفراد المجتمع الّذين يريدون تهذيب مجتمعهم و سوقه إلى السعادة و حفظه عن التمزّق و الانهيار، يرجعون في بادئ الأمر الى أسسه و قواعده، أي: السلطة التشريعيّة، و من ثمّ الى السلطة التنفيذيّة؛ لأنّ الثانية مهما بلغت من القوة و طال زمانها لا تغيّر الاجتماع الّذي يهبط الى السوء أو منه الى الأسوء بعد فساد ركائزه و قواعده، بل هي من أهمّ الموانع في الوصول الى الكمال، فيترقّب الأفراد الفرص للنيل من المجتمع و زعزعته و إفساده.

و أمّا لو كانت الأسس و القواعد مستندة الى الفطرة الّتي كشف عنها خالق السماء، فإنّ الدوافع لحفظها كثيرة و الدواعي لمخالفتها قليلة، و إن السلطة التنفيذيّة ليست بمانعة؛ لأنّ عقاب الضمير و التأنيب النفسي و الشعور بالمسؤولية أمام العدل الواقعي - مع قطع النظر عن الجزاء - أكبر محفّز و أعظم داع لحفظ القوانين؛ و لذلك ورد في الروايات الكثيرة الحثّ على إبلاغ الأحكام، و أنّ العلماء مسؤولون أمام اللّه في علمهم الّذي يوجب الخير و السعادة، و في خطبة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بمنى: «ألا ليبلغن الشاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلغه أوعى له من بعض من سمعه»، فنشر العلم و بيان الأحكام و بثّ مكارم الأخلاق، من أهمّ الأحكام الاجتماعيّة الّتي أراد اللّه تعالى الاحتفاظ بها، و من أسمى مصاديق الإعانة على البرّ، بل إنّ إصلاح الشخص نفسه و لو بطلب العلم يكون منها؛ لأنّ حقيقة الإعانة غير متقوّمة بالاثنيّة، كما في قوله عليه السّلام: «من أكل الطين فقد أعان على نفسه»، كما تقدّم في الفقه.

و إنّ نشر الأخلاق الفاسدة و الأهواء الباطلة، و الحثّ على مخالفة الأوامر الإلهيّة، و ارتكاب نواهيه و غيرها ممّا يوجب فساد المجتمع و إيقاعه في الهلاك، هو المصداق الحقيقي للإعانة على الإثم المنهي عنها فطرة و شرعا.

ص: 292

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ و.......

اشارة

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) بعد ما أحلّ سبحانه و تعالى بهيمة الأنعام و أسّس قواعد النظام العامّ ، و أمر بالتعاون لحفظ الاجتماع من الضياع و تحقيق السعادة، ذكر تعالى في هذه الآية الشريفة الأمور الّتي استثناها آنفا من الحكم العامّ ممّا وعد بتلاوتها في القرآن الكريم، و هي عشرة أشياء، و أحلّها في حال الاضطرار و المخمصة.

ثمّ بيّن عز و جلّ أنّ هذا الدين قد كمل بتشريع أحكامه و تأسيس دعائمه و أركانه، فأخبر سبحانه و تعالى بأنّه قد أتمّ نعمته على المؤمنين أن نصّب عليهم من يحفظ لهم دينهم و يقيم شعائره و أحكامه، فرضي لهم الإسلام دينا و منهجا قويما ليس له بديل، بل لا يسعهم غيره؛ لأنّه لم ينقصه شيء فليطمئن المؤمنون بأنّه لا يصيب هذا الدين أذى من أعدائه - الّذين ما برحوا في تقويض أركانه و هدم كيانه - فلا تخشوهم، بل لا بدّ أن تكون الخشية من اللّه العزيز المتعال باتّباع تعاليمه و طاعة من نصبه عزّ و جلّ هاديا لهم يهديهم بأمره جلّ شأنه، فإنّ اللّه غفور رحيم، يغفر لهم ذنوبهم و يرحمهم برحمته، فيدفع عنهم كيد الأعداء و صوارف الزمان و دواهي الأشرار و الفجّار.

ص: 293

التفسير

قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ .

بيان لقوله عزّ و جلّ : إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ و المراد من الميتة كلّ حيوان مأكول اللحم فارقه الروح من غير سبب شرعي، و فيه تفصيل يأتي في البحث الفقهي التعرّض له إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلدَّمُ .

و هو المادّة المعروفة الّتي هي قوام حياة الحيوان، و المراد منه المسفوح؛ لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ، الّذي كان أهل الجاهليّة يجعلونه في المباعر و الأمعاء، و يشوونه و يأكلونه و منه الطحال، لورود روايات متعدّدة تدلّ على حرمته.

و أمّا غير المسفوح كالكبد، فهو مباح لدخوله في عموم المستثنى منه، و كذا المتخلّف في الذبيحة، فإنّه مباح و طاهر إن غسل موضع الذبح بملاقاة الدم الّذي في محلّ الذبح، فإنّه من المسفوح و ليس من المتخلّف. و التفضيل مذكور في كتب الفقه فراجع.

قوله تعالى: وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ .

و إن جرى عليه عمل التذكية، و إنّما خصّ عزّ و جلّ اللحم بالذكر مع أنّه حرام بجميع أجزائه الّتي تحلّ فيها الحياة و ما لا تحلّ ، إمّا لأنّ أكل لحمه هو الشائع عند المستحلّين له؛ أو لعدم إمكان الانتفاع من غيره، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق به أيضا.

كما أنّه تعالى خصّه بالذكر دون الكلب و غيره من الحيوانات المحرّمة؛ لاعتيادهم أكله دون غيره من السباع.

و من ذلك يظهر وجه الضعف في ما قيل من اختصاص الحرمة باللحم فقط، أخذا بظاهر الآية الشريفة، فإنّ السياق يدلّ على أنّ غير اللحم أيضا حرام.

ص: 294

قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ .

الإهلال: رفع الصوت، و منه إهلال الصبي إذا رفع صوته عند ولادته، و المراد به ذكر ما يذبح له كاللات و العزى و غيرهما من الأصنام، بل ما سوى اللّه تعالى، فإنّ ذكر غيره جلّ شأنه و ذبح الحيوان له يوجب حرمة الذبيحة، و إن استجمعت باقي الشرائط، كما هو مذكور في الفقه.

و هذه الآية المباركة تؤكّد حرمة هذه الأربعة، فليس الحكم فيها تأسيسيّا لورودها في غير هذه السورة ممّا هي أسبق نزولا منها، فقد ذكرت في سورتي الأنعام و النحل، و هما سورتان مكّيتان، و وردت فيهما بصيغة الحصر، قال تعالى:

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الانعام، الآية: 145]، و قال تعالى:

فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 114-115]، كما ذكرت في سورة البقرة الّتي هي أسبق نزولا من هذه السورة و إن كانتا مدنيتين، قال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية:

173]، فتكون هذه الآية الشريفة مؤكّدة لتلك و مشتملة على زيادة من المحرّمات.

و ممّا يؤكّد ذلك تشابه ذيل الآيات الثلاث في حلّية تلك المحرّمات عند الاضطرار و المخمصة إذا لم يكن متجانفا لإثم، فإنّ اللّه غفور رحيم، بل يمكن أن يقال إنّ النهي عن الثلاثة الاول - أي الميتة و الدم و لحم الخنزير - أسبق تشريعا من كلّ ذلك؛ لأنّ آية الأنعام تعلّل الحرمة فيها بأنّها رجس، فتدلّ على النهي عن أكل الرجس، و هو المرجع، و قد قال تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ [سورة المدثر، الآية: 5]، و سورة المدثر أسبق نزولا من جميعها، فإنّها نزلت في أوّل البعثة.

ص: 295

و بالجملة: فإنّ النهي عن هذه الثلاثة قد ذكرت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم إمّا خصوصا أو على نحو العموم، ممّا يدلّ على شدّة النهي و عظيم الاعتناء بها؛ لأنّها أكثر الأفراد شيوعا في المجتمعات، لا سيما عصر نزول القرآن المجيد.

قوله تعالى: وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ .

تفصيل للميتة و بيان لمصاديقها الّتي حرّمت في الشرع، و المراد منها كلّ ما لم يذك شرعا، لقوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بخلاف أهل الجاهليّة و أقوام آخرين كالمجوس، فإنّهم كانوا يعتقدون أنّ الميتة ما مات حتف أنفه بمرض و نحوه ممّا لم يعرف سببه. و أمّا الأسباب الّتي يأتي ذكرها، فإنّها كانت عندهم كالذكاة.

و المعروف عن المجوس أنّهم لا يأكلون الذبائح؛ لأنّ الذبح أذيّة للحيوان، و يأكلون الميتة بجميع أصنافها الّتي ذكرت، و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختصاص هذه المصاديق من الميتة بالذكر.

و المراد من المنخنقة ما مات خنقا، و الخنق حبس النفس بأي سبب كان اختيارا من فعل الإنسان أو غير اختياري، كما إذا وقعت في الماء أو أدخلت رأسها بين خشبتين و نحو ذلك ممّا يوجب زهوق الروح.

و التأنيث هنا و في الميتة لأنّهما وصف لبهيمة الأنعام.

قوله تعالى: وَ اَلْمَوْقُوذَةُ .

مادّة وقذ تدلّ على الشدّة في أمر، يقال: وقذ يقذ وقذا، و هو شدّة الضرب حتّى تسترخي و تنحلّ قواها، يقال: فلان وقيذ، أي: مثخن ضربا، و منه الوقذ و هو شدّة المرض المشرف على الموت، كما أنّ منه وقذة النعاس، أي: الغالب منه.

و الوقذ قبيح عقلا؛ لأنّه إيذاء للحيوان، فيكون محرّما شرعا، و كان أهل الجاهليّة إمّا يخنقون الشاة أو يضربونها بالعصى حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها و إن لم يسل دمها.

ص: 296

قوله تعالى: وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ .

و هي الّتي تردّت و وقعت من مكان شاهق أو مرتفع كالسطح و قمة الجبل - و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الرجل ليتكلّم من سخط اللّه ترديه بعد ما بين السماء و الأرض» أي: توقعه قبل المهلكة - أو في منخفض كالبئر و الوادي فتموت. و هو أيضا قبيح عقلا؛ لأنّ بها هلاك الحيوان مع المشقّة و الإيذاء.

قوله تعالى: وَ اَلنَّطِيحَةُ .

و هي الّتي تموت عن نطح حيوان آخر. و فعيل هنا بمعنى مفعول، و هو يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، فلا تحتاج الى التاء، يقال: عين كحيل لا كحيلة، و كفّ خضيب لا خضيبة. و أجيب عنه بوجوه يأتي ذكرها في البحث الأدبي.

و كيف كان، فإنّهم كانوا يناطحون بالكباش فإذا مات أحدها أكلوه.

قوله تعالى: وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ .

السبع: اسم جنس يشمل كلّ وحش ضار يعدو على الإنسان و الدواب أو يفترسها كالأسد، و النمر، و الثعلب، و الذئب، و الضبع و نحو ذلك، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «نهي عن أكل كلّ ذي ناب من السباع»، أي ما يفترسها الحيوان و يأكله قهرا و قسرا. و من العرب من وقف اسم السبع على الأسد فقط.

و المقصود من الآية الشريفة ما يفترسه السبع فيموت، فلا يشترط أكله من لحمه؛ لأنّ القيد منزّل على الغالب.

و كيف كان، فإنّهم كانوا يأكلون ما يأكله الأسد، و الذئب، بل ذكر بعضهم أنّ أهل الجاهليّة يأكلون بعض فرائس السباع، و هو ممّا تأنفه أكثر الطباع.

قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ .

استثناء من المذكورات ممّا يقبل التذكية و لو كانت ببقية من الحياة.

و المراد من الذكاة فري الأوداج الأربعة مع الشروط المذكورة في كتب الفقه، فإذا تحقّقت التذكية الشرعيّة و لو كان في الحيوان رمق الحياة يضطرب بها حلّ أكله، و على هذا لا يختصّ الاستثناء بالأخير، بل يشمل جميع المذكورات.

ص: 297

و من ذلك يظهر أنّ حرمة المذكورات إنّما هي لأجل موتها بتلك الأسباب و إلاّ فإن لم يمت الحيوان بها، بل مات بالتذكية الشرعيّة و لو كانت عنده بقية حياة حلّ أكله كما عرفت، و كذا لو عاش مدّة من الزمن و مات إمّا بحتف الأنف فيحرم، أو بالتذكية الشرعيّة فيحل، فحينئذ لا يطلق عليه عنوان المنخنقة أو الموقوذة أو المتردّية أو أكيل السبع كما هو واضح من الآية الشريفة؛ لأنّ ظاهرها ما إذا استند الهلاك الى واحد من تلك الأوصاف دون غيرها.

و مادّة (ذكي) تدلّ على تمام الفعل و إتمامه، لا مجرّد وقوعه و إيقاعه، و منه الذكاء، أي السن (العمر) الّذي يقال في مرحلة الشباب، و في غيرها لا يقال ذكاء؛ يقال: الفرس المذكي، أي الّذي يأتي بعد تمام القروح - انتهت أسنانه - بسنة؛ لأنّ تمام اكتمال القوة فيه، و منه الذّكاء و هي سرعة الفطنة و كمالها، و الفعل منه ذكي، يذكي ذكاء، و من الذكاء إذا تمّ اشتعال النار، يقال: ذكت النار تذكو ذكوا و ذكاء، و الذكوة ما تذكو به النار، و أذكيت الحرب و النار إذا اوقدتا و تمّ اشتعالهما، و ذكاء اسم للشمس إذا اشتدّت حرارتها، كما أنّ الصبح ابن ذكاء؛ لأنّه من ضوئها. و ذكي البهيمة إذا أزهق روحها.

و معنى (ذكيتم) أدركتم ذكاته على التمام، و الذكاة في الذبيحة بمعنى التطييب و التطهير، و في الحديث عن أبي جعفر عليه السّلام: «ذكاة الأرض يبسها»، أي: طهارتها من النجاسة بشروق الشمس عليها، و في الذبيحة حلّيتها و تطييبها؛ لأنّ الحيوان إذا سيل دمه فقد طيب.

و التذكية الشرعيّة هي إزهاق روح الحيوان في غير الصيد بفري الأوداج الأربعة بآلة من الحديد، متتابعا من المذبح مستقبل القبلة ذاكرا اسم اللّه تعالى عليه، قاصدا للذبح، و أن يكون الذابح مسلما، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه الشروط في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

قوله تعالى: وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ .

مادة (نصب) تدلّ على ما يكون علامة لشيء، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج، الآية: 43]، أي: إلى علم منصوب يسبقون إليه، و منه نصب الشيء، أي: وضعه وضعا ثابتا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيبة و النصيب كلّ ما نصب و جعل علما، و جمعه نصائب و نصب (بضمتين)، و النصوب علم ينصب في الفلاة، و منه النصب (بالفتحتين) و النصب (بالضم) أو (بالضمتين) التعب، قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [سورة ص، الآية: 41]، فإنّه علامة لداء و شرّ و بلاء.

ص: 298

مادة (نصب) تدلّ على ما يكون علامة لشيء، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج، الآية: 43]، أي: إلى علم منصوب يسبقون إليه، و منه نصب الشيء، أي: وضعه وضعا ثابتا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيبة و النصيب كلّ ما نصب و جعل علما، و جمعه نصائب و نصب (بضمتين)، و النصوب علم ينصب في الفلاة، و منه النصب (بالفتحتين) و النصب (بالضم) أو (بالضمتين) التعب، قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [سورة ص، الآية: 41]، فإنّه علامة لداء و شرّ و بلاء.

و النصب (بضمتين) قيل: جمع نصاب، كحمر جمع حمار، و قيل: واحد الأنصاب كطنب و أطناب، و هي ما نصب و عبد من دون اللّه تعالى و يذبحون لها و عليه. و منه شعر الأعشى يمدح النبي صلّى اللّه عليه و آله:

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه *** و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا

و المراد من الآية الشريفة النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب الّذي كان من سنن الوثنيّة، فإنّهم كانوا ينصبون حول الكعبة أحجارا يقدّسونها و يذبحون عليها لتعظيمها، و كان ملونا بدم الذبائح، و هي غير الأصنام، و في حديث إسلام أبي ذر: «فخررت مغشيا عليّ ثمّ ارتفعت كأنّي نصب أحمر»، يريد أنّ المشركين ضربوه لأجل إسلامه حتّى ادموه فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح حول الكعبة، مثل ما كان المجوس يذبحون لبيوت النيران.

و (على) سواء كانت بمعنى اللام أم على أصلها، فإنّه لا يضرّ بأصل المعنى لأنّهم كانوا يقدّسون الأصنام و يذبحون عليها و لها.

و ذكر بعضهم أنّ هذا تكرار لقوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ . و الحقّ أنّه غيره، فإنّه الذبح على الأحجار لغرض تقديسها، و أما الإهلال لغير اللّه عزّ و جلّ ، فإنّه الذبح باسم أحد معبوداتهم، حتّى أنّ بعض القضاة أفتى بتحريم ما يذبح عند استقبال السلطان تقرّبا إليه؛ لأنّه ممّا اهلّ لغير اللّه به، و إن كان ذلك بعيدا جدا؛ لأنّ الذبح كذلك للاستبشار بقدومه، و الشكر للّه لسلامته كذبح العقيقة مثلا.

و كيف كان، فيمكن أن يكون المقام أخصّ ، فما أهلّ لغير اللّه به قد يكون

ص: 299

بعيدا عن النصب، بخلاف ما ذبح على النصب، فإنّه لا بدّ و أن يذبح على الأحجار المخصوصة تقرّبا لأوثانهم.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ .

عطف على ما قبله، أي: و حرّم عليكم الاستقسام، و هو من القسم، أي:

إفراز النصيب، يقال: قسّمت كذا قسما و قسمة، و منه قسمة الغنيمة و قسمة الميراث، قال تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [سورة الحجر، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 28]، و الاستقسام هو طلب القسمة بالأزلام الّتي هي آلات خاصّة لهذا الفعل كما كانوا يفعلون في الجاهليّة.

و الأزلام جمع زلم محرّكة، كجمل أو كصرد (بضم ففتح)، و هي القداح الّتي لا ريش لها.

و الاستسقام بالأزلام في المقام هو طلب النصيب من الجزور بضرب القداح، و ذلك أنّهم كانوا يعمدون على الجزور فيجزئونه عشرة أجزاء ثمّ يجمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها الى رجل.

و السهام: عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، و ثلاثة أغفال لا أنصباء لها (خال من الكتابة)، و كانوا يضربون بها مقامرة؛ و لذا جعل عزّ و جلّ القسمة بها ميسرا، و قد تقدّم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [سورة البقرة، الآية:

219] بعض الكلام.

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الاستقسام بالأزلام هو مطلق الضرب بالقداح لاستعلام الخير و الشرّ في الأفعال، فإذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، و على الثاني: نهاني ربّي، و الثالث مهمل لا شيء عليه، (غفل) فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده فيها، فإذا خرج أحد المكتوبين ائتمر أو انتهى بحسب ما خرج له، و إن خرج القدح الّذي لا شيء عليه

ص: 300

أعاد الضرب. و قال: إنّه حرام؛ لأنّه من الطيرة، أو ضرب من التكهّن و التعرّض لعلم الغيب.

و الحقّ أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على أنّها في مقام بيان محرّمات الأطعمة، و من جملتها قسمة اللحم بالمقامرة، و إن كان الاستقسام بالأزلام أعمّ من ذلك، فإنّه يستعمل في استعلام الخير و الشرّ أيضا، إلاّ أنّه قد توجب القرائن الحافّة بالكلام صرف اللفظ عن عمومه و استعماله في مورد خاصّ ، و هو كثير و المقام منه، يضاف الى ذلك أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة الاستقسام بالأزلام و حرمة طلب الخير أو الشرّ، منها محلّ الكلام، فإنّه ضرب من الاستخارة الّتي ورد الإذن فيها و لا يضرّ اختلاف الآلات في استعلام الخير، فقد يكون بالسهام، و قد يكون بغيرها.

نعم، لا بدّ أن يكون الاستخبار من اللّه تعالى، فلا موضوعيّة للآلات، بل هي طريق الى طلب الخير من اللّه العظيم، نظير التفاؤل الّذي كان نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يحبّه. و الادّعاء بأنّه من الطيرة و التكهّن. باطل كما هو واضح.

و أمّا التعرّض لطلب علم الغيب، فلا بأس به، و ذكرنا ما يتعلّق بالاستخارة و أقسامها و سائر خصوصياتها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع، و سيأتي في البحث الروائي مزيد كلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ .

الفسق: هو الخروج عن طاعة اللّه تعالى الى معصيته؛ لأنّه الخروج عن الاستقامة، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 26].

و الإشارة راجعة الى جميع المذكورات، فإنّها محرّمات شرعا، و استحلالها خروج عن طاعة اللّه تعالى و إعراض عن شرعه، كما أنّ الكفّ عنها من الوفاء بالعقود الّذي تقدّم في صدر السورة، و يشهد له قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ [سورة الأنعام،

ص: 301

الآية: 145]، فإنّه جعل غير الثلاثة الّتي هي رجس من الفسق و عدّ منه ما اهل لغير اللّه به.

و يحتمل رجوعها إلى الأخيرين من بعد الاستثناء إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ؛ لحيلولته عمّا قبله، أي: ما ذبح على النصب و الاستقسام بالأزلام.

و قيل: إنّها ترجع الى الأخير فقط. و هو بعيد عن سياقها.

و كيف كان، فإنّ الإشارة بالبعيد فيها الدلالة على بعدها عن الخير.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .

سياق الآية الكريمة يدلّ على أنّها جملة معترضة اقحمت في ضمن الآية الكبيرة المباركة الّتي نزلت لبيان محرّمات الطعام، و من عادة القرآن الكريم أنّه إذا أراد بيان أمر من الأمور الّتي لها أهميّة خاصّة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعدّدة، و يعتبر ذلك أسلوبا بلاغيا مستحسنا عند البلغاء و الفصحاء، و يظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 32-34]، فإنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، إلاّ أنّ قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ جملة معترضة ذات دلالة مستقلة لا تتوقّف على بقية الآية الشريفة تبيّن قضية مهمّة، و هي عصمة أهل بيت النبي الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعته.

و في المقام: صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة و بقية محرّمات الطعام، و ذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار و المخمصة، فمجموع الصدر و الذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شيء آخر، نظير قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، و يماثلها ما في سورتي الأنعام (145) و النحل (115)، فيكون قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام، و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة - الّتي هي كثيرة - تخصّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.

ص: 302

و في المقام: صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة و بقية محرّمات الطعام، و ذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار و المخمصة، فمجموع الصدر و الذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شيء آخر، نظير قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، و يماثلها ما في سورتي الأنعام (145) و النحل (115)، فيكون قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام، و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة - الّتي هي كثيرة - تخصّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.

و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواضع هو اللّه تعالى، أو النبي صلّى اللّه عليه و آله بأمر منه عزّ و جلّ ، أو كتّاب الوحي بأمر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يضرّ في أصل المطلب.

كما أنّ الجملة المعترضة و إن تركّبت من جملتين إحداهما تدلّ على ظهور هذا الدين على الشرك و أمنه من كيدهم، فلا خوف من أعداء هذا الدين و لا حاجة إلى مداراتهم، و الجملة الثانية تبيّن كمال الدين و إتمام النعمة، إلاّ أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر، و هو يدلّ على أنّ هذه الجملة المعترضة كلام واحد لا كلامان، كما تدلّ عليه الروايات الّتي وردت في شأن نزولها. و لا يضرّ في ذلك تكرار لفظ (اليوم) الّذي يراد به في كلتا الجملتين يوم واحد، و هو اليوم الّذي يئس فيه الكفّار و أكمل فيه الدين كما ستعرف.

ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.

ص: 303

ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.

و اخرى: يطلق و يراد به من حين الفجر الى غروب الشمس، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الصومي، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ * [سورة البقرة، الآية: 196].

و ثالثة: يراد به مجموع الليل و النهار، كما في قوله تعالى: وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ [سورة الحج، الآية: 28]، و قوله تعالى: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ * [سورة الكهف، الآية: 19]، و قوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: 47].

و رابعة: يراد به مقطع خاصّ من الزمان، سواء أ كان قصيرا أم طويلا، كما في قوله تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذابِ [سورة غافر، الآية: 49]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ * [سورة يونس، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ [سورة آل عمران، الآية: 140]، و قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ [سورة آل عمران، الآية: 24].

الخامسة: يطلق و يراد به يوم القيامة الّذي يعدّ من أعظم الأيام في الشرائع السماويّة، و قد ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة، قال تعالى:

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [سورة يس، الآية: 54]، و قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [سورة يس، الآية: 55]، و قال تعالى: وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ [سورة يس، الآية: 59]، و قال تعالى: بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ [سورة الحديد، الآية: 12]، و قال تعالى: يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [سورة إبراهيم، الآية: 31].

و لأهمّيّة هذه الكلمة في الأديان الإلهيّة فقد ذكرها عزّ و جلّ في القرآن المجيد في أكثر من أربعمائة مورد بصيغها المختلفة و هيئاتها المتعدّدة.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من اليوم في المقام.

ص: 304

فقيل: إنّه زمان ظهور الإسلام ببعثة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و دعوته الى التوحيد و نبذ الأنداد، فيكون المراد من قوله تعالى: أنّ اللّه أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين، و أتمّ عليكم النعمة و يأس الكفّار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.

و أشكل عليه بأنّه يلزم من ذلك أن يكون للمسلمين دين قبل الإسلام كان المشركون يطمعون فيه، و يخشى المسلمون منهم على دينهم، فأيأس اللّه الكافرين بإكمال دينهم و إتمام نعمته عليهم كما هو ظاهر سياق الآية المباركة، و هو خلاف الوجدان، فإنّه لم يكن لهم قبل الإسلام دين يطمع فيه الكفّار أو يكمله اللّه و يتمّ نعمته عليهم.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد فتح مكّة، فإنّه اليوم الّذي أبطل اللّه تعالى كيد المشركين و أذهب شوكتهم و هدم بنيانهم، فانقطع رجاؤهم فلم يخفهم المسلمون على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه: أنّ الآية المباركة تدلّ على كمال الدين و إتمام النعمة و في ذلك اليوم لم يكمل الدين و لم تتم النعمة بعد، و قد فرضت كثير من الشرائع و الأحكام و أنزلت عدد من الفرائض بعد يوم الفتح.

مع أنّ الآية الشريفة تدلّ على ايئاس جميع الكفّار من هذا الدين و لم يكن كذلك بعد يوم الفتح، إذ أنّ بعض العادات السيئة و الشرائع الفاسدة كانت موجودة عندهم حتّى بعث فيهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من أبطل تلك العادات السيئة و الشرائع الفاسدة.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد نزول سورة البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب و عفيت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة، فلم يكن يخش المسلمون من كيدهم، و قد أبدلهم اللّه تعالى من بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.

و يرد عليه ما أورد على سابقه، فإنّ الإسلام و إن أمن من مكرهم و انبسط على الجزيرة و انقبرت سنن الجاهليّة، إلاّ أنّ الدين لما يكمل بعد، و قد نزلت فرائض

ص: 305

و أحكام و مواثيق بعد نزول براءة كما هو معلوم، فإنّ سورة المائدة الّتي هي سورة الأحكام نزلت في آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل - و هو المعروف بينهم -: إنّ المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع، كما ذكره كثير من المفسّرين و وردت به بعض الروايات.

و فيه: أنّه إذا كان المراد به ذلك فما المراد من يأس الّذين كفروا من هذا الدين، فهل المراد به يأس مشركي قريش من الظهور عليه ؟! فهو قد كان في يوم الفتح عام ثمانية للهجرة، لا يوم عرفة من السنة العاشرة.

أو يراد به يأس مشركي العرب من الظهور على الدين ؟! فقد كان عند نزول براءة في السنة التاسعة من الهجرة.

و إن كان المراد به يأس الكفّار جميعهم الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم، كما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة: اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين، إذ لم يكن لهم شوكة و منعة في خارج الجزيرة.

على أنّ المناسب لقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أنّ كون الحكم الّذي أنزله اللّه تعالى له من الأهميّة بمكان بحيث يكون به كمال هذا الدين، و به تتمّ النعمة العظيمة، و بنزوله قد رضي اللّه سبحانه و تعالى أن يكون الإسلام دينا و منهاجا أبديّا خالدا إلى يوم القيامة.

و ما يمكن أن يقال من الاحتمالات في هذا الحكم النازل في يوم عرفة خمسة:

الأوّل: أن يكون المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الشريفة و تعليمه الناس تعليما قوليّا و عمليّا في آن واحد.

و فيه: أنّ حضوره صلّى اللّه عليه و آله في الحجّ و إكماله بتشريع الأحكام، فيه كمال للحجّ فقط لا للدين كلّه و إتمام للنعمة، فإنّ كلّ حكم إلهي بحدّ نفسه كمال و نعمة عظيمة، كما ورد في قوله تعالى عند تشريع الوضوء و التيمم: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، إلاّ أنّ ظاهر الآية المباركة في المقام أنّ ما شرّعه عزّ و جلّ من الحكم في هذا اليوم يكون موجبا لكمال الدين كلّه و سببا لانقطاع رجاء الكفّار، مضافا إلى

ص: 306

ذلك أنّ تشريع الحجّ لم يكن موجبا لإيئاس الكفّار و انقطاع الرجاء عن هذا الدين كما هو معلوم، فتنقطع الرابطة بين الجملتين، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة.

الثاني: أن يكون المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم، فلا حلال بعده و لا حرام، و به استولى اليأس على الكفّار و انقطع رجاؤهم عن هذا الدين.

و فيه: مضافا الى ما أورد على سابقه أنّ الأحكام لم تكمل يوم عرفة، فقد نزلت بعده عدة أحكام كآية الصيف و آيات الربا، كما دلّت عليه جملة من الأخبار.

مع أنّ الكفّار الّذين انقطع رجاؤهم و استولى اليأس على نفوسهم، هل هم مشركوا قريش ؟ فقد كانوا كذلك قبل نزول هذه الآية المباركة، أم مشركوا العرب ؟ فقد خابوا عند نزول سورة براءة، أم الكفّار مطلقا من غيرهم ؟ و قد عرفت أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

الثالث: أن يكون المراد به إكمال الدين بتخليص بيت اللّه الحرام من رجس الوثنيّة، و براثن الشرك، و إجلاء المشركين عنه و خلوصه لعبادة اللّه الواحد الأحد.

و فيه: أنّ الأمر كان كذلك بعد فتح مكّة قبل هذا اليوم بسنة، يضاف الى ذلك أنّ تسمية مثل ذلك كمالا للدين و إن كان فيه إتمام للنعمة مشكل، فإنّ الدين مجموعة من الاعتقادات و التوجيهات و الإرشادات القيمة الّتي توجّه الإنسان إلى الصراط المستقيم و تعدّه إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا لنيل الكمالات الواقعيّة، و ليس في فتح مكة من الأهميّة العظمى الّتي يكون بها إكمالا للدين كلّه، و إن كان له أهميّة من النواحي الاخرى الّتي لا يستهان بها كما هو معلوم.

على أنّ إشكال يأس الكفّار يأتي في هذا الاحتمال أيضا، كما هو واضح.

الرابع: أن يكون المراد به إكمال الدين ببيان المحرّمات بيانا تفصيليّا، بعد أن ذكرت على سبيل الإجمال في بعض السور المكّية، لئلاّ ينفر العرب من هذا الدين و يمتنعوا عن قبوله، و ليكون المسلمون على بصيرة منها فيجتنبوا عنها عن علم و معرفة و اطمئنان من دون خشية من الكفّار، فإنّهم يئسوا من هذا الدين بعد

ص: 307

إعزازه و ظهور الدين كلّه، فالمراد من اليوم هو يوم عرفة الّتي نزلت فيه هذه الآية الشريفة الّتي بيّنت هذه الأحكام و أبطلت بها سنن الجاهليّة، و هدم صرح الشرك بالبشارة بغلبة المسلمين و ظهورهم على المشركين ظهورا تامّا و عدم الخشية منهم، فإنّهم يئسوا من إزالة هذا الدين، فأبدل اللّه تعالى خوف المؤمنين أمنا و ضعفهم قوّة و فقرهم غنى، فالأجدر بالمسلمين أن يتوجّهوا الى العمل بالأحكام في أمن و أمان، فلا يبالوا بالكفّار و لا الى قوّتهم، و لا يخافوهم على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه ما أورد على سوابقه، مضافا الى أنّ التدريج في المقام ليس كالتدريج في آيات الخمر، فإنّ هذه الآية المباركة لم تأت بحكم جديد، إضافة الى ما ورد من التحريم في سورة البقرة و الأنعام و النحل، إلاّ أنّ في المقام شرحا للميتة ببيان أفرادها، فإن أريد من التدريج خوفا من امتناع الناس عن قبول هذا المعنى، فهو غير وجيه، إذ أنّ هذه المحرّمات ذكرت في غير موضع واحد.

على أنّ تشريع حكم واحد مثل هذا الّذي ورد في الآية الكريمة، و إن كان كمالا في حدّ نفسه و تماما للنعمة، لكنّه لم يكن كمالا للدين كلّه - كما عرفت - كما هو شأن بقية الأحكام الإلهيّة الّتي شرّعت في أوقات متعدّدة، فلم يرد فيها مثل ما ورد في ما شرّعه اللّه تعالى في هذا اليوم بأنّه كمال للدين و إتمام للنعمة العظيمة، و أنّه سبب لا لإيئاس الكفّار من هذا الدين، و أنّ به رضا اللّه تعالى أن يكون الإسلام دينا الى يوم القيامة.

الخامس: أن يكون المراد بإكمال الدين هو سدّ باب التشريع، فلم ينزل حكما آخر بعد نزول هذه الآية في يوم عرفة.

و فيه: أنّه لم ينسد باب التشريع عند نزول هذه الآية الشريفة في هذا اليوم كما عرفت مكرّرا، فقد شرّعت أحكام كثيرة بعدها أيضا.

و الحقّ أن يقال: إنّ الدين مجموعة قوانين و نظم و توجيهات و إرشادات قيّمة تعدّ الإنسان إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للوصول الى الكمال اللائق به في الدارين، و تكون سببا في سعادته، و هي و إن كانت مجموعات و أحكاما متعدّدة، إلاّ

ص: 308

أنّها مترابطة و متكاملة، و يعتبر كلّ واحد منها نعمة على الإنسان، كما يدلّ عليه ما ورد في تشريع الوضوء و التيمم في قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 6].

كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام يكون اللاحق منها مكملا للسابق و كمالا له، و يعدّ كلّ تشريع من التشريعات الإلهيّة دعامة من دعامات هذا الدين، و سببا في تقويته و تثبيته و منعته و صدّه لكيد الكافرين و مكرهم الّذين ما برحوا في تفويض هذا البنيان المنيع و إطفاء نور اللّه تعالى، و لهم في ذلك أساليب مختلفة كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم و حذّر المؤمنين من كيدهم و مكرهم و خدعهم.

و كان من جملة ما توسّلوا به في زعزعة هذا الدين هو افتتان المؤمنين و بثّ النفاق بينهم و إفساد دينهم بإلقاء الشبه و الشكوك في نفوسهم، و قد تصدّى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله لدفع جميع ذلك و ردّ كيدهم بوحي من السماء و إمداد ربوبي، فعاش فيهم ثلاثا و عشرين سنة يكابد المحن و يكافح أعداء الدين و يجاهد مع المنافقين، و يمدّه عزّ و جلّ بتوجيهات و إرشادات و ينزل من الأحكام ما تطمئن نفسه الشريفة و نفوس المؤمنين، حتّى نما الإسلام و قويت شوكته و دخل المشركون في هذا الدين و انمحت آثار الشرك من الجزيرة و علت كلمته و ظهر على الدين كلّه و إن كره الكافرون، إلاّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله و إن أمن من كيدهم في حال حياته، و لكنّه لم يأمن منهم بعد رحيله و غيابه عن جماعتهم، و كان من أهمّ ما كان يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيبة بعد موته صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا يفترون عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بشتى السبل، منها أنّهم كانوا يقولون: إنّ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله أبتر ليس له عقب يحفظ له دينه بعد موته، و سينقطع أثره و يموت ذكره و لا يبقى دينه كما هو المشهود في موت الملوك و السلاطين، فكان هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور النبي صلّى اللّه عليه و آله و يهمه و يقلق باله. و لعلّه كان يرى أنّ هذا الدين لو بقي كذلك من دون أن يكون في البين تشريع يحفظه بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله يكون ناقصا، و كان يخشى الكافرين أعداء هذا الدين من الانقضاض عليه مرّة اخرى و إفساده

ص: 309

و هو غائب لم يقدر على حفظه من كيدهم، و هذا هو الّذي كان يخشى المؤمنون منه أيضا، فلا بدّ من تشريع يزيل هذا النقص منه و تكميله بإنزال حكم يثبت دعائمه إلى الأبد، مع العلم بأنّه دين أبدي لا يكون بعده دين أو تشريع آخر، فيكون هذا التشريع و الحكم الإلهي له من المميزات ما يفوق به على أي تشريع آخر، فإنّه يزيل الخشية عن المؤمنين من كيد الكافرين، فلا يخاف منهم، و به يكمل هذا الدين و تثبت دعائمه الى الأبد و يؤمن من كيد أعدائه و مكرهم و خدعهم و أباطيلهم، و هو من النّعم العظيمة على المؤمنين في حفظ دينهم من الضياع، و به رضى اللّه عزّ و جلّ أن يكون الإسلام دينا أبديّا و منهاجا خالدا، فأيّ تشريع عظيم هذا يكون سببا لرضائه تعالى به دينا كاملا، فهو تبارك و تعالى كان راضيا بهذا الدين قبل ذلك و لكنّه الآن رضي أن يكون دينا كاملا و تامّا لا يخشى المسلمون من أعدائه، فهو باق ببقاء الدهر محفوظا من كيدهم و مكرهم، فلا يخافهم المؤمنون لا على دينهم و لا على أنفسهم.

و من ذلك يعلم أنّ المراد من اليوم في المقام هو المقطع الخاصّ من الزمان الّذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهي العظيم، فلا يختصّ بخصوص يوم عرفة أو قبله أو ما بعده حتّى ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ لهذا التشريع مقدّمات و معدّات لم تكن في غيره لأهمّيّته، فهو يختلف عن سائر الأحكام و التشريعات كما عرفت.

و به يمكن أن يجمع بين الأقوال، فإنّ لكلّ واحد منها دخلا في هذا التشريع بنحو من الأنحاء، و سيأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و يشهد لما ذكرنا امور:

منها: أنّ سياق قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ يدلّ على تفخيم أمر هذا اليوم و تعظيم شأنه، لما في تقديم الظرف و تعلّقه بقوله تعالى: يَئِسَ من الدلالة على ذلك كما هو معلوم، و لعلّ السرّ في ذلك هو

ص: 310

ما ذكرناه من إنزال حكم إلهي في هذا اليوم يكون فيه الضمان لحفظ هذا الدين و ديمومته، و به خرج من الظهور و الحدوث الى مرحة البقاء و الدوام.

و منها: أن يأس الكفّار و انقطاع رجائهم عن هذا الدين لم يتحقّق إلاّ بتشريع حكم يضمن بقاءه و يحفظه من الضياع إذا مات القائم بأمره، فإنّ كلّ مذهب و نحلة لا تبقى على شوكتها و قوّتها و صفاتها و نضارتها إذا مات حملتها و حفظتها و القائمون بأمرها، فلا بدّ من أن يقوم بعدهم من يحفظها و يدبّر أمرها، و كان رجاء الأعداء الوحيد هو موت صاحب هذا الدين ليقضوا عليه بعد ما لم ينفعه التهديد، و التوعيد و القهر، و الجبر، و القتل، و الضرب في حياة صاحبه، و قد حصل لهم اليأس عند ما خرج الدين من القيام بفرد معين و شخص خاصّ الى أشخاص متعدّدين يتحمّلون الأمانة بصدق و وفاء، و يكونون مظاهر للشريعة قولا و عملا، و انقطع رجاؤهم عند ما علموا بأنّ الدين خرج من مرحلة الحدوث الى مرحلة البقاء، و لعلّ في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة، الآية:

109] إشارة إلى ذلك، فإنّ الكفّار عند ما انقطع رجاؤهم من تقويض هذا الدين في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله تمنّوا الانقضاض عليه و ردّ المؤمنين عن إيمانهم بعد ارتحاله و موته صلّى اللّه عليه و آله، و لكن اللّه جلّت عظمته وعد المؤمنين بأن يأتي بحكم يرفع هذا الخوف الكامن في نفوسهم، و هو الّذي ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة في المقام.

و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يختلف عن سياق مثيلتها الّتي ورد فيها نفس الأسلوب، كقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، الّذي يدلّ على تشريع حكم إرفاقي ينبئ عن عظيم امتنانه على الامة، حيث أحلّ لهم الطيبات و طعام أهل الكتاب، كما ستعرف.

و أمّا المقام، فإنّ سياقه يدلّ على تعظيم أمر «اليوم» الّذي نزل فيه حكم

ص: 311

عظيم يتضمّن البشرى للمؤمنين بحفظ دينهم عن تلاعب أيدي الّذين كفروا، و هو يشمل اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم.

و أمّا الآية الاخرى فيختصّ الحكم فيها بأهل الكتاب، كما أنّ الحكم في المقام تكويني، بينما يكون الحكم في الآية التالية تشريعي إرفاقي، فيستفاد من جميع ذلك عظمة الحكم الوارد في المقام و أهميّة اليوم الّذي شرّع فيه ذلك الحكم.

و منها: أنّه ورد بعض الروايات في المقام الّذي يدلّ على أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في أمر ولاية علي عليه السّلام، كما ستعرف.

و منها: قوله تعالى في الآية الكريمة: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ الدال على النهي عن الخشية منهم. و الظاهر أنّ النهي إرشادي، لا أن يكون مولويا، بمعنى ارتفاع الموجب عن الخشية بعد يأس الّذين كفروا من التعرّض لدينكم، فلا بدّ أن تكون الخشية من اللّه تعالى فقط في عدم التعرّض لما يوجب سخطه و عقابه.

و من البديهي أنّ الخشية منه عزّ و جلّ واجبة على كلّ تقدير من غير أن تكون في وقت خاصّ أو حالة مخصوصة، فإنّ ذلك يشعر بأنّ الخشية المأمور بها في المقام هي خشية خاصّة، و هي الّتي كانت حاصلة من الأعداء بالنسبة الى دين اللّه تعالى، و بعد أن أيأسهم اللّه تعالى و أمن المؤمنون، فلا موجب للخشية منهم، و يجب على المؤمنين توجّه خشيتهم الى اللّه تعالى لئلاّ يقعوا في ما يوجب غضبه و الانتقام منهم.

و لا تخلو الآية المباركة من التهديد و التحذير للمؤمنين كما هو واضح من سياقها.

قد يقال: إنّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ يكون مثل قوله تعالى:

فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 175]، فكلّ ما يقال فيه يقال في المقام أيضا.

و يرد عليه: بأنّ الحكم في الآية الشريفة الثانية مولوي مشروط بالإيمان، و يكون مفادها أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكافرين لا على دينهم و لا على

ص: 312

أنفسهم، بل يجب عليهم أن يخافوا اللّه تعالى وحده، فإنّه العزيز القادر على كلّ شيء، بل المؤمن لا يخاف غيره جلّ شأنه، كما يشعر به التعليل في ذيل الآية المباركة.

و أمّا آية المقام، فإنّها لا تنهى عن الخشية منهم إلاّ بعد تشريع حكم خاصّ أوجب يأس الأعداء و انقطاع رجائهم عن نيل هذا الدين، فحينئذ لا بدّ أن تكون خشيتهم عن اللّه فقط، فهي لا تنهى عن الخشية مطلقا كما نهت الآية الاخرى عن الخوف، بل لأجل أنّه لا موجب للخشية بعد اليأس؛ و لذا كان الحكم تكوينيّا لا تشريعيّا.

و من جميع ذلك تعرف عظمة هذه الآية الشريفة و أهميّتها، و أنّها تؤذن بأنّ هذا الدين في أمن و أمان من ناحية الّذين كفروا بعد ما يئسوا من النيل منه، فلا يتطرّق إليه ما يوجب الخطر عليه أو فساده إلاّ من ناحية المسلمين أنفسهم بترك العمل بالأحكام الإلهيّة و الإعراض عن التوجيهات الربوبيّة، فإذا تغيّروا تغيّر اللّه تعالى عليهم، فإنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فقد يسلب منهم التوفيق، و يزيل النعمة، و يذيقهم لباس الخوف و الجوع كما حكي عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ فَأَذاقَهَا اَللّهُ لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [سورة النحل، الآية: 112]، فحينئذ تنحصر الخشية من اللّه فقط في أن يسلب منهم النعمة العظيمة إذا تغيّر المؤمنون و رفضوا العمل بتعليمات هذا الدين، و قد حذّر اللّه تعالى العباد عن نفسه في عدّة مواضع من الكتاب الكريم إذا لم يتولوا اللّه عزّ و جلّ و الرسول في جميع أمورهم.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ .

الخشية: هي الخوف و الحذر مع التعظيم، و الغالب فيها عن علم و معرفة؛ و لذا قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]، و قال

ص: 313

تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ [سورة النور، 2 لآية: 52].

و الآية الشريفة بمنزلة الغاية لما قبلها. أي: بعد ما وفى اللّه تعالى بوعده، حيث أظهر دينه و يئس الكفّار من الغلبة لما شاهدوا من الكمال في الدين، فلا تخشوا الكفّار من أن يظهروا على دينكم و يغلبوكم، بل أخلصوا الخشية للّه جلّ جلاله وحده لما منّ عليكم بالنصر و الغلبة و الإظهار على العقائد الفاسدة و الأديان المنحرفة.

و يحتمل أن يكون المراد من الخشية الرجاء.

و لكنّه بعيد؛ لأنّهما متضادّان، نعم الرجاء يلازم الآخر غالبا في ضدّ متعلّقه.

فمن يخشى المرض يرجو طبعا الصحّة، و كذا من يخشى الفقر يرجو الغنى، و كذا سائر الأضداد. و سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرناه و اللّه العالم.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً .

بشارات ثلاث تنبئ عن عظيم المنّة على المؤمنين، و تدلّ على كمال هذا الدين و هيمنته على الدين كلّه، فلا دين و لا شريعة بعد هذا الدين الكامل الّذي ارتضاه اللّه تعالى أن يكون منهاجا علميّا و عمليّا للبشريّة كلّها، و أنّ ما سواه باطل و ناقص، فهو النعمة التامّة الّتي لا ينقصها شيء، و هو الدين الكامل الّذي لا يعوزه تتميم من متمم، و قد ذكرنا آنفا أنّ هذه الفقرة ترتبط مع الفقرة السابقة، أعني: قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أشدّ ارتباط، و هما مسوقتان لغرض واحد، فإنّ اللّه تعالى أكمل هذا الدين و أتمّ نعمته على المؤمنين، و ارتضاه أن يكون دينا خالدا كاملا، فكان ذلك سببا لانقطاع رجاء الكافرين عن النيل من هذا الدين و يأسهم من محوه و إفساده، فلا موجب للخشية منهم، و إنّ الخشية إنّما تكون من اللّه سبحانه و تعالى وحده في أن ينزع هذا الدين من المؤمنين

ص: 314

أنفسهم و يسلب هذه النعمة العظيمة عنهم إذا لم يطيعوا اللّه تعالى في تشريعاته و أحكامه و توجيهاته.

و مادة (كمل) تدلّ على الوفاء و التمام، و كمل الشيء إذا حصل ما هو الغرض منه، و ذكر العلماء أنّ الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى. و لكن التتبع في موارد استعمالاتهما يفيد بأنّهما مختلفان، فقد يستعمل التمام و الإتمام في مورد لا يصحّ استعمال الإكمال فيه أو بالعكس، فإنّ الإتمام يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء و شروط و قد تحقّقت جميعها، بحيث لو فقد واحد منها لم يترتّب عليه أثره أو الغرض الّذي سيق له، قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ [سورة البقرة، الآية:

187]، فإنّ الصيام إنّما يوصف بالتمام إذا لم يختل شروطه، فلو أختل واحد منها و لو في جزء من النهار، فإنّه يفسد.

و أمّا الإكمال، فإنّه يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء و لكلّ جزء أثره الخاصّ المترتّب عليه، فلو حصلت جميع تلك الأجزاء لتحقّقت جميع تلك الآثار المطلوبة، و إلاّ فيتحقّق جزء من مجموع الأثر، فالاختلاف بين المادّتين (الإتمام) و (الإكمال) كالاختلاف بين العامّ المجموعي و العامّ الإفرادي المعروفين في علم الأصول. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة، الآية: 196]، فإنّ لكلّ واحد من تلك العشرة أثره المطلوب، فإذا تحقّقت كاملة حصلت جميع الآثار المطلوبة، و إلاّ فيتحقّق الأثر الخاصّ المترتّب على الجزء المأتي به فقط، و قال تعالى: وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ [سورة البقرة، الآية: 185]، فإنّ الأثر يترتّب على البعض كما يترتّب على الكلّ ، كلّ بحسبه، فهذا هو الفرق بين المادّتين اللتين اجتمعتا في هذه الفقرة، فإنّ الاولى تدلّ على أنّ هذا الدين مجموعة معارف و أحكام، و قيم، و توجيهات، فكلّ واحد منها كمال في حدّ نفسه، و لكن أضيف إليها أمر في هذا اليوم أصبح به الدين كاملا لا يمكن أن ينال ذلك الأثر العظيم المترتّب على هذا الدين إلاّ بتنفيذه، فهو المكمّل لها، كما أنّ النعم الإلهيّة و إن كانت كثيرة في هذا الدين، و لكنّها تمّمت بهذا

ص: 315

الأمر الّذي شرّعه عزّ و جلّ في هذا اليوم؛ فلذا ارتضى جلّ شأنه هذا الإسلام دينا تامّا كاملا لا يعوزه شيء آخر و لا يحتاج الى مكمّل، و سيبقى مدى الدهر يقاوم الصعاب و يصمد أمام كلّ صروف الزمان، لا يثنيه تشكيك المبطلين و لا زيغ الزائغين الضالّين.

و أمّا النعمة، فهي عبارة عمّا يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، و هي من الإمدادات الربوبيّة للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و قد كثر ورودها في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34]، و ذلك لحكم كثيرة، منها الإعلام بأنّها من شؤون ربوبيّته العظمى لخلقه، و تذكيرا للمنعم عليه بالمنعم ليشكره على ما أنعم، و إرشادا له بإيفاء حقّ النعمة، و بيانا بأنّ نظام التدبير قائم بها على نحو تكون بينها وحدة مترابطة متكاملة.

و هي بحدّ نفسها توصف بالخير و الحسنة؛ لأنّها توافق الغرض الإلهي الّذي خلق من أجله الإنسان، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، فكلّ ما أوجب التقرّب إليه عزّ و جلّ و ابتغاء مرضاته و التعبّد لديه تكون نعمة، و إلاّ كانت نقمة و شرّا. و لعله لأجل ذلك وصف سبحانه و تعالى بعض النّعم الإلهيّة في القرآن الكريم بصفات غير محمودة، قال تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [سورة آل عمران، الآية: 178]. كما وصف عزّ و جلّ الدنيا الّتي هي من أهمّ النعم الربوبيّة بأنّها متاع قليل، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ * مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ [سورة العنكبوت، الآية: 64]. و إنّما وصفها عزّ و جلّ بتلك الأوصاف لأنّها لم تستغل من قبل الإنسان في الغرض الّذي عيّنه خالقها لأجله، و هو الدخول في ولايته عزّ و جلّ بالعمل بوظائف العبوديّة.

ص: 316

و من ذلك يعرف أنّ الإسلام الّذي هو مجموعة تشريعات و وظائف و أحكام و توجيهات و إرشادات أنزلها اللّه تعالى لغرض إعداد الإنسان إعدادا علميّا، و عمليّا، و عقائديّا؛ ليكون عبدا قائما بوظائف العبوديّة، و من المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلاّ بالدخول في ولايته تعالى و ولاية رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أوليائه عليهم السّلام بعده بالطاعة لهم و العمل بما جاء به الدين، كما قال عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، فيكون اليوم الّذي أتمّ اللّه النعمة على المؤمنين هو اليوم الّذي شرّع فيه ما يكون موجبا للدخول في ولاية اللّه تعالى و ولاية رسوله الكريم، و متمّما لهاتين النعمتين العظيمتين، و هو اليوم الّذي فرض فيه ولاية أولياء اللّه تعالى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، الّذين بهم تقام أركان الدين و يبسط العدل، و يحمى دين اللّه تعالى، فهم القيمون على الشريعة بعد أن كان القيّم عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي كان مؤيّدا بوحي إلهى، فإذا انقطع لا بدّ من أن يقوم مقامه أحد في هذه المهمة العظيمة و تتمّ به ولاية اللّه تعالى و ولاية الرسول الكريم، و به أيس الكفّار عن هدم هذا الدين، و رضى اللّه تعالى بهذا الدين إسلاما.

و ممّا ذكرناه يعرف أنّ هذه الولاية لها أساس تشريعي به كمل الدين في تشريعه، و أساس تكويني به تمّت النعمة و كان لها الأثر العميق في أمن المؤمنين بعد خوفهم ليعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا، و لعلّه الى ذلك يشير قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة النور، الآية: 55]، فإنّ هذه الآية المباركة تشير بوضوح الى ما سيتحقّق من الوعد الّذي وعده عزّ و جلّ به في آية المقام بتشريع ما يكمل به الدين و تتمّ به النعمة و ييأس الكفّار و يأمن المؤمنون بعد خوفهم، فتكون هذه الآية المباركة من مصاديق آية سورة النور الّتي هي أسبق نزولا من سورة المائدة.

ص: 317

و ذيل الآية الشريفة: وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ يدلّ على تشديد الأمر في الموعود الّذي وعده عزّ و جلّ .

هذه خلاصة ما يمكن أن يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة ما ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة.

و من ذلك كلّه تعرف أنّ ما ذكره بعض المفسّرين و العلماء في تفسيرها إنّما هو بعيد عن سياقها.

قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ .

عود الى صدر الكلام الّذي حرّم جملة من أصناف الميتة، و بيان لحكم ثانوي اضطراري، و الاضطرار: افتعال من الضرر، و المراد به الوقوع في الضرورة.

و المخمصة: المجاعة الّتي تورث خمص البطن و ضموره، بحيث يخاف معها الموت، أي: فمن وقع في ضرورة من مجاعة تعرض للإنسان تلجأه الى تناول شيء من المحرّمات المتقدّمة، فلا إثم عليه.

قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ .

الجنف: الميل و الانحراف، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [سورة البقرة، الآية: 183]، و في الحديث: «إنّا نرد من جنف الظالم مثل ما نرد من جنف الموصي».

و المراد به عدم تجاوز الحدّ عن ما يوجب رفع الضرورة و الأكل زائدا على ما يمسك به رمقه و يسكن به ألم جوعه، فإنّ التجاوز عنه يكون إثما؛ لأنّ الضرورات إنّما تتقدّر بقدرها، و يبيّن المقام قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ ، أي: غير طالب له و لا متعدّ في الأكل و متجاوز عن قدر الضرورة، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ الأحكام الثانويّة إنّما تتحدّد بقدر الضرورة الّتي أوجبت تشريع الحكم، فإذا ارتفعت يرتفع ذلك، كما هو مفصّل في كتب اصول الفقه.

ص: 318

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أي: فمن اضطر الى تناول تلك المحرّمات فأكل منها بقدر ما يرجع به الضرورة و يدفع عنه الجوع و الهلاك، غير متعد حدود اللّه تعالى في ذلك بأن لا يكون جائرا و متجاوزا قدر الضرورة، فإنّ اللّه غفور لمثله لا يؤاخذه رحيم به.

و عموم الآية المباركة يدلّ على أنّ صفة المغفرة و الرحمة كما تتعلّقان بالمعصية الّتي توجب العقاب، كذلك تتعلّقان بمنشأها و هو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّتي تستتبع العقاب.

ص: 319

بحوث المقام

بحث أدبي

ذكرنا في التفسير أنّ التاء في (النطيحة) للنقل لا للتأنيث؛ لأنّ فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، و قال بعض: إنّ ذلك صحيح في ما إذا ذكر الموصوف مثل كفّ خضيب، و أمّا إذا حذف كما في المقام فيجوز دخول التاء فيه، فلا حاجة الى القول بأنّها للنقل. و قرئ (المنطوحة).

و السبع بضمّ الباء، و لغة أهل نجد بسكون الباء، و قرأ ابن عباس: (و أكيل السبع).

و الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ متّصل ب وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ و ما قبله، أي: إن أدركتم ذكاتها، و (ما) في موضع النصب، و قيل: إنّه منقطع، أي:

يحرم كلّ المذكورات إلاّ ما يحلّ أكله بالذكاة. و لكنّه ليس بشيء، فإنّ القاعدة في الاستثناء الاتصال؛ لأنّ حقّه أن يكون مصروفا الى ما تقدّم من الكلام، و لا يجعل منقطعا إلاّ بدليل مقبول.

و (اليوم) في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا منصوب على الظرفيّة، و كذا في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ، و تقديم الجار في اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ؛ للإيذان بأنّ الإكمال إنّما يكون لمصلحتكم و منفعتكم، و تشويق الى ذكر المؤخّر.

و أمّا الجار في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، فقد قيل: إنّه لا يتعلّق (بنعمتي)؛ لأنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله، و قيل: إنّه متعلّق به و لا بأس بتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا، و النعمة مصدر بناء نوع، أي: أنّ بناءها يستفاد منها النوع.

ص: 320

و ذكر بعض أنّ الرضا في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً نظّر فيه معنى الاختيار؛ فلذا عدّي ب (اللام) للدلالة على أنّ ارتضاه عزّ و جلّ للإسلام إنّما هو لصالح المؤمنين و لأجل سعادتهم.

و منهم: من جعل الجارّ صفة ل (دين) منصوبا على الحاليّة من الإسلام أو تمييزا من (لكم)، و قيل: (دينا) منصوب على الحاليّة من الإسلام أو تمييز من (لكم).

و قيل: إنّ الجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت)، و إلاّ كان مفهوم ذلك أنّه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم.

و لكنّه باطل، فإنّ الإسلام لم يزل دينا مرضيا للّه عزّ و جلّ ، قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و ما ذكره من المفهوم فاسد لا اعتبار به، فالجملة معطوفة على سابقتها، و هي لبيان عظمة هذا اليوم، و أنّ الإسلام الّذي أكمل بهذا التشريع و اتمّ بهذه النعمة قد صار دينا خالدا أبديّا لا ينسخ و في مأمن من الأعداء كما عرفت، و هذه من جملة التشكيكات الباطلة في هذه الآية المباركة لإخراجها عن مفادها الواقعي و إدخالها في متاهات المفسّرين.

و المخمصة: من الخمص، و هو ضمور البطن، يقال: رجل خميص و خمصان و امرأة خميصة - على المبنى كما مرّ - و خمصانة، و منه: أخمص القدم، أي: باطنها الّذي لا يصيب الأرض؛ فيكون في مشقّة و تعب، و يستعمل كثيرا في الجوع الغرث قال الشاعر:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

و في حديث صفات المؤمن: «خماص البطون خفاف الظهور»، أي: أنّهم أعفّة عن أموال الناس و هم ضامروا البطون من أكلها، خفاف الظهور من ثقل وزرها و محنة إثمها.

و الخماص: جمع الخميص، و هو البطن الضامر، كما أنّ الخمائص جمع خميصة، و منه الحديث: «كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا»، أي تغدو بكرة و هي جياع

ص: 321

و تروح عشاء و هي ممتلئة الأجواف. و الخميصة هي ثوب خز أو من صوف معلّم، و كانت من لباس الناس قديما.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ على اصول المحرّمات في اللحوم، و هي هذه الأربعة و قد جمعت جميع الوجوه الّتي يمكن تصويرها في هذا النوع من المأكولات.

أمّا الأوّل: فلأن التغذّي به يوجب فساد المزاج و يجلب الضرر، كما أثبته العلوم الحديثة.

و الثاني: فإنّه ممّا يستقذره الطبع الإنساني، مضافا الى أنّ التغذّي عليه يفسد المزاج و يؤثّر على النفس و البدن.

و الثالث: فإنّه مضافا الى كونه يفسد المزاج و ممّا يؤثر على النفس و البدن، يستقذره الطبع المعتدل.

و الرابع: فإنّه خلاف الفطرة المستقيمة الّتي ترشد الإنسان الى التوحيد و نبذ الأنداد، و لأنّ فيه تشويش الفكر الإنساني الداعي الى الاستقامة، ففيه الضرر المعنوي، كجلب الشقاء للنفس كما ثبت ذلك في علم النفس.

و قد جمعت هذه الأربعة الأصول الّتي يمكن أن يكون كلّ واحد منها سببا للمنع و التحريم في غيرها أيضا، و هي الضرر بقسميه البدني و المعنوي و استقذار الطبع و نفرته، و التأثير النفسي الموجب لخروج الإنسان عن الفطرة المستقيمة و تخبّطه في الأمور.

و يعتبر الإسلام من أعظم الأديان السماويّة الّتي تراعي تلك الأمور بدقّة في جميع ما يطعمه الإنسان، و قد تقدّم في تحريم الخمر بعض الكلام أيضا، فيشترط في

ص: 322

حلية اللحوم أن تستطيبه الطباع المعتدلة، لا ما يكسبه الطبع بحكم المجاورة و العقيدة و بعض العادات السيئة، فإنّ الطبع شديد التأثّر بهذه الأمور، فلا يستشكل بأننا نرى الأقوام تأكل أشياء تعدّ في الشريعة الإسلاميّة من المنفّرات، و ممّا يستقذره الطبع، فإنّ الإسلام يرى الطبع المعتدل الّذي لم يتأثّر بالعوامل الخارجيّة، ثمّ لم يجعل ذلك على الإطلاق، فقد قيّدها بأن تكون اللحوم من ذوات الأربع، و خصّصها ببهائم الأنعام فقط، و مع ذلك فقد نزّه عن أكل بعضها كالفرس و الحمار؛ لحكم كثيرة، فخرج بذلك السباع و الوحوش.

و أمّا الطير، فقد خصّصه بغير الجوارح، و اشترط فيه أن يكون فيه حوصلة، و أن يكون دفيفه أكثر من صفيفه.

و أمّا حيوان البحر، فاشترط أن يكون فيه الفلس، فاختصّ ببعض أنواع السمك، و أن لا يموت في ما هو حياته فيه كما فصّلناه في الفقه.

فكانت هذه الشروط علامات لتمييز النافع للإنسان عن الضار، فاجتمع في التشريع الإسلامي الجانب المادّي - و هو مراعاة النفع و عدم الضرر، و عدم استقذار الطبع - و المعنوي و هو حفظ الفطرة المستقيمة عن الانحراف و تصحيح الفكر و ابقائه على الاستقامة و عدم تلوّث النفس الإنسانيّة بأمور تفسدها و تصرفها عن نيل الكمالات الواقعيّة.

و لعلّ اهتمام الشرع الإسلامي بطعام الإنسان؛ لأجل تأثيره الكبير في نفسه، فإنّه إذا كان خيّرا و طيّبا فتتأثّر النفس و الفطرة به، فتكون طيبة و تستعدّ لنيل الكمال، و إلاّ فسدت و خرجت عن حدّ الاستقامة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ على أنّ ذكر اسم غير اللّه يوجب حرمة الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا.

و ذكر بعضهم أنّه يفهم من ذلك كلّما ذكر اسم اللّه تعالى عليه حلّ أكله، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا، فيدخل فيه ذبائح أهل الكتاب، فتكون على القاعدة.

ص: 323

و هو مردود: بأنّ الآية المباركة ليست في مقام بيان هذه الجهة، و المسألة محرّرة في الفقه مفصّلا فراجع.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ أنّ الحرمة في هذه الأمور المذكورة مضافا الى كونها من مصاديق الميتة، أنّ قتلها بالكيفيّات الموصوفة خلاف الفطرة و الرحمة الّتي ينشدها الإسلام في هذا الموضوع، فهو يمنع من التعذيب و القتل الفظيع، فإنّه دين الرحمة يبتغي الرحمة في جميع الشؤون و يأمر بنشرها في كلّ الأمور، و ينهى عن زجر الحيوان و أذيته في القتل و قطع أعضاء الحيوان و سلخه قبل زهاق روحه، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»، و وضع للتذكية شروطا و آدابا يوجب الرفق بالحيوان.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ على أنّ ما يوجب تحليل الحيوان الّذي أباح الشرع أكله أو الصلاة في جلده و سائر أجزائه هو التذكية، و هي تتحقّق إمّا بالذبح أو النحر، أو الصيد، أو إخراجه ممّا هو حياته فيه، أو وضع اليد عليه، و لكلّ واحد من هذه الأمور شروط معيّنة مذكورة في الفقه.

و في التذكية الشرعيّة اجتمعت الفطرة و ما تهدي إليه الخلقة، و الرحمة، فلا يردّ بأنّ الاقتصار على اللحوم الّتي تتهيّأ بالموت العارضي، كحتف الأنف و نحو ذلك ممّا يجتمع فيه حكم الفطرة و الخلقة الّتي تدعو الى أكل اللحوم، و حكم الرحمة، الّذي يدعو إلى نبذ تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح و نحوهما، فلا يحتاج الى التذكية و الذبح.

و الجواب عنه يتّضح ممّا ذكرناه آنفا، فإنّ الرحمة إنّما يجب اتباعها في ما إذا لم يستلزم ضررا و حرجا منها على الإنسان، و إلاّ كان خلاف الرحمة، فلا يجب اتباعها، مع أنّك عرفت أنّ الإسلام قد أمر بإعمالها في هذه الحالة أيضا قدر المستطاع.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع و نظام التكوين، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات، لا سيما في المقام؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع، و هذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها اللّه تعالى للأئمة الطاهرين عليهم السّلام، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية اللّه تعالى و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين و التشريع، و تدلّ على ذلك روايات متعدّدة، و في الدعاء المأثور: «بكم يجبر المهيض و يشفى المريض و تزداد الأرحام و تغيض»، و أنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.

ص: 324

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع و نظام التكوين، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات، لا سيما في المقام؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع، و هذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها اللّه تعالى للأئمة الطاهرين عليهم السّلام، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية اللّه تعالى و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين و التشريع، و تدلّ على ذلك روايات متعدّدة، و في الدعاء المأثور: «بكم يجبر المهيض و يشفى المريض و تزداد الأرحام و تغيض»، و أنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ على انتفاء سبب الخشية من الكفّار بعد يأسهم اليوم، فيتضمّن الوعد بحفظ هذا الدين من كيدهم و زيغهم و أباطيلهم و أمن المؤمنين بعد خوفهم، كما يدلّ على الوعيد و التحذير أيضا، فإنّ السبب انتقل من الأعداء الى ما عند اللّه تعالى وحده، فإنّه لا بدّ من ابتغاء مرضاته و حفظ دينه بالطاعة و العمل بما أنزله عزّ و جلّ على رسوله العظيم صلّى اللّه عليه و آله، فلا يتسرّب الى هذا الدين من طوارق الفساد إلاّ ما كان من قبل المسلمين أنفسهم.

و من المعلوم أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحذّر العباد عن نفسه في كتابه الكريم إلاّ في باب الولاية و الطاعة، فقال تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 28-30] بعد نهي المؤمنين عن اتّخاذ الكافرين أولياء؛ فهذه قرينة اخرى على أنّ هذه الآية المباركة لها ارتباط و ثيق بالولاية.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ أنّ الاستقسام بالأزلام

ص: 325

الّذي هو نوع من المقامرة في تعيين اللحم و قسمته بالأقداح فسق و يحرم أكل ما يخرج به؛ لأنّ الآية الكريمة هي في مقام تعداد محرّمات الطعام من اللحم، فلا يستفاد منها حرمة مطلق الاستقسام بالأزلام في غير اللحم؛ فإنّه ليس من الفسق في تعيين بعض الأمور بذلك إذا لم يستلزم منه محرّم آخر.

و كيف كان، فالآية الشريفة بمنأى عن الاستخارة بأي وجه كان، و القرعة بأي أنواعها، و طلب الغيب بوجه مشروع.

بحث روائي

الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة المتقدّمة حسب ما وردت في قطاعاتها على أقسام:

الأوّل: ما عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسين، عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام قال: «سألته عمّا اهلّ لغير اللّه به ؟ قال: ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر، حرّم اللّه ذلك كما حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير - فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه أن يأكل الميتة. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، متى تحلّ للمضطر الميتة ؟ قال: حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل فقيل له: يا رسول اللّه إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال: ما لم تصطحبوا، أو تغتبقوا، أو تحتفّوا بقلا فشأنكم بهذا، قال عبد العظيم:

فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما معنى قوله: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ ؟ قال: العادي السارق، و الباغي الّذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا، لا ليعود به على عياله و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار، و ليس لهما أن يقصّرا في صوم و لا صلاة في سفره، فقلت له: قوله تعالى: وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، قال: المنخنقة الّتي انخنقت باخناقها حتّى تموت، و الموقوذة الّتي مرضت حتّى قذّها

ص: 326

المرض حتّى لم يكن بها حركة، و المتردّية الّتي تتردّى من مكان مرتفع الى أسفل أو تتردّى من جبل أو في بئر فتموت، و النطيحة الّتي نطحتها بهيمة اخرى فتموت، و ما أكل السبع منه فمات، و ما ذبح على النصب على حجر أو صنم، إلاّ ما أدركت ذكاته فذكي، قلت: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ، قال: كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشر أنفس و يستقسمون عليه بالقداح، و كان عشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها، أمّا الّتي لها أنصباء فالفذ، و التوأم و النافس، و الحلس، و المسبل، و الرقيب، و المقلى، و أمّا الّتي لا أنصباء لها فالفسيح، و المشيح، و الوغد، و كانوا يحيلون السهام بين عشرة، فمن خرج بينهما باسمه سهم الّتي لا أنصباء لها الزم ثلث من البعير، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السهام الّتي لا أنصباء لها الى ثلاثة، فيلزمونهم ثمن البعير ثمّ ينحرونه و تأكل السبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، و لم يطعموا منه الثلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا، فلما جاء الإسلام حرّم اللّه تعالى ذكره ذلك فيما حرّم، و قال عزّ و جلّ : وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني:

حرام».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ ما ذبح لغير اللّه تعالى ميتة، سواء كان لأجل الجماد أو الإنسان، إلاّ أن يرجع إليه تعالى كما في العقيقة، أو ما يذبح لأجل السلامة الّتي منحها اللّه تعالى للإنسان، أو لأجل الشكر على العافية، أو لأجل الحفظ عن الخطر الّذي توجّه على الإنسان فأصرفه اللّه تعالى عنه.

و هذا أمر فطري؛ لأنّ مثل هذا التعظيم لا ينبغي إلاّ لخالق الكائنات و مبدع الآيات و منزّل البركات.

و هل يأثم لو ذبح لغير اللّه تعالى مضافا إلى الحكم الوضعي ؟ و البحث الفقهي يتكفّل هذا الجانب.

الثاني: أنّ الاضطرار الّذي يبيح المحظورات، في أكل الميتة بالخصوص مقيّد

ص: 327

بما لم يكن منشأه البغي و العدوان، كما يأتي تفسيرهما و باق فيهما عليها، إلاّ إذا تاب حلّ لهما أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار، كما يأتي في البحث الفقهي.

و أنّ المراد منهما السارق، و الّذي يبغي الصيد بطرا، لا لأجل المعيشة و دفع الجوع عن نفسه أو عياله أو مسلم آخر، فهو الباغي فيجري عليهما حكم الاختيار في حال الاضطرار إن لم يتوبا.

الثالث: يستفاد من هذه الرواية قاعدة عامّة في مورد الاضطرار المحلّ و المبيح للمحظورات، و هي أن يصل المكلّف الى مرحلة لا يمكنه حفظ نفسه إلاّ بارتكاب المحذور، و لا وقع في مهلكة أو طرأ عليه مشقّة عرفا، و لعلّ هذا هو المراد من كلامه صلّى اللّه عليه و آله: «ما لم تصطحبوا»، أي: لم تأكلوا لقمة الصباح، أو «تغتبقوا»، أي:

العشاء أو لم تجدوا بقلة بها يحفظ الإنسان نفسه، فحينئذ يحلّ أكل الميتة لابقاء رمق الحياة و رفع ألم الجوع.

و عن بعض أنّ المراد من قوله صلّى اللّه عليه و آله ليس لكم أن تجمعوا أكل الصبوح و العشاء من الميتة، و لكن سياق الحديث يدلّ على ما ذكرناه.

و عن الأزهري في تفسير الحديث: «إذا لم تجدوا لبينة تصطحبونها أو شرابا تغتبقونه بعد عدم الصبوح و الغبوق لم تكن بقلة تأكلونها حلّت لكم الميتة، و هذا هو الصحيح»، و هذا عين ما ذكرناه.

الرابع: أنّ السفر للصيد اللهوي كسائر الأسفار الّتي قصد بها المعصية، لا يوجب القصر في الصلاة و لا الإفطار في الصوم.

الخامس: فسّر الموقوذة في هذه الرواية بالمرض الّذي يصيب الحيوان، بحيث لا يجد ألم الذبح و لم يتمكّن من الحركة فيترك حتّى يموت، و ذلك من باب التفسير بالمصداق؛ لأنّ المضروب أيضا كذلك لا يجد ألم الموت و لا يمكن له الحركة، فيترك حتّى يموت و الجامع موجود.

السادس: أنّ قوله عليه السّلام: «إلاّ ما أدركتم ذكاته فذكي» يرجع الى جميع

ص: 328

الأقسام كما في الآية المباركة، لا خصوص الأخير فقط؛ لتحقّق سببيّة الحلّ و عدم ورود نهي من الشارع.

و عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم سنة سبع و ثلاثمائة بإسناده عن أبان بن تغلب - الّذي هو من أجلاّء أصحاب الصادقين عليهما السّلام - عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «الميتة، و الدم، و لحم الخنزير معروف، و ما اهلّ لغير اللّه به يعني ما ذبح للأصنام. و أمّا المنخنقة، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم، فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها. و المتردّية كانوا يشدّون عينها و يلقونها من السطح، فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش، فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم، فكانوا يأكلون ما يقتله (يأكله) الذئب و الأسد و الدبّ ، فحرّم اللّه عزّ و جلّ ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ كانوا يعمدوا الى جزور فيجتزءون عشرة أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام و يدفعونها الى رجل، و السهام عشرة - الحديث».

أقول: يستفاد من الآية الشريفة و مجموع هذه الروايات أنّ الشريعة الإلهيّة في زمن الجاهليّة لم تحل تلك الطرق السيئة الّتي كانت سائدة في الأمم الغابرة، كالمجوس، و الوثنيين، و غيرهما؛ لأنّ غالبها ممّا تأباها الفطرة المستقيمة.

و كيف كان، فإنّ الرواية من باب الجري و التطبيق و ذكر المصداق، و لا فرق بين الروايتين إلاّ في موارد بسيطة جدا.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير، و النطيحة، و المتردية و ما أكل السبع، و هو قول اللّه:

إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ فإذا ذكيت شيئا منها و عين تطرف، أو قائمة تركض، أو ذنب يمصع

ص: 329

فقد أدركت ذكاته فكله. قال: و إن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك أو جبل، إذا كنت قد أجدت الذبح فكل».

أقول: الرواية تبيّن حكم الشكّ في حياة الذبيحة، فيكفي أحد الأوصاف في الحكم ببقاء الحياة، فإذا ذبحت على تلك الحال حلّ أكلها، و المراد من (عين تطرف) أي: تتحرّك، و في دعاء الصلوات: «اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد كلّما طرفت عين أو ذرفت»، و المراد من «قائمة تركض» أن تضرب الأرض. و من «ذنب يمصع» أي: الحركة مع الضرب، و المراد من جودة الذبح أن يكون جامعا للشرائط الشرعيّة.

و في تفسير العياشي عن محمد بن عبد اللّه، عن بعض أصحابه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، لم حرّم اللّه تعالى الميتة، و الدم، و لحم الخنزير؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه تبارك و تعالى فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق و علم ما يقوّم به أبدانهم و ما يصلحهم فحلّه و أباحه؛ تقصّدا منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه لهم في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلاّ به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثمّ قال:

أمّا الميتة، فإنّه لا يدنو منها أحد و لا يأكلها إلاّ من ضعف بدنه و نحل جسمه و وهنت قوّته و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلاّ فجأة.

و أمّا الدم، فإنّه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلّة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.

و أمّا لحم الخنزير، فإنّ اللّه تعالى مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير و القرد و الدبّ ، و ما كان من الإمساخ ثمّ نهى عن أكل مثله لكي لا ينتفع بها و لا يستخفّ بعقوبته.

و أمّا الخمر، فإنّه حرّمها لفعلها و فسادها، و قال: إنّ مدمن الخمر كعابد وثن و يورثه ارتعاشا، و يذهب بنوره و يهدم مروّته، و يحمله على أن يكسب على المحارم

ص: 330

من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يورد شاربها إلاّ الى كلّ شرّ».

أقول: تدلّ هذه الرواية - مع قطع النظر عن السند - على امور:

الأوّل: أنّ سؤال الرواة عن بعض الحكم للأحكام مع أنّ الحكم فطري و عقلي لا ينافي الفطريّة كما في المقام، فإنّ سؤاله عن العلل في الحرمة للأمور المذكورة لا ينافي أن يكون قبح أكلها فطريا تتنفّر الطباع السليمة البشريّة عنها كما تقدّم؛ لأنّ الفطرة المستقيمة قد تخمد و تضيع، و أنّ الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام يخرجونها عن خمودها و يبرزونها عن خفائها، فإنّ المشرّع الّذي هو غني في ذاته و صفاته، لا حاجة له فيما شرّع، و إنّ المصالح و المفاسد ترجعان بالآخرة الى المكلّف.

الثاني: أنّ الحكم و المصالح أو المفاسد الّتي وراء الأحكام قد تظهر في هذا العالم - حسب سيره بأطواره، و أدواره، و مراحله - أو في عالم البرزخ أو في عالم الآخرة، و في الأخيرين لا محيص الى ذلك إلاّ بالوحي؛ لأنّ سلطان العلم مقهور فيهما.

و قد تكشف العلوم الحديثة عن بعض الحكم الّتي وراء الأحكام، إلاّ أنّها محدودة، فقد تكون الحكمة في تشريع الحكم أوسع و أسمى ممّا كشفتها، فإنّها نظريات محدودة قد لا يقتنع بها علماء آخرون، و من هنا قال بعض العلماء: «إنّ حكم التكاليف هي في غاية الخفاء، لا يمكن دركها إلاّ بدليل شرعي فقط».

و كيف كان، فما ورد من الشرع في بيان حكم التكاليف ممّا لا شكّ في واقعيتها و صحّتها، و ما خفيت علينا كانت لمصالح لعلّ منها حفظ الانقياد، و صون العبوديّة عن الخلل.

الثالث: أنّ ما ذكر فيها من الحكم إنّما هو من باب الغالب لا من باب الاستقصاء الكامل. و من هنا لا وقع للإشكال بأنّ ما ذكر من الحكم فيها كضعف البدن، و نحولة الجسم، و انقطاع النسل، و غيرها ممّا يمكن رفعها بغذاء أو دواء آخر؛

ص: 331

لأنّ الحكم عنده تعالى في تشريع الأحكام أوسع و أكثر ممّا وصل إلينا، مع أنّ الحكمة ليست كالعلّة بحيث يدور الحكم مدارها، كما ثبت في محلّه.

الرابع: أنّ المفاسد الّتي تكون وراء تشريع الأحكام - المعبّر عنها بالحكم أو المصالح - قد تكون ظاهريّة مشهودة، مثل انقطاع النسل في أكل الميتة أو موت الفجأة فيه، و كذا نحولة الجسم، و قد تكون معنويّة كالكلب (الحرص) في شرب الدم أو قسوة القلب، و كذا قلّة الرأفة و الرحمة، فإنّها صفات دنيّة معنويّة، فقد يوجب ارتكاب الحرام المفسدة الظاهريّة و المعنويّة، و قد يوجب إحداهما دون الاخرى.

الخامس: أنّ قوله عليه السّلام: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن»، في الإثم و البعد عن ما يوجب التقرّب لديه تعالى.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تأكل الشريطة فإنّها ذبيحة الشيطان».

أقول: الشريطة هي الذبيحة الّتي لا تقطع أوداجها و يستقصي ذبحها، و كانت العرب في الجاهليّة يقطعون بعض حلق الذبيحة و يتركونها حتّى تموت للقسوة الّتي توطّنت في نفوسهم، و إنّما أضافها الى الشيطان لأنّه هو الّذي علّمهم ذلك و حمّلهم عليه و سوّله لهم.

القسم الثاني: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في تفسير العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في الآية: «يوم يقوم القائم (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) يئس بنو امية، فهم الّذين كفروا يئسوا من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: الاختصاص بذلك اليوم لأنّه يوم ظهور الحقّ ، و زمان بسط العدل، و تقدّم في التفسير أنّ المراد من اليوم الزمان اللائق لإظهار الحقّ ، و هو ممتد من حين البعثة الى يوم القيامة.

ص: 332

و تقدّم أنّ للكفر مراتب، و في كلّ مرتبة دركات، و إنّ الرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال: ذلك لما أنزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: إنّ ذلك من باب التفسير بأجلى المصاديق؛ لأنّ الحقّ إذا ظهر و ثبت يحصل اليأس لمقابله و معانده.

و في شعب الإيمان للبيهقي عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، و لكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، و هي الموبقات يوم القيامة، فاتّقوا المظالم ما استطعتم».

أقول: الموبقات المهالك.

و في حديث جابر عنه صلّى اللّه عليه و آله «و لكن في التحريش بينهم»، أي: أنّ الشيطان يحرش بينكم حتّى يوقعكم في الموبقات.

القسم الثالث: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ، و قد وردت روايات كثيرة جدا متواترة - نصّا و معنى - عن العامّة و الخاصّة أنّ المراد من هذه الآية الشريفة هو يوم الغدير الّذي نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام بالولاية، و قد ضبط أكثرها مع التحقيق في أسانيدها و كونها ثقات غير واحد من علماء الفريقين، و كتبوا في ذلك كتبا كثيرة جدا.

فعن ابن شهر آشوب في كتاب المناقب قال: «سمعت أبا المعالي الجويني - إمام الحرمين و أستاذ الغزالي - يتعجّب و يقول: شاهدت مجلدا ببغداد في يدي صحاف، فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلد الثامن و العشرون من طرق قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و يتلوه المجلد التاسع و العشرون»، و قد ذكر الكتب بأسمائها و سرد أحوال مؤلّفيها السيد مير حامد صاحب كتاب عبقات الأنوار، و تبعه الشيخ الأميني في كتابه الغدير و غيرهما (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين).

ص: 333

و من العجب أنّه لم تنل فريضة من فرائض اللّه تعالى بمثل هذه الأهميّة بالوحي، و الضبط، و التأكيد، و الإشهاد كفريضة الولاية، و لم تجحد و لم تنكر كمثل هذه الفريضة في الشريعة المحمديّة الغراء، و مع ذلك كلّه فالحقّ واضح و الشمس ساطعة، فعن مولانا الصادق عليه السّلام أنّ حقوق الناس تعطى بشهادة شاهدين، و ما اعطي أمير المؤمنين بشهادة عشرة آلاف أنفس، يعني: يوم غدير خم، إن هذا إلاّ الضلال عن الحقّ المبين، قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلالُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ * كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ .

و في الدرّ المنثور عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية و هبط جبرئيل عليه بهذه الآية:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

أقول: بعد ما سبق أنّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الشريفة متواترة و متّفقة المعنى، لا يجدي رمي الحديث بضعف السند بعد التواتر و صراحة الدلالة.

كما فعله بعض المفسّرين، و لم يذكر وجه الضعف في هذا السند و أمثاله.

بل إنّ الروايات الدالّة على أنّ المراد من اليوم يوم عرفة لم تكن نقية السند؛ لأنّ فيها سمرة و هو معلوم الحال، و معاوية بن أبي سفيان، و على فرض الصحّة، فلا يبعد أن تكون الآية المباركة نزلت في يوم عرفة، و لكنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخّر إعلان الولاية الى يوم الغدير بوحي من السماء و لمصالح كثيرة كما يأتي، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله تلا الآية الشريفة مقارنة مع التبليغ في يوم الغدير، و يدلّ على ذلك تهنئة الخليفة الثاني لعلي عليه السّلام في يوم غدير خم مع قوله: إنّها نزلت في يوم عرفة كما في بعض الروايات.

فعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب اللّه له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم، بها أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيعة علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن

ص: 334

أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فأنزل اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ».

أقول: هذه الرواية صريحة في ما قلناه و ظاهرة في أنّ الآية الشريفة نزلت في يوم غدير خم و غير قابلة للتأويل.

و في تأريخ بغداد للخطيب البغدادي روى بسنده عن أبي هريرة قال: «من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيد علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال: أ لست ولي المؤمنين ؟! قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب:

بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مسلم، فأنزل اللّه تعالى:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».

أقول: الرواية ذكرها الخطيب في ترجمة حبشون الّذي نقل الرواية، و روى قريبا منها السّبيعي في تفسيره، و ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه السّلام.

و في شواهد التنزيل بإسناده عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الطواف إذ قال: أ فيكم علي بن أبي طالب ؟ قلنا: نعم يا رسول اللّه، فقرّبه النبي صلّى اللّه عليه و آله فضرب على منكبيه و قال: طوباك يا علي، أنزلت عليّ في وقتي هذا آية ذكري و إيّاك فيها سواء: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ».

أقول: لا منافاة في أنّ الآية المباركة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل يوم الغدير بأيام و علم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جمع آخرون، و لكن أخّر صلّى اللّه عليه و آله إعلانها الى يوم الغدير حتّى نصّب عليا بالولاية كما تقدّم، و يدلّ على ذلك ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي، قال: حدّثني علي بن أحمد بن خلف الشيباني، عن عبد اللّه بن علي ابن المتوكل، عن بشر بن غياث، عن سليمان بن العمر العامري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أيّام الموسم

ص: 335

إذ التفت الى علي فقال: هنيئا لك يا أبا الحسن! إنّ اللّه قد أنزل عليّ آية محكمة غير متشابهة، ذكري و إيّاك فيها سواء اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية».

أقول: الظاهر تعدّد الواقعة، و تدلّ على ما ذكرنا روايات اخرى.

و في شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري:

«انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما نزلت عليه اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً قال: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي و ولاية علي بن أبي طالب، ثمّ قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله».

أقول: و في رواية اخرى عن أبي سعيد الخدري أيضا: «انّ النبي دعا الناس الى علي فأخذ بضبعيه فرفعهما ثمّ لم يفترقا حتّى نزلت الآية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي »، فمن سياقهما يستفاد أنّ الآية المباركة نزلت في يوم غدير خم، و تقدّم في التفسير معنى إكمال الدين و إتمام النعمة عليه.

و في تفسير علي بن إبراهيم بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «آخر فريضة أنزلها (اللّه) الولاية، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمّ أنزل اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بكراع الغميم، فأقامها رسول اللّه بالجحفة فلم تنزل بعدها فريضة».

أقول: كراع الغميم واد بالحجاز بينه و بين المدينة نحو من مائة و سبعين ميلا، و بينه و بين مكّة نحو ثلاثين، و هذه الرواية تقرب ما ذكرناه من أنّه لا تنافي بين أن تكون فريضة الولاية نزلت في مكّة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو في عرفة، و اخّر إعلامها حتّى وصل الى كراع الغميم الّذي هو في طريق الجحفة، فنزلت الآية المباركة عليه و نصّب عليا عليه السّلام في الجحفة لأهمّيّة الأمر؛ لأنّ الإسلام كالمادة للولاية، و لا قوام للمادة إلاّ بالصورة، و لا صورة إلاّ بالمادة، و قد ورد مضمون ذلك في روايات كثيرة.

و في أمالي الشيخ بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن علي عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: بناء الإسلام على خمس

ص: 336

خصال: على الشهادتين، و القرينتين، قيل له: أما الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان ؟ قال: الصلاة، و الزكاة، فإنّه لا تقبل إحداهما إلاّ بالأخرى، و الصيام و حجّ بيت اللّه من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية، فأنزل اللّه عزّ و جلّ :

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ».

أقول: الروايات الواردة بهذا المعنى من أنّ الإسلام بني على الخمس كما في الرواية فوق حدّ التواتر - لو صحّ التعبير - و قد جعل لها صاحب الوسائل بابا في مقدّمة العبادة من كتابه الشريف، و السرّ في هذا الاهتمام من قبل الشرع للولاية فإنّها كالحياة لأصول التكاليف و الشعائر الّتي قوام الدين بها، و هي بدونها مجرّد هيكل و قصب، و لم يتمحض في القلب حتّى تكون بها الحركة و السير الى اللّه تعالى.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «ولد نبيكم يوم الاثنين، و نبئ يوم الاثنين، و خرج من مكّة يوم الاثنين، و دخل المدينة يوم الاثنين، و فتح مكة يوم الاثنين، و نزلت سورة المائدة اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الاثنين، و توفي يوم الاثنين».

أقول: لو صحّ الخبر لكان من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّه الى ذلك أشارت ابنة أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبها: «آه من يوم الاثنين»، أي المصائب الّتي حلّت بالأمة من بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و في بعض التواريخ أنّ واقعة الطفّ كانت يوم الاثنين أيضا.

القسم الرابع: من الروايات الواردة في تفسير الآيات المباركة هي ما عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، قال: «هو رخصة للمضطر أن يأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و المخمصة الجوع».

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ قال: «يقول غير متعمّد لإثم».

أقول: المخمصة و إن كانت هي المجاعة، و لكن تستعمل في كلّ شدّة

ص: 337

و ضيق؛ و لذا لا يبعد استفادة تشريع التقيّة من هذه الآية المباركة؛ لأنّ في تركها شدّة و ضيقا، فيتبع الإثم، أي: المعاند للحقّ من غير ميل قلبي، أي: غير متجانف، و سيأتي البحث عنها في محلّه.

بحث فلسفي

ثبت في الفلسفة الإلهيّة أنّ الكمال المطلق - أو الكمال الحقيقي - منحصر في المبدأ، و به جلّ شأنه، و هو تعالى يفيض على الكائنات عامّة و على الخواص منها، كما يفيض على أخصّ الخواص كالأنبياء و الأولياء و الأبرار من الأخيار، كلّ حسب لياقته.

و المراد من الإطلاق هنا عدم إمكان التحديد من جميع الجهات و الجوانب و المراتب؛ لأنّ جلّ شأنه موجد الكمال، و عين الكمال و منه الكمال و الكمال كلّه يرجع إليه جلّت عظمته.

و بتعبير أهل الذوق من العرفاء: حقيقة كماليّة وسيعة - لا يمكن تحديدها - و إنّ الحدود بأقسامها، و التحاليل بأنواعها، و إنّ النفوس مهما بلغت من العلوّ و السمو قاصرة عن دركها، فهو جلّ شأنه غيب و ظهور، و غيبه من أسمى الكمال و ظهوره عين الكمال و غايته، فإنّه الكمال و إليه ينتهي شرف الكمال.

و لا نقصد من هذا التعبير وحدة الوجود و الموجود حتّى يستلزم محاذير و مفاسد، و إنّما نعني أنّ الكمال الواقعي و الحقيقي منحصر به تعالى و فائض منه، و أنّ الكمالات مهما بلغت من الرتبة إشراق منه و ظل، و هذا يستلزم وحدة الوجود الّذي هو مقرّر في الشرع، و عليه معظم الحكماء من المشّائيين و الإشراقيين؛ لأنّ التحديد - بمعناه العامّ - في شأنه جلّت عظمته أو في صفاته نقص و يستتبع تخلّفات، و يستلزم المفاسد الّتي لا يمكن الالتزام بها و يجب الفرار عنها؛ و لذلك ترى أنّ الأئمة المعصومين عليهم السّلام كانوا يتوسّلون بالجانب السلبي في تعريف ذاته أو بيان صفاته، كما

ص: 338

تقدّم مكرّرا، فعن علي عليه السّلام في تعريف قدرته تعالى: «لا يعجزه شيء»، و في إحاطته تعالى: «لا يمنعه شيء»، و في حياته: «لا يموت»، و في قيموميته: «لا وجود و لا دوام إلاّ به» و هكذا.

و تدلّ على ما تقدّم من أنّ الكمال المطلق منحصر به تعالى و أنّ صفاته جلّ شأنه عين الكمال الحقيقي بالأدلّة العقليّة و النقليّة.

أمّا الاولى، فهي كثيرة، أهمّها هو: أنّه تعالى جامع لجميع الصفات الكماليّة.

فلا يعقل كمال فوق ذلك، و إلاّ استلزم الخلف أو النقص الّذي في حقّه محال.

و أنّ الكمالات كلّها فيوضات ترجع إليه تعالى و تصدر منه، فلا يعقل أن يكون معطي الشيء فاقدا له.

على أنّه لا تحديد لقدرته فتتعلّق القدرة بما سواه، فكلّ كمال تحت قدرته و ذاته فوق الكمال؛ و لذا قال بعضهم: سلب الكمال في حقّه محال.

مع أنّه خالق كلّ شيء، فمقتضى إيجاده لكلّ شيء أن يكون جامعا للكمالات، و أنّها ترجع إليه سبحانه و تعالى، و إلاّ استلزم الخلف و لا يكون خالق كلّ شيء، و قد ثبت في محلّه أنّه جلّ شأنه بوحده خالق كلّ شيء، و في الحديث:

«نعمتان ما خرج موجود عنهما، نعمة الإيجاد و نعمة الإمداد»، و هناك أدلّة اخرى مذكورة في المفصّلات من الفلسفة الإلهيّة.

و اما الأدلّة النقليّة، فهي كثيرة، أهمّها هي: الآيات الشريفة الدالّة على نفي الشريك بتعابيرها المختلفة، فإنّها تدلّ على نفي الشرك في الذات و في الصفات، و هذا عين الكمال الحقيقي، و إفاضة الكمالات منه إلى العوالم و إضافة كمالاتها إليه كمال آخر منحصر به تعالى.

و كذا قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فالعزّة بمعناها الوسيع غير المتناهي له جلّت عظمته، فتشمل جميع الكمالات؛ لأنّها من أجلى مصاديق العزّ، و بمقتضى الحصر في الآية المباركة تكون الكمالات كلّها له و منه و إليه.

ص: 339

و كذا قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 26]، فالملك بمعناه العامّ و بمراتبه اللامحدودة تحت إرادته، و كذا الخير، و هما من أسمى الكمالات. و الآيات المباركة الدالّة على ذلك كثيرة جدا.

ثمّ إنّ صفات الذات كالعلم و الحياة، و القيّوميّة و غيرها هي الكمال الحقيقي و إليها ترجع الكمالات كلّها في جميع العوالم، و هذا ممّا لا شكّ فيه.

و أمّا صفات الفعل كالرزق، و الخلق، و الهبة، و الرحمة، و الغفران، و العذاب كلّها من الكمال المطلق؛ لأنّها من مظاهر أسمائه المنحصرة به جلّ شأنه، و اتّصافها بالوجود و العدم لا يضرّ بالمقام.

و إنّ ما سواه تعالى من الكائنات كلّها متّصفة بنوع من الكمال، و هو الوجود الّذي هو الأصل لإضافتها إليه تعالى بالإيجاد.

و ما اتّصفت منها بالحياة بمراتبها و أقسامها غير المتناهية لها نوع آخر من الكمال يعبّر عنه بالكمال العامّ ، و ما كان فيها من الآثار و الخواص كان لها كمال خاصّ حسب لياقتها و قابليتها.

و أمّا ما أفاض على الإنسان من العقل - الّذي يدرك به و يفكر و يرتقي - فيعبّر عنه بالكمال الأخصّ ، و لهذا الكمال مراتب حسب شرف القرب إليه تعالى و بعده، كما أنّ ما أفاض على الأولياء و الأنبياء هو من أشرف الكمالات حسب استعدادهم و لياقتهم.

و إنّ الشرائع الإلهيّة و التكاليف السماويّة و الكتب المنزلة على الأنبياء كلّها من الكمالات النازلة من الربّ الجليل؛ لاستكمال نفس الإنسان و الرقي بها الى المقامات العالية، و كذا العلوم بأقسامها.

ثمّ إنّ الأديان السماويّة الّتي نزلت لأجل تهذيب النفوس و إيصالها الى السعادة و إخراجها من الظلمات الى النور، لا بدّ فيها من الاستعداد و الأهليّة في

ص: 340

النفوس، فتكون الإكمال الوارد في الآية الكريمة بهذا المعنى كما تدلّ على ذلك روايات وردت عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هذا كلّه في الكمال المطلق و الحقيقي.

و إنّ الكمالات و جميع العوالم ترجع الى كمالاته تعالى.

و أمّا النقائص، فترجع إمّا الى عدم الاستعداد للتلقّي، أو لأجل طروّ مانع، أو لأجل إغواء الشيطان في الإنسان. و سيأتي إن شاء اللّه تعالى البحث عن كلّ منها في المورد المناسب.

بحث فقهي

يستفاد من الآية المباركة قواعد فقهيّة، مضافا الى أحكام خاصّة.

أمّا الاولى فهي ثلاثة:

الاولى: قاعدة: «حرمة أكل الميتة إلاّ ما خرج بالدليل»، كما في حالات الاضطرار، أو ميتة السمك مع تحقّق شروط حلّيتها.

و تختصّ هذه القاعدة بالحيوانات الّتي يحلّ أكلها ذاتا - كالأنعام الثلاثة، و أنواع الظبي، و أقسام الطيور الّتي فيها إحدى علامات الحلّ - و أمّا غيرها من محرّمات الأكل - كالفيران، و السباع، و الحشرات و بعض الطيور الفاقدة لعلامات الحلّ ، فلا أثر لهذه القاعدة؛ لأنّ لحومها محرّمة مطلقا، سواء ذكيت أم ماتت حتف أنفها. نعم للتذكية أثر خاصّ ، و هو طهارة جلودها فقط، و لا أثر لها في الحشرات؛ لأنّها طاهرة حيّا كانت أم ميتة، كما فصّل في الفقه.

و أمّا الحيوانات الّتي حرّم أكل لحمها بالعارض كالجلال، و موطوء الإنسان، فإنّ لحومها حرّمت إمّا بالفعل الشنيع، أو بأكل النجاسة. نعم في خصوص الجلل جعل الشارع سببا لزواله كما هو مذكور في الفقه، بخلاف الوطء فلا تزول الحرمة مطلقا، فيجب قتله و دفنه إن كان ممّا يراد أكله، و الجلل ليس مانعا عن وقوع التذكية الّتي كانت ثابتة قبل الجلل، لإطلاقات الأدلّة، و أنّ المحرّم بالذات لو كان قابلا لها فالمحرم بالعرض بالأولى، و كذا في الوطء.

ص: 341

كما أنّ القاعدة من القواعد الّتي لم تنلها يد التخصيص إلاّ في الحيوانات البحريّة بشرائطها، و في غيرها باق على عمومها، و أمّا الاضطرار فعدّه من التخصيص لها نحو تسامح، بل هو تخصّص - كما في مورد النسيان - إذ «ما من شيء إلاّ و قد أحلّه الاضطرار»، إلاّ أنّه مضيّق في المقام كما يأتي.

و كيف كان، فقد دلّت الأدلّة الأربعة على حجّيتها.

أمّا الكتاب، فقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ، و قد تكرّر هذا التعبير في القرآن الكريم أكثر من ثلاثة مواضع، و إنّ متعلّق الحكم (الحرمة) هو الأكل؛ لأنّه النفع الشائع و الغالب منها.

و أمّا السنّة، فروايات كثيرة متواترة تقدّم بعضها في البحث الروائي، و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة لم يذكر اسم اللّه عليها».

و في معتبرة محمد بن قيس عنه عليه السّلام أيضا: «ما فعلت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت، و كلوا ممّا أدركتم حيّا و ذكرت اسم اللّه عليه» و غيرها من الروايات.

و من الإجماع ممّا لا خلاف بين المسلمين، بل عدّ ذلك من ضروريات الفقه، كما بيّنا ذلك في الفقه.

و أمّا العقل، فإنّه يستقذر أكل الميتة؛ لأنّه لا يؤمن من الأمراض و الاضرار.

ثمّ إنّ المراد من الميتة الأعمّ ممّا مات حتف أنفه، أو قتل، و ذبح على غير الوجه الشرعي.

و تثبت على الميتة أحكام أربعة:

الأول: النجاسة «فكلّ ميت نجس إلاّ ما خرج بالدليل»، كالسمك و الحشرات ممّا لا نفس سائلة له، و ما ذبح على غير الوجه الشرعي على المبنى، و إلاّ فالمشهور النجاسة، و هذه قاعدة مستقلّة اخرى.

الثاني: عدم صحّة الصلاة فيها و في أجزائها، إلاّ ما استثنى.

ص: 342

الثالث: حرمة الانتفاع منها في الجملة كما ثبت ذلك في المكاسب، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الرابع: حرمة الأكل.

و التفكيك في هذه الأحكام لا يصحّ إلاّ بالدليل المعتبر شرعا.

القاعدة الثانية: «كلّ دم يحرم شربه إلاّ ما خرج بالدليل»، سواء أ كان دم إنسان أم حيوان - مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم - مسفوحا أم غير مسفوح، نجسا أم طاهرا كدم العلقة.

و الدليل عليها قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ بتقريب ما تقدّم في حرمة أكل الميتة.

إن قلت: إنّ الدم الوارد في الآية المباركة هو الدم المسفوح، فلا تصير الآية الشريفة أصلا للقاعدة.

قلت: الدم المسفوح هو الغالب و الأكثر في الدماء المراقة، و غيره يلحق به للأدلّة الدالّة على ذلك في السنّة، إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على الحلّية.

و قول أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «و حرّم اللّه الدم كتحريم الميتة»، و قريب منه غيره من الروايات، و قد ورد عن الصادق عليه السّلام في تعليل حرمة أكل الطحال: «لأنّه دم».

و ادّعى غير واحد من الفقهاء الإجماع على ذلك، مضافا إلى أنّ الدم نجس - إلاّ ما استثني - و شرب كلّ نجس حرام بالضرورة الفقهيّة.

و إنّه من الخبائث الّتي تستقذرها الطباع السليمة، فالعقل يحكم باجتنابه.

و لا فرق في الدم من الحيوان ذي النفس السائلة أو غير ذي النفس السائلة كالوزغ، و الضفدع، و القرد، مسفوحا أو غير مسفوح كالعلقة، و الدم في البيضة.

كما لا فرق بين أن يكون مايعا فيشربه أو يابسا فيأكله، كما لا فرق بين أن يكون ممتزجا مع شيء آخر أو لا، إلاّ أن يكون مستهلكا بحيث يراه العرف معدوما، كلّ ذلك للقاعدة المتقدّمة.

ص: 343

ثمّ إنّ القاعدة لا تشمل ما تداول في هذه الأعصار من التزريق؛ لعدم تحقّق عنوان الشرب، كما لا تشمل ما لو انقلب الدم الى شيء آخر.

و قد استثنيت من القاعدة المتقدّمة موارد:

منها: الدم المتخلّف في الذبيحة لإطلاق دليل حلّية أكل الذبيحة، كما مرّ.

و يشترط فيه أن يخرج الدم عن الذبيحة بالقدر المتعارف من مثلها، و أن تكون مأكول اللحم، و أن لا يرجع دم المذبح الى الجوف، كلّ ذلك لأجل أدلّة خاصّة ذكرناها في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام).

و منها: الدم من غير ذي النفس ممّا حلّ أكله كالسمك الحلال إذا أكل مع السمك، و أمّا لو شرب منفردا فلا يبعد الحرمة للقاعدة المتقدّمة، و أنّه من الخبائث و إن كان طاهرا.

و منها: القلب و الكبد من الحيوان مأكول اللحم، لقاعدة الحلّية، و عموم حلّية الذبيحة الشامل لجميع أجزائها الداخليّة و الخارجيّة. و لكن المسألة مع ذلك مورد الإشكال تعرّضنا له في الفقه.

و هذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة لها امتيازاتها، كتقدّمها على الأصول العمليّة، و حجّية لوازمها، و التمسّك بها في موارد الشكّ .

و تثبت على الدم أحكام ثلاثة:

الأول: النجاسة، فكلّ دم نجس إلاّ ما أخرجه الدليل، كدم الحيوان الّذي لا نفس له سائلة، كالسمك و البرغوث و غيرهما.

الثاني: عدم جواز الانتفاع منه، إلاّ إذا كان فيه غرض عقلائي معتدّ به فيصحّ بيعه، كما ذكرناه في المكاسب.

الثالث: حرمة شربه، إلاّ في موارد خاصّة كما مرّ، و أمّا الصلاة مع الدم في اللباس أو على البدن، ففيه تفصيل لا يسع المقام ذكره، و من شاء فليرجع الى كتاب الطهارة في شرائط لباس المصلّي. و اللّه العالم.

القاعدة الثالثة: «كلّ حيوان قابل للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل»، و الأصل

ص: 344

في هذه القاعدة عموم قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بقرينة ما ورد في السنّة الشريفة.

و دعوى: أنّ الآية المباركة في مقام بيان كيفيّة زهوق الروح، فبعض منها توجب الحرمة، و بعض منها توجب الحلّية، و هو التذكية.

قابلة للمناقشة؛ لأنّ الآية الكريمة - بضميمة الروايات - أثبتت التذكية في الحيوانات و جعلت الحرمة للبقية، سواء أ كان الحيوان غير قابل لها، أو أنّ زهوق الروح لم يكن بطريق التذكية، فعموم الآية الشريفة بقرينة السنّة يكون أصلا للقاعدة.

و من السنّة الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة في الفقه، كأبواب الصيد و الذباحة، و لباس المصلّي، و الإحرام و غيرها، و هي كثيرة فمنها:

صحيح ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود قال عليه السّلام: لا بأس بذلك»، فإذا لم تكن الجلود قابلة للتذكية، فجواب الإمام بنفي البأس مطلقا لم يكن صحيحا، كما هو واضح.

و في صحيح ابن بكير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله و حرّم عليك أكله، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد، ذكاه الذابح أو لم يذكه»، إذ لو لا قبول التذكية لما صحّ قوله عليه السّلام: «ذكاه الذابح أو لم يذكه»، و غيرهما من الروايات.

و من الإجماع ما ادّعاه صاحب الحدائق على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل، كالكلب و الخنزير و الإنسان، و أيّده صاحب الجواهر قدس سرّه، كما ذكرناه في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 345

أنّه هل تؤثّر التذكية فيه ؟ فذاك بحث آخر. و الحيوان الّذي يقبل للتذكية بحكم الشرع على أقسام:

الأوّل: الحيوان الّذي يحلّ أكله ذاتا و إن حرم بالعارض - كالجلال و الموطوء - بحريّا كالسمك أو بريّا، وحشيّا كان أو مأنوسا، طيرا كان أو غيره.

و إن اختلف في كيفيّة التذكية على ما فصّل في الفقه، و لا شكّ في وقوع التذكية في هذا القسم، و هي تؤثّر فيها لطهارة لحمها و جلدها و الصلاة و الطواف في أجزائها و حلّية أكل لحمها إن لم يحرم اللحم بالعارض.

الثاني: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و كان له نفس سائلة و لكنّه نجس العين، كالكلب و الخنزير، فإنّه غير قابل للتذكية؛ لفرض أنّه حرام و نجس على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فلا أثر للتذكية، و أنّ القاعدة لا أثر لها في هذا القسم، و يلحق بهذا القسم المسوخ كالفيل و الذئب؛ لأجل دليل خاصّ ، فيجري عليها حكم عدم التذكية و لو بعد التذكية.

و لكن، نسب الى جمع من الفقهاء منهم الشهيد و المرتضى قبولها للتذكية، مستدلّين بأدلّة تعرّضنا لها في الفقه و ناقشناها، فمن شاء فليرجع الى كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).

الثالث: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و له نفس سائلة و لم يكن نجس العين، كالسباع الّتي تفترس الحيوانات و تأكل اللحوم، سواء أ كانت من الوحوش كالأسد و النمر و الفهد و الثعلب و ابن آوى و غيرها. أم من الطيور كالصقر، و البازي و الباشق و غيرها، فتؤثّر التذكية فيها و بها تطهر لحومها - و إن حرم أكلها - و جلودها و حلّ الانتفاع بها في غير الصلاة و الطواف، دبغت أو لم تدبغ.

الرابع: الحشرات الّتي تسكن جوف الأرض، كالفارة و ابن عرس، فمقتضى القاعدة المتقدّمة أنّها قابلة للتذكية؛ للشكّ في قبولها، كما ذهب إليها صاحبا الحدائق و الجواهر، و إن نسب الى المشهور خلاف ذلك. و يظهر ممّا تقدّم المناقشة في ثبوت الشهرة في المقام.

ص: 346

الخامس: الحيوان الّذي ليس له نفس سائلة لا أثر للتذكية فيه أصلا، لا من حيث الطهارة، و لا من حيث الحلّية؛ لأنّه طاهر و محرّم أكله على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فالقاعدة المتقدّمة لها الأثر في قسم خاصّ من الحيوانات كما عرفت، و كذا في موارد الشكّ في المسخ.

ثمّ إنّ تذكية جميع ما يقبل التذكية من الحيوان المحرّم الأكل إنّما يكون بالذبح مع الشرائط المعتبرة - من التسمية، و الاستقبال، و إسلام الذابح، و فري الأوداج، و تتابع الفري - و كذا الاصطياد بالآلة الجماديّة في خصوص الممتنع. و أمّا تذكيتها بالكلب المعلّم بالاصطياد مورد الإشكال، و المسألة محرّرة في الفقه و اللّه العالم.

ثمّ إن هنا أصلا موضوعيّا، و هو أصالة عدم التذكية تمنع من جريان أصل البراءة و الإباحة؛ لأنّهما أصل حكمي، و المراد من عدم التذكية (غير المذكي) في اصطلاح الكتاب و السنّة الميتة، فهما و إن اختلفا مفهوما لكنّهما متّحدان شرعا و خارجا، و يترتّب عليه أن بجريانها يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل؛ لأنّه مع وحدة الموضوع يثبت كلّ منهما، فلا يكون الأصل مثبتا هذا.

و إن أمكنت المناقشة في ذلك من أنّه لا دليل على الاتّحاد، إلاّ أنّ المشهور بين فقهاء الإماميّة (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) ذلك، و أنّ مخالفة المشهور نحو تعدّ، و اللّه العاصم من الزلل.

و كيف كان، فإنّ مورد جريان هذا الأصل في الشبهات الموضوعيّة فقط، و فيها أيضا لا بنحو السعة في أية شبهة موضوعيّة فرضت و تحقّقت، فلو شكّ في أنّه هل يعتبر الاضطجاع على الأيسر أو على الأيمن في الحيوان المذبوح ؟ أو هل يعتبر أن يكون الحيوان مربوطا بأن يشدّ يد الغنم مع إحدى رجليه أو لا؟ أو هل يعتبر أن يكون الذابح قائما؟ إلى غير ذلك، فإنّ في جميع هذه الموارد و أمثالها لا تجري أصالة عدم التذكية، بل يرجع الى أصالة عدم الاشتراط أو إلى العموم و الإطلاق.

و إنّما تختصّ أصالة عدم التذكية في خصوص الشروط الّتي نصّ الشارع

ص: 347

على اعتبارها ثمّ شكّ في تحقّقها في الخارج و عدم أمارة شرعيّة تدلّ عليها؛ لأصالة عدم تحقّق ذلك الشرط، فلا تحلّ الذبيحة حينئذ و تكون محكومة بالنجاسة.

و تدلّ الأدلّة الشرعيّة على اعتبارها، فمن الكتاب قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بتقرير أنّه لا تحلّ الذبيحة إلاّ إذا أحرزتم التذكية.

و من السنّة روايات كثيرة، منها ما عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها»، و مثله غيره، و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل ممّا لا ينكر. و أمّا النجاسة فهي كما ذهب إليها المشهور، و هناك روايات اخرى ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول).

و من الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء، و بقية الكلام موكولة إلى علمي الأصول و الفقه.

و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآية المباركة فهي:

الأوّل: أنّه لا فرق في أسباب الموت و الخنق و غيرهما بين أن تكون بالاختيار أو بغير الاختيار، عن علم كانت أو جهل؛ لإطلاق الآية المباركة. نعم لو كان الموت و الخنق و الإهلال لغير اللّه تعالى و غيرها ممّا ذكر في الآية الكريمة عن علم و عمد، فإنّه مضافا الى جعل الحيوان ميتا أنّه ارتكب محرّما أيضا؛ لذيل الآية الشريفة: ذلِكُمْ فِسْقٌ ، إن لم يترتّب عنوان محرّم آخر، كالإسراف و غيره.

الثاني: تدلّ الآية المباركة على أنّ الاضطرار المتجانف للإثم لا يوجب رفع الحرمة، هذا إن كان باقيا على بغيه و تجرؤه. و أمّا لو تاب يجوز له أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار؛ لتحقّق عنوان «غير متجانف لإثم».

الثالث: لا بدّ في مورد الاضطرار من ارتكاب أخفّ المحذورين، فلو دار الأمر بين أكل لحم الخنزير أو شاة منخنقة، فالظاهر يتعين الثاني؛ لأنّه أخفّ من الأوّل. و كذا بالنسبة الى نفس الأكل كما في بعض الروايات: «يسد رمقه».

الرابع: أنّه لا يتحقّق الاضطرار لو وجد سبيلا الى الحلّية موضوعا أو حكما.

ص: 348

الخامس: لو تحقّق الاضطرار من غير مخمصة، بل كان لأجل التداوي مثلا يعتبر فيه أيضا أن لا يكون متجانفا لإثم، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ * [سورة الأنعام، الآية: 145].

السادس: أنّ المستفاد من سياق الآية المباركة أنّه لو اضطر الى أكل ميتة حال المخمصة، و لم يكن متجانفا لإثم و لم يأكل - أو صام - فمات أثم؛ لأنّه أعان على نفسه و خالف تكليفه، فإنّ حفظ النفس واجب شرعا و عقلا.

و أمّا لو امتنع عن التداوي بالميتة أو بالخمر حتّى مات، فإنّه لا يأثم لأنّه لا يعلم أنّ الميتة أو الخمر يشفيه. نعم لو علم ذلك و لم يأكلها - أو لم يشربها - كان حكمه حكم الفرع الأوّل، و اللّه العالم.

بحث عرفاني

ظاهر الآية المباركة و إن كان خطابا للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم و تنوير قلوبهم، و لكن يحتمل أن يكون باطنها عتابا لأهل السير و السلوك الّذين يطلبون الحقّ و يسعون للوصول الى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ أي: الدنيا بأسرها، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة، فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة و السلام): «و اللّه لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت»، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ و السالكين الى ساحة قربه، وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ كذلك حرّمت عليهم الصفات الّتي توجب البعد عن الأخلاق السامية كالحرص و القسوة، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا و متغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و أيضا حرّمت عليهم كلّ فعل رفع صوت النفس بالأمر به؛ لأنّ صوتها لغير اللّه تعالى، وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ و كذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية الى اللّه العظيم بمخالب

ص: 349

الأطماع، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنة فيها بالرياء و الإسماع، أو بضرب جرح الصدر المنشرح بالإسلام و المهيّأ للحضور عند صاحب القلب و خالقه العلاّم، وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ فحرّم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين إلى أسفل السافلين باتّباع الشهوات و التعلّق بالماديات، وَ اَلنَّطِيحَةُ أي: حرّم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر و المماراة بالعلم و الزهد - حتّى في السير و السلوك - بين الأخوان، وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ فحرّم عليهم القرب عن كلّ ظالم الّذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب، وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ كما حرّم عليهم تقرّب نفوسهم لبيوت الأوثان، و هي المظاهر الموجبة للصدّ عن معرفة اللّه تعالى بالتوغّل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخيار و الأبرار، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فلا تكونوا متردّدين متفئلين غير متوكّلين على اللّه تعالى بفتح قلوبكم لسهام الشيطان.

فإذا خلصتم من هذه الدواهي، و تركتم هذه القبائح، و خرجتم من هذه الظلمات لكون ذلِكُمْ فِسْقٌ ، أي: أنّ جميعها مهالك و ظلمات توجب إماتة القلب، و إخماد الفطرة، و العذاب الأليم؛ لأنّه يوجب الخروج عن طاعة اللّه تعالى ف اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لتحلية نفوسكم بالفيوضات الإلهيّة بعد التخلية عن المكائد الشيطانيّة، و يأسهم عن إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزيّنت و تلوّنت؛ لحصول المقصود بعد ما خلّصتم أنفسكم من تلك الظلمات، فعادت ليلكم نهارا و نهاركم أنوارا مِنْ دِينِكُمْ لأنّه المنهج الوحيد للرقي الى المراتب العالية، و الوصول الى المقامات السامية و الفوز بالسعادة الأبديّة، فَلا تَخْشَوْهُمْ لأنّكم بلغتم المرحلة الّتي لا تؤثّر فيكم مكائد الشيطان و مصائده، و نلتم المقام الّذي قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما فعلت يا بلال سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة»، وَ اِخْشَوْنِ لأنّ الكمال و التكامل منه تعالى و أنّ كيده متين و بطشه شديد، و لو لا إمداده لانعدمت الكائنات و زالت السماوات و فنيت الموجودات، اَلْيَوْمَ و هو يوم ظهور الحقّ و كشف الحقيقة، أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنّ كمال الدين كان في

ص: 350

الأزل موجودا و لكن أنعمت عليكم بالتوفيق لاستعدادكم بالتديّن به، و به تنكشف الحجب و ترتفع الأستار بعد صفاء نفوسكم و حياة قلوبكم، «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الّتي أنعمت بها عليكم من التوفيقات و التأييدات و إظهار دينكم على الأديان كلّها في الظاهر و الحقيقة بالولاية، وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً حتّى تستكملوا به نفوسكم و تسلكوا به الى اللّه تعالى بالخروج عن الوجود المجازي بالوصول الى الوجود الحقيقي، فإنّ ابتغاء رضاءه من أسمى الكمالات، و إنّ الإسلام هو دينه الى الأبد. فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ بالالتفات الى الدنيا مضطرا إليها في غاية الاضطرار، غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل إليها قلبا و غير متجاوز عن قدر الضرورة مع حفظ الحقّ و الحقيقة الّتي نزلت في قلبكم، و المعرفة الّتي أفاضها اللّه تعالى عليكم، فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لما ابتلى من الالتفات الى غيره تعالى المضطر إليه، رَحِيمٌ يهديهم الى الحقّ بإقامة الدين و السير في الصراط المستقيم بعد الاستغفار و طلب الاستعانة من العزيز القهّار. و من اللّه الاعتصام.

ص: 351

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (4) اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (5) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى بعض المحرّمات من الطعام و استثنى منها ما كان محلّلا على الإجمال، يذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات الشريفة بعض ما يحلّ أكله، و هي الطيبات بأجمعها، سواء أ كانت من اللحوم أم غيرها، و خصّ بالذكر منها ما اصطاده الإنسان بواسطة الحيوان المعلّم الّذي تعلّم على الصيد، و طعام أهل الكتاب، و أحلّ المحصنات من نسائهم للمؤمنين؛ دفعا لما قد يتوهّم من الحرمة في ذلك، فإنّ نفوس المؤمنين لا تطيب في طعامهم و لا في مناكحتهم بعد ما أمر عزّ و جلّ من الابتعاد عنهم و نهى عن ولايتهم و معاشرتهم و مخالطتهم، فتحدّد هذه الآية المباركة نوع العلاقة الّتي يجب على المؤمنين أن يتبعونها معهم، و تزيل الشكّ عن نفوسهم.

و تبيّن الآية الشريفة بأنّ دين الإسلام دين التآلف و الرحمة، و ينهى عن النفرة و المخادعة، و قد أوعد عزّ و جلّ كلّ من لم يتبع الإيمان و يكفر بما شرّعه اللّه تعالى.

ص: 352

التفسير

قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ .

تفصيل بعد إجمال ما ذكره عزّ و جلّ في قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ إثر بيان المحرّمات، إلاّ أنّ السؤال مطلق يشمل كلّ المحللاّت من الطعام و اللحوم. و الجملة حكاية عن قولهم، فالسؤال يتضمّن معنى القول، و ضمير الغائب (لهم) لأجل مراعاة ضمير الغائب في (يسألونك)، و يجوز في مثل ذلك مراعاة اللفظ و المعنى كليهما، فيقال مثلا: أقسم زيد لأفعلن كذا، أو ليفعلن كذا، فاندفع بذلك ما قيل إنّ السؤال ليس ممّا يعمل في الجمل.

قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ .

جواب عامّ يتضمّن الضابط الكلّي الّذي يميّز به الحلال من الحرام في المطاعم و المآكل.

و الطيبات: جمع الطيب، و هو ما تستلذّه النفس و الحواس، و يقابله الخبيث، قال تعالى: لا يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ [سورة المائدة، الآية: 100]، و يستعمل في الأمور الماديّة و المعنويّة، و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: «مرحبا بالطيب المطيّب»، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، قال تعالى:

وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور، الآية: 26]، و قال تعالى:

وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [سورة النساء، الآية: 3]، و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي اَلسَّماءِ [سورة إبراهيم، الآية: 24]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: 15].

و إطلاقه في المقام من غير تقييده بشيء للإعلام بأنّ المعتبر في تشخيصه الأذواق المتعارفة المستقيمة، فما يستطيبه العرف العامّ السليم البعيد عمّا يصرفه عن الجادة المستقيمة، فهو طيب و يكون حلالا، كما عرفت في الآية الشريفة السابقة.

ص: 353

و يستفاد من ذلك أنّ حلّية الطيبات عقليّة لا شرعيّة، كما أنّ إطلاق الحلّية في المقام يشمل جميع ما يفهم العرف من هذه الكلمة.

ثمّ إنّ المنطوق يدلّ على حلّية جميع الطيبات، و أمّا المفهوم فهو يدلّ على حرمة الخبائث، فيكون ما ذكره عزّ و جلّ في الآية السابقة من الخبائث الّتي تعوفها الطبائع السليمة.

قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .

عطف على الطيبات بتقدير مضاف، و تكون (ما) موصولة، أي احلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح بشروطه.

و يحتمل أن تكون (ما) شرطيّة و جوابها (فكلوا)، و الجملة عطف على جملة، فلا يحتاج الى تقدير.

و الجوارح: جمع جارحة، و الهاء فيها للمبالغة، و هي صفة غالبة لا يذكر معها الموصوف إلاّ قليلا، و اشتقاقها إمّا من قولهم: جرح فلان أهله، إذا أكسبهم، و فلان جارحة أهله أي: كاسبهم، سمّيت بذلك لأنّ أربابها يكسبون بصيدها.

أو لأنّها تجرح الصيد غالبا، فإنّ الصوائد من السباع يجرحون صيدهم بمقتضى الطبيعة السبعيّة المخلوقة فيها.

و الجوارح: هي الكواسب من الطير، و البهائم، كالصقر، و البازي و الكلاب، و الفهود.

و (مكلّبين) بالتشديد اسم فاعل من التكليب، و هو تعليم الكلاب و تأديبها للصيد، و غلّب ليشمل جميع الجوارح، أو لأنّ كلّ سبع يسمّى كلبا، ففي الحديث:

«اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» دعاء منه صلّى اللّه عليه و آله على لهب بن أبي لهب.

و قيل: إنّه مشتقّ من الكلب (بالتحريك)، بمعنى الضراوة و الحرص، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ تعليم الكلاب للصيد لا بدّ أن يكون بالتأديب و الإغراء بالصيد.

و كيف كان، فإنّ اشتقاق هذه الكلمة يدلّ على أنّ أصلها تعليم الكلاب

ص: 354

للصيد، فيختصّ الحكم بالكلاب المعلّمة دون غيرها إلاّ بدليل خاصّ ، و يشهد له اتّفاق أهل اللغة - على أنّ المكلّب هو صاحب الكلب و مؤدّبه - و التبادر أيضا، فيقيّد به عموم الجوارح، و تدلّ عليه بعض الروايات.

و الآية المباركة تدلّ على حلّية صيد الكلاب المعلّمة بشروط، أحدها أن يكون الصيد بالكلب المعلّم دون غيره من الجوارح و الكلاب غير المعلّمة.

قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ .

جملة حاليّة من ضمير (مكلبين) أو استئنافيّة، و هي تدلّ على أنّ التعليم له كيفية خاصّة و طرق معيّنة، ممّا ألهمهم اللّه تعالى أو تلقّوه من الشارع الأقدس، و قد ورد أنّه يشترط في الكلب المعلّم أن يسترسل إذا أرسله الصياد، و ينزجر إذا زجره، و أن يكون معلّما و لا يعرف منه ذلك إلاّ أن تتكرّر منه الأمور المعتبرة في التعليم. و يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة، فهذه شروط اخرى في حلّية الصيد، و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .

بيان لشرط آخر من شروط حلّية صيد الكلاب المعلّمة، و هو أثر من آثار التعليم و نتيجته. و (من) تبعيضيّة، إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد، و العظم و غيرهما، و الضمير المؤنّث في (أمسكن) راجع الى الجوارح، و التقييد بقوله عَلَيْكُمُ للدلالة على أنّ الحلّ مقيّد بكون الإمساك لكم، فيخرج ما أمسكن لأنفسهن، و إنّما يعرف الإمساكان من القرائن الحافّة.

و المعنى: فكلوا من الصيد ما تمسكه الكلاب المعلّمة لأجلكم، لا ما تمسكه لنفسها لتأكل منه.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ .

شرط آخر، و الضمير في (عليه) يرجع الى (ما علّمتم)، فيكون المعنى:

و اذكروا اسم اللّه على الكلب المعلّم، و ذلك حين إرساله، و تدلّ عليه جملة من الأخبار.

ص: 355

و قيل: إنّ الضمير يرجع الى: ما (أمسكن) بأن يكون المعنى: إذا أدرك ما أمسكته الكلاب المعلّمة حيّا فإنّه يجب ذكر اسم اللّه تعالى حين تذكيته، على تفصيل مذكور في الفقه، و سيأتي في البحث الفقهي بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

حثّ على التقوى، لما في هذا الأمر من التهاون و الغفلة عن الأحكام الإلهيّة كما هو المشاهد في أصحاب الصيد.

و التقوى مطلوبة في جميع الحالات و كلّ الأمور بالايتمار بأوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه الاتّقاء عن أكل الصيد الّذي لم تتوفّر فيه الشروط المعتبرة، و الاتّقاء عن الصيد الّذي لم يكن للكسب و العيش، كما إذا كان إسرافا في القتل، أو كان عن تكبّر و تجبّر كما في صيد اللهو.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

بيان لمظهر من مظاهر علمه الأتمّ و قدرته الكاملة و إحاطته بمخلوقاته إحاطة تدبيريّة تامّة، فهو الّذي أحصى كلّ شيء عددا، كما قال تعالى: وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 47]، و هو وحده جلّ شأنه قادر على أن يكون حسابه سريعا، فإنّ من سننه تعالى الجزاء على الأعمال، و إنّه لا يضيع عنده عمل عامل من عباده، فسوف يجازي المسيء على إساءته في الدنيا قبل الآخرة، و لم يدع ظلم الإنسان على الحيوان بالعدوان عليه و اغتياله و الفتك به أن يذهب هدرا، فإنّه يعاقبه و يربّيه أثر عمله في الدنيا كما دلّت عليه التجربة.

و إنّما أظهر اسم الجلالة لبيان العلّة، و لترتب المهابة و العظمة، و يستلزم ذلك الوقار له جلّ شأنه.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ .

تأكيد لما سبق من حلّية الطيبات، و توطئة لما يأتي ذكره من المحلّلات، و الظاهر أنّ حلّية الطيبات عقليّة، لا أن تكون شرعيّة، فيحمل قوله تعالى على الإرشاد، و كذا حلّية طعام أهل الكتاب إن كان المراد منه الحبوب، فإنّ جميع ذلك

ص: 356

داخل في أصالة الإباحة، إلاّ أن يقال بالحظر في الأشياء، فتكون الإباحة شرعيّة لا محالة. و سياق الآية الشريفة يفيد الامتنان كما يأتي في البحث العرفاني.

و إطلاق الطيبات يشمل جميع ما تستطيبه النفوس السليمة، و المتيقن منها ما ورد في الكتاب العزيز، على ما عرفت آنفا.

و سبق الكلام في (اليوم)، و إنّما ذكره عزّ و جلّ في المقام لمزيد المنّة على المؤمنين أن أحلّ لهم الطيّبات و أبعدهم عمّا يوجب الضرر عليهم.

قوله تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ .

بيان لأحد أفراد الطيّبات لبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين و رفع الشكّ عن نفوسهم بعد أن أمروا بالابتعاد عن الكافرين و نهوا عن موالاتهم و مخالطتهم و معاشرتهم، فاحتملوا شمول النهي لطعامهم أيضا، فأتى تحليل الطيبات بقول مطلق و لم يرفع الشكّ الّذي كان يساورهم بالنسبة الى طعام أهل الكتاب، ثمّ خصّه عزّ و جلّ بالذكر لإيجاد الطمأنينة و رفع الشكّ برفع الحرمة يقينا، و كذا الكلام في قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و عرفت آنفا أنّ إحلال طعامهم لنا و إحلال طعامنا لهم إنّما هو حكم إرشادي؛ لا أن يكون شرعيّا. و حينئذ لا جدوى في القول بأنّ قوله تعالى كلام واحد ذو مفاد واحد، أو لم يكن كذلك ؟ مع أنّ الظاهر أنّه واحد يتضمّن حكما عقليّا، كما عرفت.

و ما ذكره أولى ممّا قيل: من أن! الآية الشريفة ليست في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب و توجيه التكليف إليهم؛ لأنّ الكفّار غير مؤمنين باللّه و رسوله و بما اوحي إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يطيعوه في تشريعاته المقدّسة، فيكون الخطاب معهم لغوا و بلا فائدة، و ينزّه الحكيم عن مثل ذلك.

و يرد عليه أنّ في التكاليف الإلهيّة حكم و مصالح لا تتوقّف على عمل المكلّفين و طاعتهم فحسب، إذ كم من حكم إلهي و تكليف ربّاني لم تعمل به الامة كما هو المشاهد المحسوس، فقد تكون المصلحة اختيار المكلّفين و امتحانهم و غير

ص: 357

ذلك، و لعلّ النكتة في المقام هي دفع دخول طعام أهل الكتاب في المحرّمات من حيث كونها مصاحبا لمن حكم بكفره، و نجاسته، و خبثه، و قذارته.

أو لرفع التنافر و التباغض بين الطائفتين المؤمنة و الكافرة بعد بسط الإسلام، و مع أنّه يمكن أن يراد من قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ حلّية بذل الطعام لهم بالبيع و نحوه من المعاملات و غيرها.

ثمّ إنّ الطعام في الأصل يطلق على كلّ ما يذاق، و يؤكل، و يقتات، و قد وردت هذه المادّة مكرّرا في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [سورة الأحزاب، الآية: 53]، أي: إذا أكلتم، و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: 249]، أي: لم يذقه، و قال تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ [سورة آل عمران، الآية: 93]. و هو يشمل كلّ ما يقتاته الإنسان، فالعموم يشمل ذبائح أهل الكتاب كما يشمل غيرها من الأطعمة.

لكن ذكر أهل اللغة أنّ الطعام قد يطلق و يراد به البر خاصّة، بل لعلّه المتبادر إذا اطلق، و لهذا ورد في جملة من الروايات المروية عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد من الطعام في الآية المباركة هو البر و سائر الحبوب و الفاكهة، غير الذبائح الّتي يذبحونها، فإنّها إمّا غير قابلة للتذكية - كالخنزير - أو ما يقبلها و لكن لا تتوفّر فيها شروط التذكية الإسلاميّة، و هذا هو المخصّص لعموم الطعام لو كان له عموم يشمل غير الحبوب، فيكون وجه اختصاصها بالذكر مع دخولها في الطيبات هو دفع توهّم دخولها في المحرّمات؛ لأنّها مصحوبة لمن حكم بكفره و نجاسته و قذارته.

و من ذلك يظهر فساد ما ذكره جمع في الآية الشريفة من أنّ الحكمة إنّما تظهر في حلّية الذبائح دون غيرها؛ لأنّه لم يختلف أحد في حلّه، فإنّ هذه الحكمة خلاف الحكمة كما عرفت، و يشهد لذلك امور:

ص: 358

الأوّل: أنّ الكفّار وصفوا في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تدلّ على خبثهم و قذارتهم و رجسهم، و يكفي اتّصافهم بالكفر الّذي هو أم الرذائل و الخبائث، و ليس من الحكمة تحليل ذبائحهم الّتي تتّصف بالخبث أيضا، و قد ذكرنا في الآية الكريمة السابقة أنّ الطعام له الأثر الكبير في النفوس.

الثاني: أنّ اللّه تبارك و تعالى ذكر في آيات عديدة محرّمات الطعام و وصفها بأوصاف متعدّدة - كالرجس، و الفسق، و الإثم - و ليس من المعقول أن يحلّل سبحانه ما وصفه رجسا، و فسقا، و إثما و يدخلها في الطيبات.

إلاّ أن يقال بالنسخ - و لم يعرف له وجه، فإنّ الآيات الشريفة في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

الثالث: ما ورد في بعض الأخبار تعليل تحريم ذبائحهم بقولهم عليهم السّلام: «و اللّه ما استحلّوا ذبائحكم، فكيف تستحلون ذبائحهم ؟!».

الرابع: أنّه لم يذكر اسم اللّه تعالى على ذبائحهم، و قد قال تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الانعام، الآية: 121].

الخامس: أنّ حلّية ذبيحة الكتابي موضع النزاع و الخلاف حتّى عند العامّة أيضا، فلو كان للآية المباركة عموم يشمل ذبائحهم لما كان وجه للنزاع فيها.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما ذكره بعض المفسّرين في الردّ على من يقول بأنّ المراد من الطعام الحبوب. بأنّه لا دليل لتخصيص العامّ بالحبوب، مع أنّه موضوع للعموم، و استشهد بجملة من الآيات الشريفة. فإنّ أئمة اللغة ذكروا بأنّ الطعام خاصّة وضع للبر، دون سائر مشتقاته الّتي استدلّ بها لإثبات مراده. بل لعلّه المتبادر منه حيث اطلق، مضافا إلى أنّ الأخذ بالعموم في مورد لأجل قرائن خاصّة لا تصير دليلا في المقام كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ .

الحلّ : هو الحلال، و المراد من الضمير في (لهم) هم أهل الكتاب، أي: اليهود و النصارى و المجوس، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في تفسير هذه الآية

ص: 359

الشريفة، فذهب جمع كثير الى أنّ الخطاب فيها للمؤمنين، أي: لا جناح عليكم أيّها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم.

و ردّ: بأنّه يستلزم استعمال الطعام بدل الإطعام، و هو باطل إلاّ بضرب من التوسّع، و لا يمكن القول به هنا؛ لأنّه ورد الفصل بين المصدر و صلته بخبر المبتدأ و هو ممتنع.

و لكن، يمكن الجواب عنه بأنّه لا بأس به إذا كان فيه غرض صحيح أدبي.

و قيل: إنّ الآية المباركة بيان لنا لا لهم، أي: أنّ الّذي كان محرّما عليهم ممّا هو حلال لكم، قد أحلّ لكم أن تطعموهم.

و بعبارة اخرى: أنّ الطعام الّذي حلال لكم هو حلال لهم أيضا، فالآية الكريمة في مقام بيان حكم وضعي، لا حكم تكليفي.

و يرد عليه بأنّه مجرّد احتمال يحتاج الى دليل. و قيل: غير ذلك ممّا هو بعيد عن سياق الآية المباركة.

و الحقّ أن يقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لما أحلّ للمؤمنين طعام أهل الكتاب بعد أن نهاهم عن موالاتهم و معاشرتهم؛ لأنّهم كانوا على عداء شديد للإيمان و أهله، فكان المؤمنون يحترزون عن المعاملة مع الكفّار و مؤاكلتهم و معاشرتهم حتّى نزول هذا الحكم الامتناني التسهيلي، حيث أباح للمؤمنين طعام أهل الكتاب، فكان ذلك من ناحية المؤمنين، و قد أتمّ عزّ و جلّ النعمة و الامتنان بأن رفع الحظر عن طعام المؤمنين لأهل الكتاب، فأباح للأخير ما هو محلّل في الشريعة الإسلاميّة و إن كان محرّما في الشرائع الاخرى، فأجاز للمؤمنين بيع الطعام لهم.

و الآية الشريفة تشير الى معنى دقيق، و هو رفع الحصار الّذي كان مفروضا من الطرفين بالشروط الّتي قرّرتها الشريعة الإسلاميّة، فأباح عزّ و جلّ طعام كلّ طرف للطرف الآخر بعد أن كان محظورا لمصالح خاصّة. إلاّ أنّ الحلّية لم تكن مطلقة بحيث تؤثّر على كيان المسلمين و تهدم شخصيتهم الإيمانية و تفسد قلوبهم

ص: 360

و نواياهم الصادقة، فقد وضع شروطا لهذا النوع من التعامل بأن لا يكون الطعام ممّا هو محرّم في الشرع الإسلامي، فخصّ الحكم بالحبوب و الفواكه و نحوهما، فلا يشمل الذبائح؛ لعدم توفّر تلك الشروط فيها، و لعلّه لأجل هذا ورد في جملة من الروايات المرويّة عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير الطعام بالحبوب - كما يأتي في البحث الروائي - و عدم شموله لذبائح أهل الكتاب كما عرفت، و إن اختلفت الروايات و الأقوال فيها.

و لكنّ المشهور المنصور حرمتها كما هو مذكور في الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ .

حكم امتناني آخر، و الجملة إمّا عطف على الطيّبات، و هي مبتدأ و الخبر محذوف لدلالة المقام عليه، أي: حلّ لكم. و المحصنات جمع المحصنة، و تقدّم الكلام في معنى هذه المادّة في قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 24].

و المراد منها في المقام العفائف، و تخصيصها بالذكر للتحريض على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن؛ لأنّه لا مفهوم للوصف أصلا حتّى يحرم نكاح غير العفائف من المؤمنات و غير العفائف من الّذين أتوا الكتاب، و قد ورد في جملة من الأخبار جواز نكاح الزانية و إن كان يكره خصوصا في الدائمة.

و المعنى: يحلّ لكم نكاح العفائف من المؤمنات، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ هدف الإسلام من الزواج هو تحقيق الإحصان في الطرفين، و ليس مجرّد إطفاء سورة الغريزة فحسب، و لذا ورد التأكيد على هذه الناحية في جميع الآيات الكريمة المتعدّدة الواردة في مواضع مختلفة، و لعلّه لأجل ذلك خصّ عزّ و جلّ المحصنات بالذكر لبيان هذه الحيثيّة، فليس المراد حلّية التزويج بهن فقط و حرمته بالنسبة الى غيرهن.

ص: 361

و المراد من المؤمنات مطلق المسلمات إلاّ ما ورد دليل خاصّ على تحريم زواج طائفة خاصّة منهن، كما هو مذكور في الفقه.

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

حكم امتناني مبنيّ على التخفيف و التسهيل في رفع حرمة نكاح المحصنات من نساء الّذين أتوا الكتاب.

و المراد من الّذين أوتوا الكتاب هم الطوائف غير المشركين و الوثنيّين الّذين أحلّ اللّه تعالى لنا طيّبات طعامهم، و إنّما وصفهم باوتوا الكتاب إيماء إلى أنّهم أهل كتاب كما أنّكم كذلك إلاّ أنّهم قبلكم، فيفيد كمال القرب بين الطائفتين و المزج و التشريك بينهما.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من هذه الآية الشريفة، فقيل: إنّها تدلّ على حلّية نكاح الكتابيّات مطلقا و إن كنّ حربيّات، كما هو مقتضى الإطلاق.

و قيل: إنّها تختصّ بالذميّات؛ لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و النكاح مقتض للمودّة؛ لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [سورة الروم، الآية: 21].

و ردّ بأنّ ذلك يوجب الكراهة لا الحرمة؛ أخذا بالإطلاق مع قطع النظر عن طروّ عناوين اخرى.

و قال بعض أصحابنا: إنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة، الآية: 221]، و قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ [سورة الممتحنة، الآية: 10]، فإنّ أهل الكتاب كفّار بلا خلاف، و قد سماّهم عزّ و جلّ بذلك في قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ [سورة البينة، الآية: 1]. و تدلّ عليه بعض الروايات، ففي صحيح زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، قال عليه السّلام: هي منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ .

ص: 362

و أشكل عليه: أوّلا: بأنّ آية المقام واردة مورد الامتنان و التخفيف، و مثل ذلك لا يقبل النسخ.

و ثانيا: أنّ الآيات الكريمة الّتي يدّعى نسخها لآية المقام، هي أسبق نزولا من هذه الآية الشريفة، فإنّ الاولى وردت في سورة البقرة الّتي هي أوّل سورة مفصّلة نزلت بالمدينة، و الثانية وردت في سورة الممتحنة و كلتاهما قد نزلتا قبل سورة المائدة، فإنّها آخر ما نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله كما تقدّم في أول سورة، فنسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء.

و ثالثا: أنّ الآيات الشريفة الناسخة أجنبيّة عن المقام، فإنّ آية البقرة تدلّ على حرمة نكاح المشركات، و أهل الكتاب ليسوا مشركين، و على فرض دخولهم في عداد المشركين يجب أن تكون آية المائدة مخصّصة لآية البقرة، فيستثنى أهل الكتاب من عمومها.

و أمّا آية الممتحنة، فهي أجنبية عن المقام بالكلّية، فإنّها تدلّ على حرمة نكاح النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن على شركهن، و على فرض التنزيل فيأتي فيها ما ذكرناه في آية البقرة أيضا، فتكون آية المائدة ناسخة لها لا العكس؛ لأنّ النسخ شأن المتأخّر.

و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ من حمل ما ورد في بعض الروايات من النسخ على ضرب من التأويل ان أمكن، و إلاّ فيردّ علمها الى أهله.

و يمكن المناقشة في ذلك، أمّا الأوّل: فلأنّ ورود حكم مورد الامتنان و التخفيف لا يصير موجبا للقول بعدم النسخ، فكم من حكم ورد في الشرع مورد التخفيف و الامتنان و قد نسخ بحكم آخر غيره كما هو واضح.

و أمّا الثاني: فقد تقدّم في بحث النسخ أنّه لا يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخّرا و المنسوخ متقدّما في النزول، فقد يتّحدان في النزول و قد يكونان بالعكس، فإنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على حكم و مصالح متعدّدة، و ما ورد من أنّ سورة

ص: 363

المائدة آخر ما نزلت فهي ناسخة غير منسوخة - فعلى فرض صحّته - معارض بالأخبار الّتي تدلّ على النسخ.

و أمّا ما ذكر من آية الممتحنة، فواردة في النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن، فإنّ ذلك سبب للنزول، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا يقيّد به إطلاق الحكم و عمومه، و أنّ عمومها يشمل الكتابيات أيضا.

و الحقّ أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال، لاختلاف الأقوال تبعا لاختلاف الروايات الواردة في نكاح الكتابيّات، فالمشهور بين فقهائنا (قدس اللّه أسرارهم) الحرمة ابتداء لا استدامة، و قال بعضهم بالحرمة في النكاح الدائم مطلقا دون المتعة؛ عملا ببعض الروايات.

و ذهب جمع آخر الى الجواز على كراهة؛ لما رواه في الفقيه عن الصادق عليه السّلام:

«في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة و اليهوديّة، قال عليه السّلام: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة و النصرانيّة ؟! فقيل: يكون له الهوى، فقال عليه السّلام: إن فعل فيمنعها من شرب الخمر، و أكل الخنزير، و اعلم أنّ عليه في دينه غضاضة».

و بعض الفقهاء خصّ الجواز بحال الضرورة؛ جمعا بين الأخبار، و لما ورد عن الباقر عليه السّلام: «لا ينبغي للمسلم أن يتزوّج يهوديّة و لا نصرانيّة و هو يجد مسلمة حرّة أو أمة»، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

و لكنّ الأمر الّذي لا يمكن إنكاره هو أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ حلّية نساء أهل الكتاب للمؤمنين إنّما يكون عن طريق النكاح الشرعي بالشروط المقرّرة، و منها الأجر و المهر من غير فرق بين النكاح الدائم و النكاح المنقطع؛ لأنّه نكاح شرعا كما عرفت في بحث المتعة فراجع. و أمّا السفاح فهو محرّم على كلّ حال.

قوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .

الإيتاء الإعطاء، و قد يطلق و يراد به التعهّد و الالتزام، و لعلّه أولى بالمقام كما هو معلوم، و المراد من الأجور المهور، و تقييد الحلّ بإتيانهن لتأكيد لزوم ذكرها في

ص: 364

العقد، لا للاحتراز، فإنّ إيتاء الأجور واجب في نكاح الإماء أيضا كما تقدّم في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء، الآية: 25]، إلاّ أنّ الفرق بين نكاح الحرائر و الإماء أنّ في الأوّل يعطي المهر لنفس المرأة، و في الثاني يعطي لمولاها.

و كيف كان، فالقول باختصاص الحكم في الآية الشريفة بالمحصنات العفيفات الحرائر من أهل الكتاب من غير شمول لملك اليمين خلاف ظاهرها.

قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ .

بيان لوجه من وجوه الحكمة في تشريع هذا الحكم، و هو تحصين النفس بإعفافها بالنكاح و جعلها في حصن منيع يمنعها من الوقوع في السفاح و ارتكاب الفاحشة جهرا أو خفاء، و تقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ .

الخدن: الصديق يقع على الذكر و الأنثى على حدّ سواء، و تقدّم الكلام فيه في سورة النساء. و ذكرنا أنّ المراد به نفي جميع ما يوجب الوقوع في الفاحشة و الحرام، فإنّ الغرض من هذا التشريع هو الحدّ من الوقوع في مزالق الهوى و الحشر مع النساء و الاسترسال في حبّهن و الغرام بهنّ ، فإنّ في ذلك تفكيك للقواعد المحكمة الّتي بني عليها الاجتماع و قدح نار الشهوة و غلبة فساد المحصنات اللاتي من أهل الكتاب على صلاح المؤمنين و تميع أخلاقهم الكريمة، و الوقوع في الفتنة الّتي اهتمّ الإسلام بسدّ الذرائع إليها؛ لأنّها من أهمّ ما يفسد الأخلاق و الاجتماع، فإنّ الوقوع في تلك المهلكات خلاف المنّة الّتي امتن بها على المؤمنين في هذا التشريع، الّذي كان الهدف منه التسهيل و التخفيف على المؤمنين، و ليكون سببا في انتشار معارف الإسلام، و تثبيت كلمة التقوى، و بثّ الأخلاق الفاضلة الّتي أمر بها الإسلام

ص: 365

و تكميلها بالكمال اللائق بهن ليلحقن بالمحصنات المؤمنات، فيكون هذا الحكم الإلهي من أهمّ دواعي العمل الصالح و العلم النافع.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ .

تحذير شديد لمن أعرض عن طاعة اللّه تعالى و خالف أحكامه المقدّسة، و الكفر هو الستر، و ذكرنا ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة، و قد يراد منه المعنى المصدري، و هو موجبات الإيمان، أي: الاعتقاد و الهدف الصالح، كما إذا استعمل بالنسبة إلى من أنكر الألوهيّة و الرسالة.

و قد يطلق و يراد منه معنى اسم المصدر، و هو الأثر الحاصل و الصفة القائمة في القلب، أي: الاعتقادات الّتي تدعو الى العمل الصالح، فيكون معنى الكفر حينئذ ترك العمل بما اعتقده و علم به أنّه حقّ ، و هذا هو المراد منه في المقام، أي: الكفر العملي، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ الكفر يختلف باختلاف متعلّقه، فقد يكون عن جحود، و إنّما يكون كذلك إذا علم بالحقّ و داوم على إنكاره و ترك العمل به، و إلاّ فإنّ مجرّد ترك العمل من دون أحدهما لا يكون كفرا بل فسقا، فيكون المراد من الكفر بالإيمان هو ترك العمل بما حقّ عنده و ثبت أنّه من الدين و ممّا شرّعه اللّه تعالى، فيكون كافرا بالإيمان منكرا للآخرة حابطا للعمل، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ * وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 146-147]، فإنّ هذه الآية الشريفة تبيّن أنّ التكذيب بأحكام اللّه تعالى إنّما كان بعد الإيمان و اتّخاذ سبيل الغي و ترك سبيل الرشد بعد العلم بهما، و لا ريب أنّ التكذيب كذلك يكون تكذيبا للآخرة، و هو يستلزم ترك الحقّ و جحده، و هذا يقتضي حبط العمل، و نظير ذلك في القرآن الكريم كثير.

قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ .

ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها من قبيل ترتّب المسبّب على السبب،

ص: 366

فإنّ من ترك اتّباع الحقّ الثابت عنده يكون كفرا بالإيمان، فيكون العمل الصادر عنه لا عن عقيدة و إيمان، و لا وزن لمثل هذا العمل و لا قيمة له، و هذا هو حبط العمل، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً [سورة الكهف، الآية: 103-105].

ثمّ إنّ إطلاق الحبط كما يصحّ على الكفر بعد الإيمان - كما تقدّم - كذلك يصحّ على بطلان أعمال الكفّار أيضا، حيث أنّ لهم عبادة حسب شريعتهم الّتي يتمسّكون بها - أو أعمالا حسنة يأتون بها - فإذا جحدوا بالحقّ بعد العلم به، و لم يتبعوا الإسلام فقد حبط عملهم، و سيأتي الكلام في الحبط مفصّلا في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

لأنّه أعرض عن أحكام اللّه تعالى، و أنكر الشرائع، و كذّب الآخرة فحبط عمله، فلم يقم اللّه تعالى له وزنا يوم القيامة، فكان عاقبة أمره خسران السعي في الآخرة.

ص: 367

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: تتضمّن الآيتان الشريفتان أهمّ الأسس الّتي يعتمد عليها المجتمع الإنساني، و هما الطعام و الزواج، فإنّ في الأوّل حياة الأفراد و صلاح أبدانهم و أنفسهم، و في الثاني بقاء النوع بالتناسل، و لا ريب أنّ الإسلام اهتمّ بهما اهتماما بليغا و شرّع فيهما أحكاما، و ذكر إرشادات و توجيهات محكمة مبنيّة على الصلاح و الأخلاق الفاضلة الكريمة؛ لأنّ صلاح هاتين الركيزتين يؤثّر على صلاح الفرد و الاجتماع و النوع الإنساني و سعادتهم، و قد ذكر عزّ و جلّ ما يتعلّق بهما في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و في المقام ذكر عزّ و جلّ قاعدة هامّة في الطعام مبنيّة على الصلاح العامّ فأحلّ الطيّبات، و أحكم هذا التشريع إحكاما دقيقا، فذكره في أسلوب لطيف يحبّب الطيّبات من الطعام الى النفوس، و تجعلها تأنف من الخبائث و تشمئز منها تلك النفوس الّتي تهذّبت بالتوجيهات الربوبيّة و الإرشادات الحكيمة، فكان ذلك أساسا في طعام الإنسان بجميع أنواعه و أصنافه، و قد ذكر عزّ و جلّ له مصاديق و أفرادا متعدّدة في مواضع متفرّقة، تقدّم بعضها في الآيات السابقة.

و في الآيات المباركة في المقام يذكر جلّ شأنه فردين آخرين، أحدهما لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم بالشروط المقرّرة. و الثاني طعام أهل الكتاب، و أرشد الى أنّ حلّيته إنّما تتوقّف على توفّر الشروط المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة، فإنّ حلّية طعامنا لهم إنّما كان في ظرف توفّر تلك الشروط فيها، و كذلك لا بدّ أن تكون حلّية طعامهم لنا و إلا صار خبيثا و خلاف المنّة الّتي سيقت الآية المباركة

ص: 368

إليها، فينحصر طعامهم في بعض الأمور و لا تشمل جميع أطعمتهم.

و في هذا الحكم من وجوه الحكمة ما لا يخفى و يكفى فيها الإشعار بأنّ الإسلام دين التسامح و التعاطف، و ذكر تعالى في الآية الشريفة الثانية ما يتعلّق بالركيزة الثانية، و هي الزواج الّذي اعتنى به الشرع المبين، و لأهمّيّته ذكره عزّ و جلّ في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و بيّن جميع جوانبه المادّية و المعنويّة، و قد قارن عزّ و جلّ في المقام نساء المسلمات مع نساء أهل الكتاب الّذي طالما أراد أعداء الإسلام أن يتّخذوه ثغرة لينقضوا منها عليه، و يتّخذوه ذريعة في نشر الفاحشة في المؤمنين و افتتان المؤمنات، و بعث الدعارة فيهن، و بالأخرة تشويه هوية هذا الدين العظيم، و قد أحلّ عزّ و جلّ التزويج بالكتابيات ليسدّ الذرائع الى الدخول في الفتنة و الحرام، و أحكم هذا التشريع بوجوه عديدة فبيّن تعالى:

أولا: أنهن من أهل الكتاب كما أنّكم منه؛ لرفع الحزازة من الاختلاط بهنّ ، ثمّ اشترط الالتزام بإعطاء المهر لهنّ ، ليكتمل الزواج من الناحية الشرعيّة.

و ثانيا: بيّن عزّ و جلّ أنّه لا بدّ أن يكون القصد هو إحصان النفس و التعفّف عن الحرام، لا مجرّد التسلّط عليهن و الابتزاز من حقوقهن و الظلم عليهن و الإهانة بحبسهن في البيوت من دون الوصول إليهن، و لا إطلاق زمامهن ليسرحن مع الرجال في كلّ مكان فيمارسن كلّ أنواع المحرم و يتّخذ الرجال الصويحبات في السرّ و العلن.

ثمّ ختم الكلام بتهديد شديد؛ للإعلام بأنّ تلك الأحكام و إن كانت أحكاما امتنانيّة تسهيليّة ترخيصيّة إلاّ أنّه لا بدّ من حفظ حدود اللّه تعالى فيها، و عدم التجاوز و التعدّي عنها، فإنّه يعتبر كفرا بالإيمان الّذي التزم المؤمن أن يعمل بأركانه، فمن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و يكون عاقبة أمره الخسران؛ لأنّه انقطع عن كلّ ما يوجب الزلفى و القرب لديه تعالى.

و كان لهذين التشريعين الأثر الكبير في نفوس أهل الإيمان، حيث رفع الحظر المفروض عليهم من الاختلاط مع أهل الكتاب و التعامل معهم، فكان ذلك وسيلة

ص: 369

لنشر تعاليم الإسلام و معارفه الحقّة، و إظهار مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام. و لأجل أنّ الهدف كان عظيما قد أحكم عزّ و جلّ تلك الأحكام و أكّد على مراعاتها و حثّ على إتيانها بأتمّ وجه، فحذّر تحذيرا شديدا بسرعة حساب من خالف تلك التوجيهات الربوبيّة و إرشاداته القيمة، و أمر بالتقوى و مراقبة اللّه تعالى في جميع الحالات، و يكفي في الدلالة على أهميّة تلك الأحكام و لزوم مراعاتها بدقّة و أمان اعتبار الإعراض عنها كفرا بالإيمان و حبطا للأعمال.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ على قاعدة كلّية في الأطعمة و الأشربة الّتي يميّز بها الحلال عن الحرام، فكلّ ما كان طيبا حلّ أكله و شربه، بلا فرق بين أصنافهما، و كلّ ما كان خبيثا حرم شربه و أكله كذلك.

و الآية المباركة و إن كانت مطلقة إلاّ أنّه لا بدّ من تقييدها بما ورد في الكتاب الكريم و السنّة الشريفة من الشروط و الحدود.

و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية المباركة على أصالة الحلّية و الإباحة، الّتي تمسّك بها الفقهاء في باب الأطعمة و الأشربة.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ جواز اقتناء الكلاب لأجل الصيد، كما يستفاد منه أنّ في بعض الحيوانات قابلية التعلّم، و لكن لا بدّ أن يكون التعليم في ما له نفع للإنسان بالطريق الّذي علّمه اللّه تعالى، فما يفعله بعض في تعليم الحيوانات مستخدما أساليب معيّنة تلحق الأذى و الضرر بالحيوان ليس ممّا علّمه اللّه تعالى؛ لأنّه ظلم، و هو قبيح عقلا و محرّم شرعا.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ على وجوب مراعاة التقوى في جميع التشريعات و تطبيقها تطبيقا كاملا، مع مراعاة جميع الشروط و التوجيهات و الإرشادات الربوبيّة، و أنّ مخالفة التقوى فيها توجب المسألة يوم القيامة، و سرعة الحساب في الدنيا.

ص: 370

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ أنّ التشريعات و الأحكام الّتي أنزلها اللّه تعالى في هذه الآيات الشريفة لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان في العوالم الّتي ترد عليه، حيث أنّ مخالفتها تستلزم سرعة الحساب، و لم يذكر سبحانه و تعالى هذا الوعيد إلاّ في مواضع معيّنة في القرآن الكريم، تكون لها أهميّة خاصّة.

و إطلاق هذه الآية المباركة يدلّ على سرعة الحساب في الدارين، فقد يكون عاجلا لم يمهله اللّه تعالى لعظمة الذنب، و قد يمهله لمصلحة لا يعلم بها إلاّ هو.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أنّ الحبط إنّما يتحقّق في ما إذا كان حقّ ، و علم به، و التزم بالعمل به ثمّ إنكاره و جحده و ترك العمل به، فيكون كفرا بالإيمان، و كلّ كفر كذلك يكون حبطا للعمل، فلا ينفع حينئذ معه الأعمال السابقة، فإنّه سقط جزائها كما لا ينفع عمل حين كفره، فيكون عاقبة أمره الخسران إلاّ إذا تاب و عمل عملا صالحا.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «في كتاب علي عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ : وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال هي: الكلاب».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: لا فرق في الكلب بين السلوقي و غيره و بين الكرديّة، سواء كان أسود أم غيره؛ لإطلاق الآية الشريفة و الرواية المتقدّمة.

الثاني: لا يحلّ من صيد الحيوان و مقتوله إلاّ ما كان بالكلب المعلّم، فلا يحلّ صيد غير الكلب من جوارح السباع، كالفهد و النمر و غيرهما، و جوارح الطير كالباز و العقاب و الباشق و غيرهما، و إن كانت معلّمة؛ لأصالة عدم التذكية المقرّرة شرعا و المعتمد عليها لدى الفقهاء - كما تقدّم - إلاّ ما خرج بالدليل، و نصوص

ص: 371

مستفيضة منها ما عن أبي عبد اللّه في المعتبرة قال: «سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب، فقال عليه السّلام: لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتموه إلاّ كلب المكلب»، و قريب منها صحيح الحلبي و غيره.

نعم، هناك رويات تدلّ على الجواز و خلاف ما تقدّم.

ففي رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ ، فلا بأس بأكله»، و قريب منها غيرها.

و لكنّها موافقة للتقيّة و معارضة بما هو أقوى منها، فلا بدّ إمّا من حملها على الإمساك حيّا و وقوع التذكية على الصيد، و إطلاق الجرح الكثير على القتل مجاز شائع، أو ردّ علمها إلى أهله و اللّه العالم.

الثالث: أن يكون الكلب معلّما، فلو لم يكن كذلك لا يحلّ صيده لنصّ الآية المباركة، و ما يستفاد من الروايات الكثيرة، منها ما تقدّم.

و في الكافي أيضا بإسناده عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرسل الكلب على الصيد، فيأخذه و لا يكون معه سكين أ فيدعه حتّى يقتله و يأكل منه ؟ قال عليه السّلام: لا بأس قال اللّه عزّ و جلّ : فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و لا ينبغي أن يأكل ممّا قتله الفهد».

أقول: يأتي في البحث الفقهي أنّه لو لم يدرك صاحب الكلب الصيد حيّا، أو أدركه كذلك لكن لم يسع الزمان لذبحه، ففي الصورتين كان الصيد ذكيا و حلّ أكله.

و أمّا إذا اتّسع الزمان لذبحه لا يحلّ إلاّ بالذبح، فلو تركه حتّى مات كان ميتة - و تقدّم المراد بأدنى ما يدرك ذكاته - و أمّا لو كان حيّا و اتّسع الزمان لذبح الصيد و لكن لم توجد آلة الذبح كالسكين و مات، نسب الى المشهور عدم الحلّية؛ لأصالة عدم التذكية؛ لأنّه حينئذ حيوان غير ممتنع، و كلّ حيوان كذلك لا يحلّ لحمه إلاّ بالتذكية.

و لكن، نسب الى جمع منهم الشيخ و الصدوق الحلّية؛ تمسّكا بمعتبرة جميل بن

ص: 372

دراج المتقدّمة، و لكن أوهنها إعراض المشهور، و مخالفتها لما تقدّم من القاعدة «كلّ حيوان غير ممتنع لا يحلّ إلاّ بالتذكية»، فلا بدّ من ردّ علمها الى أهلها. و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن الحلبي قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يفتي و كان ينفي و نحن نخاف في صيد البزاة و الصقور، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف و لا يحلّ صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب علي عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ قال: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ في الكلاب».

أقول: هذه الرواية شارحة لجميع الروايات الدالّة على حلّية الصيد بجوارح السباع من أنّها صدرت عن تقيّة، و لمانع لم يتمكّن الإمام عليه السّلام بيان الحكم الواقعي فيها.

و في تفسير العياشي عن حريز عن الصادق عليه السّلام قال: «سئل عن كلب المجوس يكلّبه المسلم و يسمّي و يرسله ؟ قال: نعم إنّه مكلّب، إذا ذكر اسم اللّه عليه فلا بأس».

أقول: مقتضى الأصل و الإطلاقات الواردة في الكتاب و السنّة عدم اعتبار إسلام صاحب المكلّب. نعم يعتبر أن يكون مرسل الكلب مسلما أو بحكمه، كالصبي الملحق به، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالخوارج و غيرهم، لم يحل أكل ما يقتله؛ لأنّ الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها.

و في السنن الكبرى للبيهقي بإسناده عن أبي رافع قال: «جاء جبرئيل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستأذن عليه، فأذن له فابطأ فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أذنا لك! قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة ففعلت، و جاء الناس فقالوا: يا رسول اللّه، ماذا يحلّ لنا من هذه الامة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أرسل الرجل كلبه و ذكر اسم اللّه فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل».

ص: 373

أقول: هذه الرواية - مع قطع النظر عن السند - يستفاد منها امور:

الأوّل: أدب الدخول، فإنّ جبرائيل رسول مباشر من اللّه تعالى و من الملائكة المقرّبين استأذن في الدخول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف بغير جبرائيل، لأنّ صاحب البيت حبيب اللّه، و أشرف الأنبياء، و فخر الكائنات، فإذنه صلّى اللّه عليه و آله شرف للتشرّف برؤيته.

الثاني: بعد ما أذن صلّى اللّه عليه و آله لجبرائيل فما معنى بطء جبرائيل بالدخول عليه صلّى اللّه عليه و آله ؟! و لعلّه كان ذلك استحياء من مكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه كان مأمورا من اللّه جلّت عظمته أن لا يدخل بيتا فيه مظهر الشيطان و هو الكلب، و ذلك شأن جميع الملائكة بتمام أصنافها و رتبها.

و أمّا عتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفعله و قوله لجبرائيل مع علمه صلّى اللّه عليه و آله بالواقع من أنّه لا يمكن اجتماع مظهر الرحمن و رسوله مع مظهر الشيطان و أعوانه؛ لأجل الإعلام العملي للمسلمين بالاجتناب عن مظهر الشيطان، فإنّ جبرائيل مع ما لديه من المنزلة عند الربّ الجليل - بل الملائكة كلّهم - لا يدخل و لا يدخلن بيت أشرف الأنبياء، فكيف ببيت سائر الناس لو كان فيه كلب أو صورة على ما يأتي من الحكمة فيها.

الثالث: الوجه في أخذه صلّى اللّه عليه و آله رداءه و خروجه كناية عن اضطرابه لبطء روح القدس عليه، و كنّى بالرداء عن العون و النصر؛ لأنّ الرداء يقع على الظهر و يحفظ العاتقين و المنكبين عن الحوادث، فيكون عونا للإنسان.

الرابع: أنّ وجود جر و في بعض بيوتهم لم يكن عن عمد، و إنّما دخل الحيوان بنفسه بلا التفات من صاحب البيت.

الخامس: أنّ قتل الكلاب بأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما كان في خصوص الكلاب الهارشة الّتي كانت تؤذي سكان المدينة و تسلب راحتهم؛ و لم تكن قابلة للحفظ و التربية، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ الثابتة شرعا و عقلا، و ذلك بقرينة روايات كثيرة اخرى. إذا الرواية لا تنافي ما حدث في هذه الأعصار من عنوان

ص: 374

سمّوه «جمعية حفظ حقوق الحيوان» في زمان سلبت فيه حقوق الإنسان كلّها و دمرت الإنسانيّة، فلم يبق للبشريّة وزن؛ لأنّهم بعدوا عن القوانين الإلهيّة الّتي تحفظ الإنسان و تكرم حقوقه، و لم يخضعوا للركائز الّتي وهبتها السماء للبشريّة جمعاء بواسطة الرسل و الأنبياء، فبها تهنأ الحياة و يحسن العيش، و توفّر راحة النفس في ما يمرّ عليها من العوالم، و انفصلوا عن النظم الّتي أنزلها اللّه تعالى الّذي هو خالق الإنسان مبدع الكائنات، عالم الغيب، يعلم المصالح و المفاسد و الحكم و العلل، فضلّوا من السعادة الراقية و لم يصلوا الى الكمالات العالية، فتمسّكوا بعناوين واهية، فإلى اللّه المشتكى و عليه التوكّل في الشدّة و الرخاء.

و في الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس: «في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلّم، أو بازه، أو صقره، ممّا علّمه المجوسي فيرسله فيأخذه، قال: لا يأكله و إن سمّيت؛ لأنّه من تعليم المجوسي، و إنّما قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ».

أقول: تقدّم أنّ المناط إرسال المسلم الكلب للصيد، و أمّا تعليمه فأعمّ من أن يكون بمباشرة المسلم أو غيرها، و لا عبرة بصيد الباز و الصقر، و لعلّ الرواية تتضمّن نظر ابن عباس القابل للتغيير، و لم تكن مستندة الى المعصوم.

ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث بعض الأصحاب لقتل الكلاب، فقتل منها حتّى سأل بعضهم النبي صلّى اللّه عليه و آله: ماذا أحل لنا من هذه الامة ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، و لا شكّ أنّ هذه الرواية من باب ذكر بعض المصاديق، و إلاّ فالآية المباركة مطلقة، بل إطلاق الطيّبات على بقاء الكلاب لاستعمالهم في المآرب المختلفة ممّا لا يقبله الذوق السليم إلاّ على سبيل المجاز البعيد، فالأولى ردّ هذه الرواية الى أهلها.

على أنّ متونها مضطربة جدا، و لم يرد شيء منها في مجامع الشيعة، بل هي مرويّة في الدرّ المنثور و غيره.

و في الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه

ص: 375

عزّ و جلّ : وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فقال عليه السّلام:

الحبوب و البقول».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ المراد من قوله تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ هو الحبوب و البقول كثيرة جدا و قد بلغت حدّ التواتر، و تقدّم أنّ الطعام هو الحبوب، و قد ورد في زكاة الفطرة: «صاعا من طعام»، أي: البر أو الشعير أو غيرهما، و قال الخليل: «إنّ العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البر خاصّة»، فلا مجال للقول بأنّ المراد من الطعام مطلق ما يطعم من اللحوم و غيرها كما تقدّم في التفسير. و إنّ الروايات الواردة في حلّية ذبائح أهل الكتاب المستدلّة بالآية الشريفة كلّها غير نقيّة السند و عن طرق العامّة، كما أنّ ما ورد عن طرقنا الدالّة على حلّية ذبائح أهل الكتاب محمولة على التقيّة، و الشاهد على ذلك ما رواه الشيخ بإسناده عن بشير بن أبي غيلان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذبائح اليهود و النصارى و النصاب ؟ قال عليه السّلام: فلوى شدقه و قال: كلبا الى يوم ما»، فإنّ التقيّة فيها ظاهرة.

و من العجب أنّ السيوطي سرد جملة من الروايات في تفسيره (الدرّ المنثور) تدلّ على أنّ المراد من الطعام من الآية الشريفة هو ذبائح أهل الكتاب، و لكنّها لم تستند الى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو خلفائه المعصومين، فمن الممكن أن تكون مجرّد نظريات في ظروف خاصّة بتحويل المعنى، و الشاهد على ذلك أنّه لم يذكر رواية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الحبوب، مع أنّها المتبادر منه عند الإطلاق.

على أنّه يمكن أن يراد من الروايات - الّتي تفسّر طعام أهل الكتاب بالذبائح كما وردت عن طريق السنّة - الذبائح الّتي ذبحت على طريق الشرع، بحيث يكون المباشر للذبح المسلم و كان جامعا للشرائط و كانت الذبيحة ملكا للكتابي.

إن قلت: بناء على ما تقدّم لا تختصّ الحلّية بذبيحة الكتابي بل تعمّ المشرك أيضا، فلو ذبح المسلم كذلك ذبيحة المشرك حلّ أكلها.

قلت: نلتزم بذلك و لا محذور فيه شرعا، و تقييد الآية المباركة بأهل الكتاب

ص: 376

يكون حينئذ من باب الغالب، أو من باب ذكر بعض مصاديق الكفر، بقرينة الروايات و الإطلاقات الواردة في الصيد و الذباحة، فتأمّل.

و في تفسير العياشي بإسناده عن قتيبة الأعشي قال: «سأل الحسن بن المنذر أبا عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الرجل يبعث في غنمه رجلا أمينا يكون فيها نصرانيّا أو يهوديّا، فتقع العارضة فيذبحها و يبيعها؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تأكلها و لا تدخلها في مالك، فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلاّ المسلم، فقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا اسمع: فأين قول اللّه: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يقول: إنّما ذلك الحبوب و أشباهها».

أقول: يحتمل في جملة: «فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلاّ المسلم» معنيان:

الأوّل: الأمن من جهة مجرّد صدور اسم اللّه تعالى.

الثاني: الأمن من جهة الاعتقاد، و هذا هو المناط في هذه الروايات.

و كيف كان، فهذه الرواية - و غيرها الّتي هي قريبة منها - تدلّ على ما ذكرناه سابقا، كما تكشف عن الحكم بالحلّية في ذبائح أهل الكتاب لم يكن واقعيّا، و أنّ المراد من الطعام في الآية الشريفة خصوص الحبوب و أشباهها.

و في الكافي بإسناده عن زرارة بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؟ فقال: منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ ».

أقول: و قريب منه غيره، و المراد من النسخ هنا غير معناه المصطلح، و المقصود منه التقييد، و تقدّم ما يرتبط به في التفسير فراجع.

و في تفسير العياشي بإسناده عن العبد الصالح قال: «سألناه عن قوله تعالى:

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ما هن ؟ و ما معنى إحصانهن ؟ قال عليه السّلام: هنّ العفائف من نسائهم».

أقول: يستفاد من الرواية جواز نكاح الكتابيّة و العفائف من نسائهم من باب الأفضليّة، حرّة كانت أو أمة، و في بعض الأخبار: «إنّما يحلّ منهنّ نكاح البله»،

ص: 377

أي: الغافلة عن الشرّ و المطبوعة على الخير، و قد ورد في بعض الروايات جواز نكاح غير العفائف من نسائهن و لكن يمنعهن من الفجور، كما تقدّم في التفسير.

و في تفسير العياشي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام قال:

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ قال: هنّ المسلمات».

أقول: لأنهنّ غالبا يلازمن العفّة، بلا فرق بين جميع مذاهبهن.

و في تفسير القمّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و إنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الّذين يؤدّون الجزية و غيرهم لم تحل مناكحتهم».

أقول: عدم إعطائهم الجزية فيما إذا عرضت عليهم و لم يؤدوها، فيصيرون من الكفّار المحاربين، و أمّا إذا لم تعرض عليهم كما في زماننا هذا، فيشكل دخولهم في الحربي، و تفصيل الكلام يطلب من الفقه.

و في الكافي بإسناده عن الحسن بن الجهم قال لي أبو الحسن الرضا عليه السّلام:

«يا أبا محمد! ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على مسلمة ؟ قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك ؟! قال عليه السّلام: لتقولن، فإنّ ذلك تعلم به قولي ؟ قلت: لا يجوز تزويج نصرانيّة على مسلمة و لا غير مسلمة، قال: لم ؟ قلت: لقول اللّه عزّ و جلّ :

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ، قال عليه السّلام: فما تقول في الآية: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؟ قلت: فقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ نسخت هذه الآية، فتبسّم ثمّ سكت».

أقول: تقدّم سابقا أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، و على فرض التنازل و غضّ النظر عن ذلك، فالمقام لا يكون من باب النسخ المصطلح كما مرّ، و أنّ الآيتين باقيتان على حجّيتهما، و آية المائدة تقيّد إطلاق آية المشركات أو تخصّصها، و لعلّ تبسّم الإمام عليه السّلام إشارة الى ذلك. و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ قال: ترك العمل الّذي أقرّ به، أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل».

ص: 378

أقول: ذهب جمع كثير من العلماء الى أنّ استحقاق الثواب مشروط بالموافاة، و استدلّوا بأدلّة كثيرة من الآيات الشريفة و السنن المعصوميّة، قال تعالى:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر، الآية: 65]، أي: ثواب عمله و جزائه الحسن. و هناك قول آخر و هو التكفير الّذي هو أقرب الى التفضّل منه سبحانه و تعالى و تقتضيه ظواهر الأدلّة، و سيأتي في الآيات المناسبة البحث عنهما مفصّلا.

و كيف كان، فأسباب الحبط على القول به كثيرة:

منها: الشرك باللّه العظيم، إن لم يتداركه بالندم و التوبة، كما مرّ.

و منها: ما ورد في هذه الرواية من عموم ترك العمل الّذي أقرّ به في اصول الدين.

و هناك أسباب اخرى يأتي التعرّض لها. و الرواية من باب ذكر بعض المصاديق.

و في المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي حمزة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ؟ قال: تفسيرها في القرآن و من يكفر بولاية علي عليه السّلام، و علي هو الإيمان».

أقول: إنّ الميزان في الحبط هو إنكار ما هو ضروري الدين، سواء كان من أصوله أم فروعه؛ لأنّ إنكار الفروع يرجع بالآخرة الى إنكار الأصول أيضا كما ثبت في علم الكلام، فيكون إنكار الولاية كإنكار المعاد موجبا للحبط، و قد سمّي عليّا بالإيمان في كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله عند ما برز الى عمرو بن عبد ود، قال صلّى اللّه عليه و آله: «برز الإيمان كلّه الى الكفر كلّه»، كما سمّي الصلاة بالإيمان كذلك، و الرواية من باب بيان بطن القرآن كما ورد في روايات كثيرة من أنّ له بطنا، و لا منافاة حينئذ أن يكون ذلك من باب بيان أجلى المصاديق أيضا.

و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

ص: 379

قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ فقال: ترك العمل الّذي أقرّ به، قلت: فما وضع ترك العمل حتّى يدعه أجمع ؟ قال: الّذي يدع الصلاة متعمّدا لا من سكر و لا من علّة».

أقول: المراد من السكر النوم كما في صحيح محمد بن مسلم، و هذا الحبط إمّا لأجل ترك الواجب العبادي بعد الإذعان بوجوبه، فحبط به ثواب التزامه و عقيدته، كما إذا ترك الصوم عن علم و عمد، أو الصلاة كذلك، فحبط بذلك ثواب تلك الأصول المحقّقة للإيمان، و هذا مرتبة من الكفر كما تقدّم مكرّرا.

و أمّا جعل الإيمان نفس الفروع، أي: أنّ الإيمان نفس الصلاة الّتي هي عمود الدين فتركها بغير عذر يكون كفرا بالإيمان، خلاف سياق الآية الشريفة، و لا يوافقه ظاهر الروايات المتقدّمة، فهو أجنبي عن الحبط إلاّ إذا رجع الى ما تقدّم.

و الحبط تارة: من قبيل إبطال المقتضي للثواب من أوّل الأمر، كمن نشأ منكرا للولاية مع العلم بأنّها أحد الأثافي في الإسلام.

و اخرى: من قبيل الإهدار، مثل ما يهدر ثواب عمله الثابت في صحيفته لما صدر عنه من بعض الأعمال السيئة بالعمد و الاختيار.

و في تفسير العياشي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ، الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر اللّه به و لا يرضى به».

أقول: الخروج عن الإسلام له مراتب، و إنّ بعض مراتبه يوجب القتل، كالارتداد، و بعضه الآخر ليس كذلك، و إنّما يوجب الفسق في الدنيا و دخول النار في الآخرة، و من ذلك ما ورد في الرواية. و كذا الكلام في الكفر من أنّ له مراتب.

ثمّ إنّ الحبط على أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن تكون الأعمال دنيويّة يقصد بها الدنيا، فلا تغني في القيامة أصلا، قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة

ص: 380

الفرقان، الآية: 23]، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و الدليل العقلي يدلّ على ذلك أيضا؛ لأنّ العمل لم يضف إليه عزّ و جلّ ، و كان قصد العامل منه طلب الماديّة و الأجر الدنيوي، فلا معنى للجزاء الاخروي، إذا المقتضي للثواب لم يكن موجودا.

الثاني: أن تكون الأعمال اخرويّة، كالصلاة و الصوم و الحجّ ، و لكن لم يقصد عاملها وجه اللّه تعالى، كما في الأعمال الريائيّة - نستجير باللّه عزّ و جلّ منها - فحكمه حكم القسم الأوّل بعين ما تقدّم من الأدلّة، ففي الحديث: «انّه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بم كان اشتغالك ؟ يقول: بقراءة القرآن، فيقال له: قد كنت تقرأ ليقال لك قارئ و قد قيل ذلك، فما لك منّا أجر».

الثالث: أن تكون أعمالا صالحة و بإزائها سيئات، فهذا القسم هو محلّ البحث، فعن جمع بالحبط و عن آخرين بالتكفير، قال تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و قال تعالى في وصف التائبين من الأعمال السيئة: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [سورة الفرقان، الآية: 70]، و الثاني هو الأقرب الى رحمته و غفرانه، كما ذهبت الإماميّة الى ذلك.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ بعض المعاصي المتوغّلة في البعد عنه جلّت عظمته - كالشرك و جحود الإيمان - يوجب الحبط إن لم تتعقّبه التوبة و يتدارك بالأعمال الصالحة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال: «من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك، فقد حبط عمله و كفر بالإيمان».

أقول: لا بدّ و أن تكون الإطاعة عن عقيدة، و إلاّ فلا توجب الحبط كالإطاعة عن كره و تقيّة.

و في تفسير العياشي عن هارون بن خارجة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ قال فقال: من ذلك ما اشتقّ فيه».

ص: 381

أقول: لعلّ المراد أنّ المكلّف باختياره أحبط عمله و أوقع نفسه في المشقّة، و اللّه العالم بالحقائق.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المباركة قواعد فقهيّة بيّنتها السنّة الشريفة، كما يستفاد منها أحكام خاصّة نقدّم بعضها في البحث الروائي، أمّا القواعد فهي:

القاعدة الاولى: «حلّية الطيّبات مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل»، سواء أ كانت من الأطعمة أم من الأشربة أم من النكاح أم غيرها ممّا يشمّ أو يستنشق حتّى القول الطيب، قال تعالى: وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ [سورة الحج، الآية:

24]. و إن شئت عبّرت: «كلّ طيب حلال إلاّ ما أخرجه الشارع بالدليل»، و البحث عنها من جهات:

الاولى: في فقه القاعدة و معنى الطيّبات فيها، فنقول: المراد من الطيب مقابل الخبيث، و هو في اللغة: كلّ ما تستلذّ به النفس مطلقا و لم يكن فيه أذى لها أو للبدن. و إن شئت عبّرت: «كلّ ما ترغب إليها النفوس المستقيمة»، فيمكن أن يقال: إنّ ما حرّمه الشارع لا تستلذّ به النفس للتأنيب المستتر في الضمير البشري عند ارتكاب المحارم، أو به أذى لنفس أو للبدن؛ لأنّ المحرّمات تابعة للمفاسد و تترتّب العقوبات عليها مطلقا، فلا ترغب إليها النفوس، فتكون خبيثة من هذه الجهة.

و دعوى: أنّ النهي، و وعيد العذاب من الشرع، و العلم كلّ منهما كيف يوجب الاتّصاف بالخباثة؛ لأنّ الموضوع مؤخّر عن حكمه بمراتب ثلاثة.

غير صحيحة؛ لأنّ ما ذكرنا لا ينافي ذلك، و أنّه من قبيل الكشف، و أنّ الخباثة الشرعيّة تجتمع مع الخباثة الفطريّة، و الاولى توجب التأنيب، و الثانية توجب الضرر. فتأمّل.

ص: 382

إن قلت: إنّ في ارتكاب كثير من المعاصي تستلذّ النفس، و تخمد فوران الشهوة الكامنة و لا أقلّ تستجاب الغرائز الجنسيّة، و هذا المقدار من الزمان و لو كان قليلا يكفي في أن يكون العمل طيّبا و إن كان قد حرّمه الشارع.

قلت: ارتكاب المعاصي الّتي تستلذّ بها النفس على قسمين:

الأوّل: أنّ النفس تعلم بما يترتّب عليه من المفاسد في المستقبل، و مع ذلك أنّها تقدّم على اللذّة الوقتيّة، ففي الحقيقة أنّها لا تستلذّ حتّى حين ارتكاب المعصية لو تفطن و تذكر العواقب السيئة، كمن يقتل شخصا لإخماد غضبه و يعلم بالعواقب الّتي ترد عليه من التأنيب في الضمير و القوانين الشرعيّة أو الوضعيّة، فحينئذ لم تستلذ النفس و على فرضه لم تكن مستقيمة.

الثاني: لا يعلم بالعواقب، فتارة معذور شرعا في جهله، و اخرى ليس بمعذور، و الأوّل يكون الاستلذاذ مؤقتا و شخصيّا مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من الأحكام الوضعيّة و حرمان النيل الى بعض المقامات، و الثاني مضافا الى أنّها ليست مستقيمة لا يكون ذلك في الواقع استلذاذ مع ما يرد عليها من العواقب السيئة.

الثانية: في الأدلّة الّتي استدلّوا بها على القاعدة، فمن الكتاب: قوله تعالى:

أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و إطلاقه يشمل جميع أنواع الطيّبات و أقسامها - كما تقدّم - و إن كان الغالب فيها الأكل و الشرب و النكاح.

و قال تعالى في أوصاف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فمقتضى الآية الشريفة حلّية كلّ ما ترغب إليها النفوس السليمة مطلقا، إلاّ ما خرج بالدليل المعتبر الشرعي، كما في شرب بعض المتنجّسات مثلا.

و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة، الآية: 168]، و الأمر فيه للإباحة و الأكل من باب الغالب كما مرّ.

ص: 383

و من السنّة: روايات كثيرة مختلفة التعابير، كقول الصادق عليه السّلام في الصحيح:

«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و في الحديث: «اتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بغراب فسمّاه فاسقا، فقال: و اللّه ما هو من الطيّبات»، و قد ورد: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أتاه رجل من الأعراب يفتيه ما الّذي يحلّ له و الّذي يحرم عليه في ماله و نسكه و ماشيته و عنزه و فرعه من نتاج إبله و غنمه ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: احلّ لك الطيّبات و حرّم عليك الخبائث»، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة من الفقه.

و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد من أساطين الفقه، بل عدّ ذلك من ضروريات الدين.

و من العقل: حكمه البتّي بأنّ اللّه تبارك و تعالى العالم بالمصالح و الخفيّات إذا حرّم شيئا كان فيه مفسدة، فلا يكون من الطيّب، و ما سوى المحرمات تستلذّه النفس و ترغب إليه، فيكون حلالا طيّبا.

الثالث: في مدى شمول القاعدة، فإن قلنا: إنّ الخبائث هي المحرّمات الشرعيّة فقط، فالقاعدة باقية على عمومها و لم ينلها يد التخصيص إلاّ بطرو عناوين خارجيّة الّتي تغيّر الحكم.

و أمّا إن قلنا: إنّ الخبائث أعمّ من المحرّمات الشرعيّة، فالخبيث و الطيّب يكونان من الأمور النسبيّة الإضافيّة، يختلفان باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، كما هو مفصّل في الفقه، و من شاء فليراجع كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).

الرابعة: أنّه تبارك و تعالى ذكر مصداقا للطيّبات، و هو لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم إذا استجمع فيه الشروط الآتية، كما ذكر سبحانه و تعالى مصاديق للخبائث من الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما اهلّ لغير اللّه به، و المنخنقة، و الموقوذة، و المتردية، و النطيحة، و ما أكل السبع، بل كلّ ما يضرّ الإنسان ضررا معتدا به، فهو من الخبائث و محرّم كما ذكر مفصّلا في الفقه.

القاعدة الثانية: قاعدة: «كلّ صيد قتله جوارح الطير و السباع يحرم أكله إلاّ

ص: 384

ما خرج بالدليل»، و لم يخرج عنها إلاّ قسم خاصّ من الكلب فقط، و هو المعلّم من الكلاب مع شروط خاصّة فيه كما ياتي.

بل يمكن أن يقال: إنّ تعليم الحيوان - بحيث يكون تحت اختيار الإنسان و إرادته - يخرجه عن السبعيّة نوعا ما، و يكون الاستثناء فيه موضوعيّا لا حكميّا، و على أي حال أنّ عنوان السبعيّة المأخوذة في القاعدة من باب الغالب - لا التخصيص - و إلاّ فلو فرضنا أنّ حيوانا مألوفا أو مأنوسا أخذ صيدا و قتله يحرم أيضا لعدم توفّر شروط التذكية فيه، مثل ما لو صادت القطة حيوانا و قتلته أو الشاة أو البقرة كذلك.

و البحث فيها من جهات:

الاولى: في الأدلّة الّتي استندت القاعدة عليها.

فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ، فهذه الشروط احترازيّة للحكم الّذي هو الحلّية كما هو الظاهر من الآية الشريفة، و تدلّ عليها روايات كثيرة، فإذا لم تكن أحد هذه الشروط انتفى الحكم، لقاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه المسلّمة عند العقلاء، فإذا لم يكن كلبا لا يجوز أكل صيده، أو كان كلبا و لكن لم يكن معلّما فكذلك، و كذا إذا لم يمسكه الحيوان، أو لم يذكر اسم اللّه تعالى عليه عند إرساله، كلّ ذلك يحرم أكل صيده و لا يحلّ .

و من السنّة: روايات مستفيضة، منها ما عن الصادق عليه السّلام في معتبرة الحضرمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب ؟ فقال: لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتموه، إلاّ الكلب المكلّب»، و في صحيح زرارة عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا خلاف الكلب ممّا تصيد الفهود و الصقور و أشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ قال: مُكَلِّبِينَ ، فما كان خلاف الكلاب فليس صيده بالّذي يؤكل إلاّ أن تدرك ذكاته».

و أمّا رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب

ص: 385

و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ ، فلا بأس بأكله»، و مثلها غيرها محمولة على ما إذا أدرك حياته فذكي، و إلاّ فيردّ علمها إلى أهله، لمعارضتها بما هو أقوى، و موافقتها للتقيّة.

و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد، بل عدّ ذلك من ضروريات المذهب.

و لأصالة عدم التذكية المعتمد عليها في اللحوم، و قد ثبت حجّيتها في الفقه و الأصول، و تقدّم البحث عنها هنا موجزا.

الثانية: لا فرق فيما قتله جوارح الطير و السباع بين أن تكون معلّمة أو غير معلّمة، فيحرم مطلقا إلاّ أن يدرك حياته فيذكى، كما لا فرق بين أن يكون معها كلب معلّم أو لم يكن؛ لأصالة عدم التذكية؛ و لمعتبرة أبي عبيدة الحذاء عن الصادق عليه السّلام: «و إن وجد معه كلبا غير معلّم فلا يأكل منه»، هذا إذا لم تكن قرينة خارجية توجب الاطمئنان على أنّ كلب المعلّم قتله، و إلاّ فهي المتّبعة كما تقدّم.

الثالثة: يعتبر في الكلب للصيد الخارج عن القاعدة المتقدّمة امور:

الأوّل: أن يكون معلّما للاصطياد لما تقدّم من الكتاب و السنّة و الإجماع، و لأصالة عدم التذكية، و عن الصادق عليه السّلام: «و إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته»، و قريب منه غيره.

و علامة اتّصاف الكلب به أن يكون الحيوان منقادا في الإرسال و الزجر و ضبط الصيد لو أرسله صاحبه و أغراه - إلاّ إذا كان مانع في البين - و أن ينزجر و يقف عن الذهاب و الهياج إذا زجره صاحبه، فيكون تحت اختيار الإنسان لو لم يكن مانع و لا يتخلّف إلاّ نادرا؛ لجملة من الأخبار المذكورة في الفقه، و للإجماع بين المسلمين.

الثاني: أن يمسك الصيد لصاحبه و لا يأكل منه شيئا؛ لقوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، و لكنّ الظاهر أنّ الإمساك أعمّ من ذلك، فلا يصير دليلا للمقام، و بقول الصادق عليه السّلام في موثق سماعة: «فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه»، و قريب منه غيره.

ص: 386

و هناك: روايات اخرى دالّة على الجواز - تعارض الروايات المتقدّمة - و لذا كان هذا الشرط موضع الخلاف بين الفقهاء. و لا يبعد الترجيح للطائفة الثانية من الأخبار، كقول الصادق عليه السّلام في صحيح الحلبي: «و أمّا ما قتله الكلب و قد ذكرت اسم اللّه عليه، فكل منه و إن أكل منه»، و في بعض الروايات: «و إن أكل منه ثلثيه»، و طريق الجمع بين الطائفتين حمل الطائفة الاولى على التنزيه و الكراهة بقرينة الطائفة الثانية، و هذا هو الحمل الشائع في الفقه، أو حمل الطائفة الاولى على عدم تحقّق التعليم، إلاّ أنّ ما ذهب إليه المشهور من اعتبار عدم أكله هو الأحوط كما هو محرّر في الفقه.

الثالث: أن يرسل للاصطياد مطلقا على سبيل الجنس، فلو استرسل بنفسه من دون إرسال لم يحل مقتوله، و يمكن استفادة اعتبار هذا الشرط من قوله تعالى:

مُكَلِّبِينَ ، و قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ ، و في الحديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كلب أفلت و لم يرسله صاحبه فصاد، فأدركه صاحبه و قد قتله، أ يأكل منه ؟ فقال عليه السّلام: لا».

ثمّ إنّه يشترط في حلّية صيد الكلب امور:

الأوّل: أن يكون المرسل مسلما أو بحكمه كالصبي، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه، أو من كان بحكمه كالنواصب لم يحل أكل ما قلته بالضرورة المذهبيّة، و إن الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها إلاّ ما خرج بالدليل على الخروج.

الثاني: أن يسمّي عند الإرسال، فلو ترك التسمية عمدا لا يحلّ مقتوله؛ للآية المباركة: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ ؛ و لقول الصادق عليه السّلام: «من أرسل كلبه و لم يسم فلا يأكله»، و لا يضرّ لو ترك التسمية نسيانا أو شكّ فيها؛ لقول الصادق عليه السّلام: «فإن كنت ناسيا فكل منه»، و كذا رواية أبان بن عثمان: «لا أدري سمّيت أم لم أسم، فقال عليه السّلام: كل لا بأس».

و ظاهر الآية الشريفة أنّه لا يشترط أن تكون التسمية حين الإرسال، بل تكفي و لو حصلت بعده الى حين عضّة الكلب، و تدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

ص: 387

و هنا فروع اخرى تعرّضنا لها في الفقه من شاء فليراجع كتاب الصيد من (مهذب الأحكام).

الثالث: أن يكون موت الحيوان مستندا الى جرح الكلب المعلّم و عقره، فلو كان بسبب صدمة أو خنقة أو اتعابه في العدو أو ذهاب مرارته من جهة شدّة خوفه، لم يحل لظاهر النصوص؛ و للإجماع؛ و للأصل، و لو شكّ في أنّ الموت مستند الى الكلب أو غيره و لم تكن في البين قرينة معتبرة تدلّ على أنّه مستند الى الكلب، لا يحلّ أكله؛ لأصالة عدم التذكية بعد عدم إحراز سببها.

الرابع: عدم إدراك صاحب الكلب الصيد حيّا مع تمكّنه من تذكيته، فلو أدركه حيّا و جبت التذكية، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، كما تدلّ عليه روايات منها قول الصادق عليه السّلام في المعتبر: «فإن أدركه قبل قتله ذكّاه»، و المناط إدراك صاحب الكلب الصيد، فلو أدركه شخص آخر فإن أخذه من الكلب حيّا يجب عليه الذبح الشرعي، فلو لم يذبح حتّى مات ضمن لصاحبه؛ لأنّه أتلف مال الغير، و إن لم يأخذه منه و كان في إمساكه حتّى مات ثمّ وصل صاحبه تحقّقت التذكية، و هناك فروع اخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع الفقه.

و ذهب بعض الفقهاء الى طهارة موضع العضّة من الكلب؛ لقوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، الدالّ على حلّية الأكل مطلقا.

و لكنه مردود: لعدم كون الآية المباركة في مقام البيان من هذه الجهة، فالعمومات الدالّة على أنّ وضع ملاقاة العضّة مع نجس العين نجس محكمة.

القاعدة الثالثة: «الطعام كلّه حلّ إلاّ ما خرج بالدليل»، و المراد من الطعام الأعمّ من الحبوب و الفواكه و الألبان و المعادن - كالملح و غيره - بلا فرق بين أن يكون الطعام من صنائع أهل الكتاب كبعض الحلويات مثلا، أو لم يكن كذلك كالتمر و الجوز و اللوز و غيرها، سواء أ كان من الكفّار أم من غيرهم، و المراد من الحلّ الأكل و غيره من الاستعمالات.

ص: 388

و مستند هذه القاعدة الأدلّة التالية، فمن الكتاب قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و غيره كما يأتي.

و من السنّة روايات كثيرة تقدّم بعضها، و في معتبرة هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك، يعني أهل الكتاب».

و من الإجماع ما هو متسالم عند المسلمين إلاّ في الذبائح، فقد ذهبت الإماميّة الى الحرمة لأدلّة وردت عن أهل البيت عليهم السّلام.

و يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك بأنّ ذلك يوجب المودّة بين أصناف الناس، و رفع الحزازة، و تقريب الواقع، و إظهار الحقّ و إراءته كما هو.

و المراد من الحلّية نفي الحرج و اليأس و متعلّقها الأعمّ من الأكل و البيع و الشراء و غيرهما من المعاملات؛ للأصل بعد عدم ورود نهي أو دليل على التحديد من الشرع.

ثمّ إنّه قد خرج عن هذه القاعدة موارد:

الأوّل: ما إذا طرأ على ذلك عنوان خارجي آخر، كالإعانة على الإثم، و تقوية الباطل، و إهانة المؤمن أو تحقيره، أو ظنّ السوء بالدين، أو الضرر و ما الى غير ذلك، فحينئذ لا تجري القاعدة، و في جميع ذلك محكوم بالحرمة؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة مقدّمة عليها، كما ثبت ذلك في الأصول، كما أنّها لا تجري فيما لو وجب بطرو عناوين اخرى كإنقاذ حقّ ، و حفظ مؤمن، أو استلزم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غيرها، ففي جميع ذلك يجب؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة محكمة على القاعدة.

الثاني: اللحوم و الشحوم و الجلود و جميع أجزاء الحيوان لو ذبحه كافر - مشركا كان أو كتابيّا - و من بحكمه كالنواصب و الغلاة؛ للأدلّة الدالّة على عدم حلّية ذبائحهم، كقول الصادق عليه السّلام الوارد في ذبيحة اليهودي: «لا تأكل من ذبيحته و لا تشتر منه»، و معتبرة إسماعيل بن جابر: «لا تأكل من ذبائح اليهود و النصارى

ص: 389

و لا تأكل من آنيتهم»؛ و لأصالة عدم التذكية، و ما دلّ على الخلاف إمّا محمول على التقية، أو قاصر سندا و معارض بما هو أرجح منه، فلا بدّ من ردّ علمه الى أهله كما ذكرنا في الذباحة من كتاب (مهذب الأحكام).

نعم، لا يعتبر في تذكية السمك عند إخراجه من الماء الإسلام، فلو أخرجه كافر أو أخذه فمات بعد أخذه حلّ ، سواء كان كتابيّا أم غيره؛ لإطلاق قوله عليه السّلام:

«إنّما صيد الحيتان أخذها»، و لكن لو وجده في يد الكافر ميتا لم يحل أكله لأصالة عدم التذكية، إلاّ إذا علم أنّه قد مات خارج الماء أو أخذه بعد موته في خارج الماء، و لا يحرز ذلك بكونه في يده، و لا بقوله لو أخبر به، بخلاف يد المسلم، فإنّه يحكم بحلّيته حتّى يعلم الخلاف.

الثالث: ما ثبت حرمة أكله أو شربه عندنا كالحشيش، و الخمر، و الدم و الميتة، و المتنجّسات مطلقا، أو ما يستثني من الذبيحة كالنخاع و حدقة العين على ما سبق مفصّلا، ففي هذه الموارد لا مجرى للقاعدة أصلا.

ثمّ إنّه في الأطعمة المصنوعة إن كان الطعام مائعا و لاقى يد الكافر يتنجّس و يدخل في المتنجّسات، فلا يجوز شربه أو أكله، و لكن يجوز بيعه و سائر استعمالاته، إلاّ أن يشترط فيه الطهارة، و إن لم يكن مائعا فقاعدة: «كلّ يابس ذكي» جارية، فيحلّ شربه و سائر استعمالاته حتّى في الصلاة و اللّه العالم بالحقائق.

القاعدة الرابعة: «كلّ أيم يجوز نكاحها إلاّ ما خرج بالدليل»، و تفصيل هذه القاعدة يأتي في قوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النور، الآية: 32]، إلاّ أنّه نقول هنا: لا فرق في النكاح بين الدائم و المنقطع، و إنّ الآية الشريفة في المقام ظاهرة في النكاح المنقطع؛ لقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، فاستعمال الأجور في المتمتّعات أكثر و أشهر من غيرها، و من هنا ذهب الفقهاء الى جواز التمتع بالكتابيّة دون غيرها؛ لظاهر الآية المباركة؛ و النصوص المعصوميّة، و يعتبر فيها جميع ما

ص: 390

يعتبر في المسلمة، كما ذكر في الفقه، و إن كانت تجري «قاعد الإلزام» في بعض الموارد إلاّ أنّها لا تمنع ممّا ذكرناه. هذا و اللّه العالم بالحقائق.

و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآيات الشريفة، فهي كما يلي:

الأول: لا فرق في تعليم الكلاب بين أن يكون التعليم تكوينيّا للحيوان - أي: وراثيا، كما يقال في شأن بعضها - أو تحصيليّا بالتدريب، سواء أ كان بواسطة معلّم بشري - أي مكلّب بصيغة اسم الفاعل، و هو المعلّم للكلب و مشتقّ منه - أم بواسطة حيوان آخر كالباز أو كلب آخر، و يكفي الصدق العرفي للتعليم عند أهله، كلّ ذلك لإطلاق الآية المباركة و غيرها.

و لو صاد في أثناء التعليم، فإن كان واجدا للشرائط يحلّ أكله، للإطلاقات و العمومات، و لا يكون التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح.

الثاني: لا يجب الترتيب في الإرسال و ذكر اسم اللّه تعالى، فلو قدّم الذكر على الإرسال - على نحو لا تخل بالموالاة - أو العكس كذلك أو قارنه صحّ ، لإطلاق قوله تعالى: مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ بعد اتّفاق المفسّرين على أنّ الواو ليس للترتيب. نعم يستفاد من جملة من الروايات المقارنة مع الإرسال، و هي غير الترتيب كما هو معلوم.

الثالث: لا يستفاد من الآية المباركة وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ طهارة الكتابي؛ لأنّ الطعام أعمّ من المصنوع و غيره، كما تقدّم، و في المصنوع أيضا يمكن أن لا يلاقي الطعام بدن الكتابي بناء على نجاسته. و الأخبار في طهارة الكتابي و نجاسته مختلفة، و بعضها ظاهر في أنّ نجاستهم عرضيّة لعدم اجتنابهم عن الخمر، و الخنزير، و الدم و غيرها من النجاسات، إلاّ أنّ المشهور خلاف ذلك، و من أراد التفصيل فليراجع المفصّلات.

الرابع: يستفاد من الآية الشريفة: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ و الروايات الواردة في تفسيرها أنّ المانع عن النكاح مطلقا هو الارتداد، و الشرك،

ص: 391

و كونها حربيّة، و أمّا غيرها كالكتابيّات فيجوز نكاحهن؛ تمسّكا بإطلاق الآية الشريفة، و لكن على كراهة خصوصا في الدائمة؛ للجمع بين الروايات.

و أمّا المسلمة، فلا يجوز لها أن تنكح الكافر مطلقا - دواما أو انقطاعا كتابيّا أو حربيّا مرتدّا أو غيره - و كذا من بحكمه كالنواصب، و اللّه العالم بالحقائق.

بحث عرفاني

يمكن أن تتضمّن الآيات الشريفة إشارات لأصحاب السير و أرباب السلوك؛ لأنّهم حرّموا على أنفسهم الدنيا و زخارفها، بل الموقنين منهم العاشقين الى اللقاء و المشتاقين للحق حرّموا على أنفسهم نعيم الآخرة أيضا، كما عن علي أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة و السلام) في كثير من دعواته الشريفة و كلماته الحكيمة، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الدنيا حرام على أهل الآخرة و الآخرة حرام على أهل الدنيا، و هما حرامان على أهل اللّه تبارك و تعالى»، فسألوا بلسان الحال أو الاستعداد من الطيب الطيّبات، و في الحديث: «انّ اللّه طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب»، فأوحى الى حبيبه و نبيّه: قُلْ للسالكين و المشتاقين و المؤمنين من عبادي الطالبين للحقّ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ من طرق الوصول إلى ساحة كبريائه، مطيّبا بجذبات الحقّ و نفحات الشهود، لا من كلّ مأكول - و مشروب أو ملبوس أو مقول أو معقول - فإنّها لا تليق بمقامهم و إن كانت لوجه اللّه تعالى، إذ لو لم تكن كذلك فقد لوّثت و خبثت، و مع ذلك أنّ المشتاقين للحقيقة و الموقنين باللقاء و العارفين بالحقّ لا يهتمّون بالمظاهر، بل هي محرّمة عليهم؛ لأنّها من شؤون الدنيا الّتي لا تحلّ لهم إلاّ بمقدار الاضطرار، كما تقدّم عن الصادق عليه السّلام، فلا حظّ لهم فيها و إنّما حظوظهم في الكمالات الّتي أهمّها أخلاق اللّه تعالى المنزّهة عن النقائص و الشبهات، فإنّ أهل العرفان و السير و السلوك لا يتفكّرون إلاّ في عظمة الذات، و لا يسيرون إلاّ في ميادين الأنوار، فالدلائل عندهم مدلولات، و الغيب شهادات،

ص: 392

فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة و أرواحهم عنها مخلوعة، و هي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسيّة و الملائكة البررة)، و هي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات و الفعل، و تهلّلت عن إخلاص بعد ما ظهرت الحقيقة، و سبّحت بعد ما رأت العجائب في الخلق و في النفس، و حمدت بعد ما أفاض اللّه تعالى عليها من النّعم، فهم للحقّ واجدون و للخلق مشاهدون، فبارك اللّه تعالى في عمرهم، و تجلّى على قلوبهم، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلّى اللّه عليه و آله و اقتدوا بخلفائه المعصومين عليهم السّلام، و نبذوا الدنيا لأهلها، و توكّلوا على خالقهم في الأشياء كلّها، و في الآنات جميعها؛ و تواضعوا للعلم و الحقيقة، فاكتسبوا أيضا من الخلائق الّتي خضعت لخالقها و أشرقت بكلمة كُنْ فَيَكُونُ * أسمى صفاتها، و أعرضوا عن ذمامها و علّموا غيرهم بمختلف درجاتهم و طبقاتهم، و تحمّلوا عناء التعلّم من الّذين لم ينالوا شرف العزّ و العرفان إلاّ لأجل سعادتهم، تقرّبا لوجهه الكريم و بثّا لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه؛ و لذا عطف عزّ و جلّ على الطيّبات وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ ، أي: كاسبة لها لياقة الكسب و الخروج عن ظلمات الجهل، مُكَلِّبِينَ مسلّطين على مخالفة الهوى، مشدّدين على هداية الناس تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ترشدون الفئة الضالّة الى طرق التوحيد، و تأدبونهن بآداب الشريعة الّتي فيها السعادة و ارتياح النفس ممّا ألهمكم اللّه تعالى؛ لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي، فهما منحة منه جلّ شأنه فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ بالتوجّه و استيعاب الضمير بأخذ العبرة و الدلالة في عجائب خليقته، و بما منح اللّه من الألطاف المنتشرة على ما سواه، وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فتوجّهوا إليه لأنّه أخرجكم من ظلمات الجهل الى نور العلم، و رزقكم من أنواع الطيّبات، و باسمه أشرقت الكائنات و تجلّت، فلا اسم أشرف و أعزّ و أكرم من اسمه، فهو السموّ الواقعي المنحصر به، و هو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره، و به تنكشف المهمات، و تقضي الحاجات، و به يدخل المؤمن الجنّة، و بنسيانه يدخل المنافق النار، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع الشؤون و تمام الحالات؛ لأنّها السبيل الوحيد لنيل السعادة

ص: 393

و كسب الفضائل، و بها يبتعد الشيطان و يرغم أنفه، و هي البذرة للوصول الى المعالي إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ في أقرب ما يمكن من الزمان و المكان؛ لأحاطته التامّة على كلّ ما جلّ ودق، فيحاسبكم على نواياكم، فكيف أعمالكم و أفعالكم اَلْيَوْمَ تقييد إحلال الطيّبات - بعد ذكرها مطلقا، و بمعناها الوسيع كما مرّ - باليوم لأجل بيان أمر واقعي و حقيقة منوطة به، و هي أنّ حلّية الطيّبات موقوفة على الولاية، و لو لاها لما طابت و إن كانت طيّبة من كسب اليد، و الوجه الحلال إلاّ أنّها بحسب الظاهر لأجل حفظ النظام لا للكمّل من الإيمان، فالمراد من اليوم الزمان الخاصّ الّذي تجلّى فيه سبحانه و تعالى بإكمال دينه و تنفيذ ولايته على لسان حبيبه صلّى اللّه عليه و آله، و أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ من الأخلاق الجميلة و الصفات الحميدة، و الأفعال الحسنة، و العلوم النبيلة و السبل المستقيمة، فإنّ جميعها حلّ للمؤمن الملتزم بما أنزله اللّه تعالى؛ لأنّه مثال للطيّبات لما اقتبسه من الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و لذا قال تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ بتنوير قلوبكم بنور العلم و المعرفة بالعروج من حضيض البهيمة إلى أوج العظمة من الكمال، بالاقتداء بالأنبياء و الأولياء، وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لأنّ المعارف الإلهيّة النازلة على قلب أشرف من في الورى لا اختصاص لها بأحد، فللجميع الفوز من هذا المنبع، و النيل من هذا المشرب بعد عناء كسب الأهليّة. نعم للنبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله لاختصاص بالمقام المحمود و بالمشرب المحبوب: «أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني لا يشاركه فيه ملك مقرّب و لا نبي مرسل»، فعلّهم يهتدون الى الحقّ و يميزون الخبيث من الطيب بطعامكم و علومكم، وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ أي: اللاتي أحصنّ أنفسهن عمّا لا ينبغي، و إنّها الخواص من هذه الامة، و هي طائفة أدركت حقائق الدين، و كشفت أسرار القرآن المبين، و وصلت الى قمّة الإيمان و أعلى مراتب اليقين، حلّ لكم أن تقتبسوا منهن و تركنوا إليهن، سواء كانوا من المؤمنين أم المؤمنات لما حصنت نفوسهم بإطاعة اللّه تعالى و مخالفة الشيطان، وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هي الحقائق في الكتب المنزّلة على السالفة

ص: 394

الّتي أحصنت من كلّ سوء، فإنّها كلّها لكم، بها تبلغون الكمال المنشود، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ببذل الوجود بعد مخالفة الهوى، فإنّها مهور هذه الأبكار و الحقائق، غَيْرَ مُسافِحِينَ بتصرّف الهوى و التعدّي بالانحراف عن الشرع، وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ بأن لا يلتفت إلى غير اللّه تعالى و لا يتّخذ الدنيا مأربا و من فيها صاحبا، بل يكون هو جلّ شأنه الصاحب، و الناصر، و المعين، و الحافظ و لا غيره وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ و بهذه الكمالات و يحرم نفسه من النيل الى المقامات، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لأنّه انحرف عن الصراط المستقيم، و بعد عن الحقّ القويم، وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ لأنّه غبن نفسه بالميل عن الطيّبات الى الخبائث و النزول الى الهاوية بمتابعة الهوى و الشيطان الّذي هو على جانب النقيض من المؤمنين المخلصين، و العرفاء الموقنين، و السالكين إلى اللّه تعالى الّذين ليس في قلوبهم سواه عزّ و جلّ و لم تتّجه نفوسهم لغيره جلّ شأنه، و تفانوا في اللّه جلّت عظمته، فأفاض سبحانه و تعالى عليهم ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر كما في القدسيات.

و للبحث تتمّة و إن لم أر لهذه البحوث العرفانيّة إقبالا عمليّا إلاّ من أخصّ الخواص؛ لأنّ غيرهم توجّهوا للمظاهر و تركوا الحقائق، و أخذوا بالقشور و رفضوا اللباب، فإليه جلّت عظمته المشتكى من مكائد الشيطان، و قال شاعرهم:

تركت هوى سعدى و ليلى بمعزل *** و صرت الى علياء أول منزل

فنادتني الأكوان من كلّ جانب ألا أيّها الساعي رويدك فأمهل

غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي

و يأتي في الموضع المناسب ما يتعلّق بالبحث مفصّلا، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و له الشكر على ما أنعم، و الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيّبين و الطاهرين.

ص: 395

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.