مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 8

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً .......

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) الآيات الشريفة تبيّن حكما آخر - من الأحكام الاجتماعيّة - الذي له الأهميّة العظمى في الأديان الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام، و تحدّد مسئولية الفرد تجاه التزاوج و النسل، و تبيّن النكاح المحلّل الصحيح عن النكاح المحرّم الفاسد؛ تهذيبا للشهوة العارمة و جعلها في المسار الصحيح، لئلاّ تتولّد الفاحشة - بعد ما أذن الشرع المبين في نكاح ما طاب من النساء، فكان لا بد من بيان جوانب موضوع هذا الحكم المهم.

و قد حدّدت الآيات المباركة ما يحرم من النكاح من النساء بعد بيان كيفيّة المعاشرة مع الأزواج في الآية السابقة.

ص: 5

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ .

مادة (نكح) تدلّ على الانضمام و الاختلاط، يقال: نكح المطر الأرض. إذا اختلط بثراها، و تناكحت الأشجار إذا انضمّ بعضها مع بعض، و تطلق على العقد باعتبار كونه سببا لاختلاط أحد الزوجين مع الآخر بالوجه الشرعي، كما تطلق على ما وراء العقد و ما يقصد به، باعتبار كونه من لوازم الانضمام و الاختلاط، الظاهري، أو على مسبّبه الواقعي و هو الوطء، فالحقيقة واحدة و الاختلاف بالاعتبار، و قد استعمل في كلّ منهما،

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ولدت من نكاح لا من سفاح»، أي: من وطء حلال لا حرام،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يحلّ للرجل من امرأته الحائض كلّ شيء إلاّ النكاح»، و قال الأعشى:

فلا تقربن جارة إن سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

أي: العقد. و بعد ذلك لا وجه للنزاع في كون هذا اللفظ حقيقة في العقد أو الوطء، فإنّه استعمل في المعنى الجامع، و هما من مظاهر ذلك. و النكاح في الشرع علقة الزواج، و سببها هو العقد المبيح للوطء.

و كيف كان، فالمراد من النكاح المنهي عنه في الآية الشريفة، ما ضمّه الأب إليه من النساء بالعقد أو الوطء، فيشمل المعقود عليها بالعقد الصحيح، و الموطوءة بالملك، و الموطوءة بالسفاح، و يدلّ على ذلك الإجماع و الأخبار المستفيضة.

و «ما» في قوله تعالى: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ موصولة واقعة على النوع أو القسم، أي: لا تنكحوا مصاديق هذا النوع أو القسم، نظير قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [سورة النساء، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [سورة النساء، الآية: 24]، و قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 3].

ص: 6

و «ما» في قوله تعالى: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ موصولة واقعة على النوع أو القسم، أي: لا تنكحوا مصاديق هذا النوع أو القسم، نظير قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [سورة النساء، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [سورة النساء، الآية: 24]، و قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 3].

و قيل: إن «ما» مصدرية، أي: لا تنكحوا مثل نكاح آبائكم.

و لكنّه خلاف ظاهر الآية المباركة، إلاّ أن يراد منها المفعول به من المصدر، أي: منكوحات ءابائكم. و هو و إن كان صحيحا، لكنّه تطويل بلا طائل تحته.

و المراد بالآباء: كلّ من صدق عليه الأب من ناحية الأب أو الام، فيدخل فيه أجداد الأب و أجداد الام و إن علوا. و يدلّ عليه ظاهر اللفظ و بعض الأخبار.

قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ .

أي: إلاّ ما وقع من هذه العلقة في السلف - يعني: في الجاهلية - قبل ورود النهي، فانقضت بموت أو طلاق، فلا يتناول ما يتجدّد في المستقبل.

و قد قيل في هذا الاستثناء وجوه، و يمكن أن يكون (إلا) بمعنى (غير) صفة للموصول، أو لعلقة النكاح المدلول عليها بالنهي.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على المبالغة في النهي و الشدّة في التنزّه عن هذه الفاحشة، و سدّ باب إباحتها حدوثا و بقاء.

قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً .

تقدّم معنى الفاحشة. و المقت: البغض، أي: أن نكاح حلائل الآباء من الفاحشة التي حكمت الفطرة بقبحها، و أنّها مبغوضة عند أرباب العقول و ذوي المروءات.

قوله تعالى: وَ ساءَ سَبِيلاً .

أي: بئس السبيل و الطريق في النكاح الذي يقيم النسل و يجلب السعادة، و قد ذمّ تعالى هذا السبيل مبالغة في ذمّ سالكه، فلا بد من اتباع السبيل الذي حدّده عزّ و جلّ ، و البعد عمّا نهى عنه.

ص: 7

و قد تتابع الذمّ على هذا الفعل الشنيع؛ لبيان أنّه بلغ الغاية في القبح؛ و لذا أفرد عزّ و جلّ هذا النكاح بالذكر عن غيره من الأفراد التي سيذكرها.

قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ .

بيان لأنواع المحرّمات النسبيّة في النكاح، لحكمة متعالية و علّة ثابتة واقعيّة.

و قد ذكر عزّ و جلّ أنواعا ثلاثة، و هي: المحرّمات النسبيّة، و المحرّمات بالمصاهرة، و المحرّمات بالرضاع. و لكلّ نوع أصناف متعدّدة، و هذه الآية الشريفة جمعت تلك الأصناف بأسلوب لطيف و بيان واضح.

و الآية الكريمة تشتمل على المجاز العقلي، فإنها نسبت الحرمة إلى الذوات كالأمهات و البنات و غيرهن، و المراد بها حرمة نكاحهن، الأعمّ من إيجاد علقة النكاح بالعقد المقصود به ذلك، و الوطء لمناسبة الحكم و الموضوع، فإنّها من القرائن التي يعتمد عليها المتعارف في المحاورات.

و للمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ [سورة المائدة، الآية: 3]، فإن المراد حرمة الأكل، و قال تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة، الآية: 26]، أي: سكنى الأرض و نحو ذلك.

و الخطاب و إن كان متوجّها إلى الرجال، لكنّه يشمل النساء، فيحرم عليهن آباؤهن و أبناؤهن و غير ذلك؛ للملازمة بينهما؛ و لأنّ الخطبة و الطلب إنّما يكون من الرجال عادة دون النساء.

و العموم في الموضعين في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ انبساطي بالنسبة إلى الأفراد، أي: كلّ فرد يحرم عليه نكاح امه و بنته و أخته.

ص: 8

ثمّ إنّه ذكر سبحانه و تعالى في الآية الشريفة المحرّمات النسبيّة في أصناف:

الأول: الأمهات. و الام هي كلّ امرأة ولدتك بلا واسطة، أو بواسطة الأب أو الام، كالجدّات من طرف الأب أو من طرف الام.

الثاني: البنات، و البنت هي كلّ امرأة ترجع نسبها إليك بلا واسطة أو معها، ذكرا أو أنثى. و بعبارة أخرى، كلّ أنثى ولّدتها أو ولدت ممّن ولدتها.

و هاتان الطائفتان هما الأصول و الفروع بالنسبة إلى الرجل. و قد أثبت علماء الطبيعة و مهرة خواص الآثار أن اتصال الفروع بالأصول أو بالعكس، يوجب حدوث مفاسد و مضار، و لهم في ذلك أدلّة و شواهد في النباتات و الحيوانات، و نسبوا بعضها إلى فلاسفة اليونان و غيرهم، و تحريم الام على الابن.

و البنت على أبيها، أو الاخت على الأخ، داخل في ما ذكروه، و لعلّ العلوم الطبيعيّة الحديثة تكشف النقاب عن بعض الآثار في القرون الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و العموم يشمل البنت المولودة بالوجه الشرعيّ و البنت المولودة من الزنا؛ لصدق البنت عليها،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» في مقام بيان نفي آثار النسب الشرعيّ و فوائده عند الشكّ و التردّد، لا نفي الحقيقة و جميع الآثار المترتّبة على النسب.

الثالث: الأخوات. و الاخت هي كلّ أنثى ولدها شخص ولدك بلا واسطة، و العموم يشمل الاخت من الأبوين - و هي الشقيقة - و من الأب فقط أو من الام كذلك.

الرابع: العمّات. و العمّة كلّ أنثى هي اخت لذكر تنسب إليه بالولادة منه بواسطة أو بلا واسطة، بلا فرق بين أن تكون من جهة الأب أو الام أو منهما.

الخامس: الخالات. و الخالة كلّ أنثى هي اخت لانثى تنسب إليها بالولادة منها، فهي تقابل العمّة، فتدخل فيها خالة الأب أو خالة الام و هكذا. و التحريم في العمّة و الخالة يختصّ بهما أنفسهما دون بناتهما.

ص: 9

السادس: بنات الأخ، أي: و يحرم على الرجل نكاح بنات أخيه، سواء كن شقيقات أم من الأب فقط أم لام، و كذلك فروعهن.

السابع: بنات الاخت، سواء أ كانت أختا شقيقة أم من الأب أم الام، و كذا فروعهن.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الأخ و الاخت مفردا إما لإرادة الجنس، أو لإضافة الجمع (بنات) إليهما.

و كيف كان، فهذه أصناف سبعة من النساء نسبية تحرم مؤبدا على الرجل، بعضهن اصول الرجل، و أخرى فرعه، و ثالثة من الحواشي القريبة، و رابعة من الحواشي البعيدة، و للفقهاء في ضبط المحرّمات النسبيّة عبارات متفاوتة، و في المقام فروع كثيرة من أراد الاطلاع عليها يراجع كتب الفقه، و قد ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام).

قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ .

هذا هو النوع الثاني، و هي المحرّمات بالرضاعة، و إنّما ذكر سبحانه و تعالى صنفين، و هما الام و البنت، للدلالة على أن الحال في الرضاع كالحال في النسب، و يدلّ عليه

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، و هو يدلّ على أن الرضاعة من الروابط النسبيّة بحسب التشريع، فيحرم كلّ عنوان رضاعي إذا كان مثل العنوان النسبيّ كالام و البنت و الاخت و الخالة و غير ذلك.

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على ترتّب الحكم على مسمّى الرضاعة كيف اتفق، و لكن السنّة الشريفة ذكرت لها شروطا، فلا يمكن الأخذ بالإطلاق مع وجود القيد.

و الرضاعة: - بفتح الراء - مصدر رضع، و مثله الرضاعة بالكسر و الرضاع، و الرضع كالكتف، و المرضع هي المرأة التي يكون لها ولد ترضعه،

ص: 10

و المرضعة إذا وصفت بإرضاع الولد، و الرضاع مصّ الثدي بالشروط المعروفة في كتب الفقه، و قد ذكرناها في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

و جملة: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ صفة مبيّنة لجهة التسمية بالأم، فيدور الإطلاق و شمول الحكم مدار هذه التسمية و تحقّق عنوان الام، و لا تتأتى هذه لو كانت العبارة على غير النحو المذكور في القرآن الكريم.

و المراد من قوله تعالى: وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ ، أي: الأخوات التي تتحقّق بسبب ارضاعهن من لبن هذه المرضع مع وحدة الفحل.

و كيف كان، فكلّ عنوان محرم في النسب إذا تحقّق مثله بعينه من الرضاع يكون محرما، سواء كان بسيطا، كعنوان الام و الاخت أم مركبا، كعنوان بنات الأخ و نحوها من العناوين النسبيّة المذكورة في الآية الشريفة، فلا فرق بين أن يكون كلا طرفي الإضافة من الرضاعة، كالبنت الرضاعيّة للأخ الرضاعيّ ، أو كان أحد العنوانين نسبيّا و الآخر رضاعيّا، و التفصيل يطلب من كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ .

بيان للنوع الثالث، و هو المحرّمات بالمصاهرة. و الأمهات جمع أمهة، يقال:

أم و امهة بمعنى واحد. و قد ورد كلاهما في القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 4].

و قيل: إن الأصل أم أمهة على وزن فعّلة مثل قبّره، و قيل غير ذلك.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل ام المرأة التي يتزوّجها الرجل و جدّتها، سواء دخل بالمرأة أم لم يدخل، و يدلّ عليه أيضا التقييد الآتي في قوله تعالى:

مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

كما أنّه يستفاد من إطلاق (نسائكم) ما يشمل المرأة المعقود عليها بالعقد الدائم أو بالعقد المنقطع، أو من يدخل بها الرجل بملك اليمين.

ص: 11

قوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

الربائب: جمع ربيبة من التربية، فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و لكن لما الحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له، و هذا هو معنى قول النحاة و الصرفيين: إن التاء للنقل إلى الاسميّة.

و الربيب ابن الزوجة من غير الزوج، و الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره، و سمّيت بذلك لأنّها في معرض تربية الزوج غالبا، و إن لم يكن كذلك دائما.

و الحجور: جمع حجر بالفتح أو بالكسر، و هو حضن الإنسان، و استعمل في مطلق الكنف و المنعة، يقال: فلان في حجر فلان، أي: كنفه و منعته و ستره، و هذا القيد لبيان الحكمة في تشريع الحكم لا العليّة، و قد اتفق الجميع على أن الحكمة في التشريعات لا كليّة فيها، و للإشارة إلى شدّة العلقة، و أنّ التربية في غاية القرب، فتكون مشاركة لسائر القريبات و بحكم الولد، فلا يكون القيد حقيقيا احترازيا، بل جرى مجرى الغالب، فالتحريم يشمل الربيبة - سواء كانت في حجر الرجل أم لا - إذا تزوّج الرجل بأمها و دخل بها، كما هو في الآية الشريفة نفيا و إثباتا.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ .

أي: و إن لم يتحقّق منكم الدخول بأم الربيبة فلا جناح عليكم في التزويج بها، و يستفاد من الآية المباركة أنّ الدخول شرط في تحريم الربيبة على الزوج، و إلا فلا بأس بالنكاح و لو تحقّق التربية في الحجور.

قوله تعالى: وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ .

الحلائل: جمع الحليلة، و هي الزوجة، قيل: إنّه مشتق من الحلال، فهي حليلة بمعنى محلّلة، و الزوج حليل و جمعه أحلة، كعزير و أعزّة، و قيل: هو من الحلول؛ لأنّها تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فتكون فعيلة بمعنى فاعلة.

ص: 12

و كيف كان، فالتاء فيها لاجرائها مجرى الواحد.

و المراد من الأبناء كلّ من انتسب بالإنسان بولادة، سواء كان مباشرة من دون واسطة، أم معها، كابن الابن و ابن البنت، و هم الذين يسمّون بأولاد الصلب مقابل ولد التبنّي الذي كان شائعا في عصر نزول القرآن الكريم، فكانوا يعاملون مع الولد الدعي معاملة ولدهم الحقيقي في كلّ ما يترتّب على النسب من الآثار، كالخلطة، و الخلوة، و عدم الحجاب و نحو ذلك، و قد أبطل الإسلام هذه العادة، و ما كان تزويج الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بزوجة زيد بن حارثة، إلا لأجل إبطال ما كان معروفا من التبني، قال تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً [سورة الأحزاب، الآية:

37].

و هذا القيد: مِنْ أَصْلابِكُمْ لا مفهوم له يثبت الحكم لحليلة الابن من الرضاع على الأب أيضا؛ لأنّه يلحق بالولد الرضاعيّ ؛ لما تقدّم من أنّه

«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، فتحرم حليلة الابن من الرضاع كما تحرم حليلة الابن للصلب على الأب.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ .

بيان لنوع آخر من الأنواع المحرّمة، و هو المحرّم بسبب عارض، و هو الجمع بين الأختين، سواء كان بالعقد أم بملك اليمين - على ما يأتي من التفصيل - أم بالاختلاف. فإن جمع بينهما بعقدين مترتّبين، يكون السابق صحيحا و اللاحق باطلا، و إن جمع بينهما في عقد واحد يبطلان معا.

و قيل: هو مخيّر في إمساك أيتهما شاء، و يدلّ على ذلك جملة من الروايات.

و المنساق من الآية الشريفة حرمة الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلو زال هذا الوصف فلا بأس به، كما إذا نكح الرجل إحدى الأختين ثم فارقها بالطلاق أو الموت، فتزوّج الاخت الاخرى.

و في المقام فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه، فراجع (مهذب الأحكام).

ص: 13

قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ .

أي: حرّم ذلك عليكم إلا ما وقع منكم في الجاهلية و زال موضوعه، فإنّه مغفور لكم و معفوّ عنكم، و نظير هذا ما تقدّم في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، و رفع الحكم لا يستلزم رفع الآثار المترتّبة عليه، فتثبت القرابة الشرعيّة و التوارث بين القرابة المتولّدين من الجمع بين الأختين في الجاهلية.

و قيل: إنّه يمكن إرجاع هذه الجملة إلى جميع ما ورد في الآية المباركة، من غير اختصاص بالفقرة الأخيرة، فيأتي فيها ما ذكرناه آنفا، و لكنّه بعيد من ظاهر الآية الشريفة. و إن كان يناسبه ذيل الآية الشريفة من سعة عفوه و غفرانه.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .

تعليل لما ذكر في المستثنى و المستثنى منه، أي: أنّ اللّه تعالى غفور لما وقع منكم في الجاهلية، و الإطلاق يشمل آثار الذنب و المعاصي.

أي: أنّ اللّه تعالى غفور لما وقع منكم في الجاهلية، رحيم بعباده، يشرّع الأحكام لأجل سعادتكم و تكميل نفوسكم، فهو رحيم بعباده؛ لأنّه أرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم في معاشهم و معادهم.

و قد اتفق الفلاسفة المتألّهون و غيرهم على أن كلّما ينزل من السماء من الوحي المبين، له علل و مصالح واقعيّة، ربّما لا يدرك العقل تلك المصالح و العلل مهما بلغ شأنه، فجميع ما ذكره عزّ و جلّ في الآية المباركة في حرمة تلك الطوائف و الأفراد ذات مصلحة واقعيّة تكوينيّة، لا سيما في تنظيم الاسرة، و تهذيب السلوك و التخلّق بمكارم الأخلاق، و بعث روح الاحترام و التقدير في النفوس بالنسبة إلى الآخرين، و نزع روح الانتقام و البغضاء منها، إلى غير ذلك من المصالح التي قد لا يدركها العقل إلا بعد قرون عديدة.

ص: 14

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً ، على أنّ النكاح المحرّم ممّا يوجب الدخول في الفحشاء، و يزيد الجرأة على ارتكاب المآثم، و أنّه السبيل الذي لا يهدى إلى الكمال المنشود في تكوين الاسرة و الاجتماع، و يستلزم بعث روح الانتقام و البغضاء في النفوس.

و بالجملة: أنّ النكاح المحرّم يؤثّر في النفوس و الأعقاب، و يوجب استيلاء مادة الفساد و روح الانتقام و البغضاء، و الاستهانة بالحقائق و المقدّسات، و الدخول في مسالك و سبل لا توصل الإنسان إلى الكمال.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، رفع الحكم الوضعيّ و التكليفيّ معا بالنسبة إلى ما وقع قبل تشريع الحكم، أي: أنّ هذا النكاح الذي حرّمه اللّه تعالى جار من حين إنشاء الحكم، لا أن يعمّ ما قبله، فلا حرمة له في ما سبق و لا أثر له من ذنب و غيره، و لكن هذا لا يدلّ على أنّ النكاح الموجود حين التشريع مباح لهم، فإنّ التشريع قد حرّمه بقاء، فتجب المفارقة فورا.

و على هذا، فلا معنى للنزاع في ان الاستثناء في الآية الشريفة منقطع أو متصل.

الثالث: قال بعض العلماء: إنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ الحكمة في تشريع الأحكام في هذه الآية، و هي الاختلاط و شدّة المصاحبة و المعاشرة بين هذه الأصناف من النساء المذكورات في الآية المباركة و بين الرجل، بحيث يعدّ أحدهما من الآخر، و في هذه الحالة لا وجه للنكاح.

ص: 15

و هو و إن كان حسنا ثبوتا، و لكن لا كليّة فيه إثباتا، بل إن ذيل الآية الكريمة: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ينافي ما ذكره من التعليل.

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ عن الباقر عليه السّلام: «لا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جدّه».

أقول: التعبير ب (لا يصلح) لا ينافي الحرمة، لاستعماله كثيرا في الأعمّ .

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، قال: «نزلت في أبي قيس بن الاسلت خلف على ام عبيد بنت ضمرة كانت تحت الاسلت أبيه، و في الأسود بن خلف، و كان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار، و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند امية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن امية، و في منظور بن رباب، و كان خلف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيار».

و فيه - أيضا -: أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: «كان الرجل إذا توفّى عن امرأة كان ابنه أحقّ بها أن ينكحها إن شاء، إن لم تكن أمّه، أو ينكحها من شاء، فلمّا مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورثها من المال شيئا، فأتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعلّ اللّه ينزل فيك شيئا، فنزلت: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، و نزلت: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس قال: «كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم اللّه إلا امرأة الأب، و الجمع بين الأختين، فأنزل اللّه:

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، و قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ .

ص: 16

أقول: في مضمون ذلك أخبار اخرى، و لا منافاة بينها بعد إمكان تعدّد منشأ النزول.

و في كتب الأحاديث و الفقه

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إن اللّه حرّم من الرضاعة ما حرّم من النسب»،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الرضاع لحمة كلحمة النسب».

أقول: الحديثان معروفان عند الإماميّة و الجمهور، و مذكوران في كتب الحديث و الفقه.

و في الدرّ المنثور: أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة، قالت: «كان في ما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هن في ما يقرأ من القرآن».

أقول: الرواية تدلّ على التحريف، فهي مطروحة. و أما نشر الحرمة بالرضاع فله شروط مذكورة في الفقه، و قد تعرّضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و في الفقيه و التهذيب: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا تزوّج الرجل المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالأم، فإذا لم يدخل بالأم فلا بأس أن يتزوّج بالابنة، و إذا تزوّج الابنة فدخل بها أو لم يدخل بها فقد حرمت عليه الام،

و قال عليه السّلام: الربائب حرام، كن في الحجر أو لم يكن».

و في الاستبصار: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها، أله أن ينكح ابنتها؟ قال عليه السّلام: لا، هي كما قال اللّه تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

أقول: الروايات في هذا المعنى متضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام بل يعتبر ذلك من مذهبهم، و قد ذكرنا جملة منها في كتابنا (مهذب الأحكام)، و هي

ص: 17

صريحة في اشتراط الدخول بالأم في حرمة البنت و عدم اشتراط الحجور أيضا.

و لكن، في بعض الروايات التي رواها أهل السنّة و الجماعة عن علي عليه السّلام أنّه اشترط الحجور في حرمة البنت.

و لكنّه مردود بما علمت، و مخالف لما هو المستفاد من الآية الشريفة.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد الرزاق، و عبد الحميد، و ابن جرير و ابن المنذر، و البيهقي في سننه من طريقين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوّج أمها، دخل بالابنة أو لم يدخل، و إذا تزوّج الام فلم يدخل بها ثم طلّقها، فإن شاء تزوّج الابنة».

أقول: في مضمون ذلك روايات متعدّدة.

و في الاستبصار: عن جعفر، عن أبيه: «أن عليّا عليه السّلام كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي دخلتم بهن، في الحجور و غير الحجور سواء، و الأمهات دخل بالبنات أم لم يدخل، فحرّموا و أبهموا ما أبهم اللّه».

أقول: صدر الحديث موافق لما هو المأثور عن الأئمة عليهم السّلام، و المعروف من مذهبهم كما تقدّم. و أما

ذيل الحديث: «و الأمهات مبهمات»، أي: أمهات نسائكم مطلقات غير مقيدة بالدخول بالبنت، فهن محرّمات سواء دخل بالبنات أم لا.

و في الكافي: عن منصور بن حازم قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوّج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوّج بأمها؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا، فقلت: جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي عليه السّلام في هذا الشمخية التي أفتاه ابن مسعود أنّه لا بأس بذلك، ثمّ أتى عليّا عليه السّلام فسأله.

فقال له علي عليه السّلام: من أين أخذ بها؟ فقال: من قول اللّه عزّ و جلّ :

وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ، فقال علي عليه السّلام: إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما تسمع ما يروى هذا عن علي عليه السّلام ؟ فلما قمت ندمت و قلت: أي شيء صنعت ؟ يقول: قد فعله رجل منّا و لم ير به بأسا و أقول أنا:

ص: 18

وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ، فقال علي عليه السّلام: إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما تسمع ما يروى هذا عن علي عليه السّلام ؟ فلما قمت ندمت و قلت: أي شيء صنعت ؟ يقول: قد فعله رجل منّا و لم ير به بأسا و أقول أنا:

قضى عليّ فيها! فلقيته بعد ذلك و قلت: جعلت فداك، مسألة الرجل إنّما كان الذي قلت كان زلّة مني فما تقول فيها، فقال: يا شيخ، تخبرني أن عليّا عليه السّلام قضى فيها و تسألني ما تقول فيها؟!».

أقول: الظاهر من قوله عليه السّلام: «رجل منا»، أي: ابن مسعود كما يأتي في ما رواه الدرّ المنثور، و أما قضاء علي عليه السّلام كان في حرمة ام الزوجة مطلقا، فلا محالة لا بد من حمل الرواية على التقية، فلا يصحّ التمسّك بالرواية مقابل ظاهر الآية الشريفة و الروايات المستفيضة و إجماع الفقهاء الدالّة على حرمة ام الزوجة مطلقا.

و في الدرّ المنثور عن البيهقي في سننه: «أن رجلا من بني شمخ تزوّج امرأة و لم يدخل بها، ثمّ رأى أمها فأعجبته، فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوّج أمها ففعل و ولدت له أولادا، ثمّ أتى ابن مسعود المدينة فقيل له: لا تصلح، فلما رجع إلى الكوفة فقال للرجل: إنّها عليك حرام ففارقها».

أقول: حكم الجواز لم يصدر عن معصوم، فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية.

و فيه أيضا عن علي عليه السّلام: «إنّ ام الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت، و إنّها بمنزلة الربيبة، إذا لم تكن في حجر زوج أمها لم تحرم عليه نكاحها».

أقول: هذه الرواية مخالفة المذهب أهل البيت و المأثور عنهم عليهم السّلام كما عرفت.

و في التهذيب: عن عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان، فنكح إحديهما ثمّ بدا له في الثانية، فليس ينبغي له أن ينكح الاخرى حتّى تخرج الاولى من ملكه، يهبها فإن وهبها لولده يجزيه».

ص: 19

أقول: الرواية تدلّ على حرمة الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، و ما ورد في روايات اخرى من جواز الجمع بينهما في أصل الملكية، لا بد من طرحها أو حملها على عدم وطئهما أو إحداهما و غير ذلك.

و في تفسير العياشي: عن أبي عون قال: «سمعت أبا صالح الحنفي قال: قال علي عليه السّلام ذات يوم: سلوني، فقال ابن الكواء: أخبرني عن بنت الاخت من الرضاعة، و عن المملوكتين الأختين، فقال: إنّك لذاهب في التيه، سل عمّا يعنيك أو ينفعك، فقال ابن الكواء: إنّما نسألك عمّا لا نعلم، و أما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثمّ قال: أما الأختان المملوكتان أحلّتهما آية و حرّمتهما آية، و لا أحلّه و لا أحرّمه، و لا افعله أنا و لا واحد من أهل بيتي».

أقول: هذا الحديث يفسّره ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية عبد اللّه بن سنان المروية في التهذيب كما تقدّم، و يشهد لذلك

ما روى عن قبيصة بن ذؤيب:

«ان رجلا سأله عليه السّلام عن ذلك فقال: لو كان إليّ من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا»، فإنها ظاهرة في أن الجمع بين المملوكتين كان شائعا في عصر الأئمة عليهم السّلام، و لكنّه عليه السّلام لم يقدر على بيان الحكم الواقعي للتقية، و التفصيل مذكور في كتب الفقه فراجع.

و في التهذيب: عن معمر بن يحيى بن سالم قال: «سألنا أبا جعفر عليه السّلام عمّا يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن أشياء لم يكن يأمر بها و لا ينهى إلا نفسه و ولده، فقلت: كيف يكون ذلك ؟ قال: قد أحلّتها آية و حرّمتها آية أخرى. فقلنا:

الأولى أن يكون إحديهما نسخت الاخرى، أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال: قد بيّن لهم إذ نهى نفسه و ولده، قلنا: ما منعه أن يبيّن ذلك للناس ؟ قال:

خشي أن لا يطاع، فلو أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام ثبت قدماه أقام كتاب اللّه و الحقّ كلّه».

أقول: ظهر وجه ما تقدّم من هذه الرواية.

ص: 20

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ .......

اشارة

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) بيان لمحرّم آخر ممّا حرّمه في النكاح التي شرّعها اللّه تعالى لتهذيب الشهوة العارمة، و تصحيح النسل و تحديده على ما ينبغي أن يكون عليه من الصلاح و الكمال، و قد فصّل عزّ و جلّ جملة منها في الآيات السابقة، و ذكر تعالى في هذه الآية الشريفة حرمة نكاح المحصنات المتزوّجات إلا الإماء المملوكات، فإنّ إحصانهن لا يمنع الزواج بهن بعد الاستبراء، ثم أحلّ اللّه تعالى ما رواء المذكورات حتّى التمتع بالنساء إذا كان المراد منه إحصان النفس و تهذيبها و ترويضها بعدم الوقوع في الفحشاء و ارتكاب الإثم، و لا بد من توفّر الشروط المطلوبة في المتعة، كالأجر و المدّة و غيرهما، و ذكر عزّ و جلّ أن جميع تلك الأحكام إنّما هي لمصالح الناس، و هو العليم بالمصالح الحكيم في أفعاله.

التفسير

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ .

عطف على ما سبق من المحرّمات. و المحصنات جمع المحصنة - بفتح الصاد و هي قراءة المشهور، بل قيل: إنّها على الكسر في غير هذا الموضع، و قال ابن الأعرابي: «كلّ أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف: أحصن، و ألفج إذا ذهب ماله، و أسهب إذا كثر كلامهم»، و هي اسم مفعول من أحصن، و قيل: يمكن أن تكون اسم فاعل باعتبار أنهنّ أحصنّ فروجهن عن غير أزواجهن، أو أحصنّ أزواجهن.

ص: 21

و كيف كان، فمادة (حصن) تدلّ على المنع و التمنّع، و منه الحصن و هو المكان المنيع الحمي، و حصّنت المرأة (بضم الصاد) حصانة و حصنا، بمعنى عفّت و منعت نفسها من الوقوع في الإثم و امتنعت من الفجور، قال تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [سورة النساء، الآية: 25]، و منه الحصان لأنّه حصن بمائه فلم ينز إلا على كريمة.

و أحصنت المرأة إذا تزوّجت و منعت نفسها من غير الزوج، كما منعت الزوج من الوقوع في الحرام، فيقال لها: محصنة (بفتح الصاد)، و محصنة (بالكسر)، كما عرفت آنفا.

و قيل: إنّ كلّ امرأة عفيفة محصنة (بالفتح و الكسر)، و كلّ امرأة متزوّجة محصنة (بالفتح) لا غير.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موضعا، و جميعها تدور حول ذلك المعنى الذي ذكرناه، اي: المنع و الامتناع، قال تعالى: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [سورة الأنبياء، الآية: 91] أي: عفت: و قال تعالى: قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ [سورة يوسف، الآية: 48] أي: ممّا تحفظونه في الحصن و الأماكن المعدّة لحفظ الأغذية، و قال تعالى: مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ [سورة الحشر، الآية: 2]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ [ سورة النور، الآية: 23] أي: الحرائر، لأنّ الحرية تمنع الحرّة عن الفجور، بخلاف الإماء اللواتي كان الزنا فاشيا فيهن، و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ [سورة النساء، الآية 25] أي: الحرائر.

و المراد بالمحصنات في الآية الشريفة المتزوّجات من النساء مطلقا، من الحرائر و الإماء المسلمات و الكافرات.

و المعنى: و حرّمت عليكم النساء المزوّجات مطلقا، الحرائر و الإماء، و قيل:

في الآية المباركة وجوه اخرى لا يخفى بعدها.

ص: 22

قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ .

استثناء عن الحكم السابق في الإماء المندرجة تحت المحصنات. حرّمت عليكم المحصنات مطلقا إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن، فإنّه يجوز لمولى الأمة المتزوّجة أن يحول بينها و بين زوجها ثم ينال منها بعد استبرائها، بلا فرق في هذه المملوكة بين المسبيّة و غيرها.

و قيل: إن هذه الآية الشريفة تختصّ بالإماء المسبيّات إذا كنّ ذوات ازواج من الكفّار، و استدلّوا عليه بما رواه مسلم في جامعه و أحمد عن أبي سعيد الخدري، و أخرجه في الدرّ المنثور أيضا من أن السبب في نزول الآية المباركة في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهن أزواج في دار الحرب، فلما نزلت نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن».

و روي عن عليّ عليه السّلام في الآية أنّها نزلت: «في سبي من كان لها زوج».

و فيه: أن سبب النزول لا يصلح لتخصيص عموم الآية الشريفة، كما لا يخفى.

و قيل: إنّ المراد بالملك في قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ملك الاستمتاع، أي: و أحلّ لكم ما ملكتم نكاحها و ملكتم رقبتها من العفيفات.

و يرد عليه: أنّه مبني على أن يكون المراد من المحصنات العفائف دون المتزوّجات، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، مضافا إلى أنّ المنساق من جملة (ما ملكت ايمانكم) هو ملك الرقبة دون غيره.

قوله تعالى: كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

مصدر مؤكّد منصوب بفعل مقدر قريب من معنى فعله، أي: أن المحرّمات المذكورة هي فرض من اللّه تعالى، و قد كتبها عليكم فالزموها و ارعوا حدودها، فإنّها شرّعت لمصالحكم.

ص: 23

و قيل: إنّه منصوب ب «عليكم»، فإنّه اسم فعل.

و أورد عليه بأن اسم الفعل ضعيف لا يتقدّم معموله عليه.

و لكنّه ليس بشيء، فإنّه إذا جعلناه معمولا لاسم الفعل، فليكن المقام دليلا على جواز التقديم لأجل التأكيد.

و قيل: إنّه منصوب على الإغراء.

و أشكل عليه بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء.

قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ .

أحل مبني للمفعول، و هي القراءة المعروفة، و قرئ على البناء للفاعل. و (ما وراء) أي: ما عدا، و المراد بالموصول و اسم الإشارة ما هو المقدّر في قوله تعالى:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، فقد ذكرنا أن مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي أن يكون المقدّر هو النكاح و غشيان النساء.

و المعنى: و أحلّ اللّه تعالى لكم نكاح ما سوى الأنواع المذكورة من المحرّمات في الآية المباركة السابقة، و الحليّة هذه شأنيّة معلّقة على حصول أسباب الفعل و شروطه.

و للمفسّرين في هذه الآية الشريفة أقوال و تفاسير لا يخفى فسادها، و الحقّ ما ذكرناه، و هو الظاهر من سياق الآية المباركة.

قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ .

المصدر المؤول إليه - و هو (الابتغاء) - بدل من قوله تعالى: ما وَراءَ ذلِكُمْ ، أو عطف بيان منه. و قيل: إنّه مجرور باللام التي هي للتعليل، أي:

لابتغاء مباشرة النساء و غشيانهم صحيحا لا فاسدا، بإنفاق أموالكم مهرا أو ثمنا لشراء الأمة.

ص: 24

قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ .

بيان لقاعدة كلية في التمييز بين الطريق الصحيح و الباطل في النكاح، فإنّ النكاح الصحيح المشروع ما تحقّق فيه تحصين النفس عن الوقوع في ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التعفّف عن ابتغاء الحرام باستغناء كلّ واحد من الزوجين بالآخرين الاستمتاع المحرم، و هذا القصد هو من أهمّ الطرق التي يوجب تهذيب داعية الفطرة و كبح جماحها، لئلاّ تذهب كلّ مذهب، فيكون قصد التعفّف من أهمّ مقومات تكوين الاسرة الصالحة و تأسيس مجتمع قويم يتقوّم من أفراد مهذّبين صالحين، فكلّ نكاح شرعي متحقّق في الخارج، سواء كان بالعقد الدائم أو بملك اليمين أو بعقد انقطاع، إنّما هو لأجل تحصين النفس و العفاف، و هو يغاير السفاح الذي لا يكون إلا استجابة وقتية لداعي الشهوة و استيلائها على داعية العقل و العفّة.

و هذه الآية الشريفة على إيجازها قد اشتملت على مقوّمات التشريع الإلهي في هذا الموضوع المهمّ ، الذي اعتبره بعض علماء النفس السبب الوحيد في ما يجري في الاجتماع الإنساني و ما يتخلّق به الأفراد من الصفات و العادات، و اعتبر أنّ للشهوة الفطريّة الأثر المهمّ في تكوين الإنسان نفسيّا و تربويّا و خلقيّا، و هذا الرأي فيه من الإغراء و المبالغة ما لا يخفى، و سوف ننقل هذا الرأي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى و نذكر ما فيه من المناقشات.

و كيف كان، فالآية المباركة من الآيات المعدودة التي تبيّن جميع مقوّمات التشريع، من الحكم و الحكمة و القصد و الغاية، فالنكاح المشروع هو ما قصد فيه تحصين النفس و بعث العفّة في النفوس التي أثارتها الشهوة العارمة، و سدّ أبواب الفحشاء و السفاح الذي هو وليد حاجة وقتيّة غير مهذّبة غلبت على القوة العاقلة، لأجل عدم تحصين النفس، فهذا المناط إذا تحقّق في كلّ نكاح كان مشروعا في كلّ دين - الإسلام و غيره على حدّ سواء.

ص: 25

و من هنا يظهر وجه التفريع في الآية اللاحقة على هذه الآية المباركة، باعتبار أن النكاح المؤقّت إنّما شرّع لأجل تحصين النفس و التعفّف، كما هو الحال في النكاح الدائم، فهو مغاير للسفاح البتة.

و ممّا ذكرنا يتبيّن فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أن المراد من المسافحة مطلق سفح الماء و صبّه، من غير أن يقصد به الغاية التي وضع اللّه تعالى لأجلها الداعيّة الشهويّة، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، فيكون الإحصان المقابل للسفاح هو الزواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل.

و فساد ما ذكره واضح، فإنّ الآية الكريمة لم تشر فيها إلى أنّ غاية النكاح مجرّد التوالد فقط، و قد اختلط عليه البحث، فإنّ الأمر لو كان كذلك لكان النكاح الذي لا يتوفّر فيه غرض التوالد و التناسل باطلا، سواء كان من جهة عدم قابلية تكوين المرأة لذلك، كالكبيرة و الصغيرة، أو لأجل مرض أو مانع عابر، و هذا ممّا لم يقل به أحد، فالنكاح سنّة مشروعة بين الرجل و المرأة، به يستغنى أحدهما بالآخر، فيحصل تحصين النفس و تعففها و تكوين الاسرة التي تجتمع فيها أسباب السعادة و الكمال، بخلاف السفاح و الزنا.

و المسافحة: من السفاح و هو الزنا، و السفح هو صبّ الماء، فكأن الزاني بحكم غلبة الشهوة عليه لا غرض له إلا صبّ النطفة فقط، مع قطع النظر عن ما يلزمه من اللوازم السيئة، بخلاف الإحصان، فإنّه نكاح توفّر فيه قصد التحصين و العفاف، مع الالتزام بجميع ما يترتّب عليه من الآثار و اللوازم الحسنة.

و ممّا ذكرنا يظهر أن المراد بالإحصان في الآية الشريفة، إحصان عفّة و تحصين النفس عن الوقوع في الحرام، مقابل السفاح و الزنا.

قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً .

تفريع على الجملة السابقة في الآية المباركة المتقدّمة التي بيّنت الحدّ الفاصل بين النكاح الذي يبتغي منه الإحصان، و بين الزنا و السفاح، فيكون العقد

ص: 26

المنقطع من أفراد ما يوجب العفّة و تحصين النفس عن الوقوع في الحرام، فيكون التفريع من باب تطبيق الكبرى على الصغريات، و الكليّ على الجزئيات، و تقدّم آنفا ما يدلّ على ذلك.

و «ما» إمّا موصولة، و جملة: «استمتعتم به» صلة لها، و الموصول كناية عن القسم الذي يطلق بمفهومه العامّ على من لا يعقل، مثل: بعض، و لذا استعمل (ما) دون (من)، أو يكون (ما) للتوقيت، و الظرف في (منهن) متعلّق بقوله: (استمتعتم).

و كيف كان، فالآية المباركة في مقام تشريع قسم خاص من المنكوحات التي يقصد بهن الإحصان.

و الاستمتاع طلب المتعة و التلذّذ، و المراد به هو النكاح المؤقّت المحدود الذي يتوصّل به إلى التمتع بالنساء طلبا للإحصان، و يدلّ على أنّ المتعة تطلق على طلب الانتفاع مؤقّتا. و مشتقات هذه المادّة و استعمالاتها كلفظ المتاع و التمتع و نحو ذلك.

و منه يظهر بطلان ما قيل: من أن الاستمتاع يطلق على طول التمتع به، فإنّه خلاف استعمالات هذه المادّة، و قد سمّى اللّه تعالى الدنيا بالمتاع، باعتبار قلّتها و قصر مدّتها، قال تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [سورة الأحقاف، الآية: 20]، و قال تعالى: مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ [سورة النساء، الآية: 77]، و لأجل ذلك سمّي العقد المنقطع بنكاح المتعة؛ لانقطاع مدّتها و عدم دوامها.

و الأجور: جمع الأجر، و هو المال الذي يبذل مقابل العمل أو الانتفاع، و هو في الأصل يطلق على الثواب، و يطلق على المهر؛ لأنّه أجر الاستمتاع، و الفاء في «فآتوهن» للجواب لتضمّن الموصول معنى الشرط.

و «فريضة» حال من الأجور، و هي بمعنى مفروضة، أي محدودة. و يحتمل

ص: 27

أن تكون صفة لمصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا. يعني: ما فرضتموه من الأجرة في العقد.

و الآية المباركة تدلّ على مشروعية نكاح المتعة، و أنّه مثل النكاح الدائم و ملك اليمين من سبل الإحصان و التعفّف، و يدلّ على ذلك امور:

الأول: أنّ اللّه تعالى قد ذكر في الآيات السابقة حكم النكاح الدائم و ملك اليمين إما تصريحا أو إشارة، و أكّد على وجوب إيتاء المهر في النكاح الدائم بوجوه مختلفة، سواء في هذه السورة كقوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 20]، أو في سورة البقرة كقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [سورة البقرة، الآية 236]، فلا يبقى مجال للقول بأنّ آية المتعة مسوقة لبيان إعطاء المهر كاملا بالتمتع من المرأة، فإنّ الآية الكريمة أجنبيّة عن هذا الأمر كما لا يخفى، مضافا إلى أنّه لا بد من ارتكاب التجوّز في المقام، و هو القول بأنّ السين و التاء في «استمتعتم» للتأكيد، و أنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح؛ لأنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع، و كلاهما خلاف ظاهر الآية الشريفة، و تصريح أهل اللغة في هذه المادّة كما عرفت.

و قيل: إنّ الآية الشريفة مسوقة للتأكيد. و قد عرفت آنفا أنّ الآيات السابقة قد استوفت بيان النكاح الدائم و المهر فيه و ملك اليمين و أقسام النكاح المحلّل و النكاح المحرّم، و قد تضمّنت وجوها من الدلالة التي لا تدع مجالا للتأكيد بعد ذلك.

الثاني: أنّ نكاح المتعة كان معروفا في عصر نزول القرآن، بل قيل: إنّ الإسلام لم يكن المشرّع الوحيد لذلك، و لكن الذي لا ينبغي الشكّ فيه أنّه كان معروفا في النصف الأول من عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الهجرة، و كان دائرا بينهم قولا

ص: 28

و عملا، بحيث كلّما اطلق هذا اللفظ انصرف إلى هذا القسم من النكاح فقط، و مع ذلك لا نحتاج إلى التماس دليل آخر في تطبيق هذه الآية على النكاح المؤقّت، أو بالأحرى نكاح المتعة.

يضاف إلى ذلك أن الأصحاب و القدماء من المفسّرين - كابن عباس و ابن مسعود، و أبي بن كعب، و قتادة، و مجاهد و السدّي و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و أهل البيت عليهم السّلام بأجمعهم - فسرّوا الآية الشريفة بنكاح المتعة.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد القول بأنّ الآية المباركة وردت في مطلق النكاح و التأكيد على وجوب إعطاء المهر كاملا.

الثالث: أنّ سياق آية المتعة يدلّ على مشروعيّة نكاح المتعة، و أنّه من أفراد ما يوجب الإحصان و التعفّف، كالنكاح الدائم و ملك اليمين. و أنّ ما سوى ذلك يدخل تحت قوله تعالى: فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 7].

و من ذلك يظهر بطلان ما قيل: إن قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، حيث قيّد حلّية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا؛ لعدم كونه محصنا - يدفع كون المتعة هي المرادة من الآية المباركة.

و وجه البطلان أن ما ذكر يجرى في ملك اليمين أيضا، مع أن المراد بالإحصان إحصان العفّة دون إحصان التزويج، إلا أن تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع، إنّما هو بحسب السنّة و الكتاب، فإنّه من الواضح أنّ حكم زنا المحصن لم يرد في الكتاب أصلا.

و من جميع ذلك يظهر أنّه لا ريب في ظهور الآية المباركة في حلّية نكاح المتعة، و لم يناقش في ذلك المتقدّمون من الأصحاب و المفسّرين، و أنّ ما ذكر من

ص: 29

الإشكالات من المتأخّرين إنّما هي مغالطات واضحة البطلان. هذا بالنسبة إلى ما يستفاد من نفس الآية الكريمة. و أمّا بالنسبة إلى السنّة الشريفة، فسيأتي في البحوث اللاحقة ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ .

الجناح: الإثم و المنع، أي: لا منع و لا إثم على الزوجين في المتعة إذا تراضيا على حطّ المهر كلا أو بعضا من بعد الفريضة و التقدير، و هذا الحكم لنفي التوهّم في أنّه بعد الفرض و التقدير للأجر لا يجوز لأحدهما التصرّف فيه، فيكون النهي في مقام دفع توهّم الحظر و المنع كما هو معروف، و لا يختصّ هذا الحكم بالمتعة، بل قد تقدّم في مهر عقد النكاح أيضا، قال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [سورة النساء، الآية: 4].

نعم، يفترق النكاح الدائم عن المنقطع في أنّه يشترط في الأخير ذكر المهر و الأجل في العقد، و إلا يكون باطلا دون الأوّل، فإنّه لو لم يذكر فيه المهر كان العقد صحيحا، و يسمّى حينئذ تفويض البضع، كما أنّه لو ذكره إجمالا في عقد النكاح من دون تفصيل سمّي مفوضة المهر.

و يمكن أن تحمل الآية الشريفة على المعنى العامّ في كلّ شرط سائغ بعد الفريضة في العقد إذا تراضيا عليه، هذا في غير الأجل، فإنّ التراضي على زيادة الأجل بأجر آخر موضع خلاف بين الفقهاء.

و كيف كان، فإنّ هذا الاحتمال و إن كان صحيحا ثبوتا و يمكن الاستشهاد عليه ببعض الأخبار، إلا أن تطبيق الآية المباركة عليه يحتاج إلى تكلّف، لا سيما بعد ظهور قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ في الأجر، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ص: 30

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ على أنّ إحصان المرأة بالتزويج بشخص يمنعها من الفجور و من التزويج بشخص آخر.

و بعبارة أخرى: أنّ الآية المباركة تدلّ على حرمة تعدّد الأزواج بالنسبة إلى امرأة واحدة، الذي كان معروفا عند بعض المجتمعات في العصر القديم، و الإسلام حرّم ذلك، و حكم بأنّ الزوجة لا يجوز أن تتزوّج برجل آخر مع كونها محصنة بالزوج الأوّل، بخلاف العكس، فإنّه أباح لرجل واحد أن يتزوّج بأكثر من واحدة حتّى أربعة نساء، و قد تقدّم في أوّل هذه السورة ما يتعلّق بالأخير، فراجع.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ على أنّ الإحصان في الإماء بالتزويج لا يمنع المولى من التسرّي بهن، فله أن يحول بين مملوكته و زوجها ثمّ التسرّي بها بعد استبرائها بالعدّة، و الإطلاق يشمل جميع أنواع الإماء و الجواري، سواء كن مسبيّات أو غيرهن.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: كِتابَ اَللّهِ على أنّ الأحكام المذكورة في الآيات السابقة تحليلا و تحريما، ممّا كتبه اللّه تعالى على العباد وفقا لمصالح حقيقيّة واقعيّة، و لا يمكن التعدّي عنها بوجه من الوجوه.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، على أنّ المطلوب في كلّ نكاح هو تحصين النفس و التعفّف، دون الابتذال و الإباحة و سفح الماء من غير غاية، فهذه الآية الشريفة

ص: 31

تبيّن روح الشريعة في هذا الحكم و الجانب المعنوي منها، كما تشير إلى بعض الجوانب المادّية فيه أيضا، و هو المال و الزوج و الزوجة، فإنّ كلّ نكاح يتقوّم بهذه الأمور الثلاثة.

و أمّا الجانب المعنوي، فهو العفّة و تحصين النفس و التجنّب عن الإباحيّة و الزنا و المباشرة من دون غاية سوى قضاء الشهوة العارمة.

و يستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ الغرض من هذه الأحكام التوفيق بين الاستجابة التكوينيّة و داعي الفطرة و العقل؛ لتثبيتها على أساس محكم متين، و حفظ النفس و التحرّز عن الفحشاء التي تعتبر بحقّ مفسدة للحياة الزوجية، و قاطعة للنسل، و هادمة للسعادة، بخلاف ما إذا كانت الفطرة و الشهوة التكوينيّة تحت سيطرة العقل و إمارته، فإنّه يوجب تأسيس حياة سعيدة تبتني على الخير و المحبّة و بثّ النسل الطيب على ما يريده اللّه تعالى.

الخامس: ذكرنا أنّ ظاهر السياق من قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً هو نكاح المتعة، و أنّه مشروع كالقسمين اللذين ذكرهما عزّ و جلّ في الآية السابقة، و أنّه من سبل تحصين النفس من الوقوع في الحرام، و أنّ الثلاثة هي الطرق الشرعيّة في الاستمتاع و اللذّة الجنسيّة، و غير تلك الثلاثة يكون سفاحا محرّما، و هذا ممّا لا شبهة فيه، فلا يبقى مجال للنقاش في دلالة الآية الشريفة على المطلوب، و قد ذكرنا سابقا بعض ما قيل في وجه الاشكال فراجع.

و ذكر بعضهم أنّ الآية الكريمة منسوخة، و اختلفوا في الناسخ لها، فقيل:

إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ . إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 5-7].

ص: 32

و فيه أوّلا: أنّ آية المتعة متأخّرة عن آية المؤمنون في النزول، فإنّ الاولى مدنيّة و الأخيرة مكيّة، و لا يصلح أن تكون المكيّة تنسخ الآية المدنيّة.

و ثانيا: أنّ المتعة نكاح بمقتضى الآية الشريفة و ما ورد في السنّة المباركة، فتدخل في قوله تعالى: إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ، و الإشكال بأنّه يلزم من ذلك ثبوت التوارث و الطلاق و غير ذلك من الأحكام المترتّبة على النكاح الدائم.

مردود بأنّ تلك منفيّة بدليلها الخاصّ الوارد في السنّة، و سيأتي ما يتعلّق بذلك.

و قيل: إنّ آية المتعة منسوخة بالآيات الشريفة الدالّة على لزوم العدّة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق، الآية 1]، و قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [سورة البقرة، الآية 228]، فإن المتعة لا طلاق فيها و لا عدّة، و الزوجيّة لا تنقصم إلا بهما.

و يردّ عليه: أنّ النسبة بين الآيتين الكريمتين نسبة العامّ و الخاصّ أو المطلق و المقيّد، لا نسبة الناسخ و المنسوخ؛ لأنّ قوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ عامّ أو مطلق يشمل كلّ النساء في النكاح الدائم و المؤقّت، و لكن خصّص في الزواج المؤقّت بدليل وارد في السنّة.

يضاف إلى ذلك أنّ العدّة لا تختصّ بالنكاح الدائم، بل هي موجودة في النكاح المنقطع أيضا.

نعم، تختلف العدّتان في المدّة، و لكنّه لا يرتبط بأصل الموضوع.

و قيل: إنّ المتعة منسوخة بآية الميراث، قال تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ [سورة النساء، الآية 12]، و لا إرث في نكاح المتعة.

و فيه: أنّه يرد عليه ما ذكرناه آنفا، فإنّ النسبة بين الآيتين نسبة العامّ

ص: 33

و الخاصّ ، لا نسبة النسخ، فإنّ آية الميراث تدلّ على عموم الحكم بالنسبة إلى الأزواج الدائم و المنقطع، و لكن السنّة خصّصت عموم آية الميراث بالزواج المنقطع، فلا إرث فيه حينئذ.

و قيل: إنّ آية المتعة منسوخة بالآية التي تدلّ على تعدّد الزوجة و انحصارها في أربع، قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا [سورة النساء، الآية 3].

و فيه: أنّه لا وجه للنسخ مع دلالة السنّة على عدم انحصار المتعة في الأربعة، فتكون النسبة من العامّ و الخاصّ كما عرفت.

و دعوى: نسخها بآية التحريم، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 23].

فهي باطلة كما هو واضح، فإنّ المتعة نكاح تجري فيها جميع ما شرّع في النكاح الدائم إلا ما خصّصته السنّة الشريفة، مثل الإرث و نحوه، ممّا سيأتي في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

و قيل - و هو المعروف المشهور بين الجمهور -: إنّها منسوخة بالسنّة، فقد نقل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسخها عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجّة الوداع، و قيل غير ذلك.

و لكن ذلك لم يثبت بدليل معتبر، بل معارض بروايات معتبرة أخرى من الفريقين تدلّ على عدم النسخ، و على فرض القول به فيحتمل أن يكون النهي

ص: 34

من الخليفة الثاني حكما وقتيا لا نسخا دائميا، لمصلحة رآها تختصّ بزمانه، و على فرض التعارض، يكون الترجيح مع الروايات الدالّة على عدم النسخ؛ لما ورد من أنّه لا بد عند التعارض من عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب، فما وافق الكتاب يؤخذ به، و ما خالفه يطرح، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

بحث علمي

نكاح المتعة من الموضوعات التي كثر الجدل فيها بعد عصر النزول، مع أنّه لم يخالف أحد في مشروعيتها، و قد فهم الأصحاب (رضي اللّه تعالى عنهم) من الآية المباركة هذا القسم من النكاح، و جرى عليه العمل عندهم برهة من الزمن، و فهمهم و العمل به من القرائن المعتمدة عند الجميع، و لم تظهر مناقشات القوم في دلالة الآية الكريمة إلا بعد زمن طويل، فإنّ من حكم بالمنع إنّما حكم به لأجل النسخ، لا من جهة عدم الدلالة. و لعمري إنّ الموضوع لا يحتاج إلى هذا الجدل العنيف و المناقشة العظيمة التي شغلت بال كثير من العلماء.

و قد الفت في ذلك كتب و رسائل في الحلّية و الحرمة، مع أنّه لم يقصر عن سائر المسائل الفقهيّة التي طالما اختلف الفقهاء فيها، و لم تصل إلى الحدّ الذي وصل إليه نكاح المتعة من التشكيك و المغالطة، مع اتفاق الجميع على حرمة الزنا و أنّ الذي يحلّله يريد الخروج من الفاحشة و السفاح إلى الإحصان و التعفّف، و أنّ الذي يحرّمه لا يريد اتخاذ الزنا بدلا عنه، و قضاء الوطر بالسفاح دون النكاح. مع أنّ جمعا من الفقهاء يحكمون بأنّه يجوز للمكلّف الرجوع إلى أي مذهب من المذاهب الإسلاميّة شاء في تعيين الوظيفة و كسب التكليف في الحكم الفرعي.

و بعد الإحاطة بما ذكرناه، لا موجب لهذا الاختلاف العظيم في هذا الموضوع الذي يمسّ المجتمع الإسلاميّ و يحتاج إليه المسلم في حياته اليومية أشدّ

ص: 35

الاحتياج، و هو يبتغي رضا اللّه تعالى و يريد العمل بالشرع المبين، و لو اهتمّ العلماء بهذا الموضوع و تشييد أركانه و إعلام الناس بحدوده و قيوده و تعليم فروعه و آدابه، لما حصلت هذه المفاسد العظيمة التي أخلّت بالنظام، مع علمهم بأنّ الإنسان لا يمكنه التغاضي عن حاجته الفطريّة، و لو لا ما تفاحش الزنا - العلن منه و الخفي - لرأيت وقوع الناس في الحرج و المشقّة و سمعت الضجّة في الخلاص من الورطة، و لو بقيت شرعية المتعة و لم يحصل منع و تحريم، لما كان وقع للزنا و اللواط و سائر الفواحش في المجتمع الإسلاميّ التي هددت كيانه و استنزفت أمواله و هتكت أعراضه، و فشت بها الأمراض الموبقة الرديّة - الجسمانيّة و الروحانيّة - في أفراده، و دبّ الضعف في جسمه و كيانه، و فسدت أخلاقه، و أفسدت النسل بالتعرّض للهلاك و الدمار، و لو وجد لهذه الشهوة المكنونة طريق يغنيهم من الدخول في خسّة الزنا و السفاح، لما استرسل أكثرهم في هذه الزذيلة، و لما استدرجوا في اتباع الهوى، و لما اجترؤوا على الزنا بالمحصنات و هتك الأعراض، و لما اختلطت الأنساب، و لما ظهرت المفاسد الأخلاقيّة، و هذا هو السرّ في

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «لما زنى إلا شقي»، أو «لما زنى إلا شفى»، أي: القليل.

ثم إنّه ذكر نكاح المتعة في علوم متعدّدة منها علم الكلام.

و منها: علم الفقه، فبحثوا فيه من حيث الجواز و الحرمة.

و منها: علم التفسير من حيث النظر في دلالة قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، فإنّهم اختلفوا في أنّه هل يدلّ على تشريع المتعة، و على فرضه فهل هو منسوخ بشيء كالآيات و السنّة كما عرفت آنفا، و على فرض التشريع فهل تشريعه ابتدائي أو إمضائي. كما ذكر أمر المتعة في علم السير و التراجم، و نحن نذكر بعض ما قيل في هذا الموضوع مطلقا، و التفصيل يطلب من محله.

ص: 36

قال بعض و هو يوجز ما ذكره الجمهور في دلالة الآية الشريفة: «و هذه الآية لا تدلّ على الحلّ ، و القول بأنّها نزلت في المتعة غلط؛ لأنّ نظم القرآن يأباه، حيث بيّن سبحانه أوّلا المحرّمات، ثم قال تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ، فإنّ فيه شرطا بحسب المعنى، فيبطل تحليل الفرج و إعارته، و قد قال بهما الشيعة، ثم قال جلّ و علا: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، و فيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرّد قضاء الشهوة و صبّ الماء و استفراغ أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد؛ لأنّ مقصود المتمتع ليس الا ذاك دون التأهّل و الاستيلاد و حماية الذمار و العرض؛ و لذا نجد المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب، و في كلّ سنة بحجر ملاعب، و الإحصان غير حاصل في المرأة المتمتع بها غير النكاح إذا زنا لا رجم عليه، ثم فرّع سبحانه على النكاح قوله عزّ من قائل: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ، و هو يدلّ على المراد بالاستمتاع هو الوطء و الدخول، لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، و القراءة التي ينقلونها عمّن تقدّم من الصحابة شاذة».

و مراده من القراءة التي ينقلونها هي القراءة المروية عن عائشة: (فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة من اللّه)، و هذه القراءة لم يروها الشيعة، بل نقلها بعض الجمهور في كتبهم و الشيعة في غنى عنها بعد تصريحهم بدلالة الآية الشريفة على المطلوب مع قطع النظر عن وجود جملة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، و إنّما يذكرها بعضهم من المؤيدات.

و كيف كان، فالمناقشة في ما ذكره ظاهرة بعد الإحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة، و قلنا إنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ النكاح المؤقّت الموسوم بالمتعة من طرق الإحصان، لمقام التفريع على قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، فإنّه تعالى بعد أن بيّن المحرّمات ثم أحلّ ما وراءها، ذكر أنّ المناط في كلّ نكاح و استمتاع هو الإحصان، دون مجرّد قضاء الشهوة و صبّ الماء

ص: 37

و استفراغ أوعية المني، مع غضّ النظر عن ما يترتّب على ذلك و عدم الالتزام بآثاره، كما هو الحال في الزنا، و أما المتعة فإنّها و إن تضمّنت صبّ المني و استفراغ أوعيته، لكن مع الالتزام بآثار ذلك كما يلتزم المتمتع في النكاح الدائم، و أمّا التأهّل، و الاستيلاد، و حماية الذمار و العرض، فليست من العلل التامّة في النكاح و المتمتع مطلقا، فإنّ اللّه تعالى قد أذن بالتمتع بالإماء، و لا ينكر ذلك أحد من المسلمين و ليس فيه أي واحدة من تلك الأمور التي ذكرها في وجه حلّية النكاح، فهذه الأمور إنّما هي من وجوه الحكمة، لا العلّة في التشريع، و الفرق بين الأمرين، واضح لمن له أدنى تأمّل.

ثم إنّ الذي ذكره في المتعة من أنّ : «المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب، و في كلّ سنة بحجر ملاعب»، فإنّه ينقض ذلك في الأمة، بل قد يتحقّق في المتزوّجة بالزواج الدائم، و لا ضير في أن يكون الأمر كذلك؛ بعد أن ذكر أنّ المتزوّج بالزواج المؤقّت يلتزم بآثار هذا العقد و ما يترتّب على هذا النكاح من لحوق الولد به، و وجوب الإنفاق عليه، و لزوم العدّة على المرأة بعد المفارقة، و نحو ذلك ممّا سيأتي في البحث الفقهيّ ، فالإحصان حاصل بالمتعة بعد الالتزام بلوازمها الشرعيّة، و لا يضر بها كون المراد بالاستمتاع في الآية الشريفة هو الوطء و الدخول، كما هو الحال في بعض أفراد النكاح الدائم و لا يمكن إنكاره.

و المرأة المتمتع بها لا يمكنها التزويج بعد المفارقة من الزوج الأوّل إلا بعد العدّة و استبراء رحمها، فكيف تكون: «صولجانة يلعب بها» كما قاله بعض المفسّرين، فدلالة الآية المباركة على أنّ المراد بها النكاح المؤقّت لا غبار عليها.

الإشكال الثاني قال بعضهم: إنّه قد استدلّ الجمهور بقوله تعالى: فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ ، على تحريم نكاح المتعة الذي هو النكاح المؤقّت بأجل بلفظ المتعة، و هو استدلال ظاهر، إذ انّ التي عقد عليها هذا لم تكن مملوكة ملك يمين، و هو ظاهر، و لم تكن زوجة؛ لأنّ لعقد الزوجيّة لوازم

ص: 38

تترتّب عليه من صحّة الطلاق و الإرث و العدّة و وجوب النفقة، و هي كلّها منتفية في نكاح المتعة، و هو لا يحمل شيئا من خواص النكاح إلا التسمية المقيّدة التي عرضت له من ناحية صورة العقد...

ثمّ قال: إنّ عقد النكاح هو الالفة و المحبّة و الشركة في الحياة. و أيّ ألفة و شركة تجيء من عقد لا يقصد منه إلا قضاء الشهوة على سبيل التوقيت، أ ليس الزنا يقع بالتراضي بين الزانيين على قضاء الوطر، و هل عقد نكاح المتعة إلا هذا؟!! و هل تقلّ المفاسد التي تترتّب على نكاح المتعة عن المفاسد التي تترتّب على الزنا؟!! أقول: إنّ ما ذكره من أقوى ما قيل في هذا الموضوع، حيث جعل ما أباحه اللّه تعالى و اعتبره عزّ و جلّ من إحدى الوسائل لتحصين النفس و سبيلا من سبل التعفّف، كالزنا و ما حرّمه اللّه تعالى، و ليس ذلك إلا من الجهل بأحكام اللّه تعالى و التعنّت و العناد، فما ذكره بعيد عن البحث الموضوعي النزيه و جرأة على اللّه تعالى.

و كيف كان، فالإشكال على ما ذكره واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه في التفسير:

أوّلا: بأنّ النكاح المؤقّت هو من أفراد مطلق النكاح، و انتفاء بعض الأمور المعتبرة في النكاح الدائم كالطلاق و الإرث و وجوب النفقة من الزواج المؤقّت لأجل ذليل شرعي لا يجعله خارجا عن صدق النكاح و يدخله في المحرّمات.

و ثانيا: أنّ هذه الأمور قد تنتفي من النكاح الدائم في بعض الحالات أيضا، فلا بد أن يكون من الزنا كما يدعيه هذا الخصم، أمّا الطلاق فكما إذا وقع الزواج على امرأة فيها أحد العيوب المجوّزة للفسخ، فإنّه يجوز للزوج فسخ العقد من دون طلاق، و كذا بالنسبة إلى المرأة إذا وجدت في الرجل أحد العيوب التي

ص: 39

تجوّز الفسخ، فإنّه يجوز لها فسخ العقد من دون طلاق، فانتفاء الطلاق لا يوجب ردّ الزواج إلى الزنا المحرم.

و أما الإرث، فإنّه ربّما ينتفي في الزواج الدائم أيضا، كما إذا تحقّقت في الزوجة أحد موانع الإرث، كالقتل و الكفر، فإنّه إذا ارتدّت الزوجة و كفرت، فإنّها لا ترث من زوجها.

و أما انتفاء العدّة في الزواج الدائم فغير عزيز، فإنّه لا عدّة في الصغيرة غير البالغة، و الكبيرة التي يئست عن المحيض، و الزوجة التي لم يقاربها الزوج فطلّقها قبل الاستمتاع بالمقاربة بها، مضافا إلى أنّه لم يقل أحد بانتفاء العدّة في المتعة و الزواج المؤقّت.

و أمّا وجوب النفقة، فلأنّ النفقة حقّ من حقوق الزوجة، يجوز للزوج الشرط على الزوجة حين العقد إسقاط هذا الحقّ ، فلا تجب النفقة على الزوج حينئذ بمقتضى الشرط بينهما، كما تسقط النفقة عن الزوج أيضا في ما إذا نشزت الزوجة و امتنعت عن وظائف الزوجية.

فانتفاء هذه الأمور عن الزواج لا يصيرها من أفراد الزنا بالاتفاق من جميع الفقهاء، فليكن المقام كذلك، فإنّ الشارع الأقدس الذي شرّع الزواج المؤقّت قد حكم بانتفاء هذه الأمور عنه، مع حكمه بأنّه من أفراد تحصين النفس و العفّة و مطلق النكاح، فيكفينا عمومات النكاح و الزواج الواردة في الكتاب و السنّة، بعد تسالم العلماء و أهل المحاورة على أنّ تخصيص بعض العمومات لبعض الخصوصيّات، لا يوجب سقوط العمومات عن التمسّك بها.

و ثالثا: أنّ جعل الالفة و المحبّة من العلل الخاصّة في النكاح و الزواج بحيث أنّ الزواج لم يشرّع إلا لأجلها من مجرّد الدعوى، بل الدليل على خلافها، فإنّه بناء على ما ذكره إذا تحقّق في الحياة الزوجيّة الخصام و النزاع، فلا بد و أن تنفصم من دون طلاق؛ لانتفاء المعلول بانتفاء العلّة، فالزواج الدائم و الزواج المؤقّت

ص: 40

يشتركان في الإحصان و التعفّف، و إنّه لا يخلو فيهما من تحقّق الالفة و المحبّة، و هما من الحكمة التي لا كلّية فيها، كما هو واضح.

يضاف إلى ذلك أنّ عقد المتعة و الزواج المؤقّت قد يكون الأجل فيه طويلا، بحيث يتكوّن منه اسرة تبتني على الالفة و المحبّة و يلحق بهما الولد، فلا يقصر الزواج المؤقّت على أجل قصير، كساعة أو ساعتين مثلا، كما يتصوّره الخصم.

فما ذكره في الإشكال على المتعة باطل، و تشبيه المتعة المبنية على الإحصان بالزنا المبني على السفاح غير صحيح، كما هو واضح.

الإشكال الثالث: ادعى بعضهم الإجماع على الحرمة و نسخ المتعة، فقال:

إنّ جمهور العلماء من الصحابة و من بعدهم ذهبوا إلى أنّ نكاح المتعة حرام، و أنّ الآية الشريفة منسوخة إمّا بالسنّة عند من يرى نسخ الكتاب بها، و من لم يره - كالشافعيّ - قال: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 5-7]، و المنكوحة في المتعة ليست بزوجة و لا ملك يمين.

و يردّ عليه: أمّا ما ذكره من نسخ الكتاب بالسنّة فسيأتي الكلام فيه. و أمّا الإشكال في ما ذكره أخيرا، فقد تقدّم فراجع.

و أمّا دعوى الإجماع في هذا الموضوع الذي كان مورد النزاع بين المسلمين من عصر التشريع حتّى الآن، ممنوعة جدا، فإنّ الصحابة كانوا على الخلاف فيه.

و المعروف بين المسلمين أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول بجواز المتعة و مشروعيتها و عدم نسخها،

و قد نقل عنه متواترا أنّه قال: «لو لا نهي عمر عنها لما زنى إلا شقي»، و تبعه في ذلك أهل بيته المعصومون عليهم السّلام و أولاده، حتّى عرفوا و اشتهروا به و سارت على هديهم شيعتهم، كما اعترف به الخصم، فقال العلاّمة

ص: 41

القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري: «قد وقع الإجماع على تحريمها إلا الروافض»، و هذه كتب الإماميّة مشحونة بالروايات عن الأئمة عليهم السّلام التي تدلّ على مشروعيّة المتعة، و تبيّن جميع حدودها و شروطها.

و لكن، نقل الجمهور أحاديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام عليّ أنّه قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن نكاح المتعة».

كما روى البيهقي عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه سئل عن المتعة فقال: «هي الزنا بعينه»، و هذه الروايات آحاد لا يمكن الاعتماد عليها، لمعارضتها لأحاديث متواترة عنهم تدلّ على الحلّية و الإباحة، كما سيأتي نقل بعضها.

كما أنّ من الأصحاب ابن عباس فقد اشتهر عنه أيضا: «كنّا نتمتع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عهد أبي بكر و شطرا من خلافة عمر حتّى نهانا»، و قد عرف بهذا القول و سارت به الركبان.

و روى الجمهور عنه أنّه رجع عن فتياه، و ذكروا أنّه خصّ الحلّية في حال الاضطرار، ففي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر، و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: ماذا صنعت ؟ ذهب الركبان بفتياك، و قالت فيه الشعراء، قال: و ما قالوا؟ قلت: قالوا:

أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟

هل لك رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتّى مصدر الناس ؟

فقال: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . لا و اللّه ما بهذا أفتيت، و لا هذا أردت و لا أحللتها إلا للمضطر و لا أحللت منها ما أحلّ اللّه من الميتة و الدم و لحم الخنزير».

و يردّ عليه أنّ رجوع ابن عباس عن فتياه مشكوك فيه، إذ لم ينقله أصحاب المجامع و المعروفين من الجمهور، و الخبر السابق شاهد على ذلك. و أمّا تخصيصه الحلّية بحال الاضطرار، فهو يرجع إلى نفسه، فقد كانت عنده من

ص: 42

القرائن التي أوجبت عليه أن يحكم بذلك. مع أنّ الاضطرار يوجب الإباحة في جميع الأزمان و الأعصار، فلما ذا لم يحكم بالحلّية غيره من العلماء.

و من القائلين بالإباحة ابن مسعود،

ففي صحيح البخاري و مسلم عن ابن مسعود قال: «كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليست معنا نساؤنا، فقلنا:

أ نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ ».

و من القائلين بالإباحة من الصحابة جابر و عمرو بن حريث، و غيرهم، و من التابعين القائلين بالإباحة مجاهد، ففي تفسير الطبري عن مجاهد في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال: يعني نكاح المتعة.

و منهم السدّي و سعيد بن جبير و غيرهم، و مع وجود المخالف كيف يتم الإجماع المدّعى على التحريم. فالآية الشريفة محكمة غير منسوخة لا بالكتاب و لا بالسنّة، و سيأتي مزيد كلام في ذلك.

بحث روائي
اشارة

في الكافي: و تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ؟ قال: هو أن يأمر الرجل عبده و تحته أمته، فيقول: اعتزل امرأتك و لا تقربها، ثم يحبسها عنه حتّى تحيض ثمّ يمسّها، فإذا حاضت بعد مسّه إياها ردّها عليه بغير نكاح».

أقول: الحديث يبيّن الإحصان الأمة و ملك اليمين و الاباحة التمتع بها من المولى بالشرط المذكور في الحديث و هو موافق للقاعدة؛ لفرض أنّ المنافع ملك للمولى، فله أن ينتفع منها بأي وجه لكن مع ملاحظة الجهات الشرعيّة.

و في تفسير العياشيّ : عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال عليه السّلام:

ص: 43

«هن ذوات الأزواج، إلا ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت، فقلت: أ رأيت أن زوّج غير غلامه ؟ قال: ليس له أن ينزع حتّى تباع، فإن باعها صار بضعها في يد غيره، فإن شاء المشتري فرّق، و إن شاء أقرّ».

أقول: تقدّم ما يبيّن الحديث، و هو موافق للقاعدة أيضا.

و في الفقيه: عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، قال: «هنّ ذوات الأزواج، فقيل:

(و المحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم)؟ قال: هنّ العفائف».

أقول: المراد منها العفائف في حال كونهن مزوّجات، و لعلّ اختلاف التعبير لأجل الفرق بين نساء المسلمات و نساء أهل الكتاب، فإنّ الاولى لهن استحقاق الاتصاف بالإحصان من كلّ جهة بعد التزويج، و الثانية تتحقّق العفّة بالأزواج فقط.

و في الدرّ المنثور: أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و الفريابي، و ابن أبي شيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و مسلم و أبو داود، و التزمذيّ و النسائيّ ، و أبو يعلى، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الطحاوي و ابن حيان، و البيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم و أصابوا لهم سبايا، فكأن أناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحرّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل اللّه في ذلك: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، يقول: إلا ما أفاء اللّه عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن».

أقول: روي مثل ذلك عن الطبراني عن ابن عباس، و قد روي في سبب نزول هذه الآية الشريفة بعض الأخبار، و هو على فرض الاعتبار لا يخصّص عموم الحكم الوارد فيها، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قد وقع النزاع في مشروعيّة المتعة و ادعي نسخها بالسنّة، و نحن

ص: 44

نذكر الروايات الدالّة على المشروعيّة، ثمّ نذكر الأحاديث التي يدّعى دلالتها على نسخها و المناقشة فيها.

الروايات الدالّة على المشروعية:

في الكافي: بإسناده عن أبي بصير قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المتعة فقال: «نزلت في القرآن: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ ».

و فيه بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المتعة نزل بها القرآن و جرت بها السنّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

و في تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهم غزوا معه فأحلّ لهم المتعة و لم يحرّمها، و كان عليّ عليه السّلام يقول: لو لا ما سبقني به ابن الخطاب - يعني: عمر - ما زنى إلا شقي، و كان ابن عباس يقول: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، و هؤلاء يكفرون بها و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحلّها و لم يحرّمها».

أقول:

في رواية: «ما زنى إلا شفى»، و في رواية ثالثة: «إلا شقيّ ».

و في الكافي: بإسناده عن زرارة قال: «جاء عبد اللّه بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه السّلام، فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلّها اللّه تعالى في كتابه و على لسان نبيّه، فهي إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا و قد حرّمها عمر و نهى عنها؟! فقال: إنّي أعيذك باللّه من ذلك، أن تحلّ شيئا حرّمه عمر، قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك و أنا على قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهلم ألاعنك أنّ القول ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد اللّه بن عمير، فقال: أ يسرّك أن نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمّك يفعلن ؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السّلام حين ذكر نساءه و بنات عمّه».

ص: 45

أقول: الروايات في هذا المعنى متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و في صحيح الترمذي: عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم، فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه حتّى إذا نزلت الآية:

إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، قال ابن عباس: فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول: قد تقدّم في البحث العلمي ما يتعلّق بهذا الحديث، و ذكرنا أنّ ابن عباس ممّن عرف عنه الجواز، و لازم هذا الخبر أن النسخ كان بعد فتح مكة؛ لأنّ الآية الشريفة مكيّة.

و في صحيح مسلم: عن عبد اللّه قال: «كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخصّ لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».

و روي أيضا عن جابر بن عبد اللّه و سلمة بن الأكوع: «خرج علينا منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ رسول اللّه قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني: متعة النساء».

و روى أيضا عن جابر قال: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى نهى عنه عمر».

و في صحيح البخاري و رواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق و ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود قال: «كنّا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس معنا نساؤنا، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ .

و في الدرّ المنثور - أيضا -: من طريق مولى الثريد قال: «سألت ابن

ص: 46

عباس عن المتعة، أ سفاح هي أم نكاح ؟ فقال: لا سفاح و لا نكاح، قلت: فما هي ؟ قال: هي متعة كما قال اللّه تعالى، قلت: هل لها من عدّة ؟ قال: عدّتها حيضة، قلت: هل يتوارثان ؟ قال: لا».

أقول: يأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بهذا الحديث.

و فيه - أيضا -: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: «يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من اللّه رحم بها امة محمد و لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي، و قال: و هي التي في سورة النساء: فما استمتعتم به منهن إلى كذا و كذا من الأجل على كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرّقا فنعم، و ليس بينهما نكاح، و أخبر أنّه يراها الآن حلالا».

أقول: يدلّ الحديث على أنّ ما نسب إلى ابن عباس من الحرمة ليس بثابت.

و في تفسير الطبري و رواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق و أبي داود في ناسخه عن الحكم: «أنّه سئل عن هذه الآية الشريفة، أ منسوخة ؟ قال: لا، و قال عليّ : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و جميعها تدلّ على أصل التشريع.

قراءة الآية الشريفة:

القراءة المعروفة بين المسلمين في آية المتعة أنّها تقرأ بدون جملة: «الى أجل مسمّى»، و لكن وردت بعض الروايات التي هي على خلاف هذه القراءة المعروفة.

ففي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّما نزلت: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن فريضة».

ص: 47

أقول: القراءة المعروفة عند الإماميّة هي بدون هذه الجملة، و هي المتبعة، و لعلّ ما ورد في الحديث إنّما لبيان معنى المتعة و بعض شروطها، كما يظهر من قول ابن عباس في الحديث المتقدّم.

مع أنّ الإماميّة في غنى عن هذه القراءة، فإنّهم يصرّحون بكفاية الآية المباركة على أصل التشريع، و لعلّ ذكر الإمام لهذه القراءة إنّما هو لأجل موافقة بعض القراءات المنسوبة إلى الجمهور، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

و في مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة، و رواه ابن جرير قال:

«قرأت على ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى، فقلت: ما نقرؤها كذلك، فقال ابن عباس: و اللّه لأنزلها اللّه كذلك».

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة، قال: «في قراءة أبيّ بن كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى».

أقول: روى هذه القراءة الجمهور بطرق عديدة عن أبيّ بن كعب و ابن عباس، و أصل هذه القراءة صادرة من الجمهور، و إنّما دخلت في روايات الإماميّة منهم.

الروايات الدالّة على النسخ و التحريم:

الروايات التي استدلّ بها على تحريم المتعة و نسخها متعدّدة، نقلها الجمهور في كتبهم، و هي مختلفة، فبعضها تدلّ على نسخها بالكتاب، و بعضها تدلّ على نسخها بالسنّة، و بعضها تدلّ على نهي الخليفة الثاني إياها، و نحن نذكر جملة من الأقسام الثلاثة:

القسم الأول:

روى الحاكم في المستدرك عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ملكية: «سألت عائشة عن متعة النساء؟ فقالت: بيني و بينكم كتاب اللّه تعالى، قال: قرأت هذه

ص: 48

الآية: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فمن ابتغى وراء ما زوّجه اللّه أو ملكه فقد عدا».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذا الحديث في البحث السابق، و قلنا: إنّ المتعة الجامعة للشرائط الشرعيّة زواج.

و في الدرّ المنثور: أخرج أبو داود في ناسخه، و ابن المنذر و النحّاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، قال نسختها: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، و قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ، و قوله تعالى: وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ .

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق، و أنّه لا وجه للنسخ أصلا.

و فيه - أيضا -: خرّج أبو داود في ناسخه، و ابن المنذر، و النحّاس و البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: «نسخت آية الميراث المتعة».

أقول: لا وجه للنسخ، بل هو تخصيص حكمي كما عرفت، و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بذلك.

و فيه: أخرج عبد الرزاق، و ابن المنذر، و البيهقي عن ابن مسعود قال: «المتعة منسوخة، نسخها الطلاق، و الصدقة، و العدّة، و الميراث».

أقول: أمّا نسخ المتعة بالطلاق، فقد تقدّم، و أمّا الصدقة - أي: الصداق - فلا ريب في صدقه على المهر، كما يصدق عليه الاجرة أيضا، كما يدلّ عليه القرآن و السنّة، فلا منافاة في التسمية حينئذ، و أمّا الميراث فقد عرفت أنّه تخصيص حكمي.

و في الدرّ المنثور - أيضا -: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن علي عليه السّلام قال: «نسخ رمضان كلّ صوم، و نسخت الزكاة كلّ صدقة، و نسخت المتعة الطلاق و العدّة و الميراث، و نسخت الضحيّة كلّ ذبيحة».

ص: 49

أقول: نسبة ذلك إلى علي عليه السّلام - الذي عرف منه القول بجواز المتعة - غير صحيحة، و أمّا النسخ فقد عرفت فيه الكلام.

و في صحيح الترمذي عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم، فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه، حتّى إذا نزلت الآية:

إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، قال: ابن عباس فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق.

القسم الثاني:

الروايات التي تدلّ على أنّ المتعة منسوخة، و هي محرّمة بالسنّة القاطعة، و قد نقلها الجمهور في كتبهم، و قد اختلفوا في زمان نسخها، و نحن ننقل جملة منها أيضا.

ففي صحيح مسلم: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن نكاح المتعة».

و فيه: أيضا عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

ألا أنّها - المتعة حرام - من يومكم هذا إلى يوم القيامة، و من كان أعطى شيئا فلا يأخذه».

أقول: هذه الأحاديث تدلّ على الحرمة من دون تقييد بوقت معين، و يأتي ما يتعلّق بها.

و في صحيح مسلم: عن أياس بن سلمة، عن أبيه قال: «رخّص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام أوطاس في المتعة ثلاثا - أي: ثلاثة أيام - ثم نهى عنها».

أقول: يستفاد أنّه كان النسخ بعد فتح مكة؛ لأنّ أوطاس واد في ديار هوازن اجتمع فيه المشركون بعد انهزامهم يوم حنين، و ذلك بعد فتح مكّة.

ص: 50

و روى عن سبرة الجهني أيضا قال: «أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثمّ لم يخرج حتّى نهانا عنها».

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: «رخّص لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثمّ نهى عنها بعدها».

و روى مسلم عن عليّ عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن متعة النساء يوم خيبر و عن أكل لحوم الحمر الإنسية».

أقول: روي مثله عدّة روايات.

و في شرح ابن العربي لصحيح الترمذي عن إسماعيل، عن أبيه الزهري:

«أنّ سبرة روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عنها في حجّة الوداع».

و فيه - أيضا -: عن الزهريّ : «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن المتعة في غزوة تبوك».

و فيه: قال الحسن: «إنّها في عمرة القضاء».

أقول: اختلاف هذه الروايات يدلّ على سقوطها، إلا أنّ بعضهم حملها على تكرار النهي، و لكنّه موهون بذهاب جمع من الأصحاب إلى الحليّة، كعليّ عليه السّلام و ابن عباس و ابن مسعود و جابر و أبو سعيد و عمرو بن حريث و غيرهم - كما قال ابن حزم - و لا يمكن خفاؤها عليهم مع جلالة شأن أكثرهم، فهي موهونة بالاختلاف و المعارضة بالقول و الفعل، كما عرفت.

القسم الثالث:

الروايات التي تدلّ على نهي الخليفة الثاني عنها و هي كثيرة، ننقل بعضا منها: ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث».

ص: 51

أقول: نقله جمع من العلماء كابن الأثير في جامع الأصول، و ابن القيم في زاد المعاد، و ابن حجر في فتح الباري، و المتقي الهندي في كنز العمال.

و في الدرّ المنثور: أخرج مالك و عبد الرزاق عن عروة بن الزبير: «أنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت: إنّ ربيعة ابن امية استمتع بامرأة مولدة، فحملت منه، فخرج عمر بن الخطاب يجرّ رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة و لو كنت تقدّم فيها لرجمت».

أقول: نقل ذلك الشافعيّ في الام، و البيهقي في السنن الكبرى.

و في صحيح مسلم عن أبي نضره قال: «كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال: إنّ ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما».

أقول: رواه مسلم في مواضع ثلاثة، و روى مثله البيهقي في السنن الكبرى و المتقي الهندي في كنز العمال، و السيوطي في الدرّ المنثور، و الرازي في تفسيره، و الطيالسي في مسنده، و الجصاص في أحكام القرآن.

و في تفسير القرطبي عن عمر أنّه قال في خطبته: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، متعة الحج و متعة النساء».

أقول: قد تسالم الجميع على هذه الخطبة، و ذكروها في كتب التفسير و التأريخ و الفقه و الكلام.

و في بداية المجتهد لابن رشد عن جابر بن عبد اللّه: «تمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر و نصفا من خلافة عمر، ثمّ نهى عنها عمر الناس».

أقول: الأحاديث في مضامين ذلك كثيرة، من شاء فليراجع كتب الحديث و الفقه. و هذه الروايات تدلّ على أنّ الناسخ ليس هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل هو الخليفة الثاني، فتكون معارضة مع تلك الروايات التي دلّت على نهي الرسول صلّى اللّه عليه و آله لها و لا مرجّح فتتساقطان، فيرجع إلى أصل التشريع التي دلّت عليه الأخبار الكثيرة التي تقدّم ذكر شطر منها.

ص: 52

مع أنّ نهي الخليفة يحتمل فيه وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يكون النسخ و النهي دائميا أبديا.

الثاني: أن يكون حكما وقتيا لأجل مصالح كثيرة، كما يستفاد من بعض الروايات المتقدّمة، منها حديث خولة بنت حكيم.

الثالث: أن يكون ترغيبا إلى التقليل من هذا العمل و التحريض على الزواج الدائم.

و مع وجود هذه الاحتمالات لا يمكن الجزم بالاحتمال الأوّل، فيبقى أصل التشريع سالما عن جميع ما يصلح للمعارضة، و لا موجب لرفع اليد عنه.

بحث فقهي

تقدم أن قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يدلّ على حلّية نكاح المتعة بشرائطها المقرّرة الآتية.

و الآية الشريفة هي الآية الوحيدة الواردة في القرآن الكريم التي وردت في هذا الموضوع بالخصوص، و إن قلنا بشمول العمومات الواردة في مطلق النكاح للنكاح المؤقّت أيضا، و قد عرفت أنّه اتفق المسلمون و استفاضت رواياتهم على أنّ المتعة نكاح شرّع في دين الإسلام، و عليه كان عمل المسلمين برهة من الزمن، و يعتبر في صحّة النكاح المؤقّت شروط لا بد من ذكرها في المقام، كما دلّت عليها السنّة الشريفة:

الأوّل: يعتبر في الزوجين الكمال بالبلوغ و العقل، أو إذن وليهما إن كانا قاصرين، كما يعتبر في النكاح الدائم، و هو معلوم لا ريب فيه.

الثاني: أن لا تكون المرأة ممّا يحرم نكاحها بالنسب أو السبب أو في العدّة، و هذا ممّا لا شكّ فيه كما ذكر مفصّلا في الفقه، و من شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

ص: 53

الثالث: ذكر الاجرة، و يدلّ عليه الكتاب و السنّة الشريفة، فلو لم يذكر بطل العقد، و لا تحديد في الاجرة، بل يكفي فيها كلّ ما تراضيا عليه، و قد تقدّم في حديث جابر: «كنا نتمتع بالثوب و قبضة من التمر».

الرابع: ذكر المدّة، و تدلّ عليه السنّة الشريفة و الإجماع، فلو لم تذكر يكون العقد دائما، كما ذكرنا في كتاب النكاح في الفقه، و لا فرق في ذلك بين المدّة القليلة و الكثيرة، نصّا و إجماعا.

الخامس: إجراء صيغة العقد بأن تقول المرأة: «متعتك نفسي - أو - أنكحتك نفسي في مدّة كذا بأجرة كذا»، و يقول الرجل: «قبلت النكاح كذلك»، هذا كلّه إذا لم تكن مفسدة أو شين في البين، و إلا فلا وجه للصحّة.

و إذا تحقّقت جميع الشروط يتمّ العقد بين الزوجين، فيجوز لكلّ واحد منهما التمتع بالآخر، كما في العقد الدائم، و ينفسخ العقد بانقضاء المدّة أو فسخ العقد، و هبة المدّة، و هذا بمنزلة الطلاق في العقد الدائم، و حينئذ تصير المرأة أجنبيّة عن الرجل و الولد ملحق بهما، و يجب على الوالد الإنفاق عليه، و تجب على المرأة العدّة إذا تمتع الرجل بالغشيان و الدخول، فلا يجوز لها التزويج بالغير بعد انقضاء العقد الأوّل مباشرة إلا بعد انقضاء العدّة، و هي في المتعة حيضتان، فإذا انقضى الحيض الثاني يجوز لها التزويج بآخر، سواء بالعقد الدائم أم بالعقد المنقطع.

و من أحكام النكاح المؤقّت أنّه لا توارث بين الزوجين؛ لأنّ الإرث حكم شرعيّ ثبت في كلّ مورد يدلّ عليه الدليل، و ينتفي إذا دلّ الدليل على عدمه كما في الزوجة الكتابيّة و المسلمة القاتلة لزوجها، و في المقام دلّ الدليل على انتفائه، و قد عرفت في البحث السابق أنّه لا ملازمة شرعيّة و لا عقليّة بين الزوجيّة و الإرث، بل يتبع الدليل في ثبوته، و فصّلنا القول في أحكام العقد المنقطع في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

و لا ريب أنّ المتعة من سبل المنع عن الفحشاء و المنكر، كما ورد في

ص: 54

الأحاديث السابقة بعض الأسباب التي دعت إلى مشروعيّة المتعة و النكاح المؤقّت، و كلّ ما كان كذلك، فالعقل يحكم بحسنه بل قد يرى قبح تركه، كما في أصل النكاح.

و قد ذكرنا أنّ نسخ التشريع على فرض وقوعه و صحّته إنّما كان لمصالح وقتيّة رآها الحاكم، و حينئذ لا يمكن استفادة الحرمة الأبديّة.

و على فقهاء المسلمين (رفع اللّه تعالى شأنهم) إعادة النظر في هذا الموضوع المهمّ في هذا العصر، الذي كثر الفحشاء و المنكر فيه، و انقلب المعروف منكرا و المنكر معروفا، و زاد جرأة الناس على ارتكاب المآثم و الموبقات، و امتازت المجالس بالمخالطة بين الجنسين من دون رادع ديني، و اشتدّت المخالطة بينهما بلا حجاب، و كادت الإباحيّة أن تستولي على المجتمع الإسلامي كما تراها في المجتمع الغربي الكافر، و المسؤولية إنّما تقع على العلماء و غيرهم، و لا أقل من سدّ باب الذرائع من الوقوع في الفحشاء، حيث يحكم به جميع علماء الجمهور، بل علماء الإسلام بأجمعهم، و النكاح المؤقّت مع الشروط المطلوبة من أحسن الطرق، مع أنّ فرقة كبيرة من المسلمين يقولون بشرعيته و إباحته، و يجوز لغيرهم الرجوع إلى القائلين به، فعلى المسلمين أن يسدوا باب الفحشاء باحياء سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يسدّ اللّه تعالى عليهم أبواب البلاء و المحن، التي عجزت عقول البشر عن معالجتها و رفعها، و اللّه الموفق للصواب.

ص: 55

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَي.......

اشارة

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى ما يتعلّق بنكاح الحرائر و بيّن القاعدة الكليّة في ما يحرم من النكاح و ما يجوز، و تعرّض لنكاح الإماء، ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة شروط نكاح الإماء، و هي الإيمان و انتفاء الطول من نكاح الحرائر و خوف العنت.

و بيّن عزّ و جلّ أصلا من الأصول المهمّة التي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي و بضمنه الاسرة، و هو كون المؤمنين بعضهم من بعض، يشعر كلّ واحد بالمسئولية تجاه الآخر، و أنّه لا بد من الوفاء بالعهد الذي يطلبه منه الفرد و المجتمع، ثمّ أمر عزّ و جلّ بالصبر عن نكاح الإماء، و أنّه خير لمن يريد نكاحهن، و اللّه غفور رحيم.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ .

مادة «طول» تدلّ على الفضل و الزيادة، و منه الغنى و السعة و الاعتلاء، و النبيل، و قد وردت هذه المادّة في ما يقرب من عشرة مواضع، قال تعالى:

اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ [سورة التوبة، الآية: 86]، و قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ [سورة القصص، الآية 45]، إلى غير ذلك ممّا وردت في الآيات المباركة.

ص: 56

اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ [سورة التوبة، الآية: 86]، و قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ [سورة القصص، الآية 45]، إلى غير ذلك ممّا وردت في الآيات المباركة.

و من أسمائه الحسنى (ذو الطول)، قال تعالى: غافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقابِ ذِي اَلطَّوْلِ [سورة غافر، الآية 3]، أي: واسع العطاء و المغفرة و الرحمة.

و المراد به في المقام الزيادة و السعة في المال و الحال و القدرة، فإنّ في التزويج بالحرائر حقوقا و شروطا و أحكاما معينة، و في كلّ ذلك آداب متعارفة بين الناس في نكاح الحرائر، و هي غير معتبرة عرفا في نكاح الإماء، و كذا التزويج بالحرائر يتطلّب المهر و الصداق، بخلاف نكاح الإماء.

فإذا لم يكن له سعة معنويّة و ماديّة في تزويج الحرائر المؤمنات، فله أن ينكح الإماء المؤمنات، و لم يبيّن سبحانه و تعالى خصوصيات الطول؛ لأنّ المرجع حينئذ العرف، و هو يختلف بحسب حالات الشخص و جهات معيشته، و بحسب الأعصار و الأمصار.

و المحصنات بفتح الصاد و هن الحرائر، بقرينة المقابلة بقوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ، فإنّ الحرية تدعو إلى الإحصان و العفّة، بخلاف الملكية في الإماء.

قوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ .

جواب الشرط، و المراد بالفتيات الإماء، و إن كانت مسنّة؛ لأنّها كالصغيرة في أنّها لا توقر توقير الحرّة. و إنّما جيء بهذه الكلمة لرفع الحزازة و النقيصة من التزويج بالإماء، أي: ينتقل إلى ما ملكت أيمان المؤمنين من الإماء المؤمنات، فيتزوّج بهن أو يتسرّى.

و إنّما نسب ملك اليمين إلى اليمين؛ لرفع جهة النقصان فيهنّ ؛ و لبيان أنّ

ص: 57

الجميع في هذا الأمر واحد لاتحادهم في الدين، و إن كان فيهم من لا يريد إلا التزويج و النكاح بالحرائر.

كما أنّ التقييد بالمؤمنات في المحصنات؛ لبيان عدم جواز نكاح غير المؤمنات من المشركات، و لبيان أفضل الأفراد. و أمّا التقييد في الفتيات لبيان أنّ الإيمان يمنعهنّ من بعض الرذائل الخلقيّة، و أنّ اتباع الدين يحفظهنّ عن ارتكاب منافيات العفّة، و الإيمان الصحيح ما كان رادعا عن السوء و الفحشاء، و لبيان جهة الاتحاد بين جميع الأفراد.

و معنى الآية الشريفة أنّ من لم يقدر على نكاح الحرائر المؤمنات و التزويج بهن لعدم قدرته على تحمّل المهر و النفقة، و ما يتطلّبه نكاح الحرّة، فله أن ينكح من الإماء المؤمنات اللواتي اتصفن بالصفات الحميدة و أعرضن عن الفحشاء و المنكر بسبب إيمانهن، فلا يتحرّج من ذلك، فإنّ النكاح بهن حينئذ يمنع من الوقوع في الفحشاء و ارتكاب المآثم. و نكاحهنّ يكون إمّا بالعقد، أو بالتسرّي.

و سوق الآية الشريفة يدلّ على أنّها في مقام التنزيل، فإنّ من لم يقدر على الأوّل ينتقل إلى الثاني، و هما متفاوتان في الدرجة، فتكون الآية الكريمة مبيّنة للصورة النازلة من نكاحي الدوام و المتعة، إتماما لأحكام النكاح و بعض شؤونه و خصوصياته و آدابه.

و قد ذكرنا أنّ إطلاق النكاح في المنزل عنه يشمل الدوام و المتعة، فإنّ لكلّ إنسان رغبة في أحدهما، و إن كانا يختلفان في بعض المراتب، لكنّه غير ضائر، فإنّ حالات الشخص تختلف بالنسبة إليهما، فإذا لم يتمكّن من أحدهما انتقل إلى الفرد الآخر الذي هو أقلّ مرتبة من النكاح الدائم و النكاح المؤقّت؛ لوجود العذر، و هو عدم القدرة على المهر أو الاجرة، و ما يتطلّبه كلّ واحد من الفردين من الأحكام.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه لتخصيص النكاح بالدائم في المنزل عنه الذي

ص: 58

هو أحد أفراد النكاح بالمعنى العامّ ؛ لكونه هو الفرد المتعارف و الموافق للطبع في نظر الإنسان، فإنّ ذلك لا يوجب تخصيص الآية.

كما أنّه لا وجه للقول بأنّ هذه الآية تكون مؤيّدة بأنّ المراد من الاستمتاع في الآية السابقة هو النكاح الثابت، فإنّه لا تأييد فيها بوجه من الوجوه، بل الآية الشريفة في مقام التنزيل و ذكر أفراد المنزل عنه و المنزل إليه، مع أنّ الآية السابقة ظاهرة في نكاح المتعة - كما عرفت - و أنّ عدم الطول بالنسبة إليها يختلف بالنسبة إلى النكاح الدائم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ .

جملة معترضة لبيان الوجه في اعتبار الإيمان في الفتيات المؤمنات؛ لأنّ الإيمان قد رفع شأنهن و ساوى بينهن و بين الحرائر، و أنّ الإيمان يرفع المتّصف به إلى أعلى الدرجات، و هو مناط التفاخر، لا الأحساب و الأنساب و الأوهام الباطلة، فرب أمة مؤمنة أفضل من حرّة عند اللّه تعالى لكمالها بالإيمان.

و لكن الإيمان أمر قلبيّ يتفاوت فيه الأفراد، و اللّه تعالى أعلم بدرجات إيمانكم قوة و ضعفا و كمالا و نقصا، و المناط هو الجري على الأسباب الظاهريّة، و الإيمان الظاهريّ هو المبنيّ على الشهادتين و إتيان الوظائف الدينيّة و الدخول في جماعة المسلمين، و هو كاف في التكاليف، و منها المقام، أي: نكاح الأمة. و الآية المباركة في مقام نفي إزالة النفرة عن نكاح الإماء و تأنيس القلوب بهنّ .

قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .

بيان لحقيقة من الحقائق القرآنيّة في مطلق الإنسان، فإنّ جميع الأفراد متساوون في الإنسانيّة، فالرقيق إنسان و الحرّ إنسان، لا امتياز بينهما من هذه الجهة و إن اختلفا في بعض الخصوصيات التي يبتني عليها النظام العامّ ، و لكن تلك لا توجب القرب و الامتياز عند اللّه تعالى إلا ما بيّنه عزّ و جلّ آنفا، و هو الإيمان و التقرّب إليه سبحانه بالطاعة.

ص: 59

و الآية المباركة ردّ على تلك العادات و التقاليد التي ميّزت أفراد الإنسان على حسب الطبقات، و جعلوا طبقة العبيد و الإماء من أخسّ الطبقات و أرذلها، ممّا أوجب الابتعاد عنهم و الانقباض عن مخالطتهم، لا سيما الازدواج بهم، فكان لهذا التعليم الإلهي و التربية الربانيّة أعمق الأثر في نفوس المؤمنين في ترك ما خلّفته الجاهلية البغيضة من سوء الأخلاق و سفاسف الأمور.

و الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي وردت في تهذيب الإنسان و تربيته تربية صالحة، بردّه إلى فطرته، و بيّنت أن أساس الكمال و الرفعة هو الإيمان و اتباع الشريعة بعد تساوي الجميع في شؤون الإنسانيّة، و أن الإيمان يشدّ بعضهم ببعض، و يربطهم بخالقهم و يسعدهم في حياتهم، بعد كونهم متساوين من جهة الإنسانيّة، فلا موجب بعد ذلك للنفرة من الإماء و الابتعاد عنهن، و لا ينبغي للمؤمن أن يصغي إلى الأوهام الباطلة و العادات السيئة، فتبعده عن الحقائق التي تجلب السعادة و الفوز بالفلاح. و الآية الكريمة في مقام التأليف بين الناس و عطف بعضهم مع بعض.

قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ .

شرط آخر من شروط نكاح الإماء، و هو أن يكون نكاحهن بطيب نفس أهلهن، و ذكر الإذن إنّما هو من باب الطريقيّة لإحراز طيب النفس.

و المراد بالأهل الموالي، و إنّما عبّر عزّ و جلّ به لبيان أنّ الفتاة واحدة من أهل بيت مولاها، فيكون مثل قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ؛ لرفع الحزازة و المنقصة من نكاحهن؛ و لبّث التأليف بين القلوب.

و الآية المباركة تدلّ بمفهومها على حرمة نكاح المملوكة بدون إذن أهلها، و تدلّ عليه السنّة الشريفة أيضا،

ففي الحديث الشريف عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه».

و عن الصادق عليه السّلام: «لو تزوّج الرجل بالأمة بغير علم أهلها، فهو زنا»، و الإطلاق في المنطوق و المفهوم يشمل النكاح الدائم و المنقطع.

ص: 60

قوله تعالى: وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

المراد بالاجور في المقام المهور؛ لأنّ المهر عوض البضع، و إضافة الأجور اليهنّ مع كونهنّ مملوكات؛ لبيان أنّ المهر قد استحقّته بميثاق الزواج، و هو يقابل بضعها، و لا ينافي هذا كون الأجر للمالك؛ لأنّه مالك لها و لمنافعها.

و إنّما قيّد عزّ و جلّ الإعطاء بالمعروف؛ للدلالة على أنّه لا حدّ لهذا المهر كما و كيفا شرعا، بل يحدّده العرف و العادة في مثل هذا الزواج، و لكن لا بد أن يكون من غير بخس و لا أذى و لا مماطلة، و هذا هو المعروف في كلّ نفقة أيضا، كما تقدّم في آية النفقة في سورة البقرة.

قوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ .

المحصنات: العفائف، و غير مسافحات لبيان نفي جميع أنواع الزنا، العلن منها و الخفي.

و المعنى: أنّهن قد أقدمن على الزواج للإحصان و التعفّف عن الحرام، فلا يأتين بما ينافي العفّة، كالزنا و اتباع الشهوات. و إنّما اختلف التعبير في المقام عن ما ورد في نكاح الحرائر، قال تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ؛ لأنّ الحرائر أبعد عن الفحشاء من الرجال، فإنّهم أسرع انقيادا لزمام الشهوة، فجعل هذا القيد للرجال الطالبين للزواج، و أمّا الإماء فإنّ الغالب عليهن الزنا، فجعل قيد الإحصان لهنّ ، فكأن القيد في كلّ موضع يرجع إلى ما يوافق الطبع و العادة.

قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ .

الأخدان: جمع الخدن - بكسر الخاء و سكون الدال - و الخدين: الصديق و الخليل، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المفرد و الجمع.

و عن بعض أن الأخدان هم الأصدقاء في السرّ للزنا، لا مطلق الصديق و الخليل. و لكن ذلك من باب ذكر أحد المصاديق لا التقييد؛ لأنّ الخدن هو الصاحب و الخليل في كلّ أمر ظاهر و باطن، يقال: رجل خدنة، إذا اتخذ أخدانا و أصحابا، و ذات الخدن هي التي تزني سرّا.

ص: 61

و المراد بها في المقام هي المرأة التي تختصّ بخلّة الرجل و مصاحبته للزنا و الفجور، و نفي هذا الفرد مع أنّه منفي بالآية السابقة للتأكيد على تركه، لأنّه كان شائعا في الجاهلية، فقد كانت العرب تعيب الإعلان بالزنا بأن تأخذ الأجر من الراغبين فيها و لا تعيب على ذات الخدن، أي: الزنا سرّا مع صديق لها على الخصوص؛ و لذا أفرد سبحانه و تعالى كلّ واحد من هذين القسمين بالذكر، و نصّ على حرمتهما معا، و حرّم جميع مظاهر الزنا، قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ [سورة الانعام، الآية 151].

و إنّما أتى بصيغة الجمع؛ للدلالة على الكثرة، فإنّ النفس لا تقنع بالخدن الواحد إذا اطلق زمامها و اطيعت في ما تهواه.

قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ .

بضمّ الهمزة و كسر الصاد بالبناء للمفعول، و هي القراءة المعروفة، أي: فإذا أحصن بالتزويج، و قرئ بالبناء للفاعل، أي: أحصن فروجهن و أزواجهن.

و كيف كان، فالمراد من الإحصان التزويج، و هو المناسب للسياق و التفريع، و يدلّ عليه بعض الأحاديث.

و قيل: المراد بالإحصان الإسلام، و استدلّ عليه

بما رواه في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إحصانها إسلامها».

و لكنه مردود:

أولا: أنّه مخالف لسياق الآية الشريفة.

و ثانيا: أنّ الإحصان حينئذ من فعلهنّ ، لا من غيرهن عليهن، الذي هو مفاد القراءة بالبناء للمفعول.

و ثالثا: الحديث معارض بغيره.

نعم، لو كان المراد من الإسلام الحقيقيّ منه، كان له وجه.

ص: 62

قوله تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ .

المراد من الفاحشة هي التي توجب الحدّ، و هي الزنا و المساحقة، و العذاب:

الحدّ، و هو هنا الجلد دون الرجم؛ لأنّه لا يقبل التنصيف، و المحصنات هنا الحرائر، و قد ورد الإحصان في القرآن بمعان أربعة، الأوّل: التزوّج، و الثاني: العفّة، و الثالث: الحرّية، و الرابع: الإسلام، كما قيل في تفسير قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ .

و اللام في «العذاب» للعهد، و هو ما ورد في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [سورة النور، الآية: 2]، فالذي ينصف من حدّ الزنا هو المائة جلدة، و تقدّم أنّ الرجم ليس له نصف، بل هو مقدّمة لإزهاق الروح.

و المعنى: فإذا فعلن الفتيات المؤمنات الزنا بعد إحصانهن بالزواج، فعليهن نصف حدّ الحرائر غير المزوّجات، و هو جلد خمسين جلدة، و يدلّ على ذلك أحاديث متعدّدة مرويّة من الفريقين، سيأتي ذكرها في البحث الروائي.

و ممّا ذكرنا يعرف أنّه لا مفهوم للشرطيّة في قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ ؛ لقيام الدليل عليه. و إنّما ذكر إحصان الزواج في الشرط المجرّد عن المفهوم لأنّه كان مفروض الكلام، و قد ذكر في ما تقدّم، فلا يؤثّر الإحصان فيها شيئا زائدا، فهي متّحدة في كلتا الحالتين، و نظير الآية الشريفة في انتفاء المفهوم قوله تعالى:

وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [سورة النور، الآية: 33]، و لعلّ فائدة مفهوم الشرط في المقام لبيان اختلاف حكم الأمة مع حكم الحرّة في هذه الحال، و أنّه يجب عليها الجلد خمسين خاصّة في الحالتين.

و ذهب بعض المفسّرين من الجمهور إلى العمل بمقتضى مفهوم الشرط و الحكم بعدم وجوب الحدّ عليها إذا لم تكن محصنة، و قال: إنّ تفسير المحصنات في هذه الآية الكريمة بالحرائر مقابلة للإماء، ليس بسديد، و أيّده بحصول الشبهة لهن بتجويز الزنا لهن في هذه الحال.

ص: 63

و يردّ عليه مضافا إلى أنّه بعيد عن سياق الآية المباركة - كما عرفت - أنّه مخالف لجملة كثيرة من الروايات أيضا. هذا كلّه إن كان المراد بالإحصان إحصان الزواج و العفّة.

و أمّا إذا كان المراد إحصان الإسلام - كما ذكره جمع - فالآية المباركة تدلّ على المطلوب - و هو نصف عذاب الحرائر، سواء كنّ ذوات بعولة أو لا - بوضوح من غير مؤونة.

قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ .

مادة «عنت» تدلّ على المشقّة و الشدّة، و منه: أكمة عنوت، أي: صعبة المرتقى،

و في الحديث: «أيما طبيب تطبّب و لم يعرف بالطبّ فأعنت، فهو ضامن»، أي: أفسد و أوقع المريض في المشقّة و الشدّة.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع خمسة، كلّها تدلّ على المشقّة و الجهد، و قد فسّر جمع من المفسّرين العنت في المقام بالزنا؛ لأنّه نتيجة وقوع الإنسان في مشقّة الشبق و جهد شهوة النكاح.

و قيل: إنّه الإثم؛ لأنّه لا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، و لكن لا دليل على كون المراد هو الزنا أو الإثم، فالصحيح هو الأخذ بالمعنى العامّ ، و هو الشدّة و المشقّة الحاصلة بسبب العزوبة و ترك التزويج بالإماء.

و المعنى: جواز نكاح الفتيات المؤمنات لمن يجد الطول في نكاح الحرائر المؤمنات، إنّما هو لمن يخاف أن يقع في المشقّة و الجهد الحاصل من العزوبة و ترك التزويج بالإماء.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ .

أن بفتح الهمزة مخفّفة، و الجملة في تأويل المصدر، أي: و صبركم خير لكم، و اختلف المفسّرون في متعلّق الصبر، فالمشهور أنّه نكاح الإماء، فالمعنى:

و صبركم عن نكاح الإماء مع عدم الطول و خوف المشقّة خير لكم لما في

ص: 64

نكاحهن نوع من الحزازات، و يترتّب عليه من العواقب التي يرغب عنها الأحرار، ككون أمر الأمة بيد المولى في غير ما يعارض النكاح و الاستمتاع، فإنّهما للزوج، و أنّ النكاح في معرض الفسخ بالبيع و انتقال الملكيّة إلى مولى آخر، أو أنّ المهر الذي بذله الزوج يذهب هدرا لو أعتقها المولى، و غير ذلك ممّا ذكرناه في طي كلامنا،

و نسب إلى نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الحرائر صلاح البيت، و الإماء هلاك البيت».

و أمّا ما ذكره بعضهم من صيرورة الولد المتولّد منها رقّا، فهو غير تامّ عند الإماميّة و بعض فقهاء الجمهور، فإنّ الولد يتبع أشرف أبويه في الحرّية و الإسلام حتّى جعل الإماميّة ذلك قاعدة فقهيّة، و دلّت عليها الأخبار و الإجماع.

و كيف كان، فالآية المباركة في مقام الإرشاد إلى ترك نكاح الإماء، أي:

استحباب تركه، لا التحريم، و يدلّ عليه جملة من الأخبار.

و قيل: إنّ المتعلّق هو الزنا، أي: صبركم عن الزنا خير لكم لما فيه من تهذيب النفس و تحصيل ملكة العفّة و التلبّس بلباس التقوى و تحكيم العقل، و ترك اتباع الشهوات، و أيّد ذلك بأن ترك نكاح الإماء لا يجتمع مع خوف العنت و المشقّة، فلا بد أن يكون المراد الصبر عن الزنا، و تركه بالازدواج معهن.

و يمكن الجواب عنه بأن خشية العنت لها مراتب متفاوتة، فبعضها يجامع الصبر، و هو ما إذا علم من نفسه العصمة من الزنا و ارتكاب الفحشاء إذا ترك التزويج بهن، لكن مع المشقّة الشديدة. و لكنّ بعض المراتب لا تجتمع مع الصبر، كما إذا غلب على ظنّه أو علم بأنّه يقع في الفحشاء، فحينئذ يكون النكاح واجبا أو مستحبّا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أي: و اللّه غفور يغفر لمن خالف إرشاداته و أوامره، و يمحو آثار سيئاته، و لا يؤاخذه بما يختلج في نفوس المؤمنين، رحيم بعباده يرشدهم إلى ما يصلحهم، و لا يكلّفهم إلا ما يطيقونه.

ص: 65

بحوث المقام

بحث أدبي

الطول: في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً مصدر، و هو مفعول به ليستطيع، و ردّ: بأنه بناء عليه يكون المعنى: و من لم يقدر على القدرة.

و أجيب بأنّ طول في المقام هو السعة و الغنى، أي: و لم يكن له القدرة على الغنى و السعة في الحال و المال.

و قيل: إنّه مفعول لأجله، لبيان جهة الاستطاعة المذكورة.

و قيل: إنّه منصوب بنزع الخافض، أي يقدر على الطول.

و مَنْ في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ إمّا شرطيّة و ما بعدها الشرط، أو موصولة و ما بعدها صلة.

و أَنْ يَنْكِحَ في تأويل للمصدر مفعول لكلمة (يستطع)، أو منصوب بفعل مقدّر صفة «طولا»، أي: يبلغ به نكاح المحصنات.

و الفتاة: اسم للمملوكة، كما أنّ الفتى اسم للمملوك،

و في الحديث: «لا يقولن أحدكم: عبدي و أمتي، و لكن ليقل: فتاي و فتاتي»، و هو يطلق على المماليك في الشباب و الكبر، بخلاف الأحرار، فإنّه يطلق عليهم في ابتداء الشباب فقط.

و قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على مسافحات، و «لا» لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي أو من عطف الخاصّ على العامّ ، كما عرفت في التفسير.

ص: 66

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: تدلّ مجموع الآية الشريفة: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ... على مرجوحية نكاح الإماء، حيث اشترط عزّ و جلّ في جواز نكاحهن أمرين: عدم الطول، و خوف العنت، و ما تضمّنته الآية المباركة من الترغيب في نكاحهن عند توفّر الشرطين ثمّ الأمر بالصبر أخيرا و الإرشاد إلى ترك ذلك بل استحبابه، كلّ ذلك يدلّ على مرجوحيّة النكاح بهن و كراهته، و لكن لا يستفاد من جميع ذلك حرمة نكاحهن، و هو المشهور بين العلماء.

و ذهب جمع إلى الحرمة إذا فقد أحد الشرطين المزبورين لمفهوم الآية الكريمة، فإن الأوّل مفهوم الشرط، و الثاني و إن كان مفهوم الصفة، إلا أنّه لا يقصر عن المنطوق في الدلالة، و استدلّوا على ذلك بجملة من الروايات التي حملها على الكراهة أولى من الحرمة، بقرينة جملة اخرى من الأحاديث.

و أمّا المفهوم، فلا حجّة فيه مع سياق الآية الشريفة الدالّ على التنزّه كما عرفت، و لدخول نكاح الإماء بالعقد في الفرض المزبور تحت العمومات الدالّة على الإباحة، و التفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ ، رجحان النكاح بالحرائر المؤمنات مع التمكّن من المهر.

الثالث: ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لا بد لكلّ نكاح من مهر، و إن لم يكن ذكره لازما في متن العقد.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الردّ على العادات و التقاليد التي كانت سائدة في هذا النوع من أفراد المجتمع

ص: 67

الإنساني، و هم العبيد و الإماء الذين كانوا في أشدّ معاناة و أعظم محنة، فاعتبر الإسلام أنّهم من أفراد المجتمع الإنساني، فهم يحسّون ما تحسّونه و يعانون ما أنتم تعانون منه، فإنّ بعضكم من بعض، و إذا انضمّ إلى ذلك الإيمان كان الارتباط أوثق و الوشيجة بين الأفراد أمتن، فإنّ في المجتمع الإسلامي من الروابط بين الأفراد ما لم تكن في أي مجتمع آخر، و لعلّ

ما ورد عن علي عليه السّلام: «الناس صنفان، إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، مقتبس من مثل هذه الآية الشريفة، كما تدلّ هذه الآية أيضا على أنّ الأحكام الإلهيّة لا يمكن أن تقبل التغيير تبعا للعادات و التقاليد الباطلة، فإنّها أحكام واقعيّة تشتمل على مصالح.

فلا يصحّ أن يعتبر نكاح الإماء عارا عند الحاجة إليه بعد الإيمان، و أنّه أكبر رادع عن ارتكاب السوء و الفحشاء نوعا.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ، على وجه الحكمة في التشريع في هذا الأمر التكويني، فإنّ اللّه تعالى إنّما شرّع الأحكام المرتبطة بالنكاح مطلقا، لأجل تهذيب هذا الأمر الفطريّ و تحديده، بحيث يحتفظ فيه داعي العقل و الفطرة، فلا يسرح فيه كالبهائم ليس همّه إلا اتباع الشهوة و إرضاء داعي الفطرة، فكان النكاح أمرا تربويّا في نظر الإسلام، و ليس مجرّد كونه أمرا تكوينيّا و اتباعا للشهوة العارمة، و لا بد في النكاح من ملاحظة كونه رادعا عن الفحشاء و صارفا عن السفاح، فالنكاح الشرعي من أهمّ سبل ترويض النفس و تهذيبها، و الصبر عن الحرام.

أمّا التوالد و التناسل، فهما أمران تكوينيّان يترتّبان على المقاربة و غشيان النساء، و يصلحان بصلاح المنشأ و السبب؛ و لذا اهتمّ الإسلام في تحديد العلاقة الزوجيّة بأن حدّد لها شروطا و آدابا؛ لأنّها السبب في صلاح النسل و فساده، فما ذكره جمع من أنّ الحكمة في نظر الإسلام إنّما هو تكوين الاسرة و النسل، فهو خلاف ظاهر الآيات الشريفة، مع أنّ ما ذكروه مترتّب على نوع تلك العلاقة، لا

ص: 68

مجرّد تكوين الاسرة و النسل بأي وجه حصل، فربّ اسرة تشكّلت من الحرام و حصل منها النسل الكثير، و لكنّه في نظر الإسلام مذموم و قبيح.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ أنّ الغاية من النكاح هو الإحصان، كما ذكره عزّ و جلّ آنفا، و أنّه لا ينبغي لمن أحصن نفسه فعل الفاحشة و ارتكاب السوء و الآثام، فإنّهما جهتان لا يجتمعان، فإذا صدر منهنّ ذلك فعليهنّ نصف ما على الحرائر من العذاب، و هذا مختصّ بما يقبل التنصيف، و هو الجلد دون الرجم، كما عرفت.

بحث روائي

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «لا ينبغي أن يتزوّج الحرّ المملوكة اليوم، إنّما كان ذلك حيث قال اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ، و الطول المهر، و مهر الحرّة اليوم مهر الأمة أو أقلّ ».

أقول: هذه الرواية تدلّ على كراهة التزويج مع فقد الشرط، و التفصيل مذكور في الفقه.

و في المجمع: عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً : «أي: من لم يجد منكم غنى».

أقول: المستفاد من الرواية أنّ ذكر الغنى و المهر في الحديثين من باب بيان ذكر مصاديق الطول، و المراد منهما القدرة العرفيّة.

و في التهذيب: عن أبي العباس البقباق، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

يتزوّج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا، إنّ اللّه تعالى يقول:

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ».

أقول: الحديث موافق للقواعد العامّة، فإنّ التصرّف في ملك الغير غير جائز إلا بإذنه، و في النكاح يكون زنا قهرا.

ص: 69

و في تفسير العياشي: قال: «سألته عن المتعة، أ ليس هي بمنزلة الإماء؟ قال عليه السّلام: نعم، أما تقرأ قول اللّه تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ - إلى قوله تعالى - وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ؟! فكما لا يسع الرجل أن يتزوّج الأمة و هو يستطيع أن يتزوّج الحرّة، فكذلك لا يسع الرجل أن يتمتّع بالأمة، و هو يستطيع أن يتزوّج بالحرّة».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ نكاح المنقطع كالنكاح الدائم في هذه الجهة، و تقدّم في التفسير أنّه مستفاد من إطلاق الآية الشريفة، و الحديث ردّ على من زعم أنّ المتعة لا تجوز مع التمكّن من نكاح الأمة.

و في التهذيب: عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت الرضا عليه السّلام يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم، إنّ اللّه تعالى يقول: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ».

أقول: الحديث نصّ في أنّ المتعة نكاح يجري فيها ما يجري في النكاح الدائم، إلا ما خرج بالدليل.

و في الكافي و تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام قال:

«سألته عن قول اللّه تعالى في الإماء: فَإِذا أُحْصِنَّ ، ما إحصانهن ؟ قال:

يدخل بهنّ ، قلت: فإن لم يدخل بهن ما عليهن حدّ؟ قال عليه السّلام: بلى».

أقول: الحديث يدلّ على أنّه لا مفهوم للآية الشريفة بالنسبة إلى إقامة الحدّ عليهن.

و في التهذيب: عن بريد العجلي، عن أبي جعفر عليه السّلام: «في الأمة تزني، قال:

تجلد نصف الحدّ، كان لها زوج أو لم يكن».

أقول: تقدّم ما يرتبط بهذا الحديث، و هو في مقام شرح الآية الشريفة.

و في تفسير العياشي: عن حريز قال: «سألته عن المحصن ؟ قال عليه السّلام: الذي عنده ما يغنيه».

ص: 70

أقول: الحديث و إن ورد في الرجل المحصن، لكن مقتضى قاعدة الاشتراك و الأخبار الواردة في هذا السياق، تساوي المرأة المحصنة مع الرجل في هذه الجهة.

و في تفسير القمّي في الآية الشريفة: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ - الآية قال: «يعني به العبيد و الإماء إذا زنيا ضربا نصف الحدّ، فمن عاد فمثل ذلك حتّى يفعلوا ذلك ثماني مرّات، ففي الثامنة يقتلون، قال الصادق عليه السّلام: و إنّما صار يقتل في الثامنة؛ لأنّ اللّه رحمه أن يجمع عليه ربق الرق و حدّ الحرّ».

أقول: قد ورد أن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة و الثالثة، و هذا الحديث يشرح ذلك بالنسبة إلى العبيد و الإماء.

و في الكافي: عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في عبد مملوك قذف حرّا، قال عليه السّلام: يجلد ثمانين، هذا من حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه عزّ و جلّ فإنّه يضرب نصف الحدّ، قلت: الذي من حقوق اللّه عزّ و جلّ ما هو؟ قال عليه السّلام: إذا زنى أو شرب خمرا فهذا من الحقوق التي يضرب عليه نصف الحدّ».

أقول: الحديث شارح لجملة كثيرة من ما ورد في المقام.

و هناك فروع فقهيّة مرتبطة بنكاح العبيد و الإماء، ذكرنا شطرا منها في كتابنا (مهذب الأحكام)، و من شاء فليرجع إليه.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «المسافحات المعلنات بالزنا، المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد، قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا و يستحلّون ما خفي، يقولون: أمّا ما ظهر منه فهو لؤم، و أمّا ما خفي فلا بأس بذلك، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ».

أقول: تقدّم في التفسير ما يتعلّق بالآية الشريفة.

ص: 71

بحث عرفاني

الآية المباركة وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ على اختصارها و اسلوبها الرائع الذي يجذب القلوب و تطمئن إليها النفوس، تشمل على أمور مهمّة.

الأوّل: تتضمن النشأة الاخرويّة و إيكال الإيمان إلى عالم الغيب و الشهادة، الذي فيه فوائد جمّة، منها: سوق العباد إلى ذلك العالم.

و منها: جهدهم لدرك هذا المقام.

و منها: انقطاعهم من الدنيا إلى عالم الغيب.

و منها: عدم الاعتماد على النفس، و عدم الاغترار بما يصدر من الإنسان، فإنّ الدرجات متفاوتة لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

الثاني: سريان التوحيد في المعبود و العبادة، و بضميمة قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، الذي هو بمنزلة الشارح لهذه الآية، ينتج المطلوب، إذ المراد أنّ اللّه أعلم بتقواكم، فهو أعلم بإيمانكم، و المراد بالإيمان هو التوحيد في العبادة و المعبود.

الثالث: تتضمّن الآية المباركة أيضا على النشأة الدنيويّة في قوله تعالى:

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، فإنّه يبيّن حقيقة واقعيّة، و هي أنّ أفراد النوع الواحد لا تفاوت بينها من حيث النوعيّة و لا تفاضل بحسب الحقيقة، فالحرّ و العبد، و الأمة و الحرّة متساوون في الحقيقة، ففي الآية المباركة الحثّ على ملاحظة الوحدة الاجتماعيّة و نبذ جهات التفرقة و التنافر، و هذا ما أكد عليه الإسلام في مواضع متفرّقة في القرآن، و دلّت عليه السنّة الشريفة.

فالآية الشريفة تبيّن ارتباط العبد مع خالقه، و تحدّد ارتباطه مع بني نوعه أيضا، و تحثّهم بأسلوب لطيف على التعاون و التآلف و التعاضد، بلا فرق بين

ص: 72

الأصناف المتفاوتة و الأفراد المختلفة؛ و لذا نرى أنّ أهل اللّه تعالى - و في رأسهم عليّ عليه السّلام - يرون جميع أفراد الإنسان واحدا في حيثيّة كشفهم عن الخالق و تجلّيه فيهم، فتكون الآية المباركة ترغيبا إلى الوحدة و الاتحاد بين أفراد الإنسان، حيث جعل عزّ و جلّ الإنسان نوعا واحدا مركبا من بعض مع بعض، بحيث لو انفصل البعض من الكلّ لا بد و أن يتأثّر الكلّ بذلك، و قد نظم الشعراء في هذا المضمون قصائد ممتعة كثيرة بألسنة مختلفة.

ص: 73

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ ح.......

اشارة

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) الآيات المباركة من جلائل الآيات القرآنيّة التي تبيّن وجوها من الحكم في تشريع الأحكام الإلهيّة، لا سيما تلك الأحكام التي شرّعت في النكاح، و تبيّن أنّها من نعم اللّه تعالى على عباده المؤمنين، التي تهديهم إلى الصلاح و الرشاد و تجلب لهم السعادة في الدنيا و الآخرة، و أنّ اتباعها يوجب التخفيف على الإنسان الذي هو في صراع مرير بين النفس الأمّارة و القوى الشريرة التي تريد الهلاك و الشقاء، و بين القوى الخيّرة التي تريد له الخير و السعادة، و اللّه تعالى بتشريعه الأحكام لا يريد إلا الخير و الصلاح و الرقي للمجتمع الإنساني.

التفسير

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ .

جملة استئنافيّة لبيان الغاية في تشريع ما سبق من الأحكام الإلهيّة و وجوه الحكمة فيه. و الإرادة: معروفة، و هي من صفات اللّه تعالى العليا الفعليّة، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صحّ إثبات نقيضها له عزّ و جلّ أو أمكن نفيها عنه تعالى، فهي من النوع الثاني، و إلا كان من النوع الأوّل، فمن صفات الفعل الإرادة، فإنها أطلقت و نقيضها عليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و كذا الحبّ :

ص: 74

إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 4]، و قال عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة، الآية: 190] إلى غير ذلك من الصفات.

و من صفات الذات الحياة و العلم و القدرة، و غير ذلك، فإنّه لا يصحّ إطلاق نقيضها عليه عزّ و جلّ ، و قد تقدّم التفصيل في آية الكرسي من سورة البقرة فراجع.

كما أنّ الإرادة من أسباب الفعل، و هي المشيئة، و الإرادة، و القدر و القضاء، و سيأتي البحث عنها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و المعروف بين المفسّرين أنّ اللام في لِيُبَيِّنَ زائدة، و الأصل (يبيّن)، و إنّما أورد في المقام ليجعل المصدر مفعولا.

و قد ذكرنا مرارا في هذا التفسير أنّ دعوى الزيادة في القرآن الكريم باطلة، و أنّه لا شيء فيه بزائد، و إنّ لكلّ حرف و كلمة معنى خاصّ ، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و إنّما حذف مفعول (يبيّن) ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب و تستخرجه العقول السليمة و ذوي الفطرة المستقيمة، أي: يبيّن لكم امور دينكم و ما يصلح شأنكم و يحقق سعادتكم و فوزكم.

و قد ذكر بعض المفسّرين بعض الحكم في تشريع الأحكام المتقدّمة، و لكنّه من مجرّد آراء خاصّة، لم تثبت بدليل شرعي و لا بدليل عقلي مقبول.

قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

السنن جمع سنّة، و هي المنهاج و الطريقة المتبعة عملا، و المراد من قبلكم هم الأنبياء و الصالحين من عباد اللّه تعالى، و الجملة عطف على لِيُبَيِّنَ .

يعني: يريد اللّه أن يبيّن لكم ما هو سبب لسعادتكم و صلاحكم في الدنيا و الآخرة، و أن يهديكم سنن الماضين.

و المراد من السنن هي الشرائع التي شرّعها اللّه عزّ و جلّ لصالح الأمم الماضين، و قد جعلوها سنّة متّبعة لا يحيدون عنها.

ص: 75

و الدواعي لمعرفة سنن الماضين التي شرّعها اللّه تعالى كثيرة، و المصالح لاتباعها متعدّدة؛ لأنّ دين اللّه واحد موافق للفطرة المستقيمة و لا اختلاف فيه؛ و لأنّ متابعة نهج السلف الصالح ما تدعو إليه فطرة العقول، و للاستفادة من تجارب الماضين الذين لم يقصدوا إلا ابتغاء مرضاة اللّه، ففازوا بسعادة الدارين، فاقتضت المصلحة أن يسنّ عزّ و جلّ لكم شريعة تكون لكم منهاجا.

و قال بعض المفسّرين: المراد من الآية الشريفة الهداية إلى سنن جميع السابقين، سواء كانت سنّة باطلة أم على حقّ ؛ لتكونوا على بصيرة منها فتعملوا بما هو الحقّ منها، و تعرضوا عن الباطل منها، و على هذا تكون الجملة: سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قد تنازع فيها الفعلين «يبين» و «يهديكم»، و هذا لا بأس به.

و أورد عليه: بأنّ الهداية في المصطلح القرآنيّ إنّما تستعمل في الإيصال إلى الحقّ ، أو إرادة الحقّ ، فتكون هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه، و هو بيان سنن الأنبياء و الصالحين التي شرّعها اللّه تعالى، و كانت سبب سعادتهم، و أمّا السنن الباطلة فلا معنى لدعوة اللّه تعالى إلى معرفتها.

و يمكن أن يجاب عن ذلك: أنّ معرفة السنن الباطلة إنّما هي داعية لتركها، فتكون من الهداية إلى الحق؛ لأنّ ترك الباطل حقّ كما أنّ فعل الحقّ حقّ ، بخلاف تركه.

و الآية المباركة توطئة للأخبار عن أنّ من يتّبع الشهوات يريد أن يضلّ المؤمنين بإحياء السنن الباطلة، و لبيان أنّ إرادة اللّه غالبة على إرادة المبطلين؛ و لإرشاد المؤمنين إلى مكائدهم، فإنّهم قد يظهرون عملا على اعتبار أنّه من هدى الماضين، و هو على خلاف الواقع.

قوله تعالى: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ .

التوبة: هي الرجوع، فمن اللّه تعالى الرجوع بالمغفرة و الرحمة، و من العبد الرجوع عن الذنب و الندم مع العزم على عدم العود. أي: أنّ اللّه تعالى يتوب

ص: 76

عليكم بغفران ذنوبكم و ما صدر منكم من السيئات، قولا و عملا إذا رجعتم إليه بترك ذلك.

و يمكن أن يراد بالتوبة في المقام المعنى العامّ ، و هي الرجوع على العباد بالنعمة و الرحمة في تشريعه للأحكام التي يكون العمل بها موجبا لغفران ذنوبهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه عليم بما أنتم عليه من خطرات قلوبكم و أعمال جوارحكم، و ما يترتّب عليها من المصالح و المفاسد.

و حكيم بمصالحكم و جميع مجعولاته التكوينيّة و التشريعيّة، فيشرّع لكم ما يهديكم و يكون سبب سعادتكم.

ثم إنّ إرادته تعالى في قوله جلّ شأنه: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هي الإرادة التكوينيّة الأزليّة، التي لها دخل في التكوين و نظامه، و الهداية التكوينيّة لمعرفة الحسن و القبح بإفاضة العقل إليهم.

و في قوله تعالى: سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، التسلية للمؤمنين ممّا لا قوه من المشركين من المتاعب، و لبيان أنّ ما كانوا فيه من البأساء و الضراء، لقصور عقولهم عن درك مصالحهم و مفاسدهم و تماديهم في ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ .

تأكيد لما سبق و بيان بأن الصلاح و اتباع شريعة الحقّ إنّما يكونان بلطفه و عنايته عزّ و جلّ بالمؤمنين، فكانت هذه التوبة لأجل هدايتهم إلى العمل بالشريعة، و التوبة الاولى لأجل ما صدر عنهم من سيئات الأعمال، و هذه الإرادة التشريعيّة التي هي أيضا جزء من نظام التكوين، بل يعتبر من أهمّ أجزائه و الإرادة الاولى هي الإرادة التكوينيّة كما عرفت، فجعل تبارك و تعالى نفس الإسلام توبة لما صدر منهم قبله، كما في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله»، كما تشمل ما بعد الإسلام أيضا، فيستعدّ المؤمن لتلقّي المعارف و قبول الهداية الربانيّة

ص: 77

للعمل بالشريعة، فالإرادتان مختلفتان في المتعلّق، و إن كان لهما الدخل في النظام الربوبيّ .

و إرادته عزّ و جلّ الذاتية منزّهة عن الزمان و الزمانيّات، و إنّما هي أفعاله المقدّسة في الممكنات.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً .

اتباع الشهوات هو الرضوخ إلى دواعي الشهوة و عدم الاعتناء إلى ما يحكم به العقل، و الاسترسال في الانقياد إلى الشهوات و اتباع الهوى و التورّط في قبائح الأعمال و رذائل الأخلاق و الموبقات و سفاسف الأمور، و هذا هو الميل العظيم المستلزم لهتك الحدود الإلهيّة و الشريعة المقدّسة و ارتكاب المحارم، بل استباحتها، و يترتّب عليه الخروج عن صراط الفطرة التي تدعو إليها جميع الشرائع الإلهيّة و العقل القويم، فالشريعة الحقّة و الحدود الإلهيّة إنّما هي لكبح جماع الشهوة و الاستجابة إلى دواعي الفطرة المستقيمة، و جعل الإنسان في الصراط المستقيم.

و لكن الذين اتبعوا الشهوات و استجابوا لدواعي الباطل و الفساد، يريدون أن يكون المؤمنون أمثالهم في الغواية و الضلال و ترك جادة الصواب، رغبة منهم في الغي و تكثيرا لأمثالهم من الفساق و المبطلين، فلا يكون من ينكر عليهم أو لتقليل النكير عليهم، و عنادا للحقّ .

و الآية المباركة تبيّن الصراع المرير بين الحقّ و الباطل بكلّ مظاهره و يميّز الحقّ عن غيره، و يدعو إلى الحقّ حتّى يصلوا إلى أرقى مراتب الكمال، و يتفوّقوا على غيرهم ممّن يتبع السبل الباطلة و الأهواء المضلّة.

و المستفاد من كلمة (الميل) أنّ هناك صراطا مستقيما، و هو الذي يدعو إليه العقل و شريعة الحقّ و سبلا باطلة تحفّها الشهوات و الأهواء المضلّة القبيحة، و اتباع الشهوات يوجب الميل عن الأوّل و الدخول في سبل الباطل و الغواية،

ص: 78

و بالأحرى هو الميل من الرشد إلى الغي و الضلالة، و هو عبء ثقيل و حامله في تعب دائم، بخلاف شريعة الحقّ التي بنيت على السماحة و التسهيل، و قد جمعت بين الفضيلة و التهذيب و النظم المبني على الحكمة؛ و لذا يكون العمل بها موجبا للتخفيف من أوزار اتباع الشهوات و ثقل الذنوب و المعاصي.

و هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تشتمل على حكمة التشريع، و تدعو إلى تهذيب النفس الأمّارة و التربية، للتحلّي بالفضائل و مكارم الأخلاق.

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ .

ترتّب هذه الآية الكريمة على السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ اتباع الشهوات يوجب ثقلا كبيرا و قيودا باهظة، و شريعة الحقّ ترفع تلك الأوزار، فتعلّقت الإرادة الأزليّة لطفا بعباده و رحمة بهم أن يخفف عن العباد أوزارهم، بارجاعهم إلى الفطرة و داعية العقل و ترك ما يكون سببا في تعبهم و مشقّتهم.

و هذه الآية المباركة تبيّن وجه الحكمة في تشريع الأحكام كلّها، فإنّها موجبة لتخفيف الأوزار التي يتحمّلها الإنسان لأجل ارتكابه الآثام التي هي مراد من يتبع الشهوات، فقد خفّف عزّ و جلّ عن هذه الامة بما لم يخفف عن غيرها من الأمم، قال جلّ شأنه: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78]، فشرّع لهم في النكاح و تكوين الاسرة و تهذيب النسل ما لم يشرّع في سائر الأديان، فحرّم ما يؤتى منه الفساد، مثل البغي و الزنا و نكاح المحارم، و أحلّ ما يجلب الصلاح، و سنّ ما يوجب تهذيب الشهوة العارمة و كبح جماحها، و لم يدع مجالا و جانبا إلا و بيّن الحكم فيه، فحلّل نكاح الإماء في حالة الاضطرار الذي يعتبر أيضا ممّا خفّفه اللّه تعالى عن المؤمنين، فكأنّ هذا الحكم مثل سائر الأحكام الإلهيّة في المقام، التي اجتمعت فيها غايات متعدّدة، مثل التربية و التهذيب.

ص: 79

فالقول بأنّ نكاح الإماء عند الضرورة لم يكن تخفيفا، لأنّه كان معمولا قبل الإسلام على كراهة و ذمّ ، و الإسلام حلّل ذلك لنفي الكراهة و النفرة، ببيان أنّ الأمة كالحرّة إنسان لا تفاوت بينهما.

مردود بأنّ ذلك لا يوجب رفع التخفيف عن هذا الحكم التربوي التهذيبي، فإنّه لو لم يكن للإنسان الطول في نكاح الحرائر، و خاف الوقوع في المشقّة، فأي حالة لو حرّم الشارع نكاح الإماء، فالتحليل كان تخفيفا عليه بأوسع ما بين السماء و الأرض، و لا ضير في أن يجتمع فيه عنوان التربية، فيتربّى على تهذيب النفس و اعتبار جميع أفراد الإنسان على حدّ سواء و ذو لياقة للمصاحبة و المعاشرة.

قوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً .

بيان لحقيقة من الحقائق التكوينيّة؛ لأنّ الإنسان بفقر إمكانه محتاج إلى من يفيض عليه ما يوجب سعادته، و قد خلقه اللّه تعالى مركبا من قوى متخالفة، تشوّقه إلى المشتهيات و تبعثه إلى ارتكابها، فمنّ اللّه تعالى عليه أن شرّع له أحكاما لتهذيب تلك القوى، و جعل زمامها بإرادة حكيمة تهديه إلى السعادة.

هذا إذا كان المراد بالإنسان ما هو المتعارف بين عامّة الناس، و هذا أمر وجداني لهم؛ لأنّه محاط بحوادث تؤرّقه و تسلب راحته، و كيف لا يكون ضعيفا مع أن الذباب يؤذيه، و البعوض يدميه، و الحرارة تضعفه، و البرودة تسلب قواه و لا يمكن تحصيل مقاصده إلا بصعوبة و مشقّة كبيرتين، و في طريق الوصول إلى مراده من العقبات.

و أمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك و غاية حركات الأفلاك، و ما خلقت الدنيا و الآخرة إلا لأجلها، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال و الجمال المطلقين عليه، و قد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و من فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه، و قد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه السّلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين، و ما قاله عليه السّلام لكميل.

ص: 80

و أمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك و غاية حركات الأفلاك، و ما خلقت الدنيا و الآخرة إلا لأجلها، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال و الجمال المطلقين عليه، و قد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و من فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه، و قد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه السّلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين، و ما قاله عليه السّلام لكميل.

و أمّا قوله (تعالى): خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [سورة الأنبياء، الآية: 37]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [سورة المعارج، الآية: 19]، فسيأتي تفسيرهما في موضعهما إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام

بحث أدبي:

اختلف الأدباء في إعراب قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، فقيل: إنّ مفعول يُرِيدُ محذوف، أي: يريد اللّه تشريع ما تقدّم ذكره لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، فتكون اللام للتعليل و العاقبة.

و بناء على هذا، يكون متعلّق الإرادة غير متعلّق التبيين، حذرا من تعدّي الفعل من مفعوله المتأخّر عنه باللام الذي هو ممتنع، و لكن قال بعضهم: إنّه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف.

و قيل: إنّ الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل في: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فيكون المؤول مبتدأ و الجار و المجرور خبره، أي:

أراده اللّه ليبيّن لكم. و لا يخفى تكلّف هذا الوجه.

و قيل: مفعول يُرِيدُ هو لِيُبَيِّنَ ، و ذهب بعضهم إلى أنّ اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن، و هي و ما بعدها مفعول للفعل المتقدّم، و نظير

ص: 81

ذلك وقوعها بعد (أمر) كقوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الانعام، الآية: 71].

و لكن منعه آخرون؛ لأنّ وظيفة اللام الجرّ و النصب بأنّ مضمرة بعدها و وقوع (ل) و (أن) المصدريتين بعدها، فلا يمكن أن تكون ناصبة.

و قال آخرون: إن اللام زائدة جيء بها مؤكّدة لإرادة (التبين)، كما زيدت في: لا أبا لك، لتأكيد إضافة الأب، و ليجعل المصدر مفعولا، فتكون اللام زائدة.

و لكن، يرد عليه أنّ دعوى الزيادة باطلة، كما ذكرنا مرارا، يضاف إلى ذلك أنّهم لم يقولوا بالزيادة في نظائر هذا التركيب، كقوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [سورة المائدة، الآية: 6].

و الصحيح أن يقال: إنّ اللام للتعليل، و مفعول يُرِيدُ محذوف كما عرفت في التفسير، و مفعول (يبيّن) غير مفعول (يهديكم)، و حذف مفعول الأوّل لتفخيمه و تعظيم أمره.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: إنّما عقّب سبحانه و تعالى الآيات التي تضمنّت تشريع الأحكام في أهمّ موضوع في الإسلام، و هو النكاح و تكوين الاسرة، و تهذيب النسل بالإرادة، و كرّرها عزّ و جلّ لتثبيت تلك الأحكام؛ و للدلالة على أنّها مرادة بالإرادة الأزليّة التي تعلّقت بتكميل النفوس المستعدّة و تهذيبها و إرشادها إلى ما يسعدها في حياتها الدنيويّة و الاخرويّة، فلا يمكن الإغماض عنها و التعدّي عمّا حدّدته تلك الإرادة المتعالية.

الثاني: يستفاد من سياق قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

- حيث ورد في مقام الامتنان و الرحمة - أنّ هذه السنن هي تلك السنن المطابقة

ص: 82

للفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، و التي تكون مطابقة للملّة الإبراهيميّة التي أمر الأنبياء باتباعها، لا سيما سيدهم نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فلا بد أن تكون تلك السنن مطابقة للعقل و الفطرة و الملّة الحنيفيّة.

و من ذلك يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة، لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصياتها، فلا يرد عليه أنّ أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها، كازدواج الإخوة و الأخوات في سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين في سنّة يعقوب عليه السّلام.

فإنّ سننهم هي المطابقة للفطرة، و لا نسخ في هذه بشيء منها، فإنّ هذه الآيات عقيب تلك الأحكام يدلّ على أنّها من سنن الذين من قبلكم التي هدانا اللّه تعالى إليها، فازدواج الإخوة بالأخوات محرّم في جميع السنن، في سنّة آدم عليه السّلام و سنّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و كذا الازدواج بالبنات و العمّات و الخالات و بنات الأخ، و الاخت.

و يمكن أن تجعل هذه الآية المباركة من الأدلّة على بطلان القول بالازدواج بين الإخوة و الأخوات: لأنّه من غير السنّة التي هدانا اللّه تعالى إليها. و يشهد له ذيل الآية الشريفة: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، الدالّ على توبة اللّه تعالى على عباده الذين طمسوا نور الفطرة بارتكاب الذنوب و الآثام، فمنّ اللّه تعالى عليهم أن أرشدهم إليها و هداهم إلى سنن الأنبياء الصالحين من قبلهم.

و يدلّ عليه تذييله بقوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أي: عليم بتلك السنن التي طمستها يد التحريف. و ميّز سبحانه و تعالى بين السنّة الصحيحة و الباطلة، فأمرنا باتباع الاولى و ترك الثانية، فهو حكيم في أفعاله يضع الأمور في مواضعها.

و بالجملة: هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّ ما سنّه اللّه تعالى في خصوص النكاح أو الأعمّ ، هي من سنن الصالحين الذين من قبلكم فنسبة

ص: 83

الجمع بين الأختين و الازدواج بين الإخوة و الأخوات، و غير ذلك ممّا هي محرّمة في سنّة الإسلام هي مخالفة لسنن الماضين، إذ لا فرق بين السنتين إلا ما تناولته يد التحريف و التبديل.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ، على أنّ إرادة اللّه تعالى تعلّقت بالإرجاع إلى الفطرة المستقيمة، و في ذلك تأكيد لما سبق، و لبيان أنّ ما هو الموجود في عصر نزول القرآن غير سنن الماضين، وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ ، الرجوع عن الفطرة و اتباع الشهوات التي توجب البعد عن الصراط المستقيم و سنن الأنبياء الصالحين، و هو الميل العظيم.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ، أنّ اتباع الشهوات يوجب البعد عن الصراط المستقيم و الاستهانة بالحدود الإلهيّة و الإعراض عن الحقّ .

و تبيّن الآية المباركة أنّ همّ المتبعين للشهوات الأكبر هو صدّ المؤمنين عن متابعة الحقّ ، و هذا مظهر آخر من مظاهر غوايتهم و ميلهم عن الحقّ .

الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً ، على تمام النعمة الإلهيّة على هذه الامة، فإنّ الضعف الذي هو المقتضي للتخفيف، و إن كان موجودا في غير هذه الامة، لكن لوجود المانع فيهم و هو الكفر، و اتباع الشهوات و الاستهانة بحدود اللّه تعالى، أوجب ذلك سلب هذه النعمة عنهم، و لكن هذه الامة المرحومة، قد أتمّ اللّه تعالى عليهم هذه النعمة، فلم يجعل لهم في دينهم أي حرج و مشقّة و وضع عنهم أسباب الضيق.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً على أنّ الإنسان ضعيف من جهات شتى، فلا بد أن يتدارك ضعفه بفيض إلهي و مدد ربوبيّ في تقوية العزائم الضعيفة في الخروج عن سلطان الشهوات العارمة، و الإعراض عن

ص: 84

العادات السيئة التي أفسدت الاجتماع الإنساني و جلبت الدمار و الاستهتار الأخلاقي و أوقعته في الجهد الشديد و المشقّة الكبيرة، فالآية الكريمة بمنزلة العلّة في احتياج الإنسان إلى من يرشده إلى الصراط المستقيم المحفوف بالشريعة الحقّة و العقل الحكيم.

بحث روائي

أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس أنّه قال: «ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الامة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، و عدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ - إلى قوله تعالى - وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً . و الرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، و الخامسة: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، و الآية السادسة: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ، و الآية السابعة: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ، و الآية الثامنة:

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً .

أقول: مضمون الرواية موافق لروايات أخرى وردت في مواضع متفرّقة، و هي مرويّة في كتبنا أيضا.

بحث فلسفي
اشارة

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة و الحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط و ثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم، و قد شغلت قسطا وافرا من الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة و غيرهما، فإنّ بحث الجبر و الاختيار في

ص: 85

الإنسان يرتبط بالإرادة، كما يرتبط بالإرادة الإلهيّة مباحث حدوث العالم و قدمه و اختياره تبارك و تعالى و غير ذلك، و نحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، و ما يتعلّق بإرادة الإنسان، و إرادته جلّت عظمته، و بيان حقيقتها، و أقسامها، و أسباب فعله عزّ و جلّ ، و الفرق بين المشيئة و الإرادة، و ارتباطها بعلمه عزّ و جلّ ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.

تعريف الإرادة:

الإرادة: من الأمور الوجدانيّة لكلّ ذي ادراك و شعور - إنسانا كان أو حيوانا - حتّى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنّه جسم نام متحرّك بالإرادة، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، و لا يبعد ذلك على نحو الجملة و الإجمال كما ستعرف.

و كيف كان، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم من فسّرها بالقصد، و استدلّ بالتبادر.

و منهم من فسّرها بالطلب.

و أشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

و منهم من فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.

و قال بعض المحدّثين: إنّها تصميم واع على أداء فعل معين، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، و الإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.

و قال بعضهم: إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.

و الحقّ أنّ هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإنّ الإرادة غير الميل، بل هو من مقدّماتها، و التصميم إرادة مؤكّدة، و لكن ممّا يسهل الخطب أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، و لأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة، فإنّه قد يختلط

ص: 86

بينها و بين المقدّمات التي هي الإدراك و توجّه النفس و العزم، أي: التصميم، و تصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام و الشهوة التناسليّة، و هي تدفع الحيوان و الإنسان إلى الفعل، و لكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلا كالإنسان.

إرادة الإنسان:

لا شكّ أنّ المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام:

الأوّل: تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة و الشهوة كالحيوانات الدنية - كالديدان و الهوام و النباتات - فإنّ هذه تفعل و تسعى إلى الفعل لأجل الحاجة، لا الرغبة و الشهوة، فإنّ تغلغل جذور النبات و تفرّع فروعها في الهواء و اتجاه أوراقها إلى الشمس و نمو أصلها، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظير صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفّس و النبض و التثاؤب و النوم و نحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة و الطبيعة دون الإرادة.

نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات و النباتات تصدر الأفعال عن رغبة و شهوة ملحّة، و لعلّ من قال من الفلاسفة: إنّ بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، و إلا ليس كلّ حيوان فضلا عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.

الثاني: المخلوقات التي لها الاحساس و الشهوة - كالحيوانات - فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة و الشهوة المجرّدة عن الرغبة و إرشاد العقل و التعقّل، فهي أيضا لا تكون ذات إرادة إلا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات، فتكون الحيوانات حينئذ كلّها ذوات إرادة.

الثالث: المخلوقات التي لها الإحساس و الشهوة و الرغبة و الإدراك كالإنسان، فإنّه يفعل فعله بحثّ من الشهوة و الرغبة و إرشاد من الإدراك، فهو

ص: 87

يفعل و يفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فإنّه يسعى حين تلحّ عليه الحاجة و متى زالت هدأ و سكن، و لا يدرك تلك الحاجة.

و أمّا الإنسان، فهو يفهم و يرغب في السعي و لو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدّماتها. و من نفى عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء و الكلمات.

الرابع: المخلوقات التي لها التعقّل و الإدراك الكامل، فإنّها تفعل عن تعقّل كامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة، فإنّ فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

و من ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة، فهو الحيوان الحسّاس المتحرّك بالإرادة، و لكنّه قد يغفل عن الإرادة، فلا يلتفت إليها حين توجّه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.

و إرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة اللّه تعالى القهّارة، و لا استقلال لها بوجه من الوجوه،

ففي بعض القدسيات: «يا ابن آدم تريد و أريد، و أتعبك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد»،

و عن سيد العارفين عليّ عليه السّلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم»، و هذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأنّ مورده نفي الإرادة، و المقام من تخلّف المراد عن الإرادة.

حقيقة الإرادة:

عرفنا أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي يعرفها كلّ فاعل مختار، و من له إدراك و شعور، و لها مقدّمات، و تسمّى مقدّمات الفعل أيضا، و هي: الإدراك، و توجّه النفس، و العزم، و تصوّر الغاية، و القدر و القضاء، و الإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.

ص: 88

و في الفلسفة الحديثة: أنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات و الظروف الخارجيّة، و لكن للفطنة و الحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلّغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.

و هذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، و هي اتحاد الطلب و الإرادة، و سيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة: جهد نفسي و عملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود و رباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة: إنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. و قد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة و التجربة و التربية.

و بعبارة اخرى: أنّ الإرادة الإنسانيّة ليست غير ما تمليه قوانين الطبيعة و المجتمع، و هذه طريقتهم في تفسيرهم لكلّ الأمور في هذا العالم.

و ما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة و السلوك، و لكن لا يمكن إنكار تأثّر الإرادة الإنسانيّة بما يحيط بها من البيئة و المجتمع.

و الإرادة هي الدافع الرئيسي و العامل النفساني الأوّل في الفعل الإنساني و ما يصاحبه من الانفعالات. و في الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء، و هي محور الأخلاق و السلوك، و سيأتي في بحث إرادة اللّه تعالى أنّ نظام الكون يتقوّم بإرادته عزّ و جلّ ، و حينئذ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عزّ و جلّ ، أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام و صدور الأفعال.

و لا بد لكل إرادة من متعلّق و هو المراد، و بها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، و تختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلّقات، فلا يمكن حصر أقسامها.

و لكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، التي هي اصول كلّ إرادة، و هي:

إرادة الحياة، و هي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة،

ص: 89

و بها يحقّق كلّ كائن نموذج نوعه، و هي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور و الرأي.

إرادة القوة: و هي الصراع لأجل الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.

إرادة الخير: و هي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد لفعل الخير، و هذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخيّر عن غيره.

إرادة الاعتقاد: و هي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، و التسليم بمعتقدات و اختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة.

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.

و لكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإنّ بعضا منه - كالقسم الأوّل - يرجع إلى الغريزة و الفطرة، و الإرادة بمعزل عنها. و البعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذكر كلّ ما يتعلّق به الإرادة. و ممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم، و لا ضير في ذلك.

نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف و قد تشتدّ حتّى تصل إلى حدّ التصميم و العزيمة، و قد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور، و هي التي لا بد فيها من إرادة قويّة و حزم و جزم، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران، الآية: 159]، و قال تعالى:

وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [سورة آل عمران، الآية: 186].

إرادة اللّه تعالى:

لا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له عزّ و جلّ ، و قد دلّت الأدلّة الأربعة عليه، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها، و منها

ص: 90

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و منها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [سورة الحج، الآية:

14]، و منها قوله تعالى: إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل، الآية: 40]، و غير ذلك ممّا هو كثير.

و أمّا السنّة فسيأتي نقل بعضها.

و أمّا الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل و النحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزّ و جلّ .

و من العقل حكمه البتّي بأنّ اللّه تعالى عالم حكيم في أفعاله، و هما يقتضيان الفاعليّة بالإرادة و الاختيار، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب، و كلّ من كان كذلك لا بد و أن تكون له إرادة؛ و لذا نرى وجود بعض الممكنات، و حدوثها في وقت دون آخر، بل نرى آثار إرادته في جميع الممكنات، و هذا الدليل يتمّ أيضا حتّى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد و الإحداث، لأنّ العلم و الحكمة من مقتضيات الفاعليّة على وجه الاختيار، و هي الإرادة.

فما ذكره بعض العلماء من أنّ إثبات الإرادة للّه عزّ و جلّ من جهة النقل دون العقل.

مردود، كما عرفت.

و أمّا السنّة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين - إرادة الخالق تعالى و إرادة المخلوق - و نحن نورد جملة منها، و نذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي: عن صفوان قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق ؟ قال عليه السّلام: الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي، و لا يهم، و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل

ص: 91

لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».

أقول: ليس عليه السّلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتّى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة، و إنّما هو عليه السّلام في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر و الروية في المبدأ و في الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب، و

قوله عليه السّلام: «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضا، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، و

قوله عليه السّلام: «فإرادته إحداثه»، أي: أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل، و هي ما قلناه في إرادة المخلوق، و لكن التفرقة في المقدّمات. و يظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزّ و جلّ ، و لكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة و العلم بالنسبة إلى المراد.

و منها:

صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: «قال الرضا عليه السّلام: المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد».

أقول: هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة و المشيئة هي الفعل، و إنّما يفرّق بينهما بالجزئيّة و الكلّيّة، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات و المشيئة تتعلّق بالكلّيات.

و أمّا

قوله عليه السّلام: «فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد»، فلأنّه لو كانت المشيئة و الإرادة في مرتبة الذات و هما يقتضيان المراد - لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد - فحينئذ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء فينتفي التوحيد مع أنّهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كلّ عصر و زمان، فيلزم التجدّد في الذات و التغيّر و الحدوث فيها، و كلّها باطل بالضرورة.

و منها:

صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السّلام قال: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

ص: 92

أقول: ذكرنا أنّ المشيئة و الإرادة حقيقة واحدة، و إنّما تختلفان بالكليّة و الجزئيّة، و الحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة، و ليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجودا جوهريّا خارجيّا، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.

و منها:

رواية أبي سعيد القمّاط عنه عليه السّلام أيضا: «خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول: المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعيّة لا الزمانيّة، و هكذا في «ثمّ ».

و منها:

رواية بكير بن أعين قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: علم اللّه و مشيئته مختلفان أو متفقان ؟ فقال عليه السّلام: العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى إنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول: سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، و علم اللّه السابق المشيئة».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة، كما هو الأمر في علمنا و مشيئتنا.

و منها:

صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: «المشيئة محدثة».

أقول: لأنّ كلّ ما كان منبعثا عن مرتبة الذات محدث لا محالة، و المراد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، و إن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.

و منها:

صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «قلت: لم يزل اللّه مريدا؟ قال عليه السّلام: إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد».

أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك و تعالى بمقدّماتها، و بيّن أيضا أنّ من مقدّمات الإرادة العلم و القدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة و لم يبيّن عليه السّلام أنّها الفعل، لأنّه عليه السّلام ليس في مقام بيان ذلك.

ص: 93

و منها:

حديث الاهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال في جواب الطبيب: «إنّ الإرادة من العباد الضمير و ما يبدو بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ ، فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول: كن فيكون، بلا تعب و كيف».

أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام.

و منها:

رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا عليه السّلام مع أهل الملل و النحل، قال عليه السّلام: «مشيئته و اسمه و صفته، و ما أشبه ذلك، كلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر - إلى أن قال عليه السّلام -: و اعلم أنّ الإبداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة».

أقول: الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا من أنّه لا فرق بين المشيئة و الإرادة، و إنّما جعل عليه السّلام الإبداع هي الإرادة و المشيئة؛ لأنّها عبارة عن الفعل و الإحداث، فتكون محدثة. و لكن الفلاسفة فرّقوا بين الإبداع و الخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، و الخلق أعمّ من ذلك، و هذا لا يرتبط بالمقام.

و منها:

رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كان (عزّ و جلّ ) و لا متكلّم، و لا مريد، و لا متحرّك، و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا، فجيمع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الإرادة هي الفعل، و هي حادثة، و أنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.

و منها:

صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «قلت: فما معنى شاء؟ قال عليه السّلام: ابتدا الفعل، قلت: فما معنى أراد؟ قال عليه السّلام: الثبوت عليه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة و الإرادة هو الفرق بين التقدير و الإيجاد، و يمكن ارجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكليّة و الجزئيّة؛ لأنّ الكلي مقدّم على الجزئي بالإضافة، و يفسّره الحديث الآتي.

ص: 94

و منها:

صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «أ تدري ما المشيئة ؟ فقال: لا، فقال: همّه بالشيء أو تدري ما أراد؟ قال: إتمامه على المشيئة».

أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة اللّه عزّ و جلّ و إرادته تعالى، بل إنّما هو في مقام بيان طبيعة المشيئة و الإرادة بالنسبة إلى الخلق، و إلا فليس له تعالى «همّ » و لا رويّة، كما تقدّم في الحديث، و يمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ » الكليّة، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى و إرادته عزّ و جلّ .

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ ، و الذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتيّة أو أنّها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فإنّهم عليهم السّلام بيّنوا ذلك فيها. فلا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلا و نقلا، بل يعدّ ذلك من الضروريات، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عزّ و جلّ :

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته، و في صفاته تعالى مطلقا، سواء كانت صفات الذات أم صفات الفعل؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عين ذاته تبارك و تعالى أيضا.

و أمّا صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته و صفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضا.

و الإرادة من الصفات التي هي من أتمّ مظاهر الجلال و الجمال و تجليات الذات قولا و فعلا، و لا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتّصافه عزّ و جلّ بها؛ للزوم كونه محلا للحوادث، و هو منزّه عنها، إلا إذا قلنا بأنّ الإرادة في الإنسان أيضا هي فعله - كما هو الحقّ - فيتّحد معنى الإرادتين حينئذ.

و لكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة اللّه تعالى، و عمدة الأقوال فيها ثلاثة:

ص: 95

الأوّل: أنّها ابتهاج الذات بالذات، و قد اختاره جمع من محقّقي العلماء، و قال بعض الفلاسفة:

فحيث ذاته أجلّ مدرك *** أتم إدراك لأبهى مدرك

مبتهج بذاته بنهجه أقوى و من له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره من حيث إنّه يكون أثره

و عن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، قال قدس سرّه في بيان هذا القول: «و من البيّن أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج و الرضا و ما يقاربها مفهوما، و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، و السرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى إنّما لمكان أننا ناقصون غير تامّين في الفاعليّة، و فاعليّتنا لكلّ شيء بالقوّة، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى امور زائدة على ذواتنا، من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد، المملية جميعا للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوّة و النقصان، فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، و حيث إنّه صرف الوجود، و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج و ذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا، و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - و هي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، و هي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام اللّه تعالى عليهم) بحدوثها»، و بناء على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عزّ و جلّ ، و في مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة.

و أشكل عليه: بأنّ الإرادة غير الشوق و الابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية و الأفعال العادية و الجزافيّة و العبثيّة، و أمّا الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بريء عنه؛ لأنّه منزّه عن الجسم و الجسمانيّات، إلا أن يراد فيه عزّ و جلّ معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.

ص: 96

و فيه: أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة، و لكن ابتهاجه عزّ و جلّ مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع و البصير و نحوهما، و لا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.

الثاني: أنّ إرادته عزّ و جلّ علمه بالنظام الأحسن و الأصلح.

و قد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، و على هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عين ذاته.

و قال بعض مشايخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأوّل:

«و الوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير و بالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا، و هو ليس العلم بلا رضا، و إلا كانت الرطوبة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريّة، و كذلك ليس الرضا بلا علم، و إلا كانت جميع الآثار و المعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها و عللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل عن شعور و رضا، فمجرّد الملائمة و الرضا المستفادين من نظام الخير و الصلاح التامّ ، لا يوجبان الاختياريّة، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختياريا منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير».

أقول: و هو توجيه حسن.

الثالث: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و به يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأنّ كلّ من تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنّها ترجع إلى شيء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم و الحكمة المتعالية في إرادة اللّه عزّ و جلّ ، فمن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدّها، و من نظر إلى النتيجة مجرّدة عن المقدّمات حدّها بغير ذلك، فيصحّ أن يقال: إنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمّى إيجادا و إرادة، و من حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلا.

ص: 97

و هذا المعنى لا يختصّ به عزّ و جلّ ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضا، و ممّا يؤكّد ذلك أنّ الأئمة عليهم السّلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

و من ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثّر التامّ لصدور الأشياء و وجودها، حتّى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة، و إن كان القول بذلك صحيحا في الجملة، بمعنى المنشئيّة و المصدريّة، كما ذكرنا.

و قد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل: من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشرّ و الظلم و الكفر و القبائح؛ لأنّه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتباريّا محضا، و لا يرجع إلى نفس العلم لتعلّقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، و هو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّرا و متأثّرا.

و الكلّ باطل؛ لأنّ علمه تعالى إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقا يلزم ما ذكر، و لكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي، فالعليّة التامّة تتوقّف على امور كثيرة اخرى، فمن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عزّ و جلّ ، و يدلّ على ذلك

ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «علم اللّه سابق للمشيئة»، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة و الإرادة.

و الحاصل: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و هي فعله، فتكون من صفات الأفعال، و لا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم و الحكمة.

و يمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول و إلى العلّة، كما في قولك: أحرقته النّار فمات، أو مات بالنّار، كما لا فرق بين

قولهم عليهم السّلام: «الطهور نور»، أو: «الوضوء

ص: 98

نور» و أمثال ذلك كثير، و في المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق و إرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المريد باعثة لصدور المراد و الفعل.

فمن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، و من نظر إلى أنّها لا تحصل إلا بالعلم و الحكمة جعلها منهما، و من نظر إلى توسّط الإرادة بين العلم و المراد، جعلها ابتهاجا و شوقا، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

و لعلّ من قال من الفلاسفة الأقدمين: إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل.

فإن كان نظره إلى ذلك، و هذا هو المرتكز في النفوس، فإنّ الإنسان لا يرى حين ارادته شيئا إلا المراد فقط، غافلا عن نفس الإرادة و مقدّماتها، و إن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ .

أقسام الإرادة:

قسّم الحكماء و الفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة و إرادة تشريعيّة، و عرّفوا الاولى بأنّها ما تعلّقت بفعل نفس المريد، و الثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته، و هما تتصوّران بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالى و إرادة الإنسان معا.

أمّا بالنسبة إلى إرادته عزّ و جلّ ، فقد تقدّم، و قد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة الحجرات، الآية: 13]. فإنّها إرادة تكوينيّة. و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: 1] و هي إرادة تشريعيّة.

و أمّا في المخلوق، فمثل قولك: «ذهبت إلى المسجد»، فإنّها إرادة تكوينيّة، و قولك لولدك: «اذهب إلى المسجد»، و هي إرادة تشريعيّة، و في القرآن الكريم

ص: 99

القسمان من الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة معا، و السنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة و بيّنت خصوصياتها.

و هذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلّق، و إلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.

ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل و لم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، و إلا فهي الندب و الاستحباب، و إن كانت بالنسبة إلى الترك و لم يستظهر من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، و إلا فهي الكراهة، و بذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة، و قد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.

و إرادة اللّه التشريعيّة ليست إلا لتكميل الإنسان، فلو قلنا: بأنّ الإرادة التشريعيّة منه عزّ و جلّ غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها و أساسها، لم يكن به بأس، و عليه الشواهد الكثيرة، و يصحّ العكس أيضا لشدّة ارتباطهما،

فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلّى اللّه عليه و آله: «خلقت الأشياء لأجلك، و خلقتك لأجلي»، و قال اللّه تعالى بالنسبة إلى موسى بن عمران: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: 41].

و لذا جعل بعض مشايخنا قدس سرّهم الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن، و هو متين جدا.

و قيل: إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلّقت بفعل الغير يتحقّق لا محالة، فيتحقّق الجبر، و حينئذ يكون فعله تعالى لا فعل الغير، فالإرادة التشريعيّة باطلة.

و فساده واضح؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته و اختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد و الاختيار، و أنّه فاعل مختار، و لعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين،

ص: 100

فإنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بالفعل من دون تخلل اختيار آخر، و في التشريعيّة تتعلّق بالفعل مع اختيار آخر.

مضافا إلى ذلك أنّ إرادة اللّه التشريعيّة عين جعله التشريعي، كما أنّ إرادته المقدّسة التكوينيّة عين فعله الخارجي، فتتفق الإرادتان في عدم تخلّف المراد عن الإرادة، فإرادته التشريعيّة عين التشريع و جعل القوانين الإلهية المبتنية على المصالح الواقعيّة، و قد تحقّق فلا يمكن تخلّف المراد فيها أيضا، كإرادته التكوينيّة ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فما ذهب إليه جمع من إمكان تخلّف المراد في التشريعيّة و وقوعه في الآثام و الفسوق و العصيان، يمكن الخدشة فيه بأنّ وقوع المعصية من الغير لا يرتبط بتخلّف المراد، و هو التشريع عن الإرادة التشريعيّة، فإنّه مستحيل كما عرفت، و لكن تعلّقت إرادته - عزّ و جلّ - التشريعيّة بفعل الغير مع اختياره، لتصحيح قانون الجزاء و الثواب و العقاب، فتكون الإرادة مطلقا هي الفعل، سواء كان تكوينيّا أو جعلا للقوانين التي هي لتكميل الإنسان و إيصاله إلى السعادة الدائمة.

و قد نسب ذلك إلى بعض قدماء الفلاسفة اليونانيين مثل فرفوريوس و أصحابه، الذين قالوا باتحاد العاقل و المعقول، و التفصيل يطلب من محلّه.

و من ذلك يظهر بطلان القول باختلاف الطلب و الإرادة في إيمان العباد، و أنّ تخلّف المطلوب عن الطلب ممكن و واقع، بخلاف تخلّف المراد عن الإرادة، فإنّه مستحيل كما عرفت؛ لأنّ تخلّف المراد عن الإرادة في كلتا الإرادتين مستحيل، و إرادته عزّ و جلّ للإيمان و الطاعة لا يستلزم أن لا يتحقّق كافر و لا فاسق، فإنّه تبارك و تعالى أرادهما من العبد باختياره، فيكون اختيار العبد فاصلا بين الإرادة و المراد، و قد ذكرنا ما يرتبط بهذا البحث في كتابنا (تهذيب الأصول) أيضا.

ص: 101

بحث عرفاني

للإرادة و المراد شأن عجيب في الدلالة على المريد و ما له من الشؤون، فتدلاّن عليه دلالة المعلول على العلّة التامّة، و يكشفان عنه كشف الأثر عن المؤثّر، سواء كان المراد قولا أو فعلا أو كتابة أو غيرها.

و من هذا الباب كشف جميع الآيات الكونيّة و الآيات القرآنيّة، عن وجود اللّه تعالى و صفاته العليا و أسمائه الحسنى، و هي بمجموعها تدلّ على عظمة هذا الموجود الذي تاهت العقول في معرفته، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: 53].

و كذلك تكشف تأليفات المؤلّفين و شعر الشعراء، و اختراعات العلماء عن مراتب كمال من تصدّى لها،

و قد ورد في الحديث: «يعرف قدر الرجل من رسوله و عبده». و العقلاء يدركون ذلك أيضا، بل يمكن أن تصل النفس الإنسانيّة إلى مرتبة الخلاقية للمراد، فتصل إلى غاية المال و تصير محلّ خوارق العادات و صدور الكرامات،

و ذلك شيء يسير في مرتبة العبوديّة، التي كنهها الربوبيّة، كما في الحديث عن الصادق عليه السّلام.

بحث قرآني

ذكرنا أنّ الآيات الثلاث المتقدّمة - التي تكرّر فيها كلمة «يريد»، إنّما هو لكثرة أهمية الإرادة - من أهمّ الآيات التي اشتملت على الجوانب المادّية و المعنويّة للأحكام الشرعيّة التي شرّعها اللّه تعالى لتكميل الإنسان.

و ذكر هذه الآيات الشريفة بعد سرد جملة كثيرة من الأحكام الاجتماعيّة، و منها محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، لبيان أنّ جميع ما ذكر من

ص: 102

سنن الذين من قبلنا، و أنّ هذه الأحكام سنّة الهيّة في شرع من قبلنا، و هي غير قابلة للنسخ أصلا لما عرفت من أنّها امور فطريّة قرّرتها الشرائع السماويّة.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع من قبلنا من الأنبياء و المرسلين من لدن آدم عليه السّلام حتّى عصر نزول القرآن، فنكاح الام حرام في جميع الشرائع الإلهيّة و كذا نكاح الاخت و الجمع بين الأختين، بلا فرق بين شريعة آدم عليه السّلام و سنّة يعقوب و شريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها تشتمل على مصالح واقعيّة و حكم حقيقيّة، لا تختصّ بشريعة دون اخرى، و أنّ غير ذلك ممّا يريده من يتبع الشهوات، الذين يسعون في صدّ المؤمنين عن الوصول إلى الكمال و إخراجهم عن الصراط المستقيم.

و لكن هذه السنّة الإلهيّة قد تناولتها يد التحريف و زيغ المبطلين و شبهات الكاذبين المفترين، شأنها شأن الفطرة المستقيمة التي لحقتها كثير من الشبهات و التأويلات، حيث طمست نور الفطرة و بقيت هكذا، حتّى ظهرت شريعة الحقّ و بيّنت الصحيح من تلك السنن و أمرت المؤمنين باتباعها، و لكن بقي الصراع بينهم و بين من يريد اتباع الشهوات، و أمرتنا تلك الآيات الشريفة بالابتعاد عن مكائدهم و خدعهم، فإنّهم يتوسّلون بأشدّ الأشياء تأثيرا على الإنسان، و هي الشهوات، و قد منّ اللّه على المؤمنين أن وفقهم للتوبة و الرجوع عن الباطل إلى الحقّ ، و لعلّ تذييل تلك الآيات الشريفة بقوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً إشارة إلى ما ذكرناه.

و كيف كان، فهذه الآيات المباركة ظاهرة في أن تلك الأحكام الاجتماعيّة كانت سنن الأنبياء و المرسلين، و لا تختصّ بهذه الشريعة، و لا نظر لها إلى سائر الأمور التي كانت في الشرائع الإلهيّة السابقة التي نسختها شريعة الإسلام.

فما قيل: إنّ ازدواج الإخوة بالأخوات كان سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين كان سنّة يعقوب عليه السّلام.

باطل؛ لأنّه ليس من السنن التي من قبلنا، التي هدانا اللّه تعالى إليها.

ص: 103

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30) بيان لحكم آخر من الأحكام الاجتماعيّة التي لها ارتباط وثيق في حفظ النظام و سعادة الإنسان، فقد ذكر سبحانه و تعالى اصول الأحكام النظاميّة، و هي ثلاثة: العرض، و قد ذكر أحكامه في الآيات السابقة، و الأموال و قد نهى عن التصرّف فيه بالباطل، و النفوس و بيّن أنّه لا يجوز قتل النفس المحترمة ظلما، فالآيات الشريفة السابقة منضمّة إلى هذه الآية الكريمة، قد جمعت الأصول النظاميّة الاجتماعيّة، كما في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم على المسلم حرام، ماله و دمه و عرضه»، و مجمل أحكامها التي لها دخل في سعادة الإنسان، كما ذكر عزّ و جلّ أنّ التعدّي عنها يوجب الشقاء و دخول النّار و العذاب الأبدي.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .

الخطاب عامّ يشمل جميع الناس - المؤمن و غيره - فإنّ أحكام الآية الكريمة امور يحكم بصلاحها فطرة العقول، و إنّما خصّ المؤمنين بالخطاب تشريفا لهم؛ و لأنّهم أولى بالتنفيذ لأحكام اللّه تعالى.

و الأكل معروف، و المراد به في المقام مطلق التصرّف الحاصل من الاستيلاء و السلطنة، و إنّما عبّر تعالى به لأنّه أعظم المنافع و أعمّها، فإنّ العمدة من تصرّفات الإنسان في الأشياء هي التغذّي و الأكل؛ لأنّه يحتاج إليه في بقائه.

و بَيْنَكُمْ منصوب على الظرفيّة أو الحاليةّ من أَمْوالَكُمْ ، و في تقييد الأكل به للدلالة على أنّ المراد التصرّفات الدائرة على التداول و التعامل،

ص: 104

فتختصّ الآية الشريفة بالتصرّفات المعامليّة، أي: لا يتصرّف بعضكم في أموال بعض بالمعاملات الباطلة.

و المال: من الميل، و المراد به كلّ ما تميل إليه النفس، سواء كان ملكا أم لا، و سواء كان عينا خارجيّة أو منفعة أو انتفاعا، و إنّما أضاف الأموال إلى الجميع لبيان أنّ كلّ ما يصدق عليه المال عند العرف هو مورد الحكم، و أنّ ماليّة المال إنّما تكون بملاحظة رغبة الجميع، فإنّه ممّا يقوم به نظام هذا العالم.

و الباطل هو الذي لا واقع له و لا حقيقة، و إن تخيّل الناس له واقعا يزعمهم، فيكون المراد به في المقام هو كلّ ما لم يقرّره الشارع الذي هو رأس العقلاء و رئيسهم، فينطبق على كلّ ما لم يكن فيه غرض عقلائي صحيح.

ص: 105

و التجارة إمّا على النصب على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه، و التقدير إلا أن تكون الأموال تجارة.

و أشكل عليه بأنّه زيادة حذف و تقدير؛ و أنّ الأموال ليست بتجارة، بل هي ما يتاجر به. و لكن عرفت أنّ التجارة تطلق على الأموال التي تملك بعقود المعاوضات مع قصد الاكتساب.

أو التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، فتكون الصفة عَنْ تَراضٍ توضيحيّة.

و إمّا أن تقرأ على الرفع على أن (كان) تامّة.

و الرضا: هو طيب النفس، كما يدلّ عليه

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

و إطلاقه يشمل ما إذا كان الرضا مقارنا مع العقد، أو بعده كما في بيع المكره و الفضولي.

و اختلف العلماء في الاستثناء الواقع في الآية الشريفة.

فقيل: إنّه متصل، و معنى الآية الكريمة: لا تأكلوا أموالكم إلا أن يكون الأكل تجارة عن تراض منكم، فإذا كان من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل، فيكون الباطل قيدا توضيحيا جيء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلّق النهي، نظير قولهم: لا تضرب اليتيم إلا تأديبا.

و قيل: الآية الشريفة تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و لقد كان الرجل يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية المباركة، حتّى نسخ ذلك بقوله تعالى: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ - الآية [سورة النور، الآية: 61]. و لكن الآية الكريمة أجنبيّة عمّا ذكروه.

و قيل: المراد من الآية الشريفة النهي عن صرف المال في ما لا يرضاه اللّه تعالى، و بالتجارة صرفه في ما يرضاه عزّ و جلّ .

و يردّ عليه ما تقدّم.

ص: 106

و قيل: إن الاستثناء منقطع جيء به لدفع الدخل، فإنّه لما نهى عن أكل المال بالباطل. و هو نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الجاهلي التي بها يتحقّق النقل و الانتقال، كالمعاملات الربويّة و المبنيّة على الغرر و الجهالة، و القمار و أضرابها فإنّها باطلة في الشرع، فإنّه من الجائز أن يتوهّم متوهّم أنّ ذلك يوجب انهدام النظام و فيه هلاك الناس، فالآية الكريمة في مقام رفع هذا التوهّم بأنّ المعاملة التي يحتفظ بها النظام، هي المعاملة التي تكون تجارة عن تراض، نظير قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 88-89]، فإنّه تبارك و تعالى لما نفى النفع عن المال و البنين يوم القيامة، يمكن أن يتوهّم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح، فإنّ معظم ما ينتفع به الإنسان إنّما هو المال و البنون، فأجيب أنّ هناك أمرا آخر يكون فيه النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين، و هو القلب السليم.

و الحقّ أن يقال: إنّه يصحّ أن يكون الاستثناء متّصلا إذا كان الاستثناء عن عنوان الأكل، و قد قلنا إنّ المراد منه مطلق التصرّف، فيصير المعنى: لا تتصرّفوا في أموالكم إلا بالتجارة عن تراض بينكم، فيجعل عنوان التجارة من طرق إحراز الرضا، لا أن يكون فيها خصوصية بالخصوص، فلا يصحّ التصرّف في الأموال مطلقا إلا بما احرز الرضا المقرّر شرعا.

كما يصحّ أن يكون الاستثناء منقطعا إذا لوحظ الأكل بعنوان القيد، أي:

القيد و المقيّد، فيكون لا محالة التجارة عن تراض خارجا عن ذلك، فيصير منقطعا.

و يمكن الجمع بين الأقوال بما ذكرنا فإنّه يصحّ باعتبار كلّ ذلك، فالنتيجة واحدة حقيقة و إن كانت مختلفة سياقا، و يصحّ تقطيع الكلام بما يناسب الافهام باعتبار القيد أو مع قطع النظر عن المقيّد.

ص: 107

قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .

الأصل الثالث من الأصول الكلّية النظاميّة الثلاثة التي يقوم بها نظام الاجتماع الإنساني، و هي: حفظ الأعراض، و حفظ الأموال، و حفظ الأنفس.

و ظاهر الجملة أنّها تدلّ على النهي عن قتل النفس المحترمة، سواء كان قتل نفسه أم قتل غيره، كما نهى عن أكل الأموال بالباطل مطلقا، سواء أ كان مال نفسه كالإسراف و صرفه في المحرّمات، أم مال غيره.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بذلك للدلالة على وحدة المجتمع، و أن أنفسهم كنفس واحدة، و زيادة في الزجر، فإن من قتل غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية يشمل قتل الإنسان نفسه، أي: الانتحار أيضا.

يضاف إلى ذلك أنّ النواهي و المحرّمات في نظام الإسلام قد لوحظ فيها ارتداع مجموع الامة و حفظ الأصول الثلاثة، التي يجب حفظها بتكافلهم و تعاضدهم في ترك ما يوجب الإخلال بها.

و من ذلك يعلم أنّه لا وجه لارتكاب الجمع بين الحقيقة و المجاز في كلام واحد، كما قاله بعض.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً .

تعليل لما ورد في الآية الشريفة من الأحكام أي: أنّ اللّه تعالى إنّما شرّع لكم من الأحكام ما يصون به عرضكم و يحفظ به أموالكم و أنفسكم، فنهاكم عن السفاح و أكل الأموال بالباطل و قتل الأنفس ظلما، لأنّه رحيم بكم، فأمركم بما يصلحكم و نهاكم عمّا يضرّكم.

و من ذلك يظهر أنّه لا وجه لإرجاع هذا التعليل العامّ إلى خصوص بعض صغريات الحكم الأخير، و هو الانتحار، باعتبار أنّ قتل النفس بإلقائها في مخاطرة القتل و التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدّي إلى قتلها، فإنّ الآية الكريمة أوسع و أعمّ .

ص: 108

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً .

العدوان: هو التجاوز عن الحدّ، سواء أ كان بالقصد أم بالقول أم بالفعل، و سواء أ كان جائزا ممدوحا كالقصاص، أم محظورا مذموما كقتل النفس المحترمة ابتداء، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثمانية مواضع قال تعالى:

تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة البقرة، الآية: 85]، و قال تعالى:

أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ [سورة القصص، الآية: 28]، و قال تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 193]، و قال تعالى:

وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2].

و المراد به في المقام بقرينة مقارنته للظلم هو التعدّي على حدود اللّه تعالى، فيكون الظلم هو الفعل المتعدّى به عن الحقّ .

و الآية الشريفة تسدّ جميع أبواب التعدّي، سواء في القصد أم في القول أم في الفعل.

و ذلِكَ إشارة إلى مجموع ما تقدّم من الأحكام في الآيات السابقة، كأكل الأموال بالباطل، و قتل النفس المحرّمة، و التزويج بالمحرّمات، و تحليل ما حرّمه اللّه تعالى و تحريم ما أحلّه عزّ و جلّ .

و في الآية المباركة التفات عن خطاب المؤمنين إيماء إلى أنّ من فعل ذلك منهم فليس من المؤمنين، فلا يخاطب المؤمنون بفعله، و هم كنفس واحدة، و إنّما يخاطب الرسول الذي هو وليّ المؤمنين و المأمور فيهم بإجراء أحكام اللّه تعالى، و على ذلك ينزل عموم الخطاب.

قوله تعالى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً .

الاصلاء بالنار: الإحراق بها، و تقدّم ما يرتبط بهذه المادّة في قوله تعالى:

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [سورة النساء، الآية: 10]. و الجملة جواب الشرط،

ص: 109

و ترتّبها على السابق ترتّب المعلول على العلّة التامّة، و الصلي بالنار إنّما يكون في الآخرة، لأنّها دار جزاء الأعمال.

قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أي: جزاء مخالفة ما ذكر من الأحكام - في الآيات سواء كانت بالنسبة إلى النفوس أم الأموال أم الأعراض - يسير على اللّه تعالى، فإنّه قادر على كلّ شيء.

و أمّا قول من قال بأنّ التعليل و التهديد راجع إلى خصوص القتل فلا تعميم فيه، فهو مخالف لسياق الآية الشريفة و دأب القرآن الكريم في سائر الموارد التي يذكر فيها عزّ و جلّ أمورا كثيرة ثم يأتي بتعليل واحد يعمّ الجميع و يشمله.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ على حرمة أكل الأموال بالباطل و التصرّف فيها بما نهى عنه الشارع، و يستتبع هذا الحكم التكليفي حكما وضعيّا آخر، و هو بطلان المعاملات المشتملة على الباطل و فسادها و اشتغال الذمة بما تصرّف فيها.

الثاني: إطلاق الباطل في الآية الشريفة يشمل الباطل الشرعيّ بلا إشكال، و كذا الباطل العرفي، أي: ما ليس فيه غرض صحيح عقلائيّ ، فكلّ مورد إذا حكم العرف بأنّه باطل تشمله الآية المباركة و لا يجوز التعامل فيه، كما تشمل الآية جميع المناهي الشرعيّة و الأفعال المحرّمة إذا وقعت موردا للمعاوضة.

الثالث: الآية الكريمة: إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ، تدلّ على إباحة التجارة و مشروعيتها، و عمومها يشمل جميع أنواع التجارات كالبيع و الإجارة

ص: 110

و المزارعة و المساقاة و المضاربة و القراض، و غيرها و لا بد أن تكون التجارة مستجمعة لجميع شرائط الصحّة.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: عَنْ تَراضٍ على كفاية الرضا مطلقا، سواء كان حين العقد و العطاء أم بعد كلّ منهما، فيصحّ بيع الفضولي و بيع المكره إذا لحقهما الرضا و الإجازة.

كما يدلّ الإطلاق على كفايته في التملّك من غير توقّف على العقد، إلا إذا دلّ دليل على اعتباره، و من هنا اتّفق الكلّ على صحّة المعاطاة في التجارات.

الخامس: تدلّ الآية المباركة على لزوم المعاملات المشتملة على الرضا إلا إذا دلّ دليل على الجواز. و من هنا قال الفقهاء: الأصل في كلّ معاملة اللزوم إلا ما خرج بالدليل.

السادس: ذكر بعض المفسّرين أنّ الوجه في الاستثناء المنقطع في الآية الشريفة الإشارة إلى أنّ جميع ما في الدنيا من التجارة و نحوها من قبيل الباطل؛ لأنّه لا ثبات له و لا بقاء، فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هي خير و أبقى.

أقول: إنّ ما ذكره و إن كان حقّا كما تدلّ عليه آيات كثيرة، و لكن الآية المباركة لا ظهور لها فيه، مضافا إلى أنّه لا يرتبط بكون الاستثناء متصلا أو منقطعا.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً على النهي عن كلّ ما يوجب هتك حرمات اللّه تعالى، سواء كان بالتشريع أم بالقصد أم بالقول أم بالفعل. و الآية الكريمة تدلّ على بعد من يفعل ذلك عن رحمة اللّه تعالى.

الثامن: يدلّ التعليل الوارد في الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أنّ الأحكام الإلهيّة و التشريعات السماويّة من مظاهر رحمته تبارك و تعالى بعباده، و أنّها غاية النظام التكويني.

ص: 111

بحث روائي

في المجمع: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ في الباطل قولان: «أحدهما أنّه الربا و القمار و البخس و الظلم، قال: و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام».

أقول: ذكر ذلك من باب المثال و المصداق لكلّ محرّم، لا التخصيص بما ذكر.

و ممّا ذكرنا يظهر

ما رواه في نهج البيان عن الصادقين عليهما السّلام من أنّه: القمار و السحت و الربا و الأيمان،

و في رواية اخرى عن الصادق عليه السّلام التخصيص بالقمار فقط.

و في التهذيب: عن ابن محبوب عن سلمة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

الرجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به و عليه دين، أ يطعمه عياله حتّى يأتيه اللّه عزّ و جلّ بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصدقة ؟ قال: يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل من أموال الناس إلاّ و عنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم، إن اللّه يقول: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ، و لا يستقرض على ظهره إلا و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردّوه باللقمة أو اللقمتين و التمرة و التمرتين، إلا أن يكون له وليّ يقضي دينه من بعده، ليس منا من ميت يموت إلا و جعل اللّه عزّ و جلّ له وليّا حتّى يقوم في عدّته و دينه، فيقضي عدّته و دينه».

أقول: الرواية موافقة للقواعد الفقهيّة، فإنّ من ليس عنده شيء و ليس له استعداد طلب المال و لا قوة الاكتساب، و ليس له من يعينه على ذلك، و ليس له رجاء الصلاحية، لا يعتبر الناس له ذمّة حتّى يستدين على الذمّة.

ص: 112

و في تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فجاءه رجل فقال له: اخبرني عن قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ، قال: عنى بذلك القمار، و أمّا قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ عن المشركين وحده، يجيء في منازلهم فيقتل، فنهاهم اللّه عن ذلك».

أقول: تقدّم ما يرتبط بصدر الحديث، و هو يدلّ على العموم.

و أمّا ذيل الحديث، فيدلّ عليه قوله تعالى أيضا: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ، و كلّ قتال مع المشركين لا بد و أن يكون بشرائط مذكورة في كتاب الجهاد.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن ماجة و غيره عن ابن سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما البيع عن تراض».

أقول: ذكر البيع في كلامه صلّى اللّه عليه و آله من باب ذكر أهمّ الأفراد و أغلبها، و إلا فكلّ تجارة و عقد لا بد أن تكون عن تراض.

و في تفسير العياشي عنه عليه السّلام قال: «كان الرجل يحمل على المشركين وحده حتّى يقتل أو يقتل، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ».

أقول: لعلّ ذلك من أحد مناشئ النزول و أسبابه.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن إسحاق بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين، قال: حدّثنى الحسن بن زيد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال:

«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجبائر يكون على الكسير، كيف يتوضّى صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا أجنب ؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ».

ص: 113

أقول: ذكرنا في التفسير أنّ الآية الشريفة تشمل قتل الغير و قتل النفس، أي: الانتحار، و لهذا مصاديق كثيرة، و الحديث يدلّ على نفي كلّ حرج.

و عن ابن المغازلي في كتابه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، قال: لا تقتلوا أهل بيت نبيّكم، إنّ اللّه يقول في كتابه: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ، قال: كان أبناء هذه الامة الحسن و الحسين عليهما السّلام، و كان نساؤهم فاطمة عليها السّلام، و أنفسهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام.

أقول: يمكن أن يقال: إن المنصرف من الأنفس هي الأنفس التي لها موقعيّة عند اللّه تبارك و تعالى، و هي منحصرة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام، الذين هم حملة القرآن و شرّاحه، و يمكن أن يستشهد لذلك ببعض الآيات و الأخبار. و أمّا إضافتها إليهم، فلبيان أنّهم منهم ظاهرا، و إن لم يكن منهم واقعا، فلا ينبغي أن يقتل الإنسان مثله و من كان هو نظيره في الظاهر.

في الفقيه: قال الصادق عليه السّلام: «من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها، قال اللّه تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أقول: تقدّم أنّ الآية المباركة عامّة تشمل قتل النفس و قتل الغير، و الرواية تدلّ على ذلك أيضا.

و في الدرّ المنثور: عن ابن عباس: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باع رجلا ثم قال له:

اختر، فقال: قد اخترت، فقال: هكذا البيع».

و فيه أيضا أخرج البخاريّ ، و الترمذيّ و النسائيّ عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر».

أقول: ذكرنا ما يتعلّق بهذه الأحاديث في أحكام الخيارات من كتابنا (مهذب الأحكام)، و جميع هذه الروايات تدلّ على اعتبار التراضي في المعاوضات.

ص: 114

بحث عرفاني

المراد من قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ هو القتل بغير الحقّ ، و أمّا إذا كان بحقّ فهو محبوب، و هو يتحقّق في موارد:

منها: القتل قصاصا، قال تعالى: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [سورة الاسراء، الآية: 33].

و يمكن إدخال هذا الموارد في منطوق الآية الشريفة أيضا بأن يقال: لا تقتلوا الغير فتعرّضوا أنفسكم إلى القتل و لو كان قصاصا، فتدلّ الآية المباركة على النهي عن تعريض النفس للقتل و الهلاك.

و منها: القتل في سبيل اللّه و جهاد الحقّ مع الباطل، قال تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة آل عمران، الآية: 169-170]، و قال تعالى:

فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5].

و منها: القتل الذي هو قرّة عين الأولياء المتّقين و العرفاء الشامخين، و هو قتل النفس الأمّارة بالسوء و الشهوات الحيوانيّة، و هو الذي أشار إليه

سيد الأنبياء بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «موتوا قبل أن تموتوا»، و قد حثّت عليه السنّة الشريفة بألسنة شتى،

ففي الحديث: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، لكن يجب أن يكون بالشروط المعتبرة المذكورة في علم الأخلاق، بل لم يوضع هذا العلم إلا لأجل ذلك، و له طرق متعدّدة، و من أهمّها حقيقة الإيمان باللّه تعالى و رسوله، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [سورة النساء، الآية 136]، و قال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 28]،

ص: 115

و ليس المراد بهذا النور الأنوار الظاهريّة الجسمانيّة، بل هي أنوار معنويّة لا حدّ لها و لا نهاية لعظمتها.

و من تلك الطرق جملة العبادات الشرعيّة المبنيّة على الخلوص و الإخلاص، و الخضوع و الخشوع و التضرّع عند ربّ الأرباب، و لعلّ ذيل الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، إشارة إلى بعض ما تضمّنه الصدر.

و يمكن أن يراد بالقتل في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، مطلق الأذيّة بغير حقّ ، و هو شائع في العرف يقال: «قتلني بلسانه و من اذيته»، فتختصّ حينئذ بأولياء اللّه الذين هم العلّة الغائيّة لخلق العالم بروحانيّاته و جسمانيّاته،

و قد ورد في الحديث: «من آذى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة»، و «من آذاهم فقد آذى اللّه»، فلا بد من الاحتفاظ على العلّة الغائيّة، فإنّها العلّة واقعا.

و أمّا قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً ، فقد ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و لا ريب في أن الممكن من حيث هو ممكن إذا لوحظ بالنسبة إلى الواجب بالذات، تكون النسبة نسبة العدم إلى الوجود، لما ثبت في الحكمة المتعالية حتّى جعله العلماء من القواعد الفلسفية: «ان الممكن من ذاته ليس، و من علّته أيس».

هذا إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات الواجب من حيث هو.

و أمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، و القدرة غير المتناهيّة، و الإحاطة العلميّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فجميع العوالم الإمكانية كالذرّة تحت يدي جبّار قهّار، و حينئذ يكون التعبير ب: (يسيرا) تعبيرا مجازيا، إذ ليس شيء في مقابل ذلك الجبروت المهيمن حتّى يكون يسيرا، هذا كلّه بالنسبة إلى عذابه.

و أمّا بالنسبة إلى رحمته، فالأمر أيسر، لأنّ رحمته سبقت غضبه، و أنّ رحمته وسعت كلّ شيء.

ص: 116

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الآية .......

اشارة

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الآية الشريفة على إيجازها البليغ و اسلوبها البديع تشتمل على الترغيب و الترهيب و الوعد و الوعيد و الأمل و الرجاء بالسعادة، فهي تدلّ على وجوب الاجتناب عن المناهي، التي يوجب ارتكابها الشقاوة و العذاب العظيم.

كما أنّها تدلّ على أنّ الارتداع عن الكبائر المنهيّة يوجب الدخول في النعيم الأبدي، و يستلزم السعادة الحقيقيّة، و لا يخفى ارتباطها بما قبلها من الآيات التي تضمّنت جملة من الأحكام الشرعيّة و المناهي الإلهيّة التي شرّعها اللّه تعالى لأجل مصالح الإنسان.

التفسير

قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ .

الاجتناب أبلغ من الترك؛ لأنّه ملحوظ فيه النفور و الاشمئزاز، و هو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة. و إنّما بني عنه الفعل على سبيل الاستعارة، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن شيء تركه جانبا، و الاجتناب هو الابتعاد عن الشيء و ملازمة تركه، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعا كلّها تدلّ على أهمية المنهي عنه كالطاغوت، قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ [سورة النحل، الآية: 36].

و الرجس، قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ [سورة الحج، الآية 30].

و قول الزور، قال تعالى: وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ [سورة الحجر، الآية: 30].

ص: 117

و عبادة الأصنام، قال تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ [سورة إبراهيم، الآية: 35].

و النّار، قال تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا اَلْأَتْقَى [سورة الليل، الآية: 17].

و سوء الظنّ ، قال تعالى: اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ [سورة الحجرات، الآية: 12].

و التجنّب تارة يحصل بالنسبة إلى الشيء قصدا و فعلا دائما من أوّل التمييز إلى حين الموت.

و اخرى: بالنسبة إلى القصد فقط دون العمل، بأن يقصد الاجتناب عن الكبائر مطلقا، و لكن يتفق صدور بعضها عنه غفلة.

و ثالثة: يكون اجتنابا عرفيّا، بحيث يصدق على الشخص أنّه مجتنب عرفا، فيكون له و للارتكاب مراتب متفاوتة.

و مقتضى القواعد الشرعيّة - و هو الموافق لسعة رحمته تبارك و تعالى - اعتبار الأخير، و لكن مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الثاني.

و الكبائر: جمع كبيرة، و هي و الصغيرة من الأمور الإضافيّة. و الآية الشريفة تدلّ على أنّ المعاصي قسمان كبيرة و صغيرة، و الاولى هي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا، العظيم أمرها كالقتل، و الزنا، و الفرار من الزحف و نظائرها.

و إن كانت المعاصي كلّها تشترك في أصل المخالفة و العصيان على اللّه تعالى فهي كبيرة من هذه الجهة، فإنّ ذلك مقياس الذنب بين الإنسان المربوب المخلوق الضعيف، و بين اللّه تعالى الذي لا منتهى لعظمته و سلطانه، فلا فرق في أفراد المعاصي حينئذ.

و هنا لا ينافي كونها تتصف بالكبيرة و الصغيرة إذا لوحظت فيما بينها كما

ص: 118

هو الشأن في الأمور الإضافيّة، فإنّ كبر المعصية يدلّ على أهميّة النهي عنها و عظم المخالفة، إذا قيس بالنسبة إلى النهي عن الآخر.

فهما وصفان للمعاصي و الآثام و الذنوب، و في المقام حذف الموصوف و أقيم الوصف مقامه، و إن الصغر و الكبر من المبينات العرفيّة، و بهذا المعنى العرفي وقع في الكتاب و السنّة و اصطلاح العلماء في علمي الفقه و الأخلاق، فالنظر إلى الأجنبيّة مثلا صغيرة إذا قيس إلى سائر الاستمتاعات بها، و المخالفة في الثاني أعظم و أكبر من المخالفة في الأوّل، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، فإنّ المستفاد منه اختلاف المناهي في العظمة و الأهميّة، و لا بد من استفادة الأهميّة من الشرع أيضا.

و قد ذكر العلماء (قدس اللّه اسرارهم) طرقا كثيرة، و أهمّها ما ذكر في الفقه و هو: أنّ كلّ ذنب أوعد عليه بالنّار، أو تعدّد الخطاب فيه، و النهي عن الإصرار و التكرار.

و هذا هو المقياس في تحديد الكبائر في الإسلام، و ربّما تكشف النصوص بعض الكبائر و تنصّ عليها بأنّها كبيرة، فتكون غيرها بالنسبة إليها صغيرة. و قد ذكر العلماء في تعريف الكبائر و الصغائر و تمييز كلّ واحدة منها عن الاخرى وجوها، سيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بذلك.

و ربّما يتوهّم أنّ الإضافة في قوله تعالى: كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ بيانيّة، فتدلّ الآية الكريمة على اجتناب جميع المعاصي، و تكون معنى الآية المباركة حينئذ: إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفّر عنكم سيئاتكم، و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، فتكون من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

و يردّ عليه أنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة، إلا أن يقال: إنّه يرجع إلى تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية المباركة.

ص: 119

و فيه: أنّه يلزم تخصيص الآية الشريفة بمن حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية الكريمة أيضا.

قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

مادة (كفر) تدلّ على الستر، و كفّر الشيء إذا غطاه، و يقال للفلاح: كافر، لأنّه يكفر البذر، أي: يستره، قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ [سورة الحديد، الآية: 20]، و منه كفر النعمة و الإحسان إذا غطّاها بترك الحمد و الشكر عليها أو جحدها،

و في الحديث: «رأيت أكثر أهل النّار النساء لكفرهن، قيل: أ يكفرن باللّه ؟ قال: لا، و لكن يكفرن الإحسان و يكفرن العشير»، أي: يجحدن إحسان أزواجهن و يسترنه، و منه سمّي الكافر أيضا؛ لأنّه كفر بالصانع و المبدأ، و كفّر اللّه عنه الذنب، إذا ستره و محاه عن العبد.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يزيد عن خمسمائة مورد، أغلبها استعملت في مورد الكفر باللّه و الأنبياء و اليوم الآخر.

و لكن ذكر التكفير عن السيئات في القرآن الكريم ورد في نحو ثلاثة عشر موردا متعديا بكلمة (عن).

و المستفاد من موارد استعماله في القرآن الكريم أنّ المراد منه العفو عن السيئات و حطّ وزرها عن المسيء، و الإحباط نقيضه التكفير، و إنّما يتحقّق بفعل الطاعات و ترك الكبائر، فيكون تكفير السيئات حينئذ من اللّه جلّت عظمته محو الذنب و إسقاطه بالمرّة، فلا يضرّ فعله بالعدالة إلا بالإصرار على الصغائر، فيكون من الكبائر، فلا يتحقّق حينئذ شرط التكفير و هو الاجتناب عن الكبائر، و هذا من أحسن التدبيرات الإلهيّة في عباده، حيث لا يبعدهم عن رحمته الواسعة بمجرّد ارتكاب المخالفة.

نعم، الإصرار إنّما يتحقّق بعدم تخلّل التوبة بين ارتكاب صغيرة و صغيرة اخرى، و إما مع تخللها، فلا موضوع حينئذ للإصرار.

ص: 120

ثمّ إنّ السيئات جمع السيئة، و قد أطلقت في القرآن الكريم على معان، منها كلّ ما يكرهه الإنسان و يسؤه، قال تعالى: وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79]، و قال تعالى: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [سورة الرعد، الآية: 6].

و منها: نتائج المعاصي و الآثام، سواء كانت دنيويّة أم اخرويّة، قال تعالى:

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [سورة النحل، الآية: 34]، و قال تعالى:

سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا [سورة الزمر، الآية: 51].

و يمكن إرجاع هذا المعنى إلى الأوّل أيضا، فإنّ تلك الآثار قد جلبها الإنسان على نفسه بسبب ارتكابه المحرّمات و المعاصي، و هي تسؤه في الدنيا أو الآخرة.

و منها: مطلق المعصية، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [سورة الجاثية، الآية: 21]، و الإطلاق فيه يشمل الكبائر و الصغائر.

و أمّا السيئات في الآية الشريفة: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، فإن لوحظت مقابلتها للكبائر، تنحصر لا محالة في الصغائر، و إن لوحظت سعة رحمته جلّ شأنه و سعة تكفيره و غفرانه، تعمّ الكبائر أيضا، فيراد حينئذ بقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، صرف وجود الكبيرة، و إنّما أتى عزّ و جلّ بالجمع باعتبار جميع أفراد الناس، و مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الأوّل، و لكن مقتضى ما ورد في سعة رحمته عزّ و جلّ غير المتناهية هو الثاني، و يقتضيه ظاهر الامتنان في الآية المباركة، خصوصا مع ما ذكره الفقهاء و علماء الأخلاق من إنهاء الكبائر إلى سبع و سبعين، التي لا يخلو عنها غالب الناس،

و ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من الجمعة كفّارة من الذنوب»،

و ما ورد في غفران شهر رمضان، و ما ورد في الغفران في يوم عرفة، قال عليه السّلام: «ما وقف بهذه الجبال

ص: 121

أحد إلا غفر اللّه تعالى له، من مؤمن الناس و فاسقهم»، و غير ذلك ممّا ذكرناه في مبحث التوبة.

و كيف كان، فالآية الكريمة تدلّ على انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، سواء أ كان الانقسام بحسب ملاحظة نفس المعاصي بعضها مع بعض، أم بحسب ملاحظة صدورها من الفاعل، فربّما يكون بعض الصغائر بالنسبة إلى شخص كبيرة و بالنسبة إلى شخص آخر صغيرة،

كما ورد: «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين».

قوله تعالى: وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً .

المدخل - بضم الميم و فتح الخاء - و المعروف أنّه اسم مكان، و المراد به في الآية الشريفة الجنّة، فيكون منصوبا على الظرفيّة، و قيل: إنّه مصدر منصوب، فيكون مفعول نُدْخِلْكُمْ الجنّة إدخالا.

و قيل: إنّه منصوب بفعل مقدّر، و الأصحّ هو الوجه الأوّل.

و كيف كان، فالمراد به الجنّة التي وعدها اللّه تعالى للصالحين.

و الكريم: هو الحسن الطيب، و من أسمائه جلّ شأنه «الكريم» أي: الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، فهو الكريم المطلق، و الكريم الجامع لأنواع الخير و الشرف و الفضائل، فلا حدّ لكرمه و لا يمكن عدّ نعمائه.

و قد وصف عزّ و جلّ ذلك المكان به أيضا، قال تعالى: وَ مَقامٍ كَرِيمٍ [سورة الدخان، الآية: 26]، و المقام الكريم ذلك المقام الذي يسعد الداخل فيه بحسن الثناء و عظيم النعمة، و يتّصف به الرزق أيضا، قال تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الحج، الآية: 50]، كما يتّصف به الرسول أيضا، قال تعالى:

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة الحاقة، الآية: 40]، و يتّصف به غير ما ذكر كما ورد في الآيات الشريفة.

و المعنى: و ندخلكم الجنّة في الآخرة التي يكرم بها من يدخلها فيسعد فيها،

ص: 122

فإنّ الجنّة لا يدخلها أحد إلا بعد التطهير من الدنس و رذائل الصفات، قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الأعراف، الآية: 43].

و في إضافة الإدخال إلى ذاته المقدّسة فيها غاية اللطف و نهاية العناية و كمال المحبّة، حيث إنّه تعالى بعد المخالفة و كفران السيئات باجتناب الكبائر يدخل العبد مدخلا كريما.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآية الشريفة على امور:

الأوّل: أنّ الآية المباركة باسلوبها الجذّاب الدال على اللطف و الحنان و المحبّة، و سياقها الظاهر في الزجر عن ارتكاب المعاصي و المتضمّن للوعد للتائبين بعظيم الجزاء - تدلّ على أنّ المنهي في الشريعة منه ما هو كبير و منه ما هو صغير، و المستفاد منها أنّ المقياس في الكبائر و الصغائر هو نسبة بعضها إلى بعض حيث جعل عزّ و جلّ الكبائر مقابل السيئات، و لم يبيّن سبحانه و تعالى الوجه في تشخيص كون المعصية كبيرة أو صغيرة، و قد تعرّضت السنّة الشريفة إلى بيان المقياس في ذلك، و سيأتي في البحث الأخلاقي تفصيل ذلك.

و الآية المباركة ردّ على من زعم أنّ المعاصي كلّها كبائر، حتّى قال بعضهم:

إنّه لا يمكن أن يقال في معصية إنّها صغيرة إلا على معنى أنّها تصغر عند اجتناب الكبائر، فالمعاصي كلّها كبائر، و هذا اجتهاد منهم في مقابل النصّ ، إلا أن يراد أنّها كبيرة بالنسبة إلى أصل المخالفة و عصيان اللّه تعالى و عظمته عزّ و جلّ ، كما عرفت آنفا، و أشار إلى ذلك بعضهم فقال: إنّهم كرهوا تسمية المعصية صغيرة، نظرا إلى جلال اللّه تعالى و عظمته و شدّة عقابه، فإنّ المعاصي إذا لوحظت بالنسبة إليه تعالى كبيرة.

ص: 123

و ما ذكره مسلّم لا إشكال فيه و لم ينكره أحد، إلا أنّ الكلام في مفاد الآية الشريفة بعد تقسيمها للمعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ شروط التكفير للسيئات و الوصول إلى الرضوان و ما وعد به الرحمن.

فمنها: أن يكون ترك الكبائر عن قدرة و إرادة، و هي متوقّفة على معرفة الكبائر و الصغائر و التمييز بينهما، فإنّ المكلّف إذا عرف أنّها حرمات اللّه تعالى عزم همّه على تركها، بل قيل بوجوب معرفتها مقدّمة للاجتناب عنها، بل التهاون فيها كبيرة أيضا يجب الاجتناب عنه، و إن لم يكن يجب اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها، على ما هو مفصّل في الفقه.

و منها: أن يكون النهي الشرعيّ منجزا، و إلا فلا يجب الاجتناب كما في مورد الجهل بالموضوع و عدم بلوغ الحكم و نحو ذلك ممّا هو مفصّل في اصول الفقه، راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

و منها: أن يكون الاجتناب عن المعاصي الكبيرة عن إعراض النفس و عزوفها عن ارتكابها.

و بعبارة اخرى: أن يكون الاجتناب عن أثر في النفس، لما تدلّ عليه كلمة الاجتناب الواردة في الآية المباركة. و قال تعالى: وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى * فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى [سورة النازعات، الآية: 40-41].

الثالث: الآية الشريفة في مقام الامتنان على المؤمنين بأنّهم إذا اجتنبوا بعض المعاصي، كفّر عنهم البعض الآخر.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً على الذنب، و أنّ التخلية مقدّمة على التحلية، و أنّها لا تتحقّق إلا بعد التكفير و التزكية.

ص: 124

الخامس: إطلاق التكفير يشمل جميع الآثار الدنيويّة و الاخرويّة، و نسبة التكفير إلى نفسه الأقدس، يدلّ على أهمية الموضوع و عظمته و كمال الاعتناء بشأن المؤمنين.

و قال بعضهم: إنّ ظاهر الآية الشريفة وجوب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر، و هذه من صغريات كبرى غفران الذنوب بعد التوبة، و قد ذكرنا في مبحث التوبة في سورة البقرة، قلنا: إنّه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة مع تحقّق جميع الشرائط.

بحث روائي
اشارة

الروايات الواردة عن الفريقين في تفسير هذه الآية الشريفة مع كثرتها هي على طوائف متعدّدة، تبيّن كلّ منها جانبا من الجوانب التي تضمّنتها الآية المباركة، و نذكر المهمّ منها:

ما ورد في تحديد الكبيرة:

في الكافي: بسنده عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، قال: «الكبائر التي أوجب اللّه عليها النّار».

أقول: و مثله ما عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام.

و في الفقيه: عن عباد بن كثير النوا قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الكبائر، فقال: كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار».

أقول: و مثله ما عن تفسير العياشيّ ، و يستفاد من هذه الروايات تحديد شرعيّ للكبائر التي وردت في الكتاب و السنّة، و إيجاب النّار أعمّ من أن يكون بالمطابقة أو بالملازمة، سواء أ كان في كتاب اللّه تعالى أم في حديث المعصوم، و سواء رتّب الشارع عليها الحدّ في هذه الدنيا - كالزنا و شرب الخمر - أم لا. فما

ص: 125

عن بعض من حصر الكبيرة في كلّ ذنب رتّب عليه الشارع الحدّ في هذه الدنيا - كما يأتي في البحث الأخلاقي - مناف لما تقدّم من الروايات.

و في معاني الأخبار بإسناده عن الحسن بن زياد العطّار، عن الصادق عليه السّلام قال: «قد سمّى اللّه المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، و لم يسمّ من ركب الكبائر و ما وعد اللّه عزّ و جلّ عليه النّار مؤمنين في القرآن، و لا نسمّيهم بالإيمان بعد ذلك الفعل».

أقول: تقدّم أنّ للإيمان مراتب، و من ارتكب الكبيرة و لم يخرج عن الإسلام لم يكن من الكمل إلا إذا تاب. و إنّها كالروايات المتقدّمة في تحديد الكبيرة بالوعيد، و سيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بالمقام.

و في ثواب الأعمال عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ قال: «من اجتنب الكبائر، و هي ما أوعد اللّه عليه النّار، إذا كان مؤمنا كفّر اللّه عنه سيئاته».

أقول: و مثله ما في الكافي عن ابن محبوب. و يستفاد منها أنّ التكفير مشروط بالإيمان، كما هو المنساق من الآية المباركة، و أنّ الكافر لو اجتنب لا يوجب التكفير عنه.

نعم، يمكن أن يكون له أثر في الدنيا أو في عالم البرزخ، و لا تنافي بينها و بين

ما ورد في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «من اجتنب الكبائر كفّر اللّه جميع ذنوبه، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ »، أي: مع الإيمان باللّه تعالى.

و كيف كان، فالمستفاد من هذه الروايات و غيرها ممّا ورد من طرق الجمهور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سائر المعصومين عليهم السّلام، أنّ الكبيرة ما أوعد بالنّار، و الصغيرة هي الذنب الذي لم يوعد بالنار، أو لم يماثل في الروايات بذنب أوعد فيه.

ص: 126

ما ورد في أعداد الكبائر:

الروايات في أعداد الكبائر مختلفة، ففي جملة منها أنّها سبع، و إن اختلفت هذه في المعدود منها و أبدال كبيرة بأخرى في الذكر، كما يأتي.

و في بعضها تسع، و في آخر ثمان. و في بعضها ثلاث.

و عن ابن عباس في الدرّ المنثور عدّها ثمان عشرة، و في الكافي عن عبد العظيم الحسنيّ عن أبي جعفر الثاني عن الصادق عليهما السّلام أنّها عشرون - كما يأتي - و عن ابن عباس انها اقرب إلى التسعين.

و لعلّ السرّ في اختلاف هذه الروايات أنّها في مقام بيان المهمّ من الكبائر بل أكبرها، أو باعتبار اقتضاء المقام، و نحن نذكر جملة منها على سبيل الاختصار و هي:

في التهذيب: بسنده عن معلى بن خنيس عن أبي الصامت عن الصادق عليه السّلام: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرّم اللّه عزّ و جلّ إلا بالحقّ ، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما أنزل اللّه تعالى».

أقول: هذا الحصر إما بالنسبة إلى أكبر الكبائر، كما قال عليه السّلام في صدر الحديث، أو إنّه إضافي؛ لأنّها أكثر من السبع، كما يأتي.

و في الكافي: عن ابن محبوب قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السّلام يسأل عن الكبائر كم هي و ما هي ؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النّار كفر عنه سيئآته إذا كان مؤمنا، و السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرّب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف».

أقول: و مثله ما عن الصدوق في ثواب الأعمال. و هذا الحصر إضافي، فلم يردّ فيها الشرك باللّه تعالى، و قد عدّ في الرواية السابقة من أكبرها، و لكن

قوله عليه السّلام: «إذا كان مؤمنا»، يدلّ على أنّه منها.

ص: 127

و فيه - أيضا -: عن عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكبائر؟ فقال: هنّ في كتاب علي عليه السّلام سبع: الكفر باللّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البيّنة، و أكل مال اليتيم ظلما، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة. فقلت: هذا أكبر المعاصي ؟! فقال: نعم. قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة ؟ قال: ترك الصلاة. قلت: فما عدّدت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال: أي شيء أوّل ما قلت لك ؟ قلت: الكفر. قال: فإنّ تارك الصلاة كافر، يعني: من غير علّة».

أقول: الحصر فيه إضافي أيضا، و أما كون تارك الصلاة عن عمد و اختيار كافرا؛ لأنّه يرجع إلى إنكارها، و تقدّم في الرواية السابقة أن إنكار ما أنزل اللّه تعالى من الكبائر.

و في صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّدا، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البيّنة، و كل ما أوجب اللّه النّار».

أقول: عدّ الشرك منها إما لأجل المفروغيّة، كما تقدّم في الروايات السابقة، أو أنّه داخل في القاعدة الكليّة المذكورة في ذيل الرواية.

فهي تنطبق على كثير من المعاصي أيضا، كالكذب و الغيبة، و الرشوة، و شرب الخمر، و السرقة، و الزنا و غيرها.

و في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

إنّ من الكبائر عقوق الوالدين، و اليأس من روح اللّه، و الأمن من مكر اللّه».

أقول: لأنّ جميع ذلك ممّا أوعد اللّه عليه النّار، أو من الخسران، أو بمنزلة الكافر الذي أوعده اللّه النّار كما يأتي.

و في تفسير العياشي: عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كنت أنا و علقمة الحضرمي و أبو حسان العجلي و عبد اللّه بن عجلان ننتظر أبا جعفر عليه السّلام، فخرج علينا فقال:

ص: 128

مرحبا و أهلا، و للّه إنّي أحبّ ريحكم و أرواحكم، و إنّكم لعلى دين اللّه، فقال:

علقمة فمن كان على دين اللّه نشهد أنّه من أهل الجنّة ؟ قال: فمكث هنيئة. قال:

نوّروا أنفسكم، فإن لم تكونوا اقترفتم الكبائر، فأنا أشهد. قلنا: و ما الكبائر؟ قال:

هي في كتاب علي عليه السّلام سبع. قلنا: فعدّها علينا جعلنا اللّه فداك. قال: الشرك باللّه العظيم، و أكل مال اليتيم، و أكل الربا بعد البيّنة، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و قتل المؤمن، و قذف المحصنة. قلنا: ما منا أحد أصاب من هذه شيئا، قال: فأنتم إذا».

أقول: تدلّ هذه الرواية على أن من اجتنب الكبائر يكون من أهل الجنّة بشهادة أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن معاذ بن كثير عن الصادق عليه السّلام قال:

«يا معاذ، الكبائر سبع، فينا أنزلت و منا استحقّت، و أكبر الكبائر الشرك باللّه، و قتل النفس التي حرّم اللّه، و عقوق الوالدين و قذف المحصنات، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف، و إنكار حقّنا أهل البيت - الحديث -».

أقول: ما تضمّنته الرواية إضافي، و يكون من باب ذكر بعض المصاديق.

و فيه - أيضا -: عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء من الكبائر».

أقول: الرواية ليست في مقام الحصر حتّى الإضافي منه، و إنّما هي في بيان ذكر بعض المصاديق، و أمثال هذه الرواية كثيرة.

و في الكافي: عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: «حدثني أبو جعفر الثاني عليه السّلام قال: سمعت أبي موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول: دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد اللّه عليه السّلام فلما سلّم و جلس تلا هذه الآية: وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ ثمّ أمسك. فقال له الصادق عليه السّلام: ما أسكتك ؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ و جلّ ، فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر: الإشراك

ص: 129

باللّه، يقول اللّه: مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ ، و بعده اليأس من روح اللّه؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ . ثم الأمن من مكر اللّه؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ . و منها: عقوق الوالدين؛ لأنّ اللّه سبحانه و تعالى جعل العاق جبّارا شقيّا. و قتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ ؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها . و قذف المحصنة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . و أكل مال اليتيم؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً . و الفرار من الزحف؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ . و أكل الربا؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ . و السحر؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . و الزنا؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً . و اليمين الغموس الفاجرة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ . و الغلول؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ . و منع الزكاة المفروضة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ . و شهادة الزور و كتمان الشهادة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . و شرب الخمر؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض اللّه عزّ و جلّ ؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة اللّه و ذمّة رسوله. و نقض العهد و قطيعة الرحم؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

ص: 130

لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ . قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه، و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم».

أقول: هذه الرواية لا تنافي ما تقدّم من الروايات، لما عرفت من أنّ الحصر فيها ليس حقيقيا، و إنما كان إضافيا. و هذه الرواية تعدّ الكبائر المأخوذة من كتاب اللّه تعالى، كما عرفت.

و في الخصال: بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام الكبائر خمسة: الشرك، و عقوق الوالدين و أكل الربا بعد البيّنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة».

أقول: لا تنافي بينه و بين ما تقدّم، لما عرفت من أنّ الحصر في هذه الروايات إضافي و ليس حقيقيّا.

و في العلل بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أخبرني عن الكبائر. فقال: هنّ خمس، و هنّ ممّا أوجب اللّه عليهنّ النّار، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ، و قال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ... إلى آخر الآية.

و قال عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا . و رمي المحصنات المؤمنات، و قتل مؤمن متعمّدا على دينه».

أقول: يستفاد من التعليل التعميم؛ لأنّ العلّة قد تعمّم و قد تخصّص.

و في رواية أبي خديجة عن الصادق عليه السّلام: الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء من الكبائر.

و في كنز الفوائد: عن الصادق عليه السّلام: «الكبائر تسع، أعظمهن: الإشراك باللّه عزّ و جلّ ، و قتل النفس المؤمنة، و أكل الربا و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات،

ص: 131

و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين و استحلال البيت الحرام، و السحر، فمن لقى اللّه عزّ و جلّ و هو بريء منهن، كان معي في جنّة مصاريعها الجنّة».

أقول: جميع هذه الروايات تدلّ على ما ذكرنا من أنّ الحصر إضافي و ليس حقيقيّا.

و في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة، و هي: الشرك باللّه، و قتل النفس التي حرّم اللّه، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البيّنة، و قذف المحصنات».

و بعد ذلك الزنا و اللواط و السرقة، و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به من غير ضرورة، و أكل السحت، و البخس في الميزان و المكيال، و الميسر، و شهادة الزور، و اليأس من روح اللّه، و الأمن من مكر اللّه، و القنوط من رحمة اللّه، و ترك معاونة المظلومين، و الركون إلى الظالمين، و اليمين الغموس، و حبس الحقوق من غير عسر، و استعمال التكبّر و التجبّر و الكذب، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحجّ ، و المحاربة لأولياء اللّه، و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة، كالغناء و ضرب الأوتار، و الإصرار على صغائر الذنوب».

أقول: عدّ عليه السّلام في هذه الرواية الغناء من الكبائر، و لكن عبّر عنها في الحكم بالكراهة، و المراد منها الحرمة كما في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [سورة الإسراء، الآية: 38].

و في الدرّ المنثور: أخرج جماعة عن ابن عباس أنّه سئل عن الكبائر:

«أ سبع هي ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب».

و فيه - أيضا -: عن ابن جبير عن ابن عباس: «هي إلى السبعمائة أقرب إلى سبع، غير أنّه لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار».

أقول: لا شكّ أنّ أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم حتّى و لو كان خفيا، و ما

ص: 132

سواه كبير باختلاف المراتب، فلا تنافي بين الروايات الدالّة على السبع أو الخمس أو التسع أو السبعين أو أقلّ أو أكثر كما عرفت.

ما ورد في شمول الشفاعة لأهل الكبائر:

كما أنّ التوبة تمحو الكبيرة و آثارها، كذلك الشفاعة تمحو الكبيرة و آثارها، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة.

منها

ما في التوحيد عن ابن أبي عمير، قال: «سمعت موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، قلت: فالشفاعة لمن تجب ؟ فقال: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قال ابن أبي عمير فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه تعالى يقول: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى ، و من يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى، فقال: يا أبا أحمد، ما من مؤمن يذنب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالندم توبة. و قال: من سرّته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، و لم تجب له الشفاعة - إلى أن قال النبي صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله -: لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ شفاعته صلّى اللّه عليه و آله مدّخرة لأهل الكبائر من أمته مستفيضة بين الفريقين، و أنّها تغفر بالشفاعة، و أنّ المؤمن لا يخلّد في النّار، فإنّ التخليد فيه مختصّ بأهل الكفر و الجحود، و أهل الضلال و أهل الشرك، كما في الرواية.

و منها

في الدرّ المنثور: أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: ألا إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من امتي، ثم تلا هذه

ص: 133

الآية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ - الآية».

أقول: و مثلهما غيرهما من الروايات و مقتضاها أنّ الشفاعة تختصّ بأهل الكبائر التي لا يخرج مرتكبيها عن الإيمان، كالشرك باللّه العظيم، كما تقدّم في الروايات السابقة، فالمؤمن على قسمين:

الأوّل: ما إذا اجتنب الكبائر، فيدخل الجنّة إن شاء اللّه تعالى بمقتضى الآية الشريفة و الرواية المتقدّمة.

الثاني: ما إذا ارتكب الكبائر و كان مؤمنا، فهو أيضا من أهل الجنّة بالشفاعة.

ما ورد في تحريم الإصرار على الصغيرة:

الإصرار على الذنب هو: أن لا يتخلّل الاستغفار، و لا يحدّث نفسه بالتوبة، كما يأتي في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام، و أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر، كما تقدّم في الروايات السابقة،

ففي الكافي: بسنده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من علامات الشقاء جمود العين، و قسوة القلب، و شدّة الحرص في طلب الدنيا، و الإصرار على الذنب».

أقول: المراد من الشقاء هو الشقاء في الآخرة، و المراد من جمود العين هو قسوة القلب، فيكون العطف بيانيّا، فللقسوة مظهر خارجي، و هو جمود العين، و منشأ واقعي و هو قسوة القلب.

و في الكافي - أيضا -: بسنده عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا و اللّه، لا يقبل اللّه شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه».

أقول: للقبول مراتب متفاوتة جدا، فلا ينافي أن يكون الإصرار على الذنب حراما، و معه لا يحصل المرتبة الكاملة من القبول، و سيأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

ص: 134

و في الروضة بإسناده عن الصادق عليه السّلام في رسالته إلى أصحابه قال:

«و إياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء حرّم اللّه عليكم، فإنّ من انتهك ما حرّم اللّه عليه هاهنا في الدنيا، حال اللّه بينه و بين الجنّة و نعيمها و لذتها و كرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنّة أبد الآبدين - الى أن قال -: و إيّاكم و الإصرار على شيء ممّا حرّم اللّه في القرآن ظهره و بطنه، و قد قال: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ».

أقول: شره كفرح، و هو الطلب مع الحرص أو بدونه، و المراد من الرواية ما حرّمه القرآن بظاهره - كما تقدّم - أو بباطنه، أي: بواسطة السنّة الشريفة.

بحث أخلاقي
اشارة

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدلّ على تقسيم المعاصي إلى كبائر و صغائر، و يدلّ عليه قوله تعالى أيضا في آية اخرى: اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ [سورة النجم، الآية: 32]، و تدلّ عليه السنّة الشريفة، كما تقدّم في البحث الروائي.

و الكبيرة و الصغيرة من الأمور الإضافيّة النسبيّة، و هما يختلفان شدّة و ضعفا، فما من ذنب إلا و هو كبير بالإضافة إلى ما دونه، و صغير بالنسبة إلى ما فوقه، و الجميع كبائر بالنسبة إلى مخالفة مولى الموالي، و هتك حجاب العبودية و التعدّي في سلطانه عزّ و جلّ . و قد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة اختلافا عظيما.

فقيل: إنّ كلّ ما نهى عنه عزّ و جلّ فهو كبيرة، و ينسب هذا القول إلى ابن عباس، و لكن ذكرنا آنفا أن كون الذنوب كلّها كبائر بما هو القياس إلى حال الإنسان مع خالقه و مولاه الذي يجب إطاعته في جميع الحالات، لا بلحاظ بعضها الى بعض.

ص: 135

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به.

و يردّ عليه: أنّه أخصّ من المدّعى، فإنّ بعض الذنوب ينطبق عليها الكبيرة و إن لم تكن بهذا العنوان، مضافا إلى أن كلّ اقتراف للذنب و الآثام مع التعمّد ينطبق عليه عنوان الطغيان و الاعتداء، الذي هو من إحدى الكبائر أيضا.

و قيل: إنّ الكبيرة ما حرمت لنفسها، لا لعارض.

و فيه: أنّ بعض الذنوب يطرأ عليها عنوان الطغيان، فتصير كبيرة.

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه تعالى عليه بالنّار في القرآن الكريم أو السنّة الشريفة، أو ما مثله بالذنب الذي أوعد عليه النّار، و هذا هو المشهور.

و فيه: أنّه و إن كان صحيحا في الجملة، لكن لا كلّية له في انعكاسه، فليس كلّ ما لم يعد عليه اللّه تعالى بالنّار صغيرة.

و قيل: إنّ الكبائر ما ورد في سورة النساء من أوّلها إلى الآية التي تقدّم تفسيرها.

و فيه: أنّه تقييد لإطلاق الآية الشريفة، فكأنّ القائل يريد أنّ قوله تعالى:

كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إشارة إلى تلك المحرّمات التي ذكرها اللّه تعالى في الآيات السابقة، و هو تخصيص بلا دليل.

و قيل: إنّ الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه و الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه. و نسب هذا القول إلى بعض المعتزلة.

و فيه: أنّه لا دليل عليه من عقل أو نقل.

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه عليه في الآخرة عقابا و وضع له في الدنيا حدّا.

و فيه: أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ بعض الكبائر لم يوضع لها حدّ، مثل الغيبة و الإصرار على الصغائر، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف، و أكل الربا و غيرها.

ص: 136

و نسب إلى الغزالي في كتاب الاحياء جامعا بين الأقوال و خلاصته: أنّ مقياس الكبائر و الصغائر على نحوين، إما بقياس بعضها إلى بعض، أو بملاحظة الأثر المترتّب على المعصية، فقال: «أما الأوّل، فإنّها بملاحظة بعضها إلى بعض تكون كبيرة و صغيرة، و إن كانت بعض المعاصي تكبر بانطباق العناوين المهلكة الموبقة عليه، كالإصرار على الصغائر، فتصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن منها.

ثمّ هي مع ذلك تنقسم إلى قسمين بالنظر إلى أثر الذنب و وباله و أثر الطاعة، فتكون لهما حالات ثلاثة، فأمّا أن يحبط أثر الذنب الثواب بغلبته عليه أو نقصه عنه إذا لم يغلبه، فيزول بزوال مقدار ما يعادله من الثواب، فإنّ لكلّ طاعة تأثيرا حسنا في النفس، يوجب رفعة مقامها و تخلّصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل، كما أنّ لكلّ معصية تأثيرا سيئا فيها - على خلاف أثر الطاعة - فيوجب انحطاط محلّها و سقوطها في هاوية البعد و ظلمة الجهل. و أما أن يتصادم الأثران و يتحقّق التحابط في ما إذا فعل الطاعة و المعصية، فيتصادم أثر الاولى مع أثر الثانية، فإن غلبت ظلمة المعصية نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء، أزالت ظلمة الجهل، و بوار الذنب ببطلان مقدار منها يعادل نور الطاعة، فيبقى منه شيء تصفوا به النفس، و هذا هو التحابط بمعنى غفران الذنوب الصغيرة و تكفير السيئات. و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. و إما أن تتكافأ السيئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب، فهو و إن كان ممّا يحتمّله العقل بدوا و لازمه صحّة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة، لكن يبطله قوله تعالى:

فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ .

و ردّ الفخر الرازي في تفسيره بأنّه يبتني على اصول المعتزلة الباطلة عندنا.

و شدّد النكير على الرازيّ بعض المفسّرين و قال: إنّ إنكار الأشاعرة لانقسام المعاصي إلى الصغيرة و الكبيرة، أرادوا به مخالفة المعتزلة و لو بتأويل، كما

ص: 137

يعلم من كلام ابن فورك، فإنّه صحّح كلام الأشعرية و قال: معاصي اللّه كلّها كبائر. و إنّما يقال لبعضها صغيرة و كبيرة لا بإضافة، بل بحسب القصود، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين، صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح.

أقول: هذا الموضوع واحد من تلك الموضوعات التي كثر الجدال فيها بين المعتزلة و الأشاعرة، و تعصّب كلّ فريق لمذهبه، و استدلّ عليه بأمور عقليّة و نقليّة حتّى حدى ببعضهم إلى تأويل الآيات الكريمة و الروايات لنصرة رأيه، و لو كان لأجل مخالفة المذهب الآخر، و قد شغل هذا النحو من الجدال مصنّفات الأعلام، و غلب على أفكارهم، فصرفوا جلّ اهتمامهم إلى ذلك، فحرموا غيرهم، بل حتّى أنفسهم من قريحتهم الفذة، فصاروا و كتبهم فتنة افتتن بهما من بعدهم، و أصبحت وسيلة لطمس الحقّ و أهله.

أما مقالة الغزالي، فهي و إن كانت حسنة ثبوتا، و لكن لا دليل عليها في مقام الإثبات، بل هي تطويل - للمعاصي الكبيرة و الصغيرة بما بيّنها اللّه تعالى في كتابه الكريم و السنّة المقدّسة - بلا طائل تحته، كما فصّله الفيض قدس سرّه في إحياء الأحياء، و النراقي قدس سرّه في جامع السعادات، و كلمات الغزالي مشحونة من مثل هذه التشقيقات، كما لا يخفى على من راجعها، و سيأتي الكلام في الإحباط و التحابط بالنسبة إلى الثواب و العقاب، و لا ربط لهما بالكبيرة و الصغيرة، مع أنّ ظواهر الآيات الشريفة و الروايات تقسّم الذنب إلى الكبيرة و الصغيرة بالنسبة إلى حيثيّة الصدور، لا حيثيّة الأثر، فخلط بين الحيثيتين، و كم له من هذه المغالطات.

و هناك وجوه اخرى لا يخفى فسادها على من راجعها.

و الحقّ أن يقال: إن اختلاف العلماء في تعريف الكبائر و تعيينها لا يرجى زواله، و لعلّ الحكمة في عدم تعيين الشرع لها، هي الإبقاء على إبهامها و إجمالها، ليكون العباد على و جل منها، فلا تهتك حرمات اللّه تعالى فيها، فلا يتجرّؤوا على ارتكابها اعتمادا على التكفير، بل يعزموا على ترك المعاصي كلّها، لاحتمال وجود

ص: 138

الكبار فيها، كما أبهم عزّ و جلّ بعض الأمور أيضا، مثل الاسم الأعظم، ليواظبوا على جميع الأسماء الحسنى، و ليلة القدر ليعظم جدّ الناس و اجتهادهم في المواظبة على الطاعة في جملة من الليالي. و وليّ اللّه تعالى بين الناس ليحترموا جميع الأفراد، فلا يسيئوا الظنّ بأحد منهم، و ساعة الاستجابة في الأيام و غير ذلك.

مع أنّ لنا نقول: إنّ الكبائر قد بيّنها القرآن الكريم و السنّة المقدّسة في الجملة، فإنّ من المعاصي ما قد جعل لها الإسلام حدّا معلوما في الدنيا، كالزنا و اللواط و السرقة و القذف و نحو ذلك من موجبات الحدود المعروفة في الفقه، و هذه لا إشكال عند أحد في كونها كبيرة، و كذا تكون المعصية كبيرة إذا كانت العقوبة عليها النّار، بنصّ من الشرع المبين كتابا و سنّة، فتكون كبيرة لكون العقاب عظيما.

و أما غير ذلك، فإنّه يحتمل أن تكون كبيرة و قد أبهم الأمر فيها عزّ و جلّ ، ليكون الناس على حذر منها.

ثم إن الذنوب و المعاصي لها إضافات متعدّدة:

الاولى: الإضافة إلى اللّه عزّ و جلّ ، و بحسب هذه الإضافة تكون كبيرة، فإن ارتكابها جرأة على اللّه تعالى، و على هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار من أنّ الذنوب كلّها كبيرة، كما عرفت آنفا.

الثانية: الإضافة إلى الفاعل العاصي.

الثالثة: إضافة بعضها إلى بعض، و بحسب هاتين الإضافتين تتحقّق الكبيرة و الصغيرة في الذنوب، و حينئذ فإمّا أن تكون كبيرة مطلقا و لا صغيرة فيها، كالكذب و الغيبة و البهتان و إيذاء المؤمن، و أكل مال الناس و نحو ذلك. و إمّا أن تكون صغيرة و لا كبيرة فيها إلا مع الإصرار، كوضع اليد على مال الغير بدون إذنه، و النظر إلى الأجنبيّة. و إمّا أن تكون فيه الكبيرة و الصغيرة، كالظلم و الشتم بغير حقّ ، و الضرب و القتل كذلك، فبعض مراتب الأوّل صغيرة و الاخرى كبيرة.

ص: 139

موجبات الكبائر:

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ إتيان المعاصي - صغيرة كانت أو كبيرة - و صدورها، يكون باختيار العبد و جرأته، و لكن ذكر علماء الأخلاق أنّ أسباب الكبائر مندرجة في امور ثلاثة:

الأوّل: اتباع الهوى، و الهوى: ميلان النفس إلى ما يستلذّ به، فيقع الإنسان في جملة من الكبائر، كالزنا و اللواط و قطع الرحم و قذف المحصنات أو كترك الصلاة و ترك الطاعات و غيرها.

الثاني: حبّ الدنيا، فإنّه السبب للوقوع في كثير من الكبائر، كالقتل و الظلم و الغصب، و أكل مال اليتيم، و شهادة الزور و الحيف في الوصية و غيرها،

قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أتاني جبرئيل و قال: إنّ اللّه تعالى قال و عزّتي و جلالي، إنّه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حبّ الدنيا»،

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

الثالث: رؤية الغير، فإنّها منشأ للرياء (الشرك الخفي)، و النفاق و العجب بالنفس و الشرك باللّه العظيم، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «اليسير من الرياء شرك».

طرق تمييز الكبيرة:

ذكرنا أنّه لم يرد في القرآن الكريم تحديد الكبيرة و بيان خصوصياتها، و إنّما أبهم عزّ و جلّ الأمر فيها لطفا بعباده، و لأنّه من إحدى طرق التهذيب و الإصلاح، لئلاّ يجترئ الإنسان المغرور على ارتكاب غيرها اتكالا على التكفير، غفلة منه كما عرفت و لكن ذكر العلماء لتمييز الكبيرة عن الصغيرة أمورا:

الأوّل: التوعيد بالنار، و قد دلّت عليه نصوص كثير متواترة بين الفريقين، و تقدّم في البحث الروائي نقل جملة منها، و هو مورد إجماع المسلمين أيضا.

ص: 140

و يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي، فإنّه ليس بأعظم من النّار شيئا، فإذا كانت المعصية هي الموجبة لورودها، فلا بد أن تكون كبيرة و عظيمة لعظم الغاية، و تختصّ معرفة ذلك بما ورد في الكتاب و السنّة.

الثاني: الإصرار على الصغيرة، إجماعا و نصوصا، كما تقدمت جملة منها، و قد ورد في تفسير قوله تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ

عن الإمام الباقر عليه السّلام: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر و لا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار، و قد تقدّم في تفسير الآية الشريفة: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 135] بعض الكلام فراجع.

الثالث: ثبوت الحدّ الشرعي في الدنيا على المعصية، ذكره جمع من العلماء، و هو صحيح في الجملة، فإنّ ثبوت الحدّ يدلّ على كبر المنهي عنه في الشرع، كالزنا و السرقة و نحوهما.

الرابع: استصغار الذنب،

فعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تصغروا ما ينفع يوم القيامة، و لا تصغروا ما يضرّ يوم القيامة، فكونوا في ما أخبركم اللّه كمن عاين»، و هذا لا إشكال فيه ظاهرا و استصغار الذنب إما لأجل جعل التمكّن من ذلك نعمة منه عزّ و جلّ ، أو لأجل السرور بفعل المعصية الصغيرة، و إما بالاغترار بستر اللّه تعالى و عدم المبالاة بفعل المعصية و غير ذلك، و يجمعها غرور النفس و الغفلة.

الخامس: أن يكون الفاعل ذا منزلة كبيرة اجتماعيّة، بحيث يقتدي الناس بفعله، فإنّ المعصية الصغيرة حينئذ تكون كبيرة إذا فعله بحضرة من الناس أو بحيث إذا اطلعوا عليه منه فعلوها اقتداء به.

السادس: أن يكون الأثر المترتّب عليه كبيرا جدا.

السابع: شدّة النهي عنها، فإنّها تدلّ على كون المنهي عنه كبيرة.

ثم لا يخفى أنّ الكبائر في حدّ أنفسها تكون مختلفة، فبعضها تكون أفظع

ص: 141

و أعظم من الاخرى،

و في بعض الأخبار كما مرّ: «أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم».

موجبات محو الذنوب:

و هي كثيرة كما هي المستفادة من الكتاب و السنّة، و قد ذكرنا جملة منها في بحث التوبة في سورة البقرة، و نذكر المهمّ منها في المقام، و هي:

الأوّل: التوبة على ما عرفت التفصيل فيها، و يدلّ عليه الكتاب الكريم، و السنّة الشريفة، و الإجماع المحقّق بين المسلمين، فمن الكتاب آيات كثيرة، قال تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 17]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [سورة الشورى، الآية: 25]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 48]، و غير ذلك من الآيات المباركة، و إطلاقها يشمل التوبة عن الذنوب الصغيرة و الكبيرة.

و من السنّة الشريفة ما تقدّم في بحث التوبة فراجع، و يمكن إقامة الدليل العقليّ عليه على ما عرفت التفصيل.

الثاني: الطاعات، فإنّها مكفّرة للسيئات، بل تمحوا آثارها، قال تعالى:

إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و إطلاقه يشمل جميع السيئات، الصغائر و الكبائر،

و قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الصلوات الخمس مكفّرة لما بينها، ما اجتنب الكبائر»،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الصلوات الخمس، و الجمعة الى الجمعة، و رمضان الى رمضان، مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، و يقيّد إطلاق الآية الشريفة بمثل هذه الأخبار.

ص: 142

الثالث: اجتناب الكبائر كما تدلّ عليه الآية الشريفة المتقدّمة، و المستفاد منها أنّ الاجتناب بنفسه مكفّر للسيئات كالتوبة و الطاعة، لا أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التخلية بين الصغائر و الطاعات الحسنة و هذه الأخيرة تكفّر السيئات، فيدخل تحت قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ، بل للاجتناب دخل في التكفير، و له خصوصية خاصّة.

بل يمكن إقامة الدليل العقليّ على المطلوب، و هو: أنّ الأخذ بالصغائر بعد الاجتناب عن الكبائر، مداقة منه عزّ و جلّ في الحساب، و لا ينبغي ذلك بالنسبة إليه تعالى، لأنّه الجواد المطلق و الغفور الرحيم.

ثمّ إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الكبائر، و هي تكفّر عن السيئات جميعا، ما تقدّم منها و ما تأخّر، إلا أن تكون من حقوق الناس، فإنّها لا تكفّر إلا بأدائها إلى أصحابها، و قد ذكرنا شروط التكفير فيما تقدّم.

و المستفاد من هذه الآية الشريفة ترتيب الثواب على اجتناب الكبائر و الابتعاد عنها؛ لقوله تعالى: وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، مضافا إلى ما ورد في بعض الأخبار الوعد بالثواب.

بحث فقهي

تختصّ السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر بحقوق اللّه تعالى، و أمّا حقوق الناس فلا تشملها الآية الشريفة، و تدلّ على ذلك الأخبار الكثيرة، مثل

قوله عليه السّلام: «من ترك من أخيه حقّا يطلبه به يوم القيامة»، مع أنّ جملة منها داخلة في الكبائر التي يكون اجتنابها شرطا للتكفير، و يشهد لما ذكرناه ما دلّ على أنّ

«أوّل قطرة من دم الشهيد في سبيل اللّه تعالى توجب غفران ذنوبه إلا ما كان من حقّ الناس».

ص: 143

بحث عرفاني

الآية الشريفة من الآيات الداعية إلى الاستكمال، و هي تتضمّن دعوة من الكمال المطلق الحقيقي لتوجيه النفس إلى التربية و التهذيب و الإصلاح بترك كلّ ما يوجب البعد عن معدن الرحمة و العظمة و الجلال و الكبرياء، و توجب القسوة و كدورة النفس، و قد فتح اللّه تعالى على عباده بابا سماّه التوبة و دعاهم إلى السلوك فيه و الدخول منه، و هو حرم اللّه الأكبر الذي من دخله كان من الآمنين، و جعل الطريق إليه اجتناب الكبائر و التكفير بالنسبة إلى علم اللّه تعالى الأزلي المحيط بحقائق الممكنات - كلّياتها و جزئياتها - فالبحث عن السبق و اللحوق لا وجه له حينئذ.

و أما إذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى المتدرجات الزمانيّة، فهل يقتصر بالنسبة إلى الماضي أو المستقبل أيضا؟ مقتضى كمال رأفته و عنايته الأزلية بعباده هو الأخير، و يمكن أن يستشهد له بما ورد في بعض الروايات من تأخير غفران الذنوب من عرفة إلى عرفة اخرى، أو من شهر رمضان إلى شهر رمضان قابل.

ص: 144

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ .......

اشارة

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32) وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33) اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) الآيات الشريفة تتضمّن أحكاما اجتماعيّة تتعلّق بأحكام المواريث و الزواج، تصلح أمر الاجتماع العامّ و العائلة، و ترشد الناس إلى الحياة السعيدة، و تبيّن أنّ المناط في السعادة كسب الفضل و الفضيلة و السؤال من اللّه تعالى التوفيق، لا التمنّي فقط، فإنّه لا يكون كافيا إذا لم يكن داعيا إلى العمل، ثم يبيّن عزّ و جلّ بعض أحكام إرث الأرحام.

و ذكر سبحانه و تعالى العلّة في تفضيل الرجال على النساء في بعض الأمور، كما اهتمّ جلّ شأنه في إظهار فضل النساء أيضا.

و أخيرا ذكر حكما تربويا لإصلاح الخلل الذي يقع في الحياة الزوجيّة، فالآيات الشريفة تشتمل على أحكام اجتماعيّة مهمّة، و غير خفي ارتباطها بما سبق من الآيات المباركة التي اشتملت على جملة من الأحكام و المناهي.

ص: 145

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ التمنّي: هو تعلّق النفس بأمر متعذّر أو كالمتعذّر، أو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، و الأغلب تحقّقه في قول الإنسان: ليت كذا كان كذا، أي: حديث النفس بما يكون و ما لا يكون، قال تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ [سورة القصص، الآية: 79]، و قال تعالى: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40].

و قال بعضهم: إنّ التمنّي نوع من الإرادة تتعلّق بالمستقبل ضد التلهّف الذي نوع منها تتعلّق بالماضي.

و هو مردود؛ لأنّ التمنّي أعمّ من ذلك.

و كيف كان، فالمعروف أنّه من الإنشائيات.

و التمنّي مذموم شرعا؛ لأنّ فيه تعلّق البال و انشغاله عن إصلاح الإنسان نفسه، و أنّه يوجب نسيان الأجل، و هو مبدأ الحسد الذي هو من أهمّ الصفات الذميمة، قال كعب:

فلا يغرّنك ما منّت و ما وعدت *** إن الأماني و الأحلام تضليل

بخلاف الغبطة، التي هي عبارة عن إرادة ما لصاحبه مع عدم التمنّي؛ لزواله عنه، و هي داعية إلى العمل و الاستكمال، بخلاف التمنّي، و تقدّم في قوله تعالى:

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 94]، بعض الكلام في أقسام التمنّي، فراجع.

و الآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا - قال تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى، الآية: 27] - و الآخرة لها دخل في نظام الأسباب و المسبّبات و ظهور الاستعدادات و بروزها، و لا يمكن التخلّف عنه.

ص: 146

و الآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا - قال تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى، الآية: 27] - و الآخرة لها دخل في نظام الأسباب و المسبّبات و ظهور الاستعدادات و بروزها، و لا يمكن التخلّف عنه.

و النهي عن التمنّي إنّما لأجل عدم إمكان تحقّق المسبّب بدون سببه، فيكون النهي إرشاديا تكوينيّا لا نهيا مولويّا، و هو يرشد الناس إلى حفظ القانون العامّ و النظام الشرعي و التكويني.

و الآية المباركة تدلّ على بطلان مذهب البخت و الاتّفاق، لعدم إمكان تحقّق المسبّب بدون السبب، فلا بد من العمل و السعي لنيل الفضل، كما تدلّ عليه الأدلّة الكثيرة، منها قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39].

و منها:

قول علي عليه السّلام: «و لا تكن ممّن ترجو الآخرة بلا عمل، و ترجو الحصاد بلا زرع»،

و قال عليه السّلام أيضا: «الأماني بضائع النوكى» و غير ذلك، فالفضل و الأجر ليستا وقفا على طائفة معيّنة و نوع معيّن، و الأجر إنّما يكون على العمل و الوفاء بالتكاليف، فتكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية: 105].

و لكن الآية الشريفة تدلّ على أنّ لكلّ جنس مهمّة معيّنة خلقه اللّه تعالى لها ليؤدّيها في الأرض، و هيّأه لها و وهب له ما يمكن أن يقوم بالمهمة، فكلّفه عزّ و جلّ بتكاليف توافقها، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن الرجل خلقه اللّه تعالى لأجل وظائف معيّنة في المجتمع، كالجهاد و السعي للكسب و العيش، كما خلق النساء لأداء وظائف اخرى، كالحمل و رعاية البيت و تربية النشئ تربية صالحة شرعيّة، و قد أعطى عزّ و جلّ لكلّ واحد منهما أجرا معيّنا لا يمكن نيله إلا بالعمل و أداء الوظيفة و الوفاء بالتكاليف الإلهيّة، فلا بد من المحافظة على ذلك

ص: 147

التنويع في الاختصاصات و عدم الإخلال بتلك المهمّات الأصليّة، و خلاف ذلك إفساد للفطرة و ابطال للنظام، و بدون ذلك لا يستقيم المجتمع البشري و يضطرب أشدّ الاضطراب، كما نراه في الجاهليّة المعاصرة عند ما خرج الناس عن الفطرة و طلبوا المساواة بين الجنسين، و لهذا نرى أنّ النهي عن التمنّي إنّما هو لأجل إبطال الفوضى الذي يكون عند تحقّق ذلك التمنّي في الخارج، فيكون النهي لقطع منابت الشرّ و الفساد، و ما يوجب هلاك الحرث و النسل، كلّ ذلك يظهر من قوله تعالى:

ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ و هو على إيجازه البليغ و أسلوبه البديع تبيّن جهة الفضل و المزيّة التي اختصّ بها كلّ طائفة من الرجال و النساء، و يدلّ على أنّ تلك الخصوصية فضل و زيادة في كلّ واحد من الجنسين على الآخر، و لا معنى لتمنّي ذلك الفضل الذي يوافق خلقته.

ثمّ إنّ التمنّي تنقسم إلى أقسام أربعة ذكرناها في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 94-95]، و أنّ أصولها تكون في الغاية التي تكون فيها التنافس، سواء أ كان في امور الدنيا أم الآخرة، و تقدّم أنّ نفس التمنّي مذموم؛ لأنّه مخالف للحكمة المقدّرة و المصالح التي لم يطلع على سرّها إلا ربّ العالمين، إلا إذا كان التمنّي متعلّقا بعالم الآخرة و نعيمها مع تهيئة الأسباب و تقديم الأعمال له، فهو غاية دعوة الأنبياء و من أهمّ مقاصد الكتب السماويّة، فهو ممدوح عقلا و شرعا.

و أما الفضل الذي ميّز اللّه تعالى به كلّ فريق عن الآخر، إما أن لا يتعلّق به الكسب و العمل و لا يمدح الفاضل فيه بالجدّ و التشمير، كما لا يذمّ المفضول بالتقصير، و في مثل ذلك يذمّ التمنّي فيه كما عرفت آنفا.

و إما أن يكون ممّا ينال بالسعي و الجهد و التشمير، و في مثل ذلك يمكن أن يتحقّق التمنّي فيه.

ص: 148

و هو تارة يكون من مجرّد أمنية شاغلة لباله موهنة لقواه، و لا إشكال في حرمة هذا التمنّي؛ لمنافاته للتوحيد و التوكّل على اللّه تعالى، و اشتماله على ذمائم الأخلاق، كالحسد و البغضاء و نحوهما.

و اخرى: يكون اغتباطا بالفضل الذي منحه اللّه تعالى لصاحبه، و السؤال منه عزّ و جلّ ، و هذا ممدوح و موجب للإقدام على العمل أيضا.

و ثالثة: يكون من مجرّد التصوّر الخيالي، كأن يتوهّم بأنّه لو كان في مقام صاحب الفضل الكذائي مثلا كان له كذا و كذا، لتسكين هيجان الهمّ و الغمّ ، و لا إشكال فيه أيضا أن لم يستلزم البطالة و الكسل، و إلى ذلك يشير قول الشاعر:

أماني إن تحصل تكن غاية المنى *** و إلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ .

النصيب، الحظ ممّا أعطاه اللّه تعالى من الخير و النعمة و الفضل. و من في مِمَّا بيانيّة للنصيب.

و مادة (كسب) تدلّ على العمل أو السعي الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعين موردا، و يستعمل في الخير و الشرّ، قال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: 286]، و قال تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و ولده من كسبه»، و جعل الولد من كسبه لأنّ الأب سعى و طلب في تحصيله، و أراد بالطيب هنا الحلال.

و الاكتساب هو الكسب مع المبالغة و التكلّف، و قيل: إنّ الاكتساب هو ما يستفيده الإنسان لنفسه، و الكسب أعمّ من أن يكون لنفسه أو لغيره.

ص: 149

فكلّ اكتساب كسب، و لا عكس. و أكثر استعمال الاكتساب في القرآن الكريم في الإثم و ما يكون ضررا على الإنسان، قال تعالى: لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ [سورة النور، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 58]. و لعلّ وجه تخصيص الاكتساب في الشّر و الكسب في الخير؛ لأنّ الاكتساب فيه أعمال و مشقّة حاصلة من تحمّل الجزاء العظيم الشديد، أو لأنّ النفس تعمل بجميع قواها في تحصيل الشرّ.

و كيف كان، فقد استعمل الاكتساب في الخير أيضا، كما في الآية الشريفة، إذ التمنّي فيها لا يكون إلا في الخير و الفضل.

و ذكر بعض المفسّرين تبعا لبعض أهل اللغة أنّ الكسب و الاكتساب يختصّان بما يحصل للإنسان بعمل اختياري، كالطلب و نحوه، و هو صحيح بحسب الغالب، و إلا فقد يطلق الكسب على ما ليس كذلك، كما يقال في كسب الأخلاق بالمعاشرة و الصفات، و ذكر الفقهاء أنّ الكسب ما يحصل للإنسان بالملك و الجدّة و الاختصاص و لو بالإرث الذي هو غير اختياري، فلا يختصّان بالعمل الاختياري فقط، بل يشمل ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان صاحب الفضل ذا مزية تكوينيّة كالجمال، و حسن الصوت و الذكوريّة و الانوثيّة التي تخصّص لأصحابها سهما معينا و نصيبا مفروضا.

فالآية الشريفة بمنزلة التعليل للنهي عن التمنّي في صدرها، أي: لا تتمنّوا ذلك، فإنّ الفضل قد اكتسبه صاحبه إما تكوينا أو اختيارا، فالنصيب الذي أعطاهم اللّه تعالى هو ممّا اكتسبوه، و قد خصّه اللّه تعالى لكلّ واحد من الجنسين و فضّل به بعضهم على بعض؛ لأنّه ممّا أحرزه خلقا و تكوينا أو بتجارة و عمل، و إنّما ينال ذلك بالاكتساب فقط لا بالتمنّي الذي يدعو إلى الشرّ و اختلال النظام، كما عرفت.

ص: 150

قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

تعليم إلهي و تربية ربانيّة لأفراد الإنسان بالاعتناء و الاهتمام بما ينفعهم، و إرشاد إلى ما هو الإصلاح لهم في ترك ما يكون سببا في شقائهم و ضررهم، فإنّه لما نهاهم عزّ و جلّ عن تمنّي ما لا يمكن تحقّقه، بل يأبى اللّه سبحانه و تعالى أن يحقّقه، لاستلزامه الفوضى و اختلال النظام، أرشدهم الى ما ينبغي توجيه داعية الفطرة إلى ما هو الصحيح، فأمرهم بصرف التمنّي الذي هو فطري للإنسان إلى وجهه الكريم، و وجّههم إلى السؤال عن فضله العظيم، فإنّ الفضل بيد اللّه تعالى، و يقضي حوائجهم حين يسألونه من الوجه الصحيح، و يفيض عليهم بحسب ما يشاء.

و مورد الفضل إما أن يكون مورد رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء، و بهذا المعنى جميع ما سواه فضل منه جلّ جلاله، و لا استحقاق في البين، فإنّ الممكن محتاج بذاته إلى فضله العظيم، و إما أن يكون بالإنعام زائدا على أصل الخلقة، و هو يختلف بحسب العوالم، فإنّ منها ما يكفي في إحداثه صرف الأمر فقط، كعالم المجرّدات بمراتبها و أنواعها، و يعبّر عنه بعالم أشعة الجمال و الجلال، و لا وجه للتعبير بالفضل بالنسبة إلى هذا العالم. و إما أن يكون من عوالم المادّة التي لا بد من تخللها في جميع نشئاتها، و يصحّ التعبير عنها بالفضل حينئذ.

و الدنيا بأهلها المسجونين فيها دار فضل اللّه تعالى، فاسالوه من فضله، فإنّه يستجيب دعائكم حسب الاستعدادات و المقتضيات.

و قد أبهم عزّ و جلّ الفضل في الآية الشريفة لتعليم الإنسان أن يسأل ربّه من فضله الكريم بحسب الواقع، لا بحسب ما يتخيّله، فإنّه جاهل بحقائق الأمور، فقد يسأل ما يضرّه في الواقع و ما يكون سببا في هلاكه، و هو لا يعلم بذلك، أو يسأل ما يكون خلاف الحكمة الإلهيّة - كما في تمنّيهم - و هو يلحّ في الدعاء و المسألة.

ص: 151

كما يرشدهم إلى أن لا يسأل أحد ما في أيدي الناس و لا يكون همّه مجرّد الحيازة على ما تشتهيه النفس، بل لا بد من إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ ليرفع حاجته بما يعلمه خيرا عنده، فيرجع الأمر إليه و إلى فضله العظيم، بحسب حكمته المتعالية، و ايكاله الى علمه بحقائق الأمور.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً .

تعليل للنهي عن التمنّي بما لا يستقيم الحياة به، و بيان لصدر الآية الكريمة أيضا، فاللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و هو يعلم أيضا حال الاجتماع و استقامته - عند ما يقوم كلّ جنس بوظيفته التكوينيّة - و اضطرابه حين ما يختلّ و يأخذ كلّ جنس بوظيفة الجنس الآخر، فلا تتمنّوا ما خصّ اللّه تعالى به كلّ فرد، فإنّ اللّه تعالى يعلم مصلحة الكلّ ، و يعلم حال المجتمع و حقيقة الأمر، و لا يخطأ في حكمه، فاطلبوا ما يوجب سعادتكم.

قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

بيان لفرد من أفراد الحكمة الإلهيّة التي لها اتصال وثيق بالمجتمع الإنساني، و هو رعاية الأطراف في الميراث، إذ من المعلوم أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان من الأقارب و الأرحام و ما يحيطون به كإحاطة الأكليل بالرأس، كالآباء و الأجداد، و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأعمام و الأخوال، و أولادهم.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى إعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه، فقد جعل اللّه تعالى لكلّ موالي الإنسان حقّا و نصيا ممّا تركه القريب، فهذه الآية المباركة إجمال بعد تفصيل أحكام الميراث، و وصية لتنفيذ تلك الشرائع التي شرّعها في الآيات السابقة حسب ما شرّعه و أبداه.

و الموالي جمع مولى على وزن (مفعل)، و هو إما أن يكون صفة فيكون مصدرا ميميا، أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبّس بالصفة، لتمكّنها و قرارها في موصوفها، و مثل ذلك شائع، و يراد به الولي من ولي بالشيء يليه ولاية. و هو

ص: 152

الاتصال بالشيء من غير فاصل، و بهذه العناية تستعمل في مصاديق متعدّدة - فلا يكون - من المشترك كما ادعاه جمع - كالسيد و المعتق، و المعتق لقرب أحدهما من الآخر و اتصاله به و ولايته عليه، و الناصر لولايته على المنصور و اتصاله به، و ابن العمّ لقربه و اتصاله ببنت العمّ و غير ذلك، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من مائة و خمسين موضعا.

و المراد به في المقام: الأولى بالميراث، و هم الذين وردت أسماؤهم في ما بعد؛ لأنّهم اولوا الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض.

و التنوين في (الكلّ ) عوض عن المضاف إليه، و المعروف أنّ (كلّ ) هي بمعنى الإحاطة و العموم، و لا تأتي مفردة، فإذا كانت كذلك فلا بد من التقدير، و هو في المقام الصنفان المذكوران في صدر الآية المباركة، و هما صنف الرجال و صنف النساء.

و المعنى: و لكلّ صنفي الرجال و النساء أولياء يرثونهم بمقتضى قانون الأقربيّة، و أنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، أو الولاء إن لم يكن هناك رحم، فهم يرثونه ممّا تركه من الأموال.

و (من) في مِمّا تَرَكَ للابتداء - أي من أجل ما ترك - متعلّق بالموالي؛ لأنّه الوارث، أو متعلّق بمحذوف، أي: يرثون ممّا ترك، و هم الوالدان و الأقربون و الذين عقدت أيمانكم.

فالآية الشريفة إجمال بعد تفصيل ذكره عزّ و جلّ في الآيات الكريمة السابقة، و هم الآباء و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأزواج و غيرهم، فيكون المراد بالموالي جميع من ذكره عزّ و جلّ في آيات الإرث السابقة.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ .

المشهور: «عقدت» مخففة القاف بغير الف، و قرئ: (عاقدت) بالألف، و قرأ بعضهم: (عقدت) بتشديد القاف على التكثير. و المفعول في جميع القراءات

ص: 153

محذوف، و تقديره: عهودهم أو مولويتهم و نحو ذلك، و العقد مقابل الحل، و الأيمان جمع اليمين، و هي مقابل اليسار، و تطلق على الحلف و القسم؛ لأنّها هي التي تعطى عادة عند العهد، فأطلق المحلّ على الحال.

و الفاء في: فَآتُوهُمْ للتفريع أو لتضمّن المبتدأ معنى الشرط، و النصيب هو الإرث من التركة.

و قد اختلفت المفسّرون و العلماء في المراد بهم، فقيل: إنّهم الحلفاء، فقد كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، ليس بينهما نسب، فيقول: «دمك دمي، و هدمي هدمك، و سلمك سلمي، و ترثني و أرثك، و تطلب بي و اطلب بك»، فيكون للحليف السدس من مال الحليف، فيكون معنى الآية الشريفة: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [سورة الأحزاب، الآية: 6]، فتكون الجملة حينئذ مقطوعة عمّا قبلها.

و قيل: إنّ المراد بهم الذين آخى بينهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة، فكانوا يتوارثون بينهم من دون رحميّة، ثمّ نسختها آية المواريث، ثم أمرهم بإيتاء نصيبهم من النصرة و النصيحة و الرفادة و الوصية.

و قيل: إنّ المراد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنّونهم في الجاهلية، فأمروا بإيتاء نصيبهم في الإسلام من الوصية.

و قيل غير ذلك.

و قد استدلّوا بجملة من الروايات التي دلّت عليها، و لكنّها متعارضة فيما بينها.

فالصحيح أن يقال: إنّ الحكم في الجملة مطلق يشمل إرث الزوجين و ضمان الجريرة، و الإمام عليه السّلام الذي يبتني إرثهم على المعاقدة و المعاهدة، و إن كان توريث كلّ واحد منهم يحتاج إلى شروط و مخصّصات، لكنّها يعلم من موضع آخر في الكتاب أو السنّة أو إجماع الأصحاب.

ص: 154

و على ذلك لا تكون الآية الكريمة منسوخة، إلا أنّ الأمر الذي يستفاد من هذه الجملة أنّ ميراث الذين عقدت أيمانهم و ولاؤهم متأخّر رتبة عن ولاء اولي الأرحام و الأقربين.

و أما إرث الإمام عليه السّلام، فهو متأخّر عن الجميع بمقتضى الآية الكريمة و الروايات الواردة في السنّة.

و يدلّ على ما ذكرنا من شمول الآية الشريفة للزوج و الزوجة و ضمان الجريرة، و ولاء الإمام، فإن الثلاثة مسبّبة عن المعاقدة و المعاهدة التي تقع بين الأطراف، و قد أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، قال عزّ و جلّ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، لا سيما بعد تفسيره بالعهود و أطلق عقدة النكاح على الزواج الذي هو مسبّب عن عقد النكاح، قال تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ [سورة البقرة، الآية: 235]،

و ما ورد في تفسير الآية الشريفة عن الرضا عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك الأئمة عليهم السّلام بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم». فإنّ يمين الولاء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام قد أخذها اللّه تعالى على عباده، و أمر عزّ و جلّ بالوفاء بعهدها الذي من مصاديقه إعطاء الإرث لمستحقّه، و سيأتي نقل بعض الروايات في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً .

الشهيد: الرقيب الذي يعلم خفايا الأمور، و المطّلع على جميع الخصوصيات، أي: أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء، حاضر لا يغيب عنه شيء، فهو مطّلع على الإيتاء و الخيانة، فاحذروا منه عزّ و جلّ ، فلا تخونوهم نصيبهم الذي كتبه اللّه عزّ و جلّ لهم.

و الآية المباركة تأكيد لحكمه السابق، و فيها وعد و وعيد.

قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بيان لأهمّ حكم نظامي، و قد صار مثلا قرآنيّا يتضمّن حكما تربويّا

ص: 155

إرشاديا إلى النظام الأحسن - و منه نظام العائلة و الاسرة - الذي نظّم في الإسلام تنظيما دقيقا، و هذّبت علاقاتها حتّى تؤدّي وظيفتها بأكمل وجه في المجتمع الإنساني، و قد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة قوامة الاسرة و العائلة، التي هي عمودها المقوّم لها، و بدونها تنهدم و ينفرط عقدها و تسيء أحوالها و تتخلّى عن وظيفتها التي قرّرت لها، و ذكر عزّ و جلّ أنّ هذه القوامة تتضمّن من الأحكام و التبعات التي لا بد من أن يكلف بها الأصلح من أفراد المجتمع، و ليست هي قضية منافسة بين الرجل و المرأة و جدال و صراع بينهما، كما تراه الجاهلية المعاصرة، فإنّ الإسلام إنّما بنى العلاقات الاجتماعيّة على المودّة و الرحمة لا على الشقاق و الجدال.

و الآية الشريفة الكريمة تبيّن أنّ الأصلح لهذه المهمّة هو الرجل، لمّا فضّله اللّه تعالى بأمور تجعله صالحا لهذه المهمّة، و هي على ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة و من هذه الآية المباركة، القوّة و شدّة البأس، و زيادة التعقّل، بخلاف المرأة التي لم يهمل الإسلام شأنها في المجتمع، فإنّ حياتها تبتني على حياة إحساسيّة عاطفيّة، و هذه الجهة تستدعي حياة الدعة و الرفق، و لا يمكنها النهوض لتحصيل الرزق الذي يستدعي القوة و رباطة الجأش، و هذا هو مقتضى قانون الفطرة، و الإسلام لم يخرج عنه، فإنّه دين الفطرة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].

و القوامة - هذه التي جعلها اللّه تعالى للرجل أو يتطلبها ناموس الفطرة - لم تختصّ بجهة معينة، فإنّها مطلقة بما فضّل اللّه تعالى الرجل على المرأة، فالرجال قوامون على النساء في الحياة المعيشيّة، كطلب الرزق و حفظ شؤون المجتمع، كالقضاء و الحرب و نحو ذلك، و ليس معنى ذلك أنّ المرأة تحرم من الملك و الشؤون الاجتماعيّة لكي تخضع للرجل، كما كانت عليه في غابر العصور، فليس الإسلام

ص: 156

دين سلب - للحقوق - و ابتزاز، و هو لم يحرم أحدا ممّا خلقه اللّه تعالى، لأجله بل الإسلام لم يكلّفها بأمور هي من شأن الرجل بمقتضى خلقته. و لذا نرى أنّ المرأة حينما تحرّرت - على ما تدّعيه الجاهلية المعاصرة - و صارت تنفق و تشارك الرجل في جميع ما خصّه اللّه تعالى به و رفضت قوامة الرجل عليها، حلّ بالمجتمع أنحاء الشقاء و جلب التعب للإنسان و حرمه من السعادة المرجوة.

و لقد حفظ الإسلام حقوق المرأة بما تتطلبها خلقتها الأصليّة، فذكرها عزّ و جلّ بأبلغ وجه و أحسن مدح، قال تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ، الذي يتضمّن الجانب الآخر من الحياة الاسريّة، و هو حفظ العهود و القيام بشؤون الاسرة و تربية الأولاد بأمانة و صلاح.

ثم إنّ (قوامون) جمع قوّام فعّال مبالغة من القيام على الشيء، أي: تدبيره و النظر فيه و إصلاح شؤونه و حفظه بالاجتهاد، و منه القيّم على الأيتام، و المراد من المبالغة في المقام، دوام قيام الرجال على النساء في إصلاح شؤونهن و تثقيفهن و تأديبهن، و ذكرنا أنّ هذه القواميّة من شؤون الفطرة، و قرّرتها الشريعة، فيثبت لهم ذلك بالاستحقاق بما اقتضته الحكمة الإلهيّة في الخلق و حسن النظام. و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع أنحاء القيام الشرعي، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الباء للسببيّة متعلّقة ب: (قوامون)، و عموم العلّة يقتضي عدم اختصاص الحكم بالأزواج و إن كانت الاسرة و الزوجية من أظهر أفراد ظهور الحكم فيها، و يدلّ عليه أخذ كلمتي (الرجال و النساء) في الحكم دون الأزواج، فهو مجعول لجنس الرجال الذين فضّلهم اللّه تعالى في خلقتهم على النساء اللواتي خلقهن اللّه عزّ و جلّ لأمور اخرى، و كلّ ذلك حسب ما اقتضته الحكمة الإلهيّة من خلق الصنفين من الإنسان بما زوّده من الفضل؛ ليستقيم أمر الاجتماع و تستحكم الروابط و يشتدّ الارتباط و تنتظم الاسرة و يحسن النسل، و قد كان فضل ذي فضل نعمة على المفضول.

ص: 157

قوله تعالى: وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ .

بيان لأحد مصاديق الحكم السابق، و قد كلّف اللّه تعالى الرجال بالإنفاق على النساء، لما خلقهم اللّه تعالى من القدرة فيهم على طلب الرزق، و أعفى المرأة عن البحث عن الرزق، و لم يضع عليها شيئا من التكاليف الماليّة على الرجال؛ لأنّ اللّه تعالى خلقهنّ لأمر يخصّهن، و هو تربية الأولاد و القيام بشؤون الاسرة، و لم يسلب الإسلام الملكية عنهن كما يدّعيه بعض المعاندين، فلم يحرمهن من التملّك و لا التصرّف في ما تملك، بل لم يكلّفهن بالإنفاق من أموالهن إلا في موارد خاصّة.

و إنّما خصّ الإنفاق بالذكر؛ لأنّه من أهمّ مصاديق القواميّة، و تمهيدا لذكر أحكام الاسرة و الزوجيّة.

قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ .

بيان لحالة الاسرة الصالحة و العائلة السعيدة ضمن المجتمع الإنساني الكبير، تطبيقا لذلك الحكم الكلّي المبتني على الفطرة المستقيمة.

و قد صوّر عزّ و جلّ لنا الحياة داخل الاسرة التي تكون المرأة تحت رئاسة الرجل و قيمومته، فذكر أمورا ثلاثة لسعادة هذه الحياة، و هي: الصلاح و القنوت و حفظ الغيب.

و يراد من الأوّل الاستقامة و لياقة النفس و رضاها بما تمليه الفطرة السويّة.

و القنوت: هو دوام الطاعة و الخضوع للّه تعالى و امتثال أحكامه المقدّسة،

و في الحديث «تفكّر ساعة خير من قنوت ليلة».

و الغيب - و الغياب و الغيبة مصدر غاب - خلاف الشهود، و لما كان للغيب حرمه، فلا بد من حفظه، و ما في بِما حَفِظَ اَللّهُ مصدريّة و الباء للآلة، أي:

بحفظ اللّه لهنّ ، أو تكون الباء للمقابلة، اي: يحفظن الحقوق مقابل حفظ اللّه تعالى لحقوقهن و حرمتهن. و يصحّ أن يكون (ما) موصولة، و العائد في (حفظ) ضمير

ص: 158

نصب محذوف. و الحفظ هذا يشمل حفظ العرض و المال و أسرار الزوجيّة، و حفظ العهود التي عاهدت الزوجة مع الزوج بأن لا تخونه في غيبته.

و الآية المباركة تبرز الصفات الحسنة التي ينبغي للنساء أن يتّخذنها لأنفسهن و تتحلّى بها الزوجة الصالحة، فإنّ عليها تقوم الاسرة المؤمنة التي أراد الإسلام لها السعادة في الدارين، فبالصلاح تطمئن النفس و تقبل ما فرض اللّه تعالى عليها و تستريح إلى وضع الفطرة، و ترفض العصيان و الفجور.

و القنوت هو الباب الذي تدخل فيه السكينة و الرحمة، و النفس القانتة هي المستقيمة المسألة التي تحبّ الهدوء و الدعة، و تكره المشاكل و المتاعب، و إنّ المرأة القانتة تعمل و تجدّ و هي مطيعة للّه تعالى خاضعة له عزّ و جلّ .

و الحفظ للغيب هو الجزء المكمّل للإيمان، و به يدخل السلام و الاطمئنان في البيت، و به يتمّ الهدوء في الحياة الزوجيّة، و هذه الأوصاف تصوّر لنا الاسرة السعيدة الهنيئة، التي هي بنية المجتمع كلّه، الذي يتكوّن من أسر مترابطة متكافلة.

و المستفاد من الآية الكريمة أنّ صلاح المرأة إنّما يكون في القنوت و حفظ الغيب، فيكون القيدان تفسيرا للصلاح في المقام، و لا صلاح لها في غيرهما، فالآية الشريفة ردّ لمزاعم من يقول بأنّ الصلاح في المرأة غير ذلك، كما عليه الجاهلية المعاصرة.

قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ .

بيان لصورة اخرى من الحياة الزوجيّة، التي قد تخلّف فيها بعض تلك القيود الموجبة لصلاحها، فتكون للزوجة حالتان، حالة الصلاح التي بيّنها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة، و حالة النشوز التي تخرج المرأة عن الصلاح، فتصير غير مستقيمة في أخلاقها و معاشرتها مع زوجها، فلها وضع آخر غير ما كانت عليه عند الطاعة و القنوت، فالآية الكريمة تبيّن حكمين مختلفين لحالتي المرأة، و لا ثالث لهما.

ص: 159

و مادة نشز تدلّ على الارتفاع، و منه قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا [سورة المجادلة، الآية 11]، أي: ارتفعوا و انهضوا إلى الجهاد و الحرب، أو أمر من أمور الدين، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أربعة موارد، و في وصف خاتم النبوّة: «بضعة ناشزة»، أي: قطعة لحم مرتفعة عن الجسم،

و في حديث نشر الحرمة بالرضاع: «لا رضاع إلا ما نشز العظم»، أي: رفعه و أعلاه.

و المراد به في المقام ارتفاع الزوجة بخروجها عن طاعة زوجها طغيانا، و عصيانها عليه و تباعدها عنه تمرّدا. و لا إشكال في أنّ ذلك لا يتحقّق دفعة واحدة، بل بالتدرج ابتداء من القول و الفعل و الأخلاق حتّى تصل إلى مرتبة شديدة منذرة بالنشوز الوخيم و الطغيان في الخروج عن الاستقامة و الموافقة، فيكون ابتداء ذلك هو مقام الخوف الذي هو ظهور علامات النشوز، و قد شرّع اللّه تعالى في الاستصلاح أحكاما خاصّة تتناسب مع تلك الدرجات، فابتدأ بالموعظة، و هي اولى درجات الإصلاح، و هي واضحة لا تحتاج إلى بيان، فتشمل كلّ ما يرجى تأثيره فيها، و لذا أطلق عزّ و جلّ كلّ ما له قابلية التأثير من أنحاء المواعظ، كالترغيب في الثواب و الترهيب عمّا يترتّب على المخالفة، و بيان و بال النشوز و سوء عاقبة المخالفة، و لا يختصّ الوعظ بلفظ معين، و ما ورد في بعض الروايات إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق.

قوله تعالى: وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ ضرب آخر من ضروب التأديب، بعد تحقّق مرتبة اخرى، من مراتب النشوز غير المرتبة الاولى التي لم تؤثّر فيها الموعظة، فلا بد من إجراء فعل آخر أبلغ في التأثير من الأول، و هو الهجران في المضاجع مع حفظ المضاجعة بما يؤثّر في دلالها و تعلم بأنّ الأمر جدّ، فلا فاعليّة لما تفعله من أسباب النشوز، و للهجران في المضاجع مراتب أيضا، و لا يتحقّق الهجران كذلك في ترك الكلام مع إقباله عليها بمقاديم بدنه، فإنّ ترك الكلام قد يتحقّق لأجل الكسل و الفكر

ص: 160

و النعاس و نحو ذلك، مع أن الهجران كذلك لا يكون عملية تربويّة إصلاحية، فإنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو الإصلاح و التربية، و ليس مجرّد إظهار الرجل سلطنته و استعلاءه على المرأة.

ثمّ إنّ الهجر من الهجران، و هو البعد ضدّ الوصل، يقال: هجره، أي: تباعد و نأى عنه،

و في الحديث: «و من الناس من لا يذكر اللّه إلا مهاجرا»، أي: بعيدا عن الإخلاص، كأنّ قلبه مهاجر للسانه، و بينهما بعد و غير مواصل له.

و المضاجع جمع المضجع، و هو محلّ المبيت و السكن و الراحة، و الاضطجاع أي: النوم،

و في الحديث: «كانت ضجعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدما حشوها ليف»، أي:

كانت مخدته التي ينام عليها من جلد حشوها من ليف.

و إنّما جعل المضاجع محل الهجران ليعلم أنّه لا بد من حفظ المضاجعة، فلا يتحقّق بهجر المضجع، فإنّ الاجتماع فيه يثير الشعور، و الهجران فيه له الأثر البليغ.

و إتيان الجمع إما لأجل ملاحظة مجموع المضاجع التي يتّخذها الرجل للمبيت مع المرأة، أو لأجل بيان حفظ المضاجعة في الهجران دون تركها، كما ذكره جمع من المفسّرين و اعتمدوا على ما ورد من ابن عباس، قال: «لا تضاجعها في فراشك»، فإنّه موهون بمعارضته مع غيره، مع كونه خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّة على كون المضاجع ظرفا للهجران، إلا أن يتكلّف في تأويل الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ اِضْرِبُوهُنَّ .

عقاب بدني لمن لم تصلحها الموعظة و لا الهجر في المضاجع، و إنّما تصل النوبة إليه عند بلوغ النشوز مرتبة لا يؤثّر فيها إلا تأديب يناسبها، فإنّ من الناس من لا يفيده إلا هذا النوع من التأديب، فلا بد فيه من إظهار أنّ الرجل له سلطة التأديب، و لكن لم يطلق الإسلام العنان له، فقيّده بأن لا يكون مبرّحا كما ورد في السنّة الشريفة.

ص: 161

و المبرّح هو ما يوجب المشقّة و الشدّة، و السرّ واضح، فإنّ الضرب و الهجران في المضاجع و الموعظة وسائل للزجر و التأديب، و إنّما جعلها سبحانه و تعالى لأجل التوصّل إلى إصلاح المرأة و إرجاعها إلى الطاعة، فلا بد من أن لا يؤتى منها خلاف المقصود، فهي ليست وسيلة لإرضاء غرور الرجل و لا سببا لإذلال المرأة و مهانتها، بل هي عملية إصلاحيّة تربويّة لا بد من ملاحظة التقوى فيها، و قد اهتمّ سبحانه و تعالى بذلك؛ لأنّ الاسرة بنية صغيرة من بنيان المجتمع الكبير، الذي يتركّب منها و من غيرها و يصلح بصلاحها و يسعد بسعادتها.

قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً بيان لغاية تلك الأحكام الإلهيّة المتقدّمة، أي: أنّ الوسائل التي شرّعها عزّ و جلّ لإصلاح الزوجة بعد نشوزها، إنّما هي لأجل رجوعها إلى الطاعة بترك النشوز، فإذا تحقّق فلا يجوز التعدّي عليهن باتخاذ العلل في إيذائهن.

و من ذلك يظهر أنّه إذا اكتفى بالأدنى من تلك المراتب الثلاثة في إرجاع المرأة إلى الطاعة و الصلاح، لا يجوز التعدّي إلى المرتبة العليا، فإنّه من البغي عليهن، فليس المقام مقام إظهار قوة الرجل و غروره و استكباره عليهن، كما عرفت آنفا، بل إنّما شرّعها عزّ و جلّ لأجل الإصلاح و الإرجاع إلى الطاعة، فالتعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى يكون بغيا و عدوانا و خروجا عن طاعة اللّه تعالى.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ البغي دون غيره، لبيان أنّ الخروج عمّا شرّعه سبحانه و تعالى، هو بغي و تجاوز عن الحدّ و ظلم عليهن.

و المستفاد من الآية الشريفة الاكتفاء بالظاهر من الإطاعة و لم يكلّف الرجل بما وراء ذلك، فلا يجوز البحث عن السرائر، فإنّ علمها عند اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تهديد لمن يريد الخروج عن طاعة اللّه بالبغي على النساء و التعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى فيهن، فإنّ اللّه جلّ شأنه عليّ في أحكامه و قدرته، و سلطانه

ص: 162

فوق كلّ سلطان، حكيم في أفعاله لم يشرّع من الأحكام إلا بما يرشد الناس إلى سعادتهم، و هو كبير في جلاله و كبريائه، فإذا دعتكم قدرتكم على ظلمهن فتذكروا قدرة اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الخطاب لمن تعنيه شؤون الزوجيّة بحكم الروابط العائليّة، أو لأجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإصلاح بين الناس، فإنّهم المكلّفون بتنفيذ الأحكام الإلهيّة عند ظهور المنافرة بين الزوجين و إخافتهم عاقبة ذلك.

و الشقاق الخلاف و البينونة مأخوذ من الشقّ الذي هو نصف الشيء،

و في الحديث «اتقوا النار و لو بشقّ تمرة» أي: نصف تمرة. و المراد منه لا تستقلوا من الصدقة شيئا و لو يسيرا مثل نصف التمرة، و قال تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ [سورة النحل، الآية: 7]، كأنه ذهب نصف أنفسكم حتّى بلغتموه، فالمراد منه كمال المشقّة، فكأن استمرار الخلاف بين الزوجين أوجب انشقاق الائتلاف بينهما إلى شقّين متباينين في العداوة و البغضاء، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ [سورة البقرة، الآية: 137] اشتقاق الكلمة فراجع.

و إضافة الشقاق إلى (بين) إما لإجراء الظرف مجرى المفعول أو الفاعل.

و قيل: إن (بين) اجري مجرى الأسماء و ازيل عنه الظرفيّة.

قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها الحكم - بالتحريك - هو من ينصّب للتحكيم، و المراد بالبعث في المقام هو توجيه الحكمين إلى الزوجين لإصلاح ذات البين. و إنّما أمر عزّ و جلّ بنصب الحكمين - حكم من أهل الزوجة و حكم من أهل الزوج - ليكونا أبعد من الجور و التعسّف.

و إنّما ذكر الأهل لأنّهم أقرب إلى الاطلاع على الخفايا و مناهج الصلاح،

ص: 163

و لا بد أن يكون الحكم صالحا للتحكيم و قادرا على حلّ النزاع و رفع الخلاف بحسن التدبير في حلّ جميع المنازعات، و يعتبر الاطمئنان بأمانتهما، فإن بها تتمّ الفائدة المرجوة من بعثهما.

و إطلاق الآية الشريفة ينفي كلّ قيد في المقام، كما أنّ مقتضاه هو ثبوت حقّ التفريق لهما، إلا أنّه استفاضت الروايات أنّ حكمها بالفراق موقوف على إذن الزوجين، أو الشرط الضمني، و بها يقيّد إطلاق الآية الشريفة، و سيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما ظاهر السياق أنّ الضمير يرجع إلى الحكمين، أي: إن أراد الحكمان إصلاح شأن الزوجين، و كان من نيتهما الصلاح و الإصلاح فقط، دون ترجيح أحد الجانبين على الآخر عنادا و لجاجا أو رغبة لأحدهما دون الآخر، فإن اللّه تعالى يوفّقهما للحقّ و يجمع رأيهما على الصواب، لرجوع الأمور كلّها إليه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أي: أنّ اللّه عليم بحقائق الأمور و أحوال العباد و مصالحهم، خبير بنيّاتهم و ما تطويه ضمائرهم.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يرشد قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ إلى أهمّ حقيقة من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم بأسلوب لطيف يجذب القلوب و تطمئن إليه النفوس، يشعر المخاطب بأنّ ما قسمه اللّه تعالى

ص: 164

لعباده من فضله تعالى، و أن ما يكسبه كلّ فرد من أفراد الإنسان إنّما هو نتيجة اختلاف القرائح و الاستعدادات و التفاوت في سبل العيش و مزايا الحياة، و هذه الآية الشريفة هي الحدّ الفاصل بين الخيال و الحقيقة، و أنّ الحياة لا تقوم على الأول منهما و أنّ التشكيك في تلك الحقيقة لا يزيد الإنسان إلا بعدا عن الواقع، و لا يجتني منه إلا الفساد، و لذا نهى عزّ و جلّ عن تمنّي ما هو خلاف ما فضّل اللّه تعالى؛ لأنّه من موجبات الفوضى، و اللّه تعالى يأبى ذلك، فأرشد عزّ و جلّ الإنسان إلى ما هو الأصلح له، و هو التطلع إلى فضل اللّه تعالى و تمنّي ما يكون سببا في سعادته.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الحياة لا تقوم إلا بالجهد و العمل، لكن مع طلب التأييد و التوفيق من اللّه عزّ و جلّ ، و لذا عقّب سبحانه و تعالى هذه الآية الشريفة بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ ، تأكيدا لذلك، و لدفع كلّ وهم، فإنّها تدلّ على أنّ الطريق الصحيح هو العمل دون مجرّد التمنّي.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ على أنّ الحقيقة التي تبتني عليها الحياة هي العمل و الجد و الاجتهاد، لا مجرّد التمنّي و الوهم و الخيال، و أن التفاوت بين كلّ واحد من الصنفين إنّما يكون بالعمل، و الحياة ليست مجرّد صراع بينهما، بل اللّه تعالى خلق الرجال لمهمة كما خلق النساء لمهمة اخرى، و أنّ بهما تستقيم الحياة، و قد خلق عزّ و جلّ الجنسين ليوجد بهما السكن و الراحة و المودّة، كما تقتضيه قانون الفطرة، و كلّ ما هو خلاف ذلك لا يجدي إلا حسرة و ندامة و فسادا.

و يمكن أن تشير الآية المباركة على العلّتين اللتين يقوم بهما النظام، هما العلّة الفاعلة و العلّة المنفعلة، و بهما ينتظم النظام الأحسن و تستقيم الأمور، فلا بد من قيام كلّ واحدة من العلّتين إلى جانب الاخرى و العمل بوظيفتها فردا

ص: 165

و اجتماعا، و يشهد لما ذكرنا ذيل الآية الشريفة: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ، فإنّ من شأن العلّة المنفعلة أن تحفظ ما عليها من العلّة الفاعلة، و ما أودعت فيها من الأسرار.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أنّ المفضّل عليه من المفضّل، لا أن يكون مباينا له، و تشير الآية الكريمة أيضا إلى أنّه لا بد من التحلّي بصفة الخضوع و الطاعة و الإيمان بأمر اللّه تعالى، و ما قسمه عزّ و جلّ بين عباده.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ على لزوم رعاية العدل و الحقوق، بعد النهي عن سوء التمنّي الذي يجلب الفوضى، فأمر عزّ و جلّ بإعطاء حقوق الأطراف من الأقارب في الميراث، و هم الأجداد و الأعمام و الأخوال و أولادهم و الإخوة و الأخوات و أولادهم، على ما فصّله عزّ و جلّ في الآيات السابقة.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ على أنّ الرجولة من مقتضيات قوامية الرجال على النساء، و أنّها من شؤون خلقهم و فطرتهم، و المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ القواميّة هذه الثابتة للرجال ليست قوامية سلطة و ابتزاز و جبروت، بل هي قواميّة حفظ و عناية و رحمة لقيام الاسرة و حفظها عن الانهيار و عدم اضطراب أحوالها، فهي ليست ثابتة للرجال نتيجة منافسة و تسابق بين الطرفين، فاستحقّها الرجال لغلبتهم على النساء، بل هي تكاليف خصّ اللّه تعالى بها الرجال لتعيش المرأة في كنفهم بمودّة و رحمة، كما دلّت عليه آيات مباركة اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و من هذه الآيات الشريفة نستفيد عناية الإسلام بالاسرة و تنظيمها تنظيما دقيقا في كلّ علاقاتها، و ملاحظة جميع جوانبها النفسيّة و التربويّة و الأخلاقيّة، و مراعاة تلك تؤدي الاسرة وظيفتها الحيويّة في المجتمع الكبير، خلافا للجاهلية

ص: 166

المعاصرة، فإنّها نزّلت الاسرة - و لا سيما المرأة - إلى أدنى مراتبها، فحصل الشقاء و الدمار.

السادس: يستفاد من تكرار قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أنّ التفضيل لطائفة على طائفة اخرى إنّما يكون من اللّه تعالى لمصالح واقعيّة، حفظا للنظام العامّ ، و إيصالا لكلّ مخلوق إلى ما يستحقّه من الكمال، وردّا للمزاعم التي تثبت التفضيل لطائفة على اخرى لاستحقاقها، و لئلا يتّخذه أحدهم وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين و الظلم عليهم، و لعلّ السرّ في التكرار أيضا لا لاعلام المفضّل بأنّ التفضيل من اللّه تعالى و انّه لا بد له من ملاحظة ذلك فهو منحة ربوبيّة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ على أنّ القواميّة الثابتة للرجال لا توجب الحطّ من قدر النساء اللواتي خلقهن اللّه تعالى لمهمة اخرى، فإنّ كرامتهن و منزلتهن عند اللّه تعالى لا تقلّ درجة عن درجة الرجال، فقد أودع عزّ و جلّ فيهن الأمانة التي يجب عليهن القيام بها و حفظها، و شرّع لهنّ أحكاما خاصّة لتسهيل مهمّتهن، و قد ذكر عزّ و جلّ في المقام صفات جليلة تدلّ على سمو منزلتهن، كما عرفت في التفسير.

الثامن: يستفاد من تفريع قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ على قوله تعالى: بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، أن المطلوب من المرأة بعد أمر اللّه تعالى للرجل بالإنفاق عليها، هو الصلاح و الاستقامة في أخلاقها و أمورها داخل الاسرة، ثم يبيّن عزّ و جلّ أنّ الصلاح منها في المقام هو القنوت و الطاعة للّه تعالى و للزوج، و حفظ الغيب، و هما صفتان تظهران المرأة بأحسن حال، و تبرزان الزوجة الصالحة في خير الصفات، فإنّ القنوت للّه تعالى يوجب دخول السكينة في البيت و الطمأنينة على قلوب أفرادها.

و بالقنوت تكون النفس راضية بما قسمه اللّه تعالى لها، و معرضة عمّا

ص: 167

يوجب النفرة و النزاع، و بالحفظ تكتمل أركان السّلام في البيت، فتكون الاسرة الجامعة لهذه الصفات كاملة سعيدة.

التاسع: يبيّن قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ، صورتين من الصور التي تعترض على الاسرة حينما يختلّ فيها بعض مقومات سكنها و هدوئها، فقد ذكر عزّ و جلّ صورة نشوز المرأة و صورة الشقاق بينها و بين الرجل، و سيذكر سبحانه و تعالى صورة نشوز الرجل في آخر هذه السورة أيضا، و في جميع هذه الصور لا تؤدّي الاسرة وظيفتها الحيويّة، و لا تتّصف بالسكن و الطمأنينة، و لا يتهيأ لها الظروف الطبيعيّة لتربية النشء السليم، ثم بيّن عزّ و جلّ أمورا لا بد من إجرائها لإصلاح الخلل الواقع فيهما، كما عرفت في التفسير.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ على أنّ للرجال قيام الولاية على النساء، و علّل ذلك بأمرين:

أحدهما: أمر طبيعي موهوب من اللّه تعالى، و هو ما ذكرناه في خلقة الرجال، مثل كمال العقل و حسن التدبير، و مزيد القوة في الأعمال و الطاعات، بما يهيئهم للتصدّي بأمور خاصّة لا يمكن للنساء التصدّي لها، كالنبوّة و الإمامة و الولاية، و إقامة الشعائر، و الجهاد و نحو ذلك، و يشير إلى هذه العلّة قوله تعالى:

بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الثاني: كسبي، و هو الإنفاق على النساء، و قد أشار إليه بقوله تعالى: وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ كما عرفت في التفسير.

و إنّما أتى بضمير الجمع في الآية المباركة للدلالة على أنّ مجموع الرجال من حيث المجموع لهم التفضيل على مجموع النساء كذلك، لا أنّ كلّ واحد من الرجال له التفضيل على كلّ واحدة من النساء، فإنّه ربّ امرأة أفضل و أفقه من رجل، بل من كثير من الرجال.

ص: 168

و بعبارة اخرى: أنّ المراد إثبات تفضيل الصنف على الصنف، لا تفضيل الشخص على الشخص.

الحادي عشر: يمكن أن يراد من الرجال في قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، الذين صدقوا ما عاهد اللّه عليه، الذين وهبهم اللّه تعالى كمال الانقطاع إليه عزّ و جلّ و أفاض عليهم العقول الكاملة، و أن يكون المراد بالنساء مطلق من لم يصل إلى تلك المرتبة من الرجال، فتكون القوامية هي قوام التنظيم، و هو من أهمّ إفاضات الباري عزّ و جلّ على أوليائه؛ لأنّهم جعلوا الدنيا تحت أقدامهم، فجعل اللّه تعالى جزاء ذلك أمر العالم تحت اختيارهم، و يدلّ على ما ذكرناه جملة من الأخبار.

الثاني عشر: تصوّر الآية الشريفة: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ الزوجة التي هي ربّة البيت و سيدة المجتمع التي تربّت بالتربية الإلهيّة الكاملة.

و ترشد الآية المباركة إلى أنّ التحفّظ على الغيب لا بد أن يكون على نحو ما علّمها اللّه تعالى، و لعلّ

ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «جهاد المرأة حسن التبعّل»، و كذا ما ورد عن أوصيائه الكرام التي جمعها الفقهاء و المحدّثون و علماء الأخلاق، مأخوذ من الآية الكريمة، فتصحّ المعاشرة و يصلح الأولاد و تترتّب عليها الآثار المطلوبة، فإنّ صلاح البيت بصلاح ربّتها، كما أنّ صلاح المملكة بصلاح رئيسها، و لأجل أهميّة الموضوع فقد تصدّى سبحانه و تعالى لرعاية هذا الإصلاح و الصلاح، فقال تعالى: بِما حَفِظَ اَللّهُ ، فالرجال قوّامون خارج البيت، و المرأة الصالحة ربّة البيت و القيمة عليها، و ليس المراد من القواميّة للرجال قوام الجبروت و الاستيلاء، بل المراد القواميّة في الحوائج الشرعيّة المتعارفة و تنظيم الاسرة الكاملة، كما عرفت.

ص: 169

بحث روائي

في الكافي: بإسناده عن إبراهيم بن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ليس من نفس إلا و قد فرض اللّه له رزقها، حلالها يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا من الحرام فأصابها به من الحلال الذي فرض لها و عند اللّه سواهما فضل كثير، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

أقول: يظهر من هذه الرواية ما ذهب إليه جمع من المتكلّمين من أن الرزق يكون من الحلال لا من الحرام، فلا بد من أن يحمل على ما يرزقه اللّه تعالى لعباده، لا على ما يختاره العباد بأنفسهم لأنفسهم.

و يمكن الجمع بذلك بين القولين، فإنّه من عمّ الرزق إلى الحرام، أي: الأعمّ ممّا يختاره الإنسان لنفسه، و من خصّه بالحلال، أي: خصوص ما يرزق اللّه به عباده.

و أما فضله، فهو لا يختصّ بالرزق، بل هو زائد على الرزق المقسوم، و هو غير متناه.

و في تفسير العياشي: عن عبد الرحمن بن أبي نجران: قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ؟ قال: لا يتمنّى الرجل امرأة الرجل و لا ابنته، و لكن يتمنّى مثلهما».

أقول: هذا تفسير لبعض المصاديق، و قد تقدّم الفرق بين التمنّي و الغبطة.

و عن إسماعيل بن كثير رفع الحديث إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لما نزلت هذه الآية: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، فقال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما هذا الفضل ؟ أيكم يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا أسأله عن ذلك، فسأله عن ذلك الفضل ما هو؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق خلقه و قسّم لهم أرزاقهم من حلّها بالحرام، فمن انتهك حراما نقص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام و حوسب به».

ص: 170

أقول: تقدّم ما يتعلّق بمثل هذه الرواية.

و عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه قسّم الأرزاق بين عباده و أفضل فضلا كثيرا لم يقسمه بين أحد، قال اللّه: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في الفرق بين رزق اللّه تعالى و فضله، فإنّ رزقه مقسوم محدود، بخلاف فضله فإنّه لا حدّ له.

و عن علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه قال:

«ليس من نفس إلا و قد فرض اللّه لها رزقها حلالا يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام في وجه آخر، فإن وجه آخر، فإن هي تناولت من الحرام شيئا قاصها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير».

أقول: المراد من العرض بالحرام ليس أنّ اللّه تعالى عرض له بالحرام، بل جعل فيه قدرة و اختيارا، هو يختار الحرام بعمده و اختياره.

و فيه - أيضا -: عن الحسين بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له:

جعلت فداك، إنّهم يقولون إنّ النوم بعد الفجر مكروه؛ لأنّ الأرزاق تقسّم في ذلك الوقت، فقال: الأرزاق موظوفة مقسومة، و للّه فضل يقسّمه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و ذلك قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، ثم قال: و ذكر اللّه بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض».

أقول: الروايات في سياق ذلك كثيرة، و للفضل و الرزق أسباب عديدة، منها ذكر اللّه تعالى بعد صلاة الفجر، و هو أفضلها و أبلغها في الوصول إليه.

و عن الطبرسي في مجمع البيان في قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، أي: لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من النعمة و المرأة الحسناء كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا، و لكن يجوز أن يقول: اللهم اعطني مثله، و هو المروي عن الصادق عليه السّلام.

أقول: الرواية تبيّن الفرق بين التمنّي و الغبطة، و الأوّل مذموم دون الثاني، كما مرّ في التفسير.

ص: 171

و في أسباب النزول بإسناده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قالت أم سلمة:

«يا رسول اللّه، يغزو الرجال و لا نغزو، و إنّما لنا نصف الميراث، فأنزل اللّه تعالى:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ .

و في الدرّ المنثور بإسناده عن عكرمة: «أنّ النساء سألن الجهاد فقلن وددنا أنّ اللّه جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فأنزل اللّه تعالى:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ».

أقول: أمثال هذه الروايات كثيرة، و لا تختصّ الآية الكريمة بما ورد فيها، و إنّما يكون من أسباب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، كما تقدّم مكرّرا.

و في أسباب النزول عن السدّي قال: «لما نزل قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ، قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضّلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، و قالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ».

أقول: إنّ الثواب و الأجر في الآخرة يدوران مدار العمل و السعي مع الإخلاص، سواء كان العامل رجلا أو امرأة، فالتفضيل في الثواب يدور مدار التقرّب و الإخلاص، و تطبيق الآية الشريفة في المقام من باب التطبيق على الفرد.

علي بن إبراهيم في تفسيره قال: «لا يجوز للرجل أن يتمنّى امرأة مسلم أو ماله، و لكن يسأله من فضله إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً ».

أقول: تطبيق الآية الشريفة على المورد من باب أنّه جلّت عظمته عالم بالمصالح و المفاسد، يفيض على عباده من فضله حسب المصلحة و القابلية، و لذا لا يجوز التمنّي و يجوز السؤال من فضله، بل أنّه عبادة لو كان فيه الإخلاص.

و في الدرّ المنثور: عن حكيم بن جبير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سلوا

ص: 172

اللّه من فضله، فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل، و إنّ من فضل العبادة انتظار الفرج».

أقول: و مثله ما عن صحيح الترمذي، و في سياقه روايات كثيرة وردت عن أئمتنا عليهم السّلام، و المراد من الانتظار هو التهيؤ لقبول الحقّ إذا ظهر، و أن يعمل بظاهر الشريعة ما لم يظهر الحقّ .

و المراد بالفرج هو الحقّ الذي سيظهر بين الناس جميعهم و يدعوهم إلى الوحدة و نبذ التفرقة، و يبسط العدل بينهم.

ابن شهر آشوب عن الباقر و الصادق عليهما السّلام في قوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، و في قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، أنّهما نزلتا في عليّ عليه السّلام.

أقول: ذكر بعض المصاديق لا يدلّ على الاختصاص، فيؤخذ بعموم اللفظ، و لكن أجلّه و أفضله هو الولاية.

في الكافي: بسنده عن الحسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ؟ قال: إنّما عنى اللّه بذلك الأئمة عليهم السّلام، بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم».

أقول: و مثله ما عن الرضا عليه السّلام، و العقد يشمل كلّ عقد، خالقيا كان أو خلقيا، و أكمله و أجلّه عقد الموالاة مع أولياء اللّه تعالى و العمل بطريقتهم.

في التهذيب بسنده عن الحسن بن محبوب قال: أخبرني ابن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ ، قال: عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النعمة، فأولاهم بالميت أقربهم إليه، التي تجرّه إليها».

أقول: هذه الرواية تدلّ على قاعدة ذكرناها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام)، و هي قاعدة: «الأقرب يمنع الأبعد»، و لا تنافي بينها و بين ما تقدّم من الروايات؛ لعموم اللفظ الشامل لجميع المصاديق.

ص: 173

و في أسباب النزول للواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: «نزلت هذه الآية: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ في الذين كانوا يتبنّون رجالا غير أبنائهم و يورّثونهم، فأنزل اللّه تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، و ردّ اللّه تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم و العصبة، و أبى أن يجعل للمدّعين ميراثا ممّن ادّعاهم و تبنّاهم، و لكن جعل لهم نصيبا في الوصية».

أقول: لا بد و أن تكون الوصية لا تزيد على الثلث، و إلا يتوقّف على رضاء الورثة كما ذكرنا في كتاب الوصية من (مهذب الأحكام)، و أنّ الإرث على حسب المراتب، فما دام من المرتبة الاولى موجودا، لا تصل النوبة إلى غيرها، عصبة كانت أو غيرها، و الآية الشريفة لا تختصّ بالمورد، و إنّما هو من باب التطبيق.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: «سأل أبا جعفر عليه السّلام رجل و أنا عنده، قال: قال رجل لامرأته: أمرك بيدك ؟ فقال: أنّى يكون هذا و اللّه يقول: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، ليس هذا بشيء».

أقول: ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام) أنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام عليه السّلام في هذه الرواية استدلّ بالآية الشريفة على أنّ الطلاق بيد الزوج لا بيدها.

و عن ابن بابويه بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السّلام قال:

«جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله أعلمهم من مسائل، فكان فيما سأله قال له: ما فضل الرجال على النساء؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: كفضل السماء على الأرض، فالماء يحيي الأرض، لو لا الرجال ما خلق اللّه النساء، يقول اللّه عزّ و جلّ : اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، قال اليهودي: لأي شيء كان هكذا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: خلق اللّه عزّ و جلّ آدم من طين، و من فضلته و بقيته خلقت حواء، و أوّل من أطاع

ص: 174

النساء آدم، فأنزله اللّه عزّ و جلّ من الجنّة، و قد بيّن فضل الرجال على النساء في الدنيا، أ لا ترى أنّ النساء كيف يحضن و لا يمكنهن العبادة من القذارة، و الرجال لا يصيبهم شيء من الطمث، قال اليهودي: صدقت يا محمد».

أقول: في سياق ذلك روايات كثيرة، و إنّ الشيطان لما حصل له اليأس من ارتكاب آدم عليه السّلام من أكل تلك الشجرة جاء إلى حواء فأغواها و هي أوقعت آدم في الخطيئة، فصار سبب خروج آدم من الجنّة حواء، كما في الروايات.

و عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن سنان قال: «إنّ أبا الحسن الرضا كتب فيما كتب إليه في جواب مسائله إليه علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث؛ لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت، و الرجل يعطي، فلذلك و فّر على الرجال، و علّة اخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطي الأنثى؛ لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها، و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر على الرجال لذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ : اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في التفسير و في النفقة من كتاب النكاح، فراجع (مهذب الأحكام).

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ، يعني:

«تحفظ نفسها إذا غاب زوجها عنها».

أقول: هذا تفسير بالمصداق، و الآية الشريفة عامّة.

في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: قانِتاتٌ مطيعات.

أقول: تقدّم معنى القنوت في التفسير.

و في الدرّ المنثور: أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنّها أتت

ص: 175

النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بين أصحابه فقالت: «بأبي أنت و امي، إنّي وافدة النساء و اعلم - نفسي لك الفداء - أنّه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا و هي على مثل رأيي. إن اللّه بعثك بالحقّ إلى الرجال و النساء، فآمنا بك و بإلهك الذي أرسلك، و إنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم و مقضيّ شهواتكم، و حاملات أولادكم، و أنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحجّ بعد الحجّ ، و أفضل من ذلك الجهاد في سبيل اللّه، و أنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، و نزلنا لكم أثوابكم و ربّينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول اللّه ؟ فالتفت النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه بوجهه كلّه ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، ما ظننّا أنّ امرأة تتهدى إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثمّ قال لها: انصرفي أيتها المرأة و اعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعّل إحداكن لزوجها و طلبها مرضاته و اتباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة و هي تهلل و تكبّر استبشارا».

أقول: وردت روايات كثيرة من طرق الجمهور و الخاصّة في مضمون هذه الرواية.

و كيف كان، يستفاد منها امور:

الأوّل: رفع شأن المرأة الصالحة، و أنّها عند اللّه كالمؤمن الصالح الذي يكون أعماله و أفعاله موافقة لنظام الشريعة؛ لأنّها الموجبة لسكون النفس و ارتياح البال، فهي تدبّر و تربّي و تصلح شؤون الرجل و تستقيمه و تهيء له ما يقوم به الرجل من الواجبات و الوظائف، فيكون أجرها عند اللّه كأجر الرجل، و لم يهمل اللّه أجرها كما صرّح به صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني: يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تبدي رأيها و تكشف ما في

ص: 176

ضميرها عند ولي أمر المسلمين، سواء كان في أمر الدين أو غيره، ما لم يستلزم التنافي للشرع، و لولي الأمر الاعتناء برأيها و حلّ ما عندها من الشبهات.

الثالث: يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تنوب و تمثل عن مثلها أو عن الرجال، ما لم يكن منافيا للشرع.

الرابع: يستفاد منها جواز دخول النساء على الرجال و تكلّمهن معهم في امور دينهن، بل و معاشهن، ما لم يكن منافيا للشرع.

و في الكافي بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: «جهاد المرأة حسن التبعّل».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و يستفاد منها امور:

الأوّل: التنزيل في الثواب و الأجر، كما مرّ.

الثاني: تحمل الأذى، فإنّ الجهاد متقوّم بتحمّل الأذى، و المرأة لا بد لها من الصبر، و تحمّل الأذى إن حصل من زوجها أو من غيره، كما في بعض الروايات.

الثالث: جواز المدافعة في غير ما يجب عليها؛ لأنّ الجهاد متقوّم بالمدافعة، كما أنّه لو أساء الأدب الزوج قولا أو فعلا في غير الاستمتاعات، يجوز لها المدافعة عن ذلك؛ لأنّ الزوج تعدّى كما هو مقرّر له شرعا.

و في أسباب النزول للواقدي عن مقاتل: «نزلت هذه الآية: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ في سعد بن الربيع، و كان من النقباء و امرأته حبيبة بنت زيد ابن أبي زهير، و هما من الأنصار، و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: فرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لتقتصّ من زوجها. و انصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: ارجعوا هذا جبريل عليه السّلام أتاني و أنزل اللّه تعالى هذه الآية، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص».

و فيه - أيضا - بإسناده عن الحسن: «أنّ رجلا لطم امرأته فخاصمته الى

ص: 177

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء معها أهلها فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلانا لطم صاحبتنا، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: القصاص القصاص، و لا يقضى قضاء، فنزلت هذه الآية:

اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه غيره»، و مثلها غيرها.

أقول: على فرض صحّة هذه الروايات، لا بد من حملها على أنّ ضرب المرأة لم يكن لوجه شرعي من تأديب و غيره، أو كان الضرب للنشوز، و لكن حصل تعدّ في الضرب عن الحدّ المقرّر شرعا، فحكم صلّى اللّه عليه و آله بالقصاص، ثمّ نزلت الآية المباركة فأصلح صلّى اللّه عليه و آله بينهما بترك القصاص برضائهما به، فصارت الآية الشريفة منشأ لطلب النبي صلّى اللّه عليه و آله من المرأة الرضا بما فعله الزوج، فرضيت هي بذلك إلا أنّ الآية المباركة: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، لا تدلّ على ترك القصاص الثابت شرعا، أو الحدود كذلك.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ، ذلك إن نشزت المرأة عن فراش زوجها، قال زوجها: اتقي اللّه و ارجعي إلى فراشك، فهذه الموعظة، فإن أطاعته فسبيل له ذلك، و إلا سبّها و هو الهجرة، فإن رجعت إلى فراشها فذلك، و إلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته و ضاجعته يقول اللّه: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً يقول: لا تكلفوهن من الحبّ ، فإنّما جعل الموعظة و السبّ و الضرب لهن في المضجع إنّ اللّه كان عليّا كبيرا».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية في التفسير، و في كتاب النكاح في أحكام النفقة من (مهذب الأحكام).

و في تفسير العياشي: عن ابن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في امرأة تزوّجها رجل شرط عليها و على أهلها إن تزوّج عليها

ص: 178

امرأة و هجرها، أو أتى عليها سرية، فإنّها طالق، فقال: شرط اللّه قبل شرطكم، إن شاء و فى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرّى عليها و هجرها ان أنت سبيل ذلك، قال اللّه في كتابه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ، و قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، و قال: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ».

أقول: تقدّم في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بالشروط المذكورة في عقد النكاح، و قلنا إنّه لو شرط ما يخالف الشرع بطل الشرط و صحّ العقد و المهر، حتّى لو قلنا إنّ الشرط الفاسد يفسد العقد في سائر العقود - و إن لم نقل بذلك - و لكن في خصوص عقد النكاح إن الشرط الفاسد لا يفسده.

الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر عليه السّلام قال في معنى الهجر عنها:

«يحول ظهره إليها».

و روى عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا في معنى الضرب: «إنّه الضرب بالسواك».

أقول: يختلف ذلك باختلاف الخصوصيات و الأزمنة و الأمكنة و العادات و الشؤون، بل الأشخاص أيضا.

في الكافي: عن محمد بن يعقوب بإسناده عن علي بن أبي حمزة، قال:

«سألت العبد الصالح عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ؟ قال: يشترط الحكمان إن شاءا فرّقا و إن شاءا جمعا، ففرّقا أو جمعا جاز».

أقول: المراد من الجواز النفوذ و لا بد لهما في الفراق و الصلاح من الاستيمار و التوكيل من الزوج أو الزوجة، كما يدلّ عليه الروايات الآتية و القواعد الفقهيّة.

و في الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها قال: ليس للحكمين أن

ص: 179

يفرّقا حتّى يستأمرا من الرجل و المرأة، و يشترطا عليهما إن شئنا جمعنا، و إن شئنا فرّقنا فجائز، و إن جمعنا فجائز».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في قسم النشوز من كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

و في الكافي أيضا بإسناده عن سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ، أ رأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل و المرأة: أ ليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح و التفريق ؟ فقال الرجل و المرأه: نعم، و أشهدا بذلك شهودا عليهما، أ يجوز تفريقهما؟ قال: نعم، و لكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزوج، قيل له: أ رأيت إن قال أحد الحكمين: قد فرّقت بينهما، و قال الآخر: لم افرّق بينهما، فقال: لا يكون تفريق حتّى يجتمعا جميعا على التفريق، فإذا جمعا على التفريق جاز تفريقهما».

أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ رأيهما معا له أثر في التفريق، كما يستفاد ذلك من الآية الشريفة أيضا، فلا يكون لكلّ رأي أثر، و أنّ الحكم من باب التوكيل و الاستنابة في الرأي و فصل الخصومة، فليس لها الاختيار إلا بعد الإذن.

و فيه أيضا بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا نشزت المرأة على الرجل فهي الخلعة، فليأخذ منها ما قدر عليه، و إذا نشز الرجل مع نشوز المرأة فهي الشقاق».

أقول: الرواية محمولة على أنّه لو أرادت المرأة الطلاق الخلعي.

و فيه - أيضا - عن الصادق عليه السّلام في رواية فضالة: «فإن رضيا و قلّداهما الفرقة ففرّقا، فهو جائز».

أقول: الرواية مثل ما مضت من الروايات، تدلّ على أنّ الفرقة لا يكون إلا برضاهما.

ص: 180

و في رواية عبيدة قال: «أتى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام رجل و امرأة، مع كلّ واحد منهما فئام من الناس، فقال علي عليه السّلام: فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها، ثم قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، و إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللّه، و عليّ ولي اللّه. فقال الرجل: أما في الفرقة فلا. فقال علي عليه السّلام: ما تبرح حتّى تقرّ بما أقرّت به».

أقول: الرواية تدلّ على ما تقدّم كما تدلّ على رجوع الحكمين إلى من و كلّ الزوج أو الزوجة في رفع الخصومة. و تقدّم التفصيل في كتاب النكاح من المهذب فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ أنّ السؤال من الغني المطلق الذي لا حدّ لعظمته و غناه، بل هو غير متناه أزلا و أبدا من جميع الجهات من الأسباب التي لها دخل في تفضيل بعض على بعض، فإذا رغب الغني المطلق في السؤال عنه يكون في نفس ذلك الترغيب الرأفة و الحنان، ثم إذا لاحظ السائل أنّه من فضله غير المتناهي و أنّه ذو فضل عظيم و لا حدّ لفضله، يصير ذلك أشدّ رأفة و حنانا، إلا ما يرجع إلى قصور الاستعدادات في المفاض عليه.

ص: 181

ثم إنّ الآية المباركة: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما ، تدلّ على أنّ لإرادة الخير و الصلاح و الإصلاح تأثيرا كبيرا في النظام الأحسن، سواء أ كانت الإرادة نوعيّة كإرادة السلطان بالنسبة إلى الرعيّة، و العالم العامل بعلمه، و لعلّ

قولهم عليهم السّلام: «الناس على دين ملوكهم»،

و قولهم عليهم السّلام: «إذا فسد العالم فسد العالم»، يشير إلى ذلك، أو كانت الإرادات الشخصيّة بالنسبة إلى الأمور الجزئية.

و من المعلوم أنّ الإرادة الكليّة الإلهيّة تجري على ذلك أيضا، فإنّ الخير يعمّ الجميع، و لا يمكن أن يتحقّق خير إلا بإرادة الخير و نيّته.

كما أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ حسن المراد و فضله يرجع إلى حسن الإرادة و فضلها؛ للملازمة بينهما، كالملازمة بين المقتضي (بالكسر) و المقتضى (بالفتح)، و تدلّ على ذلك بعض النصوص المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام، و لا بد أن يكون كذلك؛ لأنّ المقتضيات (بالفتح) تابع لخصوصيات المقتضي (بالكسر)، و الجميع تحت قهّاريته المطلقة بحسب التقدير و القضاء، لا بد و أن ترجع إليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة أحكام شرعيّة متعدّدة، نذكر المهمّ منها في المقام.

منها: ذكر بعضهم أنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ ، أنّ لكلّ منهما نصيبا من الميراث على ما قسّمه اللّه تعالى، و قد ذكرنا أنّ الآية الشريفة أعمّ من ذلك، كما عرفت.

و منها: أنّه يدلّ قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ ، على أنّ لكلّ ميت وارثا معيّنا من الآباء و الأقرباء، يرثونه ممّا

ص: 182

ترك، و أمر عزّ و جلّ بإعطاء كلّ منهم نصيبه بالكيفيّة المقرّرة في الآيات السابقة.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الأقرب أولى بالميراث من الأبعد، فأولاهم بالميت أقربهم إليه في الرحم، كما في آية اولوا الأرحام، و منها تستفاد قاعدة كليّة مذكورة في الإرث، و هي: «إنّ الأقرب يمنع الأبعد»، و تقتضيها كثير من الروايات، و تعرّضنا لها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

و أما قول تعالى: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ، فإنّه يدلّ على أنّ من يدخل في المولى بسبب المعاقدة و المعاهدة أيضا له نصيبه، و قد اختلف المفسّرون و العلماء في المراد من هؤلاء، حتّى قال بعضهم: إنّ الآية منسوخة.

و لكن ذكرنا أنّ الآية المباركة مطلقة تدلّ على ثبوت التوارث بالمعاهدة و المعاقدة، فتشمل إرث الزوجين و ضمان الجريرة و الإمام، كما دلّت عليه السنّة الشريفة،

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أنا وارث من لا وارث له»،

و في بعض الروايات عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام: أن إرث من لا وارث له من الأنفال المختصّة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام. و عليه إجماع الإماميّة، و بإزاء ذلك روايات اخرى أنّه لبيت المال، و لكن لا منافاة بينهما؛ لأنّهم عليهم السّلام تنازلوا عن حقّهم لمصالح عامّة.

إلا أنّ لإرث هؤلاء شرائط و قيودا مذكورة في الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام). و الآية الكريمة تدلّ على أنّ إرث الذين عقدت أيمانكم متأخّر في الرتبة على إرث اولي الأرحام و الأقربين.

و منها: أنّه يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ على أنّ القواميّة الثابتة للرجال و تسلّطهم على النساء، هي قواميّة سياسة و تدبير، كتسلّط الوالي على الرعيّة، فلا بد أن يعطى زمام الأمور الكلّية و الجهات العامّة الاجتماعيّة - كالقضاء و الحرب و نحو ذلك - ممّا يمتاز بالتعقّل و القوّة إلى الرجال، و قد دلّت على ذلك السنّة الشريفة، و ذكرها الفقهاء في مواضع متعدّدة من الفقه،

ص: 183

و أما غير ذلك من شؤون الحياة، كالتعليم و الكسب و نحو ذلك، فإنّ الرجال و النساء فيها؛ سواء للقاعدة المعروفة عند الفقهاء، و هي قاعدة: «اشتراك النساء مع الرجال في الشؤون و الأحكام إلا ما خرج بالدليل».

و يستفاد من الآية المباركة أنّ على المرأة إطاعة الزوج، فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ في الغيبة،

ففي الحديث عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزوج على المرأة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أن تطيعه و لا تعصيه، و لا تتصدّق من بيته إلا بإذنه، و لا تصوم تطوّعا إلا بإذنه، و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب، و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، و إن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتّى ترجع إلى بيتها - الحديث».

و منها: أنّه إذا ظهرت أمارات النزاع و النشوز على المرأة و خرجت عن طاعة الزوج إما ظنا أو علما، فلا بد من الوعظ بتذكيرها بما ورد من الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية، و ما ورد عن الأئمة الطاهرين المتضمّنة لحقوق الزوج.

ثم الهجر في المضجع بما يفيد إعراض الزوج عنها، و منه تحويل ظهره إليها في الفراش أو الاعتزال عنها فيه لو اقتضى الأمر كذلك.

ثم الضرب، فليكن ضرب تأديب، لا ضرب عصيان، فيقتصر على ما تؤلم و يضمن ما يوجب الجناية.

و هذه الأمور الثلاثة - الوعظ و الهجران ثم الضرب - مترتّبة من الأخف إلى الأشدّ، و المعروف بين الفقهاء أنّ ترتّب الوعظ إنّما يكون على مجرّد ظهور أمارات النشوز و العصيان، فإذا لم يفد الوعظ كان النشوز متحقّقا بالفعل، فينتقل إلى الهجر، و إن تحقّق الإصرار منهنّ فينتقل إلى الضرب، كلّ ذلك مغيى بحصول الطاعة و رجوعها عن النشوز، فإذا حصل فلا يتعرّض لهن بشيء. و الأمر في المقام للإباحة، و يمكن أن يكون للندب؛ لأنّه من المعروف.

ص: 184

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساك.......

اشارة

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) الآيات الشريفة تتضمّن معارف الإلهيّة و أحكاما اجتماعيّة هي من معالي الأمور و عواليها، و صدّرها بالعبادة التي هي أساس النجاة و روح الصلاح و جامعة الخيرات و الهدى و أصل كلّ كمال معنوي و أساس الصراط المستقيم و الدين القويم، فأمر عباده بالتوحيد الخالص و نبذ الشرك، ثم أمر بالإحسان، و بدأ بالوالدين اهتماما بهما و تعظيما لشأنهما.

كما أمر بالإنفاق في سبيل اللّه تعالى، و أهتمّ بمكارم الأخلاق و صالح الأعمال و حسن السلوك و القيام بحقوق النوع، و كلّها من سبل سعادة الإنسان، و وعد عليها وعدا جميلا، و أرشد الناس إلى الإنفاق ممّا آتاهم اللّه تعالى من الفضل، و على الوجه الصحيح الذي يرضاه عزّ و جلّ .

و ذمّ البخل و الإنفاق رئاء الناس، و حذّرهم عمّا يوجب القرب إلى الشيطان، و بيّن الجزاء الذي يترتّب على الإعراض عمّا أنزله اللّه تعالى و أوعدهم سوء العاقبة.

ص: 185

التفسير

قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً تلخيص لطيف للآيات السابقة و نتيجة هامّة لجميعها تجذب القلوب، و هذا الأسلوب من الأساليب البديعيّة المعروفة في علم الفصاحة و البلاغة، فيذكر في ابتداء الكلام جملة من الأمور حتّى تقع النتيجة المتصوّرة في محلّها، و على ذلك شواهد كثيرة.

و كيف كان، فقد أجمل عزّ و جلّ المعارف الإلهيّة في هذه الجملة المباركة، التي هي أساس الصلاح و النجاح و أهمّ سبيل من سبل النجاة، بل هي روح الشرائع الإلهيّة.

و بدأ بوحدة العبادة و المعبود؛ لكونها أعظم الغايات المستكملة للنفوس الإنسانيّة؛ لأنّ وحدة الذات و الصفات و الأفعال تتحقّق في وحدة العبادة لا محالة، فأمر تعالى بعبادة اللّه الواحد الأحد إله العالمين و نهى عن الشرك في عبادته؛ ليشمل جميع أنحاء الوحدة في الذات و الصفات و الفعل، لما ثبت في العلوم الأدبيّة أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ففي المقام وردت لنفي الشرك في الاعتقاد و العمل و العبادة و القول، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى:

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106].

و عبادة اللّه تعالى إنّما تحصل بالإذعان له و طاعته في تنفيذ أحكامه، و الايتمار بأوامره عزّ و جلّ و الانتهاء عن نواهيه، و العمل بالإخلاص له، و ابتغاء وجهه الكريم و طلب مرضاته، فيكون النهي عن الشرك يعمّ مخالفة اللّه تعالى باتباع الهوى و الانقياد للشيطان، فإنّ ذلك يوجب نسيان يوم الجزاء و الخلل في حقّ الخضوع للّه عزّ و جلّ ، كما قال تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61].

ص: 186

و من ذلك يعلم أنّ ذكر هذه الآية الشريفة بعد سرد تلك الأحكام من أوّل السورة للتحريض على العمل بها، فإنّه من عبادة اللّه تعالى، و أنّ الاستهانة بها و الإعراض عنها يوجب الكفر و الشرك به عزّ و جلّ ، و قد تقدّم في سورة الفاتحة معنى العبادة فراجع.

و الآية الشريفة تبيّن أمرا مهمّا في الإسلام؛ لأنّها نزلت بعد الأمر بالتقوى في أوّل هذه السورة، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء، الآية، 1]، و بعد ذكر جملة من الأحكام التي تعالج امور المجتمع كما عرفت، فتكون هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات التي تعالج أمر العقيدة و تبيّن أنّها هي الأساس الذي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي و حياة كلّ فرد مسلم، و أنّ تلك الأحكام بدون هذه العقيدة لا يرجى منها الأثر المطلوب، بل يؤدي إلى الاضطراب و الخلل، فإنّ الإسلام هو عقيدة و عمل، و أنّه شريعة مركّبة منهما، و ليس كالنظريات الوضعيّة التي تهمل أحد الجانبين، فتكون إما عقيدة بلا عمل أو عملا بلا عقيدة؛ و لذا ترى عقمها و إن حقّقت بعض النفع في بعض الأحوال، فمن مزايا الإسلام أنّه جميع بينهما، و اعتبر أنّ أحدهما بدون الآخر لغو، و لأجل ذلك كان الإسلام خير دليل للإنسان نابعا من الضمير، و أنّه آكد في حياة الإنسان من سائر النظم الوضعيّة، فأمر عزّ و جلّ في صدر هذه الآية بعبادة اللّه وحده من دون شريك، ثم رتّب عليها الأمر بالإحسان للوالدين و لذي القربى و اليتامى، لبيان ما ذكرناه و الاهتمام بالجانبين النظري العقائدي و تطبيقه في العمل.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الإحسان إلى من ذكرهم في الآية المباركة، للإشارة إلى الرابطة التي تربط المسلمين في المجتمع الإسلامي، و هي رابطة العقيدة التي تتضمّن جميع الوشائج، و الروابط الاخرى من رابطة المحبّة و المودّة و الاخوة، فتكون رابطة العقيدة من أقوى الروابط و أجمعها و أشملها.

ص: 187

قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الجار متعلّق بفعل مقدّر، و (إحسانا) نائب عنه في الدلالة على الأمر و التأكيد في الإغراء بالإحسان، أي: أحسنوا إحسانا، و يتعدّى الإحسان بالباء و اللام و إلى، يقال: أحسن إليه و أحسن به و له.

و قيل: إنّه إذا تعدّى بالباء تضمّن معنى العطف، و قد تكرّر الأمر بالإحسان للوالدين في القرآن الكريم بهذه الجملة، اهتماما بشأنهما و تعظيما لهما، و لبيان عظيم حقّهما، و لأنّهما أولى الناس بالإحسان.

و هذه الجملة تفيد دوام الإحسان و ترك الإساءة، و أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان بالنسبة إلى والديه، لا بد أن يكون فعلا حسنا.

و لم يبيّن عزّ و جلّ وجه الإحسان و كيفيته، إيكالا لوضوحه، و لمعلوميّته لكلّ أحد و لاختلافه باختلاف الأعصار و الأمصار و أحوال الناس و طبقاتهم.

قوله تعالى: وَ بِذِي اَلْقُرْبى .

أي: صاحب القرابة، و هو يشمل كلّ رحم من الولد و الأخ و العمّ و الخال و غيرهم و أولادهم، و إنّما أعاد الباء هنا للتوصية و الاعتناء بشأنهم. و ذكرهم بعد الإحسان بالوالدين؛ لأنّ الاسرة تتكوّن منهم، فإذا صلحت عقيدة الرجل و قام بحقوق الوالدين و الأقارب، صلح حاله و صلحت أسرته.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى .

لأنّهم أكثر احتياجا إلى الرحمة و الرأفة و الإحسان بهم.

قوله تعالى: وَ اَلْمَساكِينِ .

و هم الفقراء الذين اشتدّ بهم الفقر و الضعف، بحيث يرثى لحالهم. و إنّما خصّ عزّ و جلّ هؤلاء و سابقهم بالذكر، لما في الإحسان بهم من الأهميّة؛ و لأنّه يتحلّى فيه مكارم الأخلاق و الرحمة، و بالإحسان إلى هذين الصنفين يتحقّق التكافل الاجتماعي الذي أمر به الإسلام.

ص: 188

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى .

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى .

الجار من الجوار بالمكان و المسكن، و هو ضرب من ضروب القرابة، فإن الإنسان قد يمت بالجوار بوثائق وشيجة ما لا تكون في غيره من القرابة. و المراد بذي القربى - بقرينة المقابلة لما يأتي من الوصف - هو الجار القريب دارا، و إنّما قدّمه تعالى على ما يأتي؛ لأنّ فيه الجوار و القرب.

و قيل: المراد به القريب نسبا، على ما سيأتي.

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ .

الجنب بضم الجيم و النون من الجنابة، ضدّ القرابة، أي: الأجنبي، و هو الجار البعيد دارا، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالأولى الجار ذي القربى، يعني:

الذي بينك و بينه قرابة، و الجار الجنب، يعني: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و يكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحقّ الجوار أيضا.

و لكن ظاهر الآية المباركة يدفع ذلك كما عرفت، و يشهد لما ذكرناه ما روي عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في تحديد الجوار بأربعين ذراعا أو أربعين دارا، و يمكن أن يكون الاختلاف للإشارة إلى الجار القريب و الجار الجنب، و إن كان تحديدا للجوار، إلا أنّه يرجع فيه إلى العرف.

و الآية الشريفة تؤكّد رعاية حقّ الجوار في جميع حالاته،

و قد ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه».

قوله تعالى: وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ .

بفتح الجيم و سكون النون، و هو شقّ الإنسان و غيره، و المراد به المصاحب الملازم لجنبك، و عمومه يشمل الصاحب في السفر و الصاحب في الحضر و المنزل و غيرهم، و ذكر بعض المفسّرين أنّه مختصّ بالمصاحب في السفر و الرفيق فيه.

ص: 189

و قيل: إنّه المنقطع إليك، يرجو نفعك و رفدك،

و روي عن علي عليه السّلام: «أنّه مرآة الرجل التي تكون بجنبه»، و ظاهر الآية المباركة شمولها للجميع.

قوله تعالى: وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع عن أهله و بيته، فليس له مدد و قوة إلا السبيل الذي صار ابنا له، و قد ذكر الفقهاء أنّه يشمل ابن الطريق الذي يستعين بك في طريقه، و الذي لا يعرف حاله، و الغني في وطنه الذي انقطع في السفر عن الوصول إلى أمواله و الاستعانة بالدين.

قوله تعالى: وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم العبيد و الإماء الذين ورد ذكرهم في مواضع اخرى، و الإحسان إليهم يشمل جميع أنحائه و وجوهه.

و في التعبير بما ملكت الأيمان ما لا يخفى من التحريض بالرفق بهم و عدم الاستعلاء عليهم، فإن الإنسان إنّما ملكهم بأيمان و عهود لا بد من مراعاتها و الوفاء بها، و هو يستدعى الإحسان إليهم.

و قد جمع سبحانه و تعالى في هؤلاء الأصناف جميع الحقوق التي يجب مراعاتها، و هي حقّ اللّه تعالى، و حقّ الوالدين، و حقّ القرابة، و حقّ الأيمان الذي يستتبع حقوقا كثيرة.

و عظّم سبحانه و تعالى شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين، إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته و نبذ الشرك. و أحكام هذه الآية الشريفة ممّا تنادى بها الفطرة و تبعث عليها الأخلاق الفاضلة و العاطفة النبيلة، و يشهد بها الوجدان، و تدلّ عليها الحجّة القاطعة، فلا يحقّ لأحد التمادي عنها و تركها، إلا من أعجبته نفسه الأمّارة بالسوء، و المستكبر على الحقّ ، فيكون مختالا بغروره فخورا بنفسه و باعجابه بها، قد ركبت عليه الغفلة، فأنساه الشيطان ذكر ربّه و أغمض عن الحقّ ؛ و لذا عقّب سبحانه بعد هذه الآيات المباركة ذكر المختال الفخور، مشعرا بأنّ من لم يراع حقوق هذه الموارد، يكون من المختال الفخور.

ص: 190

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً تعليل لما ورد من الوصايا و الأحكام في ما سبق من الآيات، فإنّ الإعراض عنها مع العلم بأنّها ممّا تنادي بها الفطرة، و يحكم بحسنها العقول، لا يكون إلا ممّن أعجبته نفسه، فيكون مختالا مغرورا فخورا، محبّا لذاته، قد غفل عمّا أعد اللّه تعالى له من السعادة و الكمال، و غفل عن أنّه عبد مربوب ليس له من عند نفسه شيء إلا ما يمنحه الربّ العظيم من النعم، و ما يفيض عليه ما يوجب خروجه من حضيض النفس إلى أوج الكمال و السعادة.

و المختال: ذو الخيلاء، و هو التائه المتبختر المسخر لخياله، و هو أخسّ من المستكبر، لأنّ المختال من تمكنت فى نفسه ملكة التكبّر، و سببه الإعجاب بالنفس و الجهل المركب، و منه الخيل لاختيالها و إعجابها بنفسها مرحا. و الفخور كثير الفخر.

و هما - أي صفتا الاختيال و كثرة الفخر - ترجعان إلى أمر واحد و هو الكبر و الاعجاب بالنفس، الذي يكون منشأه الجهل المركّب، و زعمه كماله و هما من رذائل الأخلاق، بل يعدان أصلان من اصول المساوئ و الرذائل، لتعلّق قلب صاحبهما إلى غير اللّه تعالى، و احتقار جميع الحقوق، و الغفلة عن عظمة اللّه عزّ و جلّ و كبريائه، فلا يقوم بوظائف العبوديّة، لأنّ الاختيال و المفاخرة يرجعان إلى حبّ الذات و صفاتها و عوارضها، من المال و الجاه و تعلّق القلب بهما، و يستتبع ذلك جملة من الصفات الذميمة، أهمّها البخل؛ و لذا عقّب عزّ و جلّ هذه الآية الشريفة بالنهي عن البخل، و ذمّ الذين يبخلون، و لا يختصّ البخل بالمال و الجاه، بل يعمّ كتمان الحقّ و كلّ جهة كماليّة كما ستعرف.

و قد ذمّ اللّه تعالى المختال الفخور، و كفى بهما مقتا أن اللّه تعالى لا يحبّهما، و معنى عدم محبّته لهما، تركه لهما و عدم تعرّضهما لتوفيقاته الخاصّة و بركاته، و هو العذاب الأليم بالنسبة إلى أهله.

ص: 191

و إنّما خصّ عزّ و جلّ هاتين الصفتين بالذكر؛ لأنّه تعالى قد أوصى بالإحسان إلى من ذكرهم في الآية الشريفة، و ختمها بابن السبيل و ما ملكت أيمانكم. و وجود هؤلاء عرضة لإثارة الخيلاء و الكبر و إثارة الاستعلاء في نفوس ذوي المال و الجاه، فيسيئون بالنسبة إلى من أمر اللّه تعالى بالإحسان إليهم، و يحجبون عن تنفيذ وصايا ربّهم، فأتى التوجيه الربوبيّ بالتنفير من هذا الخلق الذميم و النهي عن الاتصاف به، و شدّد النكير عليه و أظهر عظيم الجزاء بأن أخبرهم أنّ اللّه لا يحبّ من كان مختالا فخورا، و المؤمن الذي يعبد اللّه و لا يشرك به لا بد أن يبتعد عن الأمر الذي لا يرضى اللّه تعالى به، فيحسن إلى الناس و يقوم بوظائف العبودية بغير كبر و خيلاء، فلا بد من الابتعاد عنهما ليجلب رضاء اللّه تعالى، فإنّه من أعظم الكمالات، بل هو السعادة الحقيقيّة.

و قد وردت هذه الجملة: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ » في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعا، و جميعها تدلّ على بعد متعلّقها عن مرضاة اللّه تعالى، و أنّه من رذائل الصفات و ذمائم الأخلاق و خبث الباطن، و إنّما خصّ هذا بالذكر لأهميته، فإنّ كتمان ما آتاهم من الفضل في العلم بنبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و دينه الحقّ ، أمر عظيم لا يدانيه أمر آخر.

و يحتمل أن يكون اللفظ عامّا: فيشمل جميع أفراد الفضل، من المال و الغنى و الجاه و العلم. و منه العلم بنبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتمان ذلك إنّما يكون بتظاهرهم بمظهر الفاقد المعدم، و الجاهل الذي ليس له علم، لئلا يرجع إليهم سائر الناس للسؤال عن أموالهم، و للحفاظ على مقامهم و جاههم، فإنّه لو أظهروا الحقّ و بيّنوا للناس لفقدوا ذلك.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ بيان لبعض مظاهر الاختيال و الفخر، فإنّه بعد ما تحدّث سبحانه و تعالى عن الوصايا التي توجّه النفوس إلى الكمال، و تحرّضهم على البذل و العطاء

ص: 192

و الإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية المباركة السابقة، و كان ذلك من طاعة اللّه عزّ و جلّ و عبادته، و أنّ الإعراض عنها يكون من الإشراك به.

ثم تحدّث عن الفئتين اللتين امتنعتا عن تنفيذ أحكام اللّه تعالى و العمل بوصاياه، عتوّا و استكبارا، و هما المختالون الفخورون اللذين احتقروا خلق اللّه تعالى و اتخذوا البخل شعارا لهم، فضيّعوا تلك الحقوق المؤكّدة.

و في هذه الآية الشريفة يبيّن عزّ و جلّ حال تلك الطائفة المختالة المتكبّرة، و قد ذكر لهم ستّة أوصاف تدلّ على بعدهم عن الكمال و الأوصاف الحميدة، و شدّة غيهم و ضلالهم، و استكبارهم على اللّه تعالى و جرأتهم عليه، و إعراضهم عنه عزّ و جلّ ، و قربهم من الشيطان، و استحقاقهم الجزاء الذي يوافق اعتقادهم و ملكاتهم الرذيلة.

و البخل: هو الامتناع عن أداء ما فرضه اللّه تعالى على الإنسان، و هو يرجع إلى لؤم النفس و شقائها، و السبب في ذلك هو الاستكبار و العجب بالنفس، فكانت النتيجة أنّهم بخلوا بما آتاهم اللّه من الفضل و لم يبذلوه في الموارد التي قرّرها اللّه عزّ و جلّ و أوصى العباد بالإنفاق فيها و اكتساب الفضل منها، و قد ذكر العلماء في إعراب هذه الجملة وجوها كما سيأتي.

و أما أمرهم بالبخل، فلسوء سريرتهم و خبث باطنهم و شدّة طمعهم و حبّهم للدنيا، و لقطع آمال الناس فيهم، و الأمر منهم يتحقّق بالقول و بالفعل أيضا؛ لأنّهم أصحاب ثروة و مال و جاه، يقصدهم الناس و يطمعون في أموالهم، فيؤثّر فيهم فعلهم كقولهم.

قوله تعالى: وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ مظهر آخر من مظاهر البخل و سوء السريرة.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى هذه الطائفة و ذمّهم؛ لأنّهم مع الطائفة الاولى على طرفي الإفراط و التفريط، فإنّ البخل و السرف - الذي هو الإنفاق لا على ما

ص: 193

ينبغي - سواء في الذمّ و الشناعة. و الإسلام دين الوسط و الفطرة السويّة.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً الاعتداد: الجزاء بما يناسب الذنب من العقاب. و إنّما وضع الظاهر (الكافرين) موضع المضمر، اشعارا بأنّ من كتم فضل اللّه تعالى و بخل منه، فهو كافر به و بنعمه سبحانه و تعالى؛ و لذا سمّى الكافر كافرا؛ لأنّه ستر الحقّ و نعم الربّ بإنكاره، و من كان كافرا فله عذاب يهينه، و إنّما كان العذاب كذلك لأنّه أهان النعم بالبخل، و الكتمان لقانون توافق الجزاء مع الذنب.

و إنّما أضاف الاعتداد لضمير التعظيم (نا) للتهويل، و للإشعار بأنّ عذاب العظيم عظيم، و قد ذكرنا أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يكون من مظاهر عظمة اللّه تعالى و كبريائه عزّ و جلّ يؤتى بضمير العظمة، و كلّ مورد يكون من موارد فضله و رحمته، يؤتى بضمير المفرد.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ بيان لأعمال الطائفة الثانية، و هم الفخورون الذين لا يعملون إلا لأجل الفخر و المباهاة و الأغراض الوهميّة، و لا يكترثون باللّه تعالى و دينه الحقّ و الفضل و الفضيلة.

و رئاء إما مصدر منصوب على الحال من ضمير (ينفقون) و إضافته إلى الناس من قبيل إضافة المصدر لمفعوله، أو منصوب على أنّه مفعول للغلبة.

و الرئاء و الرياء و المراءاة مأخوذة من الرؤية، و هو أن يعمل الإنسان عملا لا لحسنه و لا لوجه اللّه تعالى، بل لأجل أغراض وهمية دنيويّة و أن يراه الناس، و تقدّم في سورة البقرة (الآية 264)، بعض الكلام.

قوله تعالى: وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ بيان لكون المرائي كافرا، لأنّ الرياء يكشف عن عدم الإيمان باللّه تعالى، القادر على الجزاء ثوابا و عقابا، و عدم الإيمان بيوم المعاد الذي هو يوم الجزاء

ص: 194

على الطاعات و المعاصي؛ لأنّه يريد نتاج إنفاقه في الدنيا، و هو مدح الناس و استحسانهم، و إنّما بذل للفخار لا لوجهه الكريم المتعال، فيكون الرياء شركا في العمل أيضا.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً القرين الصاحب و الخليل، و المراد بالشيطان إبليس و أعوانه الداخلية، كالنفس الأمّارة و هو النفس، و الخارجيّة و هم شياطين الإنس و الجنّ .

و إنّما كان الشيطان للمرائي مصاحبا و خليلا، لأنّه أسلس قياده لهواه و اتبع الشيطان الذي لا ينفكّ عن الغواية، و من كان الشيطان له قرينا فقد ضل و غوى، لأنّه بئس القرين المشؤوم المهلك.

و في الآية المباركة دلالة واضحة على أنّ الرياء شرك باللّه تعالى، و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة وردت عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و عن الأئمة الهداة عليهم السّلام أيضا.

قوله تعالى: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ الاستفهام للتحسّر و التأسّف أو للتعجّب. أي: و ما الذي عليهم من الوبال و الخسران و الضرر و سوء العاقبة، فإنّهم لو آمنوا باللّه و اليوم الآخر لآمنوا من سوء العاقبة و تخلّصوا من الهلكة، فإنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر جنّة واقية، تدفع المؤمن عن المهالك، و أنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر يدعوان إلى الإنفاق ابتغاء وجه اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ يعني: فلو أنّهم أنفقوا ممّا رزقهم اللّه من النعم و الأموال في سبيله عزّ و جلّ كما أمرهم سبحانه، لوجدوا الجزاء العظيم المعدّ لهم.

و إنّما نسب الرزق إلى اللّه تعالى، اشعارا بأنّ ما يملكونه إنّما هو من رزق اللّه تعالى و من خزائن رحمته، فلا تنقص بالإنفاق، مع أنّه قادر على قطعه عنهم، فإنّه القادر على كلّ شيء.

ص: 195

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً تهديد لمن أعرض عن أوامر اللّه تعالى و أحجم عن الإنفاق في سبيله، فإنّ اللّه تعالى عليم بنياتهم و بإنفاقهم، لا تخفى عليه خافية، فهو يجزيهم جزاءهم، فيجزى المطيع على طاعته، و يعاقب المسيء و من أنفق على غير وجهه أو استنكف عن الإنفاق في ما أمره عزّ و جلّ . و الآية الشريفة تمهيد لما سيأتي من نفي الظلم عنه عزّ و جلّ .

بحوث المقام

بحث أدبي

التنوين في قوله تعالى: وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً للتعميم، أي: لا تشركوا به شيئا من الأشياء - صنما كان أم غيره - و قيل: للتحقير، أي: أنّ كلّ شيء تشركون به فهو حقير في جنب كبريائه و عظمته، بل لا نسبة بينهما أصلا، فيتضمّن التوبيخ العظيم.

و في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ ، أوجه من الإعراب، فقيل: إنّ (الذين) بدل من (من) في قوله تعالى: مَنْ كانَ مُخْتالاً ، بدل الكلّ من الكلّ .

و قيل: إنّه صفة لها، و هذا يصحّ عند من يقول بجواز وقوع الموصول موصوفا.

و قيل: إنّه منصوب على الذمّ . و عن بعض أنّه مرفوع على الذمّ .

و قيل: إنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. و عن بعض أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي: مبغوضون، و نحو ذلك ممّا يقتضيه السياق، و إنّما حذف ليذهب نفس المخاطب كلّ مذهب.

ص: 196

و قيل: إنّه مبتدأ، و (الذين) الآتي في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ معطوف عليه، و الخبر قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ ، و هذا أبعد الوجوه، و أصحّها الوجه الأوّل، و البقية تحتاج إلى شواهد و هي مفقودة.

و في البخل في الآية الشريفة أربع لغات، فتح الباء و الخاء، و ضمّهما، و فتح الباء و سكون الخاء، و ضمّ الباء و سكون الخاء، و كلّ واحدة قرئ، و لكن الأخيرة هي قراءة الجمهور.

و (ساء) في قوله تعالى: فَساءَ قَرِيناً منقولة إلى باب نعم و بئس، فهي ملحقة بالجامدة، و لذا اقترنت بالفاء. و يحتمل أن يكون الاقتران لأجل تقدير (قد) و هو كثير، كقوله تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ [سورة النمل، الآية: 90].

و (لو) في قوله تعالى: لَوْ آمَنُوا ، إما هي على بابها، و حينئذ فالكلام محمول على المعنى، أي: لو أنّهم آمنوا لم يضرّهم. أم تكون بمعنى (أن) المصدريّة، و على الوجهين فلا استيناف.

و قيل: إنّ الجملة على الاستيناف، و جوابها أي: حصلت لهم السعادة و نحو ذلك.

بحث دلالي

تذلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً على أنّ عبادة اللّه تعالى لا تتحقّق إلا بعبادة الواحد الأحد و نبذ الأنداد و الشرك به عزّ و جلّ ، و سياق الآية الشريفة يدلّ على لزوم نفي جميع أنحاء الشرك باللّه عزّ و جلّ ، سواء في الذات و الفعل و العبادة، و لأجل ذلك تكرّرت هذه الجملة المباركة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، الذي من أهمّ مقاصده الدعوة إلى عبادة الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد.

ص: 197

الثاني: يستفاد من اقتران الإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية الشريفة بالعبادة أنّ الأوّل من طرق عبادة اللّه تعالى، و أهمّ سبل التقرّب إليه عزّ و جلّ إذا استجمع الإحسان الشروط المطلوبة التي ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و بيّنته السنّة الشريفة، و أهمّها الخلوص بالاجتناب عن الشرك و الرياء و ما يوجب مقته عزّ و جلّ .

الثالث: إنّما ذكر عزّ و جلّ المختال الفخور في ذيل الآية الشريفة؛ لأنّ الإحسان من مظان الخيلاء و الفخر، لا سيما إذا اجتمع الناس إليه طالبين منه الإحسان و الإنفاق من ما أنعم اللّه عليه من الأموال و الجاه و الرفعة، فدفعا لما قد يتصوّره المنفق في هذه الحالة، و لئلاّ يقع في هذه الرذيلة ذكر عزّ و جلّ إن اللّه لا يحب من كان مختالا فخورا و كفى خزيا و مقتا عدم محبّة اللّه جلّت عظمته له.

الرابع: الآية الشريفة بايجازها قد اشتملت على أقسام الحقوق المعروفة في الإسلام، و هي حقّ اللّه تعالى، و حقّ الناس، و هو على أنواع حقّ القرابة، و حقّ الجار، و حقّ الإسلام، و ربّما تجتمع في مورد واحد.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ ، على أنّ الملكات النفسانيّة إنّما تظهر في الأقوال و الأفعال، فإن كانت تلك الملكات من الصفات الحسنة و مكارم الأخلاق، كانت الأفعال و الأقوال حسنة، و أنّها تصدر عن طبع متخلّق بخلق كريم، و إن كانت من الرذائل تكون الأفعال و الأقوال قبيحة، فمن اتخذ البخل شعارا له و صار من صفاته و ملكاته، كانت أقواله و أفعاله داعية إلى البخل، فهو يأمر به لسيرته الفاسدة.

و من هنا أمر الإسلام بتخلية النفس عن تلك الرذائل، حتّى تستعد لقبول الفضائل، فإنّها لا يمكن أن تحلّ في موضع هو متلبّس بالضدّ.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ ، على أنّ الرياء إثم عظيم و شرك باللّه العزيز، كاشف عن عدم الإيمان به عزّ و جلّ ،

ص: 198

لاعتماد المرائي على الناس دون الخالق، و أنّ الشرك الحاصل من الرياء قد يكون في العمل، و هو الشائع و قد يكون في الذات و العمل كليهما.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ، على أنّ الاحجام عن الإنفاق في سبيل اللّه تعالى، إنّما يكون عن عدم الإيمان باللّه تعالى و اليوم الآخر و عدم الاعتقاد بهما، و إن تلبّس بهما ظاهرا، و علاج ذلك إنّما يكون بالرجوع إلى الطاعة و الإيمان باللّه تعالى و باليوم الآخر، فهذه الآية المباركة تضمّنت الداء و العلاج، و لذا قدّم الإيمان باللّه تعالى و اليوم الآخر فيها و أخّره في الآية السابقة؛ لأنّ السابقة تضمّنت الإنفاق على غير وجه اللّه تعالى، فبيّن عزّ و جلّ أنّه إسراف و بذله إنّما يكون شركا باللّه تعالى لأنّه بذله رياء، و أما في هذه الآية المباركة قد امتنع عن الإنفاق لعدم الاعتقاد باللّه و اليوم الآخر، فهو لم يؤمن بالجزاء فبخل عن أمواله، فحكم بالإيمان أوّلا لرفع الداء و علاجه.

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد الوالدين و عليّ عليه السّلام الآخر. فقلت: أين موضع ذلك في كتاب اللّه ؟ قال: قرأ أبو عبد اللّه عليه السّلام: وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً »،

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا و علي أبوا هذه الامة»، و قريب منهما غيرهما من الروايات الكثيرة.

أقول: يستفاد من هذه الروايات امور:

الأوّل: إطلاق الأب أو الوالد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و على من يتلو تلوه من النفوس المقدّسة، التي هي العلّة الغائيّة لخلق هذا العالم، فكما أنّ الأب الجسماني هو مبدأ تكوين الولد و لا شأن له إلا ذلك، كذلك النفوس المقدّسة المرتبطة بعالم الغيب مبادئ نشو تربية الامة و تزكيتها و رقيها و هدايتها إلى السعادة و الكمال

ص: 199

و تنوير النفوس بالمعاد و الإلهة، بل أنّ الأب الواقعي للامة هي تلك النفوس المقدّسة، و أشرفها نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سيد العرفاء عليّ عليه السّلام.

و الآيات الشريفة التي توصي الأولاد بإحسان الوالدين، تشمل الأب الروحي و الجسماني، بل الإحسان للأب الروحي آكد، لأنّه الجامع للكمالات و الصفات الحميدة.

الثاني: يستفاد من الروايات أنّه لا يليق لهذا المقام إلا من كان له أهليّة ذلك بأن يكون أكمل أفراد الامة و أشرفها، و جامعا للصفات الحميدة التي يمكن بها هداية الامة إلى السعادة الأبدية، و أن يكون من نفس الامة و أنّ ذلك منحصر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام و الأئمة الطاهرين.

الثالث: أنّ المراد من الوالدين فيها تثنية الوالد من لا الأب و الام، كما هو المصطلح. و يمكن أن يكون بمعناهما المصطلح، أي: العلّة الفاعليّة لهذه الامة و العلّة المنفعلة لها.

و في المناقب لابن شهر آشوب عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال: «الوالدان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام».

أقول: الرواية من باب التطبيق لأكمل الأفراد و أشرفهما لا التخصيص، كما تقدّم.

و في كتاب المناقب عن جرير أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: «اخرج فناد:

ألا من ظلم أجيرا أجرته فعليه لعنة اللّه، ألا من تولّى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه، ألا من سبّ أبويه، فعليه لعنة اللّه - الحديث».

أقول: الرواية طويلة و إنّ المراد من الأبوين الأعمّ من الجسماني و الروحاني، لما مرّ.

و في تفسير العياشي في قوله عزّ و جلّ : وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ ، قال: «الذي ليس بينك و بينه قرابة. و الصاحب بالجنب، قال: الصاحب في السفر».

ص: 200

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، كما تقدّم في التفسير.

و عن الصادق عليه السّلام في عقاب الأعمال قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من مشى في الأرض اختيالا، لعنته الأرض و من تحتها و من فوقها».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ الاختيال صفة ذميمة، و أنّ المختال أبعد الناس من اللّه عزّ و جلّ .

و عن الصادق عليه السّلام في المحاسن: «ثلاث إذا كن في المرأة فلا تتحرّج أن تقول إنّها في جهنّم: البذاء و الخيلاء و الفخر».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، تدلّ على أنّها من الصفات السيئة التي توجب انهيار معالم الأخلاق الكريمة و الفضائل السامية، و الاختصاص بالمرأة لأنّها الأكثر ابتلاء بتلك الصفات، و إلا لا فرق بين الرجل و المرأة.

و قد وردت روايات في تفسير قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ، تدلّ على أنّ الآية الكريمة نزلت في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينصحونهم و يقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، و لا تدرون ما يكون. فنزلت الآية الشريفة و وبّختهم بكتمان نعم اللّه و ما آتاهم من فضل الغنى، و تقدّم مكرّرا أنّ شأن النزول لا يوجب التخصيص، و أنّ الآية الشريفة عامّة تنطبق على جميع مواردها مدى العصور و الأزمان.

بحث عرفاني

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ، مراتب العلماء باللّه العاملين بعلمهم، الذين يكونون حجّة على الخلق بأقوالهم و أفعالهم، و تتبرّك الأرض بوجودهم، فإنّ حسن المعاشرة معهم من حسن المعاشرة مع اللّه تعالى، و هم الذين يدعون ربّهم في ليلهم و نهارهم

ص: 201

بقولهم:

«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، و أنر أبصار قلوبنا بضياء النظر إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»، و هذا غاية كمال العارفين التي دعا إليها الأنبياء و المرسلون.

و ما سوى ذلك ممّا دعا إليه بعض العرفاء كابن الفارض و محي الدين و الحلاج و نحوهم، و ما نسب إلى بعض الشيخيّة على ما صرّح به في شرح زيارة الجامعة، فإنّ كلّ ذلك خروج عن الحقّ القويم و ابتعاد عن الصراط المستقيم.

كما أنّ ترتّب الإحسان إلى الوالدين على عبادة اللّه الواحد، يدلّ على فضل الوالدين، و أنّ لهما المنزلة العظمى في الهداية و التشريع، و أنّهما من طرق عبادة اللّه تعالى، فيختصّان بالوالدين الحقيقيين، و هما الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام، كما مرّ في الروايات.

و الآية الشريفة ترشد أهل العرفان إلى أهمّ الفضائل التي لا بد من التحلّي بها، و أهمّ الرذائل التي ينبغي أن يجتنب عنها، و هي الرياء و الكبر و الفخر، فإنّها من المهلكات و المبعدات عن ساحة الحبيب.

كما أنّ الاقتراب منه تعالى إنّما يكون بالإحسان إلى خلق اللّه تعالى، و قد استوفت الآية المباركة جميع أصناف الخلق، فإنّ الإحسان إليهم يوجب محبّته عزّ و جلّ إن لم يشب بما يوجب الإحباط و عدم محبّته للّه تعالى، و هو الفخر و الكبر و الرياء.

ص: 202

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَي.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً (42) الآيات الشريفة تحثّ المؤمنين على الاعتقاد بحقيقة واقعيّة لها الأثر في هداية الإنسان و اطمئنانه، و إنّها: لا إله إلا اللّه، و تحرّضهم لعبادة الواحد الأحد و العمل بما تؤدّيه تلك الحقيقة، التي هي الهدف الرئيسي في الأديان الإلهيّة.

كما تدلّ الآيات المباركة على أن أجر العاملين محفوظ لا ينقص منه شيء، و لا تصل إليه يد الظلم و الجور، بل يعطيهم سبحانه و تعالى الحسنات المضاعفة و الأجر العظيم إن هم استقاموا على تلك العقيدة.

و تندّد هذه الآيات المباركة بالذين لا يعملون بمقتضاها و يحجمون عن تنفيذ أحكامها و يعصون الرسول صلّى اللّه عليه و آله في تعاليمه و شريعته.

و قد بيّن عزّ و جلّ فيها أهمّ موضوع، و هو نفي الظلم عنه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، فهو عدل في حكمه و أفعاله، و ضمّ إلى ذلك شهادة الشاهدين من صفوة الخلق لتثبيت مضمونها، و لا يخفى ارتباط هذه الآيات بالسابقة منها.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مثقال منصوب إما على أنّه مفعول ثان ليظلم، و هو الحقّ ، و إما على أنّه صفة مصدر محذوف مفعول، أي: ظلما قدر مثقال ذرّة، فحذف المصدر و أقيم المضاف مقامه.

و الظلم معروف، و قد ذكر في معناه امور جميعها ترجع إلى ما هو المعلوم

ص: 203

المعروف و المرتكز في النفوس، و هو الجور و مجاوزة الحدّ. و أنّه يتعدّى إلى مفعولين، يقال: ظلمه حقّه، و ظلمه ماله، و نحو ذلك لتضمّنه معنى الغصب و النقصان، فعدّي إلى اثنين.

و المثقال: مفعال من الثقل، و هو في الأصل مقدار من الوزن - أي شيء كان من قليل أو كثير -

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا يدخل النّار من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان».

و الذرّة قيل: إنّها الصغير من النمل، و سئل ثعلب عنها فقال: «إنّ مائة نملة وزن حبّة، و الذرّة واحدة منها».

و قيل: الذرة ليس لها وزن؛ لأنّها الهباء المبثوث في الهواء، و يرى في شعاع الشمس الداخل من النافذة.

و الصحيح أنّها مثال للشيء المتناهي في الصغر، و إنّما ضرب المثال بالذرّة لأنّها أقلّ شيء ممّا يدخل في وهم البشر في عصر النزول، و إلا فإنّ العلوم الطبيعيّة المعاصرة قد أثبتت أشياء أصغر منها بكثير لا ترى بالعين المجرّدة.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالمثقال للإشارة إلى أنّه و إن كان شيئا حقيرا و وزنا قليلا لكنّه عظيم عند اللّه عزّ و جلّ و الظلم فيه كبير.

و الآية الشريفة تدلّ على نفي الظلم عنه عزّ و جلّ ؛ لمنافاته لحكمته المتعالية، و هذا هو المشهور بين العدليّة و الحكماء المتألّهين، أو لأنّ الظلم يستلزم الجهل، و هو منزّه عنه جلّت عظمته، فإنّه عالم بجميع الأشياء، لا يعزب عن علمه شيء، فيرجع نفي الظلم عنه إلى نفي الجهل، و هو من صفات الذات، أي: أنّ ذاته تبارك و تعالى التي تكون جامعة لجميع صفات الكمال، لا يتصوّر في حقّها النقص الذي هو الظلم، و ذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه، فإنّ مضاعفة الحسنة لا بد أن تكون عن علم بجميع خصوصيات المنعم عليه و النعمة و الفضل و الزيادة.

ص: 204

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها .

تعليل لما سبق من الاستفهام في الآية المباركة السابقة: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ، و بيان لنفي الظلم، فإنّ الذي يضاعف الحسنات لا يتصوّر في حقّه الظلم؛ لأنّه لا فائدة فيه ترجع إليه.

و الحسنة: هي الأفعال التي يقبلها العقل و يحثّ عليها الشرع. و المضاعفة:

هي الزيادة على الشيء بمثله في المقدار أو أمثاله، و قد أهمل سبحانه و تعالى المضاعفة في العدد و المدّة و لم يحددها في المقام - و إن ذكر في موضع آخر:

أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245]؛ لأنّها من مظاهر رحمته الواسعة غير المتناهيّة، فهو عزّ و جلّ في مقام الجزاء يضاعف الحسنات بما شاء من المضاعفة لرحمته الواسعة.

و المعنى: أنّهم لو آمنوا و أنفقوا لم يكن اللّه ليظلمهم، و لأعطى جزاء أعمالهم و إنفاقهم، بل ضاعف لهم الأجر بما يشاء في العدد أو المدّة أو كليهما.

قوله تعالى: وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً .

بيان للحسنة المضاعفة و تعليل لها، أي: أنّ اللّه يضاعف الحسنات لأنّه يعطي الأجر العظيم، و لا يقتصر على مضاعفة حسنات المحسنين، بل يزيد عليهم و أنّه يعطيهم الأجر العظيم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ تكريما للمطيع و إكمالا لابتهاجه، و قد اختلفوا في الأجر العظيم، فذكر بعضهم أنّه الجنّة.

و قال آخرون: إنّه اللذّة الحاصلة عند اللقاء و الاستغراق في المحبّة و المعرفة، و الحقّ هو الأوّل؛ لأنّها مقابل الحسنات، و هذه أعظم و أكثر، فإنّه يشمل اللذائذ المعنويّة الروحانيّة و درجاتها أيضا.

ص: 205

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً .

تثبيت لمضمون ما ورد في الآيات السابقة و تعظيم الأمر على المخالفين و المعاندين و الكافرين، و تهويل حالهم في يوم لا سبيل لهم إلا الإقرار و الاعتراف، فيستحقّون جزاء إنكارهم و أعمالهم الفاسدة، و قد دأب القرآن الكريم أنّه إذا ذكر أحكاما معيّنة و أمورا ترتبط بالعقيدة و التوحيد و شؤون الخالق و الربّ العظيم أن يذكر بعد ذلك ما يثبتها بأمور حسنة لا يمكن إنكارها، لئلا يكون للناس على اللّه حجّة، و لدفع شبه المعاندين، و من تلك الأمور الحسنة الشهادة التي يقبلها جميع أفراد الإنسان و تقوم عليها نظام معاشهم، فيأتي اللّه تعالى يوم القيامة بالشهداء المحمودين المقبولين عند جميع الأمم، و هم الأنبياء و الأوصياء، فإذا شهدوا على أحوال أممهم ثم قرّر تلك الشهادات بشهادة خاتم الأنبياء، لأنّه أشرفهم و هو غاية بعث الرسالات السماويّة، فهو الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل و المهيمن على ذلك كلّه، فإنّ هؤلاء الشهداء يشهدون على أحوال أممهم من إطاعتهم و عصيانهم و بغيهم و عنادهم و استقامتهم و خروجهم عن الطاعة و إعراضهم عن ما جاءوا به من المشهود، إذ لا سبيل لهم للإنكار و لا خلاص لهم من أهوال ذلك اليوم العصيب بعد أن يتبرّأ منهم الأنبياء و الشهداء، فلا تفيدهم ادعاء الاتباع لهم. و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ [سورة البقرة، الآية: 143] معنى الشهادة و ما يتعلّق بكيفيّة الشهادة، فراجع.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد ب هؤُلاءِ هم الذين كانوا موجودين حين النزول، فهو صلّى اللّه عليه و آله يشهد أنّه جاء لهم بالدين القويم و بلّغ ذلك أحسن تبليغ و أقام الحجج على الدعوة، و ما قاساه من العتاة و المشركين من العناد و الضلال و شدّة الأذى، و تألبهم عليه مجاهرة و نفاقا، فيكون حجّة على المفرطين و المعاندين.

ص: 206

و لكن ظاهر الآية الشريفة يعطي معنى أبعد من ذلك، فإن شهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمته يوم الشهادة أمر يدلّ عليه قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، فإنّ عمومه يشمل امة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أيضا، فيكون ذيل الآية المباركة لبيان أنّ شهادة الأنبياء، جميعهم أيضا ممّا يقرّر بشهادة سيدهم و خاتمهم، فإنّ له المقام المحمود يوم القيامة، و يدلّ على ذلك بعض الروايات، كما سيأتي في البحث الروائي.

يضاف إلى ذلك أنّه لا وجه لاختصاص الآية المباركة بالذين كانوا موجودين حين النزول، فهو صلّى اللّه عليه و آله حجّة على أمته من حين النزول إلى يوم القيامة، فيشهد صلّى اللّه عليه و آله على كلّ انحراف و تغيير و تبديل و إعراض عن تعاليمه المقدّسة، كما تدلّ عليه آيات متعدّدة.

و يمكن رفع الاختلاف بأنّ شهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمته شهادة على جميع الأمم باعتبار أنّ تعاليمه مكمّلة لتعاليم الأنبياء، و أنّ أمته امتداد لسائر الأمم.

قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ .

بيان لحالهم بعد شهادة الأنبياء و تمامية الحجّة عليهم. أي: أنّ الذين كفروا باللّه و عصوا الرسول في تعاليمه و أحكام الشريعة و ما جاء به من اللّه تعالى عند تماميّة الحجّة عليهم بشهادة الأنبياء، يتمنّون أن ينعدموا و لا يبقى لهم أثر في ذلك اليوم العصيب.

قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ أي: الدفن فيستوون مع الأرض، و هو كناية عن بطلان الوجود و انعدامهم، فلا يؤخذوا بما فعلوا. و قد فسّرت هذه الجملة في موضع آخر من القرآن الكريم بالتراب، قال تعالى: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40].

ص: 207

قوله تعالى: وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً أي: يودّون أن ينعدموا و لا يبقي لهم أثر، لعدم قدرتهم على كتمان أحوالهم و أعمالهم و صفاتهم بعد ما ظهرت بشهادة الأنبياء و أعضاء أبدانهم و حضور أعمالهم، فهم بارزون للّه تعالى لا يخفى عليه منهم شيء، فيودّون لو لم يكونوا بعد ما لم يقدروا على كتمان أمر من أمورهم، كما كانوا يفعلون في دار الدنيا فقد تمّت الحجّة عليهم و استحقّوا جزاء أعمالهم.

و إنّما ذكر تعالى هذه الجملة بعد تمنّيهم الانعدام و التسوية مع الأرض لبيان يأسهم و شدّة حالهم في تلك اللحظة.

بحوث المقام

بحث أدبي:

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، (تك) أصلها (تكن) حذفت النون للتخفيف، و يكثر حذفها في مثل هذه، و علّله بعضهم بأنّ النون تشبه حروف العلّة من حيث الغنة و السكون.

و القراءة المعروفة في حَسَنَةً على النصب خبر كان، فيكون اسمها مستترا عائدا على الذرة.

و قيل: يعود إلى المثقال، و إنّما أنث لأنّ المثقال مضاف إلى ذرّة. و نوقش بأنّ تأنيث المضاف باعتبار المضاف إليه شاذّ، خصوصا إذا كان المضاف إليه محذوفا، و الحقّ أنّ التأنيث راجع إلى الخبر، قال تعالى: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ [سورة النساء، الآية: 176]، و قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً [سورة النساء، الآية: 11 ]، و نحو ذلك ممّا هو كثير، هذا إذا جعلنا كان ناقصة، و قرئ برفع (حسنة) على أنّ (تك) تامّة.

ص: 208

و (لدن) بمعنى عند، قال بعضهم: إنّه أقوى في الدلالة على القريب من عند.

و فيه اربع لغات بفتح اللام، و ضمّ الدال، و (لدن) بضم اللام و سكون الثاني، و لدن بفتح الأوّل و ضمّ الثاني و حذف النون، و (لدن) بفتح الأوّل و الثاني مع الياء، و إذا أضافوه إلى أنفسهم شدّدوا النون.

و إنّما دخلت «من» عليه لابتداء الغاية، و لدن كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول (من) عليه.

و (كيف) في قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا محلّها إما الرفع على أنّها خبر لمبتدأ محذوف، أو النصب بفعل محذوف، و التنوين في «يومئذ» تنوين عوض، حذفت الجملة و عوض عنها التنوين.

و (لو) في قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى مصدريّة.

و قد اختلفوا في جملة: وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً ، فقيل: إنّها عطف على جملة: (لو تسوى)، و قيل: إنّها معطوفة على جملة (يود)، و قيل: إنّها مستأنفة، و لا يضرّ هذا الاختلاف بأصل المعنى.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ على نفي وقوع الظلم منه تعالى مطلقا، و يستفاد من ذيل الآية المباركة: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، أنّ عدم وقوع الظلم عنه يستند إلى أمرين:

الأوّل: الاستغناء المطلق، فإنّه عزّ و جلّ مستغن عن كلّ شيء، و لاستغنائه تعالى عن الخلق يضاعف الحسنات، فلا وجه للظلم الذي هو لازم الحاجة و الفقر، و هو تعالى منزل عنهما.

الثاني: الحكمة الإلهيّة، فإنّها تقتضي نفي الظلم عنه، لا من حيث القدرة

ص: 209

التي تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الظلم - المنزّه عنه ذاته الأقدس - فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات و إيتاء الأجر العظيم، لقادر على تنقيص ذلك، و منع الأجر عن صاحبه، لكنه لا يفعل ذلك لحكمته المتعالية، و هذا هو معنى العبارة المعروفة: «إنّ اللّه تعالى لا يظلم لحكمة، لا لقدرة»، أي: أنّ حكمته المتعالية تقتضي نفي وقوع الظلم عنه، لا لعدم قدرته، فإنّها تعلّقت بجميع الأشياء، فهو قادر على الظلم لكنه لا يفعله لمنافاته الحكمة، و سيأتي تتمة الكلام في البحث الكلامي إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ على أنّ جميع الأشياء لها وزن معين معلوم، فإنّ الذرّة التي هي متناهية في الصغر لها وزن معين معلوم عند اللّه تعالى، و هو عزّ و جلّ لا يظلم زنة ذلك المقدار، و قد أثبتت العلوم الطبيعيّة المعاصرة الوزن لجميع الأشياء حتّى الهواء، و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه النظرية قبل هذا بقرون كثيرة.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، على أنّ الأجر لا بد أن يكون عن استحقاق و على موضوع قابل مستعد، فإن ترتّب هذه الجملة على قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، يدلّ على أنّ موضوع استحقاق الأجر هو الحسنة التي يفعلها الإنسان، فاللّه تعالى يضاعفها، فتكون الحسنات المضاعفة هي موضوع الأجر العظيم، و من ذلك يستفاد أنّ هذا الترتّب من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ على المقام العظيم للشهداء في يوم القيامة، و كمال هؤلاء الشهداء و علو مقامهم و تنزيههم عن المآثم، فإنّ الشهادة لا تكون إلا ممّن اجتمعت فيه شروط الشهادة، التي منها الإحاطة العلميّة لجميع أفراد أممهم و خصوصيات أعمالهم، و منها عصمتهم، و عدم صدور الذنب منهم، فإنّ المذنب لا يكون شاهدا على مذنب

ص: 210

آخر، و منها غير ذلك، و قد تقدّم أنّ الشهادة لا تكون إلا لمن اصطفاه اللّه تعالى لهذا المقام، و هم الأنبياء و الأوصياء.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً المنزلة المحمودة و المقام الكريم لسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ خاتم الأنبياء مضافا إلى كونه شاهدا على أمته، فهو شاهد على جميع الأنبياء و أممهم؛ لأنّ شريعته غاية التشريعات السماويّة، و مكمل الأديان الإلهيّة، فلا يليق هذا المقام إلا له و هو منحصر به.

السادس: يدلّ قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ على أنّ الإنسان إذا انقطعت عنه الحجّة و توصدت عليه الأبواب، يتمنّى أن يكون ترابا تطأه الأقدام فيغفل عنه الناس و يستولي عليه كلّ أحد، و لا يكون مثارا للسؤال و الجزاء المهين.

السابع: المراد من التسوية تسوية الكفّار الذين عصوا الرسول مع الأرض، بقرينة الآية الشريفة: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40]، لا تسوية الأرض معهم، فإنّ ذلك لا يناسب المعنى و بعيد عن الآية الشريفة بالمرّة.

الثامن: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ ، أنّهم إنّما تمنّوا ذلك بأن تطمس نفوسهم و لا نقش فيها من العقائد الزائفة و الرذائل الموبقة، لتكون مستعدّة لفيض ذلك اليوم الذي يعمّ المؤمنين.

بحث روائي

في الدرّ المنثور عن ابن انس: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، و يجزي بها في الآخرة، و أمّا الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة».

ص: 211

أقول: أمثال هذه الرواية التي تدلّ على شرف المؤمن على غيره كثيرة، فإنّ آثار حسنات المؤمن تظهر في جميع العوالم - الدنيا و عالم البرزخ و يوم الجزاء - بل قد تؤثّر في الأعقاب أيضا لمكان إيمانه، بخلاف الكافر، فإنّ آثار حسناته إما تظهر في الدنيا فقط، أو في عالم البرزخ - كما في بعض الروايات - و أما في عالم الآخرة فإنّ حسناته لا تمنعه عن الدخول في النّار، لاختياره الكفر في هذه الدنيا، و المراد من النفي الوارد فيها ذلك. و قد توجب التخفيف عن العذاب، و هو في النّار و لا يخرج منه أبدا.

و في الدرّ المنثور أيضا في تفسير الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها عن ابن مسعود قال: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأوّلين و الآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حقّ فليأت إلى حقّه، فيفرح و اللّه المرء أن يدور له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه و إن كان صغيرا، و مصداق ذلك في كتاب اللّه: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ، فيقال له: ائت هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي ربّ و من أين و قد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه لملائكته: انظروا أعماله الصالحة و أعطوهم منها.

فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة قالت الملائكة: يا ربّنا أعطينا كلّ ذي حقّ حقّه و بقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضعفوها لعبدي و أدخلوه بفضل رحمتي الجنّة، و مصداق ذلك في كتاب اللّه: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، أي: الجنّة يعطيها. و إن فنيت حسناته و بقيت سيئاته قالت الملائكة: إلهنا فنيت حسناته و بقي طالبون كثيرون، فيقول اللّه: ضعفوا عليه من أوزارهم و اكتبوا له كتابا إلى النّار».

أقول: أمثال هذه الرواية كثيرة بين الفريقين، و أنّها تدلّ على امور:

الأوّل: أنّ الحقّ المذكور فيها من الحقوق الخلقيّة، سواء كان من قسم

ص: 212

المجاملي أو من غيره، و أما الحقوق الإلهيّة، فهي بينه سبحانه و تعالى و بين عبده، و يكون العبد مسئولا عنه حسب القوانين و الشرائع الإلهيّة المفصّلة في الفقه.

الثاني: لا بد و أن يكون الحقّ باقيا؛ لأنّ الحقوق مطلقا - خصوصا الخلقيّة منها - لا تسقط إلا بالتهاتر أو بالإسقاط، و الأداء و التهاتر إما في هذه الدنيا أو في يوم الجزاء بأخذ الحسنة ممّن عليه الحقّ ، كما في هذه الرواية و غيرها.

الثالث: مناسبة الحقّ مع الحسنة، فإنّ للحسنة مراتب كثيرة متفاوتة، و الحقّ أيضا له مراتب كذلك، فلا بد و أن تكون الحسنة تناسب الحقّ ، و تكون مثله.

الرابع: يستفاد منها أنّ تخفيف الوزر و حطّه عن من له الحقّ و وضعه على من عليه الحقّ ، جزاء لعمله نحو حسنة تعود إلى من له الحقّ .

في الكافي بإسناده، عن سماعة، عن الصادق عليه السّلام: في قول اللّه عزّ و جلّ :

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، نزلت في امة محمد خاصّة في كلّ قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، و محمد صلّى اللّه عليه و آله في كلّ قرن شاهد علينا».

أقول: اختصاص الآية المباركة بامة محمد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها أشرف الأمم و أنّ الشهادة عليهم تستلزم الشهادة على غيرهم من الأمم السابقة.

و أما شهادته صلّى اللّه عليه و آله على الشهداء من الأئمة عليهم السّلام في كلّ قرن و زمان إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق، و إنّ ذلك لا ينافي كونه صلّى اللّه عليه و آله شاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

و في الاحتجاج: عن علي عليه السّلام في حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف:

«فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أممهم، و تسأل الأمم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ ، فيقولون: ما جاءنا بشير و لا نذير،

ص: 213

فيستشهد الرسل رسول اللّه، فيشهد بصدق الرسل و يكذب من جحدهم من الأمم، فيقول لكلّ امة منهم: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم، و لذلك قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، فلا يستطيعون ردّ شهادته، خوفا من أن يختم اللّه على أفواههم و أن يشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، و يشهد على منافقي قومه و أمته و كفّارهم، بالحادهم و عنادهم و نقضهم عهده و تغييرهم سنته و اعتدائهم على أهل بيته و انقلابهم على أعقابهم و ارتدادهم على أدبارهم و احتذائهم في ذلك سنّة من تقدمهم من الأمم الظالمة الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ ».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء قبل نطق جوارحهم، كما يدلّ عليه الآية الشريفة: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: 24]، و قبل شهادة الأنبياء، لأنّ ليوم الجزاء مواقف متعدّدة و مراحل كثيرة.

الثاني: أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء إنّما يكون منشأه كفرهم باللّه العظيم في هذه الدنيا و رسوخ الملكات السيئة في نفوسهم الحاصلة من عنادهم و لجاجهم مع الأنبياء في الدنيا، و يدلّ على ذلك آيات شريفة و آيات كثيرة، يأتي التعرّض لها في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: استشهاد الأنبياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه أشرفهم و مكمّل رسالاتهم، و هو صلّى اللّه عليه و آله يعلم بما جرى في الأمم السالفة بوحي من اللّه عزّ و جلّ ، فيشهد بصدق الرسل و تأدية الرسالات، و يكذب من جحدها.

الرابع: يستفاد منها مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه تعالى، فإنّه له عند اللّه

ص: 214

المنزلة الرفيعة و المقام المحمود و الشأن الكبير، و لا يستطيع أحد ردّ شهادته خوفا من الفضيحة و العذاب، فيعترفون بالضلالة بعد شهادته صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدرّ المنثور عن البخاري و غيره، و عن البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقرأ عليّ ، قلت: يا رسول اللّه، أقرأ عليك و عليك انزل ؟! قال نعم، إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتّى أتيت على هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، فقال: حسبك الآن، فإذا عينان تذرفان».

أقول: و قريب منه غيره، و لعلّ بكائه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه شاهد على جميع الخلق، متّصف بمقام الشهادة، فهو المسؤول عنهم، فمقام مثل هذه الشهادة مقام خطير جدا و عظيم.

في تفسير العياشي عن أبي بصير: قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ؟ قال: يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة من كلّ امة بشهيد يوصي نبيّها، و اوتي بك يا عليّ شهيدا على امتي يوم القيامة».

أقول: لا تنافي بين هذه الرواية و بين ما تقدّمت من الروايات، لما عرفت من أنّ الرسل و أوصيائهم يستشهدون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهو شهيد على جميع الخلائق بواسطة الرسل و الأوصياء.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة يوم القيامة: «تجمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ، فيقام الرسل فيسأله، فذلك قوله لمحمد صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل».

ص: 215

أقول: يستفاد من هذه الرواية تعدّد المنازل و المواطن في يوم القيامة، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شهيد على جميع الرسل و الشهداء، كما تقدّم.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً ، قال: «يتمنّى الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه، و أن لم يكتموا ما قاله رسول اللّه فيه».

أقول: هذا من باب التطبيق، فإنّ غصبه عليه السّلام و عصيانه يكون من عصيان الرسول و الخروج عن طاعته.

و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة: «ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي و شهدت الأرجل و أنطقت الجلود بما عملوا، فلا يكتمون اللّه حديثا».

أقول: معنى الرواية أنّ الخلائق يوم القيامة لا يكتمون اللّه حديثا تكوينا، أي: بجوارحهم، فإنّها تشهد عليهم، كما يأتي في الآيات الدالّة على ذلك.

و أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم عن حذيفة قال: «أتي بعبد آتاه اللّه مالا فقال له: ماذا عملت في الدنيا - و لا يكتمون اللّه حديثا - فقال: ما عملت من شيء يا رب إلا أنّك آتيتني مالا فكنت أبايع الناس، و كان من خلقي أن أنظر المعسر، قال اللّه: أنا أحقّ بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال أبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعت من في رسول اللّه».

أقول: هذا من باب ذكر أحد المصاديق للآية الشريفة، و أنّ الروايات في فضل و ثواب إنظار المعسر كثيرة، و أنّ الجوارح كما تشهد بما صدر عنها من الأفعال السيئة، كذلك تشهد بالأفعال الحسنة الصادرة عنها، فإنّ شهادتها تعمّ .

ص: 216

بحث كلامي

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ صفات اللّه جلّ شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه و الاعتبارات:

فتارة: تنقسم إلى صفات الذات و صفات الفعل.

و اخرى: إلى الصفات العامّة كالخالقيّة، و الخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها و أقسامها.

و ثالثة: تنقسم إلى الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و في هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير، أي الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و المراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالا للمتّصف بها، و لا يستلزم من نسبتها إليه عزّ و جلّ نقص، فيجب حينئذ الاتّصاف بها، و هي كثيرة، كالعلم و الحياة و القدرة و نحو ذلك، و تسمّى بالصفات الجماليّة أو الكماليّة.

و المراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدّسة، و تسمّى بالصفات الجلاليّة، أي: يجلّ و ينزّه تعالى عنها، و هي النواقص و لواحق الإمكان و كلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عزّ و جلّ نقصا، و هي كثيرة و قد ورد جملة منها في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، مثل أنّه تعالى ليس بجسم، و لا بمكاني و لا زماني، و لا كيف له، و أنّه ليس بمتحرّك، و لا سكون له، و لا يرى، أي: لا تدركه الأبصار و غير ذلك، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كلّه. إلا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عزّ و جلّ ، كما دلّت عليه الآية التي تقدّم تفسيرها.

و قبل أن نتعرّض لذلك لا بد أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتصاف بها؛ للزوم النقص، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون عليهم السّلام، و هو أنّ الصفات الكماليّة التي يتّصف بها عزّ و جلّ لا يمكن

ص: 217

دركها بحقيقتها و كنهها، و لا يمكن أن يصل إليها عقول البشر، فاللّه تعالى عالم، أي: ليس بجاهل، لأنّ حقيقة علمه عزّ و جلّ لا يمكن دركها و لا تصل إليها فهم الإنسان، فإنّ ذلك في الصفات الكماليّة التي يجب أن يتصف بها الذات المقدّسة، و إلا استلزم النقص بالنسبة إليها، لا الصفات السلبيّة التي يجلّ أن يتصف بها.

ثم إنّه جلّت عظمته منزّه عن الظلم، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة، فمن الكتاب آيات عديدة، منها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ اَلنّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس، الآية: 44]، و قوله تعالى: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف، الآية: 49].

و منها: الآية التي تقدّم تفسيرها: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، و المستفاد من هذه الآية الشريفة امور:

الأوّل: أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزليّة، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحدا، و هذا هو معنى العبارة المعروفة: «إنّ اللّه لا يظلم لحكمة، لا لقدرة» كما تقدّم، فإنّ قدرته تامّة كاملة قد تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات، و لكن الحكمة الإلهيّة اقتضيت أن لا يفعل ذلك، و هو لا يفعل شيئا خلاف الحكمة، فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها، و لكنّه لا يظلم أحدا.

الثاني: أنّ وقوع الظلم منه يستلزم الجهل، و هو منزّه عنه تعالى، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتم بحقائق الأشياء، و الظالم يجهلها فيظلم.

الثالث: استغناؤه عن الظلم، فلا غرض له يتعلّق به، و هو منزّه عنه؛ لأنّ اللّه تعالى يضاعف الحسنات و يعطي الأجر العظيم لمن استحقّه، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه.

ثم إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته، بخلاف العكس كما هو واضح.

ص: 218

بحث عرفاني

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ مقام الشهادة من أجلّ المقامات و أرفعها، و لذا اختصّ به الأنبياء العظام و أوصياؤهم، و هي تختلف حسب اختلاف الأمم، و حسب المشهود عليهم، و أفضلها شهادة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فهو الشهيد على جميع الخلق في أعمالهم و معتقداتهم، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، و إنّما يكون شهيدا إذا حضر عنده الخلق؛ لأنّ الشهود من الحضور فلا بد و أن تكون الحقائق حاضرة عند الشاهد و يكون مطلعا عليها مراقبا لأوضاعها و حالاتها، و لا يصل الشاهد إلى هذه المرتبة إلا إذا كان مراقبا لنفسه و مطّلعا على أحوالها يجاهد على إصلاحها، و يطلب بذلك مرضاة اللّه تعالى و محبّته، و لا يرى شيئا إلا و يرى اللّه حاضرا عنده، كما عن سيد العارفين أمير المؤمنين عليه السّلام، فيصل الشاهد إلى مرتبة يحضر لديه كلّ أحد و يظهر له معتقده و يكشف عن حاله، و لا ينال هذه المرتبة إلا المخلصون من عباده تعالى، الذين استثناهم إبليس من غوايته، فتختصّ بالأنبياء و الأولياء عليهم السّلام و من حذى حذوهم من الأبرار و الصلحاء.

و أما شهود الحضرة المحمديّة على الخلق جميعا، فلأنّه خاتم الأنبياء الشاهدين على أممهم، بل هو العلّة الغائيّة للعالم، و أنّه الواصل إلى مرتبة حبيب اللّه و الفناء فيه عزّ و جلّ ، فلا بد أن يحضر الخلق لديه و تظهر معتقداتهم عنده.

و الظاهر أنّ الاستفهام في الآية الشريفة لأجل استبعادهم أن يكون صلّى اللّه عليه و آله شهيدا يشهد على أعمالهم و سرائرهم، و هو من أفراد الإنسان، و يكون مطّلعا على جميع حالاتهم، و قد تفانوا في طلب الدنيا و جبلت قلوبهم على حبّها و استحكمت الملكات الرذيلة في قلوبهم، و الآية المباركة تخبرهم على تحقّق الشهادة، و أنّها واقعة لا محيص عنها و لا شكّ فيها.

ص: 219

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ ع.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) الآية الشريفة تذكر أهمّ شعيرة من شعائر الإسلام، و هي الصلاة و ما يتعلّق بها من الغسل و التيمم، و تتجلّى أهميّة هذه الشعيرة ذكرها في المقام بين جملة من الآيات التي أمرت بعبادة الإله الواحد الأحد، و الإنفاق في سبيله، و التنديد بأعداء لا إله إلا اللّه من اليهود و النصارى و المشركين و المنافقين، حيث صوّرت حالهم في الدنيا و خسرانهم في الآخرة، ثم يذكر عزّ و جلّ في الآيات اللاحقة أحوال اليهود و طباعهم، فتتجلّى أهمية هذه الآية المباركة من بين هذه الآيات المترابطة المتّحدة في السياق.

و من دأب القرآن الكريم أنّه إذا كان أمر بمكان من أهمية أن يذكره في ضمن آيات مترابطة المضمون و متّحدة في السياق، و يدسّه فيه ليتوجّه ذهن السامع إليه و يجلب مشاعره، و مثل ذلك كثير.

على أنّ القرآن إنّما نزل لتكميل الإنسان و هدايته إلى الطريق المستقيم، و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الأمور التي لها ارتباط بذلك.

و في هذه الآية الشريفة ذكر أمرا آخرا منها، و عقّب بالأمر بعبادة اللّه الواحد و نبذ الشرك بهذه الآية، لبيان أنّ هذه العبادة إنّما تتحقّق في هذه الشعيرة و ما يشرّعه عزّ و جلّ ، لا ما يصنعه الإنسان من عند نفسه.

و قد تضمّنت الآية المباركة أحكام الجنابة و الغسل و رخصة التيمم للمريض و في السفر، و في حالة عدم وجدان الماء، و هي بجملتها لها ارتباط

ص: 220

بشعيرة الصلاة و التوجّه إلى عبادة اللّه تعالى بالتطهير من الخبائث و ما يوجب البعد عن مقام الأحديّة عند الوقوف بين يديه عزّ و جلّ ، ليكون وسيلة للابتعاد عن أهوال يوم القيامة - ذلك اليوم الذي يتمنّى الكافر أن يسوى مع الأرض - و التقرّب إليه سبحانه و تعالى.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ذكرنا مرارا أنّ الخطابات القرآنيّة عامّة تشمل جميع أفراد الناس الموجودين حال الخطاب و غيرهم، كما أنّها تعمّ المؤمنين و غيرهم، إلا إذا دلّ على التخصيص، و هو مفقود في المقام.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ المؤمنين تشريفا لهم بالأهليّة للخطاب الربوبيّ ، و هم الفائزون بشرف العمل به. و للإرشاد بأنّ العمل بهذه التكاليف يوجب الاتصاف بصفة الإيمان.

و ذكر بعضهم: أنّ الخطاب في المقام إنّما هو للمؤمنين السكارى، و هم لا يعون الخطاب، فيكون مثل هذا دليلا على جواز التكليف المحال، و لكن فساد ذلك واضح، فإنّ الخطاب لا يستلزم وجود السكارى حاله، لما ثبت في الأصول أنّ صحّة الخطاب لا تدور مدار وجود المخاطبين، و لذا صحّ خطاب المعدومين و فاقدي الأهليّة و الشروط، فراجع (تهذيب الأصول).

و كيف كان، فهذا الخطاب المبدوء بحرف النداء و التنبيه يدلّ على أهميّة الحكم.

قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى .

القرب معروف، و هو الدنو من الشيء مقابل البعد، فهما يستعملان في الزمان و المكان، و في النسبة و القدرة و الرعاية و غيرها، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ [سورة الأنبياء، الآية: 1]، و قال تعالى: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [سورة الأحزاب، الآية: 63]، و قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و قال تعالى: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى [سورة النساء، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 56].

ص: 221

القرب معروف، و هو الدنو من الشيء مقابل البعد، فهما يستعملان في الزمان و المكان، و في النسبة و القدرة و الرعاية و غيرها، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ [سورة الأنبياء، الآية: 1]، و قال تعالى: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [سورة الأحزاب، الآية: 63]، و قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و قال تعالى: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى [سورة النساء، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 56].

و قرب العبد من اللّه تعالى قرب روحانيّ ، لا قرب جسمانيّ و لا مكانيّ ؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام و اللّه جلّ شأنه يتعالى عن ذلك و يتقدّس، كما أنّ قرب اللّه إلى العبد هو بالإفضال و الفيض عليه من مواهبه و ألطافه و الإحسان إليه و ترادف مننه عليه،

و في الحديث: «أن موسى عليه السّلام قال: إلهي أ قريب أنت فأناجيك ؟ أم بعيد أنت فأناديك ؟ فقال: لو قدرت لك البعد لما انتهيت إليه، و لو قدرت لك القرب لما اقتدرت عليه»،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله فيما ذكر عن اللّه تعالى في القدسيات: «من تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا»،

و قوله تعالى: «ما تقرّب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، و أنّه ليتقرّب إليّ بعد ذلك بالنوافل حتّى احبّه»، و معنى حبّه إزالة الأوساخ عنه و تحلّية بأكمل الصفات و أجلّها،

و في الحديث: «صفة هذه الامة في التوراة قربانهم دمائهم»، أي: يتقرّبون إلى اللّه تعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، و في مرضاته جلّت عظمته.

و لا تقربوا (بفتح الراء) بمعنى لا تلبسوا بالصلاة، و (بضم الراء) بمعنى لا تدنوا، و الظاهر أنّهما متلازمان، و مثل هذا التعبير معروف في القرآن الكريم، و إنّما أتي به للتأكيد على احترام الصلاة و الاجتناب عنها في حال السكر بعدم القرب منها.

و النهي عن الصلاة في تلك الحال مستلزم للنهي عن مقدّماتها و مواضع الصلاة؛ لأنّه من أنحاء القرب منها، فإنّ القرب من الرحمن إنّما يكون بها. و حالة السكر دنوّ إلى الشيطان، فلا يمكن الجمع بينهما.

ص: 222

و الصلاة: هي الشعيرة المعروفة في الإسلام و من العبادات التي لم تنفكّ شريعة منها، و إن اختلفت صورها و شرائطها حسب شرع دون آخر، و قد اهتمّ بها الإسلام اهتماما بليغا و حثّ على إقامتها.

و سكارى: (بضم السين) جمع السكران، مثل كسالى و كسلان، و السكر خلاف الصحو، و هو حالة تعتري على الإنسان تفصل بين المرء و عقله، فتعبث بشعوره و يخرجه عن الاستقامة الطبيعيّة، فلا يعلم ما يقول، كما ورد في قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

و قد يكون السكر من الهوى و العشق، و الأكثر ما يعتري على الإنسان من الشراب المخصوص المعتصر من العنب و غيره، قال الشاعر:

سكران سكر هوى و سكر مدام كما يعترى على الإنسان من شدّة النعاس و هو سكر النوم، و للسكر مراتب مختلفة شدّة و ضعفا، و كذا في سكرات الموت، قال تعالى: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [سورة ق، الآية: 19].

و المراد به في المقام هو المعنى العامّ ، و هي الحالة التي تستولي على الحواس الموجبة لعدم معرفة ما يقول - كما يدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي - فإنّ المصلّي لا بد له من حفظ صورة الصلاة و الالتفات إليها ليصونها عن الاختلاط في أفعالها و أقوالها و الذهول عنها، و هذا يستلزم أن يكون صحوا ذو التفات و شعور، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة، و يؤيّد ذلك

ما ورد عن الصادق عليه السّلام:

«من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف و ليس بينه و بين اللّه عزّ و جلّ ذنب له إلا غفر له».

و على هذا، يشمل سكر النوم و السكر الحاصل من شرب الخمر بطريق أولى، فيكون نهيا عن الصلاة كسالى و في حالة الغفلة و الذهول. و قال بعضهم:

إنّه يختصّ بالسكر الحاصل من الخمر؛ لكثرة الاستعمال فيه.

ص: 223

و فيه: أنّ كثرة الاستعمال لا تمنع من إرادة المعنى العامّ ، خصوصا بملاحظة عموم التعليل حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

و على هذا، يظهر فساد القول بأنّ الآية الكريمة نزلت لتحريم الخمر في حالة خاصّة و هي الصلاة؛ لأنّ الخمر كانت من الأمور المتفشّية في المجتمع الجاهلي و في عصر نزول القرآن، و كانت ما تزال عالقة بقلوب بعض المؤمنين، و في مثل ذلك يحتاج إلى تدرّج طويل حتّى تمحى من النفوس.

و لكن ذلك تطويل بلا طائل تحته، إذ كم كانت من العادات السيئة العالقة في النفوس المستحكمة فيها قد ورد النهي الصريح عنها بلا إمهال و تدرّج، منها قضية الألوهيّة و الأخلاق الفاسدة و نكاح الأمهات و الربا، إلى غير ذلك من العادات السيئة و الصفات الذميمة، و الخمر أيضا كذلك، إلا أن يكون الخمر مختلفا عن غيرها، كما قاله بعضهم (من أنّ الخمر عادة نفسيّة و جسديّة و اجتماعيّة)، و لكن ذلك لا يكون سببا للفرق، فإنّ الكذب و سائر الفواحش أيضا كذلك إذا شاعت في المجتمع، و إنّما ورد النهي المكرّر عن الخمر بالخصوص؛ لأنّها ام الخبائث و السبب في إشاعة الفحشاء، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [سورة البقرة، الآية: 219] فراجع. و قد تكلّف بعض المفسّرين في تنظيم الآيات المباركة الواردة في الخمر و ربط بعضها ببعض.

و من ذلك يظهر بطلان ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة، خصوصا الروايات المدسوسة المزيّفة، و قد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه في تفسيره (آلاء الرحمن)، فراجع.

ثم إنّ بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، مواضع الصلاة. أما بحذف المضاف، أو بارتكاب المجاز تسمية المحلّ باسم الحال، لكثرة وقوعها في المساجد، أو سمّي المسجد بذلك

ص: 224

تقريبا، كتسمية اليهود موضع عباداتهم «صلاة»، كما في قوله تعالى: وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ [سورة الحج، الآية: 40]، بقرينة قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، فإنّه لو قال: (لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى)، لم يستقم التعليل، أو أفاد فائدة اخرى غير مقصودة، و لخلوه عن شائبة التكرار.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر اللفظ، مع أنّه يستلزم أن يكون الأحكام الآتية للمسجد، و هو مضافا إلى كونه بعيدا في نفسه، يلزم النهي عن دخول الذي يجيء من الغائط إلى المساجد حتّى يطهّر بالماء، أو التراب إن لم يجد الماء، و هو خلاف الإجماع، فالمراد بالصلاة هي الشعيرة كما عرفت، فيكون النهي عن اجتنابها باجتناب القرب إليها، و من أنحاء القرب دخول المساجد.

و قوّى بعض العلماء من أصحابنا أن تكون الصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ على معناها الحقيقي، و في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ على معناه المجازي، أي: مواضعها، و عدّ ذلك من باب الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة، فإنّه عزّ و جلّ استخدم لفظ الصلاة لمعنيين، أحدهما إقامة الصلاة، بقرينة قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، و الآخر مواضع الصلاة بقرينه قوله: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ .

و هذا الاحتمال و إن كان لا بأس به إلا أنّه خلاف الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة، فإنّ الاستخدام هو أن يؤتى بلفظ له معنيان حقيقيان أو مجازيان أو مختلفان يراد به أحدهما، و من الضمير العائد إليه المعنى الآخر، أو يعاد إليه ضميران، يراد من الثاني غير المعنى الذي أريد من الأوّل، و ما ذكره من الاستخدام غيره كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّه خلاف ظاهر الآية المباركة، فالحقّ ما ذكرناه.

و الآية الشريفة بإيجازها البليغ تضمّنت النهي عن الصلاة حال السكر

ص: 225

و تأثير النوم أو الخمر في الإنسان، بحيث أوجب إذهاب الحالة الاعتياديّة عنه كما تضمّنت حكم الدخول في المساجد حال السكر و حال الجنابة؛ لأنّ النهي عن قربان الصلاة يستلزم النهي عن دخول المسجد؛ لأنّه من أنحاء القرب.

قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

تعليل للنهي و غايته، و بيان لمعنى السكر أيضا. أي: إنّما نهيتهم عن الصلاة في هذه الحالة؛ لأنّ السكران لا يعلم ما يقول، فإنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام الكبرياء و العظمة، و تخاطبون الربّ الرؤف و الصلاة إنّما يطلب بها التقرّب و الطاعة، فلا بد من حفظ حدودها و التدبّر في أفعالها و أقوالها و أذكارها، و الإقبال بها مع الخضوع و الخشوع و التوسّل بها، لرفع الدرجات و قضاء الحوائج، فكيف يؤتى بها مع السكر و الطيش و الذهول و الغفلة و ما يوجب بطلان القول، فلا تعلمون ما تقولون في حالة السكر، فلا يصلح لكم أن تقربوا بشيء من الصلاة أو مطلق العبادات في حالة السكر، و النهي عن قرب الصلاة يلازم النهي عن مواضعها، فإنّه من أنحاء القرب كما عرفت، و أنّ ذلك من تعظيم شعائر اللّه تعالى.

و الآية الشريفة تعليل للنهي عن مقاربة ما يوجب السكر، سواء كان نوما أم خمرا، بحيث يبقى أثره حين دخول الصلاة، فلا يعي ما يقول، و النهي مغيى ب: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، و إنّما ذكر عزّ و جلّ : ما تَقُولُونَ ليشمل أقوال الصلاة من القراءة و الذكر و غيرها.

قوله تعالى: وَ لا جُنُباً .

عطف على محلّ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، أي: سكرانين، على ما سيأتي في البحث الأدبي، و الجنب من أصابته الجنابة. و الاسم الجنابة، و هي في الأصل البعد، و يستوي فيها المذكّر و المؤنّث و المفرد و التثنية و الجمع؛ لجريانه مجرى المصدر، كالبعد و القرب. و قد ذكر بعض أهل اللغة أنّه يثنى و يجمع، فيقال: جنبان

ص: 226

و أجناب و جنوب. و هو من المجانبة، أي: المباعدة، كما عرفت في قوله تعالى:

وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ . و الجنابة في الشرع تحصل بالجماع، سواء خرج مني أم لا، و بخروج المني سواء كان بالدخول أم بغيره، و لها أحكام كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة، فراجع (مهذب الأحكام)،

و في الحديث: «إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه جنب»، و لعلّ المراد منه: من يترك الغسل و يكون أكثر أوقاته جنبا، و هذا يدلّ على قلّة دينه، و المراد من الملائكة غير الحفظة، أي: ملائكة الرحمة و الخير.

و تكرار النهي وَ لا جُنُباً لبيان أنّ المنهي كلّ واحد من الحالين لا مجموعهما، و النهي عن الصلاة في حال الجنابة مغيّى إلى الغسل، أي: لا تقربوا الصلاة حتّى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين و لم تجدوا ماء في السفر فتيمّموا.

قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ .

مادة (عبر) تدلّ على المرور و التجاوز من حال إلى حال، يقال: عبرت الطريق إذا جاوزته و قطعته من جانب إلى جانب، و المعبر ما يعبر به أو عليه من سفينة أو قنطرة و نحوها.

و السبيل: الطريق، و عابر السبيل مار الطريق، و قد يراد به المسافر، و الاستثناء من عموم أحوال المصلّين و انتصابه على الحال.

و قد اختلفوا في المراد من الآية الشريفة على أقوال:

الأول: أنّ المراد منها المسافر، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال حتّى تغتسلوا، إلا إذا كنتم مسافرين و أصابتكم الجنابة، فإن لم تجدوا ماء فتيمّموا، و نسب هذا القول في المجمع إلى عليّ عليه السّلام و ابن عباس، و هذه النسبة لم نجدها في أحاديث الإماميّة إلا ما رواه في الدرّ المنثور عن علي عليه السّلام. و يضعف هذا القول - مضافا إلى أنّه يستلزم التكرار، فإنّه تعالى بيّن حكم الجنب العادم للماء في آخر الآية المباركة - أنّ تخصيص الاستثناء بالسفر يحتاج إلى دليل و هو

ص: 227

مفقود، فإنّ ظاهر عبور السبيل هو الأعمّ من السفر، بل و حمله عليه بعيد عن سياق الآية الشريفة.

الثاني: المراد من الاستثناء هو المرور في المسجد، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في المساجد و غيرها، و لا يجوز دخول الجنب المساجد إلا عابر السبيل، أي: مارّا بها، فيستفاد منه جواز عبور الجنب في المساجد و حرمة لبثه فيها، و ذهب إلى هذا القول جمع كثير، و يدلّ عليه جملة من الروايات - كما سيأتي نقلها في البحث الروائي - و إنّ المتبادر من ظاهر الآية الشريفة النهي عن قرب الصلاة، و من مناهي القرب هو الدخول في المسجد لشدّة ارتباط الصلاة به، فالنهي عنها نهي عن الدخول في المساجد، فيدلّ الاستثناء على النهي عن الصلاة في حالة الجنابة بالمطابقة، و على النهي في الدخول في المساجد بالالتزام، و هذا الأسلوب شائع في القرآن الكريم.

و قد تقدّم أنّ بعض الأعلام حمل لفظ «الصلاة» في الآية الشريفة على ضرب من الاستخدام، فجعل لفظ الصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ على المعنى الحقيقي، و في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ على المعنى المجازي، أي: مواضع الصلاة.

الثالث: ذكر بعضهم أنّ «إلا» في الآية المباركة تحمل على الوصفيّة، لتكون بمعنى (غير) صفة لجنبا، أي: جنبا غير عابري سبيل، بأن يكونوا لابثين، فيكون المنهي عنه - و هو قرب الصلاة في حالة الجنابة - مقيّدا بالإقامة، فيستفاد منه أنّ قربانها حال الجنابة مع عدم الاقامة غير منهي عنه.

و يردّ عليه أنّ الحمل على الوصفيّة إنّما يصحّ إذا تعذّر الحمل على الاستثناء، و لا تعذّر هنا، لعموم النكرة في سياق النهي.

قوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا .

غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة. و المراد بالاغتسال هو غسل

ص: 228

الجنابة بالشروط المعروفة المذكورة في كتب الفقه، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا حتّى تغتسلوا، إلا أن تكونوا عابري سبيل.

و إنّما قدم لبيان أنّ الحكم حال الجنابة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، و للإعلام بكفاية الاغتسال في الدخول في الصلاة و في المساجد.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى .

تفصيل بعد إجمال في الاستثناء، و بيان الحكم لأصحاب الأعذار بعد ذكر حكم الواجدين للشرائط، فشرّع اللّه تبارك و تعالى الطهارة الترابية (التيمم) في الحدث الأكبر و الأصغر لإباحة الدخول في الصلاة بدلا عن الطهارة المائيّة.

و المرض: معروف، و هو خروج الجسم أو المزاج عن الاعتدال، و هو على قسمين:

الأول: المرض الجسمي، أي: العارض على الجسم أو المزاج، كما في قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة، الآية: 184]، و قوله تعالى: وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ [سورة النور، الآية: 61].

الثاني: ما يخصّ القلب و يستقر فيه، كالجهل و الجبن و البخل و النفاق و غيرها من الرذائل الخلقية و الصفات السيئة المانعة عن ادراك الفضائل و تحصيل السعادة الدنيويّة و الاخرويّة، كالمرض الجسمي المانع عن التصرّفات و الأعمال التي تستقر الحياة عليها، قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة، الآية: 10]، و قيّد هذا القسم في القرآن الكريم بالقلب دائما، لاستقراره فيه كما مرّ، و أما قوله تعالى: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء، الآية: 80]، فهو في غير المعصومين أعمّ من المرض الجسمي و القلبي، و فيهم يختصّ بالجسمي فقط.

و المنساق من الآية الكريمة هو القسم الأوّل منه، و إطلاقها يشمل كلّ مرض، إلا أنّه مقيّد بالمرض الذي يمنع من استعمال الماء معه، إما لأنّه يوجب

ص: 229

شدّة المرض أو زيادته أو بطء البرء منه، أو ما يكون سببا للعجز عن تحصيل الماء.

و بعبارة اخرى: ما يكون موجبا للمنع من استعمال الماء، إما بتعذّر استعماله، أو بتعذّر الوصول إليه.

و أما المرض اليسير الذي ليس فيه كلفة و لا مشقّة، و لا يكون سببا للحرج كالصداع و وجع السنّ و نحوهما، فلا يكون عذرا، و التفصيل مذكور في كتب الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

أي: و إن كنتم على سفر، و المراد به المعنى اللغوي، و إطلاقه أيضا يشمل كلّ سفر قصير أو طويل، سفر معصية كان أم طاعة، و لكن التنكير فيه يوجب تقييده بالسفر الذي لا يحصل لكم فيه الماء، فإنّ الغالب عدم وجدان الماء في السفر، و يدلّ عليه أيضا هذا التعبير: (على سفر) بدلا عن مسافرين و نحوه، فإنّ الأول أوضح في المقصود.

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ .

عذر آخر من الأعذار المبيحة للطهارة الترابيّة، و حالة اخرى مقتضية لها، و هي حصول الحدث الأصغر.

و الغائط: الموضع المنخفض و المطمئن من الأرض، و يقصد عند قضاء الحاجة و التخلّي، لأنّه استر له، و صار اللفظ كناية عن الحدث الأصغر الخارج عن أحد السبيلين، و المجيء من الغائط، كناية عن حصول الحدث.

و في التعبير ب: أَحَدٌ على التنكير و الإبهام، إيماء بأن الإنسان يتفرّد عند قضاء الحاجة، و هذا من أدب القرآن الكريم حفظا للحشمة.

و لا يختصّ هذا العذر أو الحالة بالسفر أو بالحضر، بل يشمل كلا الحالين، و لذا قال بعضهم إن أَوْ هنا بمعنى الواو، و لكن الظاهر أنّه بمعنى التقسيم و التنويع لبيان مطلق الأعذار و الأحداث.

ص: 230

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ .

المسّ في القرآن الكريم يكنّى به عن الجماع مطلقا، أو ما يستهجن التصريح به، و لذا قال بعضهم: إنّه كناية عن الحدث الأكبر.

و المسّ و اللمس بمعنى واحد إلا أنّ الثاني أقرب في الكناية عن الجماع، لأنّ الملامسة مفاعلة من اللمس بقصد الإحساس و التلذّذ في مباشرة الرجل و المرأة.

و ذكر هذا بعد الجنابة من باب النصّ بالخاصّ بعد العموم، لبيان أنّ الجنابة الاختياريّة الحاصلة من مقاربة النساء، كالجنابة غير الاختياريّة، توجب الرخصة للتيمم، فلا يتوهّم أحد بعدم الدخول فيه.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً .

عطف على وَ إِنْ كُنْتُمْ ، لبيان أنّ السبب في الجميع هو عدم التمكّن من الطهارة بالماء، سواء عدم أو وجد و لم يتمكّن من استعماله، فإنّ الممنوع عنه كفاقده، فهو غير موجود بالنسبة إليه.

و المعنى: إن لم تجدوا ماء لتستعملوه في رفع الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر فتيمّموا. و احتمل بعضهم أن يكون المراد من عدم الوجدان فقده، لا ما يشمل عدم التمكّن من استعماله للتبادر، و يدخل فيه بعض أفراد المريض الذي يكون ممنوعا عن استعمال الماء.

و لعلّ التعبير بالفاء للإشعار بالتعميم و إيماء إلى أنّ المعتبر في عدم الوجدان إنّما هو بعد حصول هذه الأسباب.

قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .

جواب الشرط في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ، و مادة (ي م م) تدلّ على القصد، يقال: تيمّمت الشيء قصدته، و تيمّمته برمحي و سهمي، أي: قصدته دون من سواه، قال الأعمش:

تيممت قيسا و كم دونه *** من الأرض من مهمة ذي شزن

ص: 231

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد، أحدها المقام، و مثله في آية (6) من سورة المائدة، و الثالثة في سورة البقرة، قال تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة، الآية: 267]، و في الشرع هو اسم للطهارة الترابيّة المعروفة - أي: ضرب الكفّين على الأرض و مسح الوجه بها و اليدين - لاستباحة الدخول في ما هو مشروط بالطهارة، تقرّبا إليه تعالى.

و مادة (ص ع د) تدلّ على الارتفاع و العلو، و منه وجه الأرض، لأنّه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده و ارتفاعه فوق الأرض، فيشمل التراب و الحجر، قال تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [سورة الكهف، الآية: 40]، أي: أرضا ملساء، و قال تعالى: وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 8]، أي: أرضا غليظة لا نبت عليهان

و في الحديث: «يحشر الناس في صعيد واحد»، أي: في أرض واحدة ملساء لا نبت فيها.

و نقل عن الزجاج أنّه قال: «لا اعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن»، و نقل المحقّق في المعتبر عن الخليل عن ابن الأعرابي ذلك أيضا، و يدلّ عليه أيضا

الحديث المعروف بين المسلمين عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا»، و المراد به هو وجه الأرض، فلا يشمل المعادن و غيرها، و المسألة محرّرة في كتب الفقه، فراجع (مهذب الأحكام).

و جمع الصعيد صعدات، كطريق و طرقات، و قيل: صعد، كطريق و طرق،

و في الحديث: «إياكم و القعود بالصعدات»، و هي فناء باب الدار و ممرّ الناس.

و الطيب معروف، و هو الخالص عمّا يستخبث و يكره، أي: ما تستلذّه النفس أو الحواس، و قد وردت هذه الكلمة في ما يزيد على خمسين موردا في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، و قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ [سورة آل عمران، الآية: 179]، و غير ذلك من الآيات الشريفة،

ص: 232

و الطيب معروف، و هو الخالص عمّا يستخبث و يكره، أي: ما تستلذّه النفس أو الحواس، و قد وردت هذه الكلمة في ما يزيد على خمسين موردا في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، و قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ [سورة آل عمران، الآية: 179]، و غير ذلك من الآيات الشريفة،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في شأن عمّار ابن ياسر: «مرحبا بالطيب المطيب»، أي: الخالص من ظلمات الجهل و الفسق و قبائح الأعمال و المتحلّي بالعلم و الإيمان و محاسن الأعمال، كما قال تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [سورة الزمر، الآية: 73].

و المراد به في المقام الطاهر و الحلال، كما فصّل في الكتب الفقهيّة.

و المعنى: فاقصدوا شيئا من الصعيد طاهرا حلالا، خاليا عمّا يستخبث و يستقذر.

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ .

بيان للتميم الشرعي، و المسح عبارة اخرى عن جرّ اليد على الممسوح، و الأيدي جمع يد، و تطلق على جميعها و على بعضها كما في المقام.

و يستفاد من هذه الآية المباركة امور:

الأول: النيّة لما يستفاد من لفظ التيمم الدالّ على القصد، و يدلّ عليه

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثاني: وضع اليدين معا على ما يصحّ التيمم عليه، لإطلاق الآية الشريفة، و تدلّ عليه بعض الروايات.

و قيل: إنّه يعتبر الوضع المشتمل على الاعتماد؛ لأنّ المستفاد من الضرب الوارد في الروايات ذلك، و يدلّ عليه بعض الروايات أيضا، و يمكن تقييد إطلاق الآية الكريمة بها.

و لا يشترط العلوق لإطلاق الآية الشريفة و خلوها عن التقييد، و أما قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ [سورة

ص: 233

المائدة، الآية: 6]، فهو و إن وردت فيه لفظة (من)، لكنّها ابتدائيّة لا تبعيضيّة، و يمكن إرجاع الضمير في (منه) إلى التيمم المستفاد من سوق الكلام.

الثالث: أنّ الماسح هما اليدان؛ لأنّ المستفاد من المسح أن يكون ماسح و ممسوح، و لما ورد الممسوح في الآية المباركة، فالماسح هو باطن الكفّين.

الرابع: أنّ الممسوح هما الوجه و اليدان؛ لأنّ التيمم قائم مقام الوضوء، فإذا وضع الشارع الوضوء عن صاحب الأعذار المعروفة المتقدّمة، أثبت بعض الغسل مسحا.

الخامس: أن يكون المسح ببعض الوجوه و الأيدي لمكان الباء.

السادس: أن يكون مسح اليدين على ظاهر الكفّين وحدّهما الزندين، لدلالة ظاهر الآية الشريفة، و تدلّ عليه بعض الروايات.

السابع: الترتيب بين الضرب على الأرض ثم مسح الوجه ثم اليمنى و بعده اليسرى، و يدلّ عليه سياق الآية الشريفة الدالّ على الترتيب، كما تدلّ عليه ظواهر النصوص أيضا.

الثامن: الموالاة، و هي المتابعة بين الأفعال الظاهر الآية الشريفة.

التاسع: كفاية التيمم عن الوضوء و جميع الأغسال، و أنّه يستباح به كلّما يستباح بالطهارة المائيّة، لمكان البدليّة بينهما، و في الحديث: «ربّ الصعيد ربّ الماء».

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً .

تعليل لما ورد من التكاليف و تقرير للترخيص و التسهيل فيها، أي: أنّ اللّه تعالى كثير الصفح و التجاوز، كثير المغفرة و الستر على ذنوب عباده، فهو الرحيم ذو الفضل عليكم الميسّر لكم حين أجاز لكم التراب مكان الماء، فلم يشدّد عليكم كما شدّد على غيركم من الأمم السابقة.

ص: 234

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ ، أبلغ من أن تقول: «لا تصلّوا» و غيره، لأنّه يشمل الغشيان و التلبّس بالفعل و جميع أنحاء القرب و الدنو منه، و منها الدخول في مواضع الصلاة و مقدّماتها كما عرفت في التفسير، و قد ورد مثل هذه العبارة في غير المقام، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [سورة الاسراء، الآية: 24]، و قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [سورة الأنعام، الآية: 151]، لبيان شدّة النكير و عظمة الأمر.

و قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ سُكارى ، جملة اسميّة مركّبة من المبتدأ و الخبر حاليّة، و الواو فيها لبيان الحال، و إنّما أتي بالجملة الاسميّة في ضمن النهي حالا، استلفاتا إلى المنافاة للفعل المنهي عنه مع مضمون الكلام، و احتجاجا لحكمة النهي، فكأنّه قيل: إنّ الصلاة المطلوب فيها الطاعة و الإقبال بها على اللّه تعالى في الخضوع له عزّ و جلّ و التدبّر في أقوالها و أذكارها و التوسّل بدعائها، ينافي إتيانها مع السكر و ذهوله و غفلته، و نظير المقام قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 22]، و قوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ [سورة البقرة، الآية: 187]، فإنّ المطلوب من الاعتكاف هو الانقطاع إلى اللّه تعالى في المساجد و الابتعاد عن التلذّذ، فينافي التلذّذ مباشرة النساء، و كذا قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 95]، فإنّ الإحرام حبس النفس على الطاعة و ترويضها على الاجتناب عن المحرّمات، بل عن كثير من المباحات، فهو ينافي طلب الصيد و قتله؛ و لذا نرى أنّ هذه المنافاة لما كانت غير ظاهرة في الجنابة، و إنّما فرض

ص: 235

الشارع الطهارة في الصلاة تعبّدا، فاختلف التعبير في الموردين، فكان الحال مفردا في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً ، فالواو فيه عاطفة، و «لا» نافية، و إنّما أتى بها لبيان دخول الثاني في حيز النهي للإفادة بأن المنفي كلّ واحد من الحالين، لا مجموعهما.

و (عابري) في قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ منصوب على الحاليّة قد حذف النون لأجل الإضافة، أي: لا يجوز لكم الدخول في المساجد إلا حال كونكم عابري سبيل و مجتازين فيها.

و تدلّ الجملة على مضمونها بالمطابقة، و على المستثنى منه بالالتزام.

و (لامستم) في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فعل ماضي، يلامس و لمس فعل ماضي يلمس.

و الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ مبالغة في الحشمة - و هو من أبدع الأساليب - كراهيّة إسناد ذلك إلى المخاطبين، يضاف إلى ذلك لفظ التغليب بقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ ، و هو من أحسن الكلام و أطيبه.

و الغائط مفرد، و جمعه غيطان أو أغواط،

و في الحديث في قصة نوح عليه السّلام:

«و انسدت ينابيع الغوط الأكبر و أبواب السماء»، و منه غوطة دمشق، و قرأ بعضهم (من الغيط) بفتح الغين و سكون الياء، و هو مصدر يغوط، و القياس أن يكون غوطا قلبت الواو ياء و سكنت و انفتح ما قبلها لخفتها.

و قيل: إنّه تخفيف غيط، كهين و هيّن.

و (صعيدا) في قوله تعالى: صَعِيداً طَيِّباً إما منصوب بنزع الخافض، أي: فتيمّموا بصعيد، أو على أنّه مفعول به.

ص: 236

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى على أنّ السبب في النهي عن قربان الصلاة جهتان، حدث النوم و سكره، و أنّكم لا تعلمون ما تقولون. و لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة جنبا إلا مرورا.

و أما إذا كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فإن وجدتم الماء فتطهّروا بالطهارة المائيّة، و إن لم تجدوا فتيمّموا صعيدا طيبا، و قد شرحت السنّة الشريفة كيفيّة التيمم شرحا وافيا.

الثاني: يستفاد من الآية الشريفة مانعيّة حدث النوم و البول و الغائط و الجماع و الجنابة عن الصلاة، بأبلغ بيان و أخصره.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أنّ المراد بالكسر مطلق ما يوجب عدم الالتفات إلى الصلاة و الغفلة عنها، و لا اختصاص له بالسكر الاصطلاحي.

كما أنّ المراد من الصلاة مطلقها، واجبة كانت أو مندوبة.

الرابع: إنّما خصّ سبحانه و تعالى القول: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ؛ لأنّ أوّل ما يظهر عليه من آثار السكر هو القول، و أما الفعل فقد يحدث عن عادة مستمرة.

الخامس: يمكن أن يكون قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إرشادا إلى لزوم التطهير ظاهرا و باطنا، أي: تتطهّروا فتلتفتوا إلى ما تقولون.

ص: 237

بحث عرفاني

الصلاة عبادة روحانيّة و تزكية نفسانيّة، و من أهمّ طرق المناجاة مع اللّه سبحانه و تعالى، و قد ورد في القرآن الكريم في فضلها الآيات الكثيرة، قال تعالى:

إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت، الآية: 45]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه الأعظم: قُلْ لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 31]، فلا بد لمن يريد التقرّب إلى مقام الحضور و المناجاة مع الحضرة الأحديّة أن يتنزّه عن كلّ ما يوجب البعد عنه عزّ و جلّ .

و الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها تشمل على الأجزاء الجامعة لها و الأسباب المانعة عنها، و بهما تتمّ الجهات و تتحقّق المقاصد، و لما كانت الصلاة معراج المؤمن، فلا بد أن تكون جامعة على جهات القرب و المحبوبيّة و منزّهة عن الجهات المانعة.

و من تلك الجهات المانعة هو السكر و الغفلة و التفكّر في الدنيا و حبّها، و كلّ ما يشغل القلب بسوى الربّ ، فإنّ ذلك كلّها من الجهات المانعة و المبعدة عن ساحة الربّ الرؤوف الرحيم العالم بالأسرار و الخفايا. فالآية الكريمة تدلّ على كمال الاهتمام بالصلاة، حيث نهى عن قربانها مع أهمّ الجهات المانعة، و هي السكر و الغفلة.

ثم بيّن عزّ و جلّ أنّه لا بد من التنزّه عن القذارات الظاهريّة و المعنويّة و التطهير عنهما، و لا تجدون لذّة التقرّب و نعيم الحضور الا بالتطهير عنهما، إما بالغسل عن الأوساخ مع خلوص النيّة، أو الوضوء بما يوجب الصفاء و صدق الإرادة، أو بالتيمم من الأرض الطيبة البعيدة عن مساوئ الأخلاق و النزعات النفسانيّة، و إن كنتم مرضى بالانحراف عن الحقّ ، أو على سفر في طلب الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط تتبع الهوى و النزعات النفسانيّة، أو لامستم النساء

ص: 238

بملامستكم الأشغال الدنيويّة، و تباعدتم عن حظائر القدس بتوجيه قلبكم بالانس إلى غيره تعالى، فلم تجدوا ماء الحقيقة و صدق الإنابة، فتيمّموا بالانقطاع إليه و نبذ الصفات الدنيئة، فامسحوا بوجوهكم بالتوجّه إليه جلّ شأنه، و تمسّكوا بأيديكم بذيل كرمه، منقطعين إليه بعد نفض غبار الشهوة عن النفس و ترك الخصال السيئة، فإنّه يعفو عنكم بعد ما علم صدق إرادتكم بالرجوع إليه، و يغفر لكم بمحو آثار الشقوة عنكم، فإنّه رؤوف يريد سعادتكم، و لا تكونوا غافلين بسكر الدنيا عن الوصول إلى حضرته و الدنو من معرفته، فإنّه يتجلّى لعباده كما تجلّى لأنبيائه،

و في الحديث الشريف: «إن اللّه تعالى يتجلّى لعباده في صورة معتقدهم، فيعرفه كلّ واحد من أهل الملل و المذهب، ثم يتحوّل عن تلك الصورة فيتجلّى في صورة اخرى، فلا يعرفه إلا الموحدون الواصلون إلى حضرة الأحديّة من كلّ باب»، و للحديث شرح لطيف لو ظفرت على أهله لذكرته له، و الحمد للّه على كلّ حال، و اشكره على ما ألمّ بي، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العليّ العظيم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن اسامة بن زيد الشحّام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

قول اللّه عزّ و جلّ : لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، فقال: سكر النوم».

أقول: و مثلها روايات كثيرة متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام،

و في صحيح البخاري عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أنعس أحدكم و هو يصلّي فلينصرف؛ فليتمّ حتّى يعلم ما يقول، و عن ابن عباس في قوله تعالى:

وَ أَنْتُمْ سُكارى قال: «النعاس»، لأنّ ذلك مانع عن حضور القلب الذي هو روح العبادة و التوجّه إلى المعبود، و تشمل سكر الخمر بطريق أولى.

العياشي في تفسيره عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا تقم إلى الصلاة

ص: 239

متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلل النفاق، فإنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى، يعني: من النوم».

أقول: المراد من النفاق اختلاف القلب مع الجوارح، و عدم ميله و رغبته إلى العمل، فما ذكره عليه السّلام من الحالات تمنع عن توجّه القلب إليه تعالى.

نعم، للتوجّه مراتب كثيرة شدّة و ضعفا، يختلف عند الأشخاص حسب اختلاف معرفتهم و انقطاعهم إليه تعالى.

و في تفسير العياشي: عن الحلبي، عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ؟ يعني: سكر النوم، يقول: و بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم و سجودكم و تكبيركم، و ليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أنّ المؤمن يسكر من الشراب، و المؤمن لا يشرب مسكرا و لا يسكر».

أقول: ما ذكره عليه السّلام محمول إما على الكلّ من المؤمنين، أو على الغالب الأكثر.

و في تفسير العياشي: عن محمد بن الفضل، عن أبي الحسن عليه السّلام في قول اللّه تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، قال: «هذا قبل أن تحرّم الخمر».

أقول: المراد من الحرمة فيه الحرمة الظاهريّة، و إلا فإنّ الخمر كانت محرّمة في جميع الشرائع الإلهيّة،

و في بعض الروايات: «ما بعث اللّه نبيّا إلا و قد حرّم الخمر»، مضافا إلى آية تحريم الخمر نزلت في مكّة؛ لأنّ سورة الأعراف مكيّة، و هذه الآية الكريمة: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى مدنيّة.

و كيف كان، فتطبيق السكر على السكر الحاصل من الخمر من باب ذكر أحد المصاديق، كما مرّ.

و هناك روايات مزيّفة غير قابلة للاعتماد عليها ذكرها السيوطي في الدرّ

ص: 240

المنثور و تبعه بعض آخر، تنسب ما لا يليق بساحة سيد العرفاء و الأوصياء أمير المؤمنين عليه السّلام و لا ينبغي ذكرها و قد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه، و من شاء فليرجع إلى تفسيره الشريف.

و في الكافي بإسناده عن جميل قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال: لا، و لكن يمرّ بها كلّها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول».

أقول: الرواية مطابقة للآية الكريمة، و عدم الاجتياز في المسجدين لشرفهما على غيرهما من المساجد و بيوت اللّه تعالى.

و عن الزمخشريّ في تفسيره: «روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن أن يجلس في المسجد أو يمرّ به جنب إلا لعليّ ».

أقول: أمثال هذه الرواية كثير تدلّ على فضل أمير المؤمنين عليه السّلام و قدسيته و لعلّ جنابته عليه السّلام ليست كجنابة سائر الناس.

و في تفسير العياشي: عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «اللمس هو الجماع، و لكن اللّه ستّار يحبّ الستر، فلم يسم كما تسمّون».

أقول: تقدّم في التفسير ما يدلّ على ذلك.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّار بن ياسر فقال: يا رسول اللّه، أجنبت الليلة و لم يكن معي ماء. قال: كيف صنعت ؟ قال:

طرحت ثيابي فتمعكّت. قال صلّى اللّه عليه و آله: صنعت كما يصنع الحمار، إنّما قال اللّه:

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، قال: فضرب بيده الأرض ثم مسح إحداهما على الاخرى، ثم مسح يديه بجبينه ثم كفّيه، كلّ واحد منهما على الاخرى».

أقول: رواه البخاري و مسلم و النسائي و أبو داود على اختلاف يسير، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله علّم عمّار التيمّم عملا.

ص: 241

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام خاصّة تتعلّق بالجنابة و التيمم، و سائر الأعذار.

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، على بطلان الصلاة لو أتى بها في حال السكر من الخمر، و يجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه بعد شعوره. و لو كان المراد من السكر النعاس فالنهي إرشاد إلى عدم الكمال لو تحقّق سائر شرائط صحّتها، إلا إذا فقد الاختيار بسبب النعاس، بحيث لا يصلح ما يقول و لا يدرك ما يتلفّظ به، فتبطل الصلاة حينئذ.

كما تدلّ الآية المباركة على بطلان الصلاة حال الجنابة، و لا ترتفع الجنابة إلا بالغسل عند التمكّن من استعمال الماء أو التيممّ بدلا عنه، إلا إذا كان هناك عذر من مرض أو سفر أو نحو ذلك.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ، على عدم جواز مكث الجنب في المساجد إلا إذا كان مجتازا فيها، فيجوز ما عدا المسجدين، كما دلّت عليه السنّة.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ، أنّ التيمم بدل عن الماء في كلّ ما يشترط فيه الطهارة، فيستباح به كلّ ما يستباح بالطهارة المائيّة، و تدلّ على ذلك

جملة من الروايات، ففي بعضها: «انّ التراب أحد الطهورين».

و من ذلك يعلم أن ما ذكره فخر المحقّقين في الآية الكريمة من عدم جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمم، بل و لا مكثه في شيء من المساجد و إن تيممّ تيمما مبيحا للصلاة؛ لأنّه عزّ و جلّ علّق دخول الجنب إلى المساجد على الإتيان

ص: 242

بالغسل مع وجود الماء و على التيمم مع العدم، فحمل الطواف و المكث على الصلاة في ذلك قياس لا نقول به.

غير صحيح؛ لأنّ الآية المباركة تبيّن حكم الصحيح غير المعذور مطلقا، فعيّن له الطهارة المائيّة، ثم بيّنت حكم المعذور فعيّن له التيمّم بدلا عنه، فيقوم البدل مقام المبدل عنه في جميع الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، مع أنّ الشارع أباح للمتيمّم الدخول في الصلاة، فيدلّ على إباحته للدخول إلى المساجد بطريق أولى، و المسألة محرّرة في الكتب الفقهيّة، فراجع.

الرابع: قد ذكر سبحانه الجنابة و بيّن سببا واحدا لها في ذيل الآية المباركة، و هو ملامسة النساء، أي الجماع معهن مطلقا، و لها سبب ثان أيضا و هو نزول المني مطلقا في نوم و يقظة، سواء كان مع شهوة أم بدونها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أنّ المناط في الرجوع إلى التيمم هو عدم وجدان الماء مطلقا، سواء كان من جهة العجز و عدم التمكّن من استعماله، أم كان من جهة فقده، أم كان من جهة حصول الضرر باستعماله، فيستفاد جميع موارد العذر المذكورة منه.

و يحتمل أن يكون المراد من عدم الوجود فقده و لا يشمل عدم التمكّن من استعماله، فحينئذ يستفاد بعض أفراد المعذورين من دليل آخر.

السادس: إطلاق الآية الكريمة يدلّ على كفاية الضربة الواحدة في التيمم، سواء كان بدلا عن الوضوء أم كان بدلا عن الغسل إلا أنّ بعض الروايات تدلّ على التعدّد في البدل عن الغسل.

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يدلّ على كفاية مطلق الضرب، سواء كان تعلّق باليد شيء من التراب أم لا، بل في بعض الروايات جواز النفض.

السابع: يستفاد من الآية الشريفة عدم احتياج غسل الجنابة إلى الوضوء؛ لأنّه جعل النهي عن قربان الصلاة مغيا بالغسل، فلو كان مفتقرا إلى الوضوء لوجب بيانه، و إلا كان بعض الغاية غاية، و هو باطل.

ص: 243

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيل.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ (44) وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً (45) مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (47) تتضمّن الآيات الشريفة بعض أحوال أهل الكتاب و لا سيما اليهود، و تبيّن سوء أخلاقهم و مظالمهم و خيانتهم بالنسبة إلى دين اللّه تعالى و المؤمنين به، و التأليب عليهم.

و قد كان من دأب القرآن الكريم ذكر أحوال أعداء الدين و أقاصيصهم، لتنبيه المؤمنين من دخائل أنفسهم و دوافعهم الخبيثة الشريرة لحرب الدين و المؤمنين به.

و قد تعرّض عزّ و جلّ سابقا لجملة من أحوالهم لهذا الغرض، ثم ذكر أحكاما شرعيّة لبيان الدين الحقّ و تثبيت عزيمة المؤمنين به و تنشيط قواهم في مقاومة زيغ المبطلين و مكرهم و خيانتهم، و هذا من الأسلوب البديع الذي طالما يستعمله القرآن الكريم في تنشيط النفوس و إصلاحها، فإنّ الدين القويم يحتاج إلى معرفة السبل لدفع كيد المبطلين و خيانة أعدائه، كما يحتاج إلى معرفة حقائقه و معالمه، فهما أمران لا بد لهما في كلّ دين.

ص: 244

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ .

جملة مستأنفة لبيان سوء حال من اوتي نصيبا من الكتاب - و خاصّة اليهود الذين يدعون لأنفسهم الكمال - من حسدهم و حقدهم، فقد قال عزّ و جلّ في حقّهم: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النساء، الآية: 54]، و سيأتي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء، الآية: 49]، بعض الكلام، فإنّ الحسد الذي نبت في قلوبهم لأجل أنّهم يحسبون أنفسهم أفضل أهل الأرض و يدّعون الكمال و يرون أنّهم جديرون بالخير.

و الخطاب و إن كان متوجّها لسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و فخر الموجودات، لكنّه متوجّه إلى التابعين له أيضا باعتبار أنّه سيدهم.

و التعبير بالنصيب للدلالة على أنّهم لم يحفظوا ذلك و لم يتعهّدوا بالعمل به، فقد احتفظوا بالاسم دون العمل به، و أنّهم أهملوا الشيء الكثير ممّا أوتوا و لم يبق إلا النزر القليل الذي لا بد من الاحتفاظ به.

و التنوين في قوله تعالى: نَصِيباً للتفخيم أو للتكثير، و كلاهما يثبت التشنيع.

و المراد بالكتاب جنسه، ليشمل كلّ من أوتي علما ينتهي إلى الوحي، فيشمل اليهود و النصارى و المجوس و المنافقين، و إن كان ظاهر السياق يختصّ باليهود، فإنّ هذا الخطاب يستعمل في حقّهم في القرآن الكريم، و هم الذين عرفوا بالعداء و الحقد لكلمة اللّه تعالى و دينه و المؤمنين به.

و الخطاب لا يختصّ بعصر النزول، فإنّ ما ورد في هذه الآية الشريفة لبيان أحوال أعداء الدين و كيدهم للإسلام و المسلمين، و هو ليس من شأن

ص: 245

المضي، فلا يختصّ بوقت معين، بل هو حديث الماضي و الحاضر و المستقبل، أي الزمن كلّه إلى أن تظهر دولة الحقّ و يمحق الأعداء و كيدهم و خيانتهم، فإنّ الصراع بين الحقّ و الباطل مستمر من أوّل الخليقة حتّى تقوم دولة الحقّ و يمحق الباطل كلّه، و لهذا كان التوكيد الشديد في القرآن الكريم على الأعداء و كيدهم.

و الآية المباركة في مقام التشنيع عليهم و التشهير بشنائع أعمالهم و مفاسد أخلاقهم و إظهارها في سلك الأمور المشاهدة، و هذا الأسلوب له الوقع الكبير في النفوس و تنشيطها و استلفاتها إلى ما يجري حولها من الحوادث، و لهذا أتى الخطاب في صورة التعجّب و الاستفهام الإنكاري.

قوله تعالى: يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ .

تعليل للتشنيع السابق عليهم، و بيان لمناط التعجّب منهم؛ لأنّهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يبذلون بإزاء ذلك أغلى الأمور و هو التوحيد و أسباب السعادة و الكمال و الصلاح و الهدي.

و الضلال هو الخروج عن الطريق المستقيم أو المنهج القويم، عمدا كان أو سهوا، كثيرا كان أو قليلا، و سيأتي توضيح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى و يضاده الهداية.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ .

ترتّب هذا على السابق ترتّب المعلول على العلّة، فإنّ من اشترى الضلالة و باع أعلى الأشياء و أغلاها و أعظمها بأخسّ الأشياء و هو الضلالة، لأجل أنّهم على الضلالة، و قد تمكّنت في نفوسهم و انهمكوا في الضلال و الغي، فهم يطلبونه للمؤمنين الذين هداهم اللّه تعالى للصراط المستقيم، الذي أوضح اللّه اعلامه و أحكم حججه، فقد جنّدوا أنفسهم لذلك و كتموا الحقّ الذي آتاهم اللّه تعالى و أظهروا النفاق و خدعوكم بإظهار النصيحة و المودة، و لقوكم ببشر الوجه و زي الصلاح، و لكن لا يريدون لكم إلا الفساد و الخديعة و الإضلال عن السبيل المستقيم الموصل إلى الحقّ .

ص: 246

و ذكر الفعل المضارع في الموضعين، لبيان استمرارهم على ذلك و تجدّدهم عليهما.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ .

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة و بيان للتحذير منهم، فإنّ العدو قد أظهر نفسه بمظاهر الصلاح و المودّة، فالتبس الأمر على المؤمنين، و اللّه يعلم العدو من الصديق الناصح، و قد أخبركم بعداوة هؤلاء، و بيّن لكم حقيقتهم، فإيّاكم أن تطيعوا لهم أمرا و تأخذوا منهم النصيحة.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا .

فإنّه القادر على نصرة أوليائه و هو يكفيهم أعداءهم.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً .

يدفع شرّهم و مكائدهم، و التكرار مع إظهار الاسم الجليل للتأكيد على كفايته عزّ و جلّ ، و فيه إيماء بالعلّية، فإنّه اللّه الخالق القادر.

قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ بيان لأهمّ أفراد الذين اتّصفوا بالضلالة و الغواية، و قد ذكر سبحانه و تعالى جملة من أحوالهم، بين البيان و المبين، لمزيد الاعتناء بذكر محلّ التشنيع، و الاهتمام بحثّ المؤمنين على الابتعاد عنهم و الاكتفاء بولاية اللّه تعالى و نصرته، و مثل هذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم، فإنّه قد يعترض بجمل بين أطراف الكلام مع اتساق الكلام و تناسب أطرافه، و قد ذكر المفسّرون وجوها في إعراب هذه الجملة.

و المراد من اَلَّذِينَ هادُوا اليهود، لأنّهم ينتسبون إلى مملكة يهودا بعد أن تشتت سائر الأسباط من بني إسرائيل و اضمحل و باد ملكهم الوثني باستيلاء الآشوريين عليهم و قتلهم لهم.

و قد وصفهم تعالى بتحريف الكلام عن مواضعه، و التحريف إمالة الكلام

ص: 247

عن مواضعه. و قد ذكرنا في احدى مباحثنا السابقة أنّ تحريف الكلام له وجوه متعدّدة فقد يكون بتلبيس الحقيقة بالكذب، و قد يكون بستر الواقع و الحقيقة و حجبها عن الناس، و قد يكون بالتبديل إما بالزيادة و إدخال بعض الكلام فيه، أو بالنقصان، أو بتغيير مواضع الألفاظ، و قد يكون بالتأويل المخالف للواقع و التفسير الباطل و غير ذلك، و قد بيّن القرآن الكريم جملة من موارد تحريفهم، و الإطلاق يشمل جميع أقسام التحريف و وجوهه، من التحريف الظاهري اللفظي و التحريف المعنوي.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا .

بيان لبعض وجوه التحريف، و هو استعمال القول بوضعه في غير المحلّ الذي ينبغي أن يوضع فيه، و إنّما خصّ هذا القسم لأنّه يكشف عن شدّة غيهم و ضلالهم و تماديهم في العناد، فإنّهم يحرّفون الكلام بمحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أي:

يقولون له صلّى اللّه عليه و آله و هم يعلمون أنّه على الحقّ بما عرفوا من أوصافه الواردة في التوراة: سمعنا قولك و عصينا أمرك عنادا، مع أنّ السمع لا يكون إلا في موضع الطاعة، فلا بد و أن يقولوا: سمعنا و اطعنا، و يمكن أن يكون قولهم ذلك تهكّما و استهزاء بالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ .

المسمع بفتح الميم الثانية، و هذا الكلام يستعمل على وجهين للخير و الشرّ، و الأوّل اسمع غير مسمع مكروها، فكانوا يخاطبون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و هم يضمرون المعنى.

الثاني: أي الشرّ و هو: اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أو آفة، فأرادت اليهود من هذا القول الدعاء على المخاطب، أي: معنى الشرّ، و المعنى الخير الظاهر فيه هو (اسمع لا سمعت مكروها)، و لكنّهم يضمرون السوء منه.

ص: 248

قوله تعالى: وَ راعِنا .

كلمة ذات وجهين أيضا، و هي عطف على ما قبلها، فقد كشف سبحانه و تعالى مظهرا آخر من مظاهر تحريفهم للكلام، و سوء سرائرهم و نفاقهم، و تقدّم تفسير هذه الكلمة في سورة البقرة آية (104)، و قلنا: إنّ اليهود كانوا يناسبون بكلمة (راعينا)، و قد ورد في توراة كلمة (راع) مشالة إلى الألف، و تسمّى عندهم (قامص)، و هو بمعنى الشرّ أو القبيح، فتكون بمعنى شريرنا و نحو ذلك من الصفات، أما المؤمنون فكانوا يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحفظ و المراعاة أو المراقبة أو غيرها من الصفات الحسنة، و قد سمعها اليهود و أرادوا منها غير المعنى المقصود الصحيح.

و قد نهى اللّه سبحانه و تعالى في آية البقرة أن يستعملها المسلمون؛ لئلا يستغلّها اليهود في ذمّ الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ تعليل لما تقدّم، و انتصاب لَيًّا على العليّة، أي: يقولون ذلك ليّا. و اللي:

الانحراف و الفتل، يقال: ليّ الحبل، أي: فتل.

و المعنى: يظهرون الكلام بصورة الحقّ و يريدون خلافه و يميلون به إلى المعنى الباطل، سواء في القلب أو باللسان، و يقولون ذلك طعنا في الدين و قدحا فيه، و قد عرفوا بذلك في مرّ الزمن.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ أي: و لو أنّهم اختاروا الهدى على الضلال، و قالوا: سمعنا قولك و أطعنا أمرك، و اسمع منا ما نقول في مقام الاهتداء و انظرنا باللطف، لكان خيرا لهم من القول الباطل المموه و أعدل في نفسه و أضرب؛ لأنّ الكلام قد اشتمل على أدب الدين و طلب الهداية و الخضوع للحقّ ، و هو خير لهم و أقوم ممّا قالوه، و قد بدّل

ص: 249

اللّه سبحانه سماع الردّ منهم بسماع القبول، و قد جعل الإطاعة مكان العصيان و طلب السماع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله لهم بدلا من قولهم: «و اسمع غير مسمع»، و جعل وَ اُنْظُرْنا بهمزة الوصل و ضم الطاء المعجّمة، بدل قولهم: (راعنا)، و هو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه، فإنّ جميع ذلك خير لهم؛ لأنّهم جعلوا قيادهم إلى الرسول و الطاعة له و يلقون بسعادتهم عنده، و هو الهادي إلى الصلاح و السعادة، و كان ذلك أقوم لهم و أعدل لما فيه من الأدب و الفائدة العظيمة و حسن العاقبة.

ص: 250

و قيل: إنّ قَلِيلاً صفة لموصوف محذوف، أي: لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و لكن اتصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو بلحاظ المتعلّق، فيرجع إلى ما ذكرناه.

و القول: بأنّ المراد حينئذ قليل الإيمان مقابل كامله، أي: لا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان الذي لا يعتدّ به لجحودهم و عنادهم و غيّهم؛ لأنّ اللعن إنّما كان على الأفراد، و لعنة اللّه تعالى إيّاهم لا يجوز أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم، فاستوجب أن يكون المراد قليل الإيمان الذي لا يعتدّ به، و هو لا يوجب رفع اللعنة عنهم.

فاسد: أما أوّلا، فلان الإيمان يتّصف بالكامل و الناقص و المستقرّ و المستودع، كما ورد في القرآن الكريم، و لم يرد فيه اتصاف الإيمان بالقلّة و الكثرة.

و ثانيا: فلأنّ الإيمان القليل - سواء كان صوريّا أم قلبيّا - ممّا يعتني به الإسلام، قال تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [سورة النساء، الآية: 94]، و هو يوجب رفع اللعنة عنهم.

و ثالثا: لا فائدة في هذا الاستثناء بعد استحقاقهم اللعنة مطلقا.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا خطاب عامّ لجميع أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل اللّه تعالى على عبده و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و آله من القرآن و الشريعة و صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، التي عرفوها بأوصافه في كتبهم.

و إنّما نسبهم إلى إيتاء الكتاب باعتبار أسلافهم الذين أوتوا الكتاب مصونا من التحريف و عرفوا حقائقه و أحكامه، و هو يكفي في الداعويّة إلى الإيمان بالرسول الكريم.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ممّا ورد في الكتاب من التوحيد و البشارة برسوله صلّى اللّه عليه و آله و بعض الحقائق التي لم تصل إليها يد التحريف و النقصان، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى لِما مَعَكُمْ دون أن يذكر اسم التوراة، مع كون الخطاب معهم، إيذانا بكمال وقوفهم على حقيقة

ص: 251

الحال، فإنّ التوراة قد بشّرت برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ القرآن الكريم المنزل عليه مصدّق لها.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها مادة (طمس) تدلّ على محو أثر الشيء و استئصاله، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في خمسة مواضع. و الدائر و الدارس متقاربة المعنى، و نطمس - بكسر الميم و بالضم لغة - مضارع طمس بفتحها يستعمل قاصرا، و متعدّيا كما في الآية الشريفة، و في قوله تعالى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 37]، و يعدّى ب (على) كما في قوله تعالى: رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة يونس، الآية: 88]، و قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ [سورة يس، الآية: 66] و طمس البصر هو محو أثره، أي: أعميناهم، قال الشاعر:

من يطمس اللّه عينيه فليس له *** نور يبين به شمسا و لا قمرا

و الوجوه: جمع الوجه، و هو ما يستقبل من الشيء و يظهر منه، و في الإنسان الجانب الظاهر المقدّم من الرأس الذي يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور الحسيّة، كما يستعمل في الأمور المعنويّة، فيقال: وجه الشيء، أي: حقيقته.

و التنوين في الوجوه لتهويل الأمر مع لطف، حيث إنّ العذاب لا يلحق إلا ببعضهم، و يحتمل الانطباق على كلّ فرد من القوم، فلا يأمن أحدهم من هذا العذاب.

و الأدبار جمع دبر - بضمتين - و هو القفا، و جملة: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها عطف تفسيري للطمس و بيان له، فيكون الطمس محمولا على ظاهره، أي:

نمحي أثر الوجه و نجعله كالادبار، بتغيير الخلقة الأصليّة، و هو يوجب عدم قيام الإنسان بوظائفه الحيويّة و عدم تحقّق المقاصد التي فطر عليها الإنسان لو كان على غير الصورة التي خلقها اللّه تعالى، فإنّ الإنسان على خلقته الأصليّة يسعى

ص: 252

للكمال و تحقيق مقاصده الدنيويّة و الاخرويّة، و إصلاح شؤون نفسه و نيل سعادته و كلّ ما يراه خيرا، و لا يتحقّق ذلك في طمس الوجه و الردّ على الأدبار، فيستلزم الضلال و عدم الفلاح حينئذ.

و قد ذكر المفسّرون في معنى الآية الكريمة وجوها اخرى، فقيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى الأقفية في آخر الزمان أو في يوم القيامة، فتصير عيونهم مثلا في قفاهم.

و قيل: إنّ المراد بالطمس هو الخذلان الدنيويّ ، فلا يزالون على الذلّة و المسكنة، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [سورة آل عمران، الآية: 112].

و قيل: يردّهم عن الهداية إلى الضلالة، قال تعالى: وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ [سورة الجاثية، الآية: 23].

و قيل: إنّ المراد من الطمس إجلاؤهم من الحجاز و ردّهم إلى الشام.

و قيل: إنّ المراد من الوجه هو الوجهاء و الأعيان، و من الطمس مطلق التغيير، أي: نجعل رؤوسهم أذنابا، و ذلك أعظم سبب البوار و الدمار.

و هذه الوجوه خلاف ظاهر الآية الشريفة التي تدلّ على أنّ الطمس تصرّف إلهي في الإنسان يوجب تغيير طبعه عن قبول ما يوافق الفطرة و الارتداع عن مطاوعة الحقّ ، الذي كان حاصلا من تغيير البيئة الأصليّة للإنسان، و عدم وصوله إلى الكمال اللائق بحاله، و هو يستلزم عدم تحقّق السعادة الدنيويّة و الاخرويّة.

و الآية المباركة صريحة في عدم تحقّق هذا النوع من التصرّف الإلهي، و إنّما هو وعيد يكشف عن شدّة سخطه بأبلغ وجه، حيث لم يعلّق وقوع المتوعّد به بالمخالفة، و لم يصرّح بوقوعه عندها، تنبيها على أنّ ذلك أمر واقع لا محالة غني عن الإخبار به الحقّ ، فإنّه تعالى بعد أن دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزل

ص: 253

مصدّقا لما معهم فوعدهم بأحسن وجه، و لكنّهم خالفوا اللّه تعالى و رسوله و امتنعوا عن المطاوعة للحقّ ، و كان جزاء ذلك أن حرموا من العناية الربوبيّة إلا قليلا منهم ممّن وفّق للإيمان، و هنا أوعدهم بالسخط و العذاب.

قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ .

توعيد آخر مترتّب على الوعيد الأوّل، أي: إن لم يتحقّق الأمر الأوّل، يتحقّق هذا لا محالة. و اللعن هو الطرد عن الرحمة.

و التشبيه بأصحاب السبت لبيان تهويل الأمر و الإغراق في الوصف، و قد ذكر سبحانه و تعالى أصحاب السبت في آية اخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ * فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 65-66]، و أصحاب السبت الذين ذكرهم اللّه عزّ و جلّ في قوله: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف، الآية: 163]، و سيأتي ذكر أخبارهم إن شاء اللّه تعالى.

و (أو) في الآية الكريمة على ظاهرها من التنويع و الترديد، و الاختلاف بين الوعيدين ظاهر، فإنّ الأول يوجب تغيير الخلقة الأصليّة بأن ينصرف عن فطرته التي فطر اللّه عليها الإنسان في كفاحه و جهاده في الدنيا، نظير ما ورد في آكل الربا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ [سورة البقرة، الآية: 275]، فراجع ما ذكرناه هناك، و أمّا هذا الوعيد - و هو اللعن كلعن أصحاب السبت - فهو يوجب البعد عن الرحمة و سلب التوفيق و الرجوع إلى الخلقة الحيوانيّة، التي ليس لها غرض إلا الأكل و النوم و السفاد، فقد سلب عنه الكمالات المعنويّة المعدّة للإنسان، مضافا إلى أنّ الوعيد الأول لا يعمّ الجميع، و إنّما يختصّ ببعض القوم، بخلاف الثاني فإنّه سيعمهم إن تمرّدوا عن الامتثال، كما هو المستفاد من إرجاع ضمير الجماعة «نلعنهم» الى جميع الأفراد.

ص: 254

قوله تعالى: وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً جملة مستأنفة تقرير لما سبق و إخبار بجريان عادة اللّه تعالى بوقوع الأمر لا محالة، و أنّه سينفذ فيهم ما توعّد به، و قد وقع ما توعد به بالنسبة إليهم من نزول اللعنة و السخط عليهم و وقوع العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كما أخبر به عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

و المراد بالمفعول النفوذ، و حكم الآية المباركة عامّ لا يختصّ بقوم دون قوم، و إن كان أظهر مصاديقه ما تقدّم في صدر الآية المباركة.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ على أنّ الذين أوتوا الكتاب كانوا يستميلون المؤمنين إلى الضلال بوجوه كثيرة، و هذا هو من شعب نفاقهم، و قد بيّن عزّ و جلّ حقيقة الأمر للمؤمنين، و أعلمهم بأنّ الذين أوتوا الكتاب على عداوة و بغضاء لهم، فلا يغترّوا بمظاهرهم، و قد أكّد عزّ و جلّ ذلك بالأمر بالنظر إليهم، فلا يركنوا إلى ما يظهرونه لهم من العطف و حسن الكلام، فإنّهم يبالغون في تحريف الكلام، كما بيّن عزّ و جلّ شطرا منهما في الآية الشريفة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً على عدم الاكتفاء بالمظاهر، و لا بد من الرجوع إلى ما بيّنه عزّ و جلّ من حالات الذين أوتوا الكتاب، فإنّه تعالى أعلم بما في الضمائر و ما تحمله قلوبهم من العداوة و البغضاء، فلا ينبغي التخطّي عن تعاليم القرآن في دفع كيد الأعداء و مكرهم و التصدّي لنفاقهم و ضلالهم.

ص: 255

الثالث: يدلّ قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، أنّ اهتمام اليهود هو تحريف الكلام، و هو من أهمّ ما اتّصفوا به في العصور، و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم وجوها مختلفة لذلك، و في المقام ذكر سبحانه و تعالى وجها آخر، و هو تغيير الكلام و إظهاره بصورة الدعاء و الخير، و هم يقصدون وراء ذلك شيئا آخر، كالطعن في الدين و الحطّ من منزلة سيد المرسلين أمام أتباعه من المؤمنين، و قد بيّن عزّ و جلّ للمؤمنين هذه الخديعة، و أمرهم بالحيطة منهم و أرشدهم إلى ما يصحّ أن يقال في مقام التخاطب، ليفوزوا بالخير و السعادة.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، على أنّهم غيّروا مواضع الآيات المباركة، و به تغيّر المعنى و اختلف، و نظير ذلك قوله تعالى:

يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 41]، و لعلّ الأخير يدلّ على أنّ التحريف كان بحذف الكلام أصلا، بخلاف الأوّل، فإنّه يدلّ على أنّ التحريف بتبديل مواضع الكلمات.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أنّ في القرآن الكريم الشيء الكثير ممّا ورد في كتبهم التي لم تنله يد التحريف، فهذا الدين يتفق مع سائر الأديان الإلهيّة في الأصول و كثير من الفروع، فهي تدعو إلى التوحيد و العدل بين الناس و النهي عن المعاصي و الفواحش، و تأمر بالتحلّي بمكارم الأخلاق، كما يدعو القرآن إلى ذلك، فلا يجوز الإعراض عن مطاولة الحقّ و الإيمان بالإسلام و إلا فإنّ الجزاء المعدّ لهم يكون عظيما، و قد ذكر عزّ و جلّ نوعين من الوعيد، الطمس و اللعنة، و هما يوافقان العمل العظيم الذي هم كانوا عليه، فكان الجزاء موافقا للعمل، و هو أنّ القوانين الإلهيّة المعروفة هي مشاكلة العقوبة مع الجناية.

السادس: تدلّ نوعية الجزاء - و هي الطمس و اللعنة - على نوع العمل

ص: 256

الذي يعملونه، فإنّ الجناية عظيمة، و هي التحريف و التغيير و عدم الإيمان بما يعملونه أنّه حقّ ، فاستوجب طمس فطرتهم و بعدهم عن الرحمة الإلهيّة و اختلاف الجزاء باختلاف الأشخاص و نوع العمل.

السابع: انّما وصف الذين كفروا بأهل الكتاب؛ لإعلامهم بأنّ من تلبّس بالكتاب لا ينبغي أن يعرض عمّا في الكتاب الذي أتوه، و أنّ العلماء باللّه و آياته لا بد أن يتلبّسوا بما أنزله اللّه تعالى، فالإصرار على الإعراض يوجب الانسلاخ عن الكتاب و علمه.

بحث روائي

في تفسير العسكري: عن الكاظم عليه السّلام: كانت هذه اللفظة: «راعنا» من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقولون: «راعنا»، أي: ارع أحوالنا و اسمع منا كما نسمع منك، و كان في لغة اليهود معناه: اسمع لا سمعت، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا» و يخاطبون بها، قالوا: كنا نشتم محمدا إلى الآن سرّا، فتعالوا الآن نشتمه جهرا، و كانوا يخاطبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا»، يريدون شتمه، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه، أراكم تريدون سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جهرا، توهمونا أنّكم تجرون في مخاطبته مجرانا، و اللّه لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، و لو لا أنّي أكره أن أقدم عليكم قبل التقدّم و الاستيذان له و لأخيه و لوصيه عليّ بن أبي طالب القيم بأمور الامة نائبا عنه فيها، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا. فأنزل اللّه: يا محمد مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً ، و أنزل:

ص: 257

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ، فإنّها لفظة يتوصّل بها أعداؤكم من اليهود إلى سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبّكم و شتمكم، وَ قُولُوا اُنْظُرْنا ، أي: قولوا سمعنا و اطعنا، لا بلفظة راعنا، و اسمعوا ما قال لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قولا و أطيعوه، و للكافرين - يعني اليهود الشاتمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم، و في الآخرة بالخلود في النّار.

أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ اليهود كانت تستعمل النفاق و بالإهانة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكشف اللّه خبث سرائرهم بما تفطّن به معاذ فهدّدهم، و لعلّ الرواية من باب ذكر أحد الموارد أو التطبيق.

و في الدلائل للبيهقي: عن ابن عباس قال: «كان رفاعة بن زيد التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوى لسانه و قال: ارعنا سمعك يا محمد حتّى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه، فأنزل اللّه فيه الآيات الكريمة».

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، فلا تنافي بينها و بين ما تقدّم.

و في الدلائل للبيهقي - أيضا -: عن ابن عباس قال: «كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رؤساء من أحبار يهود، منهم كعب بن أسد و عبد اللّه بن صوريا، فقال لهم:

يا معشر اليهود، اتقوا اللّه و أسلموا، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّ الذي جئتكم به الحقّ ، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، فأنزل اللّه فيهم: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا .

أقول: الرواية من باب ذكر أحد الموارد، و إنّ إنكارهم لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان عن خبث سرائرهم و لجاجهم، فكشف اللّه تعالى ما حوت به قلوبهم من الصفات الذميمة.

و هناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الكريمة نزلت في حقّ علي عليه السّلام، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا في علي نورا مبينا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ، و لكنّها من باب التطبيق و التفسير.

ص: 258

بحث كلامي

لا شكّ أنّ الجزاء المترتّب على الأعمال - قبيحة كانت أو صالحة أو الملكات النفسانيّة التي لها أثر في الخارج، أو ما لا تكون كذلك إلا أنّها قابلة للزوال و لم يعالجها آنها، فرسخت في النفس بالاختيار - لا بد و أن يكون مطابقا لها و يناسبها، و يدلّ على ذلك كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات، أو حسب الأزمنة المعيّنة أو حسب الصفات النفسيّة، بلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ و الاخرويّ ، و أما مسألة الخلود في النّار، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة، و يأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و الطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة، فإنّ المسخ قلب الشيء أو تبديله إلى أسوء منه، و هو تارة: في العين، أي: مسخ الخلق، كما يمسخ اللّه الإنسان المتمرّد المنهمك في المعصية إلى القرد.

و اخرى: مسخ الخلق، و هو يحصل في كلّ زمان و مكان، و ذلك أن يصير الإنسان - نستجير باللّه - متخلّفا بخلق ذميمة فاسدة من أخلاق بعض الحيوانات، نحو أن يصير في شدّة الحرص كالكلب، و في الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خلق ذميمة و صفات سيئة.

بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة و الوجه، بمحو محاسنها و زوال تخطيطها من العين و الأنف و الحاجب، و جعل الوجه على هيئة الأدبار، و في المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحقّ و متابعته بعد إقامة الحجّة عليهم، فقد طمس اللّه تعالى على وجوههم و غيّرهم عن تلك الخلقة الأصليّة،

ص: 259

جزاء لأعمالهم الفاسدة و لإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم و نفوسهم، و سيأتي في الآيات الآتية ما يرتبط بالبحث إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم - أو على فرد - لا يمكن رفعهما؛ و ذلك لا لأجل القصور في القدرة، فإنّه تعالى قادر على كلّ شيء و إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، بل لأنّهما من مظاهر غضبه و الطرد من رحمته و ساحته، و من حلّ به غضبه فقد هوى، فالموضوع غير قابل، و لا يكون لائقا للعود إلى رحمته.

ص: 260

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) الآية الشريفة تشتمل على الوعد و الوعيد معا، و تتضمّن ما تؤكّد عليه الآية السابقة، فإنّه بعد ما أمر سبحانه و تعالى الذين أوتوا الكتاب بالإيمان و دعاهم إلى الحقّ و أوعدهم السخط و اللعنة إن هم أعرضوا عنه، ذكر في هذه الآية المباركة السبب في الحكم المزبور، و بيّن جلّ شأنه أنّ طريق النجاة منحصر في الإيمان و الانصياع إلى الحقّ ، فإنّه لا غفران بدونه، لا ما يتمنّاه أهل الكتاب.

و قد وعد عزّ و جلّ المؤمنين بالغفران و رفع الآثار المترتّبة على الماضي، و أرشدهم إلى أنّ الكبائر السابقة لا تكون مانعة عن قبول إيمانهم. و في الآية المباركة كمال الرأفة بهم و الامتنان عليهم، فكانت من أرجى الآيات في القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جملة مستأنفة مؤكّدة لمضمون ما ورد في الآية السابقة، و هي في مقام التعليل للحكم المذكور فيها، أي: إن لم تؤمنوا فإنّكم مشركون، و اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به و يحلّ عليكم سخطه و غضبه، و أما الإيمان ففيه الفوز بالمغفرة و النجاة؛ و لهذا كانت الآية المباركة متضمّنة للوعد و الوعيد معا.

و قد وردت مثل هذه الآية الشريفة في موضع آخر من هذه السورة أيضا، قال تعالى إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 116].

و لعلّ الاختلاف بينهما - بعد الاتفاق على أنّهما تدلان على جميع الآثار المترتّبة على الشرك الدنيويّة و الاخرويّة إذا آمنوا و رجعوا إلى الحقّ - أنّ الآية

ص: 261

الكريمة في المقام تبيّن أنّ الطريق في الإيمان دون التمنّي و الترجّي و الافتراء على اللّه تعالى بأنّه سيغفر لنا، كما تزعمه اليهود و النصارى، كما حكاه عزّ و جلّ في غير موضع من القرآن الكريم، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [سورة الأعراف، الآية:

169]، و يدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة: فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً ، فإنّه يدلّ على نفي جميع إشكال التظنّي و التمنّي. و أمّا الآية الثانية، فإنّها تنفي جميع سبل الشرك و أنحائه التي ذكر جملة منها في الآيات السابقة و التالية لها، و يؤكّد ذلك ذيل الآية الشريفة، قال تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية:

116]، فإنّه يدلّ على أنّ الشرك بجميع أنحائه ضلال لا تفاوت بينها.

كما أنّه يمكن الفرق بينهما بأنّ الآية الشريفة في المقام تبيّن رفع الآثار التي ذكرها عزّ و جلّ في الآية السابقة من الطمس و اللعنة إن هم آمنوا. و أما الآية الثانية فإنّها سيقت لرفع الآثار المترتّبة على الشرك إذا آمنوا و انصاعوا للحقّ .

ثم إنّ عموم الشرك يشمل كلّ ما يشرك باللّه تعالى في مقام الالوهيّة و جميع شؤونها. كما أنّ للشرك مظاهر مختلفة في مرّ العصور، فمنها يكون عن الوثنيّة، فإنّهم جعلوا كلّ نوع من أنواع المخلوقات إلها و ربّا يدبّر أمره، فجعلوا للماء ربّا، و للنار إلها و للتراب إلها و للهواء إلها و غير ذلك، و فيهم نزلت الآية الكريمة أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة يوسف، الآية: 39].

و من الشرك تأليه بعض القوى و النجوم السيارة ممّا جعلوا المجسّمات و الأصنام تمثالا و رمزا لعبادتها، فكان ذلك هو الأصل في عبادة الأصنام و الأوثان و إن خفي ذلك على الذين يعبدونها.

و من الشرك ما يزعمه جمع في بعض البشر من أنّه متولّد من اللّه تعالى و من العذراء الإنسيّة، فكان ابن اللّه تعالى تولّد منهما، فجعلوا جلّ شأنه الواحد ذا

ص: 262

أقانيم ثلاثة: الأب و الابن و الروح القدس، و أثبتوا لكلّ واحد من هذه الثلاثة آثارا خاصّة في مقام الالوهيّة، و من القائلين بهذا البراهمة و البوذيين و النصارى و غيرهم.

و من الشرك تأليه بعض أفراد البشر، و القول بأنّه خلق العالم و هو رازق أهله.

و من الشرك بعض آراء الفلاسفة في العالم و خلقه و تدبيره، و غير ذلك من الآراء و المذاهب المعروفة التي نقلها العلماء في كتبهم العلميّة.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل الشرك في الذات و الفعل و العبادة، بل يشمل الكفر أيضا باعتبار الحكم الوارد في الآية المباركة، أي: أنّ الكافر لا يغفر له حتّى يرجع عنه و يدخل في الإيمان، و إن لم يصدق عليه المشرك بالعنوان الأولي لكن يمكن أن يقال إنّ كلّ كافر مشرك؛ لأنّ الذي يشاقق الحقّ و الرسول و ما أنزله اللّه تعالى عليه مشرك؛ لأنّه جعل ما في يده أو ما عنده شريكا مع اللّه، تعالى و هو عزّ و جلّ لا يريده، و لعلّه لذلك ورد التعبير: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ دون المشرك أو المشركين، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً * إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 115-116]، فجعل الشقاق مع الرسول و اتباع غير السبيل المؤمنين من مصاديق الشرك.

و التعبير بالفعل المضارع: «أن يشرك»، للدلالة على أنّه لا يغفر للإنسان إشراكه الذي يداوم عليه إلى الموت، فإذا انقطع عنه الشرك، فاللّه يغفر له الذنوب السابقة و يرفع عنه آثارها، و تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، و تقدّم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

ص: 263

و التعبير بالفعل المضارع: «أن يشرك»، للدلالة على أنّه لا يغفر للإنسان إشراكه الذي يداوم عليه إلى الموت، فإذا انقطع عنه الشرك، فاللّه يغفر له الذنوب السابقة و يرفع عنه آثارها، و تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، و تقدّم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى لا يغفر الشرك بجميع مظاهره؛ لأنّ الحكمة اقتضت خلق الإنسان على أساس الرحمة و العبوديّة، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، و اللّه تعالى شرّع الدين الحقّ لتزكية النفوس و تطهير الأرواح عمّا ينافي تلك الحكمة، و إنّ الشرك على خلاف ذلك، فإنّه آخر درجات الهبوط لعقول البشر، و إنّه يفسد أخلاق الإنسان و يوجب السقوط في الشقاء و الأخلاق الفاسدة.

قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يغفر ما دون الشرك من المعاصي و إن عظمت، فإنّها مهما عظمت فلا تصل إلى حدّ عظمة الشرك، فإنّ له درجة بعيدة في القبح، و ما سواه دونه في الدرجة، و لعلّه لهذا أشار إليه ب: ذلِكَ ، و تدلّ عليه كلمة دُونَ .

و الآية الشريفة تدلّ على غفرانه لمن يشاء ممّن له أهليّة لقبول الفيض الإلهي و الغفران بسبب الأعمال الصالحة التي تؤهّل الإنسان للصلاح و السعادة، فإنّ اللّه تعالى يغفر له برحمته الواسعة و حكمته المتعاليّة، فكانت المشيئة مطابقة للحكمة المتعاليّة، فإنّها تقتضي أن يكون الغفران للمذنب الذي له الأهليّة و الاستعداد المكتسب بالأعمال الصالحة و غيرها، و عدم الغفران للمشرك.

و يستفاد من وقوع المشيئة بعد الغفران امور:

الأول: أنّها وردت لدفع ما يتوهّم أنّ ذلك خرج عن قدرته المتعاليّة، أو أنّ لأحد التأثير عليه عزّ و جلّ فيقهره على المغفرة قاهر، و لعلّه لأجل ذلك وقعت المشيئة في كثير من الموارد من القرآن الكريم، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود، الآية: 108]، فإنّ الخلود أمر ثابت، و تعليقه على المشيئة لبيان أنّ ذلك غير خارج عن قدرته، و لا يكون لأجل قهر قاهر عليه.

ص: 264

الأول: أنّها وردت لدفع ما يتوهّم أنّ ذلك خرج عن قدرته المتعاليّة، أو أنّ لأحد التأثير عليه عزّ و جلّ فيقهره على المغفرة قاهر، و لعلّه لأجل ذلك وقعت المشيئة في كثير من الموارد من القرآن الكريم، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود، الآية: 108]، فإنّ الخلود أمر ثابت، و تعليقه على المشيئة لبيان أنّ ذلك غير خارج عن قدرته، و لا يكون لأجل قهر قاهر عليه.

الثاني: أنّها تدلّ على أنّ المغفرة و عدمها لا تكونان جزافيّتين، بل تكونان وفق حكمة متعالية و هو العزيز الحكيم، فإنّها اقتضت أن لا يغفر للشرك الذي يوجب فساد الفطرة و صرف الإنسان عمّا اقتضته خلقته الأصليّة، و هي العبوديّة للواحد القهّار، كما بيّنه عزّ و جلّ في قوله: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56].

الثالث: إنّما ذكر المشيئة لئلاّ يغترّ الناس برحمته تعالى، فيتركوا العمل اتكالا عليها، و إلا لغى التشريع و بطل الأمر و النهي.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من الآية الشريفة، حتّى جعلها بعضهم من المتشابهات التي لا يمكن فهم معناها، و الحقّ ما ذكرناه.

و إطلاق الآية المباركة يدلّ على غفران الذنوب غير الشرك مطلقا، و لكن لا ينافي هذا أن يكون غفرانه لسائر المعاصي و الذنوب دون الشرك بالطرق التي ذكرها عزّ و جلّ في غير موضع في القرآن الكريم، مثل شفاعة من جعلت له الشفاعة، كالأنبياء و الملائكة و الأولياء، و مثل الأعمال الصالحة التي تكفّر الذنوب.

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يدلّ على غفران الذنوب و المعاصي غير الشرك بحسب الحكمة المتعالية، و إن لم يبادرها بالتوبة، و أما مع التوبة فإنّه يغفر جميع الذنوب حتّى الشرك بحسب وعده العظيم، قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ * وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 53 و 54].

ص: 265

قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً تعليل لعدم غفران الشرك، و إظهار اسم الجلالة لزيادة الرهبة و إدخال الروع في النفوس، و لإظهار تقبيح الشرك و تفضيح عمل المشرك.

و مادة (فري) تدلّ على القطع، و الافتراء افتعال، قال الراغب: الفري قطع الجلد للخز و الإصلاح و الإفراء القطع للإفساد، و الافتراء فيهما و في الإفساد أكثر، و لذلك استعمل في الكذب و الشرك و الظلم. و في المجمع: فريت الأديم إذا قطّعته على وجه الإصلاح، و أفريته إذا قطّعته على وجه الفساد.

و كيف كان، فهو يطلق على الكذب المختلق؛ لأنّه يوجب فساد الأقوال و الأعمال، و قد ذكر المصدر الذي هو الافتراء مع صفته اللازمة و هو الإثم و عَظِيماً صفة للمصدر و هو الافتراء أو الإثم.

و المعنى: و من يشرك باللّه تعالى الجامع لجميع صفات الكمال و المنزّه عن جميع صفات الجلال، فقد ارتكب الإثم العظيم الذي يستحقر دونه الآثام، فلا تتعلّق به المغفرة، و الوجه في ذلك أنّه يجعل الشريك الذي اجتمع فيه صفات المخلوقين من الحدوث و نقص الإمكان و الاحتياج و نحو ذلك بمنزلة الآله و يختلق له الصفات الإلهيّة، و ما ذلك إلا افتراء و إثم و القائل به مرتكب لإثم عظيم لا يستحقّ معه المغفرة المعدّة لسائر الذنوب و المعاصي.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على عظم أمر الشرك و قبحه الشديد، و يكفي في ذلك أنّه تعالى لا يغفر أن يشرك به، و لعلّ ما ورد في قوله تعالى حكاية عن لقمان:

إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 13]، إشارة إلى هذه الجهة، أيضا، فإنّ الظلم الذي لا يغفر لصاحبه هو عظيم.

ص: 266

و عموم الآية الشريفة يشمل جميع أنحاء الشرك الجلّي منه و الخفيّ ، و جميع أقسامه إن كان الشرك عن عقيدة و اختيار، فلا يشمل ما لو كان الشرك بالقسوة كالإكراه و الاضطرار، و لعلّ التعبير بالمبنيّ للمجهول أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ؛ للإشارة إلى ذلك، و فيه إيماء أيضا إلى أنّ الشرك قد يتحقّق و إن لم يعلم صاحبه به، فلا بد من الرجوع إلى الإسلام و تعاليمه و دين الحقّ لدفع ذلك.

و قد بيّن عزّ و جلّ السبب في عدم غفرانه للشرك في هذه الآية الكريمة بأنّ فيه الافتراء و ارتكاب الإثم العظيم، كما بيّن سببا آخر في الآية المباركة التي هي نظير هذه الآية، و هو أنّ الشرك يوجب الضلال و الغواية؛ لأنّ كلّ ما يتوهّمه المشركون هو افتراء و كذب، فإنّ فطرتهم تنادي بالوهيّة اللّه الواجب الوجود.

و أما قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ، فهو يدلّ على أنّ غير الشرك من المعاصي و الآثام هي دون الشرك و إن اختلفت في الدرجات، لكنّها لا تمنع من تعلّق غفرانه عزّ و جلّ بها، فإنّها مهما بلغت في العظمة لا تصل إلى درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم لا يغفره ربّ العالمين؛ لأنّه تصرّف في سلطانه، بخلاف غير الشرك من الكبائر، فإنّ سعة رحمته عزّ و جلّ تشمل جميع الذنوب، و هي تتضمّن السبب في غفرانها؛ لأنّها دون الشرك، هذا إذا لم تصدر توبة من فاعلها، و إلا فإنّ الذنوب جميعها - الشرك و غيره - مغفورة مع تحقّق التوبة بمقتضى وعده عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية:

53]، و قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ [سورة الانعام، الآية: 12].

و تقدّم في بعض الآيات المباركة معنى غفران الذنوب، و ذكرنا أنّ الغفران هو ستر الذنوب و محو آثارهم، و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع من المفسّرين في تفسير هذه الآية الكريمة مع أنّها بعيدة عن سياقها، بل بعضها ينافي قداسة القرآن.

و قد ذكرنا ما يتعلّق بقوله تعالى: لِمَنْ يَشاءُ ، فإنّ لهذه الكلمة وقعا

ص: 267

كبيرا في هذا الموضع، فإنّها تدلّ على أنّ للّه تعالى القدرة في غفران جميع الذنوب حتّى الشرك، لكنّه لا يفعل إلا ما يوافق حكمته المتعالية، و أنّ الغفران لا يكون تصرّفا في سلطانه التامّ ، و تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

بحث روائي

في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال: نعم».

أقول: الغفران عن الكبائر مشروط بالموت مع الإيمان، و تقدّم أنّ الاجتناب عن الكبائر سبب لغفران الصغائر، كما تدلّ عليه الآية الشريفة السابقة، و لا إشكال في أن يتعلّق المشيئة بفعل مشروط بالاختيار، فالكبائر داخلة في الاستثناء، فإنّها قابلة للغفران بشرط بقاء الإيمان.

و في الفقيه: عن الصدوق قال: «سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ :

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، هل تدخل الكبائر في المشيئة ؟ قال: نعم ذاك إليه عزّ و جلّ ، إن شاء عاقب عليها و إن شاء عفى».

أقول: تقدّم ما يتعلّق به و أنّ مشيئته تعالى قد يتعلّق بالغفران و العفو عن الكبائر إن تحقّقت الأهليّة في العبد، و إلا عاقب عليها، فلا قصور في المشيئة أصلا، فإنّه تعالى يصنع ما يشاء و يفعل ما يريد.

و في الدرّ المنثور: عن أبي أيوب الأنصاري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: و ما دينه ؟ قال: يصلّي و يوّحد اللّه تعالى، قال: استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه فأتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبره فقال: وجدته شحيحا على دينه، فنزلت:

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .

ص: 268

أقول: الرواية على فرض صحّتها تدلّ على أنّ الكبائر قابلة للعفو و الغفران، بخلاف الشرك فإنّه غير قابل لذلك إلا بالتوبة، و قد ذكر صلّى اللّه عليه و آله بعض علامات الشرك و عدم استقرار التوحيد في القلب بالامتحان، و الآية المباركة من باب التطبيق، أو من باب تعدّد منشأ النزول.

و فيه - أيضا - أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر، قال: «لما نزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فقام رجل فقال: و الشرك يا نبيّ اللّه ؟ فكره ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ».

أقول: قريب منها غيرها، و الرواية تبيّن عظمة قبح الشرك، و أنّه لظلم عظيم و غير قابل للعفو و الغفران، فلو مات الشخص على الشرك بلا توبة دخل النّار كما تدلّ عليه الآية المباركة إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، و لو تاب فتشمله الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً ، فلا تنافي بين الآيتين المباركتين.

و أما الشفاعة فلا تشمل الشرك أصلا؛ لأنّ من شرائطها الإيمان، و بين الموحّد و المشرك بون بعيد لا تناسب بينهما أصلا، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآيتين الشريفتين أيضا.

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا إلا حلّت له المغفرة، إن شاء غفر له و إن شاء عذّبه، إن اللّه استثنى فقال: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية و أمثالها سابقا.

و أخرج الطبراني عن سليمان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذنب لا يغفر،

ص: 269

و ذنب لا يترك، و ذنب يغفر، فأما الذي لا يغفر فالشرك باللّه، و أما الذي يغفر فذنب بينه و بين اللّه عزّ و جلّ ، و أما الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا».

أقول: قريب منه ما عن البيهقي في شعب الإيمان و ما عن أهل البيت عليهم السّلام في كتب الأحاديث، و من مات على الشرك فقد حرّم اللّه عليه الجنّة، فلا يغفر له و أما الذي بينه و بين ربّه - كترك بعض الواجبات - فإن شاء غفر له و إن شاء عذّبه، و تشمله الشفاعة أيضا، و أما ظلم العباد بعضهم بعضا فإنّه لا يترك لما يترتّب عليه من الحقوق التي لا بد من استرضاء صاحب الحقّ كما فصّلناه في الفقه.

و عن الصدوق في الفقه: عن ثوير، عن أبيه، عن علي عليه السّلام قال: «ما في القرآن آية أحبّ إليّ من قوله عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ».

أقول: لأنّ غفرانه تعالى المذنبين من أجلى مظاهر رحمته التي سبقت كلّ شيء.

و عن ابن مسعود قال: «أربع آيات في كتاب اللّه عزّ و جلّ أحبّ إليّ من حمر النعم و سودها، في سورة النساء قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، و قوله تعالى:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

أقول: هذه الآيات كلّها تشير إلى أمر واحد، و هو العفو عن السيئات الصادرة عن المذنبين و رفع درجات المحسنين، و تقدّم أنّ ذلك من أجلى مظاهر رحمته.

و في الفقيه بإسناده عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السّلام، قال: «المؤمن

ص: 270

على أي حال مات، و في أي يوم مات و ساعة قبض، فهو صدّيق شهيد، لقد سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لو أنّ المؤمن خرج من الدنيا و عليه مثل ذنوب أهل الأرض، لكان الموت كفّارة لتلك الذنوب، ثم قال: من قال: لا إله إلا اللّه بإخلاص، فهو بريء من الشرك، و من خرج من الدنيا لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة، ثم تلا هذه الآية: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ - الحديث».

أقول: إنّ أسباب التكفير مع حفظ الإيمان حين الخروج من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة كثيرة، منها سكرات الموت، و منها دعاء المؤمنين و الصلحاء له، و منها الصدقة الجارية و ذكر الخير، و منها الشفاعة، و تقدّم قوله تعالى كما

عن نبيّنا الأعظم: «اغفر و لا ابالي»، و يبيّن ذلك ذيل الآية المباركة.

و في المجمع: عن الكلبي في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، نزلت في المشركين وحشي و أصحابه، و ذلك أنّه لما قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه، فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا إنّا سمعناك تقول و أنت بمكة:

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ، و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وحشي و أصحابه، فلما قرءوهما كتبوا إليه: هذا الشرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فبعث بها إليهم فقرؤها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فبعث بها إليهم، فلما قرؤها دخل هو و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى رسول اللّه، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: اخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال: و يحك غيّب شخصك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات».

ص: 271

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ، و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وحشي و أصحابه، فلما قرءوهما كتبوا إليه: هذا الشرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فبعث بها إليهم فقرؤها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فبعث بها إليهم، فلما قرؤها دخل هو و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى رسول اللّه، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: اخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال: و يحك غيّب شخصك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات».

أقول: على فرض صحّة الرواية أنّها تدلّ على شقاء الوحشي و أصحابه و أنّهم كانوا بعيدين كلّ البعد عن الفطرة الإنسانيّة و المعارف الإلهيّة، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي هو رحمة للعالمين أراد أن يستنقذهم من المهالك و يقرّبهم إلى الفطرة المستقيمة و ما فيه نجاتهم، فأبوا ذلك، فأضمروا شقاءهم و أسلموا إسلاما ظاهريا لحقن دمائهم، و إنّ الآيات المباركة لم تنزل في حقّ وحشي و أصحابه، و إنّما هو من باب التطبيق و سرد الحجّة، و قد ذكر في بعض التواريخ أنّه سكن حمص إحدى مدن الشام و مات فيها، و كان مدمن الخمر.

و في المجمع: روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: «كنّا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا مات الرجل منّا على كبيرة، شهدنا بأنّه من أهل النّار حتّى نزلت الآية: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فأمسكنا عن الشهادات.

أقول: أمثال هذه الرواية كثيرة، و تقدّم في بحث الشفاعة أنّ من مات على كبيرة لا يكون من أهل النّار؛ لأنّ أسباب التكفير كثيرة حتّى بعد الموت، و أما لو مات على الشرك، فإنّه لا يغفر له بمقتضى هذه الآيات المباركة و غيرها من الآيات الشريفة.

و في تفسير العياشي: عن أبي العباس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركا؟ قال: من ابتدع وليّا (رأيا) فأحبّ عليه و أبغض».

أقول: يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّ للشرك مراتب متفاوتة جدّا، كالإيمان، و أن أدناها ما ذكر فيها من الحبّ و البغض باعتبار الولاية.

ص: 272

بحث قرآني

ليس بين الآيات المباركة التي تدلّ على شيء واحد أو تهدف أمرا معنويّا خاصّا أو تثبت حكما أو ما يتعلّق بعالم الدنيا أو الآخرة، أيّ تناف و تضاد، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة.

و ربّما يتوهّم التنافي بين هذه الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، و بين قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، باعتبار أنّه عزّ و جلّ جعل السبب في التكفير عن السيئات الاجتناب عن الكبائر، و أما الآية الكريمة التي تقدّم تفسيرها فإنّها تجعل الإعراض عن الشرك موجبا لغفران ما دون ذلك، سواء كان كبيرة أم غيرها.

إلا أنّ التعمّق في الآيتين المباركتين يكشف أنّ آية اجتناب الكبائر تجعل من أسباب التكفير عن الخطايا و الذنوب الصغائر، اجتناب الكبائر، و آية نفي الغفران عن الشرك تدلّ على أنّ اللّه تعالى يغفر ما دون الشرك، و لم يبيّن عزّ و جلّ طرق الغفران و أسبابه، فهي من هذه الجهة مجملة ترفع إجمالها الآيات الاخرى التي تبيّن أسباب الغفران، كآية اجتناب الكبائر، و الآية التي تثبت الشفاعة لأهل الشفاعة، و الآية التي تدلّ على استغفار الملائكة لأهل الإيمان و أنّ الأعمال الصالحة تكفّر السيئات، و غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، فاللّه جلّ شأنه يغفر ما دون الشرك بأسبابه الخاصّة المعروفة، و أما الشرك فلا تؤثّر تلك الأسباب فيه مطلقا. مضافا إلى أنّ الشرك من أكبر الكبائر، و أنّ اجتنابه يوجب التكفير عن مطلق السيئات أيضا، فعلى أي حال لا تنافي بين الآيات الشريفة.

ص: 273

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) اُنْظُر.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) الآيات الشريفة تتعرّض لحال الكفّار و اليهود منهم بالخصوص، و تعرّفنا بعض صفاتهم و طباعهم، و تكشف عن بعض ما تطويه نفوسهم من النوايا السيئة و الصفات الذميمة، و تهددهم حينا و تشهر بهم حينا آخر.

فقد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات أهمّ تلك الصفات، و هي الكبر و الغرور و تزكيتهم و مدحهم لأنفسهم و حسبانهم أنّهم أفضل أهل الأرض و حقدهم بالنسبة إلى الإيمان و أهله و الافتراء و الكذب عليهم، مع إعراضهم عن الحقّ الذي هو الإيمان باللّه و دينه القيم؛ لأنّهم يؤمنون بالجبت و الطاغوت، ممّا أوجب لعنهم و بعدهم عن رحمته عزّ و جلّ ، فلا يوفّقون لتكميل أنفسهم بالكمالات، فهم

ص: 274

على دناءة من الأخلاق و اتصاف بالرذائل - كالحسد و البخل - و قد أوعدهم عزّ و جلّ العذاب الأليم الأبدي الذي لا ينفكّ عنهم. و أما المؤمنون فقد أوعدهم الأجر الجزيل ليكونوا على بيّنة من أمرهم.

و ليعلم أنّ اللّه تعالى يوصل كلّ عامل إلى نتيجة عمله، فلا يضيع أجر العاملين، و الآيات المباركة لا تخلو من الارتباط بما قبلها.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ التزكية: التطهير و التنمية، و الزكاة، النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى، سواء كان ذلك في الأمور الدنيويّة أو الاخرويّة. بالتطهير عن الأوساخ.

و تزكية النفس تطهيرها عن ما يوجب البعد عنه تعالى، بحيث يستحقّ الإنسان في الدنيا الأوصاف المحمودة لطهارة خلقه، و في الآخرة المثوبة و علوّ الدرجات، و لا تحصل إلا بالعمل على وفق الشريعة و ترويضها على التقوى و العمل الصالح.

و هي قد تنسب إلى العبد إذا كان مكتسبا و متحرّيا لما فيه تطهير نفسه، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 9].

و اخرى: تنسب إلى اللّه تعالى لكونه الباعث و الخالق و المهدي لذلك في الحقيقة، كقوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ .

و ثالثة: تنسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه واسطة الفيض، و به يصل العبد إلى المقامات العالية، كقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها [سورة التوبة، الآية: 103].

ص: 275

و رابعة: إلى العبادة التي هي وسيلة لتطهير النفس و تزكيتها، نحو قوله تعالى: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 13].

و قد تكون التزكية بالخلقة، بأن يجعل بعض عباده طاهر الخلق عالما لا بالتعلم و الممارسة، كما في المعصومين من الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:

الأول: التزكية بالفعل، و هذه هي التزكية الحقيقيّة المحمودة في القرآن الكريم، و قد حثّ عليها في مواضع كثيرة منه، مثل قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14]، و تقدّم أنّها لا تحصل إلا بإتيان الواجبات و اجتناب المحرّمات و الشرور و الآثام و التوجّه إليه سبحانه و تعالى.

الثاني: التزكية بالقول و الادعاء، كتزكية العادل غيره إن كان مطابقا للواقع. و قد يكون تزكية الإنسان نفسه لنفسه، و هذا قبيح عقلا و شرعا، كما نهى اللّه تعالى عنه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ، و لذا قيل: «مدح الإنسان نفسه من أقبح القبائح؛ لأنّه يرجع إلى الغرور و الجهل و الاستكبار.

و عبارة: «لم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار مع الغير و التنبيه إلى شناعة الفعل و ردائته، و قد وردت في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، لا سيما أحوال أهل الكتاب.

و المراد (بالذين) هم أهل الكتاب ممّن تقدّم ذكرهم، خصوصا اليهود، و لم يصفهم عزّ و جلّ بأهل الكتاب، لأنّ من كان عالما باللّه تعالى و بالكتاب، لا ينبغي له أن يتّصف بالرذائل، فإنّه بعيد عن الكتاب و تعاليمه.

و أما تزكيتهم لأنفسهم فقد حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، منها قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قولهم: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 111]، و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و غير ذلك ممّا هو من مظاهر تزكيتهم لأنفسهم، فإنّ لها مصاديق كثيرة.

ص: 276

و أما تزكيتهم لأنفسهم فقد حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، منها قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قولهم: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 111]، و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و غير ذلك ممّا هو من مظاهر تزكيتهم لأنفسهم، فإنّ لها مصاديق كثيرة.

قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم، و الآية الشريفة باسلوبها الجميل و لحنها الجذاب ردّ لهم، و تبيّن أنّها عادة سيئة، و ترشد الناس إلى أنّ التزكية من شؤون الربوبيّة يختصّ بها من يكون عليما خبيرا و غنيّا، فالإنسان الفقير المحتاج الذي لا يملك لنفسه شيئا مهما بلغ من الفضائل و الكمال و الشرف غير قابل لتزكية نفسه، فهي كلّها نعم ربوبيّة فيضها على من يشاء من عباده، فهو يزكي من عباده، لعلمه بأحوالهم و أفعالهم و أخلاقهم و سرائرهم، و قد تعارض تزكيتهم لأنفسهم مع ما فيهم من الصفات و هم يعلمون ذلك، و المزكي لنفسه لا بد من أن تطابق سريرته مع علانيته، فاللّه تعالى يزكي من يشاء من عباده المؤمنين الصالحين الذين تأهّلوا لذلك؛ لأنّه عزّ و جلّ العليم الخبير بالحقائق و خفايا الأمور قد زكى جلّ شأنه في القرآن الكريم أنبياءه العظام و رسله الكرام و بعض أوليائه بالصلاح و التقوى، و من أعظمها ما ورد في شأن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4].

قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً الفتيل الخيط الذي في شقّ النواة، و يضرب به المثل في الشيء الحقير، كما أنّ النقير هو الذي في ظهر النواة، و القطمير هو قشرتها الرقيقة، و قد وردت جميعها في القرآن الكريم أمثلة للقلّة و الحقارة.

و قيل: الفتيل هو ما يفتل بين الأصابع من خيط أو وسخ فتدلكه بها.

و الآية المباركة في موضع التعليل للآية السابقة، أي: أنّ اللّه تعالى يزكي من يشاء لأنّه لا يضيع الحقوق، بل يضعها في موضعها، و لا يظلم أحدا فلا يسلبه

ص: 277

حقّه، فإن كان زكيّا يصله إلى جزاء عمله، و إن لم يكن كذلك فلا يستفاد من تزكيته لنفسه شيئا.

و يستفاد من ذلك أنّ التزكية الحاصلة من الإنسان لنفسه إنّما هي من الظلم للنفس؛ لأنّه إن لم يهذبها عن الرذائل و لم يزيّنها بالكمالات، رجع ذلك إلى الغرور و التكبّر و الاستعلاء على الغير.

قوله تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ بيان لبعض ما يتصف به من يزكي نفسه، و قد ذكر عزّ و جلّ ثلاثة أوصاف له: الكذب، و البخل، و الحسد، و يظهر من ذلك أنّ التزكية للنفس أمر مستنكر تستتبع أهمّ الصفات الرذيلة و أشنع الأخلاق الفاسدة، و لمزيد التشنيع عليهم أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بالنظر تأكيدا للتعجّب المستفاد من سياق الآية الشريفة، و أنّهم مع تزكيتهم لأنفسهم و ادعائهم الفضل لها باطلا، يفترون على اللّه الكذب بتلك الافتراءات التي حكاها عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة، كادعائهم النبوّة، و أنّ اللّه تعالى خصّهم بحبّه و ولايته، و غير ذلك ممّا افتروه عليه سبحانه و تعالى.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ التزكية بنفسها كذب؛ لأنّه تصرّف في سلطان اللّه تعالى. و في التصريح بالكذب مع أنّ الافتراء أيضا - كذلك كما عرفت - للتأكيد و المبالغة على شناعة الفعل، فإنّ الكذب على اللّه تعالى يختصّ بمزيّة، و هي أنّه افتراء محض.

قوله تعالى: وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي: كفى بالكذب على اللّه تعالى أنّه إثم ظاهر واضح؛ لأنّ في التزكية جرأة على اللّه تعالى و محادّة له عزّ و جلّ و شرك و تصرّف في سلطانه، و وصف الذنب بالمبين لتعظيمه و ذمّه، و هو كاف في استحقاقهم العذاب و الجزاء، و تقدّم أنّ من يشرك باللّه تعالى فقد افترى إثما عظيما (الآية - 48)، و هنا كان إثما مبينا للإرشاد

ص: 278

إلى كون فاعله آثما بالإثم الظاهر، و معه كيف تتحقّق التزكية لأنفسهم منه، و لا يمكن أن يكون زكيا عند اللّه تعالى.

و يستفاد منه أنّ التزكية للنفس من الإثم الواضح الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و الوصول إلى الكمالات، فهي مع الشرك متساويان في منع نزول الرحمة و المغفرة، كما عرفت في الآية الكريمة السابقة.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ تقدّم أنّ مثل هذا الخطاب ذو الأسلوب الرفيع يدلّ على التقريع و التوبيخ بأنّهم مع إتيانهم النصيب من الكتاب لا بد أن يكون كافيا في ردعهم عن القبائح و الآثام، و للتعريض بأحوالهم بأنّهم على خلاف الحقيقة، فإنّهم مع ادعائهم إيتاء الكتاب لا يكونون كذلك، إلا أنّهم أوتوا نصيبا باعتبار ما بقي من الكتاب الإلهي الذي أنزله عزّ و جلّ لتكميل النفوس و تهذيبها، و لكنهم ضيعوه بالتحريف و التبديل، و في الآية الشريفة التأكيد للتعجيب السابق.

قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ مادة «جبت»، تدلّ على كلّ ما لا خير فيه، و قد استعملها القرآن الكريم في كلّ ما يعبد من دون اللّه سبحانه و تعالى لرجوعه إلى الضلال،

و في حديث الدعاء: «اللهم العن الجوابيت و الطواغيت، و كلّ ندّ يدعى من دون اللّه»، و سمّي بالجبت كلّ ضال مضلّ . و الطاغوت مبالغة في الطغيان، يطلق على كلّ متجاوز عن الحدّ في الطغيان و الضلال، مثل الأصنام و الشيطان، و رؤساء الشرك و العناد، و الجبت و الطاغوت يشتركان في إطلاقهما على كلّ ما يكون سببا للخروج عن الحقّ و الصراط المستقيم، سواء كان صنما أو شيطانا أو إنسانا أو العصبية و الأهواء الباطلة، فلها وجود نوعيّ يشمل جميع الأفراد و المصاديق التي تكون ضالّة و مضلّة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لهاتين الكلمتين معان متعدّدة، و الحقّ أنّها مصاديق لهما، و إنّما تعرف من القرائن المحفوفة بالكلام.

ص: 279

و الآية الشريفة تدلّ على خبث باطنهم في أنّهم يتركون الهداية و الإيمان بالحقّ ، و يؤمنون بكلّ ضالّ مضلّ ، و أنّهم نصروا المشركين و قضوا للجبت و الطاغوت كما حكى عنهم عزّ و جلّ بعد ذلك، فحرموا أنفسهم من كلّ خير و هداية.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لإيمانهم بالجبت و الطاغوت، أي: يحكمون لقومهم الذين كفروا، فاستحقوا بذلك أن يكونوا مؤمنين بهما، فإنّ الحكم للباطل إنّما يكون لأجل أنّه من مصاديق الجبت و الطاغوت.

قوله تعالى: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً بيان لقولهم و اظهار لعقائدهم، و الآية المباركة إشارة إلى أهل مكة و مشركيها، أي: أنّهم حكموا لهم بأنّهم أهدى من أهل الإيمان و أقوم سبيلا.

و إنّما أوردوا أفعل التفضيل في كلامهم على سبيل الاستهزاء، و إلا فإنّهم لم يلحظوا معنى التشريك فيه. و قد وصف سبحانه و تعالى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتباعه بالوصف الجميل، فإنّهم الذين آمنوا تخطئة لمزاعم الكافرين و ردّا لما وصفوا أهل الإيمان بأشنع القبائح.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ أي: أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لعنهم اللّه و أبعدهم من رحمته، و إنّما أشار إليهم بالبعد لأجل بعدهم عن الحقّ و غورهم في الضلالة و كفرهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و خبث باطنهم.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً بيان لجريان سنّته جلّ شأنه في الذين لعنهم اللّه تعالى و طردهم عن رحمته بأنّه لا ناصر لهم، و من ذا ينصر على اللّه من لعنه، فلا ينصرهم أحد فيمنع عنهم العذاب.

ص: 280

قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ بيان لصفة اخرى من الصفات الذميمة التي اتّصف بها من زكّى نفسه بعد أن وصفهم بالإيمان بالجبت و الطاغوت و العداوة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين و تفضيل المشركين عليهم.

و هذه الصفة هي البخل الذي يكون مصدرا لجملة من الرذائل الأخلاقيّة، و كان سبب ذلك أن سبل الهداية بعد ما خفقت في تهذيب النفوس المريضة التي تدعي لنفسها الكمال و تزكّيها بالفضائل و هم بعداء عنها.

و (أم) منقطعة، أي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها، و إن تضمّنت معنى الاستفهام و الإنكار مع ترق و اضراب عن ما قبلها، كما يستفاد من سياق الكلام.

و المراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك و ابطال لما يدعونه في ذلك، أي ليس لهم ذلك. و احتمل بعضهم أن تكون (أم) متصلة، و قد حذفت الهمزة، و التقدير: أهم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك.

و نوقش فيه بأن حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن الكلام.

و كيف كان، فالآية الشريفة في مقام تعداد رذائل ما يتصفون به بعد ادعائهم الكمال في التزكية لأنفسهم، و هكذا شأن التزكيّة الباطلة، فيكون المنساق من الآية المباركة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود، و الإنكار على المزكي لأنفسهم.

و المراد بالملك هو السلطنة على الأمور المعنويّة و الماديّة، كالنبوّة و الولاية و الهداية و الثروة، كما هو المستفاد من سياق الآية الكريمة، فإنّها تحكي عن أحوال اليهود و أهل الكتاب الذين يدّعون لأنفسهم الولاية و القضاء و الانتصار على المؤمنين و رجوع الملك الظاهري إليهم، و غير ذلك ممّا حكي عنهم القرآن الكريم

ص: 281

في مواضع مختلفة. و قد ذكر المفسّرون في تفسير الملك وجوها مختلفة لا دليل عليها.

قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً النقير اسم للنقطة التي في ظهر النواة - كما عرفت آنفا - و قيل: إنّه فعيل بمعنى المفعول - كالقتيل أو الفتيل - و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره. و قيل: غير ذلك، و الظاهر أنّ الأوّل تشبيه بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة.

و كيف كان، فهو مثال للشيء الحقير.

و «اذن» تكون جوابا و جزاء لشرط محذوف، و هي ملغاة عن العمل، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بها، و الفاء للسببيّة، أي: إن حصل لهم نصيب لمنعوا الناس من القليل الحقير.

و الآية المباركة تدلّ على زيادة التوبيخ و الإنكار عليهم، حيث يجعلون ما هو سبب الإعطاء - و هو النصيب - سببا للمنع.

و هذه الآية الشريفة مع سابقتها متّحدتان في الإنكار و التوبيخ عليهم و على الكافرين، إلا أنّ الاولى إنكار للوقوع، و الثانية إنكار للواقع، فإنّهم مع ما أنعم عليهم اللّه تعالى من النعم الدنيويّة الظاهريّة من الثروة و الزراعة و العقار و غير ذلك، و لكنّهم عرفوا بالشحّ و البخل و الحرص على المنع من أدنى الأشياء و أحقرها؛ و لهذا اختصّت هذه الآية الكريمة بالملك الدنيويّ لبيان ما هو الواقع.

و أما الاولى، فكانت عامّة تشمل الملك المعنوي و الظاهري المادي، فلا تكون الثانية مخصّصة للأولى كما زعمه بعض المفسّرين.

قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، و من إنكار صفة ذميمة إلى إنكار صفة اخرى أشدّ قبحا، و هي الحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة، و سوق الكلام مع اليهود كالسابق.

ص: 282

و المراد من الناس هو سيدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، الدال على أنّ ما أطلق عليه الناس من آل إبرهيم هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و يمكن شمول الآية المباركة للمؤمنين أيضا، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان واسطة الفيض عليهم بما آتاه اللّه تعالى من الفضل العظيم، و هو الكتاب و المعارف الربوبيّة و الكمالات المعنويّة، و حسدهم عليهم لمنعهم من ذلك الفضل و حصره فيهم غرورا و بخلا به.

قوله تعالى: عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيان لعلّة حسدهم على الرسول الكريم لما آتاه اللّه تعالى من النبوّة و الرسالة، و المؤمنين بما آتاهم من الكرامة و المعارف الربوبيّة التي كانت السبب في حقدهم الأكبر ضدّ الدين الحقّ و الإسلام؛ و لذا كان صراعهم معهم مستمرا إلى أن تقوم الساعة، كما تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة، الآية: 120]، و قال تعالى:

وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا [سورة البقرة، الآية: 217].

و إطلاق الآية الكريمة كما يشمل الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتبار ما اوتي من الرسالة و الوحي و الكمالات، كذلك يشمل أمناء اللّه و أمناء رسوله على وحيه و دينه، باعتبار ما أتوا من المقام الرفيع و المنزلة السامية و وجوب الطاعة و ما حباهم من الفضل العظيم، و يدلّ على ذلك

ما ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية الشريفة: «نحن المحسدون»، و روي مثله عن الإمام الصادق عليه السّلام.

و يمكن أن يكون قوله تعالى: ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيانا للملك في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ ، و القرآن يبيّن بعضه بعضا.

ص: 283

قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ إبطال لمزاعمهم و تعليل للاستقباح و سوق الكلام يفيد كمال الاعتناء بالأمر، كما يستفاد من الفاء - التي قيل فيها إنّها فصيحة - و للالتفات، و إجراء الكلام على سنن الكبرياء.

و المعنى: أن يحسدوا الناس على ما أوتوا من الفضل، فإنّه ليس ببدع، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب الشامل للتوراة و الإنجيل و القرآن الكريم و الحكمة، و هي المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة فهم على خطاء و وهم عظيم.

و في الآية المباركة إيناس لهم في نيل مقصدهم و قطع لرجائهم في زوال النعمة عن المؤمنين، فلن ينفعهم إلا حقدا و غيظا و همّا.

و يستفاد من الآية الشريفة تعظيم آل إبراهيم، الذين آتاهم اللّه تعالى الفضل العظيم، فيختصّ بإبراهيم و ذرّيته الأنبياء و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا يشمل بني إسرائيل الذين يدّعون أنّهم من نسل إبراهيم، فإنّ الآية الشريفة تكون في شأن غير الظاهر المراد.

و الجملة: تدلّ على أنّ المراد من الناس بعضهم دون الجميع - كما عرفت آنفا - فإنّ آل إبراهيم لا يشمل المؤمنين إلا إذا أدرجناهم في الآية بالعناية كما عرفت آنفا، بل يمكن أن يقال: إنّ ايتائهم الكتاب و الحكمة قرينة اخرى على أنّ المراد منه إبراهيم، و هذا النبي و آله صلّى اللّه عليه و آله، باعتبار أنّهم حفظة الكتاب و مستودع علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً تأكيد لاستقباح حسدهم و تقريع لهم بذلك، فإنّهم مهما حسدوا الأنبياء و المؤمنين، فإنّ اللّه تعالى آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فقد آتاهم ملكا عظيما من النبوّة و الرسالة و الولاية، و ليس المراد بالملك هنا الملك الدنيويّ الماديّ ، فإنّ اللّه تعالى لم يعهد منه أن استعظمه في القرآن الكريم إلا إذا استتبع فضيلة

ص: 284

معنويّة و كان سبيلا في نيل المقامات الرفيعة، فالمراد بالملك العظيم هنا سلطان الرسالة و عظمة الدين و الشريعة و زعامة الإمامة التي منحها لإبراهيم عليه السّلام بعد الابتلاء العظيم، فتشمل الآية الشريفة النبوّة و الإمامة، فإنّهما الملك العظيم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الكتاب و الحكمة؛ لأنّهما من مظاهر النبوّة و الإمامة و المبينين لسلطتهما.

قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الضمير في (منهم) يرجع إلى أولئك الكافرين الذين وصفهم في الآيات السابقة بأوصاف مختلفة، و قيل: يرجع إلى آل إبراهيم، و الضمير في «به» الى الملك العظيم، أو ما اوتي آل إبراهيم، و قيل: يرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه.

و الظاهر أنّه لا نزاع في البين، فإنّ المرجع شيء واحد، و هو الحقّ المتمثّل تارة في إبراهيم و آله، و الملك العظيم أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما ذكره عزّ و جلّ في الآية التالية.

قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الصدّ الصرف، و تستعمل قاصرة بمعنى أعرض، يقال: صرف نظره أو وجهه عن الشيء إذا أعرض عنه، فيكون المعنى: و من هؤلاء الكافرين الذين وصفهم اللّه تعالى بتلك الأوصاف المتعدّدة في الآية السابقة طائفة أعرضوا عن الإيمان أو الملك العظيم، فيتمّ التقابل بين الطائفتين من غير عناية زائدة.

كما تستعمل بمعنى الصرف، يقال: صدّ غيره إذا صرفه عنه و نفّره منه، فيكون المعنى أنّهم لم يؤمنوا به و بذلوا جهدهم في صدّ الناس عن سبيل اللّه تعالى و الإيمان بالملك العظيم، و هذا هو شأن اليهود، كما حكي عزّ و جلّ عن أحوالهم في القرآن الكريم، فتكون المقابلة بين الطائفتين مع عناية زائدة.

و تقسيمه عزّ و جلّ أولئك إلى هاتين الطائفتين تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لبيان أحوالهم في يوم القيامة، فتكون الآية التالية بمنزلة الشرح و التعليل لها، و لبيان

ص: 285

الفرق العظيم بينهما، فإنّهما على طرفي النقيض، و على قطبين متخالفين من السعادة و الشقاوة، فأما دخول الجنّات و التنعّم بأنواع النعم، و أما دخول جهنم و الصلي بالنار و العذاب الأبدي، الذي صوّره عزّ و جلّ في الآية التالية بأعظم صورة و أبدع أسلوب.

قوله تعالى: وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً توعيد لمن صدّ عن الحقّ و تهديد لهم بعذاب جهنّم التي لا ينقطع سعيرها، فإنّهم عذاب الدنيا، و لكنّه كفاهم سعير جهنم، و السعير بمعنى المسعور، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، يقال: سعر النّار أو أسعرها، إذا أوقدها إيقادا شديدا.

و إنّما كان جزاؤهم ذلك لأنّهم سعّروا نار الفتنة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و على الذين آمنوا، و صدّوا الناس عن الإيمان به.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تقرير لما سبق و تفصيل بعد إجمال، و تعقيب يملك مشاعر النفس و يؤثّر فيها أشدّ التأثير، و عموم الآية المباركة يشمل كلّ من كفر بآيات اللّه تعالى و دينه الحقّ ، و إن ذكرت بعد الكفر بما انزل على آل إبراهيم، فإنّهم سوف يصلون نار جهنّم و يدخلونها يوم القيامة.

و إنّما دخلت «سوف» لإمهالهم حتّى يرجعوا إلى دين الحقّ ، كما هو دأب القرآن الكريم في بيان العذاب، و ذكر بعضهم أنّ (سوف) للتهديد، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أعظم آية تثير الرهبة و الفزع في النفس، و هي تملك الحّس و يقشعرّ منها الجلد، فلا تدع مجالا للتفكّر في غير الإيمان و رفع هذا العذاب الأبدي، الذي لا يعرف مداه، فإنّ أعظم ما يصيب الإنسان من العذاب في الدنيا هو الحرق بالنار و الألم الذي يحسّه منه هو شديد، و لكنّه مع ما فيه من القوّة و الشدّة هو هين

ص: 286

بالنسبة لعذاب لا أمد فيه و لا ينقطع ألمه و لا يقف عند حدّ، و أوّل ما يتصوّره الإنسان من ملاحظة هذه الآية الشريفة أنّ الاحتراق يصيب الجلد كلّه بما فيه من الإحساس، و أنّ صاحبه لا يجد الراحة، فلا يشفى و لا يموت، فإذا احترق منه الجلد و نضج كما ينضج اللحم بالنّار، فلا بد أن يقلّ إحساسه إن لم نقل بزواله، فإذا له في نفس اللحظة جلد جديد بكامل إحساسه ينقل إليه الحسّ بالعذاب ليذوقه، فهو في احتراق دائم لا يتوقّف و لا يكفّ و لا يقلّ ، فنفس تصوّر مثل هذا العذاب و تخيّله أمر فوق الطاقة يثير الخوف و الدهشة، و لا يمكن تحمّله فكيف بالعذاب الحقيقي ؟! فما بال الإنسان لا يتذكّر في عواقبه و ما يرد عليه، و ما أعظم غفلته و ما أكثر إعراضه! و الآية الشريفة المباركة تبيّن الحقيقة و الواقع الذي يؤول إليه الكافر، و ليست هي مجرّد تمثيل أو كناية، كما يدّعيه بعض المفسّرين.

و مسألة نضج الجلود أثّرت في النفوس و غلبت على مشاعر المؤمنين، فآمنوا بما أنزله تعالى و استرهبوا قدرته و استوهبوا مغفرته و رضوانه، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في مسألة تبدّل الجلود إلى جلود اخرى، فأثاروا مسألة اخرى، و هي كيفية استحقاق الجلود الجديدة للعذاب، و ذكروا وجوها في دفع هذه المشكلة، جميعها لا تجدي شيئا، و هذه المسألة من فروع المعاد الجسماني الذي دلّت عليه آيات كثيرة، قال تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [سورة الاسراء، الآية: 48-51]، و قد غفلوا عن أمر القيامة و بقاء الأجسام في النّار العظيمة المهولة، مع أنّها لا تقلّ عن تبديل الجلود إلى جلود اخرى، فهي جلود جديدة مكوّنة من نفس البدن المستحقّ للعذاب،

ص: 287

و قد أوضح ذلك

الإمام الصادق عليه السّلام فقال عليه السّلام: «هي هي، و هي غيرها»، و شبّهها عليه السّلام باللّبنة إذا كسرت و دقت فصارت ترابا ثم صبّ عليها الماء فصارت لبنة اخرى، فهي هي في المادّة، و إنّما حدثت المغايرة في الصورة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ أي: إنّما كان ذلك ليدوم ذوقهم للعذاب فلا ينقطع، و التعبير بالذوق لبيان الإحساس المرير.

و قيل: لبيان أنّه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للاشعار بمرارة العذاب، و للإعلام على حدّة تأثيره.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً تعليل لما سبق، أي: إنّما عذّبهم اللّه تعالى بذلك العذاب المرير؛ لأنّ اللّه تعالى عزيز لا يمنعه مانع إذا أراد العذاب، و هو قادر عليه حكيم في أفعاله، لا يعذّب أحدا من دون سبب و لا علّة، كما لا يجزى المحسنين إلا كذلك، و أما العفو و مضاعفة الحسنات، فهو فضل منه جلّت عظمته.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ بيان لحسن حال المؤمنين، و تنبيه لمعرفة التفاوت العظيم بين الطائفتين - المؤمنين و الكافرين - في الجزاء. و في تعقيب تلك الطائفة بالمؤمنين لتتميم الرهبة بالرغبة، و لتكميل المساءة بالمسرة.

و المراد بالموصول هم الذين آمنوا بالرسول الكريم و ما انزل عليه من المعارف الإلهيّة و الأحكام، التي هي لصالح البشرية و صلاحها.

و عقّب سبحانه و تعالى الإيمان بالعمل الصالح، للدلالة على أنّ الجزاء العظيم الذي يناله المؤمنون إنّما يكون بالأمرين، الإيمان و العمل الصالح، فلا جدوى في أحدهما مع انتفاء الآخر، فإنّ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية

ص: 288

النفس و إعدادها لذلك الجزاء العظيم، كما أكّد على ذلك القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

نعم، في الإيمان المجرّد قد يكون بعض الآثار - كما هو معروف - فهو يكفي في تخفيف العذاب أو لنيل الشفاعة و غير ذلك.

قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

السين و سوف يدلان على التنفيس وسعة الاستقبال و اختلفوا فيهما، فقيل:

إنّ (سوف) أبلغ في الاستقبال و التنفيس من السين، و قيل: هما متساويان.

و كيف كان، ففي دخول السين في جزاء أهل الجنّة، و سوف في جزاء أهل النّار من البلاغة ما لا يخفى، فإنّ رحمته الواسعة اقتضت أن يعجّل لأهل النعيم نعيمهم، و لا يعجّل لأهل العذاب عذابهم، بل يمهل لهم حتّى يتوبوا، فكان ذلك سببا في دخول (سوف) الدال على التراخي و التنفيس و السعة في جزائهم.

و توصيف الجنات بجريان الأنهار من تحتها، لبيان روعة تلك الجنّات و صفائها.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً الخلود: دخول المكث، و تأكيده ب: «أبدا» لزيادة المنّة، و لبيان أنّ نعيم الجنّة لا ينقطع، فتطمئن إليها نفوس المؤمنين، و يذهب عنها الخوف و الحزن، كما دلّت عليه آيات اخرى.

قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ بيان لترادف نعمه و آلائه على المؤمنين في أنّ لهم حياة هنيئة في تلك الجنّات، منها أنّهم يعيشون مع أزواج متعدّدة مطهّرة من كلّ عيب و دنس، خلقا و خلقا، كما يدلّ عليه إطلاق التطهير، فلا ينافي ذلك

ما ورد في بعض الأخبار عن الصادق عليه السّلام: «اللاتي لا يحضن و لا يحدثن»، فإنّه في مقام بيان أكبر القذارات الملازمة لنوع النساء.

ص: 289

قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً قال الراغب: «الظل أعمّ من الفيء، فإنّه يقال: ظل الليل و ظل الجنّة، و يقال لكلّ موضع لم تصل إليه الشمس: ظل، و لا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، و يعبّر بالظل عن العزّة و المنعة و عن الرفاهة».

و الظليل: صفة اشتقّت من الظل تؤكّد معناه، أي: ظل الجنّة دائم لا حرّ فيه، و لا تنسخه شمس كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في هذه الدنيا، قال تعالى: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ * وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة، الآية: 30-33].

و يمكن أن يكون المراد من الظلّ قرب الوصول إليه تعالى في الجنّة، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا و إن كان قريب الوصول إليه تعالى، و لكنّه في عالم الجنّة أقرب، فادخله في ظلاله و إن ظلّه جلّ شأنه عليه دائما لا ينفع.

كما يمكن أن يكون المراد من الظلّ خلع المؤمن الكثافات الجسمانيّة عن نفسه و تنزّهه عنها في ذلك العالم، فكما أنّ الظلّ شيء، و لكنّه مجرّد عن الكثافة كذلك المؤمن لتناسب المكين مع المكان، و إنّ شرف المكان بالمكين، فيدخل اللّه تعالى المؤمن الجنّة بعد تطهيره عن الكثافات الجسمانيّة، كما دلّت عليه آيات شريفة و روايات كثيرة في وصف أهل الجنة يأتي التعرّض لهما إن شاء اللّه تعالى.

و قد عبّر عن المجرّدات بالظلّ في لسان الأئمة عليهم السّلام كثيرا؛ للإشارة إلى أنّ المجرّدات قد يكون من الجواهر، فإنّها شيء لا كالأشياء، فعبّر عن عالم الذرّ بعالم الظلّ ،

ففي حديث مفضل: «كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة، قال: يا مفضل كنّا عند ربنّا في ظلّ خضراء»، فهو كناية عن قدسية أرواحهم الشريفة، و أنّها كانت من القرب المعنوي الى المبدأ الأعلى،

و في حديث صفات الباري جلّ شأنه:

«أزليّا صمديّا لا ظلّ يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلّتها».

و كيف كان، فإنّ الآية المباركة تبيّن عظيم جزاء أهل الجنّة، و تصوّره

ص: 290

بأعظم صورة في أحسن أسلوب و أبدع عبارة، تنشرح النفوس عند سماعها، و يشتاق الإنسان الى تلك النعمة العظيمة، رزقنا اللّه تعالى التفيؤ في تلك الظلال الوارفة برحمته الواسعة، فإنّه أرحم الراحمين.

بحوث المقام

بحث أدبي

تقدّم مكرّرا أنّ جملة: «الم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار على الغير، و التنبيه على رداءة الفعل، و إنّما عدّيت بكلمة (الى) لتضمّنها معنى ألم يصل الى علمك.

و (فتيلا) في قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً منصوب على أنّه مفعول ثان ليظلمون.

و قيل: منصوب على التمييز، كقولك: «تصبّبت عرقا».

و انتصاب «إثما» في قوله تعالى: إِثْماً مُبِيناً على التمييز.

و «أم» في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ منقطعة، و هي التي لا تكون معادلة كهمزة الاستفهام في اللفظ و إن تضمّنت في الأكثر الاستفهام الإنكاري مع ترق و اضراب عن ما قبلها، فتدلّ على إبطال مدخولها.

و «إذا» في قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً ملغاة عن العمل، كما هو المعروف، و اختلفوا في أنّه على سبيل الجواز أو غير ذلك، فقيل بالأوّل إذا وقعت بعد الواو و الفاء، مع اتفاقهم على أنّ عملها - و هو نصبها المضارع - مشروط بتصديرها، أي: يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها المذكور في الكلام.

ص: 291

و كيف كان، ف (إذا) تكون جزاء و جوابا في الأكثر كما يقال لك: أحبّك، فتقول: إذا أظنّك صادقا، و التفصيل يطلب من كتب النحو.

و (سوف) في قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تسويف و تنفيس وسعة الاستقبال كالسين، و قيل: تأتي سوف للتهديد و تنوب عنها السين، و استشهدوا بهذه الآية الكريمة، و لكنّه بعيد، و استفادة التهديد إنّما تكون بقرائن خارجيّة.

و كيف كان، فالمعروف أنّ (سوف) أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخله؛ نظرا الى القاعدة المعروفة: «إن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك، فراجع.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية للنفس بغير حقّ مذموم لا تصدر من عاقل، و قد وصف اللّه تعالى المزكّين لأنفسهم في الآيات الكريمة بأمور تدلّ على بعدهم عن الكمال و سفاهة أحلامهم و اتصافهم برذائل الأخلاق، منها الكذب على اللّه تعالى، و منها الإيمان بالجبت و الطاغوت، و الإعراض عن الحقّ ، و الازدراء بالذين آمنوا و ترجيح الكافرين و الباطل عليهم. و منها: البخل ممّا آتاهم اللّه تعالى الذي أخذ العهد منهم بالبذل، و منها: الحسد لأهل الفضل و من حباهم اللّه بالفضل العظيم، و لعلّه لأجل اتصافهم بهذه الصفات الذميمة أوجبت استحقاقهم بأشدّ العذاب، و أرشدهم عزّ و جلّ الى نبذهم هذه العادة السيئة، فإنّ اللّه تعالى يعلم حقيقة الأمر و واقع الحال، و كلّ يرجع الى عمله و ما استحقّه من الجزاء، و لا يظلمون في أقلّ ما يمكن أن يتصوّر، و لا عبرة بتزكيتهم لأنفسهم.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية حقّ من حقوق اللّه تعالى، و لا يحقّ لأحد التدخّل في شؤون الخالق و ما يخصّه عزّ و جلّ ،

ص: 292

و قد بيّن عزّ و جلّ في القرآن الكريم شروط التزكية الحقّة الحقيقيّة، و خصّ بها أولياءه الكرام و أنبياءه العظام و المؤمنين المخلصين.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً أنّ التزكية للنفس بغير حقّ ظلم للنفس و تضييع لحقوق الآخرين، فإنّ كلّ تزكية إنّما تكون في سلب حقّ و تضييعه، و اللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و أنّه لا يظلم حقّ أحد و يصله الى جزاء عمله.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ ، على أنّ التزكية التي كانت من حقوقه سبحانه و تعالى إذا انتحلها أحد غيره كان كاذبا على اللّه تعالى، و يختصّ الكذب على اللّه تعالى أنّه افتراء محض يقطع الرابطة الموجودة بين الإله و عبده، و يوجب البعد عنه عزّ و جلّ ، و يوجب استحقاق صاحبه العذاب العظيم و أشدّ العقوبات، كما ذكره عزّ و جلّ في الآيات التالية، و لهذا ترى أنّه عزّ و جلّ يصف الكذب عليه بأنّه افتراء.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ على أنّ الإيمان بالجبت و الطاغوت يوجب طمس الفطرة التي تقضي باتباع الحقّ و الحبّ لأهله، و أما اتباعهما، فهو يقضي تعظيم غير اللّه تعالى و الإذعان له بالطاعة، و القول بأنّ الكافرين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، و لا يكون قولهم هذا إلا لأجل أنّهم أحبّوا طمس الحقّ و أيّدوا ستره، فاتبعوا من اتّصف بذلك و عظّموه، و ليس ذلك إلا لسبب إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فابتعدوا عن الحقّ و طمسوا نور فطرتهم، فيكون قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً مبيّنا لبعض مظاهر إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فاستحقّوا اللعنة و الطرد عن مظاهر الرحمة الإلهيّة.

السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً على أنّ من استحقّ اللعنة بسبب سوء اعتقاده و أعماله لا تشمله الرحمة الإلهيّة، فهو في عذاب

ص: 293

الخذلان و البعد عن ساحة الرحمن دائما، و كيف تشمل الرحمة من أبعده اللّه عن ساحته و طرده عن قربه إليه، فلا ناصر له من الشفاعة و غيرها حتّى ينجيه من العذاب الذي استحقّه باختياره و يهديه الى الرشاد.

و إطلاق الآية المباركة يشمل عدم النصرة و الخذلان في الدنيا و الآخرة، و إن كانت الاولى أهون بالنسبة الى الثانية، و سواء كان الناصر هو تعالى بالأسباب أم غيره.

السابع: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ على الذمّ و التشنيع عليهم بأنّ كونه ذوي نصيب من الكتاب لا بد أن يكون مانعا عن الإيمان بالجبت و الطاغوت، فيكون إيمانهم بهما مع الكتاب لهم أشنع و أفظع.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً غاية بخلهم و شدّة حرصهم على منع الناس من أدنى النفع و أحقره، فالآية الشريفة تبيّن ما تقتضيه طباعهم لو حصل لهم ملك ن فهم بعيدون عن الملك المعنوي و ليس لهم أي نصيب منه، و إنّ الذي هو موجود في أيديهم إنّما هو الملك المادّي من المال و التجارة، و لا ضير في ذلك بعد ما تكفّل عزّ و جلّ أرزاق عباده و ما هو موجود في أيديهم، ضرره عليهم أكثر من انتفاعهم منه، فقد امتحنهم اللّه تعالى به و ظهر سوء سرائرهم و أوجب ابتعاد الناس عنهم.

التاسع: ترتّب قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإن اتّصف بالبخل و شدّة الحرص و تزكية النفس بالادعاء الباطل و كتمان الحقّ و عدم الايمان به و عدم الإذعان للفضل و الفضيلة، يستتبع الحسد العظيم و تمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة، الآية: 109]، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه، و هو البخل و كتمان الحقّ و تزكية النفس بالادعاء الباطل و الإيمان بالجبت و الطاغوت، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض، و كيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب و إزالتها و تخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض، و إذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 294

التاسع: ترتّب قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإن اتّصف بالبخل و شدّة الحرص و تزكية النفس بالادعاء الباطل و كتمان الحقّ و عدم الايمان به و عدم الإذعان للفضل و الفضيلة، يستتبع الحسد العظيم و تمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة، الآية: 109]، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه، و هو البخل و كتمان الحقّ و تزكية النفس بالادعاء الباطل و الإيمان بالجبت و الطاغوت، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض، و كيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب و إزالتها و تخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض، و إذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

العاشر: يستفاد من قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ شدّة الألم، لأنّ النضج هو المرتبة الدانية من الطبخ، الذي يوجب زوال الحسّ ، بخلاف النضج، فإذا تعدّى عن مرتبة النضج تبدّلت جلودهم الى جلود اخرى.

الحادي عشر: لا تنافي بين قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها و بين قوله تعالى: إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف، الآية: 29]؛ لاختلاف طبقات السعير حسب الجرائم، و يمكن الاختلاف حسب اختلاف الأزمنة أو الحالات التي تمر عليهم.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ ، أنّ السبب في تبديل الجلود التي نضجت و احترقت الى جلود اخرى هو ذوق العذاب و مقاساته؛ لأنّهم انغمسوا في الرذائل و اتصفوا بصفات مهلكة.

و التعبير بالذوق لبيان شدّة إحساسهم بالعذاب و دوامه، و يدلّ ذلك على بقاء أبدانهم على حالها مصونة، و لا بد أن يكون كذلك حتّى يدوم مقاساة أهوال النّار و يدوم ذوقهم للعذاب، و هو يدلّ على إياسهم عن النجاة.

ص: 295

و تبيّن الآية المباركة تمام قدرته عزّ و جلّ على بقاء الأبدان و تبديل الجلود المحترقة، مع أنّ احتراق الجلود يستلزم احتراق الأبدان، لكنّ لجهنّم حياة خاصّة كما هي ثابتة بالأدلة الكثيرة.

الثالث عشر: يستفاد من الآية المباركة أنّ التبديل بما هو تبديل أيضا نحو عذاب و مشقّة لهم، و إن لم يكن باختيارهم.

الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ حيث أضاف التبديل الى نفسه الأقدس كمال القدرة و القهّارية، و أنّ ذلك لا يمكن لغيره جلّ شأنه.

الخامس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً أنّ الخلود إنّما يكون للبقاء في الجنّة، و الأبديّة إنّما هو لدوام النعمة المتنعّم بها المؤمن فيها، أي: يخلد في الجنّة و يدوم في النعمة، و هذا الاحتمال أولى، حملا للكلام على التأسيس الذي هو خير من التأكيد.

السادس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ التطهير عن كلّ ما يشوب المادّة، فتكون مطهّرة عن الأنجاس و الأرجاس و ملابسات المادّة و غيرها، و يقتضي الإطلاق ذلك كما مرّ في التفسير.

السابع عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً على كمال العناية بالمؤمنين، حيث شرّفهم اللّه عزّ و جلّ أن أدخلهم في ذلك الظلّ الوارف.

و يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أنّ كلّ شيء في الجنّة ظلّ لا مادّة له للطافته، بخلاف ما في الدنيا.

و التكرار في كلمة (ندخل) في قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي ، و في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ، إنّما هو للتأكيد و التشريف لرفع شأن المؤمن حين دخوله الى الجنّة.

ص: 296

بحث روائي

في الكافي بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: و قريب منه غيره، و الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، و لعلّ الوجه في ذلك عدم إمكان إجراء صاحبها الحقّ المحض و العدالة الاجتماعيّة الكاملة، فتكون الدعوة حينئذ إلى خلاف الواقع بزيّ الواقع، و تلبيس غير الحقّ بلباس الحقّ مع العلم و الاختيار، فيكون ذلك عبادة من دون اللّه عزّ و جلّ ، بخلاف ما لو ظهرت دولة الحقّ و ورث الأرض و من عليها من أراده اللّه تعالى، و هو الإمام المعصوم المؤيّد منه جلّ شأنه، فلا يبقى حينئذ للباطل مجال و لا للجور مكان بعد ظهوره إما لتكميل نفوسهم و عقولهم بالسير الاستكمالي، أو بشروق ربانيّ كما في بعض الروايات، و ما ذكرنا لا ينافي وجوب القيام لتبليغ الأحكام و تطبيقها قبل قيام الحجّة الثابت بالأدلّة الأربعة، إن لم يناف المقرّرات الشرعيّة من جهة اخرى.

و في الدرّ المنثور: عن ابن عباس قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلّون بهم و يقرّبون قربانهم و يزعمون أنّهم لا خطايا لهم و لا ذنوب، و كذبوا قال اللّه تعالى: «إني لا أطهّر ذا ذنب بآخر لا ذنب له»، ثم أنزل اللّه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ .

أقول: الرواية أيضا من باب التطبيق و مطابقة للآية المباركة: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الأنعام، الآية: 164].

و عن السدّي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، قال:

نزلت في اليهود، قالوا: إنّا نعلّم أبناءنا التوراة صغارا، فلا يكون لهم ذنوب، و ذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل».

ص: 297

أقول: لا ينافي ذلك التطبيق و الجري على غيرهم؛ لأنّ منشأ النزول تلك الصفات السيئة و العادات الذميمة و الأخلاق الفاسدة التي كانت عند اليهود، فلو كان السبب أو العلّة موجودة في غير اليهود تجري الآية عليه و تنطبق.

و في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فكان جوابه:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ، يقولون الأئمة الضلال و الدعاة الى النّار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ ، يعني: الإمامة و الخلافة، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً ، نحن الناس و النقير النقطة التي في وسط النواة، أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ نحن الناس المحسودون على ما آتانا اللّه من الإمامة دون خلق اللّه أجمعين، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، يقول: جعلنا منهم الرسل و الأنبياء و الأئمة، فكيف يقرّون به في آل إبراهيم و ينكرونه في آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أجلى المصاديق، و إلا فالآيات الشريفة عامّة تنطبق على كلّ شخص يدعو الى الحقّ و الواقع، و أفاض اللّه تعالى عليه من فضله و إن كان ذلك منحصرا في محمد و آله.

و في الأمالي للشيخ، بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: «نحن الناس»،

و عنه عليه السّلام في رواية بريد: «نحن الناس المحسودون».

ص: 298

أقول: الروايات في هذا المضمون متواترة في جوامع الشيعة، بل ورد من طرق أهل السنّة أيضا، ففي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ ، قال: «نحن الناس دون الناس».

و عن ابن المغازلي في مناقبه بسنده عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فقال: «نحن الناس»،

و في المقام قال ابن الأعرابي في كتاب معجم الشيوخ: «انبأنا الغلابي، انبأنا ابن عائشة، انبأنا إسماعيل بن عمرو البجلي، عن عمرو بن موسى، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي قال: «شكوت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس إياي، فقال: يا عليّ أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنّا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرارينا خلف أزواجنا و أشياعنا من ورائنا»، و رواه أحمد بن حنبل و ابن الجوزي في تذكرة الخواص باختلاف يسير.

و في تفسير العياشي: عن حمران، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ ، قال: «النبوّة» و «الحكمة»، قال: الفهم و القضاء، «و ملكا عظيما» قال: «الطاعة».

أقول: الروايات في ذلك متواترة، و المراد من الطاعة الطاعة المفترضة في الأئمة عليهم السّلام، كما في بعضها.

و عن ابن المغازلي في مناقبه و ابن حجر في الصواعق في الآية الشريفة عن هشام بن الحكم عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، قال: جعل فيهم أئمة، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه».

و في الاحتجاج للشيخ: عن حفص بن غياث، قال: «شهدت المسجد الحرام و ابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى:

ص: 299

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ ، ما ذنب الغير؟ قال عليه السّلام: و يحك هي هي، و هي غيرها، قال: فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا، قال: نعم، أ رأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها و هي هي و هي غيرها».

أقول: و في هذا المعنى روايات اخرى مرويّة عنه عليه السّلام، و يستفاد منها امور:

الأول: أنّ المادّة الأوّلية موجودة في هذه التبدلات، و أنّها تذوق العذاب جزاء لما كسبت و إن تبدّلت بهيئات مختلفة و صور متعدّدة، و بهذا يرتفع كثير من الشبهات الواردة على المعاد الجسمانيّ ، كشبهة الآكل و المأكول و غيرها.

الثاني: يستفاد منها أنّ تغيير الهيئة يوجب الاختلاف في ألم العذاب و طعمه الشدّة أو الضعف أو النوع؛ لأنّ للحادث أثرا خاصّا غير ما هو السابق، كما ثبت في محلّه.

الثالث: أنّ التبديل إنّما يكون من نفس الجسم، لا من جلد خارجي.

الرابع: أنّ التبديل استمراري و تدريجي، لا أن يكون دفعيا كخلع الثوب و تبديله بثوب آخر؛ لأنّه تابع للنضج و هو يختلف حسب اختلاف الجلد، و لعلّ ذلك أشدّ عذابا من غيره، أعاذنا اللّه تعالى منه.

الخامس: يختلف زمان التبديل حسب اختلاف نضج الجلد، و ذلك حسب شدّة النّار و اختلاف الطبقات المعدّة للمجرمين،

ففي بعض الروايات كما في الدرّ المنثور: «في ساعة مائة مرّة»، و في الاخرى: «مائة و عشرين»، و هذا الاختلاف لا يضرّ بما ذكرنا، و لا فصل في العذاب عند التبديل لأنّه بنفسه عذاب.

السادس: يستفاد منها التقريب الذهني بتمثيل ما في الآخرة بما في الدنيا، سواء كان في الجنّة كما في كثير من الروايات، أم في النّار كما في المقام.

السابع: يستفاد منها أنّ تبديل الجلد بالآخر إنّما يكون مثل الجلد السابق و بأوصافه، لا أن يكون أسمك مثلا أو بلون آخر غير الأوّل.

نعم، في الدرّ المنثور أنّه يكون بيضاء، و لعلّ ذلك بملاحظة لون الجلد

ص: 300

السابق بعد النضج، فالمراد من الغير الوارد فيهما الغير في نفس الجلد و ذاته، لا في ما يتعلّق به من الصفات؛ لأنّ في ذلك نوعا من الإعجاز، فلا مجال لدعوى الإطلاق.

و في الفقيه: قال: «سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ؟ قال: الأزواج المطهّرة لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: هذا من باب ذكر بعض الصفات، كما تقدّم في التفسير.

و هناك روايات ذكرها الواحدي في أسباب النزول، تدلّ على أنّ الآيات المباركة نزلت في شأن جماعة من اليهود و غيرها من الأشخاص، و تقدّم منّا مكرّرا أنّ ذلك من باب التطبيق لا التخصيص.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ، هو ظلّ العرش الذي لا يزول.

أقول: هذا تفسير بأجلى المصاديق، كما مرّ في التفسير.

ص: 301

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَ.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الآيتان الشريفتان من أهمّ الآيات القرآنيّة التي تبيّن دستور الحياة للمؤمنين على النهج الربانيّ الحكيم، و ترشدهم الى بعض الأمهات من الأعمال الصالحة التي يقوم بها نظام معاشهم و معادهم، كما أنّهما تتضمّنان أعظم الأحكام التي تقرّر مصير المجتمع الإسلامي و تهديهم الى نظام وثيق تتفق فيه العقيدة مع العمل، و تنتظم به علاقات أفراد المجتمع بعضهم مع بعض، و علاقاتهم مع خالقهم مثل الأمر بحفظ الأمانة و الحكم بالعدل، اللذين هما أساس كلّ نظام قويم صالح.

و الآية المباركة مع ايجازها البليغ تشتمل على التوجيه العقائدي للمؤمنين في تنظيم العقيدة مع اللّه تعالى، و تهديهم الى إصلاح علاقات المجتمع الإسلامي وفق دستور متين، يحفظ فيه كلّ العهود و المواثيق. كما تقرّر جانبا من المعاملات التي تستقيم بها الحياة الاجتماعيّة.

فهي توجيهات ترتبط فيها العقيدة مع العمل ارتباطا وثيقا، فلم تهمل جانبا، فكانت الإطاعة التي أمر اللّه تعالى المؤمنين بها هي مجمع تلك التوجيهات القويمة و العقيدة الصحيحة التي لها الأثر الكبير في إصلاح الفرد و المجتمع، فإنّ إطاعة اللّه تعالى و الرسول و أولي الأمر برزت في حفظ الأمانة، بل هي الطريق الأمثل لتأديتها الى أهلها، و سيأتي في الآيات التالية نماذج متعدّدة من التوجيهات التي تشرح هذه التعاليم و تطهّر النفوس من الخيانة و الخبث و النفاق، و تجلب لها السعادة و تصلح بها النظام.

ص: 302

و في هذه الآيات المباركة تبرز بوضوح نظرية الإسلام التربويّة التي تشتمل على العقيدة و العمل، و تتضمّن دستور الإسلام الخالد في النظام الدنيويّ و الاخروي، و إنّما أدرج سبحانه و تعالى هاتين الآيتين على أهميتهما في ضمن الآيات؛ لأنّها تضمّنت الحديث عن الكافرين و لا سيما اليهود، ليقرّر مضمونها تقريرا متينا بأحسن وجه و يبيّن حقيقة الإيمان الصحيح عن الإيمان الادعائي الكاذب الذي يدّعيه أهل الكتاب، و يرشد المؤمنين الى نبذ ما عليه الكافرون من رذائل الأخلاق، و الرجوع الى تعاليم القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها بيان الهي يتضمّن دستورا ربانيّا لجميع أفراد الإنسان به، ينتظم نظامهم الدنيويّ و الاخرويّ . و الخطاب عامّ يشمل جميع المؤمنين و غيرهم؛ لأنّ مضمونه ممّا تحكم فطرة العقول بحسنه.

و الأمانات: جمع الأمانة، اسم مصدر سمّي به المفعول، و أداء الأمانة:

إرجاعها الى صاحبها.

و الآية المباركة عامّة تشمل كلّ أمانة على الإطلاق، سواء كانت خالقية أم خلقية، و لكن المهمّ منها التي تتعلّق بها سائر الأمانات و تتنظم هي الأمانة المتعلّقة بحقوق اللّه تعالى، و أهمّها عبادته عزّ و جلّ وحده بلا شريك، و الإيمان به و برسله و التحاكم الى شريعته، و اتخاذ دينه منهجا في الحياة، فإذا تمّ ذلك و أديت تلك الأمانة بحذافيرها، انتظمت سائر الأمانات و أديت الى أهلها تلقائيا؛ لأنّ بأداء الأمانة الكبرى يستشعر الإنسان بتقوى اللّه تعالى و تتحدّد مسئوليته اتجاه سائر الأمانات، فيكون مسئولا عن أدائها، و يكون مراعيا لحقوق الآخرين الذين أمرنا اللّه تعالى بمراعاة حقوقهم في الآيات السابقة، و إلا خرج عن أداء الأمانة الكبرى.

ص: 303

بل يمكن أن يقال: إنّ كلمة «أهلها» تدلّ على أنّه لا بد أن يكون المؤدّى إليه الأمانة له أهليّة الأمانة، فتختصّ الآية الشريفة بأداء الأمانة للّه تعالى و رسله و أنبيائه العظام و الأوصياء الأكرمين، فإنّ لهم أهليّة أداء الأمانة، و أما غيرهم فيكون ردّ أمانتهم لردّ أمانة أولئك المتقدّمين، و يشهد لذلك تعقيب هذه الآية الكريمة بالحكم بالحقّ ، الذي هو حقّ إلهي و إطاعة اللّه و الرسول و اولي الأمر منكم، فإنّه من باب التطبيق لتلك الأمانة التي أمرنا بأدائها الى أهلها.

و الآية المباركة على ايجازها البليغ تشتمل على معان كثيرة دقيقة، لا بد من الالتفات إليها، فإنّها أوّلا نصّ عقائدي توجيهيّ بأداء الأمانة الكبرى، و هي عبادة اللّه الواحد المتفرّد بالالوهيّة و الحاكميّة المطلقة التي قرّرتها الآية الكريمة اللاحقة.

ثم هي تتضمّن دستورا عمليّا مرتبطا بالعقيدة، و هو تنظيم علاقات أفراد المجتمع الإسلامي على طبق الأمانة الكبرى، و تنظيم علاقات الفرد مع خالقه.

و ثانيا: أنّ الآية الشريفة تدلّ على أداء الأمانة الى من له أهليّة الأداء إليه، و هو تارة: يكون من له الأهليّة الحقيقيّة الذاتيّة، و هي تختصّ بالأمانة الكبرى و اولى الأمانات التي يتعلّق بها سائر الأمانات و يجب أن تؤدى الى اللّه تعالى، و هي تنحل الى الإيمان بأنّه إله واحد لا شريك له المتفرّد بالالوهيّة و له الحاكميّة المطلقة و الربوبيّة العظمى، و تنحصر الطاعة الحقيقية له عزّ و جلّ ، و هذا هو الذي تحدّث عنه تعالى في الآيات السابقة، نظير قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 36]، و قوله تعالى الذي بدأت هذه السورة به: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء، الآية: 1]، و سيأتي موارد في الآيات التالية بيان ذلك.

ص: 304

و اخرى: تكون له أهليّة الإفاضة من اللّه تعالى، و هم الأنبياء و المرسلون و الأولياء، الذين أفاض اللّه سبحانه و تعالى عليهم الولاية و جعلهم أنبياء و رسلا و أوصياء لتأدية الأمانة الملقاة على عاتقهم، و هي الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و تأدية الأمانة الى هؤلاء إنّما تكون بالإيمان بهم و العمل بما انزل عليهم، و سيأتي في الآية التالية بيان بعض المصاديق لهذا القسم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً [سورة النساء، الآية: 59].

و ثالثة: الأهليّة المكتسبة، و في الدائرة بين الناس التي يقوم عليها نظام المعاش و يدور عليها صلاح الاجتماع و المدنيّة الكاملة الهادئة.

و في الآيات التالية في هذه السورة مجموعة من التوجيهات و الأحكام و التشريعات التي تبيّن مصاديق لهذه الأقسام الثلاثة، و قد اجتمعت في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [سورة النساء، الآية: 135]، و غيرها من الآيات الشريفة التي تبيّن هذه الآية المباركة و توضيحها توضيحا كاملا في ضمن أمثلة في ثنايا هذه السورة و غيرها، التي تكون معينة لفهم هذه التكاليف، فيسهل عليه حمل التكاليف الاخرى، كما تمدّه بزاد ليتلقّى به حمل تكاليف جديدة، و التي تبيّن من يكون أهلا لأداء الأمانة إليهم.

و ثالثا: أنّ هذه الآية الكريمة تنتظم علاقات الإنسان مع خالقه العظيم، كما تنظم علاقات أفراد المجتمع الإنسانى، و لا سيما الإسلامي.

و رابعا: أنّ هذه الآية تؤدّي أكثر من مهمّة بالنسبة الى الإنسان، فهي

ص: 305

المنهج الذي تستقيم به الحياة، و تطهّر القلب من الخيانة و تصلح النفس، و هي التي توازن بين جذب الشهوات و دفع النفس الأمّارة و هدوء العقل و إمساكه عن الوقوع في الموبقات و المهلكات.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكروه في شأن نزول هذه الآية الشريفة على فرض صحّته، لا يمكن أن يكون مقيّدا لعمومها الشامل لكلّ أمانة - معنويّة و ماديّة و أخلاقيّة و غيرها - على حدّ سواء، و منها الأمانة الملقاة على عاتق العلماء الأمناء لتأدية تلك الأمانة و تبليغها الى الناس من دون تحريف و خيانة و كتمان، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا إيمان لمن لا أمانة له»، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ بيان لبعض مصاديق الأمانة الكبرى، بل يمكن أن يقال: إنّ أداء الأمانة الكبرى نحو اللّه جلّ جلاله، لا يتمّ إلا بالتحكيم الى ما أنزل اللّه تعالى، فإنّ أداء الأمانة الحقيقيّة الكبرى، ليس مجرّد إيمان قلبي، بل لا بد من إبرازه و إظهاره في مجال التطبيق، و هو العمل بما أنزله اللّه تعالى، الذي أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، فالتحاكم الى اللّه و الإقرار له بالحاكميّة المطلقة، تطبيق عملي للعبوديّة، و إبراز العدل الإلهي، فإنّ الحكم بين الناس من المناصب الإلهيّة التي وضعها عزّ و جلّ

ص: 306

على الناس و حثّهم عليها، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل هو الذي أراده عزّ و جلّ و أمر به في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و قد بيّن هنا الأهل الذي لا بد من أداء الأمانة إليه و هم الناس جميعا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ هذه الأمانة لأهميتها البالغة في حياة الناس، و هي التي تتكلّف تطبيق النظام الأحسن المشتمل على العدل الربانيّ بمستوى جميع أفراد الإنسان كلّهم، لا في محيط ضيق، و الحكم بالعدل هو الحكم لشريعة اللّه تعالى التي أنزلها على أنبيائه العظام، و لقد جمعت هذه الأمانة جميع الأمانات الثلاث المتقدّمة، الأمانة الكبرى و هي الحكم بالعدل الذي هو منصب إلهي، و التطبيق العملي للإيمان باللّه تعالى و عبادته، و الطاعة له عزّ و جلّ .

و في هذه الأمانة يتحقّق تصديق الأنبياء في ما بلّغوه من الأحكام الإلهيّة، كما أنّ فيها يعمّ العدل على مستوى البشرية ليسود النظام و يصل كلّ ذي حقّ الى حقّه.

ثم إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ أنواع الحكم، سواء كان عن ولاية عامّة أم خاصّة و التحكيم الذي يرجع إليه المتخاصمين و غير ذلك، لكن يجب أن يكون الحكم بالعدل، و هو المأمور به في عدّة آيات اخرى قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ [سورة النحل، الآية: 90]، و قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة المائدة، الآية: 8]، و قال تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ [سورة الحجرات، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [سورة الانعام، الآية: 152]، و هو يدلّ على عظم شأنه.

و العدل معروف يطلبه كلّ ذي شعور، و لعلّه لوضوحه لم يذكر سبحانه و تعالى في القرآن الكريم الا ما يكون تطبيقا عمليّا له، و أما المفهوم فقد أوكله الى الفطرة لوضوحه، و يرشد الى ذلك أنّ الأمر بالعدل مطلقا ورد في آيات السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعيّة.

ص: 307

و كيف كان، فهو لا يتحقّق إلا بإجراء أحكام الشرع المبين لقصور العقول عن درك كثير من المصالح، و قد ذكر جلّ شأنه في القرآن الكريم موارد كثيرة من تطبيقات العدل، و في السنّة الشريفة ما بيّنه بيانا واضحا شافيا، و لا بد و أن يكون العدل ظاهرا في جميع خصوصيات الحكم من القول و الفعل و الخلق و الحكم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الحكم بالعدل بعد الأمر بأداء الأمانة لما ذكرناه آنفا، و لأنّ الاحتياج الى الحكم بالعدل إنّما يكون بعد تخلّف أداء الأمانة و ثبوت الخيانة في الناس، فيستلزم الرجوع الى الحاكم الذي لا بد أن يكون أمينا في إجراء الحكم و بسط العدل بين الناس، و لنا أن نقول: إنّ الرجوع الى الحكم بالعدل لا يكون في الامة التي يراعي أفرادها حقوق الآخرين، و إنّما العدل هو مراعاة الأمانة و أداءها الى أهلها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها، و إنّما تصدّرت باسم الجلالة للترغيب و الترهيب، و (نعمّا) أصله (نعم ما)، و الجملة مركبة من المبتدأ، و هو اسم (ان)، و الخبر و هو جملة نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ .

و هذه الجملة باسلوبها البديع و سياقها الجذّاب تدلّ على الأهميّة العظيمة البالغة التي أعطاها عزّ و جلّ لأداء الأمانة الى أهلها و الحكم بين الناس بالعدل، فإنّهما الخير العظيم، و لذا كانت لائقة أن تجعل خبرا للفظ الجلالة، كما تدلّ الجملة على مزيد اللطف بالمخاطبين و حسن استدعائهم الى الامتثال، بعد ما نبّههم على أنّ ما ورد في الآية المباركة هو من الموعظة الحسنة و الخير العظيم في الدارين.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي: أنّ اللّه تعالى لا يخفى عليه جميع أقوالكم و أفعالكم و نيّاتكم، و فيه وعد للمطيعين و وعيد للعاصين الذين خالفوا الأحكام الإلهيّة و خانوا الأمانة الربانيّة.

ص: 308

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ بيان لأساس الشرائع الإلهيّة و الأحكام الربوبيّة؛ لأنّ الطاعة محور كلّ تكليف إلهي و قانون وضعي، فلا فائدة في تشريع لا تطبيق فيه.

و الآية المباركة تفصيل لما أجمله عزّ و جلّ في الآية الكريمة السابقة، فإنّه بعد ما أمر الناس بأداء الأمانة و الحكومة بالعدل، بيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة أنّ الطريق لذلك إنّما يتمّ بطاعة اللّه و طاعة الرسول و اولي الأمر منكم، ثمّ ردّ المتنازع فيه الى اللّه تعالى و الرسول، فالجملة كما أنّها بيان لما ورد في الآية السابقة، تمهيد و توطئة للأمر بردّ المتنازع فيه الى اللّه عزّ و جلّ و رسوله.

و الطاعة هي الالتزام مع العمل، و طاعة اللّه هي الإيمان به و بدينه الحقّ و العمل بأحكامه و شريعته التي أنزلها على رسوله الأمين.

و أما طاعة رسوله، فلأنّه المبعوث لتبليغ أحكام اللّه تعالى و المأمور لبيان كتابه الحقّ ، فلأنّه لا ينطق عن الهوى.

فكانت طاعة اللّه تعالى واجبة بالذات؛ لأنّ له الطاعة المطلقة و الحاكميّة التامّة. و أما طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فهي و إن كانت واجبة بالذات أيضا؛ لأنّ اللّه تعالى أمره بتبليغ الأحكام و بيان الكتاب، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44]، و جعل له الولاية العامّة و الحكومة بين الناس و القضاء و الفصل بينهم بما يراه من المصلحة و ما ألهمه اللّه تعالى من صواب الرأي، قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ [سورة النساء، الآية: 105]، إلا أنّها إضافية من قبله جلّ شأنه.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ طاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله واجبتان بالذات، فيجب إطاعتهم في كلّ ما يأمرون به و ينهون عنه، بوصفهم أنّ لهم سلطة تطاع لذاتها، إلا أنّه تفترق الثانية عن الاولى بأنّها مستندة إلى اللّه تعالى، و أنّها إفاضيّة من قبل اللّه قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة

ص: 309

النساء، الآية: 64]، و يكون إطاعته إطاعة للّه تعالى، قال سبحانه: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ [سورة النساء، الآية: 80]، فتختلف الطاعتان من هذه الجهة، و لعله لذلك كرّر سبحانه و تعالى الفعل في الآية الشريفة لبيان الاختلاف بينهما من هذه الجهة، لا لما ذكره بعض المفسّرين من أنّ التكرار إنّما هو للتأكيد، فإنّ ذلك خلاف الظاهر؛ و لأنّ التأكيد قد يتأتّى من دون تكرار و بحذف الفعل، فيقال وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ ، فيفهم منه أنّ طاعة الرسول من طاعة اللّه تعالى و أنّهما واحدة و لهما الطاعة المطلقة غير المشروطة بشيء.

و من ذلك يستفاد عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ الأمر بطاعته المطلقة يقتضي أن لا يكون حكمه مخالفا لما أراده اللّه تعالى، و إلا كان فرض طاعته تناقضا واضحا، و هذا لا يتمّ إلا بعصمتهم.

قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ عطف على ما قبلها، و الظاهر من سياق الآية المباركة - حيث قرن طاعتهم بطاعة اللّه و طاعة الرسول - أنّ طاعتهم ملحقة بطاعتهما، فلا بد أن تكون طاعتهم في حدود ما أمر اللّه تعالى و رسوله، فليس لهم نصيب من الوحي و التشريع، و إنّما شأنهم تفسير ما أنزله اللّه تعالى، و يدلّ على ما ذكرناه أنّه لا بد من الردّ على اللّه و الرسول عند التنازع و المشاجرة، فهما وحدهما المرجع الذي يرجع إليه في كلّ الأمور، و الخطاب للمؤمنين الذين يقع بينهم التنازع، فيجب عليهم الردّ لا التنازع بين اولي الأمر و المؤمنين، كما ذكره بعض المفسّرين، فإنّه لا معنى له مع افتراض طاعة ولي الأمر.

و كيف كان، فليس لأولي الأمر من التشريع، و لا وضع حكم جديد، و لا نسخ حكم ثابت في الكتاب و السنّة، فإنّ اللّه تعالى نفى عنهم هذا التصرّف بالرجوع الى اللّه و الرسول عند التنازع، فيكون أولو الأمر شرّاحا للكتاب و السنّة و مبيّنين لما ورد فيهما، بمقتضى ثبوت الولاية لهم و ما ألهمهم اللّه تعالى من

ص: 310

الذهن الثاقب، فلهم أن يكشفوا عن حكم اللّه و رسوله في القضايا و الموضوعات العامّة.

و اولوا الأمر اسم جمع يدلّ على كثرة التلبّس بهذا العنوان، و هو يتصوّر على وجهين:

الأول: أن يكونوا آحادا يتلبّس كلّ واحد بهذا العنوان، لكون مفترض الطاعة واحدا منهم بعد واحد، فينسب افتراض الطاعة الى جميعهم بحسب اللفظ و الأخذ بجامع المعنى، و نظير ذلك مثل قولنا: صل قربائك و أطع ساداتك، و نحو ذلك.

و اعترض بعض المفسّرين على هذا بأنّه يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر.

و يردّ عليه أنّ ما هو خلاف الظاهر في حمل الجمع على المفرد أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاد، فإنّه يحتاج الى عناية زائدة، و أما حمل الجمع على الأفراد على سبيل انحلال الحكم الى أحكام متعدّدة حسب تعدّد الآحاد، فهو صحيح، بل واقع في القرآن الكريم و السنّة الشريفة و كلام الفصحاء، قال تعالى: وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة الحجر، الآية: 238]، و قال تعالى:

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ [سورة البقرة، الآية: 238]، و قال تعالى:

فَلا تُطِعِ اَلْمُكَذِّبِينَ [سورة القلم، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ [سورة الشعراء، الآية: 151]، و غير ذلك ممّا هو كثير لا سيما في تشريع الأحكام.

الثاني: أن يكون الجمع من حيث هو جمع، أي الهيئة الحاصلة من عدّة معدودة، كلّ واحد من اولي الأمر و صاحب نفوذ في الناس و ذو تأثير في أمورهم، مثل رؤساء الجنود و أمراء السرايا و أولياء الدولة و العلماء و سراة القوم و أهل الحلّ و العقد، و هم الهيئة الاجتماعيّة كما عن بعض المفسّرين.

ص: 311

و هذا الاحتمال لا شاهد له، بل هو بعيد عن ظاهر الآية الشريفة، فلا وجه للأخذ به بعد ما استظهرناه من لزوم عصمتهم بحكم إطلاق الطاعة كما مر.

يضاف الى ذلك أنّ افراض طاعة اولي الأمر لأجل أنّهم يمتازون عن سائر أفراد الامة بمميزات خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب الخطير - كما ستعرف - لا ما جعلوه هم لأنفسهم.

ثم إنّ الأمر في أُولِي اَلْأَمْرِ يراد به الشأن الراجع الى دين المؤمنين و دنياهم، كما هو المستفاد من آيات اخرى؛ لأنّ الإسلام لم يهمل جانبا من جوانب حياتهم، و قد وردت هذه الكلمة في مواطن اخرى ممّا يؤيّد ذلك، قال تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [سورة آل عمران، الآية: 159]، أي: ما يتعلّق بالموضوعات الخارجيّة، و قال تعالى في مدح المتقين: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [سورة الشورى، الآية: 38]، أي: ما يرتبط بالأمور الدنيويّة التي فيها أغراض صحيحة عقلائية، و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 36].

و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر اللفظ.

و مِنْكُمْ يدلّ على أنّ اولي الأمر ليسوا هم، أيّ ناس يقومون بالحكم و يتسلّطون على الأمر، أو ينصب نفسه على المسلمين، بل لا بد أن يكونوا مؤمنين و بالذات أن يكونوا منكم في الأمانة و التقوى، و إلا لا وجه لطاعتهم، فإنّ اللّه تعالى لا يأمر بطاعة من لم يكن من أهل الإيمان و لو تسلّط على المؤمنين جبرا و غصبا، حتّى يكون مِنْكُمْ ظرفا مستقرا، أي: اولي الأمر الكائنين منكم، بل أنّ لهذه الكلمة مزيّة خاصّة في المقام، و هي أنّ اولي الأمر لا يكون بالضرورة فردا خارجا عن أفراد الإنسان، بل أنّهم منكم، نظير ما ورد في الرسل، قال

ص: 312

تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قال تعالى: رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي [سورة الأعراف، الآية: 35]، فهم منكم لكن لهم مزيّة خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب - كما ستعرف - فلهذه الكلمة في المقام تأثير كبير في نفوس المؤمنين، بأنّ من يتصدّى لهذا الأمر هو منهم يطمئنون إليه و يرتضون به حاكما عليهم.

و قال بعضهم: إنّ تقييد اولي الأمر بقوله: مِنْكُمْ يدلّ على أنّ اولي الأمر منهم إنسان عادي، و هو من المؤمنين من غير مزيّة و عصمة إلهية.

و فساده واضح ظهر ممّا ذكرناه، و سيأتي مزيد بيان لذلك.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر و لم تقيّدها بقيد و لا شرط، فتكون إطاعتهم كإطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى التشريك و ذكر الطاعة لهما معا، و من المعلوم أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يأمر بمعصية و لم يكن بوسعه أن يشتبه في حكم أو يغلط فيه، و هذا ممّا لا ريب فيه، فلا بد أن يكون اولوا الأمر كذلك، فلو جاز عليهم ذلك لكان لا بد من تقييد ذلك، و لو في غير هذه الآية المباركة بأن يقال: أطيعوا اولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطاهم، و إلا فلا طاعة لهم عليكم في المعصية، أو أنّه يجب عليكم أن تعلّموهم بخطئهم فقوّموهم بالردّ الى الكتاب و السنّة، كما قيّد سبحانه و تعالى في إطاعة الوالدين في قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [سورة العنكبوت، الآية: 8]، فإذا لم يكن مثل هذا القيد في المقام، فتكون طاعتهم مطلقة غير مشروطة بشيء، و يلزم من ذلك اعتبار العصمة في اولي الأمر كما اعتبر في الرسول صلّى اللّه عليه و آله، من غير فرق من هذه الجهة بينه و بينهم، و إن أمكن الفرق من جهة اخرى، و هي أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله له سلطة التشريع، بخلاف اولي الأمر، فإنّ لهم سلطة بيان الشرع و التطبيق و حفظ الشريعة. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة بانضمام ما ورد في تفسيرها من السنّة الشريفة.

ص: 313

و ذكر العلماء و المفسّرون في تفسيرها وجوها اخرى:

الأول: أنّ ظاهر الآية المباركة يدلّ على أنّ الحكم المجعول فيها إنّما هو لمصلحة الامة، تحفظ به الاجتماع الإسلامي من الخلاف و التشتت و الانهيار، فيعطي لواحد افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، مثل أنواع الولايات المجعولة بين الأمم، و لا يتوهّم أحد لزوم عصمتهم في مثل ذلك، و ربّما يعصي الوالي المنصوب و ربّما يغلط، فإذا اتفق ذلك فلا بد من التنبيه فيما أخطأ و عدم الإطاعة في المخالفة للقانون في حكمه، بل يمكن أن يقال: إنّه ينفذ حكمه و إن كان مخطئا في الواقع و لا يعتنى بخطئه، فإنّ حفظ وحدة المجتمع و التحرّز من تشتت الكلمة من مصلحة تدارك أغلاطه و اشتباهاته، فطاعة اولي الأمر كطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى الاشتراك، إلا أنّ وجود العصمة في الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا دلّت عليه الحجج و البراهين، فاقتضت أن لا يصدر منه الخطأ و الغلط و النسيان في الحكم، دون اولي الأمر، فلا يجب فيهم العصمة و لا يستلزمها دلالة الآية الشريفة، فتكون طاعة اولي الأمر واجبة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و العصيان و الخطأ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن اخطأوا ردّوا الى الكتاب و السنّة إن علم منهم الخطأ، و إلا فينفذ حكمه، و لا بأس بالوقوع في المخالفة أحيانا لوجود مصلحة أقوى، و هي مصلحة حفظ وحدة المجتمع، نظير ذلك ما ذكره علماء اصول الفقه في حجّية الطرق الظاهريّة، فإنّها إن خالف مؤدّاها للواقع تتدارك تلك المفسدة بمصلحة السلوك و الطريق، يطرأ عليها تغيير و تبديل تبعا لاختلاف الطريق، كما يراه من يذهب الى التصويب في الرأي أو السببيّة في الطريق، و التفصيل يطلب من كتب اصول الفقه، فراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

و يردّ عليه: أنّ ذلك و إن كان صحيحا، بل هو واقع في الشرع المبين نظير الحجج الظاهرية و حجّية قول المجتهد على مقلّديه، و جعل أمراء الجيوش و السرايا و فرض طاعتهم، كما كان ينصبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جعل الحكّام و الولاة

ص: 314

للذين كان يولّيهم على البلاد، حيث يتمشّى منهم الخطأن و مع ذلك فرض متابعتهم،

و ورد: أنّه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فإنّه يمكن تقييد إطلاق الآية الشريفة بالنسبة الى الفسق، فإن كان ذلك صحيح و قد دلّت عليه أدلّة كثيرة إلا أنّ ذلك لا يوجب صرف ظهور الآية المباركة، الذي يدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر من دون تقييد و اشتراط، كما دلّت على افتراض طاعة الرسول، و لا شيء من الأدلّة ما يوجب تقييدها، بحيث يصير معنى الآية الكريمة:

(أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و أطيعوا اولي الأمر فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطأهم، و إلا فلا طاعة لهم عليكم في الصورة الاولى و يجب عليكم تقويمهم و إعلامهم بالخطإ في الصورة الثانية)، فإنّ ذلك بعيد عن ظاهر الآية الشريفة التي هي في مقام البيان، فتكون طاعتهم كطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى التشريك و ذكر طاعة واحدة لهما، فلو كان كذلك لوجب بيانه كما بيّن في موارد اخرى أقلّ خطرا و أهمية من المقام، كما في طاعة الوالدين على ما تقدّم.

الثاني: أن يكون المراد من اولي الأمر هم أهل الحلّ و العقد، و هم الهيئة الحاصلة من وجوه الامة الذين يديرون أمرها، كالأمراء و الحكّام و رؤساء الجنود و غيرهم و الزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات و المصالح العامّة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر و حكم يرجع الى صالح الامة وجب عليهم الطاعة لهم بشرط أن يكونوا أمناء، و أن لا يخالفوا أمر اللّه و لا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر و اتفاقهم عليه، بل يمكن أن يقال: إنّ هذه الهيئة معصومون في هذا الإجماع؛ و لذلك اطلق الأمر بطاعتهم لا شرط.

و يردّ عليه: أنّ دلالة الآية الشريفة على عصمة اولي الأمر صحيح، و قد اعترف به جمع كثير من العلماء و المفسّرين من الجمهور، بل كلّ من فسّر الآية المباركة بهذا المعنى لا بد له من القول بالعصمة، و تقدّم ما يرتبط بذلك، و سيأتي مزيد بيان في مورده إن شاء اللّه تعالى.

ص: 315

و كيف كان، فإنّه يمكن المناقشة في هذا المعنى.

أما أولا: فإنّ عصمة اولي الأمر بهذا المعنى تتصوّر على وجوه:

الأول: أن يكون المتصف بالعصمة جميع أفراد أهل الحلّ و العقد و آحادهم، أي: أنّ الحكم مترتّب على كلّ فرد فرد، نظير العامّ الإفرادي المعروف في علم اصول الفقه، فيكون المجموع معصومين؛ لأنّه ليس المجموع إلا الآحاد و الأفراد.

و فيه: أنّ هذا مجرّد فرض لا مصداق له في الخارج، فإنّه لم يتحقّق مورد في هذه الامة أن اجتمع فيه أهل الحلّ و العقد و كان جميع الأفراد فيه معصومون، و هذا ممّا لا ريب فيه، و إذا كان كذلك فمن المحال أن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له في الخارج.

الثاني: أن يكون المتّصف للمجموع ما هو مجموع، أي: أنّ العصمة صفة حقيقيّة قائمة بالهيئة، نظير العامّ المجموعي في علم الأصول، فلا تكون الآحاد و الأفراد معصومين، فيجوز عليهم المعصية و إذا صدر حكم منهم مع هذه الحالة فيمكن أن يكون داعيا الى الضلال و المعصية، بخلاف ما إذا رأته الهيئة، فإنّ عصمتها تمنع من ذلك.

و فيه: أنّ الهيئة و المجموع أمر اعتباري لا يمكن أن يكون موضوعا لصفة حقيقيّة، فإنّ الهيئة الاجتماعيّة لأهل الحلّ و العقد لا وجود لها في الخارج إلا الأفراد و الآحاد.

الثالث: أن تكون العصمة منحة إلهيّة لهذه الامة تصون هذه الهيئة أن تأمر بالمعصية، أو أن تقع في الخطأ، فليست العصمة وصفا لأفراد هذه الهيئة و لا لنفس الهيئة كما عرفت في الوجهين المتقدمين، بل اللّه تعالى يصونها عناية منه عزّ و جلّ على الامة، و يدلّ على هذا

الحديث المعروف عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تجتمع امّتي على خطأ»، نظير ذلك الخير المتواتر المصون عن الكذب، فإنّ العصمة فيه ليست

ص: 316

وصفا لكلّ واحد من المخبرين، و لا للهيئة الاجتماعيّة بل أنّ العادة جرت على امتناع الكذب فيه.

و يرد عليه: أنّ كون العصمة التي هي عناية إلهيّة لهذه الهيئة أمر مشكوك فيه، فإنّ لكل امة من الأمم - صغيرة كانت أو كبيرة - أهلا للحلّ و العقد يديرون شؤونها من دون اختلاف بين الأمم في هذه الهيئة، و لا دليل على اختصاص هذه الامة بمزية العصمة، بل الروايات على خلاف ذلك،

فقد ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله المروي بطرق متعدّدة عند الفريقين: «إنّ اليهود افترقت على إحدى و سبعين فرقة، و النصارى على اثنين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة، كلّهم هالكون إلا واحدة»، فما بال هذا الاختلاف و الهلاك مع العصمة ؟! يضاف إلى ذلك أنّ امتياز هذه الامة بالعصمة لا بد أن يكون بمعجزة خارقة و ليست بالعوامل العادية، و إلا فلا فرق بين هذه و غيرها في إجراء أهل الحلّ و العقد أمورها كما عرفت، فلو كان كذلك فلا بد أن تحفظ هذه المزيّة بجميع حدودها و خصوصياتها، و يرشد الرسول صلّى اللّه عليه و آله أمته إليها، فإنّها كرامة باهرة لهذه الامة، بها منّ عليهم كما منّ عليهم بالقرآن الكريم و رسوله الأمين، و يجب أن يهتمّ بها المسلمون كما اهتّموا بكثير من الأمور التي ليست على هذه الأهميّة و سألوا الرسول عنها و أنزلت فيها الآيات القرآنيّة، و لكان اللازم أن يحتجّ بها المسلمون في خلافاتهم و في الفتن الواقعة التي استجدت بعد ارتحال الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

و أما الحديث الذي استدلّ به على هذا الوجه، فهو على فرض صحّة سنده يدلّ على أن الخطأ لا يستوعب جميع الامة، بل يكون فيهم دائما من يكون على الحقّ و الصواب، و لو كان واحدا. يضاف الى ذلك أنّه يدلّ على أنّ الامة لا تجتمع على الخط، لا على أنّ أهل الحلّ و العقد لا يجتمعون على الخطأ، فهذا القول لا

ص: 317

دليل عليه، و قد ردّه جمع من المفسّرين، منهم الرازي فقال: «بأن هذا القول خرق للإجماع المركّب، فإنّ الأقوال في أهل الحلّ و العقد أربعة، و هي الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا، و العلماء، و الأئمة المعصومون، و ليس فيهم هذا القول، مضافا إلى أنّه لم يقم دليل على عصمتهم»، إلا أنّه ارجع هذا القول الى القول الثالث، و لكنّه باطل أيضا، فهذا الوجه باطل أيضا، و القول بأنّ عصمة أهل الحلّ و العقد أمر خارق للعادة لا دليل عليه.

الا أن يقال: إنّ العصمة فيهم ترجع الى تعاليم الإسلام و تربيته، فإنّه استند ذلك على قواعد متينة و اصول دقيقة، فهي أمر طبيعي مترتّب على تلك التعاليم الإلهيّة، فأهل الحلّ و العقد إنّما عملوا بتعاليم الإسلام، و تهذّبوا بأخلاقهم، فهم لا يغلطون في ما اجتمعوا عليه، و لا يتعرّضون الى خطأ في رأيهم.

و لكن هذا القول أيضا باطل بالوجدان، فكم من أهل الحلّ و العقد على زعمهم صدر منه المعصية و أوقع نفسه و أمته في الضلال، فلو كان الأمر كما ذكره لظهر أثره على من يراهم من أهل الحلّ و العقد و لم يتغلّب الفساد و الباطل.

فلا مناص من القول بأنّ أهل الحلّ و العقد كسائر أفراد الناس يجوز عليهم الخطأ و الغلط، مهما بلغت بهم الخبرة و التدريب و التجربة.

اللهم إلا أن تقول بأنّ هذا الخطأ و الغلط لا بأس به إذا كان المناط هو تقديم مصلحة الامة و سعادتها و رقي أفرادها، نظير القوانين الوضعية التي تتصدّى بها جمعية منتخبة تحكم على المجتمع، فتصدر قوانين حسب ما تراه من مقتضيات الأحوال و متطلبات الوضع، و في الإسلام أيضا كذلك، فإنّ أهل الحلّ و العقد قد يفسّرون حكما من أحكام الدين بغير ما كانوا يفسّرون سابقا بما يوافق مصلحة الامة، و قد صرّح بعض الكتاب المحدّثين: «أنّ الخليفة يعمل بما يخالف صريح الدين؛ حفظا لصلاح الامة».

و هذا الرأي أيضا باطل، فإنّه يبتني على أصل التطور، و أنّ الدين ليس إلا

ص: 318

سنّة اجتماعيّة يتطرّق إليها التطور كما يتطرّق في كلّ سنن الحياة، و هما أصلان باطلان، و كيف يمكن أن يجعل ذلك أصلا يبتني عليه الدين بجميع معارفه و أحكامه و أصوله و فروعه، و أن يكون ما يصدر من الخلفاء من بعد عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى العصر الحاضر مثل ما يصدر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهذا أمر لا تتقبّله الفطرة المستقيمة.

الثالث: أنّ المراد باولي الأمر هم الخلفاء الراشدون، أو أمراء السرايا، أو العلماء الذين يقتدى بأفعالهم و أقوالهم و آرائهم.

و يرد عليه أولا: أنّه لا دليل على ذلك.

و ثانيا: أنّ الآية الشريفة تدلّ على عصمة اولي الأمر - كما عرفت - و لا عصمة في هؤلاء المذكورين باعتراف الجميع.

الرابع: أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على شيء ممّا ذكره المفسّرون و العلماء على اختلاف أقوالهم؛ لأنّ فرض طاعة اولي الأمر - كائنين من كانوا - لا يدلّ على أنّ لهم ميزة فضلا ليس لغيرهم أصلا، بل أنّ طاعتهم في هذا الأمر مثل طاعة الجبابرة و الظلمة عند الاضطرار اتقاء شرّهم، فإنّه لن يكونوا أفضل ممّن يطيعهم عند اللّه تعالى. مع أنّ الحكم في هذه الآية المباركة كسائر الأحكام الشرعيّة تتوقّف فعليتها على تحقّق موضوعاتها، فإذا تحقّقت وجب تنفيذها، و إلا فلا يكون أحد مكلّفا بإيجاد الموضوع حتّى يتحقّق الحكم و يصل الى المرتبة الفعلية، و هذا واضح، فلا يجب علينا إيجاد اولي الأمر حتّى يجب علينا طاعتهم، و لكن إذا وجد وجبت طاعتهم.

و يرد عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون المراد باولي الأمر هم السلاطين و الأمراء و غيرهم، و قد عرفت فساده، يضاف الى ذلك أنّ اللّه تعالى لم يأمر بطاعة الظالمين فضلا عن أن يقرن طاعتهم بطاعته و طاعة رسوله، بل قد ورد النهي الأكيد عن ذلك في عدّة موارد من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ [سورة هود، الآية: 113]، و في مورد التقية يتبّدل الموضوع، فيتبدّل الحكم قهرا، كما هو مذكور في الفقه و الأصول، و إذا ثبت أنّ الآية الشريفة تدلّ على فرض طاعتهم في مورد، فلا بد أن يكون له مصداق خارجي؛ إذ لا معنى لأن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له خارجا، فإذا كان كذلك لا بد و أن يكونوا معصومين كما عرفت.

ص: 319

و يرد عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون المراد باولي الأمر هم السلاطين و الأمراء و غيرهم، و قد عرفت فساده، يضاف الى ذلك أنّ اللّه تعالى لم يأمر بطاعة الظالمين فضلا عن أن يقرن طاعتهم بطاعته و طاعة رسوله، بل قد ورد النهي الأكيد عن ذلك في عدّة موارد من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ [سورة هود، الآية: 113]، و في مورد التقية يتبّدل الموضوع، فيتبدّل الحكم قهرا، كما هو مذكور في الفقه و الأصول، و إذا ثبت أنّ الآية الشريفة تدلّ على فرض طاعتهم في مورد، فلا بد أن يكون له مصداق خارجي؛ إذ لا معنى لأن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له خارجا، فإذا كان كذلك لا بد و أن يكونوا معصومين كما عرفت.

الخامس: أن يكون المراد من الآية المباركة هم أفراد من هذه الامة عصمهم اللّه تعالى من الزلل و الخطأ، و افترض علينا طاعتهم فصاروا حجّة على سائر أفراد الامة في أقوالهم و أفعالهم، و لكن لما لم يسع لكلّ أحد معرفتهم فيحتاج الى تنصيص من اللّه تعالى، إما في كتابه، أو على لسان نبيّه الكريم، و لا مصداق لهؤلاء إلا أئمة أهل البيت عليهم السّلام، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة العقليّة و النقليّة المذكورة في الكتب الكلاميّة، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

و أورد على هذا الوجه بأمور نذكر المهمّ منها:

الأول: أنّ طاعة من فرض طاعتهم في هذه الآية الشريفة مشروطة بمعرفتهم، كما في كلّ تكليف إلهي، فإنّه مشروط بالمعرفة و إلا كان تكليفا بما لا يطاق، و إطلاق الآية المباركة يدفع الشرط فيلزم التناقض.

و فيه: أنّه لا يفرق بناء على اشتراط المعرفة في الطاعة بين أن يكون من فرض طاعتهم هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام، أو أهل الحلّ و العقد أو غيرهم. إلا أن يقال: إنّ الأخير يعرف من عند أنفسنا من غير حاجة الى بيان من اللّه تعالى و رسوله، و لكن ذلك لا يوجب فرقا بعد أن كان الإمام المعصوم عليه السّلام يحتاج إلى من يعرفه، فالشرط على كلّ حال مناف لإطلاق الآية الكريمة.

يضاف الى ذلك أنّه ثبت في اصول الفقه أنّ المعرفة و العلم بالتكليف و إن كان شرطا فيه، إلا أنّه يختلف عن سائر الشروط الراجعة الى التكليف أو

ص: 320

المكلّف به، فإنّ الأول يرجع إلى بلوغ التكليف و تنجّزه و يجب عقلا على المكلّفين تعلّم التكاليف و معرفتها، و لا يكون الجهل عذرا كما هو واضح، و إلا كان كلّ تكليف إلهي تكليفا بما لا يطاق و لا معنى له.

الثاني: أنّه يحتاج إلى تعريف من اللّه تعالى و رسوله و يكون صريحا فيه، و لو كان كذلك لم يختلف فيه أحد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه: أنّ التعريف الصريح موجود و النصّ وارد في الكتاب و السنّة، يعرّفنا بهم تعريفا تامّا، فمن الكتاب آية الولاية، و آية التطهير، و آية المباهلة و نحو ذلك، و من السنّة أحاديث يمكن دعوى تواترها، كحديث الثقلين،

و حديث: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا»، و غير ذلك من الأحاديث التي نقلها أرباب الحديث من الفريقين في كتبهم، و سيأتي في البحث الروائي نقل الأحاديث في اولي الأمر إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: إننا و إن عرفنا الإمام المعصوم، و لكن عاجزون عن الوصول إليه لنستقي من نمير علمه و نتعلّم منه الأحكام و المعارف الربوبيّة، فلا سبيل إليه و لا خير في تكليف لا طريق إلى أخذه.

و فيه: أنّ اللّه تعالى عرّف الإمام المعصوم على لسان نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و لكن الامة هي التي امتنعت من الاستفادة منه بسوء اختيارها، فالإشكال متوجّه إليهم، لا إلى اللّه تعالى و رسوله، نظير ذلك ما لو قتلت امة نبيّها، فاعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته و الاستفادة منه.

ثم إنّ الإشكال يتوجّه أيضا على من يقول إنّ المراد باولي الأمر أهل الحلّ و العقد لو تجتمع امة الإسلام على وحدة تنفذ فيهم رأيها.

الرابع: أنّ فائدة اتباع الإمام المعصوم انقاذ الامة من الخلاف و التنازع

ص: 321

و تشتت الكلمة و التفرّق؛ و لذا أمر اللّه تعالى في هذه الآية المباركة بالرجوع الى اللّه تعالى و الرسول عند ظهور التنازع، فإذا اختلف اولوا الأمر في بعض المستجدات التي تعرض على الامة مع وجود الإمام المعصوم، فهو غير جائز عند القائلين به؛ لأنّه عندهم بمنزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّه لا وجود لذلك، فلا فائدة فيه.

و فيه: أنّ التنازع في الآية تنازع المؤمنين دون اولي الأمر، كما هو ظاهر الآية الشريفة، فإنّه لا نزاع في الأحكام الصادرة من الإمام المعصوم، كالحكم الصادر من اللّه و الرسول، فإنّه لا خيرة لهم في ما إذا قضى اللّه و رسوله أمرا، فإذا فهموا الحكم من الكتاب و السنّة و أمكنهم تطبيق ذلك، فهو و إلا فلا بد من الرجوع إلى الإمام عليه السّلام و السؤال عنه، نظير ما كان المسلمون عليه في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فكان عصر الإمام امتدادا لعصر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فإذا حصل تنازع بين المؤمنين فلا بد من الرجوع إلى الرسول في عصره و إلى الإمام بعده.

الخامس: أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على عدم إرادة الإمام المعصوم، فإنّه عزّ و جلّ قال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ » ، فلو كان المراد باولي الأمر الإمام المعصوم لوجب الردّ عليه أيضا، فيقول: «فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه و الرسول و الإمام»، و المفروض ليس كذلك، فليس المراد بولي الأمر الإمام المعصوم.

و فيه: أنّه تقدّم الجواب عن هذا، و حاصل ما ذكرنا أنّ الملاك هو العصمة و أنّها موجودة في اولي الأمر بوحي من السماء، و لقد عرفوا من قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي مزيد بيان في تفسير ذيل الآية المباركة إن شاء اللّه تعالى.

و الذي يتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنّ المراد من اولي الأمر هم أفراد معينّون من هذه الامة، امتازوا عن سائر الناس بالعصمة و العلم و المعرفة، و قد كرّمهم اللّه تعالى بأنّ فرض طاعتهم على الناس و جعلهم قرناء الرسول صلّى اللّه عليه و آله في

ص: 322

الطاعة و العصمة، و إن اختلفوا عنه من جهات اخرى، و سيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ .

بيان لأهمّ مظاهر الطاعة المفترضة، فإنّ في التنازع و الخصام يمتحن كثير من العباد، فيتبيّن صدق إيمانهم و حسن سريرتهم و انقيادهم لأحكام اللّه تعالى و أوامره.

و الآية المباركة تفريع على الحصر المستفاد ممّا ورد في صدر الآية حيث أوجب طاعة اللّه و رسوله و بيان لها بأنّ هذه الطاعة لا بد أن تكون في كلّ شيء يمسّ صلاح المؤمنين و سعادتهم في الدارين، و هي الموارد الدينيّة التي تكون موارد لتطبيق الطاعة المفترضة، و أنّها هي التي تتكفّل رفع كلّ تنازع و اختلاف يفترض.

فلفظ الشيء و إن كان عامّا يشمل الأحكام الشرعيّة و غيرها، و لكن قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ يدلّ على أنّه مختصّ بتلك الأشياء التي ليس لأولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيها، لما يراه من المصالح كالجهاد و الصلح و نحو ذلك، و إلا لا معنى لإيجاب الردّ إلى اللّه و الرسول مع فرض طاعة اولي الأمر في هذه الموارد.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على أنّ تشريع الأحكام ممّا يختصّ به اللّه تعالى و من أفاض عليه عزّ و جلّ و هو الرسول الكريم. و أما اولوا الأمر، فإنّ عليهم شرح الأحكام و تفسيرها و تطبيقها و رفع التنازع بين أفراد الامة بارجاعهم إلى طاعة اللّه و الرسول، فليس لأحد - سواء أ كان من اولي الأمر أم من دونهم - التصرّف في حكم ديني شرّعه اللّه و رسوله، فهما وحدهما المرجع الديني الذي يرجع إليه في كلّ الأمور، و يستفاد من ذلك أنّ ولي الأمر لا بد أن يكون عالما بجميع الخصوصيات، و ذا معرفة تامّة بالأحكام الشرعيّة ليردّ المتنازعين إلى طاعة اللّه و الرسول.

ص: 323

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ تثبيت لما ورد من الأوامر في الآية الشريفة و تشديد في الحكم، و بيان الى أن حقيقة الإيمان لا تتحقّق إلا بذلك، و مثل هذا التعبير قد ورد كثيرا في القرآن الكريم، و يراد به بيان حقيقة الإيمان، و أنّ مخالفة هذا الأمر يوجب الخروج عن دائرة الإيمان، فلا يعود المؤمنون حينئذ مؤمنين حقيقيين، ففي الآية الشريفة تهديد خفي و توعيد للمؤمنين إن هم خالفوا ما ورد فيها من الأوامر و الأحكام، لا سيما الحكم الأخير، و هو الردّ إلى اللّه تعالى و الرسول عند التنازع، أنّهم يخرجون عن حقيقة الإيمان و سيجزون جزاء أعمالهم في اليوم الآخر.

قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً بيان لبعض الفوائد المترتّبة على هذه الأحكام، و اسم الإشارة يرجع الى ما ورد في الآية الشريفة من الأوامر، أي: أنّ طاعة اللّه و طاعة الرسول و اولي الأمر و ردّ المتنازع فيه إلى اللّه و الرسول خير لكم و أنفع، و فيها صلاح أمركم و سعادتكم، و أحسن ما يوجب تحقيق مصالحكم و أغراضكم في الدارين، دون ما تتوهّمون.

و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 7]، المراد من التأويل و ذكرنا أنّه هي المصالح الواقعيّة التي ينشأ منها الحكم، فيترتّب عليها العمل، و هي التي يسعى الإنسان في جهده للوصول إليها، و يرى أنّ بها تتمّ أغراضه و سعادته، و في قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [سورة النساء، الآية: 69]، بيان بعض مصاديق حسن التأويل.

ص: 324

بحوث المقام

بحث أدبي:

قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، الواو حرف عطف، و الظرف «بين الناس» متعلّق بحكمتم و أَنْ تَحْكُمُوا معطوف على أَنْ تُؤَدُّوا ، و الجار متعلّق به، و لا يضرّ الفصل بين العطف و المعطوف بإذا و الظرف و هما منصوبان بأن تحكموا، و ذهب جمع من النحويين إلى عدم جواز الفصل بينهما بالظرف و جعل الظرف منصوبا بفعل مقدّر، و يكون «أن تحكموا» مفسّرا لتلك المقدرة.

و جملة: نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ خبر (إنّ ) و اسمها اسم الجلالة، و «ما» إما أن يكون بمعنى الشيء، و «يعظكم» صفة لموصوف محذوف، و هو المخصوص بالمدح، أي: نعم الشيء شيئا يعضكم به. و يجوز نعم هو الشيء شيئا يعظكم به. و إما أن يكون بمعنى (الذي) و ما بعدها صلتها، و هو فاعل «نعم»، و المخصوص محذوف، أي: نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة و الحكم بالعدل.

و أشكل عليه بأنّ فاعل «نعم» إذا كان ظاهرا يجب أن يكون معرّفا بلام الجنس أو مضافا إلى المحلّى به.

و أجيب عنه بأنّ بعض العلماء جوّز قيام (ما) إذا كانت معرفة تامّة مقامة، بل بعضهم جوّز قيام الموصولة؛ لأنّها في معنى المعرّف باللام.

و أشكل أيضا بأنّ (ما) لا تقع تمييزا؛ لأنّها مساوية للمضمر في الإبهام، فلا تميّزه؛ لأنّ التمييز لبيان جنس المميز.

و أجيب عنه بمنع المساواة؛ لأنّ المراد بها شيء عظيم.

و التفصيل في قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً لبيان الكمال

ص: 325

و بطلان ما سواه، إذ لا حسن و لا خير في الرجوع إلى غير طاعة اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، على أهمية الحكم و عظمة الموضوع، حيث قدّم عزّ و جلّ الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل، و أظهر اسم الجلالة و نسب الأمر إلى نفسه الدال على شدّة الاهتمام به، و تعلّق الأمر بالجميع، لبيان أنّ الحكم إنّما يظهر أثره إذا كان الجميع يشعرون بالمسؤولية و اتفقوا على تنفيذ الحكم و أداء الأمانات إلى أهلها، و قد ورد التأكيد على هذا الحكم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و في السنّة الشريفة الشيء الكثير،

ففي الحديث عن مولانا الباقر عليه السّلام: «انظر إلى ما بلغ علي عليه السّلام عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ما بلغ إلا بصدق الحديث و أداء الأمانة»، و إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الأمانات، لكن القرائن تدلّ على أنّ المراد أمانة خاصّة، و هي ما تكون من سنخ النبوّة و الإمامة و الأحكام الإلهيّة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلى أَهْلِها على أنّ ردّ الأمانة لا بد أن يكون إلى من له أهليّة الأمانة، و هذه نكتة لطيفة، فيدلّ على الانحصار في الأمانة الكبرى، و هي الأحكام الإلهيّة و الإيمان باللّه و الرسول و طاعة اولي الأمر، فتكون الآية التالية مفسّره لهذه الأمانة.

الثالث: يبيّن قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ أنّ المراد من الأمانة ما هو من سنخ الحكم و العلم.

الرابع: يمكن أن يكون تعقيب الآيات الشريفة السابقة التي وردت في أحوال اليهود من حكمهم للمشركين، بأنّهم أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ،

ص: 326

و قد وصفهم عزّ و جلّ بكتمان الحقّ و عدم تبيين آيات اللّه تعالى و معارفه، و في هذه الآيات إشارة إلى أنّ تلك الأمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبيّن للناس، فلا بد أن لا تكتم عن أهله، و لكن اليهود خانوا الأمانة فكتموا الحقّ عن أهله، و قد حكى عزّ و جلّ جملة كثيرة من خياناتهم، منها: حكمهم للمشركين بأنّهم أهدى سبيلا من المؤمنين.

و منها: بخلهم بالحقّ و عدم بيانه.

و منها: تحريفهم لكلام اللّه تعالى، و لأجل ذلك استحقّوا اللعنة و عذاب السعير.

الخامس: إنّما قدّم عزّ و جلّ الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل في الحكم؛ لأنّ الأخير إنّما يكون عند التنازع و المشاجرة و الخصام و الخيانة بالأمانة، و تنفيذ الأمر الأول يرفع موضوع الثاني، فإذا راعى الناس أماناتهم و أدّوها إلى أهلها لا يبقى مجال للاحتياج إلى الحكم بالعدل؛ و لأنّ قوام النوع الإنساني إنّما يكون بأداء الأمانة، و بدونه يختلّ النظام، فهو أساس كلّ حكومة و مصدر كلّ نظام، و عزّ كلّ سلطان، و هو روح العدالة، و بحفظ الأمانة تصل الامة إلى كمالها و سعادتها.

السادس: يدلّ قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ ، على أنّ كلّ طاعة سوى هاتين الطاعتين باطلة، لا سيما إذا لا حظنا ورود هذه الآية بعد تقريع اليهود و المشركين و ذمّهم بالإيمان بالجبت و الطاغوت.

و المستفاد من الآية الشريفة أنّ هناك طاعتين مفروضتين، هما طاعة اللّه تعالى المتمثّلة في العمل بكتاب اللّه تعالى و ما أنزله على نبيّه الكريم في الأحكام و المعارف، و طاعة اخرى هي طاعة الرسول و اولي الأمر، و هذه الإطاعة مطلقة غير مشروطة بشيء، فالمستفاد منه أنّ كلّ ما ينطق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و يحكم به هو من اللّه تعالى و يجب طاعتهما، و لا يتمّ ذلك إلا بعصمته، و إلا كان فرض طاعته تناقضا.

ص: 327

السابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ أنّ اولي الأمر أفراد من هذه الامة لهم فرض الطاعة نظير ما للرسول، و لا بد أن يكونوا معصومين، و إلا كان فرض طاعتهم تناقضا، و لكن لما لم تكن عصمتهم معلومة لكلّ أحد؛ و لذا توهموا عدمها فيهم، إلا أن الإطلاق استلزم كون المتعيّن أنّ عصمتهم إنّما يعرف من اللّه تعالى أو بتعليم من الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و يختلف طاعتهم عن الرسول بعد كون طاعتهم طاعة اللّه تعالى. و إنّ اولي الأمر ليس لهم نصيب من الوحي، و إنّما شأنهم هو بيان الكتاب و السنّة و شرحهما و تطبيق الأحكام و كشفها، لمكان صواب رأيهم في ذلك، فلهم افتراض الطاعة، و الجميع راجع إلى الكتاب و السنّة.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على أنّ لكلّ واقعة حكما محفوظا عند اللّه تعالى و عند الرسول، باعتبار أنّ لهما وحدهما حقّ التشريع و سلطة جعل الحكم فقط، و هذا هو رأي الإماميّة، فإذا كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله موجودا فهو المرجع في ردّ المتنازع فيه إليه و أخذ الحكم منه، و بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله لا بد أن يكون بيان الأحكام ممّن له أهليّة أداء الأمانة إليه ممّن اتصف بالعلم و الحكمة، و من يكون حجّة في رأيه و لهم الذوق الثاقب في استنباط الحكم من الكتاب الكريم و السنّة الشريفة، حتّى يكون شاغلا للفراغ الذي حصل من فقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هؤلاء ينحصرون في الأئمة الهداة عليهم السّلام الذين هم عدل القرآن و أحد الثقلين، فلا محالة تكون السنّة الشريفة تشمل أقوالهم التي لا مدرك لها إلا الكتاب و السنّة المحفوظة عندهم بوجوه متعدّدة، و حينئذ فإن أمكن الرجوع إليهم فهو المتعين، و إلا فالطريق منحصر بالاجتهاد في الأدلّة الواصلة إلينا منهم، و استنباط الأحكام منها بالطرق المعتبرة، و لا تدلّ الآية المباركة بشيء من الدلالات على اعتبار القياس و الاجتماع و العقل، كما يدّعيه جمع من المفسّرين.

ص: 328

التاسع: يشمل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ على الوعد و الوعيد، فهو يدلّ على أنّ العمل بمضمون الآية له الأثر في تنظيم نظامي الدنيا و الآخرة. كما يدلّ على أنّ التخلّف عنه يوجب سلب حقيقة الإيمان.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً على أنّ ما ورد في الآية الشريفة ممّا يوجب سعادة الإنسان، و أنّه أحسن نظام تعيش الامة تحت ظلاله في أحسن أحوال، و يصل كلّ فرد إلى ما يبتغيه في سعيه من الراحة و الكمال. و بذلك تبطل جميع النظريات الوضعيّة التي وضعها الإنسان في تنظيم النظام، فإنّها و إن نجحت في بعض الجهات، لكنّها فشلت في كثير منها.

و الآية المباركة تبيّن أنّ النظام الإسلامي - المبتني على الإيمان باللّه تعالى و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ردّ الأمانات إلى أهلها و الحكم بالعدل و الإطاعة للّه و الرسول و إطاعة اولي الأمر في تنظيم النظام و تطبيق الأحكام - هو السبب في الوصول إلى أوج الكمال و السعادة، و أنّ بقية النظم لا تكفل ذلك إلا إذا أخذت منه.

بحث روائي:

الروايات التي تدلّ على أنّ المراد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها هم الأئمة الطاهرون عليهم السّلام متواترة، و في بعضها أن يؤدّي الإمام عليه السّلام الأمانة إلى الإمام الذي بعده و لا يزولها عنه. و جميعها من باب التطبيق لأجلى المصاديق و أكملها، و إلا فالآية المباركة عامة تشمل كلّ أمانة،

ففي الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ؟ فقال: هم الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، أن يؤدّي الأمانة إلى من بعده، و لا يخصّ بها غيره و لا يزويها عنه».

أقول: و قريب منه ما عن الصادقين عليهما السّلام بأسانيد متعدّدة، و يستفاد من هذه الرواية و أمثالها امور:

ص: 329

الأول: أنّ الأمر الوارد في الآية الكريمة إرشاد إلى ما يحكم به العقل؛ لأنّ معرفة الإمام عليه السّلام و إبلاغ الإمام - الذي ثبت إمامته بالنصّ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله - للناس بالإمام الذي بعده، ممّا تحكم به الفطرة السليمة، لما فيه من المصالح العامّة، كحفظ الناس من الضلال و إخراجهم عن الغواية، و في عدمه مفاسد كثيرة.

الثاني: أنّ الإمامة لا تكون اعتباطيّة و ممّا تميل النفس في جعلها لأحد، بل لا بد فيها من الأهليّة التي هي العصمة كما تقدّم، فإنّها منحة إلهيّة تخصّ أفرادا معيّنين من آل محمد، امتحنهم اللّه تعالى لذلك فجعلها لهم، كما ذكرهم النبيّ على ما سبق.

الثالث: يستفاد منها أنّ الأمانات التي هي عند الإمام المعصوم لا بد و أن تصل إلى إمام مثله في الصفات، و أنّ لها الأهميّة العظمى، فكلّ إمام معصوم عنده أمانات إلهيّة يعطيها عند ارتحاله إلى الملأ الأعلى لمن له الأهليّة لحفظها، من الأشخاص الذين عيّنهم النبي صلّى اللّه عليه و آله بالوحي المنزل عليه، و ليس له أن يعطيها لأي أحد كما مرّ، بل لا بد من امتياز إلهي أفاضه اللّه عليه لما فيه من المصالح.

الرابع: يستفاد منها أنّ الأئمة عليهم السّلام - مضافا إلى أن لهم العبوديّة الخاصّة المحضة للّه - أمانات اللّه تعالى في أرضه، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن معلى بن خنيس عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له: «قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قال: على الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، و أمرت الأئمة بالعدل، و أمر الناس أن يتبعوهم».

أقول: في بعض الروايات فسّر الأمانة بالوصية يدفعها الرجل منا إلى الرجل، فيمكن أن تكون الوصية مطلقة تشمل كلّ وصية، كما يمكن أن تكون الوصية خاصّة كما يأتي في الرواية الآتية.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.

ص: 330

و في تفسير العياشي: عن يزيد بن معاوية قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السّلام و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، قال: إيانا عنى أن يؤدي الإمام منا إلى الإمام الذي بعده الكتب و العلم و السلاح وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الذي في أيديكم».

أقول: في مضمونها روايات اخرى كثيرة، و لعلّ المراد من الكتب مصحف فاطمة عليها السّلام، الذي فيه كثير من الأحكام بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتاب علي عليه السّلام، و غيرهما من الكتب الموروثة فيهم، و المراد من العلم ما أفاض اللّه تعالى عليهم من العلم بالغيب بما يجرى على هذه الامة، و المراد من السلاح إما السلاح المعنويّ الذي هو التقوى و الانقطاع إليه عزّ و جلّ بمراتبه التي تطمئن النفس، أو السلاح الخارجي، أي: سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما تدلّ عليه الرواية الآتية، و هو موجود عند ولي العصر عليه السّلام، كما في كثير من الروايات، و المراد من العدل الذي في الأيدي هو الكتاب و السنّة.

في تفسير العياشي: عن زرارة و عمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: «الإمام يعرف بثلاث خصال، انّه أولى الناس بالذي كان قبله، و انّه عنده سلاح النبي صلّى اللّه عليه و آله، و عنده الوصية، و هي التي قال اللّه في كتابه إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، و قال: إن السلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل يدور الملك حيث دار السلاح، كما كان يدور حيث دار التابوت».

أقول: ذكر هذه الخصال لتعيين الإمام المعصوم عن غيره و تعريفه للناس و لا يمكن الاتصاف بها لغيره، كما كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صفات خاصة يعرف بها، و المراد من سلاح النبي صلّى اللّه عليه و آله ما ورثه الأئمة عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو من المفاخر لقداسته، و فيه آثار وضعية كالتابوت في بني إسرائيل. و المراد من الوصية هي التي صدرت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يدفعها كلّ إمام إلى من بعده، و المراد من الملك الملك المعنوي.

ص: 331

و هناك روايات ذكرها الجمهور تدلّ على أنّ الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها نزلت في عثمان بن طلحة، الذي كان سادن الكعبة المشرّفة و بيده مفتاحها، و أخذه علي عليه السّلام منه قسرا و فتح الكعبة و دخل فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين، فلمّا خرج منها سأله العباس أن يعطيه المفتاح و أبى علي عليه السّلام حتّى أنزل اللّه تعالى هذه الآية فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعطى المفتاح إلى عثمان، ففعل ذلك علي، فأسلم عثمان بن طلحة إثر ذلك.

أقول: الرواية إن صحّت، فإنّها يمكن أن يكون من باب التطبيق بعد العلاج و التأويل.

و في كنز العمال للمتقيّ الهنديّ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشفعاء خمسة:

القرآن، و الرحم، و الأمانة و نبيّكم و أهل بيته».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: تحقّق الشفاعة في يوم القيامة - و أنّه لا سبيل لإنكارها - كما تدلّ عليها آيات كثيرة تقدّمت في بحث الشفاعة، و أنّ الشفيع لا بد أن يكون له شأن و منزلة عند اللّه تعالى حتّى يصحّ التقرّب به إليه جلّت عظمته، فإنّ لهذه الخمسة شأن معنوي و منزلة رفيعة عند اللّه تعالى.

الثاني: تلازم كلّ واحد من هذه الخمسة مع الآخر؛ لأنّ العمل بكلّ واحد منها يستلزم العمل بالآخر، و تقدّم أنّ الرحم أعمّ من الرحم التكوينيّ و غيره الذي فسّر بمحمد و آل محمد؛ و لذلك قرنه اللّه عزّ و جلّ معه في قوله تعالى:

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ [سورة النساء، الآية: 1].

الثالث: المراد من الأمانة معناها العامّ الشامل للأحكام الشرعيّة و الدستورات الإلهيّة التي جاء بها القرآن أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا خصوص المعصومين، بقرينة ذيل الرواية.

الرابع: أنّ الحصر في الخمسة إضافي لا حقيقيّ ،

ففي بعض الروايات:

ص: 332

«المؤمن يشفع لأخيه عند اللّه تعالى»، و كذا الملائكة، قال تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [سورة النجم، الآية: 26]، و غيرهما كما تقدّم في بحث الشفاعة، فراجع سورة البقرة الآية: 254.

و أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «إنّ القتل في سبيل اللّه يكفّر الذنوب كلّها إلا الأمانة، يجاء بالرجل يوم القيامة و إن كان قتل في سبيل اللّه فيقال له: أدّ أمانتك، فيقول: من أين و قد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق فتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه في قعر جهنم، فيحملها فيصعد بها حتّى إذا ظنّ أنّه خارج بها، فهزلت من عاتقه فهوت و هوى معها أبد الآبدين».

أقول: المراد من الأمانة الأعمّ - ممّا كانت في الودائع أو ما أخذت غصبا بالحيلة أو القوّة - أو ما خالف الأحكام الشرعيّة.

و عن ابن بابويه بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: «الأئمة من ولد علي و فاطمة (صلوات اللّه عليهما) الى أن تقوم الساعة».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ المراد من اولي الأمر الأئمة المعصومون متواترة، و قد ورد بعضها عن الجمهور، و تقدّم في التفسير أنّ ذلك منحصر بهم و لا يمكن التعدّي عنه، فالرواية من باب ذكر المصداق الحقيقي، و قد ورد في رواية جابر بن يزيد الجعفي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذكر أسمائهم الشريفة.

و في الكافي بإسناده عن أبي مسروق، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: إنّا نكلّم أهل الكلام فنحتجّ عليهم بقول اللّه عزّ و جلّ : أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتجّ عليهم بقول اللّه عزّ و جلّ : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى ، فيقولون: نزلت في قربى المسلمين، قال:

ص: 333

فلم ادع شيئا ممّا حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع ؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا و أظنّه قال:

و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال، فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، و ابدأ بنفسك و قل: اللهم ربّ السموات و ربّ الأرضين السبع، عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقّا و ادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم ردّ الدعوة عليه فقل:

و إن جحد حقّا و ادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم قال لي: فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فو اللّه ما وجدت خلقا يجيبني إليه».

أقول: يستفاد من الرواية أنّ تفسير اولي الأمر بالأئمة المعصومين عليهم السّلام إنّما هو من التفسير بالمصداق الواقعيّ الحقيقيّ المنحصر فيهم، و كذا في آية المودّة، و لذلك أنّ الإمام عليه السّلام دعاهم إلى المباهلة.. و إنّما لم يجب أحد منهم.

و في كتاب الغيبة للنعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، عن علي عليه السّلام قال: «كنت أنا ادخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ يوم دخلة و كلّ ليلة دخلة، يخليني فيها، و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، و كنت إذا سألت أجابني و إذا سكتّ ابتدأني، و دعا اللّه أن يحفظني و يفهمني فما نسيت شيئا أبدا منذ دعاني، و إنّي قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا نبي اللّه، إنّك منذ دعوت لي بما دعوت لم انس شيئا ممّا تعلّمني، فلم تمليه عليّ؟ و لم تأمرني بكتبه ؟ أ تتخوف عليّ النسيان ؟! فقال: يا أخي، لست أتخوف عليك النسيان و لا الجهل، و قد أخبرني اللّه عزّ و جلّ أنّه قد استجاب لي فيك و في شركائك الذين يكونون من بعد ذلك، فإنّما تكتبه لهم، قلت: يا رسول اللّه، و من شركائي ؟ فقال:

الذين قرنهم اللّه بنفسه و بي فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قلت: يا نبيّ اللّه، و من هم ؟ قال: الأوصياء إلى أن يردوا عليّ حوضي، كلّهم هاد مهتد لا يضرّهم خذلان من خذلهم، هم مع القرآن

ص: 334

و القرآن معهم لا يفارقونه و لا يفارقهم، بهم تنصر امتي و يمطرون و يرفع عنهم مستجابات دعواتهم، قلت: يا رسول اللّه، سمهم لي، فقال: ابني هذا، و وضع يده على رأس الحسن عليه السّلام، ثم ابني هذا، و وضع يده على رأس الحسين عليه السّلام، ثم ابن له اسمه اسمك يا علي، ثم ابن علي اسمه محمد بن علي، ثم أقبل على الحسين فقال:

سيولد محمد بن علي في حياتك، فأقرأه مني السّلام، ثم تكمله اثني عشر إماما، قلت: يا نبيّ اللّه، سمّهم لي: فسماّهم رجلا رجلا منهم، و اللّه يا أخا بني هلال، مهدي أمة محمد يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: منزلة عليّ عليه السّلام عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و محبّته صلّى اللّه عليه و آله له.

الثاني: استجابة دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقّ عليّ عليه السّلام بعدم النسيان في الأمور الخارجيّة التي لا تنافي العصمة.

الثالث: تعليم الرسول صلّى اللّه عليه و آله له ما أفاض اللّه عليه، و في الحديث: «علّمني رسول اللّه ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب».

الرابع: يستفاد منها أنّه تعرف الإمامة بالوصية التي كتبها عليّ بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّها موجودة عندهم، يعطيها كلّ إمام لمن بعده، كما تقدّم في الروايات السابقة.

الخامس: مقارنة طاعة الأئمة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما تقدّم في التفسير.

السادس: أنّ الأوصياء يمتازون عن سائر الخلق بصفات خاصّة، كانقطاعهم إلى اللّه عزّ و جلّ و هداية الناس إليه تعالى، و ملازمتهم مع القرآن، و أهليّتهم لإفاضة منه سبحانه و تعالى عليهم، و غيرها من الصفات الكثيرة.

السابع: يستفاد منها أنّه لا بد من تحقيق الغاية المنشودة و الهدف الذي من أجله بعثت الأنبياء و تحمّلوا المتاعب و المشاق، و هو العدل الحقيقيّ و التجلّي الأعظم على هذه البسيطة بظهور مهدي هذه الامة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف).

ص: 335

و في تفسير العياشي: عن عبد اللّه بن عجلان، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: «هي في عليّ و في الأئمة، جعلهم اللّه في مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئا و لا يحرّمونه».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير، و ذكرنا أنّ التشريع مختصّ باللّه و رسوله، و أنّ الأئمة عليهم السّلام مهمتهم تبليغ الأحكام و هداية الناس إلى الرشاد و الصلاح.

و عن مجاهد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا يعني: الذين صدقوا بالتوحيد، أَطِيعُوا اَللّهَ يعني: في فرائضه، وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ يعني: في سنّته، وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين خلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة، فقال: تخلّفني على النساء و الصبيان ؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال له: اخلفني في قومي و أصلح. فقال اللّه: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ولاه اللّه الأمر بعد محمد في حياته حين خلّفه رسول اللّه بالمدينة، فأمر اللّه العباد بطاعته و ترك خلافه».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و تقدّم في التفسير أنّ ولي الأمر منحصر في الأئمة عليهم السّلام.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه سأله عن قول اللّه تعالى: أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب قلت: إنّ الناس يقولون: فما منعه أن يسمّي عليّا و أهل بيته في كتابه ؟ فقال أبو جعفر: قولوا لهم إنّ اللّه أنزل على رسوله الصلاة و لم يسمّ ثلاثا و لا أربعا حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يفسّر ذلك، و أنزل الحجّ فلم ينزل: طوفوا سبعا، حتّى فسّر لهم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنزل: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فنزلت في عليّ و الحسن و الحسين، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي، إنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض، فأعطاني ذلك».

ص: 336

أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ تفسير النبي صلّى اللّه عليه و آله بما أوحاه إليه سبحانه و تعالى له أهمية خاصّة، و نحو تأكيد على المسلمين، و تقدّم أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن تكون الآية المباركة كذلك، و أنّ المصلحة العامّة تثبت ذلك.

و قد نقل الجمهور في تفاسيرهم روايات كثيرة و قصصا متنوّعة، و لكن جميعها من باب التطبيق من الرواة في ظروف خاصّة، و لذا رأينا أنّ الأجدر ترك التعرّض لها و المناقشة فيها، و من شاء فليرجع إلى الدرّ المنثور و غيره.

و في أسباب النزول في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ عن ابن عباس في رواية باذان: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب، و كان معه عمّار بن ياسر، فسار خالد حتّى إذا دنا من القوم عرس لكي يصبحهم، فأتاهم النذير فهربوا غير رجل قد كان أسلم فأمر أهله أن يتأهّبوا للمسير، ثم انطلق حتّى أتى عسكر خالد و دخل على عمّار، فقال: يا أبا اليقظان إنّي منكم، و إنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، و أقمت لإسلامي، أ فنافعي ذلك، أم اهرب كما هرب قومي ؟ فقال: أقم، فإنّ ذلك نافعك، و انصرف الرجل إلى أهله و أمرهم بالمقام و أصبح خالد فأغار على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه و أخذ ماله فأتاه عمّار فقال له: خلّ سبيل الرجل فإنّه مسلم و قد كنت أمنته و أمرته بالمقام، فقال خالد: أنت تجير عليّ و أنا الأمير؟! فقال: نعم، أنا أجير عليك و أنت الأمير، فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبروه خبر الرجل فأمّنه النبيّ و أجاز أمان عمّار، و نهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه، قال: و استب عمّار و خالد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأغلظ عمار لخالد، فغضب خالد و قال:

يا رسول اللّه، أ تدع هذا العبد يشتمني ؟! فو اللّه لو لا أنت ما شتمني، و كان عمّار مولى لهشام بن المغيرة - فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا خالد، كف عن عمار، فإنّه من يسبّ عمارا يسبّه اللّه، و من يبغض عمّارا يبغضه اللّه. فقام عمار فتبعه خالد فأخذ

ص: 337

بثوبه و سأله أن يرضى عنه فرضي عنه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و أمر بطاعة اولي الأمر».

أقول: على فرض صحّة الرواية، تقدّم في التفسير أنّ طاعة اولي الأمر في معصية الخالق لا يجوز عقلا و شرعا،

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله كما في الدرّ المنثور: «لا طاعة لبشر في معصية الخالق»، أو: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، و غيرهما من الروايات المتواترة بين المسلمين، فلا وقع لعتاب خالد أصلا؛ و لذا أمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله فعل عمار، و أما نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله لعمّار، فهو إرشادي في غير معصية الخالق لبعض المصالح، و تقدّم في التفسير أنّ المراد من اولي الأمر من له أهليّة الإطاعة بإفاضة من اللّه تعالى، أي: المعصوم عن الخطأ، فلا ينطبق على أمراء السرايا و غيرهم، و يستفاد من الرواية شأن عمار عند اللّه تعالى و عند رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أما نزول الآية الشريفة، فلا يدلّ على تعيين مصداق اولي الأمر في المورد إلا بعد تعيين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له، و يحتمل أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عيّن عمارا أميرا للسرية في الواقع و لم يظهره لأجل مصلحة يراها.

و كيف كان، فالرواية لا تدلّ على وجوب طاعة غير الأئمة المعصومين عليهم السّلام، أي غير اولي الأمر من آل محمد، كما عن جابر و مرّ في التفسير.

بحث عرفاني:

لا شكّ في أنّ تقرّب الإنسان إلى خالقه و مبدئه هو من أسمى الكمالات و أجلّها، بل هو نتيجة جهد الأنبياء و الأولياء، به تطمئن النفوس و تستقرّ و تحصل السعادة في عالم الشهادة و سائر العوالم، و به يذوق الإنسان لذّة الحضور في ساحة المعشوق، و إنّما خلقت الدنيا لأجل ذلك، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، و يدلّ على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة.

ص: 338

و لكن للتقرّب إليه جلّت عظمته درجات متفاوتة و عرض عريض، و أنواع كثيرة تختلف حسب المقامات و الاستعدادات بل الاعتقادات؛ لأنّ الذات غير متناهيّة و كذلك الصفات، فالتقرّب إليه يكون كذلك، فلا يمكن تحديده.

و إنّ التقرّب إليه سبحانه و تعالى لا يختصّ بالإنسان، فكلّ موجود ما سواه يسعى للتقرّب إليه جلّت عظمته، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة الاسراء، الآية: 44]، و قد أثبت الفلاسفة الإلهيّون أنّ قوام العالم - بكلّياته و جزئياته العلويّ منه أو السفلي - و سيره الاستكمالي يدور مدار العشق لمظهر الأحديّة، و هذا العشق قد يكون تكوينيّا، و قد يحصل بالاختيار من الإشراق منه في الإنسان؛ لأنّ النفس الناطقة في الإنسان ليست من المادّيات المحضة، بل لها نحو تجرّد قابل للارتباط بعالم الغيب باختياره؛ و لهذا الارتباط مراتب كثيرة شدّة و ضعفا، و لذا قد يحصل للإنسان بعض مراتب التقرّب إليه تعالى باختياره ثم تزول عنه كذلك، فيكشف ذلك عن أنّ التقرّب إليه جلّ شأنه لم يكن عن إيمان عميق، قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23].

و سبل التقرّب إليه تعالى و الارتباط بعالم الغيب لا بد و أن تفاض منه جلّت عظمته إلينا بالإلهام على العقول البريئة عن المستلذّات و الشهوات و تقرير الأنبياء و الأولياء، و إلا لم تحصل تلك الغاية المنشودة و الهدف الأسمى من خلق الإنسان، و يكون الإنسان في حيرة من التقرّب إليه دائما، و قد ثبت في محلّه أنّ بعث الأنبياء واجب عقلي له دخل في نظامي التكوين و التشريع، و ليس ذلك إلا لأجل بيان سبل التقرّب إليه تعالى، إما بالتقرير، أو الكشف.

و تلك السبل هي الأحكام الشرعيّة بأقسامها التابعة للمصالح العائدة إلينا و المفاسد التي تضرّنا، المجعولة ممّن وجب حقّه علينا؛ و لذا تكون الأحكام

ص: 339

أمانات منه تعالى عندنا، لا بد من مراعاتها و ردّها إلى أهلها و إنّما جعلت لأجل ارتباط الإنسان معه جلّ شأنه، و لا يحصل هذا الارتباط لو تخلّف أحد عن تلك الأحكام و لم يؤد حقّها، و يدور التقرّب مدار الانقياد الذي يحصل من العمل بها و حفظها عن الضياع و ردّها إلى أهلها من غير شكوك و لا عتاب، و الآية الشريفة: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ تؤكّد سبل التقرّب إليه جلّ شأنه و تبيّن للعبد مصاديقها، و ذيل الآية المباركة: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً يدلّ على أنّ غير ذلك من السبل الباطل له التي لا يحصل بها التقرّب إليه تعالى.

بحث كلامي:

استدلّ الإماميّة بقوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على الامامة الأئمة عليهم السّلام و خلافتهم بعد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: إنّ الآية المباركة تدلّ على امور مهمّة:

الأول: عصمة اولي الأمر، حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله المطلقة غير المشروطة بشيء و قد اعترف جمع غفير من الجماعة على هذا الأمر لظاهر الآية الشريفة، لكنّهم اختلفوا في تعيين مصداق اولي الأمر كما عرفت في التفسير، و ذكرنا أنّ المراد من اولي الأمر هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام.

الثاني: ان اولي الأمر أعلم الامة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ من فرض طاعته لا بد أن يكون عالما بجميع الأحكام و جهات التشريع.

الثالث: أنّ اولي الأمر هم أفراد من هذه الامة معلومون، إلا أنّ معرفتهم لا بد أن تكون بنصّ جليّ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبيّن أسماءهم و خصائصهم.

الرابع: أصالة منصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نيابة منصب الإمام عليه السّلام و ولي الأمر و خلافته عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 340

الخامس: أصالة منصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وصول الوحي إليه، بخلاف الإمام عليه السّلام، فإنّه يعرف الأمور بإلهام ربّاني أو بفهم ثاقب أو بغيرهما، كمصحف فاطمة عليهما السّلام، أو بكتاب علي عليه السّلام.

السادس: أنّ الحاجة التي تدعو إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله عين الحاجة التي تدعو إلى اولي الأمر، فإنّها تتضمّن مصالح مهمّة لا تستقيم حال الامة بدونها.

ص: 341

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) الآيات الشريفة تكملة للحديث عن ما نزل في شأن اليهود و المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام، فإنّه تعالى بعد ما ذكر في الآيات السابقة أنّ اليهود يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يحكمون للمشركين بأنّهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، ذكر عزّ و جلّ سوء أحوالهم في الحال و العقبى، و بعد ذلك بيّن تعالى الطريق المستقيم و المنهج، و وضع القاعدة الاولى النظام الحكم و رقي المجتمع و دفع المشاكل التي تصيبه، فأمر المؤمنين بأداء الأمانات إلى أهلها - و هي أمانة الإيمان، ليشمل أساس الاعتقاد و اصول العبادة و قواعد التعامل و سبل العلاقات كلّها بين الناس و الأفراد - و الحكم بالعدل ليطهّر المجتمع من العقاب، فالعدل إحدى الأمانات الكبرى التي يجب أن ينشر بين الناس جميعا بلا استثناء؛ ليعرفوا لذّة الحياة التي أنعم اللّه تعالى بها عليهم، و هو أساس الحكم في الإسلام، و أنّ الأمانة المطلقة و العدل المطلق هما أساس الحكم و أساس الحياة، و طاعة الرسول و اولي الأمر هي الدستور الأساسي لبناء المجتمع الذي فشا فيهم العدل، و ذلك هو الخير و التفسير الأحسن لتحقيق نظام أفضل، و بعد الانتهاء عن بيان هذه القواعد و النظم التي تعطي الحياة للفطرة البشرية الخامدة و تعرّفها، تلتفت الآيات المباركة

ص: 342

إلى الذين ينجرفون عنهما، و هم اليهود الذين آمنوا بالجبت و الطاغوت و حكموا بشريعة غير شريعة اللّه تعالى و اصول لم ينزلها اللّه عزّ و جلّ ، فاتبعوا الهوى في حكمهم و الضلال في حياتهم، و بيّن عزّ و جلّ فيها أحوال المنافقين و سجّل عليهم بعض الصفات الذميمة التي تكشف عن حقيقتهم، ثم أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم و وعظهم و القول لهم قولا بليغا.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ جملة «الم تر» تدلّ على الإنكار و التعجيب من أحوال من يزعم الإيمان في قلبه، و قد تقدّم في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ [سورة النساء، الآية: 51].

و الزعم هو الاعتقاد و الادعاء، سواء طابق الواقع أم لا، و إن غلب استعماله في الثاني حتّى ظنّ بعضهم أنّ عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب، و لهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلين به، قال تعالى: زَعَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي [سورة التغابن، الآية: 7]، و قال تعالى: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [سورة الكهف، الآية: 48] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و قد و ردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع كلّها تدلّ على الباطل و الردّ على الزاعمين.

و الآية الشريفة في مقام بيان كذب ادعائهم و زعمهم بأنّهم مؤمنون، و تعقيب الأمر بالطاعة للّه و طاعة الرسول و الحكم بالعدل بهذه الآية؛ للإعلام بأنّ هؤلاء هم الذين تخلّفوا عن الطاعة و أحجموا عن تنفيذ ما أمرهم اللّه به

ص: 343

و رغبوا عن التحاكم إلى اللّه و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أرادوا التحاكم إلى الطاغوت، فإنّه من المؤسف أن يكونوا كذلك مع زعمهم الإيمان بما انزل إليك و ما انزل من قبلك على سائر الأنبياء التي ما أنزلت إلا لبسط الحقّ و الحكم بين الناس بالعدل و رفع التنازع بينهم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الإيمان بما انزل من قبله؛ لتشديد التوبيخ و التقريع، و لتأكيد التعجيب.

قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ الطاغوت مصدر بمعنى كثير الطغيان و التجاوز عن حدّ العبوديّة للّه تعالى و استعلاء عليه، و اطلق على كلّ معبود من دون اللّه تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ [سورة البقرة، الآية: 256].

و الآية المباركة ردّ لزعمهم، فإنّهم لو كانوا مؤمنين لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت و لم يسعوا في التحاكم إلى الطاغوت، و لم تنزع نفسهم إليه، فإنّه إلغاء لشريعته و ابطال لكتبه المقدّسة.

قوله تعالى: وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي: و الحال أنّهم أمروا أن يكفروا بالطاغوت، كما صرّح عزّ و جلّ به في قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ [سورة النحل، الآية: 36]، و في الآية المباركة تأكيد التعجيب السابق.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً بيان لأمر واقعي و كشف عن حقيقة مستورة، و هي أنّ إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت إنّما هي من إرادة الشيطان الذي لا يريد إلا الشرّ و الباطل، و لا يكون قصده و توجيهاته إلا الضلال البعيد.

و ضلالا مصدر مؤكّد إما للفعل المذكور، أو لفعله المدلول عليه بالمذكور،

ص: 344

أي: فيضلّون ضلالا. و إنّما وصفه بالبعد إما لأجل أنّه بعيد عن الحقّ بعدا كبيرا لا التقاء معه بوجه من الوجوه، أو لأجل المبالغة في التنزّه عنه و عن سبل غوايته.

و الآية الشريفة سجّلت عليهم أمورا أربعة تحدّد وصفهم تحديدا دقيقا، و بها يحكم عليهم بوضوح بأنّهم ليسوا مؤمنين، و هي: ادعاء الإيمان بما انزل اللّه تعالى، و إرادة التحاكم إلى الطاغوت، و أنّهم مأمورون أن يكفروا به، و أنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا، فحقّ أن يكونوا غير مؤمنين، إلا أن يتحاكموا إلى شريعة اللّه كما أمر اللّه المؤمنين به في الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً الآية الشريفة تبيّن بعض علاماتهم، و هي أنّهم في حال السلم و الأمن يظهرون الإعراض و الصدود إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل اللّه تعالى من القرآن و ما أنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الحقّ ، و إذا أصابتهم المصيبة تلمّسوا المعاذير و ادعوا أنّهم أرادوا الإحسان.

و تعالوا: طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمّم. و الصدّ: هو الإعراض، و صدودا مصدر مؤكّد لفعله المذكور، و يبيّن أنّ الإعراض كان صريحا و عن عمد منهم، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.

و إنّما ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الذي انزل إليه هو حكم اللّه تعالى، للتأكيد على أنّ الإيمان باللّه تعالى إنّما يتم بالإيمان بالرسول و ما انزل إليه. و الآية تثبت مضمون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

كما أنّ تخصيص الرسول بالإعراض مع أنّ الذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معا، لأنّ الخطاب مع المنافقين الذين يدّعون الإيمان بالكتاب و لم يتجاهروا بالإعراض عن كتاب اللّه تعالى و لكنّهم يخالفون رسوله، و يصدون عنه صدودا متعمّدا.

ص: 345

و إنّما أظهر «المنافقين» في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، و لبيان العلّة في ذمّهم.

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً بيان لسخافتهم و أنّ هذا الإعراض عن حكم اللّه و رسوله و الإقبال إلى غيرهما - الذي هو الطاغوت - إنّما سيعقب السوء الذي هو نتيجة تصرّفهم، أي:

فكيف يكون حالهم إذا نالتهم مصيبة و نكبة نتيجة تصرّفهم و نفاقهم، و بسبب الإعراض عن حكم اللّه تعالى و الرسول، و بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت، و الآية الشريفة تبيّن أنّ تلك المصائب ليس لها سبب إلا الإعراض عن حكم اللّه و الرسول و التحاكم إلى الطاغوت، قوله تعالى: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً .

و حكاية الاعتذار منهم مخادعة بأنّهم أرادوا من الإعراض و التحاكم إلى الطاغوت، الإحسان و التوفيق، و بيان أنّهم لم يطيقوا الثبات على ذلك الإعراض و الصدود. أي: لما رأوا المصائب تحدق بهم جاؤك مخادعة حالفين لك باللّه العظيم نفاقا قائلين: إنّهم إنّما أرادوا من التحاكم إلى الطاغوت و الإعراض عن حكم اللّه و الرسول الإحسان لكم و التوفيق بينكم و بين الخصوم و قطع المشاجرة، لا الإعراض عن حكمك.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لقولهم، فإنّ اللّه تعالى الذي يعلم ما في الأرض و السماء، و ما في قلوب الناس جميعا، يعلم ما في قلوب أولئك المنافقين، و إنّما حذف المتعلّق لبيان خبث ضمائرهم، و أنّها فاسدة لا يتأتّى منها إلا الشرّ.

كما أنّ تخصيص قلوب أولئك بالذكر مع أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء،

ص: 346

لبيان أنّهم مهما حاولوا استخفاء حقيقتهم عن الناس، و مهما تظاهروا بالإيمان، فإنّ اللّه تعالى يعلم ما في قلوبهم و لا تخفى عليه خافية و ستظهر حقيقتهم.

و الآية المباركة تدلّ باسلوبها البليغ على تعظيم الأمر و تهويله و فظاعته.

قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ بيان لفساد ضمائرهم، إذ لو لم يكن كذلك لما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عمّن يقول الحقّ : في قوله، و إنّما كان توجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم مطلقا، سواء في قبول عذرهم أم غير ذلك، و أمره صلّى اللّه عليه و آله بوعظهم ليرجعوا عن غيّهم و عنادهم و يكفّوا عن النفاق و يستقيموا على أمر اللّه تعالى، و يقبلوا حكم اللّه و حكم الرسول.

قوله تعالى: وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً توعيد لهم، فإنّ الأسلوب يحمل النذير، أي: قل لهم قولا يبلغ من نفوسهم الأثر الذي ترجوه منه، و هو الرجوع عن غيّهم و فسادهم، و ترك النفاق و الرجوع إلى الحقّ .

و الظاهر أنّ الأمر بالإعراض و الموعظة إنّما كان قبل نزول الأمر بقتالهم، فإنّ بهما تجلب النفوس اللائقة و المتأهّلة للحقّ إلى الصراط المستقيم، فإذا لم تنفعها تصل النوبة إلى القتل لأجل الرضوخ إلى الحقّ .

و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية الشريفة، فقيل: قل لهم منفردا بهم لا يكون معهم أحد؛ لأنّه ادعى إلى قبول النصيحة، فإنّ النصح بين الملأ تقريع.

و قيل: قل لهم في شأن أنفسهم قولا مؤثّرا.

و على كلا القولين يكون الظرف فِي أَنْفُسِهِمْ متعلّقا بالأمر «قل».

و قيل: إنّه متعلّق ب «بليغا»، أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، و لا يضرّ تقديم معمول الصفة على الموصوف الذي هو جائز عند جمع كثير من النحويين.

و قيل: المراد أنّه أمر بالقول البليغ.

ص: 347

و كيف كان، فإنّ الآية الكريمة تأمر بالموعظة سواء بالقول أم بالفعل، ثم الأمر بالقول الذي يؤثّر في النفس تأثيرا بليغا، و قد فوّض الوعظ إلى الرسول الكريم و النصح لهم بكل ما يراه مؤثّرا في نفوسهم التي خبثت و فسدت، فلا بد من إصلاحها لتصلح سائر القوى و الأعضاء.

و في الآية الشريفة شهادة من اللّه تعالى على قدرة رسوله صلّى اللّه عليه و آله في الكلام البليغ، كيف و هو القائل:

«أنا أفصح من نطق بالضاد»، و هو سيد الفصحاء و إمام البلغاء، و هو الرسول الكريم الذي علّمه اللّه تعالى ما لم يعلم، و من نزل في شأنه:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4]، فيكون لكلامه الأثر البليغ في النفوس و لم يكن في كلام غيره مطلقا هذا الأثر العظيم، و إنّ على كلامه مسحة ربانيّة يقع في القلب و يصلح ما أفسده صاحبه، و هو الترياق الأكبر و الأكسير الأعظم، و قد كان العرفاء و الصلحاء المتألّهون يرجعون إلى كلامه صلّى اللّه عليه و آله و يحفظونه عند ما تتكّدر نفوسهم.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا على أنّ السبب في بطلان إيمانهم هو إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فيؤخذ بعموم السبب، و هو أنّ كلّ من يرغب في حكم الطاغوت فهو ليس مؤمنا و لو زعم ذلك، و أنّ التحوّل من حكم اللّه تعالى و رسوله إلى حكم الطاغوت يوجب خروج الناس عن الإيمان.

ص: 348

إيمانا مزعوما، و هذا من المواضع القليلة التي يترتّب الأثر على الإرادة. و إنّها تكشف الإيمان الباطل و تميّزه عن الإيمان الصحيح الثابت، و تبيّن علامات الإيمان الباطل، و هي: إرادة التحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، و مخالفة حكم اللّه تعالى، و إنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا لا التقاء فيه مع الحقّ و الإيمان الصحيح.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً على أنّ التسليم لحكم اللّه تعالى و التوقّف في حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله نفاق.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ على أنّ المصائب تكون كسبية، يكتسبها الإنسان من فعل الذنوب و الآثام، و تدلّ عليه آيات اخرى، إلا أنّ ذلك هل يكون جزاء و عقوبة (كفّارة) و يكون لطفا و رفع درجة ؟ و الظاهر أنّه يختلف باختلاف الأفراد أو باختلاف العمل.

و الأمر الذي لا بد من الإذعان به أنّ ذلك نتيجة للأعمال و الذنوب، و تكون موافقة لنوع الذنب، لقانون توافق الجزاء مع الذنوب، و أنّ التوبة ترفع تلك الآثار و تمحوها، كما تقدّم في مبحث التوبة و غيره.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً أدب الاحتجاج و مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فأوّل ما يبدأ به هو الإعراض عمّا صدر منهم من مخالفات و سوء في القول و الفعل، ثم الوعظ و الإرشاد و إصلاح النفوس بهما، ثم القول البليغ، و لم يرد في تحديده من قبل الإسلام شيء، فالأمر موكول إلى المرشد و المصلح بما يراه من المصلحة و ما يوجب الوصول إلى بغيته، و هي الصلاح و الرشاد و تأثّر النفوس بالمواعظ و النصائح، و قد يصل إلى التهديد و التوعيد، و لكن لا بد أن يكون كلّ ذلك موافقا لظاهر الشرع، و أن لا يخرج عن أدب الإسلام في هذا المضمار.

ص: 349

بحث روائي

على بن إبراهيم في تفسيره لقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ إنّه نزل في الزبير بن العوام، فإنّه نازع رجلا من اليهود في حديقة. فقال الزبير:

ترضى بابن شيبة اليهودي ؟ و قال اليهودي: ترضى بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى الآية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، إذ لا خصوصية للمورد؛ لأنّ فعل ابن العوام كان ممّا يوجب تأييد المنكر و تقوية الطاغوت، و قد نهى سبحانه و تعالى عن ذلك، و كلّ من يكون كذلك تشمله الآية الشريفة.

و في أسباب النزول للواقدي: عن المروزي في كتابه قال: «أخبرنا محمد بن الحسين بإسناده عن الشعبي، قال: كان بين رجل من المنافقين و رجل من اليهود خصومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، و دعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم؛ لأنّه علم أنّهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل اللّه تعالى في ذلك: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ - يعني المنافق - وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - يعني اليهودي - يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ - الى قوله تعالى - وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد يكون للنزول مناشئ متعدّدة، كما تقدّم وجه ذلك، و هي تدلّ على أنّ أمانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بوجهها العامّ في كلّ شيء كانت محرزة و متيقّنة حتّى عند اليهود و المنافقين، و كان يعرف صلّى اللّه عليه و آله بالأمين.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال:

«أيما رجل كان بينه و بين أخيه منازعة فدعاه إلى رجل من أصحابه يحكم

ص: 350

بينهما، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة التي قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ .

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة دالّة على حرمة الرجوع في القضاء إلى حكام الجور.

و في الكافي بإسناده عن أبي جنادة الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن و رقاء بن حبشي بن جنادة السلولي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام في قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال: «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب و وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ».

أقول: المراد من السبق بالاختيار، أي: أنّهم باختيارهم اختاروا العذاب و الشقاء، و لذا عقّبه بالقول البليغ لعلّه يؤثّر في نفوسهم و يرجعوا عن غيّهم.

بحث فقهي

الترافع إلى قضاة الجور و من لم يوجد فيه شرائط القضاء حرام بالأدلّة الأربعة، فمن الكتاب آيات شريفة، منها ما تقدّم، و منها قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ [سورة البقرة، الآية: 188]، بتقريب أنّ حكام الجور لا اعتبار لحكمهم؛ لأنّهم يتعاطون الرشوة، و هذا الملاك لو وجد في حكّام العدل تسقط ولايتهم، و غيرهما من الآيات المباركة.

و من السنّة: روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر، تدلّ على الحرمة وضعا و تكليفا، و تقدّم بعضها.

و من الإجماع: ما هو مسلّم بين جميع الفقهاء على حسب اختلاف آرائهم، بل مذاهبهم.

و من العقل: أنّه تأييد و تقرير للباطل، و هو قبيح، فإذا ترافع إليهم كان

ص: 351

عاصيا، سواء كان معه الحقّ في الواقع ام لا، بل لا يحلّ ما أخذ بحكمهم إن كان دينا، و كذا في العين على إشكال فيها تعرّضنا له في الفقه، و من شاء فليرجع إلى كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

إلا أنّه استثني من ذلك ما لو توقّف استيفاء الحقّ و عدم ضياعه على الترافع إليهم على سبيل الانحصار، و لم تكن مفسدة اخرى في البين؛ لانصراف ما تقدّم من الأدلّة عن مثل ذلك و شمول ذلك، و شمول أدلّة نفي الضرر له، و لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ خصوصا في صورة الحرج بشمول أدلّته لذلك.

و لا فرق فيما تقدّم بين المسلم و غيره؛ لإطلاق الأدلّة، و لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع، كما أنّهم مكلّفون بالأصول و أنّ الواقع حجّة على جميع الناس، و قد تعرّضنا في الفقه لما يتعلّق بتكليف الكفّار بالفروع، و من شاء فليرجع إلى (مهذب الأحكام).

بحث أخلاقي

النفاق من الصفات الذميمة، بل هو أمها؛ لأنّه يوجب تأنيب النفس في هذه الدنيا، و الجحيم الابدي في الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ [سورة النساء، الآية: 145]، و أنّه يوجب تغيّر الفطرة المستقيمة الخالصة عن الشوائب، كما خلقها اللّه تعالى إلى فطرة غير مستقيمة متلوّنة لا يمكن الاعتماد عليها، كما أنّه يوجب هدم النظام الاجتماعي؛ و لذا لم يذمّ سبحانه و تعالى صفة خبيثة أشدّ من هذه الصفة، فجعل المنافقين شرّا من الكافرين، كما في الآية المتقدّمة.

و هو التلبّس بالشرع ظاهرا و الخروج عنه واقعا، أو التظاهر بالواقع و الحقيقة، و البعد عنهما في النفس و الضمير. و للنفاق مصاديق كثيرة - كالكذب، و المكر، و الحيلة و غيرها - متفاوتة لا يخلو إنسان - ما عدا المعصومين - عن

ص: 352

الابتلاء و لو بأدنى مرتبته و إن لم يترتّب عليها ذنب، لعدم إظهارها و عدم ترتّب أثر شرعيّ عليها.

و له أسباب كثيرة، لعلّ أهمّها حبّ النفس، و الحرص على الدنيا و طول الأمل، و حبّ الرياسة، و البغض و العداوة مع أولياء اللّه تعالى، و غيرها من الأسباب، لعلّنا نتعرض لبعضها إن شاء اللّه تعالى في الروايات المناسبة.

و قد أكّد سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة بالإعراض عن المنافقين في المرحلة الاولى؛ لما فيهم من الصفات الذميمة التي قد توجب السراية إلى غيرهم بإغواء الشيطان، ثم إصلاحهم إما بالوعظ و الإرشاد حتّى يرجعوا إلى أنفسهم و يصلحوا ما رسبت في نفوسهم من الصفات الذميمة و الأخلاق الفاسدة، و هذه هي المرحلة الثانية، و إما بالقتل و القتال معهم، و هذه هي المرحلة الأخيرة، و لكلّ من المرحلتين الاوليتين مراتب متفاوتة، و الآيات الكريمة المتقدّمة تبيّن المراحل المتقدّمة بوضوح، و سيأتي في المباحث الآتية ما يرتبط بهذا البحث.

ص: 353

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُ.......

اشارة

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) الآيتان الشريفتان متممتان للآيات السابقة التي وردت في وجوب إطاعة اللّه و الرسول، و تمهيد لبيان خطئهم في الاشتغال بما يوجب الدخول في نار جهنمّ و مقاساة أهوالها و هما تبيّنان أهمّ مقصد من مقاصد الرسل و هو إطاعتهم، و تشيران إلى أنّ المحكّ الرئيس في الإيمان هو أخذ الأحكام منهم، مع التسليم لهم و الرضا بحكم اللّه تعالى.

و الآية المباركة تأمر الناس الذين ظلموا أنفسهم بالرجوع إلى الرسول و طلب الاستغفار منه؛ لأنّه واسطة الفيض، و لأنّ الإعراض عنه صلّى اللّه عليه و آله كان سببا للنفاق و التشنيع عليهم، فاستوجب الدخول في الإيمان الصحيح غير المزعوم، التوجّه إليه و التسليم لأمره و طلب الغفران منه.

التفسير

قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ بعد ما بيّن عزّ و جلّ حال المنافقين و ضلالهم و فساد ضمائرهم و إعراضهم عن الرسول و الحقّ و نبذ حكمه و حكم اللّه تعالى و تحاكمهم إلى الطاغوت و حلفهم كذبا، ثم الاعتذار بالإحسان و التوفيق، فإن كلّ تلك كانت صدّ عن الحقّ و مخالفة للرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أنّ الغاية من بعث الرسل هي طاعتهم مطلقا من غير قيد و لا شرط، و أنّ طاعتهم من طاعة اللّه تعالى، فأمرهم

ص: 354

امره عزّ و جلّ ، و ليست الطاعة فقط هي طاعته عزّ و جلّ كما زعمه هؤلاء المنافقون، و أنّ شأن الرسل لم يكن الوعظ و الإرشاد فقط فيأخذ به من يأخذ و يتركه من يترك، أو أنّ اتباع الرسل إنّما هو لأجل الصلاح، فإذا أحرز أحد في نفسه ذلك ليس له مع الرسول شأن و له أن يتركه في جانب، بل إذا أطاعه حينئذ كان إشراكا باللّه تعالى و عبادة للرسول معه، و هذه الآية الكريمة تدفع هذا التوهّم و تبيّن خطأ معتقدهم، و تثبت طاعة الرسول و أنّها من طاعة اللّه تعالى، و سيأتي في موضع آخر من هذه السورة تأكيد ذلك، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ [سورة النساء، الآية: 80].

و الآية الشريفة لا تثبت سلطة ظاهريّة للرسل، بل أنّ الطاعة هي غاية إرسال الرسل، و إلا فإنّ كثيرا من الرسل لم تكن لهم سلطة ظاهريّة و لم يكونوا حكّاما - و سواء كانوا أم لم يكونوا - فإنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا، فهم رسل من اللّه تعالى، أثبت لهم عزّ و جلّ الطاعة و أوجب تعالى على الناس أن يطيعوهم في أوامره تعالى و أحكامه، و أنّ تهذيب النفوس إنّما يكون بطاعتهم و إصلاحها بالعمل، لا بمجرّد سماع نصائحهم و ترك أوامرهم.

و يستفاد من قوله تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ أنّ طاعة الرسل لم تكن ذاتيّة، بل إفاضية من قبل اللّه تعالى، فطاعتهم واجبة بإذنه، كما ذكرنا في قوله تعالى:

أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ ، و أنّها لم تكن على الناس بنحو الجبر و الإلجاء، بل الطاعة كسائر الأشياء إنّما تكون بمشيئة اللّه عزّ و جلّ و إذنه.

ثم إن قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أبلغ في استغراق النفي من غيره، فكلّ رسول تجب طاعته.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ تبيت لمضمون الآية السابقة، و بيان بأنّ السبيل الموصل إلى اللّه تعالى إنّما يكون عن طريق الأنبياء و الرسل، فهو عزّ و جلّ لم يغلق بابه أحد مهما بلغت

ص: 355

جريمته، و لكن لا بد من سلوك الطريق الموصل إليه جلّت عظمته، و هو ينحصر بالاستغفار و التوبة و طلب المغفرة من الرسول الكريم لهم، دون مجرّد الاعتذار الباطل و الاشتغال بما يوجب الدخول في سخط اللّه تعالى، فهم حين ما ظلموا أنفسهم بالنفاق و التحاكم إلى الطاغوت و الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، إن رجعوا إلى الصواب و ندموا على ما فعلوا و آمنوا بالرسول و طلبوا الغفران من اللّه تعالى و استغفر لهم الرسول، غفر اللّه تعالى لهم.

قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ أي: جاءوك بعد الإعراض و طلبوا الغفران من اللّه تعالى، و سأل الرسول لهم من اللّه تعالى الغفران و قبول توبتهم و غفران ذنوبهم، و في التعبير ب اِسْتَغْفَرَ دون غيره، تعظيم لشأن الرسول الكريم، حيث عدل عن خطابه إلى أعظم صفاته صلّى اللّه عليه و آله، حيث أسنده إلى لفظ ينبئ عن علو مرتبته.

قوله تعالى: لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً أي: لعلموا أنّه قبل توبتهم، و قد تفضّل عليهم بالغفران؛ لأنّه رحيم واسع الرحمة لا يضرّه ذنوب عباده، بل يفرح من توبتهم.

و في التعبير بالوجدان كمال العناية، فإنّه يملأ المشاعر، كما أنّ وضع الظاهر (اسم الجلالة) موضع المضمر، إيذان بفخامة القبول و كمال الرأفة.

و الآية الشريفة إرشاد لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ [سورة النساء، الآية: 59]، فإنّ اللّه تعالى أمرهم بالمجيء إلى الرسول و طلب الدعاء منه بالمغفرة؛ لأنّه عزّ و جلّ أمرهم بالتحاكم إليه، و قد خيّره في الحكم لما وهبه عزّ و جلّ من الفطنة و الذهن الثاقب و كمال العرفان.

قوله تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ بيان للإيمان الصحيح الحقيقيّ بعد ذكر الإيمان الكاذب الذي يزعمه المنافقون، و لأهمية الموضوع وقع القسم باسم الرّب مؤكّدا بأمور في المقام يأتي بيانها.

ص: 356

و ظاهر السياق و إن كان ردّا للمنافقين إلا أنّ عموم الحكم في الغاية و القرائن المحفوفة بالكلام، يشمل غيرهم أيضا، فتكون الآية الشريفة محكّا حقيقيّا للإيمان الصحيح، فإنّه لا إيمان بدون تحكيم شريعة اللّه تعالى و الرضا بحكمه و حكم رسوله و التسليم لهما عملا و اعتقادا، و إلا فليس الإيمان مجرّد النطق بالشهادتين من دون الطاعة له عزّ و جلّ و لرسوله، فتكون هذه الآية تطبيقا آخر للأمر بطاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول، و تثبت مضمونه و تؤكّده، و قد أكّد عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الاعتقاد المقرون بالعمل.

قال تعالى: وَ يَقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ * إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية: 47-51].

فهذه الآية الشريفة مفسّرة لقوله تعالى في هذه السورة، و تبيّن بوضوح أنّ الإيمان الصحيح هو ما كان الاعتقاد مطابقا للعمل، و إلا فمجرّد النطق بالشهادتين مع قطع النظر عن الاعتقاد الجازم، لا يوجب الاتصاف بالإيمان الذي يريده عزّ و جلّ الداعي إلى العمل و التسليم بحكم اللّه تعالى و رسوله و الطاعة لهما، بل نفى عزّ و جلّ في موضع آخر من كتابه المجيد أن يكون القيام ببعض الشعائر التعبديّة من مظاهر الإيمان إذا لم تكن عن صدق و ثبات و تسليم، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 142].

و قد ذكر عزّ و جلّ في المقام ثلاث علامات صريحة و حاسمة، كلّ واحدة

ص: 357

منها تدلّ على مرتبة معينة للإيمان الصحيح الحقيقيّ الواقعيّ ، مقابل الإيمان الكاذب المزعوم. و هي:

العلامة الاولى: تحكيم الرسول في ما شجر بينهم. و التحكيم جعل فرد حاكما أو حكما و تفويض الأمر إليه و قبول حكمه. و مادة [شجر] تدلّ على الاختلاط و التداخل، فمنها الشجار - ككتاب - و هو خشب الهودج لاشتباك بعضه مع بعض، و الشجر لاشتجار أغصانه و تداخلها، و التشاجر و المشاجرة في الدعاوي و الأقوال لاختلاط بعضها مع بعض.

و شجر في الآية الشريفة مأخوذ من الشجر - بسكون الجيم - و الشجور و هو الاختلاف و التنازع.

و المعنى: أنّهم لا يؤمنون أبدا و إن زعموا الإيمان حتّى يحكّموك في القضايا التي يختصمون فيها و يتشاجرون و يتنازعون، فتحكم فيهم بشريعة اللّه تعالى، فهذه اولى درجات الإيمان الحقيقيّ ، و هي العلامة الظاهرة، فإنّ تلك القضايا التنازعيّة يكشف عن مخالفة هوى النفس.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ هذه هي العلامة الثانية، و هي عدم تحرّج المؤمنون حقّا عن تنفيذ حكم الرسول، لا سيما إذا خالف هوى النفس و إذعان نفوسهم بقضائه و حكمه؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله يحكم بشريعة اللّه تعالى، لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ [سورة النساء، الآية 105].

و هذه العلامة تكشف عن إيمان القلب الذي لا يعلم حقيقته إلا اللّه تعالى، و من هنا جاء العطف بين العلامتين ب (ثم)، و المراد بقوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، هو انشراح صدورهم لحكم الرسول، الذي هو حكم اللّه تعالى، و هو أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى.

ص: 358

قوله تعالى: وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً هذه هي العلامة الثالثة التي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب رسوخا تامّا، فينبثّ على الجوارح و يكون داعيا إلى العمل طوعا، فيكون إذعانا تامّا ظاهرا و باطنا لأمر اللّه تعالى، سواء في التشريع أم التكوين، و هذا هو آخر موقف من مواقف الإيمان الحقيقيّ الذي لا حرج و لا اعتراض من المؤمن على أي حكم من أحكام اللّه تعالى و الرسول لا ظاهرا و لا باطنا، فتكون هذه العلامة عامّة تشمل التشريع و التكوين و حكم اللّه و حكم الرسول و أفعاله و سيرته، فإنّ جميع ذلك من طاعة اللّه تعالى.

و حكم الآية الشريفة عامّ يشمل عصر النزول و غيره، و المنافقين و غيرهم، فإنّها في مقام إعطاء الضابطة للإيمان الصحيح، و القاعدة التي لا بد أن يرتكز عليها المؤمن في اعتقاده و أعماله و سيرته.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيتان الشريفتان على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ - باسلوبه الدالّ على الحصر و على الاهتمام البليغ بالموضوع - على أنّ الغاية من إرسال الأنبياء طاعتهم و العمل بشريعتهم و تنفيذ أوامرهم و ليس الإيمان مجرّد التلفّظ بالشهادتين من دون الطاعة، و سيأتي في الآية التالية بيان الطاعة التي فرضها اللّه عزّ و جلّ على الناس، و لعلّ تعقيب الطاعة بكونها من إذن اللّه تعالى فيه الإشارة إلى أنّ الطاعة هذه لا بد أن يأتي بيانها من قبل اللّه تعالى، و ليس لكلّ أحد أن يفسّرها بما يريده و يتوهّمه، و قد فسّرها عزّ و جلّ في المقام بأحسن

ص: 359

وجه، لا لبس و لا إجمال فيه، فكانت الطاعة في نظر القرآن الكريم هي الرجوع إلى الرسول و تحكيمه في موارد التنازع و التشاجر، و قبول حكمه برضاء و اطمينان لا اعتراض فيه، و التسليم للّه تعالى و لرسوله في جميع الأمور، فكانت هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي نزلت في بيان هذا الأمر المهمّ ، الذي لم يرسل الرسل إلا لأجله، و بها ينتظم نظاما التشريع و التكوين؛ لأنّ التشريع له الدخل الكبير في التكوين، كما تقدّم.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ على أنّ طاعة الرسل إنّما تكون إفاضية من قبل اللّه تعالى و بإيجاب منه عزّ و جلّ ، فتكون طاعتهم في الحقيقة طاعة اللّه عزّ و جلّ ، فمن خرج عن طاعتهم و رغب عن حكمهم كان خارجا عن حكم اللّه تعالى و طاعته عزّ و جلّ ، فلهذه الكلمة الشريفة الوقع الكبير في هذا الموضع، فإنّها ترشد الناس إلى أمر مهمّ و هو طاعة الرسل و الأنبياء، و أنّها ليست من الأمور الدنيويّة الدائرة في الاجتماع الإنسانيّ ، يمنحها المجتمع أو شخص معين - سواء أ كان رئيسا أم غيره - لأحد جهلا بالمقادير، فمتى أراد سلبها عنه و نزعها منه، بل الطاعة المفترضة على الناس للأنبياء من الأمور التشريعيّة المهمّة التي تكون تحت سلطانه و إرادته و إذنه تعالى، و لم يمنحها لأحد إلا مع العلم و الحكمة المتعالية.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ على عصمة الرسل؛ لأنّ اللّه تعالى فرض طاعتهم على جميع الناس مطلقا من غير شرط، فلو جاز أن يأتوا بمعصية لوجب علينا طاعتهم، فتكون واجبة علينا، و المفروض أنّها محرّمة يجب تركها، فيلزم تخصيص الآية الشريفة، و المفروض خلاف ذلك، فتدلّ على أنّهم معصومون لم يرتكبوا محرّما إليها، فتكون أفعالهم و أقوالهم و سيرتهم حجّة علينا، و تجب علينا طاعتهم فيها.

فهذه الآية المباركة من الأدلّة الدالّة على عصمة الأنبياء عليهم السّلام، التي كثر

ص: 360

فيها الخلاف بين الناس، فصارت من أمهات المسائل الكلاميّة، و قد الفت فيها رسائل و كتب. و مذهب أهل البيت عليهم السّلام أنّهم معصومون من الصغائر و الكبائر قبل البعثة و بعدها، و قد تعرّضنا لهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة، فراجع.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، على أنّ الإعراض عن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ظلم للنفس، فإنّ حكمته اقتضت أن تكون الطاعة لصالح الامة، و الرسول إنّما يهدي لصالح الناس، ليصلوا إلى سعادتهم و ينالوا كمالهم اللائق بهم، فإذا كان الظلم - الشامل بإطلاقه لجميع أنحائه - ظلما للنفس، فلا بد أن تكون التوبة تطهيرا للنفس، فحينئذ يجب أن يكون الاستغفار عن إقبال على اللّه تعالى، و عزم على ترك الذنب، و عدم العود إليه مع الإخلاص و الصدق، فمجرّد الاستغفار اللسانيّ لا أثر له في تطهير النفس عن الكدورات التي جلبها ارتكاب الظلم؛ لأنّه لا بد أن يكون نابعا عن شعور النفس بالذنب و الحاجة إلى التطهير، و يكون عن توجّه قلبيّ إلى اللّه تعالى، كما يدلّ قوله عزّ و جلّ جاؤُكَ فإنّ المجيء إلى الشيء لا يكون إلا بعد العزم و الثبات و التفكّر في العواقب.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ على وجوب التوبة من المعاصي و الاستغفار من الذنوب.

و يستفاد من الآية الشريفة بعض شرائط التوبة.

منها: الفوريّة فيها كما يدلّ عليها الشرط و العطف بالفاء، و هو المستفاد من قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، و قد تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بالمقام فراجع.

و منها: أنّ الذنوب التي تتعدّى إلى الغير و تكون من المتعلّقة بحقوق الناس لا بد من استرضائه، و طلب الغفران منه، و يدلّ عليه قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، فإنّ الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ظلما للنفس فقط، بل كان فيه إيذاء له و غصب لحقّه صلّى اللّه عليه و آله، فاستوجب الرجوع إليه و إظهار التوبة لديه، و طلب المغفرة منه.

ص: 361

و منها: أنّ الذنوب التي تتعدّى إلى الغير و تكون من المتعلّقة بحقوق الناس لا بد من استرضائه، و طلب الغفران منه، و يدلّ عليه قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، فإنّ الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ظلما للنفس فقط، بل كان فيه إيذاء له و غصب لحقّه صلّى اللّه عليه و آله، فاستوجب الرجوع إليه و إظهار التوبة لديه، و طلب المغفرة منه.

و في نفس الوقت كانت الآية الشريفة من موارد تطبيق التحاكم إليه، و يدلّ على ذلك الإظهار في موضع المضمر، و لم يقل: (استغفرت لهم) و نحو ذلك.

و يستفاد من الآية المباركة أدب الدعاء، و هو أنّ دعاء الجمع أقرب إلى الاستجابة، بل أنّ ظاهر الآية الكريمة يدلّ على لزوم الرجوع إلى واسطة الفيض و أولياء اللّه تعالى و التوسّل بهم في نجح طلباتهم و مقاصدهم عند اللّه تعالى، فإنّ مقام قربهم عنده عزّ و جلّ و حظوتهم لديه جلّ شأنه ممّا يساعد على استجابة الدعاء، و ليس ذلك من الشرك كما يدّعيه بعض الجاهلين، فأين الشرك من التوسّل بمن أذن له اللّه تعالى في الشفاعة، و جعله شفيعا عنده في نجح المقصود و الوصول إلى المطلوب ؟!! و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، على أنّ التوسّل بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و جعله شفيعا عند اللّه تعالى و دعائه صلّى اللّه عليه و آله، سبب تامّ لاستجابة الدعاء و عدم ردّ شفاعته و وجدان المقصود، و لكن لا بد أن يكون التوسّل بإخلاص و معرفة، و تكون الحاجة التي يطلب فيها الشفاعة من الأمور الراجحة شرعا، و إلا فليس كلّ توسّل يؤثّر الأثر المطلوب، كما نراه بالوجدان.

السابع: يدلّ قوله تعالى: حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، على أنّ الحدّ الفاصل بين الإيمان و الكفر و النفاق، هو الرجوع إلى طاعة الرسول لتحكيمه و قبول حكمه و قضائه، و تسليم الأمر إلى اللّه تعالى تسليما تامّا و الانقياد له و لرسوله، فتكون الآية الشريفة ردّا لمزاعم المنافقين و اليهود و غيرهم في الإيمان، و حكمها عامّ يشمل جميع الأعصار، و تدلّ الآية المباركة على عصمة الرسول من

ص: 362

الخطأ و النسيان و السهو، فإنّ اللّه تعالى أوجب قبول حكمه و قضائه من غير شرط، فلو احتمل فيه ذلك لوجب بيانه.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، أنّ التسليم من أعلى المراتب في الإيمان، و أنّه لا يصل الإنسان إلى هذه المرتبة الا بعد طيّ مراحل عديدة، ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآية المباركة، و هي الإيمان و الطاعة للّه و للرسول، و قبول حكمه من دون حرج و حزازة قلبيّة و تردد، ثم يصل إلى المرتبة الأخيرة و هي تسليم الأمر إلى اللّه و الرسول و الانقياد لهما انقيادا تامّا بالقول و الفعل.

و هذه هي المرتبة التي أوصى بها الأنبياء عليهم السّلام أممهم، و أكّد سبحانه و تعالى عليها في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم:

وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 132].

بحث روائي:

في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لقد خاطب اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه، قلت: في أيّ موضع ؟ قال عليه السّلام: في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً * فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، فيما تعاقدوا عليه: لئن أمات اللّه محمدا ألاّ يردّوا هذا الأمر في بني هاشم، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ عليهم من القتل أو العفو وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد استفيضت روايات في أنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن علي عليه السّلام، و لا محذور في ذلك أصلا، و المراد من الخطاب توجيه الكلام إليه عليه السّلام، كما يوجّهه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

روى الحافظ ابن عساكر: «أنّ أعرابيا جاء إلى قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حثا من

ص: 363

ترابه على رأسه و خاطبه، و قال: و كان فيما انزل عليك: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، و قد ظلمت و جئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك، و كان هذا بمحضر من عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: أمثال هذه الرواية التي تدلّ على خروج النداء من قبور أولياء اللّه تعالى و أصفيائه كثيرة، لارتباط الأرواح الطيبة مع عالم الشهادة و عدم انقطاعها عنه بالمرّة، تقول فاطمة الخزاعيّة: «غابت الشمس بقبور الشهداء و معي اخت لي فقلت لها: تعالي نسلّم على قبر حمزة و ننصرف، قالت: نعم، فوقفنا على قبره فقلنا: السّلام عليك يا عمّ رسول اللّه، فسمعنا كلاما ردّ علينا: و عليكما السّلام و رحمة اللّه و بركاته، قالتا: و ما قربنا أحد من الناس».

و عن ام سلمة: «و اللّه لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا إلى يوم القيامة». و قد ورد مثل ذلك عن قبر الحسين عليه السّلام، و عن قبر مولانا أبي الحسن الرضا و غيرهم من الأولياء، فكيف بقبر خاتم الأنبياء الذي هو أشرف ولد آدم و فخر الكائنات و صاحب اللواء!! لكن الحجب الظلمانيّة حالت بيننا و بين سماع كلامهم، بل أنّها حالت بيننا و بين جميع الروحانيات و المعنويات، و لم يمنع حاجب عن وصول كلام الأعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمعه نبيّ الرحمة و استغفر له و ردّ جوابه.

فقد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ابعثوا إليّ السلام، فإنّه يبلغني».

و كيف كان، يستفاد من الرواية امور:

الأول: أنّ استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعاصين و المذنبين من أمته لم يختصّ بزمان حياته صلّى اللّه عليه و آله، بل يعمّ حتّى بعد ارتحاله إلى الملأ الأعلى؛ لعدم انقطاع فيضه عن أمته.

و ما أبعد ما بين مفاد هذه الرواية و بين ما يقوله بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة تختصّ بالإعراض عن الطاعة فقط، و بعصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فلا يشمل بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 364

و لكنّه باطل، إذ الآية الشريفة في مقام الامتنان على الامة، و تدلّ على عظيم منزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه تعالى، و لا فرق بين حياته و موته، فهو حيّ عند ربّه.

الثاني: يستفاد منها أنّ استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن إلا بعد طلب العاصي العفو و الغفران، أي: بعد تحقّق الأهليّة لاستغفاره صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: يستفاد منها أنّ خطاب الأعرابي كان من صميم القلب و لم تمنعه الحجب و الظلمانيّة الدنيويّة.

علي بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ ، أي: بأمر اللّه تعالى.

أقول: الأمر و الإذن بالنسبة إليه في الإرادة التشريعيّة بمعنى واحد، فيكون بمعنى الإيجاب.

في الكافي بإسناده عن عبد اللّه الكاهلي عن الصادق عليه السّلام قال: «لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له، و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة، و حجّوا البيت، و صاموا شهر رمضان، ثم قالوا الشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم صنع كذا و كذا؟ و لو صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، ثم قال الصادق:

عليكم بالتسليم».

أقول: يستفاد من الرواية أهمية مقام التسليم الذي يختصّ بالأخيار من عباده و أوليائه، و له مراتب يأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى، و الرواية وردت على طبق القاعدة؛ لأنّ المناط في الإيمان الاستقرار في القلب و الإذعان بأنّ أفعاله تعالى تابعة للمصالح و المفاسد، فالاعتراض يكشف عن عدم الإيمان به تعالى، و كذا بالنسبة إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه يرجع إلى اللّه تعالى، و لذاك عدّ من المشركين، و تقدّم أنّ الشرك له مراتب متفاوتة.

ص: 365

عن البرقي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال: «التسليم الرضا و القنوع بقضائه».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و إنّ الحكم أعمّ من التشريعيّ و التكوينيّ ، و إنّ الصفات الثلاثة من مختصّات المؤمن، و لكلّ منها درجات مختلفة حسب درجات الإيمان، و إنّها لا ينافي العمل بالأسباب الظاهريّة بعد استقرار الإيمان به تعالى، كما تقدّم مكرّرا.

نعم، لا بد من ظهور الأثر الخارجي لتلك الصفات.

و في الدرّ المنثور: «انّ عروة بن الزبير حدّث عن الزبير بن العوام أنّه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شراج من الحرّة، كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمرّ، فأبى عليه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، و قال: يا رسول اللّه، إن كان ابن عمّتك ؟! فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، و استرعى رسول اللّه للزبير حقّه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك أشار إلى الزبير، أي: أراد فيه السعة له و للأنصاري، فلما أحفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأنصاري استرعى للزبير حقّه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ».

أقول: الشراج مجاري الماء من الحرار إلى السهل، و أحدها شرج، و ام الزبير صفيّة بنت عبد المطلب، فيكون الزبير ابن عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ الرواية من باب التطبيق، و ذكر بعض المصاديق و جرأة الأنصاري على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جرأة على اللّه تعالى.

العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي أيوب الخزاز قال: «سمعت

ص: 366

أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في قوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، فحلف ثلاثة أيمان متتابعات لا يكون تلك النكتة السوداء في القلب و ان صام و صلى».

أقول: لعلّ حلفه عليه السّلام ثلاث أيمان متتابعات للتأكيد على وجود تلك النكتة السوداء في القلب، و هي تحصل من ممارسة الذنوب و الإصرار عليها، و إنّها المصدر للشقاء الكامل، و الرواية لا تدلّ على أنّ الشقاء ذاتي أصلا.

في الكافي بإسناده عن محمد بن أبي العباس عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً . قال:

«هو التسليم له في الأمور».

أقول: أي في التكوين و التشريع، و تقدّم ما يرتبط بها.

بحث فلسفي

أثبت الفلاسفة المتألّهون أنّ السبل و ما يوجب التقرّب إلى للّه تعالى و يوصل إلى الحقيقة و الكمال و يستلزم البعد عن الأوهام و الجهالات، كثيرة جدا - بل و هي غالبة على طرق الضلال و الإغواء، لما أثبتوه في محلّه من أنّ الحقيقة فائقة على غيرها، و أنّ الواقع غالب على الأوهام و الخيالات مهما بلغ أو طال الزمان - و قد ذكر القرآن تلك السبل الموصلة إلى الحقّ و الحقيقة، و أكّد عليها بأمثلة كثيرة و بعبارات مختلفة، و أهمّها مخالفة النفس عن الهوى، و الصبر في جنب اللّه تعالى، و التفكّر في عظمته جلّ شأنه، بل أنّ العبادات كلّها ليست إلا طرقا شرعية لتزكية النفس و ترقيتها حتّى يتأهّل العبد للإفاضة عليه منه تعالى، و تحصل اللياقة له للتقرّب بساحته جلّ شأنه، بنبذ الجهات الإمكانية، فإنّ الفطرة قابلة للترقي في عالم الشهادة أو في غيره، إن لم تمنعه الموانع فلا بد في

ص: 367

الإفاضة من الأهليّة، و إن اختلفت شدة و ضعفا لقاعدة التناسب التي أثبتها المتألّهون من الفلاسفة، و تدلّ عليها آيات شريفة يأتي التعرّض لها إن شاء اللّه تعالى و روايات كثيرة.

و للإفاضة مراتب غير متناهية لا يمكن تحديدها؛ لأنّ الذات المفاض منها غير متناهية، و كذا صفاتها التي منها الإفاضة، قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف، الآية: 109]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 27]، و كذا تختلف لياقة المفاض عليه حسب إيمانه أو دركه، أنّ الذوات تختلف - لا على سبيل سلب الاختيار عنه - و غير ذلك.

و لا تختصّ الإفاضة بعالم دون آخر، فهي تكون في جميع العوالم، عالم الشهادة، و عالم البرزخ، و عالم القيامة. و إن ناقش بعضهم في الإفاضة في عالم البرزخ، و لكنّها غير صحيحة، لما يأتي في محلّه.

بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة؛ لأنّ التنعّم في الجنّة عناية و لطف و إفاضة منه تعالى، فلا يمكن تحديده لا كما و لا كيفا و لا زمانا لما تقدّم، فيتحقّق الخلود لا محالة، كما أنّ بعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل، و الفاصل بينهم و بين المتّقين و التباعد بين المؤمنين و الكافرين، نعمة و لطف و عناية للمؤمنين، فلا بد و أن تكون غير محدودة أيضا، فيتحقّق الخلود في النّار و إن كان دخول أصل النّار من باب الجزاء، قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [سورة الأعراف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 50].

ص: 368

بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة؛ لأنّ التنعّم في الجنّة عناية و لطف و إفاضة منه تعالى، فلا يمكن تحديده لا كما و لا كيفا و لا زمانا لما تقدّم، فيتحقّق الخلود لا محالة، كما أنّ بعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل، و الفاصل بينهم و بين المتّقين و التباعد بين المؤمنين و الكافرين، نعمة و لطف و عناية للمؤمنين، فلا بد و أن تكون غير محدودة أيضا، فيتحقّق الخلود في النّار و إن كان دخول أصل النّار من باب الجزاء، قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [سورة الأعراف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 50].

و الإفاضة تارة عامّة، كالرزق و الخلق و غيرهما.

و اخرى: خاصّة، و هي ما يفاض على الإنسان لأجل إيمانه و أعماله الصالحة حسب الشرع، و لكلّ منهما مراتب، كما مرّ.

و ثالثة: أخصّ ، و هي تخصّ الأولياء و الأنبياء حسب درجاتهم،

فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أبيت عند ربيّ فيطمعني ربيّ و يسقني».

و من أهمّ أسباب الإفاضة و التقرّب إلى اللّه تعالى الأذكار الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، المنتهية إلى الوحي من السماء، و هي كثيرة مذكورة في محلّها، و أهمّها الاستغفار الموجب لمحو الذنوب و رفع الدرجات، بل

قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: إنّه من خير العبادة،

ففي الكافي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الاستغفار و قول لا إله إلاّ اللّه، خير العبادة، و قال اللّه العزيز الجبّار: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ »؛ و لذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يواظب عليه،

فعن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يقوم من مجلس و إن خفّ حتّى يستغفر اللّه خمسا و عشرين مرّة».

و له آثار معنويّة، منها صفاء النفس،

فعن مولانا الصادق عليه السّلام: «انّ للقلوب صدأ كصدأ النحاس، فاجلوها بالاستغفار»،

و عنه عليه السّلام أيضا: «إذا أكثر العبد من الاستغفار، رفعت صحيفته و هي تتلألأ».

و آثار خارجيّة، كما عن بعض مشايخنا في العرفان، و تدلّ عليه روايات كثيرة،

فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كثرت همومه فعليه بالاستغفار»،

و عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر من الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا، و من كلّ ضيق مخرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب».

و الاستغفار كسائر الأذكار الشريفة على أقسام فتارة: باللسان فقط.

ص: 369

و اخرى: بالقلب.

و ثالثة: بهما.

و الأخير من أجلّ المقامات، و به يحصل بعض المكاشفات حسب مراتب التوجّه و التأهّل.

و لعلّ تأكيد الآية المباركة باستغفار الرسول لهم إنّما لأجل حصول الاستعداد و الأهليّة بسبب الاستغفار و الرجوع إليه تعالى بنبذ النفاق حتّى يفيض عليهم ما يوجب كمالهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة.

ص: 370

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْه.......

اشارة

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) بعد ما بيّن عزّ و جلّ الإيمان الصحيح و عرّف المؤمنين المحكّ الحقيقيّ له، ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة بعض الأمور التطبيقيّة لذلك، اختبارا للمؤمنين لإعلامهم مقدار تأثّرهم بتلك التوجيهات الكريمة، فاستنهضهم بقبول حكم اللّه تعالى، فأمرهم بالقتال و الهجرة من الديار، أو فعل ما يوعظون به، و أخبرهم بأنّ تلك الأحكام إنّما نزلت لصلاحهم و سعادتهم و هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الكمال المنشود، و يبيّن عزّ و جلّ أنّ من يدخل في طاعة اللّه عزّ و جلّ و يقبل أحكامه و ينفذها قليل، فلا بد من الجهاد و الصبر و المثابرة و قبول مواعظه عزّ و جلّ التي لها الأثر الكبير في ترويض النفوس و تهذيبها للدخول في طاعته.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ سياق الكلام و إن كان مع المنافقين، و لكن يمكن تعميمه لجميع المكلّفين اختبارا لإيمانهم، و الكتابة هي الفرض و الوجوب، أي: و لو أنّا فرضنا عليهم قتل أنفسهم بتعريضها للجهاد و القتال مع أعداء اللّه تعالى أو الخروج من أوطانهم و ديارهم المألوفة و الهجرة في سبيل اللّه تعالى، و الغرض من فرض هذين الحكمين اختبارهم لإظهار طاعتهم و انقيادهم لحكم اللّه تعالى و رضائهم به و التسليم لأمره عزّ و جلّ في جميع الأحوال، و لعلّه لأجل ذلك تصدّرت الآية الشريفة

ص: 371

بكلمة «لو» الدالّة على الامتناع، فلم يكتب عليهم ذلك، فتكون هذه الآية من موارد تطبيق الآية السابقة.

و إنّما خصّ هذين الحكمين بالذكر لما فيهما من المشقّة و الحرج الشديدين بالنسبة إلى الإنسان، فإنّ الإنسان لشديد الحبّ للنفس و الديار، و يكره فراق الأحبّة و هجران الأخلّة.

قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ قرئ «قليلا» على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا قليلا.

أي: لم يطع منهم إلا القليل؛ لأنّ فرض الحكمين إنّما كان لإظهاره قوة إيمانهم و ثبات عزيمتهم و مقدار تقبّلهم لأحكام اللّه تعالى و الطاعة له عزّ و جلّ ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، و هم أصحاب العزائم القويّة الذين آثروا رضا اللّه تعالى على رضى النفس و حبّها.

و الآية المباركة تخبر عن امتناعهم عن امتثال الأحكام و التكاليف الحرجيّة و التوبيخ لهم.

و الاستثناء - بناء على التعميم لجميع المكلّفين واضح لا لبس فيه، و هو استثناء متصل. و أما بناء على اختصاص الخطاب بالمنافقين فالاستثناء غير متصوّر، إذ المنافق لا تطيب نفسه لما دون القتل، فكيف به و بالخروج من الديار.

لكن يمكن أن يقال إنّ الاستثناء إنّما هو لدفع توهّم استغراق الحكم و استيعابه للجميع، فإنّ منهم المؤمنين حقّا، المخلصين الذين سلّموا أمرهم إلى اللّه تعالى، فلا يشملهم الحكم المزبور و إنّما دخلوا فيهم تبعا.

بل يمكن أن يقال إنّ الأمر و التكليف اختباري، و إنّه في مقام امتحان المؤمنين و اختبارهم عن إيمانهم و طاعتهم و ثباتهم، فلا فرق حينئذ بين أن يكون الاستثناء متصلا أو منفصلا، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 46] ما يتعلّق بالمقام.

ص: 372

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: و لو أنّهم فعلوا تلك التكاليف لكان خيرا لهم في جميع شؤونهم و أحوالهم في الدنيا و الآخرة.

و في تبديل الكتابة ما يُوعَظُونَ بِهِ لبيان أنّ تلك الأحكام إنّما هي إرشاد لصلاحهم و سعادتهم، فإنّ التكاليف الإلهيّة مواعظ و نصائح يراد لهم منها الخير و الصلاح، فتدلّ على أنّ الحكمين المذكورين في الآية السابقة اختبارهم.

قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً التثبيت: التقوية، و ذلك بجعل الشيء ثابتا و راسخا، أي: و أشدّ تثبيتا لإيمانهم و قلوبهم على طاعة اللّه، و الآية المباركة تدلّ على أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة و تطبيقها لهما الأثر الكبير في تقوية الإيمان، بل هي العلّة التامّة في رسوخه في النفس، فإنّ العمل بالأحكام يزيد العامل قوة و إحكاما على ترسيخ الملكات الفاضلة و الأخلاق الحسنة في النفس، فتقوم بالتكليف بأحسن وجه لا تخاف الضلال و الغواية.

قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً إذن حرف جواب و جزاء، أي: حين ما ثبتوا على الإيمان و قويت فيهم عرى الحقّ و الصواب لاعطيناهم أجرا عظيما لا يعرف أحد مداه و لا يبلغ منتهاه، و سيأتي في الآيات التالية بيان بعض ذلك الأجر العظيم.

قوله تعالى: وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: لهديناهم لسلوك الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى المراتب العالية في القرب، و قد تقدّم في سورة الفاتحة معنى الصراط المستقيم.

و هذه الهداية أجلّ و أعظم من الأجر المتقدّم، كما قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [سورة محمد، الآية: 17]، و الاختلاف في الأجر و الجزاء لاختلاف درجات الإيمان، فبعضهم ينعم عليهم الخير، و آخرون الثبات و العزيمة، و ثالثهم الهداية إلى الصراط المستقيم.

ص: 373

بحوث المقام

بحث أدبي:

«قليل» في قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ بدل من الضمير المرفوع في «فعلوه»؛ لأنّ الكلام غير موجب. و أمّا الضمير المنصوب في «فعلوه» راجع إلى أحد الأمرين من القتل و الخروج؛ لأنّ العطف ب (او) يستلزم ذلك، أو يرجع إلى المكتوب الشامل لهما.

و قرئ بالنصب «الا قليلا» إما على أصل الاستثناء، و إما على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا فعلا قليلا.

و أشكل على هذا الوجه بأمور مذكورة في كتب النحو، من شاء فليرجع إليها.

و إذا في قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مقحمة و جواب لسؤال مقدّر، و قد اختلف العلماء في أنّها لمعنيين في حال واحدة، أي: الجواب و الجزاء في كلّ حال، أو أنّها قد تأتي لمعنى واحد كالجواب، و قد تأتي لمعنيين الجواب و الجزاء، و هي مسألة يبحث عنها في علم النحو.

و اختلف القرّاء في (ان) و (او) في قوله تعالى: أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا فقرئ بكسر نون (ان) و ضمّ واو (أو)، و قرأ بعضهم بكسرهما و آخرون بضمّهما، فأما الكسر فللتخلص من التقاء الساكنين، و أما الضمّ فاجراؤهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل التي تنتقل حركة ما بعدها إليها.

ص: 374

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: إنّما جمع عزّ و جلّ بين القتل و الخروج من الدار و الجلاء عن الوطن في ما فرضه تعالى عليهم؛ لأنّهما أشدّ شيء على الإنسان، و لأهمية الوطن عنده، و لأنّ الجسم مستقرّ الروح كما أنّ الوطن دار الجسم و البدن.

و كيف كان، فتدلّ الآية الشريفة على أهمية الهجرة في سبيل اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أنّ الأحكام الإلهيّة و التكاليف الربانيّة إنّما هي مواعظ تصلح النفوس المريضة، و تهدي المكلّفين إلى ما فيه الصلاح و السعادة، و لعلّ هذه الآية الشريفة تبيّن المراد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ، فالإعراض عنهم كان حكما أدبيا و خلقا رفيعا اتصف به نبيّ الرحمة، ثم الوعظ بإنزال التكاليف و الأحكام لتهذيب النفوس و هدايتها إلى الصلاح و السعادة، و القول البليغ هو الوعد و الوعيد اللذين وردا في هذه الآية الكريمة و الآية التالية.

الثالث: لعلّ ما ورد من تعدّد الجزاء و اختلافه، و هو الخير و الثبات و الأجر العظيم و الهداية، إنّما هو لأجل اختلاف درجات الإيمان التي وردت في الآية السابقة من التحكيم، و الرضا بالحكم، و التسليم الكامل و لما كان التسليم من أعلى تلك الدرجات، كان الجزاء أيضا عظيما، و هو الأجر العظيم و الهداية إلى الصراط المستقيم.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً على أنّ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة لها الأثر الكبير في تثبيت النفوس على الإيمان و رفع الشكوك و الأوهام و تزكية القلوب و ترويضها على مكارم الأخلاق، و رفع كلّ ما يوجب البعد عن اللّه تعالى.

ص: 375

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً أنّ الأحكام الإلهيّة هي الثابتة، و أما غيرها من القوانين الوضعيّة فليست لها ثبات، و إنّما هي تختصّ بزمان معين لا دوام لها.

بحث روائي

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: «عبد اللّه بن مسعود و عمّار بن ياسر، يعني من أولئك القليل».

أقول: الرواية من باب التطبيق.

و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ و سلّموا للإمام تسليما، أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ رضا له، ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ و لو أنّ أهل الخلاف فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت و يسلّموا للّه الطاعة تسليما».

أقول: المراد من الإمام المعصوم الذي وجب طاعته، سواء كان نبيّا أو إماما، و الرواية من باب التطبيق، و هناك روايات اخرى واردة عن أئمة الهدى عليهم السّلام، تدلّ على أنّ الآية المباركة نزلت في حقّ علي عليه السّلام هكذا:

«و لو أنّهم فعلوا ما يوعظون به في علي عليه السّلام لكان خيرا لهم»، و لكنّها من باب التفسير و التطبيق لأجلى المصاديق.

و الحمد للّه ربّ العالمين، و له الشكر على ما أنعم.

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.