مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ ن.......

اشارة

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) بعد ما سرد عز و جل جملة من قصص عيسى (عليه السلام) و ذكر ان مولده و ان كان على غرابة لكنه كان امرا عاديا بالنسبة إلى قدرة الخالق و مشيئته كما في خلق آدم (عليه السلام) و منحه النبوة و الكتاب و اقام الحجة عليه بما لا يدع مجالا الى الشك و الارتياب بأن عيسى عبد اللّه فلا مبرر لتأليهه و عبادته.

ما ذكره سبحانه و تعالى حق لا يرتاب فيه احد لأنه بيان الهي اشتمل على برهان قويم يقبله العقل السليم و يسطع نوره على كل القلوب فيدفع عنها الزيغ و الضلال و يستشعر السامع برد العلم و اليقين في قلبه فكانت تلك البيانات الإلهية قد أوجدت عند السامعين قوة الاحتجاج مع كل خصم بما لا يدع مجالا للارتياب.

امر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه

ص: 5

و آله) و غيره ممن حصلت له قوة الاحتجاج و الكلمة الحاسمة الفاصلة بين الحق و الباطل و أحسّ ببرد اليقين في قلبه بالمباهلة - في دفع عناد المعاندين و إزهاق الدعاوى الباطلة غير المنصفة - قطعا للمعاذير و حسما لكل إصرار على الغي و الضلال، و ارشدهم إلى كيفية الاحتجاج و وعدهم النصر و الغلبة باذنه عز و جل.

و المباهلة من الأنبياء اظهار لاتصال نفوسهم القدسية بروح القدس و بيان لتأييداته تعالى لهم، و ارشاد الى انفعال عالم الشهادة و تأثره بعالم الغيب.

و المباهلة لا تصدر الا من النفوس الملكوتيّة و لذا كان لها التأثير الكبير على النفوس غير الكاملة و انفعالها بها كما انفعلت نفوس النصارى من نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فتنازلوا عنها بعد قبولها لما استشعرت أنفسهم الخوف، و احجمت عنها و طلبت الموادعة و المعاهدة خوفا من اللعنة و ما يلحقهم من الوزر و الوبال كما نصحهم رهبانهم في ذلك الحين.

التفسير

قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ .

تفريع على ما تقدم من بيان الحق في عيسى (عليه السلام) و الضمير في «فيه» يرجع إما الى عيسى (عليه السلام) الذي بين سبحانه و تعالى الأمر فيه بيانا شافيا بما لا يدع فيه الشك و الارتياب و قد اشتمل على البراهين الساطعة و الحجج القويمة. أو الى «الحق» المذكور في الآية السابقة الذي هو اقرب لفظا و يكون عبارة اخرى عن بيان اصل قصة عيسى (عليه السلام).

و المحاجة تبادل الاحتجاج و هي تستعمل في الحق و غيره كما حصلت

ص: 6

في المقام من النصارى في عيسى بن مريم (عليه السلام) زاعمين انه إله أو ابن اللّه باعتبار انه ولد من غير أب كما حكى اللّه تعالى عنهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال عز و جل: «وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ» التوبة - 20 و قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ» * المائدة - 72، و قال تعالى: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ» المائدة - 116.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ .

تطييب لنفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بانه على العلم المطابق للواقع و الحق اليقين، و وعد منه عز و جل بأنه ناصره و انه لا يخذله في المواطن، و ارشاد الى ان ما عنده من العلم هو الحق الذي لا ارتياب فيه و يقبله العقل السليم، فلا ينبغي التردد في المحاجة و المجادلة على الحق.

و المراد من العلم الأعم الحاصل من البرهان عن طريق الحس أو عن طريق العقل أو الوحي الالهي فان الجميع يتفق على ان المخلوق الممكن المربوب لا يمكن ان يكون إلها و ربا. و ان اللّه واحد لا شريك له و انه لم يلد و لم يولد.

قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ .

تعال: فعل امر يدل على طلب الإقبال من مكان مرتفع ثم استعمل في مطلق طلب المجيء توسعا اي: اقبلوا بثبات و عزيمة.

و الخطاب للرسول (صلى اللّه عليه و آله) بالمحاجة لقطع كل عذر، و دفعا لكل ضلالة، و حسما لكل فساد. و التباهل الى اللّه عز و جل لمعرفة المحق من المبطل، و هو امر لا بد منه لحفظ الحق عن الضياع، و إتماما للحجة على العباد و صونا للمؤمن و مقامه في الحياة.

ص: 7

و الحاق الخزي و العار و الهلاك للمبطل و من هو على الغي و الضلال.

و المخاطب في «ندع» هو المتكلم مع الطرف الآخر ممن يراد المحاجة معه و هو في المقام النصارى اي: يدعو كل منا و منكم ابنائه و نساءه و نفسه.

و المباهلة و ان كانت بين الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و بين النصارى و لكن عممت ليشمل من ذكر في الآية الشريفة من الأبناء و النساء و الأنفس لأمور كثيرة أهمها:

أولا: ان للاجتماع خصوصية في الظفر على المطلوب و النيل بالمحبوب ليست هي في غيره و ان دعاء الجمع أقرب الى الاستجابة و لذا أمرنا اللّه تعالى في غالب الآيات المباركة الى الجمع في الدعاء قال تعالى: «وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» الأعراف - 180 و في السنة الشريفة الشيء الكثير قال (صلى اللّه عليه و آله): «يد اللّه مع الجماعة».

و ثانيا: الأعلام بأن الحق إظهاره أعظم من كل ما يرتبط بالإنسان و انه لا غاية اشرف منه و ان كل شيء هو دونه سواء كان النفس و الشرف و الأهل.

فالآية الشريفة ترشد الإنسان الى انه لا بد ان يكون سعيه و مقصده هو احقاق الحق و إظهاره و ان لا يثبطه في ذلك الأهل و العشيرة و الشرف بل يفدي كل ذلك دونه.

و ثالثا: بيان ان مورد المباهلة من الأمور النوعية و الاجتماعية فلا بد من الاجتماع فيه لإتمام الحجة و إيضاح المحجة.

و رابعا: اعتماد الداعي و الأعلام بانه على الحق و انه يقدم الأبناء و النساء و الأنفس للمباهلة و يخاطر بهم في العذاب و يشركهم في الدعاء على الكاذبين لينقطع دابرهم و يبطل مزاعم المبطلين و يظهر إبطالهم.

ص: 8

و خامسا: الأعلام بأن الداعي مطمئن باستجابة الدعاء و صدق دعواه و يقدم من هو اقرب الناس اليه و يذب عنهم في الشدائد و الأهوال و يظهر الشفقة عليهم و المحبة بهم و يتحمل الصعاب دونهم و مع ذلك فهو يخاطر بهم في شمول العذاب لهم و ليس ذلك الا لكون الداعي على يقين باستجابة دعائه.

و سادسا: الإشارة الى انهم على عظيم من الشرف و الكمال و انهم اقرب الناس الى الرسول العظيم (صلى اللّه عليه و آله) و ان دعاؤهم لا يرد و لهم منزلة عظيمة عند اللّه تبارك و تعالى و لذا أمر سبحانه و تعالى رسوله باشراكهم في الدعاء و المباهلة معهم.

و سابعا: الأعلام بأن المباهلة و ان كانت محاجة بين طرفين إلا انه لا بد ان تكون باشراف من اللّه تعالى على الجميع و لا يعقل ان تكون الرعاية الإلهية لكل فرد في هذا الأمر العظيم، و تشمل كل من لا يكون مرضيا لديه عز و جل.

و المراد من الأبناء هم أولاد الرسول (صلى اللّه عليه و آله) الذكور المنحصرون في الحسن و الحسين (عليهما السلام) حين نزول الآية الشريفة.

و الآية المباركة ليست في مقام تكثير الإفراد في الأبناء و النساء و الأنفس و انه لا بد من تحقق ذلك الجمع خارجا كما هو الشائع بين الناس، بل هي ظاهرة في مقابلة الجمع بالجمع سواء كان كل جمع مشتملا على الكثرة أولا، مع انه من مجرد الإنشاء و الأمر بالمباهلة و هما لا يستلزمان كون المصداق الخارجي ايضا متحققا في الجمع و الكثرة بل المقصود هو الحكم و الإنشاء و الأمر فقط سواء كان مصداقه واحدا أو متعددا و مثل هذا كثير في الاستعمالات القرآنية و غيرها قال تعالى:

ص: 9

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ» البقرة - 219 و قال تعالى:

«اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» آل عمران - 173.

و بعبارة اخرى: مصداق النزول و التنزيل لا يكون مقيدا لأصل الحكم و هذا ظاهر.

يضاف الى ذلك ان إتيان لفظ الجمع من الأدب المحاوري الذي يلاحظه القرآن الكريم و هو دائر في المحاورات الفصيحة.

قوله تعالى: وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ .

النساء جمع لا واحد له من لفظه و مفردة المرأة، و لفظ النساء يشمل المرأة التي تنسب الى الشخص بسبب أو نسب كالزوجة و الام و الاخت و البنت و قد ورد استعماله في جميع تلك الموارد في القرآن الكريم قال تعالى: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ» البقرة - 223 و قال تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ» النساء - 11 و المراد بهن الأخوات و قال تعالى: «وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ» النساء - 7 و المراد بهن البنات و المتقين منهن في المباهلة فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها) بالإجماع و نصوص متواترة كما سيأتي نقلها.

قوله تعالى: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ .

الأنفس جمع النفس و هي تطلق تارة و يراد بها الروح قال تعالى:

«وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» الانعام - 93 و اخرى: يراد بها الذات و الشخص و هو المراد بها في المقام، و تقدم في قوله تعالى: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ» آل عمران - 28 بعض الكلام.

و المقصود بها نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) القائم بالدعوة

ص: 10

إلى اللّه تعالى و من هو بمنزلته في العلم و العمل و القضاء بالحق و هو منحصر في علي (عليه السلام) نصوصا و اجماعا.

و قيل: انه لا يمكن دخول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في الآية الشريفة لان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو و لا يصح دعوة الشخص نفسه.

و يرد عليه: انه لم يقم دليل على بطلان دعوة الشخص نفسه بل الأمر يدور مدار الغرض الصحيح، و قد ورد في الفصيح ذلك يقال:

آليت على نفسي ان لا افعل كذا و نحو ذلك مما هو كثير. مضافا الى ان دخول النبي (صلى اللّه عليه و آله) الذي له مقام الجمع في الجمع و بمنزلة الكل ينفي أصل هذا الأشكال.

على ان دخول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) انما هو لأجل اثبات منزلة علي (عليه السلام) و الأعلام بأن وجوده (عليه السلام) بمنزلة وجوده (صلى اللّه عليه و آله) في العلم و العمل و الخصال الحميدة.

و في إتيان النساء و الأنفس جمعا ما تقدم ذكره من ان المراد هو وقوع هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى: ثُمَّ نَبْتَهِلْ .

مادة (بهل) تدل على شدة الاجتهاد و الاسترسال في الأمر المطلوب قال لبيد:

في قروم سادة من قومه *** نظر الدهر إليهم فابتهل

اي فاجتهد في إهلاكهم. و قد استعمل في الاجتهاد في الدعاء سواء كان لعنا أو غيره، و نبتهل افتعال بمعنى المفاعلة اي يدعو بعضنا على بعض، و يختص هذا الدعاء في المقام باللعنة بقرينة ما يأتي.

ص: 11

قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ .

بيان للابتهال. و المراد من اللعنة النكال و العذاب مطلقا و منه البعد عن رحمته تعالى و توفيقاته، كما ان المراد بالكاذبين هم الذين كذبوا و افتعلوا الباطل في شأن عيسى (عليه السلام) فيكون اللام للعهد اي: الكاذبين من احد طرفي المباهلة الواقعة بين الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و بين النصارى و يستفاد من ذلك ان احد الطرفين كان كاذبا و الآخر كان صادقا، و قد ذكرنا ان الآية الشريفة تجعل هذا الجمع مقابل الجمع فتكون الإفراد في كل طرف شركاء في الدعوى فلو كان أحد الجمعين كاذبا كان الإفراد يشتركون فيه و يلزمه اشتراك الإفراد في الجمع الآخر في الصدق، و في ذلك فضل عظيم لمن اشترك في دعوة الرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و في إتيان الكاذبين جمعا الدلالة على ان في كل طرف افرادا متصفين بالدعوى سواء كانت صادقة أم كاذبة و هذا بخلاف ما ذكرنا في الأبناء و النساء و الأنفس حيث انه لا يعتبر تعددا في كل عنوان، إذ المنساق هو جعل هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ .

إشارة إلى ما قصه اللّه تعالى في امر عيسى (عليه السلام) من ولادته إلى حين رفعه من عالم الأرض، و القصص جمع القصة و هي مجموعة من المعاني يتابع بعضها بعضا من يقص فلان اثره اي يتبع اثره و منه قوله تعالى: «وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» القصص - 11 و قال تعالى: «فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» الكهف - 64.

و في تأكيد الجملة ب إن و اللام و ضمير المنفصل دلالة على ان هذا

ص: 12

هو الحق فقط دون غيره مما تدعيه النصارى في عيسى بن مريم (عليه السلام) الذي هو خلاف الحق، و تطييب لنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و اعلامه بانه على الحق و اليقين و تشجيعه على المباهلة و المحاجة مع المبطلين.

قوله تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ .

حصر الألوهية في اللّه تبارك و تعالى، و ابطال لما ادعاه النصارى من التثليث و الحلول في عيسى ابن مريم (عليهما السلام). و الجملة كالنتيجة للآيات الشريفة المتقدمة.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

تطييب لنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بانه عز و جل ناصره و انه لا يخذله في نصرة الحق فهو الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في أفعاله و تقديره و تدبيره في خلقه فليس احد يضاهيه في عزته و حكمته و لا يساويه في ألوهيته و جميع ما سواه مخلوق و مربوب له فما قاله الخصماء اوهام باطلة.

و الجملة تفيد قصر الألوهية في اللّه عز و جل و تنفي ما سواه مما يدعيه المشركون، فالآيتان تفيدان القصر و الحصر و ان أحدهما تفيد توحيد الذات و تنفي الشرك في العبودية و في مقام الذات. و الثانية تفيد توحيد الأفعال، و تنفي التشريك في الفعل.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ .

اي: فان تولوا عن اظهار الحق و الاعتقاد به فان اللّه تعالى عليم بفسادهم و يقضي بالحق و هو الذي يجزيهم جزاء التولي عن الحق.

و لما كانت المباهلة طريقا لإظهار الحق و ابطال الباطل فيكون التولي

ص: 13

عنها توليا عن الحق و إظهاره و اعراضا عن السعادة و يكون البقاء على اهوائهم الباطلة و افكارهم المزيفة فسادا و اللّه عليم بأنهم مفسدون لا يريدون الا الفساد و الشقاء، و لا فساد أعظم من البقاء على الباطل و ترويجه و إفساد عقائد الناس و اضلالهم و الاعراض عن التوحيد و الحق و ليس ذلك إلا إفسادا للفطرة و جلب الشقاء للناس و ان اللّه تعالى عليم يجزيهم جزاؤهم الذي يستحقونه.

و يستفاد من قوله تعالى: «عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» ان اللّه تبارك و تعالى عليم بأنهم يعرضون عن المباهلة لان الفساد استولى عليهم فلا يذعنون للحق، و قد تحقق ذلك منهم و صدق ما أخبره اللّه تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي:تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ» ان ما اوحي إلى الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) هو العلم المطابق للواقع الذي يلزم قبوله و ان غيره من مجرد الظن و هو لا يغنى من الحق شيئا.

و يستفاد منه أيضا ان ما مع الرسول الكريم يشتمل على البرهان الساطع الذي لا يشك فيه احد، و لعل ارتداع النصارى عن المباهلة لأجل اقتناعهم بذلك.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ» ان

ص: 14

الذي جاء مع الرسول (صلى اللّه عليه و آله) هو الحق المطابق للعقل السليم الذي يتقبله كل فرد فلا فرق حينئذ بين ان يكون مع الرسول أو مع غيره.

و بعبارة اخرى: ان المورد لا يكون مورد تعبد شرعي مختص به فان ما انزل اللّه تعالى عليه هو من الاحكام المستقلة العقلية التي يقبله الطبع المستقيم فيكون مع كل احد و ان الرسول الكريم هو واسطة الفيض.

الثالث:

ذكرنا ان إتيان هيئة الجمع في قوله تعالى: «أَبْناءَنا - و نِساءَنا - و أَنْفُسَنا» لا تدل على لزوم تعدد الإفراد في كل عنوان من العناوين الواردة في الآية الشريفة بل المقصود هو جعل هذا الجمع مقابل ذلك الجمع و ان القضية ليست من قبيل القضايا الخارجية التي يطلب فيها وجود الإفراد و تعددها بل هي من قبيل القضايا الحقيقية سواء تعددت الإفراد أولا و قد ذكرنا الوجه في إدراج الأبناء و النساء مع شخص الرسول الأمين (صلى اللّه عليه و آله) مع ان المباهلة انما كانت بينه و بين النصارى.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ» على ان اللعنة موجودة و مقررة و امر مفروغ عنه لان بها يمتاز الحق عن الباطل و لذا كانت دعوة طلبها غير مردودة فالتعبير ب (نجعل) كان ادل على المطلوب من غيره.

الخامس:

تدل آية المباهلة على الفضل العظيم و المنزلة الكبرى، و المنقبة العظمى لأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) من وجوه عديدة:

منها: اختصاصهم باسم النفس و النساء و الأبناء للرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) دون سائر الامة رجالا و نساء و أبناء.

ص: 15

و منها: دلالة الآية الشريفة على ان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) شركاء معه في الدعوة و الدعاء و الصدق مقابل الطرف الآخر الذين وصفوا بالكذب كما عرفت في التفسير.

و منها: ان الدعوى لما كانت مختصة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و قائمة به و قد عرض نفسه الأقدس للبلاء و اللعن و الطرد و العذاب على تقدير الكذب و لا يتعدى إلى غيره لو لم يكن معه شخص و لكن إتيانه (صلى اللّه عليه و آله) بمن كان معه يدل على انهم في المنزلة كنفسه الشريفة و انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بمن أتى بهم، و غير ذلك من الوجوه المستفادة من لحن الآية الشريفة و سياقها الدالين على فضل اهل البيت و منزلتهم.

و نوقش في الاستدلال على ذلك بوجوه:

الاول: ان إحضار الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بمن أحضرهم انما كان على سبيل الا نموذج لان جميع الامة من غير اختصاص بأحد تعتقد بأن اللّه واحد لا شريك له و ان عيسى بن مريم (عليه السلام) عبده و رسوله في مقابل النصارى الذين يعتقدون بخلاف ذلك فكانت المقابلة بين دعويين بلا فرق بين رجال كل طرف و أبنائهم و نسائهم فان الجميع في ذلك سواء، فلا يكون لمن أحضره الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فضل على غيره.

و فيه: أولا: ان الأمر لو كان كذلك لكان في إحضار رجل واحد أو امرأة واحدة أو غيرهما الكفاية، و لم يحتج الى إحضار رجل و امرأة و ابنين إلا لأن فيهم سرا الهيا لم يكن في غيرهم.

و ثانيا: ان الدعوة في عيسى بن مريم كانت قائمة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) كما يستفاد من الآيات السابقة و أما سائر الامة

ص: 16

الذين اتبعوه فلم يكن للنصارى الذين وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بهم ارتباط و نسبة فيكون إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته ليس الا انهم كانوا مشتركين في الدعوة و الدعاء.

الثاني: ان الآية المباركة لا تدل على اكثر من ان إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته في المباهلة كان لأجل وثوقه بالسلامة و العافية و استجابة دعائه و اما انهم كانوا شركاء في الدعوة و غيرها فهي بمعزل عن ذلك.

و فيه: ان الآية الشريفة بمجموعها - كما عرفت - تدل على ان كل طرف من طرفي الدعوة في المباهلة شركاء في الدعوة و هي إما صادقة أو كاذبة و لذا احجمت صاحبة الدعوة الكاذبة عن المباهلة لما علمت صدق الطرف الآخر.

الثالث: ان الأمر لو كان كذلك - و كانت الآية المباركة تدل على فضلهم و كرامتهم - لاشتركوا مع الرسول في النبوة لان الدعوة التي كانت مختصة به انما كانت كذلك لان اللّه اوحى اليه.

و فيه ان الاشتراك في الدعوة لا يستلزم اشتراكهم في النبوة فإنها غير الدعوة بل هي من شئونها و لوازمها.

الرابع: ان الآية الشريفة تأمر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) ان يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من اهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا و يبتهلوا إلى اللّه تعالى بأن يلعن الكاذب، و لا تدل الآية الشريفة على اجتماع الفريقين في مكان واحد بحيث يشتمل على النساء و الأولاد و الأنفس مع ان الآية المباركة نزلت في النصارى و لم يكن معهم نساؤهم و لا أولادهم.

ص: 17

و فيه: ان ما ذكر خلاف ظاهر الآية الشريفة فإنها تدل على دعوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى اجتماع المتخاصمين و المجادلين من الفريقين إلى المباهلة مع الأولاد و النساء و الأنفس فكأنه قد جمع اهل بيته مع وفد النصارى الموجودين حين الابتهال و اما ان النصارى لم يكن معهم الأولاد و النساء فهذا مطلب آخر و قد ذكرنا ان المفهوم من الآية المباركة شيء و المصداق شيء و الخلط بينهما أوجب الالتباس.

السادس:

ذكرنا ان الآيات الشريفة و الاستعمال الفصيح يدلان على صحة استعمال النساء في البنات، و لكن استبعد بعض المفسرين ذلك و ذكر في معرض كلامه: «ان كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج و لا يفهم هذا من لغتهم».

و المناقشة في ما ذكره واضحة بعد الاحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة و الشواهد القرآنية و الشعر العربي الفصيح تدلان على صحة استعمال الكلمة في البنات و لم يستشكل احد من فرسان البلاغة و الفصاحة على القرآن الكريم في استعماله هذا لا سيما إذا كان قصد المتكلم الاحتشام من التصريح بابنته، مع ان الروايات الكثيرة المتواترة التي تدل على ان المراد من النساء ابنته (صلى اللّه عليه و آله) فاطمة الزهراء (عليه السلام) كافية في رده. و أحسب ان الأمر أوضح من ان يخفى إلا ان يراد عدم صحة استعمال الجمع في الواحد. و لكنه مردود بما ذكرناه من ان الآية المباركة تدل على استعمال الجمع مقابل الجمع من دون النظر إلى الإفراد. و الاشتباه انما حصل من خلط المفهوم بالمصداق.

السابع:

انما ذكر سبحانه و تعالى النساء مع ان بناء القرآن على الكناية عنهن و التحفظ عليهن مهما أمكن لأمور:

ص: 18

منها: الأعلام باشتراك النساء في امور الدين اصولا و فروعا إلا ما خرج بالدليل.

و منها: الاهتمام بالدين و الاعتناء بشريعة سيد المرسلين (صلى اللّه عليه و آله).

و منها: جعلهن في سياق المتدينين بتعلمهن الأعمال الصالحة و تلبسهن بالمعارف الحقة. و غير ذلك من المصالح.

الثامن:

انما أخر سبحانه و تعالى «أنفسنا» و ذكرها بعد تفدية الأبناء و النساء لبيان اهمية المباهلة و التفدية للّه جلت عظمته لإثبات الحق و إظهاره بتفدية جميع العلائق حتى علاقة الأهل.

التاسع:

ان كلمة «أنفسنا» تدل على شمولها لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) تنزيلا له منزلة نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا لأجل ان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو كما ذكره بعض المفسرين بل لان وجود علي (عليه السلام) في الأثر و المزايا و الفضيلة و الصفات بمنزلة وجود رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا سيما إذا كان التنزيل بأمر من اللّه تعالى و لم يوجد احد غير علي (عليه السلام) يكون واجدا لتلك المزايا التي تؤهله لهذه المنحة الإلهية و يكون كنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لا يمكن ان يكون احد نفس شخص آخر إلا إذا كان مشتملا على مزايا كبيرة يكون ثانيا في مزاياه أو الوجود المكرر له في الخصال و نحوها.

و يستفاد من الآية المباركة المنزلة الجليلة و المنقبة العظمى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، و هذا ما يستفاد من سيرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى علي (عليه السلام) في مواطن كثيرة تكون مبنية لمعنى «أنفسنا» في هذه الآية المباركة و مع ذلك

ص: 19

فقد أشكل على دلالة الآية الشريفة بوجوه:

الاول: ان المراد بالأنفس في الآية المباركة من يتصل بالقرابة و القومية و استشهد لذلك بقوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» البقرة - 54 و قوله تعالى: «وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» البقرة - 84 و قوله تعالى: «هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» البقرة - 85.

و فيه: ان اطلاق الأنفس باعتبار رابطة القرابة و القومية صحيح و لا بأس به و لكن هذا الاستعمال في الآية الشريفة بعيد فان جعل الأنفس مقابل الأقرباء مثل النساء و الأبناء لا يراد منها إلا المعنى الحقيقي الواقعي و الادعائي التنزيلي و نظير ذلك في القرآن كثير قال تعالى: «اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ» * الشورى - 45 و قال تعالى:

«قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» التحريم - 6.

الثاني: إن المراد من النفس القريب و قد عبر عن علي (عليه السلام) بالنفس لما كان له (ع) اتصال بالنبي (صلى اللّه عليه و آله) في النسب و المصاهرة و اتحاد في الدين.

و فيه: ان التنظير لو كان في القرابة فقط لما كان في علي (عليه السلام) خصوصية فان العباس عم الرسول و أولاده و بني هاشم كانوا من قرابته (صلى اللّه عليه و آله) و من المسلمين و المهاجرين.

مع انا ذكرنا انه ليس المراد من هذه الكلمة على (عليه السلام) بل المراد انه بمنزلة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و لذا لم يأت في مقام الامتثال غير علي (عليه السلام) و انه المصداق الوحيد لأنفسنا فلعل الاشتباه نشأ من الخلط بين المفهوم و المصداق.

الثالث: انه لو كانت الآية الشريفة دالة على المساواة بين علي (عليه السلام) و بين النبي (صلى اللّه عليه و آله) لزم كون علي (عليه السلام)

ص: 20

نبيا. و انه أفضل من الأنبياء و المرسلين (عليه السلام).

و فيه: انه لا ملازمة بين كون علي (عليه السلام) نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و بين مشاركته في النبوة، و قد تقدم ما يتعلق بذلك، و اما افضلية علي (عليه السلام) من الأنبياء و المرسلين فهي ثابتة مستفادة من قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ» البقرة - 124 و ادلة اخرى تقدم بعضها و يأتي بعضها الاخرى.

العاشر:

الآية الشريفة تدل على صحة نبوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بل هي من أجلاها و قد اعترف الخصم بها باباءهم عن المباهلة لما دعاهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إليها و أحجموا عنها و رضوا بالجزية.

الحادي عشر:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ» على الحد الفاصل في كل من دعوى الألوهية و دعوى الشرك أو الحلول فانه قصر الألوهية في اللّه عز و جل المستجمع لجميع صفات الكمال و الجلال و قد وردت هذه الجملة الشريفة في نفي التثليث في قوله تعالى: «وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ» النساء - 171 و في قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ» المائدة - 73 و يحمل على المعنى الأعم من نفي الشرك في الذات أو المعبودية أو الصفات حملا لظاهر اللفظ على إطلاقه، و حينئذ لا فرق بين ان يكون القصر قصر افراد أو غيره.

الثاني عشر:

يدل قوله تعالى: «اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ» على وجه انحصار الألوهية فيه عز و جل و لعله في خلق عيسى (عليه السلام)

ص: 21

من غير أب فهو الحكيم المتقن في صنعه العليم بما فعله، العزيز الذي لا يمنعه احد و لا يغلبه فهو الإله الذي لا نظير له و ليس كمثله شيء.

الثالث عشر:

يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» على ان كل من امتنع عن قبول الحق فهو من المفسدين و اللّه تعالى عليم بحالهم و يجزيهم في الحال و المآل.

بحث روائي

اتفقت الروايات المتواترة على ان آية المباهلة نزلت في وفد نصارى نجران الذين هم من اشرافهم و فيهم السيد و العاقب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في المدينة المنورة في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة و مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) اهل بيته و هم علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم الصلاة و السلام) و قد روي خبر المباهلة عن اكثر من خمسين طريقا من الصحابة مذكورة في كتب أحاديث الجمهور و غيرهم.

ففي تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): ان نصارى نجران لما وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و كان سيدهم الأهتم، و العاقب، و السيد... إلى ان قال: فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فباهلوني فان كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم و ان كنت كاذبا أنزلت عليّ. فقالوا: أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال: رؤساؤهم السيد و الأهتم: ان باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس نبيا، و ان باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فانه لا يقدم إلى اهل بيته إلا و هو صادق فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه

ص: 22

(صلى اللّه عليه و آله) و معه أمير المؤمنين (عليه السلام) و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) فقال النصارى من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب و هذا ابنته فاطمة و هذا ابناه الحسن و الحسين فتفرقوا فقالوا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على الجزية و انصرفوا».

أقول: دلالة هذا الحديث على فضل اهل البيت مما لا ينكر.

و في تفسير العياشي باسناده عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ان أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن فضائله فذكر بعضها، ثم قالوا له زدنا فقال: ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أتاه حبران من احبار النصارى من اهل نجران فتكلما في امر عيسى (عليه السلام) فانزل اللّه هذه الآية: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» فدخل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فأخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة (عليهم السلام) ثم خرج و رفع كفه إلى السماء و فرّج بين أصابعه و دعاهم إلى المباهلة قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام) و كذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: و اللّه لئن كان نبيا لنهلكن و ان كان غير نبي كفانا قومه فكفا و انصرفا».

أقول: تقدم في بحث الدعاء انه على اقسام منها التبهل كما ورد في هذه الرواية.

و في العيون باسناده إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حديث له مع الرشيد قال له الرشيد. كيف قلتم إنا ذرية النبي (صلى اللّه عليه و آله) و النبي لم يعقب و انما العقب للذكر لا للأنثى و أنتم ولد

ص: 23

البنت و لا يكون له عقب فقلت له: اسأله بحق القرابة و القبر و من فيه إلا ما اعفاني عن هذه المسألة فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي و أنت يا موسى يعسوبهم و امام زمانهم، كذا أنهي الي، و لست أعفيك في كل ما اسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب اللّه، و أنتم تدعون معشر ولد علي على انه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف و لا واو إلا تأويله عندكم و احتججتم بقوله عز و جل: «ما فرضنا في الكتاب من شيء» و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم فقلت تأذن لي في الجواب؟ فقال: هات قلت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنما الحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك الحقنا اللّه تعالى بذراري النبي من أمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال هات قلت قول اللّه عز و جل: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا و أبنائكم و نسائنا و نسائكم و أنفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين. و لم يدع احد انه ادخل النبي (صلى اللّه عليه و آله) تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) فكان تأويل قوله أبنائنا الحسن و الحسين و نسائنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب».

أقول: تقدم ما يتعلق بهذه الرواية في التفسير.

و في سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام) قال المأمون:

«ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبى طالب؟ قال (عليه السلام) آية أنفسنا قال: لو لا نسائنا قال: لو لا أبنائنا».

ص: 24

أقول: هذا اشكال و جواب بالمعارضة فان قوله (عليه السلام) «آية أنفسنا» يعني جعل نفس علي (عليه السلام) بمنزلة نفسه (صلى اللّه عليه و آله) و قول المأمون «لو لا نسائنا» فإنها صريحة في الاختلاف فتكون كذلك أنفسنا فأجاب (عليه السلام): «لو لا أبنائنا» فنزل أبناء على منزلة أبناء نفسه (صلى اللّه عليه و آله) و هكذا يكون في علي (عليه السلام).

و اخرج حديث المباهلة الشيخ المفيد في اختصاصه باسناده عن محمد بن الزبرقاني عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و رواه أيضا محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده.

و أخرجه الشيخ في اماليه باسناده عن عامر بن سعد عن أبيه و باسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام)، و باسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي (عليه السلام) و رواه عن أبى ذر ان عليا احتج بذلك يوم الشورى.

و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن الرضا عن أخيه (عليه السلام)، و رواه أيضا عن أبى جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) و رواه أيضا عن المنذر عن علي (عليه السلام) و رواه أيضا باسناده عن عامر بن سعد.

و رواه في روضة الواعظين و اعلام الورى و الخرائج، و الفرات في تفسيره معنعنا عن أبى جعفر (عليه السلام) و أبى رافع، و الشعبي و علي (عليه السلام) و شهر بن حوشب.

اما عن طريق الجمهور فقد روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبى و قاص عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبى سفيان سعدا فقال: ما يمنعك ان تسب أبا تراب؟ قال اما ما ذكرت ثلاثا قالهن

ص: 25

رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فلن اسبه، لان يكون لي واحد منهن أحب الي من حمر النعم، سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول:

أما ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فأتى به ارمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية اليه ففتح اللّه على يده.

و لما نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء اهل بيتي».

و روى مثله الترمذي، و الحاكم، و ابن المنذر، و البيهقي عن سعد أيضا و الحمويني في فرائد السمطين و أبو المؤيد الموفق بن احمد في كتاب فضائل علي.

أقول: أمثال هذه الروايات عن طرقهم كثيرة.

و في حيلة الأولياء لأبي نعيم باسناده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء اهل بيتي».

أقول: تبين هذه الرواية معنى آية المباهلة.

و في تفسير الثعلبي عن مجاهد و الكلبي: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما دعاهم إلى المباهلة قالوا نرجع و ننظر فلما تخالوا للعاقب - و كان ذا رأيهم - قالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال و اللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبي مرسل و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و اللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لتهلكن فان أبيتم الا ألف دينكم و الاقامة على ما أنتم

ص: 26

عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم فاتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و قد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها و هو يقول: إذا انا دعوت فأمّنوا فقال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك و ان نقرك على دينك و نثبت على ديننا قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم فأبوا قال: فأني أناجزكم فقالوا: ما لنا بحرب العرب من طاقة و لكن نصالحك على ان لا تغزونا و لا تخيفنا و لا تردنا عن ديننا على ان نؤدي إليك كل عام ألفي حلة:

ألف في صفر و ألف في رجب و ثلاثين درعا من حديد فصالحهم على ذلك و قال (صلى اللّه عليه و آله): و الذي نفسي بيده ان الهلاك قد تدلى على اهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل اللّه نجران و اهله حتى الطير على رؤوس الشجر و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا».

و روى قريبا منه في المغازي عن أبى إسحاق، و المالكي في الفصول المهمة، و الحموي عن ابن جريح.

أقول: ان صفر في السنة العربية القديمة كان يشمل فترة من الزمن تتضمن شهرين أحدهما المحرم و كان يسمى بالصفر الاول أيضا.

و في حلية الأولياء لأبى نعيم باسناده عن الشعبي عن جابر قال:

«قدم على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) العاقب و الطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: اسلمنا يا محمد، فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا قال: حب الصليب و شرب

ص: 27

الخمر، و أكل لحم الخنزير قال جابر فدعاهما إلى المباهلة فواعداه إلى ان يأتياه بالغداة، فغدا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة فأرسل إليهما فأبيا ان يجيباه و اقرا له فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و الذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا فقال جابر: فيهم نزلت «ندع أبنائنا و أبنائكم» قال جابر: أنفسنا و انفسكم رسول اللّه و علي و أبنائنا الحسن و الحسين و نسائنا فاطمة.

و رواه ابن المغازلي في مناقبه عن الشعبي عن جابر و الحمويني في فرائد السمطين عن جابر أيضا، و رواه المالكي في الفصول المهمة مرسلا عنه و عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا أيضا.

و في الدر المنثور عن الحاكم و صححه، و عن ابن مردويه و أبى نعيم في الدلائل عن جابر.

و في الدر المنثور اخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتب إلى اهل نجران قبل ان ينزل عليه طسم سليمان: بسم اللّه اله ابراهيم و اسحق و يعقوب اما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية و ان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام. فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به و ذعر ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من اهل نجران يقال له:

شرحبيل بن وداعة فدفع اليه كتاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقرأه فقال له الأسقف ما رأيك؟ فقال شرحبيل قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن ان يكون هذا الرجل ليس لي في النبوة رأي، و لو كان رأي من امر الدنيا أشرت عليك

ص: 28

فيه أو جهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من اهل نجران فكلمهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على ان يبعثوا شرحبيل بن وداعة و عبد اللّه بن شرحبيل و جبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانطلق الوفد حتى أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فسألهم و سألوه فلم تزل به و بهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فانزل اللّه تعالى هذه الآية «ان مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله تعالى - فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» فأبوا ان يقروا بذلك فلما أصبح رسول اللّه الغد بعد ما أخبرهم الخبر اقبل مشتملا على الحسن و الحسين في خميلة له و فاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة و له يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبه اني ارى امرا مقبلا ان كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر و لا ظفر إلا هلك فقالا له. أنت و ذلك، فتلقى شرحبيل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقال: اني رأيت خيرا من ملاعنتك قال و ما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل و ليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز، فرجع رسول اللّه (ص) و لم يلاعنهم و صالحهم على الجزية».

أقول: الحديث لم يتعرض لذكر علي (عليه السلام) لأجل الاكتفاء بذكر الأبناء و الزوجة عن ذكر الزوج أو لأجل معلومية كونه فيهم.

و الذي يتحصل مما تقدم ان المستفاد من جميع الروايات التي رواها الجمهور و الخاصة ان القدر المشترك بينها هو ان رسول اللّه (صلى اللّه

ص: 29

عليه و آله) دعا عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) ليباهل بهم نصارى نجران و هذا القدر هو المتواتر بينهم إلا ان بعض المفسرين ناقش في تلك الروايات فقال: «انها متفقة على ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديهما، و يحملون كلمة نسائنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط. و مصادر هذه الروايات الشيعة، و مقصدهم منها معروف و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من اهل السنة». ثم ذكر بعض الإيرادات و قد ذكرنا جملة منها و أجبنا عنها.

و أنت بعد ما ذكرنا شطرا من الروايات التي نقلت عن طرق الجمهور يتضح لك فساد ما ذكره فإنها بلغت مبلغا لا يمكن إنكارها و قد ذكرها بعض ارباب الصحاح كمسلم و الترمذي في صحيحيهما و بعض اهل التاريخ كالطبري و ابو الفداء و ابن كثير و جمع غفير من المفسرين و اهل الحديث و قد نقلوا جميعا تلك الأحاديث عن الصحابة أمثال سعد بن أبى و قاص و جابر بن عبد اللّه و عبد اللّه بن عباس و عليا اليشكري وجد سلمة و غيرهم من الصحابة و كثير من التابعين أمثال الشعبي، و الحسن، و السدي، و الكلبي، و مقاتل، و ابن صالح، فهل هؤلاء كانوا من الشيعة و أرادوا ترويج مذهبهم؟!! أو انهم دسوها في كتب السنة و هل هذه التهمة كانت مختصة بهذه الأحاديث أو تسري في كثير من السنة؟!! إذن لا يبقى اعتماد عليها فتبطل و لا تكون حجة، و لا يبقى للدين أساس و هذا ما لا يرتضيه احد.

ص: 30

بحث كلامي

ذكرنا أن المباهلة نوع من الدعاء و الابتهال و التضرع و التبتل إلى اللّه تعالى لإثبات حق علم به و هي عادة جارية بين الناس في جميع الملل و الأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة و نحوهما.

و المستفاد من الآيات الشريفة و ما ورد في شأنها من السنة المقدسة انها تتقوم بأمرين:

الاول: ثبوت حق علم بانه حق قد سبق الأعلام به بالحجة و البيان و بعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء و اللعان و اللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان و هذا يدل عليه قوله تعالى:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» اي في الحق المعلوم.

الثاني: وجود الرابط بين عالم الغيب و عالم المادة إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علما و عملا أو حالة الانكسار و الخضوع و التضرع التي تكون رابطة حالية فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب، فلا تختص المباهلة بمورد خاص و قد ورد في السنة الشريفة ما يدل على التعميم ففي الكافي عن أبي مسترق عن الصادق (عليه السلام): «قلت له انا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول اللّه عز و جل «أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» فيقولون نزلت في أمراء السرايا فنحتج عليهم بقوله عز و جل: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ» فيقولون في المؤمنين و نحتج عليهم بقول اللّه عز و جل «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى» فيقولون نزلت في قربى

ص: 31

المسلمين قال: فلم ادع شيئا مما حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته فقال (ع) لي: إذا كان كذلك فادعهم إلى المباهلة قلت كيف اصنع؟ قال (ع): أصلح نفسك ثلاثا و أظنه انه قال: و صم و اغتسل و ابرز إلى الجبان فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه و ابدأ بنفسك و قل: «اللهم رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمان الرحيم» ان كان أبو مسترق جحد حقا و ادعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما ثم رد الدعوة عليه فقل: و ان كان فلان جحد حقا أو ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما ثم قال (ع) لي فإنك لا تلبث ان ترى ذلك فيه - الحديث -» و قريب منه غيره.

و في الدر المنثور عن علياء بن أحمر اليشكري قال: «لما نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» أرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى علي و فاطمة و ابنيهما الحسن و الحسين و دعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود: ويحكم أ ليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة و خنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا» و هذه الرواية تدل على تعدد المباهلة.

و للمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء و لا ريب في تقومها بمن يقوم به الاحتجاج و اظهار الحق و هو في المقام نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله). و حيث انها تدل على الملاعنة و الهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق اولى في الاحتجاج و اثبت للمدعى و اقطع لدعوى الخصم، و لان الاجتماع في الدعاء و التأمين عليه مرغوب اليه كثيرا في السنة المقدسة.

ص: 32

بحث عرفاني

مظاهر تجليات الحق جل جلاله في عالم الشهادة لاحد لها و لا حصر عميت عين لا تراها و خسرت صفقة عبد ليس له فيها نصيب، و من أعظم تجلياته عز و جل استجابة دعوات المحرومين و اغاثة الملهوفين و التنفيس عن كربات المكروبين.

و منها: المباهلة التي يتحقق فيها الارتباط بين عالم الغيب و عالم الشهادة بل انها من أشد أنحاء الارتباط و أشرفها لا يمكن تحديده بحد و لا توصيفه بوصف بل لا يعقل الاحاطة به لأحد إلا لعلام الغيوب و المطلع على السر المحجوب، و هي الكرامات الصادرة من الأولياء و المعجزات المتحققة من الأنبياء لا سيما إذا لا حظنا ذلك بعد قوله تعالى: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى» الأنفال - 17.

و تتجلى عظمة المباهلة انها لإقامة الحق و دحض الباطل و إبقاء الشريعة الختمية و النور المحمدي و فيها يتحد الداعي و المدعو فان اللّه هو الذي باهل الكفار.

و المباهلة و ان كانت في الظاهر فيها العذاب للكفار و لكنها في الواقع تكون لحفظ النظام و إبقاء سلسلة الأسباب و المسببات بين الأنام.

و في المباهلة الأحمدية تجلت العنايات الخاصة من الحضرة الاحدية و قد جمعت في هذه المباهلة أنوار كلها واسطة الفيض ظهرت فيهم عظمة الباري و عنايته و فيها قابل الحق المحض مع الباطل كذلك.

و فدّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نفسه الشريفة و اهل بيته فيها دون إقامة الحق و إظهاره و إماتة الباطل.

ص: 33

و لم يتعرض للمال لأنه لا شيء اغلى من النفس و لا قيمة له في مقابل تفديتها، مع أن المفدى أجل و أكرم من ان يفدي بشيء آخر لا قيمة له بل يعد من متاع الغرور. و تكون هذه المباهلة تعليما لكل مرشد قام بين الناس داعيا للحق و ناصرا له، فلا بد من خلوص النية و صفاء السريرة ليستعد بذلك لتجلى اللّه جل جلاله و في الحديث «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تخرق الحجب السبع».

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِ.......

اشارة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (68) بعد ما بين سبحانه و تعالى الحق في عيسى بن مريم و انه عبد اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل و ان مولده - على غرابته و تفرده - امر عادي

ص: 34

بالنسبة إلى قدرة الخالق و مشيئته. و نفى عنه الألوهية و اقام الحجة تلو الحجة على جميع ذلك و أمرهم بالإيمان و الاعراض عن كل ما يخالف ذلك، فانتهى بامره تعالى لنبيه بطلب المباهلة مع المنكرين الجاحدين.

أمر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة نبيه إلى دعوة اخرى لأهل الكتاب عامة لا سيما النصارى منهم و هي الدعوة إلى التوحيد و تأمرهم بالاتحاد و نبذ النفاق و التعرض لرد المسلمين عن هذه العقيدة و الكلمة الفاصلة الحقة.

و دعاهم إلى الحق الذي يجب اتباعه بمقتضى الفطرة و هو الذي اجتمع عليه جميع الكتب السماوية و الرسالات الإلهية و هو عبادة الإله الواحد و نبذ الشرك و الاعراض عن الاحتجاج العقيم المفضي إلى الاختلاف و التفرقة، فالنداء يقرب النفوس المستعدة إلى أقصى الكمالات الانسانية و يهديها إلى الألطاف الربوبية.

ثم بين تعالى كلمة الفصل في ابراهيم الذي يعتقد به جميع الأديان السماوية و اعترفت الأمم بالولاية له على دينها و الامام المفترض طاعته و قد بين القرآن الكريم ان اقرب الناس اليه هو الرسول الكريم و من يتبعه في العلم و العمل و ان جميعهم تحت ولايته عز و جل و رعايته.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ .

الخطاب صدر عن حقيقة العقل المجرد و قرره وحي السماء من ذروة العرش الأمجد إلى الرسول الكريم خاتم الأنبياء لأنه واسطة الفيض و انه جامع الشمل، و مجمع كل فضل و فضيلة، و الأحرى لغيره اتباعه في ما يدعو اليه.

و تعال اسم فعل و معناه هلمّ، كما مر في الآيات السابقة.

ص: 35

و الكلمة في المقام كناية عن الاجتماع و الاتحاد في العمل بمقتضى مدلول الكلمة و معناها و الإذعان بها و نظير ذلك شايع في الألسنة يقال:

اتفقت كلمة القوم على كذا. اي: اتحدوا و اجتمعوا على امر.

و سواء: يأتي إما مصدرا بمعنى متساوية أو بمعنى الوصف اي العدل و التساوي. و النظام الأحسن في الدارين يتقوم بالسواء و الاستواء في الحق و بالحق، و بهما تفتح أبواب البركات بأنواع الخيرات، و يتجلى حينئذ حقيقة الوحدانية المطلقة في العابد و المعبود فلا معبود غير اللّه و لا اله سواه و تضمحل الكثرة و الكلمات و يبقى النور الواحد المطلق في جميع الأقوال و الأفعال و المعتقدات و المراد من الكلمة هنا الكلمة المساوية بيننا و بينكم في الاعتقاد و العمل.

و كيف كان فاما ان يكون المراد من الكلمة هي كلمة التوحيد التي اتفقت الكتب الإلهية القرآن و الإنجيل و التوراة على الدعوة إليها فيكون قوله تعالى: «أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً - الآية -» تفسيرا لهذه الكلمة المتفق عليها بما يزيل كل غموض و إبهام، و يكون لازمه هو الاعراض عما في أيديهم من الشرك و التثليث و الاتحاد و الحلول و جميع ما لعبت به أهواءهم من التفسير غير المرضى للكلمة.

و اما ان يكون المراد بها معنى الكلمة و الاعتقاد الحق و العمل بمعناها فيكون توصيفها بالسواء من باب الوصف بحال المتعلق لان الدعوة انما تكون إلى معنى الكلمة لأنفسها، و يدل عليه قوله تعالى:

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» فان الإسلام هو التوحيد العملي و ترك عبادة غير اللّه تعالى عملا.

و لكن الذي يهون الخطب ان القرآن لا يدعو إلى التوحيد القولي و الاعتقاد وحده من دون ان يتم ذلك بالعمل، كما انه لم يأمر به

ص: 36

إلا باعتبار كونه طريقا إلى العمل و موجبا إلى الخضوع و التسليم لأمر اللّه تعالى، قال عز و جل: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19، و قد ذكرنا في تفسير هذه الآية الشريفة ان الدين الذي يكون منهاجا للإنسان في الحياة الدنيا هو التسليم للّه و الخضوع له و العمل الصالح، و حينئذ لا فرق بين إرجاع السواء إلى نفس الكلمة فتكون توصيفا لنفسها أو ارجاعه إلى معنى الكلمة فيكون التوصيف توصيفا بحال المتعلق.

و على أي تقدير ففي الآية المباركة روعة الأسلوب و تتضمن من النكات البلاغية و لطائف العنايات ما لا يخفى.

و الآية تدعو الضمير الانساني و تخاطبه بخطاب رقيق لطيف و تدعوه إلى الرجوع إلى الفطرة و العمل بمقتضاها و نبذ الفرقة و الاختلاف، و تطلب منه ان لا يصده عن هذا الهدف السامي اختلاف الأهواء و تشعب الفرق.

قوله تعالى: بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ .

اي: نكون نحن و أنتم متساويين في الكلمة و حيث ان التساوي من الأمور الاضافية المتقومة بين الطرفين عبر سبحانه و تعالى بقوله:

«بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ» لنبذ التفرقة و الاختلاف.

قوله تعالى: أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ .

بيان للكلمة السواء التي هي الحد الفاصل لكل ما يقال في معنى الكلمة التي تلاعبت به أهواء المضلين و زيغ المفسدين المبطلين. و هو الذي اتفقت عليه جميع الكتب الإلهية.

و الجملة تدعو إلى نبذ عبادة غير اللّه تعالى و أن لا يخضع العبد لغيره

ص: 37

عز و جل و يلازمه انحصار العبادة فيه عز و جل. كما أنها تشتمل على الحكم و علته فإنها تقرران الا له الذي تنحصر العبادة فيه لا بد ان يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال و منشأ لكل كمال في غيره، و هو ينحصر في اللّه تعالى فالواجب عبادته و الخضوع لديه و تسليم الأمر اليه لا الخضوع إلى غيره الذي هو قرين الحاجة و الفقر بذاته. و هذا هو الأمر الفطري الذي يدعو اليه الأنبياء و جميع المرسلين، و قد أكد ذلك القرآن في عدة آيات، و قد ذكرنا ما يتعلق به في تفسير قوله تعالى: «كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» البقرة - 213.

فالآية الشريفة مضافا إلى انها تدل على حصر الألوهية فيه عز و جل تشير إلى ما تقدم من الأمر الفطري الذي كان هو غرض الأنبياء في بعثهم و لذلك كانت عقيدة التوحيد تحريرا للبشرية كلها، و قد اتفق عليها هدف الأنبياء كلهم.

قوله تعالى: وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً .

النكرة في سياق النفي تدل على العموم اي نبذ كل انواع الشرك في الألوهية، و العبودية، و الخلق، و الفعل، بل كل ما ينسب اليه في الألوهية فتدل على نفي التثليث، و الاتحاد، و الحلول فلا يقال لشيء مطلقا انه إله.

و الجملة تفيد التأكيد لما تضمنته الآية السابقة، و نفى الشرك

ص: 38

الحاصل من الاعتقاد بغير اللّه تعالى، لان الجملة الاولى تفيد نفي الشرك في العبادة و هذا غير كاف في قطع الشرك الحاصل من اعتقاد النبوة و الايمان بالرسل و النبيين و توهم الحلول و التثليث و نحو ذلك.

كما انها تدل على الخلوص في العبادة و الاعتقاد، فان الاعتقاد بعبادة اللّه تعالى لا يصير العبادة خالصة ما لم يطرح كل رأي و اعتقاد فيه شائبة الشرك و يؤكد ذلك النهي عن اتخاذ الأرباب من دون اللّه كما في الآية التالية.

قوله تعالى: وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ الأرباب جمع الرب، و من دون اللّه اي من غير اللّه.

و الآية المباركة في مقام بيان السبب في النهي عن اتخاذ الشريك للّه تعالى. و هي تفيد التوحيد الفعلي، لان اللّه تعالى هو الرب يفعل ما يشاء بحكمته و يحكم ما يريد بعدله لا مبدل لحكمه، و ان العالم و جميع ما فيه مخلوق له عز و جل و مربوب له لا يمكن ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و الجلال ما لا يوجد لغيره. فالربوبية من خصائص الألوهية و الشرك لا يجامعها بوجه من الوجوه.

فالآية الشريفة تنفي إطاعة الإنسان لمثله في التشريع و التصرفات من دون معارضة فان ذلك من اتخاذ الرب من دون اللّه لا يقدم عليه من يعترف بالربوبية للّه تعالى و يسلّم امره اليه عز و جل. و هي عامة تشمل أنحاء الاتخاذ. كما تشمل البعض جميع أنواعه و اقسامه بأي عنوان كان من الاعتبارات الموهومة في الربوبية أو الإطاعة في الاحكام و التشريع و التصرف في الأبدان من دون معارضة و انعكاس و يشير إلى بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» التوبة - 21 و هو يختص بالاطاعة في معصية اللّه تعالى و تشريع الاحكام و التسلط على الأبدان و الأموال و الاعراض.

ص: 39

فالآية الشريفة تنفي إطاعة الإنسان لمثله في التشريع و التصرفات من دون معارضة فان ذلك من اتخاذ الرب من دون اللّه لا يقدم عليه من يعترف بالربوبية للّه تعالى و يسلّم امره اليه عز و جل. و هي عامة تشمل أنحاء الاتخاذ. كما تشمل البعض جميع أنواعه و اقسامه بأي عنوان كان من الاعتبارات الموهومة في الربوبية أو الإطاعة في الاحكام و التشريع و التصرف في الأبدان من دون معارضة و انعكاس و يشير إلى بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» التوبة - 21 و هو يختص بالاطاعة في معصية اللّه تعالى و تشريع الاحكام و التسلط على الأبدان و الأموال و الاعراض.

و في التعبير بالبعض إشارة إلى انهم من افراد البشر و من جنسنا و ان الفقر و الحاجة يلازمانه فلا ينبغي إطاعتهم من دون اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، و من هو مربوب في ذاته كيف يكون ربا لمثله و الخطاب عقلي قرره اللّه تعالى.

كما ان في قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اَللّهِ» إعلاما بان كل ما يتوهمه الإنسان في ذلك هو في مرتبة نازلة و موهومة لا حقيقة لها و لا يمكن ان تجتمع مع الاعتراف بالربوبية للّه تعالى.

و من ذلك يعرف ان الخطاب يصلح ان يكون لليهود و النصارى و المشركين و ان كان للنصارى الحظ الأوفر من هذه الموهومات و الكل منهي عنه.

و الآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الاجتماعية و هي ان افراد الإنسان أبعاض متساوية في جميع شؤون الحياة و انهم في الغرائز الانسانية و الطبيعة النوعية على حد سواء و ان كل ما يوجب الخروج عن هذه الحقيقة باطل في نظر الإسلام الا ما فضل اللّه تعالى به بعضهم على بعض و في غير ذلك منهي عنه لأنه تغيير لناموس الفطرة و هدم لكيان الانسانية و ضياع للهدف السامي الذي خلق لأجله الإنسان و هو التعاون في سبيل نيل الكمال و التزود من الفضائل و الأخلاق الحسنة، و ان الشعور بالتساوي يستدعي الحياة الهنيئة و الترابط الوثيق بين افراد المجتمع و التعاون الأكيد بينهم و به تنحل كثير من المشكلات و تزول الصعاب و هذا ما تؤكده آيات كثيرة في القرآن الكريم.

ص: 40

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

اي فان اعرضوا عن الحق و ما تدعو اليه الفطرة المستقيمة في التوحيد و ما اتفقت عليه الكتب و الرسل فقد لزمتهم الحجة و الحق أوضح من ان تقام عليه الحجة و انما كان اعراضهم عنادا و لجاجا «وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا» النمل - 14 و لذا امر سبحانه و تعالى نبيه و المؤمنين بإظهار ايمانهم و انهم على الدين الحق المرضي عند اللّه تعالى و هو الإسلام الذي هو ملازم للتوحيد في العبادة و الفعل.

و الشهادة منهم بأنهم مسلمون انما تكون في قولهم و عملهم في التوحيد فتكون تثبيتا لمقامهم و اعترافا منهم بالحق.

و في الآية الشريفة تعريض لهم بأنهم على غير الحق و ان المسلمين لا يبالون بأباطيل غيرهم مهما كلفهم الأمر.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ .

خطاب لليهود و النصارى معا. و الجملة مقول القول في الآية السابقة، و هذه الآيات التي تليها مسوقة لبيان الدين الحق و الدعوة إلى الإسلام الذي له جذور من حين ابراهيم الخليل (عليه السلام).

و المحاجة في ابراهيم من اهل الكتاب هي ادعاء اهل كل دين انه كان منهم و على دينهم و تعصب كل طائفة على ذلك فزعمت اليهود انه كان يهوديا و النصارى انه كان نصرانيا و قد وقع بسبب ذلك النزاع بينهم و أكذبهم اللّه تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى:

«أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ» البقرة - 140.

ص: 41

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ .

احتجاج على اهل الكتاب بأن التوراة و الإنجيل نزلتا بعد ابراهيم فلا ريب ان اليهودية و النصرانية انما حدثتا بعد نزولهما. و في إتيان نزول التوراة و الإنجيل في الاحتجاج لبيان انه لو كان ابراهيم (عليه السلام) من احدى الطائفتين لكان كتاب كل طائفة يشير إلى ذلك و هذا لم يتحقق فلا يمكن ان يكون ابراهيم منهم.

قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ .

اي: أ فلا تعقلون دحوض دعواكم و بطلانها و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر، و التعبير بذلك انما هو لبيان ان الأمر يكفي فيه ادنى تنبيه.

و في الآية الشريفة تجهيل لهم و اعلام لهم بان الحق في ابراهيم (عليه السلام) و انه كان على الدين الحنيف مسلما للّه عز و جل كما نبه عليه عز و جل في الآيات اللاحقة.

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .

تثبيت لتكذيبهم و اظهار لجهلهم، و انما أتى سبحانه باسم الإشارة إما للتحقير و التنقيص، أو لبيان ان الخطاب و التوبيخ انما يكون إليكم و في انفسكم دون اسلافكم، أو لأن المحاجة كانت بينهم و في أنفسهم لا بينهم و بين المسلمين و إلا كان المسلمون طرفا في المحاجة الباطلة.

و المعنى: انكم حاججتم و تنازعتم في امور معلومة البطلان لديكم بالوجدان: منها: ما حكاه عز و جل آنفا عنهم و هو محاجتهم في كون ابراهيم (عليه السلام) يهوديا أو نصرانيا مع علمهم بانه على الدين الحق و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر بل هو منبعث عن الاول و قد غالوا

ص: 42

في هذه الأمور و تشبثوا بحجج هي اوهن من بيت العنكبوت:

و منها: انهم كانوا يتنازعون في عيسى (عليه السلام) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثه أو نبوته أو انه اللّه أو ابنه أو ثالث ثلاثة، و كانت اليهود تحاج النصارى فيه فتبطل نبوته و ألوهيته و الجميع يعلمون بانه مخلوق من مريم و رسول أرسله اللّه تعالى إلى بني إسرائيل.

قوله تعالى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .

الاستفهام توبيخي يعني: فلم تتنازعون و تحاجون في امور لا تعلمون بها و تغالطون فيها و الواجب عليكم اتباع الوحي المبين و متابعة سيد المرسلين.

و قد اختلف المفسرون في تعيين الذي لهم به علم و جمهورهم انه امر ابراهيم المتنازع في كونه يهوديا أو نصرانيا إلا ان ذلك أمر واضح لا يجهله احد منهم و يعلمون ان ابراهيم (عليه السلام) كان متقدما عليهم و لا يمكن ان يكون تابعا للمتأخر كما ذكرنا و لذا عقب سبحانه و تعالى بعد تكذيبهم في ذلك بقوله «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» الدال على تقبيحهم في هذا الإمر المعلوم.

و ذكر بعض المفسرين ان المراد من عدم علمهم بأمر ابراهيم هو عدم علمهم بأن دين اللّه واحد و هو الإسلام و ان اليهودية و النصرانية و الإسلام شعب من ذلك الدين الحق و انها تتدرج في سلم الكمال، و اليهود و النصارى جهلت ان ابراهيم هو المؤسس لهذا الدين الحق، و الأصل لا ينسب إلى فرعه بل الأمر بالعكس.

و فيه: ان ما ذكره يرجع إلى ما تقدم الذي عرفت المناقشة فيه، مع ان كون ابراهيم (عليه السلام) هو المؤسس للدين امر مسلّم

ص: 43

عند الجميع، بل هو معروف عند الأديان الثلاثة، إلا ان النزاع يرجع إلى ان اليهود تدعى ان الدين الحق هو اليهودية فقط و ان ابراهيم يهودي، و النصارى تدعي ان الدين الحق هو النصرانية و ان ابراهيم هو الذي أسسها. فالنزاع بينهم في تعيين الدين الذي أسسه ابراهيم لا في كونه المؤسس للدين الحق و انه لا يجهله احد منهم.

و الحق ان يقال: ان ما كان يجهله اليهود و النصارى هو ادعاء اليهود الألوهية في بعض أنبيائهم كما زعموا في عزير ابن اللّه و ادعاء النصارى في عيسى ابن اللّه أو هو الإله أو التثليث، و قد جهلوا جميعا ان المخلوق المربوب لا يمكن ان يكون إلها و ان اللّه تعالى هو الا له الواحد الأحد.

مع ان الآية الشريفة تدل على امر أبعد من ذلك و هو ان التشبث بأمور معلومة لا تجعل المستحيلات أمورا ممكنة بالمغالطة فجميع ما زعموه مغالطة بين الحق الواقعي و الوهم الاعتقادي و هم بمعزل عن الواقع مع تشبثهم بهذه الأوهام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

تأكيد لنفي العلم عنهم اي: و اللّه يعلم الحق و اهله و ما أنتم عليه من تلبيس الحق بالباطل و مغالطتكم فيه و أنتم لا تعلمون شيئا و لستم بأهل لان يعلمكم اللّه تعالى شيئا لجحودكم و ضلالكم.

و الآية الشريفة دليل على ان كل علم ما لم ينته إلى العلوم التي اودعها اللّه تعالى في الفطرة أو ما أوحاه إلى أنبيائه لم يكن منتجا بل لا يكون إلا من المغالطات و الأوهام كما أثبته أكابر الفلاسفة.

ص: 44

قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا .

بيان للبرهان المقرر سابقا في شأن ابراهيم (عليه السلام) و ان التوراة و الإنجيل نزلتا بعده و تنزيه من اللّه تعالى له من كل افتراء عليه فلم يكن يهوديا و لا نصرانيا كما كان يدعيه كل فرقة منهما لأنه لا يقول بأمر يمس بجلال اللّه تعالى و عظمته و لا يحد قدرته عز و جل و لا ينسب اليه ما لا يليق به كما تقوله اليهود و لا يقول بالتثليث و الوهية البشر كما عليه النصارى المبتعدين عن التوحيد الخالص الذي هو دين ابراهيم (عليه السلام) فالامر هنا امر عقائد لا امر نسب وصلة.

قوله تعالى: وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .

مادة حنف تدل على الميل إلى الحق و حيث ان الحق فيه تعالى فيكون الميل إلى التوحيد حينئذ و يلازمه نفي كل خلاف الحق و التوحيد من الشرك و الضلال فكانت عقيدة ابراهيم (عليه السلام) مائلة عن الشرك و متمحضة في التوحيد الخالص الذي ينفي كل شرك و ضلال كما عليه محمد (صلى اللّه عليه و آله).

و يقابلها مادة (جنف) الدالة على الميل إلى الباطل. و قد كان عرب الجاهلية يدعون أنفسهم بالحنفاء لأنهم تبعوا ابراهيم في بعض شرايعه كالختان و الحج. و كان اهل الكتاب يسمونهم بالحنفية الوثنية.

و المراد بالإسلام في المقام هو التسليم للّه تعالى و الانقياد لطاعته و الخضوع لربوبيته و ليس المراد من الإسلام الدين الذي جاء به محمد ابن عبد اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانه حادث بعد ابراهيم بعدة قرون و تابع له لقوله تعالى: «وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» النساء - 125 و قد تقدم في قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران

ص: 45

- 19 بعض الكلام.

و قد وصف اللّه سبحانه و تعالى ابراهيم (عليه السلام) بأوصاف ثلاثة كل واحد منها يدل على بطلان ما تدعيه اليهود و النصارى و الوثنية المشركة، ففي توصيفه بكونه حنيفا لأجل كونه تاركا لكل العقائد الزائفة و مائلا إلى التوحيد الحق كما تقدم، و في توصيفه بكونه مسلما لبيان انه منقاد للحق و داخل في طاعة اللّه تعالى مخلص له خاضع لوجهه الكريم، و في توصيفه بكونه لم يكن من المشركين للاعلام بانه لم يكن من عبدة الأصنام و لا من الحنفية الوثنية كما كانت عليه عرب الجاهلية، و فيه التعريض بأنهم مشركون فتكون الجملة تأكيدا لما تضمنه الكلام السابق، كما ان فيه التنبيه على أن الحنفية المصطلحة بين عبدة الأوثان لم تكن مرادة بل المراد هي الحنفية الحقة التي جاء بها ابراهيم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان ابراهيم (عليه السلام) الذي اتفق على إجلاله و إكرامه جميع الأديان انما هو المرضي للّه تعالى و المستسلم لأمره لم يكن على ملة احد منهم، و بهذا الاعتبار صار موضع احترام و إجلال جميع الأديان بل يعتبر أصلها و مؤسسها.

قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ .

اولى افعل التفضيل من وليه يليه وليا و هو بمعنى اقرب. اي:

اقرب الناس إلى ابراهيم في الدخول في ولايته من كان متبعا له، فإذا كانت نسبة بين احد و بين هذا النبي العظيم المبجل فإنما هي نسبة المتابعة له في حق و موافقته في الدين الذي جاء به، و من استحق هذه الأولوية من المتقدمين من أجاب دعوته و اهتدى بهديه و اتبعه على

ص: 46

الحنيفية و اسلافه من الأنبياء السابقين و الموحدين الصالحين.

و في الآية المباركة التعريض لأهل الكتاب بأنهم لم يتبعوه فليسوا اولى بإبراهيم (عليه السلام) فكيف يكون منهم.

قوله تعالى: وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

اي: و من المتأخرين هذا النبي و المؤمنين به فان دينه على الحق، و انه من أكبر الداعين إلى الحنيفية التي دعى إليها ابراهيم (عليه السلام) بل ان دينهما واحد.

و في إفراد النبي و المؤمنين به عن الذين اتبعوه تجليل لهذا النبي العظيم و صون له من ان يطلق عليه الاتباع. هذا إذا جعلنا قوله تعالى:

«وَ هذَا اَلنَّبِيُّ» جملة معطوفة على الضمير المفعول.

و قيل: الجملة معطوفة على الموصول قبله فيكون من عطف الخاص على العام.

و قيل: انه معطوف على ابراهيم فتكون الجملة مجرورة. و المعنى ان اولى الناس بإبراهيم و هذا النبي للذين اتبعوه. و اعترض عليه أنه ينبغي أن يثنى ضمير (اتبعوه). و لكن أجيب بانه نظير قوله تعالى:

«وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» التوبة - 62.

و الحق أن الاعتراض ساقط، لأن الضمير المنصوب في قوله تعالى:

«اِتَّبَعُوهُ» يرجع إلى خصوص ابراهيم (عليه السلام). و كون نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) مقصودا أيضا في واقع المراد، لا يوجب تثنية الضمير في ظاهر اللفظ، مضافا إلى انه يلزم الفصل بين العامل و المعمول بأجنبي. فالصحيح ما ذكرناه، و هو الموافق لأدب القرآن في خاتم الأنبياء و المرسلين مثل قوله تعالى: «أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ» الانعام - 90 و لم يقل عز و جل فبهم اقتده.

ص: 47

قوله تعالى: وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ .

اي: من دخل في ولاية ابراهيم (عليه السلام) دخل في ولاية اللّه تعالى و اللّه ولي المؤمنين ينصرهم بالحسنى و يصلح شؤونهم دون غيرهم من الكافرين المشركين.

و فيه إيماء إلى أن اهل الكتاب خارجون عن ولايته سبحانه و تعالى و ان ادعوا الايمان باللّه جلت عظمته.

بحوث المقام

بحث أدبي:

كلمة سواء في قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ» تأتي مصدرا، و تأتي بمعنى الوصف اي متساوي الطرفين و العدل، و تقرأ ممدودة إذا فتح السين و مقصورة إذا كسر السين أو ضم. و هي نعت للكلمة مستوية أو متساوية، فتكون مجرورة و يمكن أن تكون منصوبة على المصدر.

و لم في قوله تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» أصله (لما) حذفت الالف فرقا بين الاستفهام و الخبر.

و ها في قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» حرف تنبيه، أطرد دخوله على المبتدأ إذا كان خبره اسم الإشارة و «أَنْتُمْ هؤُلاءِ» قيل: مبتدأ و خبر على أن يكون هؤلاء بمعنى الذين و ما بعده صلة له و قيل: أنتم مبتدأ و هؤلاء منادى حذف منه حرف النداء و جملة «حاججتم» خبر.

ص: 48

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «كَلِمَةٍ سَواءٍ» على ان الكلمة من اساسيات كتب اهل الكتاب و اوليات العقل و انها من البديهيات، فتدل بالملازمة على انها من الأمور التي يجب العمل بها عقلا و شرعا.

الثاني:

ان قوله تعالى: «أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» بيان للكلمة السواء - كما عرفت - و يبين علة الحكم بالرجوع إلى الكلمة السواء و هي كون اللّه معبودا واحدا لا شريك له في ذلك فلا بد من الاجتماع على عبادته و أن لا يتخذ دونه معبود آخر و لا يجوز لاحد ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و العظمة و الكبرياء ما لا يوجد في غيره، و ان وحدة النظام في العالم تقتضي ان يكون المعبود واحدا كما ان خالقه واحد.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً» على نفي الولاية لاحد على احد إلا ما يمنحها اللّه تعالى لعبد من عباده و ان افراد الإنسان أبعاض من حقيقة واحدة.

كما ان الآية الشريفة تدل على نفي ربوبية غير اللّه تعالى، و أن لا رب سواه، و أن الربوبية الحقيقية من خصائص الألوهية.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن الاحتجاج المنتج لا بد أن يكون عن علم صحيح مطابق للواقع.

ص: 49

الخامس:

يدل قوله تعالى: «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» على ان الأوهام الباطلة و المغالطات توجب عزل الفكر عن الواقع و بعد الإنسان عن الحق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ» ان المناط في كل دين و ملة هو الخضوع و الطاعة للّه تعالى و نبذ الشرك بكل انحائه و بهذا الاعتبار لم يكن ابراهيم يهوديا و لا نصرانيا لكونهما مشتملين على الشرك.

السابع:

إنما قال سبحانه و تعالى: «وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ» . و لم يقل: (و اللّه وليهم) إيماء إلى ان الإيمان هو العلة في ولايته تعالى لعباده المؤمنين، للقاعدة المعروفة بين الأدباء: ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» الفرق و الاختلاف بين الواقع و الاعتقاد و أنهما أمران قد يتطابقان و قد يختلفان، و من ذلك جاء الاختلاف و التنازع في العلوم و المعارف الانسانية، و أساس المغالطات على هذا الاختلاف، و هو يدور مدار قلة التأمل و التفكر و كثرتهما. و لذا ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة الترغيب الكبير إلى التفكر و التعقل، و لعل من اسرار ذلك رفع التنازع و الاختلاف بين الناس و لو وفق فرد لتمييز الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع عن غيره لارتفع النزاع و قلّ التشاجر و التناحر بين الأنام، لكن الخلاف و الاختلاف غريزة لا يمكن رفعها، و لا دفعها.

ص: 50

بحث روائي

روى محمد بن الحسن الشيباني عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - الآية - قال (عليه السلام): «إن الكلمة السواء هاهنا هي شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و أن عيسى عبد اللّه و انه مخلوق كآدم».

أقول: يستفاد من الحديث أن الكلمة السواء هي الدعوة إلى التوحيد، و نبذ الشرك، فتكون الدعوة عامة بالنسبة إلى اهل الكتاب و غيرهم، و في كل وقت.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - الآية - أخرج ابن جرير عن السدّي: دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) وفد نجران، فقال: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - الآية -.

و في صحيح البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث - يذكر فيه كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى هرقل عظيم الروم، قال أبو سفيان: ثم دعا - يعني هرقل - بكتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاني أدعوك بدعابة الإسلام أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك

ص: 51

مرتين، فان توليت فان عليك إثم الإريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا اللّه.... و اشهدوا بأنا مسلمون - الحديث -..

و رواه مسلم في صحيحه أيضا، و رواه السيوطي في الدر المنثور عن النسائي، و عبد الرزاق، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

و في بعض الروايات أن كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى مقوقس عظيم القبط يشتمل أيضا على قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ» . و في الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن كتاب رسول اللّه إلى الكفار تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم - الآية -.

أقول: البحث في هذه الأحاديث من جهتين: - الأولى: أن كتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) المشتملة على قوله تعالى: «تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ» إلى من ذكر في الروايات كعظماء الروم، و القبط، و فارس ليس من جهة الاختصاص بهم، بل هي دعوة التوحيد و نبذ الشرك، فيشمل كل من لم يكن على التوحيد حتى المشركين. كما أنها بحسب معنى الدعوة إلى التوحيد لا تختص بزمان دون زمان فان الدعوة عامة و ابدية.

الجهة الثانية: اتفق أرباب التواريخ أن إرسال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الرسل و الكتب إلى الملوك و الرؤساء كان في السنة السادسة من الهجرة، و يلزم ذلك أن هذه الآية الشريفة - قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - نزلت في تلك السنة أو قريبا منها، لأن الكتب كانت مشتملة على هذه الآية الشريفة.

و لكن اختلف أهل التاريخ في وفد نصارى نجران، فمنهم من قال

ص: 52

أنهم وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في السنه العاشرة من الهجرة، و منهم من قال: بأنهم وفدوا سنة تسع من الهجرة، و يلزم من ذلك الاختلاف في وقت نزول الآية الشريفة.

و يمكن القول بأن الإعتبار يشهد بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد كتب إلى نصارى نجران أيضا في السنة التي كتب إلى الملوك و الرؤساء، لأنهم كانوا اقرب اليه من غيرهم. فيكون ما ذكره المفسرون في شأن نزول هذه الآية الشريفة من باب الجريان و التطبيق و يمكن أن تكون الوفود متعددة فتارة وفدوا في سنة ست، و أخرى في سنة تسع أو عشر من الهجرة.

بقي شيء و هو أن البيهقي نقل في الدلائل: أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول اللّه إلى أسقف نجران إن إسلمتم فاني احمد إليكم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب أما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام - الحديث -.

و أشكل عليه أولا: بأن الكتاب لم يتصدر ببسم اللّه الرحمن الرحيم بخلاف سائر كتبه (صلى اللّه عليه و آله).

و يمكن الجواب عنه: بأنه ربما يكون الكتاب إلى نجران متعددا أو انما فعل ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأجل التودد و المجاراة معهم.

و ثانيا: أن سورة النمل مكية نزلت قبل هجرة النبي، و كيف يجتمع مع قصة نجران.

و فيه: بأن النزول له مراتب و المراد به في المقام قبل ظهورها

ص: 53

بين الناس و انتشاره. أو كان الكتاب إليهم قبل هجرته (صلى اللّه عليه و آله) لقرب دار نجران منه.

و ثالثا: انه يشتمل على أمور لا يمكن توجيهها، كحديث الجزية و الإيذان بالحرب و غير ذلك. و فيه: أن ذلك كان في مرحلة الإنشاء بداعي الترهيب دون الفعلية.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا - الآية قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يهوديا يصلي إلى المغرب، و لا نصرانيا يصلي إلى المشرق، لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله).

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): لا يصلي إلى المغرب..

و لا يصلي إلى المشرق. هو لزومه حد الوسط و عدم الانحراف عنه و يلزم ذلك انحراف الطائفتين عن الحق.

و أما قوله (عليه السلام): كان ابراهيم على دين محمد. أي ما يتخذه محمدا (صلى اللّه عليه و آله) دينا لأمته، و هو عبارة أخرى عن الدين الذي أوحاه اللّه تعالى إلى ابراهيم، و أمر تعالى محمدا أن يتبعه، فيصح أن يقال أن ابراهيم على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله) حيث انه شارح لملة ابراهيم، كما يصح أن يقال: أن محمدا على دين ابراهيم، أي أن اصول دين محمد متخذة من ملة ابراهيم.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان».

أقول: هذا هو معنى الوسط الذي قلناه و انه لم يكن منحرفا عنه و لو بشيء يسير، و أن دين غيره لا يخلو عن الشرك. و في المحاسن عن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ - الآية - قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أنتم و اللّه على دين ابراهيم و منهاجه، و أنتم أولى الناس به».

ص: 54

أقول: هذا هو معنى الوسط الذي قلناه و انه لم يكن منحرفا عنه و لو بشيء يسير، و أن دين غيره لا يخلو عن الشرك. و في المحاسن عن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ - الآية - قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أنتم و اللّه على دين ابراهيم و منهاجه، و أنتم أولى الناس به».

أقول: وردت في مضمون ذلك عدة روايات. و المراد بكونهم على دين ابراهيم لأنهم يبينون حقيقة دين ابراهيم علما و عملا، فلا محالة يكون أولى الناس به من يكون تابعا لمن يشرح ملة ابراهيم قولا و عملا.

و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «هم الأئمة و من اتبعهم».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في المجمع في قوله تعالى أيضا: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به، ثم تلا هذه الآية.

و قال: إن وليّ محمد من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته، و إن عدو محمد من عصى اللّه و إن قربت لحمته». و روى الزمخشري في ربيع الأبرار عن علي (عليه السلام) قريبا منه.

أقول: الروايات بهذا المضمون كثيرة جدا، و هي موافقة للقواعد العقلية التي تحكم بأن المتابعة إنما تتحقق في العمل بما يبينه المتبوع لا بمجرد القول فقط، و هذا الحديث يكون شارحا لجملة من الأخبار الواردة في المقام.

ص: 55

بحث تاريخي

روى أهل السير و التواريخ حديث هجرة أصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى الحبشة و ما لقوه من المتاعب و المصائب و ما جرى بينهم و بين النجاشي، و هذه الهجرة كانت أول احتكاك بين المسلمين و بين غيرهم، و قد أظهرت ثبات المسلمين، و سمو أخلاقهم، و علو حجتهم، و ستبقى هذه الهجرة الميمونة رمزا للفداء و التضحية، و لا بد للمسلمين أن يجعلوا هذه الهجرة محط انظارهم و يستفيدوا منها في تنظيم مجتمعهم و الاحتكاك مع غيرهم، و نحن ننقل هذه القصة لما تتضمن من الفوائد الجليلة و لتكون نورا يهتدي به المسلمون في جهادهم و كفاحهم و بلائهم.

و ليست هي من سبب النزول في هذه الآيات المباركة المتقدمة و إن ذكرها المفسرون في المقام.

فقد روى الواقدي في أسباب النزول، و الخازن في تفسيره و غيرهما عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب، قال: لما هاجر جعفر بن أبى طالب و أناس من اصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى أرض الحبشة و استقرت بهم الدار و هاجر النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة، و كان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، و قالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من اصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا و أهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، و لينتدب

ص: 56

اليه رجلان من ذوي رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص، و عمارة بن أبى معيط و معهم الهدايا: الإدم و غيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له و سلّما عليه، و قالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون، و لأصحابك محبّون، و أنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب، خرج يزعم أنه رسول اللّه، و لم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء، و إنا كنا قد ضيّقنا عليهم الأمر، و الجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع و العطش، فلما اشتدّ عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكم، قال:

و آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، و لا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك و سنتك.

قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب اللّه تعالى، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر، فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان اللّه و ذمته فنظر عمرو إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب اللّه و ما أجابهم به الملك؟ فاسائهما ذلك.

ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي و تحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد للّه الذي خلقك و ملّكك، و انما كانت تلك التحية لنا و نحن نعبد الأوثان، فبعث اللّه فينا نبيا صادقا، فأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه و هي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق، و أنه في التوراة و الإنجيل، قال: أيكم الهاتف: يستأذن

ص: 57

عليك حزب اللّه؟ قال جعفر: أنا، قال: انك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب، و لا يصلح عندك كثرة الكلام، و لا الظلم، و إنما أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما، و لينصت الآخر فتسمع محاورتنا، فقال عمر و لجعفر: تكلّم.

فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين، أ عبيد نحن أم احرار فان كنا عبيدا قد أبقنا من اربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي:

أ عبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام، فقال النجاشي:

نجوا من العبودية، فقال جعفر: سلهما، هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو: لا و لا قطرة، قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤها، فقال عمرو: لا و لا قيراط، فقال النجاشي:

فما تطلبون منهم؟ قال: كنا و إياهم على دين واحد، على دين آبائنا فتركوا ذلك، و اتبعوا غيره، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه، و الدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر باللّه و نعبد الحجارة، و أما الذي تحولنا اليه فهو دين اللّه الإسلام جاءنا به من عند اللّه رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.

ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب، و اجتمع اليه كل قسيس و راهب، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشي: أنشدكم باللّه الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا: اللهم نعم قد بشرنا. فقال: من آمن به فقد آمن بي، و من كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول

ص: 58

لكم هذا الرجل؟ و ما يأمركم به؟ و ما ينهاكم عنه: فقال يقرأ علينا كتاب اللّه و يأمرنا بالمعروف، و ينهانا عن المنكر، و يأمرنا بحسن الجوار، و صلة الرحم، و بر اليتيم، يأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا شريك له فقال له: اقرأ علىّ مما يقرأ عليكم، فقرأ عليه سورة العنكبوت، و الروم، ففاضت عينا النجاشي و أصحابه من الدمع، و قالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى و أمه، فقال النجاشي فما تقولون في عيسى و أمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، و قال: و اللّه ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.

ثم اقبل على جعفر و أصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، يقول: آمنون من سبكم و آذاكم غرم. ثم قال: ابشروا، و لا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. فقال: عمرو: يا نجاشي و من حزب ابراهيم؟ قال. هؤلاء الرهط، و صاحبهم الذي جاءوا من عنده، و من اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون و ادعوا دين ابراهيم.

ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه، و قال:

إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها، فان اللّه ملكني و لم يأخذ مني رشوة قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار، و أنزل اللّه عز و جل في ذلك على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في خصومتهم في ابراهيم و هو في المدينة: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و اللّه ولي المؤمنين.

هذا هو حديث الهجرة الذي رواه الفريقان بطرق مختلفة، و لا بد من التأمل فيه و الاستفادة منه في تكوين المجتمع الاسلامي،

ص: 59

و فيه الدروس القيمة في كفاح المسلمين و بلائهم.

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْل.......

اشارة

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (74) بعد أن دعا عز و جل أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم و سائر الأنبياء العظام، و سجل عليهم افتراؤهم على ابراهيم بانه يهودي أو نصراني، ورد عليهم حججهم في ذلك، يبين سبحانه في هذه الآيات حالهم بالنسبة إلى الحق و المؤمنين به من الكذب و الافتراء

ص: 60

و الإضلال، و ما يضمرونه في أنفسهم من العداوة بالنسبة إلى المسلمين و تثبت الآيات المتقدمة جملة من سجاياهم الفاسدة، و أخلاقهم الرذيلة و جهدهم في غواية المؤمنين و اضلالهم و الكيد بهم بكل وسيلة. و قد أمر اللّه تعالى المؤمنين بالثبات و متابعة هدى اللّه، و وعدهم الحسنى و الرحمة و الفضل العظيم.

التفسير

قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ .

الود هو المحبة، و يأتي بمعنى التمني أيضا إذا كان المحب مشتغلا بمقدمات ما يحبه، فيكون الود حينئذ اخصّ من التمني، و جملة (لو يضلونكم) تفسير له. و أهل الكتاب هم اليهود و النصارى. و الطائفة الجماعة، و المراد بها أهل الرأي و الجاه من الرؤساء و الأحبار و القسيسين فيكون (من) للجنس حينئذ.

و إضلال الكفار للمؤمنين هو صدهم عن الوصول إلى الكمال اللائق بهم بالغواية، و التشكيك في الدين، و إلقاء الشبهات و كل ما يوجب التزلزل في عقيدة المؤمنين، و الخروج عن ثباتهم، و ردّهم إلى الكفر.

و الآية تثبت الضلالة لهم، و حرصهم على الإضلال و الغواية.

و انما ذكر سبحانه كلمة (لو) إشارة إلى أن ودهم و محبتهم في إضلال المؤمنين لا تجاوز نياتهم الفاسدة و لا يتحقق في الخارج.

قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ .

لأن حبهم لإضلال المؤمنين، و صدهم عن الوصول إلى الكمال اللائق بهم لا يتحقق إلا بعد ضلالتهم و اعراضهم عن الحق، و بعدهم

ص: 61

عن الكمال الذي أعدّه اللّه تعالى لهم، و صرف أنفسهم عن كسب الأخلاق الفاضلة، و الفضائل الانسانية التي من أهمها حب الخير و الميل إلى الحق، و التحبب إلى أهله؛ و أن حرمانهم عن جميع ذلك و الاشتغال بالإضلال و التوجه إلى الغواية صرف للنفس عن نيل الكمال و السعادة و الهداية، و هم لا يشعرون بذلك إذ أن قصدهم و همّهم هو صدّ المؤمنين عن الإيمان و الحق، و قد استولى هذا الشرّ على نفوسهم فأوجب حرمانهم عن أهم الفضائل و مكارم الأخلاق. و مما ذكرناه يعرف وجه الحصر في الآية الشريفة.

و نفى الشعور عنهم مبالغة في ذمهم، و حرمانهم عن الحقيقة الانسانية التي بها ميّز اللّه تعالى الإنسان عن غيره.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

الاستفهام إنكاري توبيخي، و المراد بآيات اللّه الكمالات الانسانية و المعارف الحقة الإلهية، و الحقائق التي أنزلت في الكتب السماوية مثل نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، و البشرى به، و أن عيسى عبد اللّه و رسوله، و ان إبراهيم لم يكن يهوديا و لا نصرانيا، و أن اللّه واحد أحد لا شريك له و هو قادر على كل شيء، و غني عن العالمين، و غير ذلك من الحقائق التي قامت الدلائل الواضحة، و البراهين القويمة عليها، و أن إنكارها و الكفر بها بعد العلم بها يكون كفر جحود و مكابرة للحق، و هما من أعظم أنحاء الكفر و شناعته أكبر.

و الكفر بآيات اللّه غير الكفر باللّه تعالى الذي يكون منشأه الالتزام بالشرك و نفي التوحيد، و الأول اصطلاح قرآني يستعمل مع أهل الكتاب لأنهم لا ينكرون اللّه تعالى.

ص: 62

و إن كان الكفر بآيات اللّه، و أحكامه المقدسة، و المعارف الإلهيّة يستلزم الكفر به و عدم الايمان به و اليوم الآخر، و يدل عليه قوله تعالى:

«قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» التوبة - 29. فانه يدل على أن الكفر باحكام اللّه تعالى، و ما جاء به الرسول الكريم و عدم الايمان بها يستلزم الكفر باللّه و اليوم الآخر.

و لكن الكفر قد يكون صريحا معلوما للكافر، و قد يكون بالملازمة الخفية عليه بحيث لا يشعر به.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .

مبالغة في قبح كفرهم، و تشنيع لفعلهم، لان الكفر مع شهادة الآيات البينات على الوحدانية و الرسالة، لا يكون إلا عن جحود و فساد السريرة. و الشهادة من الشهود بمعنى الحضور، سواء كان بالحس أو بالوجدان.

و التعبير به لبيان أن علمهم انما هو من المشاهدة و الحسّ.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ .

مادة (لبس) تدل على الستر و التغطية، و سمي اللباس لباسا، لأنه يستر البدن و يغطيه. و لبس الحق بالباطل ستره و تغطيته بالباطل بإلقاء الشبهات عليه و تمويهه و خلطه بالباطل.

و المراد بالحق الحقائق الواقعية، و الكمالات الانسانية و المعارف الإلهية، منها البشارة بنبوة النبي (صلى اللّه عليه و آله) و نزول

ص: 63

القرآن عليه و غير ذلك مما أنزله اللّه تعالى على الأنبياء السابقين و أخبروا به أممهم.

و الاستفهام انكاري، و فيه من التوبيخ لهم و التشنيع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ .

كتمان الحق إما أن يكون بستره و عدم إظهاره، أو بتحريف الكتاب و جعله قراطيس يبدون شيئا منها و يخفون الكثير. أو بتمويه الحق بالتأويلات الباطلة و الأوهام الفاسدة، و الآراء المزيفة.

و قد بيّن سبحانه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم كتمان الحق الذي هو من أعظم الكبائر.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي و أنتم تعلمون الحق و تعرفونه إلا إنكم تكفرون به و تكتمونه و فيه من التشنيع عليهم، و التوبيخ لهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .

الطائفة الجماعة من الناس. و المراد من أهل الكتاب هنا اليهود الذين عرفوا بالغدر و الخيانة لأهل الإيمان. كما أن المراد بوجه النهار أوله في مقابل آخره، و سمي وجها لأنه أول ما يواجه الإنسان و يبدو

ص: 64

له بعد انقضاء الليل.

و الآية تدل على أن طائفة من اليهود هي الآمرة لطائفة أخرى منها بالإيمان أول النهار و الكفر اخرى، مخادعة للمؤمنين أو كيدا بهم، و محاولة لا ضلالهم عن الحق، و بعث الشك و الارتياب في نفوسهم و التشكيك في دينهم، و هذا من أهم الأعمال العدوانية التي مارستها اليهود ضد المسلمين و له الأثر الكبير في النفوس، و يعتبر من أعظم الحروب النفسية مع المسلمين أبان الدعوة الاسلامية.

و في التعبير ب «عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا» اشارة إلى ذلك، فان قصدهم كان إضلال المؤمنين و حرمانهم من الثبات و الاستقامة في الدين، و إعلان هذه الحرب معهم دون نفس القرآن و الإسلام، فان لهم بالنسبة إليهما شأنا آخر إما الكتمان أو التمويه و الخلط و نحو ذلك مما حكى اللّه تعالى عنهم آنفا.

و اختلف المفسرون في متعلق الظرف في قوله تعالى: «وَجْهَ اَلنَّهارِ ... و آخِرَهُ» . فالمشهور إن وجه النهار متعلق بجملة «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ» . و آخره متعلق ب «وَ اُكْفُرُوا» . أي خادعوا المؤمنين بهذا النحو من الخديعة، و هي الايمان الصوري بالقرآن و الرسالة أول النهار، و الالتحاق بالمؤمنين في هذا الوقت، ثم إظهار الكفر و الارتداد آخره، إيماء الى أن القرآن و الإسلام عاريان عن الصدق و الحقيقة، و أن ما ورد من البشارات في كتبهم لا تنطبق على هذا الدين الجديد و رسوله الكريم، و إيهاما للمؤمنين بأن أهل الكتاب العالمين بهذا الدين لم يتحقق لهم صدق الرسول، و حقانية الدين، و لم يكن هو ذلك المبشر به، فيرتاب المؤمنون في دينهم.

و قيل: ان الظرف متعلق ب (أنزل). أي آمنوا بالوحي النازل

ص: 65

على رسوله الكريم أول النهار الذي يوافق أهل الكتاب، و اكفروا بالوحي النازل عليه (صلى اللّه عليه و آله) آخر النهار الذي يخالف ما هم عليه، فيكون الايمان و الكفر متعلقين بشيء خاص، و هو الوحي الموافق و المخالف. و حينئذ يكون من وضع الظرف موضع المظروف. و أيّد ذلك ببعض الروايات.

و قيل: إن ذلك كان في شأن القبلة لما حوّلت الى الكعبة حيث ثقل ذلك على اليهود، فأمر اشرافها جماعة منها بالصلاة الى القبلة، الجديدة، و الإيمان بهذا التكليف الجديد أول النهار، و الكفر آخره لعل المؤمنين يرجعون عنه.

و الحق أن يقال: أن الآية لا غموض فيها و لا إجمال، و هي تثبت هذه المكيدة لليهود التي صدرت عنهم مرات عديدة و بأساليب مختلفة و قد ذكرنا انها من الحرب النفسية التي شنتها ضد المسلمين، و هي عامة تشمل جميع ما ذكر فلا وجه للتخصيص بشيء من ذلك.

و يحتمل أن يكون المراد من الآية الشريفة هو المعنى الكنائي أي المكر و الخديعة بهذا النحو مع المسلمين فحينئذ لا يلاحظ المعنى المطابقي بل يكون من إحدى صغريات المعنى الكنائي، كما هو معروف في علم الأدب. و حينئذ لا وجه لما ذكره المفسرون في الاختلاف في المتعلق.

قوله تعالى: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ .

غواية أخرى لأهل الكتاب و سبيل آخر من سبل اضلالهم، و الجملة من أقوالهم التي أرادوا بها الكيد بالمسلمين.

و الايمان يتعدى بالباء - و هو كثير - و قد يتعدى باللام فيفيد التصديق، و الثقة، و الركون، قال تعالى: «وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»

ص: 66

البراءة - 61. فيكون تصديقا خاصا لا يكون في مطلق الايمان، و يكون المراد من النهي هو عدم التصديق و الركون إلى المؤمنين.

و المعنى و قالت طائفة من أهل الكتاب - و هم اليهود على ما عرفت - لطائفة أخرى منهم لا تثقوا بغيركم فتظهروا أحاديثكم لأحد منهم و تلقون اليه السر الذي أودعه اللّه فيكم، فيكون النهي نهيا عن افشاء ما عندكم من الحق، و قد أخبرهم اللّه تعالى بظهور النبي (صلى اللّه عليه و آله)، و جعل معجزته في فيه، و ظهور الشواهد الكثيرة على صدقه.

و إنما نهوهم عن ذلك لما ذكره عز و جل في ما يأتي، و هو لئلا يكون للمسلمين مثل ما عندهم من الحق، أو تكون لهم الحجة.

و هذا هو كتمان الحق الذي عرفت به اليهود، و انما قالوا ذلك تعصبا منهم في حصر الحق في أنفسهم، و حسدا منهم بأنهم أولى بالحق من غيرهم، و كيدا بالمؤمنين.

و حينئذ فلا يختص هذا المكر باليهود فقط فكل من تعصب لنفسه و غلبت عليه العصبية يخفي الحق و لا يظهره لأحد من غير ملته، فتشمله الآية الكريمة.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ .

جملة اعتراضية بين اقوال الكائدين جيء بها للتأكيد على عدم إضرار كيدهم بمن لطف به اللّه تعالى، و لتثبيت إيمان المؤمنين، و التعجيل في تقريعهم، و الاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا اليه، و تسفيها لآرائهم. و الآية جواب عن جميع ما قالوه في الكيد بالمؤمنين و غوايتهم.

و نظير هذه الآية ما تقدم في سورة البقرة، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى» البقرة - 120 إلا إن الفرق بينهما أن المقام من القضايا الحقيقية الكلية المنطبقة على جميع الموارد، و هناك من قبيل القضايا الخارجية باعتبار تغيير القبلة، و انه كان من اللّه تعالى، كما أن القبلة السابقة كانت كذلك، و في المقام يكون باعتبار اصل الدين اصولا و فروعا، فيكون معنى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

ص: 67

و نظير هذه الآية ما تقدم في سورة البقرة، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى» البقرة - 120 إلا إن الفرق بينهما أن المقام من القضايا الحقيقية الكلية المنطبقة على جميع الموارد، و هناك من قبيل القضايا الخارجية باعتبار تغيير القبلة، و انه كان من اللّه تعالى، كما أن القبلة السابقة كانت كذلك، و في المقام يكون باعتبار اصل الدين اصولا و فروعا، فيكون معنى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

و المعنى إن الهدى الذي هو الغرض الاصلي من التشريعات السماوية و غاية سعي كل مؤمن انما هو هدى اللّه تعالى فقط الذي يحتاج اليه المؤمنون في جميع أمورهم دون ما اعتقده غيرهم، و العقل حينئذ يحكم باتباع هدى اللّه، و الاعراض عن غيره فلا يضرّ بعد ذلك كتمان أهل الكتاب الحق أو إظهاره.

قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ .

عود إلى مقالتهم، و بيان للسبب في نهيهم عن التصديق بغيرهم و افشاء السرّ، أي لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد من غيركم مثل ما أوتيتم من الحق فيعرفه فلا تنفع غواياتهم و مكائدهم و هذا يكون بحسب زعمهم الفاسد، و هو السبب في كتمانهم للحق أيضا.

و قيل: إن هذه الجملة متعلقة بالجملة السابقة التي أمر اللّه تعالى فيها رسوله بأن يقول لأهل الكتاب «إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» . و يكون قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ» تأكيدا لما أمر اللّه به أولا فلا يكون في البين فصل بكلام أجنبي. و تفيد هذه الجملة الإنكار لغيضهم و حسدهم، و تكون جوابا عن خدعهم، و لكن الأول هو الاولى.

ص: 68

قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ .

سبب آخر في كتمان الحق، و قد بين سبحانه هذا الأمر في موضع آخر، قال تعالى: «وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» البقرة - 77.

و ربما يكون الأمران متلازمين فان إيتاء غير اليهود الحق يلازمه المحاجة عند ربهم.

و إنما قطع سبحانه هذا الأمر عن سابقه (بأو) لبيان استقلال كل واحد من هذين الأمرين في مكائدهم و غيضهم. أو يكون الترديد باعتبار اختلاف العوالم، فان الأول في دار الدنيا، و الثاني يكون في عالم الآخرة.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ .

ردّ لما زعموه، و إبطال لحججهم في كتمانهم الحق. و الفضل عبارة عما يؤتى زيادة عن أصل الاستحقاق، و قد يطلق على أصل ما يؤتى و لو لم تكن زيادة. و المراد به المعنى الأعم من ذلك، بناء على ما أثبته جمع من الفلاسفة و المتكلمين من أنه لا استحقاق في البين أصلا و انما يكون مطلق عطائه تبارك و تعالى فضلا. و يراد به في المقام مطلق مواهبه و عطياته فتشمل اصل النبوة و الرسالة، و تفضيل بعض النبيين على بعض، و ما منحه اللّه تعالى لنبيه الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و أمته. فيكون مثل هذه الآية ردا على كل من زعم أن أفعاله و حركاته و سعيه مؤثرة في إزالة الحق عن مقره، أو تخصيصه لنفسه، فان الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء من عباده وفق الحكمة المتعالية، لا سيما في الفضائل المعنوية التي لا يعلم خصوصياتها أحد إلا اللّه تعالى الذي بيده

ص: 69

الملك يمنحه من يشاء من عباده.

و ما فضّله اللّه تعالى اليهود ببعض النعم، و منحهم الملك و النبوة قال تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ» * البقرة - 48. لا يستلزم اختصاصهم بالفضل و حرمان غيرهم منه فان الملك و الفضل بيد اللّه يعطيه من يشاء من خلقه، و يمنعه عمن يشاء.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

برهان قويم على بطلان مقالاتهم و حججهم في كتمان الحق. أي و اللّه واسع في فضله و رحمته لا يحدّهما شيء إلا أن يكون التحديد في الموضوع و المفضل عليه، عليم بخصوصيات فضله، و استعداد الموضوع و قابليته و هذا من القواعد العقلية المسلمة المعروفة، من أن الإفاضات لا بد أن تكون بقدر القابليات، و اللّه تعالى عليم بتلك القابليات لا يجهلها.

و الآية تدل على أن الفضل غير محدود بشيء فلا يوصف بالقلة مطلقا فلا يلزم من إعطائه لأحد انزوائه و منعه عن آخر، أو يحتاج إلى التماس مرجح لقلته و عدم وفائه للمجموع، بل الحدّ انما يكون من ناحية الموضوع و المفضل عليه، فتستفيض الموضوعات بقدر الاستعدادات و هو عليم بها.

فتكون الآية ردّا على أقوالهم و أفعالهم الفاسدة من تخصيص النعمة و الفضل لأنفسهم حسدا و بغيا، كما أن الآية الشريفة ردّ واضح لمقالة اليهود التي حكاها عز و جل عنهم «قالوا يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» المائدة - 64.

ص: 70

قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ .

لمّا اثبت سبحانه أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، واسع في إيتاء الفضل، عليم بمواضعه. ذكر هنا أنه لم يمنعه أحد من ذلك، و لا شيء يصرفه عن الرحمة بعباده فله أن يتصرف في ملكه بأي نحو أراد فيختص برحمته من يشاء منهم لعلمه بأهليته لها، و لكن ليس كل أحد من عباده يستحق الفضل منه عز و جل، فتكون الرحمة تحت إرادته و مشيته.

و إنما عدل سبحانه عن الفضل، و ذكر الرحمة هنا لبيان أن الأول من شعب رحمته، و أوسعيتها من الفضل، لقوله تعالى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ» الأعراف - 156. و يمكن أن تكون الرحمة استحقاقية بخلاف الفضل فانه ليس كذلك مطلقا.

و إنما اطلق سبحانه الرحمة لتشمل كل ما يكون دخيلا في سعادة الإنسان دنيا و آخرة أو هما معا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ .

تعليل لجميع ما تقدم، فان عظمة الفضل تستلزم أن يكون واسعا يشمل كل جهات الفضل، و كل من يريده عز و جل و تتعلق به مشيته و يعلم بأهليته لهذه المنحة الربانية فيختص برحمته من يشاء من عباده، و يعطيه ما هو اللائق بحاله. و الفضل هنا يشمل الرحمة أيضا.

ص: 71

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على شدة الصراع بين الحق و الباطل، و كيد أهل الكتاب في اطفاء نور اللّه تعالى و ستر الحق، و قد توسلوا بجميع ما احتملوا تأثيره في إضلال المؤمنين و غوايتهم، و قد ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات أصول مكرهم، و بينها في مواضع أخرى من القرآن الكريم، و يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام:

الاول: كيدهم بالنسبة إلى أصل الإيمان و الحق، و يدل عليه قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، و قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» . و هما يدلان على أن كتمان الحق و تلبيسه بالباطل و الكفر بآيات اللّه هي من عادتهم، و قد بين سبحانه في مواضع متعددة من القرآن الكريم سبل هذه المكيدة و الخديعة.

الثاني: خديعتهم بالنسبة إلى أهل الايمان و المؤمنين، و يدل عليه قوله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ» ، و قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ» . و ذكرنا أن هذه الخديعة من أهم ما أرادوا بها التأثير على نفسية المؤمنين و تذليلها، و الشك في إيمانهم.

الثالث: مكرهم بالنسبة إلى الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و يدل عليه قوله تعالى: «وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ، و يدل

ص: 72

عليه ايضا قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أيضا، فقد كذبوا الآيات الباهرات التي دلت على صدق رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)، و ما عرفوه من الدلائل على نبوته و رسالته و صدق دعواه التي وردت في كتبهم.

و قد واجه المسلمون أبّان الدعوة الاسلامية هذه المكائد و الخدع من الكافرين و عانوا منها أشد المعاناة و لا يزالون كذلك، إلا أنه تعالى أظهر كيدهم و خدعهم، و أمر المسلمين بالصبر و الاستقامة و الالتفاف حول الرسول الكريم و اتباعه، و في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» كمال العناية بالمؤمنين، و فيه إيماء إلى انهم على هداية اللّه تعالى، و أمرهم بالتمسك بها و الاستقامة عليها.

بحث روائي

في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ...» قال «إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما قدم المدينة، و هو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه اللّه عن بيت المقدس الى بيت اللّه الحرام وجدت اليهود من ذلك، و كان صرف القبلة صلاة الظهر، فقالوا: صلى محمد الغداة و استقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار و اكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول اللّه المسجد الحرام».

أقول: يصح أن تحمل هذه الرواية على بيان بعض مصاديق عاداتهم لا الاختصاص، و أن مورد النزول لا يكون مخصصا للحكم

ص: 73

كما هو المعروف.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا...» . قال الحسن و السدي: تواطأ إثنا عشر حبرا من يهود خيبر - و قرى عرينة - و قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، و اكفروا به آخر النهار و قولوا: إنا نظرنا في كتبنا، و شاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك و ظهر لنا كذبه، و بطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم و قالوا: إنهم أهل الكتاب و هم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، و أخبر به نبيه محمدا (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين.

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك آنفا.

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَ.......

اشارة

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ

ص: 74

بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78) بعد أن بين سبحانه و تعالى بعض احوال اهل الكتاب بما يثبت غرورهم و تكبرهم على الحق، و أظهر أخلاقهم الفاسدة و شرح معايبهم ذكر هنا مظهرا من مظاهر غرورهم و هو نقض العهد و خيانة الامانة فان بعض اهل الكتاب أباحوا لأنفسهم استحلال أموال المسلمين اغترارا منهم بالعصبية الحمقاء، و قالوا بأن اللّه تعالى خصهم بالكرامة و حباهم بالنعمة حيث جعل فيهم النبوة و الملك، و أن غيرهم لا حظ لهم منها و نسبوهم الى الأمية، و كان من آثار هذا الاعتقاد الفاسد أنهم استحلوا نقض العهد مع غيرهم، و أباحوا لأنفسهم سلب حقوق الناس، و نهب أموالهم، و الخيانة معهم، و أرادوا من ذلك حصر المؤمنين و الضغط عليهم بالحرب الاقتصادية عليهم و لكنهم احتفظوا لأنفسهم هذه الحقوق، و حظروا نقض العهود في ما بينهم، و قد أوعدهم سبحانه و تعالى سوء الخاتمة، و أشد العذاب و الحرمان عن رحمته عز و جل جزاء كذبهم و افترائهم على اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ .

تأمنه من الايتمان. و القنطار هو المال الكثير المعبر عنه في الروايات

ص: 75

بملء مسك ثور، و الكثرة من الأمور النسبية تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، و لعل اختلاف العلماء في معناه ناشئ من ذلك، و تقدم بعض الكلام فيه في قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ» آل عمران - 14.

و الدينار لفظ أعجمي، و يلؤه بدل عن نون، و أصله دنّار، فأبدل أول النونين ياء لوقوعه بعد كسرة، و جمعه دنانير، و هو مثقال شرعي من الذهب المسكوك و يساوي 25 و 4 غرام من الذهب وزنا في هذه الأعصار. و المراد من القنطار و الدينار في المقام المعنى الكنائي و هو المال الكثير، و القليل.

و المعنى إن من أهل الكتاب من لا يخون في الأمانة و لو كانت كثيرة و منهم من يخونها و إن كانت قليلة.

و الآية تبين العادة التي جرت عليها الطائفتان من أهل الكتاب فلا تختص بمورد خاص و أفراد معينين.

و الترديد باعتبار اختلاف أهل الكتاب في حفظ الامانة و رعاية العهد، و انهم على طرفي نقيض، فان بعض أهل الكتاب يحفظ الأمانات و يراعى العهود مطلقا بلا فرق بين أن تكون الامانة من أهل ملتهم، أو تكون من غيرهم، و سواء كانت حقيرة أو خطيرة، و منهم على نقيض ذلك لا يحفظ العهد، و لا يؤدي الامانة إن أؤتمن عليها مطلقا.

و انما قطع سبحانه هذه الآية عن الآيات السابقة، و وضع الظاهر موضع المضمر و قال تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ» دون «و منهم» لبيان أن هذه الطائفة التي تحفظ الأمانات غير الطائفة السابقة التي تخادع المؤمنين و تكيدهم بقولها «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ» و أن الطائفة الخائنة هي تلك الطائفة المغرورة، و هي اليهود - على ما عرفت سابقا - التي تزعم أن اللّه تعالى فضلهم على سائر خلقه، و أن لا سبيل عليها من غيرها من سائر الملل و النحل، فيجوز لليهودي أكل أموال المسلمين، و نقض كل عهد إلهي و إنساني معه، بل لا حقوق و لا حرمة له، و نسبوا ذلك الى كتبهم المقدسة، و هذا هو التحريف الذي عرفت به اليهود، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم بذلك، و انما أمرهم أحبارهم و رهبانهم بها بعد ترويج النزعة العصبية بين اليهود، و المغالاة في أنهم شعب اللّه المختار، فاستولى عليهم روح البغي و الفساد غرورا.

ص: 76

و انما قطع سبحانه هذه الآية عن الآيات السابقة، و وضع الظاهر موضع المضمر و قال تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ» دون «و منهم» لبيان أن هذه الطائفة التي تحفظ الأمانات غير الطائفة السابقة التي تخادع المؤمنين و تكيدهم بقولها «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ» و أن الطائفة الخائنة هي تلك الطائفة المغرورة، و هي اليهود - على ما عرفت سابقا - التي تزعم أن اللّه تعالى فضلهم على سائر خلقه، و أن لا سبيل عليها من غيرها من سائر الملل و النحل، فيجوز لليهودي أكل أموال المسلمين، و نقض كل عهد إلهي و إنساني معه، بل لا حقوق و لا حرمة له، و نسبوا ذلك الى كتبهم المقدسة، و هذا هو التحريف الذي عرفت به اليهود، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم بذلك، و انما أمرهم أحبارهم و رهبانهم بها بعد ترويج النزعة العصبية بين اليهود، و المغالاة في أنهم شعب اللّه المختار، فاستولى عليهم روح البغي و الفساد غرورا.

قوله تعالى: إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً .

استثناء من عموم الأوقات أو الأحوال. و دمت بضم الدال من دام يدوم، كقام يقوم. و قرئ بكسر الدال من دام يدام، كخاف يخاف. و يراد من هذه الجملة المعنى المجازي و هو الكناية عن شدة الإلحاح في التقاضي و الوفاء، فان قيام المطالب على رأس المديون، و ملازمته له فيه المبالغة في الاقتضاء و المطالبة.

و المعنى انه لا يؤدي الأمانة التي ائتمنته إياها إلا إذا ألجئته إلى ذلك بالمطالبة و الاقتضاء.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .

الأميّ من لا يقرأ و لا يكتب. قيل: المراد من الأميين في المقام العرب باعتبار أن الغالب منهم لا يقرءون و لا يكتبون. و قيل: يحتمل أن يكون المراد منهم أتباع الرسول النبي الأمي (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 77

و قيل: المراد منهم من عدا بني إسرائيل، فإنهم ينسونهم إلى الأمة أو الأمم.

و كيف كان فان هذه التسمية التي وردت في القرآن أصلها ما ورد في كتب اليهود من تسمية غير بني إسرائيل بالأممي، و هي من الألقاب التي أرادوا بها تحقير غيرهم، و الحط من كرامتهم باعتبار انهم بمنزلة البهائم غير مؤهلين للمخاطبة و انهم لا حرمة لهم يباح سرقة أموالهم، و الخديعة معهم، و الكذب عليهم، و هتك اعراضهم، و هدر كرامتهم و حرمانهم من جميع الاحكام الاجتماعية و العقلية. و قد أعرض سبحانه و تعالى عن ما ورد في كتبهم إبطالا له، و أوجز سبحانه جميع تلك الجرائم و الموبقات في كلمة واحدة، و هي «ليس علينا في الأميين سبيل».

و اسم الإشارة (ذلك) يرجع الى ما هو المدلول عليه في الآية السابقة و هو عدم أداء الامانة و الخيانة فيها. و هذه هي حال الطائفة التي ذكرها عز و جل في قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» . فيكون ذكر الطائفة الأخرى الحافظة للعهود، و المؤدية للأمانات لبيان اغترار الطائفة الأولى، و بعدهم عن الحقيقة و هم يعلمون أن اللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء و المنكر، و لا يرضى بأفعالهم القبيحة.

و ضمير الجمع في (بأنهم قالوا) راجع إلى أفراد هذه الطائفة الخؤونة، و كذلك الضمائر في الآية الكريمة اللاحقة.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

دليل على انهم كانوا ينسبون أقوالهم و أفعالهم الى اللّه تعالى،

ص: 78

و قد ذكرنا آنفا أنهم كانوا يدعون أن ذلك في كتابهم، و يجعلونها من شريعة السماء. و قد أبطل سبحانه دعواهم، و أثبت أن الكذب من عادتهم. و هم يعلمون أن ذلك تشريع باطل، و افتراء على اللّه عز و جل، و هو لا يأمر بالفحشاء و المنكر، بل إن كتبهم المقدسة تأمرهم بالصدق في أقوالهم و أفعالهم، و تنهاهم عن الخيانة، و الغدر و الكذب، مضافا إلى أن جميع ذلك من الاحكام العقلية التي استقل العقل بحسنها، و يلزمهم الشرع بإتيانها.

قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى .

ردّ على مزاعمهم، و تكذيب لدعواهم، و اثبات لما أراده اللّه تعالى من خلقه، و هو الحق. و أوفى من الإيفاء و هو العطاء و البذل تاما من غير زيادة و لا نقيصة. و وفاء العهد هو حفظه، و مراعاته و العمل به. و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، فقد ورد فيه: و في، و أوف، و أوفوا، و الموفون.

و العهد عبارة عن الالتزام بشيء فيجب الوفاء به عقلا و شرعا، بلا فرق فيه بين عهود اللّه تعالى مع خلقه، أو عهود بعضهم مع بعض، كما لا فرق بين العهود الخاصة بين بني إسرائيل، و العهود العامة بين جميع الناس. و المراد بالعهود في المقام ما عاهده اللّه تعالى على عباده بواسطة أنبيائه من الإيمان به، و عبادته، و التصديق برسله و العمل بما أنزله عز و جل من مكارم الأخلاق و غيرها.

و على هذا لا فرق بين رجوع الضمير في (عهده) إلى (من) المتقدمة، أو اللّه في قوله تعالى: «وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ» .

إذ العهود الواقعة بين الناس من عهد اللّه تعالى، يجب الوفاء بها شرعا

ص: 79

و يحرم نقضها، و الغدر بها.

و المراد من (اتقى) ملازمة تلك العهود و مراعاتها عملا و إظهارها خارجا، و ترك الخيانة فيها و الغدر بها.

و المعنى: إنكم - يا أهل الكتاب - أخطأتم في دعواكم بل السبيل ثابت عليكم في جميع ما نفيتم عنه السبيل، و أن من أوفى بعهده، و أتقى اللّه تعالى في دينه، و لم يغدر و لم يخن في عهوده و لم يخالفه، فان اللّه يحب المتقين.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ .

قضية عقلية مشتملة على المعلول و علته، و هي تبين أن من اوفى بعهد اللّه تعالى، و اتقاه عز و جل بالطاعة و الانقياد له، و عدم مخالفته في أمر من الأمور يكون من المتقين، و اللّه يحب المتقين.

و محبة اللّه تعالى هي غاية الكمالات الانسانية، بل لا يتصور فوقها كمال، و هي السعادة القصوى التي تعمر بها الدنيا، و تصلح الآخرة و هي الكرامة الربانية التي لا يمكن أن ينالها إلا من جاهد فيه حق جهاده و قد قرر سبحانه إنها تحصل بالوفاء بعهده تعالى، و التقوى في الدين التي هي الحصن الذي يمنع التعرض لسخطه تعالى و غضبه، و الوقوع في محارمه و مخالفته. و لا يمكن أن يحظي بمحبته كل مدع و محتال.

و انما ذكر سبحانه المتقين لبيان أن العلة للمحبة هي التقوى. كما أن فيه التعرض لأهل الكتاب بأنهم ليسوا على التقوى.

ص: 80

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً .

بعد ما ذكر سبحانه أن محبة اللّه تعالى تختص بمن أوفى بعهده مع اللّه تعالى، و اتقاه في دينه. بيّن تعالى في هذه الآية أهل الغدر و الخيانة، و أنهم لا كرامة لهم حتى يستحقوا محبة اللّه، و ذكر جزاءهم و العلة في استحقاقهم له، و هم الذين حرّموا أنفسهم من المحبة الإلهية جزاء لأفعالهم القبيحة، و هي الغدر و نقض عهد اللّه عز و جل، و ترك التقوى.

و المراد بالثمن القليل متاع الدنيا، فان الدنيا و ما فيها بالنسبة إلى محبة اللّه و كرامته و الايمان به قليل، كقلة ما هو فان بالنسبة إلى ما هو أبدي دائم، و إن كان زمان الفاني طويلا جدا.

و الاشتراء هو البيع، و يراد به مطلق المبادلة، أي يبدل الايمان به عز و جل و الوفاء بعهده، و الجزاء الأوفى الذي أعدّه اللّه تعالى لمن وفى و اتقى بالثمن القليل و هو متاع الدنيا.

قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ .

الخلاق النصيب و الحظ. و أولئك إشارة الى الطائفة الخؤونة بالعهد الناقضة للميثاق. و إنما أشار إليهم بالبعيد إيماء لبعدها عن قربه عز و جل بسبب نكث عهد اللّه و استبداله بالأغراض الموهومة، بخلاف الطائفة الاخرى التي آثرت طاعة اللّه عز و جل فوفت بعهده تعالى فإنهم مقربون بحبه تعالى لهم، لأنهم تقربوا اليه عز و جل بالتقوى و الوفاء

ص: 81

بالعهد و المراد بالآخرة الدار الآخرة و يوم المعاد، اكتفاء بذكر الوصف عن الموصوف.

اي لا نصيب لهم من نعيمها، لأنهم آثروا نعيم الدنيا القليل الزائل على الآخرة و نعيمها الدائم الباقي.

قوله تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ .

استهانة بهم، لتوغلهم في سخطه تعالى و غضبه عز و جل.

قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

نظر عطف و رحمة في يوم القيامة.

و هذان الأمران كناية عن الإعراض عنهم و الغضب عليهم و البعد عنهم، لعدم حب اللّه تعالى لهم الذي كرّم به عباده الموفين بعهده المتقين في دينه.

و في تخصيص هذين الأمرين لبيان منتهى الغضب، و عدم الاعتناء في يوم يشتد احتياج الإنسان إلى تكليم اللّه و نظره اليه، لعظم محنته و بانتفائهما لا يبقى له أمل و رجاء في رفع الشدائد و الأهوال.

قوله تعالى: وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

التزكية التنمية و التطهير و التخليص عن كل ما يشينه. اي و لا يدخلهم في عداد الأولياء ليرفع عنهم أوزارهم بالمغفرة و العفو. و لهم عذاب مولم. و ظاهر السياق أن التزكية و العذاب لا يختصان بالآخرة بل يعمان الدنيا أيضا.

ص: 82

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ .

مادة (لوي) تدل على الفتل، و الطي، و الإخفاء. و الجامع في ذلك كله الميل، قال تعالى: «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» المنافقون - 5.

أي أمالوا رؤوسهم و المراد ب (لي ألسنتهم) صرف الكلام عن معناه إما بالتحريف، أو بالقرائة بلحن خاص. و قد بين سبحانه و تعالى ذلك في موضع آخر قال عز و جل: «مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ» النساء - 46. و يستفاد من هذه الآية أن المراد من الفريق في المقام هم اليهود خاصة.

قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ .

الحسبان هو الظن أي أن اللّي كان لأجل الإيهام عليكم - أيّها المؤمنون - بأن الكلام يشابه كلام اللّه تعالى و ما هو من كلام اللّه.

و انما كرر سبحانه الكتاب لدفع اللبس، فان الأول يراد به الكتاب المحرف، و الثاني كتاب اللّه المنزل، و كذلك الثالث، و انما وضع الظاهر موضع المضمر فيه لبيان أن كتاب اللّه أرفع منزلة من أن يشتمل على المفتريات و الأباطيل، و أعظم شأنا من أن يندرس بالتحريف.

ص: 83

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

بيان لشدة غوايتهم، و انغمارهم في الغرور. أي لا يكتفون بالتعريض و الإيهام فقط، بل يصرحون بأن ما حرفوه هو من عند اللّه نازل منه عز و جل.

قوله تعالى: وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

تكذيب لدعواهم، و نفي لكون ما لووا ألسنتهم فيه نازلا من عنده عز و جل.

و انما كرر لفظ الجلالة لبيان عظيم الجرأة على اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

تأكيد لكذبهم و افترائهم على اللّه. و زيادة في التشنيع عليهم، و لبيان أن تحريفهم للكتاب كان عن عمد و إصرار منهم، و لنفي جميع انواع التحريف و اقسامه تعريضا و تلويحا و تصريحا، و فيه الإشارة إلى أن الكذب من دأبهم و عادتهم.

بحث دلالي

اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول:

يدل قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...» على وجود الاختلاف في طوائف اهل الكتاب في الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة و أدائها. و السبب في ذلك ما ذكره عز و جل في ذيل الآية الشريفة: «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى» ، فان الوفاء بعهد اللّه و التقوى في دينه يقتضي الامانة في اموال الناس و نبذ الخيانة فيها، و تختلف درجات الإيمان حسب تفاوت درجات الوفاء بالعهد و التقوى.

ص: 84

يدل قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...» على وجود الاختلاف في طوائف اهل الكتاب في الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة و أدائها. و السبب في ذلك ما ذكره عز و جل في ذيل الآية الشريفة: «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى» ، فان الوفاء بعهد اللّه و التقوى في دينه يقتضي الامانة في اموال الناس و نبذ الخيانة فيها، و تختلف درجات الإيمان حسب تفاوت درجات الوفاء بالعهد و التقوى.

فيستفاد من هذه الآيات الشريفة أن أداء الامانة، و الوفاء بالعهد إنما يكونان من أجزاء الإيمان و لا يتحقق إلا بهما.

و من ذلك يظهر أن ما ورد في هذه الآيات لا يختص باهل الكتاب بل ينطبق على المسلمين إذا نقضوا العهد و خانوا الامانة و يترتب على ذلك جميع الآثار الدنيوية و الاخروية ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر)، و هذا حكم عقلي غير قابل للتخلف و الاختلاف و قد وردت أحاديث كثيرة عن المعصومين (عليهم السلام) تدل على ما ذكرناه.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» انحصار جرائم اليهود و الموبقات التي ارتكبوها في حق أنفسهم و بالنسبة إلى غيرهم في الغرور الذي هو أم المفاسد و الخبائث الخلقية و الدينية، و يتشعب منه التكبر على سائر الخلق و الظلم بالنسبة إلى العباد، و تحقير الضعيف، و عدم الاعتناء بالفقير، و الكذب على اللّه و على الناس إلى غير ذلك من المفاسد، و قد كذّبهم اللّه تعالى و شنع عليهم، و أوعدهم العذاب الشديد.

الثالث:

إنما ضرب سبحانه و تعالى المثل بالقنطار و الدينار لكثرة اهتمام الناس بالأموال، و لمعلومية الامانة و الخيانة فيها عندهم، و هما

ص: 85

مثالان للقلة و الكثرة، و انما بدأ بالطائفة الأولى الأمينة لشرف الأمانة و عظم أمرها.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ» على أن التقوى في كل دين هي الأساس في الالتزام باحكام اللّه تعالى و العمل بدينه، و هي السبب لتقرب العبد إلى اللّه عز و جل، و الدخول في محبته. كما انها الدرع الحصين الذي يمنع الإنسان عن الوقوع في مخالفة اللّه سبحانه و الدخول في غضبه، و البعد عنه.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً» على أن كل ما يكون بإزاء الايمان، و يعوض عنه و بعهد اللّه يكون قليلا، كائنا ما كان في الرفعة، و العظمة، و الكثرة بل و لو كانت الدنيا و ما فيها، لشرف الايمان و عهد اللّه و عظم الجزاء الذي أعدّه اللّه تعالى لهما.

السادس:

يستفاد من تكرار الوعيد و اختلاف أنواعه عظم الذنب و بشاعة الجريمة، فان شدة العذاب تدل على عظم موجبه. و هو يدل على التشديد في الوفاء بالعهد و أداء الامانة، و هو كذلك فان بهما ينتظم النظام الاعتقادي و الاجتماعي للإنسان و بذهابهما يفسد النظام و تكثر الجرائم و تسود الخديعة و الابتزاز، و يذهب المعروف بل يصير منكرا، فلا يبقى خلق كريم و لا معيار اخلاقي لتمييز مكارم الأخلاق عن سفاسفها.

و يمكن أن يكون تعدد الوعيد لأجل تعدد موجباته التي فصلها عز و جل في الآيات السابقة من حبهم لإضلال المؤمنين، و كفرهم بآيات اللّه، و تلبيس الحق بالباطل، و كتمان الحق و من خديعتهم بالمؤمنين، و خيانتهم في الأمانات، فتكون هذه الآية الشريفة كالنتيجة لتلك الآيات السابقة.

ص: 86

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» قال: فان اليهود قالوا يحلّ لنا أن نأخذ مال الأميين. و الأمييون الذين ليس معهم كتاب.

أقول: لا بأس بتفسير الأميين بذلك، فانه تفسير لبعض مصاديق الأميين، و قد تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الكلمة، فراجع.

و في مجمع البيان في قوله تعالى أيضا عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «كذب أعداء اللّه ما من شيء كان في الجاهلية ألا و هو تحت قدمي إلا الأمانة، فإنها مؤداة الى البر و الفاجر».

أقول: هذا الحصر إضافي، و إلا فان جملة مما كان في الجاهلية قررتها الشريعة المقدسة، كما هو المعروف. و الحديث في مقام نفي مقالة اليهود و دعاويهم الباطلة لا في مقام الحصر الحقيقي.

و في الكافي في قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ - الآية -» عن الباقر (عليه السلام) قال: «أنزل في العهد: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم اللّه و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم. و الخلاق النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة».

أقول: ما ورد في الحديث دليل عقلي على عدم دخولهم الجنة».

و يؤيده قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة، فمن لم يزرع شيئا لم يحصد غدا».

و في توحيد الصدوق عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) في

ص: 87

قوله تعالى: «وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» . يعني لا يصيبهم بخير.

و في أمالي الشيخ باسناده عن عدي بن عدي عن أبيه. قال:

اختصم امرؤ القيس و رجل من حضر موت إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في أرض. فقال: ألك بينة؟ قال. لا، قال:

فبيمينه، قال: إذن و اللّه يذهب بأرضي. قال (صلى اللّه عليه و آله) إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم. قال: ففزع الرجل و ردّها اليه».

و في اسباب النزول للواحدي، و الدر المنثور في الآية الشريفة.

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «من حلف على يمين و هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه و هو غضبان، فقال للأشعث بن قيس: فىّ و اللّه نزلت كان بيني و بين رجل من اليهود ارض فجحدني، فقدمته الى النبي (صلى اللّه عليه و آله). فقال:

ألك بينة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: أ تحلف؟ فقلت: يا رسول اللّه إذن يحلف فيذهب بمالي. فانزل اللّه عز و جل: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا - الآية -».

أقول: يمكن أن يكون مورد النزول واحدا و هو اليمين الكاذبة و ما ذكر في شأن النزول المتعارضة يكون من باب التطبيق، و حينئذ يكون كل من اشترى بعهد من عهود اللّه تعالى أي عهد كان، فقد اشترى بعهد اللّه ثمنا قليلا، و قد ذكرنا أن جميع احكام اللّه تعالى عهوده بالنسبة إلى عباده.

ص: 88

بحث قرآني

الآيات الشريفة التي وردت في أحوال أهل الكتاب - ذات المقاطع الثلاثة - هي من أدق ما ورد في القرآن الكريم في وصف أهل الكتاب في الحال و المآل، فقد استوفت جميع الجوانب الظاهرة و الخفية التي لم يطلع عليها أحد إلا اللّه تعالى، و تبين ما تطويه ضمائرهم، و ما يختلج في نفوسهم بالنسبة إلى الرسول و المؤمنين و أصل الإيمان، و لا أظن أحدا يمكنه - مهما بلغ به الأمر - أن يصف عدوا بمثل ما وصف به القرآن الكريم أهل الكتاب، فقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآيات جميع الوسائل و السبل التي تشبث بها أهل الكتاب في الهدم و التخريب و التشويه، و هي من ملاحم القرآن الكريم التي ظهرت آثارها من حين نزوله و بلغت أعلى مراتبها في هذه الأعصار. و هي تدل على أمور لا بد من ملاحظتها و البحث حولها، و هي:

الاول: أن أهل الكتاب من أعداء الإسلام و المسلمين، بل من ألد أعدائهم.

الثاني: انهم يضمرون في نفوسهم الكيد بالمسلمين و خديعتهم، و لا يدعون فرصة يمكن أن يستفيدوا منها في تحقيق نواياهم.

الثالث: أنهم يخادعون المؤمنين و يشنون الحرب النفسية عليهم، و هي من أهم السبل في زعزعة الإيمان، و قد عرفنا القرآن الكريم بهذه الخديعة قبل استعمالها في عصرنا الحاضر بأشد أنواعها و وسائلها و حذر المسلمين من آثارها.

الرابع: الحرب الاقتصادية بالاستيلاء على اموال المسلمين و وسائل

ص: 89

عيشهم، و جميع ما يمكن أن يتمتعوا بها في حياتهم.

الخامس: إثارة الفتن و تشويه سمعة الرسالة و المؤمنين، و هما الحرب الدعائية التي بلغت أوجها في العصر الحاضر، و بيّن سبحانه و تعالى مخاطر هذه الطريقة، و طرق التحذر منها.

السادس: و هو من أهم الأمور التي أكد عليه سبحانه و تعالى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، و حذّر المؤمنين منه، و بين كذب أهل الكتاب و أوعد عليه أشد العذاب، لعلمه عز و جل بشدة تأثير هذا الأمر في الناس، و هو هدم الدين بالدين، أو التستر به في تحقيق جرائمهم و نواياهم الفاسدة، و هو من أشد الوسائل التي تمسك بها أهل الكتاب لإظهار الفتن، و قتل النفوس أو سلب الأموال، و هتك الاعراض و لا يمكن معرفة هذه الطريقة إلا بالرجوع إلى تعاليم القرآن الكريم، لشدة تأثيرها، و دقتها و عدم إمكان التمييز بينها و بين الطريق المستقيم.

و لا بد للمسلمين من الالتفات إلى جميع ما ذكرناه و التحذر من أهل الكتاب. و الرجوع إلى تعاليم الإسلام في التصدي لخدعهم و مقابلتهم فإنها السبيل الوحيد في رد مكائدهم، و يرشد إلى ذلك قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن الكريم - الحديث -». و يبين طريق التخلص من هذه الفتن.

ص: 90

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي م.......

اشارة

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) الآيات تتعرض لحال أهل الكتاب بالنسبة إلى الأنبياء و افترائهم عليهم كما افتروا على اللّه تعالى على ما حكى عز و جل عنهم في ما سلف من الآيات، و قد نسبوا الألوهية إلى الأنبياء و اتخذوهم أربابا من دون اللّه، و فيها نزّه عز و جل ساحة الأنبياء مما قد نسب إليهم و أثبت أنهم عباد مربوبون، و لم يدع أحد منهم الربوبية لنفسه، و أقام الحجة على ذلك، و ذكر أن كل عبد آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة لا يمكن أن يتعدى طور العبودية، و لم يخرج عن زي الرقية للّه تعالى فكيف يدعي الربوبية و يأمر الناس بالعبودية له، و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة المتعرضة لأحوال أهل الكتاب و افتراؤهم على اللّه تعالى و الأنبياء، و هي بمجموعها في مقام الاحتجاج و الردّ عليهم و إبطال دعاويهم، و لا تخلو هذه الآيات عن التعرض لحال النصارى في ما يدعونه في المسيح و تثبت براءته منه.

ص: 91

التفسير

قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ .

البشر لفظ يرادف الإنسان، يطلق على الواحد و الجمع، ذكرا و أنثى، لأنه بمنزلة المصدر. و انما سمي بشرا لظهور بشرته و عدم سترها بشيء، و اللام في (لبشر) للحق، و يدل عليه قوله تعالى حكاية عن عيسى: «وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» المائدة - 116. و المراد به نفي الحقية التكوينية، أي لا حق تكوينا.

و ذكر هذا اللفظ و تعليق الحكم عليه لبيان الدليل و السبب أي أن البشرية تنافي الألوهية و انها غير ممكنة ذاتا الا بمجرد الادعاء الباطل.

و على هذا تكون جملة (ما كان لبشر) لنفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الوقوع. أي ليس من شأن بشر ذلك و لا حق له في أن يدعي الربوبية، بل يمتنع تحقق ذلك، لأنه من الجمع بين المتناقضين، و إن تحققت الدعاوي من مثل فرعون و نمرود، لكنها خارج عن موضوع الآية رأسا لأنهما بمعزل عن الكتاب و الحكم و النبوة.

و المراد من الكتاب ما هو المشتمل على المعارف الربوبية، و الاحكام الإلهية و مكارم الأخلاق. كما أن المراد من الحكم هو الولاية على فصل القضاء بين الناس بأمر إلهي. و المراد من النبوة تلك الصفة الخاصة التي يمنحها اللّه تعالى من يشاء من عباده.

ص: 92

و تصور هذه الموضوعات الثلاثة بنفسها يغني عن الاستدلال على امتناع دعوى الألوهية، فالآية الشريفة من القضايا التي قياساتها معها.

و إنما جمع سبحانه بين هذه الأمور الثلاثة، لبيان أن هذه الصفات موجبة للدعوة للّه، و الإرشاد اليه. و لأجل الأعلام بأن الذي يؤتى هذه الأمور قد تربى بتربية إلهية لا تصدر منه هذه الدعوة الباطلة، و لا يملك ذلك لعلمه ببطلانها، لأن الأنبياء هم أرفع شأنا و أجلّ قدرا من أن يدعي أحد منهم هذه الدعوة.

قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ .

العباد جمع عبد، و يختص استعماله بما إذا نسب الى اللّه تعالى، يقال: عباد اللّه. و لعله لأن العباد من العبادة دون العبيد الذي هو من العبودية التي لا تمتنع أن تكون لغير اللّه تعالى، يقال: عبيد فلان. و لا يقال: عباده.

و التقييد بقوله «مِنْ دُونِ اَللّهِ» لبيان أن هذا القول جحد للألوهية و انكار لمقام الربوبية، و تغيير للعبودية الحقة المنحصرة في اللّه تعالى و للاعلام بأن الشرك في الألوهية إنكار لأصلها، لأن اللّه تعالى لا يرضى من عباده إلا الخلوص و الإخلاص في عبادته، قال تعالى: «وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ» البينة - 5.

و المعنى: لا يحق لبشر قد أنعم اللّه عليه بالكتاب و الحكم و النبوة و تربى بالتربية الإلهية أن يدعو الناس - الذين بعث إليهم - إلى عبادة نفسه، و يدعي الألوهية لها، فان ذلك مستحيل لم يقع أبدا، فان من كان كذلك لا يخرج عن زي العبودية للّه تعالى، و أنه عز و جل لم يمنح الكتاب و الحكم و النبوة لمن يدّعى لنفسه الألوهية.

ص: 93

قوله تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ .

الرباني المنسوب إلى الرب، زيد الألف و النون للمبالغة في التفخيم و التعظيم، كما يقال: رقباني لعظيم الرقبة، و لحياني لعظيم اللحية.

و المراد به التوغل و التحنّك في عبادة اللّه تعالى بحيث تعلق قلبه به عز و جل و لا يخطر بباله غيره، و قد ظهرت آثار العبودية على جميع أقواله و أفعاله و أحواله و معارفه لأجل انتسابه إلى رب العالمين، و وضع نفسه تحت إرادته و مشيته.

و الجملة استدراك عن ما ذكر سابقا، و إثبات لما نفي آنفا. اي أن البشر المنوه به آنفا يقول للمبعوث إليهم كونوا ربانيين متلبسين بالإيمان باللّه مشتغلين بعبادته و مختصين به في جميع شؤونكم، و يقتضى ذلك الاعراض عن غيره عز و جل.

قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .

الباء للسببية، متعلق ب (كونوا). و الدراسة التكرار في القراءة درس الكتاب أي كرر قراءته، و داوم على حفظه.

و إنما كرر عز و جل (بما كنتم) لبيان أن كل واحد من التعليم و الدراسة له الاستقلال في الأثر و هو التلبس بالربانية. كما انه يستفاد من إتيان الفعل في (تعلمون و تدرسون) مضارعا للدلالة على الاستمرار عليها و المثابرة في ذلك دون مجرد التلبس.

أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على الاستمرار بتعلّمكم الكتاب و تعليمكم له، و دراستكم لما ورد فيه من المعارف الحقة و الاحكام

ص: 94

الإلهية، فان ذلك يقتضي أن تكونوا على ايمان كامل و معرفة حقه و التخلق بمكارم الأخلاق، و التلبس بالأعمال الصالحة التي تسوقكم إلى اللّه تعالى، فتكونوا أتقياء صلحاء علماء ربانيين.

قوله تعالى: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً .

الأرباب جمع الرب. و الآية عطف على قوله تعالى: «يَقُولَ لِلنّاسِ» المنفي بمفاد «ما كانَ» ، فيكون (لا) لتأكيد النفي اهتماما بالأمر و استعظاما للشأن.

و في الآية التعريض لطائفتين، الطائفة التي تتخذ الملائكة أربابا، كبعض الصائبة الذين يعبدون الملائكة، و ينسبون ذلك إلى دين اللّه و أما العرب فقد كانت تعتقد ان الملائكة بنات اللّه، و هم و إن لم يسندوا دعواهم إلى دين من الأديان إلا انهم كانوا يدّعون انهم على دين ابراهيم (عليه السلام).

و الطائفة الثانية هي التي اتخذت الأنبياء أربابا، و هي اليهود التي ادعت أن عزيرا ابن اللّه على ما حكي عنها عز و جل في القرآن الكريم و من النصارى أيضا من تعظيم عيسى (عليه السلام)، و يعتبرونه ابن اللّه تعالى.

و الآية تنفي هذه النسبة و تبطل ما يدعونه فان الأنبياء لا يأمرون باتخاذ الملائكة و الأنبياء أربابا، و ما كان لبشر آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة و أرسله لدعوة الناس إلى اللّه الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد و بعثه لإرشادهم إلى الكمالات و مكارم الأخلاق يأمرهم بالشرك و الكفر و أعظم أنحاء الفساد فان هذا غير ممكن، و هو كفر باللّه العظيم.

و تختلف هذه الآية عن سابقتها، في أن السابقة تنفي دعوى البشر

ص: 95

الألوهية و المعبودية لنفسه، لأنه فرض محال مشتمل على التناقض، كما عرفت، و هنا نفي لأمر خاص، و هو اتخاذ الأرباب بعد فرض كون المخاطب مؤمنا باللّه تعالى، فيكون الأمر أمرا بالخروج عن الإيمان الى الكفر، فتختلف الآيتان موردا و حكما، و ذلك يوجب الاختلاف في المخاطبين أيضا.

قوله تعالى: أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

الاستفهام للإنكار. و الخطاب عام لكل من آمن باللّه تعالى و انقاد له عز و جل، و استسلم لأمره، و اعترف بدعوة الأنبياء، فيشمل أهل الكتاب، و كل من يدعي الانتساب إلى دين سماوي: و المراد بالإسلام هو دين التوحيد، و الطاعة و الانقياد للّه عز و جل نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

و المعنى كيف يأمر الأنبياء باتخاذ الملائكة و النبيين أربابا مع انكم تعتقدون باللّه الواحد الأحد و تعبدونه، فان ذلك كفر و ضلال، و هم لا يأمرون بالكفر. و الآية تنفي كل أنحاء الشرك في العبادة.

و ذكر جملة من المفسرين أن الخطاب للمسلمين الذين اعترفوا بنبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، فإنهم المسلمون. فيكون أمرا بالكفر بعد الإسلام و أيدوا ذلك بما ورد من انهم قالوا له (صلى اللّه عليه و آله): أفلا نسجد لك؟ فنزلت هذه الآية.

و فيه: إن الإسلام في التنزيل غير ما هو المصطلح بعد النزول.

فان المراد به الإذعان بالتوحيد و الانقياد بالطاعة الذي هو دين الفطرة التي دعى الأنبياء إليها، و قد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع آية 19 من هذه السورة.

ص: 96

بحوث المقام

بحث أدبي:

المعروف بين المفسرين أن الظرف (لبشر) في قوله تعالى:

«ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» خبر مقدم، و جملة (أن يؤتيه اللّه) اسم كان مؤخر. و لكن يمكن أن يجعل (كان) تامة فلا تحتاج إلى الخبر أي لا تحقق لمثل ذلك و يمتنع، فتدل الآية على نفي الوقوع بالفحوى. و تكون جملة «أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» لبيان الموضوع، يعني أن هذا الموضوع يمتنع تحقق دعوى الألوهية فيه. فالآية تؤكد عدم تحقق مثل ذلك بلفظ كان في المقام، و لا محذور في أن تكون الجملة بحسب الظاهر مفيدة لشيء، و هي في الواقع تفيد شيئا أدق من ذلك.

و انما عطف عز و جل الجملة ب (ثم) في قوله تعالى: «ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي» لتعظيم الأمر، أي أن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أبدا و إن كان بعد زمان و في مهلة.

و (لي) ظرف متعلق بمحذوف تقديره كائنا، أي عبادا كائنين لي.

و قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اَللّهِ» ظرف متعلق ب (عبادا) لأن فيه معنى الفعل، و يحتمل أن يكون صفة ثانية.

و (ما) في قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» مصدرية، و إنما جعل الخبر مضارعا في الموردين لبيان الاستمرار على التعليم و الدراسة و المثابرة عليهما.

ص: 97

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور: -

الأول:

يشتمل قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ» على براهين ثلاثة تدل على امتناع دعوى الألوهية من البشر و بطلانها.

أولها: إن البشر بما له من الأطوار المختلفة، فطورا هو جنين و آخر يكون طفلا؛ ثم صغيرا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا إلى غير ذلك من الأطوار. ثم في جميع أحواله و أطواره قرين الفقر و الاحتياج، كما انه يتدرج في الكمال فينشأ و هو جاهل ثم يتدرج في المعرفة، و يطرأ عليه من التبدلات كالصحة و المرض، و الفقر و الغنى و العلم و الجهل، و الألم و الجوع و نحو ذلك، و جميع ذلك ينافي كونه إلها واجب الوجود يمتنع ان يطرأ عليه الاختلاف و التبدلات و يستفاد ذلك من كلمة البشر.

ثانيها: إن البشر الذي آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة، و تربي بالتربية الإلهية لا يحق له أن يدعي الألوهية و يدعو الناس إلى عبادته، و إن اتفق لبعض الناس أن يدعي هذه الدعوى لكنه ناقص لم يتصف بما ورد في الآية الشريفة فانه لا يعقل أن يدعي هذا البشر الموصوف بما ورد في الآية بتلك الدعوى، لأنه خلف و يناقض الحكمة الإلهية و هو تعالى الحكيم كالعليم لا يؤتي الكتاب و الحكم و النبوة لكل احد فضلا من أن يدعو العباد إلى عبادته.

ص: 98

ثالثها: إن اللّه تعالى أخبر في الآية الشريفة بانه لم يقع مثل ذلك من البشر الموصوف بما في الآية الكريمة، و هو أصدق القائلين.

الثاني:

إنما قدم سبحانه الكتاب على غيره لكثرة أهميته فانه أصل المعارف الإلهية، و الاحكام الربوبية، و مكارم الأخلاق، و أن غيره يرجع اليه، كما أن النبوة تدعو اليه.

و يمكن أن يراد به الأعم مما كتبه اللّه تعالى على عباده من المعارف الحقة، فيشمل السنة المقدسة أيضا.

الثالث:

إنما ذكر سبحانه هذه الأمور الثلاثة لبيان أن من اتصف بها قد فاز بالتربية الإلهية، و نال جميع الكمالات الانسانية و لبيان مراتب الأنبياء، فمنهم من نال جميع هذه الأمور، و منهم من نال بعضها على اختلاف مراتبهم، فيدخل فيهم العلماء العاملون بشريعة خاتم الأنبياء الذين قال فيهم نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل» و الآية بمفهومها تدل على أن كل من لم يتصف بمفاد واحد منها ليس له من البشرية حظ بل يكون أقرب إلى الحيوانات ذوات الاشعار و الأوبار.

الرابع:

إنما عبر سبحانه بقوله: «أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» لبيان أن هذا الإعطاء قد تمكن في الفرد الممنوح له هذه النعم، و أثرت فيه، فلا يمكن أن يدعي الربوبية و الألوهية، فان التربية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها.

الخامس:

إنما قدم سبحانه التعليم و التعلم لشرفهما و ان بهما يحظي الإنسان المقامات العالية. كما أن الآية الشريفة تشير إلى أن شأن الأنبياء إنما هو الإرشاد و الدعوة إلى الحق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ» التعريض بالنصارى من أهل الكتاب باعتبار انهم كانوا يدرسون الكتاب السماوي و يعلمونه

ص: 99

و لكنهم حرّفوه و غيّروا ما فيه من الاحكام، و انما كان الواجب عليهم أن يكونوا ربانيين بالتعليم و الدراسة لا يقولون في عيسى بما ينافي عبوديته، و لا يأتون بما يخالف الاحكام الإلهية. و قد حكي اللّه تعالى ذلك عنهم في مواضع متفرقة، و صرحت بها كتبهم المقدسة، راجع أناجيل يوحنا: 33-36. و متى 41:22-46. و مرقس 13 35-38. و لوقا: 41-45 و غيرها تجد الشيء الكثير، و في بعض الفقرات: أن عيسى أخبرهم انه ابنه و كلمته. و قد أكذبهم عز و جل و أبطل دعاويهم و انذرهم عليها بأشد العذاب و ذكر أن عيسى و غيره من الأنبياء انما هم كسائر البشر و قد بعثهم عز و جل ليرشدوا الناس إلى الكمال بدعوتهم إلى التوحيد، و يعلمونهم الكتاب و الحكمة ليكونوا ربانيين حكماء صلحاء، ليسعدوا في دنياهم و آخرتهم.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أن الأنبياء الذين أوتوا الكتاب و الحكم و النبوة لا يأمرون بأي نحو من أنحاء الكفر سواء في العبودية، أو في الخلق، أو في الحكم. كما انهم مبرأون عنه.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» على أن الكفر لا يمكن اجتماعه مع الإسلام اعتقادا و عملا، فانه أعظم رادع عن الكفر.

التاسع:

تدل الآيات الشريفة على ذم العلو و الاستعلاء من أي فرد تحقق، و لكن يمكن أن يقال أن العلو إما أن يكون من الحق و بالحق، و هو الحاصل من الأنبياء، و الأولياء الذين فضلهم اللّه تعالى على غيرهم. و إما أن يكون بالباطل و في غير الحق، كاستعلاء الناس بعضهم على بعض لأغراض وهمية خيالية، و هذا هو المذموم غاية الذم و لا منشأ له إلا الغرور و الغفلة عن اللّه تعالى، و هو يوجب البعد عن

ص: 100

الواقع و الابتعاد عن الحق، و له اسباب عديدة و اثار خطيرة، و قد عالج الإسلام هذه الرذيلة، و بين اسبابها و آثارها الخطيرة الفردية و الاجتماعية الدنيوية و الأخروية. و ذكر ما يوجب علاج هذا المرض النفسي، و منه ما ورد في المأثور انه إذا مدح أحد آخر ينبغي للممدوح أن يقول: اللهم اجعلني فوق ما يقولون و اغفر لي ما لا يعلمون. و الجدير بالإنسان أن يعمل الطاعات و يجتنب عن المعاصي و الموبقات ليفوز بثناء اللّه تعالى فانه الغاية القصوى، و السعادة الحقيقة، و مع وجوده يشكر و مع عدمه يستمد العون منه عز و جل.

العاشر:

انما قال تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» لبيان أن تعليم الكتاب و تدريسه لا بد أن يكون عن معرفة و كمال حتى يكون قابلا لأن يكون ربانيا، فلا يصلح لكل أحد تعليم الكتاب الكريم و السنة الشريفة و تدريسهما إلا إذا كان جامعا للشرائط منها العمل بما علم، و التخلق بمكارم الأخلاق، و يدل على ذلك جملة من الأحاديث.

و انما عبرّ سبحانه ب (تعلّمون) دون غيره للدلالة على ما ذكرناه، فان التعليم و التدريس لا بد ان يكونان عن تعلم و فهم و اخلاص.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ - الآية. إن عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم

ص: 101

أقول: قد ذكرنا في التفسير أن ذلك ممتنع عن الأنبياء، و في نفس الحديث ما يدل عليه أيضا فان قوله: إني خلقتكم. الاحتجاج على ذلك و يمكن ان يستفاد ذلك من نفس الآية الشريفة لما فيها من التعريض بالنصارى.

و في العيون عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «لا ترفعوني فوق حقي، فان اللّه تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا، ثم تلا هذه الآية».

أقول: قد ورد في مضمون ذلك روايات كثيرة، و في بعضها قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هلك فيّ اثنان محب غال، و مبغض قال». و يظهر من جميع ذلك أن ما يفعله بعض الناس في شأن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الائمة الهداة (عليهم السلام) داخل في مضمون هذه الأحاديث.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً - الآية». قال: كان قوم يعبدون الملائكة، و قوم من النصارى زعموا أن عيسى رب، و أن اليهود قالوا: عزير ابن اللّه فقال اللّه: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً - الآية».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير.

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي - الآية. نزلت في نصارى نجران حين عبدوا عيسى. و قوله: (لبشر) يعني عيسى. أن يؤتيه اللّه الكتاب، يعني الإنجيل.

أقول: هذا بيان لبعض المصاديق، و إلا فالآية الشريفة عامة تشمل جميع الأنبياء.

ص: 102

و في الدر المنثور عن ابن عباس في نفس الآية الشريفة: أن أبا رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، و النصارى من أهل نجران عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و دعاهم إلى الإسلام قال: أ تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد يا محمد منا؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، و لا بذلك أمرني، فانزل اللّه من قولهما: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ - الآية.

و في أسباب النزول عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال:

يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أ فلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لاحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيكم و اعرفوا الحق لأهله، فانزل اللّه هذه الآية.

أقول: أن جميع ذلك من المصاديق و الآية عامة تشمل جميع ما ذكر في اسباب نزول هذه الآية الشريفة.

بحث عرفاني

من المعلوم انه لا كمال أرفع و أجل و أعلى من العبودية للّه تعالى، فهي فوق الرسالة و النبوة، و الولاية، بل بها تنال تلك المقامات الرفيعة، و الدرجات العالية و لا غاية لها إلا جماله و جلاله جلّت عظمته و بما انهما غير متناهيين، فلا يعقل التناهي فيها أيضا، و كيف

ص: 103

جوهرة لا يعلم كنهها إلا اللّه سبحانه. و لكن آثارها عظيمة، فهي التي تهيء العبد لنيل الكمالات الواقعية، و السعادة الحقيقة، و العبد يكون مظهرا من مظاهر تجلي اللّه تعالى، و تظهر آثار العبودية على جميع جوارحه، و أفعاله، و أقواله و لحظاته، فلا يخرج لحظة عن طور العبودية و زيّ الرقية، و لا يعقل لمثل هذا العبد أن يدعو إلى غير اللّه تعالى و يتخذ غيره عز و جل ربا، فانه خروج عن الفطرة و استبدال الطيب بالخبيث الذي هو قبيح عقلا.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى نبذ كل أنحاء الأنانية، و تدعو إلى العبودية الحقة، و التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و الاعراض عن كل ما يبعد عن ذكر اللّه عز و جل، و تحرضّهم إلى نيل الكمالات بالتعلم و التعليم و دراسة المعارف الحقة الإلهية، و تبين أن الغرض الأقصى من سعي الإنسان في الدنيا أن يكون ربانيا قد تخلّق بأخلاق اللّه عز و جل و زكيّ نفسه بالتخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل و مكارم الأخلاق ليستعد بذلك أن يكون معلّما للمعارف الإلهية، و مرشدا إلهيا، و داعيا إلى كتاب اللّه تعالى، و لا ينال هذه الدرجة إلا بتهذيب النفس و تزكيتها، و التخلق بمكارم الأخلاق، و تعلم المعارف الحقة و تعليمها فلا يليق بهذا المنصب كل متطاول ليس له حظ من ذلك، فان الأغيار لا يمكنهم الوصول و التقرب إلى دار الحبيب إلا بعد الجهاد مع النفس و التزين بما يرضي المحبوب. و على مرشدي الامة و طلاب العلم لا سيما علوم الدين أن يزكوا أنفسهم أولا و يتخلقوا بمكارم الأخلاق، و أن يكونوا داعين إلى اللّه تعالى علما و عملا بل يكونوا داعين إلى اللّه بعملهم اكثر من دعوتهم اليه بعلمهم، و لا يخرجوا عن زي العبودية أبدا.

ص: 104

بحث فلسفي

المعبود الحقيقي لا يعقل التعدد فيه بوجه من الوجوه، لأنه عبارة عن الكمال المطلق المسلوب عنه جميع النواقص الواقعية و الإدراكية، و هو الربوبية العظمى بالنسبة إلى جميع الموجودات تدبيرا و علما و حكمة فلا يعقل التعدد في مثل هذه الحقيقة، لأن التعدد فيها نقص، و المفروض انتفاء جميع النواقص عنه. و قد أكد سبحانه و تعالى وحدته مطلقا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ببراهين متعددة، و هو أساس نظام الشرائع السماوية، و جميع ما افتعل في التعدد انما حصل من مغالطات الوهم و الآية الشريفة بأسلوبها الواضح المتين تبين امتناع التعدد في المعبود ببراهين ثلاثة ذكرناها في البحث الدلالي، و المعروف بين الفلاسفة أن بسيط الحقيقة من كل حيثية و جهة لا يعقل الاثنينية و التغاير فيه، لأنه خلف لفرض البساطة، لأن معنى بساطته من كل جهة انه مع الكل، قال تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الحديد - 4 و قال تعالى: «نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» ق - 16. فكل فرض اثنينية يكون خلاف للمعية المطلقة، و لا يعني بالمعية الحلول الذي يدعيه النصارى، و لا وحدة الوجود و الموجود التي يذهب إليها بعض المتصوفة، بل المعية القيومية، كما فسرها علي (عليه السلام) بقوله: «خارج عن الأشياء لا بالمغايرة و المزايلة، و داخل في الأشياء لا بالممازجة» فهو الحي القيوم باحاطة قيومية على جميع ما سواه، و في

ص: 105

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَ.......

اشارة

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (82) أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (85) الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي تبين دستور الإنسان و منهاجه في الدنيا و مصيره في الآخرة و هي عامة تشمل جميع أفراد الإنسان بما فيهم الأنبياء، و هي باسلوبها الخلاب نفيسا و اثباتا تقرر حقيقة من الحقائق، و هي عالم الميثاق و أخذ العهود المؤكدة من أفراد الإنسان بالإيمان باللّه تعالى و تصديق الأنبياء و نصرتهم، و دعوة كل نبيّ سابق

ص: 106

إلى نبيّ لاحق، و هي تدعو الناس باتباع الإسلام و الانقياد إلى اللّه تعالى و طاعته، و عدم الخروج عن طور العبودية له عز و جل، و هي تثبت نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، و تدحض حجج المخالفين، و تقطع اعذار المعاندين، و تبطل ما ادعاه أهل الكتاب في الأنبياء العظام و انكار نبوة خاتم الأنبياء، و ترجعهم إلى الفطرة التي تدعوهم إلى الوفاء بالعهد و التسليم للّه تعالى و الايمان بالأنبياء لا سيما خاتمهم، و نبذ كل ما يخالف ذلك العهد المأخوذ منهم. و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة التي تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان و التسليم و الانقياد، و طرح كل مكر و خديعة، و الاجتناب عن الكذب و الافتراء على الأنبياء و في هذه الآيات يأمرهم عز و جل بالجري على الميثاق.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ .

الآية تقرر عالما من العوالم الإلهية و هو عالم الميثاق الذي أخذ فيه من الإنسان العهود المؤكدة بالتسليم للّه و التصديق بالأنبياء و نصرتهم، و العمل بما انزل عليهم، و أودعه عز و جل في الفطرة الانسانية، فهي تدعو إلى اللّه تعالى كما تخبر عن أن هناك ميثاقا مأخوذا من أفراد الإنسان يجب الوفاء به بحكم العقل.

و تتجلى عظمة هذا الميثاق انه ذو أطراف عديده، فمن ناحية انه

ص: 107

بعضهم لبعض، بأن يبشر كل نبي سابق لنبي لاحق و يدعو الناس بالإيمان به و نصرته، كما أن كل نبي لاحق ينوّه بالنبي السابق و يدعو إلى الايمان به، كما قال تعالى «آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» البقرة - 285. و ثالثة بينه تعالى و بين الأنبياء جميعا لسيد الأنبياء و خاتمهم، كما في قوله تعالى في ما يأتي «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ» و رابعة بين اللّه تعالى و جميع عباده مطلقا بالإيمان به، و العمل بما أنزله على الأنبياء و جميع هذه المواثيق متلازمة يتقوم بعضها ببعض.

و الميثاق الأول دليل اعتماد المعاهد (بالفتح) على نفسه من حيث انه مبعوث إلهي لا ينطق عن الهوى، كما يوجب زيادة اعتماده على من يصدر عنه لاتصاله بالحي القيوم.

و اما الثاني فلأن وحدة المعبود الحقيقي بالوحدة الحقة الحقيقة لا بد له من وحدة الداعي اليه، و التقدم و التأخر الزماني و تعدد الأفراد لا اثر له في ذلك، لأنه من لوازم هذا العالم المادي المبني على التكثر و التعدد. كما أن المرايا المتقابلات لشيء واحد لا يوجب تكثر ذلك الواحد، و إن تكثرت المرايا.

و اما الثالث: فلأن الغاية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الوجود خصوصا في مثل هذا الكمال المطلق الذي هو أصل الكمالات بل هو مرآة الكمال المطلق الأتم الأرفع.

و أما الأخير فلإتمام الحجة و إيضاح المحجة، و قطع اعذار الناس لئلا يقولوا بانه لو كنا في غير هذا النحو من الوجود لآمنا باللّه تعالى و لإظهار كمال قدرته عز و جل على كافة مراتب الوجود، و جميع العوالم الممكنة، و عالم الميثاق من اظهر عوالمه و قد تجلّت فيه قدرة اللّه

ص: 108

عز و جل و لا يمكن الاحاطة به لغير علام الغيوب، و المطلع على السّر المكنون المحجوب، و سياتي في البحث القرآني تتمة الكلام.

و الميثاق هو العهد المؤكد المشدّد، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في عدة مواضع، و لكن تستعمل في الكتاب و السنة في موضوع خاص، و هو عالم الميثاق و قد جمع بعض المحدثين - رفع اللّه تعالى شأنهم - أحاديث هذا الموضوع الواردة في أبواب متفرقة في باب واحد، و سمّاه باب الطينة و الميثاق.

و قد ذكر المفسرون في المراد من هذا الميثاق وجوها كثيرة لم يقم دليل يصح الاعتماد عليه على اعتبارها، بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة، و هي قد بينت الميثاق العام المأخوذ من الأنبياء عن أممهم على ما عرفت تفصيله، و وجه الميثاق، و قررته بأسلوب لطيف لا غموض فيه.

و ذكر بعض المفسرين أن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد أمم النبيين على حذف المضاف. كما ذكر السيوطي و غيره عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: أن اصحاب عبد اللّه - يعني ابن مسعود - يقرءون و إذا أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب و نحن نقرأ ميثاق النبيين. فقال ابن عباس: انما أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم».

و الظاهر انه من تفسير الآية الشريفة لا كونه من القرآن، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك أيضا.

و المراد بأخذه تعالى الميثاق هو الجعل و الإلزام ثم قبوله منهم على الإيمان باللّه تعالى و توحيده، و النصرة للنبيين و دعوتهم إلى خاتم الأنبياء.

و انما ذكر سبحانه ميثاق النبيين أولا لأن ميثاقهم هو الأصل في كل

ص: 109

ميثاق. و تشريفا لهم، و تعظيما لميثاقهم، و لكونه أشد و آكد بالنسبة إلى غيرهم، قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» الأحزاب - 8، و لورود ذكرهم في الآية الشريفة السابقة.

قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ .

قرأ الجمهور (لما) بفتح اللام و التخفيف. و قرئ بالكسر.

و المعروف أن اللام هي الموطئة للقسم، لأن الميثاق كالعهد و النذر في دخول اللام على جوابه، نظير قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» التوبة - 76. و قيل: (ما) شرطية، كما في قوله تعالى: «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» الأعراف - 17، و هي في موضع نصب مفعول أول ل (آتيت)، و المفعول الثاني الضمير المخاطب. و (من) بيانية.

و قيل: اللام ابتدائية، و (ما) موصوله، و آتيتكم صلته، و الضمير المحذوف يدل عليه قوله: من كتاب و حكمة، و الموصول في موضع رفع مبتدأ، و الخبر «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» الذي يكون اللام فيه لام القسم.

و الحق أن يقال: إن (ما) موصولة، كما هو المتفاهم العرفي و الجملة تتضمن معنى الشرط، فيكون فهم الشرطية منها سياقيا، لا أن يكون لفظيا دلاليا بالمطابقة، أو التضمن و أما الدلالة الالتزامية فقد تكون داخلة في الدلالات السياقية، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بذلك أيضا.

و الخطاب للنبيين و أممهم بقرينة قوله تعالى: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» .

ص: 110

و الخطاب للنبيين و أممهم بقرينة قوله تعالى: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» .

و المعنى كلما آتيتكم يا أيها الناس - الأنبياء و الأمم - من كتاب يتضمن التشريعات السماوية، و المعارف الإلهية، و البشارات بنبوة خاتم الأنبياء و الأحكام الإلهية، و الدلائل الدالة على حكمة إرسال الرسل و بعث الأنبياء.

قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ .

تقرير للميثاق المأخوذ من الأنبياء و اللام في (لتؤمنن به و لتنصرنه) جواب القسم، و الجملتان جواب القسم و الشرط معا إن جعلنا (ما) شرطية و الضمير في الموضعين راجع إلى الرسول، كما هو الظاهر.

و قيل: إن الضمير في «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» يرجع إلى ما أوتوا من كتاب و حكمة. و الضمير الثاني راجع إلى الرسول. و لكن الظاهر - كما عرفت - هو الأول، و يستفاد الثاني من السياق.

و التراخي الزماني المستفاد من إتيان (ثم) في الكلام لبيان الميثاق المأخوذ من النبي السابق و هو الدعوة بالإيمان بالنبي اللاحق و نصرته، كما أن كل نبي لاحق لا بد له من التنويه بالنبي السابق و الإيمان به.

و المراد بقوله تعالى: «مَعَكُمْ» هو المعية المعنوية المستكملة للنفوس الانسانية، لا خصوص المعية الجسمانية، فانه (صلى اللّه عليه و آله) أرسل بعد فترة من الرسل، و هو خاتمهم.

و الآية في مقام بيان حقيقة النبوات السماوية، و كيفية ارتباط بعضها مع بعض، و ارتباطها مع الخلق، و تفصيلها أولا ثم بيان مجملها بما هو منطو في خاتم رسله، لأن النبوّات السماوية متقومة

ص: 111

بالبيانات الإلهية التي هي عبارة عن الكتاب و الحكم المودعة فيه.

و هي تشمل جميع المعارف الضرورية من المبدأ و المعاد، و كل ما يحكم به العقل السليم، و الفطرة المستقيمة التي قررتها الكتب السماوية، و هي الميثاق المأخوذ من الجميع، فالحكمة ترجع إلى الكتاب و هو يرجع إليها، و الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل، كما أن الفرق بين جميع الأنبياء و خاتم النبيين أيضا كذلك، لأنه يبين حقيقة ما أوحي إليهم مع شيء زائد، فلذلك كانت دعواتهم اليه (صلى اللّه عليه و آله) و لأجل ذلك فصّل سبحانه الدعوة اليه بقوله عز و جل: «ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» اهتماما به، و إرشادا إلى علوّ درجته و سموّ مقامه.

قوله تعالى: قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا .

خطاب للمأخوذ منهم الميثاق و الاستفهام تقريري. و الإقرار معروف و هو الإثبات و الإلزام. و الإصر هو العهد و الميثاق، سمي به، لأنه إما من الإصر و هو الثقل، لأن العهد فيه ثقل و تشديد. أو من الإصار، و هو ما يعقد به و يشدّ، لأن العهد يشد به، و تقدم في قوله تعالى: «رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» البقرة - 286 بعض الكلام.

و إنما عدل سبحانه عن لفظ العهد إلى هذه الكلمة (إصري) للإرشاد إلى أن ناقضه محروم من الثواب و واقع في مأزق العقاب و شدة العذاب، فيكون مثل هذا العهد قد حبس صاحبه عن التهاون في التزامه، و التسامح فيه.

أي قال اللّه تعالى للنبيين: أ أقررتم بالميثاق المذكور آنفا و أخذتم

ص: 112

من الأمم العهد و بلغتموه إليهم. قال النبيون أقررنا بذلك و أخذنا من الأمم العهد و الإصر.

و انما ذكر جواب الأنبياء باعتبار انه كان جوابا عما أراد عز و جل تقريره منهم ابتداء، فيتضمن عهد الأمم و تقريرهم أيضا، فاكتفي بالأول. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

و قيل: المراد من أخذ العهد هو القبول، و استشهد لذلك بقوله تعالى: «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» البقرة - 46، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ» البقرة - 123. فيكون قوله: و أخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله: «أ أقررتم». و على هذا يكون الميثاق مختصا بالأنبياء لا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

لكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة. و الأخذ هو بمعناه المعروف و هو الاستيفاء. و يبعده أيضا قوله عز و جل: «قالَ فَاشْهَدُوا» لظهوره في كون الشهادة على الغير. و لكن يهون الخطب أن الميثاقين متلازمان يغني ذكر أحدهما عن الآخر، كما ذكرنا سابقا.

قوله تعالى: فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ .

ظاهر السياق أن تكون الشهادة من النبيين و الأمم، أي شهادة الأنبياء على الأمم بأخذ العهد منهم، و شهادة الأمم عليهم بالتبليغ و المناصرة لهم، و إقرار منهم بالقبول. و أما شهادة خاتم النبيين فإنها تقوم على إمضاء شهادتهم و تقريرها باعتباره العلة الغائية للخلق، و أن شهادة النبيين كانت لأجله (صلى اللّه عليه و آله)، فكانّ شهادتهم لا تقبل إلا بشهادته (صلى اللّه عليه و آله).

و قيل: ان المراد من الآية شهادة الأنبياء بعضهم لبعض، و هذا

ص: 113

و إن كان صحيحا في نفسه و لكنه تخصيص بلا موجب.

و قيل: الخطاب للملائكة أمروا بالشهادة على الأنبياء و الأمم، و قد وردت به رواية أيضا. و فيه: انه خلاف الظاهر.

و الحق أن الشهادة عامة، و هي من الأنبياء على الأمم و بالعكس من قبيل مقابلة الجمع بالجمع.

ثم إن هذه المحاورة التي وقعت في الآية الشريفة إنما هي لتأكيد الميثاق و تثبيته، و بيان أهميته، و ظاهرها الاخبار بوقوعها في ما مضى من الزمان لا أن يكون من مجرد التمثيل، و لكنها مجملة في تعيين زمان هذه المحاورة، فأصل السبق الزماني معلوم و أما تعيينه في انه كان في عالم الذر الأول، أو الثاني، أو انه كان في عالم المثال المعبر عنه بعالم الأشباح و الاظلة، أو انه كان في الأعيان الثابتة المسماة بالثابتات الأزلية - بناء على صحة هذا القول - أو انه من قبيل لوازم الماهيات الممكنة مطلقا و لو في هذا العالم، أو غير ذلك احتمالات، و لا يظهر من الآيات الشريفة، و الادلة العقلية و النقلية تعيين واحد منها.

قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

تأكيد للميثاق المذكور، أي من تولّى بعد أخذ الميثاق منه و إقراره به، فلا ريب في فسقه و خروجه عن طاعة اللّه تعالى، بحكم العقل و الفطرة، لأنهما يحكمان بوجوب الوفاء بالعهد. فان كان توليه عن أصل الايمان بالتوحيد و المعاد فهو كافر مضافا إلى فسقه، و إن كان توليه عن العمل بالاحكام فهو و إن كان فاسقا و لكنه ليس بكافر إن لم يحصل منه ما يوجب الكفر. و لأجل ذلك عبّر سبحانه بالفسق ليشمل الجميع، و لم يبين جهته، و لا ما يترتب على ذلك للتنبيه على

ص: 114

عظمة هذا الموضوع و كثرة اهميته.

قوله تعالى: أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ .

عطف على الآية السابقة، و تفريع على أخذ الميثاق من النبيين و الأمم، و توبيخ لمن اعرض عنه، و يدل على أن دين اللّه واحد و هو دين الإسلام، فانه تعالى بعد ما ذكر أخذ الميثاق من جميع افراد الإنسان، و اثبت انهم متفقون في الدين الذي أراده عز و جل منهم، و أخذ الميثاق من النبيين على الدعوة اليه. كما أخذ ميثاق كل نبي بالدعوة إلى النبي اللاحق، و التنويه بالنبي السابق، و أن على جميعهم الدعوة إلى الرسول الكريم خاتم النبيين، و التبشير به و التصديق به و نصرته فإذا تولى أحد عن هذا الميثاق، و لم يف بما عاهد عليه و أقر به، فليس هناك دين آخر يعتقد به. كيف و قد خرج عن الطاعة و دين الحق. و اعرض عن الدين الحقيقي الذي أمر العباد بالاعتقاد به و عانده فلا يرجى منه خير حيث لم يؤمن بدين الإسلام و لم يعترف بنبوة الرسول الكريم الذي يسوق الإنسان إلى دين الفطرة الذي أخذ عليه الميثاق.

و الهمزة في (أ فغير) للإنكار و التسفيه لمن تولى عن دين اللّه و نبذ العهد، و لها التصدير في الكلام، و لذا جاءت قبل حرف العطف بين المعطوف و المعطوف عليه.

قوله تعالى: وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً .

جملة حالية مؤكدة، و هي في مقام الاحتجاج على كون الإسلام دين الفطرة. و الإسلام إما أن يراد به التسليم التكويني القهري للّه

ص: 115

تعالى، فيكون المراد من الطوع مقهورية الممكنات تحت إرادته عز و جل القهارة، و المراد من الكره قهارية إرادته عز و جل التامة بالنسبة إليها فيجتمع في كل شيء الطوع و الكره معا، فانه من حيث الاضافة إلى ذات المخلوق يكون طوعا، و من حيث إضافته إلى الخالق و الجاعل يكون كرها، و لا محذور فيه. و يكون التعبير ب (من) المستعمل في ذوي العقول إما لأجل الفضل، أو الغلبة، كما يكون الواو في قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» لمطلق الجمع.

و إما أن يراد من الإسلام التشريعي الاختياري، فيكون المراد من الطوع هو إسلام من آمن باللّه تعالى لأنه وجده أهلا للعبادة فعبده، و لم يتعلق غرضه بغيره جل جلاله فوجد الذات ذاتا لا تليق الا للعبادة و الايمان بها. و المراد من الكره هو اسلام الذين آمنوا به عز و جل لأغراض زائدة على اهلية المعبود للعبادة، كدخول الجنة أو الخوف من النار أو غير ذلك.

و قد اختلف المفسرون في معنى الآية الشريفة، فقيل: المراد من الإسلام طوعا ما إذا حصل من الدليل و الفكر و الرويّة بخلاف الإسلام كرها و هو ما إذا حصل من السيف و الخوف.

و قيل: إن المراد بالإسلام طوعا ما إذا حصل من غير معارضة في النفس، و الإسلام كرها هو الانقياد مع معارضة النفس و الوساوس و التعلق بالوسائط.

و الحق ما ذكرناه، و يمكن أن يرجع الأخير اليه بالعناية.

ص: 116

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ .

حجة أخرى على لزوم الرجوع إلى الدين الحق و التسليم للّه تعالى و الانقياد له، و قبح التولي عن الميثاق. لأن جميع من في السموات و الأرض مرجعهم اليه عز و جل فيجزيهم على معتقداتهم و أعمالهم، رجوعا قهريا لا دخل للإرادات مطلقا و إن بلغت ما بلغت فيه، فاللازم هو الرجوع إلى ما بينه المعبود الحقيقي، و الالتزام بالدين الحق و الرجوع إلى ما أخذ عليه الميثاق.

و يمكن أن يكون هذا قرينة على أن المراد من الكره هذا المعنى في الآية السابقة. فان من كان مرجعه اليه بلا اختيار منه و لا إرادة كيف يعقل أن يتخذ إلها غير اللّه تعالى الذي ترجع اليه الأمور، و هو مرجع العباد، فيقبح منه التخلّي عن الميثاق المأخوذ منه، و التولي عن دين الحق.

قوله تعالى: قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا .

أمر للرسول الكريم بالجري على الميثاق المأخوذ منه و دعوة منه به و هو الميثاق الذي أخذ منه (صلى اللّه عليه و آله) بالإيمان باللّه تعالى و التنويه بالأنبياء السابقين و الايمان بهم، و بالقرآن الكريم المشتمل على جميع المعارف الحقة، و قد بين سبحانه هذا الميثاق بعد أن أشار اليه في الآيات السابقة، و بين الميثاق المأخوذ من الأنبياء بالإيمان بالرسول الكريم خاتم النبيين و التبشير به و الدعوة إلى نصرته.

و انما قدم سبحانه المنزّل عليه (صلى اللّه عليه و آله) على المنزل عليهم اشارة إلى علوّ منزلته، و لأنه واسطة الفيض، و هو الوجود الجمعي للكل.

ص: 117

و قد عبر عز و جل في المقام (علينا)، و في غيره (إلينا)، و لا فرق بينهما، إلا انه إذا لوحظ المنزل من اللّه عز و جل باعتبار انه محيط بالجميع و مستول عليهم، فتكون فيه جهة العلو من جميع الجهات فيصبح التعبير ب (على) حينئذ. و اما إذا لوحظ المنزل عليه فيعبر حينئذ (إلينا).

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ .

الأسباط جمع السبط و هم القبائل من أبناء يعقوب الاثني عشر و الإنزال عليهم باعتبار الإنزال على أنبيائهم بقرينة ذكر الأنبياء المنزل عليهم قبلهم و بعدهم. و هم كثيرون، كداود و سليمان و يونس و غيرهم.

و انما خص عز و جل هؤلاء بالذكر باعتبار اعتراف أهل الكتاب بنبوتهم جميعا، و قبول ما انزل عليهم، و المراد بما انزل عليهم الصحف.

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ .

من التوراة و الإنجيل و سائر الكرامات الباهرات، و انما ذكر النبيين بعد ذكر آحادهم للتعميم ليشمل جميع الأنبياء، و قد خصّ موسى و عيسى بالذكر تشريفا لهما و تعظيما لما انزل عليهما، و لأن الكلام مع اليهود و النصارى.

و انما ذكر سبحانه الرب لبيان كمال العناية بهم، و لأنه الرب الرءوف بالعباد نزّل عليهم الكتاب لتكميل النفوس المستعدة.

ص: 118

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ .

تأكيد بالإيمان بجميع الأنبياء، فان الميثاق قد أخذ منهم بالإيمان بجميعهم من دون تبعيض، و فيه التعريض باليهود و النصارى الذين يؤمنون ببعض دون بعض تبعا لأهوائهم الفاسدة. و ما تمليه عليهم العصبية البغيضة.

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .

اي نحن جميعا منقادون للّه تعالى مطيعون له في جميع ما أنزله عز و جل على الأنبياء و ما أراده عز و جل.

في التعبير بالإسلام كمال التذلل و الانقياد، أي مستسلمون لكل ما هو في الميثاق.

و فيه اشارة إلى أن الايمان لا يتم و لا يكمل إلا بالاستسلام و الانقياد من كل جهة قوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .

بعد ما بين عز و جل أن الأيمان المطلوب هو الإسلام دون غيره، و به أخذ الميثاق، و انه الجامع لجميع الأديان الإلهية، و الكمالات الانسانية، فيكون الإسلام للّه تعالى هو الجامع بين جميع الأديان السماوية ذكر هنا أن غيره باطل لا أثر له و لا يهدي الإنسان الى الكمال المنشود بل يوجب بطلان الانسانية و مقامها الرفيع.

و في التعبير بالابتغاء الإشارة الى أن الإنسان و ان اجتهد في ما ابتغاه و ارتاض

ص: 119

فيه كمال الجهد و الرياضة لا يقبل منه.

قوله تعالى: وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

دليل على أن الأعمال مع غير الإسلام تكون فاسدة و مفسدة للآخرة فإنها هي المحل الأتم لظهور مقام الانسانية الكاملة. فمن ذهب من العرفاء و عظماء الفلاسفة إلى وحدة الوجود و الموجود إن كان نظره إلى ذلك فلا بأس، و تشهد له الادلة الكثيرة، و إلاّ فلا يرجع إلى محصل. و هذه الآية الشريفة تشتمل على الإثبات و النفي بطريق برهاني علمي، و هو ترتب المعلول على العلة التامة.

بحوث المقام

بحث أدبي:

(إذ) في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ» منصوب بفعل مقدر، أي و اذكر إذا أخذ اللّه... كما في غير هذا المورد.

و قيل: انه مقول لقوله تعالى في ما يأتي: «قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ» . و أورد عليه بعضهم أن خطاب أ أقررتم إنما كان بعد أخذ الميثاق. و لكن فساده واضح. و قد تقدم الكلام في نظير هذه الآية فراجع.

و الميثاق كالنذر و القسم في دخول اللام على جوابه. لأنه يتضمن العهد الذي يؤخذ من المعاهد (بالكسر) للمعاهد (بالفتح). و هي

ص: 120

لتلقي القسم و نحوه، كما انها هي التي يؤتى بها مع الشرط تثبيتا لدخول الشرط على حيز القسم و العهد تقوية لتلقيهما بالجواب.

و اللام في قوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ» بالفتح و التخفيف على قراءة الجمهور. و قرأ حمزة بالكسر. و قرأ غيره بالفتح و التشديد. و الأول هو المتبع. و هي اللام الموطئة - كما ذكرنا - و قد اختلف الأدباء في اعراب هذه الآية الكريمة بحيث عدوّها من مشكلات القرآن إعرابا.

فقيل: إن اللام هي الموطئة للقسم و (ما) شرطية، و هي في موضع نصب ب (آتيت) و المفعول الثاني ضمير المخاطب و من بيانية كما عرفت في التفسير. و اعترض عليه بأن حمل (من) على البيانية شايع بعد الموصولة دون الشرطية فانه يحتاج إلى النقل. و لذا قال بعضهم انها زائدة، و قال آخر انها تبعيضه ذكرت لبيان (ما) الشرطية.

و قيل: أن (ما) موصولة، و اللام الداخلة عليها هي لام الابتداء و (ما) مبتدأ و الخبر (لتؤمنن به) مع القسم المقدّر. أو يكون الخبر (من كتاب و حكمة) و النكرة هنا بمنزلة المعرفة. أو يكون مقدرا. و الهاء محذوف من آتيتكم، تقديره للذي آتيتكموه من كتاب و حكمة.

و أورد عليه أولا: بأن الميثاق كالقسم مما يعتني بربطه بالجواب و تلقيه بروابط القسم، و هما ينتقضان بلام الابتداء التي لها الصدارة في الكلام فتقطعه.

و يمكن الجواب عنه بأن مجموع الكلام مرتبط بعضه مع بعض من دون أن يضره لام الابتداء و صدارتها.

و ثانيا: إذا جعلنا (لتؤمنن) خبرا لقوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ»

ص: 121

و كذا (لَتَنْصُرُنَّهُ) فما هي اللام فيهما، فإنها حينئذ لا تصلح أن تكون رابطة لجواب العهد و الميثاق، و لا مزحلقة لأنها مختصة بخبر (إن) و الجواب عنه يظهر مما سبق. و ثالثا: إن الضمير في (به) إن عاد على المبتدأ - كما هو الظاهر - كان الميثاق هو ايمانهم بما آتاهم، و لكن المقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) و نصرته. و إن عاد على الرسول - كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا - خلت الجملة عن العائد.

و أجيب عنه بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول استغني عن الضمير، فيكون ضمير (به) راجعا للرسول مع ملاحظة (مصدق لما معكم) القائم مقام الضمير العائد على (ما) فاكتفي بذلك عن الضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه مع بعض.

و فيه: إن التكلف ظاهر فيه، و قد ذكر في التفسير ما يرتبط بذلك أيضا. و رابعا: أنه لو كان الأمر كذلك يلزم أن يكون للذي آتيتكم من كتاب و حكمة لتؤمنن به فردا، و جملة (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتنصرنه)، فردا آخر.

و فيه ما لا يخفى، مع انه فرض يجلّ القرآن الكريم عن مثله لأنه تعقيد للكلام، و إخراج له عن الأسلوب الفصيح المرغوب فيه. هذا كله بناء على القراءة المعروفة.

و أما بناء على قراءة حمزة فان (ما) مصدرية، و اللام للتعليل متعلقة ب (لتؤمنن) أي لأجل اتياني إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له.

و اعترض عليه بانه يستلزم إعمال ما بعد لام القسم في ما قبلها.

و يمكن الجواب عنه بانه لا يضرّ، و بعض العلماء يقول بجواز ذلك.

و الحق أن يقال: أن كل ذلك تطويل بلا طائل تحته، بل قد

ص: 122

يضرّ بعض تلك الأقوال و الاحتمالات بفصاحة القرآن الكريم و بلاغته مع ان فيه من التكلّف و التعسف ما لا يخفى، و مقتضى المتفاهم العرفي الذي هو الأصل في فهم الآيات الشريفة ما ذكرناه في التفسير من أن كلمة (ما) موصولة، و الجملة بتمامها متضمنة لمعنى الشرط، فيكون فهم الشرطية سياقيا لا أن يكون دلاليا، و ما ذكروه في وجه بطلان ذلك كله لا يمكن المساعدة عليه، و قد أجبنا عن بعض ذلك.

و قرئ (تبغون) بالتاء الفوقانية، و عليه يكون في قوله تعالى:

«وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» التفات.

و طوعا و كرها في قوله تعالى: «وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» مصدران في موضع الحال أي طائعين و كارهين و الطوع مصدر طاع يطوع، و الإطاعة مصدر أطاع يطيع، و هو بمعنى الانقياد.

و (كرها) بفتح الكاف من الكره بقرينة المقابلة للطوع، نظير قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً» النساء - 23 أي إكراها. و قيل من الكراهية أي كارهين. و دينا في قوله تعالى:

«وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً» منصوب على التمييز من غير، و هو مفعول (يبتغ)، و قيل: دينا مفعول (يبتغ)، و غير صفة قدمت فصارت حالا و هو الأصح.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول:

قد أكد سبحانه و تعالى الميثاق المأخوذ من جميع افراد الإنسان، لأنه أصل العهود، و به تتم الوحدة، و عنه ينتزع الكل و هو بمنزلة البذرة و الأعمال نتائجها و ثمراتها، و قد ذكرنا في التفسير

ص: 123

أنواعه، و يستفاد اهمية هذا الميثاق من الآية الكريمة أن نسب عز و جل الأخذ إلى نفسه المقدسة، و أخذ الإقرار من المعاهد (بالكسر)، و شهادة الأنبياء، و خاتم النبيين عليه، فيكون هذا الميثاق أصل الانسانية الكاملة التي خلق الإنسان لأجلها، و القرآن الكريم و سائر الكتب الإلهية شرح لهذا الميثاق.

الثاني:

يستفاد من الآيات الشريفة أن هذا الميثاق يقوم على وحدة الدين بين جميع أفراد الإنسان الأنبياء و الأمم على السواء - لأن مبدأ الممكنات جل جلاله واحد بالوحدة البسيطة الحقيقية، و الرجوع و المعاد إنما يكون إلى واحد لأنه أتم مظهر للعدل فلا بد أن يكون الدين واحدا لأنّه أتم تجلّ للواحد الحقيقي الظاهر في عبادة واحد، و لا محالة يكون غيره باطلا محضا و خسرانا صرفا، فمن ذهب من العرفاء، و عظماء الفلاسفة إلى وحدة الوجود و الموجود في عين الكثرة إن كان نظره إلى ما قلناه فهو و إلا فلا دليل على صحته.

الثالث:

تدل الآيات الشريفة على أن حقيقة الميثاق هي الايمان بالمبدأ و المعاد، و التصديق بالأنبياء و ما أنزل عليهم، و البشارة بخاتم النبيين، و يصح أن يكون الميثاق مأخوذا على الكليات لا بالنسبة إلى الجزئيات و إن شملها لا محالة.

الرابع:

ذكر بعض المفسرين أن من اللطائف الواقعة في هذه الآية الشريفة أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ - إلى قوله: ثُمَّ جاءَكُمْ» فيكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير عكس للفرق بين المقامين.

و فيه: إن ذلك و إن كان حسنا في نفسه، و لكنه يستلزم تقديم الفرع على الأصل و هو خلاف مقام المشهود عليه، لما يستفاد من

ص: 124

الآية التلازم بين أخذ الميثاق و الشهادة، فالحق ما ذكرناه في التفسير.

الخامس:

قد ذكر سبحانه و تعالى ما يتعلق بنقض الميثاق و التولي عنه، و اعتبر الناقض فاسقا و لكن لم يذكر هنا ما يتعلق بالوفاء بالميثاق و التعهد به، و لعله لأجل انه لاحد لعظمة هذا المقام و جلالته، فأهمله تعالى ليذهب ذهن السامع أيّ مذهب أمكن، و يصح أن يقال إن ذكر النبي و الرسول إشارة إلى رفعة ذلك المقام و علوّه، و أن العمل به و الوفاء به يوجب الالتحاق بدرجة الأنبياء و المرسلين.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً...» أن الميثاق ليس من العلة التامة في شيء، بل هو من المقتضيات المحضة، و إلا لزمت أمور كثيرة لا يقول بها أحد منهما بطلان الاختيار، و زوال الثواب و العقاب و غير ذلك.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ» على أن المنهاج السليم للإنسان هو التسليم للّه تعالى و الانقياد له عز و جل، و أن دستوره في الحياة هو الطاعة للّه تعالى، و العمل بما أنزله على أنبيائه المرسلين، و في غير ذلك بطلان الانسانية و الحط من مقامها الرفيع و لأجل ذلك كان في الآخرة من الخاسرين، لأن الآخرة المحل الأتم لظهور مقام الانسانية الكاملة و الخاسرة.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» أن جميع من في السموات و الأرض لا يخرج عن أحد هذين الأمرين هما الإسلام طوعا و الإسلام كرها، بل يمكن أن يكون كلا الأمرين في فرد واحد باعتبارين، و قد ذكرنا إن العبادة و التسليم إن كانا للذات و بالذات يكونان طوعا، و إن كانا لجهات خارجية يكونان كرها، و لكنه ليس بإكراه، بلا فرق بين أن يكون الإسلام تكوينيا أو تشريعيا، و لا

ص: 125

يستفاد من لفظ (أسلم) الدال على المضي و التحقق خصوص التسليم التكويني لأمر اللّه تعالى. لأن المراد منه تحقق الإسلام أما الزمان فهو خارج عن مفهوم اللفظ.

التاسع:

الآيات الشريفة تدل على صحة نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) بل يستفاد منها أن التبشير به من اصول الدعوات الإلهية و الرسالات السماوية.

العاشر:

انما قدم سبحانه الايمان بما انزل علينا على الايمان بما انزل على من قبلنا في قوله تعالى: «قُلْ آمَنّا بِاللّهِ ... وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ...» مع أن الثاني اسبق زمانا، لأن الايمان بما انزل علينا هو غاية الرسالات السماوية، و الغاية متقدمة في التعلم و إن كانت متأخرة في الزمان، مع انه الأصل في معرفة السابق علينا، و الطريق لإثباته.

الحادي عشر:

من اللطائف الواقعة في هذه الآيات أن اللّه تعالى افتتحها بذكر الايمان و اختتمها بالإسلام، لبيان أن الايمان بدون الأخير لا ثمرة فيه، و للاعلام بأن الإسلام هو الدستور في الحياة، و المنهج في الدنيا، و غيره باطل لا ثمرة فيه.

الثاني عشر:

انما نفى عز و جل القبول بصيغة المجهول في قوله تعالى: «فَلَنْ يُقْبَلَ» للاشارة إلى أن غير الإسلام لا يفيد في النظامين التكويني و التشريعي، و لعل هذا هو السر أيضا في إتيان (لن) في النفي الدالة على التأبيد فيه.

ص: 126

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ» . قال: فان اللّه أخذ ميثاق نبيه، أي محمد (صلى اللّه عليه و آله) على الأنبياء أن يؤمنوا به و ينصروه، و يخبروا أممهم بخبره.

أقول: و ذلك لأن محمدا (صلى اللّه عليه و آله) العلة الغائية لخلق العالم من النبيين و غيرهم، و شريعته أكمل الشرائع و أفضلها، فيجب الاهتمام به بأخذ الميثاق من كل النبيين على كل الأمم، و هذه الروايات شارحة لمعنى الميثاق الوارد في الآية الشريفة.

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الآية «إن اللّه أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته و يبشروهم به، و يأمروهم بتصديقه».

و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) قال: لم يبعث اللّه نبيا آدم فمن بعده الا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث و هو حي ليؤمنن به و لينصرنّه، و أمره بان يأخذ العهد بذلك على قومه، ثم تلا: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ - الآية -».

و في المجمع، و الجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية ما معناه: «و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النبيين كل أمة بتصديق نبيها، و العمل بما جاءهم به، فما وفوا به، و تركوا كثيرا من شرايعهم

ص: 127

و حرّفوا كثيرا».

أقول: الميثاق من الأمور الاضافية، من النبيين على الأمم.

و من الأمم للنبيين على العمل بما جاءوا به، و الروايات تشرح بعض جهات الميثاق و تبين بعض المصاديق، و لكن الآية شاملة للنبيين على الأمم، و بالعكس، و قد تقدم في التفسير ما يشير الى الرواية الاخيرة أيضا، فراجع.

و في تفسير العياشي عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أ رأيت حين أخذ اللّه الميثاق الذر في صلب آدم فعرضهم على نفسه كانت معاينة منهم له؟ قال (عليه السلام): نعم يا زرارة ذرّ بين يديه و أخذ عليهم بذلك الميثاق بالربوبية و لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بالنبوة، ثم كفّل لهم بالأرزاق، و أنساهم رؤيته، و اثبت في قلوبهم معرفته، فلا بد من ان يخرج اللّه الى الدنيا كل من أخذ عليه الميثاق، فمن جحد مما أخذ عليه الميثاق لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) لم ينفعه إقراره لربه بالميثاق، و من لم يجحد ميثاق محمد نفعه الميثاق لربه».

أقول: الرواية تشتمل على جهات من الكلام. أما قوله (عليه السلام): «حين أخذ الميثاق الذر في صلب آدم» فانه ظاهر في أن الميثاق كان في عالم الذر، و لكن لا يظهر من الحديث اختصاصه بهذا العالم.

و أما قوله (عليه السلام): «كانت معاينة منهم له» فانه ليس المراد المعاينة الحسية، بل المراد المعاينة المعنوية بأن أفاض عز و جل عليهم ما يدركون به أنه خالقهم و مبدأهم و معيدهم.

و أما قوله (عليه السلام): «ذر بين يديه» أي بين يدي اللّه

ص: 128

تعالى، و يحتمل أن يكون المراد بين يدي آدم، أي قداّمه بحيث انه (عليه السلام) يراهم بوجودهم الجمعي، كما في بعض الروايات.

و أما قوله (عليه السلام): «الميثاق بالربوبية، و لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بالنبوة». فقد تقدم وجه ذلك، و أن أخذ الميثاق بالنبوة لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) يرجع إلى أخذ الميثاق لجميع النبيين، كما عرفت في التفسير.

و أما قوله (عليه السلام): «ثم كفّل لهم بالأرزاق» فان الرزق أعم من المادي و المعنوي، و كل ما يكمل به الإنسان روحا و جسما.

و أما قوله (عليه السلام): «و أنساهم رؤيته» فانه لأجل توارد الصور الجسمانية عليهم، و توغلهم في الماديات، فنسوا ذكر اللّه تعالى و يمكن أن يراد به الإنساء لأنهم لو كانوا متوجهين اليه تعالى في كل طرفة عين و آن لاختلّ نظامهم الجسماني في الدنيا، و في بعض الآثار بمعصية ابن آدم عمرت العالم.

و أما قوله (عليه السلام): «و أثبت في قلوبهم معرفته» فان المراد به الفطرة التي فطر الناس عليها، و تظهر بعد ارتفاع الحجب الجسمانية، و الاغشية الظلمانية.

و أما قوله (عليه السلام): «فلا بد من أن يخرج كل من أخذ عليه الميثاق». فلأن عهد اللّه غير قابل للتغيير و التبديل.

و يستفاد من قوله (عليه السلام): «فمن جحد مما أخذ عليه الميثاق لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) أن الميثاق المأخوذ بالتوحيد، و الميثاق المأخوذ بالنبوة واحد» لفرض أن الثاني شارح و مبيّن للأول.

و في تفسير القمي عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما بعث اللّه نبيا من ولد آدم هلم جرا إلا و يرجع إلى الدنيا

ص: 129

و ينصر أمير المؤمنين (عليه السلام)، و هو قوله «لتؤمنن به» يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله). «و لتنصرنه» يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم قال لهم في الذر: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» أي عهدي «قالوا أقررنا» قال اللّه للملائكة:

«فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ» .

أقول: و في سياق ذلك جملة من الأخبار، و هي تدل على تحقق الرجعة، و يأتي شرحها مفصلا إن شاء اللّه تعالى. و يمكن أن تحمل الرواية على مرتبة من مراتب التأويل، و هو شيء، و ظاهر الآية الشريفة شيء آخر، و يدل على ما ذكرناه ما رواه العياشي عن سلام ابن المستنير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمى اللّه به أحدا إلا علي بن أبي طالب و ما جاء تأويله. قلت:

جعلت فداك متى يجيء تأويله؟ قال (عليه السلام): إذا جاء جمع اللّه أمامه النبيين و المؤمنين حتى ينصروه، و هو قول اللّه: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ - إلى قوله - وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ» .

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى:

«أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» . قال (عليه السلام): أ أقررتم و أخذتم العهد بذلك على أممكم. قالوا اي الأنبياء و أممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به، قال اللّه: فاشهدوا بذلك على أممكم، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و على أممكم».

و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: «فَاشْهَدُوا» . يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و عليهم، فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا

ص: 130

العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون، هم العاصون بالكفر».

أقول: الروايتان تدلان على أن المخاطب في الآية الشريفة هم النبيون، و رواية القمي المتقدمة تدل على أن المخاطب الملائكة، و لا منافاة بينهما لتعميم الخطاب بالنسبة إلى الجميع، و الآية ليست في مقام الحصر.

و في التوحيد روى الصدوق عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمعته و هو يقول في قوله عز و جل: «وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» . قال (عليه السلام). هو توحيدهم للّه عز و جل».

أقول: روى مثله العياشي أيضا، و الحديث يدل على أن المراد بالإسلام التوحيد الأعم من التكويني و الاختياري، لأن الجميع مجبولون على التوحيد فطرة.

و في المجمع في الآية: إن معناه إكراه أقوام على الإسلام، و جاء أقوام طائعين. قال: كرها، أي فرقا من السيف».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» أي فرقا من السيف».

أقول: قد تقدم في التفسير ما يستفاد ذلك أيضا.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً الآية -» أخرج أحمد، و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال:

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة، فتقول: يا رب أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير، و تجيء الصدقة، فتقول: يا رب أنا الصدقة، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام، فيقول: أنا الصيام، فيقول: إنك

ص: 131

على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول اللّه: إنك على خير، بك اليوم آخذ، و بك أعطي، قال اللّه في كتابه: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» .

بحث كلامي

الآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها من جملة الآيات الكثيرة التي دلت على ثبوت عالم العهد و الميثاق، و هي من جلائل الآيات التي وردت في هذا الموضوع فقد تكفلت و لو على سبيل الإيجاز لبيان العهد و المأخوذ منه العهد، و من أخذ له العهد، و الغاية منه، و أثره على الإنسان، و تأثيره في بقية العوالم التي يرد عليها الإنسان، و قد وردت أحاديث في السنة الشريفة، تبين بعض الجوانب التي نتعلق بهذا العالم الذي هو من العوالم الربوبية المتعددة.

و لكن لم يعلم ان أخذ العهد كان في عالم الذر الأول، أو في عالم الذر الثاني، كما لا يعلم الزمان و المكان الذي أخذ فيه الميثاق، و لذلك اختلف العلماء فيه فبعضهم عبر عنه بالثابتات الازلية و آخر يقول انه الأعيان الثابتة، و ثالث انه عالم المثل الأفلاطونية، و رابع اعتبر انه عالم المثال المنفصل، و خامس انه عالم الأشباح و الاظلة، و الجميع يريدون التوصل إلى معرفة هذا العالم الذي أقصى ما يمكن القول فيه انه من الغيب و لا يمكن الاطلاع عليه إلا لذوي النفوس القدسية الزكية التي يفاض عليها من عالم الغيب بقدر الاستعداد.

و يرجع الميثاق إلى المعارف اللائقة للإنسان التي لا بد أن يتلقاها في

ص: 132

جميع النشئات التي يمكن أن يرد عليها إتماما للحجة، و إيضاحا للمحجة و الآخذ للميثاق هو اللّه تعالى و المأخوذ منه الإنسان في أي عالم ممكن أن يرد عليه، و المأخوذ هو حقائق الكتاب و الحكمة و أصول المعارف الحقة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الكامل، و بعبارة أخري المأخوذ هو الحق المطلق الذي يكون غاية خلق العالم بروحانياته و جسمانياته، و لأجل عظمة هذا العهد المأخوذ اهتم به سبحانه لأنه مرآة الكمال المطلق، و قد أظهره سبحانه في كتابه الكريم لمصالح كثيرة.

و غاية ما يمكن أن يقال انه حادث مسبوق بالعدم، و لكنه أبدي دائم بدوام اللّه تعالى، تتبدل صوره بحسب تبدل النشئات، فان العلم الازلي الأتم الأكمل الذي هو عين ذاته الأقدس من جملة مراتبه، حيث يكون الكل فيه واحدا، و مجردا عن الزمان و المكان.

و له مراتب كثيرة ففي مرتبة يكون في مقام العلم بالنظام الأحسن و في مرتبة اخرى عهد و عمل، و في مرتبة ثالثة جنة و رضوان، كما انه الغاية من بعث الأنبياء و الرسل، و خلق الجنة و التحذير عن النار، و يصح أن يعبر عنه بالفلسفة العملية المعروفة بين الفلاسفة الإلهيين، كما انه التجلي الجلالي و الجمالي، و عالم الجمع مقابل عالم التفريق - و هو العالم الذي نحن فيه - إذا لوحظ الجمع و التفريق بالمعنى الاضافي النسبي و هو الفطرة التي فطر اللّه عليها و الوجوه الجامعة بين جميع الأديان الإلهية، فيكون التخلي عنها خروجا عن الفطرة و فيه فساد العالم، و خسران بني آدم، فلا يفيد الإنسان شيئا آخر غيره، كما قال تعالى في آخر الآيات المتقدمة «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» .

ص: 133

بحث عرفاني

لا ريب في أن الإنسان أشرف الموجودات بل هو اجلّها و أعظمها فهو النوع الأتم الأكمل لسائر الأنواع الممكنة، و كيف لا يكون كذلك و قد تباهي اللّه عز و جل به على سائر المخلوقات في قوله تعالى «فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ» في نظام خلقه الجسماني فضلا عن روحانيته المقدسة التي خرّت الاملاك ساجدة لها، فهو مظهر جميع النشئات الممكنة في عالمي الغيب و الشهادة، و في مثل هذه الأعجوبة التي حارت العقول فيها لا بد أن يتجلى اللّه تعالى لها في كل نشئاته، فان المعية التي أثبتها سبحانه و تعالى للإنسان في قوله: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» ليس المراد بها المعية الزمانية أو المكانية في عالم الدنيا فقط، بل المعية المطلقة في كل العوالم، فان للّه تعالى أطوارا من التجليات منها عالم الميثاق، و منها عالم الذر، و عالم الشهادة، و قد حصلت من هذه التجليات جذبة روحانية للإنسان الى اللّه تعالى، فهو عز و جل محبوبه في تمام حالاته و جميع نشئاته، و لكن الحجب الجسمانية الظلمانية تحجبه عن الوصول الى المحبوب، و في عالم الميثاق تجلى اللّه تعالى فيه و أخذ عز و جل من الإنسان العهود المؤكدة بالنسبة الى معرفة خالقه و توحيده، و الايمان برسله و ما ينزل عليهم، ليكون على معرفة في جميع العوالم التي يرد عليها عارفا لمبدئه و معاده، و منهجه في الحياة و عاقبته، و يصح للعارف المطلع على الأسرار أن يعبّر عن عالم الميثاق بالتجلي الجمالي و الجلالي للّه تعالى، و لكن الحجب الظلمانية المانعة عن

ص: 134

مشاهدة عالم الميثاق، و حجب الابتعاد عن ما عوهد عليه الإنسان كثيرة تختلف قلة و كثرة بالنسبة إلى النفوس، ففي نفس تكون لأجل عدم فعالية القوى المدركة، و الاختصاص بالآلات الجسمانية فإنها نحو حجاب ظلماني بالنسبة إلى درك ذلك العالم. و من انسلخ عن هذه المرتبة، فقد أزال عن نفسه حجابا من الحجب، كما أن التقرب إلى ساحة الحبيب، و الدخول في تجلياته عز و جل لا يكونان إلا بالعبودية الخالصة و الخلوص لديه، و قد ذكرنا أن عالم الميثاق من مظاهر تجلياته عز و جل و الاشتغال بالوفاء بما أخذ منه العهود من آثار هذا التجلي الالهي.

ثم ان عموم قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» يشمل جميع المفتعلات التي ليست على طريقة الإسلام و هديه تماما فيشمل كل ما ينسب إلى الدين و لو مع الواسطة ان لم يطابق الظواهر المقدسة الشرعية، و لعله لذا ورد النهي عن التعمق في الدين، بل عدّ في بعض الروايات من جنود الجهل و النفاق فان التسليم و الاستسلام لما أنزله اللّه تعالى شيء و التعمق شيء آخر.

و الآية المباركة تنفي كل المذاهب المنسوبة إلى الطوائف الصوفية و جميع اعمال المرتاضين الذين يرتاضون على غير ظاهر الإسلام.

و بالجملة: فإنها بعمومها تنفي كل مذهب و دين غير الإسلام الذي كان عليه سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و ما بينه القرآن الكريم.

ص: 135

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَل.......

اشارة

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ (90) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) الآيات الشريفة لا تخلو عن الارتباط بالآيات المباركة المتقدمة، فانه تعالى بعد ان بيّن حقيقة الدين الذي يجب اتباعه و انه الإسلام الذي بعث به جميع الأنبياء و أخذ عليه الميثاق، و بيّن ان غيره باطل لا يقبل منه.

ذكر عز و جل في هذه الآيات حال الكافرين به و الظالمين الذين خرجوا عن هدايته سبحانه و تعالى و اتبعوا أهواءهم و فسقوا بالخروج عن الميثاق الذي أخذ منهم، و بيّن جزاءهم بأن أوعدهم سوء العذاب

ص: 136

و سجّل عليهم لعن من في السماوات و الأرض.

و في معرض الكفر و الايمان قسّم سبحانه و تعالى الكافرين إلى اصناف ثلاثة، فمنهم من يقبل توبته إذا رجع إلى الحق و أنكر الباطل و أصلح نفسه و اتبع الإسلام، و منهم من ضل عن الصراط المستقيم و اصرّ على الكفر و توغل فيه، فهؤلاء أفلتت منهم الفرصة فان اللّه لا يقبل توبتهم و منهم من مات على الكفر و لم يؤمن به تعالى فلن تقبل منهم فدية و لو كانت ملء الأرض ذهبا فإنهم مخلدون في العذاب و ما لهم من ناصرين.

التفسير

قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ .

كيف لفظ استفهام يفيد الاستبعاد و الجحد و الإنكار. و يراد به استحالة الهداية نظير قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ» التوبة - 7 أي: يستحيل ان يكون لهم العهد.

و المعنى: انه لا طريق لهم يهديهم إلى الحق الا ما يريده اللّه عز و جل و قد كفروا به لأنه تعالى اقام الدلائل الواضحة و الحجج القويمة على الدين الحق و هم قد تركوه و اعرضوا عنه باختيارهم فهم قد ابعدوا أنفسهم عن الألطاف الإلهية، و التوفيقات الربانية التي هي سنة اللّه تعالى في هداية البشر إلى الحق و قد حرموا أنفسهم عن الكمال.

و الآية الشريفة و ان كانت تستعد الهداية عنهم مطلقا، و لكن

ص: 137

ذيل الآية يدل على ان الهداية تستحيل مع تلبسهم بالظلم قال تعالى:

«وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ» فان الوصف فيه مشعر بالعلية اي لا يهديهم مع وجوده فيهم لأنه من الجمع بين النقيضين المستحيل عقلا فإذا رجعوا عنه بالتوبة الصادرة عن القلب فلا ينافي هدايته عز و جل لهم.

و في الآية الشريفة إيئاس للنبي (صلى اللّه عليه و آله) من ايمانهم لأنهم رأوا الهدي فنكبوا عنه و شهدوا الحق فاعرضوا عنه فاستحقوا جزاء الظالمين بطبيعة اختيارهم.

قوله تعالى: وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ .

عطف على معنى الفعل في «إِيمانِهِمْ» اي بعد ان آمنوا و شهدوا ان الرسول حق. و الواو للحال و الجملة حالية بتقدير (قد).

و المراد بهم إما اهل الكتاب فتكون شهادتهم هي الاعتراف بالدلائل الواضحة على صدق الرسول كما يدل عليه قوله تعالى:

«وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» أو اهل الردة، فشهادتهم تكون إقرارا منهم بالرسالة عن معرفة بحقيقة الرسول و صدق ما جاءتهم البينات فلا يكون إقرارهم إقرارا صوريا.

قوله تعالى: «وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» .

البينات - جمع بينة مؤنث البين - و هي الدلائل الواضحة و الحجج القويمة و البراهين الناطقة على حقية الرسول و صدقه سواء كانت هذه الدلائل هي الآيات القرآنية الدالة على صدق الرسول و صحة دعواه، أو المعجزات الباهرات، أو البشارات التي وردت في الكتب السماوية و صدقها العارفون بها فيكون كفرهم بعد وضوح الحق و قيام

ص: 138

الحجة مكابرة للحق و عنادا منهم معه و عن بغي و لذلك كانوا ظالمين و قد استحبوا العمى على الهدى و آثروا الظلام على النور.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

برهان قويم على عدم هدايتهم، و قد أقام عز و جل الوصف (الظالمين) مقام الضمير لبيان العلة في حرمانهم عن الهداية و هي الظلم الذي هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه في الاهتداء إلى الكمال المنشود، و لا يهتدي معه صاحبه إلى الفلاح و النجاح. و لكن ذلك لا ينافي هدايته عز و جل لهم بعد رجوعهم عن الظلم و تبريهم من الكفر.

ثم ان الظلم إما ان يكون قبل الدخول إلى الإسلام فيمحى بالإسلام و لا يبقى له اثر فان الإسلام يجب ما قبله. و إما ان يكون بعد الإسلام مع البقاء على الظلم و التلبس به فيكون الإسلام منه صوريا و من مجرد الإقرار اللساني و لا يترتب على هذا الإسلام اثر بل يترتب عليه آثار الكفر و النفاق، أو يكون الظلم مسبوقا بالإسلام و هو الارتداد، أو يكون مسبوقا بالإسلام ثم لا يزول حتى يموت. و قد ذكر سبحانه و تعالى هذه الأقسام في الآيات اللاحقة بعد اجمالها في هذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ .

أولئك مبتدأ، و جزاؤهم مبتدأ ثان و جملة «أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ» خبر المبتدأ الثاني، و الجملة من المبتداء و الخبر خبر للمبتدأ الاول.

و استحقاقهم هذا الجزاء و هو لعن جميع من في السموات و الأرض

ص: 139

لخبث ذواتهم و انطباع قلوبهم على الكفر، فهم آيسون من رحمة اللّه تعالى مطرودون عن هدايته و توفيقاته، و لان الخارج عن الهداية و المارق عن الانسانية الكاملة التي خلق اللّه تعالى الإنسان لأجلها يستحق لعن كل لاعن و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ» البقرة - 159 ما يتعلق بعود جميع اقسام اللعنة عليهم و المقام تفصيل لما أجمله عز و جل هناك.

و لعن اللّه تعالى لهم طردهم عن رحمته و الدخول في سخطه كما ان لعن الملائكة هو الدعاء عليهم باللعنة، و اللعن من الخلق السبّ و الدعاء عليهم، و قد اذن عز و جل للناس بالدعاء عليهم باللعنة و هم إما المؤمنون خاصة فهو واضح لأنهم يلعنون الكافرين أو المطلق فلان كل واحد من افراد الإنسان يعلم بأن من لم يتبع الحق يستحق اللعن بل يلعن نفسه في حاق الواقع أيضا لأنه يعلم ان خلاف الحق باطل و لكن جهله المركب منعه عن درك ذلك.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها .

اي في اللعنة و الطرد عن رحمة اللّه تعالى، و اللعنة عليهم تستلزم دخولهم النار، فيمكن إرجاع الضمير في «فيها» إلى النار المستفاد من السياق، إذ لا فرق في رجوع الضمير إلى السبب التام أو المسبب منه.

و الجملة حال من الضمير في «عليهم». و خلودهم فيها إيئاس لهم عن الهداية و التوفيق لملازمتهم للظلم.

قوله تعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ .

بيان للخلود الذي استحقوه لخبث في ذواتهم و رسوخ حب الظلم في نفوسهم فالعذاب يدوم بدوام علته.

ص: 140

قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ .

الانظار الامهال، كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة و لا يؤخر عنهم العذاب يوم القيامة فان المسبب لا يمكن ان يتخلف عن السبب الذي هو الظلم و خبث الذات.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا .

استثناء ممن ذكر سابقا، و المراد من «بعد ذلك» من بعد الكفر و «أصلحوا» اي صاروا صالحين و أتوا بالعمل الصالح - كقولهم «أغدّ البعير اي صار ذا غدة» - بقرينة سائر الآيات التي جمع فيها بين الايمان و العمل الصالح و البقاء عليه.

و المراد من التوبة البقاء عليها قلبا و عملا، فان الذنب كبير لا يكفي فيه مجرد الندم بل لا بد من كون التوبة نصوحا يظهر أثرها على الجوارح.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

اي: فان اللّه يغفر لهم ذنوبهم ليزكي به نفوسهم و يرحمهم بالرضا و الثواب و الدخول في رضوانه و جنته.

و الجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء وضع فيها العلة موضع المعلول تأكيدا، و لبيان ان رحمته و مغفرته لازمتان لمن كان أهلا لهما.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً .

بيان للصنف الثاني من الكافرين و هم الذين انغمروا في الضلالة و الكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة، فانه لا سبيل لهم للصلاح و لا مطمع في اهتدائهم فلا يهديهم اللّه تعالى و لا تقبل توبتهم بعد الكفر لاستهزائهم بالدين و احكام الشرع المبين فهم أصروا على العناد و صدوا

ص: 141

عن سبيل اللّه تعالى و أحلوا نفوسهم دار البوار و ازداد الطغيان في نفوسهم لممارستهم الملكات السيئة.

و من ذلك يعلم ان ذكر هذا الصنف بعد قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» يكون من تطبيق الكلي على بعض مصاديقه فلا مجال للاشكال في عدم قبول التوبة، لمنافاته للآيات الكثيرة الدالة على قبول التوبة مطلقا قال عز و جل: «وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» الشورى - 25 و كذا السنة الشريفة الدالة على قبول التوبة حتى قبل حضور الموت و قد تقدم في بعض مباحثنا تفصيل ذلك.

و ملخص الكلام: ان التوبة مقبولة مطلقا الا إذا أسقط التائب نفسه عن قبولها و هذا الصنف و ما ياتي من هذا القبيل. نعم لو آمن ثم ارتد و كفر ثم تاب فعن جمع من الفقهاء تبعا لبعض الروايات عدم قبول توبته أيضا. لكن صرح المحققون منهم تبعا للعمومات و الإطلاقات بقبول توبته أيضا الا في الاحكام المختصة كقتله، و بينونة زوجته، و تقسيم تركته بين و رثته. و لكن هذا الفرد (الفطري) خارج عن مفهوم الآية الشريفة إذ ليس فيه العلة في عدم قبول توبته و هي الازدياد في الكفر، بل هو كفر واحد بعد الايمان.

قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ .

نفي مؤبد لقبول التوبة في المستقبل، لأنهم ازدادوا كفرا و أصروا على العناد و اللجاج و هم على ضلالة فلا تقبل توبتهم.

و انما عدل سبحانه و تعالى عن قول «لا تقبل توبتهم» إلى «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» للاشارة إلى ان توبتهم المستقبلة و المتأخرة لن تقبل

ص: 142

منهم ابدا. لأنها لا تصدر عن خوف من اللّه تعالى، بل هي تصدر عن نزعات النفس الامارة و الاستهزاء بالحق، و الا فان التوبة الصادقة المنبعثة عن الخوف من اللّه عز و جل و التقوى مقبولة حتى قبل حضور الموت كما هو ظاهر اطلاق الآيات الشريفة و صريح جملة من الروايات.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ .

الضالون المخطئون طريق النجاة و المعرضون عن الحق اي هم كذلك في مدة حياتهم، و من تحقق الحصر، و إتيان الإشارة البعيدة (أولئك) و تأكيد الجملة بالضمير المنفصل (هم) و وجود اللام في الخبر و اسميته كل ذلك يدل على تأكيد الضلال و تمكنه فيهم و هو راسخ فيهم فلا يرجى هدايتهم.

و الآية الشريفة تشمل على علة عدم قبول توبتهم و هي الضلال الناشئ من ازدياد الكفر.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ .

هؤلاء هم القسم الثالث من اقسام الكافرين و هم الذين لا تقبل توبتهم لأجل انهم ماتوا على الكفر و العناد و موتهم على الكفر كناية عن فوت التوبة عنهم في مدة حياتهم بخلاف الطائفتين السابقتين، فان الاولى ثابت عن الكفر توبة نصوحا و لم تعد اليه و الثانية تابت عن الكفر ثم رجعت إلى الكفر و ازدادت كفرا، و هذه الطائفة لم تتحقق منهم التوبة في مدة حياتهم ابدا فلا يستحقون المغفرة و الرحمة و لا يهديهم اللّه تعالى في يوم القيامة و ان حاولوا الافتداء عما فعلوه في الدنيا لتقبل توبتهم.

ص: 143

قوله تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً .

ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه و في الدعاء «لك الحمد ملء السموات و الأرض» و معناه لو قدر ان تكون كلمات الحمد أجساما لبلغت من كثرتها ان تملأ السموات و الأرض فالمراد التمثيل لكثرة العدد و الا فالمكان ليس ظرفا للكلام و إن كان ظرفا للمتكلم.

و الملاء (بالفتح) مصدر ملأه ملأ.

و قد شبه عز و جل الأرض بالإناء الذي يملأه الذهب فتضمن الكلام استعارة بليغة، و انما ذكر عز و جل ملء الأرض ذهبا لأنه غاية ما يعظم عند الإنسان فيبذله للخلاص.

و انما دخلت الفاء في خبر «إن الذين كفروا» هنا و لم تدخل في الآية السابقة مع ان الآيتين سواء في ذلك، لخروج المبتدأ - في المقام - باعتبار صلته مخرج الشرط بخلاف الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ .

اي: و لو قدم ذلك بعنوان الفداء في الآخرة، و انما ذكره سبحانه و تعالى في هذه الطائفة دون السابقة لان الفداء استنقاذ محبوب بمال و قد فاتتهم التوبة في الدنيا فلا يمكن استنقاذها في الآخرة بشيء و ان بلغ في نظر الإنسان ما بلغ في العظمة، و فيه غاية التهويل و التخويف لأنه لا خلاص لهم من الوعيد.

و الواو في «وَ لَوِ اِفْتَدى» قيل انها للمصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يكون الخبر المذكور منبها عليه بالطريق الاولى، ففي المقام إن افتدائهم بملء الأرض ذهبا من اكثر الاحتمالات بقبول الفدية فإذا لم يقبل فالاحتمالات الاخرى اولى بعدم القبول، و مثل ذلك كثير في

ص: 144

الفصيح من الكلام، فتكون «لَوِ» منبّهة على ان ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء و ما بعدها يكون أقوى الوجوه بالقبول، فلا يندرج في ما قبلها. فهذا التركيب يفيد هذا المعنى الدقيق.

و قيل: ان الواو للعطف و التقدير اي التفصيل بعد الإجمال.

و يمكن ارجاعه إلى السابق. و يحتمل ان يكون هذا التركيب لبيان غاية التهويل و التخويف. و الظاهر ان بين جميع ما ذكر في المقام تلازم في الجملة.

قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

مبالغة في التحذير، و نهاية بعدهم عن التوبة و استعدادهم لها و إيئاسهم عن جميع ما يمكن ان يتوسل به لدفع العذاب.

قوله تعالى: وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

نفي للانتفاع بالشفعاء الذين قد يتشفعون بهم في دار الدنيا و ينصرونهم فلا تلحقهم الشفاعة المعدة لأهل الذنوب و المعاصي في يوم القيامة.

و (من) تدل على استغراق النفي و عمومه لجميع افراد الناصرين لكل واحد منهم و لجميعهم بالأولى.

بحث دلالي

يبين عز و جل في قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا..» قاعدة كلية أثبتها علماء الفلسفة العملية - و ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم - و استدلوا عليها بأدلة كثيرة عقلية و نقلية و هي ان للرذائل

ص: 145

النفسانية انما ترسخ في النفس بممارستها و مزاولتها و عدم الاعتناء برفعها و إزالتها و تطهير النفس عنها، فإذا رسخت لا تزول الا بصعوبة شديدة و متاعب مريرة بل لا يمكن زوالها في بعض النفوس و ان أمكن تخفيفها و لكنها تعود بين حين و آخر و تظهر آثارها، لكون أصلها في الذات، فإذا رسخ الكفر مثلا في النفس فانه لا ينفعه الايمان فلو آمن و شهد الحقيقة و الرسول و آياته و بيناته ثم كفر يكشف كفره هذا عن رسوخ ملكة الكفر في نفسه و لا تزول الا بالتطهير اي التوبة النصوح المقارن مع الصلاح و الإصلاح. و لأجل هذا أكد سبحانه و تعالى على الصلاح في هذه الآية الشريفة. و هي كبرى تنطبق على الأقسام التالية التي يذكرها سبحانه و تعالى في ذيل الآية المباركة، كما عرفت في التفسير، فيكون لفظ «كَيْفَ» للتعجب الانكاري اي الامتناع العادي.

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى. «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ - الى قوله تعالى - إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا» قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصامت و كان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا و هرب و ارتد عن الإسلام و لحق بمكة ثم ندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآيات المتقدمة فحملها اليه رجل من

ص: 146

قومه فقال: اني لأعلم انك لصدوق و ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أصدق منك، و ان اللّه تعالى اصدق الثلاثة و رجع الى المدينة و تاب و حسن إسلامه» و قال الطبرسي و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

أقول: روى قريبا منه السيوطي في الدر المنثور.

و في الدر المنثور أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ارتد رجل من الأنصار عن الإسلام و لحق بالشرك فندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هل لي من توبة فاني ندمت؟ فنزلت: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ - الى قوله تعالى - إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا» فكتب بها قومه اليه فرجع فاسلم».

أقول: يمكن أن يكون سبب النزول متعددا.

و في الدر المنثور عن عطاء في قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» قال: «نزلت في اليهود كفروا بعيسى و الإنجيل ثم ازدادوا كفرا ببعثة محمد (صلى اللّه عليه و آله) و القرآن».

و في اسباب النزول للواحدي عن أبي العالية في الآية: «انها نزلت في اليهود و النصارى كفروا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بعد ايمانهم بنعته و صفته ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً بإقامتهم على كفرهم».

أقول: بعد كون دين اللّه واحدا في اصل التوحيد و النبوة و المعاد فلا فرق بين ان آمن بني واحد ثم كفر به أو آمن صنف بني خاص أخبر بالنبي ثم كفروا بالنبي اللاحق فتنطبق الآية الشريفة على كل منهما بعد وحدة المناط فيهما.

ص: 147

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ.......

اشارة

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اَللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (95) بعد ان ذكر سبحانه و تعالى جملة من احوال الكافرين، و بيّن الميثاق الذي أخذ منهم و حاجهم في ما ادعوه من الايمان. ثم سرد أقسام الكافرين و بيّن ان قسما منهم تقبل توبتهم إذا كانوا في مقام الإصلاح و أتوا بالعمل الصالح.

يذكر عز و جل في المقام ان الايمان لا بد و ان يقترن بالعمل بالاحكام الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على رسله و ان الميزان الصحيح هو متابعة ملة ابراهيم و نبذ الشرك و الكفر و العناد و ان من أهم مظاهر الايمان و العمل الصالح هو الانفاق في سبيل اللّه تعالى بل ان البر هو الثمرة الظاهرة للايمان فلا بد ان يقترن ذكره لان البر يكشف عن محبة اللّه تعالى و الزهد في حطام الدنيا و الرغبة الى ثوابه عز و جل و رضائه، فمن آثر شهوة المال و جمعه كان ممن آثر حب الدنيا على محبة اللّه تعالى، فالإنفاق في سبيل اللّه تعالى هو الميزان الفارق بين الايمان الحقيقي و الادعائي.

ثم بين بعض مفتريات اليهود على اللّه تعالى و فنّد مزاعمهم و وبّخهم على التعدي في احكام اللّه و الشرك به و أوعدهم العذاب.

ص: 148

التفسير

قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ .

النيل هو الإصابة و الوصول و في الحديث: «خرج بلال بفضل وضوء النبي (صلى اللّه عليه و آله) فبين ناضح و نائل» اي مصيب منه و آخذ.

و البر هو كل ما يصح ان يتقرب به الى اللّه تعالى من الخير و الإحسان و الفعل المرضي، و من أسمائه تعالى «البر» بالفتح اي العطوف على عباده ببره و لطفه و تقدم في قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ» البقرة - 177 بعض ما يتعلق باشتقاق هذه الكلمة.

و المشهور ان الخطاب للمؤمنين و لكن يمكن ان يكون الخطاب للجميع لا سيما بعد ورود هذه الآية بعد الآية التي بينت اقسام الكافرين و ما سيذكره عز و جل من بيان خلاف اليهود و افترائهم.

و المراد بنيل البر هو الدخول في زمرة الأبرار و الوصول الى الدرجات العالية و الثواب الجزيل الذي أعده اللّه تعالى لهم، و قد اختلف المفسرون في المراد بالبر الذي يناله المنفق في المقام، فقيل انه الجنة، و قيل انه بر اللّه تعالى و إحسانه، و قيل غير ذلك و لكن كل ذلك يرجع الى ما ذكرناه، و ما ذكروه يكون احد افراده.

و البر كما يشمل الأفعال الخيرة كعبادة اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل

ص: 149

أيضا ما هو فعل القلب كالايمان باللّه عز و جل و كتبه و رسله، و الاعتقاد الحق، و النية الصادقة، و تهذيب النفس بمكارم الأخلاق و يدل عليه قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177. فانه تعالى جمع القسمين من البر: الأفعال القلبية و الأفعال الجوارحية.

كما أن الانفاق عام يشمل الانفاق من الأموال و غيرها، و لكنه بقرينة ما يأتي يختص بتلك الأشياء التي يرغب إليها الإنسان و يعتز بها الإفراد و يهواها و يحبها، و هو يعم المستحب و غيره، و لا معنى للنسخ حينئذ، لان وجوب بعض افراد الانفاق لا ينافي استحباب بعضها الآخر.

و انفاق المحبوبات و المشتهيات في سبيل اللّه تعالى من أعظم ما يختبر به الايمان الصحيح عن الايمان الفاسد، لان فيه يظهر الاعتزاز بالإيمان باللّه و محبته عز و جل التي لا بد أن تعلو على محبة الأموال و غيرها التي يعتز بها الإنسان و تشح بها نفسه و يرغب في ادخارها، فهو كاشف عن رضى اللّه تعالى و الرغبة في ثوابه و الايمان الصادق، فيكون الانفاق في حبه برا يرضاه اللّه تعالى بالشروط التي ذكرها عز و جل في آيات الانفاق في سورة البقرة.

و ذكر بعض المفسرين انه يفهم من الحصر المستفاد من النفي و الإثبات - اي: من اثبات البر في الانفاق و نفيه عن غيره، و ان الانفاق غاية لا ينال البر الا بها - أن من أنفق مما يحب كان برا و ان لم

ص: 150

يأت بسائر شعب البر من الايمان بجميع أركانه.

و لكنه باطل لان هذه الآية بانضمام سائر الآيات الواردة في الانفاق يستفاد منها ان انفاق المحبوب هو احد اركان الايمان، و قد جمع سبحانه و تعالى الانفاق مع سائر اركان الايمان و شعبه في سورة البقرة آية - 177. و انما جعل الانفاق غاية لنيل البر هنا للاهتمام به لما يترتب عليه عظيم الفائدة، و لما فيه الآثار الكبيرة التربوية و النفسية و الاجتماعية و لان الانفاق من أهم الاساليب في ترويض غريزة النفس في حب الدنيا و ما فيها بحيث يكون فقد المال موجبا لتألمه بخلاف غيره، كما قال علي (عليه السلام): «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب»، و قد تقدم في آيات الانفاق في سورة البقرة بعض ما يتعلق به.

يضاف الى ذلك ان قوله «مِمّا تُحِبُّونَ» يدل على ان الشيء الذي يبذل لا بد أن يكون مرضيا للّه تعالى فان الشيء الزهيد الذي لا ترضونه لا يدخل في الانفاق المحبوب، لان القصد هو التقرب الى اللّه تعالى و ابتغاء وجهه الكريم و هو من احد طرقه و بقية الأركان هي من شروطه.

و من جميع ذلك يستفاد ان الالف و اللام في «اَلْبِرَّ» إما للحقيقة اي حقيقة البر التي بيّنها عز و جل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أو للعهد اي ذلك البر المعهود الذي جعله اللّه تعالى للأبرار و هم المؤمنون الصادقون المتقون.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

ترغيب للإنفاق، و ترهيب عن تركه و تطييب لنفوس المنفقين

ص: 151

و إخلاصهم و يجازيهم على ذلك و يضاعف لهم الجزاء، كما وعدهم به فلا يخشى احد بعد ذلك عن الانفاق، و لكن لا بد من الإخلاص فيه ليفوز بالجزاء الأوفى.

و ترشد الآية الشريفة إلى حسن الإخفاء في الانفاق و الحث عليه، فان اللّه تعالى عليم به و ان خفي عن الناس و لم يعلم به سوى المنفق.

قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ .

الطعام ما يطعم و يتغذى به و في الحديث: «ما لنا طعام إلا الأسودان التمر و الماء» و ان كان يطلق عند اهل الحجاز على البر و خاصة و ينصرف عند الإطلاق اليه عندهم، و في حديث أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطرة صاعا من طعام أو صاعا من شعير» و يأتي بمعنى المطعوم.

و الحل مصدر بمعنى المفعول كالحَل مقابل العقد و هو ضد الحرام و هما قسمان من اقسام الاحكام الخمسة التكليفية، و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله: «من أكل من حلال القوت صفا قلبه و رق و دمعت عيناه و لم يكن لدعوته حجاب».

و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم و هي كلمة عبرانية مركبة، و معناها المحارب أو المجاهد في اللّه أو جندي اللّه، و قد ذكر المؤرخون من اليهود في وجه تسمية يعقوب بهذا الاسم إنه صارع اللّه أو الملاك عند فنوئيل و هو اسم موضع. و هذا مما يكذبه القرآن الكريم و العقل السليم. و اطلق على الأسباط الاثني عشر عموما، و يعرفون ببني إسرائيل و بعد ذلك صار اسما للمملكة الشمالية التي لم تكن لقبائل يهوذا و بنيامين، و لاوى، و دان، و شمعون شركة فيها. و بعد سبي

ص: 152

بابل اتخذ الراجعون من السبي إسرائيل اسما لامتهم مع ان أكثرهم كانوا من مملكة يهوذا. و في القرآن الكريم يطلق على من دان بدين موسى بن عمران.

و المعنى: كل الطعام بجميع أصولها كانت حلالا لبني إسرائيل الا ما استثناه عز و جل من تحريم يعقوب على نفسه بعض المطعومات.

و هذا الحكم ارفاقي امتناني بالنسبة إليهم كجملة كثيرة من الاحكام الامتنانية التي شرعها اللّه جل جلاله عليهم ابتداء و لكنهم ظلموا فحرم عز و جل عليهم بعض الطعام تأديبا لهم و عقوبة لما فعلوه من الجرائم كما حكي عز و جل في موضع آخر فقال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً» النساء - 160.

و يستفاد من قوله تعالى «عَلى نَفْسِهِ» ان التحريم لم يكن عاما يشمل جميع بني إسرائيل بل كان مختصا به لأجل مصالح خاصة كانت تتعلق به.

و قد اختلف المفسرون في النوع الذي حرمه فنسب الى ابن عباس انه الشحم الباطن و الكليتان و زائدتا الكبد. و عن آخر انه لحوم الانعام و عن ثالث انه حرم لحوم الإبل و ألبانها و نقل الحاكم عن ابن عباس انه (عليه السلام) كان به عرق النساء فنذر ان شفي لم يأكل أحب الطعام اليه و كان تلك أحب الطعام اليه».

و لكن نقل شيخنا البلاغي انه: «لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا بل انما تذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النساء إلى هذا اليوم فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل

ص: 153

و الآية الشريفة مجملة من هذه الجهة فلم تعين شيئا و لعل الغرض من ذلك اثبات ان التحريم كان لبعض انواع المطعومات لشخص معين لا لجميع الشعب، و ان اللّه تعالى قد أحل لهم جميعها، فما تقوّله اليهود في هذا المجال افتراء على اللّه تعالى.

و قال بعض المفسرين ان المراد من إسرائيل الشعب كله كما هو شايع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب. و يرد عليه: انه استعمال غير معهود في القرآن الكريم بل عند العرب في عصر النزول، و قد ورد لفظ بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين موردا. مع ان ذكر بني إسرائيل أولا شاهد على ان المراد من إسرائيل هو يعقوب (عليه السلام) و لا يتصور وجه لحذف المضاف من الكلمة الثانية في موضع الإبهام و الالتباس، يضاف إلى ذلك رجوع الضمير المفرد في «عَلى نَفْسِهِ» اليه فلو كان بني إسرائيل لكان الضمير ضمير الجمع.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ .

الظاهر انه متعلق ب «حرم» و المعنى: ان اللّه تعالى لم يحرم من الطعام شيئا على بني إسرائيل قبل نزول التوراة الا ما حرم إسرائيل على نفسه.

و ذكر بعض المفسرين انه متعلق ب «كان حلا». و أورد عليه بانه يلزم الفصل باجنبي و هو جملة «إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد و الإبهام.

و أجيب عنه بانه لا يضر الفصل بالاستثناء، إذ هو فصل جائز لأنه من متممات الكلام.

و كيف كان فالمعنى على كلا التقديرين واضح و هو اثبات الحلية العامة و الحرمة الخاصة قبل نزول التوراة.

ص: 154

و الاحتمالات في الآية الكريمة ثلاثة: الاول: إن تكون الآية الشريفة مقولة قول اليهود، و من مزاعمهم الفاسدة، و يؤيده ذيل الآية المباركة «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» الذي هو في مقام الرد عليهم بالرجوع إلى توراتهم. فيصير معنى الآية:

ان بعض اهل الكتاب قالوا ان جميع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل قبل ان تحرم التوراة بعضا منها و استثنوا من ذلك ما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة، فنزلت هي بتحريمه.

و جميع ذلك كذب منهم و افتراء، فان التوراة حرمت الرجس عليهم كما في العدد الثالث من الفصل الرابع من سفر التثنية، و نصت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين على حرمة الحيوانات البرية و المائية و الطيور، فكيف يكون الرجس حلالا عليهم قبل نزول التوراة، كما ان التوراة لم تذكر ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا كما عرفت آنفا فما ذكروه افتراء و كذب.

الثاني: ان تكون الآية جملة خبرية في مقام الإنشاء، و هذا كثير شايع في المحاورة، و اعتمد عليه في علم الأصول، نظير قوله تعالى «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ» البقرة - 74 و غير ذلك. و حينئذ فالآية في مقام الاستفهام الانكاري حذفت منه اداة الاستفهام لدلالة المقام عليه، فيكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تفسيرا و اثباتا لمضمونها.

الثالث: ان يكون قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» حكاية عن قول اليهود الذي أوردته لإلقاء الشبهة على المؤمنين، و نفي كون الإسلام دين الفطرة و على ملة ابراهيم، و هي ان الرسول لو كان صادقا لما اخبر بالنسخ

ص: 155

و ان اللّه حرم الطيبات لظلمهم بعد ما كانت حلالا لبني إسرائيل و يكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» واردة في دفع الشبهة لإظهار كذبهم و ابطال شبههم، فأمرهم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بتعليم من اللّه عز و جل بالرجوع إلى التوراة فإنها الفصل في الدعوى ورد مزاعمهم و هي دالة على حلية كل الطعام فان أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعلموا انكم المفترون على اللّه كذبا و انكم الظالمون و ان الرسول هو الصادق في دعوته و ان ملته على ملة ابراهيم.

و قد ذكر بعض المفسرين في المقام وجوها لم يقم دليل على صحتها بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة فراجع.

قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .

خطاب إلى الرسول الكريم بالمحاجة معهم لإظهار حقيقة مدعاهم و أمرهم بإتيان التوراة و تلاوتها في الموارد التي حاجوا المؤمنين و افتروا على اللّه الكذب فيها ليتبين اي الفريقين على الحق و اي منها كاذب في دعواه.

و في الآية الشريفة دلالة على صحة دعوة نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فانه اخبر عن ان التوراة تدل على كذبهم و هو لم يقرأها، و هذا لا يكون الا من وحي من اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

الخطاب توبيخي للفريق الكاذب بعد المحاجة معهم و قد ذمهم عز و جل

ص: 156

بافترائهم على اللّه بعد قيام الحجة و الأمر بالكف عن الافتراء على اللّه و إلا كانوا ظالمين لأنفسهم يستحقون العقاب.

و الافتراء هو الكذب المخترع. و أصله القطع، و كأن المفتري يقطع صلة كلامه بالواقع و الحقيقة فيكون كذبا.

قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اَللّهُ .

اي أعلمهم بان اللّه تعالى صادق في جميع ما أخبر به و اني لم أستطع ان أنبئكم بذلك لو لا وحي اللّه تعالى اليّ فإذا عرفتم صدقي في الدعوة و اني على حق فلا بد من متابعة ديني و الاعتراف باني على ملة ابراهيم و في الآية الشريفة تثبت لدعواه و نبوته.

قوله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .

تفريع على معرفة الحق و ثبوت صدق الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و انما أمرهم بمتابعة ملة ابراهيم لأنهم كانوا معترفين بملته (عليه السلام) و لبيان ان شريعته على ملة ابراهيم التي هي على دين الفطرة و المبتنية على الإخلاص للّه تعالى و التسليم لوجهه الكريم و نبذ كل أنحاء الشرك، و للإرشاد إلى ان عدم قبول الإسلام يستلزم عدم متابعة ملة ابراهيم كما تزعمون و هذه حجة اخرى على بطلان مزاعمهم و اظهار كذبهم. و إنما وصف ابراهيم بكونه حنيفا و عدم كونه من المشركين لإظهار عظيم منزلته و جلالة قدره، و لبيان ان شريعته كذلك أيضا و فيه التعريض لهم بأنهم على الشرك.

ص: 157

بحوث المقام

بحث ادبي:

الطعام: مصدر منعوت و كل مصدر منعوت يستوي فيه المذكر و المؤنث و الواحد و الجمع و هو بمنزلة الجنس. و كل في قوله تعالى:

«كُلُّ اَلطَّعامِ» لتأكيد الاستغراق المفهوم من الجنس المعرف بالألف و اللام (الطعام).

و ذكر شيخنا الأديب النيسابوري الاول (رحمة اللّه تعالى عليه) ان بعض الآيات القرآنية تجيء في النظم و الأسلوب وزان الشعر مع انه ليس ذلك مراد المتكلم. و هو يدل على نهاية الفصاحة و البلاغة و كان يعد جملة كثيرة من الآيات الكريمة منها هذه الآية الشريفة «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» التي هي من البحر السابع و هو بحر الرمل. و منها قوله تعالى: «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» الأنفال - 38 و هو من بحر الرجز.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول:

كلمة البر الواردة في قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ»

ص: 158

موضوعة لذات البر و طبيعته بلا اختصاص له بنوع دون آخر فتشمل البر المادي و المعنوي بجميع مراتبهما.

كما ان لفظ الانفاق كذلك فانه يشمل انفاق الماديات و المعارف الحقة و الكمالات الانسانية، و ذلك لان الألفاظ موضوعة في حد ذاتها للمعاني العامة من غير تقييد في حاق الواقع بنوع دون آخر و لا لعالم مخصوص دون سائر العوالم، و انما التقييد و التخصيص يحصل من ناحية الاستعمال بلا التفات إليهما، و قد جعل بعض الأعاظم ذلك من الأصول العقلائية النظامية و أثبتها علماء الأدب و الأصول بأدلة كثيرة فالآية المباركة بعمومها تشمل من حيث المعنى جميع ما يمكن ان يفرض من الكمالات الانسانية الفردية و الاجتماعية و النوعية و الشخصية، و هذه الآية نظير قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177 في جمعها للكمالات الانسانية و انما الاختلاف بينهما بالإجمال و التفصيل.

الثاني:

لعل وجه ارتباط قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» بآية البر من حيث المفهوم ببيان لطيف و أسلوب رفيع و هو ان غير الإخلاص و الصدق ليس من البر حتى ينفق اعتقادا كان أو قولا أو عملا فلا بد في جميع ذلك من الإخلاص و الصدق ليكون برا يقبله اللّه تعالى و يثيب عليه بالجزاء الأوفى فما ورد في الآية من الحلية و الحرمة إذا كانتا من افتعال اليهود فلا

ص: 159

ربط لها بالبر و هما خارجان عن البر موضوعا، و اما إذا كانتا من شرايع اللّه تعالى فهما عين البر فيشملهما قوله تعالى: «حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» .

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ - الآية» التعريض باليهود في انهم يكذبون و لا يصدقون و انهم لا يعلمون احكام اللّه تعالى و يستهزئون بها مع ان اللّه تعالى في مقام الامتنان عليهم و التسهيل لهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» على تحريف التوراة و انهم يكذبون في كثير من الأمور التي ينسبونها إليها و ليس المراد بالتوراة في الآية الشريفة هي التوراة المحرفة التي هي بين ايدي اليهود، بل المراد منها التوراة التي نزلت على موسى (عليه السلام) و التي لم تنلها يد التحريف فان اللّه تعالى أمرهم بالرجوع إليها و طرح التوراة المحرفة، فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي تدل على تحريفها و تنهاهم عن الكذب و الافتراء على اللّه تعالى و تأمرهم بالرجوع إلى الحق، و يشهد لذلك الآية التي تدل على انهم يفترون على اللّه الكذب بقرينة قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .

الخامس:

يدل قوله تعالى: «فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ» على انهم هم الظالمون الذين عرفوا بتحريف احكام اللّه تعالى و تبديل آياته عز و جل و ان مقابلهم على الصدق و الحق. كما تدل عليه الآية التالية، فيكون تفريع قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» من قبيل ترتب النتيجة على المقدمات المعلومة.

ص: 160

بحث روائي

في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون» قال (عليه السلام):

«هكذا فاقرأها».

أقول: هذه قراءة اهل البيت و الفرق بينها و بين قراءة المشهور ان الاولى تبين مصداق المحبوب عند المنفق و الثانية تبين فردا من كل محبوب فيشمل المصداق أيضا.

و في المجمع عن ابن عمر قال: «سئل النبي (صلى اللّه عليه و آله) عن هذه الآية «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» هو ان ينفق العبد المال و هو شحيح يأمل الدنيا و يرجو الغنى و يخاف الفقر».

أقول: وردت روايات كثيرة عن اهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، و انما عدد (صلى اللّه عليه و آله) هذه الجهات لان كل واحدة منها من الأمور التي تورث محبة الشيء فإذا اجتمعت و أنفق المال معها كان جزاؤه أعظم و نيله للبر اكثر.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» قال: «ان يعقوب كان يصيبه عرق النساء فحرم على نفسه لحم الجمل فقال اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة فقال عز و جل لهم «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» انما حرم هذا إسرائيل على نفسه و لم يحرمه على الناس و هذا حكاية عن اليهود و لفظه لفظ الخبر».

ص: 161

أقول: ذكرنا سابقا المحتملات في الآية الشريفة و هذا من أحدها.

و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «ان إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل ان تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله».

أقول: لا منافات بين وجع الخاصرة الذي ورد في هذا الحديث و عرق النساء الذي ورد في الحديث السابق لإمكان اجتماعهما، و يظهر منه ان التحريم لم يكن تحريما شرعيا بل كان تنزيهيا لأجل ذلك العارض.

و معنى قوله (عليه السلام): «لم يحرمه و لم يأكله» اي لم يحرّمه إسرائيل بعنوان التشريع السماوي و لكنه لم يأكله خيفة من عروض ذلك العارض عليه. و يحتمل ان يرجع الضمير فيهما إلى موسى (عليه السلام) المدلول عليه بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ» .

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ» قال أبو روق و الكلبي نزلت حين قال النبي (صلى اللّه عليه و آله): «انا على ملة ابراهيم فقالت اليهود كيف و أنت تأكل لحوم الإبل و ألبانها؟! فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله):

كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه فقالت اليهود كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فانه كان محرما على نوح و ابراهيم حتى انتهى إلينا فانزل اللّه عز و جل تكذيبا لهم: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» .

أقول: على فرض اعتبار الرواية فان ما ورد فيها يكون من جملة الاحتمالات التي ذكرناها سابقا و تقدم ان مقالة اليهود كذب و افتراء.

ص: 162

بحث عرفاني

من أفضل البر و أهمه هو الانقياد لأوامر اللّه تعالى و أطاعته في كل ما شاء و أراد، و التفاني في مرضاته عز و جل الذي هو آخر حد الإمكان و أول حد الوجوب، كما ان أعلى المحبوبات عند الناس هو حب الجاه و الشرف و العزة، و لا بد من انفاق هذا المحبوب في ساحته جل جلاله لينال العبد الغاية القصوى من البر بالمعنى المطلق و عليه سيرة اولياء اللّه المخلصين و نسب إلى سيدهم علي (عليه السلام):

«الهي كفى بي عزا ان أكون لك عبدا و كفى بي فخرا ان تكون لي ربا أنت كما أحب فاجعلني كما تحب» حيث لم يجعل لنفسه عزا و لم ينسب إليها فخرا مقابل جلال اللّه تعالى و عظمته، و ما ورد في هذا المعنى من اولياء اللّه اكثر من ان يحصى.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْ.......

اشارة

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (97) بعد ما ذكر سبحانه ان البر لا ينال إلا بالإنفاق في سبيل اللّه عز و جل و ان البر يشمل جميع ما ينفقه في سبيله تبارك و تعالى - عملا كان أو مالا أو جاها أو المعارف الحقة الإلهية، و بين سبحانه بعض مفتريات اليهود

ص: 163

و ادعاؤهم الكذب على اللّه عز و جل في نسبة الاحكام اليه تعالى. و كان الواجب عليهم نيل البر بإتيان الوظائف التي قررها اللّه تعالى في التوراة التي أنزلها على موسى (عليه السلام) و اتباع ملة ابراهيم (عليه السلام) حنيفا.

و في هذه الآيات الشريفة يقرر تعالى مظهرا آخر من مظاهر البر و هو تعظيم بيت اللّه الحرام الذي هو أول بيت تحقق فيه الهدى و دين الحق و تضمن شعار الوحدة لجميع الأديان السماوية في عبادة الواحد الأحد، و الذي فيه آيات بينات تدل على منزلته العظيمة في الملة الحنيفية التي أمرنا باتباعها. و ان اليهود و غيرهم من اهل الكتاب إن كانوا حريصين حقا على ديانة اوائلهم و مناسكهم و آثارهم فلا بد لهم من تعظيم هذا البيت المبارك الذي فيه للناس هدى و للخائف أمن و ان محمدا يدعوهم إلى البيت الذي دعى ابراهيم اليه.

و قد امر اللّه تعالى الناس بالحج اليه إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة و ان من اعرض عن ذلك كان من الكافرين لنعمة عظيمة و أنكر حكما الهيا.

و في الآية الشريفة التعريض باهل الكتاب و لا سيما اليهود الذين طعنوا في نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) عند ما امر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة و اعترضوا على هذا الحكم بأن بيت المقدس أعلا شأنا و أعظم منزلة من الكعبة و انه قبلة الأنبياء و منهم ابراهيم (عليه السلام) الذي يدعى الرسول انه على ملته، فان استقبال الكعبة أعراض عن ملته و نسخ لها و هو محال عند اليهود، فرد عز و جل عليهم و أنكر هذه الشبهة بإثبات المنزلة العظيمة و الشأن الكبير لبيت اللّه الحرام و السبق الزماني له على بيت المقدس، و جعل الآية على ذلك انه مبارك و ان فيه مقام ابراهيم (عليه السلام) بخلاف بيت المقدس الذي لم

ص: 164

يحدث إلا بعد ابراهيم (عليه السلام).

للتفسير

قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ .

الأوّل من الأول و سمي أولا لرجوع غيره اليه و هو كثير الاستعمال في الكتاب و السنة. و الأولية من الأمور الاضافية تستعمل بالنسبة إلى الزمان و المكان و الشرف و الرتبة و الوضع و غير ذلك و قد اجتمعت جميعها في البيت الحرام فانه أول مكان خلقه اللّه تعالى ثم مدّ منه بقية الأرض كما دل عليه النقل الصحيح، و أول من حيث الزمان إذ لا بيت عبادة قبله و أول من حيث الشرف و العبادة لأنه كان معبدا للملائكة.

و البيت معروف و تقدم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 و قد أضاف عز و جل البيت تارة إلى نفسه، فقال:

«وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» البقرة - 125 و قال تعالى حكاية عن ابراهيم:

«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ» ابراهيم - 37. و اخرى: للناس كما في المقام. و ثالثة أطلقه قال:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا اَلْبَيْتِ» قريش - 3 و قال تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ» البقرة - 127 و المراد به الكعبة المقدسة لقوله تعالى: «جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ» المائدة - 97 و بقرينة قوله تعالى: بعد ذلك «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و هي الموضع الذي يزدحم

ص: 165

الناس فيه و هو الكعبة التي يزدحم الناس عندها لأداء العبادة من الصلاة و الطواف.

و الوضع هو الجعل و الإثبات و هو عام أيضا يشمل جميع انواع الجعل و الإثبات.

و «لِلنّاسِ» متعلق ب «وُضِعَ» و اللام فيه للغاية.

و المعنى: ان أول بيت جعله اللّه تعالى مشعرا لعبادة الواحد الأحد و شعارا لدين الحق، و قبلة للناس، وفد وصفه اللّه تعالى بأوصاف متعددة تدل على سمو منزلته و عظمته و رفعته.

قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ .

مادة (بكك) تدل على التزاحم و دق العنق، و منها «تبارك القوم إذا ازدحموا» و لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع. و هي ارض البيت التي يزدحم الناس فيها لأداء الطواف و الصلاة و نحوهما و تذل فيها الجبابرة بالخضوع لرب العالمين.

و قد اختلف المفسرون في المراد منهما فقيل انها اسم للمسجد، و قيل انها المطاف، و قيل: انها مكة أبدلت الباء ميما لتقربهما، و قيل انها الحرم. و يمكن تصحيح الجميع بالإضافة التشريفية لان موضع البيت بكة معلوم من الآية الشريفة بلا ريب و تشمل مكة و الحرم و المطاف تشريفا.

قوله تعالى: مُبارَكاً .

حال من الضمير. مادة (برك) تدل على الثبوت و الاستقرار و في حديث الصلاة على النبي (صلى اللّه عليه و آله): «و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على ابراهيم و آل ابراهيم» اي اثبت له و أدم

ص: 166

ما أعطيته من التشريف و الكرامة و هو من برك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه. و برك الرجل إذا ثبت على حاله، و البركة هي ثبوت الخير و استقراره و زيادته. و منه أيضا «تبارك اللّه» اي ثبت فلم يزل و لا يزال كما يقال «بركاء الحرب» اي ثبوتها و دوامها. و البرك هو الصدر لثبوت المحفوظات فيه و في حديث علي (عليه السلام):

«القت السحاب برك بوانيها» اي صدر البنية.

و المباركة المفاعلة من البركة بالتحريك و هي الخير الثابت بالنمو و الزيادة و هي عامة تشمل البركات الدنيوية و الاخروية و قد ذكر سبحانه و تعالى كلا القسمين في آيات اخرى قال تعالى: «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» القصص - 57 مع انه بني في واد غير ذي زرع لا ثروة فيه و لا تجارة و لا صناعة و لا زراعة، و مع ذلك عاشت فيه أقوام في سعة من العيش و تمتع من النعم و توفر فيهم الهمم العالية إلى عمرانه و اجتمعت الدواعي إلى احترامه و توقيره و إكرامه مع ما هم عليه من الاقتتال و سوء الحال. و من جهة اخرى جعله اللّه تعالى: «هدى للعالمين» يقصده المتعبدون لأداء وظيفة العبودية و يتوجه اليه المسلمون في كل وقت.

و بالجملة: فان بركة هذا البيت أظهر من ان يخفى، و يعتبر من معجزاته انه مسكن ابراهيم الخليل و مأوى الأنبياء و المرسلين في أخص عباداتهم و مهوى قلوب المؤمنين. و قد ذكر سبحانه إجمال تلك البركات في قوله حكاية عن ابراهيم (عليه السلام)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ابراهيم - 37.

ص: 167

قوله تعالى: وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ .

عطف على مباركا و هذه فضيلة اخرى تدل على عظمة البيت و رفعته و له من المقامات المعنوية التي لم تكن لغيره من بيوت اللّه تعالى، و انما خصه اللّه تعالى بالذكر لأهميته مع انه يمكن شمول البركات المعنوية لها.

و هدى بمعنى هاد و انما اطلق عليه هدى لمزيد هداه و جهات الهداية فيه كثيرة فمن جهة التوصل بالقرب إلى ساحة الرحمن و الزلفى لديه لكونه مقصدا للناسكين و موئلا للعابدين و الطائفين و الراكعين لأنه جامع الناس تحت كلمة التوحيد و يحفظهم من التفرقة و الاختلاف لأنه بيت رب العالمين و هو يشعر إلى رب البيت فهو يقتضي الوحدة من جميع الجهات ففي العبادة تجتمع وحدة المعبود و العبادة و العبودية وجهة العبادة فتكون جميع الإفراد فيه كنفس واحدة في عبادتهم و عبوديتهم وجهة عبادتهم فإذا اجتمعت مع ذلك وحدة القلوب كانت الآثار عظيمة و الفوائد كثيرة.

يضاف إلى ذلك ان مكة مولد رسول الانسانية و مهبط الوحي المبين و مشرق القرآن الكريم و مبدإ الدعوة إلى دين الحق فهو هدى بجميع مراتب الهداية الدنيوية و الاخروية لجميع العالمين لا لطائفة خاصة و عالم خاص و كل واحد منهم يستفيض منه بحسب استعداداته الخاصة على نحو الاقتضاء لا العلية كما في سائر موارد الهداية قال تعالى في شأن القرآن الكريم: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» البقرة - 2 و قال تعالى في شأن الرسول العظيم: «ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً رَسُولاً» الإسراء - 94 فالهداية عناية خاصة

ص: 168

هي أخص من البركة، فان المشاعر العظام بذاتها هدى للناس إذ لا معنى للمشعرية للّه تعالى إلا الهداية المحضة.

قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ .

بينات جمع بينة و هي الواضحة اي الدلائل الواضحات و ترتب الآيات البينات على كونه مباركا و هدى للعالمين من قبيل ترتب الدال على المدلول فإنهما لا يعرفان إلا بجعل العلامات الواضحات الكاشفات عنهما و نظير هذا ورد في شأن القرآن الكريم أيضا قال تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ» البقرة - 185.

قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ .

بعد ان ذكر سبحانه و تعالى فضائل البيت الشريف من كونه أول بيت وضع للناس، و كونه مباركا، و كونه هدى للناس يبين سبحانه آياته و هي: مقام ابراهيم، و أمن داخله، و الحج اليه، فتكون هذه الثلاثة بيانا للآيات البينات و شرحا لها.

و الآيات و ان وصفت بالبينات الا ان الوصف لا يرفع إبهامها من كل جهة و لذلك وصفها بما يرفع الإبهام في المقام و قد ذكر سبحانه و تعالى ثلاث آيات من بين الآيات الكثيرة التي تميز بها البيت كالحجر الأسود، و الحطيم، و المستجار و غيرها.

و انما خص هذه الثلاثة لحكم خاصة و هي تدل على منزلة البيت السامية في الشرف و كرامته عند اللّه عز و جل. و ما ذكرناه اولى من القول بان مقام ابراهيم و بقية الثلاثة بدل تفصيلي من الآيات البينات، أو القول بانه عطف بيان من الآيات فان جميع ذلك لا تخلو عن الأشكال

ص: 169

و مخالفة للقواعد المرعية في العلوم الادبية و يأتي في البحث الادبي ما يرتبط بالمقام.

و مقام ابراهيم هي الصخرة الصماء التي كان يضعها ابراهيم (عليه السلام) تحت قدميه حين بنائه للبيت الشريف، و قد اثرت فيها قدماه الشريفتان و بقي اثرهما و سيبقى ما بقي البيت الشريف.

و قد كان لهذا المقام اثر جلي يدل على عظمة البيت و عهدا أبديا على خلوص باني البيت الشريف و وسيلة لتعظيمه و توقيره جزاء خدمته للناس، و لذا أمرنا سبحانه و تعالى باتخاذه مصلّى حيث قال عز و جل:

«وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 عرفانا لجميله علينا.

و انما خص سبحانه و تعالى هذه الآية بالذكر لان ابراهيم (عليه السلام) موضع احترام جميع الأديان الإلهية و تقدير جميع الأمم، و هو أول مشرع الهي و مقنن الدستور الانساني و ان الأديان بعده انما هي على ملته و دينه و هو أبو الأنبياء العظام و هو الباني للبيت الشريف و ان مقامه محفوظ على مرّ الزمان فليس في البين آية أبين و اجلى من هذه الآية الدالة على عظمة هذا البيت الذي وضع للعبادة عند الملل الثلاثة و تحريض لهم فلا بد لاتباع سائر الأديان الإلهية من توقير البيت و تعظيمه و الاهتمام بندائه حين امر الناس بالحج اليه و التوجه اليه و الا كانوا خارجين عن دينه معرضين عن شريعته و ملته، فهذه الآية الشريفة حجة على المعاندين للإسلام و المخالفين للتوجه إلى البيت الشريف و ليس لهم اي عذر في الإعراض عن أوامره، و لعل السر في بقاء أثر قدميه الشريفتين في الصخرة الصماء هو الاقتداء به و ان يخطو الناس خطاه و العمل بإخلاص ليبقى اثره عند اللّه تعالى و في هذا العالم.

و الآية الشريفة لا غموض فيها في ان المراد منها هي تلك الصخرة

ص: 170

المعروفة عن القديم و قد ورد ذكرها في الاشعار القديمة كقول أبي طالب في لاميته:

و موطأ ابراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافيا غير ناعل

و لم يشك احد في ذلك الا ما ذكره بعض المفسرين من ان المراد من المقام المكان الذي اتخذه ابراهيم (عليه السلام) للعبادة و اما الأثر فقد كانت العرب تعتقد انه موضع قدمي ابراهيم و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 ما يتعلق بالمقام.

قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً .

الضمير المنصوب راجع إلى البلد أو الحرم على سبيل الاستخدام بقرينة قوله تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم - 35 و قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً» العنكبوت - 67 و قوله تعالى: «نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» القصص - 57، و الجملة عطف على سابقتها كما عرفت.

و أمن من يدخله آية اخرى دالة على شرف البيت و كان معروفا في الجاهلية و قبل البعثة فقد كانت الأقوام حول البيت الشريف على ما هم عليه من الفوضى و الوحشية و التهور في الاقتتال و العدوان و العصبية و غلظة في الأخلاق لا يمنعهم عن ذلك رادع من شريعة أو عقل، و مع ذلك كله فقد كانوا يحترمون البيت و يعظمونه و يخضعون لأمر اتفقوا عليه و هو أمن من دخل الحرم و يشير إلى ما ذكرنا قوله تعالى:

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» العنكبوت - 97 فالحكمة من يراد هذه الآية الشريفة في المقام هي تحريض المشركين إلى الدخول في الإسلام و الايمان بخاتم النبيين و العمل بشريعته.

ص: 171

كما ان الآية الاولى كانت لأجل تحريض اليهود و النصارى إلى الدخول في الإسلام و نبذ العناد و اللجاج.

و هذه الآية و هي: أمن من دخل الحرم لم تكن من قسر الطبيعة و انما كان يجعل الهي فان العناية الإلهية شملت هذا البيت استجابة لدعاء ابراهيم الخليل باني البيت في قوله: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم - 35 و قوله في موضع آخر: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» البقرة - 126 فكان ذلك تشريعا الهيا، و الهم الناس باحترام البلد الحرام إكراما للبيت الشريف، و ساقهم إلى قبول هذا التشريع.

و من ذلك يعلم انه لا وجه للنزاع في ان هذا التشريع إلهي أو اخبار عن خاصة تكوينية، أو هل هو تشريع عام أو خاص فان كل ذلك تطويل بلا طائل تحته بل هو تشريع الهي لم ينسخ يكشف عن حكمة وضعية و ليس إخبارا عن خاصة تكوينية.

كما ان الحكم يختص بالإنسان و تدل عليه كلمة (من) الموصولة الظاهرة في العقلاء لسياق الآية الشريفة و بقرينة الآيتين الاخريتين و هما مقام ابراهيم و الحج اليه فإنهما يختصان بالإنسان. و يمكن جعل هذا النزاع لفظيا لان العظمة تكوينية و تشريعية انشائية و اخبارية فلا موضوع للنزاع، و لكن شموله لمطلق الحيوان لا يستبعده العقل، فان عناياته تعالى كثيرة و عامة و قد نقل في أمن الحيوانات في الحرم حكايات كثيرة، و قد ورد في السنة الشريفة عدم جواز الاعتداء على الحيوان و عدم جواز قطع نباتات الحرم.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ .

جملة ابتدائية معطوفة على ما تقدم، و لا يضر الاختلاف في الخبرية

ص: 172

و الإنشائية، و اللام في (للّه) للإلزام و الإيجاب و (على) لتأكيد الوجوب كما هو معروف في مثل هذه الهيئة يقال: له عليّ كذا. و قد وكد سبحانه و تعالى الوجوب في الحج بما لم يؤكده في غيره من الواجبات.

و مادة (حجج) تدل على القصد و لكن استعمل في الحج إلى بيت اللّه الحرام لأداء النسك، و الاسم (الحج) بالكسر، و الحجة مرة واحدة. و الالف و اللام في البيت للعهد اي بيت اللّه الحرام لأداء نسك الحج المعروفة.

قوله تعالى: مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .

بدل من الناس و سبيلا تمييز عن قوله استطاع. و استطاع فعل من الاستطاعة و هي استدعاء طواعية الفعل و تأتيه اي: أوجب اللّه على المستطيع من الناس حج البيت و من تقييد الأمر بالاستطاعة يعرف انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف.

و يستفاد منه و من اطلاق الآية الشريفة و عدم تقييدها بشيء ان المراد بها الاستطاعة العرفية و هي تختلف باختلاف الأشخاص.

و قد اختلف العلماء في الاستطاعة المحصلة للوجوب، فقيل انها الاستطاعة البدنية اي القدرة على المشي و الكسب و لو كان في الطريق و قيل انها الاستطاعة المالية.

و الحق انها تشمل جميع أقسام القدرة في المال و البدن و تخلية السرب و قد وردت روايات متعددة عن الائمة الهداة (عليهم السلام) في تفسير الاستطاعة بجميع ذلك و ياتي في البحث الروائي نقل بعضها ثم ان الآيات الكريمة الواردة في البيت على طوائف:

الاولى: قوله تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» الحج - 26.

ص: 173

الاولى: قوله تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» الحج - 26.

الثانية: قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» البقرة - 125.

الثالثة: قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» الحج - 27.

الرابعة: قوله تعالى في المقام: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» و مقتضى المتفاهم العرفي ان كل آية راجعة إلى جانب من جوانب البيت الشريف، فالآية الاولى راجعة إلى تعيين مكان البيت و هندسة البناء و الحكمة في جعل المبني مرجعا للطائفين و العاكفين. و الآية الثانية راجعة إلى مقام الباني و فعليه البناء و شأنه و الحكم المترتبة عليه و يدل عليه قوله تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ» البقرة - 127. و الآية الثالثة راجعة إلى الدعوة إلى حج البيت المعين. و الآية الرابعة بيان لإنشاء الدعوة إلى البيت و فتح باب ضيافة اللّه تعالى هذا بحسب الواقع و الترتيب في الجعل. و اما بحسب النزول الزماني فيصح التقديم و التأخير رعاية للنظم الطبيعي، و ربما يكون الوحي إلى ابراهيم الخليل (عليه السلام) في زمان واحد و ان كان النظم بينهما طبيعيا.

و قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ» جملة خبرية مستعملة في الإنشاء و هي ابلغ في الوجوب كما أثبتناه في علم الأصول. و يمكن ان تكون الجملة إخبارا محضا عن قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ» الحج - 27 و كيف كان فالنتيجة واحدة على اي تقدير،

ص: 174

لان الأذان من اللّه تعالى و ان صدر عن خليله (عليه السلام) فيكون المشرّع واحدا الا ان مبدأ التشريع من زمان ابراهيم بل في بعض الاخبار من حين آدم (عليه السلام) و المظاهر مختلفة و أتمها تشريع خاتم الأنبياء فان الحج بلغ فيه غاية الكمال كما في سائر تشريعاته المقدسة.

قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ .

تأكيد لوجوب الحج و توبيخ لتاركه اي: ان تارك الحج كافر و لا يضر اللّه شيئا فان اللّه غني عن العالمين و كفى مذمة لتاركه بان جعل تعالى مقره مقر الكافرين و هي النار. و انما أقام عز و جل الكفر مقام ترك الحج تغليظا عليه و لبيان شدة العصيان و ان فعل تارك الحج كفعل الكافرين فيكون الكفر كفرا بالفروع. ثم أعقبه عز و جل بانه غني عن العالمين لبيان كمال السخط على تاركه و الخذلان له فيكون من وضع العلة موضع المعلول.

و انما ذكر عز و جل استغناؤه عن العالمين دون تارك الحج بالخصوص للدلالة على الاستغناء الكامل و لبيان عظم السخط فانه تعالى لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين و لا تنقصه معصية العاصين.

و ذكر بعض المفسرين ان الكفر هنا يرجع إلى جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه ابراهيم للعبادة بعد أن قامت الادلة على ذلك و عدم الإذعان لما فرضه اللّه من الحج. و لكن الظاهر ما ذكرناه و تدل عليه جملة من الاخبار الصحيحة و يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، و يمكن إرجاع ما ذكره إلى ما ذكرناه.

ص: 175

بحوث المقام

بحث ادبي:

قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» اسم إن جملة «أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» و الخبر «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و اللام في «لَلَّذِي» مزحلقة و انما اخبر عن النكرة بالمعرفة لتخصيص الأولى و «مُبارَكاً» حال من الضمير المستتر في الظرف. و قيل: انه حال من الضمير في «وُضِعَ» .

و قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» مرفوع إما على الاستئناف جيء به بيانا و تفسيرا للهدى، أو حال اخرى و لا بأس بحذف حرف العطف في الجملة الاسمية الحالية.

و «مَقامُ إِبْراهِيمَ» إما مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ اي منها مقام ابراهيم.

و الجملة إما بدل البعض من الكل أو عطف بيان، و أشكل على الأخير بانه لا يجوز التخالف في عطف البيان في التنكير و التعريف.

كما ان عطف «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» يستلزم التقدير. يضاف إلى ذلك انه إذا عطفت جملة «لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ» على الجملة السابقة يستلزم تأويلها إلى المفرد أو التقدير، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام.

و الحق هو القول بأن جميع ذلك بيان للآيات البينات و به يرتفع الإبهام و الإجمال من الآيات و انما ذكر عز و جل كل واحدة من هذه

ص: 176

الثلاث لغرض خاض.

و اختلاف الثلاث في الخبرية و الإنشائية لا يضر بعد كون مجموعها بيانا و لا نحتاج إلى التقدير و التأويل، كما عرفت. و هذا الأسلوب من الاساليب الفصيحة و من بديع الكلام يؤتى به في ما إذا كانت الأغراض متفاوتة من الجمل الواردة في الكلام. و قد ورد مثل ذلك كثيرا في القرآن الكريم قال تعالى: «وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ. اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ» ص - 44 و هناك وجوه اخرى في اعراب الجمل الثلاث مذكورة في الكتب المفصلة.

و جملة «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ» مشتملة على المبتدأ و هو حج البيت و الخبر و هو «لِلّهِ» و «عَلَى اَلنّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالا من المستتر، و العامل فيه الاستقرار و قيل: إن «عَلَى اَلنّاسِ» خبر و «لِلّهِ» متعلق بما تعلق به الاول.

و «مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» بدل من الناس و الضمير محذوف تقديره (منهم). و قيل: انه خبر لمبتدأ محذوف اي (هم من استطاع).

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» على

ص: 177

عظمة البيت و شرفه و مكانته العظمى عند اللّه تعالى فقد جعل له الأولية في كل شيء كما هو ظاهر الإطلاق، فهو أول في الشرف لأنه بيت اللّه و واضعه هو اللّه جلت عظمته و لا شرف أعلى و أجل من ذلك.

و هو أول في الزمان لأنه أول بيت بني لعبادة الواحد الأحد و لم يكن قبله بيت آخر بهذا الشكل و المضمون و هو أول في المكان فان موضعه أول قطعة خلقت من الأرض كما نطقت به جملة من الاخبار و هو أول في اجتماع جملة كثيرة من الآيات العظيمة فيها و قد ذكر سبحانه و تعالى بعضا منها في الآيات التالية و مواضع اخرى في القرآن الكريم و وردت جملة اخرى في السنة المقدسة منها الحطيم، و الركن اليماني، و الحجر الأسود، و المستجار فان جميع ذلك أبواب رحمة اللّه تعالى على عباده، فهو بيت مبارك من جميع الجهات.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «وُضِعَ لِلنّاسِ» ان وضع هذا البيت قد سبق كل وضع من قبل الناس فلا يحق لاحد مزاحمته بوجه من الوجوه و لذا يؤمن الجاني الداخل إلى الحرم دون الجاني في نفس الحرم فان امنه قد حدث من وضع اللّه تعالى إياه لجميع الناس سواء. كما أن موضعه قد سبق تحديده من اللّه تعالى فلا يعارضه بناء آخر و لا يزاحمه حق ذي حق.

الثالث:

انما عبر سبحانه و تعالى «لِلنّاسِ» لبيان انه لا يختص بطائفة خاصة أو قوم معين فان الناس سواء في شرعه و قد جعله تعالى موضع رفادته لجميع افراد الإنسان يأمن فيه الخائف و يستجير به الملهوف لا يجوز لاحد منع آخر من الاستفاضة من فيضه إلا إذا ورد من قبل الشرع المبين تحديده كما بالنسبة إلى الكافر و المشرك فإنها ممنوعان من الدخول في الحرم الالهي.

ص: 178

و من مفهومه يستفاد أن لغير الإنسان بيتا آخر أيضا و قد ورد في أحاديث كثيرة ان اللّه تعالى وضع البيت المعمور للملائكة في السماء بحذاء البيت في الأرض.

الرابع:

قد أكد سبحانه أمر الحج في قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» بوجوه من الدلالة من توكيد الوجوب بصيغة الخبر و ابرازه في الجملة الاسمية و إيراده على وجه يفيد انه حق للّه تعالى في رقاب الناس لا يسعهم ان يخالفوه و يتركوه و في التعميم أولا ثم التخصيص بالابدال فان فيه التفصيل بعد الإجمال و الإفصاح بعد الإبهام كما ان فيه تنبيه المراد و تكريره و تسمية ترك الحج كفرا تغليظا عليه، ثم ذكر الاستغناء على تقدير عدم الفعل و هو دليل المقت و السخط و تعميم الاستغناء عن العالمين لما فيه من المبالغة في النكال و الترغيم و إيراد المطلب ببرهان قويم.

الخامس:

انما عمم عز و جل الحج في هذه الآية و قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ» الحج - 200 لان الدعوة إلى بيت الرب الكريم الغني المطلق لا بد ان تكون عامة من كل جهة فعن أبي جعفر (عليه السلام): «ما يقف احد على تلك الجبال من بر و لا فاجر إلا استجاب له في آخرته و دنياه و اما الفاجر فيستجاب له في دنياه» و يفتح من هذا الحديث أبواب من المعارف لعلنا نتعرض لبعضها في الآيات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.

السادس:

يستفاد من مجموع الآيات الشريفة امور تعتبر من مكارم الأخلاق التي لا بد للإنسان التحلي بها.

منها: ان البناء لا بد ان يقتصر على الحد المطلوب فلا يبالغ فيه

ص: 179

من كل جهة كما يستفاد من ظاهر قوله تعالى: «إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا» البقرة - 127 و تدل عليه جملة من الاخبار ان ما زاد على الحاجة فهو وبال على صاحبه.

و منها: حسن الرفادة و الاستضافة و عدم منع صاحب الدار ذوي الحاجات الشرعية من الدخول في داره و مراعات الشرائط المعتبرة كما يستفاد من الآيتين «وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ» البقرة - 127 و قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» الحج - 28.

و منها: المبالغة في زيادة الالفة و الايتلاف بين افراد العائلة و زيارة الاخوان في البيوت كما يستفاد من الآيات الواردة في سورة الحج.

و منها: ايتمار الوارد بأوامر رب الدار و الانتهاء عن نواهيه كما يأتي في سورة الحج و يظهر من بعض الاخبار.

و منها: ان تكون الدعوة و فتح الضيافة عامتين من دون اختصاص بقوم دون قوم كما يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً» الحج - 27.

و منها: ان الدعوة لا بد ان تكون من صاحب البيت أو باذن منه كما يأتي في سورة الحج إلى غير ذلك من الأمور العقلية التي شرحها الكتاب و السنة.

السابع:

يستفاد من الآيات الشريفة اهمية الحج و عظم امره كما عرفت و هو كذلك فانه قد يتحد العامل و العمل فيه كما في حج اولياء اللّه لكثرة تفانيهم في مرضات اللّه تعالى و انقيادهم له من كل جهة فيكون بنفسه حجا اكبر يطوف حول البيت الشريف و يكون هو الحشر الأكبر يظهر في الحشر الأصغر و مثل هذا الحج يتباهى به اللّه جلت عظمته و الملائكة و المشاعر العظام. و كشف السر عن هذا المقام لا يمكن

ص: 180

ان يكون بالمقال و الكلام لما فيه تجلى اللّه تعالى.

و قد اهتم عز و جل بحرمه الأقدس بما لم يهتم به في سائر تشريعاته المقدسة، فانه ما من قلامة ظفر في هذا المكان المقدس إلا و فيها ملك متخاضع لذي الجلال، و مبهوت عن شروق مشارق ذلك الجمال، و ما من موضع شبر إلا و هو اثر قدم نبي نادى بالتلبية، و ما من موضع رجل إلا و قد دفن ولي من اولياء اللّه العظام و يكفينا ان مكة مقدم خليل الرحمن و مولد حبيب اللّه فهنيئا لمن توجه إلى تلك المحال المقدسة مصدر الخير و البركة و معلم الهدى و النور للناس أجمعين.

بحث كلامي

كل تكليف سواء أ كان خالقيا أم خلقيا لا بد و ان يتعلق بالمقدور و إلا كان تكليفا بالمحال و هو قبيح عقلا و يمتنع بالنسبة إلى اللّه تعالى و قد استدل الفلاسفة و المتكلمون على ذلك بأمور كثيرة، و يكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» البقرة - 286 و غيرها من الآيات الشريفة المرشدة إلى حكم العقل.

و نسب إلى بعض الاشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه و لكن ذلك مردود عقلا و نقلا كما فصل ذلك في محله و لعلنا نتعرض له في بعض الآيات المناسبة له ان شاء اللّه تعالى.

ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة: الاول القدرة

ص: 181

العقلية - اي الإمكان الذاتي - في مقابل الامتناع العقلي.

الثاني: القدرة التعبدية الشرعية.

الثالث: القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس. و لا وجه للأول و إلا لاختل النظام و لزم العسر و الحرج في امتثال الاحكام كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب و السنة و ما ذكر في الاحكام من الشروط و الاجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث بل لا معنى عندنا للتعبد في الاحكام الشرعية مطلقا فضلا عن موضوعاتها لان كل ذلك يرجع إلى مقررات الفطرة و انما أشار إليها الشارع الأقدس و كشف عنها كما تقدم منا مكررا في هذا التفسير و بيناه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب و السنة الشريفة قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» البقرة - 286 و قال تعالى: «يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ» البقرة - 185 و قال تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» الحج - 87 و من السنة قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) المتواتر بين الفريقين: «بعثت على الشريعة السهلة السمحاء». و قوله تعالى: «مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ» في الآية التي تقدم تفسيرها يبين ذلك كما هو معلوم.

و من ذلك يعرف ان ما فصله جمع بين الفقهاء في المقام لا بد أن يرجع إلى ما قلناه و إلا فهو من التطويل بغير طائل.

بحث عرفاني

الكعبة المباركة من حيث مقام معنويتها ازلية و أبدية لأنها وجهة

ص: 182

التوحيد و فناء المعبود الوحيد و فيها تفاني باني البيت ابراهيم الخليل الجليل بل و تفاني جميع الأنبياء من صفيهم إلى حبيبهم، فإنهم بالطواف حول البيت الشريف يظهرون تفديتهم للعزيز المهيمن القهار، و يطرحون جميع جهات انانيتهم من الحجب و الأستار و يبرزون مقهوريتهم من جميع الجهات لرب البيت العتيق و ينسون أنفسهم و قد أتوا من فج عميق.

ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

و لعل من أحد اسرار طواف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) حول البيت الشريف و هو على البعير ان هذا المقام مقام علوّ العبودية التي يفيضها اللطيف الخبير فأظهر (صلى اللّه عليه و آله) العلو الجسماني رمزا إلى العلو المعنوي الروحاني فليس المقام مقاما لعروض الدهشة على الطائف من حضرت الكبرياء و الجلال كما عن بعض العرفاء بل مقام ذل العبودية التي تشير إلى عز الربوبية و اسرار المقام كثيرة لا يحصيها القول و لا رعاف القلم.

ثم إن الحج كسائر العبادات منه ما هو ظاهري مسقط للتكليف كحج عامة الناس، و منه واقعي يوجب نيل أقصى الكمالات و الفوز بأعلى المقامات في ما إذا أراد بإحرامه ترك جميع ما يلهيه عن ربه و رأى في طوافه التفدية الحقيقية في مرضات ربه، و من سعيه الدنو إلى ساحة قربه، و أراد من رمي الجمرات طرح جميع ما لا يرتضيه الرب و من الذبح إهلاك القوى الشهوانية و افناؤها، و من صلاته في مقام ابراهيم (عليه السلام) الفوز بمقام ابراهيم الخليل و هو مقام الخلة.

ص: 183

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه اختار من كل شيء شيئا و اختار من الأرض موضع الكعبة».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و معنى إختياره عز و جل كثرة عنايته به و يصح ان يكون هذا جهة من جهات اولية البيت.

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «لما أراد اللّه تعالى ان يخلق الأرض امر الرياح فضربن وجه (متن) الماء حتى صار موجا ثم أزيد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحا الأرض من تحته و هو قول اللّه عز و جل «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» . و زاد في الفقيه:

«فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها».

أقول: قد شرح ذلك علي (عليه السلام) في خطبته التي أنشأها في خلق السموات و الأرض، و الاخبار في دحو الأرض من تحت البيت كثيرة و ليس في القرآن الكريم ما ينافي ذلك بل يمكن ان يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» الأولية من هذه الجهة اي أول بقعة من بقاع الأرض و دحيت بقية الأرض من تحتها.

و اما كيفية الدحو و انبساط الأرض ثم الرد إلى البيت كما في بعض الروايات فيمكن ان يكون من جهة كروية الأرض و التفصيل يطلب من محله.

كما ان ذلك لا ينافي ما نسب إلى بعض القدماء من ان الأرض

ص: 184

عنصر بسيط كسائر العناصر البسيطة فلأن قولهم هذا انما كان في البساطة العقلية لا البساطة الخارجية و لو بعد زمان على اصل الخلقة. مع ان العلماء قد اثبتوا بطلان القول بالبساطة في العناصر الاربعة و حللوا كل واحد منها إلى عناصر كثيرة ربما تبلغ إلى أربعين عنصرا منتزعه من عنصر واحد. و قد ذكر سيد مشايخنا العالم العامل الزاهد العابد سيد الحكماء المتألهين السيد حسين البادكوبي (قدس سره) في مجلس بحثه الشريف ان المراد بالبساطة في قولهم، هي البساطة الفرضية العلمية الاعتبارية لا البساطة الحقيقية الواقعية و كان يستدل على ذلك بأمور كثيرة و شواهد من كلماتهم، فلا نزاع حينئذ بين ما ذكروه و ما أثبته العلم الحديث.

و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

«سألته عن البيت كان يحج اليه قبل ان يبعث النبي؟ قال: نعم لا يعلمون ان الناس قد كانوا يحجون و نخبركم ان آدم و نوحا و سليمان (عليهم السلام) قد حجوا البيت بالجن و الانس و الطير و لقد حجه موسى (عليه السلام) على جمل احمر يقول: لبيك لبيك، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» .

أقول: ما ورد في الحديث هو مقتضى الأولية في البيت الشريف.

و عن ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» فقال له رجل: «أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة و أول من بناه ابراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش».

أقول: قد ورد مضمون ذلك في روايات و المراد منه هو اولية

ص: 185

البيت للناس الذي تضمن البركة و الهدي و نحوهما. و اما الأولية بالنسبة إلى اصل العبادة فيظهر من بعض الاخبار ان مسجد الكوفة كان مصلى آدم (عليه السلام) و غيره من الأنبياء العظام و السائل انما سأل عن تقدم البيت الحرام على جميع البيوت المسكونة و الامام نفى ذلك.

و في الدر المنثور اخرج ابن المنذر، و ابن أبى حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبى طالب (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» قال: «كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة اللّه».

و في العلل عن الصادق (عليه السلام) قال: «انما سميت مكة بكة لان الناس يتباكون فيها» اي يزدحمون.

و فيه أيضا عنه (عليه السلام) قال: «موضع البيت بكة و القرية مكة».

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): (لم سميت الكعبة ببكة قال (عليه السلام) لبكاء الناس حولها و فيها».

أقول: لان البيت في قديم الأيام لم يكن محجوبا عن الدخول فيه و انما كان في محل الباب الستار فقط و كانوا يدخلون فيه و يبكون.

و فيه أيضا عن أبى جعفر الباقر (عليه السلام): «انما سميت بكة لأنها تبك بها الرجال و النساء و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك انما يكره ذلك في سائر البلدان».

أقول: هذه استفادة لطيفة من لفظ بكة.

و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): «اسماء مكة خمسة:

أم القرى، و مكة، و بكة، و البساسة إذا ظلموا بها بستهم اي أخرجتهم و أهلكتهم، و أم رحم كانوا إذا الزموها رحموا».

ص: 186

أقول و في بعض الأحاديث «من اسماء مكة الباسة» و البس و الحطم سميت بها لأنها تحطم من اخطأ فيها، و عن بعض أن من أسمائها «الناسة» لجدبها و يبسها أو بمعنى الطرد عنها.

و في تفسير العياشي عن عبد الصمد بن سعد قال: «طلب أبو جعفر المنصور ان يشتري من اهل مكة بيوتهم ان يزيد في المسجد فأبوا فارغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فاتى أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم أن نزيد في المسجد، و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لم يغمك ذلك؟!! و حجتك عليهم فيه ظاهرة فقال و بم احتج عليهم؟ فقال بكتاب اللّه فقال في اي موضع؟ فقال قول اللّه تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» لما قد أخبرك اللّه ان أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فان كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم و ان كان البيت قديما قبلهم فله فناؤه فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت».

أقول: و قريب منه رواية اخرى أيضا إلا ان فيها «لما بنى المهدي» و الظاهر ان أبا جعفر المنصور هو البادي في البناء و أتمه المهدي فلا منافاة و كيف كان ما ذكره الامام (عليه السلام) هو استدلال عقلي صحيح.

و في الكافي و تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» قال (عليه السلام): «مقام ابراهيم حين قام عليه فأثرت فيه قدماه و الحجر الأسود و منزل إسماعيل».

أقول: الآيات كثيرة و انما ذكر (عليه السلام) بعضها.

و في الكافي عن ابن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام)

ص: 187

عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» البيت عني أم الحرم؟ قال (ع): من دخل الحرم من الناس مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه، و من دخله من الوحوش و الطير كان آمنا ان يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم».

أقول: أمن الوحوش و الطير انما يكون من فروع أمن الآدميين و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلق بذلك.

و في الكافي و العياشي عن عبد الخالق الصيقل قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» قال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه احد إلا ما شاء اللّه ثم قال: إن من أم هذا البيت و هو يعلم انه البيت الذي امر اللّه تعالى به و عرفنا اهل البيت حق معرفتنا كان آمنا في الدنيا و الآخرة».

أقول: الأمن و الاستيمان يكون محدودا بحدود و مشروطا بشروط و إلا فان البيت ليس أمن على كل احد حتى من يحادد اللّه تعالى و من شروطه هو معرفة اهل البيت و عقد القلب على ما هو الحق الواقع و نظير ذلك ما رواه الفريقان متواترا عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه قال: «كلمة لا إله إلا اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» فلا ريب في ان الأمن من عذابه تبارك و تعالى مشروط بشروط كثيرة.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» قال: «يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان».

أقول: ان اعمال الحج مركب من هذين و هذا واضح في حج التمتع و اما في غيره فليست العمرة واجبة إلا في بعض صور

ص: 188

حج الإفراد و ما إذا أوجب على نفسه بنذر و نحوه و اما احتمال وجوب العمرة نفسها لمن استطاع دون الحج فلا دليل عليه.

و في الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: «ان اللّه عز و جل فرض الحج على اهل الجدة في كل عام، و ذلك قول اللّه عز و جل: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» قلت فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال (عليه السلام): «و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر».

أقول: المراد من اهل الجدة أهل القدرة و قوله (عليه السلام) «في كل عام» متعلق بالجدة لا بقوله «فرض» اي كل من استطاع في كل عام يجب عليه الحج و حينئذ فان حج يسقط عنه الفرض و إلا فهو باق عليه.

و المراد بقوله (عليه السلام): «ليس هذا هكذا» انكار اصل الفرض و الوجوب فيكون كفرا جهتيا حاصلا من انكار حكم إلهي و واجب ضروري و لا ينافي هذا ما يأتي من تفسير الكفر بالترك لأنه لا بد من حمله على الترك التسويفي.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) أيضا في قوله تعالى:

«وَ مَنْ كَفَرَ» قال (عليه السلام): «ترك».

أقول تقدم ما يتعلق به في الحديث السابق.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» قال: «من كان صحيحا في بدنه مخلا في سربه، له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع الحج، أو قال: ممن كان له مال فقال له حفص فإذا كان صحيحا

ص: 189

في بدنه فخلى سربه له زاد و راحلة فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال (ع): نعم».

أقول: قد ورد في مضمون ذلك أحاديث كثيرة و هي تبين الاستطاعة العرفية كما قلنا في المال و البدن و السرب اي الطريق فلا اختصاص للاستطاعة بأحدها كما عن بعض.

و اما سؤال حفص الكناسي انما هو بالنسبة إلى استقرار الحج بعد تحقق الاستطاعة و المسامحة في إتيان الحج و قد حكم بأن المسامحة لا تسقط التكليف بعد ثبوته و قد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الحج من (مهذب الاحكام).

ثم انه قد ذكرنا جملة مما يتعلق بالبيت الشريف و بعض احكام الحج في آيات 196-201 من سورة البقرة فراجع.

و في الفقيه في وصية النبي (صلى اللّه عليه و آله) لعلي (عليه السلام) «يا علي تارك الحج و هو مستطيع كافر قال اللّه تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ «يا علي من سوّف الحج حتى يموت بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا».

أقول: ذيل الحديث يبين صدره و المراد من كونه يهوديا أو نصرانيا ان تركه يكون كذلك كما ان اليهود و النصارى يتركونه كما يتركونه سائر الاحكام الإلهية.

بحث فقهي

استدل الفقهاء بقوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» على عدم

ص: 190

إقامة الحد في الحرم على من التجاء اليه و قد تظافرت الاخبار بذلك فعن الصادق (عليه السلام) في معتبرة الحلبي قال: «سألته عن قول اللّه تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر إلى الحرم لم ينبغ لاحد ان يأخذه من الحرم، و لكن يمنع من السوق و لا يبايع، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك ان يخرج فيؤخذ و إذا جني في الحرم جناية أقيم عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة».

و في صحيح معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قلت له رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم؟ فقال (عليه السلام) لا يقتل، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يبايع، و لا يأوى حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد. قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ فقال (عليه السلام) يقام عليه الحد صاغرا انه لم ير للحرم حرمة و قد قال اللّه تعالى: «فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ» يقول هذا في الحرم، فقال: لا عدوان إلا على الظالمين».

أقول: و هناك روايات تدل على ذلك و الحكم متفق عليه عند الامامية. و قد أقيمت عليه شواهد كثيرة في جميع الأعصار، و هذا من خصائص الحرم الالهي، و قيل بإلحاق الحرم النبوي بالحرم الالهي و لكن الحكم لم يثبت عند الجميع فلا ترفع اليد عن الأصول المعتبرة النافية للتكليف بل عن الإطلاقات و العمومات.

و اما كونه أمنا بالنسبة إلى حيوان الحرم و نباته فقد وردت روايات تدل على انه يحرم إيذائهن و تهييجهن، و قلع النبات لا سيما على المحرم و المسألة مذكورة في باب تروك الإحرام من أبواب الحج و تقدم ما يدل

ص: 191

على ذلك في البحث الروائي.

و قد تظافرت الاخبار أيضا في انه أمن من العذاب يوم القيامة منها ما عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «من مات في احد الحرمين بعثه اللّه من الآمنين» و لا بد من تقييده بما إذا دفن فيه مع وجود سائر الشرائط.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتاب.......

اشارة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) هذه الآيات الشريفة راجعة إلى بيان حقيقة الاستكمالات المعنوية و الموانع التي تمنع عن الوصول إليها، و يشهد لها العقل السليم و لا يصل الإنسان إلى تلك الحقيقة التي هي منتهى الغايات الكمالية و أقصاها الا باتباع ما ذكره القرآن الكريم في ذلك و الانقياد له انقيادا تاما اثباتا و نفيا امتثالا و اجتنابا.

و تبين هذه الآيات ان فريقا من اهل الكتاب يكفرون بآيات اللّه و يصدون المؤمنين عن سبيله عز و جل بل انها ترشد إلى حقيقة من

ص: 192

الحقائق الاجتماعية التي طالما يعانيها المجتمع الانساني و هي ان طائفة من الناس على الباطل و تكفر بآيات اللّه و تنكر الحقائق الواضحة و تصد عن الحق و تمنع عن رقي الإنسان و استكماله و تعرض الشبهات التي تمثل السبيل الضلال المعوج العقيم سبيلا مستقيما موصلا إلى الكمال المنشود. و قد حذر سبحانه المؤمنين منهم و انذرهم من متابعتهم، و إلا دخلوا في زمرتهم و كانوا كافرين، و أمرهم بالاعتصام باللّه و رسوله و العمل باحكامه فان ذلك هو الصراط المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى الكمال المنشود و الهداية التي لا بد لكل فرد ابتغاؤها و ذلك هو الصواب الواقعي الذي جبلت القلوب السليمة المستقيمة عليه.

و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة التي بينت سبل الهداية و عرّفت الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه و أنذرت المؤمنين من شبهات الكافرين و الملحدين.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

الآيات في المقام هي الدلائل الدالة على الحق و نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الكتاب المنزل عليه و ما اشتمل البيت الحرام من الآيات البينات بل كل ما يوصل إلى الهداية.

و انما خاطبهم عز و جل باهل الكتاب إلزاما لهم للايمان بالكتاب و تصديقه و مبالغة في تقبيحهم و تكذيبهم. و الاستفهام للتوبيخ و التعجيز عن اقامة العذر في كفرهم و أعمالهم الفاسدة.

ص: 193

قوله تعالى: وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ .

جملة حالية، و الشهادة هي الحضور و الاطلاع على الأمور و الشهيد بمعنى العالم المطلع و هو من اسماء اللّه الحسنى اي الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء و لا تخفى عليه خافية.

و المعنى: قل يا رسول اللّه لأهل الكتاب الذين يعاندون الحق و يكفرون به لاي سبب تكفرون و الحال ان اللّه يعلم اسراركم و اعلانكم و مطلع على أعمالكم و هو يجازيكم عليها.

و في الجملة غاية التوبيخ، و فيها الإرشاد إلى مراقبة الإنسان اعماله و تزكية النفس بالتخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل فان اللّه مطلع على السرائر و عالم بمكنون الضمائر.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ .

مادة (صدد) تدل على المنع و الصرف و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في ما يقرب من أربعين موردا.

و السبيل كالطريق يستعمل - مذكرا و مؤنثا - و يستعمل في القرآن الكريم كثيرا مذكرا و قد جاء مؤنثا في قوله تعالى: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي» يوسف - 108 و في المقام بقرينة قوله تعالى: «تَبْغُونَها» اي السبيل لتضمينها معنى الآيات بقرينة الآية السابقة.

و المراد بها طرق الهداية و هي الآيات البينات الدالة على الحق و نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و ما أنزله اللّه تعالى عليه.

و الاستفهام كسابقة توبيخي تعجيزي. و في خطابهم باهل الكتاب

ص: 194

لزيادة تقريعهم و شدة توبيخهم اي: مع انكم اهل الكتاب تعرفون الآيات الدالة على الحق و تنكرونها و تعرضون عن الايمان بها.

و المعنى: يا اهل الكتاب لاي سبب تصدون المؤمنين باللّه عن الايمان و الحقائق و تصرفونهم عن سبيل اللّه بإلقاء الشبهات.

قوله تعالى: تَبْغُونَها عِوَجاً .

جملة حالية إما من الضمير في «تصدون» أو حال من السبيل جيء بها لبيان الصد. و الضمير يرجع إلى السبيل لتضمنه معنى الآيات كما عرفت.

و عوجا مفعول ثان لتبغون و المفعول الاول هو الضمير المتصل بعد حذف اللام، فان بغي يتعدى إلى مفعولين أحدهما بنفسه و الثاني باللام اي يبغون لها عوجا. و قيل انه منصوب على المصدر نحو رجع القهقري. و قيل ان عوجا حال وقع موقع الاسم مبالغة. و فيهما نظر.

و مادة (بغي) تدل على طلب التجاوز عن الاقتصاد في ما يتحرى تجاوزه سواء تجاوز أم لا و هو تارة يكون في الكمية و اخرى في الكيفية و كل منهما إما محمود كقوله تعالى: «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً» * الفتح - 29 أو مذموم كقوله تعالى: «وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ» القصاص - 88 فالبغي على اقسام:

الاول: أن يكون من الحق إلى الحق كقوله تعالى: «وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» القصص - 73 و قوله تعالى: «وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً» الإسراء - 110 باعتبار ذات الصلاة.

الثاني من الباطل إلى الحق كقوله تعالى: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» العنكبوت - 17 و قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا» البقرة - 187.

ص: 195

الثاني من الباطل إلى الحق كقوله تعالى: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» العنكبوت - 17 و قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا» البقرة - 187.

الثالث: من الحق إلى الباطل كقوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» آل عمران - 85 و قوله تعالى: «فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ» * المؤمنون - 7.

الرابع: من الباطل إلى الباطل كقوله تعالى: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا» النور - 33. و كيف كان فتلك المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و العوج خلاف الاعتدال و هو الميل عن الاستواء و في الحديث في وصف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «حتى يقيم به الملة العوجاء» اي ملة ابراهيم (صلى اللّه عليه و سلم) التي غيرها المشركون عن استقامتها.

و المعروف انه بفتح العين مختص بالمحسوسات كالأجسام المرثية و بالكسر فيما ليس يمرئي كالرأي و القول و مطلق المعاني قال أبو زيد في كتاب الفرق: «كل ما رأيته بعينك فهو مفتوح و ما لم تره فهو مكسور» و لكن يرد عليه انه ورد في القرآن الكريم بكسر العين في المحسوسات قال تعالى: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً» طه - 106 و لذا قيل ان الكسر يقال فيهما معا و الاول اكثر. و قيل في المنتصب كالحائط و العصا يقال عوج (بالفتح) و في الأرض و الدين و المعاش يقال

ص: 196

عوج (الكسر) و كيف كان ان المراد منه في المقام الزيغ و التحريف و الكتمان و المخادعة.

و المعنى: انكم - اهل الكتاب - تظلمون بصدكم عن سبيل اللّه بالخديعة و التزوير و الزيغ و التحريف و الكتمان و الشبهات فيها لتردوا المؤمنين عن ايمانهم بغيا و كيدا، مع انها الصراط المستقيم الظاهرة الحجة الساطع البرهان.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ .

اي و الحال أنتم شهداء على استقامة سبيل اللّه. تعلمون ان صدكم عنه تعالى انما يكون صدا عن الحق و ان منكره ضال مضل و يلزم من ذلك معرفتهم بحقية الرسول الكريم و صحة دعواه، و قد عرفوا البشارات بنبوته و دينه التي دلت عليها كتبهم و أخبرهم انبياؤهم، فكان الواجب عليهم الايمان به، و السبق بالاعتراف بدينه لا الصد عنه.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

تهديد لهم على صنيعهم فانه تعالى عليهم بصدهم و ضلالهم و مجزيهم عليه لا يفوته شيء و هو شديد الانتقام.

و انما ذكر سبحانه و تعالى عدم الغفلة في هذه الآية الشريفة، لمّا نسب الشهادة إليهم على الحقية و انما احفوها بمكرهم و خدائعهم الخفية في جعل السبيل المستقيم عوجا، فناسب ذكر عدم الغفلة عن جميع ذلك.

كما ان في الآية السابقة كان كفرهم و انكارهم لآيات اللّه تعالى، فذكر عز و جل انه شهيد على ذلك. و كيف كان ففي نسبة الشهادة إلى نفسه في الآية السابقة، و في المقام نسبتها إليهم من اللطف ما لا يخفى.

ص: 197

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الاجتماعية التي لا يخلو عنها اجتماع من بدء تكوينه و هي تأثير بعض طوائف المجتمع الانساني في البعض الآخر و تأثرها منها، و هذه العملية - اي التأثير و التأثر - هي من أهم الأمور الاجتماعية التي يبتني عليها الاجتماع الانساني و لها الأثر الكبير في تقدم المجتمع أو تأخره و القرآن الكريم لا ينكر هذه الحقيقة الاجتماعية، و انما كان له الفضل الكبير في تهذيبها و بيان ما يترتب عليها من الآثار المهمة في النفس و التربية و الاقتصاد و سائر الشؤون حيث انه ما يكون في الطائفة المطاعة يسرى إلى الطائفة المطيعة من مفاسد الأخلاق و الضلال و بناء على ذلك لا وجه لتعيين معنى الفريق كما ذكره بعض المفسرين، فانه من القضايا الحقيقية المنطبقة في كل عصر على الطائفة المضلة في ذلك العصر سواء كانت من اهل الكتاب أم كانت من غيرهم إذا كانت لها قوة الضلال و الإضلال، و يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» فان المراد منه هم الذين عرفوا شيئا من الكتاب و لكن جعلوه وسيلة للاضلال و قد نهى اللّه تعالى المسلمين من اطاعة هؤلاء و حذّرهم من سوء أثرها و من أهمه انها تردهم كافرين بعد ايمانهم و فيه هلاك الدين و الدنيا، و الذلة في العاجل و الآجل و فناء استقلاليتهم في شؤونهم، فلا بد من التنبه إلى ذلك و الالتفات اليه و العمل بما أنزله اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة التشديد على انكار اطاعة المؤمنين للكافرين لكمال شناعة الكفر بعد الايمان و زيادة قبحه. و انما قدم عز و جل توبيخ

ص: 198

الكافرين على هذا الخطاب لبيان ان الكفر كالعلة الداعية اليه.

قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ .

استبعاد من ان يقع من المؤمنين الكفر و انكار لما يقع منهم و عندهم ما يكون سببا في عدم وقوعه منهم و الاجتناب عنه.

و قد ذكر سبحانه و تعالى أمرين مهمين هما آيات اللّه تعالى و رسوله العظيم فهما حبلان ممدودان من السماء لا يضل من تمسك بهما، دالان على كل حق و فيهما الهداية و الرشاد. و من يعتصم بهما فقد اعتصم باللّه العظيم، و الكفر بعد وجودهما يكون نظير الجمع بين المتناقضين.

و من ذلك يعرف ان الآية المباركة عامة لا تختص بطائفة خاصة و لا عصر مخصوص.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ .

كبرى كلية تنطبق على جميع سبل الهداية و الرشاد. و مادة (عصم) تدل على المنع و الحفظ مما يخاف و يحذر، و في الحديث «من كانت عصمته شهادة ان لا إله إلا اللّه» اي ما يعصمه من المهالك يوم القيامة. و العاصم هو الحافظ المانع سواء كان بفعله أو بتسبيب منه، و المعتصم هو الملتجئ إلى العاصم و اللائذ به مما التجأ و لاذ حذرا منه و الاسم العصمة و في شعر أبي طالب في وصف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله).

ثمال اليتامى عصمة للأرامل و الاعتصام باللّه هو الامتناع به بالتجاء العبد و انقطاعه اليه ليحفظه من مضلات الفتن و موبقات المعاصي و موارد غضبه، و من سفاسف الأخلاق

ص: 199

و يوفقه لموجبات رحمته و يرضى عنه. و لا بد لهذا الاعتصام من سبب محقق له و هو مخالفة النفس الامارة، و اتباع العقل و الفطرة اللذين دعا إليهما دين اللّه و رسله، و لذا وجب الايمان بخاتم النبيين و قرآنه و من يكون داعيا إليهما علما و عملا. فيكون ذكر القرآن الكريم و الرسول من اسباب الاعتصام و محققاته.

و من ذلك يعلم ان المراد من الاعتصام العملي منه دون القولي و الاعتقادي فقط.

قوله تعالى: فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

ص: 200

بحث دلالي

اشارة

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول

يدل قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» على قواعد عقلية نظامية اجتماعية منها قاعدة «امتناع اجتماع المتنافيين» فان الكفر بآيات اللّه مع دعوى الايمان يكون من المتنافيين الذي هو ممتنع بفطرة العقول و برهنت عليها العقلاء و لذا كان الخطاب ب (كيف) الدال على التعجب.

و منها ثبوت الاختيار للإنسان الذي هو من مهمات مباحث الفلسفة و الكلام.

و منها: تفكيك المقتضى (بالفتح) عن فعلية المقتضي (بالكسر) من كل جهة و هي مما يستنكره العقل، فان تلاوة آيات اللّه تعالى و وجود الرسول الأعظم فيهم مقتضيان للتخلق بأخلاقه، و الامتثال لأوامره و الانتهاء عن نواهيه فهم منكرون هذه القاعدة التي دلت عليها الادلة العقلية و النقلية.

الثاني:

ذكر سبحانه و تعالى في المقام: «مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً» و في سورة الأعراف - 86: «مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً» و انما حذف «به» و الواو في المقام لان حذف (به) موافق لقوله تعالى «وَ مَنْ كَفَرَ» فقد حذف (به) فيه أيضا. كما ان حذف الواو انما هو لأجل ان قوله تعالى «تَبْغُونَها» جملة حالية و الواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا مثل قوله تعالى: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» المدثر - 6

ص: 201

و اما في سورة الأعراف عطف على الحال هي قوله تعالى: «تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ» و كذلك «لا تبغونها عوجا».

الثالث:

ذكرنا ان قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» يدل على قاعدة اجتماعية لا ينفك عنها اي اجتماع إنساني و هي تبادل الأفكار و العادات و التقاليد بين المجتمعات و القرآن الكريم يحذر المسلمين من ذلك و يبين ان كل طائفة إذا أطاعت طائفة اخرى و أخذت بافكارها و ثقافتها لا بد ان تتأثر بها فان كانت الأفكار فاسدة و منحرفة فهي تؤثر في المؤمنين و تذهب فضائل افكارهم و تفسد عليهم ثقافتهم و تحرّمهم من سعادتهم و توجب ضلالهم و ذلهم و عبوديتهم و قد أوجز سبحانه جميع ذلك في قوله تعالى: «يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» الذي فيه قبح عظيم و اثار سيئة. و قد لطف تعالى بالمؤمنين حيث خاطبهم بقوله «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» و بين عز و جل اثره الكبير بأسلوب رائع.

الرابع:

انما عبر سبحانه و تعالى بالتلاوة في قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ» لان التلاوة هي البيان بقصد التفهيم و التفهم فلا يكتفي بمجرد وجود القرآن الكريم فقط دون تلاوته و العمل به.

و اما ذكر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) مجردا عن كل شيء فلأنه (صلى اللّه عليه و آله) بنفسه و حركاته و سكناته و أقواله و أفعاله حجة للّه على خلقه و معلم عظيم للكمالات الانسانية و شارح للآيات الشريفة و مفسر لها و مبين القرآن الكريم قولا و عملا و هو الصراط المستقيم الذي عقب اللّه تعالى به ذلك. و يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة اشتداد العقوبة على المخالفة عند تمامية الحجة.

الخامس:

انما وصف سبحانه الصراط بالمستقيم لبيان انه لا يختلف و لا يغيره إضلال المعاندين و إفساد المفسدين، كما انه يحفظ سالكيه

ص: 202

عن الوقوع في الضلال.

بحث روائي

في الخصال عن الحسين الأشعر: «قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إن الامام لا يكون إلا معصوما؟ فقال سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ذلك فقال: «المعصوم هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه و قد قال اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): الممتنع باللّه اي الممتنع بالاعتصام في جميع أموره و شؤونه فيحصل له توفيق ترك محارم اللّه بالاختيار، فقد جمع الطاعة و ترك المحارم و هذا هو معنى العصمة.

و في اسباب النزول للواحدي عن عكرمة في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ قال: «كان بين هذين الحيين من الأوس و الخزرج قتال من الجاهلية فلما جاء الإسلام اصطلحوا و ألف اللّه بين قلوبهم و جلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس و الخزرج فأنشد شعرا قاله احد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك، فقال الحي الآخر قد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا و كذا فقال الآخرون و قد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا و كذا فقالوا تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت فنادى هؤلاء يا آل أوس و نادى هؤلاء يا آل خزرج فاجتمعوا و أخذوا السلاح و اصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية فجاء النبي (صلى اللّه عليه و آله) حتى قام بين الصفين فقرأها و رفع صوته

ص: 203

فلما سمعوا صوته أنصتوا له و جعلوا يستمعون اليه فلما فرغ ألقوا السلاح و عانق بعضهم بعضا و جثوا يبكون».

أقول: على فرض اعتبار الرواية انها تبين بعض مصاديق الآية الشريفة كما ذكرنا مرارا من ان مورد الآية و مصاديقها لا تكون مخصصة للآية النازلة.

ص: 204

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اِعْتَص.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) هذه الآيات من جلائل الآيات الكريمة التي وردت في تكميل النفوس الانسانية و تنظيم نظام الدنيا و الآخرة بالنحو الأحسن الأكمل الذي

ص: 205

يعترف به جميع العقول و تقبله الفطرة المستقيمة و هي مرتبطة بالآيات السابقة فانه تعالى بعد ما حذر المؤمنين من مكائد الكافرين و فتن أهل الكتاب و اضلالهم أمرهم بالاعتصام بحبل اللّه جلت عظمته ليهديهم إلى الصراط المستقيم و يوفقهم للدين القويم و يحفظهم من المهالك.

و يبين سبحانه في هذه الآيات المباركة الصلة به تعالى تلك التي يحبها كل قلب مؤمن و هي التقوى لأنها من سبل الاعتصام باللّه بل من أهمها فكل ما اقترب العبد من اللّه بتقواه اشتقاق إلى مقام ارفع مما بلغ إليها.

و قد دعا سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة أيضا إلى الاعتصام بحبل اللّه، من الدعوة إلى الخير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فهي كلها من سبل الاعتصام به.

ثم أمرهم بالاجتماع و عدم التفرق و نهاهم عن الاختلاف و وعدهم الحسنى و الخير إن هم قاموا بالوظيفة التي أمرهم بها.

فهذه الآيات المباركة تعتبر تتمة الآيات السابقة فان السياق في الطائفتين واحد.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ .

تقدم ما يتعلق بهذا الخطاب في أول سورة البقرة و غيره من الآيات الشريفة، و في تكراره لا يخفى من اللطف بالمؤمنين و التشريف لهم لا سيما بعد خطاب «مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» الآية - 100.

ص: 206

و التقوى كما تقدم مكررا هي الطاعة للّه تعالى و الاحتراز عن الوقوع في ما يوجب سخطه و عذابه و يلزم ذلك الشكر لنعمه، و انما أمرهم بالتقوى لأنها جوهرة الكمالات الانسانية و مفتاح السعادة و أساس مكارم الأخلاق و بها يفوز العبد بالقرب إلى اللّه تعالى و البعد عن النار و هي تحفظ ايمان المؤمن و تزيده قوة و ثباتا.

هذا و لكن التقوى على نحوين تقوى ظاهرية خالية عن الخلوص و الإخلاص و باطنية حقيقة مشتملة عليهما و هي التي لا يشوبها باطل و لا فساد و هي ذكر المنعم بلا نسيان و طاعته بلا عصيان و بالجملة فهي العبودية المحضة التي لا كمال بعدها و هذا النحو من التقوى هو حق في نفسه و حق للّه تعالى و هي التي تليق بساحته تبارك و تعالى دون غيرها.

و قد ورد مثل هذا التعبير في ستة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى: «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» البقرة - 115 و قال تعالى: «جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ» الحج - 77 و قال تعالى: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» الحديد - 27 و قال تعالى: «ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» * الانعام - 91 و مثله في سورة الحج - 73 و سورة الزمر - 67 و المستفاد من هذا التعبير هو الأمر بالحقيقة الخالصة من شوائب الأوهام، و تدل تلك الجملات على كمال الأهمية بالمورد حتى انه تعالى نفى الحقية عن غيره كما هو المستفاد من النفي و الإثبات و عرفان الحق لا يحتاج إلى البيان. فانه نفس واقع الشيء على ما هو عليه في ذاته.

و يحتمل ان يكون المراد في قوله تعالى: «حَقَّ تُقاتِهِ» آخر مراتب التقوى و أعلا درجاتها التي من صفات الأنبياء و الأولياء و هي حقيقة التقوى التي أوحاها عز و جل إلى أنبيائه و بشرت بها رسله و غيرها خارج عن تلك الحقيقة و ليست شيئا زائدا عليها. نعم الاشتداد و التضعف

ص: 207

الجاريان في كل مقولة يجريان في هذه الحقيقة أيضا و لكن الآية المباركة ليست ناظرة إلى هذه الجهة، كما انها ليست منسوخة و لا ناسخة، فيكون تعميم الخطاب في صدر الآية لجميع المؤمنين تشريفا لهم شيئا و طلب حق التقوى شيئا آخر و طلب الموت على الإسلام في ذيل الآية الشريفة شيئا ثالثا، فيصير صدر الآية و ذيلها شاهدين على ان ليس المراد بالتقوى هنا خصوص تقوى الأنبياء و الأولياء فقط بل هي عامة تشمل الآية جميع المراتب كل على حسب ما يقدر عليه.

و يحتمل التنزيل على مراتب القدرة و الاستطاعة بل هي ظاهر الآية الشريفة، فالصحيح يصلي قائما مثلا و المريض جالسا و هكذا كل على قدر استطاعته و على هذا فيكون قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» التغابن - 17 شارحا لهذه الآية الشريفة.

و محصل معنى الآيتين ان مراتب التقوى، كمراتب اصل التكليف كما ان الأخير لا يتعلق إلا بالمستطاع و ينحل الى مراتب كثيرة و كذلك التقوى فكل مؤمن لا بد ان يحظى بالتقوى على قدر استطاعته و طاعته.

كما انه يحتمل ان يكون المراد من قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» التغابن - 17 الترغيب إلى إتيان المندوبات و التنزه عن إتيان المكروهات لان الأولى من شؤون الواجبات و الثانية من شؤون المحرمات و كل ذلك من حمى اللّه تعالى كما في بعض الروايات. و عليه فلا ربط لها لهذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

تحريض على مداومة التقوى بعد الأمر بتحصيل حقيقتها و الخلوص فيها، فيكون المراد من الإسلام في الآية هو الإسلام الحقيقي الاستمراري

ص: 208

حتى الانتقال إلى النشأة الاخرى و وقوع الموت الذي هو امر غيبي في حال الإسلام و التسليم.

و على هذا لا وجه للتفصيل بكون الطلب في الآية الشريفة متعلقا بأمر تكويني أو بجامع من الأمر التكويني و اختياري، فان ظاهر الآية هو الأمر بتحصيل المداومة على التقوى حتى الموت و تقدم بعض الكلام في آية 189 من سورة البقرة.

و المراد بالإسلام هو الطاعة للّه تعالى و عدم المحادة له بالمعصية، و هذه هي التقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها سابقا. و ذكر بعض المفسرين ان المراد بالإسلام هو الايمان القلبي، لان الأعمال حال الموت مما لا تكاد ان تتأتى. و فيه من التكلف ما لا يخفى، فما ذكرناه اظهر من الآية الشريفة و انسب إلى الأمر بالتقوى كما عرفت، و كيف كان ففي الآية المباركة التأكيد على ترك طاعة اهل الكتاب.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا .

الاعتصام هو التمسك و الالتجاء و تقدم اشتقاق الكلمة في الآية السابقة.

و الحبل معروف، و يستعمل في سبب منيع يوصل إلى البغية و الحاجة و في الدعاء «يا ذا الحبل الشديد» و المراد به القرآن أو الدين أو السبب كما ورد في صفة القرآن «كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض» اي نور هداه يكون كذلك، و في حديث آخر: «و هو حبل اللّه المتين». و قيل المراد عهده و امانه الذي يؤمن من العذاب و قيل المراد منه العهد و الميثاق و قيل غير ذلك و جميعها من باب التفسير بالمصداق.

و المراد به في المقام ما جعله اللّه تعالى سببا عاصما من الوقوع في

ص: 209

الضلالة و المهالك، و المعروف ان في الكلام استعارة تمثيلية بأن شبه التمسك بما جعله اللّه عاصما من الوقوع في المهالك بالتمسك بالحبل المتدلي من مكان رفيع وثيق مأمون الانقطاع الذي يمنع المتمسك به من السقوط و الهلكة.

و جميعا حال من فاعل اعتصموا أي: مجتمعين، فيكون قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا» تأكيدا و النهي عن التفرق باتباع السبل المختلفة فيوجب البعد عن سبيل اللّه تعالى كما قال عز و جل: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» الانعام - 152.

و اختلف المفسرون في المراد بالحبل في هذه الآية الشريفة فقيل انه كتاب اللّه. و قيل انه الإسلام. و قيل انه الطاعة و الجماعة. و الحق ان يقال انه بعد ان بين عز و جل في الآية السابقة ان التمسك بآيات اللّه تعالى و بالرسول اعتصام باللّه تعالى مضمون له الهدى و مأمون من الضلال و الهلاك، فان كل واحد منهما يكمل الآخر و يفسره. و الرسول كتاب ناطق كما ان القرآن رسول صامت فيكون التمسك بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) تمسكا بالقرآن لا سيما بعد أمر القرآن بذلك قال تعالى: «وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحشر - 7 و قد أمرنا سبحانه و تعالى بالاعتصام بحبل اللّه في هذه الآية فتكون النتيجة ان حبل اللّه هو الكتاب و الرسول. و لكن بما ان الحكم في الآية السابقة معلق على شخص الرسول الكريم باعتباره جامعا لجميع الكمالات و ملتزما للطاعات و معصوما من المعاصي و الزلات شارحا للكتاب المبين و مفسرا لرموزه و دقائقه فمن يكون مثل الرسول من هذه الجهة يكون من مصاديق حبل اللّه، و يدل على ذلك حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم

ص: 210

بهما لن تضلوا كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي» فان الكتاب و الرسول و عترته كلها مشاعر هدايته عز و جل و مصاديق حبل اللّه، و ان حقيقة هذا الحبل هي الانسانية الكاملة التي هي في الحقيقة الصراط المستقيم؛ و ان الكتب السماوية و الأنبياء و المرسلين تدعوا إلى الاهتداء إليها، و هي حقيقة الجنة التي وعد اللّه عباده بها، و هي التي توجب مخالفتها النار، فلهذه الحقيقة صور كثيرة مختلفة في جميع العوالم و النشئات، فتارة: يكون موسى بن عمران و التوراة و اخرى: يكون عيسى بن مريم و الإنجيل، و ثالثة: يكون حبيب اللّه محمد بن عبد اللّه و القرآن الكريم و رابعة: يكون عترته الطاهرة لأنهم شراح القرآن و امتداد لشخص الرسول الكريم كما عرفت، و حينئذ يكون الأمر بالاعتصام بحبل اللّه امرا حقيقيا واقعيا تكوينيا و هو عبارة عن الاضافة بين العلة و المعلول أو المقتضى (بالكسر) مع المقتضى (بالفتح) أو بين الخالق و المخلوق فالخطاب من سنخ الخطابات التكوينية التي لا يختص بزمان دون زمان و لا بقوم دون آخرين. نعم أفضل مصاديقه الإنسان الكامل و الإسلام لأنهما أفضل الممكنات.

و من ذلك كله يعرف انه ليس المراد بالاعتصام القولي منه فقط أو الاعتقادي بل الاعتصام العملي و الطاعة للّه تعالى بكل ما شاء و أراد و مثل هذا الاعتصام تحكم بحسنه فطرة العقول، لان اعتصام الفقير المطلق بالغني كذلك مما يحكم بلزومه الفطرة، بل ان الممكن بذاته معتصم لمبداه لا سيما بعد ان اثبت المحققون من الفلاسفة ان مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، و لا بد و ان يظهر الإنسان هذا الاعتصام الذاتي في الاعتقاد و القول و العمل بان يطابق ما يصدر عنه لما هو المحبوب لدى المعتصم به.

ص: 211

و انما امر سبحانه و تعالى بالاعتصام بحبل اللّه على نحو الجمع في قوله «وَ اِعْتَصِمُوا» ثم أكده بقوله تعالى: «جَمِيعاً» و ثالثة بقوله «وَ لا تَفَرَّقُوا» لان اختلاف الامة أحزابا أو اشياعا أضر شيء بالنظام، و يستفاد منه ان هذا الحكم لا يتحقق حدوثا و بقاءا إلا على نحو الجمع و الاجتماع، فالاعتصام الفردي من دون الجماعة لا يثبت المطلوب و الغرض من هذا الحكم، فيكون عدم الاجتماع على هذا الحكم من موجبات التفرق و الاختلاف و الوقوع في المهالك، فالآية السابقة تتعرض لحكم الفرد من حيث التقوى و الموت على الإسلام و هذه الآية لحكم الجماعة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

دعوى إلى تذكر نعم اللّه تعالى التي فيها الموعظة و العبرة و فيها الحث على الاجتماع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى المؤدي إلى التآلف و زوال الاضغان و النفرة بين افراد المجتمع.

و في الآية الشريفة دعوة إلى تعلم العلل و الأسباب التي تؤدي إلى خير الإنسان و سعادته و تهديه إلى الحق و التوفيق إلى الايمان الصحيح و نبذ التقليد الأعمى الذي لا يجنى منه الخير و هذا هو الأصل القويم الذي اعتمد عليه القرآن الكريم في تعليم الإنسان و هديه إلى سعادته فانه يأمره بالعلم النافع و العمل الصالح ليمكنه معرفة الحقائق و ارتباط بعضها مع البعض ثم كيفية ارتباطها مع مسبب الأسباب و المبدأ الفياض و رجوعها إلى اللّه تعالى و الأمر بالاعتصام بحبله و التسليم لأمره، فان في ذلك السعادة الحقيقية و في غيره الجهل و البعد عن الحقيقة و قد نهى عز و جل عن التقليد الأعمى الذي يسلب الارادة عن الإنسان و ينفى

ص: 212

عنه التفكر الصحيح، و يشوه الحقائق. و قد اقام سبحانه ادلة ثلاثة على ما حث عليه من التذكر و ندب اليه من التفكر اثنتان منها تشهد عليهما التجربة و الثالث مبني على البرهان القطعي.

قوله تعالى: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ .

هذا هو الدليل الاول و هو تذكر العداوة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي الفاسد و البغضاء التي كانت قائمة بينهم و قد قاسوا مرارتها و كابدوا شدائدها و أهوالها فقد كانت الحروب و القتل و الدمار و الضغائن و الأحقاد ملتهبة و بلغت ذروتها أبان الدعوة الاسلامية، فألف عز و جل بين القلوب بالإسلام و الرسول الكريم الأمين فزالت تلك الأحقاد و حل الصلح و الوئام و قد تألفت قلوبهم و هو اكبر دليل على حقيقة الايمان باللّه و الاعتصام بحبله و تذكر نعمه فانه لو لا الإسلام لما ذاق الاجتماع حلاوة المحبة و الاخوة و لما زالت مرارة العداوة و الفرقة.

قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً .

هذا هو الدليل الثاني و الاخوان جمع الأخ. و قيل ان اكثر ما يجمع أخو الصداقة على الاخوان، و الأخ في النسب على الاخوة و قد ورد في أخ الصداقة قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» الحجرات - 10 و في النسب قوله تعالى: «أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ» النور - 31 و قوله تعالى: «أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ» النور - 61.

و المراد بها وقوع التآلف في القلوب كعادة الاخوة الاشقاء في كونهم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة. و في تكرار هذه المنة التنبيه على ما ذكرناه و الحث على التمسك بحبل اللّه و الاعتصام به و تذكر نعمه التي توصلكم إلى السعادة و تهديكم إلى الرشاد فان في الاخوة التي منّها اللّه تعالى

ص: 213

عليهم الاجتماع و التآلف.

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها .

عطف على «كُنْتُمْ أَعْداءً» و هذا هو الدليل الثالث المبني على البرهان. و شفا حفرة اي طرف الحفرة و حافتها، فان شفا كل شيء جرفه و حافته. و منه حديث علي (عليه السلام): «نازل بشفى جرف هار» أي جانبه و في المأثور: «لا تنظروا إلى صلاة احد و لا إلى صيامه و لكن انظروا إلى ورعه إذا شفى» أي اشرف على الدنيا و أقبلت عليه و يقال: «أشفى على الهلاك» أي ورد على شفاه و قيل ان كلمة «شفى» لا تستعمل إلا في الشر.

و قد تستعمل في القليل أيضا يقال «ما بقي منه إلا شفا» أي قليل و يثنى على شفوين و الجمع اشفاء و يضاف إلى الأعلى و إلى الأسفل.

و كنتم على شفا حفرة أي مشرفين على السقوط فيها.

و المراد من النار هي التي اوقدوها بأعمالهم و معتقداتهم التي كانت سببا للنار الحقيقية و هي نار جهنم و نار الدنيا التي هي الحروب و المنازعات فإنها استعملت فيها كثيرا في المحاورات الصحيحة كقوله تعالى: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللّهُ» المائدة - 64.

و كيف كان فالآية الشريفة تبين حالهم في المجتمع الجاهلي الفاسد المبني على الضغائن و الحروب و المنازعات و التنافر و الافتراق كما تبين مآلهم الذي يصلون اليه و هو الدخول في النار في الآخرة و سلب الطمأنينة و الأمن فقد جلبت لهم الشقاوة و العناء و الزوال في الدنيا. و قد انقذهم اللّه تعالى من مآلهم الفاسد بالإسلام الذي جلب لهم الطمأنينة و الأمن و الرفاه و العيش الهنيء و السعادة و قد شاهدوا بدخولهم في الإسلام

ص: 214

ما لم يتخيلوه في الحسبان فلذلك كان هذا البرهان أوقع في النفوس من غيره لأنه كان به خلاصهم من العذاب في الآخرة و الشقاء و الحرمان في الدنيا و هذا الدليل حاصل مضمون الدليلين المتقدمين المشتملين على الحس و الوجدان دون محض التقدير و مجرد الحسبان.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي يبينها برهانا و وجدانا و مشاهدة لأجل اهتدائكم إلى حقيقة الايمان و الاعتصام بحبل اللّه المبين و تدخلون في الصراط المستقيم و تتذكرون نعمه التي أنعمها اللّه تعالى على المسلمين.

قوله تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

أمر سبحانه و تعالى بتكميل الغير بعد ما أمرهم بتكميل أنفسهم حيث ان الاعتصام بحبل اللّه تعالى المادة المهيأة لتوارد الصور الكمالية عليها.

و من المعلوم ان المادة لا فعلية لها الا بالصورة كما هو ثابت في الفلسفة الإلهية، فلا بد من السعي في تحصيل تلك الصورة و هي الدعوة إلى الخير سواء كان من النبي أو الوصي أو من يقوم مقامهما في هذا الشأن.

و انما تكون الدعوة إلى الخير بمنزلة الصورة الفعلية للاعتصام باللّه تعالى، و الدعوة إلى الخير هي من أهم الأسباب التي تكون دخيلة في رقي الامة و تقدمها في كل المجالات، فهي تحفظ العلم عن الضياع و العمل عن الفساد. و المجتمع عن الانهيار في مهلكة الشرور، فهي جامعة السعادة و مانعة الشقاوة، و ان القوانين المجعولة خالقية كانت أم خلقية انما يترتب الأثر عليها من حيث البقاء و مداومة العمل بها لا بمجرد حدوثها فقط، و ان البقاء يتقوم بأمرين:

ص: 215

الأول: العمل بها بشرائطها المقررة.

الثاني: الترغيب إلى فعلها و الترهيب عن تركها، و بعبارة اخرى ان القوة المجرية لها في مقام حفظ القانون هي الدعوة. و يعبر عنها بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لذا كانت لهما المنزلة العظيمة في الشرائع السماوية، بل في القوانين المجعولة، و لولاهما لاختل النظام و تعطّلت الاحكام، و لأنبياء اللّه العظام و أوصيائهم الكرام الزعامة الكبرى في التصدي لهذين التكليفين العظيمين.

و المراد من الخير كل ما له دخل في الاعتصام بحبل اللّه سواء كان من المعارف الحقة او الأعمال الصالحة أو مكارم الأخلاق، و ما ذكره عز و جل في المقام ترغيبا إلى الخير الذي تدعو اليه فطرة العقول و يحبه كل انسان و لا يمكن ان يجهله احد، و لبيان ان المجتمع الذي يكون الخير هو مطلبهم و منهاجهم و عملهم هو المجتمع السعيد و الأمة الراقية.

و قد اختلف المفسرون في معنى الخير في المقام فقيل انه الإسلام و قيل انه اتباع القرآن و سنة الرسول، و قيل غير ذلك. و الحق ان ما ذكروه من مصاديق مطلق الخير، و الصحيح ما ذكرناه فان جميع ذلك دواع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى.

و الامة: الجماعة التي تؤم امرا معينا، و قد أطلقت في القرآن الكريم كثيرا على اتباع الأنبياء لأنهم اجتمعوا على قصد واحد و هو اتباع الحق وراء قدوة شخص معين، و تطلق أيضا على الدين و الملة قال تعالى: «إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» * الزخرف - 22 و على السنين قال تعالى، «وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» يوسف - 45 و الجميع يرجع إلى معنى واحد، و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً» البقرة - 128 و كذا في قوله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» * البقرة - 141

ص: 216

بعض الكلام في اشتقاق هذه الكلمة.

و الدعاء إلى الخير هو الدعاء إلى كل ما فيه صلاح الأمة دينا و دنيا و آخرة كما عرفت. و في الحديث: «سأخبركم بأول امري: دعوة أبي ابراهيم و بشارة عيسى» دعوة ابراهيم (عليه السلام) هي قوله تعالى: «رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» البقرة - 129 و بشارة عيسى هي قوله تعالى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ» الصف - 6.

و المعروف: كل ما هو خير و حسن عقلا و لم ينه عنه شرعا فهو اسم جامع يشمل طاعة اللّه جل جلاله و التقرب اليه و الإحسان إلى الناس، و في الحديث: «اهل المعروف في الدنيا هم اهل المعروف في الآخرة» يعني من بذل معروفه في الدنيا و احسن العشرة مع الناس آتاه اللّه جزاء معروفه في الآخرة و روي عن ابن عباس في معنى الحديث: «يأتي اصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم و تبقى حسناتهم جامة (جامدة) فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له و يدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا و الآخرة».

و المنكر: هو ما أنكره العقل و الشرع فيكون ضد المعروف.

و عطف الأمر بالمعروف على دعوة الخير يكون عطفا تفسيرا لبيان ان دعوة الخير هي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لمعلومية الخير و محبوبيته لدى الجميع فلا بد ان يكون المعروف و المنكر معلومين عند الداعي إلى الخير، و للاعلام بأن المجتمع الذي بلغ من الكمال بالاعتصام بحبل اللّه تعالى صار المعروف عندهم هو الخير و المنكر هو الشر، كما انه يمكن ان يكون أيضا لأجل ان المعروف و المنكر عند

ص: 217

الشرع هو الخير و الشر المعروفان عند العقل و تدعو إليهما الفطرة.

و قيل ان عطف الأمر بالمعرف و و النهي عن المنكر على دعوة الخير هو من عطف الخاص على العام فيكون من قبيل عطف أفضل الإفراد على الكلي. و لا ينافي ذلك ما ذكرناه.

و كيف كان فالآية الشريفة تدل على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بلا شك في ذلك.

و انما البحث و الخلاف في كونه كفائيا أو عينيا و الظاهر انه يرجع إلى دلالة «من» فقيل انها للتبعيض، فيكون الوجوب كفائيا.

و قيل انها بيانية. و المعنى: كونوا امة كذلك فيكون الوجوب عينيا و سياق الآية الشريفة يدل على الاول، و يرجحه ان الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر انما تكون واجبة لأجل البعث على الطاعات و الزجر عن القبائح و المعاصي و لا معنى لوجوبهما بعد حصول الغرض من البعض، فالخطاب و ان كان متعلقا بالجميع لكن الغرض يحصل من أي فرد كان، و بما ان المقام يحتاج إلى التعاضد و التعاون حتى يكون له التأثير القوي في حصول الغرض و ليسا كغيرهما من الواجبات كان الأمر متعلقا بالجميع، و بعد ذلك فلا وقع للنزاع في كون «من» تبعيضية أو بيانية فان الأمر متعلق بالجميع بقدر ما يتعلق بالإفراد و البعض، فان هذا التكليف لطف الهي يتعلق بالجميع و لا بد من التعاضد و التعاون و لا يمكن ترك القائم به لوحده و الاعراض عنه و قد ذكرنا في الأصول انه لا فرق بين الوجوب الكفائي و الوجوب العيني بحسب ذات الوجوب و انما الفرق بينهما باعتبار سقوط التكليف عن الكل بعد قيام البعض به في الاول دون الثاني و هذا يكون من باب تعدد الدال و المدلول لا باعتبار حقيقة الوجوب و لذا اشتهر بين الفقهاء ان في ترك الجميع للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يعاقب

ص: 218

الكل لا البعض فراجع ما ذكرناه في (مهذب الاحكام) و يدل على ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة الظاهر في الرجوع إلى الموصوفين بهذه الصفة.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ .

جملة استينافية اي الداعون إلى المعروف و الناهون عن المنكر هم الكاملون في الفلاح، كما هو قضية الحصر.

و يستفاد من الآية الشريفة كمال الأهمية لهذا التكليف الالهي و المنصب الرفيع بل هما من مناصب الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الصالحين و قد ورد في فضلهما روايات كثيرة يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، و لهما شروط و آداب كثيرة يستفاد بعضها من هذه الآية الشريفة و البقية من غيرها.

و يستفاد من مجموع الادلة الواردة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كتابا و سنة ان هذه الدعوة من صفات الباري جل جلاله كالحكم بين الناس بالعدل، و قد فوّض اللّه تعالى ذلك إلى أنبيائه و اوصيائه و القائمين مقامهم، و هذه الدعوة ترجع إلى التخلق بأخلاق اللّه تعالى و التخلي عما لا يرضاه اللّه و التحلي بما يرضاه، و تفاني الدنيا في عالم العقبى فيصير الكل باقيا ببقاء اللّه تعالى و لعل ما ورد في الحديث:

«الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى من احياهما أحياه اللّه تعالى» يرجع إلى ذلك فان الخلق انما يعتبر في مرتبة الفعل لا في مرتبة الذات، و المراد بالاحياء الأعم من الأحياء الدنيوي و الاخروي و سبب الأحياء معلوم لأنه اتصال فعلي بالحي القيوم.

ص: 219

قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

بعد ما أكد سبحانه الدعوة إلى الاتحاد و الاعتصام بحبل اللّه تعالى و الدعوة إلى الخير. بيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية ما يترتب على الاعراض عن ذلك و الاحجام عن ما أمرهم في سبيل الوحدة و الاتحاد بين أفراد المجتمع، فانه لا يمكن ان تختلف امة إذا اجتمعت على مقصد واحد و هدف معين و اتفقت عقائدهم، و كانت بعيدة عن الأهواء الباطلة و ما يوجب الضلال، و تحقق التعاون و التناصر بين افرادها، و قويت أواصر الوحدة فيهم و بعدت عما يوجب الافتراق و الاختلاف بينهم، فهذه الآية كالدليل على لزوم متابعة ما ورد في الآيات السابقة.

و التفرق انما يكون في ما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح و الإصلاح و يكون ابتداء في الأبدان و الابتعاد عما يوجب اتحاد الإفراد. و اما الاختلاف انما يكون في العقائد و الآراء و يوجبه الافتراق في الكلمة، فهو كالمقدمة التي توصل إلى الاختلاف في العقائد و الآراء، فان كل اختلاف في الرأي انما ينشأ عن التفرق في الكلمة و تباعد افراد المجتمع و الاختلاف هذا انما يكون عن ضلال الأهواء و البغي، و لذا نسب سبحانه و تعالى الاختلاف إلى البغي في عدة آيات منها قوله تعالى:

«و ما اختلفوا فيه إلا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» البقرة - 213 و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المقام «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» فان الاختلاف بعد مجيء الآيات للحق الموجبة للاتحاد و الاجتماع انما يكون عن أعراض عنها فيكون عن بغي و ضلال.

و المعنى: و لا تكونوا كالذين تفرقوا في الكلمة و لم يجتمعوا على

ص: 220

ما أمرهم اللّه تعالى و خرجوا عن الجماعة فأوجب التباغض بينهم و التباين في آرائهم و الاختلاف في عقائدهم فصاروا شيعا و أحزابا و في ذلك زوال سعادتهم و وقوعهم في الشقاق و النفاق و الحروب و المنازعات فتذهب كرامتهم و استقلالهم و امنهم و أمانهم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان الاختلاف المذموم هو ما إذا كان البغي و الضلال و اما غيره فلا ضرر فيه بل هو ضروري لاختلاف الافهام و الإدراكات و يكون سببا للرقي و الاستكمال و لكن لا بد ان لا يصل إلى حد يوجب التباغض و التنافر.

قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .

جملة استينافية هي نتيجة للسابق أي: ان الذين افترقوا و اختلفوا في دين اللّه لهم عذاب عظيم جزاء لظلمهم و عدوانهم لما اوجدوا من التفرق و الاختلاف.

و انما ختم سبحانه و تعالى هذه الآية الشريفة بهذه الجملة مقابلة للآية السابقة فان النتيجة إذا كان فيها الفلاح و النجاح فلا محالة يكون في عكس ذلك الخسران و العذاب.

قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ .

تفريع على التقسيم السابق و بيان لجزاء الطائفتين المتقدمتين و يكون التقسيم من اللف و النشر المشوش المصطلح عليه في علم البديع فتكون الوجوه المفلحين مبيضة و وجوه الظالمين مسودة.

و انما ذكر عز و جل الوجوه من بين سائر الأعضاء اعلانا لرفعة شأن المفلحين في الآخرة حتى يعرفهم جميع اهل المحشر و ينظروا إليهم و تبيينا لخسة الظالمين و إذلالهم حتى يكونوا منفعلين في الآخرة كما كانوا

ص: 221

كذلك في الدنيا.

و قد خص سبحانه و تعالى من نعم الآخرة و عذابها بياض الوجه و سواده لان المفلحين لما كانوا معتصمين بحبل اللّه تعالى تلحقهم البشارات الإلهية في كل آن و كانوا مجتمعين في الاعتصام به عز و جل كانت الطلاقة و البشاشة ظاهرة في وجوههم في الدار الدنيا، فيكونون كذلك في الدار الآخرة، و اما الظالمون الذين اعرضوا عن الاعتصام بحبله، فانقطعت عنهم البشارات الربانية و وقعوا في النزاع و التباغض و الاختلاف فكانوا مخذولين قد ظهرت على وجوههم الانكسار و الانفعال في الدنيا فلحقهم مثل ذلك في الدار الآخرة، فكان الجزاء مناسبا لاعمالهم و صفاتهم.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ .

تفصيل بعد إجمال. و الجملة مركبة من الشرط و هو «فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» و الجواب فيقال لهم «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» و حذف القول و استتباع الفاء في الحذف له شايع في كلمات الفصحاء و انما الممنوع حذفها وحدها.

و عن بعض المفسرين يجوز ان يكون الجواب «فهم في عذاب اليم» كما يدل عليه قوله تعالى: «فَذُوقُوا اَلْعَذابَ» و يناسبه قوله تعالى في الآية الاخرى: «فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» و فائدة ذلك التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول و هو باب واسع في البلاغة.

و لكن يمكن ان يقال انه لا وجه لهذا الاختلاف في الأسباب التوليدية كما أثبتناه في علم الأصول سواء كان الجواب السبب أو المسبب، مع

ص: 222

ان هذا التهويل و التخويف يستفاد من لفظ العذاب المعهود الموصوف بالعظمة.

و كيف كان ففي قوله تعالى: «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» التفات لغرض التوبيخ و التقريع. و انما قدم عز و جل جزاء الظالمين لمجاورته لقوله تعالى: «تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» و توبيخا لهم و تشنيعا لفعلهم، مع انه عز و جل ابتدأ بذكر اصل الثواب و اختتم بجزاء المفلحين ليكون الابتداء و الاختتام بما يشرح الصدر و يسر الطبع، و للاعلام بأن رحمته سبقت غضبه. و حقيقة هذا الخطاب عامة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة.

و المراد بالإيمان الظاهري منه أي الذين آمنوا به كما ان المراد بالكفر ترك الاعتصام بحبل اللّه فتفرقوا و اختلفوا و بدّلوا دين اللّه تعالى و هتكوا حرماته فكفروا بأنعم اللّه و حينئذ لا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة كما قيل بل تعم جميع من آمن صورة و ترك العمل بما آمن به و كفر بأنعمه عز و جل.

قوله تعالى: فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

انما اطلق عز و جل العذاب و لم يصفه بأمر تعظيما له و تهويلا، و الأمر للاهانة، و الفاء للإيذان بان العذاب مترتب على الكفر كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» و الباء للسببية.

و انما جمع عز و جل الفعل الماضي و المستقبل للدلالة على استمرارهم على الكفر و كأنه صار طبعهم و بذلك استحقوا الجزاء الأليم و ان ذلك العذاب جزاء أعمالهم اختاروه بسوء أعمالهم.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

الرحمة عامة شاملة لجميع مواهبه تعالى و إفاضاته بالنسبة إلى عباده

ص: 223

المؤمنين دنيوية كانت تلك الرحمة أو اخروية، و كل ما يكون في الدنيا يتمثل في العقبى بصورة حسنة و كل ما هو في الجنة يكون في صورة الفلاح و النجاح فهما متحدان ذاتا، فيكون الجزاء في الطائفتين مناسبا لأفعالهم، فكل ما يصدر عنهم في الدنيا يكون لهم أو عليهم في العقبى.

قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ .

الظرف متعلق بالآيات كما يصح تعلقه بقوله «نَتْلُوها» لأن المتلو عين تلك الآيات و هي عين ما يتلوها اللّه تعالى على نبيه فلا فرق بين تعلق الظرف بالتلاوة أو بالآيات المتلوة. و هو قيد توضيحي لان كل ما يصدر عنه تبارك و تعالى حق بجميع معنى الكلمة.

و المراد بالآيات و الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما ان المراد بالحق نفس الأمر الواقعي الذي يقوم به نظام الدنيا و الآخرة فان الاحكام التي شرعها اللّه تعالى لعباده تتضمن سعادتهم الدنيوية و الاخروية بل لأجلها شرعت.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ .

بيان لمعنى الحق فان ما هو الحق واقعا لا يعقل منه الظلم لأنه انما يكون لترميم النقص و تكميله و المفروض انه محال عليه تعالى، فهو عام يشمل جميع أنحاء الظلم تشريعا و جزاء كما تدل عليه الآية الشريفة فان الظلم نكرة واقعة في سياق النفي.

و العالمين جمع محلي باللام يفيد الاستغراق يشمل كل عالم في سلسلة الزمان كما يشمل عالم البرزخ و الآخرة إلى ما لا نهاية له. و هذه الآية

ص: 224

تأكيد لقوله تعالى: «فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» فان العذاب إذا كان نتيجة الكفر لا وجه لاحتمال الظلم بالنسبة إلى العامل الذي اختار الجزاء بنفسه، فتكون جميع المساوي و الشرور التي تصيب الإنسان في العالمين - الدنيا و الآخرة - من ترك الاعتصام بحبل اللّه تعالى عملا، و من التفرق و الاختلاف كما تقدم.

بحوث المقام

بحث أدبي:

نصب «حق» في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» على النيابة عن المفعول المطلق المضاف اليه لأنه من صفاته.

و اللام في قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ» للأمر، و الجمهور على إسكانها، و قرئ بكسرها على الأصل و (تكن) إما من كان التامة، فتكون «امة» فاعلا و جملة «يدعون» صفته، و «منكم» متعلق ب (تكن) أو بمحذوف يكون صفة لأمة قدم عليها فصار حالا، و إما من كان الناقصة فتكون «امة» اسمها و (يدعون) خبرها و (و منكم) إما حال من امة أو متعلق بكان الناقصة.

و انما اتى «يدعون» مذكرا باعتبار إرادة الجماعة من الذكور من الامة و تدخل النساء تغليبا ان لم نقل باشتراك الصيغة للمذكر و المؤنث.

و نصب يوم في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» للظرفية قيل ان العامل فيه «عظيم»، و يجوز ان تعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم

ص: 225

و قيل: انه منصوب على الظرفية اي (لهم) لان فيه معنى الاستقرارية.

و قيل انه منصوب بإضمار (اذكر) على انه مفعول. و قيل انه ظرف لفلاح المفلحين و عاقبة المتفرقين.

و الحق ان يقال: ان النصب لما كان يدل على الإعلان و الإظهار و التفخيم فيكون المقدر «أعلن يوم تبيض وجوه و تسود وجوه» فتدل الآية المباركة على عظمة هذا الخطاب و تجليله و تعظيمه بحيث يجذب القلوب و تصير العقول صرعى.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول:

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» على مراعاة التقوى و المبالغة فيها في جميع الأحوال بحيث لا تشوبها غفلة فلا يتركها احد قدر المستطاع، و لذا قسم اهل العرفان التقوى على مراتب ثلاث: تقوى العوام و هي الاجتناب عن ما لا يرضاه اللّه تعالى و تقوى الخواص و هي الاجتناب عن كل مرجوح حتى المكروهات، و تقوى أخص الخواص و هي الاجتناب عما سوى اللّه تعالى في الكونين.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» على لزوم الإسلام في جميع الأزمان و عدم الانصراف عنه في وقت من الأوقات، و التمسك به حتى يقع الموت و هو على الإسلام بحيث لا تصرفه الشبهات و لا تعوقه المشكلات عن العمل باحكام الإسلام فلا يرده بعد إيمانه كافرا، فان الحشر انما يكون على ما يقع عليه الموت

ص: 226

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «كما تعيشون تموتون و كما تموتون تحشرون» فإذا مات على دين الإسلام و الالتزام به اعتقادا و عملا حشر على هذه الحالة و فاز بالسعادة و الرضوان من حين موته و من ذلك يظهر الوجه في التأكيد و الحصر الواردين في الآية الشريفة.

كما انه يمكن ان يستفاد من هذه الآية أيضا ان المعصية قد توجب الصرف عن الايمان حين الموت، فتحقق الخسران لا محالة، فلا بد من ترك المعصية مطلقا حتى لا يكون للشيطان فيه مطمع و على هذا يكون ترتب هذه الآية على قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، و اللازم على الملزوم.

الثالث:

يستفاد من قوله «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» ان الاعتصام بحبل اللّه تعالى انما هو أمر من الأمور الاجتماعية التي تؤثر في المجتمع و لا يمكن ان ينال الأثر المطلوب منه الا بعمل جميع افراد المجتمع به و عدم التفرق عنه بوجه من الوجوه، و على هذا لا بد ان يكون هذا الحبل ذا اثر اجتماعي قويم و له التأثير الكبير في المجتمع، و يكون مقبولا لديهم، و هم مأمورون بالتمسك به عملا و هو بمنزلة الروح للأمة و لولاه لما كان للافراد اثر أصلا بل كانوا كالجسم بلا روح. و الروح الاجتماعية في الإسلام إنما هي الاعتصام بحبل اللّه تعالى عملا و هذه الروح هي النعمة الحقيقة على المجتمع و مثل هذا الحبل في الإسلام هو القرآن الكريم و من انزل عليه و من شرح القرآن حق الشرح.

و من ذلك يعرف السر في تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فانه تعالى يبين بعض وجوه التفرق و الاعراض عن الاعتصام بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلام ثم ما وصل اليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه و الالتفاف حول الرسول الكريم و الاجتماع على الاخوة، كما عرفت في التفسير. فيكون الاعتصام بحبل اللّه حق الاعتصام علة تامة منحصرة لحفظ الاجتماع عن الخلاف و الاختلاف حدوثا و بقاءا، كما ان الانفصام عنه علة تامة منحصرة للنفاق و التفرق و الخلاف و السقوط في هاوية الهلاك، و العيان في كل ذلك يغني عن البيان و البرهان.

ص: 227

و من ذلك يعرف السر في تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فانه تعالى يبين بعض وجوه التفرق و الاعراض عن الاعتصام بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلام ثم ما وصل اليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه و الالتفاف حول الرسول الكريم و الاجتماع على الاخوة، كما عرفت في التفسير. فيكون الاعتصام بحبل اللّه حق الاعتصام علة تامة منحصرة لحفظ الاجتماع عن الخلاف و الاختلاف حدوثا و بقاءا، كما ان الانفصام عنه علة تامة منحصرة للنفاق و التفرق و الخلاف و السقوط في هاوية الهلاك، و العيان في كل ذلك يغني عن البيان و البرهان.

الرابع:

يستفاد من التأكيد في إتيان لفظ «جميعا» و النهي عن التفرق في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» ان جعل الداعي إلى الاجتماع و المانع عن الخلاف و الاختلاف امر حقيقي خارجي واقعي و واحد لا ان يكون اعتقاديا بان يدعي كل احد انه معتصم بحبل اللّه تعالى و لا يلزم الخلاف الباطل بضرورة العقل، فيصح ان يقال انه كل ما حصل الخلاف و الاختلاف لم يتحقق الاعتصام الحقيقي بحبل اللّه فيرجع محصل معنى الآية: ان اجعلوا انفسكم من مظاهر الاعتصام باللّه. و لعل من احد اسرار هذا التأكيد على الاجتماع و النهي عن الاختلاف هو ما كان يعلمه اللّه تعالى من مستقبل هذه الأمة من وقوع الاختلاف فيها و انها تختلف كما اختلف غيرهم من اليهود و النصارى و هذا هو دأب القرآن الكريم انه إذا بالغ في التحذير عن شيء انما يريد التنبيه على ترتب وقوعه، و هو من ملاحم القرآن الكريم.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» على وجوب النظر في الادلة و الآيات و التفكر الصحيح المنتج فان في ذلك الهداية للإنسان.

ص: 228

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ» اهمية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقد أمر عز و جل الأمة إلى تحمل هذه المسؤولية أولا، لان المقام يحتاج إلى التعاون و التعاضد فلا يمكن ترك المتصدي وحده كما مر في التفسير، ثم امر طائفة خاصة منها إلى التصدي لهما لأنه يشترط فيهما العلم و القدرة و من المعلوم عدم تحقق جميع الشروط في كل فرد ثم ثبوت الجزاء الجزيل على ذلك و تشديد النكير على تركه.

و أخيرا ان هذا التكليف من اسباب التكميل و التهذيب و الصلاح و الإصلاح و ترويض النفس و تزيينها بالفضائل و الكمالات و سعادة الفرد و المجتمع و تحسين نظام الاجتماع و المدنية، و لذا كان التكليف جاريا على احسن نهج و ما هو الأوفق بالحكمة، فهو من أعظم صفات اللّه تعالى أوكلها إلى أنبيائه و رسله و يدل على ذلك جملة من الأحاديث فقد ورد عن الامام محمد الباقر (عليه السلام) في حديث: «إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن من المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر - الحديث».

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ» مراتب هذه الدعوة فإنها تبتني على كونها باعثة على الانقياد و داعية إلى الزجر و رادعة عن المنكر من القول و الفعل و سائر الأمور المحصلة لهذا الغرض و ان كان في بعض المراتب يتوقف على اذن ولي الأمر، فان عموم الدعوة يشمل جميع هذه المراتب القولية و العملية و غيرهما.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» ان الدار الآخرة و ما فيها من النعيم و الجحيم بمنزلة المرآة للدار الدنيا (أو كالصورة) فكل ما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا.

ص: 229

يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» ان الدار الآخرة و ما فيها من النعيم و الجحيم بمنزلة المرآة للدار الدنيا (أو كالصورة) فكل ما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا.

كما تدل الآية الشريفة على سنخية الثواب و العقاب مع العمل، و يصح ان يراد باليوم في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» طبيعة اليوم المنطبقة على يوم الآخرة و ايام الدنيا، فان المفلحين مبيضة وجوههم في هذا العالم قبل يوم الآخرة: و الظالمون عكس ذلك، و يكون البياض كناية عن الراحة النفسية و استقرار الضمير و اعتماد الناس عليه و في الآيات الكريمة و السنة المقدسة شواهد كثيرة يأتي في المحل المناسب شرح ذلك ان شاء اللّه تعالى.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» ان ترك التكاليف الإلهية يوجب اختلال النظام و سوء الحال في كل عالم، فيكون كل ظلم يرد على الإنسان انما يرد من ناحيته، و اما التكاليف فقد وضعها اللّه تعالى على عباده لسعادتهم و تحسين نظامهم و صلاحهم و إصلاحهم و حسن معيشتهم و رفع الظلم من بين افراد الناس.

بحث فقهي
اشارة

جعل الاحكام مطلقا شرعية كانت أم غيرها على اقسام:

الاول:

ما إذا تعلق الحكم بالطبيعة من حيث الإفراد الانبساطية، و يلزمه محبوبية الاجتماع فيه، بل قد يتعلق الأمر الندبي بها مستقلة كالصلاة فرادى و جماعة و غيرها من العبادات التي يكون الاجتماع فيها مطلوبا و مرغوبا فيه.

ص: 230

الثاني:

ان يكون الاجتماع فيه مطلوبا مستقلا، فتسرى المطلوبية فيه إلى كل فرد أيضا، و يكون ذلك مطلوبا لا ان يكون هدرا و باطلا و الاعتصام بحبل اللّه تبارك و تعالى من هذا القبيل فيتعلق التكليف بالجميع كما تعلق بالإفراد مستقلا أيضا، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كذلك.

الثالث:

ان يتعلق التكليف بالجميع و لكن ليس من قدرة كل أحد امتثال هذا التكليف بنفسه من نفسه، كالتكليف بحمل حجر ثقيل لا يقدر على حمله إلا جماعة، و لا وجه حينئذ لتعلق التكليف بكل فرد مستقلا، بل هو ثابت للجميع و ليس الاعتصام بحبل اللّه تعالى من هذا القبيل، و هناك اقسام اخرى لعلنا نتعرض لها في المقامات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.

ثم إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لهما شروط و آداب كثيرة مذكورة في كتب الفقه و قد تعرضنا لها في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من (مهذب الاحكام).

و يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» اصل الوجوب و انه كفائي كما ذكرنا مضافا إلى علم الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر و معرفته بوجوبهما لان الخير معروف لدى كل احد و ان المعروف هو كل الخير كما عرفت.

بحث روائي

في المعاني و المحاسن و تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «سألت

ص: 231

أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر».

أقول: ورد مثله في الدر المنثور عن ابن مسعود عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و ما ورد عن الصادق (عليه السلام) بعض مراتب التقوى التي ذكرها (عليه السلام) و هي تكفي في التلبس بالتقوى و ترتب اثار التقوى في الدنيا و العقبى.

و في تفسير العياشي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» قال (عليه السلام) منسوخة يقول اللّه «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» .

أقول: روي في المجمع و في تفسير القمي أيضا و المراد من المنسوخ هنا المرتبة الاخيرة من التقوى المسماة في علم الأخلاق بتقوى أخص الخواص. و المراد بالنسخ هنا عدم وجوب مراعاتها دفعا للعسر و الحرج و تسهيلا على الامة و اما لو رعاها احد مع مراعات القواعد الشرعية فلا محذور فيها.

و في الدر المنثور اخرج الخطيب عن أنس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا يتقي اللّه عبد حق تقاته حتى يعلم ان ما اصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه».

أقول: فيكون المراد من قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» استناد جميع الأمور اليه تبارك و تعالى و جعله مسبب الأسباب في كل سبب اي الاعتقاد بقوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» النساء - 78 و هذه عبارة اخرى عن الذكر المعروف المأثور «لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم».

و بعبارة اخرى: ان قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» جامع

ص: 232

للتوحيد الذاتي و توحيد المعبود و التوحيد الفعلي و هذه احسن كلمة جامعة للمعارف القرآنية.

و في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال: «سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: و اللّه ما عمل بها غير بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نحن ذكرناه فلا ننساه، و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن اطعناه فلم نعصه فلما نزلت هذه الآية قالت الصحابة لا نطيق ذلك فانزل اللّه: فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ قال وكيع ما أطقتم - الحديث -».

أقول: يبين (عليه السلام) أولا ان المراد بالآية حقيقة الشكر و حقيقة الطاعة بجميع مراتبها و هذا هو الذي يعبر عنه في اصطلاح العرفاء و علم الأخلاق ب تقوى أخص الخواص و ذيل الرواية يبين تقوى العامة.

العياشي عن الحسين بن خالد قال: «أبو الحسن الاول (عليه السلام) كيف تقرأ هذه الآية: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ماذا؟ قلت: مسلمون فقال سبحان اللّه يوقع عليهم الايمان فيسميهم مؤمنين، ثم يسألهم الإسلام. و الايمان فوق الإسلام. قلت: هكذا يقرأ؟ في قراءة زيد قال (ع): انما هي قراءة على التنزيل».

أقول: صدر الآية الشريفة تبين ان الايمان أخص من الإسلام و لا معنى لبيان الأعم بعد ذكر الأخص و لكن ذيل الرواية كما نسب ذلك إلى قراءة علي (عليه السلام) المراد من الايمان هو الإسلام كما كان ذلك شايعا في صدر الإسلام من ان المراد من الايمان الإسلام كسائر الآيات

ص: 233

المشتملة على قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» .

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «و أنتم مسلّمون بالتشديد».

أقول: المراد بالتسليم اعتقادا و قولا و عملا في كل ما يرتضيه اللّه تبارك و تعالى و هذا ليس الا تقوى اللّه حق تقاته.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً» اخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض».

أقول: لا ريب في صحته كما لا ريب في صحة ما ورد عنه (صلى اللّه عليه و آله) متواترا انه كتاب اللّه و عترته لفرض ان عترته شارحة لكتاب اللّه فلا ينافيه من هذه الجهة.

و فيه أيضا اخرج ابن أبي شريح الخزاعي قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ان هذا القرآن سبب، طرفه بيد اللّه، و طرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تزالوا و لن تضلوا بعده ابدا».

أقول: و هو معنى الاعتصام بحبل اللّه. و حبل اللّه الممدود و نحو ذلك من التعبيرات اي الممدود إليكم لتأخذوا به.

و في معاني الاخبار عن السجاد (عليه السلام): «حبل اللّه هو القرآن، و القرآن يهدي إلى الامام».

أقول: كما ان الامام (عليه السلام) يهدي إلى القران فهما في الهداية اليه تبارك و تعالى سواء.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً» قال التوحيد و الولاية» أقول: هما على نحو المتن و الشرح.

ص: 234

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

«آل محمد هم حبل اللّه الذين أمرنا بالاعتصام به فقال: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ».

أقول: لأنهم لا ينطقون إلا عن القرآن و لا يبينون شيئا إلا منه.

و في الدر المنثور عن زيد بن أرقم قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): اني لكم فرط و انكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟ قيل و ما الثقلان يا رسول اللّه؟ قال (ص):

الأكبر كتاب اللّه عز و جل سبب طرفه بيد اللّه و طرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا و لن تضلوا و الأصغر عترتي، و انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، و سألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا و لا تعلموهما فإنهما أعلم منكم».

أقول: هذا الحديث الشريف يبين جميع ما ورد في اخبار الثقلين و في التمسك بحبل اللّه تعالى فليس لأحد ان يتمسك بتلك الاخبار إلا بعد عرضها على هذا الحديث لفرض انه في مقام البيان و الشرح و التعليل.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ان اللّه تبارك و تعالى علم انهم سيفترقون بعد نبيهم و يختلفون فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم فأمرهم ان يجتمعوا - الحديث -».

أقول: قريب منه روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله).

و في الدر المنثور عن انس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) افترقت بنوا إسرائيل على إحدى و سبعين فرقة، و ان امتي ستفترق على اثنتين و سبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قالوا

ص: 235

يا رسول اللّه و من هذه الواحدة؟ قال الجماعة ثم قال و اعتصموا بحبل اللّه جميعا».

أقول: المراد بالجماعة: الجماعة التي تمسكوا بالقرآن و بالعترة كما في الحديث السابق آنفا الشارح لمثل هذا الحديث.

و في الدر المنثور أيضا اخرج أبو داود، و الترمذي، و ابن ماجة و الحاكم في صحيحه عن أبى هريرة قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): افترقت اليهود على احدى و سبعين فرقة و تفرقت النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و تفترق امتي على ثلاث و سبعين فرقة».

أقول: في مضمون ذلك روايات كثيرة متواترة روتها الشيعة و الجمهور.

و في الخصال عن سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول: إن امة موسى افترقت على احدى و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و سبعون في النار و افترقت امة عيسى بعده على اثنتين و سبعين فرقة. فرقة منها ناجية، و احدى و سبعين في النار و ان امتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و اثنتان و سبعون في النار».

أقول: لا بد من عرض أمثال هذه الروايات على الحديث المتقدم الشارح لها المنقول عنه (صلى اللّه عليه و آله).

و في جامع الأصول عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص قال:

«قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يأتي على امتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح امه علانية كان في امتي مثله ان بني إسرائيل افترقوا على احدى و سبعين ملة

ص: 236

و تفترق امتي على ثلاث و سبعين ملة كلها في النار الا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم و أصحابي».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور و المراد من الأصحاب هم الملتزمون بالقرآن و العترة لئلا يقع التنافي بينه و بين ما دل على انهما المناط في الرشاد و عدم الضلال كما دلت عليه جملة كثيرة من الروايات.

و في كمال الدين باسناده عن غياث بن ابراهيم عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كل ما كان في الأمم السابقة فانه يكون في هذه الامة مثله حذوا النعل بالنعل و القذة بالقذة».

أقول: المراد بالقذة تقدير كل واحدة من الأمتين على قدر صاحبتها و تقطع و قال ابن الأثير: «يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان» و ذكر الحديث: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذوا القذّة بالقذة».

و في الكافي عن أبى عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بمحمد» هكذا و اللّه نزل جبرئيل على محمد صلى اللّه عليه و آله».

أقول: و في تفسير العياشي مثله الا من دون «و اللّه نزل بها جبرئيل على محمد» و هذا تنزيل لمعنى القرآن لا ان يكون تحريف في البين كما يتوهم. أو يحمل على بعض مراتب اصل النزول فلا تنافي بينه و بين نزول اصل الآية الشريفة كما في المصاحف، فان مراده تبارك و تعالى قد يظهر بصورة الوحي ثم توحي الآية بصورة اخرى مع معلومية اصل المراد و تحققه.

و في تفسير القمي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله): «لتركبن

ص: 237

سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، و القذة بالقذة لا تخطون طريقهم و لا يخطى شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى ان لو كان من قبلكم دخل حجر ضب لدخلتموه قالوا اليهود و النصارى تعني يا رسول اللّه؟ قال فمن اعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة».

أقول: بعد وجود الشيطان في الامة المرحومة و عدم منعه عن التدخل فيها فيعلّمهم الشيطان تلك الطرق المنتهية إلى الفساد المستلزمة للبعد عن تقوى اللّه تعالى التي أفسد بها الأمم السابقة و قد جرب تلك الطرق في الأمم السابقة و استنتج منها نتائج هامة فلا يعقل ان يخلى هذه الامة لنفسها و عن أعوانه باغواء هذه الامة بتلك الطرق.

و المراد بالأمانة: التكاليف الواقعية اصولا و فروعا و المراد بالصلاة ذهاب صورتها من بين المسلمين أيضا و في جملة من الأحاديث انه لا تقوم الساعة إلا على شرار خلق اللّه تبارك و تعالى و من ذلك يستفاد ان الصلاة بمنزلة العمود للدين فما دامت هي بين المسلمين بحدودها و قيودها يحتفظ بها نظامهم و يتوحد بها كلامهم.

و في صحيح الترمذي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه قال:

«و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى إن كان فيهم من اتى امه يكون فيكم فلا ادري أ تعبدون العجل أم لا؟».

أقول: تقدمت الروايات الدالة على ذلك، و السر في الاختلاف يرجع إلى اختلاف الآراء و الأهواء و هو ذاتي بعد عدم التزامهم بالشريعة الواقعية و تشرعهم بغير الواقع.

و في الصحيحين عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال:

ص: 238

«ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني فلأقولن: اي رب اصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

أقول: هذا حديث صحيح يشهد له الوجدان و الاعتبار.

و في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من اصحابي - أو قال من امتي - فيحلئون عن الحوض فأقول «يا رب اصحابي فيقول:

لا علم لك بما أحدثوا بعدك ارتدوا على أعقابهم القهقري فيحلئون».

أقول المراد من (يحلأون) اي يصدون عنه و يمنعون من وروده و مضمون هذا الحديث متواتر بين المسلمين مضافا الى الوجدان الخارجي كما دلت عليه الآية الشريفة: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ» آل عمران - 144.

و في الدر المنثور اخرج الحاكم و صححه عن ابن عمر: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه و من مات و ليس عليه إمام جماعة فان موتته ميتة جاهلية».

أقول: المراد من امام الجماعة امام زمانه كما وقع بهذا التعبير في جملة من الروايات.

و في المجمع في قوله تعالى: «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «هم اهل البدع و الأهواء و الآراء الباطلة من هذه الامة».

أقول: في سياق ذلك روايات كثيرة.

ص: 239

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَ.......

اشارة

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112) الآيات الشريفة مرتبطة بالآيات السابقة فإنها اختتمت بأن اللّه تعالى لا يريد أن يوقع بالعالمين ظلما.

و في الآية الاولى من هذه الآيات يبين سبحانه العلة لذلك من انه غنى عن ظلمهم لأنه يملك ما في السموات و ما في الأرض و اليه مصير الأمور و انما يريد جلت عظمته ان يحق الحق و يجرى العدل و ينال كل انسان جزاء ما احسن أو أساء فيترتب الجزاء على العمل و يعيش الإنسان بالحق و ينتهي الى الحق فقد جمع اللّه فيها بين المبدأ و المعاد.

و اما الآية الثانية منها فتبين قدر هذه الامة في هذه الأرض و بم استحقت هذه المنزلة و نالت هذه الكبرياء و العظمة؟! لم تكن محاباة

ص: 240

و لا مجازفة بل لأنها اعتصمت بحبل اللّه تعالى، فالآية الشريفة توصف المعتصمين به الداعين للخير بوصف شريف رفيع و تبين قدرهم و فضلهم على من سواهم.

كما ان الآيات الاخيرة تكشف عن هوان و تصغير اهل الكتاب بل و غيرهم من الكفار بأنهم لا يملكون ما يضروكم و انما هم في ذلة و كتبت عليهم المسكنة، تعيش في ضمائرهم و تمزق مشاعرهم لأنهم كفروا بآيات اللّه و تمردوا بقتل الأنبياء و الاعتداء على الحق و الحقيقة.

التفسير

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

اي: له وحده جميع ما في السموات و الأرض من جميع الجهات خلقا و تصرفا و تدبيرا و إيجادا و إفناء لأنه إله العالم و مدبره و خالقه و ما سواه محتاج اليه في جميع شؤونه.

و انما ذكر اسم الجلالة لبيان وجه مالكيته و رجوع سائر الخلق اليه، لأنه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، و لما في الألوهية من السلطة التامة على جميع الممكنات.

و المراد بالملكية فيه عز و جل هي الملكية الحقيقية الايجادية و الابقائية و الإفنائية و التربوية التامة الابدية لا الملكية الاضافية الاعتبارية، فإنها من الاعتباريات التي لا تليق به تبارك و تعالى كما ذكرنا في هذا التفسير مكررا.

ص: 241

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ .

بيان للمعاد بعد ذكر المبدء لان من كان موجودا لما سواه لا بد ان يصير ما سواه اليه أيضا لما هو ثابت في الفلسفة الإلهية من التلازم بين المبدء و المعاد فليس لغيره من الأمر شيء، فلا محالة ترجع الأمور اليه عز و جل، فهو واحد في الإيجاد و الإرجاع و المعاد.

و انما ذكر عز و جل ذلك في المقام لبيان التلازم بين المبدء و المعاد و الإظهار في مقام الإضمار لبيان الدليل لإقامة المعاد و رجوع الأمر اليه كما استدل بذلك على إيجاد الممكنات، و لإظهار المهابة و منتهى العظمة و غاية الكبرياء، فإذا كان اللّه تعالى مالكا لسائر خلقه و مصيرهم اليه و هو يجازي كلا بما تقتضيه حكمته و عدله حسب عمله، فلا يتصور وجه للظلم فيه تعالى.

قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ .

إخبار عن حقيقة الواقع على ما هو عليه، و هو غير محدود بأي حد من الحدود الزمانية و المكانية كما هو شأن الحقائق الواقعية يكفي في صدقها صرف الوجود و قد تحقق ذلك عند ما كان المسلمون متصفين بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و داعين إلى الخير فقد كانت لهم السلطة الروحية و الظاهرية و التفوق على غيرهم من الأمم و صدرت منهم العجائب. و سيستعيدون سلطتهم و عظمتهم و روحانيتهم و تفوقهم إذا ظهر العدل الحقيقي في الإسلام و اتفقت كلمة المسلمين على التوحيد و اجتمعت الامة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و شاعت الرحمة بينهم.

ص: 242

و المراد بالخروج هو الظهور بحسب مراتبه التدريجية الواقعية كخروج الأوراد من أكمامها و النباتات عن منبتها قال تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجانُ» الرحمن - 22.

وجهة الخيرية معلومة و هي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و التخلق بأكرم اخلاق اللّه تعالى، فيصير حقيقة المعنى: كنتم خير امة ظهرت للناس لأنكم متخلقون بأعظم اخلاق اللّه تعالى و لا ريب في ان الصفة تعليلية يعني: انكم ما دمتم على تلك الصفة تتصفون بالخيرية و تنسلخ عنكم إذا زالت الصفة كما هو شأن كل وصف تعليلي فتكون هذه الجملة من قبيل القضايا العقلية المشتملة على العلة و المعلول المطابقة لفطرة العقول، يؤتى بها لزيادة التحريض على الانقياد و الطواعية و لبيان شدة الاهتمام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و تدل الآية الشريفة على مدح المؤمنين بالصفات الواردة فيها و تفوقهم على سائر الناس، و قد تشرفت الامة بهذه الطائفة المعينة المتصفة بحقيقة الايمان و بأكرم صفات الباري عز و جل.

و من ذلك يعرف ان (كان) ناقصة تدل على تحقق الشروط، لا ما يقال: من انها تدل على تحقق مضمونها في الزمان الماضي و انقضى و انقطع، على ما ذكر جمع كثير من ان الآية الشريفة نزلت في الذين هاجروا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة، و اخرج بعضهم عن عمرانه قال: «أولنا و لا تكون لآخرنا فلو شاء اللّه لقال أنتم فكنا كلنا و لكن قال: كنتم في خاصة اصحاب محمد (صلى اللّه عليه و آله) و من صنع مثل صنيعهم كانوا خير امة أخرجت للناس».

و لكن حق القول أن (كان) و ان كانت ناقصة و غير منسلخة عن الزمان، و لكنها لا تدل على ما ذكروه فانه لو كان الأمر كذلك

ص: 243

لكانت الآية الشريفة واردة في ذم الصحابة لا في مدحهم لأنها تدل على انهم كانوا متصفين في وقت النزول بالمضمون و لكنهم انسلخوا عنه في وقت آخر. و هذا بعيد عن سياق الآية الشريفة، و لأجل هذا قال بعضهم ان (كان) في المقام منسلخة عن الزمان و قد استعملت للأزلية قياسا على قوله تعالى «وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» النساء - 148 و أشباهه فإنها تستعمل على اللزوم من دون انقطاع و انقضاء.

و لكن ذلك مردود أيضا فان كان كذلك بالنسبة إلى صفات الباري لان صفاته سبحانه و تعالى ازلية ابدية لا يعقل المضي و الانقطاع فيها و لكن ذلك لا يوجب صرفها عن وضعها في المقام كما هو معلوم.

و قيل: ان (كان) تامة - كقوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» البقرة - 280 - مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين نظير قوله تعالى: «كُنْ فَيَكُونُ» * البقرة - 117، و خير امة حال من الضمير، و جملة أخرجت صفة للامة بمعنى أخرجت من العدم إلى الوجود.

و لكن كل ذلك تطويل بلا طائل بعد ظهور السياق في مدح من اتصف بهذه الصفة سواء كان في عصر النزول أو بعد ذلك و قد تشرفت الامة بهذه الطائفة المؤمنة، و قد أثبتنا في الأصول ان القضايا الحقيقية الواقعية تنطبق على موضوعاتها قهرا أينما تحققت و وجدت في الماضي و الحال و المستقبل. فلا وجه للنزاع في ان (كان) تامة أو ناقصة أو منسلخة عن الزمان أو غير منسلخة بعد ان كانت الآية من قبيل القضايا الحقيقية و هكذا في سائر القضايا القرآنية.

ص: 244

قوله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

بيان لسبب الصلاح و الخيرية للمجتمع بل الحياة السعيدة كما تقدم فان بهما يتحقق صلاح المجتمع و الامة و تبعّد الشر عنهما فالامر بالمعروف و النهي عن المنكر بكل ما فيهما من المتاعب و المشاق ضروريان لإصلاح المجتمع و كل ما ازداد، و انتشر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر اتصفت الامة بالعظمة و الخيرية و كل ما ضعفا انهارت الامة في كيانها.

قوله تعالى: وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .

اي: تؤمنون باللّه تعالى حق الايمان، و انما قدم عز و جل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على الايمان باللّه تعالى و ان كان الأخير مشتملا عليهما و أصلا لهما، لبيان اهميتهما و ان الإخلال بشيء منهما إخلال بالإيمان، و لان الايمان يمكن ان يدعيه كل احد الا إذا اقترن القول بالفعل. فالامر بالمعروف و النهي عن المنكر لهما الدلالة على صدق الدعوى فهما اظهر في الخيرية من مجرد ادعاء الايمان، فيكونان كالمقتضي لتحقق الايمان و ثبوته و صدقه. و لان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا بد ان يكونا عن علم بموردهما و عمل لهما فقد جمعا بين الاعتقاد و العمل.

و من سياق الآية الشريفة يستفاد ان مجرد الايمان لم يكن كافيا في الاتصاف بالخيرية و الفضل العظيم بل لا بد من تحقق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فتختص هذه الفضيلة بطائفة خاصة و ليس كل واحد من المؤمنين داخلا فيها فالخطاب يكون لجماعة مخصوصين ملازمين للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر متلبسين بحقيقة الايمان

ص: 245

قوله تعالى: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ .

اي: و لو كان اهل الكتاب على ما وصف به المؤمنون و استعصموا بالإيمان باللّه العظيم حقيقة و واقعا لفازوا بالسعادة في الدنيا و الآخرة و دفع عنهم العذاب.

قوله تعالى: مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ .

اي: لكنهم مختلفون فمنهم أمة مؤمنة و اخرى فاسقة خارجة عن طاعة اللّه تعالى فكان هذا الاختلاف سببا في بعدهم عن حقيقة الايمان فلم يجتمعوا على الاعتصام بحبل اللّه تعالى بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) و اجتمعوا على الاعتصام بحبله تعالى و اتفقوا على طاعة اللّه عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ففازوا بسعادة الدارين و على هذا يمكن ان يكون الايمان و الكفر في الآية الشريفة هما الايمان و الكفر الجهتيان اي الاجتماع على الاعتصام باللّه و التمسك بحبله و الاتفاق على طاعته و الكفر خلاف تلك.

قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً .

الأذى: ما يعرض الإنسان من مكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته و المراد به في المقام إما في القول كالكذب و البهتان، و قبيح الكلام أو في الفعل كالتهييج و التجمع للحرب و القتال أو ما يجرح قلوب المؤمنين بإظهار الكفر و المجاهرة بالضلال و إفساد القلوب الضعيفة و قد يستلزم الضرر اليسير فيكون الاستثناء متصلا.

و قيل: ان الاستثناء منقطع باعتبار خروج الأذى عن مفهوم الضرر و لكنه بعيد لان الضرر مطلق النقص فيشمل الجميع.

ص: 246

و المعنى: ان اهل الكتاب لا يمكنهم إيقاع الضرر بكم الا ما يوجب أذيتكم فإنهم مع اختلافهم المزبور و فسقهم لا يجتمعون على امر فيه الضرر عليكم و لا يقدرون على قتالكم و الغلبة عليكم.

قوله تعالى: وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ .

تولى الأدبار: كناية عن الانهزام و هو معروف و الآية في مقام بيان الضرر الذي تقدم ذكره اي: و ان اجتمعوا على إيقاع الضرر بكم بالقتال معكم فإنهم ينهزمون من غير ان يظفروا منكم بشيء.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ .

جملة اخبارية مستقبلة و وعد آخر منه عز و جل بأنهم لا ينصرون عليكم، لأنه لا ينصرهم احد عليكم. و يمكن ان تكون الجملة تتمة للسابق اي مع انهزامهم لا ينصرهم احد فتكون عاقبتهم العجز و الخذلان.

و كيف كان ففي الآية الشريفة ثلاث بشارات للرسول الكريم و المؤمنين، و قد تحققت مصاديقها على احسن وجه و أكمله و تستمر ذلك أيضا او اتفق المسلمون على العمل بما نزل من القرآن الكريم و ما جاء به الرسول العظيم، و نبذوا الاختلاف و التفرق كما أمرنا به.

قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا .

الذلة (بالكسر) ذل خاص قرين الاهانة ضد العز الذي هو بمعنى الامتناع فيكون الذل بالمعنى العام هو الانكسار و الضعف و من أسمائه تعالى «المذل» اي هو الذي يلحق الذال بمن يشاء من خلقه، و ينفى عنه جميع انواع العز كما ان من أسمائه عز و جل «المعز» و «العزيز».

و هما اي الانكسار و الضعف تارة يكونان عن قهر فهو ذل (بالضم)

ص: 247

و اخرى: عن تصعب و شماس فهو الذل (بالكسر) و هي من صيغ الهيئة.

و ضرب الذلة عليهم كناية عن ملازمتها لهم و ظهور أثرها فيهم فلا خلاص لهم منها كضرب السكة على الفلز.

و ثقفوا بمعنى وجدوا و أدركوا الظفر بهم. و المعنى: ان الذلة قد تمكنت في نفوسهم بحيث يظهر اثرها فيهم عند الملاقاة و الظفر فيهم فانه لا منعة لهم بسببها.

قوله تعالى: إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ .

استثناء مفرغ، و الحبل هو السبب الذي يوجب التمسك به العصمة و الامتناع و يطلق على العهود، و الذمام و الرعاية توسعا، و حبل اللّه هو الالتجاء اليه عز و جل بالإيمان به و الإخلاص له، و حبل الناس هو الدخول في ذمامهم و عهودهم و حمايتهم.

و المعنى: انهم لن يسلموا من الذلة إلا إذا آمنوا و دخلوا في عهد اللّه تعالى و انقطعوا اليه بإخلاص أو دخلوا في عهود الناس و ذمامهم فإنهم يسلمون من القتل و الأسر و ذل التباغض و نحو ذلك.

و إنما كرر سبحانه و تعالى لفظ الحبل لاختلاف المعنى فانه من اللّه هو الحكم و القضاء تكوينا أو تشريعا و من الناس العمل و البناء.

و المراد بضرب الذلة الأعم من التشريعي الذي هو القتال معهم و أخذ الجزية منهم و التكويني الذي جعله اللّه تعالى عليهم بسبب الجحود بآيات اللّه تعالى و قد أثبته التاريخ في العهود الماضية، و لا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة منهم بل تشمل اليهود و النصارى و كل من جحد الحق.

ص: 248

قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ .

اي: رجعوا من رحمة اللّه تعالى و هم متلبسون بغضبه عز و جل.

قوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ .

المسكنة شدة الفقر، و المراد بها الفقر الذاتي الذي لا خلاص لهم عنه و هو أشد أنحاء الفقر و الحال السيئة.

و المعنى: ان إصرارهم على الجحود أوجب اتصافهم بانحاء الرذائل المعنوية و الظاهرية.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

تعليل لاتصافهم بالرذائل و قد ذكر عز و جل بعض الإفراد و هو الكفر بآيات اللّه تعالى و قتل الأنبياء بغير حق. ثم أجمله عز و جل بعد ذلك بوجه كلي.

و انما كان قتل الأنبياء من أسلافهم و لكن نسب إلى الأخلاف باعتبار رضائهم بفعل الآباء كما انه وصف قتل الأنبياء بغير حق تشديدا لهذه الجريمة النكراء لبيان أن قتل كل نبي انما يكون بغير حق فيكون القيد توضيحيا اعلاما لأهمية الجريمة و تشديد النكير فيها.

قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ .

تعليل لاتصافهم بالرذائل المعنوية و الظاهرية و ظاهر التعليل شموله لكل من اتصف به و لو لم يكن منهم فلا وجه لما في بعض التفاسير من التخصيص بطائفة خاصة منهم فان المناط عموم التعليل اي إصرارهم

ص: 249

على الاعتداء الذي أوجب العصيان و الكفر بآيات اللّه فيكون العصيان منهم مستمرا بسبب استمرار الاعتداء منهم.

بحث دلالي

قد اشتهر في العلوم العقلية ان الجزئي لا يكون كاسبا و لا مكتسبا و ذلك لان العلم مطلقا انما يتعلق بالكليات و القواعد العامة و اما الجزئيات و الإفراد فهي تابعة لها و هذا هو المراد من قول الفلاسفة الإلهيين و الطبيعيين ان نتائج الأفكار مطلقا ليست الا الكليات هذا في العلم المستفاد من الحواس الجسمانية.

و اما ما يوحى من اللّه سبحانه و تعالى على أنبيائه أو ما يقوله نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فإنها كلها ليست إلا قواعد كلية عقلية فطرية فان الجزئيات لا يمكن ان تكون مورد نظر الفلاسفة المتألهين فضلا عن المبدء القيوم و نبيه الأعظم الذي يفتخر على سائر الأنبياء بقوله (صلى اللّه عليه و آله): «أوتيت جوامع الكلم» فالقرآن الكريم و السنة المقدسة كلاهما حقايق كلية و كليات واقعية تظهر للعقول آثارها و تنشر في العالم أخبارها، و يستفاد من كل آية قواعد و اصول كثيرة، و لذا اتفق الجميع على ان المورد لا يكون مخصصا و مقيدا.

و من ذلك يعرف ان ما ورد في الآية الشريفة حقيقة من الحقائق لا تختص بعصر دون آخر و لا بطائفة معينة من المؤمنين فكل ما تحققت فيه الشروط كان داخلا في مضمون الآية الشريفة و ثبتت له الخيرية و التفضيل على سائر الناس، فلا وجه للنزاع في ان (كان) في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ» ناقصة أم تامة منسلخة عن

ص: 250

الزمان أم لا و ان كان ظاهر السياق بحسب العلوم الادبية يقتضي ان تكون (كان) ناقصة لكن حقيقة الواقع على ما هو عليه لا تتغير بالجهات الادبية، فالآية المباركة في مقام الإخبار عن أمة مؤمنة وفت بما التزمت للّه تعالى و ثبتت على إيمانها ففازت بالسعادة و الخيرية و الفضل على سائر الناس، و لا ينافي ذلك ان يقال: انهم كانوا في علم اللّه كذلك.

ثم انه يدل قوله تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» على ان السبب في نفي الخيرية عنهم انهم اختلفوا و لم يجتمعوا على الايمان و الثبات عليه، فكان هذا الذيل راجعا إلى صدر الآيات التي أمرنا فيها بالاعتصام بحبل اللّه و الاجتماع، فيرجع الذيل إلى الصدر، و هذا من بدائع الأسلوب كما فيه التأكيد على اهمية الاجتماع و نبذ الافتراق.

و السر في التعبير بالبناء للمجهول في «أخرجت» كون الناس في طريق الاستكمال تكوينا و ان الحركة في سير الاستكمال، فتصير هذه الامة خير الأمم لا محالة ان طبقت على نفسها مبادئ دينها و ذلك لا يتحقق إلا بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما تقدم.

و انما عبّر سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة بالمجهول «أخرجت» و في قوله تعالى: «اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ» البقرة - 227 بالمعلوم، و أضاف الفعل إلى نفسه الأقدس، لان تأسيس الاهتداء إلى الصراط المستقيم و جعل هذا القانون القويم يختص باللّه تعالى و لذا أضاف ذلك إلى نفسه الأقدس قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اَللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - الحجرات - 17. و اما بعد البيان و إتمام الحجة فتصبح النفوس مستعدة لنور الفيض عليها و قبولها للكمالات

ص: 251

اعتقادا و عملا و لذا أتى بالفعل مجهولا «أخرجت» مدحا لهم.

فالآيتان المباركتان تبيّنان السبب الفاعلي و المادة القابلة اي النفوس المستعدة.

و التعبير ب (الأذى) في قوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً» للاشعار بان الضرر لا يكون عميقا و لا أصيلا بحيث يتناول أمس الدعوة و انما هو مجرد عرض يزول و ان النصر ليس من نصيبهم فالآية الشريفة تعد من ملاحم الآيات في القرآن الكريم و هي تدل على ان المسلمين لو داوموا على ما كانوا عليه في بدء الدعوة من الاتحاد و الوحدة بينهم تاركين الخلاف و الاختلاف لكانت لهم الكلمة العليا و السيطرة و الاستيلاء على الأعداء و الكفار و لن يقدر احد ان يضرهم، و لكنهم اختلفوا و تفرقوا و كان فعلهم هذا بمنزلة إعطاء السلاح بيد عدوهم فصار يقاتلهم بسلاح أنفسهم فلا يلوموا في ذلك إلا أنفسهم و في مثل ذلك لا ينفع الدعاء و لا الاستغاثة باللّه العظيم كما تقدم في مباحث الدعاء.

كما يستفاد من الآية الشريفة ان الذلة عليهم كانت مستمرة ما داموا مستحقين لها لسوء أعمالهم إلا ان يعتصموا بحبل اللّه أو يعتصموا بذمة المسلمين.

و انما جمع بين ضرب الذلة و ضرب المسكنة على هؤلاء، فان الاولى انما هي حالة خاصة تعتري الشخص الذليل من ناحية الغير إما لانكسار الشوكة و انحلال الجامعة أو لسلب الحق و نحو ذلك. و المسكنة هي حالة تعتري الشخص من ناحية نفسه منشؤها استصغار الشخص نفسه عند الغير كتوارد حالات الذلة و الفقر عليه.

و تعدد كلمة «ضربت» في الآية الشريفة لأجل تعدد متعلقها.

كما ان تعدد اسم الإشارة «ذلك» انما هو لتعظيم الأمر و التفخيم و لتعدد السبب و التأكيد و إتمام الاحتجاج.

ص: 252

بحث روائي

في تفسير العياشي عن عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» قال: «يعني الامة التي أوجبت لها دعوة ابراهيم (عليه السلام) فهم الأمة التي بعث اللّه فيها و منها و إليها، و هم الامة الوسطى و هم خير امة أخرجت للناس».

أقول: يستفاد من هذا الحديث ان الامة التي ورد مدحها في مواضع من القرآن الكريم واحدة و هي التي تتصف بفعل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هي محصورة في افراد معدودين كما عرفت في التفسير.

في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال نزلت:

«كنتم خير أئمة أخرجت للناس».

أقول: قريب منه في تفسير العياشي و هذا على وجه التأويل و هو بيان لأظهر مصاديق الامة الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر.

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر (ع): «كنتم خير امة أخرجت للناس» قال: «اهل بيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ» عن عكرمة و مقاتل: «نزلت في ابن مسعود و ابى ابن كعب و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة، و ذلك أن مالك بن الضيف و وهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: ان ربنا خير مما تدعوننا اليه و نحن خير و أفضل منكم فانزل اللّه تعالى هذه الآية».

ص: 253

أقول: لو صح الحديث و انطبقت عليه العلة يكون الحديث بيانا لبعض المصاديق فلا تنافي بينه و بين غيره.

و في الدر المنثور اخرج احمد: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أعطيت ما لم يعط احد من الأنبياء نصرت بالرعب، و أعطيت مفاتيح الأرض، و سميت احمد، و جعل التراب لي طهورا و جعلت امتي خير الأمم».

أقول: الحديث معروف بين الفريقين، و المراد بالفقرة الاخيرة هي البعض كما عرفت. أو تشرفت سائر الامة بهم.

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْ.......

اشارة

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (114) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) الآيتان المباركتان متحدتان في السياق مع ما قبلهما من الآيات لأنهما تبين و تقرر ان اهل الكتاب ليسوا جميعا علي حد سواء في الانحراف و البعد عن الايمان باللّه تعالى كما اسلفتها الآيات السابقة بل استثنى سبحانه و تعالى عنهم امة مستقيمة على الهدى قائمة بالعبادة مؤمنة بالمبدإ و المعاد ناهضة بتكاليف الامة المسلمة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سباقة إلى الخير فهم مجزيّون على أعمالهم كما يجزى الصالحين و اللّه سبحانه و تعالى يعلم ما اضمرته قلوبهم كما هو عليم بالمتقين.

ص: 254

التفسير

قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً .

جملة استينافية تبين عدم استواء جميع اهل الكتاب في ما وصفهم اللّه تعالى به و الحكم الذي حكمه عليهم آنفا، فانه سبحانه و تعالى قد قسمهم الى طائفتين هما المؤمنون و هم الأقلون، و الفاسقون و هم الأكثرون. قال تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» آل عمران - 110 ثم بين أوصاف الفاسقين و حذّر المؤمنين من غيّهم و مكرهم و بيّن تعالى جزاؤهم ثم حكم على النوع بما تقدم.

و في هذه الآية المباركة يبين عز و جل حال الطائفة المؤمنة منهم و صفاتهم.

و السواء مصدر، و لذا أفرد مع كونه خبرا لجمع، و لكن أريد به الوصف أي: ليسوا مستوين.

قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ .

جملة تعليلية تفصيلية تبين الوجه في عدم الاستواء. و مادة (قوم) تدل على الثبات و الاستدامة، و قد استعملت في القرآن الكريم كثيرا بهيئات مختلفة، و المراد في المقام استقامة تلك الأمة على الطاعة و الايمان و العبادة و ثباتها على ذلك.

و بعبارة جامعة: الثبات على الحق مقابل من أنحرف عنه، و يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة الذي يبين انها كانت قائمة في الايمان باللّه و الطاعة له عز و جل و القيام بوظائف العبودية و العمل الصالح.

و المراد من أهل الكتاب هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في الآية

ص: 255

السابقة عند تقسيمه لهم. قال تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» بلا فرق في ذلك بين اليهود و النصارى، و ذكر المفسرون أنهم النجاشي و جماعة من اليهود الذين ثبتوا على الحق و آمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) المبشر به في الكتب الإلهية.

و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف متعددة تبين صدق إيمانهم و استقامتهم على الحق.

قوله تعالى: يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ .

تفصيل بعد إجمال، و التلاوة هي القراءة مع التأمل في الجملة.

و الآناء جمع (انى) بكسر الهمزة أو فتحها و هو مطلق الوقت و الزمان أي قيامهم في الليل بقراءة آيات اللّه في صلاتهم و تهجدهم.

و المراد بآيات اللّه تعالى الأعم مما ورد في التوراة و الإنجيل و القرآن الكريم. و هذا الوصف يبين جهة عبودتهم و ثباتهم فيها.

قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

وصف آخر يبين سبقهم الى الايمان بالمبدإ و المعاد الأعم من الايمان بهما في حالة العمل بشريعتهم و حالة ظهور شريعتنا و تصديقهم لها، فهم في كلتا الحالتين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر.

و إنما أخر سبحانه و تعالى الايمان باللّه و اليوم الآخر عن التلاوة و السجود اشعارا بان العمل بالدين أهم أركانه. و انه ليس من مجرد الاعتقاد فقط و ان عبادتهم للّه تعالى و ملازمتهم لها أوجبت توفيقهم بقبول الإسلام و عدم جحودهم له.

ص: 256

قوله تعالى: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

وصف ثالث يبين طاعتهم للّه تعالى بأهم أركانها و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يتشرفون بذلك بالاتصاف بما اتصف به خير أمة.

قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ .

وصف رابع يبين الإخلاص في اعتقادهم و الصدق في ايمانهم و سعادتهم.

و المسارعة: المبادرة. و الفرق بينها و بين العجلة أن المسارعة وصف للحركة، سواء كانت بارادة أم لا. و أما العجلة فهي وصف للمتحرك اي استعجل في فعله و حركته.

و عن جمع من اللغويين و بعض المفسرين ان الفرق بين السرعة و العجلة ان السرعة: التقدم في ما ينبغي أن يتقدم فيه، و هي محمودة و نقيضها مذموم و هو الإبطاء، و العجلة: التقدم في ما لا ينبغي ان يتقدم فيه و هي مذمومة و نقيضها محمود و هو الإناءة.

و لكن لا يمكن قبول ذلك على الإطلاق لاستعمال العجلة بالنسبة اليه تعالى، قال جل شأنه: «وَعَدَكُمُ اَللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح - 20.

و الخيرات جمع خير و هو معلوم عند الجميع سواء كان في العبادة أو في غيرها، و لكن الغالب استعماله في بذل المال و قضاء الحوائج به و لكن لا بد ان لا يتعلق به نهي شرعي و الا سقط عن الخيرية.

ص: 257

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ .

قضية حقيقية تبين نتيجة ما تقدم من الصفات و الأعمال، فتكون جميع الآية المباركة بمنزلة العلة و المعلول.

و الصالحون هم اهل الحق في الدنيا و الآخرة، و لهم مقام محمود يتمناه الأنبياء العظام قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام):

«تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ» يوسف - 101، و قال تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ» الشعراء - 83. فيكون المراد من الصالح من كمل اعتقاده و عمله فصلح للوصول إلى مقام القرب اليه تعالى، و لهذه الصلاحية مراتب كثيرة ياتي التعرض لها ان شاء اللّه تعالى.

و المعروف بين المفسرين ان المراد بهؤلاء الممدوحين عبد اللّه بن سلام و أصحابه. و لكن ذكرنا سابقا أن الآيات الشريفة كليات حقيقية واقعية انما يتعرض المفسرون لبعض مصاديقها و ذلك لا يوجب التخصيص بشيء ابدا.

قوله تعالى: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ .

المراد من الخير ما تقدم في الآيات السابقة من الايمان باللّه و اليوم الآخر، و الطاعة له عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المسارعة إلى الخيرات.

و المعنى: و كل ما يصدر منهم من خير اعتقادا كان أو عملا فلن يحرموا شكر اللّه تعالى و الاثابة لهم و لن يضيع عملهم عند اللّه فيوفيهم أجورهم من غير نقصان و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» البقرة - 108.

ص: 258

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ .

اي: ان اللّه تعالى يعلم السرائر و ما تنطوي عليه نفوسهم و عليم بأعمالهم و إن أسروا بها، و عليم بتقواهم فيجازي كل فرد بحسب ما يعمله.

و في الآية الشريفة التحريض على تحصيل التقوى، و قد ختم سبحانه و تعالى الخطاب بالتقوى للتنويه بفضلها و لبيان انها الأساس في جميع الأديان.

بحث ادبي

ذكرنا ان قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» جملة مستقلة مركبة من اسم ليس و هو الضمير، و خبرها «سواء» و قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ» جملة اخرى مركبة من المبتدأ و الخبر.

و قيل «امة» اسم ليس و سواء خبرها، و أتى الضمير في ليس على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ورد بأن المقام ليس مثل أكلوني.

و قوله تعالى: «يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ في موضع رفع صفة ل أمة.

و قيل: ان الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير «يتلون» و لكن أشكل عليه بان التلاوة لا تكون في السجود و لا في الركوع.

و الحق ان يقال: ان المستفاد من الجملة استمرار التلاوة منهم في حال تهجدهم و عبادتهم سواء كانت في السجود أم الركوع أم في غيرهما، مع انه لم يثبت بدليل امتناع التلاوة في شريعة اهل الكتاب في حال السجود.

و قوله تعالى: «آناءَ اَللَّيْلِ» نصب على انه ظرف زمان.

و انما تعدى «فلن يكفروه» إلى مفعولين لأنه بمعنى الكفران اي

ص: 259

ان يحرموا ثواب فعلهم و الشكر عليه.

بحث دلالي

اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» التفرقة بين الحق و الباطل، و هو امر فطري كالتفرقة بين النور و الظلمة و يرشد الى ذلك قوله تعالى: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» السجدة - 18 فانه عز و جل ارجع عدم استواء الفريقين إلى فطرة الإنسان و هو لا يختص بفريقين أحدهما يكون مؤمنا و الآخر فاسقا، بل يمكن ان يجري في الشخص الواحد في حالتين مختلفتين و هو أمر وجداني.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على ان مناط الايمان انما هو الاستقامة و انما تتحقق بالعمل بكتاب اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل و الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه فيصير بذلك صالحا و يدخل في زمرة الصالحين، و قد ذكر عز و جل صفات متعددة في هذه الآيات كل واحدة منها تبين جانبا من جوانب الشخصية الايمانية.

الثالث:

انما قرن سبحانه و تعالى الايمان باللّه مع الايمان باليوم الآخر لبيان ان ايمانهم كان ايمانا يثير الخشية للّه تعالى و الاستعداد للقاء اللّه تعالى و المحاسبة للأعمال، فكان ايمانهم ايمانا اذعانيا لا ايمانا ادعائيا كما يدعيه أبناء جنسهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» ان هذين التكليفين من أهم الواجبات النظامية في جميع الشرائع الإلهية و كل مؤمن في اي دين كان انما يثبت إيمانه بالأمر بالمعروف

ص: 260

و النهي عن المنكر.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ» ان الخير قد تمكن في نفوسهم بحيث يبادرون إلى فعله غير متثاقلين لعلمهم بحسنه و عظيم اثره و جلالة مقامه و رفعة شأنه فهذه الصفة جامعة لجميع الفضائل و مكارم الأخلاق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ» ان تلك الصفات ثابتة فيهم و ناشئة عن ملكات راسخة و قد صلحت سرائرهم فتكون الذات و الاعتقاد و العمل صالحا و يدخلون بذلك في زمر الصالحين و هم عباد اللّه المخلصين و هم الأقلّون في كل امة، و لهم المقام المحمود في الدنيا و الآخرة.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» على حقيقة من الحقائق و هي ان اعمال العباد محفوظة عند اللّه تعالى، فهو العالم بصلاحها و فسادها، و هو يجازي كل فرد بما يستحقه، و تدل عليها جملة كثيرة من الآيات الشريفة.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» ان المناط في قبول فعل الخيرات انما هو التقوى، و يدل عليه قوله تعالى: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ» المائدة - 27.

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» عن ابن عباس قال: «لما اسلم عبد اللّه بن سلام و ثعلبة بن سعية، و أسيد بن عبيد و من اسلم من اليهود قالت اخبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا

ص: 261

و لو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، و قالوا: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره فانزل اللّه تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» - الآية.

و فيه أيضا عن ابن مسعود قال: «نزلت الآية في صلاة العتمة يصليها المسلمون و من سواهم من اهل الكتاب لا يصليها».

أقول: على فرض اعتبار الروايتين و غيرهما مما ورد في هذا الشأن فإنها تبين بعض المصاديق و قد ذكرنا ان الآية الشريفة مطلقة تشمل جميع اهل الكتاب قبل الإسلام و حين الدعوة و أما بعد استقرار الدعوة فلا تنفعهم أعمالهم لفرض انهم مأمورون بالإيمان.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلن.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى صفات المؤمنين المتقين من اهل الكتاب و بين حسن سريرتهم و سعادتهم يذكر تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حال الكفار - الذين خسروا أنفسهم و باعوها للشيطان فجحدوا الحق - توبيخا لهم و تشنيعا عليهم و إتماما للحجة، و مقابلة للطائفة الاولى المتقدمة ليعرف المؤمنون بذلك مقاماتهم المعنوية و ما لهم من الجزاء الكبير.

كما بين سبحانه و تعالى ان ما أنفقت هذه الطائفة الكافرة باللّه العظيم في هذه الدنيا لحفظ جاهها و استمرار ملذاتها لن تنفعها عما أعدلها من الجزاء في هذه الدنيا و لها في الآخرة عذاب الخلود و مثل تعالى

ص: 262

ما ينفقونها كعاصفة باردة تحرق الحرث و تدمره لأنهم ظلموا أنفسهم و اندفعوا وراء شهواتهم مختارين فكان مصيرهم الهلاك و العذاب.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

الآية المباركة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية، و تظهر سوء حال الكافرين لا سيما في يوم الجزاء، و هي عدم انتفاع الإنسان بما يعتبره رافعا لحوائجه و ما يدخره للانتفاع به، و ان بذل غاية جهده في نيله و الاحتفاظ به الا إذا أضيف ذلك إلى اللّه تعالى لأنه الدائم الباقي و الغني المطلق و هو الذي يحفظ الأعمال ليجازي عليها، و حيث أن أهم ما يبذل الإنسان جهده فيه هو الأموال و الأولاد و يعول عليهما في النوائب و الشدائد فقد ذكرهما عز و جل.

و بما ان ما عند الكافر لم يكن مضافا إلى اللّه تعالى لفرض كفره فلا موضوع لاغنائهما عنه في يوم حاجته إليهما و ان تمتع بهما قليلا لكن لا يغنيه شيء منهما، و يؤكد ذلك قوله تعالى «شَيْئاً» الدال على عدم الإغناء بوجه من الوجوه، و قد تقدم في الآية العاشرة من هذه السورة بعض الكلام.

و المراد من الذين كفروا مطلق من كفر بالحق و عانده سواء كان من اهل الكتاب أو المشركين. فهذه الآية الشريفة من جهة تكون مقابلة للطائفة المؤمنة كما عرفت، و من جهة اخرى تكون توطئة لما سيذكره عز و جل في قصة أحد.

ص: 263

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

اي: أولئك الكافرون داخلون في النار و ملازموها و لا يمكنهم الخلاص منها لأنهم كانوا ملازمين للكفر و مداومين على الظلم و قد جبلت نفوسهم على الفسق و الضلال فلا موضوع لنجاتهم منها. و هذه الآية المباركة كقوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ» آل عمران - 10.

و انما افترقت هذه الآية عن سابقتها في ان السابقة اختتمت بقوله تعالى: «وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ» و في المقام «وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ» و المآل و ان كان واحدا و لكن السابقة ناظرة إلى كيفية العذاب و هذه إلى أصله.

قوله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

الآية الشريفة في بلاغتها و فصاحتها و حسن اسلوبها تصور الواقع الذي عليه تصرفات الظالمين و الكافرين و المنافقين و انفاقهم بأبلغ صورة و احسن تشبيه.

و فيها مثل عام لكل من ينفق في غير وجه اللّه تعالى و كان للدنيا و في الدنيا. و هي كالدليل لعدم إغناء الأموال عن الكافرين، و تبين عدم انتفاع المنفق بها بوجه من الوجوه بل يكون و بالا عليهم لأنهم كفروا باللّه العظيم و آياته و أشركوا به، و لم يطلبوا من الانفاق وجه اللّه تعالى و رضاؤه و ان كان بزعمهم منه فانه من مجرد الوهم و الظن لوجود المانع فيهم.

و المثل في الكلام هو إيراد كلام يشبه كلام آخر يقصد به شيء معين يبين أحدهما الاخر و يصوره، و الأمثال في القرآن الكريم كثيرة

ص: 264

و هي تقرب المقصود إلى أذهان المخاطبين بأحسن وجه.

و انما خص سبحانه و تعالى التمثيل بالحياة الدنيا لبيان انهم منقطعون عن الدار الآخرة؛ و هذا وجه آخر دال على ان انفاقهم كان للدنيا و في الدنيا و منقطعا عن اللّه تعالى و الدار الآخرة مضافا إلى كفرهم، فهم لا ينفقون غالبا إلا على نظائرهم و أمثالهم، و لو اتفق انهم أنفقوا في صلة الرحم و الفقراء و المساكين، و نفع المحتاجين و غير ذلك من المقاصد و الشؤون، فان كفرهم مانع عن قبول اللّه تعالى لها الذي هو المناط في جميع الأعمال.

و انما خص الأموال بالذكر و لم يذكر الأولاد لأنهم يتبعون الآباء ان كانوا كفارا و إلا فلا ارتباط بينهما لأنهم مسلمون فهم عليهم لا لهم.

قوله تعالى: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ .

الريح واحدة الرياح، و قيل ان المفرد يستعمل في العذاب ان لم تكن قرينة على خلاف ذلك مثل قوله تعالى: «وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها» يونس - 22 و الجمع في الرحمة و في الحديث:

«كان يقول إذا هاجت الريح: اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا» و مما يثبت ذلك ان اغلب المواضع التي ذكر اللّه تعالى في القرآن الكريم إرسال الريح بلفظ الواحد كان في العذاب. و الجمع في آيات الرحمة قال تعالى: «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ» الإسراء - 69، و قال تعالى: «وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ» الحاقة - 6، و قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» الفرقان - 48.

و مادة (ص ر ر) تدل على الجمع و الاشتداد و التأكد، و قد

ص: 265

استعملت في موارد كثيرة بهذه الدواعي منها البرد الشديد، و منها الضجة و الصيحة؛ قال تعالى: «فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» الذاريات - 29.

و منها: الجمع و الانضمام قال تعالى: «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» البقرة - 260.

و منها: الإصرار على الشيء، و في الحديث: «ما أصر من استغفر». و لعل استفادة الشدة من المعنى للقاعدة المعروفة بين الأدباء «ان زيادة المباني تدل علي زيادة المعاني».

و الحرث: الزرع. و في الآية الشريفة تشبيه مركب فقد شبه سبحانه و تعالى إنفاقهم في مقاصدهم و شؤونهم التي يزعمون انها وجه اللّه أو التي يريدون بها الصد عن سبيل اللّه تعالى بالريح الباردة التي تضر بالحرث و الزرع، فهي فاسدة و مفسدة فلا ينتفعون من انفاقهم ابدا لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يكون مفسدا لأخلاقهم و موجبا لسقوط الآثار الواقعية التي تترتب على كل انفاق، و يحرمهم من السعادة الدنيوية و الأخروية فلم يجنوا من انفاقهم الا الشقاء و الحرمان، فالآية المباركة تبين حال انفاقهم مع كفرهم في احباطه له فيكون الكفر و الظلم بمنزلة الريح الباردة.

و انما وصف القوم بالظالمين لبيان ان ظلمهم هو السبب في هلاك الزرع و الانفاق، فهو يتلف الأعمال و يذهب آثارها الدنيوية و الأخروية فيكون الهلاك و الحرمان عقوبة لهم.

و انما عبر سبحانه و تعالى بالريح الباردة دون النار و غيرها التي توجب إتلاف الزرع و سقوط الانتفاع به بالكلية، لان الريح الباردة تفسد الزرع و تهلكه فلا قابلية له للنمو و لكن يبقى حشيشها و اصل المادة و يمكن الانتفاع بها في بعض الجهات و هكذا انفاق الكافرين فانه قد ينتفع به إما في الدنيا لقضاء مآربه أو في البرزخ فانه يوجب تخفيف

ص: 266

العذاب ان كان لأغراض حميدة.

قوله تعالى: وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .

الضمير يرجع إلى الكافرين المنفقين. و هذه القضية مكررة في القرآن الكريم بأساليب مختلفة، و هي تدل على نفي الظلم عنه عز و جل و ثبوت الاختيار للإنسان و انه الفاعل المختار، و ان الجزاء و الآثار التي تترتب على الأفعال انما يستحقها بما يختاره من الأفعال و الأعمال إن خيرا فخير و ان شرا فشر. و ذلك لان نظام العالم انما يتحقق يترتب المسببات على الأسباب و المعلول على العلة، فإذا كان للشيء سببا واحدا فالترتب واضح معلوم، و اما إذا كانت الأسباب متعددة و المقتضيات كثيرة، فالمسبب و المقتضى (بالفتح) يترتب على السبب الأخير، و ان كان للجميع دخل في التحقق، و لا ريب ان جميع الممكنات يستند إلى قضاء اللّه تعالى و قدره، و مشيته الكاملة، و لكنه تعالى أراد ان يجعل الإنسان مختارا في أفعاله لحكم كثيرة منها تصحيح قانون الثواب و العقاب على الفعل الاختياري و حينئذ يستنكر العقل ان يستند الظلم إلى اللّه تعالى بعد خلقه للإنسان مختارا في أفعاله و اعماله فتنحصر نسبة الظلم إلى الفاعل المباشر فالآية الشريفة هي قضية عقلية كما عرفت. و من أهم الأمور الدينية، لان جميع الأديان الإلهية تستنكر استناد الظلم إلى اللّه عز و جل. و وجدانيته لان اللّه تعالى بعد ان أتم الحجة على العباد و بيّن لهم الصراط المستقيم و أرسل الرسل و انزل الكتب لتكميل الإنسان و منحهم العقل و الشعور و الاختيار، فإذا اختار عبد غير المطلوب منه فقد ظلم نفسه بأن حرّم نفسه من الكمالات و الأجر الجزيل.

ص: 267

و المعنى: ان اللّه لم يظلم الكافرين الذين أنفقوا أموالهم في غير وجه اللّه فحرموا أنفسهم من الثواب و احبطوا عملهم لكنهم هم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر المانع عن القبول فاختاروا العذاب و الحرمان.

بحث دلالي

اشارة

تدل الآيتان الشريفتان على امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً» على حقيقة من الحقائق الواقعية و هي: ان الأموال و الأولاد انما يستفيد منهما الإنسان مطلقا و يستغنى بهما في حوائجه و مآربه إذا كان كل واحد منهما للّه تعالى و في وجه اللّه عز و جل حتى تكون محفوظة عنده تعالى، و تبقى ببقاء اللّه لأنها تدخل في خزائنه، و للّه خزائن السموات و الأرض، و يوفي صاحبها الجزاء الأوفى و يدفع العذاب عنه، و الكافر قد انقطعت العصمة بينه و بين اللّه تعالى بسبب كفره فحرم نفسه عن جميع تلك الآثار فلن تغني عنه من اللّه شيئا.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» امور:

منها: ان انفاقهم للأموال انما كان للدنيا و لأجل الشؤون و المقاصد الدنيوية فقط و لا نظر لهم إلى ما ورائها.

و منها: انهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر، كما ظلموا أنفسهم في انفاق الأموال في غير وجه اللّه تعالى، فقد حرموا أنفسهم من

ص: 268

الآثار الواقعية التي تترتب على إنفاقها.

و منها: انهم لم يحرموا من بعض الآثار كما لم يحرم الزارع من حشيش الزرع و بقاياه بعد إصابته الريح الباردة و اتلافها له، و لذلك نرى إن التعبير يختلف بالنسبة إلى أعمالهم في آية اخرى قال تعالى:

«وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ» النور - 39.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» على استمرار الظلم و تجدده باستمرار العلة و هي الكفر و العصيان.

الرابع:

يستفاد من الآية الشريفة ان الذنوب و المعاصي قد توجب هلاك الزرع و النسل و الكوارث و الآفات، لان للذنوب آثارا واقعية لا يمكن التخلف عنها، و قد دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن الكريم و السنة الشريفة، بل ان كل ذنب له اثره الخاص به كما دلت عليه أدلة متعددة و في كثير من الدعوات المأثورة، منها الدعاء المعروف بدعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

بحث عرفاني

جميع الأفعال الحاصلة من النفس الانسانية بواسطة القوى الباطنية الجسمانية انما هي بمنزلة الأشباح و الاظلة للصور الحاصلة في النفس، فهي كالمرآة التي تبث أشعتها إلى الخارج، و قد اثبت ذلك المحققون من الفلاسفة و قال بعض المحققين:

ص: 269

النفس في وحدتها كل القوى *** و فعلها في فعلها قد انطوى

و القرآن الكريم و السنة الشريفة يثبتان ذلك ايضا فإذا كانت النفس متوجهة إلى اللّه تعالى تكون أشعتها من سنخها متصلة إلى اللّه جل جلاله و إذا كانت متوجهة إلى غيره عز و جل تكون أشعتها كذلك فلا تتحقق أية اضافة للّه تعالى و الا لزم الخلف الباطل هذا من جهة النفس.

و اما من جهته عز و جل فقد قال اللّه تعالى: «انا خير شريك من عمل لي و لغيري تركته لغيري» فإذا كان العمل له تعالى و لغيره لا يعتني به اللّه تعالى فكيف إذا كان تمام العمل لغيره، و إذا كانت تربية الأولاد و مصرف الأموال في غير ما يرتضيه عز و جل لا يمكن ان ينتفع من ذلك نفعا إلا ما يتصور من المنافع الوقتية الوهمية و هي عدم محض بالنسبة إلى النفع الواقعي الحقيقي، قال تعالى: «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» النور - 39 و قال تعالى:

«أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» * الأنفال - 25.

ص: 270

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) بعد ما ذكر عز و جل صفات خاصة من الكافرين و هي المؤمنين منهم و ذكر بعض صفات الجاحدين منهم أيضا و بيّن انهم لا يقدرون على تحقيق مقاصدهم في الصد عن سبيل اللّه تعالى مهما بذلوا من جهد و أنفقوا من الأموال.

يبين سبحانه و تعالى في هذه الآيات ما تنطوي عليه ضمائرهم و ما تخفيه صدورهم بالنسبة إلى الحق الواقع و المؤمنين.

و بين سبحانه و تعالى ان الكافرين لا يحبونهم و يحقدون عليهم و يفرحون بما يصيبهم من المكروه و يضمرون، كل عداوة لهم و الحسد منهم. و قد حذرهم سبحانه المؤمنين من كيد الكافرين و سبل اضلالهم

ص: 271

و أمرهم بالاجتناب عنهم و التصدي لهم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ .

دستور إلهي يبين منهج المجتمع الاسلامي في احتكاكه مع المجتمعات الأخرى. و تتضمن الآية المباركة أهم الاحكام الاجتماعية التي أراد اللّه تعالى بها الاحتفاظ على وحدة المجتمع الاسلامي و صونه عن التفرق و الفساد، و ذلك لان اسرار المجتمع الواحد لا بد ان تكون محفوظة لدى افراده، و أن لا يطلع عليه غيرهم، بل في اطلاع العدو عليها هلاكهم و تفرقهم لا سيما إذا كان متصفا برذائل الأخلاق، كما ذكره عز و جل في هذه الآيات المباركة.

و مادة (بطن) تدل على الخفاء مقابل الظاهر، و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: «ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ» * الانعام - 151، و قال تعالى: «وَ ذَرُوا ظاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ باطِنَهُ» الانعام - 120 و من أسمائه الحسنى «الباطن» قال تعالى: «هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّاهِرُ وَ اَلْباطِنُ» الحديد - 3 اي هو المحتجب عن أبصار الخلائق و أوهامهم فلا يدركه بصر و لا يحيط به وهم، أو هو العالم بما بطن.

و بطانة الثوب خلاف ما ظهر من الثوب، قال تعالى: «بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» الرحمن - 55.

و المراد بالبطانة في المقام هو وليجة الرجل و خاصته الذي يكاشفه باسراره و يستبطن امره و يشاوره في أحواله و هو مصدر يسمى به الواحد

ص: 272

و الجمع، و في الحديث: «ما بعث اللّه من نبي و لا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان». و المراد من «دونكم» اي غيركم و التعبير به لبيان ان غيركم أدون منكم فلا ينبغي ان تتخذوهم بطانة تلقون إليهم اسراركم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف متعددة تدل على غاية بعدهم عن المؤمنين و نفرتهم عنهم.

قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً .

بيان للنهي عن اتخاذ الأعداء و المنافقين بطانة فإنهم يضمرون الشر و الفساد، فهذه الجملة في حين كونها تعليلية تكون مبينة لحقيقتهم و هي الصفة الاولى من صفاتهم بل الأصل لجملة كثيرة من الصفات الآتية.

و يألونكم من الإلو، و هو التقصير و الإبطاء و الضعف، و الفعل ألا كغزا، يألو، ألوا، و هو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف و إلى المفعولين و يتضمن معنى المنع يقال: لا آلوك نصحا اي لا أمنعك و قد يجعل بمعنى الترك فيتعدى إلى مفعول واحد يقال: ما ألوت الشيء اي ما تركته.

و كيف كان ففي المقام إذا جعلناه بمعنى التقصير فلا يتعدى إلى مفعول فضلا عن المفعولين، فلا بد من جعله بمعنى لا ينقصوكم كما في قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً» التوبة - 4.

و مادة (خبل) تدل على الفساد سواء كان في الرأي أو غيره يقال: «خبل الحب قلبه» اي أفسده، و منه الحديث: «و بطانة لا تألوه خبالا» اي: لا تقصر في إفساد امره و شأنه. و في الحديث ايضا «بين يدي الساعة الخبل» اى الفتن المفسدة. و الخبل قد يصيب الحيوان فيؤدي إلى الاضطراب في شعوره و حركاته. و خبالا مفعول ثان

ص: 273

و الجملة صفة توضيحية تبين قبح اتخاذهم بطانة.

و المعنى: انهم لا يقصرون لكم فسادا و لا ينقصوكم شرا فيجهدون في الإضرار بكم، و هذه حقيقة واقعية تترتب على اتخاذ الأعداء و المنافقين أعوانا و بطانة يعتمد عليهم و يلقى إليهم الأسرار مع انهم لا يضمرون المؤمنين الا العداء و الخديعة و الإضلال.

قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ .

الصفة الثانية من صفاتهم و هي حب الإضرار بالمؤمنين و إيقاعهم في الهلاك و المشقة.

و العنت: المشقة و شدة الضرر، و في الحديث: «أيما طبيب تطبب و لم يعرف بالطب فأعنت فهو ضامن» اي أضر المريض و أفسده، و ما مصدرية.

يعني أحبوا مشقتكم و تمنوا عليكم الوقوع في الضرر و الهلاك.

قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ .

صفة ثالثة و هي ظهور علامات العداء و الشنآن على أقوالهم و لحن كلامهم و فلتات ألسنتهم لان البغض قد استولى على قلوبهم فلا يقدرون على حفظ ألسنتهم و لا يمكنهم ان يملكوا أنفسهم عند الملاقاة و عز عليهم إخفاء ما في ضمائرهم من العداوة و البغضاء فكأنهم يتفوهون بما في ضمائرهم بلا اختيار منهم.

و البغضاء شدة البغض. و الأفواه جمع فم و أصله فوه و لامه هاء و الجمع يرد الشيء إلى أصله اي من أقوالهم و فلتات ألسنتهم.

ص: 274

قوله تعالى: وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ .

صفة رابعة و هي تدل على تمكن البغضاء في قلوبهم و ان ما في قلوبهم اكبر مما يعلمه احد إلا ان يظهره اللّه تعالى و يبينه لكم.

و انما أبهم عز و جل ما في الصدور لبيان انه لا يوصف لعظمته و تنوعه، و ليذهب ذهن المخاطب كل مذهب، و ان كل ما صدر منهم كان قليلا مقابل ما في قلوبهم. و بعد ما بين اللّه عز و جل حقيقتهم و عرّف حالهم و طبايعهم لا يبقى للمؤمنين مجال و عذر أن يتخذوهم بطانة من دون المؤمنين.

قوله تعالى: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .

اي قد أظهرنا لكم العلامات الفارقة بين الحق و الباطل و بها يتميز الولي عن العدو. و قد عرف من يتخذ بطانة و من هو خائن لا يصلح ان يكون كذلك إن كنتم تعقلون البيان و تلك الآيات و تفهموها و تجعلونها محط انظاركم و مورد عملكم فلا يبقى بعد ذلك عذر.

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ .

تأكيد على ترك اتخاذهم بطانة، و تنبيه للمؤمنين على خطاء من يتخذهم كذلك و قد ذكر عز و جل ذلك بأسلوب بديع و عبارة فصيحة و خطاب بليغ يثير المخاطب عند سماعه و يستفزه على أمر مهم قد خفي عليه.

و «ها» للتنبيه و «أنتم» مبتدأ و «أولاء» اسم إشارة و هو منادى يفيد فائدة الاختصاص، و جملة «تحبونهم» خبر، و انما يؤتى مثل هذا الخطاب في مقام التحريض على التباعد و التنبيه على امر خفي و هو بيان حقيقة المنافقين الذي هو من أعظم مقاصد القرآن

ص: 275

الكريم، و للنحويين مذاهب اخرى في إعراب مثل هذا التركيب من شاء فليراجع كتبهم، و «لا يحبونكم» إما عطف أو حال.

و كيف كان فقد وصف اللّه تعالى المؤمنين بأنهم يحبون الناس بل يحبون أشدهم عداوة اللذين لا يقصرون في إفسادهم و تمني عنتهم كما ذكره عز و جل آنفا مع انهم لا يحبونهم، و انما أحبوهم لان الإسلام دين المحبة و الرحمة و مع ذلك كيف تتخذونهم بطانة و هم لا يملكون أية رحمة في قلوبهم و ليس عندهم ما يدعو إلى حبكم لهم.

قوله تعالى: وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ .

المراد بالكتاب جنسه اي جميع الكتب التي أنزلها اللّه تعالى على أنبيائه و رسله كتابكم و كتبهم و هم لا يؤمنون بكتابكم.

و انما أكده عز و جل بقوله «كله» لبيان انهم يؤمنون بجميع جزئيات الكتاب و اجزائه حتى في ما يكون مشقة عليهم بخلاف المنافقين و الكافرين الذين لا يؤمنون بالكتاب و لو أمنوا ببعض كتبهم فإنما يؤمنون بما ينفعهم، فإذا كنتم تحبونهم و لا يحبونكم، و تؤمنون بكتبهم و لا يؤمنون بكتابكم، فأنتم أحق بان تبغضوهم و قد نهيتم في مواطن كثيرة عن الركون إليهم و الاعتماد عليهم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف كالظلم قال تعالى: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» هود - 113، و الاعتداء قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ» * البقرة - 190، و الخيانة قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ» الأنفال - 58، و الفساد قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ» القصص - 77 و الكفر قال تعالى: مخاطبا لنبيه «اِتَّقِ اَللّهَ وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ»

ص: 276

الأحزاب - 1 فلا يبقى بعد ذلك عذر في اتخاذكم إياهم بطانة و ليس من شأنكم و لا يحسن منكم ان تحبوا من لا يحبه اللّه تعالى، فإذا كنتم مؤمنين بالكتاب فهو ينهاكم عن الركون إليهم و يرشدكم إلى ترك محبتهم في كل عصر و زمان إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ .

بيان لشدة نفاقهم، و انما حكم على الجميع باعتبار صدور ذلك عن بعضهم لان الجميع مسؤول عما يصدر عن بعض بحكم قانون التكافل الاجتماعي.

و العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط و هو إما ان يكون عن الندم أو عن شدة الغيظ بحيث لا يتمالك المغتاظ عن ان يعض أنامله و يؤلمها قال أبو طالب:

يعضون غيضا خلفنا بالأنامل و الأنامل جمع أنملة و هي طرف الإصبع.

و المعنى: إذا لقوكم قالوا نفاقا آمنّا بما امنتم به و نحن معكم و إذا اختلى بعضهم مع بعض أظهروا ما في أنفسهم و عضوا لاجلكم أطراف أصابعهم حنقا و غيضا و انما كانوا يعضون الأنامل لأنهم لا يستطيعون التشفّي من المؤمنين إلا بهذا الطريق.

قوله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .

دعاء عليهم و إن كان في صورة الأمر. اي: أمتهم بغيضهم.

و المعنى: قل لهم يا محمد افعلوا ما شئتم فان اللّه تعالى يعلي كلمة الحق

ص: 277

و ان الإسلام الذي هو سبب غيضكم لا يزداد الا علوا و جلالا و عزة و ان اللّه تعالى خاذلكم فستموتون من شدة الغيظ.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

اي ان اللّه تعالى لا يخفى عليه سرائركم و ما في صدوركم من البغي و الحسد و الحقد و ان جاهدتم في كتمانها.

و ذات الصدور كناية عن السريرة أو الحالة أو العلة المتعلقة بالصدور من نفاق أو ايمان و نحو ذلك فان الصدور وعاء للقلب الذي هو مرجع جميع الأمور، و لذا قال تعالى في آية اخرى: «وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» آل عمران - 154.

قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها .

المسّ هو اللمس و المراد به هنا الإصابة و انما عبر بالمس كناية عن قلة النفع. و المساءة خلاف السرور، و الحسنة الخير و النعمة، و السيئة الفادحة و المحنة.

و اختلاف التعبير في الحسنة و السيئة لبيان ان الكافرين يسؤهم ما يصيب المسلمين من الخير و إن قلّ، و يفرحون باصابتهم السيئة دون مجرد المس، و هذا يكشف عن شدة الغيظ و استيلاء البغض على قلوبهم و حسدهم الشديد للدين و المؤمنين.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا .

اي: إن تصبروا على طاعة اللّه و نصرة دينه و جهاد الأعداء و عداوتهم و البعد عن الأهل و الأوطان. و تتقوا اللّه في جميع الأفعال

ص: 278

و الأعمال و تنفيذ احكام اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً .

وعد منه عز و جل بالحماية و النصرة. و الكيد هو المكر و الخديعة.

و يضركم (بضم الراء و تشديدها) من الضرر، و قرئ بكسر الضاد و سكون الراء المخففة من ضاره يضره بمعنى المضرة. و شيئا منصوب على المصدر.

و المعنى: لا يضركم مكرهم و أذاهم شيئا من الضرر لا قليلا و لا كثيرا. و هذا من مكارم الأخلاق الاسلامية حيث لم يأمرهم عز و جل بمقابلة مكرهم و كيدهم بمثلهما، بل أمرهم بالصبر و التقوى و عدم التعدي، و الخير و الإحسان فإنهم في حماية اللّه عز و جل و كنفه.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .

وعد منه للمؤمنين بالحسنى و وعيد للكافرين بسوء العقبى فان اللّه تعالى يعلم كيد الكافرين و صبر المؤمنين و تقواهم و هو محيط بجميع الأفعال و الأعمال و الأشخاص إحاطة علم و قدرة، فيجازي كلا حسب فعله ثوابا و عقابا و في الآية المباركة التأكيد على نجاة المؤمنين و خلاصهم من كيد الكافرين و منعهم عن المؤمنين.

بحث دلالي

اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول

ظاهر قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» حرمة اتخاذ البطانة بالقيود المذكورة و هي: انهم لا يألونكم خبالا، و تمنى العنت لكم، و ظهور البغضاء من أفواههم و يمكن ان تحمل هذه القيود على الغالب، فإذا لم يكن في العدو تلك الصفات و القيود و لكن علم منه العداوة بالقرائن فهو أيضا داخل في الآية المباركة، بل هو منافق بصريح ذيل الآية الشريفة.

ص: 279

ظاهر قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» حرمة اتخاذ البطانة بالقيود المذكورة و هي: انهم لا يألونكم خبالا، و تمنى العنت لكم، و ظهور البغضاء من أفواههم و يمكن ان تحمل هذه القيود على الغالب، فإذا لم يكن في العدو تلك الصفات و القيود و لكن علم منه العداوة بالقرائن فهو أيضا داخل في الآية المباركة، بل هو منافق بصريح ذيل الآية الشريفة.

الثاني:

الآية الشريفة ترشد إلى أهم الاحكام الاجتماعية و هو الاهتمام بالصاحب الذي يريد أن يصحبه الإنسان في حياته و القرين الذي يعتمد عليه في جميع أموره، و قد اهتم الإسلام به أشد اهتماما فان له التأثير الكبير على الفرد سلوكا و أخلاقا و دينا، فأمر سبحانه و تعالى المؤمنين ان يكون القرين الذي يتخذ مؤمنا و متصفا بأوصاف حسنة و متحليا بمكارم الأخلاق ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». و في المثل:

عن المرء لا تسل و سل عن قرينه *** فان القرين بالمقارن يقتدي

الثالث:

قد ذكر سبحانه و تعالى في الآيات المباركة أمورا قد اتصف بها الكافرون و كل واحد منها يبين جانبا من جوانب شخصيتهم النفسية و الاجتماعية و حقدهم و حسدهم على الحق و اهله و انما أكد عز و جل ذلك بسرد تلك الأوصاف اهتماما بالموضوع و تذكيرا للمؤمنين بترك اتخاذ مثل هؤلاء الموصوفين و عدم صلاحيتهم للخلة و البطانة و المواصلة ثم ارشدهم إلى امر فطري و ارجعهم إلى أنفسهم عند ما حكى عز و جل انهم لا يحبونكم فكيف يصلحون للمواصلة المبنية على الود و المحبة.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا» أن الأمن من كيد الكافرين مشروط بالصبر على أذاهم و كيدهم بتقوى اللّه و ترك كل معصية منها الرد بالمثل، و يمكن ان يحمل التقوى على

ص: 280

خصوص ترك موادتهم و اتخاذهم بطانة. و كيف كان فان ذلك وعد منه عز و جل لهم بالحسنى و الظفر و حسن العاقبة و الأمن من مكائدهم و ما يضمرون من شرار الصفات.

الخامس:

يستفاد من لفظ «البطانة» جميع ما ورد في الصاحب و القرين و غيرهما مما يستعمل في هذا المضمون فان البطانة مشتمل عليها مع زيادة و هذا هو دأب القرآن الكريم في استعمال ألفاظ خاصة يبين الموضوع بتمام جهاته بأسلوب رصين و ألفاظ بديعة، و هذا اللفظ يشمل مثل تعليم اسرار القرآن و معارفه فان افشاءهما لغير الأهل داخل في الآية الشريفة.

بحث روائي

في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» قال: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين و يواصلون رجالا من اليهود، كما كان بينهم من القرابة و الصداقة و الحلف و الجوار و الرضاع، فانزل اللّه تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم».

أقول: على فرض اعتبار الحديث انه يبين بعض المصاديق.

ص: 281

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِ.......

اشارة

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) الآيات الشريفة تذكر المؤمنين بالمواقف الصعبة التي مرت على الإسلام و المسلمين، و ما لاقاه صاحب الدعوة من المتاعب و المصاعب

ص: 282

من المنافقين و المشركين، و الحروب التي خاضها المؤمنون ضد العتاة و الجبابرة الذين أرادوا النيل من الإسلام و الوقوف أمام تقدمه، كما تذكر الآيات النعم التي أنعمها على المؤمنين من الايمان و النصرة و كفاية الأعداء و هدايتهم إلى ما يوجب سعادتهم في حياتهم و بعد مماتهم، و أوعدهم النصر و المغفرة إذا صبروا و اتقوا المعاصي و أطاعوا اللّه و الرسول الكريم.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة غزوة أحد و بدر من بين سائر الغزوات لما فيهما من العبر و الدروس العظيمة و ان ما وقع في غزوة احد انما هو نموذج من أفاعيل المنافقين الذين كانوا مندسين في صفوف المؤمنين فميّز هم اللّه تعالى بما وقع منهم من المحنة فالآيات الشريفة تتمة لما أراده عز و جل من هذه السورة من تذكير المؤمنين بحقيقة الايمان و نعم اللّه تعالى عليهم، و ما لهم من الجزاء الكبير في الآخرة و أمرهم بالصبر و التقوى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ .

إذ ظرف في موضع نصب متعلق بمحذوف مثل (اذكر) و نحوه و جملة «تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ» حال من فاعل «غدوت». و «مقاعد» مفعول ثان ل «تبوّئ».

و غدوت: من الغدوة يقال غدا يغدو غدوا، و هو الخروج أول

ص: 283

النهار ضد الرواح، و قال بعضهم: انه بمعنى انطلق، و يمكن ان يكون المراد به هو السير و الانطلاق في زمان مخصوص و هو أول النهار و صدره و يستفاد منه قرب الموقع من المدينة، و قد حدده ارباب السير و التواريخ ب (أحد) و الغدو سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث من الهجرة.

و الأهل: قرابة الرجل و من يجمع و إياهم نسب، أو مصاهرة أو بيت، أو دين، أو صناعة و نحو ذلك، و يستوي فيه المذكر و المؤنث، و المفرد و الجمع، و يختص استعماله بالإنسان و المراد به في المقام خاصة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و من يتعلق به من قرابته و أصحابه، و انما عبر به عز و جل في المقام لبيان شدة الاتصال و الألفة بينه (صلى اللّه عليه و آله) و بينهم، فكأنهم جميعا من اهله و لا يختص بفرد معين كما ذكره جمع من المفسرين، و قدّر بعضهم (بيت اهله) و لكن ذلك لا دليل يدل عليه، و الحق ما ذكرناه.

و انما غدى من اهله بعد المشاورة معهم في أمر الجهاد مع العدو و استمالة قلوبهم اليه مقدمة لتوطين أنفسهم على الجهاد و اقامة دعائم الإسلام.

و مادة (بوأ) تدل على الرجوع و القرار، سواء كان إلى الحق أو إلى الموضع المعين و اصل البواء اللزوم يقال: تبوء المكان إذا استقر فيه و الزمه، و بوّأه المقعد إذا أقره فيه، و بوّأته دارا إذا اسكنته إياها. و قد استعملت هذه الهيئة في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا مضافة إلى اللّه تعالى و أنبيائه الكرام قال تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ» الحج - 26، و قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ» العنكبوت - 58 و قال تعالى: «وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» يوسف - 56 و في المأثور «أبوء بنعمتك عليّ و أبوء بذنبي» و قال (صلى اللّه عليه و آله) في وصف المدينة «هاهنا المتبوّأ». و الجميع يشعر بعناية المبوئ (بالكسر) للمبوّأ (بالفتح).

ص: 284

و مادة (بوأ) تدل على الرجوع و القرار، سواء كان إلى الحق أو إلى الموضع المعين و اصل البواء اللزوم يقال: تبوء المكان إذا استقر فيه و الزمه، و بوّأه المقعد إذا أقره فيه، و بوّأته دارا إذا اسكنته إياها. و قد استعملت هذه الهيئة في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا مضافة إلى اللّه تعالى و أنبيائه الكرام قال تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ» الحج - 26، و قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ» العنكبوت - 58 و قال تعالى: «وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» يوسف - 56 و في المأثور «أبوء بنعمتك عليّ و أبوء بذنبي» و قال (صلى اللّه عليه و آله) في وصف المدينة «هاهنا المتبوّأ». و الجميع يشعر بعناية المبوئ (بالكسر) للمبوّأ (بالفتح).

و في المقام تدل الكلمة على عناية خاصة من سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) للمؤمنين الذين هيء لهم مقاعدهم للقتال لأنه قائدهم و مدبر شؤونهم، و قد هيء بنفسه المقدسة لهم ذلك اهتماما بهم و لعظمة الموضوع، و قطعا للمعاذير، و الدعاوي الباطلة من سائر الإفراد، و قد عين مواقع الجيش و المواضع التي يجب أن يتخذوها أثناء الحرب في القتال، و قد ورد في الأحاديث انه (صلى اللّه عليه و آله) عين سفح أحد - بضم الالف و الحاء، جبل على نحو ميل من المدينة في شمالها على طريق العراق - موقعا حربيا و جعله في ظهورهم و جعل على الشعب عبد اللّه بن جبير مع خمسين من الرماة، و سياتي في البحث التاريخي نقل ذلك. و في الآية الكريمة تقرير إلهي لحسن تخطيط نبيه الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و تدبيره لجهات الحرب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

اي: و اللّه سميع لكل ما قيل في هذه الحرب، سواء من المؤمنين و المنافقين و ما قاله الرسول العظيم لهم و دعاؤه لهم بالنصر. عليم بالنيات و ما في الضمائر.

و في اختصاص هذين الاسمين بالذكر لما يتطلبه المقام من الشدة و السيطرة و ما يجرى في الخلوات بين الناس و ما يقال في تثبيط العزائم و وهنها، و تنشيط المنافقين في هذا المضمار.

ص: 285

و في الآية الشريفة التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و لعله لأجل ما يلوح من الآية الشريفة اللوم و العتاب و التعريض بالمؤمنين لما ظهر من بعضهم من الوهن في العزائم و الفشل في القتال، و لذلك أعرض عن خطابهم إلى خطاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)، و ذكر عز و جل ما يهم هذه الحرب و ما يرتبط بها من تعيين مواقع الجيش، و هو من مختصات قائدهم و أميرهم و به اختبر درجات ايمانهم و ثباتهم و قوتهم.

قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ .

إذ ظرف في موضع نصب متعلق بقوله تعالى «عَلِيمٌ» اي: و اللّه سميع عليم حين همت طائفتان منكم ان تفشلا. و قيل: انه بدل من «إذ غدوت». و قيل: انه متعلق ب: «تبوئ».

و كيف كان فان الآية المباركة تبين وجه اللوم و العتاب و التعريض بالمؤمنين.

و الهم هو القصد و أول العزيمة، و الفشل الجبن و ضعف القلب، و الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج، و بنو حارثة من الأوس و هذا هو المشهور بين المفسرين، و قيل انهما طائفة من المهاجرين و طائفة من الأنصار. و قيل: انه عبد اللّه بن أبي، و جماعة من أصحابه الذين اتبعوه في الخذلان و لكن من المعلوم أن هؤلاء قد نافقوا و فشلوا و قعدوا عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا انهم هموا بالفشل، و اللّه تعالى يذكرهم بالنفاق و الخذلان و الذم و المقت و انهم يومئذ للكفر اقرب منهم للايمان في هذه السورة، فالطائفتان غيرهم، و سيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق بذلك.

ص: 286

قوله تعالى: وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما .

حال من فاعل «همت» اي: الحال انهما يعلمان ان اللّه ناصرهما و يعصمهما عن الفشل، و في الآية الشريفة اللوم و العتاب لهاتين الطائفتين فان المؤمن لا ينبغي له أن يفشل أو يقصده و عنده رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) السبب المتصل و قد امر بالتوكل على اللّه تعالى و الاعتصام به.

و ذكر بعض المفسرين أن هذا الهم لم يكن عن عزم و تصميم على مخالفة النبي (صلى اللّه عليه و آله) و مفارقته له. لان ذلك لا يصدر عن مؤمن بل كان مجرد وسوسة و حديث نفس كما في قوله:

أقول لها إذا جشأت و جاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

و لكن ذلك اجتهاد في مقابل النص فان المعروف من معنى الهم هو القصد دون مجرد الخطور بالبال و الوسوسة مع ان مجرد الخطور لو كان سببا لهذا اللوم و العتاب لما نجى من ذلك مؤمن فلا وجه لاختصاص الطائفتين بهما. يضاف الى ذلك أن الأمر بالتوكل و التذكير بولاية اللّه تعالى لهما فيهما الدلالة على ان الهم لم يكن من مجرد الوسوسة بل هو قصد و عزيمة من دون فعل، فالآية الشريفة تدل على ان اللّه تعالى عصمهما عما همتا به لأنه عز و جل ولي المؤمنين يرعى مصالحهم و يثبتهم على الايمان. قال تعالى: «يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ» ابراهيم - 27.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ .

اي: على اللّه تعالى لا على غيره يتوكل المؤمنون لأنه وليهم و ناصرهم فلا يهنوا في نصرة الدين، و ان المؤمن بمقتضى إيمانه لا بد و ان يتوكل على اللّه تعالى في جميع أموره و لكن يجب أن لا يقصّر

ص: 287

في إقامة الأسباب فانه تعالى ابى ان يجرى الأمور الا بأسبابها، و هو الموفق بين الأسباب و المسببات، و قد ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة و يمدهم بالقوة المعنوية و الظاهرية، كما حكى جل شأنه في الآيات التالية.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ .

بدر: اسم ماء أو بئر بين مكة و المدينة يقال انه كان لرجل من جهينة فسمي الموضع باسمه، و قد وقع فيه أول غزوة من غزوات النبي (صلى اللّه عليه و آله) في السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنتين من الهجرة، و فيها قاتل المشركين و انتصر فيها المسلمون.

و اذلة جمع ذلة، و انما ذكره عز و جل لبيان الذلة في جميع الشؤون الظاهرية المعدة لهذا المقام. و جملة «أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» حال من مفعول «نَصَرَكُمُ» و المراد من الذلة نوع خاص منها هو القلة في العدد و العدة و الانقطاع عن جميع الجهات الدنيوية.

و الآية الشريفة تؤكد نصر اللّه تعالى للمؤمنين فتذكرهم بالنعم التي أنعمها عز و جل عليهم فقد نصرهم اللّه تعالى في بدر ذلك النصر الباهر على أعدائهم مع ما هم عليه من العدة و العدد كما أيد اللّه تعالى المؤمنين بالملائكة و هو يكفي في التنبيه على ان التوكل على اللّه تعالى بعد إقامة السبب الظاهري يؤثر الأثر الكبير العجيب، فتكون الآية الشريفة مسوقة لإيجاب التوكل على اللّه تعالى بذكر أحد موارده، كما انها تؤكد اللوم و العتاب على ما ظهر منهم من الهم بالفشل في أحد، فكان الاجدر بهم ان لا يهنوا في الحرب فان اللّه تعالى على نصرهم لقدير كما نصرهم في غزوة بدر الكبرى مع ذلة المؤمنين ظاهرا و استذلال

ص: 288

المشركين لهم حيث لم يكن لهم أهبة حرب و لا عزة محارب، و لا منعة لهم لا في العدد و لا في العدة فقد كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و ليس لهم من العدة إلا جريد النخل و فرسين و أباعر معدودة يتعاقب عليها بعض المسلمين و قليل من الزاد بينما كان عدد المشركين ما يناهز الالف و لهم العدة الكاملة من الخيل و النعم و السيوف و الدروع إلا ان اللّه تعالى نصر المسلمين بأعز وجه لأنهم كانوا معززين بعزة اللّه تعالى واقعا، قال تعالى: «وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» المنافقون - 8 و قد أوجب على نفسه النصر الكامل لهم بقوله تعالى «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» الروم - 47 فهم و ان كانوا أذلة من قبل العتاة و الجبابرة مقابل تلك القوة و الشوكة في يوم بدر، و لكن لهم العزة من جهة اخرى.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

اي: فاتقوا اللّه بتذكر نعمه لا سيما نعمة النصر في يوم بدر و بترك المعاصي حتى الهم بالفشل و الخذلان و النفاق، و بالصبر في عظائم الأمور حتى تستعدون للقيام بوظيفة الشكر الذي هو من أجل المقامات لأنه يوجب تواتر النعم عليكم و يمنحكم النصر العظيم.

قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ .

إذ ظرف ل (نصركم) و هو يبين ولاية اللّه تعالى على المؤمنين جزاء شكرهم و توكلهم على اللّه تعالى. و الكفاية هي الاستغناء بالشيء عن غيره. و الإمداد هو إعطاء الشيء حالا بعد حال و على طريق الاتصال و قال بعضهم الإمداد ما كان بطريق التقوية و الإعانة، و ما كان

ص: 289

بطريق الزيادة يقال مده مدا، و قال آخرون: مده في الشر، و أمده في الخير. و الهمزة في «ألن» للإنكار، و النفي ب «لن» لتأكيده و للدلالة على أنهم كانوا آيسين من النصر لقلة العدد و العدة.

و إنما اتى بلفظ الرب و اضافة إلى ضمير المخاطبين للدلالة على كمال العناية بهم، و التربيب العظمى و انه لا يدعكم في هذه الحالة التي تحتاجون إلى عطفه و عنايته و نصرته، و هو يدل على تقوية الإنكار.

و الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه و آله) تعريضا بالمؤمنين لما هموا بالفشل.

و المعنى: تقول يا محمد للمؤمنين في أحد عند ما هموا بالفشل أليس اللّه تعالى بقادر على ان يكفيكم العدو كما كفاكم في بدر بأن يمدكم ربكم الذي يرعاكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من السماء و قد أمدكم يوم بدر بأقل من ذلك.

و المراد بقوله «منزلين» اي متهيئين لنصركم و هذا خصيصة لبعض الملائكة دون كلهم، فكما ان جبرئيل موكل لجملة من الأمور السماوية و الارضية التي ليس ذلك من شأن كل ملك كذلك ملائكة النصر في بدر و أحد. و ظاهر الآية الشريفة يدل على انه وعد من النبي (صلى اللّه عليه و آله) للمؤمنين و ترغيب لهم إلى الصبر و التقوى حتى يتحقق الموعود به، و تثبيت لعزيمتهم.

و لا يستفاد من الآية الشريفة وقوع ذلك في غزوة أحد بل كان مجرد وعد إن وفوا بما اشترط عليهم من الصبر و التقوى بخلاف غزوة بدر و الأحزاب و يوم حنين، قال تعالى في يوم بدر «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» الأنفال - 9. و في الأحزاب قال تعالى: «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» الأحزاب - 9، و في يوم حنين قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها»

ص: 290

التوبة - 26.

ثم انه لا منافات بين تحديد الاستجابة لطلب الإمداد في يوم بدر بألف و نزول ثلاثة آلاف من الملائكة فيه، إذ ان مردفين في قوله تعالى: «بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» يمكن أن يكون المراد به أن هذا العدد هو قسم خاص من الملائكة أردف لآخرين، فتكون ثلاثة آلاف لمجموع العدد كما يأتي ان شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا .

تصديق لكفاية اللّه تعالى لهم من الأعداء و نصرتهم عليهم و لكنه وعد بشروط ان وفوا بها يف اللّه تعالى بوعده، و هي الصبر على الجهاد، و الثبات في نصرة دين اللّه، و تقوى اللّه عما يوجب الخذلان و الوهن في العزائم و صرف الإمداد الالهي و الفيض الربوبي، و مجيء الأعداء من فورهم.

و مادة (فور) تدل على الحركة و الاضطراب يقال: فار الماء إذا نبع و جرى، و يقال: فارت القدر إذا غلت، و في الحديث:

«ان شدة الحر من فور جهنم» و تطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر، و استعملت في السرعة و الحركة التي لا سكون و لا بطء فيها، يقال جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره اي من حركته فكأنه في حركة مستمرة.

و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم في أربعة موارد قال تعالى: «حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ» هود - 40، و مثله في سورة المؤمنون - 27، و قال تعالى: «سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ» الملك - 7. و في المقام.

ص: 291

و اختلف المفسرون في المراد منه فقيل: انه من وجههم، و قيل انه من سفرهم، و قيل: انه من غضبهم. و الحق إن جميع ذلك لا دليل عليه لا سيما إذا كان المراد من غضبهم من يوم بدر، لكان الأنسب أن يقول عز و جل من (فورهم ذلك)، مع ان الآية الشريفة بملاحظة سياقها و القرائن نزلت في شأن غزوة بدر.

و الصحيح ان المراد منه هو الفور ضد التراخي اي: يأتوكم المشركون و الأعداء من ساعتهم من دون إبطاء، و إنما وصف عز و جل مجيئهم بذلك لتأكيد السرعة و شدة غضبهم و تصميمهم على منازلة المؤمنين فإذا كانوا كذلك فان الإمداد واقع لا محالة و يكون أسرع.

قوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ .

بيان لسرعة الإمداد عند سرعة مجيء المشركين؛ و الآية الشريفة تبين أقصى الحالات التي يحتاج إليها المؤمنون إلى المدد، و هي حالة المباغتة في الحرب و سرعة الحركة التي يتطلبها المحاربون في تلك الحالة و قد وعدهم عز و جل بانزال المدد فوق ما يتصور من السرعة.

و (مسومين) من السيما و هي العلامة، يقال: سوّمه و يسومه تسويما اي اظهر علامة الشيء. يعني: ان الملائكة كانوا معلمين بعلامة خاصة، كما هو الشأن في جميع الحروب التي يكون لكلا الطرفين علامة خاصة يتميز بها عن الطرف الآخر و بها كان المسلمون يعرفون الملائكة، كما عرفهم المشركون و قد ملئوا منهم رعبا كما هو المعروف.

و قد اختلفت الروايات في علامة الملائكة، ففي بعضها انها (العمائم) و في بعضها الآخر ان سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي

ص: 292

الخيل و اذنابها. و غير ذلك من الاخبار.

و الحق ما ذكرناه فان المناط هو معرفة الطرفين الملائكة أحدهما بعلامة النصر و تثبيت القلوب، و الآخر بالخذلان و الرعب، و لا ينافي ذلك ان تكون للملائكة علائم خاصة، و لا ثمرة في البحث عن العلامة الخاصة بعد وضوح الحال لكلا الطرفين.

و الآية الشريفة لا تدل على نزول الملائكة في أحد لان سياقها بضميمة القرائن تدل على انها ناظرة إلى يوم بدر، و قد وعدهم عز و جل بالامداد و لكنهم وهنوا و عصوا و تركوا أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لو انهم صبروا و اتقوا اللّه لأمدهم الملائكة بالنصرة و الثبات.

قوله تعالى: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ .

تثبيت آخر لقلوب المؤمنين لتطمئن نفوسهم. و هو يدل على عدم نزول الملائكة في أحد، لان اللّه تعالى جعل نزول الملائكة مشروطا بأمور ثلاثة و هي: الصبر، و التقوى، و مجيء الأعداء من فورهم، و لم تتحقق تلك الشروط فلم يكن ذلك إلا وعدا منه عز و جل فيه البشارة و الطمأنينة لقلوب المؤمنين.

و الضمير يرجع إلى ما ورد في الآية السابقة من الاخبار بنزول الملائكة و الوعد بالامداد فانه و ان لم يتحقق الموعود به، كما عرفت لكن ذلك بشرى للمؤمنين يذهب به خوفهم و تنبسط نفوسهم، و هذه حكمة عظيمة من تذكيرهم بما مضى من المدد و الوعد بالامداد.

قوله تعالى: وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ .

حكمة أخرى في الوعد بالامداد و هي تسكين قلوب المؤمنين و تثبيتها

ص: 293

عند النزال فلا يلحقهم الخوف من كثرة العدو وعدتهم.

و انما أخر عز و جل «به» في المقام و قدمه في موضع آخر قال تعالى: «وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» الأنفال - 10. و لعل الوجه في ذلك ان المؤمنين لذلتهم و قلة عددهم و عدتهم في بدر لم يكن لهم أمل في النصر الا ارادة اللّه تعالى و نصرته و انجاز وعده عز و جل، كما هو معروف من انقطاعهم إلى اللّه تعالى، فكان القصر في الكلام بخلاف أحد، فان الأمر لم يكن كذلك فنزل الخطاب من غير قصر.

قوله تعالى: وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ .

(عند) يفيد مطلق الحضور الأعم من الجسماني و الروحاني و ما هو فوق ذلك كالحضور عند اللّه تعالى، و قد استعمل في القرآن الكريم في الجسمانيات المحضة في الدنيا كقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ» البقرة - 198، و قوله تعالى: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ» النحل - 96 و في الآخرة كقوله تعالى: «وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ» الصافات - 28 و في المجردات و الروحانيات كقوله تعالى:

«إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ» الأعراف - 206، و مثل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى» النجم - 14. و في فوق الروحانيات و المجردات كقوله تعالى: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ» النحل - 96، و قال تعالى: «لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ» القلم - 34 إلى غير ذلك من الآيات الشريفة بل استعمل مضافا إلى اللّه تعالى في القرآن الكريم بانحاء مختلفة.

و الحصر في الآية الشريفة يفيد ان جميع أنواع النصر - معنوية كانت أو مادية - تنحصر به تعالى، لفرض ان الكل مسخر تحت

ص: 294

امره و مشيته و ان الملائكة لا شأن لهم في ذلك إلا انهم بمنزلة الآلة الجسمانية و القوى المحضة.

و في ذكر العزيز الحكيم بيان لعلة انحصار النصر فيه تبارك و تعالى لان من كان عزيزا و قويا منيعا بكل معنى الكلمة و عالما حكيما بدقائق الأمور ينحصر النصر فيه لا محالة.

قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ .

بيان لبعض وجوه الحكمة التي من أجلها ينصر اللّه تعالى المؤمنين مطلقا، و حينئذ لا فرق بين أن يكون اللام متعلقا بقوله تعالى:

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ» أو يكون متعلقا بالنصر في قوله تعالى:

«وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ» فان اللّه تعالى عزيز حكيم يضع الأشياء على ما تقتضيه الحكمة و قد ذكر عز و جل وجوها من الحكمة في نصر المؤمنين و هي قطع طرفا من الكافرين، و كبتهم.

و قطع الطرف كناية عن إهلاك طائفة من الكافرين و إضعاف قوتهم و اذهاب شوكتهم كما وقع في يوم بدر و خيبر و نحوهما.

و مادة كبت تدل على الاهانة و الذلة بدواعي مختلفة إما الخزي و العار، أو الصرف، أو الرد بالغيظ، أو الرد بعنف و تذليل، أو بالصرع على الوجه، أو بالهزيمة و نحو ذلك، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد أحدها المقام، و الثاني و الثالث قوله تعالى: «كُبِتُوا كَما كُبِتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» المجادلة - 5 و الجامع هو الاهانة و الذلة. و ما ذكره اهل اللغة و التفسير من المعاني انما هو دواعي الاستعمال و ان جعلوها من اصل المعنى.

ص: 295

و كبت الذين كفروا وقع في يوم الأحزاب و أحد و أمثالها حيث أذلهم اللّه تعالى بأخسّ وجه فقد رجعوا خائبين منهزمين قد انقطعت آمالهم و لم يلحقهم إلا الخزي و العار.

قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ .

جملة معترضة تفيد ان جميع الأمور المتعلقة بالخلق سواء كانت في الهدى أو التعذيب أو القتل أو الأسر أو التوبة ترجع إلى خالقهم و قدرته و ارادته و ليس للنبي (صلى اللّه عليه و آله) شيء من ذلك سوى انه ينفذ أمر اللّه تعالى فيهم فانه بشر مخلوق مثلهم.

و انما أدرج عز و جل هذه الجملة في التقسيم لبيان ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) إذا أصابه مكروه أو إذا دارت الدائرة على المسلمين لا يلام على ذلك فانه ليس له في ذلك صنع و انما يرجع إلى قدرة اللّه تعالى و إرادته، و كذا بالنسبة إلى الظفر على الأعداء فان الشكر لا بد ان يكون للّه تعالى على ما أنعم.

و لهذه الجملة في هذا الموضع لها وقع كبير في النفوس، فان امر الحرب شديد و لا يمكن ان تتقبلها النفس بسهولة فان تهيئة الناس لها تهيئة نفسية و معنوية و ظاهرية تحتاج إلى عناية خاصة، و لأجل ذلك أدرج سبحانه هذه الجملة لبيان ان جميع الأمور ترجع إلى اللّه تعالى و هو الذي يحكم ما يريد فليس للافراد دخل في هذا الأمر، فكان لها تأثير كبير في نفوس المؤمنين، و تزيد في انقطاعهم إلى اللّه تعالى، و تظهر توكلهم عليه، و حينئذ كان الإمداد و الفيض الربوبي كبيرا، و الاقدام على الحرب و المنازلة شديدا، ففي هذا البيان الربوبي من الحكم الدينية و الاجتماعية و الحربية ما لا يخفى.

ص: 296

قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ .

الجملتان معطوفتان على قوله «ليقطع» و هما من أفراد التقسيم التي ذكرت لبيان وجوه الحكمة في نصر اللّه تعالى للمؤمنين.

و المعنى: أو يتوب على الكفار و المشركين فيهديهم إلى الإسلام و تزيد بذلك شوكة المسلمين و عددهم و عدتهم، و هذا هو نصر كبير فانه لا يختص في ساحة القتال و منازلة الأعداء، أو يعذبهم في الدنيا بما يريده اللّه تعالى و يشاء، أو في الآخرة بما أعد لهم من العذاب الأليم. و ذلك لأنهم ظالمون لأنفسهم فقد اعرضوا عن الإسلام و لم يحسنوا التوبة إلى اللّه تعالى.

و الترديد الظاهري في الآية المباركة إما بداعي تهويل الأمر عليهم أو لأجل وقوع ذلك بالنسبة إلى الأفراد فبعضهم استأصلوا، و بعضهم كبتوا، و بعضهم تاب اللّه عليهم بعد أن اسلموا، و بعضهم عذبوا.

و يمكن أن يكون قوله تعالى: «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» و الآية اللاحقة لأجل ترغيبهم إلى التوبة، و العفو عما يفعله أراذل الأنام، و أن العفو عند المقدرة من أخلاق الكرام.

و قد ذكر المفسرون في اعراب هاتين الجملتين «أو يتوب عليهم أو يعذبهم» وجوها مذكورة في كتب التفسير، و الجميع لا يرجع إلى محصل و تحتاج إلى عناية زائدة.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

كلام مستأنف يفيد عظمة من يرجع جميع الأمور اليه فانه مالك لجميع ما في السموات و الأرض ملكا حقيقيا يفعل فيها ما يشاء و ما يريد، خاضعة لديه، مسخرة تحت إرادته، حكيم في أفعاله.

ص: 297

و الجملة في موضع التعليل لما تقدم.

قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

من حكمته انه يغفر لمن يشاء، و قد فسره عز و جل في موضع آخر قال تعالى: «وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى» طه - 84. و يعذب من يشاء إذا أعرض عن الهدى و التوبة.

و تعليق المغفرة و العذاب على المشيئة لبيان انه تعالى يفعل ذلك وفق حكمته المتعالية، و تنبيه الإنسان على عدم الاغترار بأعماله و أفعاله و عدم إيئاسهم من رحمته تعالى، و بيانا لإحاطة رحمته و مغفرته على غضبه و عذابه على أي فرض.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تقرير لمضمون ما ورد في الصدر، فهو غفور للمذنبين رحيم لهم لئلا يحصل لهم اليأس من رحمته تعالى.

بحوث المقام

بحث دلالي:
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» كثرة اهمية النبي الكريم بأمته و عنايته (صلى اللّه عليه و آله) بأمورهم فإنهم رعيته و هو مسئول عن رعيته فقد

ص: 298

خرج من اهله الذين هم أولى الناس به غدوة ليعين مقاعد القتال و مواضع جيش المسلمين، و لأهمّيّة الأمر و عظمته فقد خرج غدوة اليه و قدمه على سائر أموره و يستفاد منه قرب الموضع من مدينة الرسول، و قد عينه التاريخ بانه جبل أحد كما هو المشهور المعروف هناك.

الثاني:

يستفاد من سياق الخطاب العتاب و اللوم على ما فعله المؤمنون من الوهن في العزيمة و الفشل في القتال و لذا أعرض عز و جل عن خطابهم إلى خطاب النبي الكريم في عدة مواضع من هذه الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» ، و قوله تعالى: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ» ، و قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» . و وجه الخطاب إلى المؤمنين في كل مورد يستفاد منه اللوم و العقاب.

الثالث:

يستفاد من مجموع الآيات الشريفة الواردة في المقام و غيره كثرة هموم نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى شؤون أمته، و قد قاسى في سبيل اللّه و إظهار كلمة الحق من الأعداء و المنافقين ما لم يقاسه أحد من أنبياء اللّه تعالى فان أنبياء اللّه تعالى خصوصا سيدهم (صلى اللّه عليه و آله) دائما في حالة الجهاد و المحاربة مع غيرهم إلا أن مراتب الجهاد و المحاربة مختلفة قولا و عملا، و ذلك لأنهم مظاهر العقل المجرد و اخلاق اللّه تعالى و معارفه الواقعية، و مثل ذلك إذا اختلط مع غيره إنما يكون من اختلاط العلم بالجهل المركب أو البسيط، و عداء الطرفين معلوم لكل ذي شعور.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» علم اللّه تعالى بالجزئيات كما تدل عليه الادلة العقلية و النقلية

ص: 299

قال تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ» غافر - 19.

و تتضمن هذه الجملة العتاب مع الدلال و هو من أجمل الاساليب و ابدعها كما في قوله تعالى: «وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما» فان العتاب فيه ظاهر أي لأي شيء صدر منكم الهم بالفشل مع ان اللّه تعالى معكم يحفظكم و يرعى مصالحكم.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ» العفو عن ما صدر عنهم من الهم بالفشل و ان ذلك يزول فتستقر النفوس و يثبت المؤمنون في أمورهم بالتوكل على اللّه تعالى، و إن من حق الايمان باللّه تعالى هو التوكل عليه و هو يكفى المؤمنين.

و حذف المتعلق في التوكل للدلالة على أن المؤمن ينبغي ان يتوكل عليه في جميع أموره و شئونه جليلها و حقيرها سهلها و صعبها.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» بقرينة الحال هي الانقطاع التام عن المخلوق و عالم المادة و التوجه الكامل إلى عالم الغيب، و حينئذ يقع نصر اللّه تعالى لا محالة، فان المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في نصرة اللّه للمؤمنين في مواضع مختلفة ان المناط كله هو تحقق هذه الحالة الانقطاعية الى اللّه عز و جل، و كل من حصلت له هذه الحالة فهو من اصحاب بدر الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة دين اللّه تعالى و بذلوا مهجهم في سبيله عز و جل، فسلام عليكم يا اهل بدر فقد فضلتم على بدر السماء لأنكم أنوار الهدى و اصحاب محمد المصطفى، فلا ينسى مناركم، و يرتجى مقامكم ابدا، و فيكم يدوي صوت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في الآفاق:

«زملوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة و تشخب أوداجهم دما» و احمرار الشمس حين طلوعها و غروبها من شواهد بقاء حياتكم الابدية و رمز سعادتكم السرمدية.

ص: 300

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ» ان الكفاية انما يتحقق في الإمداد الربوبي و هو لا يختص بنوع خاص، بل يشمل جميع ما يتعلق بنصرة المؤمنين المادية و المعنوية و ما يتعلق بشئونهم العسكرية و ثبات نفوسهم و استقرارها و إلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ» ان الإفاضات الربوبية بقدر اطمينان القلب الحاصل من التصفية، و لا بد أولا من البشارات الإلهية بالفيض و الإمداد، و ان لذلك الأثر الكبير في اطمينان القلب الذي يكون المؤمن بحاجة اليه في جميع حالاته لا سيما حالة الجهاد و الحرب مع الأعداء.

و إنما وجه الخطاب إلى الرسول الكريم باعتبار انه واسطة الفيض و لبيان أن كل فيض لا بد ان يكون عن طريقه و من وجهه، و إذا اجتمعت الواسطة من تصفية النفس و اطمينان القلب و التوجه اليه عز و جل يقع النصر و الفيض الربوبي لا محالة، و يتقدران بقدر اطمينان قلب المفاض عليه و سائر خصوصياته.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» وجوه الحكمة في الجهاد مع الأعداء و قد عد سبحانه و تعالى جملة منها و هي قطع دابر الكافرين و اذهاب شوكتهم، و كبتهم أو الهداية و التوبة عليهم، و زيادة شوكة المسلمين، أو التعذيب بما يراه اللّه تعالى في شأنهم، و قد ذكر عز و جل جملة أخرى منها في مواضع متفرقة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب.

العاشر:

انما عبر سبحانه و تعالى بقطع الطرف، لأن الجيش انما يتقوم بقيام طرفه فإذا قطع فلا تبقى له قائمة، كما في قطع أطراف الإنسان، و القطع هنا أعم من القتل أو الأسر أو الخذلان أو التطميع

ص: 301

بالمادة، أو إيقاع الرعب في قلبه، ففي كل ذلك قطع للطرف و اذهاب للشوكة.

الحادي عشر:

إن في وقوع جملة «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» المستأنفة الواقعة بين جملتين مرتبطتين فيها من الحكم الكثيرة ما لا يخفى فمنها انها تكون لأجل التهويل و تعظيم الموضوع، و التسلية للنبي العظيم (صلى اللّه عليه و آله) بما جرى على اهله و عشيرته من القتل و الأسر، و تسكينا لأقاويل المنافقين لما كثرت حيث قالوا لو كان نبيا لما كسرت رباعيته و لا شج و جهه، و منها دفع توهم الغلو فيه (صلى اللّه عليه و آله) نظير قوله تعالى: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى» الأنفال - 17 و جلبا لقلوب المؤمنين، و منها توطئة لذكر التوبة بعد ذلك لئلا يستوحش المسلمون من قبول توبتهم؛ فإنها من اللّه تعالى و يكون التوفيق لتوبتهم منه تعالى أيضا، مضافا الى أن لهذه الجملة من التأثير المعنوي في ساحة القتال و الوغى على النفوس ما لم يكن للسلاح و غيره، و هي تؤثر في الروح المعنوية و تشدها و تقويها في حالة يكون المحاربون بأشد الحاجة إليها، و غير ذلك من الحكم الكثيرة و قد جرت عادة الفصحاء و البلغاء على ذكر جملة مستأنفة بين جمل مترابطة يشد بعضها مع بعض وحدة كلامية اهتماما بالموضوع.

الثاني عشر:

ان قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» بملاحظة سائر الآيات المباركة يدل على أن المنفي هو بعض مراتب القضاء و القدر، و الا فان امر التشريع و جعل الاحكام مفوض اليه فانه «ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» النجم - 4 فلا يصح لأحد ان يتمسك بهذه الآية الشريفة و ينفي بعض الأمور عنه (صلى اللّه عليه و آله) باعتبار انه ليس له من الأمر شي.

ص: 302

بحث روائي

في تفسير القمي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» قال (عليه السلام): «سبب نزول هذه الآية ان قريشا خرجت من مكة تريد حرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فخرج يبغي موضعا للقتال».

أقول: سياق الآية المباركة يشهد على صحة ما ورد في مثل هذه الروايات؛ كما عرفت في التفسير.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» قال: «نزلت في عبد اللّه بن أبي و قوم من أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج و القعود عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أقول: يمكن ان يكون فعل عبد اللّه بن أبي سببا لحصول الهم بالفشل في جمع آخر، و الآية المباركة ناظرة إلى هذا الجمع و اما عبد اللّه بن أبي فقد قعد عن القتال لا أنه همّ بالفشل، و يشهد لذلك ما رواه الطبرسي في المجمع و السيوطي في الدر المنثور، و الاختلاف في من همّ بالفشل لا يضر بعد معروفيته.

و في المجمع عن الصادقين (عليهما السلام): «هما بنو سلمة و بنو حارثة حيان من الأنصار، و قيل هما بنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس و كانا جناحي العسكر».

و في الدر المنثور عن السدي في حديث: «و خرج رسول اللّه

ص: 303

(صلى اللّه عليه و آله) إلى أحد في ألف رجل، و قد وعدهم الفتح إن يصبروا فرجع عبد اللّه بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه و قالوا له: ما نعلم قتالا و لئن أطعتنا لترجعن معنا... ثم قال «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» و هم بنو سلمة و بنو حارثة همّوا بالرجوع حين رجع عبد اللّه بن أبي فعصمهم اللّه و بقي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في سبعمائة».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما كانوا أذلة و فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و انما نزل «و أنتم ضعفاء» أقول: و روى مثله في المجمع و هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في معنى الذلة؛ و هو الانقطاع الى اللّه تعالى من كل جهة، و إنما ينفي الأمام (عليه السلام) الذلة الحاصلة لبعض الجيوش عند غلبة العدو عليه لا المعنى الذي قلناه، و قوله (عليه السلام) «و نزل» المراد به النزول تأويلا لا النزول اللفظي.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «قرأت عند أبى عبد اللّه (عليه السلام) «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» فقال (ع):

مه ليس هكذا أنزلها اللّه انها أنزلت: أنتم قليل».

أقول: هذا الحديث يبين ما ذكرناه، و المنفي هو الذلة الحاصلة لبعض النفوس عند فقدان الحامي و الكفيل. و اما الذلة التي تكون بسبب قلة العدد و العدة و الانقطاع عن الخلق فلا تنفيها الروايات.

و في الكافي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» قال (ع): العمائم اعتم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فسد

ص: 304

لها من بين يديه، و من خلفه، و اعتم جبرئيل فسدلها من بين يديه و من خلفه».

و في الكافي ايضا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كانت على الملائكة العمائم البيض المسترسلة يوم بدر».

أقول: تقدم ما يتعلق بهذه الروايات في التفسير.

في الدر المنثور عن انس بن مالك قال: «كسرت رباعية رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد و دمي وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، و يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، و هو يدعوهم إلى ربهم؟! فانزل اللّه تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» .

ص: 305

بحث عرفاني

يمكن ان يكون قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ» اشارة إلى معراج آخر لنبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فان معراجه الاول كان في مكة من بيت أم هاني و كان من الخلق إلى الحق و الانقطاع عن العلائق بالكلية و الانقطاع إلى الرب الفياض من جميع الجهات و إعداد نفسه الأقدس لمعراج آخر و السفر من الحق لكشف الحجب الظلمانية عن النفوس و لا حجاب أقوى و اغلظ من الكفر مطلقا و لا ينكشف ذلك الحجاب إلا بالسيف فكما أن لجهاده و حروبه المقدسة دخلا في نظام التشريع لها دخل في نظام التكوين أيضا، و هو إثارة العقول المستترة بالسيوف التي تعمل في نصرة الحق. و الغدو من الأهل لتعيين مواقع القتال للمؤمنين معراج للرسول الكريم لإظهار الحق و ازالة الحجب و الاغشية الظلمانية، و من المعلوم إن أغلى الأشياء و أعظمها لدى الإنسان هي الروح التي بين جنبيه و نفسه التي يقضي بها آماله و يفعل أفعاله فهي الأصل و جميع ما سواها من الأهل و المال و سائر الجهات من الفروع التي ترجع إلى حفظ النفس و حب بقائها، و هذه الجوهرة النفيسة إن بذلت في الأوهام و الخيالات و الماديات فقد بيعت بأرخص الأشياء و شريت بثمن بخس، و ان كان بذلها في الحقيقة التي لاحد لكمالها بوجه من الوجوه فهي السعادة العظمى. و من مظاهر تلك الحقيقة الجهاد في سبيل اللّه تعالى فانه اتصال بالمبدأ القيوم قال تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» آل عمران - 169 فهل يعقل حدا لمعنى «عند»

ص: 306

من لا تناهي لحد الحضور لديه، مضافا إلى ان في رفع الحجب و الأستار من الأسرار و الدقائق ما لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

بحث تاريخي
اشارة

الآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها ترشد المؤمنين إلى بعض الأمور التي لا بد من مراعاتها في ميدان القتال و الجهاد مع اعداء اللّه تعالى فقد أمرت المسلمين بالتوكل عليه في جميع أمورهم، و الصبر و الثبات و التقوى عن جميع ما يوجب البعد عنه عز و جل، و الاستعانة و الانقطاع اليه لطلب الإمداد الربوي و الفيض الالهي المعد للمنقطعين اليه و المستغيثين به و قد بين عز و جل بعض الصفات التي يجب على المؤمن التحلي بها و هي طاعة اللّه تعالى و متابعة الرسول الكريم، و الصبر و التقوى، و التوكل عليه و ترك ما يوجب الوهن في العزائم، و قد ذكر عز و جل غزوة بدر و غزوة أحد.

اما الاولى فلأجل ما حصل من المسلمين من الالتفات حول النبي الكريم و الانقطاع إلى اللّه تعالى و الإمدادات الغيبية لهم و موجبات النصر على الأعداء.

و اما الثانية فلما ظهر من بعض المسلمين من الهم بالفشل و الوهن في العزائم و ترك متابعة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في وصاياه و أوامره و كادوا أن يقاسوا مرارة الهزيمة لو لا ما منّ اللّه تعالى به عليهم من العفو و التوبة فأمدهم بالامداد الغيبي، و سيأتي ذكر غزوة أحد في الآيات الآتية و الإشارة إلى بعض غزوات رسول اللّه (صلى اللّه

ص: 307

عليه و آله) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم. و نحن نذكر في هذا البحث عدد غزوات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و ما يتعلق بغزوة أحد و اما سائر الغزوات فيأتي البحث عنها في مواضعها.

حروب رسول اللّه (ص):

تنقسم حروب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى قسمين:

الاول: الغزوة و هي القوة المؤلفة من اعداد كبيرة مقاتلة التي كان يقودها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بنفسه الأقدس.

الثاني: السرية و هي مجموعة من الجند (يقدر عددها ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو اكثر) يناط بهم مهمة قتالية محدودة أو مهمة استطلاعية حيث انها تستقصى اخبار العدو و تحصل المعلومات اللازمة عنه و لا تخرج إلا باذن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) فيعقد لها رأيتها، و المعروف انه (صلى اللّه عليه و آله) كان يودعها بنفسه الكريمة و يدعو لها بالنصر و التوفيق.

و اما العين أو العيون فان المراد منها إرسال شخص أو اكثر يقوم بمهمة استطلاعية و التجسس على الأعداء فقط، و عدد سرايا الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) ست و ثلاثون سرية على ما هو المعروف.

غزوات رسول اللّه (ص):

المعروف ان عدد غزوات رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ست و عشرون

ص: 308

غزوة، و قيل إنها اكثر.

أولها: غزوة الأبواء و تسمى غزوة ودان - و هي قرية بين مكة و المدينة بينها و بين الأبواء ستة أميال - و ذلك في محرم من السنة الثانية من الهجرة.

ثانيها: غزوة بواط وقعت في ربيع الاول من السنة الثانية أيضا و بواط جبال جهينة على إبراد من المدينة جهة ينبع.

ثالثها: غزوة العشيرة في جمادي الاولى من تلك السنة.

رابعها: غزوة بدر الاولى بعد رجوع النبي (صلى اللّه عليه و آله) من غزوة العشيرة بقليل.

خامسها: غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة و معه ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، مائتان و نيف و أربعون من الأنصار، و الباقون من المهاجرين، و معهم فرسان و سبعون بعيرا يتعاقبون عليها و الحامل للواء مصعب بن عمير العبدري. و أما المشركون فقد كانوا تسعمائة و خمسين رجلا معهم مائة فرس و سبعمائة بعير.

سادسها: غزوة بني سليم في النصف من شوال من نفس السنة.

سابعها: غزوة السويق و سميت هذه الغزوة بهذا الاسم لان المشركين كانوا يلقون جرب السويق و هم يهربون.

ثامنها: غزوة ذي أمر و هو ماء و تسمى بغزوة غطفان أيضا وقعت في شهر ربيع الاول من السنة الثالثة.

تاسعها: غزوة بحران عند ما بلغ النبي (صلى اللّه عليه و آله) ان جمعا من بني سليم يريدون الغارة على المدينة فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لست من جمادي الأولى.

عاشرها غزوة احد لعشر خلون من شوال من السنة الثالثة على ما يأتي من التفصيل.

ص: 309

الحادية عشرة: غزوة حمراء الأسد - و هي من المدينة على سبعة أميال - و أقام (صلى اللّه عليه و آله) بها الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء بعد رجوعهم من غزوة احد.

الثانية عشرة: غزوة بني النضير لما نقضوا العهد مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أرادوا قتله غدرا فخرج لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في عسكر، فتحصنوا و حاصرهم حتى خضعوا لأمره و رضوا بالجلاء و ذلك في السنة الرابعة.

الثالثة عشرة: غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بني النضير بشهرين و هما ربيع الاول و ربيع الثاني في السنة الثالثة، و ذلك لما تهيأت قبائل من نجد لحربه فتجهز لهم و خرج في سبعمائة مقاتل.

الرابعة عشرة: غزوة بدر الآخرة في شعبان من هذه السنة عند ما بلغه توعد أبي سفيان.

الخامسة عشرة: غزوة دومة الجندل - و هي مدينة بينها و بين المدينة خمس عشرة ليلة و بين دمشق خمس ليال عند ما بلغه ان جمعا كثيرا فيها يظلمون من مر بها و يريدون الاغارة على المدينة فخرج لهم (صلى اللّه عليه و آله) لخمس ليال بقين من شهر ربيع الاول من السنة الخامسة و كان في ألف من المسلمين.

السادسة عشرة: غزوة بني المصطلق - و تسمى بغزوة المريسيع - قبل غزوة الخندق بثلاثة أشهر من السنة الخامسة.

السابعة عشرة: غزوة الخندق وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة عند ما اجتمعت قبائل قريش في اربعة آلاف مقاتل و غطفان في ألف فارس، و بنو مرة في أربعمائة و بنو أشجع و بنو سليم في سبعمائة و بنو أسد و غيرهم حيث بلغ المجموع عشرة آلاف مقاتل

ص: 310

يقودهم أبو سفيان بن حرب.

الثامنة عشرة: غزوة بني قريظة و كانت عند انصرافه عن الخندق و لما كان الظهر امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مؤذنا ان يؤذن من كان يصلي العصر لا يصليها إلا في بني قريظة بحكم سعد بن معاذ.

التاسعة عشرة: غزوة بني لحيان، و هم قبيلة نزلت شمالي شرق مكة و هم الذين قتلوا سبعين صحابيا الذين أرسلهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) في صفر من السنة الرابعة إلى نجد ليدعوهم إلى الإسلام، فخرج إليهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في جمادي الاولى من السنة الخامسة في مأتي راكب و معهم عشرين فرسا.

العشرون: غزوة الحديبية في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة عند ما خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) معتمرا لا يريد حربا و معه من المهاجرين و الأنصار و غيرهم ما يبلغ عددهم ألف و خمسمائة و لكن المشركون منعوه من الزيارة و دخول مكة إلا ان الجميع اتفقوا على الصلح، و سمي بصلح الحديبية.

الواحدة و العشرون: غزوة خيبر في محرم من السنة السابعة عند ما خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إليها في ألف و أربعمائة رجل معهم مائتا فارس و خيبر تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي.

الثانية و العشرون: غزوة وادي القرى.

الثالثة و العشرون: غزوة الفتح أي فتح مكة، و ذلك إنه كان بين النبي (صلى اللّه عليه و آله) و بين قريش عهد يمنع احد الفريقين من مقاتلة الآخر و الزعامة عليه و عند ما حارب بنو بكر - و هم في عهد قريش - بني خزاعة - و هم في عهد المسلمين - و الجميع بمكة ساعد القرشيون بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قاتل مستخفيا حتى أخرجوا

ص: 311

خزاعة إلى الحرم و اصابوا منهم ما اصابوا و بذلك نقضت قريش العهد فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى المدينة لتجديد العهد و لكن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عقد العزم على فتح مكة فتجهز للسفر و سار النبي (صلى اللّه عليه و آله) في منتصف شهر رمضان في عشرة آلاف و وصل إلى مكة في عشرين خلت من نفس الشهر حتى وصل الحجون موضع رايته.

الرابعة و العشرون: غزوة حنين عند ما اجتمعت هوازن و ثقيف و غيرهما من القبائل و خرجوا مع الأموال و الذراري و النساء إلى غزو رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و عند ما بلغه (صلى اللّه عليه و آله) خبر هذه الغارة خرج في اثني عشر ألف مقاتل في شوال من السنة الثامنة.

الخامسة و العشرون: غزوة الطائف و ذلك لما قدم المنهزمون من ثقيف و من انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم مدينتهم و جمعوا ما يحتاجون اليه و استحصروا فيها فسار إليهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) بمن معه في شوال من نفس السنة.

السادسة و العشرون: غزوة تبوك و هي آخر غزوة غزاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بعد خروجه من الطائف بستة أشهر عند ما بلغه ان نصارى العرب قد اجتمعوا مع جند الروم لمحاربته و وصلت مقدمتهم إلى بلقاء - ارض بالشام - فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالتجهيز لغزوهم فتجهز ثلاثون الفا في ساعة العسرة و ساروا إلى تبوك في جمادي الثانية من السنة الثامنة و لما انتهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى تبوك لم يلق حربا و صالح أهلها و قفل راجعا.

و اما غزوة موته فلم يشترك فيها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و انما جهز جيشا في ثلاثة آلاف مقاتل و استعمل عليه زيد بن حارثة

ص: 312

و قال: «ان أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فان أصيب فعبد اللّه ابن رواحه» فسار الجيش و شيعهم الرسول الكريم و ذلك في جمادي الاولى من السنة الثامنة.

هذه جملة غزوات النبي (صلى اللّه عليه و آله) و هذا الحصر استقرائي تاريخي يختلف حسب شدة الاستقراء و ضعفه و لعله لأجل ذلك اختلفوا في عدد الغزوات.

و نحن نذكر في هذا البحث غزوة احد و ما يتعلق بها من موقعها و اسبابها و نتائجها و كيفية الحرب و غير ذلك على ما هو المعروف بين اهل السير و التواريخ و ما ورد عن الائمة الهداة (عليهم السلام) ان شاء اللّه تعالى.

موقع القتال:

هذه الغزوة كانت في أحد و هو جبل بظاهر المدينة في شمالها على خمسة أميال و هو اقرب الجبال إليها، و طوله من شرقه إلى غربه يساوي ستة كيلو مترات، و ترتفع قمة هذا الجبل عن سطح البحر بمقدار ألف و مأتي مترا.

و قد عسكر المسلمون و المشركون في هذا الموضع، و كان موقفا الفريقين متعارضا لاختلاف هدف كل واحد منهما. فالفريق الذي كان يريد مهاجمة المدينة (المشركون) فانه استقبل جبل احد و استدبر المدينة، و الفريق الذي أراد الدفاع عن المدينة (المسلمون) فانه استقبل المدينة و استدبر جبل احد.

ص: 313

و من ذلك يعرف ان جيش المشركين وصل إلى جنوب غربي جبل احد عن طريق وادي العقيق غربي المدينة، و تمكن من الوصول إلى الطرف الشمالي من المدينة المنورة، فيكون الموضع الذي عسكر فيه المشركون يقع بالتحديد شمال شرق المدينة.

و قد اطلق المشركون ابلهم و خيولهم في مزارع المسلمين شمالي المدينة ليستنفروا المسلمين و يجبروهم على القتال خارج ابنية المدينة و عند السفوح الجنوبية بجبل احد.

و قد تجنبوا الدخول إلى المدينة المنورة و حاراتها و آطامها و تحصيناتها فإنهم كانوا يعلمون بأنهم لا يتمكنون من محاربة المسلمين فيها لأنهم لم يكونوا يحسنون مثل هذا النوع من القتال.

و قد لفت الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) انظار أصحابه إلى هذه الجهة عند ما اظهر رأيه لهم في البقاء داخل المدينة و التحصن فيها و مقاتلة المشركين إذا هموا الدخول فيها، لعلمه (صلى اللّه عليه و آله) بأنهم لا يقدرون على ذلك و سينصرفون عنها خائبين تماما كما حدث في غزوة الخندق أو لغير ذلك من الأسرار، و بعد ما ورد في القرآن الكريم من الآيات المتقدمة يشير إلى بعض منها و لكن اكثر المسلمين اتفقوا على الخروج و مقاتلة المشركين خارج المدينة و كان ذلك خلاف المأمول منهم، و لقد لاقوا المتاعب و المصاعب في خروجهم هذا.

و كيف كان فقد امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه بالتهيؤ للخروج و دخل داره و تقلد سيفه و ارتدى عدة القتال، و لما تردد من خالف رأي النبي (صلى اللّه عليه و آله) و أظهروا الرغبة على النزول على رأيه قال قولته المشهورة «لا ينبغي لنبي لبس لامته - الدرع و نحوه - ان يضعها حتى يحكم اللّه بينه و بين عدوه» و لقد

ص: 314

تلقى الوحي من السماء بالخروج قال تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» فخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و معه ألف رجل من ناحية المشرق حتى نزل (الشيخين) موضع بين المدينة و أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد - و لقد اختار النبي (ص) أرضا للقتال في أحد بمنتهى الحكمة و المهارة، و لقد اعترف بذلك غير المسلمين أيضا فوضع خمسين من الرماة في فم الشعب خلف قواته لغرض حرمان العدو من الالتفاف على قواته من الخلف، و تحمى ظهرها و تستر انسحابه عند الحاجة و حددت كتب السير و التواريخ ذلك الموضع ب (جبل عينين) و ان كان ذلك اقرب إلى الربوة منها الى الجبل.

و كيف كان فقد أسند إلى هذا الموضع جناحه الأيسر كما أسند جناحيه الأيمن الى سفح جبل أحد الذي كان شديد الانحدار و استقبل قوات المشركين، فكان في حصن منيع و كبير. و لذا لما سقط هذا الموضع بيد المشركين انهار دفاع المسلمين و تدفقت خيل المشركين على المسلمين و وقعت الهزيمة كما نطق به التنزيل قال تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» آل عمران - 153 هذا موقع القتال في غزوة أحد و هندسة الحرب فيها.

اسباب الحرب:

إذا راجعنا كتب السير و التاريخ نجد انهم يذكرون أسبابا عديدة لهذه الغزوة و لكن أكثرها لا تخلو عن المناقشة و الذي يستفاد من مجموع

ص: 315

الحوادث الواقعة قبل غزوة أحد و بعدها امور هي:

الاول: خذلان المشركين في غزوة بدر الكبرى و رجوعهم إلى مكة مقهورين موتورين؛ و في المجمع عن الصادق (عليه السلام):

«كان سبب غزوة احد ان قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة؛ و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر لأنه قتل منهم سبعون و أسر سبعون» فحرصت قريش منذ نكبتها في بدر على الأخذ بثأرها من المسلمين و صممت على الاستعداد عسكريا لاستعادة كرامتها و شرفها.

الثاني: خوف القبائل المجاورة للمدينة سواء كانت من المشركين أم اليهود من قوة المسلمين مما كانوا يترقبون الفرص للانتقام منهم و نقض العهد و يتربصون الدوائر و يتجسسون عليهم و يؤذونهم بالقول و الفعل. و لما علمت بعزم قريش على الغزو حرضتها على ذلك.

الثالث: خوف قريش على الطرق التجارية المؤدية إلى الشام و إلى العراق من ان تقع بيد المسلمين فيمنعونهم عن التجارة كما وقعت المدينة بأيديهم و أصبحت قاعدة أمنية لدعوتهم و حركاتهم العسكرية.

الرابع: خوف انتشار الدعوة الاسلامية لأنها كانت تلقى إذنا صاغية و ارتفعت بعض الموانع عن قبولها بعد هزيمة قريش في بدر الكبرى فقد أسلمت اكثر مشركي المدينة بعد بدر.

الخامس: الدفاع عن المدينة بعد ما عرف الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) استعداد قريش لغزوها و ابادة أهلها و محو الدعوة في مهدها.

السادس: استفزاز قريش المسلمين في عدة مواقع منها انهم أرسلوا إبلهم و خيلهم ترعى زروع يثرب.

ص: 316

التعبئة:

لما رجعت قريش إلى مكة من بدر بعد اصابتهم الهزيمة و الخذلان - قتلا و اسرا - حرصت على الأخذ بثأرها من المسلمين و قد نذر أبو سفيان بن حرب ان لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا و صممت على استعادة كرامتها و شرفها كما عرفت فاستعدت لذلك استعدادا تاما قرر كبراء قريش تخصيص ربح تجارة قافلة أبي سفيان التي جرت من أجلها معركة بدر لإنجاز هذه المعركة و تقويتها بالمواد و السلاح، و قد كان ربح تلك التجارة - كما في السيرة الحلبية - خمسين ألف دينار فبذلوا الربح في معركة الثار، و قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فان الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمد فلما غزوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح» و اجتمعت قريش للحرب بحدها - و هو البأس - وجدها - و هو العظمة و الغنى - و احابيشها - و هم حلفاء قريش - و من اطاعتها من قبائل كنانة و اهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف، الفان و تسعمائة من قريش و مواليها و احابيشها، و مائة من بني ثقيف، بينهم سبعمائة دارع و معهم مائتا فرس و ثلاثة آلاف بعير، و في مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام): «ان القوة لما خرجت من مكة كانت ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل» و لقد جاء المشركون من مكة إلى أحد و ليس فيهم رجل واحد يمشي على قدميه و استصحب أكثرهم نساءهم للتشجيع و رفع المعنويات.

و قد بذلت نساء قريش - خاصة هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان -

ص: 317

أقصى جهودهن لتشجيع قريش و بعث الحماس في نفوس الرجال لأخذ الثار من المسلمين و هي التي حرضت وحشيا الحبشي على قتل حمزة عم النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقتله بحربته المعروفة. ثم انه خرجت قريش من مكة و وصلت أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة في اربعة عشر شهرا.

و قد أرسل العباس عم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) رسالة مع أحد الرجال لأخذ الثار من المسلمين يخبرهم عن وقت خروج قريش لقتاله و عن عدد قواتها فاسرع الرجل بعد ما اشترط عليه العباس ان يسير ثلاثا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فلما بلغ رسول اللّه الخبر جمع أصحابه و حثهم على الجهاد فقال عبد اللّه بن أبي سلول اللّه لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الامة على أفواه السكك و على السطوح فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا و نحن في حصوننا و دورنا و ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا» و كان الرسول الكريم يرغب البقاء في المدينة ايضا و قام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا يا رسول اللّه ما طمع فينا احد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا و أنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فقبل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) رأيه و خرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما حكي عز و جل عنهم في الآية الشريفة و قد عرفت سابقا موضع القتال و عبّأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه فسار في ألف من أصحابه كما سيأتي.

ص: 318

القوى:

وصلت قوات المسلمين و قوات المشركين الى أحد يوم الجمعة الخامس عشر من السنة الثالثة للهجرة اما قوى المسلمين فقد كانت مؤلفة من ستّمائة و خمسون فارسا و حامل اللواء علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما ورد عن الصادق (عليه السلام) و قيل ان حامل اللواء هو مصعب بن عمير اخي بني عبد الدار، و خمسون من الرماة على الشعب قال الصادق (عليه السلام): «و وافت قريش إلى احد و كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عبّأ أصحابه و كانوا سبعمائة رجل و وضع عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب و اشفق ان يأتي كمينهم من ذلك المكان فقال (ص): لعبد اللّه بن جبير و أصحابه ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان و ان رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و الزموا مراكزكم» و قد رجع عبد اللّه بن أبي مع ثلاثمائة من أصحابه عند ما وصل الرسول مع ألف إلى الشوط و قد كان خروجهم خيرا للمسلمين و قد ذمهم اللّه تعالى و قبح أفعالهم و لما انتهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى احد و بالتحديد موضع القنطرة - و قد اندرست فلا يعلم موقعها - و قد حانت الصلاة و هو يرى المشركين امر بلالا فاذن و صلى و لقد همت طائفتان من المؤمنين و هما بنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس بالفشل، و لم يعرف عدد هاتين الطائفتين، و كان معسكر المسلمين بالقرب من أحد على ما عرفت و قد

ص: 319

استعرض (صلى اللّه عليه و آله) المسلمون ورد من استصغر منهم و هم سبعة عشر شخصا و أجاز اشخاصا من أبناء الخامسة عشر. و قد لبس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الدرع فوق الدرع و جعل على أحد الجانبين الزبير بن العوام و على الآخر المنذر بن عمرو.

و اما قوات المشركين فقد كانت مؤلفة من ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف كما ورد عن الصادق (عليه السلام) و كان على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، و على ميسرتها عكرمة بن أبى جهل، و كان اللواء عند طلحة بن أبى طلحة من بني عبد الدار، و قد نظم المشركون قواتهم للقتال بأسلوب الصف و أمنوا حماية ميمنة الصفوف و ميسرتها بالفرسان. و كان مع القوة مائتا فرس و ثلاثة آلاف بعير و هذه القوات كانت بقيادة أبى سفيان.

و قال في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «و وضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مأتي فارس كمينا و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم» و عند احتدام القتال انحط خالد بن الوليد في مأتي فارس على عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع.

وفد تفوق المشركون على المسلمين بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين و اما بالعدة فقد كان تفوقهم اكثر كما عرفت.

المعركة:

ابتدأ القتال عند ما قامت مفرزة من قوات المشركين بقيادة أبى عامر

ص: 320

عبد عمرو بن صيفي الأوسي بالهجوم على قوات المسلمين، و قد خرج إلى أحد في خمسة عشر رجلا من الأوس و من عبيد اهل مكة و قال ابن هشام في السيرة «انه كان معه خمسون غلاما من الأوس» و قريب منه ما ذكره الواقدي، و كان يزعم لقريش انه إذا نادى أهله الذين في صفوف محمد (صلى اللّه عليه و آله) استجابوا له و انحازوا معه. و خرج أبو عامر مناديا: «يا معشر الأوس انا أبو عامر فأجابه المسلمون لا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق» و قد اذن الرسول (صلى اللّه عليه و آله) للمسلمين بالقتال فنشب بين الطرفين.

و قد حاول أبو عامر و عكرمة بن أبي جهل الهجوم على اجنحة المسلمين و لكن المسلمين ردوهم و فشلت محاولات اخرى لهم في الالتفاف حول المسلمين لأنهم كانوا في حصن منيع و كبير، كما عرفت و لما التقى الناس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها و أخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال و يحرّضنهم فقالت هند:

ويها بني عبد الدار *** ويها حماة الأدبار

ضربا بكل بتار

و تقول:

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

فاحتدم القتال بينهم و حميت الحرب، و قاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، و قدم قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة و صفوا صفوفهم و صاح طلحة من يبارز؟ فخرج اليه عليّ (عليه السلام)

ص: 321

فقتله، و في المجمع عن الصادق (عليه السلام):» و أخذ الراية أبو سعيد بن أبى طلحة فقتله علي (عليه السلام) ايضا، و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبى طلحة فقتله علي (عليه السلام) حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لوائهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صواب فانتهى اليه على (عليه السلام) فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبى سفيان فقال: عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي (عليه السلام) على رأسه فقتله، و سقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها ثم شد اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على كتائب المشركين حتى نقضت صفوفهم و تصدعت فانهزم المشركون حتى أحاط المسلمون بنساء المشركين و وقع الصنم الذي احتملوه للتبرك به فوق الجمل الذي كان يحمله و أخذ المسلمون يتعقبون المشركين حتى ابعدوهم عن معسكرهم ثم عادوا يجمعون الغنائم، قال الصادق (عليه السلام): «و حمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة و وضع اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في سوادهم و انحط خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع بل قام بأكثر من محاولة للالتفاف حول المسلمين و على هذا الجناح الخطير بالخصوص فلم يفلح لشدة الرماة في موضعهم قبل تركهم له و نظر اصحاب عبد اللّه بن جبير ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد اللّه بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد اللّه فان رسول اللّه قد تقدم إلينا ان لا نبرح فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم و بقي عبد اللّه بن جبير في اثني عشر رجلا».

ص: 322

و من ذلك يعلم ان هزيمة المشركين كانت منكرة بحيث ان المسلمين تركوهم و بادروا إلى جمع الغنائم و الاسلاب ثم تبعتهم الرماة و انتصر المسلمون نصرا باهرا.

المحنة:

لما انشغل المسلمون بجمع الغنائم و غفلوا عن عدوهم انحط خالد ابن الوليد و كان على ميمنة جيش المشركين على عبد اللّه بن جبير و قد فر معظم أصحابه و بقي في نفر قليل، فقتلهم على باب الشعب ثم اتى المسلمين من أدبارهم و نظرت قريش إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها و لم يتنبه المسلمون إلا و المشركون فوق رؤسهم و أحاطوا بهم فانهزموا هزيمة عظيمة و اقبلوا يصعدون الجبال و في كل وجه حتى خلص المشركون إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فجرحوا وجهه الشريف و كسروا رباعيته اليمنى من ثناياه السفلى و رموه بالحجارة حتى سقط في حفرة من الحفر التي كان ابو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، و حمل ابن قميئة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و قال:

«أروني محمدا لا نجوت ان نجا فضربه على حبل عاتقه و نادى قتلت محمدا و اللات و العزى» و تطارد هذا الخبر في المعركة و كان حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و أبو دجانة سماك بن خراشه و جماعة اخرى قليلة قد التفوا حول الرسول الكريم مستقتلين فكلما حملت طائفة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) استقبلهم علي (عليه السلام) فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع اليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) سيف

ص: 323

ذا الفقار و انحاز رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى ناحية أحد فوقف فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه و وجهه و بدنه و بطنه و رجليه ستون جراحة، فقال جبرائيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد. فقال محمد (صلى اللّه عليه و آله) انه مني و أنا منه. فقال جبرائيل: و انا منكما، قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) نظر رسول اللّه إلى جبرائيل بين السماء و الأرض على كرسي من ذهب و هو يقول: «لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا علي». و قد نادى كعب بن مالك بأعلى صوته بعد إشاعة المشركين قتل محمد (صلى اللّه عليه و آله) يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول اللّه» و صاح حمزة بالهتاف المعروف للمسلمين في يوم أحد «أمت أمت» و اندفع إلى قلب المشركين، و اقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ و المسلمون اوزاع قد سقط في أيديهم فجعل يصيح: يا معشر الأنصار إليّ إليّ انا ثابت بن الدحداحة ان كان محمد قد قتل فان اللّه حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم فان اللّه مظهركم و ناصركم فنهض اليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين و قد وقفت لهم كتيبة خشناء من المشركين فجعلوا يناوشونهم و حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميتا و قتل من كان معه من الأنصار، و يقال: ان هؤلاء آخر من قتل من المسلمين.

اما حمزة بن عبد المطلب فكان يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له احد، و كانت هند قد اعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا و كذا قال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه. و أما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه.

فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطئ على جرف نهر

ص: 324

فسقط و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنته فسقط، فأتيته فشققت بطنه و أخذت كبده و جئت به إلى هند. فقلت: هذه كبد حمزة فأخذتها في فمها فلاكتها فلفظتها و رمت بها.

و اجتمع المسلمون رويدا رويدا و تجمعوا حول الرسول و استعصموا بالجبل و بلغ الإعياء برجال قريش حدا بالغا، و فشلت محاولاتها لقتل الرسول الكريم و القضاء على المسلمين و كانت هذه محنة كبيرة على المسلمين، و قد حكي عز و جل عنها فقال تعالى: «حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ» آل عمران - 152 و آل حال المسلمين إلى الاضطراب و دخل قسم من المنهزمين المدينة و لاذ الباقون إلى الفرار.

النصر:

قررت قريش بعد المحاولات العديدة للقضاء على المسلمين و بلغ بهم التعب و الإعياء اكثر مما لحق بالمسلمين فقررت إنهاء القتال و كان ذلك لأسباب عديدة نذكر المهم و سيأتي في الآيات التالية قسم آخر.

منها: الإمداد الغيبي الالهي بعد التوبة عليهم، و صرف المشركين عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ»

ص: 325

آل عمران - 151.

و منها: الوهن و الإعياء و التعب في الطرفين بل كان في طرف المشركين أعظم و اكثر لما لحقهم من الهزيمة أول الأمر، و قتل أبطالهم و صناديدهم.

و منها: ظنهم بأنهم أدركوا الثأر من المسلمين لقاء ما أصابهم يوم (بدر) و لو انهم لم يكونوا قد قتلوا من المسلمين أحدا غير حمزة بن عبد المطلب عم النبي لكفاهم ذلك.

و منها: استقامة المسلمين بعد ما لحقتهم النكسة و التفافهم حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و استعادة قواهم بأخذ الراية الكبرى بأيديهم، و دعوات الرسول (صلى اللّه عليه و آله) المتتالية بالاجتماع و ترك الهزيمة فكان ذلك السبب المهم في لحوق الهزيمة بالمشركين فإنهم استيقنوا بأنهم لا يمكنهم البقاء و استمرار الحرب مع هذه الاستقامة من المسلمين، و كأنهم أدركوا انه ما بقي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فيهم لا يمكنهم النصر، فقررت إنهاء القتال و الرجوع في موعد آخر فلما انصرف أبو سفيان و من معه نادى:

و ان موعدكم بدر العام القابل و قد اجبرتهم هذه الأمور على الفرار و ترك المحاربة مع المسلمين.

الخسائر:

قررت قريش بعد الهزيمة الرجوع إلى مكة و إنهاء الحرب، مخذولين خائبين محرومين عما كانوا يأملون. و انتصر المسلمون بالتوبة

ص: 326

و الثبات و العزيمة و التزام الطاعة، و الالتفاف حول الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و قد عرفت سير القتال في ما تقدم، و لما انقضت الحرب اشرف أبو سفيان على الجبل فقال: يوم بيوم بدر و الحرب سجال، ثم انصرف أبو سفيان و من معه و قال: ان موعدكم العام المقبل، ثم بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا في أثرهم و قال: «انظر فان جنبوا الخيل، و امتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة و ان ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم. قال علي (عليه السلام): فخرجت في أثرهم فامتطوا الإبل و جنبوا الخيل يريدون مكة» و كانت حصيلة هذه الحرب انه قتل من قريش جمع غفير، و قيل اثنان و عشرون رجلا و أثخن الجراح فيهم، و دفن المشركون موتاهم.

و اما المسلمون فقد استشهد منهم سبعون رجلا أو نيف و سبعون و قد أصابهم الجراحات لا سيما الذين كانوا يحوطون حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقد وجد في علي (عليه السلام) ستون جراحة و في أبى دجانة نيف و سبعون. و التمس المسلمون قتلاهم فرأوا أن المشركين قد مثّلوا بهم و كان التمثيل بحمزة (عليه السلام) شر تمثيل «و وقعت هند و صواحباتها على القتلى يمثلن بهم و اتخذت هند من آذان الرجال و آنافهم خدما (الخلخال) و قلائد». و أقبلت صفية بنت عبد المطلب فقال: رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لابنها الزبير ليردها لئلا ترى ما بأخيها حمزة، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي (ص) فقالت: انه بلغني انه مثل بأخي و ذلك في اللّه قليل فما ارضانا بما كان من ذلك لاحتسبن و لأصبرن فاعلم الزبير النبي (صلى اللّه عليه و آله) بذلك فقال: خل سبيلها فأتته وصلت عليه

ص: 327

و استرجعت» و امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) به فدفن و نزل في قبره علي و أبو بكر و عمر و الزبير و جلس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على حفرته. و حمل بعض الناس قتلاهم إلى المدينة فأمر رسول اللّه (ص) بدفنهم حيث صرعوا و أمر أن يدفن الاثنان و الثلاثة في القبر الواحد، و أن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرآنا و صلى عليهم، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه و صلى عليهما، و كان يجمع تسعة من الشهداء و حمزة عاشرهم فيصلي عليهم. و أمر أن يدفن عمرو بن الجموح و عبد اللّه بن حرام في قبر واحد و قال: «و كانا متصافين في الدنيا» و ربما كانوا يلفون بثوب واحد لقلة الثياب، و لم يغسّلوا، و قيل:

انه لم يصل على شهداء أحد، كما في صحيح البخاري و لكنه مردود.

و خرجت نساء من المدينة لمساعدة الجرحى و كانت فاطمة (عليها السلام) هي التي داوت جرح النبي (صلى اللّه عليه و آله)، و في صحيح البخاري: «كانت ابنته تغسله و على يسكب الماء بالمجن (الترس) فلما رأت فاطمة ان الماء لا يزيد الدم الا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فالصقتها فاستمسك الدم».

و في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «انه أصاب عليا (عليه السلام) يوم احد ستون جراحة و ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) أمر أم سليم و أم عطية ان تداوياه فقالتا: انا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان و قد خفنا عليه و دخل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة و جعل يمسحه بيده، و يقول: ان رجلا لقى هذا في اللّه فقد ابلى و اعذر فكان القرح الذي يمسحه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يلتئم - الحديث -».

و لما أراد النبي (صلى اللّه عليه و آله) الرجوع إلى المدينة ركب

ص: 328

فرسه و امر المسلمين ان يصطفوا فاصطفوا خلفه و عامتهم جرحى و اصطف خلفهم النساء و هن اربع عشرة امرأة كن بأصل أحد فقال اصطفوا حتى اثني على ربي فاصطف الناس صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال: «اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت و لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن أضللت و لا مضل لمن هديت و لا مقرب لما باعدت و لا مباعد لما قربت اللهم اني اسألك بركتك و رحمتك و فضلك و عافيتك اللهم اني اسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول اللهم اني اسألك الأمن يوم الخوف و الغناء يوم الفاقة عائذا بك اللهم من شر ما أعطيتنا و شر ما منعت منا اللهم توفنا مسلمين اللهم حبب إلينا الايمان و زيّنه في قلوبنا و كرّه إلينا الكفر و الفسوق و العصيان و اجعلنا من الراشدين اللهم عذب كفرة اهل الكتاب الذين يكذبون رسولك و يصدون عن سبيلك اللهم انزل عليهم رجسك و عذابك اله الحق أمين» و اقبل (صلى اللّه عليه و آله) حتى نزل ببني حارثة يمينا و اطلع على بني عبد الأشهل و هم يبكون على قتلاهم فقال (صلى اللّه عليه و آله): «اما عمي حمزة فلا بواكي له» و كان رجوعه إلى المدينة يوم السبت من يوم الواقعة. و خرجت النساء ينظرن إلى سلامة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فنظرت اليه أم عامر الاشهلية فإذا عليه الدرع كما هي فقالت «كل مصيبة بعدك جلل يا رسول اللّه» و قالت أم سعد بن معاذ: «اما إذ رأيتك سالما فقد اشفت المصيبة» فعزاها رسول اللّه بابنها عمرو بن معاذ و قال: يا أم سعد ابشري و بشري أهليهم ان قتلاهم قد ترافقو في الجنة و قد شفعوا في أهليهم».

ص: 329

شهداء أحد:

ذكرنا ان شهداء أحد من المسلمين سبعون رجلا و قيل نيف و سبعون ثلاثة منهم من المهاجرين و الباقون من الأنصار اما المهاجرون فهم:

1 - حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي (صلى اللّه عليه و آله) و كان الذي اصابه وحشي بحربته.

2 - عبد اللّه بن جحش و كان خاله حمزة و قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق. 3 - مصعب بن عمير الذي قاتل دون رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و معه لواؤه حتى قتل، و كان الذي اصابه ابن قميئة الليثي و هو يظن انه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.

و قد ورد انه بعد ان انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش، فنعي لها أخوها عبد اللّه ابن جحش فاسترجعت و استغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت و استغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب ابن عمير فصاحت و ولولت فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) «ان زوج المرأة منها لبمكان».

4 - شماس بن عثمان قتله أبي بن خلف.

و اما الأنصار فهم: 1 - عمرو بن معاذ بن النعمان قتله ضرار بن الخطاب. 2 - الحارث بن انس بن رافع. 3 - عمارة بن زياد بن السكن 4 - سلمة بن ثابت بن وقش قتله أبو سفيان بن حرب. 5 - عمرو

ص: 330

ابن ثابت بن وقش قتله ضرار بن الخطاب. 6 - ثابت بن وقش.

7 - رفاعة بن وقش قتله خالد بن الوليد. 8 - حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان قتله المسلمون خطاء. 9 - صيفي بن قيظي قتله ضرار بن الخطاب 10 - الحباب بن قيظي. 11 - عباد بن سهل، قتله صفوان بن أمية 12 - الحارث بن أوس قتله ضرار بن الخطاب. 13 - إياس بن أوس 14 - عبيد بن التيهان قتله عكرمة بن أبى جهل. 15 - حبيب بن قيم 16 - يزيد بن حاطب بن امية، و هؤلاء كلهم من بني عبد الأشهل.

و اما من بني عمرو بن عوف. 1 - أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد و هو أبو البنات الذي قال لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أقاتل ثم ارجع إلى بناتي فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صدق اللّه عز و جل. 18 - حنظلة بن عامر و هو غسيل الملائكة بماء مزن، قتله الأسود بن شعوب. 19 - أنيس بن قتادة قتله أبو الحكم ابن الأخنس. 20 - عبد اللّه بن جبير بن النعمان أمير الرماة كما جعله النبي (صلى اللّه عليه و آله) قتله عكرمة بن أبى جهل. 21 - أبو حبة عمرو بن ثابت.

و من قبائل اخرى: 22 - خيثمة أبو سعد قتله هبيرة بن أبى وهب.

23 - عبد اللّه بن سلمة قتله ابن الزبعري. 24 - سبيع بن حاطب قتله ضرار بن الخطاب. 25 - خارجة بن زيد قتله صفوان بن امية.

26 - سعد بن ربيع و هما دفنا في قبر واحد. 27 - أوس بن أرقم.

28 - مالك بن سنان و هو أبو أبى سعيد الخدري قتله غراب بن سفيان 29 - سعد بن سويد. 30 - عتبة بن ربيع بن رافع. 31 - ثعلبة ابن سعد بن مالك. 32 - حارثة بن عمرو. 33 - سقف بن فروة 34 - عبد اللّه بن ثعلبة. 35 - قيس بن ثعلبة. 36 - طريف.

ص: 331

37 - ضمرة. 38 - نوفل بن عبد اللّه قتله سفيان بن عويف.

39 - عباس بن عبادة قتله سفيان بن عبد شمس. 40 - النعمان بن مالك قتله صفوان بن امية. 41 - عبدة بن الحساس. 42 - المجدر ابن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة و قد دفن هؤلاء الثلاثة في قبر واحد. 43 - عنترة مولى بني سلمة قتله نوفل بن معاوية. 44 - رفاعة بن عمرو. 45 - عبد اللّه بن عمرو من بني حزام قتله سفيان ابن عبد شمس. 46 - عمرو بن الجموح و دفنا في قبر واحد.

47 - خلاد بن عمرو بن الجموح قتله الأسود بن جعونة. 48 - المعلى بن لوذان قتله عكرمة بن أبى جهل. 49 - ذكوان بن عبد قيس قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق. 50 - عمرو بن قيس قتله نوفل بن معاوية الديلي. 51 - قيس بن عمرو. 52 - سليط بن عمرو 53 - عامر بن مخلد. 54 - أبو أسيرة بن الحارث قتله خالد بن الوليد 55 - عمرو بن مطرف. 56 - أوس بن حرام. 57 - انس بن النضر عم انس بن مالك خادم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قتله سفيان بن عويف. 58 - قيس بن مخلد، 59 - كيسان بن مولى مازن بني النجار. 60 - سليم بن الحارث. 61 - نعمان بن عمرو 62 - سهل بن قيس. 63 - حارث بن عدي بن خرشة. 64 - أبو ايمن مولى عمر بن الجموح. 65 - مالك بن إياس. 66 - إياس ابن عدي.

و مجموع هؤلاء سبعون رجلا على ما هو المشهور بين المؤرخين و قد ضبط بعضهم اكثر من ذلك و اقل - كالواقدي في المغازي و غيره كما مر، و سجل التاريخ أيضا اسماء قتلة المشركين.

و كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بزور الشهداء و يقول

ص: 332

«السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» و مر (صلى اللّه عليه و آله) على قبر مصعب بن عمير فوقف عليه و دعا، و قرأ: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» الأحزاب - 33 - و كانت فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) تأتيهم بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو و كانت أم سلمة زوج النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) تذهب فتسلّم عليهم في كل شهر فتظل يومها فجاءت يوما و معها غلامها نبهان فلم يسلم، فقالت: اي لكع ألا تسلم عليهم؟! و اللّه لا يسلم عليهم احد الا ردوا إلى يوم القيامة. و عن فاطمة الخزاعية تقول: «غابت الشمس بقبور الشهداء و معي اخت لي، فقلت لها تعالي نسلّم على قبر حمزة و ننصرف. قالت: نعم، فوقفنا على قبره فقلنا: السلام عليك يا عم رسول اللّه فسمعنا كلاما رد علينا، و عليكما السلام و رحمة اللّه و بركاته، قالتا: و ما قربنا احد من الناس».

المجروحين:

امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أبا عمرو ان يداوي كل مجروح في داره فباتوا يوقدون النيران و يداوون الجراح و ان فيهم لثلاثين جريحا أو اكثر و قال: لا يبلغ معي بيتي عزيمة مني فنادى فيهم سعد عزيمة رسول اللّه إلا ان سعد بن معاذ مضى معه (صلى اللّه عليه و آله) إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، و لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فبكين بين المغرب و العشاء

ص: 333

و قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) حتى فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال ما هذا؟! فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) رضي اللّه عنكن و عن أولادكن، و أمرنا ان نرد إلى منازلنا فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل معنا رجالنا، فما بكت منا امرأة قط الا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا - أي قبل واقعة الطف. فسلام عليك يا خير الشهداء و يا عم رسول اللّه و يا اسد اللّه و أسد رسوله، جزاك اللّه عن الإسلام و أهله خيرا.

نتائج الحرب:

وقعت الحرب بين المسلمين و المشركين في (أحد) و قد اقتسما النصر و الهزيمة بينهما بادئ الأمر، و لم يكن النصر حاسما للمشركين، كما زعمه بعض المؤرخين، بل إذا تعمقنا في سير القتال و نتائج هذه الغزوة نرى أن النصر كان أقرب إلى المسلمين منه إلى المشركين، فإنهم مع تفوقهم الكبير على المسلمين في العدد و العدة و احاطتهم بهم من كافة الجوانب بعد قتل رماة المسلمين في فم الشعب، لم يتمكنوا من هزيمتهم و القضاء عليهم قضاء تاما، كما كان هو هدف المشركين من هذه الغزوة، و قد نجح المسلمون بقيادة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و حكمته و براعته من تطويق المشركين و إخراجهم من موقع الحرب باصابات قليلة، قدرها بعض المؤرخين عشرة بالمائة بالنسبة إلى قوات المشركين المتفوقة و قد تمكن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) من تخليص قواته من الموت المحتم، و هذا هو النصر الكبير.

ص: 334

ثم إنه يمكن استخلاص نتائج كبيرة من هذه الغزوة نذكر المهم في المقام و تأتي البقية في مستقبل الكلام.

منها: ظهور عظمة الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) في هذه الحرب كقائد عظيم و زعيم كبير في قيادة الجيش بحكمة و مهارة في احرج المواقف، و ظهرت عبقريته (صلى اللّه عليه و آله) في جعل النصر للمسلمين المغلوبين آخر الآمر، و قد انهارت معنويات الكثيرين منهم إلا جماعة خاصة مؤمنة خلصت في إيمانها و استقامت على الحق و الدفاع عنه.

و منها: معرفة المنافقين المندسين في صفوف المسلمين مما اتاح لهم الفرصة في التخلص منهم على حكمة و بصيرة.

و منها: حصول المسلمين على المعلومات الكثيرة عن نوايا المشركين و قوتها و سائر الأمور التي تخصهم مما جعلت المسلمين على حيطة منهم.

و منها: إن هذه الحرب نبّهت المسلمين أن التعدي عن أوامر القائد يؤدي إلى نتائج وخيمة يصعب تحملها، فقد كانت مخالفة رماة المسلمين لتعليمات الرسول الكريم (ص) الدرس الكبير لهم لكي لا يعودوا إلى مثلها.

و منها: معرفتهم أن الاستقامة على الحق و الصبر في ميدان القتال و الثبات في الشدائد و الأهوال كل ذلك يؤدي الى النصر الحاسم و الحاق الهزيمة بالأعداء.

و منها: أن الأخلاق الرذيلة التي توجه النفس إلى الأمور المادية و الانشغال بأمور تافهة توجب أعراض النفس عن الجانب المعنوي في الجهاد مع الأعداء، و تؤثر في وهن العزائم، فقد كان العجب الذي لحق ببعض المسلمين نتيجة نصرهم الساحق على المشركين في يوم بدر،

ص: 335

الأثر الكبير في الحاق النكسة بهم.

هذا مضافا إلى أنهم استفادوا من وقعة أحد أن التعليمات الإلهية و الفيوضات الربانية لها التأثير التام في الثبات في ميدان القتال و النصر الأكيد، و هو مما يؤكد عليه القرآن الكريم في الآيات المتقدمة، و ما سيأتي في الآيات اللاحقة.

و بالجملة أن في غزوة أحد من الدروس العظيمة التي لا بد للمسلمين الاستفادة منها، و الاعتبار بها، و ستبقى احد رمزا للتفاني و الجهاد المقدس مدى الدهر.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130).......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) ذكرنا مرارا أن الآيات القرآنية نزلت لتكميل الإنسان و ارشاد الناس إلى ما يوجب سعادتهم في الدارين، و قد دأب القرآن الكريم على إنزال الاحكام الإلهية على سبيل التدريج و التأني لسبق النفوس بالجاهلية التي لا بد من إزالتها و إصلاح الفاسد فيها، و بيان الصراط المستقيم و تهذيب النفوس بالعلم و العمل بكل ما يمكن التحريض عليه إما الوعد الجميل أو الثناء الجزيل حتى تستقيم النفوس بالتقوى، و من عادة اللّه عز و جل في تربية الإنسان إنزال الاحكام على سبيل التدريج لترتاض النفوس المستنفرة من علم و حكمة، و لذا كان كل حكم في القرآن الكريم يتعقبه التحريض على العمل. و في هذه الآيات الشريفة يأمر سبحانه الناس ببعض ما يوجب سعادتهم و يزجرهم عما

ص: 336

يوجب شقاوتهم، و يرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم، كما أن الآيات السابقة دعتهم إلى الجهاد مع الأعداء و نبذ تلك الخصال المذمومة و الصفات السيئة التي أوجبت الوهن في العزيمة و الضعف في القتال، فهذه الآيات و سابقتها و التي تليها لا تخرج عن ما رسمه القرآن الكريم في تعليم الإنسان و تربيته و تهذيبه، و من ذلك يظهر السّر في الأمر باطاعة اللّه و الرسول لان فيها الفلاح و النجاح.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا .

الآية المباركة تشتمل على الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب و ترشد الناس إلى أهم موضوع اعتنى به الإسلام اعتناء بليغا فحرمه و شدد النكير عليه و هو الربا الذي ذكره عز و جل في مواضع متعددة من القرآن الكريم، و لكثرة اهمية الموضوع تدرج الإسلام في تشريع الحكم فيه و بين وجوه المفاسد المترتبة عليه.

و الآية الشريفة تنهي المؤمنين عن تعاطي الربا و تحرمه حرمة مؤكدة و قد تقدم في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ» البقرة - 275 بعض الكلام.

و المراد بالأكل هو الأخذ و التعاطي، و قد ذكره بالخصوص لأنه الأهم من المقاصد، و لزيادة في التشنيع اي: انكم تفعلون ذلك مع ما فيه من المفاسد لأجل غرض دني و هو الاكل.

و الربا هو مطلق الزيادة و شرعا زيادة يشترط في القرض، أو في بيع

ص: 337

احد المثلين بالآخر. على ما فصلناه في (مهذب الاحكام).

قوله تعالى: أَضْعافاً مُضاعَفَةً .

بيان لبعض وجوه المفاسد لأن الربا بحسب طبعه يستهلك اموال المديون لتتراكم عند الدائن منضما إلى رأس ماله فيكون ما يأخذه أضعافا مضاعفة.

و الأضعاف جمع قلة لضعف، و هو مثل الشيء، و ضعفاه مثلاه، و أضعافه أمثاله و هو من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجودها وجود آخر من جنسها في الكم أو من جهة اخرى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

اي: اتقوا اللّه في ما نهاكم عنه فان في التقوى صلاح المجتمع، و انتظام النظام بالوجه الأحسن الأكمل.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

اي لكي تفلحوا في جميع أموركم الدنيوية و الاخروية. و الفلاح هو من أهم الغايات، و الآية ترشد الناس إلى ان التقوى توجب الفلاح كالاسباب التوليدية دون ما يتوهمه الإنسان.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ .

تأكيد للتحريم السابق اهتماما بالموضوع و تشنيعا على من أكل الربا الذي يؤدي إلى نار عظيم. و فيه الدلالة الواضحة على كفر آكل الربا.

قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ .

الإطاعة المتابعة اعتقادا و قولا و عملا و هي أعم من العبادة و اطاعة

ص: 338

اللّه و الرسول متابعتهما في جميع الاحكام و التكاليف و منها حرمة الربا.

و انما قرن سبحانه و تعالى إطاعته باطاعة الرسول لبيان ان إطاعة اللّه لا تكون إلا باطاعة الرسول و لا تكون إطاعة الرسول إلا باطاعة اللّه تعالى، فتكون اطاعة أحدهما من دون الآخر باطلة.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

بيان لبعض ما يترتب على اطاعة اللّه و اطاعة الرسول من رحمة اللّه تعالى للمطيعين و هي الغاية العظمى، لان بالاطاعة تستعد النفوس لتلقى الرحمة و الفيض الالهي.

و في الآية الشريفة عتاب لمن ترك الإطاعة للّه و للرسول في غزوة احد.

بحث دلالي

اشارة

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول:

تأكيده سبحانه و تعالى النهي عن الربا بوجوه: الاول:

قوله تعالى: «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» الثاني: قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» الثالث: قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» الرابع: قوله تعالى: «وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ» و هذه وجوه أربعة تؤكد التنفير عن الربا، و التنزه عن اكله و التشنيع على فاعله، لان الربا من أهم الموضوعات التي تمس الفرد و الاجتماع من جهات شتى.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» الحكمة في النهي عن أكل الربا و اطاعة اللّه و الرسول فيه هو اثبات التراحم بين

ص: 339

الإفراد الذي يفضي إلى التعاون و التعاضد بينهم، و هو يستلزم الفلاح و الصلاح في الدنيا و الآخرة.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ان النار مخلوقة و معدة للكافرين العاصين جزاء لهم، و انما خص سبحانه الكافرين بالذكر إما لأجل انه النار قد أعدت لهم أولا و بالذات و لغيرهم بالتبع، أو لان الكافرين يخلدون فيها دون غيرهم، أو لأجل بيان ان المرائي الذي لا يعمل الحكم الالهي بعد علمه به في حكم الكافرين فيشمل الكافر كل فاسق ايضا و قد تقدم في هذا التفسير مكررا ان للكفر مراتب.

و من العجائب ان الآية الشريفة افتتحت بالخطاب للمؤمنين فما أيسر ان يخرج المؤمن عن إيمانه و يدخل في زمرة الكافرين بترك حكم الهي و ارتكاب منكر عقلي و لذا قيل انها أخوف آية في القرآن الكريم.

الرابع:

ان قوله تعالى: «وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ» يتضمن حكما عقليا بتيا إرشاديا قرره الواحد الأحد على لسان سيد الأنبياء احمد (صلى اللّه عليه و آله)، و بذلك تتم الحقيقة الانسانية و تتحقق العبودية المحضة.

و انما قرن أطاعته عز و جل بطاعة الرسول (ص) لبيان ان اطاعة الرسول من اطاعة اللّه فلا بد من المسارعة إليها، و قد ذكر سبحانه و تعالى الحكمة في الأمر بالطاعة هي الفلاح المفضيّ للنجاح في جميع الأمور و الحالات و هو مطلوب كل فرد.

الخامس:

انما عقب الوعيد بالوعد ترغيبا في الطاعة و ترهيبا عن المخالفة كما هو دأبه تعالى في القرآن الكريم.

ص: 340

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) اَلَّ.......

اشارة

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134) وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصائل الحميدة الفردية و الاجتماعية، و هي تهدي الإنسان إلى استكمال نفسه و مجتمعه و تعلمه كيفية علاج الرذائل النفسانية فهي تدعوه إلى الخير و الإحسان، و التحلي بمكارم الأخلاق و الانزجار عن الشر و السوء و مساوي الأخلاق.

ص: 341

و هي المسارعة إلى الخير، و الانفاق في سبيل اللّه في السراء و الضراء، و كظم الغيظ، و العفو عن الناس، و التوبة عن المعاصي و الذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه و توقعه في الورطات و المشاكل.

و قد امر عز و جل بنيل الإحسان و كل خير فردي و اجتماعي، و بيّن سبحانه و تعالى ان في التخلق بها و في افشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة و تأمنه من الوقوع في المهالك و توجب له النجاة من الشدائد و بها تثبت الوحدة بين افراد المجتمع و يشد بعضهم بعضا.

فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي من سلكه لا يضل و لا يشفى، و قد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم و ما يعيقه من تكميل نفسه و مجتمعه و هو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية و المعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة و تمنع من الانفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة.

و قد عد عز و جل ان التعدي عما ذكره و الاعراض عما بينه يؤدي إلى الشقاء و الحرمان و امر عز و جل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه اللّه تعالى لهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

دعوة عامة إلى الغفران، و بشارة عظيمة لجميع اهل الذنوب و العصيان و استضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه، و ترغيب إلى العباد

ص: 342

في إزاحة جميع الاغشية و الظلمات، و دفع انواع الجهالات، و وعد منه عز و جل لمن أطاع اللّه و أطاع الرسول، و قد ذكر جزاء المتقين المطيعين اتباعا للوعيد بالوعد الجميل، و اقترانا للترهيب بالترغيب كما هو سنته عز و جل.

و المسارعة المبادرة و الاشتداد في السرعة، و هي في الخير ممدوحة و في الشر مذمومة، و المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها. و انما امر سبحانه و تعالى بالمسارعة إليها باطاعة اللّه تعالى و الرسول للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر و الحظ و كثرة المثبطات و وسوسة الشيطان التي توهن العزائم.

و يمكن ان يكون قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» مبينا للمغفرة في هذه الآية الشريفة، كما ان قوله تعالى:

«اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ» مبينا للمسارعة إلى الجنة.

و كيف كان فان اسباب المغفرة و الدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، كما ان اسباب الدخول في النار كذلك.

قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ .

العرض خلاف الطول و هو اقصر الامتدادين عادة، و يكنى به عن السعة، و استعماله في ذلك شايع يقال بلاد عريضة اي واسعة، و منه قولهم: اعرض في المكارم إذا توسع فيها، و في الحديث عنه (صلى اللّه عليه و آله): «لقد ذهبتم فيها عريضة» اي الأرض الواسعة و قد قال (صلى اللّه عليه و آله) ذلك عند ما هرب جماعة يوم أحد فرارا من الزحف.

ص: 343

كذلك فأين الطول و ما مقداره مع انه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة.

و يمكن ان لا يكون التعبير كنائيا بل كان على الحقيقة أما بناء على عدم تناهي الابعاد كما عن جمع من الفلاسفة فالامر واضح. و اما بناء على التناهي كما عن بعض فلا ريب في انه على فرض صحته انما هو في الدنيا، و اما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات زمانا و مكانا و سعة و نعمة و غير ذلك.

و قد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل و نقل عن أبي مسلم بن بحر أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشيء على البيع و المقايضة اي لو عرضت الجنة بالسموات و الأرض لكانتا ثمنا. و هذا تأويل باطل.

و كيف كان فالآية الشريفة ترمز إلى معنى جميل ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف و جار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج و تبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يجدها حد وهمي، و هذا مما يوجب اطمينان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات ففي بعض الأحاديث القدسية: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» و هذا هو شأن النعمة التي أعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة، و هذه هي الحياة الكاملة الابدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.

قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .

الاعداد التهيئة و هو إما علمي أو خارجي، في هذه النشأة أو في

ص: 344

نشأة اخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة و المرآة لهذا العالم بجميع جزئياته و كلياته، و يمكن ان يعبر عنه بعالم المثال الخارجي و هو موجود بوجود روحاني معنوي، و دخله سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) في معراجه و اطلع على خصوصياته فيكون الاعداد مطابقا للوجود العلمي الازلي، و الوجود الخارجي في الدنيا و الوجود الاخروي في ما لا يزال.

و التقوى هي سبب معد للجنة فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الازلي مثل بالوجود المثالي ثم نزلت إلى هذا العالم و ستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها، كما ان حقيقة العصيان و الطغيان و الكفر كذلك و لكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها، و يمكن التمثيل له في هذا العالم ايضا فان بعض الاراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران و قطعة اخرى لا تصلح إلا ان تكون سبخة يعلوها الملح. و ذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة و من ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم السلام): «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا» أو «ان الدنيا مزرعة الآخرة».

و انما أتى عز و جل الفعل مجهولا للاشارة إلى ان لفعل الفاعل دخلا في الاعداد، و أضيفت الجنة إلى المتقين لبيان ان الوصف و هو التقوى علة لهذا الاعداد.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ» الحديد - 21. و لعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة و المسابقة لأجل ان المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد و المسابقة تكليف فردي بان يتسابق كل فرد فردا آخر حين المسارعة، فتكون المسابقة أخص من المسارعة، و يكون

ص: 345

المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة عرضها كعرض السماء و الأرض فان للّه تعالى جنات كثيرة بل غير متناهية.

كما ان المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السموات و الأرض، و يصح ان يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس فيتحد مفاد الآيتين حينئذ.

ثم انه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها، و هي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق و هي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد أمروا بالتحلي بها لغاية تهذيبهم و تكميلهم و قد نزلت هذه الآيات بعد غزوة احد، و قد جرى على المسلمين ما جرى، كما صدر منهم ما صدر فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين و تهذيبهم و اعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث و قد وصف عز و جل المتقين بأوصاف خمسة و هي:

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ .

السراء من السرور، و هو الرخاء و الفضل، و الضراء من الضرر و هو الشدة و العسر و الضيق. اي: الذين ينفقون لوجه اللّه تعالى في حالة الرخاء و السرور، و حالة الشدة و الضيق و العسر.

و ظاهر الآية الشريفة ان السراء و الضراء حالتان للمنفق، و يحتمل ان تكونان حالتان للإنفاق في حالة الرخاء و السرور، و حالتي الضيق و الشدة فمن الاول الانفاق في التوسعة على العيال، و من الثاني الانفاق لرفع ما يضطرون اليه.

و انما حذف عز و جل متعلق الانفاق ليشمل القليل و الكثير، و كل ما يصلح للإنفاق، سواء كان مالا أو غيره.

ص: 346

و قد بدأ سبحانه و تعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهى عنه عز و جل في الآية السابقة الماحق لكل فضل و فضيلة، و لان الانفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق للّه تعالى و تقواه لأنه أنفق أحب الأشياء لنفسه. و لان الانفاق انفع للناس من سائر الصفات فان فيه يظهر التعاون بين افراد المجتمع و به ترتفع المشكلات و تنحل المعضلات و يخفف من هموم الفقراء و يبعث في نفوسهم الأمل و يشدهم مع سائر افراد المجتمع.

قوله تعالى: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ .

وصف ثان و مادة (كظم) تدل على الحبس و الإمساك، و منه الحديث «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» اي يحبسه مهما أمكن و يقال كظم البعير اي امسك عن الجرة، و كظم القربة شد رأسها عند الامتلاء. و الغيظ شدة الغضب و فوران الدم للانتقام.

قوله تعالى: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ .

وصف ثالث و هو من أجل مكارم اخلاق اللّه تعالى فان بعفوه يتم تدبير نظام العالم. و من أسمائه تعالى العفوّ و هو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب و ترك العقاب عليه، و أصله المحو و الطمس و العفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها و التجاوز عن عقوبة من استحقها، و هو اقرب للتقوى و في الحديث: «سلوا اللّه العفو و العافية و المعافاة» اما العفو فمحو الذنوب، و العافية ان تسلم من الأسقام و البلايا و هي الصحة، و المعافاة هي صرف أذى الناس عنك و أذاك عنهم و يغنيك عنهم و يغنيهم عنك.

و إنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه.

ص: 347

و هذا الوصف يكشف عن كرم المتصف به و حسن سريرته و ضبط نفس الامارة تحت ارادته و حكمته فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ فان الشخص قد يكظم غيظه و لكن على حقد و ضغينة و العفو دليل على انتفائهما.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

وصف رابع و هو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق بل هو أكرم المكارم و لعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق.

و الإحسان: صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ و العفو عن الناس فان هذه نعوت معدة لكسب الإحسان و التحلي به، و الإحسان: هو جعل الأشياء في موضعها و إتيان الأعمال على الوجه اللائق بها، و بالإحسان يتم الانفاق الذي لا بد ان يعري عن جميع ما يشينه و يكمل كظم الغيظ و العفو عن الناس، و لذلك كان للمحسنين اجر عظيم و منزلة كبيرة، قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ» العنكبوت - 69 و يكفي في منزلة هذا الوصف ان اللّه يحب المحسنين و يثيبهم على إحسانهم و كفى بذلك فخرا و فوزا.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .

وصف خامس، و هو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد و فيها التنويه بمقام العفو و الإحسان، و تذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب فانه بعد ان ذكر أوصاف المتقين من كظم الغيظ و العفو و الإحسان عقبه سبحانه بأعظم ما منّ به على العباد و هو العفو عن المذنبين و الإحسان بهم تعليما لهم و تنويها لمقامها و اعلاما بأن

ص: 348

الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا ان يكون معصوما بعصمة اللّه تعالى، فهو محتاج إلى العفو و الإحسان فتكون الجملة معطوفة على المتقين، و أولئك في الآية التالية اشارة إلى الجميع.

و الفاحشة من الفحش و هو مجاوزة الحد في السوء فتكون الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب و المعاصي و شاع استعماله في الزنا باعتبار انه اظهر افراد الفحشاء؛ و كل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال و الأفعال و في الحديث: «ان اللّه لا يحب الفحش و التفاحش».

و المراد بها في الآية الشريفة بقرينة المقابلة للظلم المعصية الفاحشة في قبحها، سواء كانت مقتصرة على النفس كترك الصلاة و نحوه، أو متعدية إلى الغير، كالقتل و الغيبة و نحوهما. و الظلم ما دون ذلك كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة و الصغيرة.

قوله تعالى: ذَكَرُوا اَللّهَ .

اي تذكروا عظمة اللّه تعالى و آياته الموجبتين للخشية منه و انه مرجعهم في كل خوف و رجاء بعد أن اغفلهم الشيطان و أنساهم ذكر ربهم حين الذنب فيسرعون إلى الاستغفار و طلب المغفرة.

و المراد بذكر اللّه هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعيا إلى ترك الذنب و استشعار الخوف و الرجوع اليه تعالى لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب فانه حينئذ يكون كالمستهزئ به تعالى.

قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ .

اي حين ما ذكروا اللّه و تذكروا جلاله و كبريائه أحبوا التقرب اليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان فتابوا اليه طالبين المغفرة منه عز و جل لجميع ذنوبهم.

ص: 349

و الآية الشريفة في مقام التمييز بين من يفعل المعاصي محادة و عنادا و لجاجا فانه بعيد عن الاستغفار و لا يوفق اليه ابدا. و بين من تذكر اللّه تعالى حين المعصية و ارتدع عنها خوفا فتاب اليه تعالى و طلب المغفرة منه فان لهم مقاما معلوما.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ .

بشارة عظيمة، و تطييب للنفوس، و تشويق إلى التوبة و الاستغفار و تنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى اللّه تعالى و عدم اليأس منه عز و جل، فانه لا منجى من الذنوب و لا ملجأ في الغفران الا إلى اللّه تعالى، و هذا مما يؤكد الفزع و الرجوع اليه عز و جل.

و الآية المباركة باسلوبها البديع و خطابها البليغ تؤثر في المخاطبين ابلغ التأثير و ينبه الضمير الانساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب و المعاصي بالرجوع إلى اللّه و الانابة اليه لازالة ما يوجب ضلاله و اغوائه.

و في هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد كإظهار اسم الجلالة، و اسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، و دلالة ذلك على الغفران الواسع و انحصاره فيه عز و جل لأنه المسلط على ذلك كله فان من بيده اصل الخلق و تدبير شؤونهم يكون مسلطا على الغفران بالأولى و ليس لغيره هذا الحق، و هذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي و الإثبات. و فيه الإنكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الإفراد الذين لم يأذن لهم اللّه تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص.

و يؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الاخبار.

و في ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم إعلان بان اللّه جل

ص: 350

شأنه يغفر جميع الذنوب صغائرها و كبائرها فيكون المذنب بعد الاستغفار و التوبة عنده كمن لا ذنب له كما في الحديث.

ثم ان مجيء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة و ظلم النفس فيه الدلالة على سعة غفران اللّه تعالى و عدم مبالاته فيه فان الذنوب مهما كبرت و جلت و لكن عفوه و غفرانه أجل و أعظم و اكبر.

قوله تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

الإصرار على الشيء المداومة عليه و ملازمته و اكثر ما يستعمل في الشر و الذنوب، و في الحديث: «ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوه و هم يعلمون» و قد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى:

«كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» آل عمران - 117.

«وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» حال من فاعل الإصرار و متعلق به.

و المعنى: انهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب و المعاصي و هم عالمون بقبحها و بالنهي عنها و الوعيد عليها.

و انما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية لبيان ان مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصرارا شرعا، كما يبينه قوله تعالى «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ» النساء - 17.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي لأنه يوجب عدم المبالاة بحرمات اللّه تعالى و الاستكبار عليه و الاستهانة باحكامه المقدسة و يجعل النفس ميالة إلى الطغيان و الخروج عن الطاعة فتنتفي العبودية و تخرج عن الفطرة المستقيمة فلا ينفع حينئذ ذكر اللّه تعالى الذي كان يمنع عن المعصية و الاقامة على الذنب.

ص: 351

قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها .

وعد منه عز و جل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف و بيان للأجر الجزيل و الثواب الكبير المعد لهم و هو المغفرة و الجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها، و لتمامية النعمة انهم خالدون فيها لا يشوبها نقص.

و يمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عز و جل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة و جنة عرضها السموات و الأرض، فتكون تلك الأوصاف من المعدات و الأسباب للمغفرة و الدخول في الجنة و تكون هذه الجنات ضمن تلك الجنة الفسيحة.

و قد أضاف سبحانه و تعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشريفا، و في ذكر الرب المضاف إلى «هم» لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم و تربيته تعالى المعنوية لهم.

قوله تعالى: وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ .

تأكيد للوعد الجميل و تشويق لهم الى العمل اي: تلك المغفرة و الجنات انما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس اعدادا صالحا و تهيئوها لنيل تلك المراتب العالية.

و الخطاب على إيجازه يشمل على وجوه من الدلالات المحسنة الدالة على عظمة الموضوع و الاهتمام به و تهييج الشوق و المسارعة الى نيله.

منها إقامة الأجر مقام الجزاء إعلاما بإنجاز الوعد و تحققه مما يزيد في شوق العامل و تنشيطه للعمل فكان العامل يستحق ذلك.

و منها: ذكر الجمع المحلي باللام و إقامته مقام الضمير تأكيدا،

ص: 352

و للدلالة على حصول المطلوب.

و منها إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء و تفصيله لبيان الاهتمام بالوعد، و التأكيد على المسارعة لدركه.

قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ .

أمر بالاعتبار بما جرى على الأمم الغابرة و النظر في ما بقي من آثارهم زيادة في التحريض على العمل و الاستعداد لنيل الكمال، و تشويقا للجزاء الذي أعده اللّه تعالى للعاملين و تنبيها للمؤمنين على عدم الغفلة و تذكيرا لمن خالف الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و تسلية للمؤمنين، و توبيخا لمن اعرض عن آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدسة و غفل عن الاستكمال و تشنيعا على من أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة التي يكون منها الرجوع إلى احوال الماضين و السير في الأرض و النظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار فقد خلت عن أصحابها بعد ما كانت قصورا شاهقة أو عروشا جمعت كل اسباب البهجة و السرور و قد ابتهج ساكنوها و عمارها مدة فيها، أو كنوزا امتلأت بكل اسباب العيش الهنيء، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان، و قد جرت عادته عز و جل انه يرجع المخاطبين بعد سرد جملة من الحوادث و بيان الاحكام الفردية و الاجتماعية إلى سنن الأمم الغابرة و الأمر بالاعتبار بها و النظر في آثارهم لمزيد التنبيه، و الاستفادة من تجاربهم و لئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأمة و ان يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم و الاعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم، و قد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد.

ص: 353

و خلت بمعنى مضت، و السنن جمع سنة و هي الطريق المعبدة المسلوكة و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعة عشر موضعا، قال تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ» الأنفال - 38، و قال تعالى: «وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ» الحجر - 13.

و النظر في سنن الماضين من سبل الرشاد، و فيها وجوه من الحكمة منها الاعتبار بها، و إتمام الحجة على اللاحقين، و تسلية لما يجري عليهم، و الاستفادة من تجاربهم و غير ذلك، و لذا اهتم بها عز و جل فذكرها في مواضع متعددة. و بالجملة: فهو إرشاد إلهي.

و المراد بها في المقام منهاج الماضين و ما جرى عليهم سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل اللّه تعالى و العاملين المستعدين للقائه و الدار الآخرة، و ما كابدوا من عتاة زمانهم و جبابرتهم و صعوبة العيش فرضوا بما قسمه اللّه لهم و صبروا و آثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية، و سنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة و نعيمها لانهماكهم في الضلال و الشهوات مع وضوح الحجة و معرفة البينات، و الأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين و التبصر منها، و يدخل في السير في الأرض السير في حالات اهل الأرض من خلال التاريخ و الحوادث الواقعة فيهم.

قوله تعالى: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ .

المراد بالنظر هو التأمل و التبصر بانه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين و ما جرى من الصراع بين الحق و الباطل، و ما آل أمر المؤمنين اليه و عاقبة امر المكذبين و ما حل بهم من العذاب و الهلاك

ص: 354

بسوء أعمالهم فان النظر في ذلك كله يزيد المعرفة و يوجب التسلية بما يجري على المؤمنين، و يفيد العظة و الاعتبار. و التوبيخ للمكذبين الكافرين.

قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .

الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أحد و المضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات، و التقسيم باعتبار حالات الناس و مدى تأثرهم بالقرآن الكريم، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة اليه بلاغا و بيانا، و البعض الآخر يكون هدى و موصلا له إلى الهداية و موعظة تدعوه إلى الاتعاظ و الاعتبار و زيادة الايمان و ثباته، كل ذلك لا بد ان يكون للذين اعدوا أنفسهم لقبول الهداية و الاتعاظ، و هم المتقون الذين يتأثرون بالبيان و ينتفعون منه و يهتدون بهداه و يتعظون بمواعظه دون سواهم، و قد تقدم نظير ذلك في أول سورة البقرة فراجع.

بحوث المقام

بحث دلالي:
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البر و مكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها و لا يسع لاحد الإعراض عنها فإنها فاتحة الكمالات و جامعة للخيرات و هي من المكارم الفردية و الاجتماعية بها يعيش الفرد حياة سعيدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات

ص: 355

و الشرور. و بها يصلح المجتمع.

و من هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الاخلاقي في الإسلام، فانا ذكرنا في أحد مباحثنا الاخلاقية: أن المنهج الاخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الاخرى في الأصول و الأسلوب و الطريقة و ان الإسلام ينظر إلى التقوى و العمل أولا و بالذات و انه السبيل الوحيد لنيل الكمال و الوصول إلى الغاية، و هذه الآيات تبين المنهج العملي، و نظير هذه الآيات قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177 فراجع ما ذكرناه هناك.

الثاني:

انما قدم عز و جل المغفرة على الجنة لان المغفرة سبب للدخول فيها، و كل سبب مقدم على المسبب، مع ان الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها و بالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ان التقوى هي السبب في اعداد الجنة و تهيئتها للمتقين و حضورها لهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ» كمال الجنة من جميع الجهات و تمامية النعمة فيها فان الجنة التي تكون سعتها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة و السرور و فيها الحياة الكاملة كما قال عز و جل: «وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ» العنكبوت - 64.

ص: 356

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ» ان كل وصف سابق معد للوصف اللاحق فان الانفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال و الملذات و السيطرة عليها، فتستعد لكظم الغيظ و هذا موجب للعفو عن الناس، و هو موجب لمزيد الإحسان.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «ذَكَرُوا اَللّهَ» ان ذكر اللّه تعالى هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية و الانزجار عن الذنوب و عدم العود إليها و التوبة إلى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه عز و جل لان غفران الذنوب تحت سلطته عز و جل، و ان الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر اللّه تعالى و هم يعلمون بان الإصرار يكون كذلك و يوجب التجري على اللّه تعالى و الاستكبار عليه و عدم المبالاة بحرماته و تزول عنه حالة الندم و الخوف عن نفسه.

السابع:

انما جعل عز و جل قصص الماضين سواء الصالحين منهم أو الظالمين خاتمة لتلك التعاليم الاسلامية عبرة لللاحقين و دستورا للعمل و منهاجا في سيرهم و سلوكهم، مضافا إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون، و يصلح بها الفاسد.

بحث روائي

في المجمع عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه سئل إذا كانت عرضها السموات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال (ص):

ص: 357

أقول: روى السيوطي أيضا في الدر المنثور عن التنوخي في كتاب هرقل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مثل ذلك، و يمكن أن يكون هذا الجواب منه (صلى اللّه عليه و آله) إقناعيا اسكاتيا. كما يمكن ان يكون على وجه التحقيق بان نقول ان خلق النار تبع لخلق الجنة فهي لا تنفك عنها، كما ان خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار و أما وجه التبعية فلقوله تعالى: «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً» غافر - 7 و «سبقت رحمته غضبه».

و في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى:

«أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» قال (ع). «انكم لن تنالوها إلا بالتقوى».

أقول: لما تقدم من أن التقوى سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها إلا بالتقوى و لا بد من تعميم التقوى إلى التوبة و الاستغفار، كما في صدر الآية الشريفة.

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما من عبد كظم غيظا إلا زاده عزا في الدنيا و الآخرة، قال اللّه عز و جل:

و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و اللّه يحب المحسنين».

أقول: وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليكم بالعفو فانه لا يزيد العبد إلا عزا فتعافوا يعزكم اللّه».

أقول: لان العفو من صفات اللّه تعالى فيعز العبد العافي بعزه، و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.

و في المجمع و الإرشاد للمفيد «إن جارية لعلي بن الحسين (عليهما السلام)

ص: 358

جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: ان اللّه تعالى يقول: و الكاظمين الغيظ، فقال لها: كظمت غيظي، قالت: و العافين عن الناس.

قال: عفا اللّه عنك. قالت: و اللّه يحب المحسنين قال: اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور أيضا عن البيهقي، و الحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على اصل العفو، و مثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.

و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» قال (عليه السلام):

«الإصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه، و لا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة، و قد تقدم ما يشهد لذلك، و سيأتي ما يرتبط بذلك أيضا.

و في تفسير العياشي في حديث قال: «و في كتاب اللّه نجاة من الرديء و بصيرة من العمى. و شفاء لما في الصدور في ما أمركم اللّه به من الاستغفار و التوبة قال اللّه تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» ، و قال تعالى: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً» فهذا ما امر اللّه به من الاستغفار و اشترط معه التوبة و الإقلاع عما حرم اللّه فانه يقول: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ»

ص: 359

أقول: تقدم مكررا ان العمل الصالح من الايمان فلا ايمان إلا به.

و في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالى:

«وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» نزل في بهلول النباش و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها - و كانت بيضاء جميلة - فسوّل له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فرده ثم اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبد و يتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل توبته و نزل فيه القرآن».

و في اسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في رواية عطا قال:

«نزلت الآية و هي قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» في نبهان التمار أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه و قبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و ذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».

أقول: قد وردت روايات متعددة في شأن هذه الآية و هي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.

و في المجالس عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. فقال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك. فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بما ذا؟ قال: أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة».

ص: 360

أقول روي مثله من طرق الجمهور أيضا.

بحث اخلاقي

الإصرار على الذنب سواء كان صغيرا أم كبيرا من القبائح العقلية التي يحكم العقل بقبحه و شناعته بل هو من أشد القبائح لأنه يوجب شقاوة النفس و الجرأة على اللّه تعالى، و قد يصل إلى حد الاستهزاء بحرماته عز و جل، و هو على حد الكفر. و الإصرار على الذنب على الأقسام:

الاول: إتيان الذنب ثم تكراره و البناء على إتيانه مكررا من دون تخلل التوبة و الاستغفار.

الثاني: إتيان الذنب و البناء على الإصرار و التكرار و لكن لم يتهيّأ له اسباب إتيانه مع السعي في مقدمات الإتيان.

الثالث: نفس الصورة السابقة مع عدم السعي في المقدمات.

الرابع: أن يأتي بالذنب و كان بانيا على الإتيان قلبا من دون صدور عمل خارجي منه أصلا.

الخامس: ان يأتي بذنب ثم يتوب ثم يأتي به ثانيا. و غير الأخير كله من الإصرار بحسب مراتبه. و اما الأخير فمقتضى قوله (صلى اللّه عليه و آله): «لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار» محو الأول و زواله بسبب التوبة فلا يتحقق موضوع الإصرار حينئذ، و الإصرار كما يتحقق بفعل المعصية يتحقق بترك الواجب عصيانا أيضا.

ص: 361

آخر فيتعدد العقاب و لا موجب لتداخله فان تعدد المنشأ و السبب يستلزم تعدد المسبب لا محالة.

ثم ان الغفلة عن اللّه جل جلاله، و عدم الاعتقاد بحضوره تعالى هي من أشد الذنوب و المداومة على هذه الحالة ذنب عظيم بل هي أم المفاسد و رأسها، و الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى انما اهتموا لإزالة هذه الحالة و إرجاع العبد إلى اللّه تعالى و يتحقق التوجه اليه عز و جل بإتيان الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما نطق به التنزيل.

بحث عرفاني

لا ريب في ان عالم الدنيا متقوم بالخيالات و الأوهام و الجهالات، و الناس بعيدون عن الحقائق و الواقعيات و موجبات الإغراء بالشهوات كثيرة و متعددة، و الآيات الشريفة المتقدمة ترشد الإنسان الى أهم الحقائق التي بها يستقيم الفرد و ينتظم نظام المجتمع و حقيقة هذه الآيات ترجع إلى التغافل عن ما يصيب الفرد من المكروه و الأذى من الغير، و بذل أحب الأشياء لديه و هو المال و الجاه و ترويض النفس و جعلها تحت إمارة العقل و الحكمة و اعتبار الفرد نفسه من أفراد المجتمع و جزءا لا يتجزأ منه بحيث يعتبر ما يكون كمالا للمجتمع كمالا له و ما يصيبهم من السوء يصيب نفسه.

و قد أكد عز و جل إرساء قواعد العفو و المغفرة بين الناس فان كل فرد أحوج من غيره إلى العفو و المغفرة لما يصدر منه من الذنوب و المعاصي، فبالعفو عن إساءة الغير و بذل ما عنده اليه يدخل في زمرة من تخلق

ص: 362

بأخلاق اللّه تعالى التي من أهمها بالنسبة إلى الإنسان العفو و المغفرة فان الدنيا مزرعة الآخرة فما يزرع فيها يحصد في الآخرة، و قد فتح اللّه تعالى باب التوبة و الرجوع اليه عز و جل بأي وجه أمكن، فان لها جهتان جهة تكوينية و هي تربية الإنسان، و جهة تشريعية و هي تكثير صفوف المتقين و قد اهتم به اللّه عز و جل اهتماما بليغا و أعلن في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم بانه الغفور الرحيم و جهر بقبول التوبة و الدعوة بالرجوع اليه، و هذا هو عين ما يدعو اليه العقل المجرد فما ورد في تلك الآيات الشريفة كله من الاحكام العقلية النظامية صدر عن خالق العقل و موجده.

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ.......

اشارة

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ

ص: 363

عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ (145) وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ (146) وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (148) الآيات الشريفة متصلة بالآيات السابقة و انها كالغاية و اصل المقصود للآيات المتقدمة التي اشتملت على بعض الحقائق التي نبهت المؤمنين على ما صدر منهم و ما سيجري عليهم و امرتهم بالاستعداد التام له و التخلق بمكارم الأخلاق، ففي هذه الآيات المباركة يرشد سبحانه و تعالى المؤمنين إلى التعاون و التعاضد امام المصاعب و عدم الوهن و الضعف فيهما و نبههم بأن ما يصيبهم من المكروه هو سنة المجتمع البشري في هذه الأرض، و انما هي مداولة بين الناس. ثم بين سبحانه و تعالى ان السعادة في الدارين لا يمكن الوصول إليها إلا بالجهاد و الصبر، و أمرهم بالإعراض عن الكافرين و ترك الظلم فان اللّه لا يحب الظالمين.

ص: 364

و بين عز و جل انه لا بد من الامتحان لتمييز المجاهد الصابر الصادق عن غيره، ففي هذه الآيات المباركة اجتمعت اصول الكلام من الأمر و النهي و المدح و الثناء و التوبيخ و الإرشاد و كفى بذلك دليلا و هاديا.

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا .

الوهن هو ضعف خاص في الخلق و الخلق، و المراد به في المقام الضعف في القتال أو في العزيمة، أو في الاهتمام في الجهاد في سبيل اللّه تعالى و اقامة الدين.

و الحزن خلاف الفرح و هو ما يعرض الإنسان بفقد عزيز عليه أو ما يحبه من مال أو جاه.

اي: لا تهنو ايها المسلمون و لا يظهر عليكم اثر الضعف و الخوف و لا تحزنوا على ما أصابكم، لان الحزن انما يكون على ما فات من الإنسان بغير عوض و اما انكم فستجدون عوض ما أصابكم بأحسن وجه و من يقتل منكم شهداء عند ربهم يرزقون، و هو مما يتمناه كل مؤمن مع ان ما أصابكم انما هو امر طبيعي يقتضيه سير القتال و قد خلت من قبلكم السنن فاتخذوها عبرة.

و الآية المباركة ترشد إلى أهم الأمور التي توجب الظفر و هو الثبات و الاستقامة و عدم المبالات بما يصيب الإنسان في الجهاد في سبيل اللّه تعالى و هو امر فطري يحكم بحسنه العقل أيضا فلا فرق حينئذ بين ان تكون الجملة انشائية أو خبرية محضة لأنها في مقام بيان الواقع

ص: 365

و ارشاد الناس اليه.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ .

تشويق إلى الجهاد و المثابرة و بشارة بالغلبة و تسلية للمؤمنين. و الجملة في موضع التعليل اي: مع انكم الأعلون فلما ذا يقع منكم الوهن و الحزن، و فيه التوبيخ لما صدر منهم في يوم أحد من الفشل و الهزيمة مع انهم ذاقوا حلاوة النصر أول الحرب حيث هزموا المشركين و اثخنوا فيهم القتل فما أصابكم كان من كسب أيديكم.

و قيل ان الجملة ابتدائية اي: لا تهنوا و لا تحزنوا إن كنتم مؤمنين و أنتم الأعلون فتكون متضمنة للبشرى بالعلو مطلقا حتى في المستقبل.

و الظاهر ان الجملة تتضمن معنى أدق من ذلك، فإنها تشير إلى العتاب و الاحتجاج عليهم بان اللّه تعالى بشرهم بعلو امر الدين و الظفر على الأعداء فلما ذا هذا الوهن و الحزن.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

ايمانا صادقا فان مثل هذا الايمان يستلزم الغلبة و الظفر و يوجب اطمينان النفس اي: لا تهنوا في عزمكم و لا تحزنوا لما فاتكم من الخير أو ما أصابكم من القتل ان كان فيكم الايمان فانه جنة واقية و يلازم الصبر و التقوى و هما الموجبان للنصر و الظفر.

و في الآية الشريفة عتاب لهم بأن الايمان فيهم لم يكن متصفا بما يوجب النصر. كما ان فيها تشويق للمؤمنين منهم بالجهاد و تنشيط لنفس المؤمن.

ص: 366

قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ .

المس هنا بمعنى الإصابة عبر به لتهوين المصاب. و القرح - بفتح القاف - الجرح و عض السلاح، و قرئ بضم القاف. و قيل: ان القرح بالفتح مصدر، و بالضم اسم. و قيل: انهما لغتان. و ذكر بعض اللغويين ان القرح بالفتح اثر الجرح من الخارج، و بالضم الأثر من داخل كالبترة و نحوها، و المراد به في المقام القتل و الجروح.

و المعنى: إن ما أصابكم ايها المسلمون من الجراح و القتل في الحرب فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم.

و المستفاد من الآية الشريفة انها في مقام التسلية ببيان اصل المثلية في الجراح و المصاب دون كميته و كيفيته فلا ينافي ذلك قوله تعالى:

«قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» آل عمران - 159 مضافا إلى انه يمكن ان يكون المراد بالمثلين هو القتل و الجرح و الأسر في بدر واحد.

و أسلوب الآية الشريفة يدل على تحضير الواقعة في ذهن المخاطب كأنها ماثلة امام عينه، تمسه حرارتها، و يكابد آلامها، و لذا كان لمثل هذا الأسلوب وقع كبير في تنشيط عزيمة القوم، و تشجيعهم على الاقدام و العمل لان إصاباتهم كاصابات العدو مع كمال استعداده في العدد و العدة و شدة نزاله في الحرب التي اشتملت على الكر و الفر و الاقدام و الخذلان من كلا الجانبين، و هذا هو امر طبيعي، فإنما هي مداولة بين الناس، و قد جرت سنته عز و جل على ان يجري الأمور بأسبابها العادية و ان كان التقدير بيده تبارك و تعالى.

قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ .

حقيقة من الحقائق الواقعية نطق بها القرآن الكريم و صارت مثلا

ص: 367

من الأمثال القرآنية التي يستعملها الناس من حين النزول.

و المراد من الظرف المظروف اي ما يقع في الأيام من الظفر و الغلبة أو الحزن و السرور، كما أن المراد من (نداولها) نصرفها بين الناس.

و قد استفاد العلماء من الآية الشريفة قواعد كلية في العلوم منها:

ما استفاده العرفاء الشامخون من انه لا مؤثر في الوجود الا اللّه تعالى و استشهدوا له بهذه الآية المباركة، و بقوله تعالى: «لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» * الشورى - 12، و قوله تعالى: «وَ لِلّهِ خَزائِنُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» المنافقون - 7، و بقوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ» الانعام - 59 إلى غير ذلك من الآيات الشريفة و الأحاديث المقدسة.

و منها: ما استفاده الفلاسفة المتألهون من ان مناط الحاجة الإمكان لا الحدوث و استشهدوا له بالآية الشريفة أيضا و بقوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» الرحمن - 29، و قوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» المائدة - 14.

و منها: ما استشهد به بعضهم لمذهب الأدوار و الأكوار و هو مذهب قديم و مفاده ان الموجودات مطلقا تتكرر في الأدوار و الأكوار بحسب حركات الأفلاك و نسبوا ذلك إلى يوذاسف من حكماء اليونان و رده المحققون من الفلاسفة، و قال بعضهم في ذلك.

و ما انقضى العام الربوبي اليوم كر *** أمثال الأجسام و انفس أخر

لا ما مضى الا لدى يوذاسف و القول بالمحو و الإثبات اصطفي

و اصل المذهب مبني على قدم الأفلاك و حركاتها و انها الفاعلة و المؤثرة في حدوث الكائنات مطلقا و كل ذلك باطل كما سيأتي في محله ان شاء اللّه تعالى.

و كيف كان فالمراد بالأيام هي حوادثها الواقعة فيها كما عرفت

ص: 368

و هي عطف بيان ل «تلك» و «نداولها» خبر و «بين الناس» ظرف ل «نداولها». و المداولة المداورة و التصريف و جعل الشيء يتناوله واحد بعد آخر قال الشاعر:

يرد المياه فلا يزال مداولا *** في الناس بين تمثل و سماع

و مداولة الأيام سنة تكوينية إلهية تابعة لمصالح عامة و منوطة بأسباب عادية فقد تكون الدولة مرة لفرد و مرة اخرى لفرد آخر و هي جارية في جميع الأمم إلى ان يأتي امر اللّه تعالى و بها ينتظم النظام حتى تظهر دولة الحق.

قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

بيان لوجه من وجوه الحكمة في إقامة السنة الإلهية في الناس، و ذكر لإحدى العلل في ثبوت المداولة بينهم، و الجملة معطوفة على محذوف إيماء بان الأسباب متعددة و المصالح كثيرة، و أن الذي ينفع المؤمنين هو ما يذكره عز و جل لعدم إمكان إحاطة العقول بجميع الجهات الا ما يبنه تعالى. و قد ذكر عز و جل وجوها ثلاثة في المقام و هي قوله تعالى «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» . و قوله تعالى: «وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» . و قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» .

و المراد من قوله تعالى «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» مطابقة المعلوم الخارجي مع العلم الازلي و ظهوره و وقوعه في الخارج، لأن إرادته عز و جل بالعلم بشيء هي ارادة تحققه في الخارج على طبق السنة الإلهية و هي قانون الأسباب و المسببات، و منها جريان المداولة بين الناس، و لا بد من امور توجب تحقق المعلوم بعد خفائه، فان علم اللّه تعالى بما سواه ليس على نحو العلم الحصولي يؤخذ من انطباع الصورة نظير

ص: 369

علومنا، بل هو أدق من العلم الحضوري للنفس بذاته أي أن العلم بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه، و حينئذ يكون مراده عز و جل بالعلم بشيء تحققه في الخارج، كما عرفت.

و مبحث علم الباري عز و جل من أدق المباحث الكلامية، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. و يمكن ان يقال في المقام على نحو الإيجاز: و هو أنه يمكن فرض ذات قديمة تكون عين العلم بحقائق الممكنات من الجواهر و الاعراض، و الجزئيات و الكليات، و هي عين جميع الكمالات الواقعية من الحكمة و التدبير و القيّومية و نحو ذلك، و لا بد أن يكون هذا لمفروض متحققا في الخارج و إلا يلزم الخلف، و هو باطل، فالذات القديمة التي تكون كذلك منحصرة في اللّه تعالى، و قد تقدم في قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ» البقرة - 142 بعض الكلام في مثل هذا الخطاب فراجع.

و المعنى: ليظهر اللّه تعالى ايمان المؤمنين و صدقهم و ثباتهم، فيميز المؤمن المجاهد الصابر من المنافق.

قوله تعالى: وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ .

حكمة اخرى في اقامة السنة الإلهية. و الشهداء: جمع الشهيد بمعنى المقتول في سبيل اللّه تعالى، فيشمل شهداء بدر و أحد و سائر غزوات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) المباركة.

و انما عبر سبحانه و تعالى بالاتخاذ لكمال العناية لهم و التكريم بهم فقد أحبهم و ارتضاهم فاتخذهم شهداء كما في قوله تعالى: «وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً» النساء - 125.

و ذكر بعض المفسرين ان المراد بالشهداء في المقام شهداء الأعمال لعدم معهودية استعمال هذا اللفظ جمعا للشهيد بمعنى المقتول في القرآن

ص: 370

الكريم، و لان الاتخاذ لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين، و لان قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» قرينة على ان المراد بالشهداء هم شهداء الأعمال أو من يصلح للشهادة على الأمم في يوم الحساب.

و فيه: أولا انه خلاف سياق مثل هذه الآيات الشريفة إذ لا ربط لقبول قول الشهداء في عداد بيان خصوصيات القتال و الجهاد في سبيله.

و ثانيا: إذا كانوا من الشهداء في الحق يكونون من الشهداء على الأعمال أيضا، لما ذكرنا سابقا من الشهداء في سبيل اللّه لهم مقام الشهادة على الأعمال و الشفاعة لما ابتلوا بالصبر و الإيثار ببذل النفس.

و ثالثا: ان قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» تفصيل بين الشهداء في الحق فهم ممن أحبهم اللّه تعالى و اتخذهم و ارتضاهم و بين من قتل في غير الحق.

و رابعا: ان استعمال الشهداء بمعنى المقتول في المعركة مطابق للقواعد العربية الفصيحة فلا محذور في وروده في القرآن الكريم فليكن المقام من ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ .

ارشاد للمؤمنين بترك الظلم و بيان لهم بان حب اللّه تعالى منحصر بهم، و يمتنع تعلقه بغيرهم لمكان ظلمهم و قبح أفعالهم و لا يتعلق حبه تعالى بالقبيح. و الجملة معترضة بين وجوه العلل.

و الآية المباركة تنبّه المؤمنين إلى مضمون قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» فان الأسباب و المقادير و ان اقتضت تسلط الظالمين استدراجا و ابتلاء للمؤمنين و لكنه تعالى لا يحب الظالمين و لا ينصرهم على الحق و لا يتخذهم شهداء.

ص: 371

و في الآية الشريفة بشارة للمؤمنين بانه تعالى يحبهم و إنذار لاعدائهم بانه جلت عظمته يبغضهم لأنهم غير ثابتين على الايمان.

قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

وجه ثالث من وجوه الحكمة التي اقتضت المداولة بين الناس، و قد ذكر سبحانه و تعالى اللام في «ليمحص» اهتماما بهذه الحكمة؛ كما ان اظهار اسم الجلالة في موضع اسم الإشارة يقتضى ذلك أيضا.

و مادة (محص) تدل على الخلوص و التطهير من كل عيب، يقال: محص الذهب بالنار اي خلصه مما يشربه، و عن علي (عليه السلام) في ذكر فتنة قال: «يمحص الناس فيها كما يمحص ذهب المعدن» اي يختبرون، كما يختبر الذهب و يخلص ذهب المعدن من التراب، و في الدعاء «اللهم محص عنا ذنوبنا» اي خلصنا من ذنوبنا قال الشاعر:

حتى بدت قمراؤه و تمحصت *** ظلماؤه و رأى الطريق المبصر

اي تكشفت و خلصت، و لكن في التمحص معنى زائدا على التطهير و التكفير، و هو التطهير عن اختبار شديد و ملازمة للبلاء.

و المعنى: ان من الحكمة في مداولة الأيام و من مصالحها تخليص المؤمنين مع شدة بلائهم و تطهيرهم عن شوائب الرذائل كالنفاق و الكفر و مفاسد الأخلاق و الذنوب و المعاصي، فيتجلى المؤمن بالتمحيص بأكمل وجه خالصا عن كل شين و عيب و رذيلة، و هذا هو التمحيص، فهو التطهير مع شدة الاختبار و الامتحان كما يتمحص الذهب بالنار عن كل شائبة.

ص: 372

و هذا التمحيص و الاختبار بين الصحيح و الفاسد من مدارك العقل السليم، و ان بعث الأنبياء و إنزال الكتب السماوية لم يكن إلا لهذه الجهة و هي دخيلة في تنظيم نظام الأحسن و بدونها يختل النظام.

قوله تعالى: وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ .

بيان للطرف الذي قد خسر في التمحيص. و المحق هو الازالة و التنقيص شيئا فشيئا و قد تقدم في قوله تعالى: «يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ» البقرة - 76 بعض الكلام، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في هذين الموضعين فقط، و في الحديث: «ما محق الإسلام شيئا ما محق الشح» و عنه (صلى اللّه عليه و آله) «الحلف منفقة للسلعة و ممحقة للبركة».

و محق الكافرين إما باذهاب شوكتهم أو ابطال حججهم، و إزالتهم و افناؤهم شيئا فشيئا فان تمحيص المؤمن يستلزم إبادة آثار الكفر و الشرك و النفاق و الكيد شيئا فشيئا حتى يضمحلوا.

و في الآية المباركة بشارة عظيمة بغلبة المؤمنين و نصرهم على الكافرين و ظهور دولة الحق.

قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

لوم و عتاب لما قد يصدر من المؤمنين كما صدر عنهم في يوم بدر و أحد من العجب و ما يدور في سرائرهم من الظنون الباطنة التي قد توجب اختلال نظام الامتحان و الاختبار و في ذلك بطلان نظام التشريع و بطلان الفطرة التي ابتني عليها الدين، و فساد للسنة الإلهية التي جرى عليها نظام الأسباب و المسببات للعادة فان اللّه تعالى لم يخلق العالم عبثا و جزافا، و ببين تعالى في هذه الآيات حقيقة الحال ليبطل

ص: 373

الظنون، فهذه الآية المباركة تبين الغاية من المداولة و النتيجة لما ورد في الآيات السابقة.

و «أم» منقطعة تفيد الإنكار جيء بها لبيان العلة في ما لقوه من المصاعب و المتاعب و الشدائد، و لكنه عز و جل لطفا بهم جعل كل تلك الشدائد وسيلة للفوز و للوصول إلى المقام الأعلى، و تمحيصا لهم. و في الآية الشريفة جعل المسبب موضع السبب.

و المعنى: أم حسبتم كما حسب بعض اهل الغرور من انهم على الحق - و هو لا يغلب - و ان الظفر و الغلبة لا تفوتهم و كذا الفوز بالسعادة الأخروية و اللّه تعالى ينكر ذلك عليهم و يبين انه حسبان محض.

قوله تعالى: وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية و هي انه لا يمكن الوصول إلى الهدف الا ببذل النفس و النفيس في طريق الوصول فلا بد من الامتحان و الاختبار ليعلم الصابر المجاهد عن غيره و يستبين المستحق لنيل الدرجات الرفيعة من غيره.

و معنى لما يعلم: انه لم يتحقق معلومه الخارجي بعد كما تحقق في علمه الازلي، فالتعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم و هذا من مختصات علم الباري جل شأنه لان نفي علمه يستلزم عدم وجود ذلك الشيء، لما تقدم في الآيات السابقة من ان علمه عين ذاته و لا يعزب عن علمه شيء قال تعالى: «وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يونس. 61.

ص: 374

قوله تعالى: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ .

ظاهر الخطاب انه لطائفة من المؤمنين كانوا يتمنون الشهادة في سبيل اللّه تعالى، و يؤيد ذلك ما ورد في الحديث ان المؤمنين لما أخبرهم اللّه تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر و منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك و طلبوا منه عز و جل ان يرزقهم القتل في سبيله فلما أراهم اللّه تعالى يوم أحد إياه لم يثبتوا إلا من شاء منهم.

و المراد من الموت هنا هو الشهادة في سبيل اللّه تعالى و الجهاد مع أعدائه مما يتمناه كل مؤمن لا مطلق الموت فان تمنيه مكروه.

و في الآية الشريفة عتاب لمن كان يتمنى القتل في سبيل اللّه تعالى ثم لم يثبت عليه و تنبيه المؤمنين إلى ترك الغرور و التمني بما لا يقدرون على الثبات عليه.

كما ان هذه الآية المباركة تعطي درسا للمؤمنين بأنهم إذا تمنوا خيرا لا سيما الجهاد و القتل في سبيل اللّه تعالى لا بد من محاسبة أنفسهم و امتحان قلوبهم، و اختبار استعدادهم على الثبات و المثابرة و إلا فان تمني كل أمر من دون ملاحظة تلك الخصوصيات انما يكون ضربا من التخييل و الوهم و الغرور، و لذا نرى ان كثيرا من المتمنين لم يثبت على ما تمناه عند الامتحان في الفعل و مرحلة العمل لأنه لم يصدر عن قدم راسخ و عزيمة قويمة.

و انما عقب سبحانه و تعالى الاختبار و التمحيص بهذه الآية الشريفة لبيان كيفية التمحيص و الاختبار، و ما في هذه الآية انما هو مثال لهما و زيادة في الإيضاح.

و المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ» : من قبل

ص: 375

الامتحان بالعمل و الاختبار بالاقدام على الفعل.

قوله تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .

الرؤية: الاحساس بالباصرة. و النظر هو المعانية و هو غير الرؤية فان الثانية متعدية إلى المفعول بنفسها و النظر يتعدى إلى المفعول ب إلى.

و الجملة تبين شدة معاناتهم للحادثة و الوقوع في الاختبار و الامتحان فقد رأوا ما فيه الاختبار و تمعنوا فيه و نظروا إلى جميع الخصوصيات التي تمكنهم الوصول إلى ما تمنوه من الشهادة في سبيل اللّه تعالى.

و انما عبر سبحانه بالرؤية مبالغة في مشاهدتهم له و تأكيدا لظهور الخصوصيات لهم و معاينتهم لها و لذا عبر عز و جل ب «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» .

قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ .

مثال آخر من الامثلة القرآنية لاختبار الناس و تمحيص المؤمنين، و يبين سبحانه و تعالى في هذه الآية حقيقة من الحقائق الواقعية التي يشهد عليها البرهان و وجدان المتأملين من افراد الإنسان و هي انه متى ظهر في الدنيا مثال للعقل العملي و النظري و دعا الناس إليهما فآمن به جمع ثم غاب عنهم يكون اتباعه على قسمين، قسم استعدت نفوسهم لنيل المعارف الإلهية و تمكنت فيهم فيكون حضوره و غيبته عندهم على حد سواء، بل لا يرون غيبته غيبة لحضور معارفه لديهم ابدا و يرون ان العمل بها منشا لسعادتهم الدنيوية و الأخروية قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي اَلسَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ابراهيم - 54 و قسم

ص: 376

آخر يكون ايمانهم طمعا في الحطام أو خوفا من الحسام فهم «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» ابراهيم - 26 فلا محالة يميلون مع كل ريح بعد غيبته يمينا و شمالا و يسعون وراء كل شهوة قال تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» مريم - 59 و لا اختصاص لمضمون هذه الآية الشريفة باتباع سيد المرسلين بل هو متحقق في اتباع كل نبي بعد ارتحاله، و لعل في قوله تعالى: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» اشارة إلى ذلك، و يدل على ذلك الحديث المعروف بين الفريقين: «ستفترق امتي بعدي ثلاث و سبعون فرقة».

و هذه الآية المباركة من ملاحم آيات القرآن الكريم و قد اخبر سبحانه و تعالى نبيه الكريم تسلية لقلب سيد الانس و الجان و ان ما تحمل به من الأذى و الصعاب في سبيل اللّه تعالى محفوظ عنده عز و جل، و ان لم تعرف الامة قدر نبيها الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و فيها العتاب على من لم يثبت على الايمان.

و محمد علم لنبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و هو بمعنى من كثرت خصاله المحمودة سماه به جده عبد المطلب و قال: «رجوت ان يحمد في السماء و الأرض» و لم يسم به أحد قبله و هو مشتق من حمّد (المضاعف) و في هذا الاسم العظيم اسرار لا يعرفها الا الراسخون في العلم.

و المعنى: ليس محمد (صلى اللّه عليه و آله) إلا بشرا رسولا من اللّه مثل سائر الرسل و الأنبياء التي مضت من قبله بلغوا رسالات ربهم و لا يملكون من الأمر شيئا إذا دعاهم اللّه أجابوا فمن هداه اللّه عز و جل إلى الايمان فإنما اهتدى بهداه فلا يضره موت النبي، فهو

ص: 377

يبلّغ عن اللّه تعالى و يدعو اليه فالدين باق ببقاء اللّه تعالى و ان تبدلت المبلغين عنه تعالى فلا يكون موت نبي موجبا للخروج عن طاعة اللّه تعالى و دينه.

قوله تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ .

الهمزة للإنكار و الموت: هو زهاق الروح، كما ان القتل كذلك و لكن الأخير متضمن لسبب الموت، و لعله في المقام باعتبار اشاعة قتله (صلى اللّه عليه و آله) في يوم أحد، كما عرفت في البحث التاريخي.

و ذكر موته باعتبار وقوعه عليه (صلى اللّه عليه و آله) بعد ارتحاله عن هذا العالم، فالآية الشريفة تبين جميع المحتملات، سواء كانت باشاعة أو بوقوعه الخارجي حين ارتحاله و الأثر مترتب على كل منهما.

قوله تعالى: اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .

كناية عن الخروج عن الطاعة و الرجوع إلى الكفر، و التعبير بذلك اشارة إلى بقاء جميع رذائل الجاهلية و عدم رسوخ الدين في قلوبهم و إلا فلا معنى للانقلاب بعد معرفة الحق حقيقة. و فيه إيماء إلى انه إذا قتل أو مات ترجعون إلى الكفر و تكونوا محاربين مع الرسول.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً .

تقدم ان المراد بالانقلاب على الأعقاب هو الرجوع عن الطاعة و الكفر بالدين، و هذا الخطاب يختص بالرجوع السريع من دون توقف، فكأنما ركب الفرس في الرجوع إلى الوراء.

و المعنى: من يخرج عن طاعة اللّه تعالى و يكفر بالدين فانه يضر

ص: 378

نفسه بتعريضها للسخط و الهلاك و حرمانها عن الكمال المعد لها، و لن يضر اللّه كفر الكافرين ابدا، لأنه غني عن العالمين، و هؤلاء هم الذين ذكرهم الشيطان في ما حكاه عز و جل عنه: «قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» الأعراف - 17 و يقابلهم من سيذكره تعالى بعد ذلك الذين شكروا اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ .

بيان لنوع آخر مقابل لمن ينقلب على عقبيه. و الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم اللّه به عليه من لسانه و قلبه و جميع جوارحه في ما خلق لأجله، فهو اظهار النعمة بالعمل و يقابله الكفر، و مقام الشكر من أعلى مقامات العارفين الشامخين، و أخص صفات المخلصين المتقين و قد تقدم في سورة الفاتحة الفرق بين الحمد و المدح و الشكر فراجع.

و الشاكرون هم الذين ثبتوا على الايمان و أقاموا على طاعة اللّه عز و جل و الإخلاص له، و استقر فيهم وصف الشكر فهم في حالة ذكر اللّه تعالى بالقول و العمل؛ و هم الأقلّون الذين ذكرهم اللّه تعالى في قوله «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ» سبأ - 13، كما انهم هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم و استثناهم عن اغوائه؛ قال تعالى حكاية عنه «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ» ص - 83.

و الآية الشريفة ترشد إلى أن في القوم من يثبت على دينه و يعمل على طبقه فهو شاكر للّه تعالى و لا يختص مضمونها بعصر الرسالة بل يجري في جميع الامة، و إنما لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء الشاكرين

ص: 379

تعظيما له و إعلاما بجلالة قدره.

قوله تعالى: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .

تثبيت لمضمون الآية المتقدمة فان موت الرسول (صلى اللّه عليه و آله) لم يكن جزافا و لا بتحقق بالإشاعة و لا يمكن أن يكون سببا للارتداد لو تحقق، و تعريض بمن كان يثبط المؤمنين بالقعود عن القتال و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، كما حكى عنهم عز و جل في موضع آخر قال سبحانه «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» و تسلية للمؤمنين بمن قتل منهم، و ارشاد للناس إلى ان الموت و الحياة بيد اللّه تعالى و قدرته لا يتحققان مصادفة من دون تقدير من اللّه عز و جل، و هذه هي سنة محكمة فلا وقع للجبن و الخوف، و لا عذر للوهن و الضعف و القعود عن الجهاد.

و المعنى: انه لم يثبت و لا هو ثابت لنفس ان تموت إلا بمشية اللّه تعالى و تقديره فهذه سنة محكمة في خلقه و يجري عليها نظام الحياة.

قوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلاً .

تأكيد لمضمون ما قبله، و الكتاب مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه اي كتبه اللّه تعالى كتابا مقرونا بأجل معين معلوم حدوده غير قابل للتغيير و التبديل، كما قال تعالى: «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» يونس - 49.

و الآية المباركة تحرض المؤمنين على الجهاد و التشجيع على لقاء العدو و ترك الحذر و الخوف، لأنه لا يموت احد قبل الوصول إلى أجله.

ص: 380

قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها .

بعد ما ذكر سبحانه و تعالى خصائص الطائفتين المنقلبتين على الأعقاب و الباقين مع الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و الراسخين على دينهم يبين جل شأنه في هذه الآية المباركة جزاء الطائفتين. فمنهم من يعمل للدنيا و يريد جزاء عمله في الدنيا فاللّه تعالى لا يحرمه منها، و منهم من يعمل للآخرة و لا يريد الجزاء إلا فيها.

و المعنى: من يريد من اللّه بعمله ثواب الدنيا و الجزاء فيها فاللّه تعالى يؤتيه منها و من يرد بعمله من اللّه ثواب الآخرة و ما أعده اللّه تعالى لمن يطلها نؤته منها على قدر خلوصه و إخلاصه.

و في الآية المباركة وعد منجز منه عز و جل بالوفاء إن تحققت الشرائط فيهم قال تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» الإسراء - 19 فلا بد ان يقيد المقام بهذه الآية الشريفة التي تكون تفسيرا لها.

قوله تعالى: وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ .

بيان مستقل للتنويه بمقام الشاكرين و وفور جزائهم، و لبيان ان الشاكرين لم يكونوا يقصدون في أعمالهم إلا وجه اللّه تعالى و شكره، و لا يمكن أن ينقطع الجزاء عنهم، و لذا لم يذكر سبحانه و تعالى كيفية الجزاء و كميته لعدم التحديد في كل منهما، و للتعظيم و الترغيب حتى يذهب ذهن السامع اي مذهب ممكن.

ص: 381

قوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ .

ثناء جميل على جميع السعداء الذين وفوا بعهدهم و ثبتوا على الصراط المستقيم، و شيدوا اركان التوحيد القويم. و بشارة هامة لمن استقام على الطاعة للّه عز و جل، و تشويق للمؤمنين بالإيتمام بالمتقين الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة دين اللّه تعالى، و الاعتبار بما جرى عليهم و الاتعاظ منهم، و تثبيت لما ورد في الآيات السابقة، فكأن الآية الشريفة خاتمة لجميع تلك الآيات، و اشتملت على مضمونها، و توبيخ لمن انهزم في احد فإنهم لم يستنوا بسنة المجاهدين الربانيين، و إنذار للذين جاهدوا مع سيد الأنبياء و تحملوا انواع البلاء و الأذى بأن لا يعجبوا بفعلهم، فان سنة من قبلهم كانت كذلك أيضا.

و كأين: تفيد معنى كم الخبرية و التكثير، و قد استعملت في القرآن الكريم في سبعة مواضع. و (من) بيانية. و (ربيون) هو المنسوب إلى الرب كما يقال رباني. و قال في الكشاف قرئ بالحركات الثلاث و انما كسرت الراء لتغيير النسب، فان النسبة تكون معها تغييرات كثيرة في بناء الكلمة، و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ» آل عمران - 79 معنى الكلمة. و قيل: إن الكلمة مشتقة من (ربة) بكسر الراء أو ربوة و هي الجماعة ثم اختلفوا في عددها فقيل: انها الجموع الكثيرة، قيل: انها ألوف، و قيل: انها عشرة آلاف، و قيل: انها ألوف الألوف، و قد وردت في القولين الأخيرين روايتين، و يمكن أن يكون المراد بذلك كمية خاصة اتصفوا بالربانية فيختلف عددهم حسب اختلاف الازمنة، فلا نزاع في البين و كيف كان فنسبة الربي إلى الربوة يحتاج إلى تصرف زائد بقلب

ص: 382

الواو ياء ثم حذف الياء، مع أن ظاهر الآية الشريفة التوبيخ لأصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) المنهزمين في أحد فلو كان لمجرد بيان العدد فلا يستفاد منه التوبيخ و لا موقع له، يضاف إلى انه تعالى وصفهم بأوصاف حميدة و جليلة مما يدل على عدم وجودها في كل أحد.

و المعنى: و كم من نبي قاتل معه في جهاده في إقامة الحق و نصرة دين اللّه تعالى من كان منتسبا الى الرب و تخلق بأخلاق اللّه تعالى و تربّى بتربيته الرسول الكريم و النبي العظيم فصبروا. فلما ذا فررتم عن سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و لم تصبروا؟!! و قد وصف اللّه تعالى الربيون بأوصاف تدل على جلالة قدرهم.

قوله تعالى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

وصف أول، و هو عدم لحوق الوهن في عزائمهم بما أصابهم من الشدائد و الأذى في الحرب، و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، أو ما عجز عن الجهاد عند قتل أنبيائهم أو شاع قتلهم ثبتوا على دينهم.

قوله تعالى: وَ ما ضَعُفُوا .

وصف ثان. و هو عدم اصابة الضعف في أبدانهم و ما فتروا لأنهم لم يستسلموا للرعب و الخوف و روعة الحرب و شدتها، و يمكن ان يكون المراد بالوهن الضعف للمجموع و الضعف للآحاد.

قوله تعالى: وَ مَا اِسْتَكانُوا .

وصف ثالث. و الاستكانة: هي الخضوع و الذلة بحيث يؤثر في نفوسهم و يوجب الرجوع عن الايمان و الانقلاب الى الكفر، و يحتمل

ص: 383

ان يكون كل وصف من الأوصاف المتقدمة إشارة إلى طائفة من الطوائف التي كانت مع نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فالأول إشارة إلى الجماعة التي رجعت عن الحرب و ولّوا الأدبار، و الثاني إشارة إلى الطائفة التي همت بالفصل و استسلموا للرعب أو المال كالذين رجعوا عن فم الشعب، و الثالث هم المنافقون المرجفون الذين رجعوا عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ .

أي ان الربيون مع مقاساتهم الأهوال و توارد انواع الشدائد عليهم صبروا، و كفاهم فخرا ان اللّه يحب الصابرين فيوفيهم أجرهم بأحسن وجه و يغظم قدرهم و منزلتهم، و في الآية الشريفة كمال الثناء عليهم و بيان وجه العلة فيه.

قوله تعالى: وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا .

بعد ما بين عز و جل أفعالهم و أحوالهم ذكر في هذه الآية الشريفة أقوالهم لتتم الحجة على المؤمنين فان عليهم الاتعاظ من أفعالهم و أقوالهم و الاعتبار بها و الاستنان بسنتهم و الاقتداء بهم حتى لا يتكرر منهم الوهن و الفشل في جنب اللّه تعالى و نصرة دينه.

و الآية المباركة تبين شدة صلتهم باللّه تعالى و كمال خضوعهم له عز و جل فقد كان قولهم مطابقا لفعلهم و لم يختلفا.

و ما كان قولهم في تلك الحال الا الاعتصام باللّه تعالى قولا و طلب الغفران لذنوبهم التي توجب بعدهم عنه تعالى و قطع الفيض الربوبي.

ص: 384

قوله تعالى: وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا .

اي: تجاوزنا عن الحدود التي حددها اللّه تعالى لنا، فان شدة الحال قد توجب صدور بعض الهفوات و الزلات و التجاوز عن الحد.

و هذا الدعاء منهم يدل على استصغار عملهم، و اعترافهم بالتقصير في مقام عبوديتهم، و كمال انقطاعهم اليه تبارك و تعالى.

و انما قدموا الدعاء بالمغفرة على غيره لازالة الحجب عن وصول الفيض و العطف الربوبي، و لتقدم التخلية على التحلية.

قوله تعالى: وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا .

اي: لا تزل أقدامنا عن الصراط المستقيم، و في جميع الأحوال لا سيما عند الجهاد و الطاعة لئلا تضلنا الاهوية و مضلات الفتن.

قوله تعالى: وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

لتطهير الأرض من مآثمهم و مفاسد أخلاقهم، فان طهارتهم من الذنوب يستلزم النصرة على من يكون محاطا بها.

و انما قدم طلب الغفران و التوفيق لأن الدعاء الصادر عن الخضوع و الطهارة اقرب إلى الاستجابة.

قوله تعالى: فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا .

تعظيم لهم لما يترتب على طاعتهم الثواب العظيم اي: اعطاهم اللّه تعالى جزاء لما قالوا ثواب الدنيا فأنعم عليهم انواع النعم الدنيوية كالنصر و حسن السمعة و السعادة الدائمية.

و ترتب الآية الشريفة على ما تقدم من قبيل ترتب المسبب على السبب.

ص: 385

قوله تعالى: وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ .

تفضيل لثواب الآخرة على ثواب الدنيا و ارتفاع قدره و منزلته و توصيف ثواب الآخرة بالحسن، لبيان ان ثواب الدنيا في مقابل ثواب الآخرة ضئيل جدا بل ليس فيه حسنا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

اي جزاء لإحسانهم و اللّه يحب المحسنين و محبة اللّه تعالى لعبده مبدأ كل خير و سعادة، و في الآية الشريفة الترغيب إلى تحصيل تلك المناقب و التحريض على الدخول في المحسنين.

بحوث المقام

بحث ادبي:

قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» فيه وجوه من الاعراب فقيل انه جملة حالية من فاعل الفعلين «لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا» فتكون كالاحتجاج عليهم في النهي عن الوهن و الحزن. و قيل: ان الجملة ابتدائية فتكون متضمنة للبشرى بالعلو. و قيل: انها جملة حالية مطلقا في جميع الحالات في علم اللّه تعالى و بحسب علمكم بما وعده اللّه تعالى و بشره لكم، كما عرفت.

و الفعل المضارع في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» لحكاية الحال و استمرار ذلك في المتقاتلين.

ص: 386

و تلك في قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» اسم إشارة يشار به إلى البعيد يفيد التفخيم و التعظيم، و «الأيام» عطف و «نداولها» خبر، و قيل: اسم الإشارة مبتدأ و «الأيام» خبره و «نداولها» في موضع نصب حال من «الأيام» و فعل المضارع دال على الاستمرار و التجدد. و اللام في «الأيام» إما للعهد اي:

اوقات الظفر، أو للجنس اي أيام الدنيا و ما يقع فيها من الحوادث.

و اللام في قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» للعاقبة اي:

و لتكون العاقبة ان يتحقق في الخارج المعلوم و هو ايمان المؤمنين. و قيل للتعليل. و الجملة معطوفة على فعل آخر اى ليظهر أمركم و ليعلم أو ليتميز المؤمن من غيره و ليعلم.

و الالتفات إلى الغيبة في قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ» و اسناده إلى الاسم الظاهر لبيان ان كل صفة من صفاته المقدسة الكمالية لها مجمع واحد و هو اسم الجلالة، و لإظهار المهابة و العظمة.

و «أم» في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ» منقطعة، و قيل انها مقدرة ب (بل) و همزة الاستفهام الانكاري و لكن الحق إن هذه الكلمة تفيد الإنكار، و لا يحتاج إلى التقدير.

و جملة «وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا» حال من «تدخلوا» مؤكدة للإنكار، و كلمة «لمّا» تفيد النفي المستمر حتى يتحقق المعلوم في المقام.

و انما ذكر عز و جل «لما» دون «لم» لبيان أن الجهاد قد يتحقق منهم في المستقبل.

و الواو في قوله تعالى: «وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ» بمعنى مع، و يعلم منصوب ب (أن) المضمرة، فيكون العلم الصابرين قيدا لا اثر العلم بالمجاهدين. و قيل: ان الواو للاستيناف أو الواو للحال بتقدير و هو

ص: 387

و (يعلم) مرفوع على كلا التقديرين.

و تمنون في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ» أصله تتمنون فحذفت احدى التائين.

و (كأيّن) قيل: إنها مركبة من كاف التشبيه و أي الموصولة و رسمت النون للمحافظة على التنوين في الأصل و انها صارت بعد التركيب اسما تفيد معنى (كم) الخبرية و التكثير، و محلها الابتداء و ما بعدها تمييزها و خبرها.

ثم ذكروا ان كم و كأين متشابهتان في خمسة امور هي: الإبهام، و البناء، و لزوم التصدير، و إفادة التكثير، و الافتقار إلى التمييز.

و تخالف كأين كم في خمسة امور أيضا: انها مركبة و كم بسيطة - على ما ذكره جمع - و ان تمييزها مجرور ب من غالبا، و انها لا تقع مجرورة، و ان خبرها لا يقع مفردا، و انها لا تقع استفهامية.

و الصحيح ان (كاين) كلمة بسيطة لا أنها مركبة و النون اصلية، و المعروف ان فيها لغات اربع قرئ بها «كأين» بالتشديد و هذه القراءة معروفة و مرسومة في المصحف و (كائن) مثل كاعن، و (كئن) مهموزا مقصورا مثل (كعن) و (كأين) مثل كعين.

و قاتل في قوله تعالى: «قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ» خبر و «ربيون» فاعل، و قيل ان الفاعل ضمير يعود إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و «مَعَهُ رِبِّيُّونَ» جملة حالية لقاتل و هو ضعيف لان الجملة الاسمية تحتاج في كونها حالا إلى الرابط بالواو أو بها مع الضمير، و لا يصح الاكتفاء بالضمير وحده كما هو المعروف عندهم. و قيل وجوه اخرى في إعراب هذه الجملة.

و جملة «وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا» قولهم بالنصب خبرا لكان

ص: 388

و اسمها المصدر المتحصل من ان و ما بعدها. و الاستثناء مفرغ من أعم الأشياء، و قيل (قولهم) بالرفع على ان يكون اسم كان و الخبر ان و ما في حيزها أي: و ما كان شيئا الا قولهم.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» ان الوهن و الحزن في الحق قبيح عقلا مع العلم بالعلو، فالنهي ارشادي لا ان يكون مولويا مع ان الحزن انما يكون على شيء قد خسره الإنسان وفات منه بدون عوض و اما العمل الذي يكون محفوظا لديه عز و جل و يجزى عليه بأحسن وجه فلا وجه للحزن عليه.

و في الآية الشريفة تأديب للمؤمنين في كيفية حزنهم و همهم.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» على ان الانتهاء عن الوهن و الحزن انما يكون على قدر الايمان باللّه تعالى لأنه جنة واقية تمنع المؤمنين عن الوقوع في المهالك.

و هذا الخطاب ينبه الإنسان إلى محاسبة نفسه و الاستعداد للقاء الشدائد و أخذ الحيطة في الاقتحام في المهالك و النظر في مقدار الايمان و معرفة خصوصياته فان الإمداد الالهي و النصر انما يكون على قدر اللياقة.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» أن القرح الذي أصابهم لم يكن نكاية، و التعبير بالمس لتهوين المصاب و الخطاب يفيد حضور مضمون الآية في أذهان المخاطبين

ص: 389

و استمراره في جميع الأعصار.

و يمكن ان تكون تعقيب الآية الاولى بهذه الآية لبيان ان سبب الوهن و الحزن هو ما شاهدوه من القرح الذي أصابهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» على ان الزمان يكون ظرفا للأعمال، و إنما العبرة بالأعمال التي تقع فيه و التي لها الخلود و ان العاقبة مع المتقين من الناس.

الخامس:

الآيات الشريفة: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» كلها تبين الغرض و وجوه الحكم في حروب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مع الأعداء، و قد ذكر عز و جل في الآيات السابقة بعض الوجوه و ذكر في هذه الآيات بعضها الآخر و هي تحقق سنة اللّه تعالى و إقامتها في الناس، و تحقق معلوم اللّه في ايمان المؤمنين و تمحيصهم و اتخاذ الشهداء، و محق الكافرين. و هذه الوجوه يحكم بحسنها العقل السليم و الفطرة المستقيمة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها ان شاء اللّه تعالى.

السادس:

يدل قوله تعالى: «وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» على ان التخطي عن الاحكام الإلهية و الخروج عن طاعة اللّه عز و جل و ما ورد في الآيات السابقة ظلم و اللّه تعالى لا يحب الظالمين و كفى بذلك خزيا، و يستفاد منه أيضا ان ذلك يوجب تسلط الظالمين فان مقادير الأمور و مجرى الأسباب العادية تقتضي استيلاء الظالمين لو تحققت المخالفة و تركت الطاعة.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان تمحيص المؤمنين يستلزم محق الكافرين، فان اللّه تعالى ينقص الكافرين شيئا فشيئا حتى يفنيهم و يقيم دولة الحق و تظهر كلمة اللّه و يستولي اهل الحق و العدل على الظلم و العدوان.

ص: 390

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان تمحيص المؤمنين يستلزم محق الكافرين، فان اللّه تعالى ينقص الكافرين شيئا فشيئا حتى يفنيهم و يقيم دولة الحق و تظهر كلمة اللّه و يستولي اهل الحق و العدل على الظلم و العدوان.

الثامن:

يستفاد من اطلاق ما تقدم من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان التمحيص كما يقع على الفرد يقع على المجتمع أيضا فإذا وقع على المؤمن اقتضى ظهور فضائله الكامنة و إذا وقع على المجتمع يوجب تمييز المؤمن عن الكافر و المنافق.

و اما المحق فانه يتحقق بعد توارد الامتحانات الإلهية على الكافر التي توجب ظهور الخبائث الكامنة في الكافر و زوال الفضائل الظاهرية فكان ذلك محقا تدريجيا حتى ظهور دولة الحق التي تقضي على اصل الظلم و العدوان قال تعالى: «أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ» الأنبياء - 105 و انما قدم عز و جل التمحيص على المحق لسبق رحمته على غضبه.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ» على ان دخول الجنة انما يكون بالمجاهدة و الصبر، و بهذين العمادين انتظم النظام الأحسن و حفظ المجتمع الاسلامي و أقيمت وحدته و تحققت شوكته و ان الظفر و الفوز في الدنيا و الدخول في الجنة في الآخرة لا يكون بالأماني و الغرور بل بالمجاهدة و المكافحة و المصابرة.

و الآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا يمكن التخلف فيها و سنة الهية لا يدخل فيها التغيير و التبديل.

العاشر:

يدل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ» على انه لا بد للمؤمنين محاسبة أنفسهم و امتحان قلوبهم في كل ما يريدون

ص: 391

التمني من دون عزيمة و عمل لا يوصل الإنسان إلى الواقع فلا بد من الامتحان و الاختبار حتى ينال المقصود.

الحادي عشر:

يستفاد من الشرط و الجزاء في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» ان ايمان بعض كان قائما بوجود النبي (صلى اللّه عليه و آله) و يزول بزواله و ان موت النبي (صلى اللّه عليه و آله) أو قتله يقتضي ظهور الكفر الباطن عند جمع و يوجب تركهم القيام بالدين و ان ايمانهم كان ظاهريا لأجل الثواب الدنيوي كما في بعض الأحاديث، و لذا أكد سبحانه على الشاكرين و كرر ذكرهم و بيّن جزاؤهم الأوفى، و وعدهم الحسنى مقابلة لتلك الطائفة.

الثاني عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ» التنويه بمقام الشاكرين و هو يدل على وجود طائفة في من آمن بالنبي (صلى اللّه عليه و آله) قد استحكم فيهم الدين و استقاموا على الصراط المستقيم و أظهروا الشكر العملي و لم ينقلبوا على أعقابهم لأنهم دخلوا في زمرة الشاكرين و الذين استقر فيهم الشكر و صار ملكة فيهم لا تفارقهم و يدل على ذلك ذكر الوصف الذي يدل على الاستقرار و صيرورة المعنى ملكة في المتلبس بخلاف الفعل الذي يدل على مجرد التلبس، و لذا لم يرد في القرآن الكريم اسم الشاكرين على نحو التوصيف إلا في هذين الموردين.

الثالث عشر:

اطلاق قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ» يشمل جميع النفوس نباتية كانت أو حيوانية، أو انسانية، أو روحانية، فان موت كل ذي نفس لا يكون إلا بقضاء اللّه تعالى و قدره التفصيلي الاحاطي و هذا هو المراد بالإذن، سواء كان بدون سبب اختياري من الغير أو كان كذلك، و لكن لا بد من انتهاء كل ذلك إلى الحي القيوم خصوصا

ص: 392

ما يتعلق بالحياة مطلقا.

و من ذلك يعلم انه لا معنى للنزاع في القتل أو غيره مما يوجب موت الإنسان هل يكون هو الموت الطبيعي أولا، فان الموت سواء كان طبيعيا أو غير طبيعي متحقق بزهاق الروح بلا اشكال. نعم مدة العمر و الأجل شيء آخر و قال بعض المحققين:

موتا طبيعيا غدى اخترامي *** قيس إلى كلية النظامي

يعني: كل موت اخترامي موت طبيعي إذا قيس الموت إلى كلية النظام الأحسن، و اما إذا لوحظ الموت الاخترامي بنفسه لنفسه فقد يكون مختلفا مع الموت الطبيعي في الزمان و الأجل.

الرابع عشر:

تبين الآيات الشريفة: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .. إلى آخر الآيات» حقيقة الطائفتين المتقدمتين و هما المنقلبون على الأعقاب و المؤمنون الثابتون، فذكر عز و جل ان الأولى عملت لأجل الدنيا و ثوابها و استهانوا بالسنة الإلهية في الموت و الحياة و اعتقدوا بطلان الملك الالهي و التدبير الرباني. و اما الطائفة الثانية فقد وصفهم اللّه تعالى بأحسن الأوصاف و أعظمها و يكفي في فخرهم انه وصفهم بالشاكرين و المحسنين و اللّه تعالى يحبهما.

الخامس عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» جلالة قدرهم و رفعة منزلتهم فقد نعتهم عز و جل بنعوت تدل على كمالهم و توجههم إلى اللّه تعالى و طاعتهم له عز و جل و احترامهم للأنبياء و قد أحبهم اللّه تعالى لجهتين تارة لأجل صبرهم و اخرى لأجل إحسانهم، و هذا هو فضل عظيم و فخر كبير و فوز عظيم.

ص: 393

ربيون كثير» على ان جميع ما ورد فيها من مكارم الأخلاق و أفضل المناقب، و أنها من سبل الإحسان و من اتصف بها يدخل في زمرة المحسنين الذين يحبهم اللّه تعالى.

و يستفاد منها أيضا انه لا بد للمؤمن من ملازمة الخضوع و الخشوع و ظهور آثارهما على الأقوال و الأعمال حتى يحبهم اللّه تعالى.

السابع عشر:

يدل قوله تعالى: «وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ» ان هدف كل مؤمن في جهاده و كفاحه هو النصرة على القوم الكافرين و إخماد نارهم و اذهاب شوكتهم و تطهير الأرض من مكائدهم و مفاسدهم و احقاق الحق و هذا هو المحق الذي ذكره عز و جل في ما سلف من الآيات الشريفة و يطلبه المؤمنون في دعوتهم و لا معنى لحقانية الحق في مقابل الباطل الا طلب النصرة عليه تكوينا و اختيارا.

بحث عرفاني

الاستقامة في الحق و بالحق من ابرز مقامات الأنبياء و المرسلين و الأولياء الصالحين و العرفاء الشامخين و هي عبارة عن الصراط المستقيم بل هي حقيقة الجنة التي تظهر في الآخرة بأحسن مطلوب، و لا يمكن ان تحصل الاستقامة الا باختبار العبد و امتحانه و تمحيصه بأشد البلاء لتظهر مكارم أخلاقه الكائنة في نفسه و اذهاب ما هو فاسد فيه فلو لم يكن اختبار لما كان هذا الجزاء الجزيل و لا ترتبت هذه الثمرات المطلوبة و بعد ذلك للتأييدات السماوية دخل في البين على نحو الاقتضاء لا العلية التامة و أس الاستقامة في الحق بالحق و اساسها مبني على تجلي عظمة

ص: 394

اللّه تعالى في القلب و احتقار ما سواه بحيث لم ير العبد شيئا غيره جلت عظمته و كلما اشتد ذلك في القلب و ظهر أثره على الجوارح اشتدت الاستقامة و رسخت في النفس، و حقيقة المجاهدات الشرعية سواء كانت نفسانية أو خارجية مع اعداء اللّه تعالى لا تكون إلا من سبل الاستقامة و استحكام حقيقة الشكر في النفس و ظهور الخشوع و الخضوع على الجوارح و الجوانح و هذا هو السر في تكرار «اَلشّاكِرِينَ» في الآيات المتقدمة و ذكر صفاتهم و ما يوجب رسوخ الشكر في النفس.

بحث روائي

في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال: «انهزم اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد فبينا هم كذلك إذ اقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلو عليهم الجبل فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) اللهم لا يعلّون علينا اللهم لا قوة لنا الا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فانزل اللّه تعالى هذه الآيات و ثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل و رموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» .

أقول: لا ريب في علو الإسلام مطلقا حقيقة فضلا عن دعاء الرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» قال:

ص: 395

«ما زال منذ خلق اللّه تعالى أدم دولة للّه تعالى و دولة لإبليس فان دولة اللّه ما هو الا قائم واحد».

أقول: المراد بالقائم من يقوم بالحق و احقاقه في مقابل الباطل.

و ان المراد بالوحدة الوحدة النوعية لا الشخصية فتنطبق على كل نبي في كل عصر خصوصا على سيدهم في عصر ظهوره، و على من سيظهر في دولة الحق.

و في تفسير العياشي أيضا عن الوشا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» قال:

«و اللّه لتمحصن، و اللّه لتميزن، و اللّه لتغربلن حتى لا يبقى منكم إلا ندر [الأبذر] - الحديث -».

أقول: الحديث مطابق للوجدان لان كل احد إذا أراد أن يتخذ صديقا لنفسه لا يتبادر إلى كل من يدعي الصداقة إلا بعد الامتحان و الاختبار.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ» قال: «و لما ير لأنه عز و جل قد علم قبل ذلك من يجاهد و من لا يجاهد، فأقام العلم مقام الرؤية لأنه يعاقب الناس بفعلهم لا بعلمه».

أقول: المراد بالرؤية ما ذكرنا من الوقوع الخارجي فان الرؤية لا تتعلق إلا بما هو واقع في الخارج.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «ان المؤمنين لما أخبرهم اللّه تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر و منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك فقالوا: اللهم

ص: 396

أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم اللّه إياه يوم أحد فلم يثبتوا الا من شاء اللّه منهم فذلك قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ» .

أقول: هذا سيرة جميع الناس في كل عصر عند ما يخبرون بالشهادة و فضلها و مناقبها فيتمنونها و في مقام العمل يحجمون عنها.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» قال: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) خرج يوم أحد و عهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد قتل، النجا، فلما رجعوا إلى المدينة انزل اللّه تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» قال عطية العوفي: لما كان يوم أحد انهزم الناس فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم و قال بعضهم: ان كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؟ فانزل اللّه تعالى في ذلك «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ - إلى قوله تعالى - وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...» الآية.

أقول الروايات في ذلك كثيرة و جميعها من باب التطبيق.

و في أمالي الشيخ عن ابن عباس: «ان عليا (عليه السلام) كان يقول في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه عز و جل يقول: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» و اللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه و لئن مات أو قتل قاتلت عليه حتى أموت و اللّه انى لاخوه و ابن عمه و وارثه فمن أحق به منى».

ص: 397

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة و الوجه في ذلك ان نبي كل زمان خصوصا سيدهم انما يكون مثالا للّه تعالى من حيث الأخلاق و الأقوال و لا بد و ان تكون أمته مثالا للنبي من هذه الجهة حتى تصير مثالا لأخلاق اللّه تعالى بواسطة النبي، فكل من بقي على كونه مثالا لنبيه فقد و في بعهده و بقي على ملته و لم يضره موت النبي أو قتله إذ لا فرق حينئذ لديه بين حياة النبي و موته؛ و كل من تخلف عن ذلك فقد ارتد و رجع على عقبيه بلا فرق بين أنحاء التخلف و الرجوع فان الكفر و الارتداد ذو مراتب كثيرة كما تقدم في هذا التفسير.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» الربيون الجموع الكثيرة و الربوة الواحدة عشرة آلاف.

و في المجمع: «الربيون عشرة آلاف و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)».

و في تفسير العياشي «الربيون ألوف آلاف».

أقول تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الروايات.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149).......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ (151) بعد ما أمر عز و جل المؤمنين باتباع الأنبياء و انصاره المجاهدين الصابرين المكافحين في تثبيت دعائم الدين و اركان التوحيد و بيّن ما لهم

ص: 398

من الفضل العظيم و الأجر الجزيل و حسن العاقبة يبين سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة أصلا من أصول النظام الاسلامي و حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي تحفظ وحدة الاجتماع و هو الايمان باللّه العظيم و الاعتقاد بانه مولى المؤمنين يكفيهم و ينصرهم، و قد أمرهم بالإعراض عن الكافرين الذين ما برحوا في تثبيط عزيمة المؤمنين و إرجاعهم إلى الكفر و الارتداد عن الايمان و قد نهاهم عز و جل عن متابعتهم و بيّن ما يترتب عليها من الآثار السيئة و سوء العاقبة و قد وعد سبحانه و تعالى المؤمنين بالنصر على الكافرين الذين أوعدهم سوء العاقبة.

و الآيات المباركة من تتمة الآيات النازلة في احد حيث يذكر عز و جل بعض ما جرى في هذه الغزوة العظيمة التي قلّما اشتملت غزوة أخرى مثلها من الحقائق و التعليم.

و قد أمر سبحانه و تعالى في هذه الآيات بأن لا يطيعوا غير ربهم الذي هو مولاهم يكفيهم أمورهم و يعينهم على مقاصدهم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

ص: 399

كما ان المراد بالذين كفروا هم الذين لم يؤمنوا بنبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) سواء كانوا من المشركين أو المنافقين الذين كفروا بقلوبهم و ان آمنوا بأفواههم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان الكافرين كانوا يلقون على المؤمنين ما يوجب التنازع و التفرقة و الاختلاف و ما يثبطهم عن الجهاد في سبيل اللّه تعالى و قتال أعدائه عز و جل، و يدل عليه ما ورد في الآيات اللاحقة التي يحكم سبحانه و تعالى فيها بعض مكائدهم.

و يمكن ان يقال بان ذلك من الأمور الطبيعية في كل اجتماع مكوّن من طبقات أو مركب من فرق مختلفة الأهواء فان كل فرقة تعين على الفرقة الاخرى بكل ما يتاح لها من السبل قولا أو فعلا، و في المجتمع الاسلامي المنافقون و المشركون و غيرهم ممن يجحد نبوة محمد (صلى اللّه عليه و آله) كان لهم الدور الكبير في هذا الشأن، و قد حذر اللّه عز و جل المؤمنين من طاعتهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم و حكى تعالى بعض المصاديق إتماما للتحذير، و ليكون الزجر على أكمل الوجه.

قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .

الرد على الأعقاب هو الرجوع إلى الوراء. و مادة (عقب) تدل على التأخر سواء كان في الخير أو في الشر زمانا أو شأنا، و الاول كما في حديث الذكر الذي علمه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) للزهراء (سلام اللّه عليها): «معقبات لا يخيب قائلهن اربع و ثلاثون تكبيرة و اربع و ثلاثون تحميده و ثلاث و ثلاثون تسبيحة» و الثاني كما في الرواية «ويل للاعقاب من النار».

ص: 400

و المعنى: انكم لو أطعتم الذين كفروا يرجعونكم إلى ما كنتم فيه من الكفر و الضلال و الشرك باللّه تعالى سواء كان الضلال و الرجوع إلى الكفر دفعة أو تدرجا. و من ذلك إطاعتهم في ترك الجهاد، و القتال أو طلب الأمان منهم كما صدر عن بعض المؤمنين في غزوة أحد عند ما غلبوا على أمرهم بادئ الأمر فانه يقتضي تسلط الكافرين على المؤمنين و الميل إلى ولايتهم و هو يوجب الرد عن الايمان.

و مضمون الآية الشريفة لا يختص بعصر نزول القرآن الكريم بل هو حقيقة من الحقائق التي أكد القرآن الكريم عليها بأساليب مختلفة قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» آل عمران - 100.

قوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ .

اي: فترجعون إلى ورائكم و أنتم خاسرون للدنيا و الآخرة و هو أعظم الخسران للإنسان.

قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ .

اضراب عن تولي الكافرين لأنهم ليسوا أهلا للطاعة. اي: فلا تطيعوا الكفار بل أطيعوا اللّه تعالى مولاكم و ناصركم و قد وعدكم النصر و تولي شؤونكم بعنايته الخاصة قال تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ» الأنفال - 39.

قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ .

بيان لكونه خير الناصرين و وعد منه تعالى بنصر المؤمنين بالرعب

ص: 401

و خذلان الكافرين.

و الرعب: بسكون العين شدة الخوف و الفزع و هو مما اختص به (صلى اللّه عليه و آله) كما في الحديث المعروف: «و نصرت بالرعب مسيرة شهر» فكان أعدائه قد أوقع اللّه تعالى في قلوبهم الخوف منه فإذا كان بينه و بينهم مسيرة شهر هابوه و فزعوا منه.

و المعنى: سنفرغ في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب اشراكهم باللّه العظيم. و انما عبر سبحانه و تعالى بنون العظمة «سنلقي» و التفت في الكلام على طريق المهابة و الكبرياء و أكد عز و جل الإلقاء بالسين «سنلقي» اهتماما بالموضوع.

و قد ذكر عز و جل من افراد النصر إلقاء الرعب في قلوب الأعداء و هو مما وعده به عز و جل المؤمنين في مواضع مختلفة و انه من مختصات خاتم النبيين (صلى اللّه عليه و آله) كما تقدم في الحديث و قد شهد به التاريخ في حروبه مع المشركين.

و انما ورد اسم الجلالة صريحا لبيان ان هذا الاسم الجامع لجميع صفات الكمال ينافي اتخاذ الشريك له و يشمل الشرك كل انحائه في الذات و الخلق و الفعل و اسناد التأثير لغيره كالدهر و المادة و غيرها.

قوله تعالى: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً .

السلطان: هو الحجة و البرهان، و انما عبر تعالى به لإثبات التسلط على الخصم، فيستفاد ان كل ما زعموه من الحجج في اثبات الشرك باطل و موهون.

و الآية المباركة تنفي النزول و الوجود معا، فانه لا حجة في ثبوت الشريك حتى ينزلها.

ص: 402

قوله تعالى: وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ .

المأوى: هو المكان الذي يومئ اليه ليستراح فيه و يحتمي به، و في هذا التعبير تبكيت لهم بسوء العاقبة. اي: ان مكانهم الذين يأوون اليه في الآخرة ليستراح فيه هو النار لا مأوى لهم غيرها.

قوله تعالى: وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ .

المثوى: هو المكان الذي يمكث فيه و هو من ثويت على وزن مفعل قلبت لامه ياء اي المكان الذي يؤوى اليه الظالمين هو بئس المكان الذي يمكثون فيه و لا يمكنهم مفارقته بسبب ظلمهم.

و انما وضع الظاهر موضع المضمر و لبيان ان ايوائهم انما يكون أبديا و هم خالدون فيه، كما ان في ذكر الظالمين بيان للعلة في استحقاقهم هذا الجزاء لأنهم في اشراكهم ظالمون.

بحث دلالي

الآية الشريفة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد و هو اطاعة المنافقين و المشركين في شأن الجهاد و إقامة الدين و ترتيب الأثر على أقوالهم و أفعالهم و قد حذر سبحانه و تعالى المؤمنين في مواضع متعددة في القرآن الكريم و بيّن الآثار السيئة التي تترتب عليه بأسالبب مختلفة، فقد ذكر عز و جل في المقام من تلك الآثار السيئة الخسران في الدنيا و الآخرة و هو معلوم لان في اطاعة الذين كفروا إذهاب شوكة المسلمين و حرمانهم مما أوعده اللّه تعالى لهم من النصر و السعادة و تبديل

ص: 403

الأمن إلى الخوف و الامتهان و الإذلال و هذا هو الخسران في الدنيا و اما الآخرة فلهم عذاب أليم و حرمان مما وعد اللّه المتقين، و تتضمن الآية الشريفة أهم التعاليم الإلهية للمؤمنين.

كما ان الآية الشريفة تبين ان السبب في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو الشرك و هذا جار على طبق السنة الإلهية في قانون الأسباب و المسببات و كلما تحقق هذا السبب يتحقق المسبب فلا اختصاص لذلك بالذين كفروا بل يجرى في المؤمنين إذا هم اعرضوا عن الدين الحق و هذا ما نراه من حال المؤمنين فإنهم كانوا في أعز مقام و احسن حال و لكنهم أصبحوا مرعوبين يخافون من كل احد، مع ان اللّه تعالى وعدهم النصر و حسن العاقبة و هو يفي بعهده ان وفوا بعهدهم.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا» - الآية -» عن علي (عليه السلام): «يعني عبد اللّه ابن أبي حيث خرج مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ثم رجع قال للمؤمنين يوم أحد يوم الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم و ارجعوا إلى دينكم».

أقول الرواية من باب التطبيق.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ» قال السدي لما ارتحل أبو سفيان و المشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم انهم ندموا و قالوا

ص: 404

بئس ما صنعنا قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك القى اللّه تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما عزموا و انزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: تقدم في التفسير ما يدل على ذلك.

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَ.......

اشارة

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ

ص: 405

وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (154) إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) لما وعد اللّه المؤمنين النصر و الظفر على الأعداء و ذكر سبحانه و تعالى ما يوجب نيل هذا الفيض الالهي و هو التقوى و الصبر و الثبات و شدة العزيمة يبين عز و جل في هذه الآيات صدق وعده كما يبين السبب في الهزيمة التي لحقت بالمؤمنين، و هو عصيان امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و التنازع في شؤون الحرب و عدم الثبات و الصدق في النية.

كما ذكر سبحانه و تعالى بعض خصوصيات تلك الهزيمة التي كانت لها الأثر الكبير على المؤمنين و وعد عز و جل بالعفو و المغفرة.

و هذه الآيات المباركة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد التي كانت درسا كبيرا للمؤمنين.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ .

مادة (حسس) تدل على وصول شيء إلى الحاسة (إي الإدراك) فان كان بآفة فهو القتل و أمثاله و إلا فهو من مجرد الحس، و يستعمل هذه المادة في القتل على سبيل الاستئصال كما يقال «حسوهم بالسيف

ص: 406

حسا» اي استأصلوهم قتلا. و الحسيس هو القتيل وزنا و معنى.

اي: لما وعدكم اللّه تعالى النصر فقد وفى بوعده و اظهر مصداقه لما وفيتم بالشروط و هي الصبر و التقوى و الثبات كما عرفت، و كان هذا النصر أول الأمر في غزوة احد حين ظهروا على عدوهم و قتلوهم قتلا ذريعا و اجلوهم من مواقعهم و هزموهم باذن اللّه تعالى، إلا انهم لم يستمروا على الشروط فكان الفشل و الهزيمة و العتاب كما حكى عنهم عز و جل في الآيات التالية.

و انما قيد عز و جل القتل باذنه لبيان ان ذلك من مصاديق الوعد الذي وعدهم به.

قوله تعالى: حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ .

بيان بأن الوعد بالنصر كان مستمرا من اللّه تعالى إلى ان تحقق منهم ما أوجب انقطاع ذلك الفيض، و قد ذكر عز و جل أمورا ثلاثة و هي الفشل، و التنازع في الأمر، و عصيان امر الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله).

اما الفشل فقد ظهر منهم عند ما كر عليهم المشركون بعد فرارهم و المؤمنون لم يقدروا أن يملكوا أنفسهم عن الغنيمة فظهر الجبن و الجور عليهم.

و اما التنازع فقد حصل من الرماة عند ما رأوا ان اصحاب الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بدءوا بجمع الغنائم فتنازعوا بينهم في ترك المكان حيث رغب أكثرهم في الغنيمة فقالوا ما بقاؤنا هاهنا و قد انهزم المشركون، و قال الآخرون لا نبرح من هذا المكان و لا نخالف امر الرسول.

و اما العصيان فقد كان في مخالفة أمر الرسول (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 407

بعدم ترك المكان مهما كان الأمر، كما انه حصل أيضا بالفرار عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كما يأتي في الآيات التالية.

و «حتى» للغاية و «إذا» بمعنى الوقت و الحين لا الشرط، و قيل انها للشرط و قد حذف الجواب ليذهب ذهن المخاطب في تقديره كل مذهب.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ .

اي: ان كل ذلك حصل منكم من بعد ما رأيتم النصر و قتل المشركين و هزيمتهم. و فيه التنبيه على قبح ما صدر منهم، و عظم المعصية، و زيادة في التقريع لان الذي يرى توارد النعم عليه و إنجاز الوعد بالنسبة اليه لا بد ان يمتنع عن المعصية و لا يقدم على مخالفة المنعم و إلا كان كفرانا و سببا في سلب الإكرام و الفيض عنه و هذا ما جرى عليهم في أحد.

قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ .

تفصيل بعد إجمال و بيان لسبب التنازع الذي حصل منهم في ترك المكان فان من ترك فم الشعب و خالف امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) آثر الحياة الدنيا و الغنيمة على طاعة الرسول (ص) و الجهاد في سبيل اللّه و منهم من آثر الآخرة و امتثل امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فثبت و جاهد حتى استشهد.

قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ .

بيان للأثر الذي ترتب على أفعالهم. و الجملة عطف على «صدقكم اللّه» اي ان اللّه تعالى صدقكم وعده و أيدكم بالنصر و من عليكم

ص: 408

بهزيمة الأعداء و لكن صرفكم عن المشركين بسبب ما صدر منكم من الفشل و التنازع و العصيان، فكان ذلك طبق السنة الإلهية من ايكال الأمر إلى الناس إذا صدر منهم العصيان. و الصرف هو الكف.

و المعنى: ثم كفكم عن المشركين و كان ذلك بانهزامهم بعد الظفر على المشركين و كان سبب ذلك ظهور الاختلاف في المسلمين بالفشل و التنازع و العصيان، و كل ذلك كان لأجل امتحانكم و اختباركم ليظهر صبركم أو رسوخ ايمانكم فيتميز المؤمن عن المنافق ليجزي اللّه تعالى المؤمنين بمراتب ايمانهم و يرفع درجات الصابرين المجاهدين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ .

اي: و لقد عفا اللّه تعالى بفضله عنكم ببركة ايمانكم، أو كان هذا العفو بعد الاختبار و التمحيص. و قد ظهر أثر هذا العفو بعد ذلك عليهم و أنجز وعده لهم بالظفر على الأعداء بعد الهزيمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ .

تقرير لمضمون ما قبله و تأكيد لإنجاز الوعد، فهو يتفضل على المؤمنين بأنحاء النعم فلا يذرهم على ما هم عليه من الضعف و ياتي في الآيات اللاحقة بعض وجوه نعمه و تفضله عليهم. و انما ذكر «المؤمنين» تشريفا و لبيان العلة في الفضل و هي الايمان و التنوين في «فضل» للتفخيم.

قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ .

بيان للصرف اي صرفكم عنهم في الوقت الذي كنتم تنهزمون فيه و الإصعاد هو الدخول في الصعود الى الجبال و الابتعاد عن المواقع نظير انجد، و أبهم و قيل الإصعاد هو الدخول في السير في الأرض قال الشاعر:

ص: 409

يبارين الاعنة مصعدات اي مقبلات و متوجهات نحوكم. و قال بعضهم: صعد بمعنى ذهب أينما توجه.

و مادة (لوي) تدل على الميل و الالتفات و الاعراض يقال: مرّ لا يلوي على أحد اي: لا يلتفت و لا يعطف او لا ينتظر و لا يبالي و قال في المجمع لا يستعمل الا في نفي فلا يقال: لويت على كذا.

و المعنى: ان اللّه تعالى صرفكم عن المشركين في الوقت الذي ابتعدتم عن مواقفكم منهزمين فرارا من القتل غير ملتفتين إلى احد سواء كان مؤمنا مسالما أو عدوا محاربا لشدة الدهشة و الخوف الذي وهمكم.

قوله تعالى: وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ .

الأخرى مقابل الاولى و أخر القوم الجماعة التي في آخرهم.

اي: و الرسول (صلى اللّه عليه و آله) من ورائكم يناديكم اليه.

و هو يدل على إمعان القوم في الفرار و ابتعادهم عن الرسول (صلى اللّه عليه و آله) حتى كان النداء و الدعاء في آخرهم و هم لا يبالون إلى دعائه و ندائه.

و قيل ان «فِي أُخْراكُمْ» حال من الفاعل في «يدعوكم» اي الرسول يدعوكم حال كونه في الجماعة التي ثبتت معه و هي في اخراكم و هم الذين وصفهم اللّه تعالى في الآيات السابقة بأنهم من الشاكرين.

قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ .

مادة ثوب تدل على رجوع الشيء إلى حالته الاولى حقيقة أو اعتبارا، و يسمى الثواب ثوابا لأنه بمنزلة رجوع العمل إلى عامله

ص: 410

قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» الزلزلة - 8 و تستعمل في الخير و الشر و ان كان في الاول اكثر قال تعالى: «فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ» آل عمران - 148 و من الثاني قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّهِ» المائدة - 60 و كذا المقام.

و المعنى: اي رجع إليكم غما مقابل غم اوقعتموه على المشركين، فيكون هذا مبينا لما تقدم في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» و هذه هي المداولة المذكورة في قوله تعالى:

«وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» فيكون متعلق الغمين متعددا كما تقدم في القرحين.

و يحتمل ان يكون متعلقهما واحدا بالنسبة إلى المسلمين فقط، فالغم الاول إشراف المشركين و الغم الثاني وقوع الهزيمة و يشهد له بعض الروايات.

و يحتمل وجه ثالث و هو ان يكون الغم الثاني مؤكدا للغم الاول اي غما متصلا و شديدا و منشأ الشدة توارد الهموم عليهم، فالغم الاول هو غم الهزيمة و الثاني غم الندامة و الحسرة و ذلك شايع في كل مقاتل انهزم حيث يتوارد عليه الغموم. و هناك وجوه اخرى ذكرها المفسرون لا طائل في ذكرها و الخدشة فيها.

و كيف كان فيكون تفريع هذه الآية المباركة على الآية السابقة من قبيل ترتب المسبب على السبب، فان الاختلاف، و عدم الاعتناء بقول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) اقتضى ان يقعوا في غم و لكن اللّه سبحانه و تعالى تفضل عليهم بان جعل هذا الغم مقابل الغم الذي أوقعه على المشركين، فتكون هذه الجملة مبينة لجهات فضله تعالى عليهم كما بينه عز و جل في الآية اللاحقة أيضا.

ص: 411

قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ .

بيان لقوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ» و هو عدم الحزن على ما فاتكم من الظفر بعدوكم و النصر التام عليه أو الغنيمة و الغلبة.

قوله تعالى: وَ لا ما أَصابَكُمْ .

بسبب إثم المخالفة و العصيان فانه كان لهما الأثر الكبير في الانكسار و الهزيمة و الخوف و الرعب. و المعنى: ان اللّه تعالى أثابكم غما بغم لأجل التسلية و عدم تراكم الغموم عليكم و لأجل ان تذهلوا عن الحزن الذي أصابكم من الهزيمة و غلبة العدو، و هذه حكمة الهية يختبر بها عباده المؤمنين و يعلمهم الصبر في الشدائد و يرزقهم الثبات في الايمان و للتمييز بين المؤمن و المنافق و لتكميل الفضائل و مكارم الأخلاق و هي سنة الهية قال تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» الحديد - 23.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

اي و اللّه لا يخفى عليه أعمالكم و نياتكم و هو محيط بكم و قادر على مجازاتكم.

و الخبير: من اسماء اللّه الحسنى و هو بمعنى العليم و لكن العلم إذا أضيف إلى الأمور الخفية سمى خبرة و كان صاحبها خبيرا.

و في الآية المباركة الترغيب في الطاعة و الزجر عن المعصية.

ص: 412

قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ .

الغم معروف و هو حالة تعرض على الإنسان عند المصائب و الحزن و مادة غمم تدل على الستر و الخفاء فكأن هذه الحالة تستر الفرح و السرور و تخفي أسارير الوجه و تضيق الصدر.

و الأمنة بالتحريك مصدر، كالمنعة و هو بمعنى الأمن و في حديث نزول المسيح بعد ظهور الحجة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف):

«و تقع الأمنة في الأرض» اي تمتلئ الأرض بالأمن فلا يخاف احد من الناس و الحيوان.

و النعاس ما يتقدم على النوم من فتور و يظهر اثره على العين ابتداء و هو بدل اشتمال من أمنة الذي هو مفعول «انزل» و قيل غير ذلك في اعرابهما. و الغشيان الاحاطة.

و المعنى: ان اللّه تبارك و تعالى رأفة بكم أنزل عليكم من بعد الغم الذي أصابكم ما يشغلكم عن خوفكم و يغفلكم عن ذلك الغم بأن سلط عليكم النعاس الذي أصاب طائفة منكم و أحاط بهم و كانت هذه الحالة بمنزلة الأمن لكم. و هذه الطائفة هي التي اصابها الغم الشديد و تراكم عليهم من عدة وجوه كالخوف من اللّه تعالى و غم المخالفة و غم الهزيمة و غم الندم على الذنب، و كانت هذه نعمة كبرى عليهم و سكينة إلهية و عناية خاصة بهم في هذه الحالة التي سلبت عنهم لبهم و ازداد غمهم فكان النعاس لهم راحة للأجسام بعد الضعف و الفتور، و اطمينان للقلب الذي اصابه الغم و التسليم لقضاء اللّه و قدره. و هؤلاء هم الذين رجعوا إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و احتفوا به و نصروه.

ص: 413

قوله تعالى: وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ .

اي و طائفة اخرى مقابل الطائفة الاولى الذين لم يكونوا أهلا لهذه المنحة الربانية و اللطف الالهي بهم فلم يكن لهم هم الاحفظ أنفسهم و حطام الدنيا فلم يهتموا بحفظ النبي (صلى اللّه عليه و آله) و دين الحق بشيء أصلا. و انما كان شغلهم الشاغل أنفسهم لما اعتراهم الخوف و هم الضعفاء في الايمان الذين لم يثقوا بوعد اللّه تعالى و لم يرسخ الايمان في قلوبهم يميلون مع كل ريح. و لا تختص هذه الطائفة بخصوص المنافقين كما ذكره بعض المفسرين بل يجرى في كل من كان ضعيف الايمان.

و يستفاد من الآية الشريفة شدة الخوف و استيلائه عليهم بحيث سلب النعاس عنهم فلم يكن لهم همّ الا نجاة أنفسهم فيكون المراد بالنعاس في الآية السابقة النوم الطبيعي الذي يعرض على الإنسان و يوجب الراحة في الجملة له و كان ذلك بفضل اللّه تعالى عليهم و الندم على ما فعلوه بحيث حصل لهم الطمأنينة بوعد اللّه عز و جل.

قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ .

بيان لقوله تعالى: «قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» لان شغل اهل الجاهلية لم يكن إلا الاهتمام بالنفس و حفظها فقط فلا محالة تنتفي عنهم الثقة باللّه تعالى و تعرض جهات الخوف على النفس فيظنون باللّه ظنا باطلا كظن اهل الجاهلية، و المراد بالظن هنا الاعتقاد، و سيأتي في الآيات اللاحقة ذكر بعض ما اعتقدوه كقوله تعالى: حكاية عنهم: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» و قوله تعالى: «هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» .

و من الظنون الباطلة ان من آمن باللّه تعالى لا بد ان يحفظ من جميع انواع البلايا و يسعد في الدنيا لفرض انه على دين الحق و هو لا يغلب.

ص: 414

و هذا الظن باطل لان الايمان به تعالى لا بد و ان يجري على المجرى الطبيعي، و قد حكى عز و جل في ما تقدم من الآيات ابتلاء المؤمنين و اختبارهم و تمحيصهم، و لا يخرج كل ذلك عن قانون الأسباب و المسببات. نعم للّه تعالى عنايات خاصة لهم يظهر أثرها بين حين و آخر حتى تظهر دولة الحق.

قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ .

بيان لظنهم الباطل و هذا القول سواء كان خطابا للرسول (صلى اللّه عليه و آله) أو كان في ما بينهم. و يحتمل ان يكون القول بمعنى الاعتقاد اي يتردّدون في اعتقادهم و هو يكشف عن عدم ثبات الايمان في قلوبهم و تشكيكهم في الدين و استحكام روح الشرك و الكفر.

و الاستفهام انكاري، و المراد من الأمر إما الحق أو النصر و الظفر أو ان الأمر هنا هو الأمر في قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» الذي يكشف سبحانه فيه حقيقة الدين و هي ان العبد مطلقا لا يملك من الأمر شيئا سوى التسليم لأمر اللّه تعالى و هو المؤثر فقط إلا انه اقتضت حكمته ان تجري الأمور بأسبابها.

و المعنى: انهم يقولون ليس لنا من الحق أو النصر و الظفر نصيب و اللّه تعالى لا ينصر رسوله كما نصره في بدر و ذلك لأنهم اعتقدوا ان الدين و النصر متلازمان و لم يعلموا ان اللّه تعالى جعل الأمر مداولة بين الناس و اختبارا للمؤمنين و تمحيصا لهم.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ .

خطاب للرسول الكريم بالتبليغ لهم لأنه واسطة الفيض بان ازمة الأمور كلها بيده عز و جل و تجري الأمور وفق سنة محكمة متقنة بها

ص: 415

انتظم نظام الدنيا و الآخرة و سينصر اللّه تبارك و تعالى المؤمنين المتقين على ما يشاء و يريد دون ما يعتقدون.

قوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ .

تأكيد لظنهم الباطل و توصيف لهم بأشد مما وصفهم أولا، و هم يضمرون امرا لا يبدونه لك لرسوخ النفاق و الشقاق فيهم كما كانوا في الجاهلية.

اي: و ان أظهروا ظنهم الباطل في صورة السؤال و كان ذلك كاشفا عن شكهم و عدم ثبات ايمانهم إلا انهم يضمرون في أنفسهم اكثر من ذلك فهم يكذبون الحقيقة و ينكرون الحق و يكفرون بالدين و لكنهم لا يبدونه لك.

قوله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا .

اي: يقولون في أنفسهم أو في ما بينهم أو يعتقدون ذلك دون ان يبدونه للنبي لأنه يشتمل على الكفر، و هذا القول يحتوي على الإنكار في صورة البرهان بزعمهم و هو لو كان الأمر لنا كما وعد به رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما وقع القتل فينا و انما قالوا ذلك زعما منهم بأنهم مهما كانوا من اصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) بأي اعتقاد كانوا ينصرهم اللّه تعالى و هم غافلون عن حقيقة الدين و قد امر اللّه تعالى نبيه الكريم ببيان الأمر لهم.

قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ .

البروز: الظهور و البراز الصحراء و الأرض المستوية. و المضاجع

ص: 416

جمع المضجع و هو في المقام المصرع الذي قدر القتل فيه.

أي: قل لهم يا محمد جوابا عما أخبره اللّه تعالى بما هو مكنون في قلوبهم و ما يعتقدونه ان القتل تابع للتقدير و القضاء ابتلاء للمؤمنين و تمحيصا لهم و تمييزا بين الصابر المجاهد و المنافق الكاذب فإذا تعلقت ارادته بموت أحد لخرج بسبب من الأسباب من بيته إلى مضجعه فيلقى مصرعه من دون دخل ارادته فيفوز السعيد و يشقى الشقي و يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول: ابطال زعمهم بأن الحق لا بد ان لا يغلب و ان المؤمن لا بد ان يكون حليفه النصر دائما فان مقادير الأمور و تدبيراتها كلها بيد اللّه عز و جل و ان النصر و الظفر كسائر الأمور انما تدخل تحت سنة الهية و هي جريان الأمور بأسبابها.

الثاني: ان من قتل في المعركة انما كان بتقدير اللّه تعالى و قضائه و ليس قتله كان لأجل عدم كونه على الحق و عدم الأمر له، بل لان القضاء الالهي إذا تعلق بذلك فلا راد لقضائه و لا مناص من وقوعه فلو لم يخرج احد من بيته لبرز من تعلق قضاؤه بمصرعه إلى مضجعه بل لو لم يخرجوا إلى القتل و كتب اللّه عليهم القتل و الموت لماتوا و قتلوا و هم في بيوتهم لفرض تعلق القضاء و القدر بذلك.

الثالث: ان تلك سنة إلهية محكمة تتعلق بالإنسان لأجل الاختبار و الامتحان و التمحيص و تمييز الحق عن الباطل.

قوله تعالى: وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ .

بيان لإحدى وجوه الحكمة في ما حل بهم. و الواو هنا مقحمة و يحتمل ان يكون حرف عطف على غاية مقدرة.

ص: 417

اي: ان كل ذلك يقع لأجل اختبار اللّه تعالى ما في قلوبكم بذلك و ليظهر مكنونها من الطاعة و النفاق.

قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ .

اي: و لأجل تخليص ما فيها من سوء الاعتقاد و وساوس الشيطان و يطهرها من النفاق و الشرك و تمييز المؤمن الصابر المجاهد الثابت و اظهار ما في قلبه من النيات الحسنة و مكارم الصفات عن غيره.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

لإحاطته القيوميّة بجميع الممكنات إيجادا و إبقاء و إفناء و لا يعقل تلك الاحاطة إلا بالاحاطة العلمية. و اللّه عليم بنياتهم و مكنونات ضمائرهم و في الآية الشريفة التحذير عن سوء النية و مخالفة الفعل للنية.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا .

المراد من الذين تولوا هم الذين انهزموا من المعركة و فروا من أماكنهم إلى الجبال و غيرها كما حكى عنهم عز و جل في الآيات السابقة «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ» .

و المراد بالجمعين: هما جمع المؤمنين و جمع المشركين لما التقيا في يوم أحد.

و الاستزلال: هو الوقوع في الزلل الذي هو الخطيئة و الانحراف و يستفاد من هذه الكلمة الوقوع في الذنب تدريجا قال الراغب:

«استجرهم الشيطان حتى زلوا فان الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه» و في الحديث:

ص: 418

«فازله الشيطان فلحق بالكفار».

و المعنى: ان الذين انهزموا و ولّوا الدبر من المعركة يوم التقى الجمعان في أحد انما أوقعهم الشيطان في تلك الخطيئة الكبيرة و هي الهزيمة و الاعراض عن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) بسبب انقيادهم للشيطان بما كسبوه من سوء النية و السيئات التي سهلت لهم الوقوع في الذنب الكبير و كان ذلك سببا في تمكين الشيطان ان يغويهم و يزلهم و يوقعهم في الهلكة. و ذلك لان الإنسان إذا اقترف الإثم و الخطيئة تأثرت نفسه و هانت عليها فتميل إلى اكتساب الخطيئة و تندرج من الصغيرة إلى الكبيرة، فان الذنب يجر الذنب و يدعوا إلى الخطيئة و ارتكاب الآثام.

و من ذلك يستفاد ان الباء في «ببعض ما كسبوا» هي للسببية فيكون الكسب متقدما على الاستزلال و الوقوع في الذنب العظيم و هو التولي.

و قيل ان الباء للآلة اي: ان الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه و دعاهم اليه هو التولي فيتحد ما كسبوا و التولي. و لكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة.

و مما يهون الخطب ان التولي لم يكن حدثا آنيا بل كانت له مقدمات أوجبت هذه النتيجة المذلة و هذه المقدمات هي بعض ما كسبوا فحينئذ لا فرق بين ان تكون الباء للسببية أو للآلة.

و انما ذكر عز و جل بعض ما كسبوا دون الجميع إما لان في كسبهم ما هو طاعة للّه عز و جل أو لان العقوبة انما كانت ببعض ما كسبوا دون الجميع فإنها تستدعى ان تكون اكبر إلا ان اللّه تعالى منّ عليهم بالعفو عن كثير.

ص: 419

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ .

اي: لقد عفى عن جميع المؤمنين الذين حضروا في أحد و المنهزمين و من تولوا عن الجهاد ببركة الرسول الكريم و ما اظهروه من الندم و انما كانت عقوبة الهزيمة للاختبار و التمحيص و تربيتهم تربية عمليا.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

الجملة في موضع التعليل لما تقدم اي عفا عنهم لأنه غفور لجميع الذنوب و من يحسن التوبة حليم لا يعجل بالعقوبة.

ثم إن المنساق من الآيات الشريفة ان هذه الطائفة هم ضعفاء المؤمنين الذين لم يثبت الايمان في قلوبهم و لم يترسخ الدين في نفوسهم فلم تطهر قلوبهم من رذائل الجاهلية فظنوا باللّه الظنون الباطلة و ابدوا بعض ما في صدورهم و اخفوا الكثير منه على ما حكى عنهم عز و جل. و لا يقدح ان يكون بعضهم من المنافقين الذين كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر و هم لا يعتقدون باللّه العظيم لا ان يظنون به الظن الباطل و سيذكرهم اللّه تعالى في الآيات التالية.

هذا و لكن المعروف بين جمهور المفسرين ان المراد بهؤلاء هم المنافقون الذين كانت تهمهم أنفسهم و يظنون باللّه ظن الجاهلية و يخفون ما في أنفسهم من الكفر و لكنهم يعتذرون بألسنتهم عن أنفسهم احتجاجا على النبي (صلى اللّه عليه و آله).

و فيه ان المنساق من الآيات المباركة غير هؤلاء فان الخطاب للمؤمنين و ارجاعه إلى المنافقين يستلزم التفكيك في الآيات الشريفة و هذا ينافي بلاغة القرآن الكريم مضافا إلى ان الكلام في المنافقين يأتي في ما بعد. و لكن ذكرنا آنفا انه لا ينافي ان يتفق هؤلاء الذين وصفهم

ص: 420

اللّه تعالى بأوصاف تدل على ضعف العقيدة و الايمان باللّه تعالى مع المنافقين في بعض الأقوال و الأفعال.

و لا ينقضي العجب من بعض المفسرين حيث احتمل ان يكون الخطاب للمؤمنين و ان اللّه تعالى يحكي عن كمال ايمانهم و ثقتهم بان الأمور كلها بيده عز و جل و تحت مشيته و انهم كانوا يظنون ان النصر و الظفر لهم كما كان في بدر.

و بطلان هذا الاحتمال أوضح من ان يخفى فانه لو كان الأمر كذلك فكيف يجعله تعالى من الظنون الجاهلية التي ذكرها عز و جل في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: «سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ» الانعام - 148 و احتمال ورود مثل هذه الآيات في المخلصين من المؤمنين و من رسخ الايمان في قلوبهم بعيد عن ادب القرآن بالنسبة إليهم.

بحث دلالي

اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ» ان اللّه تعالى وعد المؤمنين وعدا حسنا بالنصر و الظفر، و قد تكرر في القرآن الكريم ذكره و وعد به النبي (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه في عدة

ص: 421

منها في الآيات السابقة و هي الطاعة و الثبات، و الصبر و الاستقامة فإذا تحققت تلك الشروط فلا محالة ينزل الفيض الالهي و الإمداد الربوي و على قدر الخلوص و الإخلاص يتقدر الجزاء و الفيض كما يدل عليه قوله تعالى: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ» و يؤكد ذلك نصر المؤمنين و هزيمة المشركين أول الأمر و قتل المسلمين لهم قتلا ذريعا حتى أجلوهم عن مواقعهم و أخرجوهم عن ميدان المعركة، و توقف الإمداد الربوي عند ما ظهر الفشل و العصيان. فظهر صدق وعده عز و جل و تبين ان الإمداد كان محدودا بحد معين و هو تحقق الشروط و ما عدى ذلك لا يستحقون العناية الخاصة و يكفي ذلك عبرة للمؤمنين و درسا لهم يجعلونه محط نظرهم و موعظة لهم يستفيدون منها في المواقع الحرجة إلى يوم الحشر.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» كمال العناية بالمؤمنين و ان اللّه تعالى قد اذن لهم بقتل المشركين و أمدهم بعناياته الخاصة مع قلة عددهم و عدتهم و لم يكلهم إلى أنفسهم.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» على ان العناية الخاصة التي منحها عز و جل لهم انما كانت لأجل غاية حميدة و هي التربية تربية حقيقية واقعية، فان الإسلام قد اهتم بهذه الجهة اهتماما بليغا حتى جعلها عز و جل من جملة غايات بعث الرسل و الأنبياء قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» الجمعة - 2 و من سنن هذه التربية اسناد بعض الأمور اليه عز و جل لأنه تعالى ولي المؤمنين يؤيدهم بنصره و اسناد بعضها الآخر إلى أنفسهم قال تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» باعتبار تحقق

ص: 422

الأسباب الداعية إلى تحقق المسببات من عند أنفسهم، فان قانون الأسباب و المسببات يدعو إلى ذلك ثم يأتي العفو و الغفران و هذه هي التربية العلمية و فيها الفضل الكبير على المؤمنين، و لذا ختم عز و جل هذه الآيات بقوله «وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ» و قد ظهر اثر هذه التربية في عدة مواطن بعد أحد، و نرجو ان يهتم المسلمون لهذه الجهة حتى يظهر اثر فضل اللّه عليهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» على شدة الابتلاء و عظم المعصية فإنهم بسبب الفشل و العصيان اعدوا لأنفسهم هذه الهزيمة التي أثرت في نفوسهم و كابدوا مرارتها برهة من الزمن و تعرضوا للنكاية بها، و يستفاد من الآية الشريفة عظم الهزيمة فقد تفرقوا في كل وجه حتى انهم خرجوا عن موقع القتال، لشدة الدهشة و الذعر الكبير الذي حل بهم فلم يبالوا بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) و هو واسطة الفيض و كان يجب عليهم ان يتأسوا به (صلى اللّه عليه و آله) و يبقوا معه في موقع القتال و كان عليهم الصبر و فيهم واسطة الفيض.

و في ذكر الرسول في الآية الشريفة كمال التقريع و العتاب لهم و لذا كانت النكاية كثيرة حيث جازاهم اللّه تعالى بالغم الشديد الذي بقي اثره في نفوسهم و استمر زمانا و يكفي في ذلك انه نزل فيهم التقريع و التوبيخ الربوبي و لم يأمنوا من العذاب بعد ما كانوا مطمئنين منه، و يدل على ذلك قوله تعالى: «وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» فانه يدل على اضطراب أحوالهم و عدم استقرارهم فإنهم كانوا يلتمسون الاعذار لما فعلوه و لم يعاقبهم عز و جل لان فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله).

و الآية المباركة تدل على ان عدم اعتنائهم بدعوة الرسول (ص)

ص: 423

إلى الثبات و المقاومة لشيوع خبر قتله و انتشاره بينهم.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ» على ان للمعاصي و الذنوب آثارا خاصة تؤثر في النفس و توجب الهموم و الغموم و ان لكل ذنب الأثر الخاص به كما ستعرف.

السادس:

يدل قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً» على ان نزول النعاس كان معجزة خاصة للطائفة المؤمنة و ان اللّه تعالى اظهر قدرته و عنايته بهم في إنزال ما يوجب السكون و الطمأنينة و الأمن في حال تقتضي الحركة و الاضطراب و لا يتصور فيها السكون فضلا عن النعاس فالمعجزة تظهر في جعل الفائدة و الأثر في الأمر المضاد لتلك الحالة ظاهرا.

و يمكن ان يكون المراد من النعاس حالة الراحة و الاسترخاء و السكون الموجبة للأمن. و المعروف انه كان المؤمن منهم بعد إنزال النعاس ينام حتى تحت ترسه كأنه آمن بخلاف غيره فانه أهمتهم أنفسهم فلم يكرمهم اللّه تعالى بهذه المكرمة. و نظير هذه النعمة نزلت في غزوة بدر قال تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» الأنفال - 12 إلا ان الفرق بينهما ان في أحد كانوا أحوج إلى الأمن من يوم بدر لشدة الدهشة و الذعر فاقتضى تقديم الأمن في هذه الآية المباركة بخلاف غزوة بدر فابدل اللّه تعالى حالة الذعر و الخوف إلى حالة الأمنة و الطمأنينة.

السابع:

ترشد الآية الكريمة «وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» إلى ان في كل أمة طائفتان الأقوياء في الايمان الثابتون فيه المعتقدون بحدوده و أحكامه العاملون بها الذين قد فوضوا أمرهم إلى اللّه تعالى فمنحهم سعادة الدنيا و الآخرة. و الطائفة الثانية هم الضعفاء في الايمان الذين يعتقدون ان مجرد الانتساب إلى الدين و انتحال اسمه يكفي في فوزهم

ص: 424

بكل ما وعده اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و قد جعلوا اسم الدين سبيلا لنيل مقاصدهم يستدرون به حيث ما درت معايشهم، و إذا لم يسعدهم الحظ انقلبوا على أعقابهم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف بعضها ترجع إلى عقيدتهم و نفوسهم المريضة و هي الظن باللّه تعالى الظنون الباطلة كالشك و إضمار ان اللّه تعالى و كل إليهم امر النصر و وعدهم الظفر و هو لا يرضى بظهور أعدائه. و قد أبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم و اظهر عقائدهم الفاسدة و لا تختص الآية المباركة بعصر النزول بل انها جارية إلى يوم القيامة.

الثامن:

يتضمن قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ» دستورا الهيا و حقيقة من الحقائق الواقعية التي يشهدها الإنسان في الحياة و هي ان كل امر في هذا النظام الكياني يجري تحت ارادته و مشيته و وفق قانون محكم و سنة منتظمة لا يمكن التخلف عنها فان اللّه تعالى خالق كل شيء و بيده ملكوت كل شيء و خلقه انما يكون تحت ارادة حكيمة و وفق تدبير ربوبي، و الاعتقاد بهذا الأمر يخفف عن الإنسان كثيرا من الهموم و يذلل له جملة من الصعاب و قد ذكر سبحانه و تعالى هذه الحقيقة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم و جعلها من جملة الأمور التي يجب على المؤمن الاعتقاد بها و في الآيات التالية يبين عز و جل بعض مظاهر هذه الحقيقة.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» ان الابتلاء و الاختبار و التمحيص من غايات قتل من يبرز إلى مضجعه بارادة اللّه تعالى و مشيته، فان ذلك سنة لا يمكن التخلف عنها. و ان السعادة و الشقاوة لا تظهران إلا بهذه السنة الإلهية. و قد ذكر عز و جل في المقام ان الابتلاء انما كان لإظهار

ص: 425

ما في الصدور و تمحيص ما في القلوب.

و قد اطلق سبحانه في الآية المتقدمة «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» لان المقام اظهار لما في القلوب بعد ما ان ظنوا باللّه الظنون الباطلة و ما اضمروا في أنفسهم اكثر مما أبدوه بأفواههم بخلاف الآية المتقدمة.

و لا يدل قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» بشيء من الدلالات على الجبر كما يدعيه بعض فانه بمعزل عن ذلك و الآية المباركة في مقام بيان كون الأمر كله بيد اللّه تعالى و لا ينافي ذلك تطبيقه على قانون الأسباب و المسببات.

العاشر:

يدل قوله تعالى: «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» على ان المصائب و المتاعب التي تعرض عليهم سواء الفردية منها أو الاجتماعية انما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، و ان لكل ذنب أثره الخاص به و تترتب عليه عقوبة خاصة، و تترك الذنوب و المعاصي آثارا خاصة في النفس و تكدر صفائها و هذا ما يؤكده جلّ شأنه في القرآن الكريم قال تعالى:

«وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» الفاطر - 45 و توجب تلك الآثار بعدها عن بارئها حسب كبر الذنب و صغره و شدته و ضعفه إلا إذا انمحت بالتوبة فيعفو اللّه تعالى عنها و يمحي آثارها.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ان الغفران سبب العفو فان اللّه تعالى يستر الذنب ظاهرا ثم يمحي اثره عن النفس و هما يزيلان المانع و يرفعان المنافي المضاد في رضوان اللّه تعالى و اطلاق قوله سبحانه يشمل جميع الآثار الوضعية و التشريعية اي يرفع العقاب و ما يمنع السعادة و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

ص: 426

بحث روائي

في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ..» الآية -» قال محمد بن كعب القرظي: «لما رجع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة و قد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال ناس من أصحابه: من اين أصابنا هذا و قد وعدنا اللّه تعالى نصره؟ فانزل اللّه عز و جل: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ» - إلى قوله جل شأنه - «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا» يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد».

أقول: على فرض صحة الرواية انها من باب التطبيق و اللّه العالم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كان.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ (158) الآيات الشريفة تبين جانب آخر من جوانب غزوة أحد و هو ما ظهر من بعضهم من الأسف و التحسر على الذين قتلوا فيها، و كان

ص: 427

السابقة، فقد ظنوا ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هو الذي أوردهم إلى هذه المهلكة و حذرهم سبحانه و تعالى ان مثل هذا الظن الذي من وساوس الشيطان هو الذي استزلهم و أوردهم المهالك و أفسد قلوبهم.

و يبين سبحانه و تعالى ان الحياة و الموت أمران طبيعيان داخلان تحت ارادته و مشيته و الجميع يحشرون اليه تعالى و الغاية التي لا بد للإنسان في كفاحه و جهاده من ابتغائها هي المغفرة و الرحمة و هي الخير الذي يبتغيه كل عاقل.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا .

بيان الهي يرشد المؤمنين إلى التخلي عن اتخاذ الكافرين قدوة يحتذي بهم في الأقوال و الأفعال و الاعتقاد، فان الكافر جاهل بحقيقة الدين و لا يعتقد الاعتقاد الحق فان مما اعتقده انه ينسب الحوادث و الظواهر الكونية إلى اسبابها العادية فقط و إلى الصدقة دون الالتزام باستنادها إلى اللّه تعالى و تصرفه في العالم و ان الأمور تجري بإرادته و مشيته و تقديره و قضائه. و من المعلوم ان الاعتقاد الباطل يفضي بصاحبه إلى الخسران و الشقاوة، و قد نهى عز و جل المؤمنين ان يكونوا مثلهم في الجهل و الخسران.

و المراد بالذين كفروا كل من يعتقد خلاف الحق سواء كان من المنافقين أم غيرهم. و قيل ان المراد بهم في المقام خصوص المنافقين و لكنه تخصيص بلا دليل مع ان الظاهر من الخطاب هو الأعم، و اما

ص: 428

المنافقون فسيأتي ذكرهم في ما بعد قال تعالى حكاية عنهم «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» و لكن قد يتحد المنافقون مع الكافرين في كثير من الأمور.

قوله تعالى: وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى .

بيان لمظهر من مظاهر الاعتقاد الباطل للكافرين. و الضرب في الأرض كناية عن السعي إما للتجارة أو طلبا للمعاش أو لأغراض اخرى قال تعالى: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ» النساء - 101 يقال: «ضربت الطير» ذهبت تبتغي الرزق، كما يقال: «ضرب يعسوب الدين بذنبه» اي اسرع الذهاب في الأرض فرارا من الفتن.

و غزى جمع غاز كعاف و عفى و شاهد و شهد و طالب و طلب.

و اللام في «لإخوانهم» للشأن اي في شأنهم أو تعليلية اي لأجلهم.

و المعنى: و قال الكافرون في شأن إخوانهم في الدين أو في النسب إذا ضربوا في الأرض سفرا عاديا أو كانوا غزاة فمات بعضهم أو قتل.

و انما قال عز و جل «إِذا ضَرَبُوا» دون (إذ) حكاية للحال فيفرض وجود ذلك في النفس. و بعبارة اخرى: ان القضية حقيقية لا تتقيد بزمن معين و (إذ) يستعمل في الظرف إذا كان وقتا شخصيا.

قوله تعالى: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا .

اي: كان من اعتقادهم الباطل انهم قالوا لو كانوا مقيمين عندنا و لم يسافروا و لم يغزوا ما ماتوا و ما قتلوا. و هذا من سوء الرأي و يدل على جهل قائله بحقيقة الدين فان مقادير الأمور تحت مشية اللّه تعالى و قضائه و قدره

ص: 429

كما بين عز و جل ذلك في الآيات السابقة قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ» و ان موت كل فرد انما يكون باذن اللّه عز و جل قال تعالى:

«وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً» آل عمران - 145 و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ذلك، و ان القضاء و القدر و ايكال الأمر إليهما اصل من اصول الدين. و يكفي في بطلان قولهم و مخالفته للعقل انهم يعتقدون ان من مات أو قتل فقد ختم حياته و انتهى أمره كما تدل عليه كلمة «لو» في قوله تعالى «لَوْ كانُوا» الدالة على امتناع موتهم أو قتلهم عند حضورهم لديهم و لكنهم غافلون عن حقيقة الأمر.

قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ .

اي: ان قولهم و اعتقادهم انما يبعث في نفوسهم الحسرة و اللام للعاقبة.

يعني: تكون عاقبة اعتقادهم الحسرة و الندامة فيعذبون بهما، و الجملة من قبيل وضع الغاية موضع المغيى، فإنهم يتألمون كل ما يفكرون في أمواتهم قتلا أو غيره و يتحسرون عليهم و يتأسفون و يقولون لما ذا تركناهم يسافرون أو يغزون، و لم ندفع عنهم السوء فيزيدهم ضعفا و يورثهم ندما و حسرة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ .

رد لمزاعمهم الباطلة و بيان لحقيقة الأمر التي لا بد من الاعتقاد بها و هي ان اللّه تعالى بيده امر الحياة و الموت و هما من الأمور المختصة به عز و جل وحده فيحيي من يشاء من عباده و يميت من يشاء بمقتضى قواعد و سنن خاصة لا يعلمها إلا هو لان اسرار القضاء و القدر في التكوينيات مما لا يمكن للعقل الاحاطة بها فإذا تحقق مؤثرهما فلا محالة تقع الحياة أو الموت

ص: 430

و لا راد لقضائه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

اي: لا يخفى على اللّه تعالى ما تعملون فلا تكونوا ايها المؤمنون مثل الذين كفروا في الاعتقاد و العمل، و في الآية الشريفة كمال الترهيب عن المعصية و الترغيب في الطاعة، و التهديد للمؤمنين عن المماثلة مع الكفار فليتقوا اللّه في تركها. و الآية المباركة صريحة في ان اللّه تعالى يعلم الجزئيات و يراها.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ .

حكمة اخرى من وجوه الحكم في النهي عن المماثلة للكفار في الأقوال و الأعمال و الاعتقاد، و هي ان عمدة ما يبتغيه الإنسان في كفاحه في هذه الحياة الدنيا هو ما يجمعه من المال و المتاع اللذين بهما يقضى مآربه و يحقق آماله و مقاصده و يمضي بهما شهواته و ما عند اللّه تعالى أعظم و اكبر من ذلك و هو الخير الذي لا بد من السعي في ابتغائه و نيله.

و السبيل الذي يصل الى اللّه عز و جل هو القتل في سبيل اللّه أو الموت في رضاء اللّه تعالى كالموت على الايمان و الأعمال الصالحة فان ذلك هو الفوز العظيم و ما سواه ضئيل لا بد ان لا يعتنى به.

قوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ .

اي: يكون اجركم على اللّه تعالى و هو مغفرة من اللّه تمحى بها الذنوب و رحمة ينال بها رضوان اللّه تعالى و ترتفع بها الدرجات و هما خير مما يجمعه الإنسان من حطام الدنيا.

و انما قدم القتل في سبيل اللّه على الموت لان القتل اقرب إلى

ص: 431

المغفرة و الرحمة، و للترغيب اليه، و التعريض بمن كان يثبط المؤمنين عنه و الرد على الكفار.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ .

بيان للواقع الذي عليه الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هو ان أي فرد من أفراد الإنسان بأي سبب كان هلاكه سواء كان بالموت أو القتل لا بد ان يحشر إلى اللّه تعالى وحده فيحاسبه على اعماله و يجازيه بها ان خيرا فخير و ان شرا فشر، و عليه تعالى يقدم الإنسان فيوفيهم أجورهم وعدا مؤكدا عليه.

و انما قدم الموت على القتل لان الاول أعم من الثاني و اكثر فناسب الترتيب الطبيعي بخلاف الآية السابقة.

بحوث المقام

بحث ادبي:

تقدم ان «غزىّ» جمع نادر في المعتل و هو خبر (كانوا) منصوب بفتحة مقدرة على الالف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين لان أصله (غزوا) فتحركت الواو و انفتح ما قبلها فقلبت الفا ثم حذفت، و قرئ بتخفيف الزاي.

و انما أتى عز و جل بجمع القلة للاشارة إلى انه لا بد من ترك ذلك و التقليل منه إذا لم يكن في سبيل اللّه تعالى.

ص: 432

و الواو في قوله تعالى: «وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ» للحال كما ان اللام في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ» موطئة للقسم، و ان اللام في قوله تعالى: «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ» واقعة في جواب القسم، و جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

و التنوين في «لَمَغْفِرَةٌ و رَحْمَةٌ» للتنكير، و لبيان عدم حد للمغفرة و الرحمة، و ليذهب ذهن المخاطب إلى اي مذهب ممكن و قرأ الجمهور (متم) بالكسر من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، و قرأ بعضهم بضم الميم من مات يموت مثل كنتم من كان يكون.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

الآية الشريفة «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» تؤكد مضمون الآيات السابقة، و تضع حدا فاصلا بين الأقاويل الكاذبة و ما هو الحق، و تبين للمؤمنين ما يجب الاعتقاد به لا سيما في الظروف الصعبة التي لا بد من أخذ الحيطة و الحذر من المنافقين و التمسك بتعاليم الإسلام و لدفع كيدهم.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» انما قالوا ذلك تثبيطا لمن بقي من إخوانهم لئلا يلحقوا بالمؤمنين حتى لا يصيبهم ما أصاب السابقين فيموتوا او يقتلوا فهم كانوا يعتقدون امتناع موت إخوانهم أو قتلهم عند حضورهم لديهم فكأنهم العلة في حفظهم، و هدا نحو من الشرك.

ص: 433

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ان بعض الاعتقادات الفاسدة توجب الحسرة في الحال أو في المآل، و يمكن ان يكون إشارة إلى ان عمل المؤمنين بالتعاليم الإلهية و الاحكام الشرعية يوجب الحسرة في قلوب الأعداء لأنهم يرون ان العمل بها لا يزيد المؤمنين الا ثباتا و شدة في جنب اللّه تعالى و هذا مما يزيد في حزنهم و ندامتهم و هم يريدون عكس ذلك فان الايمان لا يزيد صاحبه إلا تسليما و ثباتا و استقامة و ارتفاعا لمقامهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ان جميع ما يحتمله الإنسان نافعا في دفع المكروه عنه هو من مجرد الظن لا يغير الواقع عما هو عليه و ان الأمر بيد اللّه تعالى يجريه بمقتضى قانون الأسباب و المسببات، و اللّه يعلم ما في الضمائر فقد يخيب آمال الإنسان جزاء لاعتقاده الفاسد فلا بد من تسليم الأمر اليه عز و جل و طلب العون منه.

الخامس:

يستفاد من الترديد في قوله تعالى: «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ» اختلاف مقامات العاملين فمنهم من يكون عمله هباء منثورا لأجل شركه أو كفره و منهم من يعمل لثواب الدنيا و منهم من يعمل لثواب الآخرة بحسب مراتبه الكثيرة.

السادس:

يستفاد من إطلاقه قوله تعالى: «لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ» بروز الأعمال حينئذ فيحشر كل احد مع عمله و يجازى به كما مر.

ص: 434

بحث روائي

في تفسير العياشي عن جابر عن أبى جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ» قال (ع): «يا جابر أ تدري ما سبيل اللّه؟ قال: لا أعلم إلا ان اسمعه منك قال (ع):

سبيل اللّه علي و ذريته (عليهم السلام) و من قتل في ولايتهم قتل في سبيل اللّه و من مات في ولايتهم مات في سبيل اللّه.

أقول: هذا من باب التطبيق و ذكر احد المصاديق لأنه ورد من الموت في سبيل اللّه الموت في طريق الحج و الجهاد، كما ورد أيضا في الموت في سبيل اللّه الموت في تعلم الاحكام و تحصيلها، و الموت في المشي الى الصلاة.

في تفسير العياشي أيضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ» و قد قال اللّه تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» * فقال ابو جعفر (عليه السلام):

«قد فرق اللّه بينهما ثم قال: أ كنت قاتلا رجلا لو قتل أخاك؟ قلت: نعم قال: (ع) فلو مات موتا كنت قاتلا به؟ قلت: لا قال (ع): ألا ترى كيف فرق بينهما؟!!».

أقول: لا ريب في اختلاف اصناف الموت و أنواعه و لا ربط لاحد الأصناف و الأنواع بالآخر، فذات الموت شيء و القتل شيء آخر و ان كان الأخير سببا له و هو (عليه السلام) يبين منشأ الخلاف و الراوي تمسك بذكر جنس الموت كما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» .

ص: 435

أقول: لا ريب في اختلاف اصناف الموت و أنواعه و لا ربط لاحد الأصناف و الأنواع بالآخر، فذات الموت شيء و القتل شيء آخر و ان كان الأخير سببا له و هو (عليه السلام) يبين منشأ الخلاف و الراوي تمسك بذكر جنس الموت كما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» .

و يحتمل ان تكون هذه الرواية اشارة الى تعدد الموت و القتل بحسب تعدد العوالم فمن مات في هذا العالم يمكن ان يقتل في عالم الرجعة و العكس بالعكس كما وردت به روايات متعددة يأتي ذكرها في الآيات المناسبة لها ان شاء اللّه تعالى.

و الحمد للّه أولا و آخرا

ص: 436

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.