مواهب الرحمن في تفسیر القرآن المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

سورة آل عمران

اشارة

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتا.......

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (4) إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (5) هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (6) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيبين الطاهرين هذه السورة تدعو الخلق إلى عبادة اللّه الواحد الأحد المتفرّد، المتّصف بصفات الجمال و الجلال، كما تدعو المؤمنين إلى توحيد الصفوف و الاتحاد في الكلمة، و تحرّضهم على الصبر و المصابرة لمواجهة الأخطار و كيد الأعداء بعد انتشار الإسلام و ذيوع صيته في الجزيرة و الأمم المجاورة لهم، و تحذّرهم عن الاختلاف و التفرقة، و تنبئهم عن كيد الأعداء و اتحادهم في إطفاء نور اللّه تعالى بكلّ ما أمكنهم.

و في هذه السورة بيان لأصول المعارف الإلهيّة، و ما به الاشتراك بين الأديان السماويّة، و تبيّن كيفيّة المحاجّة مع أهل الكتاب، و ترشدهم إلى قصة المباهلة مع وفد نصارى نجران.

ص: 5

و فيها ذكر خلق عيسى عليه السّلام الذي يشبه خلق آدم عليه السّلام، و إنكار كثير من أفعال اليهود و النصارى، و الردّ على مزاعمهم في أنبياء اللّه تعالى.

و يبيّن اللّه تعالى فيها حقائق دينيّة و أمورا عامّة، تجلب السعادة لهم في الدنيا و الآخرة، و يدفع بها شبهات المعاندين و تلبيس الكافرين، و قد أثبت لنفسه مهام الصفات العليا و ما يستلزم في تدبير ملكه و توليته لأمور المؤمنين و إحاطته بالكافرين، و أنهى سبحانه و تعالى هذه السورة بالدعاء.

و من وحدة الأسلوب و الغرض يستفاد أنها نزلت دفعة واحدة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أعدّ العدّة لمواجهة الأخطار المحدقة بالدين من المشركين و أهل الكتاب.

و يكفي في عظمة هذه السورة المباركة أنها ابتدأت بالتوحيد و أمهات الصفات (الحي و القيوم)، و اختتمت بالأمر بالصبر و المصابرة و التقوى و الوعد بالفلاح، فجمعت بين المبدأ و المعاد بأحسن أسلوب يأخذ بقلوب العباد، فقد جمع اللّه تعالى بها بين التوحيد و النبوّة و المعاد و مراتب تكامل النفس و بدء الطبيعيّات من اللّه و سيرها إليه جلّ جلاله و بين القصة و الاحتجاج و البرهان. كلّ ذلك ينبئ عن عظمة الحكيم الحنّان. و سمّيت هذه السورة بسورة الاصطفاء أيضا، لأن فيها قوله: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 33].

و في الآيات المتقدّمة براعة الاستهلال تتضمّن خلاصة ما يذكر في هذه السورة المباركة، فقد أثبت سبحانه و تعالى مهام صفاته العليا و أورد عزّ و جلّ ذكر الكتب الإلهيّة، و حذّر الكافرين عن أفعالهم و أوعدهم بالعذاب الشديد، ثم ذكر ما هو بمنزلة العلّة لما ورد في المقدّمة. و أرشد المؤمنين إلى تذكّر آلاء اللّه تعالى و صفاته العليا، التي بها يدوم العالم و ينتظم نظام الخلق.

فهذه الآيات اشتملت على اصول المعارف الإلهيّة، أما التوحيد فقوله تعالى:

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، و أما النبوّة فقوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و أما المعاد ببقية الآيات المباركة.

ص: 6

قوله تعالى: الم .

تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة القرآنية في أوّل سورة البقرة، و المتحصّل منه أن الاحتمالات المتصوّرة فيها خمسة...

الأول: أنها أسرار و رموز بين الموحي و الموحى إليه، لا يعلمها أحد حتى جبرائيل الذي هو أمين الوحي، فإن بين كلّ ملك و الخواص من وزرائه أسرارا في المخاطبة و الخطاب كما هو معلوم، بل هذا هو دأب المتيّمين من الأحباب، و قديما قالوا إن للحبّ لغة خاصة في مقابل كلّ لغة.

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه *** قول و لا قلم للناس يحكيه

هذا في الحبّ المجازي، و أما الحقيقي منه فلا يعقل تمديده بحدّ أبدا.

الثاني: أن المركّب منها إشارة إلى أمر مهم في الشريعة المقدّسة.

و لكن يرد عليه أن ذلك لا يكفي في الاحتجاج على أهل العناد و اللجاج بل مطلق العناد، لما ثبت في محلّه من أنه لا أثر للمجمل و الرمز و اللغز التي تنبو عنها الأفهام و لا يعتمد عليها الأعلام في مخاطباتهم، فتدخل في متشابهات القرآن الكريم التي عجزت عن فهمها العقول.

الثالث: أنها اسم لنفس السورة التي بدأت بها.

و يرد عليه أن فيه من الغرابة ما لا يخفي.

الرابع: أنها ذكرت تمهيدا لإصغاء المخاطبين و السامعين.

و فيه: أنه بعيد من الحكمة.

الخامس: أنها ذكرت تجليلا للسورة، يعني أن السورة و إن كانت فيها هذه الحروف الهجائية بحسب الظاهر، و لكنّها مشتملة على معارف لا تحيط بها العقول و يعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها.

و هناك وجوه اخرى، يمكن الجمع بينها. و القول بأن تمام تلك الوجوه منطوية فيها، و ليس ذلك من شأن الآيات الكريمة ببعيد. و تمام الكلام تقدّم في أوّل سورة البقرة.

ص: 7

قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ .

تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي [255 من سورة البقرة]، و نزيد هنا: اللّه اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة و الادراكيّة، و المسلوب عنها جميع النقائص كذلك، و نفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله و جلاله و معبوديته المطلقة، و خضوع ما سواه له، و لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد و إضافة، منحصرة فيه عزّ و جلّ،

و قد روي أن عليا عليه السّلام قال: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»، و عرض ذلك على سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله

فقال لعلي:

«علمت الاسم الأعظم»، نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالى كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.

و الحيّ القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الاحاطة بهما، لأنهما عين الذات المقدّسة، و العقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عزّ و جلّ من المجرّدات، و غيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة.

كما أن المراد بالقيوميّة فيه عزّ و جلّ مديريّته و مدبريته و تربيته العظمى لجميع عوالم الممكنات، قيوميّة حياة تستلزم العلم و القدرة و الهيمنة و الإحاطة، لا أن تكون قيوميّة فاقدة للشعور و الحياة، كما في الأسباب الطبيعيّة التكوينيّة.

فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالى كلفظ (اللّه)، و لكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، و هو مطلق القيام بالشيء و على الشيء، و مطلق القيوميّة يكون من الوضع العام و الموضوع له العام بحسب أصل المعنى، و لكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزّ و جلّ.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علما له عزّ و جلّ و إلا فيسقط أصل البحث، و لعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية و الأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعا و أصلا يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.

ص: 8

و يصحّ أن يراد من القيوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثا و بقاء.

كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية.

و يصحّ أن يراد به قيوم كمال كلّ ذي كمال.

و الحقّ هو الأخير و سائر المعاني منطوية فيه، و لذا عقّبه سبحانه و تعالى بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (7) هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، لأن ذلك من شؤون حياته و قيوميّته المطلقة.

و الحيّ و القيوم من أعظم الأسماء الحسنى.

و الأول من أسماء الذات، بل الثاني أيضا إن رجع إلى الحكمة التامّة التدبيرية و القدرة الجامعة التامّة، كما يصحّ أن يكون برزخا بين اسم الذات و اسم الفعل باختلاف الجهة.

و إنما ذكرهما سبحانه هنا و في آية الكرسي [255 من سورة البقرة]، لأنهما دون لفظ (اللّه) و فوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات، و يصحّ أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثّر الأثر المطلوب.

و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حيّا قيوما، و الحيّ القيوم منحصر في واحد عقلا و نقلا، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

و افتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال و الجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، و حقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

و فيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي اللّه الذي هو واحد في ألوهيته و ذو الحياة الكاملة، و القائم على تدبير خلقه بأحسن نظام و أتم حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ و الباطل، و لا يخفى عليه أمر مخلوقاته، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، و من كفر فقد خاب و سيجزيه اللّه، أنه عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ .

المراد بالكتاب القرآن الكريم، و الباء في (بالحق) إما في موضع الحال، أو

ص: 9

للمصاحبة، أي: حال كونه بالحقّ أو مصاحبا له لا يفارقه، و لا تعتريه شبهة، و لا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه.

و مصدقا حال آخر، أي: حال كونه معترفا بصدق ما بين يديه و مبيّنا له.

و المراد بما بين يديه: ما تقدّم من الكتب الإلهية، و هي التوراة و الإنجيل و غيرهما.

و التنزيل: هو النزول، و قد تقدّم في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: 185]، كيفية نزول القرآن، و الفرق بين النزول و الإنزال الذي يدلّ على الدفعة.

و الآية تدلّ على صحّة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي، و صدق بعض الحقائق التي ورد فيها، و تدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى:

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 48]، و قال جلّ شأنه: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ [سورة الأعراف، الآية: 145]، و يستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية اللّه تعالى بالتوراة، لأن جميع الكتب السماويّة - بما فيها القرآن الكريم - تشترك في اصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله و توحيده و نفي الأضداد و الأنداد، و منها المعاد و العدل الإلهي، و الترغيب إلى رحمة الرحمن و التحذير من الشيطان و عداوته للإنسان، و من عذاب اللّه تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء و ما لا قوه من الظالمين في جنب اللّه و نصرة اللّه لهم، و تبيّن قصة ابتلاء آدم عليه السّلام و إخراجه من الجنّة.

ص: 10

كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق و ما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان و ما ينزله إلى حضيض الحيوان، و تشترك في بيان المستقلاّت العقلية، كجنس الإحسان و قبح الظلم، و بيان جملة من التكوينيّات و الطبيعيات.

إلا انها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية، و هذه كلّها اصول نظام التشريع التي لا بد و أن تجمعها جميع كتب السماء.

و بعبارة اخرى: أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى واحد بوجود نوعي، و التوراة و الإنجيل و القرآن من أفراد ذلك النوع، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلّية و هي الاتحاد في الكتب السماويّة، و لكن القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقا للقرآن يكون صحيحا و معتبرا، و ما كان مخالفا له يردّ علمه إلى أهله، إلا إذا ثبت بدليل معتبر جهة المخالفة، و الأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة و الموافقة التي هي مقتضى الأصل و القاعدة فيها.

و الآية الشريفة و ان دلّت على صحّة نسبة التوراة و الإنجيل إلى اللّه تعالى، و لكن لا بد أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلّية و المجموع، لدلالة آيات اخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ [سورة المائدة، الآية:

13]، و قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ [سورة المائدة، الآية: 15].

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ .

التوراة لفظ عبراني و معناها الشريعة، و تطلق على العهد القديم المتكوّن من أسفار موسى الخمسة، التي يسمّيها اليهود بالناموس، و هي: سفر التكوين، و سفر التثنية، و سفر الخروج، و سفر اللاويين أو الأحبار، و سفر العدد. و قد وقع الخلاف بين المؤرّخين في صحة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى عليه السّلام، و لا يزال

ص: 11

كثير من اللاهوتيين يشكّون في صحّة النسبة و يرون أنها كتبت بعد عصر موسى عليه السّلام، و إن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو و إفراط في القول، فإن فيها ما يكون منسوبا إلى موسى عليه السّلام، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقيّة المنزلة على موسى عليه السّلام بوحي من اللّه تعالى، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى:

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موردا مقرونة بالتجليل و التعظيم.

و اختلف الأدباء في اشتقاقها، و نحن في غنى عن ذلك بعد كونها غير عربية الأصل.

و الإنجيل كلمة يونانية و معناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشّر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، و تطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، و هي إنجيل لوقا، و إنجيل مرقس، و إنجيل متى، و إنجيل يوحنا، و العهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكوّنة من سبعة و عشرين سفرا، تتضمّن سيرة المسيح و تعاليمه و أعمال الرسل (الحواريين) و رؤيا يوحنا اللاهوتي، و قد اختلفوا في تأريخ كتابتها.

و لكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من اللّه تعالى على عيسى عليه السّلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور و الهداية، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثنى عشر موردا.

و قد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، و لكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

و يستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي و ليس هو متعددا كما يدّعيه المسيحيون، و أنه لم يؤمن من السقط و التحريف كالتوراة، و يرشد إلى ذلك إفراد الاسم و التوصيف بأنه هدى للناس، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 12

و إنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم و ما يتعلّق بولادة عيسى عليه السّلام.

و من سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة و الإنجيل نزلتا جملة واحدة، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجيا، حيث عبّر تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و قال تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ ، كما مرّ سابقا.

إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ ، فيدلّ على نزول القرآن جمعا و دفعة، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.

قلنا: لو كان النزول و التنزيل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، و لكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقا في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: 185]، فمرّة نزل نجوما و مرارا نزل دفعة، و إنما ذكره هنا تجليلا و تعظيما لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ .

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ و الباطل، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و جميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية و الأصول الحقّة النظامية، التي تبيّن وظيفة العبد و ما هو مطلوب في مقام العبودية و إقامة العدل و الحقّ، فيشمل الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى و الأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد، كما يشمل العقل و كلّ أمر محكم، و يدلّ على ذلك آيات متعدّدة، منها قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ [سورة الأنفال، الآية: 41]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ اَلْفُرْقانَ [سورة الأنبياء، الآية: 48]، و قال تعالى: تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [سورة الفرقان، الآية: 1].

و المراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآنا، و باعتبار تفرقته بين الحقّ و الباطل يسمّى فرقانا، و باعتبار إرشاداته يكون نورا، و باعتبار كونه أساسا للعمل و الحكم بالعدل يسمّى ميزانا، و تختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

ص: 13

و قيل: المراد بالفرقان: العقل، و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ و الباطل، و قيل: النصر، و قيل: الحجّة القاطعة للرسول صلّى اللّه عليه و آله على من حاجّه في أمر عيسى عليه السّلام.

و في بعض الروايات: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء»، و يظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفا.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ .

أي: ان الذين كفروا بآيات اللّه و جحدوا بها لهم عذاب شديد، و ذلك لأن الكفر بآيات اللّه حرمان عن منبع النور و الهداية و السعادة، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك و لها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذابا لما يتبعه من الندامة و الشقاوة، فلا يختصّ العذاب بالآخرة، و هو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات اللّه بالعذاب في الدنيا و الآخرة، و هذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة، فتعدّ حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها اللّه تعالى لها من العذاب، و يعدّ المعرض عنها شقيا قد سلب السعادة عن نفسه، فكلّ ما يكون سببا لسعادة الإنسان إذا كفر به يكون عذابا و شقاء له، فتكون السعادة و الشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح و شقاوتها، و أما سعادة الجسم و البدن فهي ان أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمى و الكمال الأتم، و إلا كانت شقاء و عذابا، قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح و الجسم، و لكن المهم هو الأول. و هذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة و لم يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى في السعادة و الشقاء، فإنه يعتبر ما يكون سببا للاستمتاع المادي - كالمال و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة - سعادة، و ما يكون بخلاف ذلك شقاء و عذابا، و هذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن و الروح، و الكتب الإلهية إنما نزلت لتهذيب الروح و إسعادها و رفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، و للبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.

ص: 14

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ .

مادة (نقم) تدلّ على إراءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تدلّ المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقام للتشفّي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإن اللّه تعالى أعزّ جانبا و أبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده. و لكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، و يقوم بهم قيام الصورة بالمادة، و بينهما تلازم، و لا يعقل انفكاكهما إلا في فرض الوهم.

و المعنى: أن اللّه قوي شديد نافذ في إرادته، منيع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها و أعرض عنها.

و ما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقيّة - من كلّ جهة - و القيومية المطلقة، و لا معنى لهما إلا إيصال كلّ ممكن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل و الإحسان و الرحمة و العفو و الغفران.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ .

معلول آخر للحياة الحقيقيّة و القيوميّة المطلقة، فإن وحدة الحيّ القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة، و أن لا يخفى عليه شيء ممّا سواه، و إلا كان خلفا و لا يعقل غفلة العلّة - العليم الحكيم - عن معلوله.

و يصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة، أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو الحي القيوم.

و إنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين و انسهم بها، و إرشادهم إلى أن أرضهم - التي يفعلون فيها ما يفعلون - تحت إحاطته الفعلية.

و يستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك و تعالى يرجع إلى أمر سلبي، أي: لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الاثباتي، لقصورها عن درك ذاته، و يدلّ على ذلك أخبار كثيرة.

ص: 15

كما تدلّ الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي للّه تعالى، و تدلّ عليه آيات اخرى، منها قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجر، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59].

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ .

الصورة تطلق... تارة على الهيئة الخاصة، و بهذا المعنى يصحّ أن تكون من الأعراض، كالصور المتصوّرة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرآة أو في كلّ جسم شفاف له قابلية المحاكاة. و في العصر الحديث اتسعت دائرتها، و هي بهذا المعنى تعمّ ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.

و تطلق اخرى في مقابل المادة، فتكون جوهرا من مقوّمات الجواهر المركبة من المادة و الصورة، و يعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، و عن الصورة بالفصل كذلك أيضا، و إلا فالحقيقة واحدة و التصوير إلقاء الصورة.

و الرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكوّن فيه الجنين إلى حين الولادة و محل تربية الطفل. و استعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد.

و يتضمّن معنى الرأفة و الإحسان أيضا، و بهذا المعنى يطلق على اللّه تعالى، فهو الرحمن الرحيم.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه الرحم قال تعالى: أنا الرحمن و أنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك و صلته، و من قطعك قطعته»، و منه يظهر معنى الحديث الآخر:

«الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني»، و مخاطبة الرحم للّه تعالى ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلّها - بحقائقها الواقعيّة - مرتبطة مع اللّه عزّ و جلّ، يخاطبها اللّه تعالى و تخاطبه، و لكنها مستورة إلا على أهل البصيرة و البصائر.

ص: 16

و إنما خصّ سبحانه و تعالى تقدير الإنسان و تصويره بالذكر مع انه له التقدير العام في جميع المخلوقات، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعزّ خلقه و أشرفه، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آيات اخرى، قال تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [سورة التغابن، الآية: 3]، و قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [سورة الانفطار، الآية: 8]، و لبيان كيفية خلق عيسى عليه السّلام الوارد في هذه السورة و التعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه عليه السّلام.

و قد أبدع سبحانه و تعالى في تصوير الإنسان، ممّا يدلّ على بديع صنعه و حكمته البالغة و علمه الأتم، و اعتنى بجميع تفاصيله اعتناء بليغا، و أودع فيه من الحكم و الأسرار وفق قوانين منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها و معرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم و المعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار و الحكم ممّا يبهر العقول و يجلّ عن الوصف، فحقيق للّه تعالى أن يقول في خلق الإنسان: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، و يكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد،

و عن علي عليه السّلام: «الصورة الإنسانية أكبر حجّة للّه على خلقه، و هي الجسر الممدود بين الجنّة و النّار».

و أما

ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه خلق آدم على صورته»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها اللّه تعالى لنفسه، و جعلها حجّة على عباده و سخّر لها ما في السماوات و الأرض، و ليس المراد صورة اللّه تعالى، لأنه يستحيل أن تكون للّه صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، و يدلّ على ما ذكرناه

ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، و هو أنه: «سب رجل شخصا بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: قبحك اللّه و قبح من على صورتك، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا تقل هكذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته»، أي على صورة الرجل المسبوب، فيكون سبّه سبّا لآدم عليه السّلام و سائر الأنبياء أيضا.

ص: 17

قوله تعالى: كَيْفَ يَشاءُ .

لفظ (كيف) يستعمل في ما فيه شبيه و ما لم يكن له شبيه، كالأبيض و الأسود و الصحيح و السقيم و نحوها.

و (كيف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة و الحديثة، و يدخل فيه الاشتداد و التضعف لاتصافه بالحركة، كما أن فيه الشدّة و الضعف بذاتها.

و هو من ألفاظ العموم، و لا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره،

و في الحديث: «هو الذي كيّف الكيف و لا كيف له»، و إلى ذلك تشير القاعدة التي أسّسها أئمة الدين عليهم السّلام في المعارف الربوبية: «كلّ ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»، و قصارى ما يمكن القول فيه عزّ و جلّ هو: إنه تعالى شيء لا كالأشياء و ذات لا كالذوات، حتّى لا يلزم التعطيل.

و إطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس و الإنسان المخلوق و أطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلاّم.

و مادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء و بالعكس، و لا يطلق على العدم، و قد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، و قال بعض أكابرهم:

ما ليس موجودا يكون ليسا *** قد ساوق الشيء لدينا ايسا

و لا يطلق بهذا المعنى على اللّه عزّ و جلّ، و تقدّم في الحديث: «انه شيء لا كالأشياء».

و المشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: و الفرق بينها و بين الإرادة بالكلّية و الجزئية، أو الحدوث و البقاء، فالحدوث يسمّى مشيئة، و البقاء و الإبقاء إرادة.

بيان ذلك أن كلّ فعل اختياري صادر من الفاعل المختار لا بد و أن يسبقه امور لا يمكن تخلّف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان و البرهان، و هذه الأمور

ص: 18

تسمّى ب «أسباب الفعل»، و هي:

الأول: هو العلم بالفعل و لو على نحو الإجمال، و في الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو محال في نفسه، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة.

الثاني: المشيئة بمعنى توجّه النفس إلى طلبه إجمالا.

الثالث: التقدير، و هو التفات النفس إلى خصوصياته كما و كيفا و من سائر الجهات.

الرابع: القضاء، أي: حكم النفس بإيجاده خارجا.

الخامس: إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه و جعله بحيث لا يتخلّف.

السادس: الإرادة الموجودة للفعل.

و هذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختياري يحصل من الفاعل المختار، و لو كان هو اللّه تعالى الخالق القهّار.

نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس و مرتكزة فيها إجمالا و إن لم يعلم بها تفصيلا، و لا يضرّ ذلك، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فإن جميع تلك الأمور موجودة و معلومة له تعالى تفصيلا، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل و شؤونه، بل عالم بما سواه كلّية و جزئية قبل الإيجاد و بعده و جميع مراتب التغيّرات و التبدّلات، و كذلك هو عالم بقدره و قضائه و إمضائه و إبرامه و إرادته - التي هي عين فعله الأقدس - علما تفصيليا إحاطيا.

و يمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، و يمكن تكثيرها بتفصيل بعضها إلى امور، و لذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلّة و كثرة.

و كيف كان، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من

ص: 19

صفات الفعل. أما في الإنسان فيصحّ أن تعدّ من صفات الفاعل، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال: فاعل مريد، و فعل مراد، و فاعل مقدّر (بالكسر). و فعل مقدّر (بالفتح)، خصوصا في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنه من صفات الفاعل في الخالق و المخلوق، و كذا القدر و القضاء و الإبرام، إما باعتبار منشئهما و هو العلم الاحاطي الأكمل و الحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

و أما بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير و التبدّل فمن صفات الفعل، و ما لم تكن كذلك فمن صفات الذات.

و أصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة و الإرادة من صفات الذات، أن الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدّد القدماء، أو كون الذات المقدّسة محلا للحوادث، و كلّ منهما مستحيل. و قد اثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك.

أولا: بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) - أي الفاعل غير المختار - دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبدا، خصوصا في الإرادة الأزلية، فالاختيار في الفعل و الترك، و القدرة القهّارية باقية قبل الإرادة و حينها و بعدها، و حين حصول الفعل أيضا، و لعلّ إحدى مصالح جعل البداء للّه جلّ جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [سورة الرعد، الآية: 39].

و ثانيا: أنه على فرض كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد، و لكن العلّية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأتم، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم - و هبوطه، أو طوفان نوح، و بعثة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و قيام الساعة، و جزاء أهل الجنّة و النّار، بل جميع العوالم الطولية و العرضية، يكون

ص: 20

مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، و إلا يكون من تخلّف المراد عن الإرادة، و هو محال.

و ثالثا: أن الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. و المراد بالأصل فيه عزّ و جلّ يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، و سمعه، و بصره.

و في الحديث: «عالم إذ لا معلوم، و سامع إذ لا مسموع، و بصير إذ لا مبصر».

و بعبارة اخرى: تكون الإرادة التكوينيّة من هذه الجهة، كالإرادة التشريعيّة، فإذا أراد اللّه تعالى الصلاة - مثلا - من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أوّلها تكبيرة و آخرها تسليمة، مع تخلل القيام و الركوع و السجود و الأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أن إرادته الأزلية التكوينيّة تكون كذلك.

قد يقال: إن ما ذكر ينافي قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران، الآية: 47].

و يمكن الجواب عنه: بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقلية.

و أما بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة و المشيئة من صفات الفعل لا الذات، فلا بد من اتباعها، و لا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء و القدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار.

و أما أسرار القضاء و القدر في فعل اللّه جلّ جلاله، فقد حيّرت الملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين.

و في الحديث عن علي عليه السّلام: «بحر عميق فلا تلجه، و طريق مظلم فلا تسلكه، و انه سرّ اللّه فلا تتكلّفه»، و سيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و تعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل

ص: 21

جميع أقسامه في أصل الخلق و الصفات و الكيفيات الأخلاقيّة و الطبيعيّة، و الإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام و العقول، كما لا يمكن الإحاطة بالمشيئة الإلهية.

و المشيئة في قوله تعالى: يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، مشيئة تقدير و إرادة مشيئة حتم، و هو يرشد إلى اختلاف الحالات و العوارض و اللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإن جميع تلك الأمور - سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة، التي هي مجعولة بالعرض - تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة و الذلّة و السعادة و الشقاوة و الإيمان و الكفر و العذاب و نحو ذلك، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء و المشيئة، كما يظهر من الأخبار،

منها قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «السعيد من سعد في بطن امه، و الشقي من شقي في بطن امه»، و لا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

و من ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية الشريفة، و يصحّ أيضا أن تكون تحذيرا و تخويفا بقدرة اللّه تعالى، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة اخرى، إتماما للحجّة و بيانا للقدرة الكاملة، ليرتدع الناس عن المعاصي و الآثام.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

تعليل لما تقدّم، و عود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي: هو المتوحّد في الالوهية و المتفرّد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته و سلطانه، لا يغلب في إرادته و قضائه، هو الحكيم، أي: يفعل بمقتضى الحكمة التامّة.

ص: 22

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيات المتقدّمة على امور:

الأول: أنه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألّهين توحيد الذات، و توحيد المعبود، و توحيد الصفة و الفعل للّه جلّ جلاله - بمعنى أنه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك، فهو واحد متوحّد متفرّد في جميع ذلك - ببراهين عقليّة متينة (جزاهم اللّه تعالى خيرا)، و يمكن استفادة وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ، فإنه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال و الجمال و المعبودية الحقيقيّة في الإله الواحد القهّار.

و ذلك بأن يقال: إن الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة، و المسلوب عنه جميع النقائص كذلك، إما أن يفرض وجوده أو لا؟ و الثاني باطل بالضرورة، و الأول يستلزم تحقّقه كذلك، أي مسلوبا عنه جميع النقائص الواقعيّة و جامعا لجميع الكمالات كذلك، و إلا لزم الخلف، و هو باطل بالضرورة أيضا، و لا بد أن يسلب عنه الإمكان، و يكون العلم و الحياة و القيوميّة و الحكمة عين ذاته، لأن خلاف كلّ ذلك نقص، و المفروض أنه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعيّة مطلقا.

الثاني: انما ذكر سبحانه: «الحي القيوم» أولا و رتّب عليه تنزيل الكتاب بالحقّ، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزيل، فكما لا حدّ للحيّ القيوم جلّت عظمته، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحقّ، المهيمن على جميع الكتب الإلهية، و يكون ترتّب تنزيل الكتاب بالحقّ على الحيّ القيوم من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامّة المنحصرة، يعني حيث انه تعالى حي و قيوم نزل الكتاب بالحقّ.

ص: 23

الثالث: إنما عبّر سبحانه بالتنزيل، للإشارة إلى كثرة العناية و الاهتمام بوجود القرآن العظيم، فإنه كنسخة واحدة لشرح نظامي التكوين و التشريع، فقد تجلّى اللّه تعالى فيه و أنزله بالحقّ و من الحقّ، و في الحقّ، و إلى الحقّ.

أما أنه بالحقّ، فهو من لوازم كونه من الحقّ المطلق، إذ لا يعقل نزول شيء منه إلا بالحقّ.

و أما أنه في الحقّ، لأنه نزّل الكتاب لتكميل الإنسان كمالا معنويا و ظاهريا، حتى يصير بذلك خلاّقا لما يشاء و فعالا لما يريد من المعنويات.

و أما أنه نزل إلى الحقّ، لأنه نزل من الحي القيوم إلى قلب سيد المرسلين، و الغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى و لا يفنى.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ على أن اعتبار الكتب الإلهية السابقة إنما يكون بإمضاء القرآن العظيم، فهو الأصل في مدرك الاعتبار، و يكون هو المعتمد في الموافقة و المخالفة، و في الكلام من براعة الأسلوب و روعة البيان ما لا يخفى.

الخامس: إنما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيّه في الذكر على إنزال التوراة و الإنجيل، لأن القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماويّة، و أن تأخّر انزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة، منها حصول استعداد النفوس لذلك، و إلا فهو الأول و الأصل، فمعارفه شموس طالعة، و أحكامه أقمار منيرة، و آدابه نجوم مضيئة، تستشرق الأرواح من شوارقه و تستنير النفوس من بوارقه، تحيا الأرواح حياة أبدية و تتنعم الأشباح بنعمة سرمدية، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى و الاقتراب من العلي الأعلى.

ألم بنا وصف أجلّ من الوصف *** أدق من المعنى و أخفى من اللطف

تمازجه الأرواح و هي لطيفة إذا هو روح الروح و الروح كالظرف

نعمنا به رغدا من العيش برهة و راس رتبته المعقول في عالم الكشف

السادس: الفرقان يصحّ أن يكون وصفا بحال ذات القرآن، فإنه الفارق بين

ص: 24

الحقّ و الباطل، و الهداية و الغواية، كما يصحّ أن يكون ذلك و صفا بحال المتعلّق، أي الفارق بين المؤمن و غيره، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته و استعداده، قال تعالى:

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [سورة الرعد، الآية: 17].

السابع: إنما كرّر سبحانه و تعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات، للاهتمام التامّ بالمنزل و كثرة العناية به، و المراد بالكتاب في أوّل الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا، بقرينة قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و المراد من التنزيل التدريجي نجوما متفرّقة حسب تعدّد الخصوصيات، فلاحظ سبحانه و تعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل و ذكره مستقلا.

و أما التوراة و الإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ أنهما نزلا دفعة و هو كذلك، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة، و هي نزلت دفعة.

و أما قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ ، فهو عبارة عن المحكمات الفارقة بين الحقّ و الباطل، التي تكون في ضمن القرآن، و التكرار ثانيا لكثرة أهميتها و جعل إنزالها إنزالا دفعيا ثانيا مضافا إلى التنزيل التدريجي، و لا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنّن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة و البلاغة.

و يمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ و ألطف، و هو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي و قلب الموحى إليه، فهو نزول مطلقا، لتنزههما عن الزمان و الزمانيات، و لكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرّج الوجود، فهو تنزيل، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه و عالمه، و بذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ تقدير جميع الأمور المتعلّقة بالإنسان، فيكون كفر الكافر و إيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، و يكون الكلام تعميما بعد التخصيص، و قد ذكر التقدير في الإنسان إتماما للحجّة، و تثبيتا لإيمان المؤمن،

ص: 25

و تطييبا لنفوسهم و تخويفا بانتقام الكافرين و تعريضا بالنصارى في أمر المسيح عليه السّلام.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ بعد ذكر ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهية و الفرقان و الانتقام من الكافرين و تصوير الإنسان في الأرحام، على أن جميع ذلك دليل على وحدانيته، و أنه لا بد من استنادها إلى إله واحد مدبّر حكيم، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر: أن المتأمّل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران، و الآيات المباركة في آخر سورة الحشر، و الآيات الاول من سورة الحديد، يعلم أنها تتضمّن أبوابا من المعارف، و حقائق من الواقعيات، و إشارات من المعنويات، و لا يصل إلى جميع ذلك إلا بتصفية النفس و المجاهدة في سبيل اللّه تعالى.

و عن بعض المشايخ: أن في هذه الآيات أسرارا أفاضها اللّه تعالى علينا، انه ولى الإفاضة، خصوصا في تكرار لفظ «هو» أربع مرات.

تارة: مشيرا إلى تجلّي الذات.

و اخرى: مشيرا إلى التجلّي الفعلي بتصوير صورة الإنسان، التي هي أعظم آية و عليها يدور خلق سائر العوالم.

و ثالثة: مشيرا إلى تجلّي العزّة و الحكمة.

و رابعة: بالتجلّي التشريعي في المعارف الحقّة و القوانين التامّة، و يلزمه التجلّي الجزائي أيضا، فإن التشريع بلا جزاء لغو.

بحث روائي:

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ قال عليه السّلام:

«القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به».

و في تفسير القمّي: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء».

ص: 26

أقول: قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير.

في المجمع: عن الكلبي، و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس، و في الدر المنثور:

عن أبي إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر، عن محمد بن جعفر بن الزبير و عن ابن أبي إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي أمامة و غيرهم: «أن صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها نزلت في وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا ستين راكبا و فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، العاقب: أمير القوم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه و اسمه عبد المسيح، و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم و درس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، و كانت ملوك الروم قد شرّفوه و موّلوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده، فقدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في المدينة و دخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات جباب و أردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ما رأينا و فدا مثلهم، و قد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس و قاموا فصلّوا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم فصلّوا إلى المشرق، فكلّم السيد و العاقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أسلما. قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدا، و عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير، قالا: إن لم يكن عيسى ولدا للّه فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي صلّى اللّه عليه و آله: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و هو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، و أن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربّنا قيم على كلّ شيء يحفظه و يرزقه؟ قالوا:

بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، و ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم

ص: 27

غذى كما يغذى الصبي ثم كان يطعم و يشرب و يحدث؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها».

أقول: ما ورد في الرواية مطابق للأدلّة العقلية أيضا، و ليس فيها جهة من جهات التعبّد و يمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدّمة لدفع احتجاجاتهم، لا أن تكون بنفسها احتجاجا عليهم.

في العلل: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «سمّي القرآن فرقانا لأنه متفرّق الآيات، و السور نزلت في غير الألواح و غير الصحف، و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الورق».

أقول: أما التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت جملة واحدة، فيمكن ان يستشهد بقوله تعالى: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 154].

فيستفاد منه أن التوراة كانت مكتوبة بالخط الأزلي في الألواح، و أما أن الألواح من أي شيء كانت، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة. و يشهد لما قلنا قوله تعالى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [سورة الأعلى، الآية: 19].

و أما أن الإنجيل نزل جملة واحدة، فلقوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و غيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنه كان مكتوبا و أتاه اللّه إلى عيسى عليه السّلام.

و أما الزبور، فيشهد قوله تعالى: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [سورة النساء، الآية: 163]، فإن المنساق منه أيضا النزول الجمعي.

ثم إن القرآن و الفرقان من الأمور الإضافية النسبية، فيصحّ نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصحّ انتساب الجمع إليه، كالجمع بين الدفتين، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، أو الجمع في اللوح المحفوظ، أو الجمع في علم اللّه تعالى، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم.

ص: 28

كما أن الفرقان يصحّ بانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلا و شرعا من التفريق بين المحكم و المتشابه، و التفريق بين اصول المعارف و الأحكام، و التفريق بين الآيات الدالّة على التكوين و الآيات الدالّة على القصص و الحكايات، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذكر المصداق، كما مرّ.

و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام قال: «إن اللّه إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق في صلب آدم عليه السّلام أو ما يبدو له فيه، و يجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع و أوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي و قضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء، و يشقّان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى، ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء في ما تكتبان، فيقولان: يا ربّ ما نكتب؟ فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه شقيا أو سعيدا و جميع شأنه، قال: فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما في بطن امه، قال: فربما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلا في كلّ عات أو مارد، و إذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى اللّه إلى الرحم: أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي و ينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فيفتح الرحم باب الولد فيبعث اللّه إليه ملكا يقال له زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فتصير رجلاه

ص: 29

فوق رأسه و رأسه في أسفل البطن ليسهّل اللّه على المرأة و على الولد الخروج، قال:

فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة».

أقول: هذا الحديث يبيّن جملة من أسرار التكوين ببيان واضح، و الأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية و أسرار تكوينيّة حقيقيّة لا تنافي الأسباب الطبيعيّة المعروفة، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جليّة واضحة و أسباب خفية معنوية، لا يحيط بها إلا اللّه تعالى، و هما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد، و كلّ واحد منهما يكون من المقتضى لتحصيل المعلول، أو يكون كلّ واحد منهما علّة تامّة مترتّبة كلّ سابقة علّة للاحقتها، فيصير كلّ واحد علّة تامّة من جهة و مقتضيا من جهة اخرى، كما هو شأن العلل و المعلولات المترتّبة في حصول النتيجة القصوى.

و أما

قوله عليه السّلام: «النطفة التي ممّا أخذ عليها الميثاق»، فهو مطابق للقانون العقلي، و هو انبعاث المعلول عن علّته، و لا ريب في أن جميع الموجودات خصوصا النطفة التي يريد أن يجعلها سويا أتم خلق اللّه و أهمّه، و ارتباطه تكوينا مع اللّه ثابت، و يصحّ أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق، فهو ميثاق تكويني من جهة، و اختياري من جهة اخرى، يسمّى في الأخبار بعالم الذر و الميثاق، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172]، و يصحّ أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضا، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

و أما

قوله عليه السّلام: «أو ما يبدو له» من البدء الذي دلّت عليه نصوص كثيرة، و يظهر من الرواية أن البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضا، فالميثاق قضاء حتمي و ما يبدو له غير حتمي متوقّف على البدء.

و أما

قوله عليه السّلام: «فتصل النطفة إلى الرحم» هذا من الأسباب الطبيعيّة، و قد

ص: 30

تقدّم آنفا أنه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنوية أيضا.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة»، قد ورد في ذلك كمية و كيفية نصوص كثيرة، و قد كشف العلم الحديث كثيرا منها، و فرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم يبعث اللّه ملكين خلاّقين»، يصحّ أن يعبّر عن القوة الخلاّقة بالملك، لأن الطبيعة بأجزائها و جزئياتها كلّها من جنود اللّه تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة»، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس، توضيحا للأفهام و تشريفا للملك، فإنه مختصّ بأعالي البدن،

و في الحديث: «نظفوا المأزقتين فإنهما محل الرقيب و العتيد»، و الملك إن كان جسما لطيفا فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم، فاقتحامه في البطن و العروق معلوم، و يعبّر عن ذلك في الفلسفة ب (الروح البخاري)، و إن كان مجرّدا فهو أوضح من أن يخفى، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس، و كما أن أعالي البدن موكولة بالملك فأسافلها موكولة بافعال الشيطان، كما يظهر من روايات كثيرة.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء»، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادة الروح، و هي ماء الرجل و ماء المرأة معا، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلّق الحياة به، و التعبير ب «القديمة» لفرض التقدّم الزماني على نفخ الروح الحياتي، فالمراد به القدم الإضافي، لا القدم الحقيقي.

و أما

قوله عليه السّلام: «فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشقّان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى»، يصحّ انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعيّة المسخّرة تحت أمر اللّه تبارك و تعالى، فإن شئت فسمّها ملكا، و إن شئت فسمّها قوى طبيعية مسخّرة تحت إرادة اللّه عزّ و جلّ، و يصحّ التعبير في جميع ذلك ب (الحركة الجوهرية)، التي هي تحت إرادته عزّ و جلّ، لأن إرادته الأزلية

ص: 31

تعلّقت بالاستكمال و الترقّي و التعالي.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان»، يظهر من جملة من الروايات أن المكتوب عليه هو الجبين. و أما اشتراط البداء فيدلّ عليه نصوص كثيرة، الدالّة على ثبوته في جملة من موارد القضاء و القدر، و سنتعرّض لتفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيقولان: ما نكتب؟ فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه»، لأن محل مجمع الحواس هو الجبهة، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن، و التخصيص بالأم لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة، و لكثرة علاقة الام بالحمل، و لذا يكون جبينها حاملا للمواثيق.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه سعيدا أو شقيا و جميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان»، و لعلّ اشتراط البداء من أجل أن الحوادث اللاحقة على الإنسان و ما يجري عليه في المستقبل، تكون لأجل مقتضيات خاصة لا بد من تبدّلها و تغيّرها، فلا بد من اشتراط البداء حينئذ، حفظا لنظام الأسباب و المسبّبات، و ممّا ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث.

القمّي في قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، قال عليه السّلام: «يعني ذكرا أو أنثى و أسود و أبيض و أحمر و صحيحا و سقيما».

أقول: ما ذكره عليه السّلام من باب الغالب و المثال و إلا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات و المقتضيات غير معلومة إلا له تبارك و تعالى، و لذا قال تعالى:

كَيْفَ يَشاءُ معلّق على مشيئته غير المحدودة، و يشهد لذلك أنه عليه السّلام لم يذكر الجمال - مثلا - مع أنه من أهم و أتمّ جهات صور الإنسان.

ص: 32

بحث فلسفي:

عن جمع من الفلاسفة أنهم حدّدوا الفيض النازل من الحي القيوم إلى الممكنات بحدّ خاص مترتب طولا، فلا يستفيض كلّ لا حق إلا بواسطة السابق عليه، و جعلوا أوّل هذه السلسلة ما أصطلحوا عليه ب «القاهر الأعلى»، و آخرها ما أسمّوه ب «الهيولى الاولى»، و فصّلوا القول في ذلك بالنسبة إلى خلق الممكنات من علوياتها و سفلياتها، و هو تصور حسن في نفسه، و لكنه تحديد لقدرة اللّه تبارك و تعالى و إرادته الكاملة، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم، و هو أعمّ من الواقع بلا إشكال، لأن الواقع ذاتا و صفة و فعلا و من كلّ حيثية وجهة غير محدود، فكما أن ذاته الأقدس أجل من أن يحيط به العقول، فكذا صفاته العليا و فعله و سائر ما هو من ناحيته جلّت عظمته، فلا يمكن تحديد قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بشيء أبدا.

نعم إن أرادوا به السنّة الإلهية من أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فهو صحيح، و لكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل، و للبحث بقية نتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى.

بحث عرفاني:

لا ريب في أن الإنسان أشرف الممكنات، لأنه الفصل الأخير لجميعها في المسير الاستكمالي، فيكون الكلّ متوجّها إليه بالتكوين، توجّه المقدّمات بالنتيجة.

و فيه اجتمعت العلل الأربع، أما العلّة الفاعلية، فقد قال اللّه تعالى بعد ذكر الأدوار و عوالم خلق الإنسان: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14].

و أما العلّة المادية، فقد أخبر سبحانه و تعالى أنه المباشر للخلق و التربية:

ص: 33

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سورة ص، الآية: 71]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 2].

و أما العلّة الصورية قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، و قال تبارك و تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ [سورة الحشر، الآية: 24].

و أما الغائية فقد قال اللّه تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة، الآية: 29].

فجميع الموجودات يحبّ الإنسان محبّة تكوينية، فالكلّ مسخّر له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20]، كما ان الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيه، فتكون المحبّة و العشق من الطرفين (أي تعاشقا)، فالموجودات كالشجرة بالنسبة للإنسان و هو كالثمرة، فخلقت الدنيا له و لأجله.

فلا بد للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات و رموزها و استخراج الحقائق منها، و ذلك لا يكون إلا بالارتباط التامّ مع الربّ المطلق و القيوم بالحقّ، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 96]، فهو أشدّ أنحاء العلم و أمتنه و أقواه، كما أثبته الفلاسفة - من قديمهم و حديثهم - و جميع أهل العرفان.

و لكن الإنسان قصّر في ذلك، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يمكنه التخلّص عن بعضها فكيف عن جميعها، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 28]، و ليس المراد بهذا المشي في طريق خاص أو علم مخصوص، بل المشي في جميع أبواب العلوم و المعارف، مشيا مطابقا للواقع يصل إلى النتيجة الحقّة، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية: 19].

ص: 34

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّ.......

اشارة

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (7) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات المتقدّمة نزول الكتاب على النبيّ الهادي الأمين، بيّن في هذه الآية الشريفة بعض أوصاف الكتاب، بأنه يشتمل على اصول المعارف واضحة و مفهومة، هي ام الكتاب، و اخرى يصعب درك المراد منها، فتختصّ معرفتها به جلّت عظمته و بالأنبياء و الأولياء الأمناء على الوحي المرتبطين به عزّ و جلّ فيعول في درك حقائقها عليهم، فإن معرفة تلك الأصول و الآيات تفوق العقل البشري، فلا يعلم حقائقها إلا اللّه العالم المحيط بما سواه، أو الذين أفاض عليهم أنوار علومه، و كرّمهم بمعرفة أسرار كتابه و رموزه و الإحاطة بتأويله، فهم يشرحون لمن دونهم الواقع المطلوب و ما استفادوه من الغيب المحجوب. و هذا من إحدى جهات جامعيّة هذا الكتاب المبين، و كمال نظمه في تقنين القوانين.

و لكن الذين في قلوبهم انحراف و ضلال عن سواء الفطرة، و يميلون عن الحقّ، يتركون الأصول الواضحة و المعارف الحقّة التي تطابقت مع فطرة العقول، و يتحرّون وراء المتشابه، طلبا لإيقاع الفتنة بين الناس و إضلالهم و تلبيس الواقع عليهم.

على خلاف الذين بلغوا من علمهم ما يعرفون به الحقائق، و اعترفوا بالحقّ الواقع بأن جميع الكتاب و كلّه للّه تعالى، فأرشدوا الناس إلى الهداية و السعادة.

و ختم سبحانه و تعالى الآية المباركة بمدحهم مدحا بليغا لا حد له، فوصفهم بأنهم من أولى الألباب.

ص: 35

التفسير

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ .

تقدّم الفرق بين الإنزال و التنزيل بالنسبة إلى جميع الآيات المباركة بوجه كلّي، و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنزال لأن المقصود الأهمّ في المقام هو بيان تبعيض الآيات الشريفة، بأن بعضها محكمات و الاخرى متشابهات.

و مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان و الإصلاح و الحتم و المنع عن الخبط و الفساد، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى - حكاية عن نوح -: إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ [سورة هود، الآية: 45]،

و في الحديث: «ان الجنّة للمحكمين»، أي الذين حتم عليهم القتل بعد ما خيّروا بين الشرك و القتل فاختاروه على الشرك.

و الإحكام في الكتاب تستعمل في موردين:

الأول: بالنسبة إلى جميع هذا الكتاب العظيم، المشتمل على الأسلوب المحكم المتقن و الصادر من المصدر الأزلي الحكيم، و هذا وصف لجميع آيات القرآن حتّى المتشابهات منه، لأنها منه عزّ و جلّ، و هي محكمة من تمام الجهات، من حيث الصدور، و من حيث الأسلوب، و من حيث الإعجاز، و من حيث الهداية، فهي محكمة بجميع ما مرّ من معاني الإحكام، قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود، الآية: 1].

الثاني: في مقابل المتشابه، فتصير الآيات الشريفة حينئذ على قسمين، محكمة و متشابهة، و المراد من المحكمات في هذه الآية الشريفة معلومة الدلالة و مفهومة المراد، أي: مصونة عن طرو التردد و الاحتمال عند الأذهان المستقيمة.

قوله تعالى: هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .

مادة (ا م م) تأتي بمعنى الأصل، قال تعالى:

ص: 36

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة الشورى، الآية: 7]، و سمّي اللوح المحفوظ ب (ام الكتاب)، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 4]، و أم النجوم المجرّة، و سمّيت المحكمات ام الكتاب لأنها اصول المعارف الإلهية، و القوانين الخلقية، و تنظيم الأنظمة الدنيوية و الاخروية، فإذا كانت المحكمات اصول القرآن فهي اصول جميع الكتب السماويّة، لأن جميع الكتب السماويّة شوارق من أشعة القرآن، استشرقت بها قلوب الأنبياء السابقين، حتى تجلّت بتمامها في قلب سيد المرسلين، فشرقت شوارق قلبه المقدّس بعد الاتصال بالذات الأقدس بجوامع الكلم التي هي في نفسها مدار الفقه و الفلسفة و البرهان لأهل اليقين و العرفان، لاتصال النور بالنور، فيشع في مراتب البروز و الظهور.

و التشابه من الشبه، و هو من المفاهيم العامة الاستعمال في المحاورات الدائرة بين الناس، فيستعمل في مطلق مشابهة شيء بشيء آخر كيفا أو كما أو في جهة اخرى، و ربما يكون ظهور اللفظ في معنى عرفي يوجب التشابه و الالتباس في مورد الاستعمال، كقوله تعالى: يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5]، كما أن المجمل كذلك أيضا.

و قد يتّصف جميع الكتاب بالتشابه أيضا، كما في قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر، الآية: 23]، لتشابه جميع آياته في الفصاحة و البلاغة و بديع الأسلوب و كمال الجمال، و أنها صادرة عن مبدئ حكيم قدير، لا يمكن أن يحيط بحكمته و صنعه ادراك الممكنات.

و هو غير التشابه الذي ورد في هذه الآية الشريفة كما في المحكمات، و المعنى أن الآيات المحكمات التي هي ام الكتاب هي الأصل الذي لا بد أن يرجع إليه عند قصور العقول عن درك معاني غيرها.

ص: 37

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ .

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة إلى خلافها، و هي مستعملة بهيئات كثيرة في القرآن، لعلّ أشدّها على النفس قوله تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: 5].

و زيغ القلوب ميلها عن الحقّ، و له مراتب كثيرة فعلا و قولا و اعتقادا، بل و خطرة في القلب، و الكلّ مضبوط لدى العليم الخبير بالدقائق و الشاهد للحقائق.

و الآية الشريفة تعبّر عن أحوال الناس في تلقيهم الآيات الشريفة بمحكماتها و متشابهاتها، فإن منهم مائلا عن الحقّ، يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و الضلال، كما عبّر جل شأنه ب: اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ .

قوله تعالى: اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ .

مادة (ب غ ي) وردت بمعنى طلب تجاوز الاقتصاد كما أو كيفا، تجاوزه أو لم يتجاوزه.

و البغي على قسمين: محمود و مذموم، و الأوّل مثل قوله تعالى: وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً [سورة الإسراء، الآية: 28]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه يحبّ بغاة العلم»، و كذا تجاوز العدل إلى الإحسان. و الثاني كتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الشبه، و التمييز بينهما بالقرائن، فإن كان الطلب لشيء محمود، فالابتغاء فيه يكون كذلك، و إذا كان الطلب مذموما، فالابتغاء مذموما أيضا، و لكن أكثر موارد استعماله يكون في الذم.

و هيئة الافتعال تدلّ على كثرة الاهتمام بذلك، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد، الآية: 22].

و الفتنة: الاختبار، من قولهم فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته للتمييز بين جيده و رديئه، و لها مراتب كثيرة، قال تعالى: وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً [سورة طه، الآية: 40]، و تستعمل في النار و في العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى، و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، قال تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات، الآية: 14]، أي عذابكم، و قوله تعالى: أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا [سورة التوبة، الآية: 49]، و التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، أو البيان، و له مراتب كثيرة، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف، الآية: 53]، و لكن البيان..

ص: 38

و الفتنة: الاختبار، من قولهم فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته للتمييز بين جيده و رديئه، و لها مراتب كثيرة، قال تعالى: وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً [سورة طه، الآية: 40]، و تستعمل في النار و في العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى، و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، قال تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات، الآية: 14]، أي عذابكم، و قوله تعالى: أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا [سورة التوبة، الآية: 49]، و التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، أو البيان، و له مراتب كثيرة، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف، الآية: 53]، و لكن البيان..

تارة: يكون واقعيا و عن حجّة معتبرة، و هو ممدوح.

و اخرى: يكون اعتقاديا و بلا حجّة معتبرة، و هو مذموم.

و المعنى: أن الذين في قلوبهم زيغ يميلون عن المحكمات إلى المتشابهات، لأجل ابتغاء الفتنة، أو ابتغاء تفسير الآية و بيانها حسب آرائهم و معتقداتهم.

و سياق الآية الشريفة أنها في مقام ذمّ الصنفين، فلا بد و أن يكون ابتغاء الأمرين بالاختيار و التعمّد حتّى يتعلّق به الذم، و كذا إذا كانا منتسبين إلى قصور الإدراك و ترتّب على ذلك الفتنة و التأويل بلا اختيار و عمد لهما، كبعض من فسّر الآيات المتشابهة من القرآن و بيّنها برأيه الخاص، مغرورا بنفسه، فيصحّ توجيه الذم إليه لتقصيره في السبب.

قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا .

الرسوخ: الثبوت و الاستقرار و التحقّق، و له مراتب كثيرة كمراتب أصل الإيمان به جلّت عظمته، و لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين، أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية:

162].

و المعروف بين المفسّرين و جمع من الأدباء أن جملة: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ مستأنفة، و أن الجملة الاولى مبتدأ و الثانية خبر، فيكون المعنى:

أن الراسخين في العلم يقولون: آمنا باللّه عزّ و جلّ و أن الآيات كلّها من عند اللّه

ص: 39

تعالى، في مقابل من كان في قلبه زيغ فيتّبع ما تشابه منها.

و يرد عليه: أن قول: كلّ من عند ربنا، قول عامّة المسلمين، فإنهم يعتقدون بأن القرآن كلّه من عند اللّه تعالى، بلا فرق بين عالمهم و جاهلهم و أهل البادية و السوق منهم، و سياق الآية الشريفة سياق المدح و الثناء، فيختصّ بقوم خاص، و لا يعمّ كلّ من قرأ القرآن و لا يلتفت إلى مداليل الآيات المباركة و معانيها، فهذا الوجه مخدوش.

إلا أن يراد من الراسخين في العلم المعنى السلبي، أي: من ليس في قلبه زيغ و لم يمل من الحقّ إلى الباطل، فيشمل عامّة المسلمين أيضا، و لا يختصّ بصنف خاص. فيصير معنى الآية المباركة: من كان بصدد الإضلال و الإلحاد يتبع المتشابه، و من لا يكون كذلك يقول: كلّ من عند اللّه.

و هو بعيد عن سياق الآية الشريفة أيضا.

و المنساق من الآية الشريفة أن الجملة معطوفة على اللّه، أي: لا يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم. و الراسخ في العلم منحصر بسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و من استفاد منه هذا العلم، حيث

قال فيه: «اللهم علّمه التأويل»،

و عن علي عليه السّلام:

«علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب»، فالجملة ليست مستأنفة بل معطوفة على المستثنى، و يكون من قبيل عطف البعض على الكلّ مثلا، لأن هذا العلم بالنسبة إلى اللّه تعالى أولا و بالذات، و بالنسبة إلى سيد الأنبياء ثانيا و بالعرض، فيكون كنسبة علم المتعلّم إلى المعلم، و هذا الوجه هو الظاهر من الآية المباركة، و تدلّ عليه روايات كثيرة، كما يأتي. و إنما أتى بلفظ الجمع تعظيما و إجلالا، و ليشمل المصطفى سيد المرسلين و المتّقين، الذي هو في قمة مقام اليقين بالنسبة إلى المعارف الربوبية، و لا فرق بين علمه صلّى اللّه عليه و آله بالتأويل و علمه تعالى به إلا بالاعتبار، لفرض أن علمه بالتأويل من علم اللّه تعالى، فالفرق بينهما بالمظهر (بالضم) و المظهرية (بالفتح) في مقام التنزيل و التأويل، و لذا صار صلّى اللّه عليه و آله خاتما لمن سبق و فاتحا للعلوم و المعارف لمن لحق، و هذا في الممكنات يختصّ به، فهو الراسخ

ص: 40

في علمي التنزيل و التأويل بحقيقة معنى الرسوخ علما و عملا.

على أن الآية الكريمة ليست بعديمة النظير، فإذا ألقى ملك عظيم خطابا على رعيّته، و كان الخطاب مشتملا على محكم و متشابه و تأويل، يكون أخصّ وزراء ذلك الملك أعرف بمتشابهاته و تأويلاته من غيره، فكيف بمقام الرسالة الأحمدية التي هي أتم مرآة للمعارف الربوبية؟! مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع بعد ما عرفت من أن للتأويل و الغيب مراتب متفاوتة، فبعضها يختصّ به سبحانه و تعالى، و بعضها مستلهم منه تبارك و تعالى، و محمد صلّى اللّه عليه و آله هو قائد هذا العلم و من تعلّم منه، فلا نزاع في البين على هذا، سواء كانت الجملة مستأنفة أو معطوفة.

نعم، يتصوّر النزاع الصغروي في بعض مصاديق الراسخين، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

و ما عن بعض من أن الجملة مستأنفة، و أن التأويل منحصر به عزّ و جلّ، لأن أدب القرآن الكريم في نظام المقام جرى على أن يذكر النبيّ الأعظم أولا مستقلا بعنوان الرسالة و نحوه، ثم يعطف عليه البقية، قال تعالى: لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ [سورة التوبة، الآية: 88]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة التوبة، الآية: 26]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

غير صحيح، أولا: بأنه تعالى ذكر رسوله في بدء الكلام، بقوله جلّ شأنه:

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ .

و ثانيها: أنما هو على فرض كلّيته يكون فيما إذا كان مع الرسول غيره يجمعهما شيء واحد، كما في الآيات المباركة المتقدّمة، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 68]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة التوبة، الآية: 26]، و أما إذا كان الموضوع منحصرا به صلّى اللّه عليه و آله،

ص: 41

و كانت البقية منبعثة منه انبعاث الأشعة من الشمس، فلا تعدّد و لا اشتراك حينئذ، فلا حاجة لذكره صلّى اللّه عليه و آله بالخصوص بعد فرض الحصر فيه.

و دعوى: أن العلم بالتأويل منحصر به جلّ شأنه، و لا يتعدّى عنه، لأنه من علم الغيب الذي اختصّ به، فينحصر التأويل به تعالى و لا يعمّ غيره.

مخدوشة: بأن العلم بالغيب مختصّ به تعالى بالذات بلا إشكال، عقلا و نقلا، و لكن أنبياءه و أولياءه يستلهمون بعض ذلك منه و يظهرونه للناس، إثباتا لمقامهم و احتجاجا على الخلق، فليكن المقام كذلك.

و قولهم: آمنا به كلّ من عند ربنا، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، لأن علمهم بأن جميع الآيات الشريفة من المحكم و المتشابه من عنده تعالى يوجب الإيمان بالكلّ، فلا متشابه عندهم في الواقع، لأنهم بما علّمهم اللّه تعالى من علم التأويل يردّون المتشابه إلى المحكم، فهما بمنزلة قرينة اللفظ، و ذي القرينة عندهم بخلاف غيرهم، فيتحقّق عندهم المتشابه و يأخذون به ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل.

و المعنى: و ما يعلم تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، الذين كرّمهم اللّه تعالى بهذه الرتبة بتعليمه لهم، و مع العلم بتأويله يقولون: آمنا بالكتاب كلّ من المحكم و المتشابه و التنزيل و التأويل من عند ربنا.

قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

اللب: العقل الخالص عن كلّ الشوائب، و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالتذكّر، لأن التذكّر و التفكّر في المعارف الربوبية من شؤون العقل الخالص، فإن أولي الألباب يتفكّرون في المعارف الإلهية، فينتقلون من المعلول إلى العلّة أو بالعكس.

و الآية المباركة تبيّن شرف الخطاب و المخاطب، إذ نفس هذا الخطاب خطاب تشريفي، فلا بد و أن يكون المخاطب من له الإضافة التشريفية، و ليس ذلك إلا من كان من أولي الألباب، و قد مدحهم سبحانه و تعالى في جملة كثيرة من الآيات المباركة، و لعلّ أهمها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ * اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: 190].

ص: 42

بحوث المقام

بحث أدبي:

تقدّم أن سياق الآية الشريفة يدلّ على أن جملة: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ عطف على لفظ الجلالة، فتكون جملة: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ في موضع الحال و محلّه النصب لذلك، أي: مع كونهم راسخين في العلم قائلين: آمنا به كلّ من عند ربنا، و استشهدوا لذلك بقول الشاعر:

الريح تبكي شجوة *** و البرق يلمع في غمامة

أي: أن البرق يبكي أيضا لا معا في غمامة، فان هذا المقال صفة عامة لكل مسلم، سواء كان راسخا في العلم أم من كان في قلبه مرض، فهذه الآية تبيّن صفتين للراسخين في العلم..

أحدهما: جهة رسوخهم في العلم.

ثانيهما: جهة إيمانهم و تسليمهم للكتاب من كلّ جهة، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم يقولون: إن المتشابه و المحكم من عند ربنا، لكنهم يتّبعون المتشابه و لا يردّونه إلى المحكم، لأغراضهم الفاسدة.

و قوله تعالى: و ما يذكر إلا اولوا الألباب. أصل يذكر يتذكّر، و فيه الأبدال، فإن أهل اللغة ذكروا قاعدة و هي: ان تاء الافتعال لو وقعت بعد دال أو ذال أو زاي انقلبت دالا، نحو: أدان، و اذدكر و ازدان. و يجوز في نحو اذدكر قلب الذال دالا أو الدال ذالا، فتقول: ادكر و اذكر.

بحث دلالي:

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الأوّل: استعمال لفظ (الام) مضافا في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء كثير

ص: 43

جدا، مثل قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى [سورة الشورى، الآية: 7]، بل لا يستعمل هذا اللفظ إلا مضافا إلى الظاهر أو المضمر، و هذه الإضافة لا ريب في أنها تفيد الاختصاص، و أنها..

تارة: تكون من قبيل اختصاص المادة للصور المتعددة.

و اخرى: من الاختصاص الخارجي.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى: هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ للدلالة على أن مجموع المحكمات من الآيات المباركة بمنزلة المادة لجميع الآيات الشريفة، فلا بد من رجوعها إليها، فتكون الإضافة من قبيل الأول بمعنى: أن المحكمات بمنزلة المادة للآيات الشريفة، فلا بد من رجوع جميعها إليها، و إلا يكون من قبيل الصورة بلا مادة، و هو غير ممكن.

الثاني: إنما قدّم سبحانه و تعالى (الفتنة) على (التأويل)، لأنها أهمّ و أعمّ بالنسبة إليه، لكون الفتنة أكثر وقوعا، و أقوى في الإغواء و الإضلال من التأويل، لأنه إخبار عن معتقد الشخص قد يمكن أن لا يعتني المخاطب بمعتقده، بخلاف الفتنة، فتكون أشدّ و أغوى في الإضلال عن التأويل.

الثالث: سياق الآية المباركة يدلّ على الذم إن جزم بالمتشابه من دون ارجاعه إلى المحكم و ترتب الأثر عليه، فيدخل في ذلك جميع الآراء الفاسدة و المذاهب الباطلة التي يتمسّك بها ببعض الآيات المتشابهة لإثبات ما يدّعونه.

و أما مجرّد الاحتمال فقط من غير قصد ترتّب الأثر عليه، لا يكون من اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة، نعم لو حرّر ذلك و دوّن و علم أنه يتبع احتماله غيره و يترتب عليه الأثر، يدخل تحت الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ المعنى السلبي، أي عدم الحجاب لديهم عن درك الحقائق القرآنية، و المعنى الايجابي، أي معاينة الواقع و الحقيقة، فهما متلازمان.

و للرسوخ في العلم مراتب متفاوتة يمكن جمعها في ثلاثة: علم اللّه جلّ

ص: 44

جلاله، و علم رسوله الأمين صلّى اللّه عليه و آله، و علم من علّمه رسول اللّه، و ستأتي بقية الكلام في الآيات الآتية إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: إنما كرّر سبحانه و تعالى: (الابتغاء) في الآية الشريفة مع قرب متعلّقهما، دفعا لتوهّم رجوع التأويل إلى الفتنة.

السادس: إنما أطلق سبحانه و تعالى الفتنة ليشمل كلّ فتنة تقع في الخارج مستندة إلى التمسّك بالآيات المتشابهة، سواء كانت دنيوية أم اخروية، نوعية كانت - كالفتن التي تهدف الاجتماع و تفسده - أم شخصية، و سواء كانت في العقيدة، كالبدع، أم في غيرها، دائمية كانت أو محدودة.

السابع: اتباع المتشابه لغرض ابتغاء الفتنة - كما تقدّم - من باب الحكمة، لا من باب العلّة، و قد تترتّب على ابتغاء المتشابه أغراض فاسدة اخرى.

الثامن: ابتغاء الفتنة قد يكون عن اختيار و التفات، و قد يكون مترتبا على إشاعة المتشابه، ترتب الأثر على المؤثّر، أي الابتغاء يكون بلا اختيار و لا التفات، و إن كان الاتباع اختياريا، و إطلاق الآية المباركة يشمل كلا القسمين.

التاسع: إنما ختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بالثناء على الراسخين بقوله جلّت عظمته: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ ، للدلالة على أن ذوي العقول الكاملة يتلقّون ممّا وهبهم اللّه تعالى من علم التأويل في ردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات، و لكن القشريين يتّبعون المتشابه.

بحث روائي:
اشارة

في الكافي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «إن أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أن اللّه تبارك و تعالى يقول: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ ، فالمنسوخات من المتشابهات، و المحكمات من الناسخات».

ص: 45

أقول: هذه الرواية محمولة على ذكر بعض المصاديق، لا الحصر الحقيقي.

في تفسير العياشي: «سئل الصادق عليه السّلام عن المحكم و المتشابه؟ قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: المراد بالجاهل من لم يكن راسخا في العلم، و إلا فمن كان كذلك مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا وجه للتشابه و التأويل بالنسبة إليه، و سيأتي في البحث العلمي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي - أيضا -: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان القرآن محكم و متشابه، فأما المحكم فتؤمن به، و تعمل به، و تدين به، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، و الراسخون في العلم هم آل محمد».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما تقدّم في التفسير من أن الجملة عطف على اسم الجلالة، و أن الذين في قلوبهم زيغ يعتقدون بأن جميع الآيات بأصنافها من عند اللّه تعالى، و لكنهم يتّبعون المتشابه لابتغاء الفتنة و يعملون به.

و

قوله عليه السّلام: «و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به»، فهو مطابق لفطرة العقول، إذ المجمل لا اعتبار به لديهم، فلا بد من ردّه إلى المحكم و المفصّل.

و أما

قوله عليه السّلام: «و الراسخون في العلم هم آل محمد»، فقد تقدّم أنهم علموا ذلك بالوراثة عن خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و يأتي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي: عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه؟ قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: تقدّم في الرواية الاولى عن الصادق عليه السّلام ما يتعلّق بهذه الرواية.

و في رواية اخرى: «الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا».

ص: 46

أقول: المراد من الثابت، أي: الحجّية في العمل به، كما أن المراد من ما مضى، أي مضى أمده و انتفت حجّيته، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بالمقام.

و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «المنسوخات من المتشابهات».

أقول: تقدّم أنه من باب ذكر أحد المصاديق، فلا بد و أن يحمل على قبل العلم بالناسخ، و إلا فيزول التشابه لا محالة.

في الكافي: عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله».

أقول: لأن علمهم من علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ورثوا ذلك منه بالوراثة العلمية و النسبية.

في الكافي: عن بريد بن معاوية، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه اللّه عزّ و جلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، و الذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، و القرآن خاص، و عام، و محكم، و متشابه، و ناسخ، و منسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: هذا بيان لأصل الراسخ في العلم، و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما يتفرّع منه، و هم أوصياؤه العظام، كما مرّ في التفسير، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بذيل الرواية.

في الكافي: عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فرض اللّه عزّ و جلّ طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم».

أقول: المراد من الطاعة هنا اتّباع أقوالهم و أفعالهم، لأن قولهم و فعلهم عليهم السّلام حاكيان عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فعله، و كلّ من قال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا يجب إطاعته، لأن قوله يكون قول النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ.

ص: 47

عن علي عليه السّلام في حديث له مع معاوية: «القرآن حق و نور و هدى و رحمة و شفاء للمؤمنين الذين آمنوا، و الذين لا يؤمنون في آذانهم و قر و هو عليهم عمى، يا معاوية إن اللّه عزّ و جلّ لم يدع صنفا من أصناف الضلالة و الدعاة إلى النار إلا و قد ردّ عليهم و احتجّ في القرآن، و نهى عن اتباعهم و أنزل فيهم قرآنا ناطقا عليهم، علمه من علمه و جهله من جهله، و إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ليس من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و لا منه حرف إلا و له حدّ مطلع على ظهر القرآن و تأويله و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا: آمنا به كلّ من عند ربنا، و أن يسلموا لنا و أن يردّوا علمه إلينا، و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و يطلبونه».

أقول: الروايات في أن للقرآن ظهرا و بطنا كثيرة، و في بعضها سبعة أبطن، و ذلك كلّه محمول على مراتب التأويل، التي يعلمها من علم تأويل القرآن، كما سيأتي.

و أما

قوله عليه السّلام: «و له حدّ مطلع على ظهر القرآن»، المراد من هذا المطلع ما يفهمه العالم بالتأويل، و علمه مختصّ بالراسخ في العلم، و الرسوخ في العلم لا يحصل بكثرة الممارسة، بل نور يستوهب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما مرّ.

و أما

قوله عليه السّلام: «و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا»، قد أثبتنا في التفسير أن ذلك لا ينافي كونهم راسخين في العلم، و مع ذلك يؤمنون بأن الكلّ منزل من عند اللّه تبارك و تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «ان يردوا علمه إلينا و قال اللّه عزّ و جلّ: و لو ردوه إلى الرسول و إلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يظهر من سياق هذه الرواية و ذكر هذه الآية الشريفة في ذيلها أن الاستنباط من القرآن لا بد و أن يكون للراسخ في العلم فيه، و هو كذلك لما تقدّم غير مرة من أن القرآن الكريم لا يشرحه إلا السنّة، فهو كالمتن لها، لا يفهم المراد من المتن إلا بالرجوع إلى السنّة المقدّسة.

ص: 48

في تفسير العياشي: عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه التأويل، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك، إن أبا الخطاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنكم تعلمون علم الحرام و الحلال و القرآن، قال: إن علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث في الليل و النهار».

أقول: أما ان اللّه تبارك و تعالى علّم رسوله جميع ما أنزل، فهو حق واقع، إذ لا معنى للوحي و التشريع بالنسبة إلى خاتم الأنبياء إلا ذلك، و أما كون علم الحلال و الحرام يسير في جنب علم ما يحدث في الليل و النهار، لأنه من الأمور الغيبيّة و أسرار القضاء و القدر التي تحيّرت العقول في أصل دركها، فضلا عن الإحاطة بها، و يمكن أن يستظهر من هذه الرواية أن ذلك أيضا من متفرّعات الرسوخ في العلم، فكما أن أصل الرسوخ في العلم، بجميع مراتبه مختصّ به تعالى، فكذلك أسرار ما يحدث بالليل و النهار.

نعم استلهم أولياؤه بعض مراتبه.

عن مسعدة بن صدقة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام: «ان رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل تصف ربّنا نزداد له حبا و به معرفة؟ فغضب عليه السّلام و خطب الناس فقال - فيما قال -: عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته، و تقدّمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به و استضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه و لا في سنّة الرسول و أئمة الهدى اثره، فكل علمه إلى اللّه سبحانه، و لا تقدر عظمة اللّه، و اعلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كلّ من عند ربنا، و قد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم

ص: 49

يكلّفهم البحث عن كنهه منهم رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

أقول: أما غضبه عليه السّلام بالنسبة إلى هذا الشخص فلأنه أراد توصيف اللّه تعالى بما هو خارج عن ظاهر الكتاب المبين و السنّة المقدّسة الشريفة، و يشهد لذلك

قوله عليه السّلام: «عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته و تقدّمك فيه الرسول»، ثم ذمّه عليه السّلام للتعمق في ما وراء ذلك، و قد ورد في جملة من الأخبار ذم ذلك أيضا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و ما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه»، فالمراد التوهّمات أو الخيالات الحاصلة في النفس في المعارف، فليس لأحد أن يتبعها، بل لا بد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه و إيكال علم ذلك إلى اللّه تبارك و تعالى، و الا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان و إغوائه و التعمّق المنهي عنه.

و أما

قوله عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب»، فقد ذكر صفات الراسخين في العلم و مدحهم، يعني: أنهم اكتفوا بما استفادوا من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من الرسوخ في العلم، و لم يتعدّوا ما وراء ذلك، لكونه حينئذ من التعمّق المنهي عنه، فمثل هذه الروايات تدلّ على أمرين:

الأول: كونهم راسخين في العلم، و استفادوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني: أنهم لا يقتحمون - في ما وراء ما استفادوا من الرسوخ في العلم - السدد المضروبة دون الغيوب.

في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث ثم قال: «إن اللّه جلّ ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميّزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلا اللّه و أنبياؤه و الراسخون في العلم - الحديث».

ص: 50

أقول: هذا الحديث مطابق لما تقدّم من أن المتشابه و المحكم و غيرهما من مراتب الإدراكات، فلا بد في كلام الحكيم أن يلحظ فيه هذه المراتب.

و عن بريد بن معاوية قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام قول اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، فرسول اللّه أفضل الراسخين قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم اللّه:

يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا و القرآن له خاص، و عام، و ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: المراد من «تأويل القرآن كله» ما اشتمل على المتشابه و التأويل، و إلا فالمحكمات ليس لها تأويل.

عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، نحن نعلمه».

أقول: تقدّم وجه ذلك.

في العيون عن الرضا عليه السّلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم - ثم قال - إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا».

أقول: قد ذكرنا في التفسير أن اشتمال كلمات الأعاظم و الأكابر على المحكم و المتشابه غالبي، بل فطري بالنسبة إلى مراتب العقول، كما يأتي في البحث العلمي.

في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه».

أقول: هذا من باب بيان بعض آثار الراسخين في العلم، لا جميعها.

في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و غيره عن أنس و أبي امامة و وائلة بن اسقف و أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن الراسخين في العلم فقال: «من برّت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عفّ بطنه و فرجه، فذلك من

ص: 51

الراسخين في العلم».

أقول: هذا تفسير باللازم، لأن من لوازم التقوى و المواظبة على أحكامه الاتصاف بما ورد في الرواية، و يصير العالم بذلك راسخا في العلم، و ليس ذلك من باب الحصر الحقيقي، بل لا بد و أن يحمل على الحصر الإضافي.

و عن علي عليه السّلام أنه قيل له: «هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، إلا أن يعطي اللّه عبدا فهما في كتابه».

أقول: يستفاد منه أن فهم القرآن الذي أفاضه اللّه تعالى على عبده من مراتب الوحي و شؤونه، و هو كذلك، لأن جميع ما شرحه علي عليه السّلام في الأصول و المعارف و كذا أولاده المعصومون، خصوصا الباقران و الرضا عليهم السّلام، لا يكون إلا من مراتب الوحي الإلهي، المستفاد من الوحي الكلّي، و هو القرآن الكريم، بل جميع ما أعطاه اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله من جوامع الكلم الذي افتخر به صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء يكون كذلك.

في الكافي: عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أيها الناس، إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه، و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، و ما حل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق؛ له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجلّ جال بصره و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات،

ص: 52

فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص».

أقول: أمثال هذه الرواية تدلّ على عظمة القرآن و رفعة شأنه، الملجأ في الفتن و الشدائد،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما حل مصدق»، أي خصم مجادل مصدق.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة»، أي جعله منهجا في عمله، كما أن المراد من الجعل في الخلف ترك العمل به، و معلوم أن العمل بالقرآن يوجب الفوز بالجنّة، كما أن ترك العمل به يوجب الدخول في النار.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و هو الفصل ليس بالهزل»، أي الفاصل بين الحقّ و الباطل.

و المراد من نفي الهزل نفي أي وجه من البطلان عنه.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و له ظهر و بطن»، المراد من الظاهر ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة، و المراد من الباطن الإشارات و الرموز التي يجمعها القرآن التي تحدث إلى يوم القيامة قرنا بعد قرن، و الظاهر و الباطن موجودان في كلمات الأكابر و العظماء، فكيف بكلمات اللّه تبارك و تعالى التي يتشعع معارف بطونها إلى يوم القيامة.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فظاهره حكم و باطنه علم»، المراد من الحكم التصديق الجازم، و ليس المراد بذلك الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء، بل هو الأعمّ منه، و المراد من العلم هو القضايا الحقيقيّة الكاشفة عن الحقائق التي هي العلوم الواقعيّة، لأنّ كلّ تصديق يكشف عن علم، و العلم تابع لظاهر التصديق.

و المراد من علمية الباطن - مع أن ظاهره علم أيضا - هو العلم الذي اختصّ به أولياؤه المكرمون.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ظاهره أنيق و باطنه عميق»، المراد من الأنيق حسن الأسلوب و الإبداع، و أن الأفئدة تهوى إليه، و أما أن باطنه عميق فلأن العقول قاصرة عن الإحاطة بتأويلاته، و كلّ ما تأمّل فيه يتجدّد لها معنى غير الأول.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «له تخوم و على تخومه تخوم»، التخم (بفتح التاء) حدّ الشيء و علامته، و الجمع التخوم، و المراد به حدّ معاني القرآن و علاماته، و لا ريب في أنها

ص: 53

تتفاوت بحسب مراتب التأويل و معانيها.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة»، يعني: أن القرآن دليل على معرفته تبارك و تعالى لمن عرف أنه كلام نازل عن اللّه سبحانه، و حيث عرف صفة علمه تعالى من أنه غير متناه من جميع الجهات، فتتحقّق لديه المعرفة التامّة و يذعن بتلك الصفات المتقدّمة للقرآن.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فليجل جال بصره»، المراد من جولان البصر التفكّر في القرآن بما رغّب إليه الشرع، بحيث يكون تفكّره موافقا للحدود الشرعية.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و ليبلغ الصفة نظره»، يعني: يتأمّل بالمعنى الذي مرّ آنفا من أنه من اللّه تعالى، فحينئذ فإن بلغ إلى نظره معاني مستحدثة غريبة، طبّقها على الشرع، فإن وافقها يعتمد عليها و إلا يذرها في بقعة الاحتمال.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ينج من عطب»، أي يخلّصه عن تعبه الذي أتعبه في المعقولات، فإن القرآن منتهى جميعها، فلا بد و أن يرجع كلّها إلى كلام اللّه سبحانه و تعالى.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يخلص من نشب»، أي ينجى و يخلّص كلّ من تعلّق بالقرآن عن جميع المهالك و المتاعب.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فان التفكّر حياة قلب البصير»، فهو قاعدة عقليّة متّفق عليها في المعقول، و دلّت عليها نصوص كثيرة، فقد أثبتوا: «من أن غذاء الروح و حياتها المعنوية إنما هو بالتفكّر»، و الآيات القرآنية التي ترغّب إلى التفكّر في الطبيعة و ما وراءها تدلّ على ذلك، و سيأتي بيان تلك القاعدة إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «كما يمشي المستنير في الظلمات»، فهو واضح، إذ ليس الخلاص من ظلمات الجهل إلا بالاستنارة من نور الفكر إن كان في المعارف الدينية.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فعليكم بحسن التخلّص»، يعني تخلّصوا من التفكّر في القرآن بوجه حسن، فلا تدخلوا فيه كلّ و هم و خيال.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلّة التربّص»، يعني لا تتعمّقوا في خصوصيات القرآن

ص: 54

التي لا تصل إليها عقولكم، بل أوكلوها إلى اللّه تعالى بالرجوع إلى الراسخين في العلم، و من أوحى إليه.

و يمكن أن يراد بقلّة التربّص الممانعة عن دخول الأوهام الباطلة و الخيالات الفاسدة في القرآن.

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة و ضياء من الاحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار».

أقول: تقدّم ممّا ذكرنا في الحديث السابق بيان هذا الحديث و عدم الريب فيه.

ثم إن هناك طوائف اخرى من الروايات التي ترتبط بالموضوع، فلا بد من التعرّض لها و بيان ما يتعلّق بها.

ما ورد في تفسير القرآن بالرأي:

وردت روايات كثيرة دالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي، مثل

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

و عن أبي داود في سننه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».

و في تفسير العياشي: عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يوجر، و إن أخطأ فهو أبعد من السماء».

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «الرأي في كتاب اللّه كفر».

و في سنن الترمذي: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

أقول: صريح هذه الروايات الذم في إعمال الرأي في القرآن العظيم، بل جعله

ص: 55

بديل الكفر في بعضها، و أن مصيره إلى النار.

و النظر في القرآن أو اعمال الرأي فيه يتصوّر على وجوه:

الأول: الأخذ بظاهره العرفي، الذي هو ظاهر عند النوع و تدور الاستفادة من القرآن مداره، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، و قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 118]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

الثاني: إعمال النظر الشخصي في الآيات الشريفة و تفسيرها، به و لكنه لا يتعدّى عن مرحلة الاحتمال الذهني و الحضور الفكري إلى الخارج، بلا إذعان و لا اعتقاد.

الثالث: ما يكون من إعمال النظر الشخصي، و يكون الناظر في مقام ترتّب الأثر عليه، و الإذعان بأن ذلك مراد اللّه سبحانه و تعالى.

و شمول هذه الأخبار للقسم الأول ممنوع بلا إشكال، و إلا لبطلت الإفادة و الاستفادة من الكتاب العظيم الذي وضع لأجل ذلك، و كذا شمولها للقسم الثاني لفرض عدم ترتّب أي أثر عليه، بل يكون مجرّد العبور الذهني و الخطور الفكري الذي قد يكون بلا اختيار.

و أما القسم الأخير فهو المعلوم المتيقّن من مفاد جميع تلك الأخبار، و يشهد لذلك الشواهد العقلية أيضا، فإن كلمات الأكابر و الأعاظم لا بد أن تحفظ عظمتها بأي وجه أمكن من دون تدخّل الآراء الخاصة في تفسيرها، فكيف بالقرآن العظيم؟ و ما قيل في معنى التفسير بالرأي من الوجوه فإن رجعت مآلها إلى ما ذكرناه فهو، و إلا فالخدشة واضحة فيها، لأن أكثرها دعوى بلا دليل.

و من ذلك يعلم أنه لا وجه لفتح باب الاجتهاد الشخصي في الآيات الشريفة، إذ لا موضوع فيها بعد فرض أن متشابهاتها ترجع إلى محكماتها، و هي مشروحة بالسنّة المقدّسة.

ص: 56

نعم، باب الاجتهاد النوعي مفتوح في تفسير الآيات، بمعنى إرجاع المتشابه منها إلى المحكمات، و أخذ شرح المحكم من السنّة الشريفة.

و يستفاد ما قلناه من الآيات الشريفة أيضا، قال تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء، الآية: 83]، و قوله تعالى: اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92]، و قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء، الآية: 36]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، التي يستفاد من جميعها أنه لا بد في الاستفادة من القرآن الكريم عدم الاجتهاد الشخصي، بل ردّ الآيات بعضها إلى بعض و الاستعانة بالسنّة المقدّسة، و أن التفسير بالرأي هو القول بغير علم،

كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار».

و أما ما ورد في بعض الروايات من النهي عن ضرب بعض القرآن ببعض، كما في جملة من الأخبار.

ففي تفسير العياشي: عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام قال: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

و في المحاسن: عن الصادق عليه السّلام: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

و في الدر المنثور: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب، فقال: بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم و ضرب الكتاب بعضه ببعض، قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به و ما تشابه عليكم فآمنوا به».

و فيه - أيضا -: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما يتدارءون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه

ص: 57

بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضها، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه».

أقول: ضرب القرآن بعضه ببعض يحتمل فيه وجوه:

الأول: ردّ المتشابه إلى المحكم، و هذا صحيح، بل واجب كما أمرنا به عقلا و شرعا، و لا وجه للطعن عليه بل جعله كفرا.

الثاني: الاستشهاد لآية بآية اخرى، و هذا أيضا صحيح إذا كان مطابقا للسنّة الشريفة، و قد وقع ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام أيضا.

الثالث: ما إذا اختار رأيا مستقلا و نظرية خاصة من عند نفسه في تفسير آية و رأي كذلك في آية اخرى، و جمع بينهما برأيه، أو جعل آية اخرى دليلا لما اختاره من عند نفسه، فهذا هو المذموم بلا إشكال، بل قد يوجب الكفر أيضا لأنه يستلزم تكذيب القرآن، كما مرّ في الحديث.

و لعلّ ما سأله الصدوق عن شيخه ابن الوليد في معنى الرواية المتقدّمة عن المحاسن هو ذلك، و أيضا يدلّ على ما ذكرنا روايات كثيرة:

منها:

ما في تفسير العماني عن إسماعيل بن جابر، قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام يقول: «إن اللّه تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء، فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتاب فلا كتاب بعده، أحلّ فيه حلالا و حرّم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس، و هم الشهداء على أهل كلّ زمان، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجّوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجّوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا

ص: 58

إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا و أضلّوا. و اعلموا رحمكم اللّه: أنه من لم يعرف من كتاب اللّه عزّ و جلّ الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكّي من المدني، و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد، و المؤكّد منه و المفصّل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده، فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. و متى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على اللّه الكذب و رسوله، و مأواه جهنم و بئس المصير».

و منها:

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ذيل ما ورد في الدر المنثور: «فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم به فكلوه إلى عالمه».

و منها:

ما في نهج البلاغة قال عليه السّلام: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا و إلههم واحد و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغه و أدائه؟ و اللّه سبحانه يقول: ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ، و قال و فيه تبيان لكل شيء، و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً ، و أن القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تكشف الظلمات إلا به».

ص: 59

و خلاصة ما يستفاد منها - على طولها - أن فهم القرآن لا بد و أن يكون أوّلا بإرجاع المتشابه إلى الحكم و إرجاع الحكم إلى السنّة، ثم ترتّب الأثر بما يستفاد من المحكم و الاعتراف بالعجز عن الفهم و الدرك، و أن التفسير بالرأي و العمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلا و شرعا.

ما ورد من ان للقرآن بطونا:

وردت روايات كثيرة دالة على أن للقرآن ظهرا و بطنا، كما

في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية: (ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا وله حدّ، و لكلّ حدّ مطلع)، ما يعني بقوله: لها ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر كلّما جاء منه شيء وقع، قال اللّه:

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، نحن نعلمه».

أقول: يظهر من هذه الرواية أن أسرار التأويل تجري في التكوينيات من حيث بدأها إلى ختامها، و أن وقوعها في الخارج مطابق للتأويل الذي يكون في القرآن، و لا يعلمه إلا اللّه و الراسخون في العلم، ففي الحقيقة يمكن استفادة جميع أسرار التكوين من الآيات الشريفة بالتأويل، كما يظهر من الآيات الشريفة، قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]، و قال تعالى:

وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن».

و عن علي عليه السّلام: «ما من آية إلا و لها أربعة معان، ظاهر و باطن و حدّ و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد

ص: 60

اللّه من العبد بها».

و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا وحدا و مطلعا».

في تفسير العياشي: عن جابر قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجاب بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر، إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، أن الآية يكون أوّلها في شيء و آخرها في شيء، و هو كلام متصل يتصرّف في وجوه».

أقول: المراد من

قوله عليه السّلام: «و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» قبل التفحّص وردّ المتشابه إلى المحكم، و أما بعد ذلك و تقرير العقول بالشريعة المقدّسة، فلا بعد حينئذ، بل أمرنا بالتعقّل و التدبّر و التفكّر في القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة، و لا معنى لكون ذلك فيما هو بعيد عن العقول، فهو بعيد في عين كونه قريبا إلى العقول بالاعتبارين، كما مرّ آنفا، و هو كلام متّصل يتصرّف في وجوه.

و في المعاني: عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ظهر القرآن و بطنه، فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك»، و الروايات في هذا المساق كثيرة جدا، مضمونها واحد و إن اختلفت التعبيرات الواردة فيها.

و المراد من الظهر و البطن و الحدّ و المطلع التي وردت في الروايات المتقدّمة حقيقة واحدة ذات مراتب تشكيكيّة، فالظهر أي ما يفهم من الظاهر، فهو مرتبة منها، و البطن أي ما يستفيده الراسخ في العلم مرتبة اخرى منها، و كذا المطّلع أو المطلع، فالمراتب مختلفة و الحقيقة القرآنية واحدة، و نحن في حجب عن درك تلك المراتب، مثال ذلك: أن اللبن حقيقة واحدة، و هو في عالم الماديات عبارة عن ما هو المعهود الذي يدر من ثدي الأنثى من الحيوان، و في عالم الرؤيا مثلا عبارة عن

ص: 61

العلم، لأن المعروف عند أهل التعبير أن من رأى اللبن في منامه يرزق علما، و يمكن أن يكون في عالم الآخرة شيئا آخر غيرهما، فالحقيقة واحدة و لكن المراتب مختلفة، فبعضها ظاهرة و بعضها غير ظاهرة.

و كذا الصلاة الواردة في القرآن الكريم كثيرا، فإن لها حقيقة تشكيكية، و لها مراتب، منها القيام بين يدي الربّ بالعمل الخارجي، و منها القيام بين يدي الربّ بالجوهر الجسماني الخارجي، كما يكون في أولياء اللّه تعالى، و منها بالصورة الذهنية، و رابعة بما حصل للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج بتعليم اللّه تعالى له مشافهة، فيمكن حينئذ حمل البطون على مثل هذه المراتب، و المراتب التي لم يمكن أن تظهر لنا للحجب المانعة عن الوصول إلى تلك الحقائق، و يشهد لما ذكرنا ما في تفسير العياشي ما تقدّم عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و لا ينافي ما ذكرناه

قول علي عليه السّلام فيما مرّ: «ما من آية إلا و لها أربعة معان ظاهر و باطن و حدّ و مطلع - الحديث»، و كذا قول أبي جعفر عليه السّلام فيما مرّ من رواية حمران بن أعين، فحمل البطون فيها على المراتب الطولية - كالصحابة مثلا و التابعين لهم و تابع التابعين، و هكذا إلى يوم القيامة - هو أيضا صحيح، لصحّة حمل لفظ البطن على جميع ذلك، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون البطن - أي ما يفهم من اللفظ عرضيا - كما مرّ أو طوليا.

ما ورد من أن القرآن أنزل على سبعة أحرف:

وردت روايات كثيرة بطرق متعدّدة و تعبيرات مختلفة، و لكن مضمون جميعها واحد، منها ما

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

و عن علي عليه السّلام: «ان اللّه أنزل القرآن على سبعة أقسام، كلّ منها كاف شاف، و هي: أمر و زجر، و ترغيب و ترهيب، و جدل و مثل و قصص».

و في بعض الروايات: «زجر و أمر، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال و قصص».

ص: 62

أقول: ليس الحصر الوارد فيها حقيقيا حتى يتحقّق التنافي، بل هو من الحصر الإضافي الاعتباري، و المراد منها ما

فسّره علي عليه السّلام: «ان القرآن حمال ذو وجوه»، أي يحمل كلّ وجه إن طابق الموازين الشرعية و العقلية.

و من ذلك يعرف أن تفسيرها بالقراءة أو بالبطن، أو تفسيرها بالأمر أو الزجر و الترغيب و الترهيب و الجدل و القصص - كما مرّ - لا يوجب التنافي، لفرض عدم كونها في مقام بيان التحديد الحقيقي.

بحث عرفاني:

المراد من العلم في قوله تعالى: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، هو العلم بالمعارف الحقّة و حقائق الأشياء التي توجب السعادة الأبدية و خروج النفس الإنسانية عن حدود الحيوانيّة و البهيميّة و وصولها إلى منتهى أوج الروحانيّة المجرّدة، بواسطة معرفة الموحي و الوحي و الموحى إليه و الإذعان علما و عملا و معرفة، حسب الإمكان، و قد جمع ذلك كلّه في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 69]، و في قوله جلّ شأنه:

إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]،

و عن علي عليه السّلام في قوله: «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين»، و قد جمعها علماء النفس و الأخلاق في قولهم:

«أوّل العلم معرفة الجبّار، و آخر العلم تفويض الأمر إليه»،

و عن الصادق عليه السّلام: «من حرم الخشية من اللّه فليس بعالم و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

فيكون المراد بالرسوخ: الرسوخ العملي المنبعث عن العلم بالمعارف الحقّة، حتى يدخل في قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، فيصير القول و العمل و الاعتقاد شيئا واحدا، فتسري الروح الإيماني من القلب إلى العمل، بل من العمل إلى القلب، لأن

ص: 63

للأعمال تأثيرات حقيقة في الملكات النفسانيّة، فيكون من النور و في النور و إلى النور، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و بعبارة اخرى يصير قلبه قرآنا علميا و جوارحه قرآنا عمليا، فلا محالة يتحقّق الرسوخ.

و أوّل المصداق الحقيقي لذلك هو خاتم الأنبياء، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44]، ثم من رباه تربية علميّة و عمليّة علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كلماته المقدّسة في نهج البلاغة أظهر دليل لما قلنا، ثم من ربى بهما أيضا تربية علمية و عملية فأخذوا علومهم و معارفهم من النبيّ الأعظم و تأسّوا به في أفعاله و أذعنوا بأقواله، فربوا في حجر الإسلام و رضعوا من ثدي الإيمان، فرسخ العلم في أصولهم و عروقهم و قلوبهم و جوارحهم، فجعل اللّه لهم نورا يمشون به في الظلمات و يرشدون به إلى سبل السّلام.

بحث فلسفي:

لا ريب في اختلاف أفراد الإنسان في مراتب إدراكاته سواء كانت القوى المدركة جسمانية (كالقوى الخمس الظاهرة أي السامعة و الباصرة و اللامسة و الشامة و الذائقة) أم معنوية كالفكر و العقل بل ان اختلاف القوى الجسمانية المدركة يعم الحيوانات و بعض النباتات بل بعض المعادن أيضا على ما ثبت في العلم الحديث و هل يكون اختلاف القوى الادراكية المعنوية في الإنسان من خصوصيات العقل المودع فيه؟ أو من النفس الناطقة؟ أو منهما معا؟ أو من شيء آخر كالبيئة و الاجتماع أو المأكل و المشرب أو غيرها؟ لا يعلم ذلك غير اللّه تعالى، فكلّ محتمل.

و من ذلك ينشأ اختلاف الاستعدادات في مراتب الاستفادة و تحصيل العلوم، و لذا

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر

ص: 64

عقولهم». و تقدّم في البحث الروائي ما يدلّ على ذلك. هذا إذا كانت العلوم و الاستفادة منها مستندة إلى أسباب و علل ظاهرية، كأغلب العلوم.

و أما إذا كان العلم مستندا إلى وحي السماء مباشرة، كما في الأنبياء، أو تسبيبا كمن يتلو تلوهم، أي الآخذين منهم، فلا اختلاف فيهم حينئذ، لفرض الانتهاء إلى علم لا يعقل فيه الاختلاف أبدا، و هو علم اللّه جلّ جلاله.

نعم، الاختلاف في أصل الرسالة و النبوّة موجود، و هو شيء آخر لا ربط له بالمقام، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [سورة البقرة، الآية: 253]. و تقدّم الكلام في معنى التفضيل.

و منه يظهر أن الإجمال و التشابه و نحوهما يستند إلى معنى سلبي، و هو عدم إحاطة العقول بالواقعيات و قصورها عن دركها، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44].

بحث علمي:
اشارة

المحكم و المتشابه و علم التأويل يحصل من الاستعدادات المكنونة في الإنسان المختلفة غاية الاختلاف - كما مرّ في البحث السابق - فإذا القي خطاب في مجمع أو القي درس في جامعة، أو ألقينا مثلا سائرا بين الناس، فمنهم من لا يتجاوز فهمه الصريح المحض، و منهم من يتجاوز ذهنه إلى اللوازم القريبة منه، و منهم من يتعدّى إلى الأكثر عمقا و يتجاوز إلى اللوازم و الملزومات البعيدة أيضا، خصوصا إذا كان الدرس من العلم الذي هو فوق المادة و المحسوس، و يتحصّل من ذلك امور:

الأول: تحقّق تلك العناوين، أي المحكم و المتشابه و العلم بالتأويل من الأمور الفطرية المستندة إلى الاستعداد - أو الدرك - الذي هو أمر غير اختياري، و يختلف ذلك حسب الاستعداد و درك الأفراد و كثرتهم و قلّتهم.

الثاني: أن المحكم و المتشابه ما كان بحسب النوع لا الشخص، لأن ذلك هو المدار في الخطابات الملقاة على الناس، كما أن المراد من المتشابه المستقر منه دون

ص: 65

الزائل بالتعمّق.

الثالث: أنهما - أولا و بالذات - من صفات المعنى، ثم يسريان إلى اللفظ، فيصحّ أن يكونا من صفات اللفظ أولا و بالذات فيسريان إلى المعنى أيضا لمكان الاتحاد بين اللفظ و المعنى، و لذا يسري حسن أو قبح أحدهما إلى الآخر، فيصحّ البحث عنهما في مباحث الألفاظ كما يصحّ البحث عنهما في مباحث الحقائق العلميّة، كما هو شأن كثير من المفاهيم.

و ممّا ذكرنا يظهر أن الأقوال الواردة في معنى المتشابه - التي تتجاوز العشرة - كلها من باب المغالطة و الاشتباه بين المفهوم و المصداق، فقد ذكروا مصاديق المتشابه في حقيقته و معناه، و هو باطل لأن مصاديقه كثيرة، كما أن مناشئه أيضا كذلك.

و البحث في المحكم و المتشابه من جهات، نذكر الأهم منها.

مفهوم المحكم و المتشابه:

المحكم و المتشابه أو المجمل و المبيّن من المفاهيم العرفية في كلّ محاورة و لغة من اللغات، فإن كلا منهما تشتمل على محكم و متشابه و مجمل و مبيّن عند أهل تلك اللغة، فيصحّ عدّ مفهوم تلك الصفات من المفاهيم المبيّنة في المحاورات.

و ما هو المعروف في تعريف المتشابه: «ما لا يعرف المراد منه إلا بالقرينة»، مثل قوله تعالى: يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، لا يعرف بدوا المراد منه إلا بالرجوع إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [سورة الشورى، الآية: 11]، فيعرف أن المراد منها القوة و الإحاطة، أو القدرة بالملازمة، و كذا قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، يعرف المراد بالرجوع إلى ما تقدّم من الآية المباركة من أنه الرحمة و الغفران بالملازمة.

و كذا في المحكم من أنه: «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة»، مثل قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحمد، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ [سورة النور، الآية: 56]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

ص: 66

و كذا في المحكم من أنه: «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة»، مثل قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحمد، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ [سورة النور، الآية: 56]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

المحكم و المتشابه من الأمور النسبية:

تقدّم أنهما يرجعان إلى اختلاف الاستعدادات المتفاوتة في الإنسان، فيكونان من الأمور النسبيّة الإضافية، لاختلاف منشئهما و سببهما، و إن رجعا إلى حالات اللفظ و صفاته فهي أيضا امور نسبية اختلافية، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و لأجل ذلك نرى الاختلاف في عدّ مصاديق المتشابه، فربّ شخص يعدّ لفظا أو آية من المتشابه و ينكره الآخر، أو قد يكون الاختلاف من شخص واحد في موردين أو في زمانين.

و قد اطلق لفظ المحكم و المتشابه على الأفراد، كما في بعض الروايات.

المدار في المحكم و المتشابه:

المناط في اتّصاف الكلام بالمحكم و المتشابه إنما هو الأنظار العرفية العادية المؤهّلة لورود عامة الخطابات عليها، لأنها المدار في تلقّي الأحكام، و ليس المدار الأنظار الدقيّة العقليّة، لاختصاصها بطائفة خاصة و عدم كونها مدار الإفادة و الاستفادة النوعية، فلو كانت الآية أو الرواية بحسب الأنظار العرفية تعدّ متشابهة و بحسب الدقة العقلية - أي بإعمال الأساليب العلميّة - تكون محكمة، لا يؤخذ بها، بل تردّ إلى المحكم، و أما لو كانت بحسب الأنظار العرفية محكمة دون الأنظار الخاصة - أي الدقيّة العقليّة - يؤخذ بها.

و لو كانت آية أو رواية محكمة عند طائفة و متشابهة عند اخرى، فإن كانت الاولى من ذوي الخبرة و الفن لا بد للثانية من اتباعها، و كذا العكس، و مع التساوي يعمل كلّ بحسب تكليفه و رأيه بعد استقرار المحكم و المتشابه، و مع التعارض في مورد يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الحجّية المقرّرة في علم الأصول.

ص: 67

أسباب التشابه:

لا وجه لتحديد مناشئ التشابه و الإجمال بحدّ خاص و موارد معينة، بعد ما عرفت، فيصحّ أن يكون منشأ التشابه نفس وضع اللفظ لغة من حيث هو، مثل قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [سورة البقرة، الآية:

228]، أو يكون في اختلاف القراءة، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ [سورة البقرة، الآية: 222]، أو يكون المنشأ اختلاف السنّة الواردة في تفسير الآية الشريفة لو كانت متنافية فيصير التشابه من باب الوصف بحال المتعلّق، لا الوصف بحال الذات، و قد يتعلّق اختيار المتكلّم بالإجمال و التشابه لأغراض مترتبة على ذلك.

نسبة التشابه:

التشابه من الصفات ذات الإضافة، و لا يعقل التشابه بالنسبة إلى علم اللّه جلّ جلاله، لأنه عين ذاته المهيمن لجميع الجهات و المحيط بها، و كذا بالنسبة إلى الموحى إليه كما مرّ. و إنما يتحقّق التشابه بالنسبة إلى غيرهما من المخاطبين في خطابه تعالى أو غيره، سواء أ كانوا حاضرين في مجلس الخطاب، أم غائبين عنه، لما مرّ من أن السبب الأوّلي في التشابه إنما هو اختلاف الإدراكات و قصورها.

نعم، يمكن أن يوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آية ثم يوحى إليه مرة اخرى شرح تلك الآية و بيانها، و تسمية ذلك بالتشابه إلى الموحى إليه في الآية الاولى مشكل بل ممنوع، و هما بمنزلة الشارح و المشروح، و ليس ذلك من المجمل أيضا، و كذا لو وصل الحكم إلى الموحى إليه إجمالا، و انتظر صلّى اللّه عليه و آله بيانه و تفصيله، كما تقدّم في تغيير القبلة، قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ [سورة البقرة، الآية: 144].

ص: 68

مع أن الأدلّة الدالّة على أن خاتم النبيين من أهمّ الراسخين في العلم يأبى عن ذلك كلّه، فخروج التشابه بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله تخصصي، لا أن يكون تخصيصيا، و الفرق بينه و بين اللّه تبارك و تعالى أن التخصص بالنسبة إليه جلّ شأنه بالذات، و بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله بالغير، أي من اللّه تعالى، كما تقدّم ذلك.

واقعية المحكم و المتشابه:

لا شك في أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة، فلا دخل للاعتقاد فيها، كما أثبتنا ذلك في علم الأصول. فالمراد من المحكم و المتشابه هو الواقعي منهما دون الاعتقادي، لأن الواقعيات مورد وضع الألفاظ دون الاعتقاديات، إلا أن يدلّ دليل على الخلاف، و حينئذ كلّ من اعتقد أن آية من الآيات القرآنية أو حديثا من السنّة محكم أو متشابه، ثم بعد مدة تبين الخلاف لا أثر لاعتقاده و لا يترتب عليه آثارهما، و لا يكون من باب تبدّل الموضوع، بل من باب كشف الخلاف، و لا بد و أن يبحث عنه في مباحث الإجزاء المقرّرة في علم الأصول.

موضوع المحكم و المتشابه:

المحكم و المتشابه يعرضان بعد استقرار حجيّة الكلام، إذ لا ريب في أن دلالة اللفظ تغاير حجّيته، فقد يكون اللفظ دالا على شيء و لم يكن حجّة، مثلا العام و المطلق قبل الفحص عن الخاص و المقيد ظاهران و دالان على العموم و الإطلاق، و لكنهما ليسا بحجّة و لا يجوز التمسّك بكلّ منهما إلا بعد الفحص و عدم الظفر بالمخصص و المقيد، فالدلالة انما تعتبر طريقا إلى الحجيّة، فلو لا الحجيّة و صحّة الأخذ و الاستدلال لا أثر لنفس الدلالة من حيث هي، فالمحكم و المتشابه يعرضان على الكلام الصحيح الثابت حجيّته.

و بعبارة اخرى: المراد بالمحكم و المتشابه إنما هو المستقر منهما، لا الزائلان بعد التروي و التأمّل.

ص: 69

التشابه في القرآن:

لا ريب في تحقّق التشابه و أصل حدوثه في الجملة بالنسبة إلى الأمة في القرآن، و لا مجال لإنكار ذلك. كما لا شك أنه في معرض الزوال بالرجوع إلى الراسخ في العلم و إلى المحيط بالسنّة المقدّسة، التي هي مبيّنة لمتشابهات القرآن، أو بردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات منها، كما في الآية المباركة فحينئذ لا يبقى موضوع للتشابه الدائمي في القرآن.

نعم، أصل حدوثه في القرآن ممّا لا ينكر، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .

فما عن بعض من إنكار أصل التشابه في القرآن تمسّكا بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138]، و قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و غيرهما من الآيات.

غير صحيح، لما مرّ في الآية المباركة مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، بل يدلّ على ذلك وجدان أهل المحاورة، لأنهم يفرّقون بالفطرة بين الدلالة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام، الآية: 94]، و بين الدلالة في قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما ما استدل به من الآيات الشريفة، ففيه أن كون الكتاب بمجموعه مشتملا على تبيان كلّ شيء، أو أنه بيان للناس، لا ينافي وجود بعض المتشابهات بعد صيرورتها تبيانا إن ردّت إلى المحكمات.

نعم، لو أراد إنكار دوام التشابه في القرآن لا أصل حدوثه، فهو صحيح لأن القرآن قانون دائمي نوعي إلى يوم القيامة، و لا وجه لوقوع التشابه الدائمي فيه، خصوصا بعد أن أمرنا بردّ المتشابه إلى المحكم ثم الاستفادة منه.

ص: 70

إن قيل: إن جملة من مفتتحات السور و أوائلها باقية على التشابه إلى الأبد.

يقال: أنها معلومة أيضا عند الراسخين في العلم، و فسّرت أيضا بما مرّ.

و بالجملة: لا تشابه في القرآن بعد عرض الآيات المتشابهة على المحكمات أو على العقل المقرّر شرعا. فالتشابه حدوثي لا دائمي في القرآن.

الحكمة في اشتمال القرآن على المتشابه:

بعد أن ظهر أن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم ترجع إلى القصور في العقل و عدم الإحاطة بردّ تلك الآيات إلى المحكمات، تصير الحكمة في إنزال الآيات المتشابهة حينئذ أمرا سلبيا، و هو عدم درك العقول و عدم احاطتها بالحقائق القرآنية، و إلا فلا قصور في نفس الآيات المباركة بعد ردّ بعضها إلى البعض، ففي الواقع لا تشابه في الآيات القرآنية، لا ثبوتا و لا إثباتا إذا عرضت الآيات المتشابهة على العقل المدرك المقرّر بالشرع، فيكون التشابه في النظر البدوي من الإدراك، لا في النظر الحقيقي، و لذا نرى الاختلاف في تعيين المصاديق للآيات المتشابهة عند العلماء و المحقّقين.

و أما ما أشكل على وقوع التشابه في القرآن بأنه لا وجه له، مع أن القرآن قانون أبدي، و هو كتاب فسّرت آياته من لدن علي حكيم، فلا بد أن يكون شرعة لكلّ وارد و يستفيد منه كلّ أحد.

غير صحيح، لأن اختلاف العقول في جهات الإدراك فطري خارج عن تحت، أي اختيار و القرآن لا يعدو الفطرة.

المتشابه في السنة:

كما أن في القرآن محكما و متشابها، كذلك يكون في السنّة المقدّسة، ففيها متشابهات و محكمات لا بد و أن يردّ المتشابه إلى المحكم. و قد ظهر ممّا ذكرنا أن ذلك حدوثي لا دائمي، و ينشأ ذلك من اختلاف الاستعدادات كما مرّ، و ردّ متشابهاتها

ص: 71

إلى محكماتها إنما هو من شأن الفقهاء و المحدّثين العالمين العاملين بها، ففي السنّة الشريفة راسخ في العلم أيضا، و تقدّم ما

عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا».

التأويل و معناه:

تقدّم أن التأويل من الأول. و للأول عرض عريض جدا، فيشمل كلّ ما له قابلية الشمول، مثلا أن قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ يشمل كلّ ما تؤول إليه الصورة الإنسانية من الخصوصيات الذاتية و العرضية و الزمانية و المكانية، و يدخل في التأويل كلّ ذلك، فإذا نظر الراسخ في العلم إلى صورة إنسان يعلم بعلمه الراسخ جميع الحالات الواردة على الإنسان في عوالمه الطولية و العرضية، فيعلم أنه كيف يعيش و متى يموت، و في أي محل يقبر، فجميع هذه الصور معلومة عنده حسب شأنه و رسوخه في العلم، و هذا أعظم أنواع التأويل.

فالتأويل أخصّ من التفسير بلا إشكال، لأنّ التفسير من فسّر، و هو و السفر بمعنى واحد، أي كشف القناع، و يحصل ذلك ببيان أوّل مرتبة من مراتب معاني اللفظ، بخلاف التأويل، و لذا يختصّ التأويل بأئمة الدين، كما

ورد عنهم: «أن عندنا علم التأويل»، على ما تقدّم معناه، فيكون علم التأويل أجل و أعظم بمراتب من علم التشريع، و عبّر عن بعض مراتبه بعلم البلايا و المنايا، فإن له مراتب كثيرة، لأنّ للقرآن بطونا، و لعلّ المراد منها بعض مراتب التأويل.

الفرق بين التأويل و التنزيل:

ظهر ممّا تقدّم الفرق بينهما، فإن التنزيل يختصّ بالآيات المباركة من حيث اللفظ و غيره، و التأويل كلّ ما له قابلية الشمول للآية، فيكون الفرق بينهما أن

ص: 72

التنزيل إنما يلحظ باعتبار وجوده الجمعي، أي الوحدة في الكثرة، و التأويل إنما يلحظ باعتبار وجوده الانطباقي الانبساطي الخارجي في الحوادث التكوينيّة و التشريعيّة، من أوّل الحدوث إلى آخر الخلود، لجميع الجزئيات و الخصوصيات و العلل و المعلولات و الشرائط و الموانع، باعتبار الوجود الانبساطي الخارجي، و لا يمكن الإحاطة بذلك إلا للّه جلّ شأنه، لقصور ما سواه عن ذلك، و قد يفيض بعض ذلك لخلّص عباده، كما مرّ.

و قد بيّن اللّه تبارك و تعالى في سورة الكهف من آية 66 إلى 78 في ما سأله موسى عن الخضر عليهما السّلام الفرق بين التنزيل و التأويل، فقال تعالى حاكيا عن الخضر:

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ، فالتأويل ما فعله الخضر و أجاب عن ما سأله موسى، و التنزيل ما سأله موسى عن الخضر. و نعم ما نسب إلى بعض أكابر العرفاء: «التأويل علم الحقيقة، و التنزيل علم الشريعة و الطريقة»، و مثّل لذلك بالفقيه و الطبيب، فإن الفقيه محتاج إلى الطبيب في العلم بالعلاج و العلم بخواص الأدوية، و الطبيب محتاج إلى الفقيه في العلم بظواهر الشرع.

و الجامع القريب بين التنزيل و التأويل إحقاق الحقّ و إبطال الباطل.

أما التأويل في السنّة و الروايات، فقد ورد فيها أيضا - كما في بعض الروايات - لأن لها الوجود الانبساطي الخارجي القابل للانطباق على القضايا الخارجيّة أيضا، كما تقدّم في تأويل الآيات الشريفة.

كما أن علم تعبير الرؤيا اطلق عليه التأويل أيضا، قال تعالى حاكيا عن نبيّه يعقوب لابنه يوسف عليهما السّلام: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: 6]، و المراد منها الأحاديث الحاصلة من النوم، بقرينة قوله تعالى حاكيا عن الملأ: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [سورة يوسف، الآية: 44]، و قد ورد في السنّة المقدّسة أن الرؤيا جزء من تسعة و تسعين جزءا من أجزاء النبوّة.

ص: 73

مورد التأويل في الآيات القرآنية:

لا ريب في ثبوت التأويل في القرآن في الجملة، بلا شك كما دلّت عليه الآيات المباركة، و هل يصلح جميع الآيات أن تكون موردا للتأويل حتى المحكمات و المتشابهات منها أو يختص ببعض دون بعض؟ لا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا بما وصل إلينا من بيان التأويل و إلا فليس لنا ضابطة تميّز الآيات المتّصفة بالتأويل عن غيرها لفرض اختصاص ذلك بالراسخ في العلم.

الفرق بين التأويل و مطلق استعمال اللفظ:

تبادر المعنى من اللفظ و استعماله فيه - و لو بنحو المجاز - ليس من التأويل، لا لغة و لا عرفا، و إن الاستعمال أخصّ من التأويل موردا، و يمتاز كلّ منهما عن الآخر بأمور:

الأول: أن التأويل له مراتب كثيرة، لأن للقرآن بطونا - كما في البحث الروائي - و لها لوازم و ملزومات، و بالنسبة إلى المؤول تارة يكون الذهن مأنوسا بشيء دون آخر، فيؤولها حسب الانس الذهني، إن لم يكن مخالفا للحجج الشرعية الدائرة، و ذلك لا يكون إلا من الإفاضة الغيبيّة الإلهيّة المختصّة بأهلها، كما تقدّم، و ذلك لا يكون في التبادر و الاستعمال.

الثاني: أن الأول بمعنى الرجوع و المرجع - كما تقدّم - و يصحّ أن يكون لكلّ موجود من موجودات هذا العالم - جوهرا كان أو عرضا - بجميع أنواعها مناشئ و مراجع كثيرة، سابقة على ما يفهم من ظاهر لفظه و لا حقة كذلك، و حوادث محفوفة بكلّ واحد منها، فيشمل التأويل جميع تلك الوجودات، أو العلوم الحادثة في العالم من أوّل هبوط آدم إلى قيام الساعة من جميع أنحاء العلوم و الخواص كلّية أو جزئية، بسيطة أو مركبة، في الجواهر أو الأعراض في الأفلاك أو الأملاك.

ص: 74

و بعبارة اخرى: الإحاطة العلميّة الحضورية بجميع ما سوى اللّه من كلّ جهة، و مثل هذا العلم غير محدود و غير متناه، و يختصّ بعض مراتبه باللّه جلّ ذكره، و بعضه الآخر يفيضه جلّ شأنه على من يشاء من عباده، و هم الراسخون في العلم الذين أفنوا جميع شؤونهم الإمكانية في مرضاته تعالى، كما يطلع على الغيب المحجوب بعض عباده المقرّبين المحبوبين. فللتأويل وجود انبساطي يشمل جميع ما تقدّم، بخلاف الاستعمال كالتبادر و أمثاله، فإنه محدود من جميع الجهات.

الثالث: صفات الحقيقة و علاماتها و كذا شرائط المجاز قد لا تكونان في المعنى المؤول، لأنه قد لا تستأنس الأذهان العامّة بذلك، كما في قصة موسى و الخضر في سورة الكهف من آية 64 إلى آية 82، و لكن في الاستعمال لا بد منها، أو لا بد من قرينة تدلّ على صحّة الاستعمال.

الرابع: المؤول لا يصحّ التمسّك به في الحجج الظاهريّة، بخلاف الاستعمالات الظاهرية، فإنها حجّة عند العقلاء، سواء كانت بلا قرينة أم معها.

نعم، لو كان دليل من الخارج على إرادة المعنى المؤوّل يكون حجّة حينئذ، لكنه من باب الوصف بحال المتعلّق لا الوصف بحال الذات، هذا بالنسبة إلى نوع الأذهان العامّة، أما بالنسبة إلى العالم بالتأويل و الراسخ في العلم، يكون المعنى المؤول حجّة عنده، كما في قصة الخضر و موسى.

دوران الأمر بين التأويل و التفسير:

لو ورد حديث في معنى آية من الآيات القرآنية و شكّ في أنه من التفسير لها أو التأويل، فمع الظهور اللفظي يؤخذ به و يكون من التفسير و أنه حجّة، و أما لو لم يكن كذلك فمقتضى الأصل عدم الحجّية ما لم تكن قرينة من الخارج تدلّ عليها، فيدخل في البحث السابق من أنه ليس كلّ تأويل حجّة إلا لأهله.

و كذا الآيات القرآنية، فلأنها إما محكمة، أو متشابهة، أو مرددة بينهما، و يجري على الأخيرة حكم الثانية، فلا يصحّ التمسّك بها إلا بعد الرجوع إلى ما ورد في شرحها في السنّة المقدّسة.

ص: 75

الاستعارات و الكنايات القرآنية:

لا ريب في أن الآيات المباركة مشتملة على الكنايات، التي هي من أهمّ شؤون الفصاحة و البلاغة، و يعدّ ذلك من أدب القرآن، مثل قوله تعالى: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: 75]، فإنه كناية عن البراز، و قال تعالى:

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة، الآية: 237]، فإنه كناية عن الجماع، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فهي لا تكون من المتشابهات بل إنها من المحكمات، فإن لها ظهورا عرفيا و لو بالقرينة في المعنى المراد. و قد أثبتنا في علم الأصول أن المدار في المحاورات على الظهورات العرفيّة و لو كانت مجازيّة.

و كذا ما

ورد في بعض الأحاديث من أن القرآن: «نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة».

و أما اللطائف و الإشارات و الدقائق، فإنها إن كانت منساقة من ظاهر اللفظ بحسب المحاورة، تكون من المحكمات، و إلا فهي من المتشابهات.

و من هنا يظهر فساد ما عن بعض من إنكار كون الكنايات من المحكمات و أنها من المتشابهات.

ص: 76

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (8) رَبَّنا إ.......

اشارة

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ اَلنّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (9) نداء ملكوتي من قلوب الراسخين في العلم، يشمل ذروة العرش الأعلى حتى ذرة ما تحت الثرى، تطرب الممكنات من سماع لفظه، و تزجر العوالم من خطاب وعظه، تتدفق منه الرحمة و النور على جميع الأحياء، بل على من في القبور.

و في لفظ (ربنا) من الاستغاثة و الانقطاع في أن يثبتهم على الحقّ ما ليس في غيره، و غالب دعوات الأنبياء و المنقطعين إليه جلّت عظمته مبدوءة به، لأنه من أنين المربوب الضعيف إلى الربّ الخبير اللطيف، و دعاء المسكين الفقير إلى الغني المطلق الخبير.

و لا بد و أن يكون هذا الدعاء مقول قول الراسخين في العلم، الذين ملئت قلوبهم بالإيمان باللّه جلّ شأنه، و الذين يرون كمال استغنائهم في كمال الفقر إليه تبارك و تعالى، كما

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «اللهم اغنني بالافتقار إليك، و لا تفقرني بالاستغناء عنك».

و في ابتهالهم إلى اللّه تعالى بأن يثبتهم على الحقّ، و أن يفيض عليهم رحمته، لا سيما في يوم الجمع الذي لا ريب فيه دلالة بأن الغاية القصوى ذلك اليوم، و أن العوالم كلّها في طريق السير إلى ذلك الموعد الذي لا يخلفه اللّه تعالى لجمعهم و فصلهم، و لا يمكن أن يتخلّف ذلك الغرض أنه الهدف من السير الاستكمالي للإنسان. و كيف يمكن أن يهمل ذلك مع أن الربوبيّة العظمى تقتضي الوفاء بالوعد، و إلا يلزم الخلف.

ص: 77

التفسير

قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا .

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة، قال تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: 5]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ [سورة سبأ، الآية: 12].

و المعنى: ربّنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ بعد إذ هديتنا إليه. و هذا الدعاء عام لجميع ما هو حقّ من المعارف و القرآن و الأحكام و المعاد، فيشمل الشريعة الختمية بكلّياتها و جزئياتها و أصولها و فروعها.

و الميل عن الحقّ إما قصدي و عمدي بالاختيار، أو نسياني لا عن اختيار، أو اضطراري و اجباري. و الأوّل فيه الإثم و العقاب، بل قد يوجب الكفر، و الأخيران لا أثر لهما، لحكم العقل بذلك، و لما

ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «رفع عن امتي الخطأ و النسيان و ما اضطروا إليه».

قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .

مادة (و ه ب) بمعنى التمليك مجانا و بلا عوض، و كلّ ما أخرج من العدم إلى الوجود من جميع الممكنات هبة منه تبارك و تعالى، إذ لا يعقل الاستيعاض لمن هو مستغن بذاته عن غيره لذاته بالنسبة إلى غيره، ممّا هو محتاج بذاته اليه عزّ و جلّ، و أما قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 17]، ففيه عناية و تلطّف في الكلام، لا أن يكون من الاشتراء و القرض الحقيقي، و إلا يلزم على اللّه الاستكمال، و هو قبيح و محال، و الرحمة: بمعنى اللطف و الإحسان.

و المعنى: هب لنا من عندك رحمة. و تشمل جميع النعم الدنيويّة و الاخرويّة

ص: 78

التي أهمّها الاستقامة في الدين بالدين، فإنها جامعة للرحمة الدنيويّة و الاخرويّة.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ .

الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما قبلها. و الوهاب من أسماء اللّه الحسنى، تكون المبالغة في نظائره باعتبار المتعلّق لا باعتبار الذات، إذ لا معنى للمبالغة فيما لا منتهى و لا حدّ في أي جهة من جهات كماله و جلاله.

مع أن المبالغة من الجهات الكيفيّة، و هي منفية عنه تعالى بالأدلّة العقليّة و النقلية،

قال علي عليه السّلام: «هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له، و أيّن الأين فلا أين له»، و كلّ ما هو في المخلوق لا يوجد في الخالق.

قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ اَلنّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ .

أي انك باعث الناس و محييهم بعد فنائهم و تفرّقهم ليوم لا شكّ فيه، و في هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة، لأن ذلك قضية عقليّة جامعة حاكية لمصير استكمال الطبيعة و ظهور الأعمال بصورها المناسبة في طريق الاستكمال، و أن البعث واجب عقلي و لازم في الطبيعة، قد قرّرته جميع الكتب السماويّة أيضا. فقولهم: لا ريب فيه، أي لا شكّ فيه حسب الأدلّة العقليّة، و يمتنع عدم تحقّقه و سلب وقوعه، كما أن قولهم: «انك جامع الناس» كاشف عن فطرتهم العقليّة، لا أن يكون أمرا شرعيا لإثبات جمعهم، و إن كانت الآيات المباركة تثبت ذلك أيضا، قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الدخان، الآية: 40].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ .

عدول من الضمير إلى الظاهر للتنبيه على استحالة خلف الوعد بالنسبة إليه جلّ شأنه، لكماله تعالى و قدسيته، و أن الميعاد عامّ لا يختصّ بقوم و طائفة، و الآية المباركة بمنزلة التعليل في تحقّق المعاد و عدم الريب فيه.

و المعنى: أنك جامع الناس و باعثهم من قبورهم للجزاء ليوم لا شكّ فيه، كما أخبرت به في كتابك و وعدتنا به و أنك لا تخلف الميعاد.

ص: 79

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الأوّل: إنما أضاف الراسخون في العلم الربّ إلى أنفسهم، و سألوا منه عدم الزيغ كما سألوا الرحمة، لأنهم يرون انحصار جميع جهاتهم و نسبهم و إضافاتهم فيه تبارك و تعالى، فهو يربّيهم كيف ما شاء و أراد، فيكون نسبة سلب الازاغة إليه تعالى من جهة التربية المعنويّة التي يربّيهم اللّه تعالى.

و لذا كرّر لفظ (ربّنا)، فيستفاد منه نهاية الانقطاع منهم إليه جلّ شأنه.

الثاني: المراد من الرحمة في قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، رحمة خاصّة تختصّ بمقامات الراسخين في العلم، و هي تعم إبقاءهم على هذه الحالة، فيكون بمنزلة البيان لقوله تعالى: لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا .

و يمكن أن يراد بها الإفاضات و الإلهامات المعنويّة التي تناسب مقام الرسوخ في العلم، و هي غير محدودة بحدّ خاص، فتشمل جميع اللوازم و الملزومات الطولية و العرضية الغيبيّة لكلّ آية، ممّا لا يمكن أن يطلع عليها إلا اللّه جلّ جلاله.

و بالجملة: أهمّ مراتب الرحمة التي لا يعقل مرتبة فوقها هي معرفة المعارف الإلهية بمراتبها المؤهّلة عندهم و العمل بها، و هي منحصرة بالإفاضة منه سبحانه و تعالى على قلوب الراسخين و منهم على غيرهم، فهذا الدعاء و الابتهال من أسمى الدعوات و أكملها إلى أكرم مدعو و أجلّه، و أنه قرين الإجابة و الاستجابة، لأن له دخلا في تكميل نظامي التشريع و التكوين. فهذه الجملة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، ترجع إلى بيان المبدأ، كما أن ذيل الآية المباركة يرجع إلى بيان المعاد، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها تبيّن المبدأ و المعاد و التلازم بينهما، بأسلوب جذاب دقيق و بيان يأخذ بمجامع القلوب و توجهها نحو الربّ الجليل المحبوب، و نظائر هذه

ص: 80

الآية كثيرة، يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون هذا الدعاء منهم مع كونه من الرحمة الخاصة بهم دعوة منهم إلى أن يجعل اللّه تبارك و تعالى غيرهم - المستأهلين لهذا المقام - مشمولين لهذا الدعاء.

و هذا هو دأب أولياء اللّه تعالى في دعواتهم، حيث لا يخصّون أنفسهم بدعاء خاص، بل يعمّونه لغيرهم. فيسقط نزاع بعض المفسّرين في أن الدعاء خاص أو عامّ، إذ لا تنافي بين الخصوص و العموم بالنسبة إليهم، بأن يكون الخاص منشأ لحصول العام بالنسبة إلى غيرهم.

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أن عدم زيغ القلب أعمّ من الهبات المعنوية و الإفاضات السماويّة، فيمكن أن يستجاب منهم دعاء عدم زيغ القلب، و تبقى الإفاضات المعنوية (أي الرحمة الخاصة) بعد، و لذا قالوا: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .

و بعبارة اخرى: عدم زيغ القلب أعمّ من هبة الرحمة، التي هي كالأرض التي هي معدّة لكلّ نبات و زرع، فيستمطرون منه تبارك و تعالى و يستوهبون منه أنحاء النباتات المعنوية و الأثمار الحقيقيّة في هذه الأرض، اعني القلب الذي خلا عن جميع الشوائب و الأوهام.

الرابع: يستفاد من تكرار الخطاب في قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ ، الحصر الحقيقي، لأنهم يرون انحصار جميع الهبات فيه تبارك و تعالى، و هذه إشارة إلى قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الخامس: يستفاد من هذه الآية الشريفة أن علم الراسخين في العلم يدور مدار علم المبدأ و المعاد، فعندهم المرتبة القصوى من علم المبدأ و المعاد، و فيهما تنطوي سائر العلوم التي تقع في طريق استكمال النفس الإنسانية الكاملة، التي هي أكبر حجّة للّه تعالى في أرضه، و خلقت الدنيا و الآخرة لأجلها، و فيهما تنطوي الفلسفة العلميّة و العمليّة، التي هي أعظم المباني العقليّة و أجلّها، و أكثرها أبوابا و فصولا، بحيث جعل كلّ منها علما مستقلا برأسه.

ص: 81

السادس: يستفاد من مجموع الآية الشريفة الواردة في شأن الراسخين في العلم، أدب الدعاء و الابتهال إليه تبارك و تعالى، فلا بد أن يكون الداعي منقلعا من جميع الجهات الإمكانية، و منقطعا إلى الحقيقة الربوبيّة من كلّ جهة، بحيث يرى نفسه فانيا تحت إرادة القدير المتعال، كما هو شأن الراسخين في العلم، و يمكن أن ينطبق عليهم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17-18]، فإن حقيقة مثل هذه الآية المباركة منطبقة على الراسخين في العلم، و لو حدّ و عرّف الراسخون في العلم بما ورد في مثل هذه الآية الشريفة لكان حدّا حقيقيّا واقعيّا.

السابع: ربما يتوهّم التنافي بين قوله تعالى حاكيا عن الراسخين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، و بين قوله تعالى حاكيا عن آدم و زوجته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [سورة الأعراف، الآية: 23]، و قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم:

وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 87-89].

و الجواب: أن مثل الآيتين الأخيرتين إنما ورد لبيان إظهار ذل العبودية و التذلّل بالحقّ لدى المعبود المطلق، فيكون مثل هذه الآيات و ما فى سياقها من السنّة الشريفة وارد في مقام الإخبار عن الشيء بداعي ذل العبودية المحضة، لا بداعي وقوع المخبر به في الخارج، و هذا كثير شائع في اللغة و العرف، خصوصا عند أهل الذوق و العرفان، فلا محذور في البين عند من كان متوجّها إلى خصوصيات البيان.

بحث روائي:

في الكافي: عن هشام بن الحكم قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها ورداها، أنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سرّه لعلانيته موافقا، لأن اللّه تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

ص: 82

في الكافي: عن هشام بن الحكم قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها ورداها، أنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سرّه لعلانيته موافقا، لأن اللّه تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

أقول: هذه الرواية من أجلّ الروايات الواردة في المعارف الإلهية،

فقوله عليه السّلام: «علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها»، لأنهم علموا أن الإنسان مركب من مادة و صورة، و من لوازم المادة و الجسمانية زيغ القلوب، فسألوا ربهم بهذا الدعاء الذي هو أكمل الدعوات بالنسبة إلى الاستكمالات الإنسانية في جميع العوالم التي ترد على الإنسان، فعلمهم هذا من قبيل العلم باللازم بعد علمهم بالملزوم.

و أما

قوله عليه السّلام: «إنه لم يخف اللّه من لم يعقل قلبه على معرفة ثابتة ببصرها»، فهو من القضايا الوجدانية التي يكون دليلها معها و يكفي تصوّرها في تصديقها، لأن المخافة من الشيء تتوقّف على تعقّل ذلك الشيء و لو بالجملة، فإن المخافة بلا تعقل تكون عبثا و لهوا، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28].

و أما

قوله عليه السّلام: «و يجد حقيقتها في قلبه»، فهو من القضايا الفطرية، لأن الاعتقاد بشيء يستلزم تصوره و تصديقه في الجملة، و إلا فلا موضوع للاعتقاد أصلا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا و سرّه لعلانيته موافقا»، فهو من أتمّ البيان و الحجّة لبيان العقيدة في شيء، لأنه إذا كان الفعل مخالفا للقول و كان بينهما اختلاف و تناف، لا تحصل العقيدة بذلك.

نعم، دعوى الاعتقاد الصوري مع مخالفة الفعل للقول حاصلة، و لكن لا أثر لها، و يدلّ على ذلك ما تقدّم في بعض الروايات

عن الصادق عليه السّلام: «من حرم

ص: 83

الخشية من اللّه فليس بعالم، و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

و أما

قوله عليه السّلام: «لأنّ اللّه عزّ اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه»، فهو حقّ لا ريب فيه، لأن الظاهر عنوان الباطن و بمنزلة اللفظ للمعنى، و يستكشف المعنى من اللفظ، فإذا كان أصل المعنى باطنا للظاهر فكيف يتحقّق هذا العنوان؟!

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «أكثروا من أن تقولوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و لا تأمنوا الزيغ».

أقول: ما ذكره عليه السّلام مطابق للأدلّة العقليّة التي أثبتوها في محلّه، من أن كلّ حادث يحتاج في البقاء إلى العلّة كما يحتاج إليها في أصل الحدوث، فنفس الهداية الحادثة من اللّه تعالى بصرف الوجود لا أثر لها ما لم تكن باقية و منشأ للأعمال الصالحة، و يدلّ على ما قلنا ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحديث الآتي.

في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه، عن أم سلمة: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول اللّه، و أن القلوب لتتقلّب؟ قال:

نعم، ما خلق اللّه من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع اللّه، فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه».

أقول: ليس المراد من الإصبعين ما هو المفهوم منهما ظاهرا، بل المراد منهما قضاؤه و قدره، و ربوبيّته و تربيته، و يكون التعبير بالإصبعين كناية عن سهولة ذلك كلّه عنده تبارك و تعالى.

بحث عرفاني:

الممكنات بأسرها - و منها الإنسان الذي هو أجلّها و أشرفها - لا بد لها من ارتباط مع خالقها، كما أن للخالق ارتباطا مع خلقه، و هذا الارتباط على قسمين:

ص: 84

الأول: الارتباط التكويني، و قد أثبت أكابر الفلاسفة في محلّه، أنه أوثق الارتباطات و أجلاها و أتمّها، بل و أشدّها، و من أجل ذلك يقسم الخالق بمخلوقه، كما يقسم الحبيب بمحبوبه، قال تعالى: وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، الآية:

1-4]، و قال تعالى: وَ اَلْفَجْرِ * وَ لَيالٍ عَشْرٍ * وَ اَلشَّفْعِ وَ اَلْوَتْرِ * وَ اَللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [سورة الفجر، الآية: 1-4]، و قال تعالى: وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحاها * وَ اَلْقَمَرِ إِذا تَلاها * وَ اَلنَّهارِ إِذا جَلاّها * وَ اَللَّيْلِ إِذا يَغْشاها * وَ اَلسَّماءِ وَ ما بَناها * وَ اَلْأَرْضِ وَ ما طَحاها * وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 1-8]. لأن الفاعل يرى قدرته و ظهوره في فعله، فالفعل من مظاهر بروز الفاعل و تجلّياته و ظهوره، فيسعى كلّ منهما لصاحبه بما يريده تكوينا و يرضاه و ما يشتهيه، و إن شئت سمّيت هذا بتسبيح الممكنات، كما في قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]، فلا بأس، و إن شئت سمّيته بالفطرة، كما عن بعض، فلا بأس و إن شئت سمّيته بشروق نور أزلي من الغيب المحجوب على ظلمات الممكنات، فلا بأس. هذا كلّه بناء على ما هو المعروف بين الفلاسفة من القول بتكثّر الوجود و الموجود. و هذا القسم سير تكويني متدرج في قول: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، و قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الثاني: الارتباط الاختياري الالتفاتي الفعلي، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان، و لأجله أنزلت الكتب السماويّة و القرآن المبين، و هو غاية دعوة الأنبياء و جميع المرسلين، و به تقوم درجات الجنان و دركات النيران، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان إلى ما لا حدّ لأقصاه و لا يمكن أن يدرك مداه، و به يسير الإنسان في عالمي الأظلة و الأنوار، و يفرح من نسيم يفوح عن ربوع المحبوب و تلاله، و يدرك سرّ الحياة و الجمال و الجلال:

أراك تزيد في عيني جمالا *** فأعشق كلّ يوم منك حالا

تزيد ملاحة و أزيد تيما فحالي فيك تنتقل انتقالا

ص: 85

و مثل هذه الآية الكريمة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ ، و الآية المباركة: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17-18]. و قال تعالى: يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و الآيات المباركة الاخرى ترشد إلى هذا القسم من الارتباط، حتّى يتّحد الارتباط التكويني مع الارتباط الاختياري، فتزداد جوهرة النفوس الإنسانية تلألؤا و جمالا، و تعرج إلى معارج لا حدّ لها عظمة و جلالا،

قال اللّه جلّت عظمته: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»، و إن اختلفا يصير الإنسان الذي هو من أسعد المخلوقات و أفضل الممكنات من أخسّها و أسفلها، لأنه قطع ارتباطه مع خالقه و خالف منعمه، و أنزل مقام نفسه حتّى في مرتبة التكوين، قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قال تعالى:

ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة، الآية: 17]، و قال تعالى: خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 7]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و هذا القسم من الارتباط حالي، لا أن يكون مقاليا كما يعرفه أهل العرفان.

بحث فلسفي:
اشارة

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة بحث المعاد، و قد اهتمّ به الأنبياء و المرسلون و جميع الكتب السماويّة و الفلاسفة و المتكلّمون اهتماما بليغا، و أطالوا البحث فيه من كلّ جهة، و في المقام مباحث نستوفي الجوانب الأهم منها.

ص: 86

ثبوت أصل المعاد:

يجب وجود المعاد عقلا و شرعا، كوجوب وجود المبدأ كذلك، و الفرق بينهما أن وجوب المبدأ ذاتي، و وجوب المعاد بالغير.

و المعاد من العود، و وجوبه في النظام الأحسن الذي يشمل جميع العوالم عقلي، و يمكن تقرير دليله بوجوه:

الأوّل: ما هو الأسد و الأخصر بأن يقال: إن الأرواح و النفوس أبدية، أي خالدة و باقية، فلا حدّ لآخرها باتّفاق الشرائع السماويّة و جميع الفلاسفة - على ما يأتي - و تعطيل هذه الأبدية المطلقة و إهمالها عن كلّ شيء قبيح عقلا، فيستحيل ذلك عليه عزّ و جلّ، بل لا بد من إبراز مقتضيات ذواتها و خصوصياتها المحفوفة بها، و لا يتحقّق ذلك إلا بالمعاد، فيجب المعاد في النظام الأحسن الربوبي، هذا بالنسبة إلى المعاد الروحاني المتّفق عليه بين الجميع.

و أما المعاد الجسماني، فإنه يمكن تقرير وجوبه بأن يقال: إن الأرواح و النفوس في فعلها محتاجة إلى الآلات الجسمانية، أي الجسد (القلب و البصر و السمع و الرجل و غيرها)، و إن كانت في ذاتها مستغنية عنها، فإن الأرواح توجد متّحدة مع الجسم طول الحياة و تنفصل عنه عند الموت، و لا بد من عود جميع آلاتها (أي الجسد) التي كانت تعمل بها بعد الموت، لفرض تقوّم فعلها بها، و أنها كانت مأنوسة بتلك الآلات من كلّ جهة.

و قيام غيرها مقامها باطل، لأنه يستلزم تنعيم ما لم يصدر منه منشأ النعمة، و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، و هو قبيح عقلا، فكيف بالنسبة إليه تعالى؟ فيثبت المعاد الجسماني.

إن قيل: لا ريب في تحلّل الأجزاء الجسمانيّة في الدنيا، و في عالمنا هذا، و تبدلّ تلك الأجزاء و وصول بدل ما يتحلّل إليها في كلّ مدة، فالبدن الموجود في سن العشرين مثلا غير ما كان في سن العشرة، فيلزم المحذور، أي تنعيم ما لم يصدر منه

ص: 87

منشأ النعمة و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، أو ترجيح المرجوح على الراجح، فليكن البدن الموجود في عالم الآخرة كذلك أيضا، أو يكون من غير سبق بدن أصلا.

يقال: التبدّلات الحاصلة على البدن في هذا العالم ليست تبدّلا ماديّا و صوريّا من كلّ جهة، بل المادة الأوليّة محفوظة، و إنما تتبدّل بعض الخصوصيات و بعض الصور، فالمادة التي تقوم بها النعمة و العذاب محفوظة في أصلها، فيرد العذاب و النعمة على ما صدر منه.

الثاني: الملازمة الواقعيّة الحقيقيّة بين المبدأ و المعاد، لأن المعاد مظهر مالكية المبدأ و قهّاريته و سائر صفاته الجمالية و الجلالية، و المبدأ بدون تلك الصفات لغو محض، بل غير ممكن، و كذا العكس فهما متلازمان ثبوتا، و لا يمكن التفكيك بينهما واقعا، خصوصا بالنسبة إليه تبارك و تعالى.

الثالث: الملازمة الثبوتيّة بين التشريع و الجزاء، فإن أحدهما بدون الآخر لغو، و هو محال عليه تعالى.

الرابع: أن إهمال تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين قبيح في النظام الأحسن، و هو محال على اللّه جلّت عظمته، و الآخرة ليست إلا دار تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين، فلا بد من تحقّقها، و هذا العالم غير قابل لتعذيب المسيئين فيه، لأنّه محدود من كلّ جهة، و أنه ظرف الاستكمال كما يأتي.

و هناك أدلّة اخرى تدلّ على الثبوت نتعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه.

إثبات المعاد:

يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة: فمن العقل ما تقدّم من أدلّة وجوب وجوده، إذ لا يعقل أن يكون شيء واجب الوجود و غير متحقّق في الخارج.

مع أن الممكنات بأسرها خلقت في طريق الاستكمال الدائم - لا الزائل -

ص: 88

لفرض أبدية النفس و الروح، كما أثبتها جميع الفلاسفة - الطبيعيّين منهم و الإلهييّن - و لا بد في ذلك الاستكمال من نهاية و حدّ، سواء كان الاستكمال في الخير أم الشر، و أن المعاد مظهر الاستكمال و نهايته، و أن هذا العالم ظرف الاستكمال كما نراه، فالإنسان - الذي هو أشرف الموجودات و خلقت الأشياء لأجله - يكون في مسير الكمال الذي لا بد له من مظهر، و هو المعاد، أي عالم الآخرة، و إلا يلزم الخلف، أي يكون الكمال بلا أثر و نتيجة.

و أما من الكتاب، فآيات كثيرة، منها قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف، الآية: 29]، و قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الزمر، الآية: 7]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة التوبة، الآية: 105]، إلى غير ذلك من الآيات، و كذا جميع الكتب السماويّة، فإن أهمّ دعوتها هي الدعوة إلى المبدأ و المعاد.

و أما السنّة، فهي فوق حدّ الإحصاء بألسنة مختلفة شتى.

و أما الإجماع، فإجماع جميع الأنبياء و المرسلين، و جميع أهل الكتاب و المسلمين.

المعاد الروحاني و الجسماني:

أما الأول، أي عود الأرواح بعد انفصالها عن الأبدان إليها، للجزاء و التعبير بالعود بالنسبة إلى الأرواح من باب الوصف بحال المتعلّق، لفرض أن الأرواح أبدية لا تفنى.

نعم، عند انعدام جميع ما سواه تعالى ينعدم ثم يوجد و لم يسم ذلك بالمعاد.

و لا خلاف فيه من أحد - ثبوتا و اثباتا - في معاد الأرواح، فإنهم أثبتوا أن الأرواح إما شقيّة، أو سعيدة، و مصير الاولى إلى النار، بخلاف مصير الثانية، فإنها إلى الجنّة، و لا يعقل الفناء المحض و الإهمال بالنسبة إلى الأرواح أصلا، كما أثبته

ص: 89

الفلاسفة، بل المنساق من الأدلّة السمعية - كتابا و سنة - ذلك.

و يمكن إقامة الدليل العقلي عليه بأن يقال: إن الفناء و الاضمحلال من لوازم الجسم و الماديات، لمكان تحلّل الأجزاء تدريجا، و أما إن كان بسيطا من كلّ جهة - كالأرواح و جميع المجرّدات و الروحانيين من الملائكة - فلا موضوع للفناء و التحلّل فيه، فيبقى بعد الحدوث أبدا.

نعم، الانعدام بمشيئة اللّه تعالى و إرادته شيء آخر لا ربط له بالموت و الفناء، فكلّ موجود إما أزلي و أبدي، و هو منحصر به جلّ شأنه، أو حادث أبدي، و هو المجرّدات و الروحانيون، أو حادث و فان، و هو الأجسام و الماديات.

و أما كون شيء أزليا و فانيا، فهو ممتنع للقاعدة التي تسالم الكلّ عليها من أن: «كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه»، فمعاد الأرواح ممّا لا يعتريه الشك أصلا، و من أنكره فقد وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14].

و أما المعاد الجسماني الذي هو مورد دعوة الأنبياء و جميع كتب السماء، فقد أثبته جميع كثير من أكابر الفلاسفة و أعاظمهم، حتّى من غير المسلمين.

و إنما أشكل بعض في استحالته من أنه إعادة المعدوم، فإن الجسم لو انعدم فإعادته محال. و هذا الإشكال قديم الجذور، فقد حكاه اللّه تعالى في جملة من الآيات المباركة عنهم، قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ [سورة الجاثية، الآية: 24]، و غيرهما من الآيات الشريفة.

و لكن أصل الإشكال فاسد، لأنّه مغالطة حصلت من قياس قدرة الخالق على قدرة المخلوق، أي الممكن، فظنوا أن ما لا يمكن بالنسبة إلى قدرة المخلوق هو غير ممكن بالنسبة إلى قدرة الخالق أيضا، و لا ريب في بطلانه، لأن قدرة المخلوق محدودة و قدرة الخالق غير محدودة بوجه من الوجوه، حتّى إنه تعالى خلق الأشياء من العدم، فليكن المعاد بالنسبة إلى الأجساد كذلك أيضا، على فرض تحقّق العدم

ص: 90

بالنسبة إليها، مع أنه لا يمكن لفرض بقاء المواد الأوّلية، و إنما تغيّرت الصور و الجهات الخارجيّة، و لذا قال تبارك و تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية:

27]، فالذي يصوّر مادة المواد و الهيولى الاولى إلى صور شتى بأكمل الصور و أحسنها، يقدر على كلّ ما شاء و أراد، و هو قادر على أن يعيد جميعها.

و ثانيا: أن استحالة إعادة المعدوم لا تختصّ بالمعاد الجسماني، بل تجري في جميع الممكنات حتّى الأرواح، بل مطلق المجرّدات، لانعدامها قبل يوم القيامة، قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة غافر، الآية: 16]، مع أن المعاد الروحاني متّفق عليه بين جميع الفلاسفة، بل العقلاء أيضا.

و ثالثا: على فرض التسليم أن المحال إنما هو إعادة المعدوم بجميع خصوصياته الزمانيّة و المكانيّة و سائر الجهات، لا خصوص المادة و الصورة، مع عدم ملزم لإعادة سائر الجهات، و أنهما محفوظان في عالم القضاء و القدر، اللذين هما أوسع العوالم الربوبيّة، بل يمكن أن يكونا محفوظين في الأذهان السافلة أيضا، فلا موضوع للمغالطة أصلا.

الشبهات الواردة على المعاد:

أوردت شبهات كثيرة على المعاد، و لكن أهمّها ثلاث:

الاولى: ما اصطلح عليها في كتب الفلاسفة و المتكلّمين بشبهة الآكل و المأكول، و تعرّض لها بعض كتب الفلسفة الحديثة أيضا، و هي قديمة و ترجع جذورها إلى ما قبل الإسلام، كما يستفاد من الآيات المباركة، و حاصل الشبهة أنه إذا تورد على بدن الإنسان صور أشياء مختلفة، كأن صار الإنسان مثلا فريسة لسبع، و صار السبع فريسة لسبع أقوى منه، ثم استحال الجميع إلى التراب، و استحال التراب إلى النبات، و صارت هي مأكول الحيوان أو الإنسان، فكيف يمكن أن يعود بدن الإنسان الذي تواردت عليه صور شتى في المعاد، و هل يعاد

ص: 91

بالبدن الأولي و الهيكل الأصلي للإنسان، و المفروض انعدامه بالكلية؟ أو بالصورة العارضة عليه، فيلزم أولا أن لا يعود البدن أو الجسم الموجود في دار الغرور في عالم الحشر و النشر، و هو خلاف ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على إثبات المعاد الجسماني.

و ثانيا: يلزم تنعيم من لم يصدر منه فعل الطاعة، و تعذيب من لم يصدر منه منشأ العقاب، و هو باطل بالضرورة، و هذا هو أصل الشبهة.

و لكنها باطلة، لما تقدّم من أن الصور التي تعرض على الشيء و تتغيّر لا تنافي بقاء المواد الأولية لذلك الشيء، فهي باقية و محفوظة و إن تبدّلت الصور العارضة عليها و حصلت التطورات، لكن المادة الأوّلية باقية، نظير المضغة التي تكون في مصير الاستكمال الإنساني، فهي موجودة في الإنسان و إن بلغ من العمر ما بلغ، و لكن تتبدّل عليها الحالات و الصور الكثيرة، و المعاد الجسماني أيضا كذلك، فيكون التعذيب واردا على من صدر منه فعل المعصية، و التنعيم على من صدر منه فعل الطاعة، و هو باق و إن عرضت عليه صور كثيرة.

مع أن العلم الحديث في التجزئة و التحليل تمكّن من تجزئة المواد في الجسم، و امتياز المواد الحيوانية عن النباتية، و هما عن غيرهما، فكيف بقدرته تعالى؟! و لا فرق في ذلك بين أن يكون الآكل هو الحيوان أو يكون إنسان آخر، كما لو أكل إنسان إنسانا آخر، فالجواب في الجميع واحد.

و أصل الشبهة ناشئة من تحديد قدرة الخالق و قياسها على قدرة المخلوق، مع أن قدرة المخلوق أمكنها السيطرة على حفظ المواد الأولية في الجسم و امتيازها عن غيرها، بل و نموها كما عرفت، و هذه الشبهة مقرّرة في القرآن الكريم بنحو الإجمال، قال تعالى: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قال تعالى:

أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [سورة القيامة، الآية: 3، 4].

ص: 92

الثانية: أن المعاد إنما هو لتعذيب الأشقياء و تنعيم السعداء، و هذه النتيجة يمكن أن تحصل في هذه الدنيا و في هذا العالم، فلا يحتاج إلى التعذيب في عالم الآخرة، فيعذب اللّه تعالى الأشقياء في هذه الدنيا حتّى يرد الجميع إلى عالم الآخرة بلا منشأ للعقاب، فيردون الجنّة بغير حساب، فيكون التعذيب في هذا العالم بمنزلة التوبة الممحاة للذنوب، و هذه الشبهة كثيرة الدوران في الفلسفة الحديثة.

و لكنها باطلة... أولا: لأن اللّه تبارك و تعالى جعل للذنوب في هذه الدنيا ما يوجب محوها و إزالتها، كالحدود و التعزيرات و الدّيات و الكفّارات و التوبة و الاستغفار و التكفير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، فأي إنسان عمل بذلك، فلا ذنب له فيتحقّق التعذيب في هذا العالم بالحدود و التعزير و الديات و غيرها، فلا موضوع لهذه الشبهة، فإن اللّه تعالى أجلّ من أن يعذب العاصي مرتين.

و ثانيا: أن كثيرا من المعاصي في هذه الدنيا ناشئ من سوء السريرة و فساد الطينة اقتضاء، و هذا العالم بزمانه و زمانياته قاصر عن تعذيب مثل هذه السريرة، لأن هذا العالم متناه، و السريرة فيها اقتضاء عدم التناهي، فلا بد و أن يؤجل إلى عالم الآخرة.

و ثالثا: أن هذا العالم ظرف الاستكمال في جميع الجهات، و التعذيب مناف له، نعم بعض آثار الذنوب تظهر في هذه الدنيا، و أنها من الآثار الوضعية، و لا ربط لها بالتعذيب و المعاد.

الثالثة: المعاد الجسماني مستلزم للتناسخ الباطل - كما سيأتي - فيكون المعاد الجسماني باطلا كذلك، خصوصا بعد اشتمال الأدلّة السمعية على حشر بعض أفراد الإنسان بصورة بعض الحيوانات.

و الجواب عنها: أن المعاد الجسماني ليس من التناسخ في شيء، و بينهما تباين كلّي، لأن التناسخ الباطل عبارة عن انتقال الروح من بدن في هذا العالم إلى بدن

ص: 93

غيره، كلّ منهما في عرض الآخر، و أما بقاء الروح إلى عالم آخر طولي و تغيير بدنه حسب المقتضيات و الملكات، فلا ربط له بالتناسخ أصلا، بل يكون المقام نظير ما إذا ابتلى بدن الإنسان بمرض، بحيث زالت محاسنه و ذهبت هيئته و صفاته بالمرّة لأجل الجهات الخارجيّة مع بقاء روحه، فكم من شخص كان في غاية الجمال في شبابه فصار قبيحا في هرمه و شيخوخته، و كم مرغوب إليه في سن فصار مرغوب عنه في سن آخر، و هكذا فالمعاد الجسماني من هذا القبيل. هذا فيما إذا تغيّر البدن في عالم الحشر، و أما إذا لم يتغيّر فلا موضوع للشبهة أصلا.

ص: 94

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ .......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ وَ اَللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ (13) الآيات المباركة مرتبطة بما قبلها، حيث إنها ختمت بذكر اليوم الذي لا ريب فيه، فقد ذكر فيها بعض خصوصيات ذلك اليوم، و هي أن أعمال الكافرين لا تغني عنهم شيئا، و أن مصيرهم إلى النار، بل هم وقودها، بلا اختصاص في ذلك بالذين كفروا بدعوة محمد صلّى اللّه عليه و آله، بل يعمّ جميع الكفّار الذين كفروا بأنبيائهم.

و قد أعلن سبحانه و تعالى أنهم مغلوبون في هذه الدنيا، و يحشرون في الآخرة إلى النار.

كما أنهم رأوا بأنفسهم ما وقع بين الفئتين المؤمنة و الكافرة، من نصرته تعالى الفئة المؤمنة منهما على الكافرة.

و الآيات الشريفة تتضمّن نداء حقيقيّا واقعيّا صادرا عن الحقّ الواقع الذي لا مرية فيه و لا شكّ يعتريه، و هو أن المخاصمة مع اللّه جلّ جلاله ليس فيها إلا الهلاك و الخسران، و لا يعقل أن تتدارك بشيء ممّا هو في ذاته و حدوثه و بقائه محتاج إليه جلّت عظمته. و أن الكفر به تعالى سواد شديد و ظلمة مهلكة، لا يمكن محوهما أزلا و لا أبدا، إلا بالخروج من تلك الظلمة إلى الإيمان و النور في دار الدنيا و عالم الغرور.

و يقرع هذا النداء مسامع الملكوت الأعلى و عقول ذوي الألباب من أهل الدنيا.

ص: 95

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

تقدّم معنى الكفر و أقسامه، و المراد منه في المقام إنكار المبدأ أو الشرك به، أو إنكار المعاد، أو إنكار دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بين جميع ذلك تلازم في الجملة، فإن إنكار المبدأ ملازم لإنكار النبوّة و المعاد، و إنكار النبوّة مستلزم لإنكارهما أيضا، لأن الاعتقاد بالمبدأ و المعاد لا بد أن يكون من طريق شريعة سيد المرسلين.

و الغناء عدم الحاجة، و هو من الأمور التشكيكية ذات الإضافة، فالغني المطلق - ذاتا و صفة و فعلا - منحصر به تعالى، قال تعالى: وَ اَللّهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ [سورة محمد، الآية: 38]، و قال تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [سورة الحديد، الآية: 24].

و يطلق على الغني بالذات و المحتاج بالفعل، و يمكن أن يتصوّر ذلك في المجرّدات، فإنها في مرتبة ذاتها خالية عن الاحتياج إلى المادة، لكن في مرتبة الفعل محتاجة إليها، و إن كان فيها أيضا أشدّ الاحتياجات و هو الإمكان، فكلّ ممكن محتاج، كما أن كلّ محتاج ممكن.

و يطلق على غناء النفس، الذي هو عبارة عن قلّة الحاجات، و منه قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى [سورة الضحى، الآية: 8]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الغنى غنى النفس».

كما يطلق على الأموال التي يكتسبها الإنسان، كقوله تعالى: وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [سورة النساء، الآية: 6]، و قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النور، الآية: 32].

و المراد منه في المقام القسم الأخير فقط، كما يأتي.

ص: 96

و المعنى: أن الذين كفروا باللّه تعالى و بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله لا تنفعهم و لا تنجيهم أموالهم التي يبذلونها لجلب منافعهم و دفع مضارهم الدنيوية، و لا أولادهم الذين يتناصرون بهم في دفع ملمّاتهم و يعولون عليهم في الخطوب و الشدائد الدنيوية من عذاب اللّه شيئا، لفرض نفاذ المال و اضمحلاله، و حدوث النفرة بين الآباء و الأولاد، كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس، الآية: 34-37]، فلا ينفعهم اعتقادهم بأن قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سورة سبأ، الآية: 35]، و قد أنكر سبحانه و تعالى ذلك عليهم و ردّهم بقوله جلّ شأنه: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ اَلضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سورة سبأ، الآية: 37].

فالمراد من الإغناء هو الإغناء عن أهوال الآخرة و شدائدها، و الإضافة المالية تنقطع بمجرّد الموت، و تنتقل إلى الغير، فتكون هذه القضية من المنتفية بانتفاء الموضوع.

نعم، لو أنفق ما له في سبيله تعالى يكون باقيا إلى الأبد و ينتفع به المنفق، قال تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية:

110]، و هو مفروض العدم لفرض الكفر و عدم الإيمان.

و أما الأولاد، فلا يذكرون آباءهم في شدائد الدنيا فضلا عن أهوال العقبى:

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج، الآية:

2]، فلا منجى من تلك الأهوال و الشدائد إلا بالإيمان و العمل الصالح فقط، لانقطاع الإضافات في شدائد الدنيا، فضلا عن شدائد الآخرة التي لا تناهي لشدّتها و لا حدّ لمدّتها.

ص: 97

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ .

الوقود الحطب أو ما توقد به النار و تلتهب، و في التعبير بالوقود بالنسبة إلى الكفّار إشارة إلى أنهم بمنزلة المادة و الأصل لتعذيب سائر أهل النار، كما أن الوقود في هذا العالم يكون أصلا و مادة للإحراق و سائر الأشياء المستفادة من النار، كذلك الكفّار في تعذيب أهل النار، قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 98]، و قال تعالى:

وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [سورة الجن، الآية: 15].

قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

الدأب العادة المستمرة أو السير الدائم، قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائِبَيْنِ [سورة إبراهيم، الآية: 33]، و يطلق على الجدّ و الاجتهاد أيضا من باب الملازمة، قال تعالى محكيا عن تأويل يوسف لرؤيا الملك: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [سورة يوسف، 47].

و الآية المباركة مثال لكل جبّار عنيد، كذب بآيات اللّه تعالى بعد تمامية الحجّة عليه، فتشمل جميع الأقوام الذين كانوا في الدنيا و الذين سيأتون إليها إلى آخر فنائها.

و الذنب مؤخّر الشيء و استعمل في النصيب أيضا، قال تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [سورة الذاريات، الآية: 59]، و يطلق على كلّ فعل يستوخم عقباه، و لذلك يسمّى الذنب بتبعة، كما ورد في كثير من الدعوات لما يتبع الإنسان من عواقب الفعل، قال تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأنفال، الآية: 54]، و قال تعالى: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأعراف، الآية: 100].

و الذنب على أقسام كما يأتي ذكرها في الآيات المناسبة، و المراد به في المقام الذنب الذي يرفع الحجّة و يغلق باب التوبة، فلا تقوم الساعة إلا على شرار خلق

ص: 98

اللّه تعالى كما في الأحاديث.

و المعنى: أن الذين كفروا بدعوة النبيّ و أنكروا الشريعة دأبهم كدأب قوم فرعون مع موسى عليه السّلام، و دأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآيات اللّه و حججه فاستولت عليهم ذنوبهم فأهلكهم اللّه و نصر الرسل، و اللّه شديد العقاب بالنسبة إلى الكفّار أو الذين علموا بالحقّ الواقع و أنكروه.

قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ .

الخطاب متوجّه إلى سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، بل في الواقع متوجّه إلى كلّ نبي أو ولي من أولياء اللّه تعالى و أنبيائه الذين يستضعفون في الأرض بكلّ نحو من الأنحاء، و مع ذلك لهم قدم راسخ في إظهار الحقّ و إعلاء كلمته.

مادة (ح - ش - ر) تأتي بمعنى الجمع و السوق و حيث إن الجلاء عن المحلّ و الخروج عن المقر يستلزم الحركة، سمّي ذلك حشرا، و يقال ذلك في الجماعة غالبا، سواء كان الحشر في الدنيا كما في قوله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ [سورة الشعراء، الآية: 53]، و قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ [سورة النمل، الآية: 17]، أم في الآخرة مثل قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [سورة الكهف، الآية: 47]، و اطلق (الحاشر) على سيد الأنبياء، و لعلّه لتنزيل هذا الفرد العظيم منزلة الجماعة، أو لأن الناس يحشرون خلفه، و على ملّته يسوق الناس إلى المحشر، فإنه آخر الأنبياء و أوّل فيض السماء، فيقوم على قدميه بين يدي اللّه جلّ جلاله و الناس مصطفون خلفه، فيسوقهم إلى موازين العدل و الحساب و تعيين الجزاء بالثواب و العقاب، و مادة (بأس) من المواد المستعملة في الذمّ بجميع هيئاتها، اسما و فعلا.

و المعنى: قل للكافرين من اليهود و غيرهم من الكفّار: إنكم ستغلبون و تقهرون في هذه الدنيا و تساقون في الآخرة إلى النار و بئس المهاد، لما مهدتموه لأنفسكم.

ص: 99

و في الآية بشارة إلهية للمسلمين بالغلبة الواقعيّة الحقيقيّة لهم و لأنبياء اللّه و أوليائه و المتّقين، و إن كان لأعدائهم الغلبة الاعتقاديّة الوهمية الزائلة، لاقتضاء الدنيا على الوهم و الخيال.

و وعد منه عزّ و جلّ بحفظ دينه من كيد الكفّار و شبه المعاندين و أضاليلهم، فيكون مضمونها مثل قوله تعالى: وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و غيرها من الآيات الكريمة التي تبشّر المؤمنين بالنصر و الغلبة، فتكون هذه الآية من المغيّبات القرآنيّة، و هي كثيرة.

و يصحّ أن يراد بالغلبة المعنى العام منها، الشامل للغلبة الخارجيّة في الدنيا و الآخرة، و الغلبة في الاحتجاج كما هو كذلك في الواقع، و الآية تشير إلى أمر طبيعي، و هو الصراع بين الحقّ و الباطل، و التي هي من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة، كما أشرنا إليه مرارا، و سيأتي في الموضع المناسب إقامة البرهان عليه.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين، فيكون معنى قوله تعالى: وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ الحشر إلى جهنم و الدخول فيه، سواء غلبوا أم لا، لأن حيثيّة الكفر تعليلية، لا يمكن تخلّف المعلول عنها، كما برهن في محلّه.

قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا .

تحذير للذين كفروا و إنذار لهم بعدم الإصرار على اللجاج و المعاندة، و عدم الاغترار بالعدد و العدّة. و دعوة للمؤمنين للاعتبار و التفكّر فيما منّ اللّه تعالى عليهم بالنصر و الغلبة و تأييدهم مع ما هم عليه من القلّة في العدد و العدّة، و تصرّفه في الأبصار و جعل الفئة القليلة كثيرة في أعين الأعداء، فكان ذلك شارقة من شوارق الأنوار الربوبيّة على أصحاب بدر و نصرتهم على الكفر و الجهالة، و بها تنفس صبح السعادة و انطوى بساط الشرك و الجهالة، فخرجوا منتصرين في هذه الواقعة قد رفعوا راية الإسلام و زعزعوا أركان الشرك و الطغيان، و قد شدّوا على العزائم و أذعنوا بالنهوض لطاعة الرسول القائد، فظفروا بالنجاح و النصرة.

و قد استشهد في هذه الواقعة بدور حزنت عليهم شمس الضحى، و ارتفع أنين

ص: 100

سيد الأنبياء على القليب بما يصدع القلوب:

«زمّلوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما».

فما بدر إلا منبع النور و الصفا *** يضيء لأهل الأرض من أفق السما

مصارع عشاق تجلّت قلوبهم بحبّهم الرحمن حبّا متيما

و الخطاب متوجّه إلى الرسول الكريم لما هو رأس الامة و رئيسهم، فيشمل المؤمنين.

و الآية: الدلالة الواضحة. و الفئة: الجماعة الملفّقة مع غيرها لغرض من الأغراض. و الالتقاء: الاجتماع و التلاقي.

و الآية لم تذكر واقعة بدر بالاسم، و لكنها تشير إلى أمر معهود بين المؤمنين المخاطبين، فتنطبق على واقعة بدر، إذ لم يعهد أن يكون التصرّف في الأبصار في غيرها.

و غزوة بدر من أهم غزوات الرسول الكريم، و هي أوّل غزوة خرج المسلمون منها منتصرين.

و بدر: اسم ماء بين مكّة و المدينة، و قد وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، و جيش المسلمين مؤلّف من ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، سبعة و سبعون منهم من المهاجرين، و صاحب رايتهم علي بن أبي طالب عليه السّلام، و مائتان و ستة و ثلاثون من الأنصار و صاحب رايتهم سعد بن عبادة، و كان في العسكر تسعون بعيرا و فرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، و الآخر لمرثد بن أبي مرثد، و كان معهم ستّة دروع و ثمانية سيوف، و استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار، و الرعب يقدم جميع المسلمين، و كان نصر اللّه يرفرف فوق رؤوسهم، و النبيّ الأعظم هو السبب المتّصل بين الأرض و السماء، فكان النصر حليفهم و الغلبة أ ليفهم، و نزلت كلمة التوحيد من السماء و جعلها أهل بدر شعارهم و على أعلامهم.

و يرجى من المسلمين أن يجعلوا هذه الواقعة نصب أعينهم و يهتدوا على هديها و يكونوا من البدريّين.

ص: 101

قوله تعالى: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ .

أي: انظر إلى تلك الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل اللّه، و إلى الفئة الكافرة الكثيرة، و قد كتب للأولى - مع قلّتها - الغلبة، و على الثانية - على كثرتها - الذلّ و الهوان، و في ذلك عبرة لاولي البصائر و الأبصار بعدم الاغترار بالكثرة في الأموال و الأولاد، فإن ذلك ليس سبيل النصر و النجاح، بل اللّه ينصر من يشاء و لا يعجزه شيء.

قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ .

أي: ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة المرئية مثلي عددهم في العين و المشاهدة، لأجل إرعاب الكفّار و إعلان الغلبة. و هذا الأمر لا ريب فيه بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى، لإحاطته على البصائر، فكيف بالأبصار؟ مع أن تكثير العدد بالنسبة إلى رؤية العين أمر ممكن بحسب الأسباب الطبيعيّة، كما ثبت في علم المبصرات.

و يمكن أن يكون ذلك تصرّفا في الهواء المجاور للعين، بحيث ينعكس الواحد متعدّدا فيها.

و الآية الشريفة تبيّن تكثير المؤمنين في العين، و لكن الآية الاخرى في سورة الأنفال تبيّن تقليل المسلمين في أعين الأعداء، و هي قوله تعالى: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ [الآية: 44].

و وجه الجمع بين الآيتين أن التكثير كان لغرض و التقليل كان لغرض آخر، و لعلّه كان التقليل لأجل اجتراء العدو على مقاتلة المسلمين، ثم تكثيرهم في أعين الكفّار و إحاطة المسلمين بهم، ليفوزوا بالنصر و الغلبة، و هذا من أحد أسرار الحروب، كما هو المعهود في العصر الحاضر، كما يمكن أن يكون التقليل و التكثير في زمانين متعدّدين، أو يكون في زمان واحد و لكن يقلّل بعضا و يكثّر بعضا آخر.

و ظاهر الآية الشريفة أن الضميرين في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ

ص: 102

يرجعان إلى الجملة السابقة، أي ترى الفئة الكافرة المسلمين ستمائة و ستة و عشرين، مثلي عددهم، و هو ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، كما مرّ.

و في مضاعفة العدد في رأي العين زيادة في الرعب و الهيبة في قلوب الكافرين، ليجنبوا عن قتال المسلمين - كما تقدّم - لاختلاف الموردين، و هذا الوجه أقرب بلحاظ الآيتين الشريفتين و أظهر.

و قد قيل في شأن الضميرين وجوه كثيرة اخرى، أهمّها:

اختلاف المرجع في الضميرين، فيرجع أحدهما إلى المؤمنين و الآخر إلى الفئة الكافرة، أي يرى المؤمنين مثلي عدد الكافرين. و لكنه بعيد عن ظاهر اللفظ.

و قيل: إن الضميرين يرجعان إلى الفئة الكافرة، أي يرى الكافرون أنفسهم مثلي عددهم، و هو تسعمائة و خمسون، فكان عددهم في رأي العين ألفين و ذلك ليوافق تقليل عدد المسلمين الوارد في الآية الاخرى، فيكون عددهم السدس في النسبة.

و يردّ عليه: أنه مخالف لظاهر الآية الشريفة و يوجب اللبس، و أن حقّ الكلام حينئذ أن يكون يرون أنفسهم مثليهم، و التطابق بين الآيتين الشريفتين حاصل، و لو لم نقل بهذا الوجه كما عرفت.

و قيل: إن معنى الآية الشريفة أن المسلمين كانوا يرون الكافرين مثليهم في الجمع لا في العدد.

و قال شيخنا البلاغي: «كانوا يرون جمع قريش مثليهم بحسب رؤية العين للجمع و صورة التجنّد، لا بحسب الإحراز للعدد و معرفة الكمية، و الحكمة في ذلك هي أن الاستقلال في العدد يوجب الوهن و الجبن، فيتساهلون عن حرب الكافرين استضعافا لهم. و لكن لم يروهم في أعدادهم و مقدارهم لئلاّ تهولهم كثرتهم فيحجموا عن مناجزتهم و يتخاذلوا عن حربهم، كما قال تعالى في صورة الأنفال: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ .

و فيه: أنه بعيد عن سياق الآيتين الشريفتين بعد التأمّل فيهما.

ص: 103

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ .

الأيد و الأد: القوة. و هي إذا أضيفت إلى اللّه تعالى تكون غير متناهية و غير محدودة بحدّ من جميع الجهات، إلا إذا خصّصها اللّه تعالى بمورد خاص، لأنها تابعة للمصالح الحقيقيّة الواقعيّة، و في المقام ذكر عزّ و جلّ بعده النصر و الغلبة.

و قد أيّد اللّه تعالى المسلمين بالنصر و الغلبة، و هي قد تكون حسيّة ظاهريّة كما في غزوة بدر و غيرها، أو تكون في الحجّة و البرهان، فأيّد اللّه تعالى الإسلام بحجج متينة و مباني قوية، أصولا و فروعا، و إلى كلا الأمرين يشير

ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه».

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ .

العبرة: الموعظة، و الإبصار جمع البصر أو البصيرة، و الظاهر هو الأخير، أي البصيرة دون بصر العين فقط - كما يراه بعض - باعتبار أن الآية تتمة للآية السابقة التي كان التصرّف في رؤية العين. و ذلك بقرينة العبرة، فإنها من الاعتبار الذي يحصل في البصائر.

و إنما ذكر سبحانه البصر لأجل المبالغة، باعتبار أن العين هي التي تعتبر، و لأجل أن المورد يتضمّن التصرّف في رؤية البصر.

ص: 104

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: أن الأموال و الأولاد و كثرة العدد و العدّة التي يعدّها الإنسان في حياته، مسخّرة تحت إرادة اللّه عزّ و جلّ، و قد يصرفها على ضد ما يريده الإنسان، فيؤيّد اللّه تعالى الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه عز و جلّ، ففي الآية الشريفة الموعظة البليغة للإنسان بعدم الاغترار بما عنده من الأسباب الظاهريّة، فلا بد من التوجّه إليه تعالى و استمداد العون منه عزّ و جلّ.

و هذه الآيات الشريفة ترشد الإنسان إلى التحفّظ على نفسه و شدّة الحيطة، لئلا يغفل عن اللّه تعالى و ينسى ذكر ربّه فيقع في المهالك، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية:

19].

كما أنها تبيّن أنه لا بد من الارتباط مع عالم الغيب الذي نسبته إلى الإنسان كنسبة الروح إلى الجسد، فلا أثر لأحدهما بدون الآخر، و هذا الارتباط منه ما هو غير اختياري، و أن له التأثير التام و لا يحيط به إلا العليم العلاّم، و منه ما هو اختياري، و هو إما أن يكون التفاتيّا تفصيليّا، و هو مختصّ بأخصّ الخواص، و إما أن يكون إجماليّا و لجميع أفراد الإنسان، بل الحيوان له حظ من ذلك،

ففي الحديث:

«مهما أبهموا عن شيء لا يبهمون عن خالقهم و رازقهم و موضع سفادهم»، و لعلّ اللّه عزّ و جلّ بفضل العلوم الحديثة يكشف عن بعض أسرار هذا الارتباط.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ، على أن الكفر و الباطل ممحوق لا محالة، و أن الحقّ لا يمكن الغلبة عليه و إزالته، و بمضمون ذلك آيات اخرى، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قال

ص: 105

تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة النور، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و يمكن أن يجعل غلبة الحقّ على الباطل من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة، كما أشرنا إليه في عدّة مواضع من هذا التفسير.

الثالث: الآية الشريفة تتضمّن الوعد بالغلبة و الفوز بالنجاح للمؤمنين، و هو من المغيّبات القرآنية التي هي كثيرة في القرآن الكريم.

الرابع: صريح الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين، و أنهم في جهنم خالدون، و قد تقدّم في سورة البقرة البحث في الشفاعة و موارد ثبوتها فراجع.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اَللّهِ على العلّة في غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، فإنه كلّما خلصت النية و كانت الغاية سبيل اللّه تعالى، كان التأييد من اللّه تعالى أكثر، و أن المؤمن أشدّ ثباتا في سبيله تعالى و أكثر عزيمة، و هو من أهمّ أسباب الظفر و الغلبة و النجاح.

السادس: يدلّ قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ على العلّة في استحقاق الإنسان للعقاب في الآخرة، و هي أن المعاصي إذا صارت عادة للإنسان بحيث لا يضمر إلا الذنب و المعصية مهما طال به العمر، استحق العقاب الدائم.

و فيه ردّ على من زعم أن عمر الإنسان محدود في الدنيا، فلا وجه لاستحقاق العاصي العذاب الدائم و خلوده في النار، فهو إنما يستحق لأجل إضماره المعصية و الذنب مهما طال به العمر، بحيث صار عادة له.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ، أن أخذ اللّه تعالى للعاصين و عقابهم لا يكون من طرف خاص، كالفوق أو التحت أو نحوهما، كما في الشرور المتوجّهة إلى الإنسان، بل أخذه تعالى من جميع الجهات و الخصوصيات، فلا تنفعه الأموال و الأولاد و العزّة و الملك.

الثامن: إنما قدّم سبحانه و تعالى الأموال على الأولاد، لكون حبّ المال عند الإنسان آكد و أقدم من حبّ الولد، و إن كان حبّ الولد قد يغلب على حبّ المال، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة الأنفال، الآية: 28]،

ص: 106

و قال علي عليه السّلام: «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب»، فالمال في نظر الإنسان هو السبب المهمّ في حياته، و به يستوفي حاجاته و يشبع رغباته، و قد تصل به الحالة إلى الركون إلى الأموال و الأولاد، و تشغله عن ذكر ربّه، فينساه و به هلاكه، لأنه يغفل عن نفسه أنه تحت إرادته عزّ و جلّ.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ، على أن العادات السيئة التي يغفل عنها الإنسان لها الأثر الكبير في زيغه و ضلاله و عذابه، و ما أرسل اللّه الرسل و الأنبياء إلا لإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم، و نبذ ما يكون سببا في ضلالهم و غوايتهم، و هذه الآية واحدة من الآيات الكثيرة التي ترشد الإنسان إلى هذا الأمر الخطير، و تبيّن شدّة تأثير هذا الأمر الاجتماعي، بحيث يسلب عقل لإنسان و يسيطر على حواسه و مشاعره و يوصله إلى طريق مسدود، و لا يختصّ مضمون الآية الشريفة بآل فرعون و الذين خلوا من قبلهم، بل يجري في جميع أفراد الإنسان.

العاشر: إنما أضاف سبحانه الأخذ و شدّة العقاب إلى ذاته الأقدس، لأنه تعالى مصدر الجزاء ثوابا و عقابا، كما أنه مصدر التشريع إيجابا و تحريما، فهو المهيمن على الجميع، و يكون ثوابه و عقابه موافقين للحكمة التامّة البالغة.

الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ ، أنهم من أوّل حدوثهم في الدنيا وقود النار إلا أن خصوصية العوالم حجبت أعيننا عن رؤية ذلك في الدنيا، فأي وقود ناري أشدّ و أغلظ من التربية في الكفر و الفسوق و العصيان.

الثاني عشر: إنما ذكر سبحانه و تعالى فرعون و الذين من قبلهم دون من بعده، ليتفأل أهل التوراة و الإنجيل و القرآن بانقطاع الفرعونيّة و الفراعنة و هلاك فرعون موسى و هارون.

الثالث عشر: إنما ذكر سبحانه و تعالى سبيل اللّه في جهاد المؤمنين، و لم يذكر في المقابل سبيل الشيطان أو سبيل الطاغوت - كما في آيات اخرى - لبيان العلّة في غلبة الفئة المؤمنة، و إنها الإيمان باللّه، و كون الجهاد في سبيله، و لبيان العلّة في انهزام الفئة الاخرى، و هي الكفر به عزّ و جلّ، فكانت المقابلة بين العلّتين دون السبيلين ليذكر السبيل الآخر.

ص: 107

بحث أدبي:

مقتضى الاستعمالات المتعارفة الأخذ بعموم اللفظ و إطلاقه، ما لم تكن قرينة معتبرة على الخلاف، و أن زمان صدور الكلام و مكانه و الأمور العامّة المحفوفة بالكلام لا تصير مقيّدة و مخصّصة للإطلاق أو العموم، و على ذلك جرت سيرة الإفادة و الاستفادة بين الناس في كلّ كلام يصدر من كلّ متكلّم لكلّ مخاطب.

و طريقة (القرآن) لم تخرج عن طريقة العرف، فقد وافقتها في جميع ذلك، لأن آيات القرآن الكريم كلّيات واقعيّة حقيقيّة، و مطابقتها لزمان خاص أو مكان مخصوص من باب الانطباق لا التقييد الحقيقي، فما ذكره المفسّرون في شأن نزول هذه الآية الكريمة انطباقي قهري، لا أن يكون تحديدا لمعناها بوجه من الوجوه، فالآية الشريفة تشمل جميع ما يصحّ انطباقها عليه، من أول نزولها إلى آخر الدنيا، انطباقا حقيقيّا واقعيّا، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة.

بحث روائي:

في تفسير القمّي في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ ، أنها نزلت بعد بدر لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بدر أتى بني قينقاع و هو يناديهم، و كان بها سوق يسمّى سوق النبط، فأتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا معشر اليهود، قد علمتم ما نزل بقريش و هم أكثر عددا و سلاحا و كراعا منكم، فادخلوا في الإسلام، فقالوا: يا محمد، إنك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟ و اللّه لو لقيتنا للقيت رجالا، فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ .

أقول: روي قريبا منه في المجمع، و في الدر المنثور عن ابن إسحاق و ابن ير، و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

ص: 108

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِض.......

اشارة

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ (14) قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ (16) اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) الآيات الشريفة تبيّن حقيقة الدنيا و الآخرة، و أن الاولى محفوفة بحبّ الشهوات و ما يوجب الضلال و الخروج عن الصراط المستقيم، و أن رغائب النفوس و دوافع الغريزة هي التي تشغل الناس عن التبصّر و الاعتبار و التوجّه إليه سبحانه و تعالى، و تحجبهم عن منابع النور و الحكمة، كما تحرمهم عن نعيم الآخرة.

و قد عدّ سبحانه و تعالى في الآية الاولى اصول الشهوات المنسوبة إلى نفس الإنسان و أنها التي توجب الزيغ و الضلال، و أن قلوب الناس ملئت حبّها و جعلت مشغوفة بها، و هي الستة - النساء، و البنون، و الأموال، و الخيل، و الأرض المخصبة، و الأنعام - التي تتدخل في سلوك الإنسان في الدنيا و تعيّن مستقبله في العقبي، فهي قضايا حقيقيّة تصدقها العقول، فتكون الآية الشريفة بمنزلة الشرح لحقيقة حال من يعتقد أن الاستغناء إنما يكون بالتلذّذ بالنساء و الأولاد و الأموال و ما وهبه اللّه تعالى، فأعرضوا عنه عزّ و جلّ، لأنهما كهم في المشتهيات و حبّ الدنيا، و بيّن عزّ و جلّ أن ما في الدنيا من جميع المشتهيات هي متاع زائل لا قرار له.

و في الآية التالية ذكر سبحانه و تعالى نعم الآخرة و لذائذها، و هي جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهّرة، و أهمّها رضوان من اللّه، و قد بيّن عزّ و جلّ ما يوجب الاستمتاع به و الدخول في رضوانه جلّ شأنه و الوسيلة

ص: 109

لكسب السعادة في العقبى، كما بيّن الطريق الذي لا بد من سلوكه ليوصلنا إليه عزّ و جلّ، و هو الإيمان به تعالى و اللجوء إليه و الصبر و الإنفاق و التوبة و الإنابة، ثم الصدق في جميع ذلك و الخضوع لديه عزّ و جلّ.

التفسير

قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ .

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى، قال تعالى: وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سورة فصلت، الآية: 12]، و قال تعالى:

حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ اِزَّيَّنَتْ [سورة يونس، الآية: 24]، و قال تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [سورة القصص، الآية: 79]، و في حديث الاستسقاء: «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزيّنها.

و الزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات و الأعصار و الأمصار، و أنها من الجماليّات التي يكون حسنها ممدوح و جذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ، و لا يمكن وصفها باللفظ، و الزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و غيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون اخرى، فهي زينة بالوجه و الاعتبار، و ليست هي حقيقيّة على الإطلاق.

و الزينة على أقسام ثلاثة: زينة نفسانيّة، كالعلم و الاعتقادات الحسنة و الكمالات النفسانية المقرّرة في الشريعة، و زينة بدنيّة جسمانيّة، كالشمائل الظاهريّة الحسنة،

قال علي عليه السّلام: «زينة المرء حسن أدبه، و جمال الرجال في عقولهم، و عقول النساء في جمالهن»، و زينة خارجيّة كالمال و البنين و الاعتبار. و قد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم.

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].

ص: 110

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].

و اخرى: إلى الشيطان، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 43].

و ثالثة: لم يسم فاعلها - كما في المقام - و الوجه في ذلك أن اللّه تعالى خلق الدنيا و ما عليها وسيلة إلى نيل الكمال و الوصول إلى غاية حميدة، و هي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعا و دار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل، فكلّما كان الزاد أحسن و أبقى، كان العيش في الآخرة أهنأ و أحسن، و قد خلق اللّه تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، و تكون وسيلة للتزوّد منها و يتوسّل بها إلى الدخول في رضوان اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 7، 8] و إلى ذلك يشير كلّ ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالى.

و أما إذا جعل الإنسان الدنيا و ما عليها من الزينة محط نظره، و اعتبرها أمرا مستقلا و جعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة و ذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، و أحبّها حتّى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال و الأولاد تغني عنهم، فزيّنت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالا عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، و إن كانت الدنيا مخلوقة للّه تعالى، و قد أذن للإنسان أن يتمتّع بها، ليتمّ النظام، و لكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها و يعرض عن ذكره عزّ و جلّ، فإن اللّه تعالى أعزّ و أمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.

و تقدّم معنى الحبّ في آية 165 من سورة البقرة.

و مادة (شهوة) تأتي بمعنى نزوع النفس إلى ما تريده. و هي إما صادقة، أي

ص: 111

ما يقوم بها البدن و لا تتم الحياة البشرية إلا بها، و تكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلّت لبطل النظام و تعطلت امور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. و إما كاذبة، و هي الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، و إنها مستقذرة حذّرت الأديان الإلهيّة منها، و جعلتها محور الانحرافات و الأخلاق الذميمة، سواء كانت خفيّة، أي الصفات الذميمة و الأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها و يصرّ عليها،

كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان أخوف ما أخاف عليكم الرياء و الشهوة الخفيّة»، أم كانت ظاهريّة، و هي ما كانت ظاهرة من العمل.

و الشهوات: جمع شهوة، و هي توقان النفس للملائم أو الملذ لها، و هي من أهمّ القوى التي خلقها اللّه تعالى في الحيوان، و لو لولاها لما قام له أصل و لا بنيان.

و سياق الآية المباركة يدلّ على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأنّ حبّ الشهوات مذموم، و يشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحبّ، و يخف كلّما خف حتّى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان و الحيوان، فتزول المذمّة رأسا، بل يكون ممدوحا و يكون خلافه نقصا و مذموما، و على ذلك يحمل

ما ورد عن سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء، و قرّة عيني الصلاة»، و سيأتي وجه آخر لحمل كلامه.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان و ما يتدخّل في سلوكه، فإذا وفّق بين الحبّ و الطبيعة، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة و الأثر عظيما، و يكون حبّا ممدوحا، و هو الذي يشاؤه اللّه و يريده و يرتضيه، و لا ريب في أنه ممدوح عقلا أيضا، فيكون تزيين اللّه تعالى هو إذنه و بيان حدوده، فقد زين حبّ المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام و بقاء النوع و حسن الاجتماع، و أما إذا ألهى القلب عن التوجّه إلى اللّه تعالى و أوجب الغفلة عنه عزّ و جلّ، فهو من تزيين الشيطان و وساوسه، و هو مذموم عقلا أيضا.

ص: 112

قوله تعالى: مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ .

ذكر سبحانه و تعالى أمورا ستة من المشتهيات، و هي الأمور التي تتدخّل في شؤون الإنسان و سلوكه و تحدّد مصيره.

و (من) بيانيّة، و البنين جمع ابن، و هو الذكر من الأولاد، و لكن في المقام يشمل الذكور و الإناث، بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن، الآية: 15]، و قوله تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سورة سبأ، الآية: 37]، و قوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الممتحنة، الآية: 3]، و إنما أتى عزّ و جلّ بصيغة الذكور إما تغليبا، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائرا بينهم.

و إنما زين حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضا، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء، و هم النتيجة لذلك الحبّ.

و القناطير: جمع القنطار، و هو المال الكثير، و في بعض الأخبار ملأ مسك ذهبا، و قيل: ملأ جلد ثور ذهبا، و قيل غير ذلك، و هو اسم لمعيار خاص أيضا، و سمّي المال بالقنطار، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة الدنيا، و يختلف ذلك اختلافا كثيرا بحسب الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة و غيرها، كالغنى الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص، و من حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجيّة، لا بحسب ذاتهما.

و المقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت و التوكيد، كما هو عادة العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة و تثبيت معناه له. و هذا التعبير مشعر بالكثرة و الاقتناء.

و تعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضا منه يتعلّق حبّه بالنساء، و بعضا آخر يتعلّق بجمع المال و تخزينه، و ثالثا بالأولاد البنين منهم بالخصوص، و رابعا بالأنعام و الحرث. و ربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك

ص: 113

المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلا عن الأشخاص.

فالآية المباركة تبيّن طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقيّة، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات، فقد يتعلّق حبّ الإنسان بالجاه و المقام و نحو ذلك، و إن كانت المشتهيات الاخرى - التي لم تذكر في الآية الشريفة - أقلّ تأثيرا ممّا ذكر فيها، فهي امور وهمية تتعلّق بها الرغبة و مقصودة ثانوية، فيكون الحصر إضافيا، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة و بين قوله تعالى: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا [سورة الكهف، الآية: 46]، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق به.

و تعلّق حبّ الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي و الاقتصادي فيها، و بها تتحقّق أغلب رغباته، و بقدر اشتداد هذه المشتهيات و ضعفها يتحدّد سلوك الإنسان و يتعيّن خلقه في الدنيا و مصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن و تسكن النفوس، و هن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسئوليات كثيرة في الكفاح و العيش، فالمرأة و الرجل متشابكان في عموم المنافع و انتظام النظام، و لأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، و قد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصّة تحدّد مسئولية كلّ واحد منهما في هذه الحياة و تنظم شؤونهما، و التعدّي عنها يوجب الفساد و الدمار.

و إنما لم يذكر عزّ و جلّ حبّ النساء للرجال - مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلا منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما - إما لأن من أدب القرآن الكريم و السنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيرا من الأمور التي تتعلّق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال و تقلّ في جانب النساء، فإن الأشد و لعا بحبّ النساء و اتخاذهن صواحب في اللذائذ و نحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيرا على الرجال، إذا اشتد الغرام و التعشّق بهن.

ص: 114

قوله تعالى: وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ .

المسومة: إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت لترعى، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر: «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، و هي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء و غيرهم للافتخار و التباهي، مضافا إلى كونها ممّا يبذل بإزائها المال الكثير.

و الأنعام و هي الإبل و البقر و الغنم، و إنها أموال أهل القرى و البادية، و منها يكون معاشهم و ثروتهم.

و الحرث اسم لكلّ ما يحرث، أي المغروس و المزروع، فيشمل نفس الزرع و تربيته، فيكون فيه معنى الكسب. و الحاجة إليه أشدّ من غيره، و حبّه لا يكون ضارا بأمور الآخرة، و لذلك أخّره عن الأنواع السابقة، و بذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الافتنان بكلّ صنف، فالذهب و الفضة لأهل التجارة و الخيل للملوك و أهل الجاه و المقام، و الأنعام لأهل البادية، و الحرث لأهل القرى و الأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر و مصر من دون اختصاصها بصنف خاص و مورد كذلك.

قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به، و يعبّر عنه لكلّ ما هو في معرض الزوال و الاندثار، و التعبير به للتزهيد في الدنيا و الترغيب للآخرة، التي هي دار البقاء و الحيوان، أي: ما ذكر من المشتهيات هي امور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ .

المآب: المرجع، و حسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه و لا عناء و المنزّه عن كلّ نقص و عيب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل و المطلق في العقبى.

ص: 115

و في الآية المباركة كمال الترغيب إلى الاخرة، و تحقير الدنيا و التقليل من شأنها.

قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ .

تفصيل لما أجمل سابقا، و بيان لقوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، فقد أمر سبحانه و تعالى نبيّه ببشارة المتّقين، بأن لهم عند اللّه تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى و لا تدوم، و هو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، و هو و إن كان مشابها لما في هذه الدنيا و مجانسا للشهوات الإنسانية، و لكنها أجل النعم و أعظمها، و هو خال عن النقص و بريء عن القبح و الشرور، و قد ذكر سبحانه ذلك في كلام بليغ تتوجّه إليه النفوس و تهتزّ من فرح اللقاء الأرواح و القلوب. و فيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين المسجونين في سجن الدنيا، و قد وعدهم الجنّة و مطهرات الأزواج و الرضوان.

و من إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته و من جميع شؤونه و جهاته.

و إنما أتى سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب و تشويقهم إلى العمل، و هو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس و يستفزّها على إصغاء الجواب.

قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ .

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم، و جملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. و التقوى هي إتيان الواجبات الشرعية و اجتناب المحرمات الإلهيّة، و هي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة المقدّسة بألسنة شتّى،

فقد ورد: «أن من اجتنب محارم اللّه فهو من أورع الناس»، و هي أساس الكمالات و قرّة عين الأنبياء و المرسلين، و هي السبب المتّصل بين أهل الأرض و السماء، و بها ينتظم نظام الدنيا و العقبى.

و لفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار و استتار الأرض بها و تعدّدها

ص: 116

و جريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات و ازدياد رونقها، و كون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح و الانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، و لذا عقّبها بقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ، لتماميّة النعمة، بخلاف نعيم الدنيا.

و لجريان الأنهار أنواع كثيرة: منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، و منها ما إذا كان المنبع من تحتها، و منها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدا (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلاّقة إلى غير ذلك، و بالجملة أن هذه الجنّات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

و الأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل و مبرّأة من كلّ عيب و ذم و نقصان، خلقا و خلقا بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة و البشاشة و السرور، و في ذلك تمام النعمة.

و قد خصّ اللّه تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانيّة، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانيّة، و الوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.

قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ .

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، و هو ملائمة الشيء لنفس صاحبه و سرورها به.

و قد تكرّرت مادة (رضى) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين موردا، و قد ينسب الرضا إلى اللّه عزّ و جلّ و يراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنويّة، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد و طاعتهم له عزّ و جلّ، أو صفاتهم و أحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلّق بهم، قال تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الفتح، الآية: 18]، و قال تعالى:

وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]، و قال تعالى:

وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [سورة الزمر، الآية: 7].

و قد ينسب إلى العبد، و هو آخر مقامات العبوديّة الخالصة الذي هو التخلّق

ص: 117

بأخلاق اللّه تعالى، و التفاني في حبّه، و لذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن اللّه تعالى لجزائه الحسنى و حكمه، قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 100].

و رضوان اللّه تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب، و هي أعلى مراتب اللذائذ الروحانيّة، و ذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان اللّه تعالى الذي هو من أعظم اللذائذ عند المتّقين و ذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصوّر أعظم منه، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال و القناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى، و لذلك اعتنى عزّ و جلّ به و أفرده بالذكر في مقابل الجنّات و الأزواج المطهّرة في هذه الآية و في سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالى: فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2]، و قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].

و قد جمع سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، و هي الجنّات و الأزواج المطهّرة، و اللذّة المعنويّة الروحانيّة، و هي: الرضوان الذي لا يحدّه حدّ و لا يشوبه نقص.

و يستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة، و أن لأهلها مراتب و طبقات، فمنهم من لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانيّة، كالجنّات و الأزواج المطهّرة، و منهم من عظمت منزلته و ارتقى إدراكه و علا قربه، فلا يليق به إلا رضوان اللّه تعالى.

ص: 118

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ .

أي: و اللّه خبير بعباده عليم بأفعالهم و ما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم و أمورهم، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه و ما يليق بأفعاله.

و يستفاد من الآية الشريفة أن امتياز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه و سلوكه في حياته الدنيويّة و الاخرويّة تحت إرادة اللّه تعالى و حكمته البالغة، و هو عالم بمصالحهم و جزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ .

بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، و هي من الصفات الحميدة، و فيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين، و بعض مقامات العارفين، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه و أطهر قلب من الشرك و أنواع العيب، و فيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين و العابدين.

و القول: مطلق ما يشعر بالحكاية عمّا في الضمير، بخلاف الكلام فإنه أعمّ من القول، فكلّ كلام قول و لا عكس، و المراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، و سياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه.

و مادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ و الدنس، يقال: «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه». و هي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جدا، و قد أضافها اللّه تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فهو الغفّار و الغفور، و أن منه المغفرة، قال عزّ و جلّ: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ [سورة الرعد، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران،

ص: 119

الآية: 35]، و قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [سورة يوسف، الآية: 98].

و مادة (ذنب) تأتي بمعنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، و الفرق بينه و بين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه باللّه تعالى، فكلّ مجرم مذنب و كذا العكس.

و الآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان باللّه تعالى و لذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا و فينا بما عهد إلينا و هو الإيمان، فانجز اللهم بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك و خلاصنا من عذابك. و عهد اللّه تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحا و ضمنا، منها قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 31]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: 53]، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الصف، الآية: 9-12].

و معنى الآية الشريفة: الذين يؤمنون و يعترفون بحقيقة العبوديّة للّه تعالى و الإيمان به عزّ و جلّ، و يجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب و نجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

و الآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزّ و جلّ، بل له تعالى المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.

و إنما خصّوا اسم الربّ في دعائهم لما فيه من إظهار العبوديّة و الاسترحام.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة و الصغيرة، و قد قرّر عزّ و جلّ إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجّة على من قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان.

نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه، كما

ص: 120

هو المستفاد من

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يزني الزاني و هو مؤمن»، فله وجه، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة و الإجمال.

و الوقاية من عذاب النار و النجاة منها أعمّ من المغفرة و الدخول في الجنّة، و إنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة و مقدّمة له.

قوله تعالى: اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ .

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي و الملازم لامتثال الأوامر، و الصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه، و القانت المطيع، و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، و قد فسّر بكلّ واحد منهما أيضا، و لكن إذا استعمل في الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين يراد به هما معا، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120]، و الإنفاق هو بذل ما هو راجح بذله، فيشمل المال و الجاه و العلم و قضاء حوائج الناس، و الأسحار جمع سحر، و هذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنى الخفاء و الإخفاء. و في المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، و هو اسم لذلك الوقت، و هو أفضل الأوقات و أشرفها و أحسنها للعبادة، و أطيبها لحضور القلب و الإقبال على الدعاء و المناجاة مع الربّ، و أبعدها عن مداخلة الرياء، و كلّما قيل في مدحه و فضله فهو قليل، فكم للّه تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على من يشاء و جائزة موفرة يخصّ بها من أخلص في الدعاء، و كم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول، و دعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين و العرفاء المتعبّدين، و هو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد من أدرك هذا الوقت الشريف و استفاد من رحمة الربّ اللطيف.

و هذا الوقت من آخره معلوم، و هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار، و أما من أوّله، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، و عن آخرين أنه الثلث الأخير منه، و عن آخر أنه الثمن، و الكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل، و قد تعرّضنا لبعض

ص: 121

الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع.

و الآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون، و هي أمهات الصفات الحسنة و الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات و يتحلّى بمحاسن الأخلاق، و بدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، و لذا قدّمه سبحانه في الكلام. و إطلاقه يشمل الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و الصبر عند المصيبة، و هو و الصدق من أعلى مقامات السالكين إلى اللّه تعالى و أفضل درجات أهل الحقّ و اليقين، خصوصا إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان و الحركات و خطرات الجنان و تطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذ لا يتصوّر للعبوديّة مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين و اقترن مع الخضوع و التذلّل للّه تعالى.

و هذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، و لا يشذ منها كلّ متّق، و هي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة و تبلغها إلى أوج السعادة و أقصى الدرجات.

و بالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات و الخصال الكريمة التي تعلق بالنفس و تبعدها عن رذائل الأخلاق.

و بالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر.

و هاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان و تصلحان سريرته و علانيّته.

و القنوت للّه تعالى يجعل الإنسان خاضعا ذليلا بين يدي عظمته، مطيعا لإرادته عزّ و جلّ، و هذه الخصلة تصلح ما بينه و بين اللّه تعالى.

و الإنفاق يبعده عن رذيلة الشح و يجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه و بين الناس.

و أما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلبا منه العون في جميع أموره و الاستعاذة من الشيطان و النفس الأمّارة.

و الاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل و الصلاة فيه و طلب الرحمة

ص: 122

و المغفرة، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك، و ما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة:

الأول: هذه الآية الشريفة و قوله تعالى: كانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ [سورة الذاريات، الآية: 17-19].

الثاني: قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة، الآية: 17، 18].

الثالث: قوله تعالى: وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء، الآية: 79]، و التهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن و الدعاء و الصلاة و نحوها من العبادات، و يستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، و لها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، و هي أفضلها و أشرفها، و منها أن يكون في ضمن الدعاء و المناجاة و لو كانا في غير الصلاة، و منها نفس كلمة:

«استغفر اللّه ربي و أتوب إليه»، و مقتضى الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.

و الاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار، فيكون سببا لمحو الذنب السابق، و مقتضيا لترك الذنب اللاحق، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال و الاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل و لا تزال.

ص: 123

بحوث المقام

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ ، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى و ما يؤثّر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة، و هي ردّ على من ذهب إلى أن عواطف الإنسان و أحاسيسه إنما توجّهها الشهوة الجنسيّة فقط، فهي التي تحدّد سلوكه في حاضره و مستقبله و توجب الكابة و الأمراض النفسيّة أو الجسميّة إن كبتها الفرد، و لذلك دعى إلى الإباحة الجنسيّة، و سيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.

الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [سورة العنكبوت، الآية:

38]، و قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية:

43]، فيكون حبّ هذه الأشياء صارفا عن محبّة اللّه تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة و الفوز بالفلاح، و لا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء و طبايعها من صنع اللّه تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبير علم و حكمة، فإن من سنّته عزّ و جلّ أنه خلق الإنسان حرّا مختارا في أعماله، و أودع في خلقه بديع صنعه و أرسل الرسل لهداية الناس و أنزل معهم الكتاب و الحكمة لسعادتهم، و قد خلق إبليس الذي يوسوس للإنسان و يصرفه عن طريق الخير و السعادة على نحو الاقتضاء، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه، كلّ ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب و العقاب، و لإتمام الحجّة و الامتحان و تمييز المؤمن عن غيره،

ص: 124

و إثبات التكليف و التشريع و تثبيت قانون الجزاء.

الثالث: أن التزيين على حبّ الشهوات دون نفسها، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة و بها يتمّ النظام، و لكن إن تعلّق الحبّ بها بحيث يكون صدّا عن اللّه تعالى، فيرجع تزيين حبّها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل، و التولية فيها سببا للإعراض عن اللّه تعالى، بأن يجعلوها أهدافا لهم فقط لا وسيلة فيكون هذا الحبّ مذموما و تزداد المذمّة كلّما اشتدّ الحبّ، و تخف كلّ ما خف و ضعف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانيّة و وسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة اللّه تعالى، فتزول المذمّة رأسا، و يكون خلافه نقصا و مذموما، و يستفاد ما ذكرناه من جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]، و قوله تعالى:

وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ [سورة القصص، الآية: 77]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و على ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين عليهم السّلام في مدح بعض المشتهيات، منها

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب، و النساء، و قرّة عيني الصلاة».

الرابع: قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها - كما مرّ - فهم على أصناف بالنسبة إلى حبّها، فمنهم من يتعلّق حبّه بالنساء ولاهم إلا التعشّق بهن و صرف همه في المؤانسة بهن و مصاحبتهن، و إن استلزم المحرّمات و وجوه الفساد، و منهم من يحبّ التكاثر و التقوي بالأولاد، و هذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات، و لهذا خصّ ذكرهم دونهن، و منهم من هو مغرم بالمال و جمعه، و هذا يتحقّق بالذهب و الفضة اللذين بهما يتقوّم سائر الأشياء، و يكون حبّه لغيرهما بالتبع، و منهم من يحبّ الحرث و الزرع أو اتخاذ الأنعام، و منهم من يحبّ الفروسيّة فيتخذ الخيل المسوّمة.

ص: 125

و ربما يتحقّق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات، و ربما يجتمع أكثر من واحد، و قلّما يجتمع جميعها في شخص واحد، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات و تكثّرها، تكون في مقام بيان أصناف الناس و اختلافهم في حبّ هذه المشتهيات بالملازمة.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا، و أن الإنسان يلتذّ بنعيم الآخرة كما يلتذّ بنعيم الدنيا من المأكل و المشرب و المناكح و غير ذلك، و أن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص و أنه يختصّ بالمؤمن، بخلاف نعيم الدنيا، و ذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عين وجوده في الدنيا، فهو بنفسه متقوّم بالاستفادة من اللذائذ دنيويّة كانت أو اخرويّة، و لكلّ منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم، و هو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة و تكون باطلة و عبثا بالنسبة إليه، و يدلّ على ما قلناه جميع الكتب السماويّة، خصوصا القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، و يؤكّد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، على نوعين من الجزاء..

أحدهما: جسماني، و هو الجنّات التي تجري فيها الأنهار و الأزواج الطاهرة.

و الثاني: العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذّات، و هو رضوان من اللّه تعالى الذي لا يتصوّر فوقه لذّة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي على مراتب الجنّة، و اختلاف درجات أهل الجنّة، و أنهم على مراتب و درجات.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا أن هذه الشهوات هي امور دنيئة بالنسبة إلى ما عند اللّه عزّ و جلّ من الرضوان و الجنان،

ص: 126

و أن هذه الشهوات هي امور زائلة وقتيّة ليست مبنيّة على الحقيقة و الواقع، و إنما خلقها اللّه تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة و تكوين الاجتماع الإنساني، و بدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه.

التاسع: إنما قدّم سبحانه و تعالى النساء على جميع الشهوات، لأنهنّ حرث بني آدم، و أن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالا عند الناس، و هي من أعظم اللذائذ الجسميّة عند الإنسان، بل هي الركن الأساس في الحياة، و لذا

ورد في الحديث: «أن من تزوّج فقد أحرز نصف دينه أو ثلث دينه». و لكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان، كما يدّعيه بعض علماء النفس.

العاشر: إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى: جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ ، يدلّ على تعدّدها لكلّ واحد من المتّقين، مجهّزة بكلّ ما يتصوّر فيه من الفرح و الانبساط و السرور و الراحة، كما و كيفا، و ذلك لأجل تعدّد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا، كما هو واضح.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ ، على أن رضوان اللّه تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها و راحتها، فهو من مشتهياته إما بحدّ ذاته، أو بالملازمة، و لذا جعله تعالى في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية الشريفة، و في مقابل الفضل و المغفرة و الرحمة في آيات اخرى، قال تعالى: فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2].

و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20]، و قال تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ [سورة براءة، الآية: 21].

و إنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس، و الصفة، و الفعل و جميع الخصوصيات.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا . أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، و هي الإيمان باللّه، و إظهار العبوديّة له عزّ و جلّ، و الاسترحام منه تعالى في طلب العفو و الغفران، و الصبر على الطاعة و عن المعصية و في الخطوب، و الصدق في القول و الفعل، و الخضوع له عزّ و جلّ، و الإنفاق في سبيله تعالى، و قيام الليل و التهجّد فيه بالاستغفار.

ص: 127

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا . أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، و هي الإيمان باللّه، و إظهار العبوديّة له عزّ و جلّ، و الاسترحام منه تعالى في طلب العفو و الغفران، و الصبر على الطاعة و عن المعصية و في الخطوب، و الصدق في القول و الفعل، و الخضوع له عزّ و جلّ، و الإنفاق في سبيله تعالى، و قيام الليل و التهجّد فيه بالاستغفار.

الثالث عشر: إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة، للدلالة على أن شحّ النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عزّ و جلّ.

الرابع عشر: إنما أجمل تبارك و تعالى الاستغفار و الدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت، و لا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء و طلب الغفران.

بحث روائي:

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام: «ما تلذّذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذّة أكثر لهم من لذّة النساء، و هو قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ . ثم قال: و إن أهل الجنّة ما يتلذّذون بشيء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب».

أقول: رواه العياشي في تفسيره أيضا. و الوجه أنه تعالى لم يخلق ألذ من النساء في الجنّة، لأنهنّ من منشآت اللّه تعالى مباشرة، كما قال عزّ و جلّ: إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً * عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: 35 - 37]، فإنهنّ الجزء الأعظم من النظام الأتمّ كما تقدّم، و لأنها المؤانسة بما خلق من رحمته جلّت عظمته، هذا بحسب اللذائذ الجسمانيّة. و أما غيرها، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«القناطير جلود الثيران مملوءة ذهبا».

ص: 128

أقول: رواه في المجمع عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أيضا، و هو من إحدى معاني القناطير المقنطرة، و تقدّم تفسيرها بالمال الكثير الجامع لجميع ذلك.

و في تفسير القمّي - أيضا -: قال عليه السّلام: «الخيل المسوّمة الراعية و الأنعام، و الحرث يعني الزرع».

أقول: تقدّم ما يرتبط بذلك في التفسير.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ، عن الصادق عليه السّلام: «لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: هذا من مصاديق الطهارة، و إلا فهنّ طاهرات من كلّ خبث و دنس و رذيلة.

و في الفقيه و الخصال عن الصادق عليه السّلام: «من قال في وتره إذا أوتر: استغفر اللّه و أتوب إليه سبعين مرّة و هو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة، كتبه اللّه تعالى عنده من المستغفرين بالأسحار و وجبت له المغفرة من اللّه تعالى».

و في المجمع: عن الصادق عليه السّلام قال: «من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».

أقول: الروايات في فضل الاستغفار - خصوصا في الليل - كثيرة جدا تعرّضنا لبعضها سابقا، و يمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة اللّه تعالى دعاء المؤمنين في هذه الآية الشريفة: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا .

بحث فلسفي:

لا ريب في أن كمال العلّة الفاعليّة من كلّ جهة يقتضي كمال العلّة الغائيّة كذلك، لأن الغاية علّة فاعليّة بوجودها العلمي، و علّة غائيّة بوجودها الخارجي، هذا في غير المبدأ تبارك و تعالى.

و أما في المبدأ عزّ و جلّ، فهو بذاته جاعل و خالق لما سواه، و هو تعالى بذاته و صفته و فعله حسن، و بهذا الحسن الذاتي و الصفتي و الفعلي غاية و مرجع لما سواه،

ص: 129

فيكون عنده حسن المآب لا محالة، و إذا كان في البين نقص و فساد و خسّة فإنما هو من مقتضيات اختيار الإنسان، لا أن تكون بالنسبة إلى المبدأ و المآب، فما ورد في قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، إنما هو قضية عقليّة برهانيّة قرّرها اللّه تعالى في كتابه الكريم، و ليس المراد من لفظ «عنده» الحدّ الخاص من الزمان أو المكان، بل المراد إحاطته عزّ و جلّ بما سواه إحاطة قيوميّة و ربوبيّته العظمى حدوثا و بقاء، و تبديلا إلى كلّ ما يشاء، و إفناء متى أراد، فهو الحي القيوم مبدءا و مآبا، و هو الحيّ القيوم في ما بينهما، و كلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما سواه بمعنى واحد.

ثم إن اللذّة إما روحانيّة معنويّة، أو جسمانيّة ظاهريّة، و الأخيرة متقوّمة بالقوى الجسمانيّة، بل عن جمع من محقّقي الفلاسفة إنكار أصل اللذائذ الجسمانيّة، و أنها ليست إلا من دفع الآلام فقط، و أثبتوا ذلك مفصّلا.

و أما الاولى فهي من أعلى مدارج كمال الإنسان و صعوده و ارتقائه إلى عوالم لا نهاية لعظمتها، و هي شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، و لا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتّى يصل إلى درجة البقاء فيه عزّ و جلّ، و لعلّ أحد معاني رضوان اللّه تعالى يرجع إلى ذلك، و ما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من أن النساء أشهى اللذائذ إنما هي باعتبار اللذائذ الجسمانيّة، بل يمكن أن ترجع تلك اللذّة في الجنّة إلى اللذّة الروحانيّة، باعتبار كون النساء فيها من صنع اللّه تعالى مباشرة، قال تعالى: إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً * عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: 35-37]، و أما اللذائذ المعنويّة فهي أكبر و أعظم و ألذّ بالنسبة إلى بعض الناس.

و هل تكون الشهوات من مختصات هذا العامل بأصولها و فروعها و نتائجها المترتبة عليها، أو تعمّ الدار الآخرة أيضا لكن بوجه أحسن و أليق يتناسب مع ما في ذلك العالم، بحيث يكون نسبة ما في هذا العالم إلى ذلك العالم نسبة المعنى إلى اللفظ أو نسبة الحقيقة إلى المجاز؟ و الذي تدلّ عليه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة هو

ص: 130

التعميم، قال تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، و قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [سورة البقرة، الآية: 25]، و الآية التي تقدّم تفسيرها تدلّ على ذلك أيضا، فأصل الحقيقة واحدة و إنما الاختلاف في الجهات الخارجيّة، فجميع الشهوات النفسانيّة موجودة في الدار الآخرة على النحو الأتم الأكمل، قال تعالى: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ [سورة الرعد، الآية: 26]، فإن الإنسان فيها هو الإنسان في الدنيا، و إنما يتمتّع في الآخرة بما أعدّه في الدار الدنيا من الحسنات و السيئات، و بالملذات التي كان يريدها في الدنيا و تحصل سعادته في الآخرة، و الحرمان منها شقاء و ضيق.

و إنما ذكر تعالى جملة منها في الدنيا إنما هو لمتاعها و قيام نظام هذا العالم بها، لا أن تكون مختصّة بها دون غيرها إلا على مفهوم اللقب الذي لا يكون حجّة، كما ثبت في العلوم الأدبيّة.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، وجود ذلك كلّه فيها على النحو الأتم و الأكمل، فإن مآب كلّ شيء فيه حسن، إذ السير هو سير استكمالي و توجّه إلى الكمال، و هذا هو مقتضى إطلاق الآيات التي وردت فيها ملذّات الآخرة و مشتهياتها من دون تعليق لها بوجه من الوجوه، بخلاف الآيات التي اشتملت على ملذّات الدنيا، فإن فيها تعليقا بوجه من الوجوه، و إن كانت ملذّات الدنيا يشترك فيها المؤمن و الكافر، بخلاف ملذّات الآخرة فإنها مختصّة بالمؤمن.

بحث عرفاني:

شهود حقائق الموجودات على ما هي عليها في الواقع بجواهرها و أعراضها و لوازمها و ملزوماتها الأزليّة و الأبديّة حدوثا و بقاء، بل و قبل الحدوث يصحّ أن يعبّر عنه بالغيب الذاتي، و لا حدّ لهذا الشهود من كلّ جهة، و لو عبّر عن ذلك بابتهاج الذات بالذات يصحّ أيضا، و هو مختصّ بالواحد الأحد الصمد، و لا يدانيه

ص: 131

ملك مقرّب و لا نبيّ. و قد يفاض منه شعاع على الغير، و هو تابع لقدر الإفاضة كمّا و كيفا. كما أنه لا يختصّ بعالم دون عالم، فإن الإشعاع أزلي و أبدي و النفوس المستعدّة تستفيض من ذلك الإشعاع بقدر القابلية، و يصحّ أن يكون رضوان اللّه تعالى إشارة إلى ذلك الإشعاع، و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتفصيل المقام في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و من ذلك يعلم أنه لو جعل العبد غاية عباداته الوصول إلى رضوان اللّه تعالى، كانت من أكمل الغايات و أحسنها.

و حبّ الشهوات هو من أغلظ الحجب الظلمانيّة بين العقل و ادراك الحقائق النوريّة و المعارف الربوبيّة، بل هو نار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، لأن منشأ الحبّ هو القلب، فإذا كان متعلّقا بالأهواء الباطلة و الشهوات، يصير القلب كخرقة بالية منغمرة في دار الغرور، محجوب عن منبع الجلال و النور، فإنها لا تعمي الأبصار، و لكن تعمي القلوب التي في الصدور، فيضلّ عن الصراط المستقيم، و لا غاية بعد ذلك إلا سواء الجحيم. فلا غاية لإعمال الشهوات المذمومة إلا العار و النار، فإن حقيقة الإنسان الكاملة - التي هي كالصورة لجميع العوالم الإمكانيّة - لم تعرف بعد و لن تعرف، و إن بذل العلماء المحقّقون من الفلاسفة الإلهيين و غيرهم جهودهم، و صرف العرفاء الشامخون طاقتهم فيه، لأنها أعظم سرّ اللّه تعالى في الخليقة، و هي من أجلّ مخلوقاته في جميع العوالم الربوبيّة، و لا بد في عرفانها من العكوف على بابه و التماس ذلك من وجهه و كتابه، و مثل هذه الآيات المادحة لمقام التقوى و الشارحة لها، تشير إلى لمعة من لمعات ذلك النور الحقيقي، فكما أن للتقوى و العبوديّة للّه عزّ و جلّ مراتب، كذلك للإنسانيّة الكاملة، بل مراتبها تدور مدار العبوديّة الخاصّة، و كلّ ما قالوه العرفاء من وحدة الوجود و الموجود و أمثال ذلك في تعبيراتهم، إن رجع إلى ذلك فلا باس به، و في غير ذلك يرد علمه إليهم.

و كلّ الذي شاهدته فعل واحد *** بمفرده لكن بحجب الأكنة

إذا ما أزال الستر لم تر غيره و لم يبق بالأشكال إشكال ريبة

ص: 132

و حقّقت عند الكشف أن بنوره *** اهتديت إلى أفعاله بالدجنة

و تظهر للعشاق في كلّ مظهر من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مرة لبنى و اخرى بثينة و آونة تدعى بعزّة عزت

تجليت فيهم ظاهرا و احتجبت باطنا بهم فأعجب لكشف بسترة

و المتحصّل من الآيات القرآنيّة و السنّة المقدّسة أن الإنسان الكامل، كما أنه مخلوق للّه تعالى، كذلك مورد تربيته حدوثا و بقاء إلى أن يرد دار الخلود، و أن إرادة الإنسان الكامل متفانية في مرضاته، فيصحّ أن يقال إن الإنسان الكامل مورد مشيئته و إرادته، و يشهد لذلك قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [سورة طه، الآية: 46]،

و في الأحاديث القدسية: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»،

و في بعض الأحاديث: «يشكو للّه تعالى عن عبده المؤمن يوم القيامة فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبدي إني مرضت فلم لم تعدني، يقول العبد: يا رب كيف أعودك و أنت ربّ العالمين؟ يقول اللّه تعالى: مرض عبدي المؤمن فلو عدته لو جدتني عنده»، و الأحاديث في سياق ذلك كثيرة، فما عبّر به بعض الأعاظم من الفلاسفة من الوحدة تعبير حسن إن أراد به ما يستفاد من سياق القرآن و السنّة، و عبارة اخرى عمّا شرحه أمير المؤمنين عليه السّلام عن بينونة الصفة، لا بينونة العزلة،

فقال عليه السّلام في بعض خطبه الشريفة: «بائن مع خلقه بينونة صفة، لا بينونة عزلة»، و هو على إجماله يناسب جميع الأقوال التي قيلت في بيان وحدة الوجود. و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتحقيق القول بأكثر من ذلك في مستقبل المقال.

بحث علمي:

قد جمع سبحانه و تعالى اصول الشهوات التي يقوم بها نظام الدنيا في الآية المباركة المتقدّمة، و هي شهوات الجنس و المال و الزينة و التفاخر و الرياسة، و جمعها بوجه آخر في آية اخرى، فقال عزّ و جلّ:

ص: 133

اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ [سورة الحديد، الآية: 20]، و الإنسان قرين هذه الشهوات و الغرائز، و قد يجتمع بعضها في سائر الحيوانات، إلا أن الفرق بين الإنسان و غيره، أن اللّه تعالى خلق الإنسان حيوانا عاقلا درّاكا مريدا، و هذه من مختصّاته و لا توجد في غيره إلا على درجات ضعيفة، فهو الذي يقدر على جمع القوى المتخالفة المتواجدة فيه، و يجعلها تحت زمام العقل و الإرادة المنبعثة من التعقّل و التفهّم و الدرك الصحيح، و لأجل ذلك صار الإنسان محور التكاليف الشرعيّة و منشأ لإرسال الرسل و إنزال الكتب الإلهيّة، و كلّ ما كانت القوة العاقلة هي الحاكمة في أفعال الإنسان و إحساساته و شؤونه، كلّ ما كان أقرب إلى الكمال و أبعد عن الرذائل و الفساد، و أما إذا تغلّبت عليه إحدى القوى العاملة فيه، كان أقرب إلى الفساد و أبعد عن الصلاح، و للتكاليف الإلهيّة شأن كبير في تهذيب النفس و تأمير القوّة العاقلة على جميع الشهوات و استيلائها على غيرها، و لذا كان لهذه القوّة شأن كبير في سلوك الإنسان و تهذيبه و إصلاحه، سواء السلوك الفردي أم السلوك الجماعي، و لكن ليست لسائر القوى المتواجدة في الإنسان السيطرة على سلوكه لوحدها، و إن كان لها الأثر الكبير إن لم يقم الفرد في تهذيبها و إصلاحها بما يراه اللّه تعالى.

و هذه الآية الشريفة ردّ على من زعم من أصحاب المدارس في علم النفس أن للجنس الأثر الكبير في سلوك الإنسان فردا أو جماعة، و أن كبت تلك الشهوة توجب الأمراض النفسيّة و الحرمان عن الملذّات، و دعا إلى الإباحيّة في الجنس للتخلّص من هذه الأمراض، و أعلن الحرب على التقاليد و الأعراف المتوارثة و الأحكام الشرعيّة التي تقيّد الجنس و تهذّبه، و ذهب إلى أن جميعها تورث العقد النفسيّة التي يصعب معالجتها و برؤها، إلى غير ذلك ممّا ينكره العقل و التجربة.

و قد أثبت علماء النفس بطلان كثير ممّا ذهب إليه، فالجنس كسائر الغرائز الموجودة في الإنسان إن لم تستعمل على الوجه الصحيح توجب الحرمان و الكبت و سائر الأمراض الخلقيّة و النفسيّة، و هذا هو الذي دعا إليه الإسلام.

ص: 134

و الآية الشريفة من تلك الآيات الدالّة على ما ذكرناه، فهي تقرّر أمرا عقليّا، و هو أن حبّ الشهوات و الاهتمام بتزيينها، يوجب بعد الإنسان عن الكمال المعدّ له في الدنيا و الآخرة، و هذا ما نراه في المدنية الحاضرة التي بلغت شأوا بعيدا في الملذّات، و لكنها عادت إلى الجاهلية الاولى، و هي و إن كادت تصل إلى أوج الكمال المادي و تهيئة وسائل الراحة و العيش الهنيء، إلا أنها أبعد دورا من أدوار حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة من الكمال المعنوي و الاطمئنان النفسي و راحة الضمير.

فالآية الشريفة لا تعدّ نفس هذه الشهوات من موجبات انحطاط الإنسان، بل أن حبّها و تزيينها و إهمال الجانب العقلي و تعاطي هذه الشهوات و كثرة إعمالها يوجب الحرمان و الانحطاط، فهي صريحة في المطلوب، و بعد ذلك لا ينبغي للفرد المسلم التغافل و التغاضي عن الإسلام و تلك القوانين التي نزلت لسعادة الإنسان و الحياة في الدنيا حياة هنيئة آمنة سعيدة، و الاستعداد لما بعد هذه الحياة لنيل رضوان اللّه تعالى و البقاء فيه.

ص: 135

شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْ.......

اشارة

شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (18) إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ وَ اَلْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة جملة من أحوال الكفّار الذين اغترّوا بمظاهر الدنيا، و اعتزّوا بما عندهم من الأموال و البنين و العدّة، و اعتبروها مغنية عن أمر اللّه تعالى، فقد أخبرهم عزّ و جلّ أنها لا تغني من اللّه شيئا، و أن ما ركنوا إليه من الدنيا إنما هو زائل لا يبقى، و عند اللّه نعيم باق لا يناله إلا الذين اتّقوا و كان في قلوبهم خوفه تعالى، فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا مخصبا، ففي الآخرة جنّات كاملة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض.

و إذا كان متاعهم في الدنيا نساء و بنين، ففي الآخرة أزواج مطهّرة، و أما غيرها من الخيل المسوّمة و الأنعام و القناطير المقنطرة من أسباب اللذائذ في الدنيا، فهناك ما هو أكبر من كلّ لذّة و شهوة، و هو رضوان اللّه الذي لا يعدله. فلا يبقى للكفّار إلا ما كسبته أيديهم من الشقاء و الحرمان.

ثم ذكر جملة من أحوال المتّقين الذين آمنوا باللّه و أنابوا إليه و عملوا الصالحات و عدّ صفاتهم، و في كلّ صفة منها تتحقّق سمة من سمات الحياة الرفيعة الواقعيّة، اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ، و أن لهم الرضوان و حسن المآب.

ذكر في هذه الآيات وجه الإيمان و أقام الشهادة على أحقيّة ما ذكره في الآيات السابقة، فشهد أولا على نفسه بالوحدانيّة، و من أعظم منه شهيدا؟ و كذلك

ص: 136

شهدت الملائكة و أولوا العلم الذين ملأ قلوبهم نور الإيمان به، و بيّن ثانيا قيامه بالعدل، ثم بيّن ثالثا الدستور في حياة الإنسان، و أنه الإسلام الذي هو دين الحقّ و الحقيقة، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو الذين أوتوا الكتاب جميعا إلى هذا الدين الواحد، و يترك الجدل معهم بعد إقامة الحجج القويمة و البراهين الساطعة على الإسلام، و أنذرهم على المخالفة و أوعدهم الحساب و العذاب.

فكانت الآيات المباركة ذا نسق واحد مشتملة على ما تقدّم من البراهين و الشهادة و البيّنة عليها، لتكون ثابتة و قويمة لا يقدر على إنكارها منكر، و إلا استحق العذاب بعد إقامة الحجّة و البرهان.

التفسير

قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

مادة (شهد): تدلّ على الحضور و المشاهدة بالبصر و البصيرة، و لا حضور أقوى من حضور ما سواه تعالى لديه عزّ و جلّ، فهو حاضر بذاته لذاته، و ما هو عين ذاته من صفاته، التي منها وحدانيّته و معبوديّته المطلقة.

و من أسمائه تعالى (الشهيد)، أي هو الذي لا يغيب عنه شيء، قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج، الآية: 17].

و شهادة الحقّ جلّ جلاله، هو ظهور ذاته بذاته لذاته، و جميع أسماء الجمال و الجلال تنطوي في تلك المرتبة، و هي محيطة بها فوق ما يدرك من معنى الإحاطة، فالهوية المطلقة و المعبوديّة الحقّة منحصرة به جلّت عظمته، و هذا معنى

ما في جملة من الدعوات المعتبرة: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»،

و قوله عليه السّلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته». و هذا معنى ما أثبتوه في الفلسفة من أن الممكن من ذاته ليس، و من حيث الإضافة إلى علّته أيس (أي موجود).

و هذا المعنى - أي الجامعيّة لجميع صفات الجلال و الجمال، المسلوب عنه

ص: 137

جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة، من حيث قيوميّته الكبرى و ربوبيّته العظمى - محيط على جميع ما سواه بأنواعه و أفراده و أجزائه، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و بهذا المعنى الإحاطي هو اللّه الواحد الأحد و المعبود الفرد، فالتوحيد ثابت في مرتبة الذات و الصفات و الفعل، و جملة: (لا اله الاّ اللّه)، تدلّ على ذلك.

و بالجملة: أن شهادة اللّه تعالى بوحدانية ذاته المقدّسة..

تارة: تكون تكوينيّة، و هي التي أسّسوها بالبراهين القطعيّة في الفلسفة من انتهاء جميع الممكنات إليه عزّ و جلّ.

و اخرى: قوليّة، و هي التي أثبتتها هذه الآية الشريفة و نظائرها، مثل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة محمد، الآية: 19]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و أما شهادة الخلق بالوحدانيّة، فالتكوينيّة ثابتة لهم، أقرّوا بها في اللسان أم لا، لحكاية المجعول عن الجاعل تكوينا، و أما الاختياريّة، فمنهم من آمن، و منهم من لم يؤمن.

و الشهادة يمكن أن تكون ذاتيّة لظهور الذات بالذات في الوحدانيّة، و أنه لا إله غيره، فلا شريك له في الذات، و يمكن أن تكون فعليّة، فلا شريك له في الفعل، فتكون جميع أفعاله آيات دالّة على وحدانيّته، و أن تكون قوليّة كما تشهد بها جميع الكتب السماويّة. و إن كان ظاهر السياق بلحاظ إفهام المخاطبين هو الأخيرة، و إن كان بعضهم له أهلية درك الشهادات الثلاثة.

ثم إن الشاهد - أي الحاضر كما تقدّم - إن اعتبر فيه العلم مطلقا فهو العليم، و إذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، و إذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. و حيث إن علمه تعالى عين ذاته، فتكون خبرويّته بالأشياء عين ذاته،

ص: 138

و شهوده لها كذلك، فيرجع الكلّ إلى علمه الذاتي.

نعم، الشهادة القوليّة فيه تعالى لها خصوصية خاصّة، لا توجد تلك في مطلق العلم و الخبرويّة.

و أما في الممكنات، فيمكن أن ترجع الشهادة إلى القوى الجسمانيّة، أي إلى البصر و السمع و العلم و الخبرة، و إلى بعض القوى النفسانيّة.

قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ .

أي: أن الملائكة و أولي العلم يشهدون بأن لا إله إلاّ هو. و يصحّ أن تكون شهادة الملائكة من الشهادة الذاتيّة، لأن ذواتهم كاشفة عن الوحدانيّة المطلقة، فإنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 26، 27]، و إنهم يسبّحون ربّهم و يهلّلونه.

و المراد بأولي العلم الأنبياء و الرسل و من يتبعهم في العلم و العمل بالمعارف الإلهيّة و الأحكام الشرعيّة، و العرفاء الشامخون، و الفلاسفة المتألّهون، الذين أخبروا بوحدانيّته، و هم يشاهدونها من آياته و شهدوا بها شهادة علميّة و عمليّة.

و إنما خصّ سبحانه و تعالى الملائكة و أولي العلم بالذكر، لقصور أنظار جملة من الأنام عن درك ما وراء ذلك، فألقى الخطاب بحسب دركهم و فهمهم.

قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ .

القسط هو النصيب و العدل، و من أسمائه تعالى: «المقسط»،

و في الحديث: «إن اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض بالقسط و يرفعه»، و هو بمعنى الميزان سمّي به لأنه من العدل أيضا، و معنى الحديث أن اللّه يخفض و يرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه و أرزاقهم النازلة إليهم، و هو تمثيل لما يقدره اللّه تعالى و ينزله، و يطلق على غيره بالقرينة.

و القيام بمعنى المحافظة على الشيء و الملازمة له،

و في حديث الدعاء: «لك الحمد أنت قيام السموات و الأرض»، أي القائم بأمور الخلق و مدبّر العالم و حافظه في جميع أحواله.

ص: 139

و الجملة - لها معنى الوصفيّة و الحاليّة - حال من فاعل شهد، الراجع إلى الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة. أي: أن شهادتهم بالحقّ، و هم يحافظون عليها قولا و فعلا.

و العدل فيه عزّ و جلّ ثابت و دال على وحدانيّته، كما أن انحصار الالوهية و الوحدانيّة فيه تبارك و تعالى يثبت عدله و قيامه بالقسط، فهما فيه عزّ و جلّ متلازمان، كما يشهد بذلك جملة من الآيات، منها قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قوام السموات و الأرض بالعدل أعظم آية لوحدانيّته، و هذا دليل على ما قلناه من تعميم الشهادة إلى الذاتيّة و الفعليّة و القوليّة.

و من ذلك يظهر الوجه في تقديم التوحيد على القيام بالقسط، لأن الأخير ملازم للوحدانيّة المطلقة و محفوف بها حدوثا و بقاء، فالتوحيد و الشرك مختلفان مفهوما و اعتقادا و أثرا في الدنيا و الآخرة، كما هو صريح الأدلّة النقليّة و العقليّة.

و ممّا ذكرنا يعلم أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ ، راجع إلى جميع الثلاثة، كما هو ثابت في العلوم الأدبية من أن الموصوف يتكرّر مع جميع قيود الصفة، فيصير المعنى في المقام: شهد اللّه بأنه لا إله إلاّ هو قائما بالقسط، و الملائكة تشهد كذلك قائما بالقسط، و أولوا العلم أيضا يشهدون بأنه لا إله إلاّ هو قائما بالقسط، و قد أشرنا إلى أن التوحيد المطلق للكمال المطلق يستلزم ذلك، و أن القيام بالشيء لا يصدق إلاّ بعد الاستيلاء المطلق عليه، بلا تخلل خلاف في البين.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

الآية في موضع التعليل لما سبق ذكره، أي: من كان في كمال القدرة و العلم و الحكمة البالغة، يقتضى أن يكون واحدا في ذاته و في معبوديّته و في تشريع القوانين، و أن العدالة تقتضي أن يكون قهّارا عزيزا عليما حكيما، فهو تعالى حقيق بالوحدانيّة، لأنه المتفرّد بالعزّة، و أن ما سواه تحت سلطته و قهّاريته، و هو المتفرّد في حكمته، عالم بأسرار خلقه المطّلع على المصالح، و لا ينتقض حكمه و لا

ص: 140

يردّ أمره، و يستفاد من الآية المباركة تمام الثناء و كمال التعظيم له عزّ و جلّ.

قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ .

الدين هو الطاعة و الانقياد للشريعة، و يطلق على نفس الشريعة أيضا، كما يطلق على الملّة و الجزاء، و هو من إطلاق اللازم على الملزوم، الذي هو من المحسّنات البلاغيّة، و يستفاد الفرق من الاعتبار و القرائن،

و في الحديث: «ان اللّه ليدين للجماء من ذات القرن»، أي يقتصّ و يجزي.

و من أسمائه تعالى: (الديّان)، و هو فعال، يعني: قهر خلقه على الطاعة، يقال:

«دنتهم فدانوا»، أي قهرتهم فأطاعوا، و منه قولهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا سيد الناس و ديّان العرب»،

و في الحديث: «كان عليّ ديّان هذه الامة».

و مادة «سلم» من المواد المحبوبة الممدوحة في أية هيئة استعملت، و تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات الظاهريّة و الباطنيّة، و يقال للجنة: «دار السلام»، لأنها دار الإسلام عن العيوب و الآفات، و من أسمائه سبحانه و تعالى:

«السلام»، لأنه لا يتّصف بما يتّصف به الخلق من العيب و الفناء أو الحوادث.

و تأتي بمعنى الانقياد و الطاعة و العبوديّة التي تكون حقيقتها الخضوع و الانقياد للمعبود، فتكون كلّ عبوديّة و طاعة للّه عزّ و جلّ إسلاما، و كلّ إسلام له عزّ و جلّ عبوديّة له، سواء كانت في القول و اللسان، أم في القلب، أم في العمل، أم في الجميع،

و في الحديث: «ما من آدمي إلاّ و معه شيطان، قيل: و معك؟ قال: نعم، و لكن اللّه أعانني عليه فأسلم»، أي: انقاد لي و خضع و قد كفّ عني، و يمكن أن يكون المراد بإسلام الشيطان في الحديث الشريف تسليمه من كلّ جهة للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، لفرض انقطاعه صلّى اللّه عليه و آله من كلّ جهة إلى اللّه تبارك و تعالى، و استيلاء عقله المقدّس على جميع ما سوى اللّه تبارك و تعالى، لأنه العقل الكلّي، و هو أوّل ما خلقه اللّه تبارك و تعالى.

و قد اختصّ لفظ (الإسلام) بالغلبة في رسالة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و شريعته التي تناسب جميع ما ذكر في معنى الإسلام، لا سيما بعد

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم

ص: 141

من سلم المسلمون من يده و لسانه»،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «من غش مسلما فليس بمسلم»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من بات شبعانا و جاره جائع فليس بمسلم»، فيكون من استعمال العام في الخاص، و هو كثير في اللغة و العرف.

و المعنى: أن كلّ دين سماوي تكون فيه العبوديّة للّه تعالى يكون إسلاما له عزّ و جلّ، و هو واحد لا اختلاف فيه، و أن حقيقة الطاعة للّه عزّ و جلّ و الانقياد له تعالى، و هي روح جميع الأديان الإلهيّة و الشرائع السماويّة التي نزلت على الأنبياء، فيكون الإسلام الحقيقي هو الإذعان و الانقياد المساوق للإيمان بالقلب و العمل بالجوارح و الأركان، فيكون العمل بالدين إبقاء للدين و إعلاء لكلمة التوحيد، و جهادا مع الملحدين.

و الآية الشريفة ترشد إلى قضية عقليّة حقيقيّة، و هي بيان حقيقة الدين التي هي الفطرة السليمة المقرّرة في شرع السماء، و أن الدين هو الدستور الإلهي و الشريعة المتكفّلة لتصحيح نظام الدنيا و الآخرة، و أن العمل به يجلب السعادة للإنسان في الدارين، لأنه نزل من مشرّع و جاعل حكيم في أفعاله، عليم بجميع خصوصيات عباده، مهيمن على دينه و تشريعه، و هو منحصر في اللّه تعالى، فلا بد أن يكون الدين واحدا من حين وجود الإنسان على هذه البسيطة إلى انقراضه عنها، و هذا هو مقتضى العدل و العلم و الحكمة، فلا موضوع للتعدّد في سلسلة العلل و المقتضيات، كما لا تعدّد في مرحلة الجزاء و الحساب.

و الاختلاف في الأديان الإلهيّة إنما هو في بعض التشريعات التي يرجع سببها إلى الاختلاف في مقتضيات الظروف و استعداد الأمم، و يدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النحل، الآية: 123]، و قوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، هذا إذا عمّمنا الدين ليشمل مجموع الاعتقاد و العمل - كما هو الصحيح - و إن جعلناه

ص: 142

عبارة عن خصوص الاعتقاد و التوحيد في مقابل الشرك، فالأمر أوضح.

و يستفاد من سياق الآية المباركة الحصر، فتدلّ على أن كلّ دين من اللّه واحد لا اختلاف فيه، و أنه حق و أن غيره باطل، و أن فيه الاختلاف - كما تقدم - و هو يشمل جميع الشرائع و الأديان أصلا و عكسا، و قد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً [سورة الحج، الآية: 78].

و الآية الشريفة دستور إلهي، تدلّ على تصحيح الاعتقاد و العمل حسب ما يرتضيه اللّه تعالى، كما تدلّ بالملازمة على نفي الشرك بجميع أنواعه، و أن غير الإسلام و الطاعة له عزّ و جلّ باطل غير مرضي له تعالى و لا أثر له، و هو لا ينفع الناس في دنياهم و آخرتهم.

ثم إن هذه الآية الشريفة كالتوطئة لما سيأتي من الآيات اللاحقة، التي يذكر فيها المعاندون و المشركون و الكافرون، فإن كلّ أمر يكون مخالفا لما شهد به الحقّ بالحقّ و الملائكة و أولوا العلم، يكون باطلا، سواء كان في نظام التكوين أم التشريع، و يكون مغالطة و لجاجا و زخرفا.

قوله تعالى: وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

بغيا: منصوب إما على أنه مفعول لأجله، أو على الحال من الذين، و المراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود و النصارى، أي: و ما كان اختلاف أهل الكتاب في دينهم الحقّ - الذي بيّنه اللّه تعالى لهم على لسان أنبيائه و رسله - إلى مذاهب و أهواء - مع أن دين اللّه واحد لا اختلاف فيه - إلاّ بعد علمهم بحقيقة الدين و الحقّ المبين من بعد ما رأوا الآيات الواضحة و الدلائل الجليّة.

و هذا الاختلاف لم يكن عن عذر، بل كان عن بغي و ظلم بينهم، فتمرّدوا على الحقّ و حرّفوا الكتاب و أوّلوه، فكان أن بغى المنحرفون على المؤمنين الموحدين و تجاوز الرؤساء الحدود و نصروا مذهبا على مذهب، و ضلّلوا من

ص: 143

خالفهم، فأوقعوا الفتنة، فكفروا بآيات اللّه و أنكروا رسالة الرسل.

و يحدّثنا التأريخ ما وقع من الاختلاف الكبير في اليهود و النصارى بعد ما علموا الحقّ و آمنوا به، ممّا حمل الكثير من اليهود على إنكار التوحيد و تقبّلهم الشرك و الوثنيّة، و حرّفوا التوراة، كما ذهب النصارى إلى التثليث و تأليه المسيح و إنكار الشريعة.

و في الآية الشريفة توبيخ شديد لأهل الكتاب و تهديد لهم بما وقع بينهم من البغي الموجب للانتقام، كما أن الآية المباركة تخبر عن بعض الحقائق التأريخيّة التي وقعت بين أهل الكتاب، و قد وردت جملة منها في آيات اخرى من القرآن الكريم، كعبادة العجل، و قتل الأنبياء، و تأليه المسيح أو جعله ابنا له تعالى، و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

المراد من آيات اللّه الدلائل الواضحة الجليّة، سواء كانت في الكتاب التشريعي النازل على الأنبياء و الرسل أم المعجزات الباهرات الدالّة على توحيد اللّه تعالى و صدق نبوّات الأنبياء و الأحكام الإلهيّة التي نزلت لتهذيب الإنسان و استكماله، فإن كفرها و جحودها يستلزم إنكار أصل الدين، و من جحد تلك الآيات البيّنات الدالّة على توحيد اللّه و وحدة الدين و أحكامه التكليفيّة الشرعيّة، فإن اللّه محاسبهم و معاقبهم، و اللّه سريع الحساب في الدنيا باستيلاء الأعداء عليهم و تفريق كلمتهم، أو في الآخرة بأشدّ العذاب.

قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ .

الضمير في حاجّوك راجع إلى ما تقدّم ذكره، و هم الذين أوتوا الكتاب.

و محاجّتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنهم كانوا يدّعون أن الاختلاف معه لم يكن جدلا و بغيا، بل كان عن استدلال و اجتهاد و طلبا للواقع، و ما يدّعيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله أيضا من الاجتهاد، فلا ملزم لقبوله، و قد كان الجواب عنهم بما يقطع المخاصمة و المجادلة بالتسليم للّه تعالى من دون الإعراض عنهم.

و تدلّ الآية الشريفة على أن الاستدلالات مطلقا عقيمة، لا أثر لها ما لم تنته

ص: 144

إلى الضروريات، التي هي مبدأ كلّ النظريات، و هي ستة: الأوّليّات، و المشاهدات - سواء كانت حسيّات أم وجدانيّات - و الفطريات و التجربيات، و المتواترات، و الحدسيات، و قال بعض الأكابر:

ان ضرورياتنا ست و ذي *** مرجع كلّ النظريات خذي

و مع عدم تحقّق تلك تكون من المغالطة المذمومة، التي لا يكون للعقل إليها سبيل، و محاجّة أهل الكتاب مع الرسول، بل محاجّة الأمم مع أنبيائهم تكون من هذا القبيل، فهي تنبئ عن الانحراف و عدم الاستقامة، و في مثل ذلك لا بد لأنبياء اللّه يستقيم البرهان و لا الواجدان مع اعترافهم بالواقع، بل يكون من اللجاجة التي هي مذمومة،

و في الحديث: «اللجاجة تمل الرأي»، أي تذهب به و تزيله.

و تدلّ الآية الشريفة على أدب المحاجّة، حيث لم يقل سبحانه و تعالى: «فان حاجوك فأعرض عنهم»، لأن الدعوة عظيمة و لا يليق بها الإعراض أصلا، فلا بد من التثبّت حتى تحصل النتيجة، و هي إعلان التوحيد الذي هو أساس التربية الإنسانيّة الكاملة، فهي محور نظام الدنيا و الآخرة.

كما أنها تدلّ على أن التوحيد و التسليم للّه تعالى لا يمكن إبطاله، و لا يمكن نقضه بالمجادلة و المحاجّة، و لذا أمر سبحانه و تعالى نبيّه و المؤمنين بالتسليم، فإن الحافظ هو اللّه تعالى القدير القهّار.

و من ذلك يظهر وجه الارتباط مع الآية السابقة، فإنه بعد أن بيّن سبحانه أن الدين واحد، و هو التسليم للّه عزّ و جلّ الذي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، و أن جميع الكتب الإلهيّة ترشد إليه، فلا وجه للمحاجّة فيه و لا حجّة في ما وراء ذلك.

و إنما خصّ سبحانه و تعالى الوجه من بين سائر الأعضاء بالذكر، لأنّ التسليم بالوجه يقتضي الإقبال على اللّه تعالى و الخضوع لديه و الإخلاص له، و أن إسلام الوجه يستلزم إسلام سائر الأعضاء. و يمكن أن يراد بالوجه الذات و الحقيقة من حيث صدور الأفعال الاختياريّة، فيشمل القلب و جميع الجوارح.

كما أنه تعالى شرك من اتبعه بالإيمان تشريفا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إعظاما لإيمانهم

ص: 145

و تنويها لمقام التبعيّة، أي: و من اتبعني في الإسلام و الإخلاص للّه تعالى و الإقبال عليه.

قوله تعالى: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ وَ اَلْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ .

الأمي من لا يقرأ و لا يكتب، فهو على ما ولدته أمه من الجهل، و المراد من الأميين هم مشركو العرب، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قد سمّوا بذلك في مقابل أهل الكتاب، كما أن أهل الكتاب كانوا يسمّونهم بذلك، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران، الآية: 75]، و وجه الجمع بين أهل الكتاب و المشركين إما لأجل كون الدين مشتركا بينهم و الجميع مطالبون بالإيمان به، أو لأجل أن الأميين كانوا معترفين باللّه و إلهيته، أو لأجل أن دين أهل الكتاب في عصر النزول كان لا يخلو عن الشرك، ممّا أوجب اشتراكهم مع المشركين.

و الاستفهام في الآية المباركة للتقرير، و فيه الأمر بالإسلام.

و المعنى: قل يا رسول اللّه لليهود و النصارى و مشركي العرب: أسلموا و ادخلوا في سلم اللّه تعالى، و لا تحاربوه بعد ما جاءكم من البيّنات. و في الآية الشريفة توبيخ لهم على العناد و اللجاج، و الكف عن الإلحاح في المحاجّة مع منكر الضرورة، كما عرفت.

قوله تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا .

أي: فإن دخلوا في السلم و آمنوا بالإسلام فقد خرجوا من الضلال و دخلوا في هداية اللّه تعالى، و هذا هو الفوز العظيم.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ .

أي: و إن أعرضوا عن الإسلام و حادّوا اللّه و رسوله، فإنما عليك التبليغ للدين الحقّ و الدعوة إلى اللّه تعالى، و قد حصل منه البلاغ و أدّاه بأحسن وجه.

و الآية الشريفة تدلّ على أن الرسول مبلغ للدعوة الإلهيّة، و ليس له من الأمر في الإيمان و الكفر شيء، بل الحكم في ذلك منحصر في اللّه تعالى، قال

ص: 146

عزّ و جلّ: لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ [سورة آل عمران، الآية: 128].

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ .

أي: أن اللّه يعلم ما في الضمائر و مكنونات الصدور، فهو عالم بمن هو قابل الهداية و التوفيق، و من هو غير قابل لذلك، فيحكم بما تقتضيه حالهم، و في ذلك دلالة على إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ، فيكون تأكيدا لما سبق.

و لعلّ ختم الكلام بهذه الجملة للإرشاد إلى أن المقام ليس مقام التخويف و التوعيد، بل مقام الجلب و التأليف و لو بالتأكيد، و يدلّ على ذلك إتيان لفظ (العباد) الذي يشعر بالرأفة بهم، فإن عنوان العبوديّة يقتضي كونهم مربوبين له جلّت عظمته.

ص: 147

بحوث المقام

بحث أدبي:

المشهور بين الأدباء أنه إذا ورد قيد في الكلام و كانت قبله امور تصلح لرجوع القيد إلى كلّ واحد منها، فالقيد للجميع إلاّ إذا دلّت قرينة على الخلاف، سواء كانت داخليّة أم خارجيّة أو مقاليّة، لفرض صحّة انحلال القيد في الواقع بعدد تلك الأمور، و هذا من احدى محسّنات الكلام و من الأمور البلاغيّة، ففي الآية الشريفة أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ له معنى الوصفيّة و الحاليّة من اسم الجلالة في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أو من الضمير «هو» في: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، فيرجع إلى المشهود به في شهادة الملائكة و أولي العلم. و يصحّ أن يتعلّق بوجوده الانبساطي إلى الجميع، و لا محذور فيه، و له نظائر كثيرة في اللغة الفصحى.

و تقدّم وجه نصب (بغيا) في قوله تعالى: إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

و الموصول في قوله تعالى: وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ معطوف على الضمير المرفوع المتّصل في: أَسْلَمْتُ ، من غير احتياج إلى التأكيد، لوجود الفصل بينهما. و يجوز أن يكون مبتدأ و الخبر محذوف تقديره: «و من اتبعن أسلم وجهه اللّه».

و إنما جاء قوله تعالى: «فَقَدِ اِهْتَدَوْا» على الماضي مبالغة في الإخبار لوقوع الهدى لهم و حصوله.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: أن في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، اتحاد الشاهد

ص: 148

و المشهود به و الشهادة، و في ذلك ظهرت الوحدة في الكثرة، و الكثرة في الوحدة، و لا حدّ لمثل هذه الشهادة في العظمة و البهاء و الجلالة، تخرّ لها الكائنات خضّعا سجّدا، و لا يمكن للعقل أن يدركها و يحدّها بحدّ، و ليس له إلاّ الاعتراف بالخضوع و التسليم، و فيها من الجذبة الروحانيّة و ابتهاج الذات ما لا يخفى، و هي أعظم آية تدلّ على التوحيد، و بها صارت هذه السورة الحدّ الفاصل بين التوحيد و الشرك، و قد اختصّت هذه الآية بمزية لا توجد في غيرها. و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

الثاني: يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أن الشهادة إنما تكون بالقول و بالفعل و بالذات في التوحيد ثابت في مرحلة الذات و الصفات و الأفعال، فإن أفعاله المقدّسة تدلّ على أنه لا إله إلاّ هو، كما تقدّم.

و من ذلك يظهر بطلان القول أن الشهادة في المقام إنما تحمل على المعنى الاستعاري، و هو أن وحدة الحاجة في جميع خلقه و جمال النظام يدلاّن على وحدة الصانع، فتكون هذه الوحدة بمنزلة نطقه و إخباره تعالى. و استند في ذلك على أن حمل الشهادة على الشهادة القوليّة يستلزم الدور، لأن إثبات التوحيد بهذه الشهادة يقتضي أن يكون أمره مستندا إلى النقل دون العقل، و هو يتوقّف على صحّة و حي القرآن وحيا إلهيا، و هو متوقّف على التوحيد، و هو دور.

وجه البطلان أن وحدته تبارك و تعالى ثبتت بالأدلّة العقليّة و البراهين القطعيّة، لا بمجرّد القرآن. فنقول: وحدته تعالى ثبتت بجميع الكتب الإلهيّة، مع أن النقل إرشاد محض إلى حكم العقل في جميع المعارف الإلهيّة، و النقل لا يفيد حكما مستقلا في نفسه و إنما يقرّر حكم العقل.

و إذا ثبتت صحّة الشهادة من اللّه تعالى، لأنّه لا يتصوّر في حقّه الكذب و الزور، بل هو منزّه عن كلّ باطل و نقص، فتكون شهادته حقّا بحقّ و أن إخباره عن الملائكة و أولي العلم حقّ و تثبت شهادتهم.

و يظهر من سياق الآية الشريفة أن التوحيد و هو المقصد الأسنى، و له من

ص: 149

الأهمية العظمى، و هو حصن اللّه الأكبر، فمن دخله كان آمنا، على ما تواتر

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال: قال تعالى: «كلمة لا إله إلاّ اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». و مقتضى الجمع بينه و بين القيام بالقسط، أن الإيمان بالتوحيد لا بد أن يكون مع الإيمان بالعدل، و الإيمان بأحدهما دون الآخر يكون إيمانا ناقصا، فالآية تدلّ على أن العدل من اصول الدين، فهي تؤيّد مذهب العدليّة، القائلين بأن العدل أصل من اصول الدين.

الثالث: يستفاد من إخباره تعالى عن الملائكة و أولي العلم أن هؤلاء يشهدون بالتوحيد لعلمهم بعدم شريك له تعالى، فلو كان له شريك لعلمه هؤلاء، إذ الملائكة هم وسائط الفيض، و لهم الأمر في الخلق و التدبير، و أن أولي العلم بما أنهم يشاهدون الآيات و يستفيدون منها، يعلمون بأنه تعالى واحد ليس له شريك.

الرابع: إطلاق قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ يشمل الجميع كجبرائيل و إسرافيل و عزرائيل الذين هم سادات الملائكة و مدبر و التكوين بأمر من ربّ العالمين، كما يشمل الكروبيين و حملة العرش الذين يكون علمهم بالوحدانيّة من الإفاضة الغيبيّة إليهم، و من تجلى الوحدة المطلقة لديهم.

الخامس: تدلّ الآية الشريفة على فضل العلم و أهله، و أنهم أمناء اللّه تعالى في خلقه، إذ جعل شهادتهم قرين شهادته و يا لها من عظمة و بهاء و كبرياء.

السادس: تكرار قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يدلّ على أن الأوّل لأجل توحيد الذات، و الثاني لأجل بيان توحيده في الأفعال و قيامه بالعدل في مخلوقاته، و هو توطئة لقوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ ، من أن الدين واحد لا اختلاف فيه.

السابع: يدلّ قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ على بطلان الجبر و التفويض، لكونهما خلاف القيام بالقسط الذي هو الأمر بين الأمرين، كما أنه يدلّ على عدم جواز الظلم بالنسبة إليه تبارك و تعالى، كما هو مذهب العدليّة.

و إنما عبّر بالقسط لأنه العدل الظاهر الذي لا يمكن جهله، بخلاف العدل فإنه

ص: 150

قد يخفى، و لذا سمّي الميزان قسطا، لأنه يظهر العدل في الوزن.

فالقسط النصيب، فإذا أعطى كان إنصافا و عدلا، و إذا منع كان جورا كما في قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [سورة الجن، الآية: 15].

الثامن: يظهر من سياق الآية الشريفة أن منشأ القيام بالقسط هو الشهادة بالوحدانيّة، و لا بد أن تكون كذلك، لأن في الوحدانيّة الحقّة تنطوي جميع المعارف الحقّة.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ على أنه لا بد للإنسان من منهج في حياته، و هو الذي يتكفّل جميع جهاته التكوينيّة و التشريعيّة و لا يمكن التخطّي و الإعراض عنه، و أنه لا بد من الخضوع و الانقياد للّه تعالى الذي هو رأس كلّ كمال.

كما أنه يدلّ على أن أساس النظام هو الدين، و أن الانقياد بدونه فاسد و مخل بالنظام، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات الدالّة على أن لا بد للإنسان من منهج يقوّمه و دستور ينظم به شؤون حياته، و هذا هو مقتضى الفطرة أيضا، و لذا كانت القضايا الواردة في هذه الآية من القضايا الفطريّة الحقيقيّة.

العاشر: يستفاد من الآية الشريفة أن المشركين في الذات كالثنويّين، أو في المعبود كالوثنيّين أو في العبادة كالمرائين، لا حظّ لهم من هذه الآية الكريمة.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ على أن الإنسان لا بد له من الإذعان بما تبيّن له من المعارف الإلهيّة، و العمل بها و الوقوف عند ما لا يعلمه، وقوف تسليم، و أن خلاف ذلك يكون من البغي، كما يستفاد أن كلّ خلاف و اختلاف إنما يكون لطلب الاستيلاء و الظلم على كتاب اللّه و المعارف الحقّة.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ على النهي عن اللجاج و المراء مع منكر الضرورة، و أنه لا ثمرة فيه إلاّ الجدال و الخصام، كما أنه يدلّ على أن الرسول ليس له في أمر الهداية و الضلالة شيء، بل هو مبلّغ كما ذكرنا.

ص: 151

بحث روائي:
فضل الآية:

قد عرفت أن قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، يشتمل على أعظم شهادة تدلّ على وحدانيّته و كماله في خلقه و أفعاله، و لعظم ما تضمّنته الآية الشريفة صارت من أعاظم الآيات، و قد ورد في فضلها بعض الروايات.

روى يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه السّلام: «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلّقن بالعرش، و قلن: يا رب أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب؟! فأوحى اللّه تعالى اهبطن... و هي ام الكتاب، و شهد اللّه أنه لا إله إلا هو و الملائكة، و أولوا العلم، و آية الكرسي، و آية الملك.

أقول: تقدّم ذكرها في آية الكرسي، و رواها الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري، مرفوعا باختلاف يسير.

و روى ابن عدي و الطبراني و الخطيب و ابن النجار، عن غالب بن قطان، عن الأعمش، عن أبي وائل بن عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يجاء بصاحب هذه الآية يوم القيامة فيقول اللّه تعالى: عبدي عهد إلي عهدا و أنا أحقّ من وفّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة».

و في المجمع: عن الزبير بن العوام: «قلت: لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - و هي عشية عرفة - حتّى اسمع ما يقوله، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه و ناقة رجل كان إلى جنبه، فسمعته يقول: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ - الآية - فما زال يردّدها حتى رفع».

تفسير الآيات:

في تفسير العياشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، قال أبو جعفر عليه السّلام: «شهد اللّه أنه لا إله إلاّ هو، فإن اللّه تبارك و تعالى يشهد بها لنفسه، و هو كما قال. فأما قوله: و الملائكة، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم و صدقوا و شهدوا كما شهد لنفسه، و أما قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، فإن أولي العلم الأنبياء و الأوصياء، و هم قيام بالقسط، و القسط هو العدل».

ص: 152

في تفسير العياشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، قال أبو جعفر عليه السّلام: «شهد اللّه أنه لا إله إلاّ هو، فإن اللّه تبارك و تعالى يشهد بها لنفسه، و هو كما قال. فأما قوله: و الملائكة، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم و صدقوا و شهدوا كما شهد لنفسه، و أما قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، فإن أولي العلم الأنبياء و الأوصياء، و هم قيام بالقسط، و القسط هو العدل».

أقول: أما جهة إكرام الملائكة، لأنه تعالى ذكرهم بعد نفسه الأقدس، و أما التسليم لربّهم، فلا ريب في أن المجرّدات مطلقا خاضعة خضوعا تكوينيّا للّه جلّ جلاله، لذاته و لجميع صفاته، خصوصا لوحدانيّته تعالى، و قد تقدّم أنّه جلّت عظمته يتجلّى لهم بوحدانيّته، فتكون شهادة الملائكة بالتوحيد بتجلّيه تبارك و تعالى لهم بتلك الصفة، و لو لوحظ مراعاة الاصطلاح تكون شهادتهم من عين اليقين، فضلا عن حقّ اليقين.

و أما

قوله عليه السّلام: «و هم قيام بالقسط»، فهو من ذكر المصدر من باب المبالغة في التعبير، و الاختصاص للقيام بالقسط بخصوص أولي العلم، بل يشمل الملائكة أيضا، و قد أثبتوا في العلوم الأدبيّة أن الوصف لا مفهوم له. و أنّ ذكر الأنبياء و الأوصياء من باب ذكر أهم المصاديق البشريّة.

في تفسير العياشي - أيضا -: عن محمد بن مسلم، قال: «سألته عن قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ ، فقال: الدين فيه الإيمان».

أقول: لا ريب أن للإسلام مراتب كثيرة، قال سبحانه و تعالى:

قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 14]، و معلوم أن مجرّد الذكر اللفظي لكلمة التوحيد مع عدم الاعتقاد القلبي به، و عدم العمل بمقتضياته، يصحّ سلب الإيمان و الإسلام و التوحيد عنه، كما هو ظاهر كثير من السنّة المباركة.

نعم، لذلك أثر خاص و هو حفظ الدماء و العرض و المال صونا للجامعة الإسلامية.

ص: 153

عن ابن شهر آشوب، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ قال عليه السّلام: «التسليم لعلي ابن أبي طالب بالولاية».

أقول: هذا من باب بيان أحد المصاديق، و المراد العمل بما أتى به عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

في تفسير القمّي عن علي عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي و لا ينسبها أحد بعدي، الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل، و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، يا أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر و ان الحسنة في غيره لا تقبل».

أقول: أما

قوله عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام»، يعني أبيّن نسبة الإسلام، و أنه منسوب إلى اللّه تبارك و تعالى بمبدئه و منتهاه، و لا يمكن أن ينسب الإسلام بغير هذا أحد من الناس.

و أما

قوله عليه السّلام: «الإسلام هو التسليم»، هذا من باب بيان معناه الاشتقاقي، و في ذلك تنطوي امور كثيرة، أي: التسليم باللسان و الجنان و العمل بالأركان.

و أما

قوله عليه السّلام: «و التسليم هو اليقين»، هذا من باب تفسير الملزوم و إرادة اللازم، لأنه لو لم يتيقّن الشخص بشيء لا يسلم نفسه إليه.

و أما

قوله عليه السّلام: «و اليقين هو التصديق»، هذا من باب ذكر أحد المتساويين بالآخر، توضيحا للمقصود، لأن كلّ تصديق بقضية يوجب اليقين بمفادها، و كلّ يقين في قضية يستلزم التصديق بها، كما هو معلوم.

و أما

قوله عليه السّلام: «و التصديق هو الإقرار»، هذا مثل سابقه يكون من باب تفسير أحد المتساويين بالآخر، توضيحا و تأكيدا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و الإقرار هو الأداء»، المراد بالأداء الالتزام القلبي بالعمل بما أقرّ به، بحيث يترتّب عليه العمل، فيكون تمام قوله عليه السّلام شرحا لحقيقة الإسلام بمراتبها القوليّة و الاعتقاديّة و العمليّة.

ص: 154

و أما

قوله عليه السّلام: «و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه»، فهو كالنتيجة للبيان السابق، لأن ما كان من اللّه سبحانه و تعالى مبدءا و مسيرا و ينتهي إليه، لا بد لأن يؤخذ منه فقط، لأن غيره لا يمكنه ذلك عقلا.

و أما

قوله عليه السّلام: «إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره»، فهو قضية عقليّة دليلها يستفاد من نفس تصوّرها، لأنه لو لم يكن العمل و القول مطابقين للمعتقد، فلا أثر لهما أبدا، فكلّ من نظر إلى عمله و سرّته حسنته و ساءته سيئته، فهو مؤمن كما تطابق عليه الكتاب و السنّة.

و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، لأن منشأ الكفر - مطلقا - لا بد أن يرجع إلى إنكار التوحيد و جحده.

و أما

قوله عليه السّلام: «يا أيها الناس دينكم دينكم»، يعني: الزموا دينكم ثم التزموا به. و هذه الجملة يؤتى بها في مقام التأكيد و التثبيت و التقريب.

و أما

قوله عليه السّلام: «إن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره... إلى آخر الرواية»، لأن شرط قبول الحسنة الدين و التقوى، و المفروض عدم تحقّقهما في الكافر.

في أسباب النزول للواحدي: «لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فأبصروا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرفاه بالصفة و النعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: و أنت أحمد، قال: نعم، قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك و صدقناك، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه: «شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ» ، فأسلم الرجلان و صدقا برسول اللّه».

أقول: هذا من أحد أسباب نزول الآية الشريفة، و يمكن أن يكون لها أسباب اخرى.

ص: 155

بحث علمي:

من صفات اللّه تعالى القائم بالقسط، و هي عين ذاته المقدّسة التي لا حدّ لجلالها و كمالها، و أنها تدلّ على كماله تعالى في أفعاله، و تستلزم كثيرا من الصفات العليا، كالرأفة و الرحمة و العدل. و القسط - كما مر -: هو العدل مع زيادة فيه، و هي أن القسط يستعمل في موارد العدل الظاهر و الحقّ المعروف، فهو أبلغ من العدل، كما أن الجور أبلغ في العدوان من الظلم، فيكون للقسط خصوصية لم تكن في العدل - كما تقدّم - و إن كانا يتقاربان في المعنى، كما فسّروه به في كثير من الموارد، و لكن القسط يستعمل في مورد لا يستعمل العدل فيه، كما أن الأوّل يعدّى ب «إلى» و لا يعدّى العدل به، قال تعالى: أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة، الآية:

8]، و ممّا يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا [سورة الحجرات، الآية: 9]، و لا يصحّ أن يكون أحدهما عين الآخر، إذ التأسيس خير من التأكيد.

و في حديث المهدي عليه السّلام المروي من الفريقين: «يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت ظلما و جورا». فيكون القسط أنسب بالشهادة في المقام من العدل.

و القائم بالشيء هو المتصدّر و المراعي له و محقّقه و مجريه. أي المجري، و أقومها و أنفعها للنظام التكويني و التشريعي و الجزائي، و بها يتحقّق الترابط بين الربّ و عبيده، و بين أفراد العباد بعضهم مع بعض، و به يقع التآلف، و التحابب بينهم، كما أن به يضمن المظلوم حقّه و يجازى الظالم لظلمه، و به ينتظم النظام، و لأجل ذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرّر هذه الآية في أفضل الأوقات و في أفضل الأماكن، فقد ورد أن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله كان يردّدها في عشية عرفة كما مرّ.

ص: 156

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أعظم شهادة منه جلّت عظمته، و هي الشهادة بالوحدانيّة، و ذكر جلّ شأنه حقيقة الدين، و أنه واحد لا اختلاف فيه، و هو الجامع بين أفراد الإنسان في هدف واحد بالتسليم لوجهه تعالى، و أن هذا الدين من الفطرة و لا يجهلها أحد، و الاختلاف فيه من البغي و الظلم الذي يذكرها كلّ ذي وجدان، ثم ذكر سبحانه و تعالى محاجّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع الكفّار و مشركي العرب، و أمره بالتسليم له تعالى، و إنما عليه البلاغ، فلا يضرّه من يكفر، و في ذلك تسلية له صلّى اللّه عليه و آله.

و في هاتين الآيتين يذكر اليهود و كفرهم بآيات اللّه و محاجّتهم مع آياته سبحانه و تعالى، و قتلهم أنبياء اللّه و المؤمنين الموحّدين، و قد أوعدهم اللّه بالعذاب الأليم بعد ما أسدلوا على أنفسهم حجبا ظلمانيّة، تستر الضمائر و البصائر و تظلم القلوب و السرائر فحقّت عليهم الخيبة، و ما لهم من ناصرين ينقذونهم من هذا المصير و يرفعون عنهم العذاب الأليم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

مادة كفر تأتي بمعنى الستر، قال لبيد:

في ليلة كفر النجوم غمامها و هي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و ذلك لأنّ من أهمّ مقاصد القرآن العظيم هي الدعوة إلى التوحيد و نبذ الشرك و الاختلاف، و توجيه الإنسان إلى الكمال المنشود له، و إزالة العقبات التي تصدّه عن

ص: 157

ذلك، و من أعظمها الكفر و جحود الحقّ، و لأجل ذلك تكرّر ذكرها لإرشاد الناس و تثبيت الحجّة عليهم.

و يطلق الكافر على الزارع، لأنه يستر البذر تحت الأرض، قال تعالى:

كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ [سورة الحديد، الآية: 20]، كما ان ستر النعم كفران لها.

و في عرف الكتاب و السنّة تستعمل الكلمة في ستر العقائد الحقّة و عدم الاعتقاد بها و جحودها مطلقا، فإن أظهر الإيمان و الاعتقاد و أخفى الجحود فهو (المنافق)، و إن أظهر كفره بعد إظهار الاعتقاد أو الإيمان فهو (المرتد)، فإن قال بالشرك في الالوهية فهو (المشرك)، و إن تديّن أو أعتقد ببعض الأديان الإلهيّة المنسوخة فهو (الكتابي)، و إن ذهب إلى قدم الدهر و إسناد الحوادث إليه فهو (الدهري)، و إن كان لا يعتقد بالمبدأ و الباري فهو (المعطل) أو الملحد.

و المراد بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ هم اليهود، بقرينة ما يأتي.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن الثاني يضاف إلى اللّه تعالى، و الأوّل يضاف إلى الفاعل فكلّ قتل موت و لا عكس، فالاختلاف بينهما بالاعتبار لا بالذات، و لفظ (بغير حق) قيد توضيحي، لا أن يكون احترازيّا، لأن قتل النبيّين لا يكون إلاّ بغير الحقّ، نظير قوله تعالى: وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ [سورة المؤمنون، الآية: 117]، فإن الشرك مع اللّه سبحانه و تعالى لا يعقل أن يكون مع البرهان.

و ذكر هذا الوصف لبيان قبح أعمالهم و بشاعتها و انقطاع العذر عنهم، بعد عرفان الحقّ و ظهوره.

و الفعل في المواضع الثلاثة: يكفرون، و يقتلون في الموضعين، يدلّ على الاستمرار و الثبوت، أي: أن عادتهم و دأبهم جرت على الكفر بآيات اللّه تعالى بعد

ص: 158

البيان، و قتلهم الأنبياء و الأولياء و الصلحاء و الداعين إلى الحقّ و العدل، و لو بحسب القصد و النية، و ليس لهم شأن إلاّ ذلك، و على هذا لا نحتاج إلى تخصيص الجملات الثلاث بالآباء فقط، بل كلّ من فيه منشئيّة الصراع مع الحقّ يكون داخلا في معنى الآية المباركة، و هذا ما نعلمه من تاريخ أعداء الإسلام و دين الحقّ، فإنهم قتلوا الأنبياء و دعاة الحقّ الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، و قد جرت العادة على أخذ الخلف بما فعل السلف، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يرتبط بالمقام، فراجع.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ .

تعميم بعد التخصيص، لأن الأنبياء أيضا يأمرون بالقسط، لبيان أن هؤلاء لا شأن لهم إلاّ الدعوة إلى الحقّ و إقامة العدل اللذين تدعو إليهما الفطرة، و فيه تشنيع فعلهم و تهييج الفطرة الإنسانيّة و استفزاز الضمير عليهم، لأنهم فعلوا ما لا يرتضيه الضمير و لا العاقل البصير.

قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ .

مادة (بشّر) في حاق الواقع بمعنى الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، كما يشاهد فيمن أخبر بموجب السرور، فإنه يظهر أثر الفرح في ظاهر الوجه. و في الإخبار بالشرّ يظهر الهم و الغم في ظاهره أيضا. فيصحّ استعمال هذه المادة بحسب واقعها في كلّ من الأخبار بموجب السرور و الغم، من دون مجاز و استعارة.

نعم، إذا أطلقت اختصّت بما يوجب السرور.

و لو قيل: باختصاص البشارة بالإخبار بموجب السرور، فيصحّ استعمال البشارة في الغم و الحزن أيضا من باب الوصف بحال المتعلّق، لأن الإخبار يوجب سرور المؤمنين بلا إشكال، و لم يقم دليل على أنه لا بد أن تكون جميع جهات الإخبار منحصرة في الوصف بحال ذات المخبر عنه فقط، بل الكلام الفصيح ما كان متكفّلا لجهات شتى و نواح مختلفة من الدلالة و الإفادة، فيكون كالبحر الذي فيضه عميم و أمواجه لا تستقيم، و يتضمّن الكلام الاستعارة التي تشتمل على الحسن و البلاغة، كما لا يخفى.

ص: 159

و الفاء في قوله عزّ و جلّ: فَبَشِّرْهُمْ للجواب، لتضمّن الجملة معنى الجزاء المتفرّع على الجملة السابقة المتضمّنة لمعنى الشرط، و هو الكفر و قتل النبيّين.

و العذاب: كلّ ما شقّ على الإنسان و منعه عن مراده، و كلّ عذاب في القرآن فهو التعذيب، أي الايجاع، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا، روحيّا أم جسميّا.

و العذاب في الآية المباركة مطلق، يشمل الدنيوي منه و الاخروي، و فيه من الدلالة على شمول الغضب لهم و احتوائهم السخط و العذاب، و هذا قرينة على ما ذكرناه آنفا من تهييج الفطرة عليهم، و قد أخزاهم اللّه تعالى في الدنيا فكتب عليهم القتل و الجلاء و التفريق و عداء النفوس لهم، و لهم في الآخرة أشدّ العذاب و أليمه، كما نطقت به الآيات الكريمة في مواضع متعدّدة.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الحبط: بطلان العمل و عدم الأجر له، أي: الّذين كفروا بآيات اللّه و قتلوا الأنبياء و دعاة الحقّ و العدل، بطلت أعمالهم في الدنيا و الآخرة، أما بطلان عملهم في الدنيا فلأنهم فعلوا ذلك لإزالة الحقّ و إثبات الباطل، و اللّه تعالى فعل بهم خلاف ما أرادوه، فأثبت الحقّ و أزال الباطل و أذاقهم العذاب الأليم، و أما في الآخرة فلأنهم لا يؤجرون على أعمالهم بشيء، بل يعذّبون عليها و هم وقود النار.

و الآية المباركة تدلّ على أن قتل الأنبياء و الأولياء و الأوصياء و دعاة الحقّ ممّا يحبط الأعمال.

قوله تعالى: وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

أي: من شافعين، و هذا يدلّ على عدم شمول الشفاعة لهم، كما تقدّم في بحث الشفاعة في سورة البقرة، فراجع.

ص: 160

بحوث المقام

بحث علمي:

النصرة إما واقعيّة معنويّة حقيقيّة، أو وهميّة خياليّة، و الاولى مبنيّة على الدوام و البقاء و الثبات، و لا تزول بخلاف الثانية، و الآثار الحقيقيّة تترتب على الاولى.

و النصرة المنفية في أمثال هذه الآية إنما هي الاولى، و أما النصرة الوهميّة الخياليّة فليست من اللّه تعالى في شيء، كما لا أثر لها عند ذوي العقول، بل إطلاق النصرة عليها إنما يكون بالمجاز و العناية.

بحث روائي:

في الكافي: عن يونس بن ظبيان، قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: ويل للذين يختلسون الدنيا بالدين، و ويل للذين يقتلون الّذين يأمرون بالقسط من الناس، و ويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقيّة، أبي يغترون أم عليّ يجترءون؟ فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحكيم منهم حيران».

أقول: قد ظهر حقيقة ما حلفه تبارك و تعالى في هذه الأعصار لكلّ ذي شعور.

و في المجمع: عن أبي عبيدة الجراح قال: «قلت: يا رسول اللّه، أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: رجل قتل نبيا، أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثم قرأ صلّى اللّه عليه و آله: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ ، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا أوّل

ص: 161

النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فقتلوا من أمروهم بالمعروف و نهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم، و هو الذي ذكره اللّه».

أقول: ما ورد في هذه الرواية من باب بيان بعض المصاديق، و إلاّ فحكم الآية الشريفة عام إلى يوم القيامة، و قتل الأنبياء و الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر يشمل كلا من المباشر و المسبّب بالأسباب المختلفة في كلّ عصر و زمان.

ص: 162

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَو.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أن أهل الكتاب إنما يختلفون في الدين، و لا يؤمنون به عن بغي و ظلم بعد ما علموا الحقّ، و ذكر جملة من قبائح أعمالهم من الكفر و قتل الأنبياء و الآمرين بالقسط، بين ما يوجب تشهيرهم من أن هؤلاء الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم أولى الناس بأن يستجيبوا إذا دعوا إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم من الأميين الّذين لا يعلمون من الدين شيئا، فأعرضوا عن ذلك و اتخذوا الخلاف، و ليس ذلك إلاّ لأجل أنهم ادّعوا اتصال النسب مع أنبيائه تعالى، فهو الذي يمنعهم من البقاء في العذاب. فكان ذلك سببا للافتراء على اللّه تعالى و اقتراف الآثام و تجرؤهم على اللّه سبحانه، و قد أثبت سبحانه و تعالى أن الجزاء إنما يكون على الأعمال دون الأنساب، و أوعدهم الخزي و العذاب في يوم يتجلّى العدل الإلهي و يجزي كلّ نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ .

الاستفهام للتشهير و التعجيب، أو لبيان الحقيقة المستورة عن عامّة الناس.

مادة (نصب) تأتي بمعنى الوضع و التعب و الحصة التي تضاف إلى الشخص أو العلامة، قال تعالى: وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ [سورة المائدة، الآية: 3]، و النصب هو حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية فيعبدونه و يذبحون له، بل كلّ ما عبد من دون

ص: 163

اللّه فهو نصب،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «فاطمة بضعة مني، ينصبني ما أنصبها»، أي يتعبني ما أتعبها.

و يمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد، و هو الوضع، لكنه يختلف باختلاف الخصوصيات. و قد استعملت هذه الكلمة في موارد من القرآن الكريم، و غالب استعمالها فيه إنما هو في الذم.

و النصيب من المفاهيم القابلة للشدّة و الضعف و القلّة و الكثرة، فهو من المفاهيم التشكيكيّة جدا، فإن من فهم آية من آيات القرآن الكريم بحسب اعتقاده، يكون له نصيب منه، و فهم حقيقة نفس الآية بحسب الواقع نصيب منه أيضا، و فهم أسرارها و دقائقها نصيب منه، و هكذا في جملة من الآيات الشريفة. و إطلاق النصيب على بعض هذه الأنصباء، من باب مجرّد الإطلاق اللفظي فقط إذا لو حظ بملاحظة بعض مراتبها الأخرى.

و المراد من الكتاب جنسه الذي يشمل التوراة و الإنجيل، و إيتاء النصيب من الكتاب عبارة عن تطبيق الكتاب حسب آرائهم و معتقداتهم، أي: أخذوا من كتاب اللّه خصوص ما ينفعهم، و تركوا ما سواه، و هذا هو عادة أهل الدنيا الّذين لا همّ لهم إلاّ قضاء الحاجة الفعلية و هذا هو حظهم ممّا أوتوه من الكتاب، و ليس من حظهم في الواقع، لأنه لا بد من أن يؤخذ بكلّ جزء منه مع مراعاة جميع ما فيه، لأن الإيمان بالبعض لا ينفك عن الإيمان بالكلّ و بالعكس.

و يستفاد من الآية الشريفة وقوع التحريف في الكتاب، و أن الذي بين أيديهم ليس إلاّ نصيبا منه، فإن التحريف الذي أوقعوه فيه و تغييرهم له ما أوجب إذهاب كثير منه، و إنما بقي جزء منه، كما يدلّ على أنهم لا يحسنون فهمه و لا يلتزمون العمل به، فهم فقدوا الأهلية لتحمّله بسبب تحريفهم له.

و الآية الشريفة تدلّ على العجب من حالهم و أفعالهم، و الاستفهام تقريري، أي: انظر إلى أحوالهم تراهم كذلك، فيتطابق المخبر به مع المحسوس. و هذا أحسن وجه لبيان فساد طريقتهم و سوء عقيدتهم و نفاق سريرتهم.

ص: 164

و هذه الآية الشريفة و نظائرها تبيّن فساد عادة من عادات الناس التي جرت على أن من اطلع على شيء من كتاب ما، يدّعي الاطلاع على جميع ما ورد فيه و الإحاطة به، مع أنه ربما لم يصل إلاّ إلى جزء منه، و لم يدرك مفاهيمه العرفيّة فضلا عن دقائقه العلميّة، هذا في الكتب المؤلّفة فضلا عن الكتب الإلهيّة النازلة من السماء على الرسل و الأنبياء، التي قال فيها: ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، و قد وعد اللّه تعالى أن يعلمها المتّقين من عباده، قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 282].

قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ .

مادة (دعو) تأتي بمعنى استدعاء الشيء سواء كان بالخير أم الأمر أم بنحو آخر و هو كالنداء، و قد يستعمل كلّ منهما في موضع الآخر، و هي من المواد التي كثر استعمالها في القرآن الكريم، و لعلّ من ألطفها قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 24]، و من أشدّها هيبة و تسخيرا قوله تعالى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّاعِ يَقُولُ اَلْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ [سورة القمر، الآية: 7، 8]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الاكلة على قصعتها»،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «مثل المؤمنين في توادّهم و تراحمهم و تعاطفهم، مثل الجسد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى».

و الكلمة مستعملة في جميع العوالم الإمكانيّة و النشآت الربوبيّة، فاللّه تعالى هو مبدأ الدعوة إلى الحقّ في تمام النشآت، و إليه ختمها في جميعها، فهو الحقّ المحض و مظهره و مظهره.

و كتاب اللّه هو القرآن العظيم المشتمل على حقائق واقعيّة و تشريعيّة، التي جعلها عزّ و جلّ لتنظيم النظام الأحسن في الدنيا و الآخرة، و قد قامت الحجج الكثيرة على أنه منزل من اللّه تعالى.

ص: 165

و دعوتهم إلى كتاب اللّه باعتبار أنه جامع لكثير ما ورد في الكتب الإلهيّة المهيمن عليها، و قد بشّرت به، فلم يكن مجهولا عندهم، يعرفه أهل الكتاب بأنه يحكم بالحقّ و يزيل كلّ لبس و جهالة و يمنعهم عن البغي و التعدّي، فيكون حكمه نافذا و يجب اتباعه، و الداعي إلى الكتاب هو اللّه تعالى بلسان نبيّه. و لو نظرنا إلى حاق الواقع يكون الداعي إلى كتاب اللّه و المدعو إليه و المدعو به واحد، و الفرق إنما هو بالاعتبار، و لعلّه تعالى إنما أجمل الدعوة لأجل هذه الجهة.

قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ .

أي: أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولّى كثير منهم، اغترارا بما عندهم و ما حرّفوه و وضعوه من عند أنفسهم، و استغناء به، و هم قد أعرضوا عن الحقّ و دلائله الواضحة.

و فيها دلالة على أن التولّي لا يكون إلاّ عن البغي و الجحود بعد معرفتهم الحقّ و علمهم بالحجّة، فلا يرجى زواله إلاّ من ثبت إيمانه في قلبه فدعى إلى إجابة الدعوة التي دعا إليها دينهم و أمرت به عقيدتهم، من الخضوع لأحكام اللّه تعالى و الإيمان بالدين الجديد، فالآية الشريفة تثبت جهتين من المذمّة عليهم:

الأولى: إدبارهم عن استماع الحقّ و عدم اجتماعهم على الحقّ، مع أنه واجب عقلا، و قد دعا إليه دينهم.

الثانية: إعراضهم عن الحقّ بقلوبهم و ضمائرهم، بعد ظهور الحجّة عليهم، و هذا هو الشقاق و النفاق و من أخبث الرذائل.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ .

أي: أن تولّيهم عن الحقّ بأبدانهم و إعراضهم عنه بقلوبهم، و عنادهم لما عرفوه من الحقّ، إنما هو لأجل زعمهم الفاسد و وهمهم الكاسد و افترائهم على اللّه بأنهم عباد اللّه الأخيار، و هذه الفريّة إنما كانت معتقد عامّة بني إسرائيل في التأريخ و قد استحكمت هذه الفريّة في أنفسهم على مرّ الدهور، بحيث سلبتهم الفكر عن البحث حولها فمنعتهم عن التسليم للحقيقة و الواقع و الخضوع للحق.

ص: 166

قوله تعالى: وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .

مادة (غ ر ر) تدلّ على الأثر الحاصل للإنسان، سواء كان سببه الغفلة أم شيء آخر،

و في الحديث: «غر محجلون من آثار الوضوء».

و الافتراء هو الكذب على الغير،

و في حديث بيعة النساء: «و لا يأتين ببهتان يفترينه»، و الافتراء على اللّه تعالى هو نسبة ما ليس بمأذون منه تعالى إليه، و بهذا المعنى يستعمل في غيره تعالى أيضا، كالافتراء على الأنبياء و سائر الناس، كما مرّ في الحديث، و هو قبيح عقلا و شرعا، لأنه ظلم، كما أنه من المعاصي الكبيرة. و هو أخصّ من الكذب، لأنه إخبار غير مطابق للواقع مطلقا، فيصدق في ما إذا كذب لنفسه أو على نفسه، بخلاف الافتراء فإنه الكذب على الغير فقط.

و الافتراء على اللّه تعالى من أقبح القبائح و أعظم الكبائر، تدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اَلْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة، الآية: 44-47].

و يمكن أن يقام الدليل الاعتباري على حرمته أيضا، و هو أن القوانين مطلقا - سواء كانت سماويّة أم وضعيّة - لا بد أن تكون محدودة و تحت سلطة المقنّن، و لا تتغيّر و لا تتبدّل إلاّ بالسير التكاملي، و ما هو الأصلح للإنسان، و حيث إنه لا يعقل التكامل بعد قوانين القرآن، فلا وجه لجعل شيء فيه ابدا إلاّ بالوحي المبين، و كلّما يكون من غيره، فإن كان بعنوان التعبّد و الدين فهو بدعة و ضلال، بلا فرق بين الأصول و الفروع بجميع أنواعهما، و السنّة المقدّسة بحكم القرآن، لأنها شارحة و مبيّنة له.

و المعنى: كان سبب غرورهم و بغيهم في دينهم الذي كان يأمرهم باطاعة الحقّ و نبذ المعصية و الكبر و البغي، إنما هو افتراؤهم في دينهم بأنهم شعب اللّه المختار، و أن عذابهم محدود بسبب اتصال نسبهم إلى أنبياء اللّه تعالى، فكان ذلك

ص: 167

سبب كفرهم بدين اللّه و إعراضهم عن كتابه، فضلّوا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ .

برهان عقلي على بطلان جميع المزاعم الفاسدة و الأوهام الباطلة، و دليل قاطع على بطلان كلّ افتراء و قول لا يستند إلى حقيقة، و هو ظهور الأعمال و الأقوال و المعتقدات في السير الاستكمالي الإنساني في عالم محيط بهذا العالم، تبدو الضمائر فيه و تنكشف السرائر، فيرى الإنسان بنفسه جميع أعماله و أقواله و معتقداته بنفسه حاضرة لديه بلا مرية و ارتياب، و حينئذ يغني العيان عن البرهان، و هذا من أقوم الأدلّة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة.

و في الآية الشريفة روعة الأسلوب و بديع الفصاحة، و فيها التوعيد و الإيعاد، و إنما ذكر الجمع دون الأحياء و البعث، لأن الجمع يدلّ عليهما بالملازمة، و لأن اجتماعهم على الافتراء، و الخلاف في الدنيا لا يغني عنهم جمعهم في الآخرة و لا يعجزه تعالى جمعهم، و فيها من التهويل ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ .

أي: و توفّى كلّ نفس ما كسبت و عملت، و هم لا يظلمون في ذلك من دون أن ينقص من عملهم شيء.

و تدلّ الآية الشريفة على أن الجزاء معلول نفس العمل، بلا مدخلية شيء آخر فيه، و يصحّ أن يعبّر عن ذلك بظهور الأعمال بصورها المناسبة لذلك اليوم، فإن الحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة باختلاف العوالم، و لذلك أتى بالفعل المجهول المنسوب إلى ذاتهم.

ص: 168

بحوث المقام

بحث أدبي:

التولّي عن الشيء يفيد معنى الإعراض عنه - و يصحّ العكس أيضا - بالقرائن، و إنما جمع سبحانه و تعالى بينهما في قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة آل عمران، الآية: 23]، لبيان كثرة جحودهم للحقّ و جمودهم على الباطل بأبدانهم و قلوبهم، أو لأجل بيان أن ذلك صار ملكة في أنفسهم لكثرة المداومة عليه، فبناء على الأوّل يكون قوله تعالى: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ جملة حالية للضمير في «منهم»، أو من «فريق» المنعوت، فهي إما مؤكّدة أو مبيّنة لاختلاف متعلّق التولّي و الإعراض، و الواو حالية، و على الثاني تكون الجملة في موضع النعت ل «فريق»، و الواو للعطف، فيكون إخبارا عن حالهم و سجيتهم.

و مدخول كيف في قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ مقدّر يدلّ عليه الكلام، أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون و نحو ذلك.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ أن ما عندهم ليس من اللّه تعالى، بل هو من أهوائهم الفاسدة.

كما أنه يستفاد أن المعتبر في نسبة أهل الكتاب إليه إنما هي النسبة العمليّة مضافا إلى النسبة الاعتقاديّة، فلا تكفي النسبة القوليّة، و لعلّ التعبير ب (أوتوا الكتاب) إشارة إلى هذه الجهة، حيث إنهم فقدوا النسبة العمليّة و الاعتقاديّة لوقوع التحريف عنهم في الكتاب، فعبّر عنهم ب (أوتوا) دون أهل الكتاب.

ص: 169

الثاني: أن الآية الشريفة: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ ، تشمل كلّ من يدعى إلى كتاب اللّه ليحكم بذلك في ما بينهم ثم يتولّى عن ذلك، سواء كان من اليهود أم النصارى أم من غيرهم، فلا تختصّ بملّة دون اخرى، و يكون إظهار الحقّ واجبا عقليّا، و الإعراض عنه قبيحا كذلك، فضلا عن جحوده و تلبيس الأمر على الناس، كما أن عموم الآية المباركة يشمل الدعوة إلى اصول الدين و فروعه.

الثالث: تشير الآيات الشريفة إلى حقيقة اجتماعيّة، و هي أن العصبية و الأهواء الباطلة توجبان البعد عن الحقيقة و الإعراض عن الحقّ، فلا تنفع المواعظ و الزواجر، بل تزداد بعدا و استكبارا و إعراضا حتى تتمكّن في قلوبهم، فيكون من الجهل المركب، الذي هو داء ليس له دواء.

الرابع: إنما أجمل سبحانه الداعي إلى كتاب اللّه لبيان أن الداعي إلى كتاب اللّه و المدعو إليه و المدعو به واحد، و الفرق إنما هو بالاعتبار، كلحاظ مرتبة إنشائه و الاعتقاد به و العمل به أو غير ذلك، و ليشمل جميع من يدعو إلى كتاب اللّه علما و عملا على مرّ العصور.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ، أن سبب التولّي عن الحقّ و عدم الإيمان به إنما هو الإعراض المتمكّن في نفوسهم، الذي صار عادة لهم في نبذ كلّ دعوة إلى الحقّ، و أن سبب هذا الإعراض إنما هو الجهل المركب الناشئ من اختلال الطريقة و فساد العقيدة و العصبية و الافتراء على اللّه تبارك و تعالى، كما تقدّم في الآيات المباركة السابقة.

السادس: إنما أضاف سبحانه و تعالى الجمع إلى نفسه في قوله تعالى:

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لانحصاره به عزّ و جلّ فقط، و أن ذلك تحت قدرته تعالى.

كما أنه أتى بالمجهول في قوله تعالى: وَ وُفِّيَتْ ، لبيان أن الجزاء إنما هو نتيجة أعمالهم الحاصلة من كسبهم، و أنه معلول نفس العمل بلا مدخليّة شيء آخر.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ،

ص: 170

أهمية ذلك اليوم و التهويل فيه من جهات:

منها: نفس الجمع الذي تدهش منه العقول و استيلاء الحيرة على الناس و الذهول.

و منها: أن ذلك اليوم لا ريب فيه، فهو من الأمور التكوينيّة الذي لا بد من المصير إليه و يعمّ الجميع.

و منها: إضافة الجمع إليه سبحانه و تعالى، التي يستفاد منها كمال هيمنته عليه الدالّة على عظم الفعل و الصنع.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ، كمال العدل في ذلك اليوم، فهم مع ظلمهم لا يظلمون في النقص من الأعمال و الجزاء، فلا ينقص من إحسان المسيء و لا يزاد على إساءته، و هو يدلّ على نفي الظلم عنه عزّ و جلّ، و يدلّ عليه البرهان العقلي أيضا، و سيأتي في الموضع المناسب التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: تدلّ هذه الآية و أمثالها - مع اختصارها - على ثبوت المعاد، و على كيفيّة الجزاء، و قد دلّت على كلّ واحد منهما الأدلّة العقليّة.

بحث روائي:

في أسباب النزول: عن السدي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ : «دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أدفى: هلم يا محمد نخاصمك إلى الأحبار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل إلى كتاب اللّه تعالى، فقال:

بل إلى الأحبار، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و في الدر المنثور: عن ابن عباس قال: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه، فقال له نعيم بن عمرو و الحارث بن زيد:

على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملّة إبراهيم، قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا و بينكم، فأبيا عليه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

ص: 171

و عن الكلبي: أن الآية نزلت في قضية اللذين زنيا من خيبر، و سؤال اليهود النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حدّ الزانيين.

أقول: هذه الروايات قاصرة الدلالة، مضافا إلى ضعف إسنادها، و سيأتي الكلام في الرواية الأخيرة في قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ [سورة المائدة، الآية: 15].

بحث أخلاقي:

الغرور: هو استعظام النفس أو عمل من أعمالها أو صفة من صفاتها، بحيث يوجب قصر النظر و انحصاره في ذلك و قطعه عن خالقه و مدبره و مديره، و هو من مبادئ الشرك، بل نفسه لدى النفوس القدسية، قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106].

و الغرور رذيلة من الرذائل الخلقيّة، بل يمكن أن يسمّى بأم الرذائل و الخبائث.

و قد استعملت مادة (غرر) في القرآن الكريم في موارد شتّى مقرونة بالذم، قال تعالى: وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً [سورة الإسراء، الآية: 64]، و قال تعالى: إِنِ اَلْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ [سورة الملك، الآية: 20]، و يكفي في ذم الغرور أن الدنيا تسمّى بمتاع الغرور، قال تعالى: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ [سورة الحديد، الآية: 20]، لأنها من مراتع الشيطان، و هو يوجب الحرمان عن جملة من مكارم الأخلاق و البعد عن ساحة الرحمن.

و إذا لا حظ المغرور نفسه رأى أنه ممكن من الممكنات، و حقيقة الممكن هي العدم المحض بالنسبة إلى ذاته، و إنما يكون له حظ من الوجود من حيث الإضافة إلى جاعله و خالقه بحسب ما قدر له، فهو الربّ المدبّر لأحواله و جميع شؤونه و إضافاته و خصوصياته، و أن ما يحصل له يكون في معرض الزوال، فهو لا حول له و لا قوة له إلاّ باللّه العليّ المدبّر العظيم، فلا يبقى موضوع للغرور، و ما يعتقده

ص: 172

المغرور إنما هو و هم و خيال، و من نشأ في عالم الأضداد و دار الكون و الفساد و تزاحم الآراء و اختلاف الأهواء مع غلبة مشيئة العزيز الجبّار، كيف يصلح له أن يغتر بشيء؟ و كيف يرى شأنا لنفسه من نفسه، فإنه من أعظم أنواع كفران المنعم و نسيان النعمة و الانهيار في الهاوية، و هذه من المقامات التي تحط دونها الرحال و تزل فيها أقدام الرجال.

و ينحصر علاج هذا الداء العظيم المهلك بالتفكّر في عظمة اللّه تعالى و فناء الدنيا و ما فيها، و التفكّر في الحوادث الواقعة بين أيدينا، و بعد التأمّل في جميع ذلك يزول الغرور لا محالة، كما نرى في حالات الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين، فإنهم لا يرون لأنفسهم شأنا إلاّ بإضافة أنفسهم إلى اللّه تعالى،

قال علي عليه السّلام: «كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا، و كفى بي عزّا أن تكون لي ربّا»،

و قد سأل شخص مولانا الباقر عليه السّلام: «أنت من علماء أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال عليه السّلام: لست من جهالها»،

و في الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة: «اللهم لا ترفع لي درجة عند الناس إلا حططتني عند نفسي مثلها»، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الغرور و نواحيه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ و.......

اشارة

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) الآيتان من جلائل الآيات القرآنيّة تبيّن عظمة الباري جلّ شأنه و هيمنته و جبروته، و سيطرته على جميع الموجودات سيطرة ملكوتيّة، عمّت تمام المخلوقات بجواهرها و أعراضها و جميع اضافاتها و تبدّلاتها و حالاتها. و هما تبعثان في نفس المخاطب عظمة اللّه سبحانه و تعالى و كبرياؤه و تمام قدرته. فهو القائم على شؤون خلقه و المالك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يعجزه شيء و هو العليم بأسرار خلقه و المدبّر لهم تدبير حكمة.

و الآية المباركة تبيّن سرّ الوحدة الحقيقيّة التي ظهرت في أعيان التكثّرات، و أنها بدت من الواحد بالذات و الصفات.

و فيها تلقين للعباد كيفية التمجيد و الثناء و الابتهال، يتّحد فيه الداعي و المدعو و الدعاء فهو اللّه بالتحقيق و الركن الوثيق و الجار اللصيق، كلّ ذلك بأسلوب رفيع و نظم بديع و نسق لطيف.

التفسير

قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ .

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي و واسطة الفيض و غاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول و الروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا، لأن خطابات اللّه المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

ص: 174

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي و واسطة الفيض و غاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول و الروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا، لأن خطابات اللّه المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

اللهم: أصله «يا اللّه»، و الميم المشدّدة عوض عن حرف النداء (يا)، و لا يجتمعان إلاّ شاذا كما في قول الراجز:

إني إذا ما حدث ألما *** أقول يا اللهم يا اللهما

و قال آخر:

و ما عليك أن تقولي كلّما *** صلّيت أو سبّحت يا اللهم ما

و مادة (ملك) تأتي بمعنى الاستيلاء و السلطنة، و هما قد يكونان حقيقيتان، و هي عبارة: عن الاستيلاء على الشيء من كلّ جهة إيجادا و إبقاء و افناء و ربوبيّة، و تصويره بكلّ صورة شاء و أراد. و هذا القسم مختصّ باللّه سبحانه و تعالى، فإنه مالك لجميع خلقه ملكيّة حقيقيّة من كلّ جهة يفرض فيها.

و اخرى: اعتباريّة تدور مدار اعتبار العقلاء، نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه،

و في الحديث: «أملك عليك لسانك»، أي لا تجرّه إلاّ بما يكون ذلك لا عليك، و هذه الملكيّة الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر، و قابلة للتغيير و التبديل و الزوال.

و هذا القسم يلازم القسم الأوّل دون العكس. فيصحّ اعتبار هذه الملكيّة بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ بالأولى، لأن كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عزّ و جلّ، فيصحّ وصفه به، قال تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ [سورة النور، الآية: 33]، و قال تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و يصحّ انتزاع هذه الملكيّة الاعتباريّة عن الملكية الحقيقيّة. و بها تنظيم الأغراض العقلائيّة الفرديّة و الاجتماعيّة.

ثم إنّ الملكيّة الاعتباريّة..

تارة: تكون بوضع من اللّه تعالى، كملكيّة الإنسان لنفسه و أجزائه و تصرفاته السائغة في بدنه، بحسب التكوين و التشريع.

ص: 175

و اخرى: تكون بوضع و اعتبار من العقلاء كما ذكرنا، و أما بالنسبة إلى ملكيّة المولى للعبد، فإنه لا ريب في كونها من الملك (بالكسر) الاعتباري، لصحّة هذا الاعتبار عند الجميع، و أما كونها من الملك (بالضم) ففيه منع، إذ لا يعتبر العقلاء بين المولى و العبد الملوكيّة و الرعيّة.

و الملك (بالضم) اسم لما يملك و يتصرّف، و إنه على قسمين أيضا، ملك حقيقي و هو التصرّف في شؤون الرعية تصرفّا حقيقيّا بكلّ ما يريد من غير مزاحمة و لا معارضة، و هو مختصّ باللّه تعالى أو ما يمنحه اللّه عزّ و جلّ لبعض أنبيائه و أوليائه، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء و مالكه، و له الربوبيّة العظمى العامّة و القيوميّة المطلقة، قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [سورة فاطر، الآية: 13]، فيرجع إلى الملك (بالكسر) الحقيقي و ملازم له، و يصحّ أن يعبّر عنه بأنه ملك في ملك.

و اخرى: ملك (بالضم) اعتباري اعتبره الاجتماع، مثل ملوك أهل الأرض الّذين يتسلّطون على جماعة من الناس و يتصرّفون فيهم تصرّفا يصلح بها شؤونهم. و بعد فرض أنه تعالى خالق لجميع الممكنات و موجدها من العدم و مبقيها و مفنيها، و بيده تدبيرها و تربيتها، و هو الربّ على الإطلاق و القيوم كذلك، فهو مالك و ملك و مليك، و جميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه.

و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضا قال تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 255]، فقد أثبت الملكية لنفسه، و قال تعالى:

مَلِكِ اَلنّاسِ [سورة الناس، الآية: 2]، الذي أثبت الملوكية لنفسه، و قال تعالى:

عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر، الآية: 55]، حيث أثبت المالكيّة و الملوكيّة لنفسه الأقدس، فثبت قول جمع من الفلاسفة المتألّهين من أن بسيط الحقيقة من كلّ جهة يتّصف بكلّ شيء لا يستلزم النقص فيه، و تقدّم بعض الكلام في سورة الحمد [سورة الحمد، الآية: 4]، فراجع.

و من ذلك يظهر أن الملك في الآية الشريفة هو الأعم من الحقيقي

ص: 176

و الاعتباري في الملك (بالكسر) و الملك (بالضم)، و يبيّن ذلك بقية الآية الشريفة، أي قوله تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، لأنّ مالكيّته تعالى للملك تستلزم مالكيّته لما يتسلّط عليه كلّ مالك و ملك.

كما أنه يمكن أن يكون المراد بالملك طبيعته و ذاته، أي ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء، فيشمل جميع ما سواه عزّ و جلّ وجودا أو عدما، فإن قسما من الأعدام أيضا داخلة تحت ملكه و سلطنته، فهو مسلّط على إيجاد المعدوم و إعدام الموجود، و يبيّنه ما بعده أيضا، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و قوله تعالى: بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ [سورة الملك، الآية:

1]، و نحو ذلك.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بلفظ الملك دون غيره لإظهار معنى التسخير، فكما أن المملوك مسخّر تحت إرادة المولى، كذلك تكون جميع الممكنات بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هذا المعنى ظاهر من سائر الآيات الشريفة.

قوله تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ .

مادة (نزع) تأتي بمعنى إخراج الشيء و قلعه عن محلّه و مقره، كنزع الثوب عن البدن، قال تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [سورة الأعراف، الآية: 27]، و قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الحجر، الآية: 47]، و قال تعالى:

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ [سورة الأعراف، الآية: 108]، و قال تعالى:

وَ اَلنّازِعاتِ غَرْقاً [سورة النازعات، الآية: 1]، و الملك في المقام هو مطلق السلطنة و الاستيلاء، و قد ذكرنا أن المراد به طبيعته و ذاته، و هو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء و السلطنة، ليشمل جميع الممكنات القابلة للوجود و الإيجاد، فيشمل الملك (بالضم) و الملك (بالكسر)، و النبوّة، إذ هي ملك ايضا، قال تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 54]، فإن جميع ذلك واقع تحت سلطان اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و هي من مواهبه و عطاياه التي يمّن بها على من يشاء من

ص: 177

خلقه و يمنعها عمّن يشاء منهم، و قد بنى اللّه تعالى النظام التكويني و التشريعي و الاجتماعي على الملك، و هو محبوب لدى المجتمع الإنساني تستقيم به حياتهم في النشأتين.

و أما ما يترتب عليه من الآثار السيئة، فهي ترجع إلى كيفية إعماله و الاستفادة منه، دون أصله الذي هو محبوب كما ذكرنا، و به يقع الامتحان و الابتلاء، قال تعالى حكاية عن سليمان: فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [سورة النمل، الآية: 40].

و إنما علّق سبحانه و تعالى الإيتاء و النزع على المشيئة، لبيان أن العباد غير مجبورين على ذلك على نحو الحتم و القضاء المبرم، بل لإرادة العباد و أعمالهم المدخلية فيهما، فجميع أعمال العباد الصادرة منهم منسوبة إليهم، كما أنها منسوبة إلى اللّه تعالى، كلّ منهما على نحو الاقتضاء لا العلّيّة التامّة.

نعم، له عزّ و جلّ ألطاف و توفيقات خاصة بالنسبة إلى المستفيض إن كان من أهل الصلاح و التقوى و إقامة العدل، فيعطيه اللّه الملك لإقامة العدل و الإصلاح بين العباد، قال تعالى: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ [سورة الحج، الآية: 41]، و ليس لغير أهل التقوى هذا التوفيق و اللطف الخاص، و لكنّه تعالى يقدّر الملك لمثل هؤلاء تنظيما للنظام و الامتحان و الاختبار و إتماما للحجّة، قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [سورة الأنعام، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ * قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ

ص: 178

[سورة يونس، الآية: 88 و 89]، كما أن في التعليق على المشيئة إشارة إلى أنه تعالى غير مجبور في أفعاله، و إن كانت تجري وفق المصلحة و الحكمة التامّة.

قوله تعالى: وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ .

مادة (عزز) تأتي بمعنى المنيع الذي لا ينال و لا يغالب و لا يعجزه شيء، فيكون صعب المنال. و بهذه العناية يطلق على الشيء النادر الوجود أنه عزيز، و

في المأثور: «إذ أعزّ أخوك فهن»، أي إذا غلبك و لم تقاومه، فلن له.

و من أسمائه تعالى (العزيز)، أي الغالب القوي الذي لا يغلب و لا يعجزه شيء، كما أن من أسمائه تعالى (المعزّ)، أي واهب العزّة لمن يشاء من عباده، و قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]، أي صعب و شديد عليه، و قال تعالى: وَ عَزَّنِي [سورة ص، الآية: 23]، أي غلبني.

و العزّة و الذلّة متقابلان، فالذليل هو الذي يغلب عليه و يعجزه كلّ شيء، سواء كان بالقهر و بلا اختيار، كقوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة، الآية: 61]، و قال تعالى: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً [سورة الإنسان، الآية: 14]،

و في الحديث: «اللهم اسقنا ذلل السحاب»، أي ما لا رعد فيه و لا برق. أم بالاختيار، قال تعالى: وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ [سورة الإسراء، الآية: 24]، و قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة المائدة، الآية: 54]، و قال تعالى: وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [سورة النمل، الآية: 34].

و من أسمائه تعالى: «المذل»، أي هو الذي يلحق الذلّ بمن يشاء من عباده و ينفي عنه أنواع العزّة.

و هما من الأمور التشكيكيّة التي لها مراتب كثيرة، و هما اما دنيوية أو اخروية أو هما معا، و العزّة أعمّ من الملك، و هي قد تكون حقيقيّة، و هي التي يمنحها اللّه تعالى لعباده المخلصين و أوليائه المقرّبين، قال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قد تكون وهميّة خياليّة تابعة للملك

ص: 179

و السلطنة، و هي إن كانت عزّة ظاهرا و لكنّها ذلّة في الحقيقة و الواقع، قال تعالى:

أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139].

و يستفاد من الآية المباركة تلازم العزّة و الذلّة خارجا، لأن عزّة كلّ فرد تلازم ذلّة آخر، كالعكس أيضا كما نراه بالعيان.

ثم إن العزّة و الذلّة لا تختصّان بمورد واحد، فقد تكون العزّة في أشياء كثيرة و الذلّة كذلك، فربّ عزيز من جهة ذليل من جهة اخرى، و ربّ ذليل من ناحية هو عزيز من ناحية اخرى، و إعطاء العزّة و الذلّة لعباده من شؤون ربوبيّته العظمى، و كذا بالنسبة إلى جهاتها غير المحدودة بحدّ.

و يصحّ أن يقال: إنّ الممكن في حدّ ذاته الإمكانية ذليل، أي ليس فيه أي حظ من الخير إلاّ ما يمنحه اللّه تعالى. و الكلام في تعليق العزّة و الذلّة على المشيئة ما تقدّم في صدر الآية.

قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ .

اليد تأتي بمعنى الاستيلاء. و المراد بها في المقام القدرة الكاملة و التدبير الكامل الموافق للحكمة البالغة المتعالية، و بها تقوم جميع الممكنات في النظام الأحسن و ينتظم شؤونها، و هي القوّة القاهرة التي لا بد من انبعاث جميع قوى الموجودات عنها.

و الخير ضد الشرّ، و معناه كلفظه مرغوب و مطلوب، و المراد به في المقام حقائق الممكنات بجميع شؤونها و أطوارها، حدوثا و بقاء، و هو من الحقائق الواقعيّة التي لها مراتب كثيرة، متفاوتة جوهرا و عرضا، اشتدادا و تضعّفا، هذا بالنسبة إليه تعالى.

و أما بالنسبة إلى الإنسان، فهو خير اعتقادي بحسب ما يختاره و يقيسه بالنسبة إلى شيء آخر، أو ما يتحقّق فيه رغبته و مطلوبه، فقد يكون مطابقا للواقع، كما

في الحديث: «رأيت الجنّة و النار فلم أر مثل الخير و الشرّ»، أي لم أر مثلهما لا يميّز بينهما، فيبالغ في طلب الجنّة (الخير) و الهرب من الشرّ (النار)، و قد يكون مخالفا

ص: 180

قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و تدلّ الآية الشريفة على انحصار الخير فيه تعالى، فيستفاد منها و من أمثالها أمران:

الأوّل: أن ذاته تبارك و تعالى خير محض، لقاعدة: «ان معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له»، فهو تعالى خير على الإطلاق، و لكن لم يرد في الكتاب و السنّة إطلاق الخير بنحو الاسمية، و إنما ورد في القرآن الكريم على نحو التوصيف، قال تعالى: وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 73]، و قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة يوسف، الآية: 39]، و لعلّ عدم إطلاق لفظ الخير عليه تعالى لتنزيهه عمّا يتبادر في أذهان الناس من نسبته إلى غيره.

نعم اطلق عليه بنحو الإضافة في موارد متعدّدة، مثل قوله تعالى: وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ [سورة الحج، الآية: 58]، و قوله تعالى: وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 29]، و قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ [سورة يونس، الآية: 109]، و نحو ذلك و إطلاقه في جميع الآيات الشريفة من باب إضافة الصفة إلى الاسم الذي ورد التوقيف فيه، و هو لا محذور فيه.

الأمر الثاني: أنها تدلّ على أصالة الماهيّة في الجعل، كما عليها أغلب المتكلّمين و جمع كثير من الفلاسفة، لأن الخير المطلق و ملكوت الأشياء ليس إلا حقائقها، فإذا لا حظنا الحقائق باعتبار إضافتها الإيجادية الإشراقية إليه تعالى تشمل الحقائق بوجوداتها و ماهياتها، و ليس ذلك تعدّدا في الجعل حتّى يلزم عليه مناقشات و محذورات، لأنّه بعد فرض كون أحدهما تبعا محضا للآخر، كالماهيّة إن قلنا بأصالة الوجود، فالوجود إن قلنا بأصالة الماهيّة، فأين التعدّد الخارجي حتى يلزم المحذور، و لا ينافي ذلك ما اشتهر بين الفلاسفة من أن الوجود خير محض، لاتفاق الكلّ على أن الخيريّة المحضة إنما تكون بعد جعل الحقائق.

ص: 181

بل يمكن أن يستفاد من مثل هذه الآية الشريفة الجعل المركب بالنسبة إلى الحقائق، فهو الذي جعل النار نارا و الماء ماء، كما عليه بعض محقّقي مشايخنا قدس سرّهم،

و في الحديث: «ان اللّه مجسّم الجسم و خالقه»،

و في الحديث الآخر: «و هو الذي أيّن الأين و كيّف الكيف».

و هذه الآية في موضع التعليل لما تقدّمها و ذكر العام بعد الخاص، أي: أن اللّه تعالى يؤتي الملك و العزّة لمن يشاء و يمنعهما عمّن يشاء، لأن بيده الخير الذي هو أعمّ منهما.

إن قيل: انتزاع الملك و الذلّة ليسا من الخير، فكيف يشملهما قوله تعالى:

بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ؟ يقال: بعد أن كانت الذلّة و انتزاع الملك مطابقين للحكمة الواقعيّة التامّة يكونان خيرا محضا، و إن كانتا بحسب اعتقاد الناس من عدم الخير.

و إنما قال تعالى: بِيَدِكَ ، لبيان أن جميع ما يفعله تعالى من إيتاء الملك و نزعه و نحو ذلك، كلّه خير محض بحسب الواقع، فهو عبارة اخرى عن الرحمة الرحمانيّة و الرحمة الرحيميّة التي تعمّ الجميع.

و أما ما فرق به بعض أعلام المفسّرين بين الخير التكويني و الخير التشريعي، فهو في نفسه حقّ، لأنّ الخير التشريعي منوط بإرادة الناس للطاعة، بخلاف الخير التكويني، فإنه منوط بإرادة اللّه تعالى فقط.

لكن، لا وجه له في المقام، لأنّ الخير التشريعي يرجع إلى الخير التكويني، كما قرّره بعض مشايخنا في الأصول، و خلاصة كلامه أن إثارة دقائق العقول و ما في الفطرة من أهم و جهات نظام التكوين، و لا يمكن ذلك إلاّ بالتشريع، فكما أن التكوين بلا تشريع باطل في النظام الأحسن، كذلك التشريع بلا تكوين باطل أيضا و لا وجه له.

هذا موجز الكلام و سيأتي التفصيل في الموضع المناسب إن شاء اللّه، هذا كله في الخير.

ص: 182

و أما الشرّ، سواء كان تكوينيّا، كنزع الملك و الذلّة، أم تشريعيّا و هو أقسام المعاصي و الذنوب، فإن رجع إلى عدم الخير و عدم التوفيق، فيمكن انتسابه إلى اللّه تعالى، و إن رجع إلى فعل المعاصي و الذنوب و القبائح و أمثال ذلك فلا يمكن انتسابه إلاّ إلى اختيار الإنسان، و أما نسبته إلى اللّه تعالى المنزّه عن النواقص و القبائح فلا تصحّ.

قوله تعالى: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

الجملة في مقام التعليل لجميع ما تقدّم، أي: أن جميع ما سواه تحت قدرته و إرادته، فكلّ ما يطلق عليه الشيئيّة جوهرا أو عرضا خارجا أو ذهنا أو في أي عالم من العوالم، يكون تحت قدرته.

أي: أن اللّه تعالى قادر على إيتاء الملك و نزعه و إيتاء العزّة و الذلّة، بل كلّ ما هو خير مفروض يكون تحت إرادته و سلطانه، و قدرة العبد على شيء من ذلك إنما هي مستندة إلى إيجاد القدرة فيه و مستندة إلى قدرته عزّ و جلّ، قال تعالى:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

قوله تعالى: تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ .

الولوج هو دخول شيء في شيء بحيث يستره، و سمّي السباع و الحيات الوالجة لأنها تلج في كهف أو شعب أو حجر أو غيرها،

و في المأثور: «إياك و المناخ على ظهر الطريق، فإنه منزل للولجة»، يعني السباع و الحيات، و سمّيت بالولجة لاستتارها في النهار بالاولاج.

و إيلاج الليل في النهار و بالعكس معلوم لكلّ من يقع في طي الزمان و توارد الحدثان، و هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في طول السنة و دخول أحدهما في الآخر، بحيث يطول طرف و يقصر الطرف الآخر حسب سير دقيق و منظم، و هذا يختلف باختلاف الفصول و البعد عن خط الاستواء، فيتساوى الليل و النهار

ص: 183

على خط الاستواء في جميع بقاع الأرض بحسب الحسّ، و إن كان التغيير فيهما واقعا أيضا حقيقة و يختلفان باختلاف ميل الشمس عنه و سيرها في منطقة البروج، فيتفاوتان بالزيادة و النقصان بحسب مواقع الأرض و الزمان، فنشاهد من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف يأخذ الليل بالزيادة و النهار بالنقيصة على حساب منظم، و هذا هو ولوج النهار في الليل، ثم تأخذ الليالي بالنقيصة و النهار بالزيادة من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء، و هذا هو ولوج الليل في النهار، و يختلف ذلك على سبيل التعاكس في المدارات الشماليّة و المدارات الجنوبيّة، كلّ ذلك على تفصيل مذكور في علم الفلك ليس ها هنا محل ذكره.

و عموم الآية الشريفة يشمل كلّ ليل و نهار يفرض، سواء كانا على وجه هذه البسيطة أم في كرات سماويّة اخرى، كما قرّر في علوم الفلك.

و في اختلاف الليل و النهار من الحكمة الباهرة و عموم الرحمة و النظام الدقيق و الحكمة العظيمة ما تبهر منه العقول، و تظهر فيه آثار القدرة الكاملة و الحكمة العالية، و هذا من أعظم مجالي قدرته تعالى و سلطته على الزمان، التي تحيّر فيها عقول الحكماء، حتى ذهب جمع إلى وجوب وجوده و قدمه، و جمع آخر إلى خلاف ذلك، حتّى حدى بعضهم على إنكار الزمان و القول بأنه مجرّد امتداد وهمي.

و في هذه الآية و أمثالها يبين سبحانه و تعالى أن الزمان ممكن و واقع تحت قدرته و مجعول له تعالى، و يقع التغيير و التبديل فيه فلا يمكن قدمه الذاتي، كما ذهب إليه بعض، و لا يصحّ القول بوهميّته، لأنه خلاف ما هو المنساق من هذه الآيات و الوجدان، و بيّن سبحانه و تعالى في آيات اخرى المنافع و الحكم العظيمة في ذلك، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الكلام في ذلك.

قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ .

الموت و الحياة متقابلان و معلومان لكلّ ذي حياة، و لا يختصّان بخصوص الحيوان فقط، بل لكلّ شيء حياة و موت حسب استعداده و قابليته، كما أثبته العلم الحديث، و لكن لكل شيء حياة خاصة به، و كذلك الموت، لا يمكن إدراكهما لغيره

ص: 184

تعالى، قال جلّ شأنه: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة الإسراء، الآية: 44].

و خروج الحي من الميت و بالعكس لهما مظاهر مختلفة، لا يمكن إدراكها إلاّ للّه تعالى..

منها: خروج النباتات التي لها حياة نباتيّة من الأرض الميتة.

و منها: خروج الإنسان من النطفة ثم موته بعد مدة.

و منها: خروج المؤمن من صلب الكافر، و خروج الكافر من صلب المؤمن، فإن الإيمان أعظم أقسام الحياة المعنويّة، قال تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 122].

و عموم هذه الآية الشريفة يشمل جميع ما سواه تعالى ممّن له استعداد الحياة و الموت بأي وجه يتصوّر، و ما ذكره المفسّرون في تفسير الآية المباركة من باب ذكر المصاديق.

قوله تعالى: وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

الجملة في مقام التعليل أيضا، أي: أن إعطاءه الملك و العزّة و الخير من صغريات رزقه الذي يرزق به من يشاء بغير حساب في الكميّة أو الكيفيّة و عدم المداقة، بل من كلّ جهة.

و الرزق هو العطاء المستمر، و من أسمائه تعالى: «الرازق»، و هو الذي خلق الأرزاق و أعطاها الخلائق و أوصلها إليهم.

و الرزق نوعان ظاهري للأبدان كالأقوات، و باطني للقلوب و النفوس كالمعارف و العلوم، فكما أنه يشمل المال و الجمال و الكمال، و كلّ ما هو دائر في الاجتماع من الخير، فهو رزق منه جلّ شأنه.

و لا يختصّ الرزق بالإنسان، بل يشمل الحيوان و النبات و الجماد، فإن الرزق

ص: 185

يعمّ جميع ذلك بما لها من الأفراد و الأنواع غير المتناهيّة، فلا يكون الرزق متناهيا لا من حيث الإضافة إلى اللّه تعالى، و لا من حيث الإضافة إلى المرزوق، بل يستحيل ذلك لعدم التناهي بقاء و إن كان متناهيّا حدوثا، و إذا لوحظ بالإضافة إلى كونه في غير حساب يصير من غير المتناهي في غير المتناهي.

و يستفاد من الآية الشريفة أن الرزق إنما هو فضل منه عزّ و جلّ يعطيه بلا مقابل و عوض، و أن عمومه يشمل المؤمن و غيره، و إن كان في نسبة الرزق إليه تعالى بالنسبة إلى الأخير كلام نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

ص: 186

بحوث المقام

بحث أدبي:

اختلف الأدباء في صيغة «اللّهم»، فقيل إنّ أصله: «يا اللّه»، فلما حذف حرف النداء جعلوا بدله الميم المشدّدة، و الضمة في الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد. و لا يجتمع العوض و المعوض في الكلمة إلاّ شاذا كما مرّ.

و قيل: إنّ أصله: «اللهم آمنا بخير»، فحذف و خلط الكلمتان، و أن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في (أمنا) لما حذفت انتقلت الحركة إلى ما قبلها.

و الحقّ: أن الكلمة هي واردة بهذه الهيئة كسائر الكلمات من دون احتياج إلى التماس الأصل فيها، و استعمالها مع حرف النداء - كما مرّ - شاذ لا يقاس عليه.

و قوله تعالى: مالِكَ اَلْمُلْكِ ، منصوب على أنه منادى آخر مضاف أو على أنه صفة لاسم اللّه تعالى.

و قوله: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، إما في موضع الحال من المضمر في مالك، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: «أنت تؤتي الملك من تشاء»، و كذلك الحال في «تنزع» و «تعز» و «تذل».

و قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، قيل: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: «أنت بيدك الخير».

و الصحيح: أنه جملة مؤلّفة من خبر مقدّم و مبتدأ مؤخّر تفيد الحصر.

و قيل: إنّ في قوله تعالى إيجاز بالحذف، أي: «بيدك الخير و الشر»، نظير قوله تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ [سورة النحل، الآية: 81]، أي و البرد.

و لكن الحذف خلاف القاعدة، و لا نحتاج إلى التقدير مع أن الجملة وافية بالمقصود من دون تقدير، و كأن السبب في الحذف و التقدير هو ما يرتبط بآراء المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى، و لكن المبنى و البناء كليهما باطل، كما عرفت، و يأتي له مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

ص: 187

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يصحّ أن يكون المخاطب في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ ، هو سيد الأنبياء، لأنه واسطة الفيض و غاية الإفاضة و أكمل الممكنات من الاستفاضة، كما يصحّ أن يكون الخطاب الأعمّ من التشريع و التكوين، نظير قوله تعالى:

ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11].

و عظمة مضمون الخطاب في المقام تشمل كلا منهما، لشهادة جميع الموجودات بلسان الحال بمضمون المقال.

و ربما يقال: إنّ الآية الثانية قول اللّه تعالى مباشرة، و في المقام أمر بالقول، فلا وجه لتعليقه بالتكوينيّات.

يقال: إنه إذا كان الأمر من اللّه عزّ و جلّ، فلا فرق بين أن يتعلّق بالقول أو بشيء آخر، أن المناط كلّه إرادة المنشئ (بالكسر)، إلاّ أن في التشريعيات يصدر الفعل عن اختيار العبد تصحيحا للثواب و العقاب، و في التكوينيّات لا اختيار في البين بحسب إدراكاتنا القاصرة.

الثاني: تقديم اسم الجلالة في الآية الشريفة لبيان السبب، أي: أن مالكيته تعالى للملك و كون العزّة و الخير و القدرة و الرزق بيده، لأنه اللّه المستجمع لجميع صفات الجمال و الكمال.

الثالث: في الآية الشريفة من أسرار البلاغة و لطائفها ما تبهر العقول منها، فإنه تعالى جمع بين أنحاء من أفعاله المتقابلة، فجمع بين إيتاء الملك و نزعه، و هما ممّا يقوم به نظام الاجتماع، كما جمع بين النهار و الليل و إيلاج أحدهما في الآخر، و هما من أتم ما يقوّم نظام العالم، و المناسبة بين هذين الأمرين، فإن إيتاء الملك نحو كمال و حياة و تسليط لبعض الأفراد على بعض، فيكون من قبيل إيلاج النهار في الليل،

ص: 188

حيث يتسلّط الضوء و تذهب الظلمة، و نزع الملك نحو حزازة و منقصة بالنسبة إلى من ينزع عنه، فيكون من قبيل تسليط الليل على النهار و إذهاب الضوء.

و في الآية الثانية ذكر إيتاء العزّة لمن يشاء، و قال جلّ شأنه تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، و هو نوع من الحياة، فإن العزيز له نحو حياة عند المجتمع، و الإذلال نحو من الموت عندهم، و هذا ممّا يناسب قوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ .

الرابع: جمع سبحانه و تعالى في هذه الآيات بين أربعة من الأمور التكوينيّة، و هي: إيلاج الليل في النهار و بالعكس، و الموت و الحياة، و أربعة من الأمور الاجتماعيّة، و هي: إيتاء الملك و نزعه و العزّة، و الذلّة، و هذه الأمور الثمانية يناسب أحدها الآخر، فإن إيتاء الملك و نزعه يناسبان الليل و النهار، و العزّة و الذلّة تناسبان الحياة و الموت.

و ذكر: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، لبيان تسلّطه على هذه الأمور الاجتماعية، و تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، لبيان تسلّطه على الأمور التكوينيّة، فكانت المقابلة بين هذين الأمرين أيضا من هذه الجهة. و يجتمع الجميع في الحياة بالمعنى الأعمّ، أي الحياة الفردي و الاجتماعي، و يستلزم ذلك الاقتدار على مقابلها و هو الموت، لأن القدرة على شيء يستلزم القدرة على نقيضه أيضا، و إلاّ لا معنى للقدرة.

الخامس: إنما عبّر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة بالمشيئة دون الإرادة، لأن إرادته المقدّسة من صفات فعله، و المشيئة مقدّمة على الإرادة، فبيّن تعالى أن إيتاء الملك و نزعه و العزّة و الذلّة داخلة تحت مشيئته، و الأسباب الظاهريّة التي تبذل في طلبها ليست علّة تامّة لحصولها.

السادس: إنما ذكر تعالى العزّة و الذلّة دون غيرهما من الأمور الدائرة في الاجتماع، كالغنى و الفقر و نحوهما، لأن لهما مصاديق كثيرة، تشملان جميع شؤون الدنيا، و فيه ردّ على مزاعم أهل الكتاب من طلب العزّة بغير اللّه تعالى.

السابع: إنما اقتصر سبحانه و تعالى على ذكر الخير فقط، لأن المقام مقام تعليم الدعاء و الثناء عليه و التعريض بالبشرى به، و لا معنى لذكر الشرّ، مع أننا

ص: 189

ذكرنا سابقا أن الشرّ داخل تحت قضائه و قدره، و إن لم يكن مرضيّا له، مضافا إلى أنه يمكن استفادته من ذكر الذلّة و نزع الملك.

و لا يستفاد من عدم ذكر الشرّ قول المعتزلة من نفي استناد الشرور إليه تعالى، فإنهم إن أرادوا نفي رضاه تعالى به فهو مسلّم و لا يقول به أحد، و إن أرادوا نفي قضائه له و عدم قدرته تعالى عليه، فهو خلاف صريح الآية الشريفة و الأدلّة العقليّة و النقليّة.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، أن أهمّ مقاصد الإنسان الذي هو العزّة، لا بد و أن ترجع إليه تعالى، كما أن أهم ما يبتعد عنه و هو الذلّة ترجع إليه أيضا، فجميع ما ينفع في هذا العالم و ما يضرّ ترجع إليه عزّ و جلّ، و قد دلّت الأدلّة العقليّة و النقليّة عليه، لأن جميع الممكنات لا بد أن يرجع إلى الواجب بالذات. قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78]، فالآية المباركة ترشد إلى أمر عقلي و هو استيلاء اللّه جلّت عظمته على هذا العالم.

التاسع: الآية الشريفة جامعة للتوحيد الذاتي في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ ، و التوحيد الفعلي في بقية الآية المباركة في نظم بديع و نسق لطيف.

العاشر: الآية الشريفة من القضايا التي تشتمل على العلّة و المعلول، فيصحّ أن يقال إنه مالك الملك، لأنه على كلّ شيء قدير، كما يصحّ أن يقال إنه على كلّ شيء قدير، لأنه مالك الملك، و كذلك بالنسبة إلى سائر جملاتها، و يصحّ اجتماع العلّيّة و المعلوليّة في شيء واحد باختلاف الاعتبار و تعدّد الجهات.

بحث روائي:
فضل الآية:

وردت روايات تدلّ على فضل آيات شريفة كآية الكرسي و آية شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [سورة آل عمران، الآية: 18 و 19]، و هذه الآية المباركة:

ص: 190

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ و غيرها من الآيات، فقد وردت في فضل هذه الآية المباركة روايات:

منها: ما تقدّم في آية الكرسي، و آية 18 من سورة آل عمران.

و منها:

ما عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي أجاب في هذه الآية».

أقول: المراد من كون الاسم الأعظم في هذه الآية الشريفة إما الاسم الأعظم الحالي لمن حصل له حالة خاصة، أو المقالي، لكن مع شروط خاصة لا بد منها.

و منها: ما عن بعض الأعاظم أن من قرأ هذه الآية و بعد تمامها قال:

«يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما تعطي منهما ما تشاء و تمنع منهما ما تشاء، اقض عني ديني»، يقضى عنه دينه.

أقول: و قد جرّب ذلك بعض، و اللّه العالم.

تفسير الآية:

في الكافي: عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له:

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، أليس قد آتى اللّه بني امية الملك؟ قال عليه السّلام: ليس حيث تذهب!! إن اللّه عزّ و جلّ آتانا الملك و أخذته بنو امية، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو الذي أخذه».

أقول: المراد بذلك بعض بطون الآية، و إلاّ فالآية المباركة عامّة شاملة لكلّ ملك، حقيقيّا كان - و هو الإحاطة على حقائق الموجودات بحسب الاستعداد - أو ظاهريّا واقعيّا كان أم تشريعيّا، و قد يقع الخلط بينها كما وقع لراوي الحديث، لأن الملك الحقيقي و الواقعي كان لهم عليهم السّلام.

و في المجمع: روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ، قيل: معناه و تخرج

ص: 191

المؤمن من الكافر، و تخرج الكافر من المؤمن».

و في الدر المنثور: عن ابن مسعود و عن سلمان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: في قوله تعالى:

يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن».

أقول: هذا من باب ذكر بعض المصاديق، لأن الحياة و الموت كما مرّ في التفسير تشملان الحياة الحقيقيّة و الجسمانيّة.

و في الدر المنثور - أيضا -: عن سلمان الفارسي: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما خلق اللّه آدم عليه السّلام أخرج ذرّيته فقبض قبضة بيمينه، فقال: هؤلاء أهل الجنّة و لا أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كلّ رديء، فقال: هؤلاء أهل النار و لا أبالي، فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر، فذلك قوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ».

أقول: تقدّم وجهه و أن ذلك من باب بيان بعض المصاديق، و أمثال هذه الرواية كثير وردت في أبواب الطينة و سنتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى في الآيات المناسبة.

و فيه - أيضا -: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما خطّ الخندق عام الأحزاب، و قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا و أخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، و كبّر و كبّر المسلمون، و قال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء و أخبرني جبرائيل عليه السّلام أن امتي ظاهرة على كلّها فابشروا، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى، و أنها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت:

ص: 192

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

أقول: أبطل اللّه مزاعمهم المحصورة على خصوص المحسوسات التي يرونها بأعينهم في وقت خاص، و لا يطّلعون على المستقبل و ما يظهره اللّه بقدراته على يد نبيّه أو على يد أمته صلّى اللّه عليه و آله.

و في أسباب النزول للواحدي: عن ابن عباس و أنس بن مالك: «لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة و وعد أمته ملك فارس و الروم، قال المنافقون و اليهود: هيهات هيهات؟!! من أين لمحمد ملك فارس و الروم؟ هم أعزّ و أمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكّة و المدينة حتى طمع في ملك فارس و الروم؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ - الآية -».

أقول: تقدّم ممّا ذكر وجهه.

و فيه - أيضا -: عن قتادة: «ذكر لنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل ربّه أن يجعل ملك فارس و الروم في أمته، فأنزل اللّه تعالى قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ».

أقول: يمكن أن تكون الرواية من باب تعدّد المورد، مع أنها لا تنافي ما تقدّمتها من الروايات.

بحث فلسفي:

تدلّ الآيات الشريفة على قواعد فلسفيّة لها الشأن الكبير في كلّ من الفلسفة الإلهيّة و الطبيعيّة.

منها: أن قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ ، يدلّ على أن للّه تعالى صفات جماليّة هي عين ذاته، لا يمكن التفكيك بينهما، فمنها الملك، و هي صفة جماليّة ليست داخلة تحت أية مقولة من المقولات العشر التي أثبتها الفلاسفة و الحكماء، و يمكن إرجاع ملكه و مالكيّته إلى الإحاطة القيوميّة على جميع مخلوقاته، إيجادا

ص: 193

و إبقاء، و تدبيرا و افناء، و إيجادا بعد الافناء، و يشهد لذلك ما ورد في بعض الدعوات المعتبرة: «اللهم إني أسألك باسمك الذي تبلي به كلّ جديد، و تجدّد به كلّ بال».

و منها: أنه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ و نظائرها من الآيات المباركة، القاعدة التي نقلت عن بعض قدماء فلاسفة اليونان، و هي: «ان كلّ شيء في كلّ شيء»، و أثبتوها بالبراهين و أطالوا القول في النقض و الإبرام حولها، و المراد منها أن جميع ما في هذا الكون من العناصر و المواد و الآثار و الصور تكمن في كلّ شيء كمونا هيولائيّا، فيمكن أن يستخرج أحد الضدين من الآخر، كما يستخرج في هذه الأعصار من مادة النفط - مثلا - كثير من الأمور التي ربما يكون أحدها مضادا للآخر.

و لعلّ نظرية الفلسفة الديالكتيكيّة القائلة بأن كلّ شيء يحمل ضدّه، مأخوذة من هذه القاعدة، و كذا نظرية داروين القائلة بالتنازع في البقاء و بقاء الأصلح، و إن كان لنا كلام في هاتين النظريتين يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان، فإن كانت الأشياء حاملة لكلّ شيء، فهي لا تخرج عن قدرته، بل هي داخلة تحت قدرته و ربوبيّته العظمى و قهّاريته التامّة، كما يدلّ عليه ذيل هذه الآية الشريفة: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و منها: أنه يمكن أن يستدلّ بقوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ ، و أمثال هذه الآيات الشريفة على الحركة الجوهريّة الثابتة في ذوات الأشياء و حقائقها، بدعوى أن تلك الحركة إما بذاتها لذاتها من ذاتها، أو بذاتها من غيرها، و الأوّل باطل مع فرض الإمكان و إجماع الشرائع الإلهيّة على حدوث الأشياء، فيتعيّن الثاني، و المحرك الأوّل هو القديم الأزلي، و قد أثبت جمع من الفلاسفة وجود اللّه تبارك و تعالى بالحركة، فتكون الحركة الجوهرية ثابتة في الحقائق من محرك غيبي، و هو اللّه تعالى، و لا محذور فيه من عقل أو نقل.

و هذه الآية الشريفة تدلّ على وجود الحركة في جميع الأشياء من النقص إلى الكمال، و منه إلى الأكمل حدوثا و بقاء، لكن هذه الحركة مستمرة مع جميع جهاتها

ص: 194

تحت إرادة مدبّر فيها، و الحركة بما شاء و أراد، فهو من جميع ذرات الكون معيّة قيوميّة مدبّر لها بالربوبيّة العظمى، التي لا يعزب عنه شيء في السموات و الأرض.

و هذه الحركة بهذا المعنى عامّة لجميع مخلوقاته، و هي صحيحة، و ممّا اتّفقت عليه الكتب السماويّة و كلمة الأنبياء و كلمات جمع من الفلاسفة المتألّهين.

و أما الحركة التي ذكرها بعض الفلاسفة الطبيعيّين، و هي الحركة في الطبيعة و المادة فحسب، و قالوا إنها ذاتيّة لها و الذاتي لا يعلل، فإن أرادوا أنها واجبة بالذات فهو باطل بالضرورة، و إن أرادوا أنها تحت قدرة اللّه تعالى فهي قسم من تلك الحركة التي ذكرناها آنفا.

بحث قرآني:

لا ريب في أن نظام هذا العالم يتقوّم بترتب العلل و المعلولات المتتالية و غيرها، و هذه السلسلة لا بد أن تنتهي إلى اللّه تعالى، الذي تكون أزمّة الأمور تحت إرادته، و الإنسان مسخّر و مقهور تحت قوى فعّالة، منها قدرة اللّه تعالى و إرادته التامّة، فهو يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. و منها قوى الطبيعة التي قلّ ما يسلم أحد من آفاتها و عاهاتها. و منها النفس الأمّارة بالسوء و الشيطان الرجيم الذي لا يسلم منه أحد. فالإنسان قرين هذه القوى و إن كانت جميعها مقهورة تحت قدرة العزيز الجبّار، و هذه الآية الشريفة و نظائرها شاهدة على ذلك، فإن قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، يدلّ على انتهاء الوسائط إليه عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا ينافي أن تكون المسبّبات و النتائج مترتبة على الأسباب، و قد جرت عادته عزّ و جلّ على إجراء الأمور بأسبابها التي لها دخل في تحقّقها، و على الإنسان أن يعد الأسباب الظاهريّة التي تكون دخيلة في حصول المسبب، ثم تفويض الأمر إليه في الجهات التي تقصر عقولنا عن الإحاطة بها، و قد دلّت على ذلك آيات كثيرة، قال تعالى:

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [سورة القصص، الآية: 77]، و هذا هو التوكّل الذي

ص: 195

أمرنا به و حث عليه القرآن الكريم، و لكن التماس الأسباب على قسمين:

الأوّل: أن تلحظ مستقلة مع قطع النظر عنه عزّ و جلّ بالمرّة، و هذا مذموم بل هو الشرك بعينه، و تكون قرينة الخيبة غالبا.

الثاني: أن ينظر إليها من حيث إنها من قبيل المعدات قد أفاضها اللّه عزّ و جلّ، و هذا القسم ممدوح بل هو التوحيد الخالص، و لكن ترتب النتيجة منوط بإرادة اللّه تعالى، فإن اعتقاد الخير في نظر الفاعل لا يغيّر الواقع عمّا عليه، قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و بالجملة: أن كون الخير بيده عزّ و جلّ، و أن بيده ملكوت كلّ شيء، لا ينافي تسبّب الأسباب الظاهريّة و إيكال الأمور الخارجة عن علم الإنسان إليه عزّ و جلّ، بل لا بد من ذلك.

بحث عرفاني:

الإنسان قرين الحاجة و الفقر، و هو يحتاج في حدوثه و بقائه إلى اللّه جلّ جلاله، و بعد كون الخير بيده تعالى فلا بد من الرجوع إليه عزّ و جلّ و التماس الخير منه و الإعراض عمّا سواه ليتمّ له التوحيد الفعلي، كما يتمّ بذلك تفويض الأمر إليه عزّ و جلّ و تتجلّى في قلبه هذه الآية الشريفة، و يكون من مظاهر: «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»، فتسهل عليه جملة من الصعاب التي عاقت أهل الدنيا عن الوصول إلى مقاصدهم، فإن من شاهد القيوميّة المطلقة منه تعالى في وجوده و بقائه و جميع شؤونه، لا يرى لنفسه شيئا إلاّ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [سورة الانشقاق، الآية: 6]، و تتم بذلك نشأة الآخرة، حيث تكون من مظاهر قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي [سورة الفجر، الآية: 27 - 30]، و لا معنى للعبوديّة الحقيقيّة إلاّ ذلك، و يتّحد المبدأ و المآب حينئذ من كلّ

ص: 196

جهة، بل إن وصل إلى مرتبة التفاني في مرضاة اللّه يتّحد السائر و السير و المسير إليه.

فهذه الآية الشريفة من أجلّ موارد تجلّيات اللّه تعالى لعباده، و لأن خرّ موسى بن عمران عليه السّلام صعقا في تجلّ واحد منه تعالى للجبل، لكن صار الكروبيون و الروحانيون و عقول ذوي الألباب صرعى في مثل هذه التجلّيات الإلهيّة القرآنية.

و لأن كان للاسم الأعظم الذي هو أم الأسماء الحسنى مظاهر كثيرة، يكون العالم واحدا منها، فيصحّ أن تكون هذه الآية من بعض مظاهره، و صحّ ما نسب إلى سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله حين سئل عن الاسم الأعظم فقرأ هذه الآية الشريفة، كما مرّ، فإن فيها اجتمع كمال الذات و الصفات.

ص: 197

لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ ف.......

اشارة

لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ (32) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى كيفيّة الثناء عليه و تمجيده و الابتهال إليه جلّ شأنه، و بيّن الوجه في ارتباط الخلق مع الخالق، و أنه لا بد من الالتجاء إلى اللّه عزّ و جلّ و الاعتراف بربوبيّته و سلطانه.

في هذه الآيات يبيّن سبحانه و تعالى تنظيم العبوديّة بين العبد و المعبود، فأرشد عباده إلى اللجوء إليه عزّ و جلّ و نبذ الاغترار بغيره تعالى، بحيث ترفع التفرقة و التخالف بين أهل الإسلام، و الاختلاف بين الأديان و المعتقدات، و نهى المؤمنين عن الامتزاج الروحي و المخالطة القلبيّة مع أعدائه تعالى، و حذّرهم عن ذلك، و أمرهم بحبّ اللّه تعالى و طاعته و طاعة الرسول و التحابب بينهم، و وعدهم بالرأفة و الغفران، و لا تخلو الآيات عن ارتباط بالآيات السابقة من التعريض بالكافرين و أهل الكتاب.

ص: 198

التفسير

قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

الاتخاذ هو الأخذ مع الاعتماد و الثقة و المشي على الطريقة و العمل بالسيرة، يقال: «لو كنت منا لاتخذت بأخذنا»، أي على طريقتنا و شكلنا. و المراد بالمؤمنين كلّ من أسلم و دخل في دين الإسلام، كما أن المراد من الكافرين كلّ من أنكر الإسلام، فيشمل أهل الكتاب و المشركين و غيرهم.

و الأولياء جمع الولي كالأذكياء جمع ذكي، و المراد بالولي في المقام و نظائره هو الخليل و المحبوب، بحيث يتقرّب أحد إلى آخر و يمتزج معه امتزاجا روحيّا يوجب التأثير عليه، فيكون أحدهما تابعا و الآخر متبوعا في العمل و المودّة و المحبّة و سائر شؤون الحياة، فإن دلّت قرينة معتبرة خارجيّة على التخصيص بشيء معين تتبع، و إلاّ فيؤخذ بالإطلاق.

و الآية تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء و الركون إليهم و الاتصال معهم مع الانفصال عن المؤمنين و الابتعاد عنهم، و هي عامّة تشمل جميع أسباب الاتصال و الركون إليهم في الأخلاق و التصرّفات و الموادّة، فضلا عن إيثار محبّتهم على محبّة المؤمنين، قال تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً * اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 138، 139]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 144]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ [سورة المائدة، الآية: 51]، و يشهد لتعميم الولاية

قول

ص: 199

نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من تشبّه بقوم فهو منهم»،

و في الحديث القدسي: «لا تسكنوا مساكن أعدائي، و لا تلبسوا ملابس أعدائي فتكونوا أعدائي»،

و في الحديث:

«ليخرجن ناس من قبورهم على صورة القردة بما داهنوا أهل المعاصي ثم و كفوا عن علمهم و هم يستطيعون»، أي قصّروا و نقصوا عن علمهم.

و (من) في قوله تعالى: مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ للابتداء، و مادة (دون) من الدنو، و هو إما في المحل، أو في الحال، أو في العمل، و قد اشتهر استعمالها في ظرف المكان، و تتضمّن معنى الغيريّة مع الإشعار بأن المورد الذي أضيف إليه (دون) فيه نحو دناءة و سفالة بالنسبة إلى غيره. قال تعالى: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: 76]، و قال تعالى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و لا ريب في دناءة كلّ ذلك بالنسبة إلى اللّه تعالى.

و قال جلّ شأنه: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 116]، أي ما سوى ذلك الذي ممّا هو أدون حزازة من الشرك و الكفر.

و المعنى: لا يعدل المؤمنون بولايتهم عن المؤمنين إلى الكافرين و يتّخذوهم أولياء في المحبّة و النصرة و العمل، فإن الكافرين أدون مكانا و أسفل درجة من المؤمنين، الّذين هم أعلى مكانا و أشرف رتبة و درجة.

و يستفاد من الآية الشريفة أن سبب النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو الإيمان و الكفر، اللذين بينهما غاية التباعد و التنافر و البينونة، بحيث أن كلّ من يقترب إلى أحدهما يبتعد عن الآخر بمقدار ما اقترب من الأوّل، بل قد يوجب الاتحاد و فساد الآخر، لما عرفت أن الولاية قد توجب الاتحاد و الاعتماد، فإذا تولّى المؤمن الكافر أوجب ذلك فساد إيمانه و الابتعاد عن اللّه تعالى، كما نبّه على ذلك في ذيل الآية المباركة: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

ص: 200

فالآية الشريفة كما تشتمل على الحكم و هو النهي عن تولّي الكافرين، تبيّن سببه أيضا، و ذلك من أعلى درجات البلاغة و الفصاحة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

أي: و من يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من ولاية اللّه في شيء، و لا نسبة له مع اللّه تعالى لزوال تلك النسبة و المحبّة بينه و بين اللّه تعالى بالموالاة مع الكافرين، و قد قال سبحانه و تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: 257].

و قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ يفيد العموم، أي ليس عمله مرضيّا للّه تعالى، و لا يكون جزاؤه جزاء من أحسن عملا، و لا تشمله العنايات الخاصة و التوفيقات الإلهيّة، و لا يدخل تحت قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ [سورة المائدة، الآية: 56]، بل يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].

و إنما أتى عزّ و جلّ بلفظ عام - أي (من) - و لم يشخّص، و ذكر لفظ (يفعل) و لم يذكر المؤمنين، للإشارة إلى أنه أمر قبيح لا بد للمؤمن الإعراض عنه و أن يستنكره و يتنزّه عنه، كما يتنزّه عن القبائح الظاهريّة، و لذا كنّى عنها في الخطاب كما يكنّى عن القبائح، و تنزيها للمؤمنين من أن ينسب إليهم هذا الأمر القبيح و الفعل الشنيع.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً .

استثناء عن الولاية الحقيقيّة و استدراك عمّا يتوهّم أن النهي إنما يكون عن الولاية الصورية، أو النهي انما يكون في جميع الأحوال حتّى لو استلزم الضرر على المؤمن، أو كان في الموالاة المصلحة.

و تتقوا: و التقاة من الوقاية، و هي المنع عمّا يوجب الأذية و الحفظ عنها، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و قال عزّ شأنه: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [سورة رعد، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [سورة الطور، الآية: 18]،

ص: 201

و تتقوا: و التقاة من الوقاية، و هي المنع عمّا يوجب الأذية و الحفظ عنها، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و قال عزّ شأنه: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [سورة رعد، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [سورة الطور، الآية: 18]،

و عن علي عليه السّلام: «كنا إذا أحمرّ البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»، أي جعلناه وقاية لنا من العدو و قمنا خلفه و استقبلنا العدو به،

و في الحديث: «من عصى اللّه لم تقه من اللّه واقية».

و من هذه المادة التقوى التي هي أساس دعوة القرآن و أصل المدارج المعنويّة للإنسان، لأنها تحفظه عن الوقوع في المحارم، و توقفه على الحدود الإلهيّة حتّى يصل إلى أعلى المقامات المعنويّة.

كما أن منها التقية، التي هي من الأصول النظاميّة التي شرعها الإسلام حفظا للنظام و تأليفا بين الأنام. و سيأتي أنها ترجع إلى القاعدة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة، و هي: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، فتكون التقية من القواعد العقليّة الشرعيّة.

و لا ريب في جواز التقية، بل أنها من القواعد المسلّمة لدى الجميع، و المرتكزة في الأذهان و لا تحتاج إلى إقامة البرهان، لأنها كما عرفت من صغريات قاعدة: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، التي هي من القواعد الفطريّة، و قد قرّرتها السنّة بأساليب مختلفة، و يكفي في مشروعيتها بل أهميتها، ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنها من الدين و التحريض على العمل بها و أن تاركها مخالف لأوامر اللّه سبحانه و تعالى،

ففي الحديث: «التقية تسعة أعشار الدين»، و قد ورد في تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، أي أعملكم بالتقية. و غير ذلك و لعلّ الجميع مأخوذ من عموم قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ [سورة البقرة، الآية: 195].

و معنى التقية هو إتيان الشيء على غير الوجه المأمور به الأولي، لغرض مهم شرعي يترتب عليه، و هذا المعنى يرجع إلى القاعدة العقليّة الفطريّة كما ذكرنا، فلا

ص: 202

يسع لأحد إنكارها أو تخصيصها بوقت دون آخر، فإن التقية بشرائطها المقرّرة في الفقه جارية إلى يوم ظهور الحقّ، كما عليه القرآن و السنّة الشريفة.

و تقاة في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر، و هي مفعول مطلق لتتقوا، و أصلها وقية على فعلة على وزن تهمة، قلبت الواو تاء و الياء ألفا. و التاء تفيد الوحدة، و هي تحدد الاتقاء، أي تتقوا منهم تقاة محدودة بأن تظهروا المودّة الصورية ما تدفعوا بها شرورهم حتّى تتحقّق المندوحة في ذلك، لما فيها من المصلحة لكم و لدينكم.

و من جميع ذلك يظهر أن الاستثناء منقطع إن كان المستثنى منه المودّة الحقيقيّة، و أما إذا كان المراد منه مطلق الموادّة و لو كان صوريا ظاهريا مع المخالفة في الحقيقة و الاعتقاد، فحينئذ يصير الاستثناء متصلا و به يمكن الجمع بين القولين.

و ما عن بعض المفسّرين في توجيه كون الاستثناء منقطعا، من أن إظهار آثار التولّي ظاهرا من غير عقد القلب على الحبّ و الولاية ليس من التولّي بمعنى الحبّ، لأن الخوف من الغير و الحبّ له أمران قلبيان متباينان لا يمكن اجتماعهما، فيكون الاستثناء منقطعا.

مخدوش: لصحة اجتماعهما في مورد واحد باعتبارين و جهتين، فيتولّى الغير ظاهرا للتحرز عن ظلمه و كيده، و يحبّ اللّه واقعا مع عقد القلب عليه.

قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ .

التحذير من الحذر و هو الاحتراز عن أمر مخوف و الابتعاد عنه، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى تحذيرا عن المنافقين و فتنتهم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اَللّهُ [سورة المنافقون، الآية: 4]، و قال تعالى تحذيرا عن مخالفة أوامره و أحكامه التي تعتبر من ملاحم القرآن الكريم: فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور، الآية: 63].

و المراد بالنفس هي الذات، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في

ص: 203

أكثر من عشرين موردا، و في الجميع يراد منها الذات دون ما يرادف الروح التي ترتبط بالبدن قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ [سورة التحريم، الآية: 6]، و قال تعالى: كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 57]، و قال تعالى: وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ [سورة التوبة، الآية:

41]، و لا ريب في صدق الذات بالمعنى الكلّي بالنسبة إليه جلّ جلاله، للقاعدة التي أثبتها الفلاسفة و قرّرتها الشريعة أن كلّ شيء لا يستلزم ثبوته النقص بالنسبة إليه تبارك و تعالى يصحّ اتصافه به، و لا ريب أن الذات كذلك.

نعم، لا بد أن نقول في المقام

ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنه: «ذات لا كالذوات، و شيء لا كالأشياء».

و لكن لم يرد إطلاق الذات عليه تعالى في القرآن الكريم بخلاف النفس، و لعلّ ذلك لأنّ النفس أقرب إلى فهم المخاطبين من لفظ الذات، و لأنّ النفس لوحظ فيها الإدراك و الشعور، بخلاف الذات، فإنها أعمّ من ذلك، و لا ريب في تحقّق الحذر و التحذير من لفظ النفس في المقام، إذ ليس المراد من النفس مفهومها من حيث هو، بل الذات القهّارة و الجبّارة فوق ما يتعقلّ من معنى ذلك.

و قد حذّر سبحانه و تعالى من يتولّى الكافرين ذاته الأقدس في هذا المورد، لأنّه هو اللّه تعالى العزيز الجبّار شديد العقاب، الذي لا يعجزه شيء، و لا عاصم عنه، فلا ناصر و لا شفيع غيره.

و من تعليق التحذير على نفسه يستفاد أن التحذير إنما يكون عن نفسه القادر على إنفاذ ما أوعده، و الذي لا يعجزه شيء، و أنه يكفي نفس الذات في ذلك من دون استعانة بشيء.

و فيه نهاية التهديد و عظيم التوعيد، فإن شدّة العقاب تتبع قوة المعاقب و قدرته على تنفيذه، و لبيان أنه ليس هناك من يدفع عنه العقاب و العذاب، فهو قضاء حتمي، لا بد أن يقع عند تحقّق المخالفة، و هذا من ملاحم القرآن الكريم الذي أخبر عزّ و جلّ به قبل وقوعه، كما نراه بالوجدان.

ص: 204

و ما ورد في هذه الآية الشريفة قضية عقليّة من أوضح القضايا بعد التأمّل فيها، لأن من بيده الإيجاد و الإفناء، و الحياة و الموت، و الحدوث و البقاء، لا بد و أن يتحذّر عن مخالفته و يحذّر عن التعرّض لسخطه و عقابه، فالآية المباركة تتضمّن الحكم و الدليل بوجه لطيف.

و من ذلك يعلم أنه لا يحتاج إلى التقدير في الكلام، كما عليه جمهور المفسّرين، أي: يحذّركم اللّه عقاب نفسه، فإن عذابه و إن كان لا بد ممّا يحترز عنه، كما أكّد عليه سبحانه و تعالى في آيات اخرى، قال عزّ شأنه: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [سورة الإسراء، الآية: 57]، و لكن ظاهر الآية أشدّ تحذيرا من التقدير.

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ .

تأكيد للتحذير، لأن من كان مصيره إلى اللّه تعالى و لا مفرّ منه و لا صارف له، لا بد من التحذير عن الوقوع في مخالفته و التحذير عن سخطه و عقابه.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ .

خطاب إلى الرسول الكريم بإبلاغ أعظم حقيقة، و هي علم اللّه تعالى بالمضمرات في النفوس و ما هو الظاهر، و أنه تعالى الذات المحيطة بجميع ما سواه إحاطة حقيقيّة واقعيّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، لأن العلم و كشف الواقع عين الذات، فلا بد أن تكون لهذه الذات الإحاطة العلميّة بجميع ما سواها و انكشاف الحقائق لديها.

و بحث العلم الربوبي من أهم البحوث في الفلسفة الإلهيّة، و يمكن إقامة البرهان على ذلك بوجه مختصر سديد، و هو أن الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة موجودة، و لا بد أن يكون عالما بما في الضمائر و ما يبدو منها، و إلاّ يلزم الخلف، و هو محال، فيكون فرض إحاطة الذات و إحاطة الربوبيّة، و إحاطة الحكمة و التدبير، ليس إلاّ فرض إحاطة علمه تعالى بجميع مخلوقاته، كلّياتها و جزئياتها، قال تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ * أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ [سورة الملك، الآية:

13، 14].

ص: 205

مع أن العلم بالكلّي يستلزم العلم بالفرد و الجزئي، خصوصا في العلم الواقعي الإحاطي الحقيقي الفعلي، فلو كانت الشمس ذات قوة درّاكة فعليّة، لكانت مدركة لجميع أشعتها الجزئية المنبسطة على ذرات الأشياء، فمن ذهب من الفلاسفة إلى نفي العلم بالجزئيّات عنه تبارك و تعالى، لأنها لا تدرك إلاّ بالمدارك الجزئيّة، و هو تعالى منزّه عنها. فهو و إن أراد التنزيه، لكنه وقع في التعطيل، و لعلّ هذا من أحد معاني

قول علي عليه السّلام: «من أراد ما ثم هلك»، و في سياقه أحاديث كثيرة، و الأدلّة العقليّة شاهدة على أن المحدود لا يعقل أن يحيط بغير المحدود.

و هذه الآية الكريمة مكرّرة بأساليب مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى:

وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 284]، و الاختلاف في تقديم المخفي و البادي في الآيتين باعتبار مناسبة الحساب للبادي، و مناسبة العلم بالمخفي، فقدّم سبحانه المخفي في المقام، بخلاف الآية الواردة في سورة البقرة. أو الحمل على مراتب الإخفاء و الإبداء، فبعض مراتبهما تستحق المحاسبة، و البعض الآخر يعفى عنه، و إن تعلّق العلم بالجميع. و نظير المقام قوله تعالى:

وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ [سورة النمل، الآية: 25].

و ربما يكون الوجه في التكرار هو الاعلام بأن علمه تعالى ليس حصوليّا مستلهما من ظواهر الممكنات و صور الموجودات، كما هو المعلوم في علم الإنسان، و لذا قيل: «من فقد حسّا قد فقد علما»، بل علمه عزّ و جلّ حضوري إحاطي فوق ما نتعقّله من معنى الحضور و الإحاطة، و فقر الممكن إلى اللّه عزّ و جلّ - حدوثا و بقاء - يستلزم هذا النحو من الحضور، و كيف يخفى عليه ما هو أوجده؟!! أم كيف يغيب عنه ما هو يدبّره؟!!

و في جملة من الدعوات المأثورة: «سبحانك تعلم خطرات القلوب و لمحات العيون و ضجيج الوحوش في الفلوات و أنين الحيتان في البحار الغامرات»، و لا عجب في ذلك بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، و من يكون ما سواه كذرة ملقاة بين يديه.

كما أنه يمكن أن يكون الوجه في التكرار هو استحضار الإنسان جلال ربّ

ص: 206

العزّة، فتستولّي عليه خشية هذا الربّ العظيم، و يسعى كمال السعي لأن يتقرّب إلى وجهه الكريم، فقد جمعت هذه الآيات الكريمة التحريض و الترغيب إلى الكمال المطلق، و التخويف عن سطوة العليم الخبير الحقّ المبين.

و في الآية الشريفة التحذير عن النفاق و الموادّة مع من حاد اللّه تعالى، و عن ولاية الكفّار فإنه لا تخفى عليه ضمائركم و إليه المصير، و هو محاسبكم على كلّ ذلك.

قوله تعالى: وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

تأكيد لإحاطة علمه بما سواه من جميع الممكنات، لأنه خالق لها و هو يعلم ما خلق، و تقدّم الكلام في تفسير هذه الآية في سورة البقرة، الآية: 284.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تأكيد لهيمنته على ما أحاط به علمه الأتم، فإن إثبات القدرة بعد ثبوت العلم فيه عزّ و جلّ تأكيد بليغ على الإحاطة القيوميّة و الهيمنة و القهّارية. فإن كلّ مخالفة له - سواء كانت مخفية في الضمائر، أم بادية على الظواهر - أن اللّه تعالى يعلمها و محاسبكم عليها و قادر على مجازاة فاعلها، فان مصيركم إليه تعالى.

و في الآية الشريفة تأكيد على عموم قدرته، و أنها تتعلّق بكلّ شيء، فهي تشمل جميع ما سواه بكلّ ما هو ممكن إلاّ ما كان مستحيلا ذاتا، فإن القدرة لا تتعلّق به لقصور المقدور حينئذ، لا ثبوت النقص في قدرته عزّ و جلّ، و لا فرق في الممكن بين الحقائق الواقعيّة - الجوهريّة أو العرضيّة - و الأمور الاعتباريّة، كالملك و العزّة و الذلّة و الجزاء و نحو ذلك، فإن كلّ ممكن يقع تحت قدرته، سواء كان الوجود هو المعلول و المترشّح من وجود العلّة، أم كانت الماهيّة، فإن جميع ذلك مفتقر إليه تعالى.

نعم، بعض الأمور له تأصل في الواقع، و البعض الآخر ليس له كذلك، بل هو تابع لجعل الحقائق الواقعيّة، و لكن ذلك لا يستلزم الخروج عن تحت قدرته.

و إن شئت قلت: إن مقدورية الأشياء له تعالى أعمّ من أن تكون بدون الواسطة أو معها، لانتهاء الجميع إليه عزّ و جلّ، و أنها مفتقرة إليه، كما هو كذلك في

ص: 207

سلسلة العلل و المعلولات.

و من ذلك يعلم النظر في ما عن بعض المفسّرين من الإشكال في تعلّق القدرة بالأمور الاعتبارية، لأنها غير مستندة إليه عزّ و جلّ، إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها اعتباري لا يتعدّى ظرف الاعتبار و الوضع، فاستشكل في انتساب ما في الشريعة من الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة إليه تعالى، لأن كلّها امور اعتبارية. و لكنه أجاب عن ذلك بأنها و إن كانت كذلك، إلاّ أن آثارها امور حقيقيّة مقصودة تنسب إليه عزّ و جلّ و تتعلّق بها القدرة.

و ما ذكره قدس سرّه تطويل بلا طائل تحته، فإن تعلّق القدرة بالأثر عين تعلّقها بمنشإ الأثر، فإنه إذا تعلّقت بأحدهما تتعلّق بالآخر، و كونها أمرا اعتباريا لا يوجب عدم الانتساب، و ما سواه يفتقر إليه تعالى و منسوب إليه عزّ و جلّ إما بواسطة أو بغيرها، كما عرفت.

قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً .

بيان لما تقدّم في الآيات الشريفة و شرح إجمالي لبعض خصوصيات المصير إليه، و إعلام بكشف الحقائق، و ظهور الأعمال و بروز الأسرار و ما تطويه الضمائر و الأحوال، و إرشاد للتحذّر عمّن خضعت له الأملاك و الأفلاك، و التعريض للعباد بالرأفة بهم في أشدّ حالات احتياجهم إليها يوم التناد، فيكون ما في الآية الشريفة برهانا و دليلا على ما تقدّم في الآيات بأتمّ برهان و هو الوجدان.

و تجد من الوجدان و هو حضور الشيء لدى النفس، و هو إما في الدنيا، و ذلك إما أن يكون عين الواقع كالإحساس بحرارة النار أو برودة الماء و نحو ذلك، أو تكون من الأمور الوجدانيّة المستعملة في العلوم التي تكون مشوبة بالتخيّلات و الأوهام حتى تعدّ بعض المعتقدات من الوجدانيّات.

و أما في الآخرة و هو كشف الواقع بما هو عليه في نفس الأمر بلا مدخلية شيء من الوهم و الخيال فيه، و هو الوجدان الحقيقي.

و الظرف «يوم» متعلّق بالمصير في قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ ، الذي

ص: 208

هو كالمرآة لجميع التكاليف الإلهيّة و جزاء لها و لا يضرّ الفصل الطويل، و قيل وجوه اخرى سيأتي في البحث الأدبي نقلها.

و (ما) في قوله تعالى: ما عَمِلَتْ موصولة تشمل جميع الأعمال، و العائد محذوف مقدّر.

و (من) في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ بيانيّة، و التنكير في «خير» للتعميم و الشمول للجميع، أي كلّ خير و هو يشمل جميع أنواع الخير من الاعتقاد، أو الأقوال، أو الأفعال، حركة أو سكونا، حتى الأعدام، مثل كفّ الأذى و إماطتها عن الطريق، و تحمّل الأذى و نحو ذلك، نظير قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 110]، و أمثالها من الآيات الشريفة.

و كلّ نفس تشمل جميع الخلائق و العباد، سواء كانوا من المؤمنين أم غيرهم، إذا صدر منهم الخير و لم يصدر منهم ما يمحقه و يحبطه، فهو محفوظ عند اللّه، كما يدلّ قوله تعالى: وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ [سورة سبأ، الآية: 21].

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بقوله: مُحْضَراً دون حاضرا و نحوه، لبيان أن جميع الأعمال موجودة عنده محفوظة لديه، و لكنه يعدّها اللّه تعالى و يحضّرها لخلقه المحسنين تكريما و تبجيلا لهم، فهو تعالى يعلمها و يحفظها و يحضرها لئلا يكونوا في تسويف و بعد منال.

قوله تعالى: وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً .

الجملة معطوفة على قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ، أي و تجد كل نفس من العباد ما عملت من سوء و ما يترتب عليه من الجزاء، فتتمنّى النفس من شدّة الأهوال و ما يتبعها من الآلام و الأحزان لو أن بينها و بين هذا السوء بعدا كبيرا.

و الأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها، و جمعه آماد، و لم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في مواضع - أربعة، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال عزّ شأنه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [سورة الجن، الآية: 25]، و قال تعالى:

ص: 209

و الأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها، و جمعه آماد، و لم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في مواضع - أربعة، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال عزّ شأنه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [سورة الجن، الآية: 25]، و قال تعالى:

أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [سورة الكهف، الآية: 12].

و المراد منه في المقام البعد، و الفرق بينه و بين الأبد بعد تقاربهما، أن الأبد ليس له حدّ محدود و لا يمكن تقييده، بخلاف الثاني، فإنه يمكن تقييده، فيقال: أمد كذا، أو يقال: للإنسان أمدان، مولده و موته، كما أن الفرق بينه و بين الزمان أن الثاني عام يستعمل في المبدأ و الغاية، بخلاف الأمد، فإنه باعتبار الغاية، كما عرفت.

و الآية المباركة تخبر عن حال كلّ نفس مع عملها، و تدلّ على تجسّم الأعمال، و أنها تحضر بالحال التي تسرّ النفس بها إن كانت خيرا، و تسوؤها إن كانت سيئة، بحيث تودّ البعد بينه و بينها من شدّة الهول و المكاره.

و إنما تمنّى النفس البعد عنها دون أن تتمنّى عدمها، لما كانت تعلم أنها محفوظة بحفظ اللّه تعالى و باقية بمشيئته عزّ و جلّ، فلم يكن بوسعها إلاّ عدم حضورها في أشدّ الأحوال و أشقّ الأهوال، كما تتمنّى في القرين السوء في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ [سورة الزخرف، الآية: 36-38]، و يستفاد من الآية المباركة الأخيرة أن تمنّي النفس بعدها عن المكاره إنما يكون في الدارين.

و إنما أكّد الأمد بكونه بعيدا لشدّة الهول و الموقف المروع، و هيهات ذلك مع حصول اليقين و شهود الحقائق.

قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

تأكيد جديد لأهمية الموضوع، و بيان نهاية التحذير، و من لطيف الأسلوب أنه جميع بين الإنذار و التبشير، و يمكن أن يكون تكرار التحذير من رأفته أيضا، فإنه من إحدى سبل النجاة و الهداية، و من سياق العبارة يستفاد أنه تعالى في مقام الترأف بعباده، لا يريد لهم إلاّ الخير و الصلاح مع إعلامهم بعدم التعرّض لسخطه، فلا ينافي التحذّر عن نفسه تعالى مع سبق رحمته غضبه، فإن من رحمته إنزال

ص: 210

الأحكام الإلهيّة، و النهي عن المعاصي التي لها الآثار المهلكة و الواقعة قريبا، و التي لا تنفع في رفعها شفاعة الشافعين، فإذا تعرّض لها أحد من عباده فإنها تصيبه و يقع في سخطه و خذلانه.

و المراد من النفس: الذات الداركة بمراتبها المختلفة غير المتناهيّة، فيطلق عليه تعالى و على غيره حقيقة حسب المرتبة، و لا حاجة فيها إلى تعدّد المعاني و الاستعارة كما تقدّم.

و إنما أضاف التحذير إلى نفسه الأقدس، لأن العلم و الحكمة عين ذاته المقدّسة، و الذات هي المنشأ لجميع الحوادث في الدنيا، التي هي جنود اللّه تعالى فيها، و هي مسخّرات تحت أمره، و كذلك في العقبى التي لا حدّ لها، قال تعالى:

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الفتح، الآية: 7]، فالتحذير من مثل هذه الذات موافق للعقل و الفطرة إذا توجّه الناس إليه في الجملة،

و قال علي عليه السّلام:

«احذر اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك حيث نهاك».

و يستفاد من الآية الشريفة أهمية التحذّر من اللّه تعالى، كما أنها ترشد إلى حكم عقلي، لأنه واجب في النظام الأحسن، فإن إرشاد الناس إلى المهلكات و تحذيرهم عنها واجب على الحكيم العلام تعالى.

و التحذير منه تعالى تترتب عليه آثار كثيرة متعدّدة الجوانب، فإن من الآثار التي تترتب عليه إنما هو استقامة الإنسان، التي هي أشرف غاية و أعظم كمال، بل هي منتهى الكمالات، و هي قرّة عين الأنبياء و مطلوب كلّ عبد صالح، قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت، الآية: 30].

و من الآثار المترتّبة عليهم تنظيم الروابط بأحسن وجه بين العبد و بين اللّه تعالى و بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض.

و منها: أنه يوجب استشعار العبد عظمة اللّه تعالى، فيكون خائفا منه عزّ و جلّ مراقبا لنفسه.

ص: 211

و منها: أنه يوجب التحلّي ببعض مكارم الأخلاق، كالرضا به تعالى لانحصار الأسباب فيه عزّ و جلّ، و التوكّل عليه، فإن القدرة إذا انحصرت في واحد انقطع الرجاء عن غيره.

و منها: أنه يوجب التخلّي عن جملة من الأخلاق الذميمة، كالحرص في طلب الدنيا - بل يطلبها من حيث ما أمره اللّه تعالى - و الحسد على الأمثال و الأقران، لفرض استناد الكلّ إلى المدبّر الحكيم، و غير ذلك من محاسن الأخلاق، و لعلّ ذلك من أحد أسباب تكرار هذه الجملة المباركة.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي .

الآية الشريفة من روائع الآيات التي تخاطب الضمير الإنساني بأسلوب لطيف، فقد بدأت بالخطاب مع أشرف خلقه، واسطة الفيض و مظهر الحبّ الإلهي و من تجلّت فيه المعارف الربوبيّة، و من هو قطب رحى الوجود و مكارم الأخلاق، تستمد منه الأرواح.

ثم في تقديم حبّ اللّه تعالى و الوعد بالغفران و إثبات الرحمة و المبالغة في المغفرة و الوعد بأكمل الكمالات الإنسانيّة، و هو محبّته تعالى التي بلغت في الجمال و الجلال ما لا يمكن دركها بأي مشعر من المشاعر، بل لا يدانيها من الجذبة الأحدية للذات المحمّديّة حتّى يظهر الحال.

فالآية الشريفة جذبة روحانيّة تدفع الغفلة عن الإنسان، و ترفع عنه الضلالة و الخسران، و من عجيب الأمر دعوة الحنّان القدير القهّار المقتدر الفعّال لعبده الضعيف إلى محبّته، و إخراجه من الظلمات إلى النور، و هو مع ذلك يمتنع عنه، فسبحان من كان خيره إلينا نازلا، و شرّنا إليه صاعدا، و هو مالك قادر على يشاء، فعال لما يريد.

و تقدّم معنى الحبّ في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ [سورة البقرة، الآية: 165]، و ذكرنا أنّه لا يختصّ بالإنسان، بل يتحقّق في جميع الموجودات، الواجب منها و الممكن، و هو من المعاني الوجدانيّة التي يدركها كلّ

ص: 212

أحد، و إن قصرت الأفهام عن درك حقيقته، فهو الترابط الوثيق الذي يربط بين الموجودات بعضها مع بعض و الجميع مع الخالق.

و القول بأن الحبّ يختصّ بغيره لأنه نوع من الإرادة، و هي لا تتعلّق إلا بالمعاني و المنافع، فيستحيل تعلّقها بذاته و صفاته.

غير صحيح: لأنه إخراج للحبّ عن معناه الحقيقي مع أنه أطلق عليه سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة، قال عزّ شأنه: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة، الآية: 222]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 195].

و الحبّ من المعاني القلبيّة التي لا بد أن يظهر أثرها على الجوارح، و هو الداعي إلى نيل المطلوب عمّا يحبّه، فالإنسان يحبّ الغذاء ليرفع به الجوع، و النكاح ليدفع ما عليه من الغريزة الجنسيّة، فهو لا بد أن يقترن بالأثر و إلا فهو مجرّد و هم و خيال.

و الحبّ يتعلّق بكلّ شيء، فقد يتعلّق باللّه تعالى و يسمّى بالحبّ الإلهي، و هو وليد كمال معرفة اللّه جلّت عظمته، و الناشئ عن الجمال المطلق و لا يحصل إلا بالتخلية عن الرذائل و التطهير عن كلّ ما يشغل القلب عن اللّه تعالى و التحلية بالفضائل، و قد أمر اللّه تعالى عباده بالإخلاص له، قال تعالى: هُوَ اَلْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة المؤمن، الآية:

65]، و قال تعالى: فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة المؤمن، الآية: 14]، و لا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزّ و جلّ، و لا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه و لو كان أمرا أخرويا، إلا إذا رجع إلى اللّه تعالى، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا اللّه و لا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه و هو اللّه تعالى، و هو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فهو علامة محبّة العبد للّه تعالى، و يدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله الذي بيّن سلوكه في محبّته للّه تعالى، حيث حكى عنه عزّ و جلّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف، الآية: 108]، فإن سبيله الدعوة إلى اللّه عن بصيرة و علم، و الإخلاص له و نبذ كلّ ما يشغله عنه عزّ و جلّ، و من كان متّبعا له صلّى اللّه عليه و آله، لا بد أن يكون كذلك. و هذا هو أفضل مراتب الحبّ و كلّ ما أزداد الشخص عرفانا باللّه العظيم، ازداد محبّة له عزّ و جلّ.

ص: 213

65]، و قال تعالى: فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة المؤمن، الآية: 14]، و لا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزّ و جلّ، و لا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه و لو كان أمرا أخرويا، إلا إذا رجع إلى اللّه تعالى، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا اللّه و لا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه و هو اللّه تعالى، و هو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فهو علامة محبّة العبد للّه تعالى، و يدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله الذي بيّن سلوكه في محبّته للّه تعالى، حيث حكى عنه عزّ و جلّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف، الآية: 108]، فإن سبيله الدعوة إلى اللّه عن بصيرة و علم، و الإخلاص له و نبذ كلّ ما يشغله عنه عزّ و جلّ، و من كان متّبعا له صلّى اللّه عليه و آله، لا بد أن يكون كذلك. و هذا هو أفضل مراتب الحبّ و كلّ ما أزداد الشخص عرفانا باللّه العظيم، ازداد محبّة له عزّ و جلّ.

و هو ذو مراتب متفاوتة، آخرها الفناء فيه ثم البقاء به، و لا يحصل إلا بمتابعة سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و الجامع بين جميع تلك المراتب هو الحبّ للّه، و في اللّه، و كلّ ما كان الحبّ أشدّ كانت السعادة أتمّ و أعظم. و هذا هو الدين الخالص الذي أمرنا به، و هو الدين الذي يندب إليه الأنبياء العظام، و قد وصفه تعالى بالخضوع و التسليم و الإخلاص في كتابه المجيد، فقال جلّت عظمته: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و قال تعالى: أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3]، و هو الذي تدعو إليه الفطرة، قال تعالى: فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها [سورة الروم، الآية: 30]، و لأجل ذلك عقّب سبحانه و تعالى بأنّ محبّة العبد للّه لا تتحقّق إلا باتباع هذه الشريعة التي تضمّنت جميع أسباب المحبّة له عزّ و جلّ.

و من ذلك يظهر أن ذكر الآية الشريفة بعد نهي اللّه سبحانه و تعالى موادّة الكفّار و المشركين أن الاتباع لهذه الشريعة لا يحصل إلا بنبذ تولّي الكفّار، و أنه مع محبّة اللّه أمران متضادان لا يجتمعان في قلب امرئ، و ممّا يؤكّد ذلك قوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة الجاثية، الآية: 18-19]، فإن المستفاد منه أن ولاية اللّه إنما تثبت للمتّقين المطيعين للّه و الرسول و المتّبعين شريعته، و غيرهم خارجون عن ولايته تعالى، التي لا تحصل إلا بحبّ اللّه عزّ و جلّ و نبذ كلّ ما يوجب الخروج عنه.

ص: 214

قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ .

أي: أن اتباع اللّه سبحانه و تعالى و الدخول في ولايته عزّ و جلّ باتباع الرسول الكريم الذي هو الكتاب الناطق، فإنه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم، الآية: 3-4]، يستدعي محبّة اللّه تعالى له، و كفى بذلك فخرا و سعادة. و هو المقام السامي الذي يقصده كلّ مخلوق.

و يستفاد من الآية الشريفة أن محبّة اللّه تعالى للعبد تترتب على محبّة العبد للّه تعالى، و عند التخلّف لا يكون إلا ادعاء، بل هي محبّة الهوى لا محبّة اللّه تعالى، و لكن لكلّ منهما مراتب متفاوتة.

و علامة محبّة اللّه تعالى للعبد هي التوفيق للطاعة و الهداية و البعد عن المعصية، و الانقلاع عن دار الغرور، و الانقطاع إلى دار الخلود، و هذا هو الفوز المبين.

و إنما ذكر سبحانه محبّته للعبد دون ولايته، فإن الحبّ هو الأصل الذي تبتنى عليه الولاية، و به يصل العبد إلى مقام الولاية.

قوله تعالى: وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .

عطف اللازم على الملزوم، أي: إذا تحقّقت محبّة اللّه تعالى لعبده، يتحقّق غفرانه لا محالة. و الذنوب هي التي تمنع من أن يحظى العبد مقام القرب من اللّه تعالى، كما أنها هي التي توجب ستر الحقائق عنه و حجبه عن ربّه، قال تعالى:

كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14، 15].

و المحبّة هي الجذبة الروحانيّة بين الحبيب و المحبوب، و هي لا تتحقّق مع الذنوب، فكما أن محبّة العبد للّه تعالى توجب الإخلاص له، كذلك محبّة اللّه العبد تستدعي قربه تعالى له و إزالة الحجب التي حصلت من الذنوب عنه، فالحبّ يقتضي غفران الذنوب و ما يتبعه من الإفاضات المعنويّة و الظاهريّة و المقامات التي تقصر العقول عن دركها، فإن إفاضاته غير محدودة إلا ما كان من جهة المستفيض، قال تعالى: وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [سورة الإسراء، الآية: 20].

ص: 215

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

إعلان عامّ لسعة غفرانه و رحمته مع قابلية الموضوع، و هو في مقام التعليل لصدر الآية الشريفة.

قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ .

تأكيد لما تقدّم، و بيان لحقيقة متابعة الرسول، و شرح لمعنى محبّة اللّه تعالى، فإن الآية السابقة تدعو إلى محبّة اللّه و متابعة الرسول، و هما لا تحصلان إلا بإطاعة اللّه و الرسول، و هي لا تحصل إلا باتباع الشريعة التي أنزلها اللّه تعالى على نبيّه بإخلاص، و به تتحقّق طاعة اللّه و رسوله، فتكون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول واحدة. و يدلّ على ذلك عدم تكرار الأمر، فلو كانت الإطاعتان مختلفتين لقال عزّ و جلّ: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59].

نعم، يكفي صدق إطاعة اللّه و رسوله بإتيان العبادات تقرّبا إلى اللّه تعالى، و إتيان غيرها على حسب الوظيفة الشرعيّة التي أرادها اللّه تعالى، و به تتحقّق متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، سواء قصدها حين العمل أم لا، لأن هذا القيد يحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و ظاهر الأمر إرشاد إلى إتيان نفس التكاليف كلّها، كما في أوامر (أطيعوا الرسول) في كلّ ما ورد في القرآن الكريم.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ .

أي: أن التولّي من إطاعة اللّه و الرسول كفر، و اللّه لا يحبّ الكافرين، و التولّي إما أن يكون اعتقادا و عملا فهو الكفر، و إن كان عملا فقط مع بقاء الاعتقاد - لو فرض - فهو الفسق، و قد يوجب الكفر، و لعلّ إجمال قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ ، لأجل هذه الجهة.

و في الآية المباركة اشعار بأن الحبّ المنفي إنما يكون في التولّي عن طاعة اللّه و الرسول، كما أن صدر الآية الشريفة يثبت أن الحبّ إنما يكون في متابعة اللّه و الرسول، و لا يخلو ذلك من اللطف كما لا يخفى.

ص: 216

بحوث المقام

بحث أدبي:

قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ، لا ناهية، و الفعل مجزوم بها، و هو متعدّ لمفعولين.

و قوله تعالى: مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ ، (من) لابتداء الغاية، و الجملة حال من الفاعل، أي: متجاوزين عن ولاية المؤمنين إلى الكافرين.

و قيل: الجملة في حيز الصفة لأولياء، و قيل: متعلّق بالاتخاذ.

و (تقاة) في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، مفعول مطلق وزنها فعلة و أصلها وقية، ثم أبدل الواو تاء كنجاة و تكاة، فصارت تقية، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها و انفتاح ما قبلها، فصارت تقاة. و (منهم) متعلّق ب (تتقوا)، و الفعل تعدّى بمن، لأنه بمعنى خاف و هو يتعدّى بها.

و الظرف في قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ، قيل إنه منصوب ب (يحذركم)، أي يحذّركم اللّه نفسه في يوم تجد.

و أورد عليه: بأنه لا يكون (يوم) مفعولا ليحذّركم، لأن يحذركم لا تتعدّى إلا إلى مفعولين، و قد استوفاهما، و لا بدلا من أحدهما كما لا يخفى.

و قيل: إنه ظرف للتحذير.

و فيه: أن التحذير و فائدته إنما هما في الدنيا، كما أنه لا يمكن أن يكون ظرفا للحذر - لو صحّ في نظائره - لأن الحذر في ذلك اليوم لا فائدة فيه و لا غاية.

و قيل: إنه معمول فعل مضمر، أي: اذكر - يا محمد - يوم تجد، فتكون الجملة منقطعة.

و أورد عليه شيخنا البلاغي أنه لا دليل يدلّ على ذلك، و لا يقاس على تقدير ذلك عند قوله تعالى: (و إذ) في موارد متعدّدة من القرآن الكريم، أي و اذكر

ص: 217

إذ، لأن السياق هناك يشير إلى ذلك، و قد تكرّر ذكره صريحا في عدّة آيات، منها قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ [سورة مريم، الآية: 16]، و قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى [سورة ص، الآية: 41]، و قوله تعالى:

وَ اُذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ [سورة الأحقاف، الآية: 21].

و قيل: إنّ العامل فيه قدير في قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و قيل: إنه متعلّق بقوله تعالى: يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ ، و يصحّ تعلّق علمه ب (اليوم)، لأنه ظرف لعلمه بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا، لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى، كظهور ملكه و قدرته و قوته في ذلك اليوم، مع أنها دائمة له تعالى، و إنما اختصّ بذلك اليوم لظهور الحقيقة بالنسبة إلى خلقه.

و قيل: إنه متعلّق ب (المصير)، أي و إليه المصير في يوم تجد، و الفاصل ليس بأجنبي، و اختاره شيخنا البلاغي و اعتبره من أكمل الصلاحية و المناسبة، و قال الزمخشري: إنّ يوم معمول ل (تود)، و الضمير في (بينه) يعود إلى ذلك اليوم.

و فيه: أن الآية المباركة إخبار عن حال كلّ نفس و هي تود أنها لو عملت من خير محضرا أن يتعجّل يوم القيامة لكي تفوز بسعادته.

و (ما) في قوله تعالى: ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً موصولة و العائد محذوف، و (من) بيانيّة، و (محضرا) حال من العائد المحذوف تقديره ما عملته من خير محضرا.

و قيل: إنه مفعول ثان ل (تجد)، إن جعلت بمعنى تعلم.

و (تود) في قوله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ في موضع الحال من الضمير المرفوع في عملت، أي (ما عملت من سوء). و إذا قطعتها ممّا قبلها و جعلتها للشرط جزمت تود جوابا للشرط و خبرا لما.

و قيل: إن (ما) في (ما عملت من سوء) في موضع رفع بالابتداء، و تود الخبر.

و (تحبّون) في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي من حب، كما أن (يحببكم) من أحب، و يرد الأول على (فعل) و منه الحبيب، و يرد الثاني على (فعل)

ص: 218

و منه المحبوب، و لم يرد اسم الفاعل من حبّ المتعدّي، فلا يقال: أنا حاب، كما أنه لم يرد اسم المفعول من (أحب) إلا قليلا كقول الشاعر:

و لقد نزلت فلا تظني غيره *** مني بمنزلة المحبّ المكرم

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: إنما عبّر سبحانه بالاتخاذ في قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ ، لأن الاتخاذ أبلغ في المطلوب، و ليشمل جميع العلائق الروحيّة منها و الماديّة، و كلّ ما يوجب التقرّب إلى الكافر و الامتزاج معه، و قد ورد هذا اللفظ بالنسبة إلى المشركين و عبّاد الأوثان، قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة النحل، الآية: 51]، و قال تعالى: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 31]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و من ذلك يظهر السرّ في تكرار النهي في آيات اخرى، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 51].

و الآية الشريفة ترشد إلى أعظم دستور إلهي ينظم علاقات المؤمنين بعضهم مع بعض، و العلاقات بينهم و بين أعدائهم، الّذين لم يضمروا في أنفسهم سوى الكراهة من أعدائهم ممّا كان السبب في مشاكلهم و متاعبهم، و قد شدّد اللّه سبحانه على ترك هذا الأمر الإلهي و الحكم الاجتماعي بما لم يذكره في غيره، إذ فيه حياتهم و سعادتهم، و كلّ ما كان المؤمنون أبعد من الامتزاج مع أعدائهم، كلّ ما كانت سعادتهم أعظم و سيادتهم أكثر و مشاكلهم أقل، فهلموا أيها المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم و جعل إرشاداته و أحكامه نصب أعينكم، و لا يسبقنكم إلى العمل بالقرآن غيركم، فإن فيه هلاككم و تشتت جمعكم، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.

الثاني: إنما ذكر سبحانه (المؤمنون) و (الكافرين) في الآية الشريفة للدلالة على أن سبب هذا الحكم هو الإيمان و الكفر، فإن بينهما أقصى التباعد و التنافر، و هو

ص: 219

يسري إلى جميع الفروع و الجهات، بل يسري حتى إلى الصور الذهنيّة، و كذلك تكون بين من يتلبّس بهما، فإن بينهم غاية الاختلاف و التباعد في جميع الأمور، من المعارف و سائر شؤون الحياة، فيكون الامتزاج مع الكافرين يوجب فساد العقيدة و إذهاب خواص الإيمان و آثاره، و إبطال أصل الدين، و لأجل ذلك عقّبه سبحانه و تعالى بقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

الثالث: يدلّ قوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ على انقطاع العلاقة بين اللّه جلّ جلاله و بين من يتّخذ الكافرين أولياء، و البعد عنه عزّ و جلّ و إيكال الأمر إلى أنفسهم و سلب التوفيق عنهم، و هو ما نشاهده بالحسّ و الوجدان، و هو يدلّ على كفر من تولّى الكافرين.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، على مشروعيّة التقية و الرخصة فيها في موارد محدودة، و هي تتقدّر بقدر الضرورة، و لذا ذكر سبحانه و تعالى: (تقاة)، الدال على مقدار التقية - و خصوصياتها و يختلف حكم التقية حسب اختلاف المورد - إلى الأحكام الخمسة التكليفيّة، فقد تكون التقية واجبة كما لو استلزمت جلب قلب الكافر و إدخاله في الإسلام و نشر أحكام الدين الحنيف، و نحو ذلك ممّا ترجع فائدته إلى أصل الدين و المتديّنين به، و كذا إذا استلزم ترك التقية الضرر و الفساد على المسلمين، و لكن في جميع ذلك لا بد من الاهتمام على حفظ العقيدة و التحذّر عن فسادها و تزلزلها.

و بالجملة: أن مورد التقية من الكفّار هو دفع الضرر عن النفس أو المال أو العرض، أو جلب النفع النوعي، بحيث لا يكون محذور شرعي في البين، و لا فرق في النقع بين النوعي منه و الشخصي، إذا انطبق عليه عنوان الضرر، و قد فصّل ذلك في الفقه.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ أن النهي من التولّي من أعظم المناهي، و أن معصية التولّي قد بلغت غاية القبح و تناهت فيه، بحيث حذّر اللّه سبحانه و تعالى في هذا المورد عن نفسه، و هو ينذر عن عظيم

ص: 220

العقاب و شدّة العذاب و أنواع الحرمان، و هو كذلك لكثرة المفاسد المترتبة عليه كما هو معلوم، فيكون التولّي و ترك التحذّر من اللّه نفسه من أعظم مصاديق الطغيان على اللّه تعالى، لأنه يتبع إبطال الدين و فساد العقيدة، و أنهم قد أمروا بالاستقامة في عدّة آيات، قال اللّه تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [سورة هود، الآية: 112-113] فكأن هذه الآية الشريفة شارحة للآية التي تقدّم تفسيرها و مبيّنة للتحذير، فإن التولّي و الركون إلى الظالمين يوجب الطغيان، و هو يستتبع أشدّ العذاب و حرمان الأنصار، و لأجل ذلك كانت هذه الآية شديدة الوقع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد ورد انها شيّبته.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ ، منضما إلى تكرار التحذير من اللّه، شدّة التهديد، حيث إنه لا مفرّ منه عزّ و جلّ و لا صارف عن بلائه، و يدلّ أيضا أنه من القضاء الحتم الذي لا مبدّل له.

السابع: يدلّ قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ على إحاطة علمه عزّ و جلّ و شموليته لجميع الموجودات، وسعته الشاملة للأمور الموجودة و التي ستوجد بعد ذلك. و هذه الآية من الأدلّة الدالّة على علمه بالجزئيات، وردّ على من قال بعدم علمه بها.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ، تأكيد التهديد و التخويف، فإن مثل هذا التعبير إذا أتي به في مقام التخوّف و التحذير يكون لتثبيته و اشعار المخاطب بأن المتكلم انما هو ناصح شفيق، و لا يريد إلا الخير و الصلاح، فلا ينبغي التعرّض لسخطه، فيكون إخباره بذلك رأفة به.

و يمكن أن يكون ذلك لأجل أن من فعل ذلك و ارتكب هذه المعصية العظيمة، إن رجع عنها و أراد الإصلاح فإن اللّه تعالى يقبل منه توبته رأفة به، و إن كان وبالها عظيما.

التاسع: إنما بدأ سبحانه و تعالى بحبّ اللّه، لأنه أصل الدين و أساس

ص: 221

الكمالات الحقيقيّة الإنسانيّة، و ما عداه باطل زائل، و هذا مفاد جملة من الآيات الشريفة و عدّة من الروايات، ففي بعضها:

«و ليس الدين إلا الحبّ في اللّه و البغض في اللّه»، و في البعض الآخر:

«و هل الدين إلا الحبّ و البغض»، و لذلك ذكر الحبّ دون الولاية.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ على أن الاتباع في الآية السابقة الموجب لمحبّة اللّه للتابع، إنما يتحقّق في إطاعة اللّه و إطاعة الرسول، و هما متقومتان بالإخلاص، فيكون حبّ اللّه متمثّلا في الإخلاص له عزّ و جلّ و يرجع بالآخرة إلى أن دين اللّه إنما يكون في الإخلاص له عزّ و جلّ، و هو جعل العبد نفسه و جميع شؤونه في مرضاة اللّه تعالى، و هو المراد من قوله تعالى:

إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، فإن الإسلام من التسليم، و هو يتجلّى في الإخلاص، و هو ينتهي إلى الحبّ.

الحادي عشر: إنما كرّر تبارك و تعالى لفظ (قل) في الآيات الشريفة، إما لأجل أن خطاب الملك مع رعيته إنما يكون بواسطة أخصّ وزرائه المطّلع على الخصوصيات، أو لأجل انطواء العقول في الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله انطواء الجزء في الكلّ، فإنه سيد الأنبياء و العقل الكلّ، و كلّ العقول، فيكون الخطاب إليه خطابا إلى الكلّ، فهو مظهر جميع التشريعات السماويّة، بل جميع الخطابات التكوينيّة. و مقام خاتم النبوّة صلّى اللّه عليه و آله إنما هو مرتبة سرّ الوجود و الإيجاد و منتهى الكمالات، فهو سابق السائرين إلى اللّه تعالى و قائدهم إليه عزّ و جلّ، و قد ورد في بعض الأخبار أن الشمس جزء من سبعين جزء من نور العرش، فإذا كانت الشمس الجسمانيّة تستضيء من العرش و تضيء لما سواها، فالشمس المحمديّة الأحمديّة تستضيء من الأحديّة المطلقة، و تضيء لما سواها.

و يمكن أن يكون التكرار في هذه السورة الشريفة لأجل أن المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب و المشركين، و في التكرار تثبيت لرسالته صلّى اللّه عليه و آله و كمال الخلّة بينهما.

ص: 222

بحث عرفاني:

يستفاد من الآيات المباركة المتقدّمة مباحث عرفانيّة مهمّة:

الأوّل: أنه يدعو اللّه تعالى في الآيات المتقدّمة إلى العقل السليم و الفطرة المستقيمة، و هما محجوبان بحجب كثيرة، و من أغلظها الحجب الشهوانيّة التي تكفي في استفزازها النفس الأمّارة بعد ما يدعو إليها الشيطان و يهيء لها جميع السبل التي تثيرها، لا سيما بعد قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 82-83]، فاجتمع على إثارة الشهوات داعيان، هما النفس الأمّارة و الشيطان، و لذا كان داعي الشيطان أكثر إجابة من داعي الرحمن.

و إنما يأمن الإنسان من كيد الشيطان و قهر النفس الأمّارة بالإيمان باللّه عزّ و جلّ و متابعته و طاعته في جميع ما أنزله اللّه تعالى، و يرتقي إلى درجة الخلّة و الحجب، و بذلك تنجلي تلك الحجب و تنخرق على قدر مراتب الإيمان.

و ممّا لا يمكن اجتماعهما في قلب الحبيب هو تولّي اللّه تعالى و تولّي أعدائه، فإنهما أمران متنافيان في أي مرتبة كانا، و من المعلوم أنه بتولّي الكفّار لا تزال الحجب تغلظ حتّى تستولي على إيمانه فيزول رأسا، و لأجل ذلك ورد النهي عن تولّي الكافرين و المنافقين و الجائرين الظالمين في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، و قالوا: «لا عدو أعدى من قرين السوء»، و الشواهد العقليّة تدلّ على ذلك، لأن سرّ العبوديّة بين المعبود الحقيقي و العابد من أفضل الموجودات في عالم الممكنات، و بهذه الإضافة يصل العبد إلى أقصى درجات القرب و أعلى المقامات، و هذه الرابطة فعّالة لكلّ ما تشاء، و خلاّقة لما تريد، و لا يجوّز العقل أن تدنس هذه الإضافة المباركة بتولّي الكفّار و الايتلاف مع الفجّار الأشرار، و ليس ذلك إلا كمن أغفل عن الجوهرة الكريمة التي لا تقدر بثمن و أوقعها في الكنيف.

الثاني: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ، الواردات القلبيّة، التي ترد على قلوب أوليائه تعالى، فيكون المراد بالإخفاء عدم إذنه تعالى في إنشائه و إظهاره كجملة من أسرار القضاء و القدر، و المراد من الإبداء إذنه في ذلك، فإن اللّه سبحانه و تعالى يحول بين المرء و قلبه، قال عزّ شأنه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 24]، فتكون جميع تلك الخاطرات و الواردات مورد علمه و مشيئته و إرادته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّيّة التامّة حتّى يلزم المحذور من الجبر و أمثاله، فإن قلوب الأولياء من أجلّ مشارق أنوار الغيب،

ص: 223

الثاني: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ، الواردات القلبيّة، التي ترد على قلوب أوليائه تعالى، فيكون المراد بالإخفاء عدم إذنه تعالى في إنشائه و إظهاره كجملة من أسرار القضاء و القدر، و المراد من الإبداء إذنه في ذلك، فإن اللّه سبحانه و تعالى يحول بين المرء و قلبه، قال عزّ شأنه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 24]، فتكون جميع تلك الخاطرات و الواردات مورد علمه و مشيئته و إرادته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّيّة التامّة حتّى يلزم المحذور من الجبر و أمثاله، فإن قلوب الأولياء من أجلّ مشارق أنوار الغيب،

و في القدسيات: «لا تسعني أرضي و لا سمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن»، لأنّ إيمان المؤمن باللّه تعالى يجعل قلبه متّصلا بما لا يتناهى له من كلّ جهة، فيخرق حجب الإمكان إلى أن يصل إلى مرتبة لا يمكن تحديدها.

و في الحديث سأل موسى عليه السّلام ربّه فقال: «أين أجدك يا رب؟ فقال تعالى: إني عند القلوب المنكسرة»، أي كسرها حبّ اللّه جلّ جلاله، و جبرها تجلّي المحبوب فيها، فكسرت الهيبة الإيمانيّة جميع الحجب الظلمانيّة، بل الجهات الإمكانيّة، فاتصلت إلى معدن النور و منبع الخير و السرور، فاستعدّت للإشراق فأشرقت عليها المعارف الحقّة و العلوم الغيبيّة، ممّا لا يعقل تحديدها بالكلام و لا يمكن تحصيلها بالجهد و الإلمام، و هو على كلّ شيء قدير. و للكلام تتمة تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى، فحينئذ الآية المباركة تختصّ بالمؤمنين الّذين لهم الدرجات العليا في الإيمان.

الثالث: أن محبّته تعالى لخلقه إن كانت من المحبّة التكوينيّة فهي من صفات الذات الأقدس، لرجوعها إلى العلم و الحكمة، و هما عين الذات، و لا يعقل فيها الاشتداد و التضعّف، و إن كانت من المحبّة الفعليّة فهي من صفات الفعل، لرجوعها إلى الرضا و التوفيق و التسديد، و كلّ ذلك من صفات الفعل، و لا يعقل أن تكون في مرتبة الذات لقابليتها للتغيّر و التبديل.

و هذه المحبّة الاختياريّة من العبد للّه عزّ و جلّ هي موضوع السير و السلوك و الوصول إلى مقامات العارفين، و بعضهم سمّى أهل هذا السير و السلوك ب: القافلة

ص: 224

الإلهيّة. و خلاصة ما قالوه فيها: إنها قافلة تسير من اللّه تعالى إلى اللّه مع اللّه، و قال جلّت عظمته في شأنهم: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ [سورة النور، الآية: 37]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا [سورة فصلت، الآية:

30]، و رائد هذه القافلة و رئيسها محمد حبيب اللّه، و إبراهيم خليل الرحمن، و يد اللّه فوق رؤوسهم ترفرف بأنحاء اللطف و الرحمة، و تجذبهم روحانيّة خليل الرحمن إلى خليله، و معنويّة حبيب اللّه إلى حبيبه، و ان سعيهم الوصول إلى أقصى الكمال، و هذا أكمل سير في الممكنات.

الرابع: أن التحذّر عن اللّه جلّ جلاله له مصاديق كثيرة، من أعظمها الإيذاء و الاستخفاف بعباد اللّه تعالى الّذين مدحهم في آيات كثيرة و ذكر صفاتهم، فقال عزّ شأنه: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً * وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً * وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [سورة الفرقان، الآية: 63-65]، و ذكر علي عليه السّلام صفاتهم في جملة من كلامه

فقال: «نطقوا فكان نطقهم صوابا، و سكتوا فكان سكوتهم حكمة و نظرهم عبرة، صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحهم معلّقة بالملإ الأعلى، أنفسهم منهم في تعب و الناس منهم في راحة، شعارهم الخضوع و مأكلهم و ملبسهم القنوع»، و قد ورد في السنّة المقدّسة في مدحهم ما لا يحصى، حتّى أنه ورد فيها أن اللّه جلّت عظمته

قال: «من آذى وليي فقد بارزني بالمحاربة»،

و قوله عليه السّلام: «و لو لاهم لساخت الأرض بأهلها»، إلى غير ذلك ممّا ورد في مدحهم و ثنائهم، و لا بد أن يكون كذلك، لأنهم أعظم مظهر لمكارم أخلاق اللّه تعالى، و أن قلوبهم المقدّسة لا تزال مستشرقة بشوارق من عالم الغيب، فتزيل عنها كلّ شكّ و دنس، فهم الأنوار التي تخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، و هم الصراط المستقيم.

ص: 225

بحث فلسفي:

أثبتت الفلاسفة الإلهيّون و الطبيعيّون أن كلّ ممكن زوج تركيبي، له ماهية و وجود، و قد فصّلوا البحث في كلّ منهما من جميع الجهات بما لا مزيد عليه.

كما أثبتوا أن كلّ مركب ممكن، و استدلّوا عليه ببراهين كثيرة، و أهمّها الافتقار كما تقرّر ذلك في محله.

و أثبتوا أن الماهيّة (الذات) قبل الوجود لا أثر لها، بل تكون ليسا محضا، أي عدما. و هذه الأمور الثلاثة من المتسالم عليها بينهم.

و إنما اختلفوا في أن المجعول و متعلّق الجعل هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات)، أو الاتصاف بينهما؟ و هذه من المسائل العويصة بينهم، و أي منها كان مجعولا يلزمه جعل الآخرين بالعرض، ليتمّ الجعل التركيبي و يترتب الأثر لا محالة.

كما أن أيا منها كان مجعولا للجاعل تكون لوازمه مجعولة له بنحو الاقتضاء، فإذا كان اللّه جلّ جلاله خالق الإنسان و جاعله، يكون جاعلا لعلمه و إرادته و مشيئته، فقوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ من علم العلّة بالمعلول، و هو أتقن أنحاء العلوم كما ثبت في محلّه.

و للفلاسفة الإلهيّين أصلان مهمان يتفرّع عليهما مسائل كثيرة ذكرت في محلّها:

أحدهما: أصالة التحقّق، فيبحثون في أن الأصل في التحقّق هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات)؟ على اختلاف بينهم، فيثبت كلّ منهما دعواه بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها.

ثانيهما: أن الأصل في الجعل هو الوجود أو الماهيّة.

و المراد من الأول أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس المجعول، كما أن المراد من الثاني أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس الجاعل، و لكن بعد اتفاق جميع الفلاسفة على أنه لا أثر للجعل و المجعول إلا بعد تحقّق الوجود، يرتفع هذا النزاع في البين، و أنه لا

ص: 226

يمكن التفكيك بين الوجود و الماهيّة مطلقا، فالآثار مترتبة على الوجود، سواء قلنا بالأولى أم الثانية.

و هناك نظرية اخرى قرّرها بعض أعاظم مشائخ مشايخنا، و هي جعل نفس الذات جعلا مركبا، أي قد وجدت الذات و تجوهرت الجواهر. فالأشياء بما لها من الصفات و الذات تعلق بها الجعل، و استدلّ بآيات كثيرة و بجملة من الروايات.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و غيره من الآيات الشريفة، أن تمام الأشياء بذواتها و وجوداتها و صفاتها، مجعولة و مخلوقة له تبارك و تعالى.

و ما يقال: من عدم إمكان الجعل التركيبي بين الشيء و نفسه، إنما هو في قدرة الممكن و القوى الممكنة، لا القدرة القهّارة التي هي فوق الكلّ. و على هذا فيكون الأمر أوضح كما هو معلوم.

ثم إن العلل و المعلولات كما أنها مترتبة في سلسلة نظام التكوين، فلو تخلل في البين نقصان في بعضها لا تحصل الغاية المطلوبة و الغرض المقصود، فكذلك في نظام التشريع، من غير فرق بينهما من هذه الجهة.

بل التشريع هو الأصل في بناء التكوين إذ لو لا نظام التشريع لم يكن للتكوين أثر، لا في الدنيا و لا في العقبى.

و منه يظهر الوجه

في خطاب اللّه تعالى مع حبيبه محمد صلّى اللّه عليه و آله: «لولاك لما خلقت الأفلاك»، فالعلّة الغائيّة لأصل التكوين و بنائه مطلقا هي التشريع، و قد أثبتت الفلاسفة أن العلّة الغائيّة إنما هي علّة فاعليّة الفاعل، فهي و إن كانت مؤخّرة وجودا لكنها مقدّمة علما، فلا بد و أن يكون نظام التشريع في جميع جهاته أرفع و أجلّ من نظام التكوين، فلا سبيل للوصول إليه إلا بواسطة الرسول، فهو يسدد العقل الكلّي، و أن العقل يستمد منه فلا مناص لأحدهما بدون الآخر في مقام الإطاعة و العصيان في امتثال تكاليف الرحمن، ممّا ضبطته السنّة و القرآن، قال

ص: 227

تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية:

96]، و قال تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ ، فقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، يدلّ أن متابعته صلّى اللّه عليه و آله هو الأصل في تنظيم نظام التشريع الذي يترتب عليه نظام التكوين بما شاء اللّه تعالى.

كما أنهم أثبتوا أنه لا بد من تحقّق العلاقة و الربط بين الجاعل و المجعول، و إن لم نقل باعتبار السنخيّة بينهما، كما في الجاعل المطلق و خالق الخلق، حيث دلّت الأدلّة على عدم السنخيّة بينه و بين خلقه، و أنها بينونة صفة لا بينونة عزلة، و لكن أصل الربط و العلقة ممّا لا بد منه بينه تعالى و بين خلقه، و في القرآن و السنّة المقدّسة شواهد كثيرة تدلّ على هذه العلقة و الربط، و لها مراتب كثيرة جدا، فيصحّ أن يقال:

إن محبّته تعالى سارية في جميع الموجودات من علوياتها و سفلياتها، و لكن هذه المحبّة التكوينيّة يمكن أن تكون غير ملتفت إليها أصلا، فالمحبّة التي وردت في هذه الآية الشريفة هي الاختياريّة منها - كما تقدّم - لأنها ملازمة لمتابعة النبيّ المختار و عليها يدور الثواب، و على تركها العقاب، و يمكن أن يجمع في بعض عباد اللّه تعالى قسمان من المحبّة، فإن لهم المحبّة التكوينيّة و المحبّة الاختياريّة، و يأتي في قوله تعالى:

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [سورة طه، الآية: 39]، تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

في أسباب النزول و الدر المنثور: «عن ابن عباس في قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ، كان الحجاج بن عمرو و كهمس ابن أبي الحقيق و قيس بن زيد - و هؤلاء كانوا من اليهود - يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال: رفاعة بن المنذر و عبد اللّه بن جبير و سعيد بن خيثم لأولئك النفر:

اجتنبوا هؤلاء اليهود، و احذروا لزومهم و مباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم و ملازمتهم، فأنزل اللّه هذه الآية».

ص: 228

أقول: هذا كلّه من باب بيان بعض المصاديق.

و في أسباب النزول و غيره: عن الضحاك عن ابن عباس: «نزلت الآية في عبادة بن الصامت الأنصاري و كان بدريّا نقيبا، و كان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي اللّه، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، و قد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو، فأنزل اللّه لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء».

أقول: تقدّم أن هذا و أمثاله من باب بيان تعدّد المصاديق.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إيمان لمن لا تقية له، و يقول: قال اللّه: إلا أن تتقوا منهم تقاة».

أقول: بعد أن كانت التقية مقتضاة الحكمة الشرعيّة و تطابقت عليها قوانينها، فتارك التقية يكون حينئذ ممّن لا دين له، فالرواية الشريفة إرشاد إلى حكم عقلي.

و في الكافي: عن الصادق عليه السّلام: «التقية ترس اللّه بينه و بين خلقه».

أقول: كما أن الترس «بالضم» يحفظ عن مفسدة هجوم الأعادي، كذلك التقية تحفظ صاحبها عن الآفات و الشرور.

و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم، و قد أحلّ اللّه له».

أقول: هذه الرواية أيضا مطابقة للقواعد العقليّة، و الروايات في ذلك متواترة و كثيرة، و لها شروط و أحكام مفصّلة ذكرناها في كتابنا [مهذب الأحكام].

و في تفسير العياشي و معاني الأخبار و غيرهما: عن الصادق عليه السّلام: «هل الدين إلاّ الحبّ، إن اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: الروايات في أن الدين هو الحبّ كثيرة، و أنها موافقة للقانون العقلي أيضا، إذ من أحبّ شيئا تبعثه نفسه إلى متابعته و تزجره نفسه عن مخالفته.

و في المعاني - أيضا - عن الصادق عليه السّلام قال: «ما أحبّ اللّه من عصاه ثم:

ص: 229

تعصي الإله و أنت تظهر حبّه * هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبّك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحبّ يطيع أقول: ظهر ممّا تقدم وجه هذه الرواية.

و في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من رغب عن سنّتي فليس مني، ثم تلا هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: متابعة سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا تتحقّق إلا بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و ذلك لا يتم إلا بمتابعة العلماء العاملين بسنّته، القائمين مقامه.

و في الدر المنثور - أيضا -: أخرج ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و الحاكم عن عائشة قالت: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، و أدنى ذلك أن يحبّ على شيء من الجور، و يبغض على شيء من العدل، و هل الدين إلا الحبّ في اللّه و البغض في اللّه؟ قال اللّه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا.. إلخ» فيأتي شرحه في قوله تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106]،

و في جملة من الأخبار الواردة: «أن قول الرجل لأخيه: لو لا فلان لهلكت، هذا نحو شرك، فقيل له: يا رسول اللّه كيف نقول؟ قال: قولوا لو لا أن من اللّه عليّ بفلان لهلكت».

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «هل الدين إلا الحبّ و البغض في اللّه» فمعناه أن محبّة ما يحبّه اللّه تعالى و بغض ما يبغضه اللّه تعالى هما الدين، و لا معنى للدين إلا ذلك، سواء لوحظ من الوجه الكلّي أم الوجه الفردي الشخصي.

في الدر المنثور - أيضا -: أخرج أبو أحمد، و أبو داود، و الترمذي و ابن ماجة، و ابن حيان و الحاكم، عن أبي رافع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما

ص: 230

وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه».

أقول: قد صار مفاد هذه الرواية شائعا بين الناس، كلّ ما قيل لهم حكم من أحكام الشريعة يقولون: أين محلّه من كتاب اللّه، مع أن كتاب اللّه تعالى من دون سنّته المتبعة لا ينفع العالم و غيره.

و في أسباب النزول: عن ابن عباس: «أن اليهود لما قالوا: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، أنزل اللّه تعالى هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، فلما نزلت عرضها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على اليهود فأبوا أن يقبلوها».

أقول: لأن منشأ إظهار مودّتهم للمسلمين و تعزيز أنفسهم لهم حيث كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و هذه من مزاعمهم الفاسدة، و أن الآية الشريفة تفنّد جميعها.

و فيه - أيضا -: عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: «نزلت في نصارى نجران، و ذلك أنهم قالوا: إنما نعظّم المسيح و نعبده حبّا للّه و تعظيما له، فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم».

أقول: مرّ أن هذا من باب بيان بعض المصاديق، فلا منافاة بين الجميع.

ص: 231

إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَع.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (35) فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ (41) الآيات الشريفة فاتحة قصص عيسى بن مريم و الاحتجاج على أهل الكتاب، و بدأ فيها بالإخبار عمّن أحبّهم و اصطفاهم و جعل منهم الرسل و الأوصياء، و هم آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران، و أثبت فيها أن الاصطفاء هو اختيار اللّه تعالى من تلك الذرّية الطيبة التي أحبّهم تعالى.

و ذكر فيها بعض ما دار بينه عزّ و جلّ و بين هذه الذرّية الطيبة، و يظهر فيه كمال الخلّة و المحبّة.

ص: 232

و الآيات الشريفة لا تخلو عن الارتباط بما قبلها من الآيات الدالّة على وحدة الدين و الآمرة بحبّ اللّه و اتباعه، فإن بهما يستعدّ المرء أن يكون من أصفيائه و أحبّائه.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً .

الاصطفاء، و الاختيار، و الاجتباء نظائر، و أصل الكلمة من الصفاء، و هو النقاوة من الدنس و الفساد، و الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال، مثل الاختيار، فيكون الاصطفاء هو أخذ الشيء صافيا من كلّ ما يكدّره و يختلط معه. و يختلف باختلاف الجهات التي تكون سببا للصفاء، فقد يكون الاصطفاء من حيث الاختلاف مع الغير و الاندماج معه، فيكون بمعنى الاختيار للرسالة، كما في قوله تعالى في شأن موسى عليه السّلام: إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: 144]، أو يكون الاصطفاء للملك و السلطة، كقوله تعالى في شأن طالوت: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 247]، أو يكون باعتبار الانتساب إلى التوحيد و نبذ الأوثان، قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [سورة فاطر، الآية: 32]، أو يكون الاصطفاء باعتبار صنف على آخر، كما في قوله تعالى: أَصْطَفَى اَلْبَناتِ عَلَى اَلْبَنِينَ [سورة الصافات، الآية: 153]. أو من حيث التخلّص من الشرك و كونه جامعا للكمالات، كما في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ [سورة البقرة، الآية: 132]، أو باعتبار التخلّص من الشركاء في الملك، كما

في المأثور: «إن أعطيتم الخمس و سهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصفي، فأنتم آمنون»، و الصفي: ما كان يأخذه النبي صلّى اللّه عليه و آله و يختاره لنفسه قبل القسمة، و يقال له الصفية.

و قد تكون جهة واحدة في الاصطفاء، و ربما تجتمع أكثر من جهة، كما في

ص: 233

شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130]، فإن اختياره كان بسبب النبوّة و الملك و التقدّم في الإيمان و الدعوة إليه و الإخلاص للّه تعالى.

و في المقام الأنسب هو الاصطفاء للرسالة و الولاية و العبوديّة المحضة، التي هي أساس الكمالات الإنسانيّة، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: عَلَى اَلْعالَمِينَ ، فلو كان الاصطفاء بمعنى الانتخاب منهم، لكان الأنسب أن يقول: (من العالمين)، فهو نوع اختيار لهم و تقديم على العالمين باعتبار أمر خاص فوق مقام النبوة و الصلاح لا يشاركهم غيرهم فيه، و هو العبوديّة و الزعامة و الإمامة على الناس.

و قد ذكر سبحانه و تعالى أربعة ممّن اصطفاهم على العالمين، و هم آدم، و نوح، و آل إبراهيم، و آل عمران، و لم يذكر غيرهم، لا سيما الذي بين آدم و نوح من الأنبياء و الرسل و الأوصياء، كهبة اللّه شيث و إدريس و غيرهم عليهم السّلام، و هذه قرينة اخرى أيضا على أن الاصطفاء فيهم خاص، كما ذكرنا.

و أوّل من ذكره سبحانه هو آدم عليه السّلام، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقارب من خمسة و عشرين موردا، و قد اعتنى به الجليل عزّ و جلّ اعتناء بليغا باعتبار كونه أبا للبشر، و أوّل الخليقة، و أوّل خليفته في الأرض، قال تعالى:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة، الآية:

30]، و هو أول نبي من أنبياء اللّه تعالى، و أوّل من شرّع له الدين، و أوّل من اجتباه و تاب عليه، قال تعالى في شأنه: ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [سورة طه، الآية: 122]، و هو الذي خلقه اللّه تعالى بيده و أمر الملائكة أن يسجدوا له، و كان من ذرّيته النبيون و المرسلون و غير ذلك من المناقب التي لم يشاركه فيها غيره، و كفى بذلك منقبة، فهو مرآة الكمالات المعنويّة الإنسانيّة المتمثّلة في شخص خليل الرحمن و حبيب اللّه و آدم أبيهما.

و كم أب قد علا بابن له شرف *** كما علا برسول اللّه عدنان

و أما نوح: الأب الثاني للبشر، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من

ص: 234

أربعين موردا، و هو أحد الأنبياء الخمسة و أولي العزم، بل أوّلهم، و صاحب الكتاب و الشريعة، و هو شيخ المرسلين، و ممّن سلّم عليه ربّ العالمين، قال تعالى: وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْباقِينَ * وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [سورة الصافات، الآية: 77-79].

و نوح: اسم أعجمي إلا أنه ينصرف، لأنه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط.

و قيل: إنه مشتق من ناح ينوح، أي صاح، لأنه كان يصيح في قومه و يدعوهم إلى الإيمان، قال تعالى على لسانه: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً [سورة نوح، الآية: 5-6].

قوله تعالى: وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

الآل و الأهل سواء، إلا أن الأول يستعمل في خاصة الإنسان و الملحقين به، و من يؤول إليه أمره، و يختصّ بالأشراف من أعلام الناطقين دون النكرات و الأزمنة و الأمكنة، بخلاف الأهل، فيقال أهل الخياط، و أهل زمن كذا، و أهل بلد كذا، و قد تقدم الكلام فيه.

و كيف كان، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران هم خاصتهما و الملحقون بهما، فيختصّ ببعض الذرّية الطيبة الطاهرة لا جميعها.

أما آل إبراهيم فهم الطاهرون من آله، الطيبون من ذرّيته، لأن إبراهيم عليه السّلام أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله الخاص، كإسماعيل و إسحاق و يعقوب، و سائر الأنبياء من بني إسحاق، و سيدهم و أعلاهم قدرا و أنبّههم ذكرا محمد خاتم النبيّين، الذي هو المصطفى بالقول المطلق و مظهر لكمال الحقّ و آله الطاهرون الذين يؤول أمرهم إليه صلّى اللّه عليه و آله في الجهات التشريعيّة و الكمالات الإنسانيّة، و مكارم الأخلاق، و الملحقون به في الولاية، و يشهد لذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 68]، فإنه ظاهر في أن المناط في مفهوم الآل هو المتابعة في الاعتقاد و العمل، و بهذا الاعتبار يشمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته

ص: 235

الطاهرين و الذين آمنوا به.

و يمكن الاستيناس له أيضا بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، فإن محبّة اللّه تعالى لمتابع النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله تكون من مقتضيات الاصطفاء له أيضا،

و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة إبراهيم، الآية: 40]، «أنا دعوة أبي إبراهيم».

و الآية المباركة ليست في مقام تعداد المصطفين واحدا بعد واحد و الحصر فيهم، فلا يضرّ عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم و موسى و غيرهما عليهم السّلام، الذين ورد ذكرهم في غير موضع من القرآن الكريم، الدال على سمو قدرهم و علو شأنهم، و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية اخرى اصطفاء إبراهيم عليه السّلام قال تعالى:

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].

و أما موسى بن عمران و غيره عليهم السّلام، فقد ورد ذكرهم في آيات اخرى قال تعالى: يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: 144]، و قال تعالى: اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة الحج، الآية: 75].

و قد شرح سبحانه و تعالى هذه الآية في موضع آخر بما يرفع إجمالها، فقال سبحانه عزّ شأنه في سياق كلامه في شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ * وَ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ * وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام، الآية: 84-87].

مع أنه لو كانت الفروع و الأغصان من المصطفين، فأصل الشجرة تكون كذلك بالأولى.

ص: 236

و من مجموع الآيات الشريفة يستفاد أنه ليس جميع ذرّية إبراهيم عليه السّلام هم من المصطفين، و لا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك، و إن كان اللّه عزّ و جلّ فضّلهم على العالمين، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة الجاثية، الآية: 16]، فإن تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم من جهات اخرى.

و أما آل عمران فهم من آل إبراهيم أيضا، و الظاهر أن المراد بهم هم ذرّية عمران أبي مريم أم عيسى، الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه السّلام أيضا من ناحية امه.

و يدلّ على ذلك..

أولا: اقتضاء المقام التصريح به، لأن هذه الآيات و ما بعدها نزلت في مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب، اليهود و النصارى.

و ثانيا: خفاء الإشارة إلى عيسى بعموم آل إبراهيم.

و ثالثا: عدم ورود ذكر عمران أبي موسى في القرآن الكريم مع تكرار ذكر عمران أبي مريم.

و رابعا: تعقيب هذه الآية الشريفة بالآيات الذي يذكر فيها قصة امرأة عمران و مريم ابنته، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ، فإنه قرينة على المراد من هاتين الآيتين، فهما كالمقدّمة لبيان حال مريم ابنة عمران و ابنها عيسى، فيكون آل عمران هم عمران و زوجته و مريم و عيسى.

و أما موسى بن عمران، فهو داخل في عموم آل إبراهيم و لا خفاء فيه، كما هو موجود بالنسبة إلى دخول عيسى عليه السّلام، كما عرفت.

ثم إن الحصر في الآية الشريفة ليس حقيقيا و لا مفهوم لها حتّى تدلّ على نفي الاصطفاء في غيرهم، و قد ورد في القرآن الكريم موارد اصطفاء اللّه تعالى، كما يأتي، مضافا إلى ما ورد في السنّة الشريفة من أن أهل التقوى أهل الاصطفاء.

نعم، للاصطفاء مراتب كثيرة تبعا لاختلاف سبب التفاضل، قال تعالى:

ص: 237

وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [سورة الإسراء، الآية: 55].

قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ .

الذرّية من الألفاظ الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و أصلها من الذر بمعنى النشر و الانتشار، و استعملت في مطلق الأولاد و النسل لانتشارهم من مصدر واحد، و يطلق على الواحد و الكثير، و قد يأتي الذراري في الجمع، و تقدّم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 124]، بعض الكلام.

و الجملة عطف بيان، و نصب «ذرّية» على الحال.

و معنى (بعضها من بعض)، أن هذه الذرّية مضافا إلى أنها متداخلة متشعّبة بعضها من بعض، فكلّ بعض يفرض فهو مبتدئ لبعض آخر و منتهى بعض آخر، هي متشابهة الأطراف في الصفات و الخيرات و الحالات.

و الآية الشريفة تدلّ على أن هذه الذرّية متّفقة في الصفات التي اقتضت اصطفاءها على العالمين، فلم يكن جزافا و لا عبثا، فالجملة في موضع التعليل لتعميم الاصطفاء، أي: لأنهم متّفقون في الصفات و متشابهو الأفراد اصطفاهم اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه سميع لأقول الذين اصطفاهم، و سميع لدعاء الداعين و رجاء الراجين، مستجيب لهم، عليم بمواقع اللطف و ضمائر الناس و ما في قلوبهم.

و الجملة في موضع التعليل لجهة الاصطفاء، أي: أنه تعالى سميع يسمع الأقوال و يستجيب الدعاء، و يعلم ما في القلوب و الضمائر، فهو أعلم حيث يجعل رسالته و يصطفي من عباده.

و يمكن أن يكون ذكر (عليم) للإشارة إلى أن الاصطفاء من القضايا العقليّة التي يكون دليلها معها، أي: حيث إنهم كانوا واجدين لشرائط الاصطفاء و فاقدين لموانعه، اصطفاهم اللّه تعالى، و لا يعلم وجدان الشرائط و فقدان الموانع إلا العليم

ص: 238

بالضمائر و ما في القلوب.

و الآية الشريفة على إجمالها لا تبيّن سبب الاصطفاء، و لكن يمكن استفادة ذلك من آيات اخرى، فإن أسبابه كثيرة، بعضها اختياريّة و بعضها الآخر غير اختياريّة، و أهمّ تلك الأسباب كمال الإيمان باللّه تعالى، الذي هو جذبة معنوية غيبيّة، يجذب به اللّه تعالى عباده إلى الكمال المطلق، و آخر مقامات الجذبة الإلهيّة هو الاصطفاء، و من العجيب أن كلّ اصطفاء تحقّق في فرد وقع ضده في فرد آخر الذي هو مظهر الفساد و الشر، كآدم و إبليس، و إبراهيم و نمرود، و موسى و فرعون إلى غير ذلك، و بهذا التزاحم و التنافر يتحقّق الاختيار.

و من أسباب الاصطفاء أيضا المجاهدات في سبيل تكميل النفوس الإنسانيّة و التخلّق بأخلاق اللّه تعالى و التحلّي بالإنسانيّة الكاملة، حتّى يصل إلى مقام الاصطفاء، فهو آخر مقامات الإنسانيّة الكاملة.

و من أسبابه الصدق و الخلوص في العبوديّة و الإخلاص للّه تعالى و نهاية الانقطاع إليه، بحيث يصير الإنسان كالمرآة الأتم لجلال اللّه و جماله، و غاية الصبر في الدعوة إليه عزّ و جلّ بما يتحمّله من المصائب و المتاعب في سبيل تلك الدعوة، فيكون الاصطفاء مقارنا للابتلاء و الصبر.

و من الأسباب الدخول في مرتبة حبّ اللّه تعالى له بالعمل بما أنزله عزّ و جلّ و الصبر في جنبه و الإحسان إليه و التّقوى و الجهاد في سبيله و غير ذلك، فإن اصطفاء اللّه تعالى فرع محبّته عزّ و جلّ.

و من آثار الاصطفاء هو تشريع الشريعة على يديه و تأسيس الدين الإلهي و اقتداء سائر الأنبياء به، كما في إبراهيم عليه السّلام، فإنه مبدأ التشريع و آخره.

و بالجملة: فإن الاصطفاء لبعض العباد يرجع إلى أمر غيبي، لا يعلمه غيره عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا يكون على نحو العليّة التامّة المنحصرة، بل الاتّصاف بالصفات الكاملة الحقيقيّة له دخل في الاصطفاء، فهو مركّب من أمرين اختياري و غيره، و مع فقد كلّ واحد منهما لا منشأ له.

ص: 239

ثم إن الاصطفاء لا يختصّ بالإنسان، بل قد يقع بالنسبة إلى غيره أيضا، و إن كنا لا نعلم ذلك. و يشهد لذلك بعض الأحاديث بأن العقل هو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى، حيث

قال: «بك أثيب و بك أعاقب»، فهو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى و آخره في قوسي الصعود و النزول، فيكون المصطفى (بالفتح) حقيقة واحدة لها مراتب متفاوتة.

نعم، بناء على ما نسب إلى بعض أعاظم الفلاسفة المتألّهين و بعض أكابر العرفاء الشامخين من وحدة الوجود و الموجود، فالمصطفي (بالكسر) و المصطفى (بالفتح) واحد لكنهما مختلفان بالاعتبار، و لهم في ذلك كلمات نظما و نثرا، و التفصيل يطلب من محلّه.

و كيف كان، فالاصطفاء منشأ الخيرات و البركات في هذا العالم، و يكون شأن من اصطفاه اللّه تعالى في هذه الدنيا شأن ربان السفينة في البحر المتلاطم المحفوف بالمخاطر، و الناس في هذه السفينة حيارى قد أدهشهم الخوف، فلا بد لهذا الربان من علم إلهي بكيفية السير و السلوك، كما هو معلوم في السفر من الخلق إلى الحقّ.

قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً .

بيان لأحد أسباب الاصطفاء و تقرير لكيفيّته. و النذر هو إيجاب شيء على النفس و الالتزام به، و الإنذار الإخبار بالتخويف، و يمكن فرض الجامع بينهما و هو إعلان التخويف على المخالفة، سواء كان المنشأ حاصلا من نفس الإنسان على نفسه أم من اللّه تعالى ابتداء.

و محرّرا من التحرير، و هو الخلوص و التخلّص عن الوثائق، كتحرير العبد، أي خلوصه عن الرقيّة، و تحرير الكتاب هو تخليصه عن الفساد و الاضطراب، أو إطلاق المعاني عن قيد الذهن و الفكر، و يقال لكلّ ما خلص أنه حر:

تمسّك إن ظفرت بودّ حر *** فإن الحرّ في الدنيا قليل

ص: 240

و تحرير الولد للّه تعالى أو للأمكنة المقدّسة، أو النفوس المحترمة، هو التفرّغ للعبادة و العمل للآخرة، قد كان متعارفا في الأمم القديمة، و كانوا يعتبرون ذلك وسيلة لحفظ الولد عن الضياع و التربية الحسنة و عبادة اللّه الواحد القهّار، فلا يتزوج و لا يعمل للدنيا.

و معنى التحرير في تلك الأزمنة كان هو تحرير الولد من قبل الأبوين، أي:

تحريره عن التبعيّة لهما و الولاية عليه، فليس لهما بعد التحرير السلطنة على الولد في استخدامه لاغراضهما، بل هو داخل بالنذر تحت ولاية اللّه تعالى، فلا بد من صرف خدمته في سبيله عزّ و جلّ، إما في التفريغ لعبادته تعالى أو خدمة الأماكن المقدّسة و النفوس المحترمة، و هذا العمل كان جائزا في الشرائع الإلهيّة السابقة، و يعتبرون ذلك من نذر الأبرار.

و اللام في «لك» للتعليل، أي لعبادتك و خدمتك، و يدلّ قوله تعالى: ما فِي بَطْنِي ، على أنها كانت حاملا حين ما قالت هذا القول، و كان الحمل من عمران، كما تدلّ الآية على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكرا لا أنثى، فإن كلامها على نحو البت و الجزم، لا نحو التعليق.

و تذكير (محرّرا) لا يدلّ على كونها نذرت ما في بطنها كائنا من كان - ذكرا أو أنثى - و إلا لما كان وجه لتحسّرها و حزنها كما حكى عنها عزّ و جلّ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، و لما كان معنى لقوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى .

و حكاية اللّه تعالى هذه المناجاة عنها تدلّ على أنها لم تكن من غير فكر و جزافا، أو كان لأجل الظن الحاصل عن العادة المتّبعة في تلك الأعصار، بل أنها تدلّ على أنها تنتهي إما إلى إلهام من اللّه تعالى إليها، أو غاية العبوديّة و الإخلاص منها للّه تعالى و نهاية الانقطاع له عزّ و جلّ، و على كلّ منهما، فهي تدلّ على كون هذه المرأة كاملة و أنها من الأبرار الصالحات، و في ذلك سرّ إلهي يدلّ على تحقّق العبوديّة للّه تعالى في جدّة عيسى و امه و نفسه، فتفخر الجدّة بأنها نذرت ما في

ص: 241

بطنها محرّرا لخدمة البيت الشريف، و تفتخر مريم بذلك، و عيسى عليه السّلام لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بالانقطاع إلى اللّه عزّ و جلّ و العبوديّة له، قال تعالى حكاية عنه:

قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-31]، و من كان كذلك نفسا و اما و جدّة، لا يصحّ توهّم الغلو فيه، و لعلّ ذكر كلمة (البطن) في الآية الشريفة و الفرج في قوله تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [سورة التحريم، الآية: 12]، و أكل الطعام في قوله تعالى:

كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: 75]، للدلالة على أن التلبّس بهذه الأمور لا يليق بمرتبة روح القدس، فضلا عن مقام الملك القدوس، إلا بناء على الحلول و وحدة الوجود و الموجود، و هما باطلان بالأدلّة العقليّة و النقليّة، و سيأتي التفصيل في مستقبل الكلام.

و كيف كان، فاستناد هذا النذر إلى الهام إلهي لا يدلّ على أنها ألهمت بكون ما في بطنها ذكر أيضا.

نعم، لو أريد بالذكوريّة الأعمّ من المنذور و ابنها فله وجه، و يشهد لذلك قولها: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ حيث أثبتت لها ذرية.

و لم يذكر سبحانه اسم هذه المرأة الصالحة تعظيما لها و عناية بشأنها، كما أنها لم يذكر اسمها في الكتب المقدّسة و تكلّف النصارى في كتبهم في إثبات نسب مريم و أبيها، إلا أنه ورد في بعض الروايات أن اسمها كانت حنة بنت قاقوذ بن قنبل الإسرائيلي، و كانت له بنتان أحدهما هي و قد تزوّجها عمران، و هو إسرائيلي أيضا و أولدها مريم، و اسم الثانية ايشاع و تزوّجها زكريا و ولدت منه يحيى، فيحيى بن زكريا و مريم ام عيسى هما ابنا خالة.

و مات عمران و حنة حامل منه فنذرت حملها لخدمة البيت المقدّس، كما عرفت.

ص: 242

قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي .

التقبّل هو أخذ الشيء على وجه الرضا، و يمكن فرض الجامع القريب بينه و بين القبول و هو أصل الرضا، و لكن هيئة التقبّل تدلّ على عناية خاصة فيها، و هي لا توجد في القبول، و تشهد الآيات اللاحقة لهذه العناية، و للمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم، و قد اشتهر في علم اللغة: «أن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و هي قاعدة متّبعة خصوصا في لغة العرب التي بنيت على الدقة و الفصاحة و البلاغة. و لكن يمكن أن يرجع ذلك إلى تعدّد الدال و المدلول.

و القبول الحسن هو السرّ المطوي في التقبّل، و قد ورد التقبّل في القرآن الكريم في عدّة موارد تبلغ العشرة. و في جميعها يدلّ على أن في المورد سرّا خاصا إما في الحال، أو العمل، أو الانقطاع إلى اللّه تعالى اقتضى ذكر التقبّل و وقوع الاستجابة مطابقة له.

و المفعول من قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي و إن كان محذوفا، إلا أنه معلوم إما هو النذر، أي تقبّل نذري هذا، لأنه عمل صالح أرادت منه التقرّب إلى اللّه تعالى، أو هو الولد المحرّر، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ .

ثناء منها عليه تعالى، لجعل الدعاء و المناجاة أقرب إلى القبول و رجاء الإجابة و التفضّل، أي: أنك أنت السميع للدعاء، العليم بنيّتي و صحتها و إخلاصها.

و التأكيد في هذه الجملة للدلالة على انقطاع رجائها عن غيره تعالى، و أنها على يقين في استجابة دعائها، و فيه نهاية التضرّع و الابتهال إليها عزّ و جلّ. و تقديم السميع على العليم لأجل أن المقام مقام استدعاء الإجابة و القبول.

قوله تعالى: فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى .

الضمير في قوله: فَلَمّا وَضَعَتْها راجع إلى ما في بطنها، و فيه إيجاز لطيف، و إنما أنّث الضمير باعتبار علم المتكلّم بأن المرجع مؤنّث و أن المولود أنثى.

و جملة: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خبريّة، يراد بها التحسّر و التحزّن

ص: 243

ممّا داهمها من خيبة الرجاء، فليس الغرض هو الإخبار فقط.

و إنما أنّث الضمير في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها ، باعتبار الواقع الخارجي، و فيه من الخيبة و انقطاع الأمل و المسارعة إلى إظهار التحسّر ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ .

الجملة معترضة مقولة له عزّ و جلّ: و (ما) ترجع إلى المولود الذي جهلت الام السرّ الإلهي فيه، و المراد من الجملة تعظيم شأن المولود، أي: أن اللّه تعالى هو الذي خلقها و صوّرها، و هو أعلم بها بما تحمل من الأسرار و عظائم الأمور، التي ربما لا تكون تلك ممكنة في المولود الذكر التي كانت ترجوه، و الام غافلة عن جميع ذلك، فلو كانت عالمة بذلك لما أظهرت التحزّن و التحسّر في وضعها أنثى.

و قيل: إن الجملة مقولة قولها، و إنما قالتها اعتذارا إلى اللّه تعالى ممّا كانت ترجوه في المولود الذي لا يصلح لذلك الغرض.

و لكن الاحتمال الأوّل أولى، و قد وردت فيه رواية أيضا.

قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى .

جملة معترضة اخرى، لبيان ما اشتملت الجملة السابقة على علمه بالمولود.

و اللام في الذكر و الأنثى للعهد، أي ذلك الذكر الذي كانت امرأة عمران ترجوه و تتمنّاه، لأن يكون خادم البيت الشريف و رسولا، ليس مثل الأنثى التي وضعتها التي لا تقدر أن تقوم بما وقع النذر المحرّر لأجله، فالجملة من قول اللّه تعالى أيضا، أي: ليس الذكر الذي كانت تتمنّاه مثل الأنثى التي فيها سرّ إلهي يظهر بعد ذلك، فإنها خير من الذكر.

و قيل: إن الجملة مقوله قولها.

و لكن يردّ عليه: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الأنسب أن تقول: «و ليس الأنثى كالذكر»، كما هو واضح.

قوله تعالى: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ .

عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، و ما بين الجملتين اعتراضية كما عرفت

ص: 244

آنفا، من ذلك يستفاد شدّة الانس و المحبّة بين اللّه تعالى و بين هذه المرأة الصالحة.

و كمال الخلّة بينهما.

و مريم علم امرأة سريانيّة معناها خادمة الرب أو المرتفعة بالعبادة، و من مبادرتها بالتسمية يستفاد يأسها من كون الولد ذكرا تتحقّق فيه رغبتها، و إنما رضيت بكون الأنثى هي المنذورة المحرّرة و حولت النذر إليها، و أعدّتها للعبادة بالتسمية، و يدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

قوله تعالى: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ .

دعاء منها لحفظها و ذريتها دائما من جميع المساوئ و المكاره، و الحاصلة من دسائس الشيطان الرجيم. و قد استجاب اللّه دعاءها، فكانت صدّيقة عابدة صالحة و ذرّيتها أيضا من الصدّيقين الصالحين، فتطابق الاسم و المسمّى فيها، لأن مريم في لغتهم العابدة الخادمة، كما عرفت.

و يستفاد من قولها: (و ذريتها) من دون شرط و قيد أنها كانت تعلم بأنها سترزق ولدا ذكرا من عمران، فلما لم يتحقّق في حملها، توقّعت أن يكون من ذرّيّتها، و هي منحصرة في فرد واحد، و هو عيسى ابن مريم.

قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

التقبّل هو الرضا بشيء مع عناية خاصة به كما تقدّم آنفا. و مادة (حسن) من الألفاظ التي يكون لفظها و معناها مطلوبين مطلقا، أعمّ من أن يكون الحسن اعتقاديا، كما في قوله تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سورة فاطر، الآية: 8]، و واقعيّا حقيقيّا، كما في قوله تعالى: وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ [سورة التوبة، الآية: 52]، نظير الخير و الصلح و الجمال و نحو ذلك.

و القبول الحسن هو القبول كما سألته أمها و زيادة عليه، و إنما أكّد سبحانه

ص: 245

التقبّل الدال على القبول على الرضا بالقبول الحسن، للدلالة على اصطفاء مريم، لأنها هي التي وقعت مورد الرضا محرّرة للعبادة و التسليم للّه تعالى و خدمة البيت، مع صغرها و أنوثتها، و هذا هو الاصطفاء الذي تقدّم معناه، و لأجل ذلك دخلت في جملة المصطفين الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة.

و ممّا ذكرنا يظهر أن هذه الجملة وقعت استجابة لقولها: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، أي مع كونها أنثى و جعلتها محرّرة فتقبّلها ربّها بقبول حسن، و لم تكن هذه الجملة واردة لقبول تقرّب امرأة عمران بالنذر و إعطاء الثواب الاخروي، لما عرفت من أن القبول نسب إلى مريم المنذورة المحرّرة، و إن كانت تدلّ على قبول تقرّب امرأة عمران بالتبع و الملازمة.

و إنما خصّ سبحانه الربّ بالذكر، للدلالة على رعايتها آنا بعد آن، و العطف عليها في كلّ حال و تربيته تعالى لها.

قوله تعالى: وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً .

الإنبات هو التربية بما يصلح الحال و حسن النشأة، و تعهّدها حالا بعد حال، كما يتعهّد الزارع الزرع بالسقي و نموه.

و المراد من الآية الشريفة هو حسن نشأتها و تربيتها في صلاحها و كمالها، و تطهيرها من الرذائل الخلقيّة و الخلقيّة، و الإطلاق يشمل التربية الجسديّة و الروحيّة كلتيهما، لها و لذريّتها.

و الجملتان متكاملتان، إحديها تبيّن اصطفاءها، و الثانية تبيّن طهارتها و زكاتها و حسن تربيتها بما تصلح أن تكون اما لكلمة اللّه المسيح المرفوع إلى السماء، و تقدر على أن تؤدّي الأمانة التي وقعت على كاهلها، و تهيئتها لتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقها، و قبول السرّ الإلهي، فأصبحت مريم العذراء الصدّيقة الطاهرة المطهّرة المصطفاة على نساء العالمين، و بذلك استعدّت أن تتلقّى الخطاب الملكوتي: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ .

ص: 246

قوله تعالى: وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا .

مادة كفل تأتي بمعنى الضمان و التعهّد، و غلب استعمالها في ضمان الإنسان لمثله، و الكفيل من أسماء اللّه تعالى، لأنه عزّ و جلّ مدير ما سواه و رازقه و مدبّره.

و زكريا هذا من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود، و هو الذي طلب من اللّه تعالى أن يرزقه ولدا و هو شيخ كبير و كانت امرأته عاقرا كما يحكي عزّ و جلّ عنه في الآيات اللاحقة. و إن كان يظهر من التواريخ أن المسمّى بزكريا متعدّد.

و اللفظ ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و المعنى: و صار زكريا كفيلها و قائما بشؤونها، و الكفالة هذه إما أن كانت بحسب التقدير، أو بحسب القرعة التي أصابتها باسمه بعد أن كانت كفالتها مورد الاختصام ممّن هو قائم بشؤون البيت الشريف. كما حكى عنهم عزّ و جلّ في قوله:

وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 44].

و يمكن الجمع بين الاحتمالين بأن المقدّر هو أن يكون الكفيل زكريا، و لكن اللّه تعالى هيّأ له ذلك عن طريق القرعة.

و كيف كان، فهو كفيل صالح أمين رؤوف، فأكرم به من كفيل، و الظاهر أن كفالتها إنما كانت من أوّل أمرها فوقع الإنبات الحسن بمباشرة زكريا و تسبيب من اللّه عزّ و جلّ.

قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ .

المحراب هو المكان العالي، و سمّي محراب المسجد محرابا لأجل علوه و شرفه بالنسبة إلى غيره من جهة قيام الإمام فيه.

و قيل: إن المراد بالمحراب هو المسمّى عند أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة، يكون من فيه محجوبا عمّن في المعبد، و منها المقصورات التي أحدثها بعض الخلفاء لنفسه في الإسلام.

ص: 247

و قيل: إن المسجد حيث كانت مساجدهم تسمّى بالمحاريب.

و كيف كان، فالجملة بيان لقبول زكريا لها بالكفالة و عنايته لها، و لهذا لم تعطف.

و إنما قدّم الظرف عَلَيْها على الفاعل زَكَرِيّا لإظهار كمال العناية و الاهتمام بأمرها.

قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً .

أي: أصاب في حضرتها رزقا و ألوانا من الطعام، و التنكير للإعظام من كلّ جهة، و فيه الإيماء إلى كونه رزقا غير معهود، و لعلّ ما ورد في الرواية - أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف - مستفاد من نفس هذه الآية الشريفة، و يمكن أن يستشهد على ذلك من سؤال زكريا ب (أنى) الدالّة على التعجّب، و جواب مريم له بأنه من عند اللّه تعالى، فإنه يكشف عن أنه ليس برزق عادي هيئ في وقت خاص. كما أنه يدلّ على ذلك دعاء زكريا ربّه أن يهب له ذرّية طيبة بعد أن عرف أن هذا الرزق كرامة من اللّه سبحانه و تعالى لمريم الصدّيقة الطاهرة.

و يمكن أن يكون هذا الرزق من اللّه تعالى هو الذي أعدّه إعدادا حسنا لحمل عيسى عليه السّلام، فقد تحقّق في مريم حالتا المنعقديّة و الانعقاديّة، فصارت أهلا لأن يتمثّل روح الأمين لها، فتأثّرت بما هو ألطف من نسيم السحر و من ضياء الشمس و نور القمر، لتلد مريم العذراء رجلا هو كلمة اللّه، يرفع إلى السماء و يبشّر الناس بمقدم خاتم الأنبياء.

قوله تعالى: قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا .

جملة استئنافيّة بيانيّة، و (أنى) كلمة استفهام بمعنى أين تدلّ على السؤال عن الوضع و الجهات، و فيها معنى التعجّب.

أي: من أين لك هذا الرزق. و السؤال إنما كان لعظمة هذا الرزق - كما عرفت - مع أنها امرأة عاجزة عن تحصيله في هذا الموضع المعيّن و هذه الحال.

ص: 248

قوله تعالى: قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

جملة مستأنفة كالسابقة، أي: أن الرزق الذي أوجب دهشة هذا النبيّ الكريم هو نازل من عند اللّه تعالى. و الإطلاق يشمل جمع الأنواع و الأصناف، فكان هذا الرزق خارقا للعادة من حيث الكم و الكيف و سائر الجهات، فسيطر ما عند اللّه على الطبع و الطبيعة و المادة، فكان ذلك كرامة لها. و قد قنع زكريا بهذا الجواب و لم يسألها عن شيء آخر.

و من ذلك يعرف الخدشة في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أن الإضافة إلى اللّه تعالى إنما هي عادة جرت من العرف بإضافة الرزق إليه تعالى، و ليس في هذه دلالة على أنه من خوارق العادات، و بالاخرة فليس ذلك كرامة لها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

تتمّة مقالة مريم، أي: أن اللّه تعالى يقدر على رزق من يشاء من عباده بغير تقدير بحدّ.

و من هذه الكلمة يستفاد أمران:

الأول: عظمة هذا الرزق، حيث عبّر عنه بغير حساب.

الثاني: عظمة انقطاع القائل إلى اللّه تعالى، حيث ظهر لها هذا التجلّي العظيم الإلهي.

قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ .

جملة مستأنفة ترتبط بما قبلها لتثبيت ما ذكر فيها، و تقرير ما سيقت لأجله.

و (هنا لك) نظير هناك من أسماء الإشارة، إلا أن اللام في الأوّل للبعد و الكاف للخطاب، أي في ذلك المكان، و المعروف بين الأدباء أن الموضوع له في أسماء الإشارة خاص، و أنها من المبنيّات لتقوّمها بالغير، فأشبهت الحروف من هذه الجهة و انسلخت عن الإعراب فصارت مبنيّة.

و لكن الدعوى الأولى باطلة لما أثبتناه في علم الأصول - من أن الوضع منحصر في قسمين، الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كما في الأعلام. و الوضع

ص: 249

العام و الموضوع له العام، كما في البقية مطلقا، و لا معنى للوضع الخاص و الموضوع له الخاص، أو الوضع الخاص و الموضوع له العام، كما لا وقوع للوضع العام و الموضوع له الخاص، راجع [تهذيب الأصول] و يظهر من ابن مالك أيضا، قال في الالفية:

بذ المفرد مذكر اشر ***

حيث جعل الموضوع له عامّا و جعل الخصوصيّة في ناحية الإشارة لا الموضوع له.

و أما الدعوى الثانية فتصويرها حسن، و لكن الحقّ أن تمييز الألفاظ بالإعراب و البناء إما أن يكون من لوازم الألفاظ، أو من لوازم الماهيّة، فإن جميع الجواهر و الأعراض متميّزات بعضها عن البعض، فلا بد أن تكون الألفاظ - التي هي من أعظم ما أنعم اللّه تعالى به على خلقه، هكذا أيضا.

و إذا دار الأمر بين التعليل بالذاتي أو التعليل بالعرضي، فالأول أولى بلا ريب، و ربما يكون مرادهم ممّا ذكروه ذلك أيضا، و إن قصرت عباراتهم عن ذلك، و على هذا فيسقط قول بعض النحاة.

الاسم منه معرب و مبني *** لشبه من الحروف مدني

كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا و المعنوي في متى و في هنا

هذا خلاصة ما يحقّ أن يقال في بناء الأسماء و إعرابها، كما أفاده بعض محقّقي مشايخنا (أعلى اللّه درجاتهم) في أثناء بحثه في مباحث الألفاظ من علم الأصول و قد بسط القول في ذلك.

و كيف كان، فإن زكريا بعد ما رأى الكرامة التي جرت لمريم عليها السّلام أقبل على الدعاء من غير تأخير، و يستفاد ذلك من تقديم الظرف، أي حين ما رأى زكريا أن رزق مريم خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة طمع في الدعاء و حمل نفسه على أن يسأل ربه ما هو خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة أيضا، و هو حمل العاقر من الشيخ الكبير مع علم زكريا بأن اللّه تعالى لا يجري الأمور إلا بأسبابها

ص: 250

الطبيعيّة، و لكن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه يعترفون بأنه لا بد أن يكون في الممكنات امور خارقة للعادة و لنظام الطبيعة التي تكشف عن القدرة القهّارة، فسأل ربه من تلك القدرة، فوقع السؤال موقع الإجابة بحسب تلك القدرة الجبّارة لتسخير نواميس الطبيعة.

مع أننا ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن المعجزة لا تخرج عن نواميس الطبيعة و إن خفيت الأسباب عن الحواس الظاهرة.

و ممّا زاد في همّته قول مريم عليها السّلام له: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ . و الطمع في الدعاء و طلب النعمة إذا شوهدت من اللّه تعالى على شخص يكون على أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن يطلب النعمة لنفسه مع حبّ سلبها عن غيره.

الثاني: أن يطلب مثلها لنفسه أيضا، فإن مواهب اللّه تفيض و خزائنه لا تغيض، و يسمّى بالغبطة.

الثالث: أن يستسر بحصول النعمة له.

و الأوّل حسد مذموم، و الأخيران لا بأس بهما، بل هما ممدوحان. و سؤال زكريا من أحد الأخيرين.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً .

بيان لكيفية الدعاء. و الهبة بمعنى العطية، و هي التمليك بلا عوض، و الذرّية هي النسل، تأتي واحدة و جمعا، ذكرا و أنثى، و إنما أنّثت (طيبة) لتأنيث لفظ الذرّية.

و الطيب ما يستطاب فعله و خلقه بالذات، أو بما يلائم صاحبه بما قرّره العقل و الشرع، و يقابله الخبيث، و يقال: عيش طيب، أي ما تسكن النفس إليه و يكون ملائما لها، كما يقال: ماء طيب، أي: عذب، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، أي ما يكون البلد موافقا لنفس أهل البلد من جميع الجهات.

و الذرّية الطيبة هي التي تسكن إليها النفس و يستطاب أفعالها و صفاتها،

ص: 251

فتكون صالحة مباركة، كما في مريم لما لها من الكرامة و الصفات الحسنة و الشخصية الكاملة.

و قد استعمل الداعي أدب الدعاء و ما يوجب ترغيب المدعو إلى الإجابة، كما في قوله: إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ ، و قوله في موضع آخر: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي [سورة مريم، الآية: 4]، و قوله في موضع ثالث: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 89].

و قدّم اسم الربّ لأنه أقرب إلى الإجابة، و أدّى الطلب بالهبة، لأنها إحسان محض لا يكون في مقابله شيء، فيناسب المقام، حيث اعتبر نفسه عاجزا عن تحقيق رغبته إلا بعناية منه عزّ و جلّ.

و قد استجاب اللّه تعالى دعاءه و وهب له يحيى الذي لم يجعل له من قبل سميّا، و قد جمع اللّه فيه ما في مريم و عيسى عليهما السّلام من الصفات و الكمال و الكرامة، فكان أشبه الناس بعيسى عليه السّلام.

قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ .

لفظ سميع يأتي بمعنى القبول و الاجابة، كما في قول: «سمع اللّه لمن حمده»، أي يقبل حمد من حمده و يثيب عليه، و ذكر السمع و إرادة القبول و الإجابة شائع في المخاطبات العرفيّة، يقال: فلان سمع حاجتي فقضاها،

و في الحديث: «أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر»، أي أوفق لاستماع الدعاء فيه و أولى بالاستجابة.

و السميع من أسمائه تعالى، و هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفي، فهو يسمع بغير جارحة.

و المعنى: أنك كثير الإجابة لدعاء الداعين، و الجملة في موضع التعليل.

قوله تعالى: فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ .

العطف بالفاء يدلّ على سرعة الإجابة، و أن جميع ذلك دعاء واحد متعقّب بالتبشير، و المنادي هو جنس الملائكة تمييزا عن نداء البشر، و إن كان المنادي واحدا، و هو أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو ظهور شخص الملائكة

ص: 252

و التكلّم مباشرة مع المخاطب، و إن كان الظاهر هو الثاني، و الضمائر كلّها ترجع إلى زكريا، و المراد بالصلاة هي الأقوال و الأفعال المعهودة بين كلّ ملّة.

قوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى .

البشارة و التبشير هو الإخبار بما يفرح الإنسان. و يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و قيل: إنه عربي منقول من الفعل، فيكون المنع من الصرف هو العلميّة و وزن الفعل، و قيل وجوه في تسميته بهذه الاسم:

فعن بعض أنه لما علم اللّه تعالى أنه يستشهد، و الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون فسمّي به، و عن بعض آخر أنه يحيا بالعلم و الحكمة، أو يحيى به الناس بالهداية، و قال القرطبي: إنه كان اسمه حيّا في الكتاب الأوّل، و جميع ذلك يحتاج إلى دليل. و الموجود في الأناجيل المعروفة أنه يوحنا المعمدان.

و يستفاد من الآية المباركة أن التسمية كانت من اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7]، كما يستفاد من مجموع قصتي امرأة عمران، و زكريا أنه لو لم تبادر امرأة عمران بالتسميّة لمولودها لأمكن أن تأتي التسمية من قبل اللّه تعالى، و لعلّ الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى أراد أن ينفي جهات الغلو من مريم الصدّيقة الطاهرة، بأن تكون التسمية من ممكن محتاج لممكن آخر مثله.

و قد وصف اللّه تعالى هذا المولود المبشّر به بأوصاف تدلّ على عظمته و كرامته و جلالة قدره، و من مجموع ذلك يستفاد التشابه الكبير بين هذا المولود و مريم العذراء و ابنها عيسى عليهم السّلام.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ .

هذا هو الوصف الأوّل ليحيى، و الجملة في موضع الحال من يحيى، و المراد بالكلمة هو عيسى بن مريم كما وصفه اللّه تعالى بها، قال عزّ و جلّ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ [سورة آل عمران، الآية: 45]،

ص: 253

و هو إما لأجل أن أنبياء اللّه تعالى - لا سيما أولي العزم منهم - أجلّ كلمات اللّه التامّات، أو لأجل وجوده بكلمة «كن» من دون توسط أب في البين، فهو مشابه للإبداعيات في عالم الأمر، قال تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117].

و التصديق به هو الإيمان به و الدعوة إليه، و هو مدح كبير منه عزّ و جلّ له و تمجيد له بالخضوع و التسليم له عزّ و جلّ، مع أن الإيمان بعيسى من أصعب الأمور في ذلك العصر.

و يستفاد من ذلك أن النبوّات السماويّة تتقوّم بأمرين:

أحدهما: الإخبار عن اللّه تعالى، أي الدعوة إلى التوحيد في العبوديّة و المعبوديّة.

الثاني: إخبار كلّ نبي سابق عن النبي اللاحق، فإنهم كلسان واحد في الدعوة إلى الواحد الأحد، و بدون ذلك لا يجب اتباع النبيّ، ففي المقام أن يحيى يدعو إلى عيسى، و هو يدعو إلى خاتم الأنبياء.

قوله تعالى: وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً .

السيد من السواد، أي ساد يسود، فهو سيد فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت، و هو الشخص المطاع، و السيادة هي تولي الأمور و زعامة الناس، فالسيد هو الذي يسود غيره إما في الزعامة و تولّي أموره، أو في الفضائل المحمودة و الأخلاق الكريمة، فيكون فائقا على غيره،

و في الحديث: «أنا سيد ولد آدم، و لا فخر»، فأخبر صلّى اللّه عليه و آله عمّا أكرمه اللّه تعالى به من الفضل و السؤدد، تحدّثا بنعمة اللّه تعالى عليه، و يطلق على الباري جلّ شأنه، لأنه المتفرّد في جميع الكمالات و تحقّقت له السيادة الحقيقيّة المطلقة،

ففي الحديث: «انه جاءه رجل فقال: أنت سيد قريش؟ فقال: السيد اللّه»؛ و هي من الأمور الاضافية فيما سواه تعالى،

ففي الحديث:

«كلّ بني آدم سيد، فالرجل سيد أهل بيته، و المرأة سيدة أهل بيتها»، و كذا سيد القوم و سيد العشيرة، و لعلّ المراد في المقام سيد قومه و عشيرته، و لا يطلق على

ص: 254

المنافق سيد، كما

في الحديث: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن كان سيدكم و هو منافق فحالكم دون حاله، و اللّه لا يرضى لكم ذلك».

و قد وصفه تعالى بهذه الصفة لأنه ساد غيره في الكمال، وفاق الناس في الفضائل، فهو النبيّ الكريم المحمود الصفات.

و (حصورا) عطف آخر و صفة اخرى، و الحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه، و قد يطلق على الممتنع عن غيرها أيضا، و هو صفة كمال تدلّ على عزوفه عن مشتهيات الدنيا و زهده عنها، لأن الممتنع عن الجماع..

تارة: يكون لأجل آفة و نقصان فيه، و هو غير ممدوح.

و اخرى: يكون لأجل تقديم الأهمّ من المعنويات عليه، و هو ممدوح في الجملة إذا وافقته الشريعة، كما في زمان يحيى عليه السّلام، و أما إذا وصلت النفس إلى مرتبة من الكمال بحيث لا يشغلها المهم عن الأهم، فلا موضوع لهذا البحث فيه، كما في سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ .

صفة رابعة و خامسة تدلاّن على علو مقامه و كمالاته المعنويّة، و أن الصفات السابقة ممهدات لهاتين الصفتين، فإنهما نهاية المقامات المعنويّة و الكمالات الإنسانيّة و هي النبوّة، و كونه من الصالحين، و قد طلب خليل الرحمن من اللّه تعالى أن يجعله من الصالحين، فقال تعالى حكاية عنه: وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ [سورة الشعراء، الآية: 83].

و المراد به في الأنبياء صلاح الذات و الصفات و الأعمال، ليكونوا صالحين لاقتداء الأنام بهم، و بعبارة اخرى: الصلاح هو المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى.

و بهذه الصفات الجليلة اختار اللّه تعالى يحيى و جعله من الذرّية الطيبة التي طلبها زكريا منه عزّ و جلّ.

و يستفاد من مجموع ما ورد في شأن يحيى و ما ورد في شأن كلمة اللّه عيسى بن مريم عليهما السّلام، الشبه الكثير بينهما، و هو ما كان يريده زكريا عند طلبه من اللّه

ص: 255

تعالى أن يرزقه ولدا يكون له من الكرامة عند اللّه تعالى ما لمريم العذراء عنده، بعد ما شاهد الآيات الباهرات منها، فأوّل الشبه بينهما أن مريم و ابنها آية من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

91]، و أن تسمية عيسى من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45]، و أن يحيى آية منه عزّ و جلّ أيضا، حيث كانت تسميته من عند اللّه تعالى في بدء ما بشّر به زكريا، قال تعالى: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7].

الثاني: أن يحيى قد أوتي الكتاب و الحكم و هو صبي، قال تعالى: يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 12]، و كذلك أوتي عيسى الحكم و النبوّة و الكتاب في صباه، قال تعالى حكاية عنه: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-31].

الثالث: أنهما اشتركا في الخصال الحميدة، كالبر بالوالدين و السيادة و الوجاهة، و أنهما لم يكونا من الجبّارين، قال سبحانه و تعالى في شأن يحيى:

وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا [سورة مريم، الآية: 13-14]، و قال عزّ من قائل في شأن عيسى: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 32].

الرابع: أنهما اشتراكا في السّلام عليهما في المواطن الثلاثة المهمّة، الولادة و الموت و البعث، قال تعالى في شأن يحيى: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 15]، و قال عزّ و جلّ في شأن عيسى: وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33].

و لكن يبقى الفرق بينهما أن عيسى عليه السّلام نبي من أولي العزم و صاحب شريعة، و أن يحيى عليه السّلام كان أوّل المصدّقين به، و ذلك لأن عيسى عليه السّلام كان أسبق من يحيى في

ص: 256

التقدير، فإن زكريا بعد ما شاهد من مريم الصدّيقة عليها السّلام من عجائب الرزق و الكرامات طلب من اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة، يكون وليا مرضيا. هذا ما يقتضي التدبّر في مجموع الآيات النازلة في هذين النبيين الصالحين عليهما السّلام في المقام، و في سورة مريم.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ .

جملة مستأنفة تدلّ على التعجّب، ففيها استفهام عن حقيقة الحال، و طلب لتفهّم خصوصيات الإفاضة و الإنعام، مع الاشتياق إلى المناجاة مع الحبيب و التلذّذ بالحديث معه، و هو من أعظم الابتهاج للنفس، و ليس فيها دلالة على أن الاستفهام كان لأجل الاستعظام و الاستبعاد، كيف و هو المبشّر بما طلبه، و إن اللّه سيرزقه الغلام الذي تجتمع فيه جميع الصفات الحميدة التي شاهدها في مريم الصدّيقة، و هو على يقين بقدرة اللّه تعالى على ذلك.

و قد ذكر زكريا عليه السّلام و صفين في المقام، هما المنشأ في التعجّب و الاستعلام، و كان لهما أبلغ الأثر في حزنه و تأثّره مع علمه بأن الأمور لا تجري إلا بأسبابها كما اقتضته الحكمة الإلهيّة، و هذا اعتراف من زكريا بحسن نظام هذا العالم و ما عليه من التناسل بين بني آدم، و لكن مع ذلك يعترف بأن الإرادة القهّارة الربوبيّة فوق جميع ذلك، و الكلّ مسخّر تحت تلك الإرادة، فيرجع المعنى إلى أن طلب الولد خلاف النظم الطبيعي من مثله و عن زوجة عاقر، لو لا قدرتك و رحمتك و مشيئتك القاهرة، و هذان الوصفان قد ذكرهما في ضمن الدعاء في موضع آخر، فقال تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 4-5].

و الغلام الطار الشارب أو الابن في أوّل نبت شاربه. و مادة (غلم) تدلّ على شدّة شهوة النكاح و هيجانها، كما يظهر من جملة استعمالاتها،

ففي الحديث: «خير النساء الغلمة على زوجها العفيفة بفرجها»، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مفردا

ص: 257

و تثنية و جمعا، و لعلّ ألطف ما ورد فيه هذا اللفظ جمعا، قوله تعالى:

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [سورة الطور، الآية: 24]، خدمة لأهل الجنّة و هي لذّة للمخدوم و الخادم، و قال تعالى: يا بُشْرى هذا غُلامٌ [سورة يوسف، الآية: 19]. و إنما ذكر الغلام باعتبار أنه قد بشّر به سابقا، قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً ، و قال تعالى: إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى [سورة مريم، الآية: 7].

و إنما خاطب زكريا ربّه من دون واسطة في البين مبالغة في التضرّع، و إعلاما لنهاية التأثّر و التحزّن.

قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ .

جملة حالية من ياء المتكلّم، و إسناد البلوغ إلى الكبر توسعا، فكأن الكبر قد طلبه و هو مطلوب له. و الجملة كناية عن عدم القدرة على الجماع و ممارسة الشهوة لبلوغه الكبر و طعنه في السن، و كانت له تسع و تسعون أو مائة و عشرون سنة، و لامرأته ثمان و تسعون، حين قال ذلك على ما قالوا، و إن كان ذلك كلّه رجما بالغيب. و فيه نهاية الأدب كما أن فيه تحريك المدعو إلى استجابة دعاء الشيخ العاجز.

قوله تعالى: وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ .

العقر بمعنى عدم الحمل، و يطلق على الرجل الأبتر الذي لا ولد له أيضا، و لفظ (عاقر) هنا بمعنى ذات عقر، و حينئذ لا فرق بين المذكّر و المؤنّث.

قوله تعالى: قالَ كَذلِكَ اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ .

الجملة مقول قول اللّه تعالى، سواء كان بواسطة الملك الذي ناداه سابقا بالبشارة، أم كان بغير وساطة، أي وحيا. و إن كان الظاهر هو الأوّل، و يدلّ عليه - مضافا إلى ظاهر السياق - قوله تعالى في موضع آخر من هذه القصة:

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية: 9].

ص: 258

و (كذلك) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر و التقدير كذلك، و هو ظاهر في كونه من القضاء الحتم الذي لا يعتريه التغيير و التبديل، و يدلّ عليه قوله تعالى في هذه القضية: وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21]، كما يشهد له قوله تعالى: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ، حيث جعل خلق يحيى مقدّرا من حين خلقه لزكريا.

و جملة (اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في موضع التعليل، أي: لأنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء من الأفعال الخارقة للعادة، يخلق الولد في تلك الحالة التي يستبعدها الناس عادة، فإن إرادته و مشيئته فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت تلك الإرادة.

و إنما أتى بلفظ الجلالة للتعظيم، و لبيان أنه الجامع لجميع الصفات الجمالية و الكمالية، القادر على كلّ شيء، إليه تنتهي جميع العلل و الأسباب.

ثم إن الولادة - بخلاف الأسباب الظاهريّة - قد ذكرت في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى في موارد ثلاثة:

الأوّل: إبراهيم خليل الرحمن، قال تعالى حكاية عنه: وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ * قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ * قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [سورة هود، 71-73].

الثاني: عيسى روح اللّه، قال عزّ و جلّ حكاية عن مريم العذراء: قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21].

الثالث: زكريا الذي دعا اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة: قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم، الآية: 8]، و جميع من ولد في هذه الموارد الثلاثة هم من الأنبياء الذي وهبوا أنفسهم للّه تعالى.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً .

الآية العلامة الدالّة على شيء، و لهذه الكلمة أهمية عظمى في القرآن الكريم،

ص: 259

فقد وردت فيه بأطوار مختلفة - مفردة و تثنية و جمعا - في ما يقرب من خمسمائة مورد، و لعلّ الوجه في ذلك هو إثبات أن جميع ما سوى اللّه تعالى آيات جماله و جلاله و شواهد أقواله و أفعاله، و هي إما آيات يستدلّ بها الخالق على الخلق، أو يستدلّ بها المخلوق على وجود الخالق و معبوديّته المطلقة، و قهّاريته التامّة، و رحمته الواسعة و جميع العوالم - الطولية و العرضية - آياته تبارك و تعالى، و لكنها مختلفة في جهة كونها آية، كاختلافها في مراتب الوجود.

و الجامع القريب العلامة التي تدلّ على ارتباط الممكن بالذات مع الحيّ القيوم، كما هي علامة عناية العزيز الجبّار الغني بالذات مع الفقير المحتاج، أو هما معا.

و الآية في قوله تعالى: اِجْعَلْ لِي آيَةً ، أي علامة يعرف الناس و البيئة البشريّة، بأني مرتبط معك، و دلالة ملموسة بها تطمئن نفسي، و تكون أنت المعين في اموري، لأدفع بها دعاوي المبطلين و تشكيك المنافقين، و اعترف بها عجزي و خضوعي و تسليمي لأمرك، و ابدي شكري على جميع نعمائك، و هذا ما تقتضيه هذه المحاورة بين زكريا النبيّ العظيم و بين اللّه تعالى الربّ الجليل، فإنها تدلّ على كمال الخلّة و نهاية التبتّل و الخضوع له عزّ و جلّ، و يشهد لذلك سنخيّة الآية مع المورد، فإن الآية التي جعلها اللّه تعالى له هي أمره بعدم التكلّم و قطع المحاجّة مع الكفّار و المنافقين، و إيكالهم إلى الأمور البديهيّة كالحسّ و الوجدان، كما ستعرف.

و من ذلك يعلم أن ما ذكره المفسّرون في المقام في حكمة جعل الآية غير صحيح، فقد ذكر بعض المفسّرين أن جعل الآية له إنما كان لأجل أن يستدلّ بها على حمل امرأته و يعلم وقت الحمل.

و فيه: أنه بعد معرفته بأنه سيرزق ولدا، و إن اللّه تعالى بشّره بذلك، و كان على يقين فيه، لا معنى لطلب آية تكون علامة على حمل امرأته، بل هو لغو من عاقل فضلا عن الأنبياء.

و قيل: إن الحكمة في جعل الآية هو الاستدلال بها على أن البشارة كانت من

ص: 260

اللّه تعالى لا من الشيطان.

و هو مردود أيضا، فإنه إن كان باعتبار نفس مقام نبوّة زكريا عليه السّلام فهو باطل، لأنه بعد أن علم يقينا بخطاب الملائكة، و أن المحاورة المتقدّمة لا تدع مجالا للشك في أنها لم تكن من الشيطان، خصوصا مع ملاحظة مقام زكريا و نبوّته المرتبطة مع الملائكة ارتباطا تاما. و إن كان باعتبار تعريف غيره، فهو باطل أيضا، فإنه لم يعرف شيئا من هذه المحاورة حتى يشكّ فيها، بل هي من جملة الأسرار بين زكريا عليه السّلام و بين اللّه تعالى، كما في استجابة الدعوات بالنسبة إلى كلّ مؤمن مستجاب الدعوة، و سيأتي في البحث الكلامي الفرق بين خطاب الرحمن و كلام الملك و همسات الشياطين.

قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ .

أي: قال اللّه تعالى لزكريا: آيتك التي طلبتها هي أن لا تتكلّم مع الناس، و إنما خصّ الناس بالذكر لبيان أنه لم يكن ممنوعا من التكلّم بذكر اللّه و الدعاء، فيستفاد أن الممنوع منه إنما هو التكلّم مع الناس في شؤون الدنيا، لا عدم التكلّم المطلق، حتى التكلّم بالحقّ مع الحقّ، كالمناجاة و الدعاء و نحو ذلك، بقرينة ذكر الناس و التكلّم بالرمز.

و المشهور بين المفسّرين أن عدم التكلّم كان اضطراريا بالنسبة إليه، لأن اللّه عزّ و جلّ قد سلب قدرته على ذلك، إما باعتقال لسانه من غير آفة أو معها، و هي أنه ربّا لسانه و زاد في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، و إن كان قادرا على التسبيح و الصلاة و المناجاة معه عزّ و جلّ، و هذه آية كانت من قبل اللّه تعالى في نفس النبيّ لا يقدر عليها غيره، لمكان العصمة فيه.

و عن بعض المفسّرين أن حبس لسانه كان من باب العقوبة له، لأنه طلب الآية بعد المشافهة مع الملائكة و البشارة له، و السبب في ذلك تشكيك الشيطان له في كون البشارة من اللّه تعالى. و يقرب هذا ممّا ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا: و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا،

ص: 261

لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. [إنجيل لوقا: 1-20].

و الحقّ أن يقال: إن الآية الشريفة لا تدلّ على شيء ممّا ذكروه، أما ما ذكره بعض المفسّرين فهو مردود من جهات كثيرة لا تخفى على من تأمّل فيه، و يكفي في وهنه أنه من الإسرائيليات، و لا وجه لكون ذلك عقوبة له بعد ما ذكرنا من أنه كان على يقين من أمره، و أنه إنما طلب الآية لدفع شبه المنافقين و إنكار المنكرين، و لإظهار الخضوع و الخشوع و التبتل إليه عزّ و جلّ، و بيان النعمة، فلا معنى لأن يكون عدم التكلّم عقوبة له.

الا أن يقال: إن عدم تكلّمه مع الناس لأجل ما حصل منه من ترك الأولى بقوله: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ ، الظاهر في التعجّب من البشارة الإلهيّة، فإن مثل ذلك من أنبياء اللّه تعالى مع علمهم بكمال قدرته جلّت عظمته حتى على الممتنعات العادية، ممّا لا ينبغي، فأخذ بقوله هذا بعدم تكلّمه مع الناس ثلاثة أيام، فيكون هذا نحو توبة لما صدر منه، بقرينة قوله تعالى:

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ و بهذا و إن أمكن الجمع بين جميع أقوال المفسّرين في المقام، و لكن مع ذلك أنه مجرّد احتمال.

و أما قول المشهور، فظاهر الآية الشريفة ينفي ذلك أيضا، لأن نسبة الفعل إلى الفاعل في قوله تعالى: أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ، و نفيه عنه ظاهر في كونه اختياريّا، فهي تدلّ على أن عدم التكلّم كان اختياريّا له، فإنه بعد أن طلب من اللّه تعالى الآية التي تكون علامة لصدقه أمام الناس، ليتمكن أن يدفع بها شبه الملحدين، و إظهار كرامته عند اللّه تعالى، و منزلة المولود الجديد لديه عزّ و جلّ، لا معنى لكونها آية اضطراريّة له، و نظير هذه الآية في ولادة يحيى عليه السّلام ما وقع عند ولادة عيسى، قال تعالى في مريم العذراء: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [سورة مريم، الآية: 26]، و لم يقل أحد إن صوم مريم عليها السّلام كان اضطراريّا لها.

و قد ذكرنا أن هذه الآية الشريفة إنما جاءت موافقة و مناسبة لموردها ممّا قد

ص: 262

يواجهه من الناس، و ليست كلّ آية تناسب موردها، و في المقام يتطلّب المورد أن تكون الآية لدفع إنكار المعاندين و شبه المنافقين و إظهار المنزلة و الكرامة للنبيّ و المولود الجديد، و أحسن شيء يتحقّق فيه هو الإرجاع إلى البديهيّة و الحسّ و الوجدان، و السكوت على تلك الشبهات التي لا يكون ردّها و التعرّض لها إلا من المغالطة و المحاجّة، التي يجلّ عنها مقام العقلاء فضلا عن الأنبياء، و هذا ظاهر لمن تأمّل في هذه الآية التي تحقّقت بالنسبة إلى عيسى و امه مريم العذراء عليهما السّلام من شبهات لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم الصدّيقة، و يمكن أن يستفاد ذلك من اضافة الآية إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: آيَتُكَ ، أي الآية التي تناسب حالك و مقامك.

قوله تعالى: ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً .

مادة (رمز) تأتي بمعنى التحرّك، و الرمز هو الافهام بتحرك شيء، سواء كان بالرأس أم اليد أو العين أو غيرها، و قيل هو مختصّ بالشفة، و لم يدلّ دليل على التخصيص. و الاستثناء منقطع.

و المراد بثلاثة أيام مع لياليها، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 10]، و كلتا الآيتين قرينة على استمرار مدّة الرمز و تواليها.

و المعنى: أنه لا تتكلّم مع الناس في ردّ مقالاتهم في هذا الموضوع إلا إشارة باليد أو الرأس أو نحو ذلك، و هذا أعظم شيء لتسكيت خطاب الجاهلين عند تعرّضهم للمخاطبة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ .

العشي و الإبكار طرفا النهار، أي: و اذكر ربك باللسان و القول كثيرا، و أدم على صلواتك في أطراف النهار.

ص: 263

بحوث المقام

بحث أدبي:

قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، نصب على الحال من الأسماء التي وردت من قبل بمعنى ذرّية في حال كونهم متناسبين، و قيل: إنها نصبت على البدلية من الآلين. و لو استؤنفت فرفعت كان له وجه أيضا لبيان الأهمية.

و (من) في قوله تعالى: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ اتصالية.

و الظرف (إذ) في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ ، قيل فيه وجوه، فعن بعض أنه زائد، و هو غلط.

و عن آخر أنه منصوب على الظرفيّة لما قبله، و لكنه لا يناسب مجيئه بعنوان الصفة الدالّة على الثبوت الدائم المطلق.

و قيل: إنه منصوب بفعل مقدّر، أي اذكر و هو بعيد عن السياق.

و قيل: انه ظرف لاصطفى المذكور في أول الآية المتقدّمة.

و يرد عليه أنه لا يصحّ أن يكون ظرفا لاصطفاء آدم و نوح.

و الوجه أنه معمول لفعل مقدّر يدلّ عليه الكلام، و هو استجابة لها إذ قالت.

و (محررا) في قوله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحالية من (ما).

و أنثى في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، إما حال مؤكّد من الضمير، أو بدل منه، أو مفعول ثان لوضعت.

و إنما أتى عزّ و جلّ ب (ما) الموصولة في قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ دون (من) لأن الاولى يؤتى بها لما يحصل به، فهي تلازم الجهالة غالبا.

و (نباتا) في قوله تعالى: وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ، إما اسم مصدر، أو مفعول مطلق لأنبتها بدل عن مصدره.

ص: 264

و (كلما) في قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ منصوب ب (وجد)، أي وجد كلّ دخلة، و نصب المحراب على التوسع، إذ حقّ الفعل أن يتعدّى ب (في)، أو (إلى) و إظهار الفاعل.

و (هنا لك) في قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا منصوب على الظرفيّة، لأنه ظرف يستعمل للزمان و المكان، و إن كان أصله للمكان، و قد تجر بمن و إلى.

و قوله تعالى: وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ ، و هو قائم مبتدأ و خبر، و الجملة حاليّة من مفعول النداء. و (يصلي) حال من الضمير في (قائم)، و الظرف (في المحراب) متعلّق إما ب يصلي أو ب قائم، لأن أحدهما يلازم الآخر في المقام.

و إنما اختلفت الجملتان في قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ ، فكانت الاولى فعليّة، و الثانية اسميّة، لأن الكبر مترقّب الحدوث، يحدث شيئا فشيئا، فلم يكن وصفا لازما، بخلاف الثانية، فإن العقر وصف لازم ثابت، و لذلك صارت الجملة اسميّة.

و قوله تعالى: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً يمكن إعرابه على وجهين:

الأول: أن يكون المراد بالجعل التغيير، فيتعدّى إلى مفعولين، أحدهما (آية) و الثاني (لي).

الثاني: أن يكون الجعل بمعنى الخلق و الإيجاد، فيتعدّى إلى مفعول واحد، و هو (آية)، و يكون (لي) في موضع النصب على الحال من (آية)، و صفة النكرة إذا تقدّمت عليها أعربت حالا منها.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً ، على أن الاصطفاء إنما يكون بإرادة من اللّه تعالى و اختياره، و ليس للإنسان إرادة فيه، فإنه جلّت عظمته أعلم حيث يجعل رسالته، نعم إن للاصطفاء أسبابا كثيرة، بعضها اختياري

ص: 265

للعبد المصطفى - كما تقدّم - و لكن نفس الاصطفاء و النبوّة و الولاية و نحوها لا بد أن تكون بإذن من اللّه تعالى و تعيين منه عزّ و جلّ، و لا يمكن أن تكون تحت اختيار البشر لعدم إحاطة العقول بذلك، فيلزم الخلاف أو الفساد.

الثاني: لم يذكر سبحانه و تعالى خاتم الأنبياء في آية الاصطفاء صريحا، و لكن قد ذكره في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، و يستفاد من ذلك أن مقامه صلّى اللّه عليه و آله فوق مقام الاصطفاء، حيث جعل متابعته صلّى اللّه عليه و آله سببا لمحبّته تعالى، التي هي من مقتضيات الاصطفاء كما عرفت.

الثالث: يستفاد من آية الاصطفاء أن اصطفاء اللّه تعالى لبعض عباده يدلّ على الامتياز، و أن المصطفين ممتازون عن سائر الخلق، لتحقّق الإنسانيّة الكاملة فيهم، و أن لهم نفوسا قدسية هي المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى و العبوديّة المحضة، و هي مظهر أسمائه و صفاته و محل تجلّيه عزّ و جلّ، فهم آيات اللّه التكوينيّة و التشريعيّة.

الرابع: لعلّ الغرض الأهم من آية الاصطفاء و آية المحبّة هو سوق الناس إلى المكارم و إيقاظ من هو غافل عن الحقيقة و الكمال، فإن محبّة اللّه تعالى و اصطفاء لمحبّيه لا يمكن أن تحصلا إلا بالإيمان باللّه تعالى إيمانا حقيقيّا، و التوجّه إليه تعالى و العمل بما أنزله عزّ و جلّ بجد و إخلاص، فيشمله حينئذ ما شمل أولياء اللّه تعالى المصطفين من التوفيقات و نزول البركات، و يستعد لتلقّي فيوضات اللّه تعالى، و يصلح أن يكون وليّا يصلح به نظام الدنيا و الآخرة، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى طريق هؤلاء الذين اصطفاهم اللّه تعالى على العالمين، و أن يكون سيرهم و سلوكهم كسيرهم و سلوكهم، فتكون الآية من الكناية التي هي أبلغ من التصريح.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، أن هذه الذرّية المصطفاة من الخلق هي محفوظة من لدن آدم عليه السّلام إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران، و أن ذكر الأفراد قبل ذلك إنما هو لبيان اتصال السلسلة و الاتحاد بين تلك الأفراد، و أنها محفوظة إلى آخر الدهر و فناء الدنيا، لا يمكن أن تنقطع هذه السلسلة

ص: 266

و إن تقادم عليها الدهر و مرّت عليها السنون و الأعوام، و أن لهذه الذرّية أفرادا في كلّ زمان، بهم تحفظ الشريعة و يستقر النظام.

و من ذلك يعلم أن محمدا و آله و إن لم يذكروا صريحا في هذه الآية الشريفة، و لكنهم داخلون فيها، بمقتضى التعليل في آخرها، و يدلّ على ذلك

قول الإمام الباقر عليه السّلام: «نحن منهم، و نحن بقية تلك العترة»، و أن صاحب الأمر (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) يحتجّ عند ظهوره بالآية المباركة، و أنه أولى الناس بنوح و إبراهيم، و قد ورد عن أهل البيت أنهم كانوا يقرءون الآية الشريفة (و آل إبراهيم و آل عمران و آل محمد على العالمين)، كما في تفسير القمّي و أمالي الشيخ الطوسي و تفسير العياشي، و في تفسير الثعلبي مسندا عن الأعمش عن أبي وائل، قال:

قرأت في مصحف ابن مسعود: (ان اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل محمد على العالمين)، فأبدل اسما مكان اسم»،

و روى مثله هشام بن سالم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً) فقال عليه السّلام: هو آل إبراهيم و آل محمد على العالمين»، و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنه من باب التنزيل، و أن أهل البيت أهم المقصودين من إبراهيم و آله بمقتضى الوحي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فيكون ما ورد في مصحف ابن مسعود و غيره بعنوان التأويل، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم كما ذكرنا مرارا، فلا يستفاد من الروايات المتقدّمة التحريف بعد صحّة حملها على بيان المصاديق و التنزيل، و ما ورد من أنه «أبدل اسما مكان اسم»، يكون بحسب التنزيل لا أصل الوحي.

ژ السادس: يدلّ قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ، على كمال انقطاع امرأة عمران إليه تعالى، فإنها حرّرت وليدها عن طاعتها إلى طاعته عزّ و جلّ، و أعتقته لوجهه الكريم، و الآية تدلّ على أنها طلبت الولد في ضمن نذرها، لعدم لياقة الأنثى لما تريده.

السابع: إنما ذكرت امرأة عمران (ما في بطني)، حفظا لأدب الدعاء مع الكبير العظيم، و تحفظا لعدم ذكر ما يقرب من العورة مع إمكان إظهار المعنى بغيره

ص: 267

بلفظ هو أشمل منه، قال تعالى: وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [سورة النجم، الآية: 32].

الثامن: يدلّ قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى على كمال تحسّرها و تحزّنها عند وضعها الحمل أنثى، و أن هذا الكلام صدر عن قلب كسير و فؤاد حزين، و مع ذلك فقد دعت للمولودة بقولها (و اللّه أعلم بما وضعت)، و عظّمت و فخّمت شأنها، حيث أدخلتها في علم اللّه تعالى، و طلبت رعايتها منه عزّ و جلّ بقولها: «إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ» ، و اعترفت بالعجز أمام قدرته سبحانه و تعالى، و أن إرادته فوق إرادة البشر، يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، أن التسمية كانت من حقوقها، و ليس لأحد غيرها هذا الحقّ، فقد مات أبوها و هي حامل بها، مع أنه يمكن أن يستفاد من تبادرها بالتسمية أنها كانت تعلم بها سابقا، و أن لهذه المولودة شأنا كبيرا، و فيها الصلاحية لخدمة البيت، مضافا إلى أن التسمية من المخلوق الممكن ينفي شبهة الغلو في مريم العذراء.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ ، على أنها طلبت بقاءها صحيحة لا تعترضها صوارف الدهر و عاديات الزمان، حتى تكبر و تتحقّق امنيتها، و هي الولد الذكر.

و إنما قدّمت الاستعاذة و أدّت بالفعل المضارع، للدلالة على استمرار الاستعاذة و دوامها و الاهتمام بشأنها، و بذلك لم يبق للشيطان فيها و في ذرّيتها نصيب.

و الآية المباركة لا تدلّ بشيء من الدلالات على أن كلّ مولود يمسّه الشيطان إلا من عصمه اللّه تعالى، و قد تكلّف جمهور المفسّرين في تأويل هذه الآية الشريفة بما لا محصل له، مع أن ما ذكروه في المقام لا يصلح للاعتماد عليه، فالآية ليست إلا في مقام الإرشاد إلى أن الإنسان لا بد له من الاستعاذة من عدو قد آلى على نفسه

ص: 268

أن يغويه و يضلّه عن الطريق، فلا بد من الالتجاء إلى اللّه تعالى في جميع الحالات، لا سيما من مثل امرأة عمران التي نذرت ابنتها للّه عزّ و جلّ، و طمعت أن تكون عابدة مطيعة، و أن تكون لها ذرّية طيبة، و قدر أن يكون لها شأن كبير في المستقبل.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ، على الجزاء العظيم الذي وعده اللّه تعالى لهذه المرأة المؤمنة المطيعة، جزاء إخلاصها في نذرها، فهو عزّ و جلّ قد رضي بالأنثى و تلقّاها بوجه حسن، فهو الربّ الكريم الذي تعهّد تربيتها تربية حسنة في جميع شؤونها و حالاتها، فصارت امرأة عابدة لخالقها مطيعة لربّها، طهّرها عن الرذائل و اصطفاها على نساء العالمين، و جميع ذلك كان استجابة لدعاء أمها و تحقّقت جميع امنياتها، و ممّا جعله اللّه تعالى وسيلة لتربيتها الحسنة أن دخلت مريم في كفالة زكريا النبيّ الكريم.

و يستفاد من ذلك أنه لا بد للإنسان من الدخول في كفالة من يقوم بتربيته تربية صالحة، و لا يتأتى ذلك لكلّ فرد و لا يقدر أن يقوم كلّ أحد لوحده في تربية نفسه، و كأن هذه الآية الشريفة تبيّن سبب اصطفاء اللّه تعالى مريم، و هو الإنبات الحسن و رضاه تعالى بها.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، على أن العلّة في ارتزاق مريم عليها السّلام هي أن جميع الأرزاق - سواء كانت ماديّة أم معنويّة - بيد اللّه تعالى، و أنه يعلم بخصوصيات الرزق و المرزوق و كيفيّته و جهاته. و لذلك يمكن تطبيق هذه الآية في كلّ مورد علم من الأدلّة الصحيحة القويمة أنه داخل تحت الآية الشريفة، كما ورد بالنسبة إلى فاطمة الزهراء عليها السّلام، فإنها أيضا ممّن تقبّلها ربّها بقبول حسن، و قد أبان فضلها على سائر النساء و طهّرها من جميع الرذائل الخلقيّة و الخلقيّة، و تدلّ الأدلّة النقليّة و العقليّة على ذلك، فلئن كانت مريم العذراء مصطفاة على نساء العالمين في وقتها، و لكن الصدّيقة الطاهرة مصطفاة على جميع نساء العالمين، و لئن رزقت مريم عليها السّلام من الرزق المخزون عند اللّه تعالى لوحدها إلا أن فاطمة الزهراء عليها السّلام قد رزقت هي و أولادها و آثرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نفسها،

ص: 269

فقد روى أبو يعلى عن جابر: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت: لا و اللّه، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين و قطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، و قالت: لأوثرن بهذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نفسي و من عندي، و كانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فرجع إليها فقالت له: قد أتى اللّه تعالى بشيء قد خبأته لك، قال: هلمي يا بنية بالجفنة، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا و لحما، فلما نظرت إليها بهتت و عرفت أنها بركة من اللّه، فحمدت اللّه تعالى و قدّمته إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلما رآه حمد اللّه تعالى، و قال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبت هو من عند اللّه، إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فحمد اللّه سبحانه ثم قال: الحمد للّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها اللّه تعالى رزقا فسئلت عنه قالت: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ، إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، ثم جمع عليا و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جميع أهل بيته حتى شبعوا و بقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة عليها السّلام على جيرانها».

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ ، أن أقرب ما يكون الإنسان إلى ربّه هي حالة الصلاة، فإنها أفضل عبادة و أفضل القربات، كما تقدّم.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، على رجحان طلب الأولاد و حسنه، و هو سنّة الأنبياء و الصالحين و الصدّيقين، و قد دلّت عليه آيات اخرى، منها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الصافات، الآية: 100]، و كذا قوله: وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ [سورة الشعراء، الآية: 84]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [سورة الفرقان، الآية: 74]، و في السنّة المقدّسة الشيء الكثير من ذلك.

ص: 270

الخامس عشر: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ ، على القاعدة المعروفة أن كلّ نبيّ لا بد أن يخبر عن نبيّ آخر سابق أو لا حق و يصدقه، و هي من إحدى ركائز النبوّات الإلهيّة كما عرفت.

السادس عشر: يستفاد ممّا ورد في طلب زكريا الذرّية أن للكلام الصادر من الوالدين أثرا في تربية النطفة، سواء كانت في الصلب أم في الرحم، و هذا ليس ببعيد، فإن للغذاء و التغذية أثرا كبيرا في التربية، فلا بد و أن يكون للتكلّم و الكلام أثر كذلك.

السابع عشر: لا يستفاد من قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ المقدار الذي بلغ إليه زكريا من العمر، و لكن ورد في موضع آخر في هذه القصة: وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم، الآية: 8]، أنه عليه السّلام قد بلغ ما بلغ من العمر بحيث يبست عظامه من شدّة الكبر.

الثامن عشر: لا يدلّ قوله تعالى: وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ على أن العقر عارض لأجل الكبر أو كان سابقا، و لكن في سورة مريم حكاية عنه: وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً [سورة مريم، الآية: 8]، و هو يدلّ على أنها كانت كذلك في مقتبل عمرها، و هي مضافا إلى شيخوختها عاقرة أيضا.

التاسع عشر: يستفاد من ظاهر قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً ، أن عدم التكلّم كان تحت اختياره، و هو صحيح سليم الجوارح سوي الخلقة لا علّة فيه، و لكنه منع من التكلّم إلا رمزا، و لا تدلّ الآية الشريفة على أن المانع هو البكم الطارئ عليه أو آفة تمنعه عن ذلك، كما ذكره جمهور المفسّرين.

بحث فقهي:

تحرير ما في البطن للّه تعالى في المقدّسات الدينية - أمكنة كانت أم غيرها - يتصوّر على وجوه:

ص: 271

الأوّل: التحرير على نحو يوجب التضييع و الضياع و إهماله عن الكمالات، و هذا لا يجوز و لا يصحّ في أية شريعة من الشرائع الإلهيّة.

الثاني: التحرير على نحو يوجب سمو النفس و جمعها للكمالات المعنوية، و لكن بحيث يخرج عن مراقبة الوالدين بالكلّية و الخروج عن ولايتهما الشرعيّة و التكوينيّة، و هذا لا يجوز أيضا.

الثالث: نفس القسم السابق مع ثبوت الولاية عليه بما ثبتت في الشريعة الإلهيّة، و هذا صحيح و لا محذور فيه و لم يرد ردع في الشريعة الاسلاميّة عنه، لفرض وجود المقتضي للصحّة و فقد المانع عنها، نظير دفع المولود للرضاعة إلى المرضعة مع بقاء سلطة الوالدين عليه، أو دفعه إلى معلّم خاص ليعلّمه بعض الكمالات.

الرابع: التحرير مع انقطاع سلطنة الأبوين عن الولد بحيث لم يكن لهما أمر و نهي بالنسبة إليه و لا يعمل الولد لهما، و إن ثبتت البنوّة التكوينيّة لهما. و هذا أيضا صحيح إذا أقدم الوالدان باختيارهما على ذلك و ألقيا وجوب إطاعتهما عنه، و أخلصوه لطاعة اللّه تعالى فقط. و يظهر من التواريخ أن التحرير في تلك الأعصار كان من هذا القسم.

ثم إن التبتل و الانقطاع عن النكاح على أقسام:

الأوّل: أن يكون لأجل الرياضات غير المشروعة، و هذا غير جائز، و قد دلّت عليه الأدلّة الكثيرة،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من رغب عن سنتي فليس مني»، و هذه هي الرهبانيّة التي ابتدعت في بعض الأديان، قال تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [سورة الحديد، الآية: 27].

الثاني: أن يكون لأجل مانع في البين، كالعنة و أمثالها، و لا يتّصف ذلك بالحرمة لفرض عدم القدرة.

الثالث: ما إذا كان مع وجود المقتضي و القدرة على النكاح، لكن كان في البين أهمّ ديني يقتضي تقديمه على النكاح، و الحصر في يحيى من هذا القسم، و هو جائز بل راجح، و تشخيص ذلك لا بد أن يكون من ناحيته تبارك و تعالى.

ص: 272

بحث عرفاني:

تقدّم أن حقيقة الإيمان باللّه جلّت عظمته إنما هي ارتباط خاص بين العبد و بين اللّه تعالى الذي له من الصفات الجماليّة و الكماليّة مالا يمكن أن يحدّها حدّ، فله القدرة و الملك و التدبير و الربوبيّة و الرأفة و الكمال و الجلال، و العالم كلّه مظاهر جلاله و جماله و أسمائه و صفاته، و له التأثير التامّ في نظام العالم.

و الإيمان ارتباط بين عالم الشهادة و عالم الغيب ارتباطا اختياريّا، و هذا الارتباط الخاص الاختياري و إن كان في نظرنا أمرا عرضيّا قائما بالغير، لكنه في الواقع جوهر نوراني يضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض، و هو الركن الشديد الذي يعتمد عليه عند الشدائد و الأهوال و في مختلف الأحوال، و هذا الارتباط قد يقوى و قد يضعف، تبعا لدرجات الإيمان، و يمكن أن يصل إلى حدّ الجذبة، فيصل العبد إلى مقام الاصطفاء و هو التجاذب التامّ من الطرفين، فالجذبة من ناحية العبد هي العبوديّة المحضة و الانقطاع إلى ربّ العزّة بكلّ همة، و جذبة اللّه ما هو متناه من كلّ جهة، فإنه يحظى من عطاء اللّه تعالى و لطفه غير المتناهي.

و في الاصطفاء يظهر سرّ العبوديّة و الامتحان الإلهي، و فيه تبدو الأخلاق الكاملة الربانيّة، و هو مظهر الكمالات و التحليات، و المصطفى (بالفتح) هو الإنسان الكامل الذي يكون قطب رحى الوجود، يتشرّف أهل الأرض بوجوده، و يترقب أهل السماء لقاءه، فهو الأمان من كلّ شرّ، و به يدفع كلّ بلية و عظيمة، و هو الذي باهى اللّه تعالى الملائكة بخلقه و إيجاده، و هو عرش الرحمن، و هو واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلق.

و تختلف درجات الاصطفاء حسب اختلاف درجات الفضل، و رأس كلّ مصطفى و رئيسهم أشرف الكائنات على الإطلاق و سيد الخلائق، مجمع كلّ فضيلة و مكرمة، و مظهر كلّ فيض و رحمه، خاتم الأنبياء الذي وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من العالمين في الأخلاق الساميّة و الكمالات الإنسانيّة، حتّى وصل إلى مقام

ص: 273

قاب قوسين أو أدنى بما لم يحظ به الأملاك و الأفلاك، و يلحق به أهل بيته الذين هم من البضعة الطاهرة الصدّيقة، التي تربّت في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وصلت إلى مقام الرضا لأبيها، و هو القائل فيها:

«فاطمة مني يرضيني ما يرضيها و يغضبني ما يغضبها»، و هي مستودع علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مظهر أخلاقه القدسية، و الذرّية الطيبة من نسلها، و هم المعصومون المطهّرون الممتازون عن سائر الخلق خلقا و خلقا، و هم أسرار اللّه تعالى و مظهر أسمائه و صفاته و محال تجلّياته الخاصة و مبلغ أمره و نهيه، و هي من تلك الذرّية المصطفاة، التي تبقى هذه الذرّية إلى آخر الدهر لتقيم العدل و تمحق الجور.

و من تلك الذّرّية المصطفاة مريم العذراء ام المسيح كلمة اللّه التي اصطفاها اللّه تعالى على نساء العالمين و مظهر تجليّات اللّه تعالى و أسمائه عزّ و جلّ، فهي البرّة التقية العابدة الزكية الطاهرة النقية محل إبداع اللّه عزّ و جلّ و مورد امتحانه تعالى و مستودعة سرّه، و هي المنذورة للّه تعالى في الطاعة و الإخلاص من قبل أمها الطاهرة المصطفاة أيضا المنقطعة إليه عزّ و جلّ كمال الانقطاع، حتّى أنها ألقت عن نفسها أشدّ أنحاء العطف و الحنان بالنسبة إلى وليدتها، إخلاصا للّه و قدّمتها إليه عزّ و جلّ، من دون أن يكون في قلبها شيء سوى محبّة اللّه تعالى، فحظيت مقام المحبّة فيه عزّ و جلّ، و فتحت لها أبواب الاصطفاء فصارت بمنزلة جدّها الخليل، حيث قال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ [سورة الصافات، الآية: 102]، و لا بدع في ذلك فإن الذرّية بعضها من بعض، و أن الذرّية بمنزلة الروح لهذا العالم و هو بمنزلة الجسد لها.

بحث روائي:

عن ابن بابويه عن أبان بن الصلت قال: «حضر الرضا عليه السّلام مجلس المأمون و قد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق و خراسان - إلى أن قال - قال

ص: 274

المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: إن اللّه عزّ و جلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: و أين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال له الرضا عليه السّلام: في قوله عزّ و جلّ: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، قال عليه السّلام: يعني أن العترة داخلون في آل إبراهيم، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ولد إبراهيم عليه السّلام و هو دعوة إبراهيم و عترته منه صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية و أنه (صلوات اللّه عليه) تمسّك بظاهر الآية الشريفة لشمول إطلاق الذرّية لجميع من ينسب إلى إبراهيم عليه السّلام، و ليس ذلك من التأويل و لا من التفسير في شيء.

و في تفسير العياشي: عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر عليهما السّلام: «من زعم أنه قد فرغ من الأمر، فقد كذب لأن المشيئة للّه في خلقه يريد ما يشاء و يفعل ما يريد، قال اللّه: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، آخرها من أوّلها، و أوّلها من آخرها، فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن و كان في غيره منه، فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه».

أقول: أما

قوله عليه السّلام: «من زعم أنه قد فرغ من الأمر فقد كذب»، موافق للأدلّة العقليّة و النقليّة. أما النقليّة مثل قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [سورة الرحمن، الآية: 29]، و قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [سورة المائدة، الآية: 64]، و غيرهما من الآيات الشريفة و السنّة المقدّسة.

و أما العقليّة، فلما أثبته الفلاسفة الإلهيون على أن مناط الاحتياج إلى العلّة هو الإمكان، و هو مساوق للفقر و الحاجة، و هما دائمان فإفاضاته تعالى دائمة إلى الأبد.

نعم، من توهّم أن مناط الحاجة هو الحدوث، فإذا حدث شيء لا يحتاج إلى العلّة بعد ذلك يتم الوجه بناء على هذا القول، و لكنه مجرّد و هم، و قد أبطلوه

ص: 275

ببراهين كثيرة ذكرت في محلّها.

و أما

قوله عليه السّلام: «آخرها من أوّلها، و أوّلها من آخرها» صحيح، و ذلك لأن الزمان و الزمانيّات بالنسبة إليه كائن واحد ليس فيه تسلسل زماني، مع أنا أثبتنا في علم الأصول أن الزمان مطلقا ليس مأخوذا في الأفعال، و يدلّ عليه ذيل الرواية.

و في تفسير القمّي: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى عمران: إني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص و يحي الموتى بإذني، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدّث امرأته بذلك و هي ام مريم، فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ذكرا، فلما وضعتها أنثى، قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ... وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى ، لأن البنت لا تكون رسولا، يقول اللّه: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ، فلما وهب اللّه لمريم عيسى كان هو الذي بشّر اللّه به عمران، و وعده إياه، فإذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده أو ولد ولده، فلا تنكروا ذلك، فلما بلغت مريم صارت في المحراب و أرخت على نفسها سترا و كان لا يراها أحد، و كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف، فكان يقول: أَنّى لَكِ هذا ، فتقول: هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ».

أقول: يستفاد من الرواية امور:

الأوّل: ان عمران نبيّ، و يدلّ عليه أيضا

ما عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن عمران أ كان نبيّا؟ فقال عليه السّلام: نعم كان نبيّا مرسلا إلى قومه..»، و لا بأس بذلك لأن أنبياء بني إسرائيل كثيرون، فكان مثل نبيّ في بني إسرائيل مثل العلماء العاملين في امة محمد صلّى اللّه عليه و آله الموجودين في كلّ قرية، و يشهد لذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «علماء امتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل».

الثاني: أن مقتضى سياق مثل هذه الآيات عدم اختصاص امتنان اللّه تعالى بمن أخبر به فقط، بل يمكن شموله لآخر من نسله قريبا كان أو بعيدا، و هذا هو

ص: 276

صريح

قوله عليه السّلام: «إذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده، أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك»، بل في بعض الروايات يمكن أن يوجد ذلك بعد سبعين بطنا.

الثالث: الرواية ظاهرة في أن قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى من كلام ام مريم لكونها ملتفتة إلى ما أوحي إلى زوجها.

و لكن يبقى هنا شيء و هو ان مقتضى القواعد الأدبيّة المتعارفة أن في مقام نفي التشبيه تدخل كلمة التشبيه على الأفضل لا المفضول، بخلاف المقام حيث ادخلت على الأنثى، و هي مفضولة بالنسبة إلى الذكر.

و لعلّ السرّ في ذلك كمال هذه المرأة و علو شأنها و منزلتها عند اللّه تعالى، بحيث إنها تكون أفضل من كثير من الرجال.

الرابع: دلالة هذه الرواية و أمثالها على مقام مريم و نزول الفواكه المختلفة عليها، و هذا ليس ببعيد من قدرة اللّه تعالى بالنسبة إلى مريم و الصدّيقة الطاهرة، و إنكار مثل ذلك ليس إلا مكابرة، بل هو قبيح ممّن يعترف بعالم الغيب.

و في تفسير العياشي: في الآية المباركة عن الصادق عليه السّلام: «ان المحرر يكون في الكنيسة و لا يخرج منها، فلما وضعتها أنثى قالت: رب إني وضعتها أنثى و ليس الذكر كالأنثى، إنّ الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، و المحرّر لا يخرج من المسجد».

أقول:

قوله عليه السّلام: «إنّ الأنثى تحيض»، لبيان الفرق بين الأنثى و الذكر في الجملة، لا من حيث تطبيقه على مريم عليهما السّلام، فإنها طاهرة مطهّرة بالاتفاق، و أن

«بنات الأنبياء لا يطمئن»، كما في جملة من الروايات.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن أحدهما عليهما السّلام: «نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد، و ليس الذكر كالأنثى في الخدمة، قال: فشبت و كانت تخدمهم و تناولهم حتى بلغت، فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد».

أقول: ظهر وجهه ممّا تقدّم.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «ان زكريا لما دعا ربّه أن يهب له ولدا، فنادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من اللّه، فأوحى

ص: 277

إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، فلما أمسك لسانه و لم يتكلّم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا اللّه، و ذلك قول اللّه: رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً ».

أقول: الرواية تدلّ على أن عدم التكلّم كان بإرادة منه عزّ و جلّ لا باختيار زكريا، و تقدّم أن هذا من أحد معاني الآية الشريفة، و لا بأس به في حدّ نفسه، لأنه اعتبار حسن، و أما عدم تيقّن زكريا من قول الملائكة بأنه من قول اللّه تعالى، فلأن قول الملائكة الموكلة بالإنسان المدبّرة لشؤونه على نحوين:

الأوّل: أن يكون نفس القول اوحي إليه من ربّ العالمين، فهم من مجرّد الواسطة.

الثاني: أن يكون ذلك القول ممّا فوّضه اللّه إليهم في تدبير شأن من وكّلوا به، و لعلّ زكريا أراد تعيين أحد الاحتمالين.

ص: 278

وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ (42) يا.......

اشارة

وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى بِإِذْنِ اَللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة المصطفين الأبرار، و ذكر منهم مريم عليها السّلام و بيّن نشأتها و تربيتها اللائقة التي أعدّتها لاصطفائها، و أتى بقصة زكريا تأكيدا للأولى و تثبيتا لما ورد فيها، و تقريرا لصدق ما نزل، أردفها سبحانه و تعالى بقصة عيسى عليه السّلام، فذكر سبحانه أوّلا اصطفاء مريم عليها السّلام لما كانت عليه من التربية الصالحة و الإعداد الحسن، و لأجل ذلك استعدّت لحمل عيسى كلمة اللّه من دون أب، ثم ذكر جملة من حالات المسيح و الآيات الباهرات التي جرت على يديه.

ص: 279

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ .

الجملة معطوفة على الجملة السابقة: «إذ قالت امرأة عمران»، و الجملتان في مقام الشرح لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

و (إذ) منصوب - كما عرفت - بفعل مقدر و هو اذكر، و المراد من الملائكة جنسها كما تقدّم سابقا، فلا ينافي أن يكون المتكلّم واحدا.

و قول الملائكة أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو بظهور الشخص خارجا و التكلّم الشفهي معها، و إن كان الظاهر هو الثاني، و يدلّ عليه قوله تعالى في سورة مريم: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، كما أن ظاهر الآية المباركة في أن مريم كانت محدّثة تكلّمها الملائكة و هي تسمع كلامهم و قد ترى شخصهم.

و الاصطفاء الاختيار كما عرفت سابقا، و ذكرنا أن جهة الاصطفاء تعرف من القرائن الحافّة بالكلام، فقد تكون متّحدة، و قد تكون متعدّدة..

فتارة: تكون لأجل قداسة الذات.

و اخرى: تكون لأجل جهات خارجيّة اختياريّة أو تكوينيّة.

و ثالثة: تكون لأجل الخلوص في العبادة و التقوى.

و رابعة: لجميع ذلك.

و المراد به في المقام أن اللّه اختارك بقبوله تعالى لك و رضائه بك، و تقبّلها لعبادته عزّ و جلّ حينما نذرت أمها تحريرها للّه عزّ و جلّ، و قد تقدّم جميع ذلك في الآيات السابقة.

ص: 280

و ظاهر الآية الشريفة أن الطهارة في المقام أعمّ من الطهارة من الأدناس الظاهريّة و الأقذار المعنويّة، فهي معصومة بعصمة اللّه تعالى، و قد تحقّق فيها دعاء أمها من إعاذتها و ذرّيتها من الشيطان الرجيم.

و قيل: الطهارة مختصّة بالطهارة عن الأدناس التي تلحق بالنساء، مثل الحيض و النفاس، حتّى تكون صالحة لخدمة المسجد، و لكن الإطلاق يدفع ذلك.

قوله تعالى: وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ .

أي: و اختارك لتكوني اما للمسيح، فيكون الاصطفاء في المقام غير الاصطفاء في صدر الآية الشريفة، فإنه يختصّ ببعض الجهات، و هو تقديم مريم عليها السّلام على سائر النساء في الولادة من غير أب، و يشهد لذلك جملة من الآيات المباركة التي تدلّ على تكريمها بهذه المزيّة، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، و قال تعالى: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91]، و قال تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ اَلْقانِتِينَ [سورة التحريم، الآية: 12]. و المستفاد من جميع ذلك أنها تقدّمت على نساء العالمين في خصوص هذه المزيّة، و إن كانت لها صفات اخرى منها التطهير و التصديق بكلمات اللّه تعالى و كتبه، و القنوت، و تقبّلها ربّها، و أنبتها نباتا حسنا و نحو ذلك، و لكن هذه الأمور قد توجد في غيرها فلا تختصّ بها، و ربما تكون هذه الأمور هي من تلك الجهات التي اقتضت اصطفاءها في المرة الاولى.

و من ذلك يظهر سرّ تكرار الاصطفاء في الآية الشريفة، فلا دلالة فيها مع هذه القرائن الكثيرة على اصطفائها على جميع نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين، مع أن لفظ العالمين قابل للتوسعة و التضييق، و القرائن المذكورة في المقام و السنّة دلّت على سيادتها و تقدّمها على نساء العالمين في جهة خاصة أو على نساء عالمها، فهي لا تدلّ على أفضليتها على فاطمة عليها السّلام، التي اجتمعت فيها امور كثيرة لا تكون في غيرها، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ص: 281

قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ .

تكرار النداء لبيان عظمة المنادي، و للإشارة إلى تتابع النداء على مريم و حثّها على الاستماع و الإصغاء، و التحبّب إليها، و الاهتمام بشأنها.

و القنوت: هو لزوم الطاعة و الخضوع، و تقدّم تفصيل معناه في قوله تعالى:

وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ [سورة البقرة، الآية: 238]. و السجود و الركوع معروفان، و الجميع كناية عن لزوم الطاعة و الخضوع و الخشوع في العبادة و عدم تركها في حال، و مراعاة وظيفة العبوديّة.

و يمكن أن يكون المراد من الركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة و المحافظة عليها، و لعلّ النكتة في التعبير بالركوع مع الراكعين هي الأمر باتباع شريعة موسى و متابعة زكريا قبل ظهور شريعة ابنها عيسى عليه السّلام، حيث إنها كانت في كفالته، مع أن الظاهر أن الصلاة كانت واحدة في الشريعتين، فإنها أوّل ما نطق به عيسى عليه السّلام حينما وضعته امه، قال تعالى حكاية عنه: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 31].

و كيف كان، فهي تابعة في جهات عبادتها لشخص آخر، و هو إبراهيم أو موسى أو زكريا، و لا استقلال لها بوجه حتّى يتوهّم أنها أصل من الأصول، و لا ينافي ذلك نداءها من قبل الملائكة بلزوم الطاعة و العبادة و الخضوع، فإن كلّ نفس آمنت باللّه تعالى ايمانا حقيقيّا و اتّصفت بالتقوى و اليقين يمكن أن تحدثها الملائكة،

و قد ورد في جملة من الاخبار: «ان المؤمن محدث»، و لا ريب أن حديث الملائكة كاشف عن كمال الإيمان، كما أن وحي الشيطان كاشف عن كمال الشقاء و الحرمان، قال تعالى: وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].

و ربما يكون الوجه في الأمر بالركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة، التي هي معروفة عند الخواص، التي تكون خالصة عن الشوائب و كلّ ما هو خارج عنها عندهم.

ص: 282

و لا دلالة لهذه الجملة على كون المعنى منها لزوم صلاة الجماعة، كما ذكره بعض المفسّرين، بل المراد منها هو لزوم الموافقة مع المصلّين و الدخول في زمرتهم.

و إنما ذكر سبحانه (الرب)، لأن ربوبيّته المطلقة تقتضي إيصال كلّ ممكن لغايته، و غاية العبوديّة الحقيقيّة هي الوصول إلى مقام الاصطفاء، فتكون الجملة في مقام التعليل للجملة الاولى، أي: أن علّة الاصطفاء هي الخضوع للحي القيوم و السجود و الركوع له، و الانخلاع عن الرذائل و الانقطاع إلى اللّه تعالى.

و إنما قدّم سبحانه السجود قبل الركوع، لكمال أهمية السجود من الركوع و غيره من العبادات،

ففي الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه و هو ساجد»، مع أنه يمكن أن يراد من الركوع مطلق الصلاة، و لم يعلم بوجه صحيح أن صلاتهم كانت مثل صلاة المسلمين بتقديم الركوع على السجود.

قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ .

(ذلك) إشارة إلى ما قصّه اللّه تعالى من شأن امرأة عمران و مريم و زكريا و يحيى، و ما تضمّنته من البلاغة و الغرابة.

و الأنباء: جمع نبأ، كالأخبار جمع خبر، و لكن النبأ أخصّ من مطلق الخبر، لأن النبأ يطلق على الخبر ذي الفائدة العظيمة، و الخبر أعمّ منه، و قد يطلق على مطلق الخبر مع القرينة، و يمكن أن يستفاد من موارد الاستعمالات القرآنيّة أن النبأ يستعمل غالبا في الموارد التي تستفاد فائدة الخبر من ناحية العلّة، و الخبر بالعكس.

و الغيب: كلّما غاب عن الحواس الظاهريّة و المعنويّة، سواء كان من موجودات هذا العالم في ما مضى و يأتي، أم عالم آخر. و مادة (غيب) كثيرة الاستعمال في القرآن مفردا و جمعا، و لعلّ من أعظم موارد استعمالها قوله تعالى:

عالِمُ اَلْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن، الآية: 26-27].

و الوحي هنا إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، سواء كان بإرسال الملك أم الإلهام، أو غير ذلك، و لا يختصّ بالنفوس الإنسانيّة، بل يعمّ غيرها، لأن جميع

ص: 283

الممكنات مسخّرات تحت إرادته عزّ و جلّ و مستمدة من مدده، قال تعالى:

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ [سورة النحل، الآية: 67].

و يستفاد من الآية الشريفة أن ما أوحى اللّه تبارك و تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الصحيح المكنون في علم الغيب، و لا يوجد عند أهل الكتاب، بل لا عبرة بما هو الموجود عندهم، لعدم سلامته من التحريف، و لا عند قوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لكونهم أميين لا يعرفون هذه القصص بوجه من الوجوه.

و نظير هذا التعبير ورد في قصة يوسف: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102]، و القصتان متشابهتان من حيث أن يد التحريف نالتهما، و أنهما لم تذكرا بهذه الخصوصيات التي وردت في القرآن الكريم في كتب القوم.

قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ .

أقلام جمع قلم، و مادة (قلم) تأتي بمعنى القطع في أي هيئة استعملت، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مفردة و جمعا، قال تعالى: ن وَ اَلْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ [سورة القلم، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [سورة لقمان، الآية: 27]، و يسمّى القدح قلما لأنه مقطوع في الجملة أيضا، و قيل: لا يقال للقلم قلما إلا بعد البري؛ و يسمّى قبله قصبة و يراعة.

و ما روي أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان يأخذ الوحي عن جبرائيل، و جبرائيل عن ميكائيل و ميكائيل عن إسرائيل و إسرافيل عن اللوح المحفوظ و اللوح عن القلم»، فهي إشارة إلى معنى إلهي سيأتي تفسيره في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و إلقاء الأقلام نوع من القرعة التي قرّرتها الشريعة المقدّسة الإسلامية،

فقد ورد فيها: «القرعة لكل أمر مشكل»، أو «كلّ أمر مشكل ففيه القرعة»، و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، فتشمل كلّما يسمّى قرعة كيف كانت، و يأتي في قوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات، الآية: 141] بعض الكلام.

ص: 284

و معنى يلقون أقلامهم، أي: أن سدنة الهيكل كانوا يتسابقون في كفالتها، فيلقون أقلامهم و يرمونها و يضربون بها لأخذ النتيجة. و الآية المباركة تدلّ على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق و تعيينها في الواقع.

قوله تعالى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ .

أي: أن النتيجة التي أرادوها من ضرب الأقلام هي تعيين من يكفل مريم، و الجملة تدلّ على أن التكفّل و الحنان للوليد كانا في مورد السباق من أوّل ولادة مريم.

قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ .

أي: و ما كنت شاهدا نزاعهم و تنافسهم على كفالة مريم حين تراضوا بالقرعة، و ضرب السهام فخرجت باسم زكريا و كانت من نصيبه. و الظاهر أن هذا الاختصام و النزاع كان لكفالة مريم من ابتداء الأمر و حين ولادتها.

و قيل: ان هذا الاختصام و النزاع كان بعد كبر مريم عليها السّلام و عجز زكريا عن كفالتها، لأن هذه الجملة ذكرت بعد تعيين الكفيل بالقرعة و تمام قصتها، فتكونان واقعتين مستقلتين.

و لكن ظاهر الآية الشريفة يدفع ذلك، و لا يضرّ إعادة بعض خصوصيات القصة بعد تمامها، لفائدة خاصة و هي التثبيت، و نظير ذلك ما ورد في قصة يوسف عليه السّلام، فإنه بعد سرد القصة قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102].

و يستفاد من الآية الشريفة جواز الاختصام في المسارعة إلى الخير، و المتيقّن منه ما إذا كان ذلك بمجرّد القول و الاحتجاج من دون أن تطرأ عناوين جانبيّة اخرى، كالهتك و التوهين و الإيذاء مثلا.

و في تكرار: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ للدلالة على أن كلّ واحد من الموردين له الاستقلال في الدلالة على صدق قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و صحة نبوّته، مع أنه رجل امي لا يعلم هو و قومه من أخبارهم شيئا، و عدم ذكرهما في الكتب المتداولة في أهل

ص: 285

الكتاب، و فيها الدلالة على أن ذلك وحي من اللّه تعالى.

و إطلاق النفي يشمل نفي الحضور الجسماني و الروحاني، و منه يظهر ضعف ما ذكره بعض من أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، و أنها كانت عالمة بكلّ شيء قبل التعلّق بالأجساد، فلما تعلّقت بها سلبت عنها علومها و انحصرت معرفتها بما يستفيده الإنسان بالجهد، و يستندون في ذلك إلى بعض الأحاديث، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه، و نظير المقام قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ [سورة القصص، الآية: 46]، و قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ [سورة القصص، الآية: 44]، و الجميع يدلّ على انحصار علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأمور الغيبيّة بالوحي السماوي فقط.

و الآية الشريفة تدلّ أيضا على كمال العناية بشأن مريم و الاهتمام بها و كرامتها على اللّه تعالى و عظم منزلتها عند سدنة بيت المقدس، و لعلّ السرّ في ذلك أنهم عرفوا بوجه من الوجوه أن لها شأنا من الشأن و تكون منشأ لحادثة عظيمة، و هي الولادة من غير أب.

و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قداسة ام المسيح و تبطل الشبهات التي لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم، كما أنها تدلّ على إبطال مزاعم النصارى في مريم، ببيان كاف و شرح واف تقبله العقول السليمة و الأذهان المستقيمة، و إخراجها عن حدّ الإفراط و الغلو و منحها أرفع المقامات، و هو مقام التقوى و الخضوع لربّ العالمين و العبوديّة للّه تعالى.

و من عجيب الأمر أن امراة عمران نذرت ما في بطنها محرّرا بخلوص، و حزنت عند ما وضعت المولود أنثى، لاحتياجها إلى رعاية الام أكثر من غيرها، و لكن اللّه تعالى تقبّلها و جعل قلوب سدنة بيت المقدس تهوى إليها، فتشاجر القوم و تنازعوا في كفالتها و حضانتها و حفظها و حراستها، و لا بد من الاعتبار و التوكّل عليه تعالى، و جعل هذه القصة نصب الأعين، فكلّ من أخلص في عمله للّه تعالى يراعي اللّه عزّ و جلّ شأنه و يوكل قوما من عباده لحفظه و رعايته، أنه على كلّ شيء قدير.

ص: 286

قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ .

شروع في قصة عيسى عليه السّلام، و بشارة عظيمة من الرحمن لابنة عمران و تبجيل لها، و إعلان لجلالة مقام المسيح و رفعة مكانه، و (إذ) بدل من نظيرتها السابقة، أو عطف بيان، و ترك العطف لاتحاد المخاطب فيهما، و للإشارة إلى تقارب الزمانين، بحيث يمكن اعتبارهما حينا واحدا و في قصة واحدة، و الظاهر أن البشارة كانت في كبر مريم عليها السّلام.

و المراد بالملائكة جنسها، فلا ينافي أن يكون واحدا، و هو في المقام جبرائيل عليه السّلام الذي تمثّل لها بشرا، سويّا، كما قال تعالى في موضع آخر: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 17-19]، و يمكن أن تكون البشارة من جبرائيل و جنوده من الأملاك إجلالا و اهتماما بالموضوع، و الكلّ رسل من اللّه تعالى، و لذا ينسب تارة إلى نفسه و اخرى إلى الملائكة.

قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ .

مادة (كلم) تأتي بمعنى الظهور و البروز، و هذا هو الجامع بين جميع استعمالاتها، و على هذا تكون جميع الموجودات كلمات اللّه تعالى، لأنها مظاهر قدرته و مبرزات مشيئته، كما أن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه كلمات اللّه تعالى، لأنهم مظاهر أخلاقه، و تشريعاته، و كما أن بين الكلمات الهجائيّة فرقا واضحا بين أفرادها، كذلك يكون بين كلمات اللّه تعالى التشريعيّة و التكوينيّة.

و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و مفرد، و تطلق الكلمة في العلوم الأدبية على اللفظ الدال على المعنى و على الجملة، سواء كانت تامّة يصحّ السكوت عليها، أم ناقصة لا يصحّ.

و إنما أتى الضمير في (اسمه) مذكّرا باعتبار المعنى.

و المسيح معرب، و أصله (مشيح) بالعبرانيّة، كما في كتب العهدين، و هو لقب

ص: 287

عيسى بن مريم، و قد وقع في ضمن البشارة كما هو ظاهر الآية الشريفة، فيكون مباركا، قال تعالى حكاية عنه: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ، و يصحّ أن يقع اسما له توسعا، فيقال اسمه المسيح عيسى ابن مريم.

و كيف كان، فقد ذكر القوم في وجه تسمية عيسى بن مريم بهذا الاسم أو اللقب.

و منها: أنه مسح بالتطهير من الذنوب.

و منها: أنه مسح بدهن زيت بورك فيه، و كان الأنبياء يمسحون به.

و منها: أنه كان يمسح رؤوس اليتامى.

و منها: أنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، و ذا عاهة فيبرأ.

و منها: أن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان.

و منها: أن كتب العهدين كانت تبشّر بني إسرائيل بظهور ملك عليهم ينجيهم، فسمّي مشيحا بذلك، و قد تعلل اليهود عن قبول نبوّته بأنه لم ينل الملك أيام دعوته و لم تتحقق البشارة في حياته، و وجه بعض النصارى و المسلمين بأن المراد الملك المعنوي، دون الظاهري الصوري.

و لكن شيئا ممّا ذكروه لم يقم عليه دليل، بل هو تطويل بلا طائل تحته، و الذي يظهر من الآية الشريفة أن هذا اللقب أو التسمية إنما هي من اللّه تعالى من حين ولادته، و أنه يلازم البركة و الخير اللذين عرف بهما عيسى بن مريم، و لعلّ السرّ في ذلك كلّه هو نبذ العادة التي كانت متّبعة عند الإسرائيليين في الزعيم الروحاني عند ما يمنحه للزعامة الروحانيّة من هو قبله، حتى صار لقبا للزعيم الروحاني و أصبح و ساما للزعامة الروحانيّة، كالتويج للملك، فالآية المباركة ترشد إلى الإعراض عن هذه العادة، و أن المسيح الذي يكون مباركا هو عيسى ابن مريم الذي سماّه اللّه تعالى به لا غيره.

و قد وقع الخلاف بين المفسّرين في المراد من الكلمة، فقيل: إنّ المراد منها هو المسيح باعتبار أنه تكون في رحم امه من غير فحل، بل بكلمة (كن)، أي بتوجّه

ص: 288

الإرادة الخلاّقة إلى إيجاده بدون أسباب و معدّات ظاهريّة، و إلا فإن جميع أفراد الإنسان يوجدون بكلمة اللّه تعالى و إرادته التكوينيّة، و لكنهم يوجدون بالأسباب العاديّة، بخلاف عيسى فإنه وجد من دون تلك الأسباب العادية، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء، الآية: 171]، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . و هذا الوجه هو الصحيح و تؤيّده ظواهر الآيات الشريفة و بعض الأحاديث.

و قيل: إنّ المراد منها المسيح عليه السّلام باعتبار أن الأنبياء السابقين بشّروا به بعنوان أنه هو الذي ينجي بني إسرائيل، فيكون نظير قوله تعالى في ظهور موسى عليه السّلام: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، و أيّد ذلك بما ورد في كتب العهدين في شأن المسيح عيسى بن مريم.

و يردّ عليه: أن ظاهر القرآن الكريم أن المسيح اسم للكلمة التي أوجدها تعالى، لا أن يكون اسما للكلمة التي تقدّمت البشارة بها، مضافا إلى أن ظاهر قوله تعالى في المقام بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ أن عيسى ابن مريم هو بنفسه وقع مورد البشارة، لا أن يكون مبشّرا به.

و قيل: إنّ المراد بالكلمة نفس البشارة، و الأخبار بحمل مريم بعيسى عليه السّلام و ولادته منها، أي: و يبشّرك ببشارة هي ولادة عيسى من غير أب.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

و قيل: أن المراد بها عيسى باعتبار كونه موضحا لمراد اللّه تعالى في التوراة، و مبيّنا لتحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه، كما حكى عنه عزّ و جلّ: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [سورة الزخرف، الآية: 63].

و فيه: أنه لا يلائم ظاهر الآية الشريفة.

ص: 289

قوله تعالى: عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ .

عيسى معرّب يسوع بالعبرانيّة، و في كتب العهدين: «ايشوع»، و معناه السيد.

و ذكر بعض المفسّرين أن تفسيره بيعيش هو الأنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى، لما بين هذين النبيين من المشابهة التامّة، و هو وجه حسن، لكن إثبات المشابهة التامّة حتى من هذه الجهة مشكل، لأنه إذا ورد في القرآن الكريم وصف لنبيّ من الأنبياء، فإن استفيد من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة اختصاص ذلك النبيّ بذلك الوصف فهو، و إلا فيجري في جميع الأنبياء، فما اختصّ به عيسى بن مريم هو لقب المسيح و بعض الخصوصيات، لا تجري في غيره، و إن كان يحيى الذي بينه و بين عيسى المشابهة الكبيرة، و الأنبياء يتشابهون في أغلب الصفات و العلامات، و لكن لا يلزم من ذلك التشابه التام.

و إنما نسب سبحانه و تعالى عيسى إلى امه مريم، للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، و ردّا على من يسميه ابن اللّه، و للإعلام بأنه و امه شريكان في كونهما آية اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91].

قوله تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الوجيه ذو الجاه و الكرامة و الشرف، و الوجاهة: هي المقبوليّة، أما وجاهته في الدنيا فلما له من المكانة الرفيعة و الشرف العظيم و الرفعة المعنويّة الروحانيّة، التي طالما جعلت الملوك نير المذلة في أعناقهم أمام عظمته و سؤدده، و أما وجاهته في الآخرة، فلها شأن لا يعلمه إلا اللّه تعالى، و قد أطلق سبحانه و تعالى له هذا الوصف في الدنيا و الآخرة و لم يقيّده بجهة خاصة، ليشمل الجميع و يذهب ذهن السامع كلّ مذهب أمكن.

و الظاهر أن الوجاهة في الدنيا و الآخرة لا تختصّ بعيسى عليه السّلام، فإن جميع الأنبياء لهم هذه الوجاهة.

نعم، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و الآية الكريمة ليست في مقام بيان ذلك.

ص: 290

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ .

المقرّبون هم الّذين استقاموا على الطريقة و أصابوا الحقّ و الحقيقة، و مشوا على بساط القرب بإقدام حافية عن جميع الأوهام، و تخلّوا عن تمام الجهات الإمكانية، و طرحوا جميع إضافاتهم النفسانيّة، و لا يشاءون إلا ما شاء اللّه تعالى، فأدركوا لذّة البقاء باللّه تعالى في الفناء في مرضاة اللّه، طينتهم حبّ الواحد الأحد، و صورتهم الشوارق النازلة من اللّه الصمد، فقد وردوا الساحة الربوبيّة بهممهم العالية، و تصرّفوا في نظام التكوين بإذن من الحي القيوم الحكيم، و قد وصف اللّه تعالى الأنبياء بهذا الوصف لأنهم سبقوا سائر أفراد الإنسان إلى هذه الحقيقة، كما يظهر من قوله تعالى في شأن المتقرّب إليه: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ * أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 11].

و المراد القرب إلى اللّه تعالى الذي هو غاية سعي الإنسان و التقرّب إلى المعبود، و لذا يكون قرين المعبوديّة للّه تعالى؛ و القرب إما أن يحصل من فعل الفاعل المختار، كتقرّب الأنبياء و الأولياء، و إما أن يكون من مجرّد العطية المحضة و المنحة الإلهيّة، لمن يشاء، كقرب بعض الملائكة، و قد جمعهما اللّه تعالى في قوله عزّ و جلّ:

لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة النساء، الآية: 172].

ثم إنّ كلّ وجيه في الدنيا و الآخرة هو مقرّب عند اللّه تعالى، و كذا بالعكس إن لوحظ ذلك من حيث الوصف بحال الذات، و أما إذا لوحظ من حيث الوصف بحال المتعلّق، أي اعتقاد الناس، فالأمر ليس كذلك، فكم من مقرّب عند اللّه تعالى لا يعرفه أحد. و لكن المستفاد من سياق الآية الشريفة هو المعنى الأوّل، فيكون العطف تفسيريّا.

قوله تعالى: وَ يُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً .

مادة (مهد) تأتي بمعنى البساط و الفراش و الراحة، و يسمّى مضجع الطفل أو الموضع الذي يهيأ له مهدا لكونه محل ذلك كلّه للطفل، كما تسمّى الأرض مهادا

ص: 291

لذلك أيضا بالنسبة إلى الإنسان و الحيوان، و مهّدت الأمر هيأته و وطئته، قال تعالى: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم، الآية: 44].

و الكهولة: اسم لما بين الشباب و الشيخوخة، و الشاب من تجاوز البلوغ إلى ثلاثين سنة، و الشيخ من جاوز الأربعين، و فيه يكون الإنسان رجلا كاملا سويّا، و قد سمّى العلماء كلّ سني العمر باسم خاص، كما يأتي في البحث الأدبي.

و المعنى: يكلّم الناس و يدعوهم إلى التوحيد من حين ولادته إلى حين كهولته و رفعه إلى السماء، و قد حكى اللّه تعالى في موضع آخر تكلّمه حين ولادته، و قال عزّ و جلّ: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-33].

و في الآية المباركة بشارة إلى مريم بأنه يعيش إلى زمان الكهولة، فيكون رجلا كاملا قويّا سويّا، و فيها إشارة إلى أنه لا يبلغ سن الشيخوخة.

و قد ذكر سبحانه و تعالى طرفي عمره لما وقع فيهما الآيتان، التكلّم ساعة ولادته - في المهد و هو صبي لم يبلغ سن الكلام - كلاما يعتني به العقلاء كما يعتنون بكلام الرجال، و آية رفعه إلى السماء حين بلوغه سن الكهولة كما يأتي بعد ذلك.

و المعروف أنه عليه السّلام أرسل إلى الناس و هو ابن ثلاثين سنة، و رفع إلى السماء بعد ثلاث سنين، و هذا ما تدلّ عليه الأناجيل المعروفة، و لكن ذكر جمهور المفسّرين أن تكليمه الناس إنما هو بعد نزوله من السماء، فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة.

و الصحيح ما ذكرناه من أن الآية الشريفة في مقام بيان أن الزمانين مورد حدوث الآية فيهما، و النصارى تزعم مزاعم في حياة هذا الرجل العظيم، و الآية الشريفة تنفي تلك بأسلوب جذاب.

ص: 292

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلصّالِحِينَ .

أي: معدود منهم الّذين تعرفهم مريم و تعلم سيرتهم. و مادة (صلح) تستعمل في المطابقة مع الواقع المطلوب من الشيء، فصلاح الإنسان مطابقة أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة مع مرضاة اللّه تعالى.

و قد وقع هذا التوصيف لجمع من أنبياء اللّه تعالى، منهم إبراهيم عليه السّلام، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة النحل، الآية: 122]، و إسحاق و يعقوب، قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 72]، و يحيى عليه السّلام، قال تعالى: وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة آل عمران، الآية: 39]، و قال تعالى في شأن جمع من الأنبياء وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنعام، الآية: 85]، و لوط، قال تعالى: وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 75]، و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل، قال تعالى في شأنهم: كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ * وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

86]، و في طلب سليمان الذي استجابه اللّه تعالى قال جلّ شأنه حكاية عنه:

وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ [سورة النمل، الآية: 19]، و يونس صاحب الحوت، قال تعالى في شأنه: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة القلم، الآية: 50].

و الآيات الشريفة ليست في مقام الحصر.

أوّلا: لما ثبت في محلّه من أنه لا مفهوم للوصف.

و ثانيا: أن كلمة (من) في بعضها تدلّ على عموميّة الصفة من الموصوف.

و ثالثا: الأدلّة العقليّة و النقليّة الدالّة على أن أهل التقوى مطلقا و لو لم يكونوا من الأنبياء هم من الصالحين.

و الصلاح و التقوى مع تحقّق الشرائط من أهم أسباب القرب إلى اللّه جلّ جلاله، و بهما يكون العبد من المقرّبين و يفوز بسعادة الدارين، و الصلاح آخر

ص: 293

مقامات الأولياء، و هو الارتباط الكامل بين العبد و المعبود و يتحقّق بامتثال الأوامر و اجتناب المناهي سرّا و علنا، بحيث ترتفع الاثنينيّة بين الباطن و الظاهر، و هو الإنسانيّة الكاملة التي دعا إليها القرآن الكريم و رغّب إليها غاية الترغيب، و فيه تجتمع سعادة الدارين و للصالحين درجات نورانيّة و مقامات روحانيّة لا حدّ لها، و لا يمكن درك هذه المنزلة العظيمة و لا تحديدها بكلام. و لمثل ذلك فليعمل العاملون و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ .

سؤال عن كيفيّة وقوع البشارة على خلاف مجاري الطبيعة، و قد جرت عادة اللّه سبحانه و تعالى و سنّته على أن يجري الأمور عليها ما دامت في دار الأسباب و المسبّبات، و لكن إرادة اللّه تعالى فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت القدرة التامّة الكاملة، إذا قال لشيء: كن، فيكون. و هذا هو السبب الأصيل و الأوّل للإيجاد مطلقا، و أما جريان الأمور على وفق الطبيعة من إحدى الطرق للإيجاد ربما يصل إلى المطلوب، و ربما يتخلّف عنه، لفرض أن التأثير تحت إرادة القادر الحكيم، و لا يمكن التخلّف فيها.

و السؤال منها إنما هو في أن الولادة هل تكون وفق مجاري الطبيعة، و هو التزويج و الولادة من أب، و حينئذ من هو الزوج؟ أم بغير ذلك الذي هو أمر غريب عجيب لا يصدر إلا من إرادة قاهرة له القدرة الكاملة، و هي لا تنكر ذلك و تعلم أن اللّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فيكون السؤال استفسارا عن الواقع و الحقيقة.

و المس و المسيس كناية ظاهرة عن الوطي. و البشر يطلق على الواحد و الجمع، و التنكير للعموم، و الجملة تفيد عموم النفي لا نفي العموم.

و الخطاب مع الربّ لإظهار غاية التذلّل و الخضوع من أن المتكلّم معها هي الملائكة، كما عرفت سابقا، و هي تعلم أنها تخاطبها عن اللّه تعالى و كلامهم كلامه عزّ و جلّ.

ص: 294

قوله تعالى: قالَ كَذلِكِ اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ .

أي: أن اللّه تعالى قضى أن يفعل كذلك و يرزقك المولود خلاف العادة المقدّرة، و هو أمر محتوم لا يقبل التغيير و التبديل، لا يعجزه شيء. و بهذا الكلام تحقّق المقصود و رفع التردد و التعجّب الحاصلين لمريم عليها السّلام.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى في المقام بالخلق، و في قصة زكريا بالفعل، لأن المقام على خلاف العادة و لا ينطبق على الأسباب المعروفة، لذا عبّر عزّ و جلّ بالخلق، و هو الإبداع و الإيجاد، فهو يشبه الأمور المبتدأة، و مثل هذا التعبير شائع في خلق الأمور بغير الأسباب العادية، قال تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما [سورة السجدة، الآية: 4]، بخلاف قصة زكريا، فإن إيجاد يحيى كان من الزوجين، كما في سائر الناس، و لكن فيه الآية لهما بخلاف غيره كما عرفت، و لذا عبّر عنه بالفعل.

قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

أي: إذا أراد شيئا لا مرد له، فإنما يقول له: (كن فيكون) من دون تخلّف بين الإرادة و المراد، و قد تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117]، و قلنا إنّ الجملة تدلّ على كمال قدرته و نفوذ مشيئته، كما أنها تدلّ على سرعة نفوذ إرادته، و عدم وجود أي صعوبة و عسر في تنفيذها.

ثم إنّ هذه الجملة المباركة: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مذكورة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و في بعضها: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82]، و هي كناية عن كمال الإحاطة و القدرة التامّة من دون احتياج إلى سبب آخر غير قضائه تعالى و إرادته، و أنه لا يعجزه شيء، و لا ينافي ذلك توقّف نظام التكوين على قانون الأسباب و المسبّبات ثم انتهاؤها إلى القدرة الأزليّة، لأن مقتضياتها إما أن تكون جارية على الأسباب و المسبّبات و هو الغالب، و إما أن تكون جارية بمجرّد القضاء الحتمي و على خلاف

ص: 295

العادة و قانون الأسباب، نظير الأفعال الصادرة عن النفس الإنسانيّة، فإنها تارة تتوقّف على تهيئة أسباب خاصة، و اخرى لا تكون كذلك، كتصور الصور الذهنيّة.

و اختلاف التعبير في الآيات الشريفة يرجع إلى شيء واحد، و الجميع من أسباب الفعل و بيان القدرة الكاملة.

و في المقام إنما نفى سبحانه و تعالى السبب الظاهري دون السبب الواقعي كما أنه لم ينف السبب رأسا، فتكون مجاري قضائه و أسباب الطبيعة مسخّرة تحت إرادته و إن لم تكونا متّحدتين من كلّ جهة، و لم تفارق إحداهما الاخرى.

و الآية تدلّ على أن خلق عيسى عليه السّلام كان إبداعيا من غير توسّط سبب ظاهري، و لذا كان على خلاف العادة، و لكن كلّ حادث محتاج إلى علّة توجده، بلا فرق بين أن يكون من العلويّات أو السفليّات أو المعجزات و خوارق العادات، لأن الموجود إما واجب بالذات، أو واجب بالغير، و لا ثالث في البين، و الثاني ممكن محتاج إلى العلّة لا محالة و إلا لزم الخلف المحال. فجميع المعجزات و خوارق العادات لها أسباب لكنها خفيّة عن عقولنا و إدراكاتنا، و ليس لأحد أن يحكم بأن كلّما لا يدرك فهو غير واقع، و هذا ممّا يختل به النظام و يبطل به الانتظام، فيكون حمل مريم العذراء بكلمة اللّه عيسى بن مريم لا يعقل أن يكون بغير سبب واقعي، بل عن بعض أكابر الفلاسفة إثبات أن له سبّبا ظاهريّا أيضا، و هو أن المرأة قد تصل من كمالها إلى حدّ تتحقّق فيها صفة العاقديّة، مضافا إلى صفة الانعقاديّة، فإذا حصلت مواجهة بين هذه المرأة و شاب جميل تنعقد النطفة من دون وقوع أي اتصال جسمي و تماس خارجي بينهما، فإن الذي يقدر على أن يرسل الرياح لواقح لقادر على أن يجعل الهواء المجاور في بعض الموارد لقاحا أيضا، إظهارا لتسخير الأشياء تحت إرادته و قدرته، و ما ذكره صحيح في الجملة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

و كيف كان، فإن حمل مريم لعيسى لم يكن من دون سبب واقعي، و هذا هو ظاهر قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم،

ص: 296

الآية: 17]، و يشبه خلق عيسى خلق آدم عليه السّلام، فإنه وجد من نفخ اللّه تعالى فيه، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة مريم إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ .

عطف على (وجيها) كبقية الأحوال التي وردت لبيان المقامات المعنويّة و الكمالات الحقيقيّة لعيسى بن مريم عليه السّلام. و الكتاب يمكن أن يكون من قبيل ذكر العام قبل الخاص، و المجمل قبل المفصّل، إعلاما بشأن الكتاب و تثبيتا لدرجته، و بيان أهمية الخاص. و يمكن أن يكون المراد به كلّيات أسرار القضاء و القدر الثابتة في العلم الأزلي مع إحاطته عزّ و جلّ بتمام الجزئيات إحاطة واقعيّة حقيقيّة.

و تقدّم معنى الحكمة، و ذكرنا أن المراد بها الحقائق التي تكون نافعة للإنسان اعتقادا و عملا و لها دخل في سعادته في الدارين.

و التوراة هي الكتاب الذي نزل على موسى بن عمران عليه السّلام في الميقات، و هي تتضمّن التشريعات التي شرّعها اللّه تعالى لموسى عليه السّلام.

و الإنجيل هو الكتاب المنزل على عيسى بن مريم، و معناه في اليونانيّة القديمة التعليم، و قيل معناه البشارة. و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنجيل لأنه كان موعودا به عند الأنبياء و معلوما لديهم.

و أما الأناجيل الأربعة المعروفة عند النصارى، فقد كتبت بعد المسيح بعدّة قرون، و أما التوراة فقد تناولتها يد التحريف، كما تدلّ عليه آيات كثيرة من القرآن الكريم، و إن كان يصدقها في بعض الأحكام.

و يختلف التوراة عن الإنجيل في أن الاولى تشتمل على الأحكام الإلهيّة و الإنجيل يتضمّن على النواسخ و بعض الأحكام الإثباتية، قال تعالى: وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ [سورة الزخرف، الآية: 63]، و قال تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ [سورة المائدة، الآية: 46-47]، و قد تقدّم في أوّل هذه السورة بعض الكلام فيهما.

ص: 297

قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي: أرسله اللّه، أو منصوب بفعل مضمر تقديره و نجعله رسولا، أو معطوف على الأحوال السابقة.

و الرسول صفة و هي هنا بمعنى مفعل، و الرسالة هي السفارة الإلهيّة إلى البشر لإيصالهم إلى الكمال المنشود و الحكم بينهم بالحقّ و القضاء بالقسط. و يمكن أن يكون اختصاص بني إسرائيل بالذكر باعتبار كون ابتداء الرسالة و الدعوة فيهم، أو باعتبار أنهم أقرب الناس إليه، فيكون نظير قوله تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء، الآية: 214]، و إلا فإن عيسى من أولي العزم، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة، و تقدّم الكلام في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [سورة البقرة، الآية: 213]، هذا بناء على اتحاد معنى النبوّة و الرسالة و الفرق بينهما بالاعتبار.

و أما إذا قلنا إن الرسول مطلقا أخصّ من النبيّ، فالأمر أوضح، فهو من أنبياء اولي العزم مع هذه الصفة الخاصة له، أي الرسالة الإلهيّة.

و اختلف في زمان رسالته، و المشهور أنه ثلاث و ثلاثين سنة.

قوله تعالى: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

تثبيت لرسالته بالحجّة و البرهان، و الجملة معمولة قوله تعالى: وَ رَسُولاً لما فيها معنى النطق، أي حال كونه ناطقا حجّتي عليكم أني قد جئتكم بآية من ربّكم.

و المعنى: يرسله رسولا حال كونه ناطقا، أني قد أتيتكم بعلامات واضحات تدلّ على صدق دعواي، و قد فسّرت هذه العلامات بما يأتي.

و التنوين في الآية المباركة للتفخيم، و المراد بها نوع الآية، فلا يضرّ تعداد ذكر الآيات بعد ذلك.

و ذكر الربّ و إضافته إلى المخاطبين لإيجاب الامتثال و تأكيده عليهم، أي لأنه ربّكم يراعي مصالحكم و يسوقكم إلى الكمال بإرسال الرسل و بعث الأنبياء.

ص: 298

قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ .

الجملة بدل من الآية، أو خبر عن مبتدأ محذوف تقديره: هو أني أخلق لكم.

و الخلق، هو الإيجاد، سواء كان بلا سبق مادة أصلا، كخلق الأرواح، أم مع سبق المادة، كخلق عيسى عليه السّلام الطير، و يختصّ الأوّل باللّه تعالى، و ليس في غيره عزّ و جلّ خلق بلا مادة إلا في الصور الذهنيّة غير المسبوقة بشبه أو نظير، و نظام هذا العالم يدور على تبدّل الصور من المواد المختلفة التي لا يمكن استقصاء جهاتها و خصوصياتها و الإحاطة بها إلا للّه تعالى.

و في المقام المراد من الخلق هو التصوير و جمع الأجزاء، أي: أصور لكم من الطين ما يكون مثل الطير و هيئته.

و الهيئة: الشكل و الصورة، قيل: هي مصدر بمعنى المهيّأ، كالخلق بمعنى المخلوق.

و قيل: إنها اسم الحال، و الهيئة و الوصف عرضان.

إلا أن الأوّل يقال باعتبار حصولها، و العرض يقال باعتبار عروضه، و الوصف باعتبار لحاظ الذهن، بخلاف الهيئة فإنها تستعمل باعتبار الخارج.

و لم يبيّن سبحانه عزّ و جلّ اسم هذا المخلوق، و قد ذكر المفسّرون أسماء له، و نحن في غنى عن تلك، لصراحة الآية الشريفة في صدور هذه المعجزة عن عيسى عليه السّلام و وقوعها في الخارج و دلالتها على صدق دعواه، و أنه حاجّهم بذلك، فلا فرق بين تسميته بأي اسم.

قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ .

الضمير يرجع إلى الطين المهيّأ الذي يكون شبيه الطير.

و الآية تبيّن سرّ الإعجاز، لأن تصوير الطين طيرا مقدور لكلّ أحد، و ليس في ذلك آية، و لكن جعله طيرا حقيقيّا ليس مقدورا لأحد إلا للّه تعالى أو بإذن منه، و قد صدرت هذه الآية من عيسى عليه السّلام لتثبيت رسالته، لكنّها مستندة إلى اللّه تعالى فلا استقلال له في ذلك، كما هو شأن كلّ معجزة.

ص: 299

و في صدور هذه الآية من عيسى عليه السّلام مناسبة لأصل خلقه عليه السّلام، فإنه خلق من نفخ جبرائيل، و الطير خلق من نفخه، و هو بمنزلة الروح، و كلّ منهما كان بإذن اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ .

الأكمه من الكمه و هو العمى مطلقا، سواء ولد كذلك أم عرض عليه بعد ذلك، و قيل: إن الأكمه هو الذي يولد مطموس العين.

و الأبرص هو الذي به داء البرص، و هو مرض جلدي معروف تظهر فيه لمع بياض، و لذا يقال للقمر أبرص لبياضه، و منه: «بت لا يؤنسني إلا الأبرص»، أي القمر.

و إنما خصّهما تعالى بالذكر لأنهما داءان معضلان، أعيى الأطباء علاجهما و لم يتوصّلوا لحدّ الآن في إبرائهما و زوالهما مع تقدّم الطب و حذاقة الأطباء و كثرة جهودهم الكبيرة المتواصلة على علاجهما، أو لأن هذين المرضين معروفان يشاهدهما كلّ أحد، فإذا برئ المريض بدعاء المسيح و بركته، لا يسع لأحد إنكاره، فيكون أتمّ في الاحتجاج.

و قد نسب الإبراء إلى عيسى عليه السّلام، لأنه المباشر في ذلك بدعائه و بركته.

و السبب في ظهور المعجزة على يديه، و إن كان الجميع يستند إلى اللّه تعالى، كما يدلّ قوله جلّ شأنه بِإِذْنِ اَللّهِ ، المذكور في الآية الشريفة، و إنما لم يذكره سبحانه بعد هذه المعجزة لأن الاعتقاد بهما سهل المؤنة يحصل بمجرّد إخباره بأنه معجزة و أنه آية من اللّه تعالى، لا سيما إذا كان الخطاب مع قوم يدّعون الإيمان باللّه تعالى، مع أن ما ذكره في ما بعد: وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى ، صالح لأن يرجع إلى الثلاثة كلّها.

قوله تعالى: وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى بِإِذْنِ اَللّهِ .

إحياء الموتى من المعجزات الباهرات و خارق عظيم، و قد أكّد سبحانه في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم أن اللّه تعالى هو الذي يقدر على إحياء الموتى، و أن غيره عاجز عنه، قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى [سورة يس، الآية: 12]،

ص: 300

و قال تعالى: وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ [سورة آل عمران، الآية: 156]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و لذا خص سبحانه هذه الآية بكونها بإذن اللّه تعالى و فعله عزّ و جلّ، دفعا لتوهّم الالوهية في فاعلها.

و يستفاد من جمع (الموتى)، تعدّد صدور هذه المعجزة و كثرتها. و إنما كرّر سبحانه بِإِذْنِ اَللّهِ ، لبيان أن هذه المعجزات التي صدرت عن عيسى عليه السّلام مستندة إلى اللّه تعالى، و دفعا لتوهّم الغلو فيه، باعتبار أن فاعلها ليس من جنس البشر.

و يستفاد من هذا التعبير عدم استقلال عيسى عليه السّلام في شيء من ذلك، و أكّد سبحانه و تعالى ذلك بحكايته عزّ و جلّ عن قوله في آخر هذه الآيات: إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، فلا مجال لإضلال الناس فيه.

قوله تعالى: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ .

آية اخرى فيها الأخبار بالمغيبات التي يختصّ علمها باللّه تعالى، أو من علّمه عزّ و جلّ، و ظهور الآية فيه واضح، لأن الإنسان قد يهيء لنفسه أمورا لا يطلع عليها غيره، فإذا اخبر بها أحد غيره من دون وساطة و سبب ظاهري لا يشك في أنه إخبار بغيب مكنون، و إنّ المخبر بها على اتصال بعالم الغيب.

و إنما خصّ ما يأكله الإنسان و ما يدّخره باعتبار كونهما مألوفين عنده، و أنهما يأخذان نصيبا وافرا من حياته، و في الإخبار بهما و إظهار هما للعيان لا يسع لأحد إنكاره.

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

أي: أن تلك الخوارق و المعجزات كافية في الهداية و الرشاد، كما أنها داعية بدلالتها الواضحة القاطعة إلى الإيمان برسالتي و صدقي فيها إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان باللّه تعالى، فإنه عليه السّلام بعث إلى قوم يدّعون أنهم مؤمنون.

و الإيمان باللّه تعالى يدعو إلى الإذعان بأنه عزّ و جلّ يرسل الرسل لتكميل النفوس و هداية العباد و إرشادهم إلى الصلاح، و لا يعقل أن تظهر المعجزة على يد

ص: 301

الكاذب، فهو يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه المعجزات صدرت على يد نبيّ صادق في نبوّته، فلا تكونوا ممّن استحوذ عليهم الشيطان، و علم بالحقّ و أنكره، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14].

قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

الجملة حالية، و هي معطوفة على قوله تعالى: بِآيَةٍ ، أي: جئتكم حال كوني مصدّقا.

و المراد بقوله: لِما بَيْنَ يَدَيَّ ، أي ما تقدّمني من التوراة، و اللام فيها للعهد، أي التوراة المعهودة بين الأنبياء، لا التوراة الموجودة في زمانه.

و تصديقه للتوراة هو الإيمان بأن التوراة كتاب إلهي، و إنّ ما فيها حكمة و صواب، و هي التي نزلت على موسى بن عمران، و نظير ذلك ما ورد بالنسبة إلى نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله، فلا دلالة لتصديقهما لما بين يديهما من التوراة على أنها غير محرّفة.

و الآية الشريفة تدلّ على أنه لم يأت ناسخا لها، بل مصدّقا و عاملا بالتوراة إلا في بعض الأحكام.

قوله تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ .

أي: و جئتكم لأحل بعض ما حرّمته شريعة موسى بن عمران على بني إسرائيل، فإنها حرّمت عليهم بعض الطيبات بظلمهم و كثرة سؤالهم، قال تعالى:

فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً * وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [سورة النساء، الآية: 160-161]، كما أنه نسخ بعض الأحكام التي تغيّرت حسب تغيّر المقتضيات و تبدّلها.

و الآية الشريفة تدلّ على أن الإنجيل يشتمل على بعض الأحكام الإثباتيّة، و لكن لا دلالة فيها على أنه يشتمل على شريعة، و إن وقع الخلاف بين العلماء في أن الإنجيل يشتمل على شريعة و أحكام تغيّر ما في التوراة، و قد نسخ الإنجيل بعض ما في التوراة، و لكن لا يقدح ذلك في كونه مصدّقا للتوراة، و قال بعضهم: إن الإنجيل لم يشتمل على أحكام و لم يمح حلالا و لا حراما، بل هو رموز و أمثال،

ص: 302

و مواعظ، و زواجر. و أما الشريعة و الأحكام فهي مأخوذة من التوراة.

و الحقّ ما ذكرناه من أن المستفاد من الآيات الشريفة الواردة في شأن الإنجيل هو أنه يشتمل على إثبات بعض الأحكام، التي هي أوفق بالحكمة و المصلحة الفعليّة، و بعض المواعظ و الأمثال و الأحكام الأخلاقيّة الأدبيّة، و هي بمجموعها مصدّقة لشريعة موسى، و لذا كانت شريعة عيسى موافقة في الجملة و الإجمال لشريعة موسى عليه السّلام، و إن كانت الاولى أكمل من الثانية، و قد نسب إلى عيسى عليه السّلام في الإنجيل: «ما جئت لأبطل التوراة، بل جئت لاكملها».

قوله تعالى: وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

تأكيد لما سبق و تثبيت للحجّة، و تمهيد لما سيأتي في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ . و في الآية الشريفة الدلالة على أن كلّ ما أتى به عيسى عليه السّلام إنما هو من عند اللّه دفعا لتوهّم التضليل و الغلو فيه.

و إنما خصّ الربّ بالذكر، لأنه القائم بشؤون خلقه و المراعي مصالحهم، و هو الذي يسوقهم إلى الكمال.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ .

أي: احذروا مخالفته و غضبه في الإعراض عن الإيمان بي و الإيمان بآيات اللّه و شهادتها برسالتي، و اتقوه في الطاعة لي.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ .

تصريح منه عليه السّلام بأنه عبد اللّه و أنه مبعوث من قبله جلّ جلاله، و ليس له شأن مستقل، و بذلك ينتفي موضوع الغلو و الحلول و الوحدة و التثليث و نحوها فيه، قوله تعالى: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ .

شرح لقول عيسى بن مريم: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ ، و بمنزلة العلّة لذلك.

يعني: لا بد للإنسان أن يرد الصراط المستقيم، و إني أبيّن لكم ذلك الصراط المستقيم، فالتعليل تعليل عقلي، و قضية حقيقيّة لجميع ما ادّعاه عيسى بن مريم، بل و كذا بالنسبة إلى سائر الأنبياء عليهم السّلام.

ص: 303

بحوث المقام

بحث أدبي:

الضمير في (نوحيه) يرجع إلى (ذلك) في صدر الجملة كما عن المشهور، و يحتمل أن يعود إلى (الغيب) ليشمل ما قصّه عزّ و جلّ سابقا و غيرها من القصص.

و صيغة الاستقبال في (نوحيه) تدلّ على استمرار الوحي و عدم انقطاعه.

و جملة: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قيل: مبتدأ و خبر، و الجملة في موضع نصب بالفعل المضمر دل عليه الكلام، تقديره: (ينظرون أيهم يكفل مريم).

و قيل: إنّ الجملة من تتمّة الكلام الأول، و لا حاجة إلى التقدير، أي: يلقون أقلامهم لأخذ النتيجة، و هي أيهم يكفل مريم.

و إذ في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ عطف بيان على (إذ) المتقدّمة في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ أو بدل، و لا يضرّ الفصل الطويل، إذ الجملة جيئت لتثبيت ما ورد فيها، و قيل بدل من (يختصمون)، و هو بعيد لاختلاف الزمانين، فإن الاختصام - كما عرفت - كان في صغر مريم و البشرى كانت في كبرها.

و عيسى بن مريم بدل من المسيح. و عيسى اسم أعجمي لم ينصرف، و ابن يكتب بدون همزة لوقوعه صفة بين علمين، لأن القاعدة أنه إذا وقع كذلك تحذف في الخط و الكتابة تبعا لحذفها في اللفظ، لكثرة استعماله كذلك، و لكن إذا لم يقع بين علمين، سواء كان أحد الطرفين علما و الآخر غير علم، أو لم يكن كلاهما علما، ثبتت الهمزة و لم تحذف في جميع الصور، هذا في غير عيسى بن مريم، و أما فيه فالهمزة ثابتة في القرآن مطلقا و لعلّه إما لأجل أن خط القرآن لا يقاس عليه، و أما لتثبيت ابنيّته مهما أمكن.

قوله تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ ، حال من عيسى كما قاله

ص: 304

الأخفش، أو من (كلمة)، و هي و إن كانت نكرة لكنها موصوفة بما بعدها، و التذكير باعتبار المعنى.

و كذا الحال في بقية الأوصاف المعطوفة: و من المقرّبين، و يكلّم، و من الصالحين، و يكلمه، رسولا. و لا يضرّ عطف الفعل على الاسم في بعض الأفراد منها.

و قوله تعالى: وَ كَهْلاً عطف على الظرف في المهد، الذي هو حال من الضمير في الفعل، و الكهل - كما عرفت - من جاوز الثلاثين، و قد ذكر العلماء أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، و ما دام يرضع فهو رضيع، و إذا فطم فهو فطيم، و إذا دبّ فهو دارج، و إذا بلغ خمسة أشبار فهو خماس، و إذا سقطت رواضعه فهو مثغور، و إذا ثبتت أسنانه فهو مثغر، فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع و ناشئ، و إذا بلغ الحلم أو كاد فهو يافع أو مراهق، و إذا احتلم فهو حرور، و اسمه في جميع هذه الأحوال غلام، و إذا اخضرّ شاربه و أخذ عذاره يسيل قيل قد بقل وجهه، و إذا صار ذا فتاء فهو فتى و شارخ، و إذا اجتمعت لحيته و بلغ شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين و الأربعين فهو شاب ثم كهل إلى أن يستوفى الستين، هذا في الذكور. و أما في الإناث، فهي طفلة ثم وليدة، ثم كاعب إذا كعب ثدياها، ثم ناهد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس إذا ارتفعت عن حدّ الإعصار، ثم خود إذا توسطت الشباب، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين، ثم نصف إذا كانت بين الشباب و التعجيز، ثم شهلة و كهلة إذا وجدت من الكبر و فيها بقية و جلد، ثم شهربة إذا عجزت و فيها تماسك، ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل، ثم قلعم و لطلط إذا انحنى قدّها و سقطت أسنانها.

و آية في قوله تعالى: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ في موضع الحال، أي متلبّسا بآية، و الباء للملابسة، و التنوين للتفخيم دون الوحدة.

و الضمير في قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ يرجع إلى الطير باعتبار المعنى، و في سورة المائدة أنّث الضمير، قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و الطير صالح للواحد و الجمع.

ص: 305

و الضمير في قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ يرجع إلى الطير باعتبار المعنى، و في سورة المائدة أنّث الضمير، قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و الطير صالح للواحد و الجمع.

و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ ، عطف على قوله بِآيَةٍ ، و الجملة حالية، أي: و جئتكم حال كوني مصدقا. و يمكن أن يكون عطفا على قوله:

وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ، و اختلاف الجملتين في الغيبة و التكلّم غير ضائر بالعطف، لا سيما بعد تفسير قوله: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ بقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ، فإنه مخرج للكلام من الغيبة إلى الحضور.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ على أن مريم عليها السّلام كانت محدّثة، تتكلّم مع الملائكة و تكلّمها و تسمع كلامها و قد تعاين شخصها، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 17]، و قد وردت روايات كثيرة على أن المحدّث هو الذي يسمع الصوت و لا يعاين الملك،

ففي الحديث عن محمد بن مسلم قال: «ذكرت المحدّث عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال عليه السّلام: إنه يسمع الصوت و لا يرى الصورة، فقلت: أصلحك اللّه، كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال عليه السّلام: إنه يعطي السكينة و الوقار حتّى يعلم أنه ملك»، و الأخبار بهذا المضمون كثيرة. و اختلاف الروايات في رؤية المحدّث للملك أو عدم رؤيته و سماع صوته فقط، محمول على مراتب كمال النفس، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الرسول و النبيّ و المحدّث.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ ، على تقدّم مريم على نساء العالمين من جهات عديدة قد ذكرها سبحانه في ما تقدّم من الآيات، كالإنبات الحسن، و كفالة زكريا لها، و تحريرها للعبادة، و الرزق من اللّه، و ما يأتي في الآيات اللاحقة، كلزوم الطاعة و القنوت و الخشوع للّه عزّ و جلّ و بشارتها بكلمة

ص: 306

من اللّه المسيح عيسى بن مريم و الحمل من غير فحل، و لعلّ تكرار الاصطفاء في الآية الشريفة لأجل اختلاف مورد الاصطفاء في الموضعين، فالأوّل بلحاظ ما سبق من الكمالات و الصفات الحسنة، و الثاني باعتبار ما يأتي، و الآية الشريفة في مقام بيان فضلها و تقدّمها على سائر النساء من الجهات التي ذكرها اللّه تعالى في القرآن، و أهمّها الحمل من غير أب، فيكون التقدّم على سائر النساء من هذه الجهة، و أما غيرها، فقد يشترك معها شخص آخر، و لا ينافي أن تكون امرأة اخرى أفضل منها من جهة اخرى، فقد وردت أحاديث متواترة بين المسلمين على أن فاطمة الزهراء عليها السّلام سيدة نساء العالمين و سيدة نساء أهل الجنّة، فهي بضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هي الطاهرة المطهّرة المعصومة، و هي زوج علي بن أبي طالب و ام السبطين سيدي شباب أهل الجنّة،

و قد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيدة نساء أهل الجنّة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون».

و أخرج الشيخان عن أبي هريرة، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناهن على ولد في صغره، و أرعاهن على بعل في ذات يده، و لو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا»، و المراد من نساء قريش بعضهن لا جميعهن.

و أخرج ابن حريز عن فاطمة عليها السّلام قالت: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت سيدة نساء أهل الجنّة إلا مريم البتول».

و في الدر المنثور: أخرج أحمد و الترمذي و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية امرأة فرعون».

و فيه: أخرج ابن عساكر عن طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أربع نسوة سادات عالمهن مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و أفضلهن عالما فاطمة».

و في الخصال: بإسناده عن أبي الحسن الأوّل موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «قال

ص: 307

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ أختار من النساء أربعا: مريم، و آسية، و خديجة، و فاطمة»، و الروايات في هذا المضمون من الفريقين كثيرة، و بعضها و إن دلّت على تساويهن في الاصطفاء إلا أنه لا ينافي وجود التفاضل بينهن، كما عرفت من أن فاطمة الزهراء تفضل سائر النساء من جهات عديدة.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ أن هذه الأمور الثلاثة مرتبة على قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ فاصطفاها للزوم الطاعة و القنوت، و طهّرها للسجود و الخضوع، و اصطفاها للخشوع و الركوع مع الراكعين، فكانت هذه الثلاثة مقتضيات للأمور الثلاثة التي وردت في هذه الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أن أخبار مريم عيسى و زكريا و يحيى التي وردت في القرآن الكريم هي الأخبار الصحيحة، و ما سواها لم تسلم من يد التحريف، و قد حكى القرآن الكريم تلك الأخبار بأسلوب جذّاب رقيق و بيان فائق أنيق، يلتذّ السامع من سماعها و يستنير المخاطب من شعاعها، مع أدب بارع لا يعقل فوقه أدب. و هذا ممّا تميّز به القرآن الكريم في قصصه عن غيره من سائر الكتب الإلهيّة، و من أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليقارن ما ورد في التوراة و الإنجيل في أخبار هؤلاء الأنبياء العظام مع ما ورد في القرآن الكريم فيهم، يرى الفرق واضحا و يحكم بالإعجاز في القرآن الكريم.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: نُوحِيهِ إِلَيْكَ على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقه فيها، فقد أخبر صلّى اللّه عليه و آله عن قصة مريم و عيسى و يحيى و زكريا و هو امي لم يقرأ و لم يكتب، و لم يعرفها أحد من قومه قبل الوحي.

السادس: يدلّ قوله تعالى: اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ على أن تسميته المسيح كانت من قبل اللّه تعالى الذي وضع هذا الاسم له، و يستفاد منه أن أسماء الأنبياء إنما تكون من قبل اللّه تعالى، و لعلّ

ما ورد في المأثور: «الأسماء تنزل من السماء»، تختصّ بأسماء الأنبياء، و قد ذكرنا أنه ربما يكون الوجه في هذه التسمية

ص: 308

(المسيح) هو الإشارة إلى نبذ العادة الإسرائيليّة في ما يفعله الزعماء و الروحانيون عندهم.

السابع: يدلّ قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ على شدّة انقطاع هذه المرأة الصالحة إلى خالقها و إخلاصها له تعالى، ممّا أوجب تنازع القوم في حفظها و حراستها، و تشبه مريم عليها السّلام ام موسى عليها السّلام في الحالات الانقطاعيّة إلى اللّه تعالى و إخلاصها في العبوديّة.

و قد ذكر سبحانه و تعالى حالات مريم العذراء و أطوار خلقها في القرآن الكريم بهذا الوجه اللطيف و الأسلوب الجذاب، و وصفها بأوصاف كثيرة تدلّ على جلالة قدرها و عظيم منزلتها عنده عزّ و جلّ، و هذا من أهم موجبات الألفة و الحنان بين المسلمين و النصارى.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ أن ما خلقه عيسى لم يكن له نظير في الخارج، و إنما كانت صورته كصورة الطير.

التاسع: إنما ذكر تعالى تكلّم عيسى في المهد و عند الكهولة و هي آخر قوة نشاط الشباب و كمال القوى، للإعلام بأن تكلّمه في حال صباه كمثل تكلّمه في دور كمال قواه، و لم يكن كلامه في حال الصبا كتكلم سائر الصبيان، فيكون عيسى المسيح في مهده حينما يقول بلسان فصيح: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي [سورة مريم، الآية: 32] هو حين كهولته، و حين رفعه إلى السماء يقولها كذلك، لأنه خلق لإظهار الحقّ، و لا حقّ إلا ذلك.

العاشر: إنما ذكر تعالى أمثلة متعدّدة لآيات نبوّته و صدق دعوته، لأن كلّ واحد منها مثال لعالم من العوالم الخلقيّة.

الأول: إيجاد الروح الحيوانيّة التي هي أوسع العوالم الخلقيّة، و إنما مثّل بخلق الطير، لأنّه فيها من جهات الخلق و الإعجاب ما ليس في غيره.

الثاني: للروح الإنسانيّة بإبراء الأكمه و الأبرص اللذين هما من أشدّ

ص: 309

الأمراض إزعاجا، بل قد يكونان من أعظم المهلكات، فتكون كناية عن سلطنة الروح الإنسانيّة من كلّ جهة.

الثالث: إحياء الموتى الذي هو السلطة التامّة على الروح، و كونها تحت أمره بحيث يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

الرابع: عالم الغيب، بحيث يكون حاضرا لديه.

الحادي عشر: إنما كرّر سبحانه و تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ ، لبيان أنه لا شأن لعيسى و غيره من الأنبياء في صدور المعجزات عنهم، و المدار كلّه على إذنه تعالى و إرادته، قال جلّ شأنه: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة المؤمن، الآية: 78]، و بذلك تبطل دعوى الغلو و الالوهية فيهم.

و لم يذكره سبحانه و تعالى في آيتين من الآيات الأربعة - و هما إبراء الأكمه و الأبرص و الإنباء بالمغيّبات - إما لأجل استفادة الإذن فيهما من الآيتين الأخيرتين بالأولى، لأن ذلك بالنسبة إليهما يعدّ من العرضي، و الإذن في الذاتي يستلزم الإذن في العرضي. مع أنه قد ذكر في سورة المائدة وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و إما لأجل أن هذين الأمرين من الإنباء و الإبراء ينبغي أن يكونا من مقامات الأولياء، لا أن ينسب أوّلا و بالذات إلى اللّه تعالى، لأن مقام ولايتهم يقتضي تفويض مثل هذه الأمور إليهم، فلهم أن يفعلوا فيها بما يشاءون، و لذا قال: وَ أُنَبِّئُكُمْ فنسب ذلك إلى نفسه، فإن مقام الولاية مقام برزخي بين الالوهية الحقّة و الخلقيّة الصرفة.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، على أن الإنسانيّة الكاملة هي غاية التكوينات و التشريعات لما ذكرناه مرارا، و من أنها هي الصراط المستقيم و الجسر الممدود بين المبدأ و المعاد، و هو و إن كان حادثا و لكنه بحسب البقاء أبدي كأزلية اللّه تعالى و أبديته، فهذه الأمور الثلاثة: المبدأ تبارك و تعالى، و الصراط المستقيم، و الدار الآخرة، متلازمة حقيقة، و إن كانت مختلفة مفهوما.

ص: 310

بحث فلسفي:

ذكرنا مرارا أنه قد جرت سنّة اللّه تعالى على إيجاد المسبّبات الماديّة بأسبابها الخاصة بها كلّ صنف بحسبه، كذلك جرت عادته سبحانه و تعالى في توجيه المسبّبات المعنويّة و الروحانيّة بأسبابها الخاصة كلّ صنف بحسبه، و من أهم تلك الأسباب أنبياء اللّه تعالى و أولياؤه، فيفاض بهم على النفوس المستعدّة ما ينتظم به نظام العالم بماديّاته و معنويّاته نظما دقيقا متقنا، و الكلّ مسخّرات تحت أمره تعالى و صادرة عن إرادته، و هي تحيط بهم و تخرج منهم، و لابدع في ذلك بالنسبة إلى من أفنى جميع شؤونه و حيثيّاته فيه عزّ و جلّ، و تشهد لذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة.

ثم إنّ هذا العالم الذي نعيش فيه مركب من أمرين، واقعي معنوي و ظاهري صوري، و لكلّ منهما مدبّر و ولي أمر قائم به.

و الأول: عبارة عن تجلّيات الآخرة في هذا العالم بواسطة الكتب السماويّة و الأنبياء و المرسلين و الأولياء الصالحين و العلماء العاملين، و العقل المجرّد المقرّر بالكتب السماويّة.

و الثاني: عبارة عن تجليّات الدنيا بنفسها لأهلها، و هي فانية زائلة و إن بلغت ما بلغت في الكمالات الوهميّة و المراتب الخياليّة، فلا بد في طلب كلّ متاع من الرجوع إلى أهله و إلا بطل الطلب و خسرت الصفقة، سواء كان الطلب هو العقل المجرّد أم سائر القوى الخادمة له، و الأمران متشابكان، فلا لبّ إلا و معه قشر، و لا قشر إلا و فيه اللب، و اللبيب هو الذي ميّز بين الأمرين فاختار اللب و عدل عن القشر.

بحث روائي:

في تفسير القمّي: في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ قال عليه السّلام: «اصطفاها مرتين: أما الاولى

ص: 311

فاصطفاها، أي اختارها. و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل، فاصطفاها بذلك على نساء العالمين».

أقول: يستفاد من الحديث أن جهات الاصطفاء مختلفة، و يمكن أن تكون في نفس واحدة جهات عديدة من الاصطفاء، و يمكن أن يستفاد من إطلاق الاصطفاء في مثل الخليل و الكليم، تحقّق جملة من جهات الاصطفاء.

و في المجمع: قال أبو جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ اصطفاك لذرّية الأنبياء و طهّرك من السفاح، و اصطفاك لولادة عيسى من غير فحل».

أقول: ظهر وجه ذلك ممّا تقدّم آنفا.

و في الدر المنثور: أخرج الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل نساء العالمين خديجة، و فاطمة، و مريم، و آسية امرأة فرعون».

أقول: الأفضليّة من الأمور النسبيّة الإضافيّة، و يمكن أن تتحقّق في بعض هذه الأربعة أشدّ و أكثر من تحقّقها في البعض الآخر، و يصحّ أن يقال بأفضليّة خديجة من جميع تلك النساء.

أولا: لأنها أوّل مسلمة، و أنها بذلت نفسها و نفيسها في الإسلام و تكفّلت مثل محمد خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أفضل جميع الموجودات، فحازت بذلك درجة لا يمكن حصولها لأحد غيرها من النساء.

و ثانيا: أنها ام المؤمنين و ام الأئمة الأطهار عليهم السّلام. و ام فاطمة الزهراء، فإن جهات شرفها على البقية ممّا لا تخفى على كلّ مسلم، و قد تقدّم بعض الكلام فيها أيضا.

و في العلل: عن الصادق عليه السّلام في حديث: «أن مريم كانت سيدة نساء عالمها، و أن اللّه عزّ و جلّ جعل فاطمة سيدة نساء عالمها و عالم ابنة عمران و سيدة نساء الأوّلين و الآخرين».

أقول: هذا الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا.

ص: 312

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ قال عليه السّلام:

«لما ولدت اختصم آل عمران فيها فكلّهم قالوا نكفلها، فخرجوا و قارعوا بالسهام بينهم، فخرج سهم زكريا فتكفّلها زكريا».

أقول: المقارعة بالسهم عند حصول الحيرة و التحيّر فطريّة في الجملة، و قد قرّرها الشارع، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «يقرعون بها حين أوتمت من أبيها».

أقول: لا تنافي بين هذا الحديث و سابقه، لأن المشهور أنها أوتمت و هي في الحمل، مضافا إلى أن تحريرها للبيت عبارة عن انقطاعها عن أبيها، و لم يكن من يكفلها إلا سدنة البيت.

و في إكمال الدين: عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قال: «إنه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة، و كانت نبوّته ببيت المقدس».

أقول: إنه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة باعتبار فعليّة الدعوة، لا بالنسبة إلى أصل النبوّة، فإنها عامّة و من اولي العزم.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ عن الصادق عليه السّلام قال: «كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص بما اوصي به نوح و إبراهيم و موسى، و انزل عليه الإنجيل، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيّين، و شرّع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و انزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود ليس فيها قصاص، و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و انزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، و هو قول اللّه في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، و أمر عيسى من معه ممّن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل».

ص: 313

أقول: في الروايات كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة و ثمانون سنة، و يمكن حمل ذلك على اختلاف السنين بحسب الأقوام، على أنه لا ثمرة في تحقيق ذلك.

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ عن الباقر عليه السّلام:

«أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل: إني رسول اللّه إليكم و إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه و أبرئ الأكمه و الأبرص، و الأكمه هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا، فأرنا آية نعلم أنك صادق، قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم - يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا و ما ادخرتم بالليل - تعلمون اني صادق؟ قالوا:

نعم، فكان يقول: أنت أكلت كذا و كذا أو شربت كذا و كذا و رفعت كذا و كذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من يكفر و كان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين».

أقول: إنّ الإخبار بالمغيّبات الشخصيّة التي تتعلّق بحالات الأفراد له الأثر الكبير النفسي في نفوسهم، فتتعلّق نفسهم بالخبر، و لذا كان الإنباء من آخر الآيات التي جرت على يد عيسى عليه السّلام، و لم يكن يقدر أحد من المخاطبين على إنكاره.

و في تفسير القمّي - أيضا -: في قوله تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ و هو السبت، و الشحوم، و الطير الذي حرّم اللّه تعالى على بني إسرائيل».

ص: 314

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّ.......

اشارة

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اِتَّبَعْنَا اَلرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (60) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة من قصص عيسى عليه السّلام، و بيّن ما عليه من الصفات الحميدة و ما جرت من المعجزات على يديه، و دلّت الآيات الباهرات على صدق نبوّته و صحّة دعواه، و أمر الناس بطاعته، و اعتبر أن متابعته هي الصراط المستقيم.

شرع في هذه الآيات الشريفة ببيان ما آل إليه أمره و ما جرى بينه و بين قومه بني إسرائيل من العناد و الكفر، و ما لاقاه منهم من الإعراض و التولّي.

و على الرغم من أن المسيح جاء لينجيهم و يخفّف عنهم بعض الأعباء و التكاليف الشاقّة التي حملوها على أنفسهم، عاندوه و همّوا بقتله، و عندئذ دعا دعوته: (من أنصاري إلى اللّه)، فلبّوا النداء الحواريون و أعلنوا انتصارهم له، فأنجاه اللّه تعالى من مكرهم و رفعه إليه، و أوعد الكافرين بالخزي و العذاب، و وعد

ص: 315

المؤمنين به علو الذكر و حسن المآب، ثم ختم عزّ و جلّ بأن خلق عيسى كخلق آدم و أنهما خلقا بالأمر التكويني الخارق للعادة، و اعتبر أن ذلك هو الحقّ، و غير ذلك من الدعاوي هي الباطلة.

و أوجز سبحانه في هذه الآيات القصص بما يؤدّي المطلوب منها في المحاجّة مع وفد نجران حين قدموا المدينة، و ذكر بعض الخصوصيات في مواضع اخرى من القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ .

مادة (حسس) تدلّ على الإدراك بالمشاعر الحسيّة، كالعين و الاذن و الأنف و اللسان و اليد - و يقابله الدرك العقلي، أي ما يدركه الفكر، قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [سورة مريم، الآية: 98]، و قال تعالى:

فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [سورة الأنبياء، الآية: 12]، و قال تعالى: حكاية عن يعقوب يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ [سورة يوسف، الآية: 87]، أي اطلبوه عن طريق الحسّ،

و في الحديث: «ان الشيطان حساس لحاس»، أي شديد الحس و الإدراك،

و في الحديث أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان في مسجد الخيف فسمع حسّ حية»، أي حركتها و صوت مشيها.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى ب (أحس) مع أن الكفر من الأمور المعنويّة، لبيان أن كفرهم بلغ مبلغا حتّى تعلّقت به الحواس الظاهرة، فيكون استعارة بليغة، كما في قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 12].

و المعنى: فلما عرف عيسى من بني إسرائيل الكفر و علم منهم العناد و اللجاج، و أنهم قصدوا إيذاءه مع وضوح تلك الآيات الباهرات التي عرفوها منه، دعا

ص: 316

الأنصار لتثبيت شرع اللّه تعالى و التمسّك بدينه.

و في الآية الشريفة التسلية لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين ما رأى من قومه العناء و اللجاج.

كما يستفاد منها أن الآيات الكونيّة و المعجزات الباهرات لا تلجئ أحدا على الإيمان و لا تكون ملزمة له، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة مثل قوله تعالى:

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية:

56]، و ذلك صدر منهم من العناد و اللجاج ما جعل الأنبياء في العناء و المشقّة من أقوامهم.

قوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ .

الأنصار جمع نصير، فعيل بمعنى فاعل، لأن كلّ واحد من المتناصرين ناصر و منصور، و هو بمعنى العون، و نصرة اللّه للعبد ظاهرة، و أما نصرة العبد للّه هي نصرته لعبادته و القيام بحفظ حدوده و رعاية عهوده و امتثال أوامره و اجتناب مناهيه.

و إنما أضاف إلى الأنصار نفسه لبيان أن نصرته نصرة اللّه تعالى. و قيّد الأنصار بكونهم إلى اللّه، للتحريض و التشويق إلى لقاء اللّه تعالى، و نظير ذلك كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة النساء، الآية: 136]، و قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً [سورة البقرة، الآية: 245]، و قد ذكر سبحانه و تعالى في موضع آخر بما يرفع الإجمال عن هذا الموضع، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اَللّهِ ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ [سورة الصف، الآية: 14].

و الاستفهام في هذه الآية الشريفة لاختبار القوم و معرفة المؤمن منهم عن غيره، و بيان أهمية النصرة للّه تعالى.

ص: 317

قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ .

الحواريون جمع حواري، و أصل المادة تدلّ على البياض و التخلّص من كلّ عيب، و لذلك سمّيت نساء أهل الجنّة بحور العين لشدّة بياضهن و سواد عيونهن،

و في الحديث: «أن في الجنّة لمجتمعا للحور العين».

و إنما سمّى ناصر الأنبياء حواري، باعتبار خلوصه في نفسه عن العيب و الذنب و إخلاصه لغيره، فيكون ناصرا و خاصّة له.

و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا بالنسبة إلى أصحاب المسيح عليه السّلام، و هم رسله الّذين أخلصوا في أنفسهم و نقّوها من كلّ عيب و كانوا مخلصين له، و هم الّذين كان عيسى عليه السّلام يرسلهم إلى بني إسرائيل للوعظ و الإرشاد.

و قد اختلفوا في عددهم، و المشهور أنهم كانوا اثنى عشر رسولا، و ذكرهم إنجيل متى في الاصحاح العاشر 2-4، و قيل إنّ عددهم سبعون، و هم الّذين اختارهم عيسى و أرسلهم إلى الأقوام ليعلموهم المسيحيّة، و لا فائدة في معرفة العدد بعد وضوح أصل المعنى و أن المناط هو تحقّق الإخلاص و الخلوص.

و المستفاد من الآية الشريفة - كما عرفت - أن الحواري أخصّ من مطلق الصاحب.

و الآية المباركة ترشد إلى أمر اجتماعي، و هو أن كلّ مرشد في الاجتماع لا بد و أن يهيء لنفسه مركزا يكون مصدرا لإرشاده و يعتمد عليه في ما يستجدّ من الحوادث و يستمد منه القوة حين ما يتطلب ذلك، و إلا كان عمله هدرا و أتعابه سدى. و هذا من أهم الأمور التي أشير إليها في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، قال تعالى حكاية عن لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود، الآية: 80]، و في ابتداء الدعوة في الإسلام اختار الرسول صلّى اللّه عليه و آله رجالا جعلهم مصدر الدعوة، و ذلك في بيعة العقبة و بيعة الشجرة، كما نتابع الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 318

قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ .

أي: استجابوا إلى دعوة المسيح، و هم الّذين اختارهم عيسى و جعلهم من حواريه، و قالوا: نحن متبعوك و ناصروك في الدعوة إلى دين اللّه و الجهاد في سبيله، و يفسّر معنى النصرة في اللّه ما بعد هذه الآية.

و في قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ ، الطباق الشديد، أي:

نحن ناصروك لأنه نصرة اللّه تعالى.

قوله تعالى: آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

تبيّن هذه الجملة معنى نصرة اللّه، إذ الإيمان الحقيقي نصرة اللّه تعالى، و نصرته جلّ جلاله ترجع إلى كمال النفس الإنسانيّة، و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.

و قوله جلّ شأنه: وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ ، تسليم لهم لنبيّهم تسليما حقيقيّا.

و هيئة التسليم تدلّ على الخضوع للّه تعالى و إطاعته في جميع تشريعاته، و الإيمان من إحدى طرق التسليم، و لها مراتب متفاوتة.

و سياق الآية الشريفة يدلّ على كمال إيمانهم، و تمكّنه في قلوبهم، حتى ظهر التسليم و الخضوع على جوارحهم عن جوانحهم و طلبوا من عيسى الشهادة بذلك.

و في الآية المباركة الدلالة على أن الإيمان باللّه تعالى لو لم يكن مقرونا بشهادة المتبوع لا أثر له أبدا. و تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143].

و يستفاد من الآية الشريفة أن إيمان الحواريين كان راسخا في قلوبهم، و إنما طلب عيسى عليه السّلام منهم النصرة للّه تعالى إتماما للحجّة على غيرهم ممّن أحسّ منهم الكفر، و إعلانا لشأنهم و إظهارا لدرجاتهم الكاملة في الإيمان، فيكون قولهم (آمنا باللّه) تأكيدا لما آمنوا به أولا، و تثبيتا لشهادة عيسى على ذلك، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، و الوحي - بأي معنى أخذ - كاشف عن كمال إيمانهم و جلالة قدرهم، و لكن استفادة كونهم أنبياء اللّه من الوحي إليهم مشكل، لأنه أعمّ من ذلك، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ [سورة القصص، الآية: 7].

ص: 319

و يستفاد من الآية الشريفة أن إيمان الحواريين كان راسخا في قلوبهم، و إنما طلب عيسى عليه السّلام منهم النصرة للّه تعالى إتماما للحجّة على غيرهم ممّن أحسّ منهم الكفر، و إعلانا لشأنهم و إظهارا لدرجاتهم الكاملة في الإيمان، فيكون قولهم (آمنا باللّه) تأكيدا لما آمنوا به أولا، و تثبيتا لشهادة عيسى على ذلك، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، و الوحي - بأي معنى أخذ - كاشف عن كمال إيمانهم و جلالة قدرهم، و لكن استفادة كونهم أنبياء اللّه من الوحي إليهم مشكل، لأنه أعمّ من ذلك، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ [سورة القصص، الآية: 7].

قوله تعالى: رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اِتَّبَعْنَا اَلرَّسُولَ .

تضرّع منهم إلى اللّه تعالى و الدعاء على الإيمان، فيكون مثل قوله تعالى:

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [سورة آل عمران، الآية: 8].

و الجملة مقول قول الحواريين، و إنما حذف القول مبالغة في التضرّع، و للدلالة على التشرّف بالدعاء، و لبيان نفس الحكاية، و هو من أحسن الأساليب البلاغيّة و هو في القرآن الكريم كثير جدا، و يستفاد أن الداعي قد أهمل نفسه أمام المدعو و لا يرى لها شأنا، و إنما همّه التضرّع و عرض الحال.

و إنما ذكر المتابعة للرسول بعد الإيمان باللّه تعالى، لبيان أن الإيمان به جلّت عظمته يستلزم العمل بما جاء به الرسول، و أن أحدهما بدون الآخر لا أثر له.

قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ .

أي: و ثبّتنا مع الشاهدين، و المراد منه المعنى العام للشهود في كلّ عالم من العوالم، ففي عالم الدنيا شهود الواقع و الحقّ على ما هو عليه، المشتمل على تبليغ الحقّ أيضا، الذي هو من أعلى درجات الإيمان، بل لا درجة فوقه، كما في قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ [سورة المائدة، الآية: 83].

و بالنسبة إلى أعمال الجوارح شهود مطابقتها مع الواقع، و بالنسبة إلى عالم البرزخ و الآخرة شهود عين تلك الحقائق بصور مناسبة لتلك العوالم، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]، بعض الكلام فراجع.

ص: 320

قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ .

التفات إلى بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر، و مادة (مكر) تدلّ على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصده، فإذا كان بحيلة فهو خديعة و شرّ، و إن كان بغيرها كان محمودا، و لذا يتقسّم المكر إلى قسمين، حسن و سيء، قال تعالى:

وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ [سورة فاطر، الآية: 43]، و قال تعالى:

أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ [سورة النحل الآية:

45].

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مكرّرة تبلغ أكثر من أربعين موردا نسبت..

تارة: إلى الإنسان بلا واسطة، قال تعالى: قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [سورة النحل، الآية: 26]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [سورة الأنفال، الآية: 30]، و أشدّ ما وصف اللّه تعالى به مكر الإنسان قوله عزّ من قائل: وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ [سورة إبراهيم، الآية: 46].

و اخرى: بواسطة، قال تعالى: بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ [سورة سبأ، الآية: 33]، و المراد به الظلم و الشرّ الواقعان في الليل و النهار من الإنسان.

و ثالثة: نسبت إلى اللّه جلّ شأنه مزاوجة و مشاكلة في اللفظ، كما في هذه الآية الشريفة، و في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة النمل، الآية: 50]، و بدون مزاوجة، قال تعالى: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 99].

و قد اختلف المفسّرون و العلماء في نسبة المكر إلى اللّه تعالى، فقيل إنه لا يجوز

ص: 321

نسبته إليه عزّ و جلّ لأنه منزّه عن المكر و الخديعة، فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة، و قالوا إنّ كلّ مورد ورد فيه المكر منسوبا إليه عزّ و جلّ يحمل على الاستعارة، و هي تسمية جزاء المكر مكرا مقابلة كما هو المعروف عند العرب، مثل قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [سورة البقرة، الآية: 194]، و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و هذا القول منهم مبني على استعمال المكر في المعنى السيء فقط، و هو المساوق للخديعة و الشرّ، فيكون قبيحا و اللّه تعالى منزّه عنه، و لكن استعمال القرآن الكريم يأبى ذلك كما عرفت، مضافا إلى أنه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي معا، و هو غير صحيح.

و قيل: إنه يجوز إطلاق المكر عليه تعالى كما اطلق على غيره من أفراد الإنسان من دون مشاكلة أو الخروج عن المعنى الحقيقي، و أصحاب هذا القول اختلفوا في توجيه المكر بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و جميع ما قيل في ذلك لم يقم عليه دليل يصحّ الاعتماد عليه.

و الصحيح أن يقال: إنّ المكر في الأصل يطلق على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصوده خفية و سرّا، و بهذا المعنى يصحّ إطلاقه عليه عزّ و جلّ بلا محذور فيه من عقل أو نقل، لفرض أن جميع أسرار إرادته المقدّسة مخفيّة عن من سواه، و هو عبارة اخرى عن التدبير الأتم بما تقتضيه الحكمة المتعالية بأعمال خفية لا يعلمها الإنسان، فيجازي الظالمين على ظلمهم و الماكرين بمكرهم، و يحسن إلى المحسنين بما يوافق اللطف، و يؤيّد هذا المعنى

ما ورد في بعض الدعوات المأثورة: «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك و لا تمكر بي في حيلتك»،

و في الحديث: «اللهم امكر لي و لا تمكر بي»، و معنى الحديث: ألحق مكرك بأعدائي لا بي، فإن مكره جلّ شأنه إيقاع بلائه بأعدائه دون أحبّائه و أوليائه.

و المراد بمكر بني إسرائيل في المقام اعمالهم جهات النفاق مع عيسى عليه السّلام، كما حكى اللّه تعالى عنهم مع أنبياء اللّه تعالى في آيات اخرى، مثل تحريف الكلم عن

ص: 322

مواضعه و إيذاء الأنبياء و قتلهم و تشريدهم.

كما أن المراد بمكر اللّه تعالى جزاؤهم بما خفي عن ادراكهم و لم تصل إليه عقولهم، بأن شبه المسيح عليهم و ردّ كيدهم على أنفسهم مع اعتقادهم بأنهم قتلوه، فإنه لو رفعه اللّه تعالى علنا و بمرأى منهم لاستحكمت شبهة الغلو و الالوهية فيه، و لو رفعه خفية لطال التشاجر و النزاع و المحنة على المؤمنين و كثر فيهم القتل و هتك الإعراض، طلبا منهم لإظهاره و تسليمه، فكان ذلك التشبيه لطفا خفيّا و مكرا منه عزّ و جلّ وفق الحكمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ .

أي: و اللّه يفعل أفعالا خفيّة بما تقتضيه الحكمة المتعالية مع غفلة أهل المكر عن ذلك، و كون مكره تبارك و تعالى خيرا محضا، إذ لوحظ بالنسبة إلى النظام الكلّي، و يكون المكر بعباده في نصرة الحقّ و أهله و إبطال الباطل و إزهاقه.

قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ .

بيان لمكره عزّ و جلّ و إعمال سرّه الخفي على الناس، و العامل في (إذ) قوله (و مكر اللّه).

و مادة (و ف ي) تدلّ على أخذ الشيء وافيا تماما في الجملة، و هذا المعنى هو الشائع في جميع استعمالاتها العرفيّة و القرآنيّة،

و في حديث المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت»، أي نمت و طالت أو كملت كالأوّل،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها»، أي تمت العدّة بكم سبعين.

و أما الوفاة بمعنى الموت، فهو أحد موارد استعمالات هذه المادة، و ليس من المعنى الحقيقي لها.

نعم، شاع استعمالها في الموت، و لعلّه لأجل أن الإنسان يأخذ من الحياة نصيبه التام بحسب استعداده، فاللّه يميته بعد ذلك و ينقله إلى عالم آخر.

و يدلّ على ما ذكرنا جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [سورة الأنعام، الآية: 60]، و المراد

ص: 323

به التوفّي بأخذهم النوم و غلبته عليهم، و قوله تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى [سورة الزمر، الآية: 42]، و لا يستقيم معنى الآية الشريفة لو كان معنى التوفّي هو الموت، أي اللّه يميت الأنفس حين موتها و التي لم تمت يميتها في منامها.

و من هذه الآيات و ما تقدّم من نظائرها يستفاد أن التوفّي أعمّ من الموت، بل لم يستعمل التوفّي في الموت إلا بعناية خاصة، و لذا لو لم تكن هذه العناية استعمل الموت بدله، و هي أن الوفاة إنما تستعمل في مورد يكون فيه أخذ الشيء محفوظا من دون نقص، كما في وفاء الدين و نحوه، فيقال: «وافيته في الميعاد»، و بهذه العناية تستعمل في الموت و النوم، حيث تحفظ فيهما نفس الإنسان و لا تنعدم فيهما و لا يبطل شأنهما، فاللّه تعالى يأخذ الأنفس و يحفظها حتى زمان عودها إلى الأجساد، لكن يختلف عالم النوم و عالم الموت.

و قد عبّر سبحانه و تعالى بالموت في عيسى في مورد آخر، حيث لم تكن هذه العناية، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 159].

و بالجملة: التعمّق في موارد استعمال هذه المادة في الألسنة و اعتبارها مرادفة له، بحيث يتبادر منه هذا المعنى كلّ ما اطلق، و لكنه مع ذلك لا يوجب صرف اللفظ عن المعنى الموضوع له، و يقتضى أن الجامع القريب هو ما ذكرناه.

فيكون معنى الآية الشريفة هو أخذ عيسى عليه السّلام من عالم الأرض و من بين الناس و حفظه عن مكر اليهود من دون أن ينالوا منه شيئا، حتى زمان عوده إلى الأرض، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر ردّا على اليهود: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 157-156].

و هذه الآية الشريفة صريحة في ردّ مزاعم اليهود في قتله و ابطال دعوى النصارى

ص: 324

في موت المسيح بالصلب و رفعه إلى السماء بعد قتله على ما ذكروه في الأناجيل.

مضافا إلى أن قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 159]، ظاهر في أنه لم يمت و أن موته سيقع بعد ذلك، و بانضمام هذه القرائن لا يبقى مجال للقول بأن المراد بالتوفّي هو الموت، هذا و لجمهور المفسّرين وجوه في تفسير الآية الشريفة.

منها: ما نسب إلى ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ، أي مميتك.

و لكن النسبة إليه مشكوكة، كما نسب إليه جملة من مسائل نافع بن الأزرق، و على فرض صدق النسبة لا دليل على حجّيته إلا إذا نسبه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجه معتبر.

و منها: ما نسب إلى الربيع بن أنس أنه قال: «وفاة نوم لا وفاة موت»، و استشهد لذلك بجملة من الآيات الشريفة.

و لكنه مردود بما عرفت سابقا، كما أنه اجتهاد بلا دليل عليه.

و منها: ما عن قتادة: هذا من المقدّم و المؤخّر، أي: رافعك إلي و متوفيك. و هو خلاف الظاهر، بل مخالف لصريح الآيات الاخرى.

و منها: أن المراد هو الإماتة العادية المعروفة، و أن الرفع بعدها للروح، كما قال تعالى في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 57].

و لكنه بعيد عن سياق الآيات، مع مخالفته لصريح الآيات الاخرى و النصوص الدالّة على حياته الجسمانيّة، و سيأتي الكلام في رفعه إلى السماء.

و منها: ما عن بعض المفسّرين أنه عليه السّلام نجا من اليهود و مات حتف أنفه و دفن في الأرض ثم رفعت روحه، و استدلّوا بظاهر لفظ الوفاة في المقام، و في سورة المائدة، الآية: 117، و قوله تعالى حكاية عنه: فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ . و كذا قوله تعالى حاكيا عنه: وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33]، الدال على أن

ص: 325

عيسى ككلّ البشر يولد و يموت و يبعث.

و فيه: أن أصل الكبرى مسلّمة، فإنه عليه السّلام كسائر الأنبياء له موت بلا إشكال، و أما أن المراد بالتوفّي في المقام هو الموت الشائع، فهو أوّل الدعوى يحتاج إلى دليل، و الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل هي ناظرة إلى أصل الكبرى، و يدلّ عليه أيضا ما يأتي من:

قوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ .

عطف على خبر إن، و الرفع: ضد الوضع، و هو يستعمل في ما يشتمل على العلو، سواء كان علوا معنويّا، كشرف المنزلة و الفضيلة و غيرهما مثل قوله تعالى:

وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [سورة الزخرف، الآية: 32]، و قوله تعالى:

يَرْفَعِ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ [سورة المجادلة، الآية: 11]، قال الشاعر:

تلك الأماني يتركن الفتى ملكا *** على الأنام و لم ترفع له رأسا

يعني: أن الآمال توهم الفتى أنه قد صار ملكا، و لكن لا تعطيه كرامة و شرفا في الواقع.

أو محسوسا ظاهريا كما في الأجسام الخارجيّة، إذ أعليت عن مقرّها، مثل قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ [سورة البقرة، الآية: 63]، و قوله تعالى:

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ [سورة البقرة، الآية: 127]،

و في حديث الاعتكاف: «كان إذا دخل العشر الآخر ايقظ أهله و رفع المئزر»، و لعلّه كناية عن الاجتهاد و الجد في العبادة بارتقاء النفس.

و هو من الأمور النسبيّة تختلف باختلاف المتعلّق، قال تعالى حكاية عن يوسف: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ [سورة يوسف، الآية: 100]، و قال تعالى:

وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ اَلْمِيزانَ [سورة الرحمن، الآية: 7].

و من أسمائه تعالى: «الرافع»، و هو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد و أولياءه بالتقرّب إليه. و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ بعض الكلام.

ص: 326

و الجملة قرينة اخرى لبيان معنى التوفّي في الجملة السابقة. أي: أخذك من بين اليهود و أحفظك من مكرهم بالرفع إليّ.

و إنما قيد الرفع بقوله: (الي) مع أنه تعالى لا يحويه مكان و لا يخلو عنه مكان، تفخيما لغاية الرفع من الأرض التي طالما أفسدها الكافرون و الفساق، فرفعه تعالى إلى موضع خاص محض لتسبيح اللّه تعالى و تقديسه، و لا توجب هذه الكلمة (إليّ) صرف الرفع إلى الرفع المعنوي، باعتبار أنه لا يتصوّر القرب و البعد المكاني إليه عزّ و جلّ، فيكون نظير قوله تعالى: في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 57]، لأن ظاهر الخطاب و تكريم الرفع إلى عيسى عليه السّلام بكاف الخطاب ظاهر في رفع الموجود في الخارج و هو الجسم مع الروح، لا أحدهما فقط.

إن قلت: إنّ الشأن في الإنسان هو الروح فقط و الجسم تابع لها، فيصحّ توجيه الخطاب إلى الروح فقط.

قلت: نعم هو صحيح في الجملة، و لكن سياق الكلام يأبى عن ذلك، لأن رفع الروح إلى السماء إنما هو شأن كلّ نبي، بل ولي و أهل التقوى، فلا تبقى خصوصية في تخصيص عيسى بذلك، و لا بد أن يكون في البين جهة معينة، و هي رفع روحه مع جسمانيّته الظاهرة، و بذلك امتاز عيسى عليه السّلام عن إدريس الذي كان الرفع فيه معنويّا روحانيّا، بقرينة قوله تعالى: مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية:

57]، أي مكانة و منزلة ممتازة عن غيره، فيكون الخطاب في المقام بالنسبة إلى عيسى كقوله تعالى بالنسبة إلى موسى عليه السّلام: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: 41]، حيث إنّ ظاهر حرف الخطاب إنما يكون مع الإنسان الخارجي روحا و جسما، مع أنه لو جعلنا الإنسان البرزخي كالإنسان في الدنيا مركبا من الجسم و الروح كما أثبتناه في محلّه من أن الموجودات البرزخيّة و الاخرويّة عين ما في العالم، فالأمر أوضح.

إن قلت: بناء على ذلك فلا فرق بين عيسى عليه السّلام و غيره في أن للجميع وجودا برزخيّا أيضا.

ص: 327

يقال: الفرق حينئذ أنهم ماتوا فصار وجودهم وجودا برزخيّا، و عيسى عليه السّلام لم يمت بل صار بوجوده العنصري الدنيوي وجودا برزخيّا، فيكون عيسى عليه السّلام من قبيل الكلّي المنحصر في الفرد، كما هو شأن الموجودات الفلكيّة.

قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

الطهارة معروفة، و هي تستعمل في الطهارة الظاهريّة من الأرجاس، و المعنويّة من الذنوب و الأحداث. و في معنى آخر ألطف من ذلك كلّه و هو:

التخلّص ممّا هو من غير سنخه و صنفه.

و الجملة معطوفة على خبر (إن)، و هي قرينة اخرى على أن المراد بالرفع هو الجسماني و الروحي معا، و المراد منها الطهارة المعنويّة من رجس الكافرين و كفرهم و ابتعاده عن مخالطتهم و مكائدهم، و عن مجتمع استولت عليه كلّ رذيلة و كفر و جحود، و تنزيهه عن شبههم، فيكون بمنزلة ابتعاد الطير عن السباع بل أشدّ.

و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سبب تطهيره، و هو الكفر و مجالسة الكفّار.

قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

وعد حسن و بشرى لعيسى عليه السّلام و متبعيه. و المراد من الّذين اتبعوك هم الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام و اهتدوا بهديه، و اتبعوه في جميع ما أنزل اللّه تعالى عليه، فنالوا رضى اللّه تعالى و حبّه عزّ و جلّ، و وعدهم الخير و التفوّق على الّذين كفروا و أعرضوا عن نبوّته.

و من سياق المقابلة بين الطائفتين يستفاد أن الطائفة الاولى هي المؤمنة الهادية المطيعة لربّها، التي اتصفت بمقام الرضا و المحبّة للّه تعالى، و هم مختصّون بمن تابع عيسى عليه السّلام و استقام على الهدى دون كلّ من نسب نفسه إلى النصرانيّة، كيف و قد اعتقدوا بالكفر و ما يخالف العبوديّة و أنكروا ما جاء به عيسى عليه السّلام، على ما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فيشمل النصارى المؤمنة قبل ظهور الإسلام و المسلمين بعد ظهوره، المؤمنين بعيسى عليه السّلام المبشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 328

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على تفوّقهم و تلبّسهم بالنسبة إلى الكافرين بعيسى عليه السّلام، و هم اليهود في الظاهر و الباطن و في الحجّة و البرهان و العدد، و لم يقيّد سبحانه التفوّق بوقت خاص، بل يستفاد من الآية الشريفة أنه بشارة و وعد أبدي لهم، فقد تحقّق هذا الوعد برهة من الزمن حين ما رفع عيسى عليه السّلام من بين المؤمنين به مع شدّة مجاهدة الكفّار و اليهود على محو دينه و إزالة طريقته و قتل المؤمنين به، فقد أظهر اللّه تعالى الحقّ و انتشر دينه و كثر اتباعه إلى أن خرجوا عن الصراط المستقيم و استولى عليهم الظلم و الفساد، و سيتحقق وعد اللّه أيضا إذا رجعوا إلى الملّة المستقيمة و الدين القويم، و هو ما أخبرنا عزّ و جلّ بظهور عيسى عليه السّلام في آخر الزمان، و يدلّ عليه قوله تعالى: إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

و قيل: إنّ المراد بالفوقيّة الفوقيّة في الاحتجاج و البرهان، و في جهة المقبوليّة لحجج المتبعين له، و استماع الناس لها و كونهم أطوع لها.

و فيه: أن ذلك احتمال حسن ثبوتا، كما هو كذلك في شريعة لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، و لكن ظاهر الآية الشريفة التأبيد و الدوام بالنسبة إلى الفوقيّة، لا بالنسبة إلى الاحتجاج الذي هو له حدّ معين إلى ظهور الإسلام.

و قال بعض المفسّرين: إنّ ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، إخبار عن المستقبل و وعد صرف عمّا يقع بعيسى و متبعيه من اللّه تعالى.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي وردت في شأن عيسى عليه السّلام في المواضع المختلفة من القرآن الكريم، بل أن ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ، تحقّق التوفّي بالنسبة إليه، و لا معنى لإخباره عزّ و جلّ بأنه سيتوفاه بعد إماتته، مع أن ذلك كلّه خلاف السنّة الشريفة التي وردت في شرح حالات عيسى عليه السّلام، و هي بمجموعها ممّا لا يسع لأحد إنكارها.

نعم، ما ورد عن النصارى في حالات عيسى عليه السّلام قابل لكلّ احتمال، و جملة منها باطلة لا يمكن قبولها بوجه.

ص: 329

قوله تعالى: إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .

التفات عن الغيبة إلى الخطاب، ليشمل عيسى عليه السّلام و الّذين اتبعوه، و الّذين كفروا به، فإن الجميع مصيرهم إلى اللّه تعالى و يحشرون إليه في يوم القيامة، فيقضي بينهم بالحقّ في ما اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام و دينه و شريعته، و ما اختلف فيه متّبعوه و الّذين كفروا به.

و في الخطاب الدلالة على شدّة الاعتناء بإيصال الثواب و العقاب لمستحقيهما.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً .

تفريع على ما تقدّم و تفصيل بعد إجمال، لبيان جزاء المبطل و كيفيّته، و هو الحكم الإلهي الذي يقضي به على الّذين كفروا، و هم اليهود الّذين خالفوا عيسى عليه السّلام و حاربوه.

قوله تعالى: فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

ذكر سبحانه و تعالى في الدنيا، لبيان تفوق الّذين اتبعوا عيسى عليه السّلام على اليهود الّذين كفروا به، فقد شدّد اللّه العذاب عليهم في الدنيا أن جعلهم مغلوبين مخذولين، ابتلاهم اللّه تعالى بأنواع البلايا من القتل و التشريد و الذلّة. و في الآخرة بأشدّ العذاب، و ما لهم في ذلك من ناصرين و أعوان يدفعون بهم عذاب اللّه.

و إنما أتى سبحانه بالجمع (من ناصرين) لبيان أن كلّ واحد منهم ليس له ناصر.

و في نفي الناصرين عنهم دلالة على أن ذلك قضاء حتم لا يقبل الشفاعة.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ .

بيان لحال المؤمنين و وعد حسن بالجزاء الأوفى لهم، و فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، تلطفا بهم و تحنّنا عليهم، و لزيادة ثقة المؤمنين بالجزاء.

و إنما عدل سبحانه عن التعبير ب «الّذين اتبعوك» بهذا الخطاب، لبيان حقيقة

ص: 330

الاتباع، و هي الإيمان و العمل الصالح، و أن مجرّد الاتباع من دون أن يستتبع ذلك بعمل صالح لا أثر له، و لا يستلزم استحقاق هذا الجزاء الحسن، و قد أكّد ذلك سبحانه و تعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية:

62]، و توفية الجزاء، أي إعطاء الثواب وافيا من غير نقص كما تقدّم، و مقتضى المقابلة بين الجملتين أن يكون الجزاء في الدارين الدنيا و الآخرة، ففي الدنيا الفوقيّة و الذكر الحسن و الغلبة و النصرة، و في الآخرة الجنّة و حسن المآب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ .

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة، و هو أن مجرّد الاتباع لبعض الأفراد لا يوجب اللحوق بالمؤمنين ما لم يستتبع الإيمان بالعمل الصالح، فإنه ظالم و اللّه لا يحبّ الظالمين، فهذه الآية المباركة تشير إلى الطائفة الثالثة، و هي المتبعون في اللسان و من انتسب إلى عيسى عليه السّلام بالقول فقط، من دون أن يتلبّس بحقيقة الإيمان، و لعلّه لذلك لم يختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بما يدلّ على الرحمة و الرأفة و المغفرة، كما هو عادته تعالى في سائر الموارد.

قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ .

إشارة إلى قصص عيسى عليه السّلام التي ذكرها اللّه تعالى من حين ولادته إلى رفعه إلى السماء. و المراد بالذكر الحكيم هو القرآن الكريم الذي أحكمت آياته بخلوصها من الباطل، و المتّقن نظمه و المشتمل على الحكمة، يهدي المؤمنين إلى الصراط المستقيم و الدين القويم، المبيّن للمغيبات.

و إنما أتى بما يدلّ على البعد للإشارة إلى عظيم منزله المشار إليه و كرامته و شرفه، و بهذه الآية الشريفة يختتم سبحانه و تعالى قصص عيسى عليه السّلام و أخباره من حين ولادته إلى وفاته و رفعه في المقام، و لكنه تعالى لم يفرغ منها، و هذا ممّا تدلّ عليه هيئة المضارع في «نتلوه»، الدالّة على استمرار الوحي.

ص: 331

و الآية المباركة تدلّ على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعواه و بطلان ما سواها.

قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

إجمال بعد تفصيل و إيجاز بعد إطناب لتأكيد الحجّة، و هذا من الأساليب المستحسنة المتّبعة في مقام الاحتجاج و الاستدلال.

و الآية الشريفة في مقام الردّ على شبهة طائفتين:

الاولى: اليهود الذين استبعدوا خلق الإنسان من غير أب، فاتهموا مريم العذراء.

و الثانية: النصارى الذين ضلّوا في عيسى عليه السّلام، فزعموا أنه ابن اللّه تعالى، فكان الجواب قاطعا، حيث إن كلتا الطائفتين تعترفان بآدم و أنه خلق من غير أب و لا ام، فما يقول فيه اليهود و النصارى يقال في عيسى عليه السّلام، فاكتفى سبحانه و تعالى بالتشبيه بخلق آدم عليه السّلام حيث اقتضى الحال أن يوجز البيان.

و الآية الشريفة على إيجازها اشتملت على حجّتين:

الاولى: أن عيسى و آدم عليهما السّلام مخلوقان مسبوقان بالعدم، و قد خلقهما اللّه تعالى حسب حكمته و علمه، و فقد الأب فيهما لا يصير خلقهما ممتنعا، و لا يوجب ادعاء التهمة في عيسى.

الثانية: أن عيسى عليه السّلام كآدم في خلقه بالأمر التكويني، فلو اقتضى خلق عيسى من غير أب دعوى الالوهيّة فيه، لاقتضى خلق آدم تلك أيضا، مع أنه لم يدع أحد الالوهيّة و لعلّه أنه أولى بذلك، إذ لم يخلق من أب و أم، و أنه مسجود الملائكة، بخلاف عيسى الذي خلق من ام و من نفخ جبرائيل، فاجتمعت في مريم العذراء الحالة الانعقاديّة و المنعقديّة، فهو أبعد من دعوى الالوهية بمراتب عن آدم عليه السّلام.

ثم إنّ الآية الشريفة تثبت حقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أن مجاري

ص: 332

الأمور تحت قدرة اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و أنه إذا أراد شيئا يتحقّق و لا يقف دونها شيء، و إن كان خلاف العادة في عالم الأسباب و المسبّبات.

و يستفاد من قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ ، ترتب الكون على الأمر من دون أن يتخلّف عن ذلك بلا احتياج إلى سبب معين.

و لكن الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء التدريج، إذ أن جميع الموجودات مخلوقة بإرادته التكوينيّة، سواء كانت من التدريجيّات أم لم تكن، و التدرّج إنما يلاحظ بالنسبة إلى الأسباب، و أما إذا لوحظ بالقياس إلى أمر اللّه فلا تدريج و لا مهلة.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالفعل المضارع: (كن فيكون)، مع أن الأمر كان في الماضي لتصوير ذلك الأمر تصوير مشاهدة و تجسيم في أذهان المخاطبين، كأنه واقع الآن، و لأن المضارع أظهر في التحقّق و الثبوت.

و قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يدلّ على وجه الشبه بين عيسى و آدم عليهما السّلام في أنهما خلقا على خلاف العادة، و يحتمل أن يكون المراد به أن آدم عليه السّلام في الخلق أغرب و أعظم، و مع ذلك لم يدع أحد الالوهيّة فيه، يكون أقطع للخصم و أحسم للشبهة.

قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ .

تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة من قصص عيسى عليه السّلام في أنها الحقّ و ليست قابلة للافتراء و التشكيك، كما تدلّ الآية المباركة على أن الحقّ منحصر به تبارك و تعالى، و ما سوى ذلك من الباطل.

و في الآية الشريفة إيماء إلى أن جميع ما اوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ، و هو على الحقّ أيضا كما تقدّم مكررا.

و إنما ذكر سبحانه و تعالى: مِنْ رَبِّكَ ، للدلالة على أن الحقّ منه دون غيره، و إليه ينتهي كلّ شيء، لفرض أنه المبدأ و المعاد.

و قوله تعالى: فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ يدلّ على أن ما ذكره اليهود

ص: 333

و النصارى في شأن عيسى عليه السّلام مفتعل و امتراء، و فيه تشجيع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المحاجّة معهم و إبطال دعاويهم.

و الآية المباركة تشتمل على أبدع الأسلوب و البيان في مقام الاحتجاج و المخاصمة، كما في قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [سورة هود، الآية: 109].

و إنما نسب الامتراء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنه لا يحتمل فيه ذلك أبدا:

أوّلا: لصحة مخاطبة أحد و إرادة غيره على نحو: (إياك عني و اسمعي يا جارة)، و هو شائع في المحاورات الفصيحة.

و ثانيا: لإثبات دعواه و نفي دعاوي اليهود و النصارى، و عدم صحّة انتسابها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 334

بحوث المقام

بحث أدبي:

الظرف في قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ متعلّق بأنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك و السير و الذهاب، كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام:

إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الصافات، الآية: 99]، و التضمين من المحسّنات البلاغيّة.

و قيل: متعلّق بفعل محذوف وقع حالا من الياء، و هي مفعول به، و معناه: من ينصرني حال كوني داعيا إلى اللّه تعالى، و إنما قالوا ذلك حفاظا على القواعد المعمولة في علم النحو، و لكن ذلك تطويل بلا طائل تحته، مع أن التضمين من المحسّنات البلاغيّة - كما عرفت - و هو أمر مرغوب فيه.

و قيل: أن «إلى» بمعنى مع، و لكن لا كلّية في ذلك، و إنما تأتي (إلى) بمعنى (مع) في موارد معدودة، فلا يقال: جاء زيد إليه مال. مع أنه مخالف لأدب عيسى عليه السّلام و القرآن مع اللّه تعالى.

و قال الزمخشري: إن (إلى) بمعنى الانتهاء، أي: من ينصرني منتهيا نصره إلى اللّه تعالى.

و في قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ الطباق التام، و هو من المحسّنات البديعيّة.

و قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ خبر أن، وَ رافِعُكَ عطف عليه، و كذا جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ . و متوفيك أصله متوفيك (بالضمة على الياء)، و لكن حذفت الضمة استثقالا.

و تقديم الجار و المجرور في قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، يفيد تأكيد الوعد و الوعيد.

ص: 335

و (ثم) في قوله تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ للتراخي في الإخبار، لا في المخبر به.

و جملة: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ابتدائية لا محل لها من الإعراب، مبيّنة لوجه الشبه.

بحث دلالي:

الآيات الشريفة تدلّ على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ على ظهور الكفر اليهود ظهورا بيّنا، بحيث تعلّق به الإحساس، فلم يبق أي احتمال لرشدهم و اهتدائهم، و لذا عقّبه سبحانه و تعالى بما يدلّ على الامتحان الذي هو الوسيلة الوحيدة لتمييز المؤمن عن الكافر.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ على حقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أن كلّ مرشد اجتماعي لا بد له من مركز يعتمد عليه في ما يلاقيه في سبيل نشر دعوته، و الحافز الذي يحفزه على العمل عند ما يرى ما يثبطه فيه، و له الأثر الكبير في تنفيذ العمل و إنجازه، و هذا ممّا نشاهده في القوى الطبيعيّة أيضا، فإنها تتمركز في نقطة ثم تنتشر منها.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ على جلالة قدر الحواريين، فإنهم آمنوا بجميع ما انزل على عيسى عليه السّلام بعد ما كفر قومه، و أسلموا أمرهم إلى اللّه تعالى و اتبعوا ما جاء به رسولهم، و اتقوا اللّه و عبدوا اللّه ربّهم و سلكوا الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى السعادة و الكمال. و هذا هو الذي طلبه عيسى عليه السّلام منهم عند ما قال: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ * إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، إلا أن جميع ذلك لا يدلّ على كونهم أوصياء أو أنبياء ممّا ورد في هذه الآيات الشريفة الدالّة على مدحهم و المبيّنة لعظيم منزلتهم من بين سائر الناس الّذين كفروا بعيسى.

ص: 336

الرابع: أن قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، يدلّ على أن للشاهدين منزلة كبرى و درجة عظمى من بين الناس، سواء في الدنيا أم في الآخرة، حيث إن كلّ مؤمن إنما يطلب أن يكون مع الشاهدين، قال تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ [سورة المائدة، الآية: 83]، فالشاهد هو الحجّة على الخلق، سواء كانت شهادته على التبليغ أم كانت على أعمال الخلق أو سائر الامة.

و الشاهد هو الذي بلغ من التقوى درجة عليا، و من الإيمان منزلة كبرى حتّى اختاره اللّه تعالى لدرجة الشهادة، و هو الكامل الذي له الشهادة على الناقص، كما نشاهده في الطبيعيّات أيضا، و قد تقدّم في قوله تعالى: يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]، بعض الكلام.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ . أن كلّ مكر في دين اللّه يترتب عليه الجزاء لا محالة، سواء في الدنيا أم في الآخرة، و مكره تعالى أشدّ و أقوى من غيره، و مع ذلك فهو يفعل وفق الحكمة المتعالية، و به يصل المحسن إلى إحسانه و المسيء إلى نكال أعماله، و لذا كان في مكره كمال العناية بخلقه و اللطف بعباده، و يظهر ذلك بوضوح في مكره عزّ و جلّ باليهود الّذين أرادوا قتل المسيح و صلبه، فرفعه اللّه تعالى من بين أيديهم و حفظه و حفظ المؤمنين و دينه من الضياع، لئلا تذهب جميع أتعابه سدى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ، على أن لعيسى بن مريم عليهما السّلام شأنا من بين الأنبياء، فقد أخذه من عالم الأرض الذي كثر فيه الفساد و استولى على أهله العصيان و الكفران و رفعه إلى السماء، التي هي محلّ القدس و القديسين، و لعلّ السرّ في ذلك أن عيسى عليه السّلام خلق من مادة أرضيّة متكوّنة من مريم العذراء و مادة ملكوتيّة هي نفخة جبرائيل، و تجاذبت المادتان فالاولى تجذب عيسى إلى عالمها، و الثانية كذلك، و غلبت الثانية و رفعت عيسى عليه السّلام إلى السماء إلا أن الاولى أوقفت هذا الرفع العلوي في السماء الرابعة، و لو لم تكن هذه لرفع

ص: 337

عيسى عليه السّلام إلى العرش الأعلى.

و يمكن أن يكون تحديد الرفع إلى السماء الرابعة أيضا ما كان معه من حطام الدنيا، و هو مدرعة صوف، و كان قلبه متوجها إلى امه الحنينة عليه الرؤوفة به، و لو لا هذان الأمران لما كان لرفعه حد معين، فإن توجّه القلب و لو في الجملة إلى غير اللّه تعالى يوجب التحديد، و كذلك المادة التي هي من الأرض توجب منع السباحة في ذلك اليم و لو كانت من غزل و نسيج مريم عليها السّلام.

و من ذلك يعرف انقطاع قلب خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله عن جميع ما سوى اللّه بالكلّية حين رفع إلى العرش الأعلى و خاطب اللّه تعالى مواجهة، كما حكى عنه الجليل في كتابه.

إن قلت: إنّ آدم عليه السّلام خلق أيضا من مادة أرضيّة و نفخة روحانيّة كما حكى عنه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة الحجر، الآية: 29] فلا بد أن يكون هذا التجاذب فيه أيضا.

قلت: إنّ آدم عليه السّلام خلق من الأرض و للأرض و لم تكن فيه حكمة رفعه إلى السماء، بخلاف عيسى عليه السّلام فإنه خلق من مادة أرضيّة و نفخة ملكوتيّة و تحقّقت فيه الحكمة لرفعه مدة معينة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، على أن الرفع لم يكن رفعا معنويّا فقط، بل كان جسمانيّا و روحانيّا معنويا، فقد طهّره اللّه تعالى من مجالسة الّذين كفروا به و رفع ذكره و نزّهه عن الفسقة و العصاة.

و لو كان التطهير معنويا لما اختص عيسى عليه السّلام، بل أن جميع الأنبياء مطهّرون من الأرجاس و الأنجاس و الكفر و العصيان.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا على تفوق من اتبع عيسى عليه السّلام على الّذين كفروا به في جميع شؤون السلطة و العدد، و الحجّة و البرهان و الشرف.

ص: 338

و إنما عبّر سبحانه ب: اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ ، لتضمّنه العلّة لهذا التفوق، و هي الاتباع و الإيمان و العمل الصالح و التقوى، فيختصّ بمن اتبعه مخلصا في أوّل دعوته و أهل الإسلام الذي اتبعوه باتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

عذابا شديدا في الدنيا و الآخرة: «فإن تعذيب الّذين كفروا بعيسى عليه السّلام في الدنيا و الآخرة يستلزم تفوق الّذين اتبعوه».

التاسع: إنما علّق سبحانه و تعالى توفية أجور المؤمنين على الإيمان و العمل الصالح، للدلالة على كمال هذين الأمرين و الإرشاد إلى الدعوة إليهما، و علّق العذاب على الكفر إيذانا بعظم قبح الكفر و الابتعاد عنه.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ على صحّة الاستدلال و الاحتجاج مع الخصم بالوجه الحسن، فإنه تعالى أثبت خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم عليه السّلام من غير أب و لا ام، فإنهما في التقدير واحد.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ على أن الحقّ مبدؤه من اللّه تعالى و ختمه إليه عزّ و جلّ، و أن رسوله على الحقّ.

كما يدلّ على تحريك العزيمة فيه صلّى اللّه عليه و آله للاحتجاج و المخاصمة على الحقّ و تثبيته على اليقين، و هذا أسلوب لطيف في تحريك العزائم و تهييج الفطرة على الثبات في مقام الاحتجاج على الحقّ.

و يدلّ على أن ما عند غيره باطل لا أثر له، و أن السامع إذا ألقى إليه هذا الخطاب انزجر و ارتدع عن المخاصمة مع الحقّ، و قد ورد نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة، آية 147، أيضا و تقدّم الكلام فيها أيضا.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ على أن مجرّد الاتباع لا يكفي في القرب إليه تعالى و توفية الأجر الكبير إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح و الانقلاع عن الظلم، و إلا فإنه يوجب البعد عنه عزّ و جلّ، فكأن هذه الآية الشريفة مسوقة لبيان حال طائفة ثالثة، و هي الفساق و مرتكبوا الظلم بعد ذكر

ص: 339

طائفتين هما الّذين اتبعوا عيسى عليه السّلام، و الثانية هم الّذين كفروا به.

بحث روائي:

في تفسير القمّي: في قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ عن الصادق عليه السّلام: «أي لما سمع و رأى أنهم يكفرون. و الحواس الخمس التي قدّرها اللّه في الناس: السمع للصوت، و البصر للألوان و تمييزها، و الشم لمعرفة الروائح الطيبة و المنتنة، و الذوق للطعوم و تمييزها، و اللمس لمعرفة الحار و البارد و اللين و الخشن».

أقول: ما ذكره عليه السّلام موافق لما اتفق عليه الفلاسفة الإلهيون و الطبيعيون، و هو عليه السّلام ليس في مقام الحصر، بل في مقام بيان ما هو الغالب و إلا فقد أثبت العلم الحديث حواس اخرى ليست من المذكورات.

و في العيون: عن ابن فضال عن أبيه قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: لم سمّي الحواريون الحواريين؟ قال عليه السّلام: أما عند الناس فإنهم سمّوا حواريون لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتق من الخبز الحوار، و أما عندنا فسمّي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم، و مخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير».

أقول: يمكن فرض الجامع القريب بينهما، لأن غسل الثوب مستلزم لإزالة وسخه، و الوعظ و التذكير عن إخلاص يستلزمان نظافة النفس و طهارة الروح عن الذنوب.

و في التوحيد: عن الصادق عليه السّلام: «أنهم كانوا اثني عشر رجلا، و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا».

أقول: و في تفسير القمّي أيضا كذلك.

و في تفسير القمّي: عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن عيسى عليه السّلام وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء و هم اثنا عشر رجلا، فأدخلهم بيتا ثم خرج عليه من عين في زاوية البيت، و هو ينفض

ص: 340

رأسه من الماء، فقال: إنّ اللّه أوحى إليّ أنه رافعي إليه الساعة و مطهّري من اليهود، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي؟ فقال شاب منهم:

أنا يا روح اللّه، قال: فأنت هو ذا، فقال لهم عيسى عليه السّلام: أما أن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال له رجل منهم: أنا هو يا نبي اللّه، فقال عيسى عليه السّلام: أ تحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى عليه السّلام: أما إنكم ستفرّقون بعدي على ثلاث فرق فرقتين، مفتريتين على اللّه في النار، و فرقة تتبع شمعون صادقة على اللّه في الجنّة. ثم رفع اللّه عيسى إليه من زاوية البيت و هم ينظرون إليه، ثم قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى عليه السّلام من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى عليه السّلام إن منكم ليكفر بي من قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، و أخذوا الشاب الذي القى عليه شبح عيسى فقتل و صلب، و كفر الذي قال له عيسى عليه السّلام تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة».

أقول: روي قريب منه عن ابن عباس و قتادة و غيرهما و اختلاف أصحاب الأنبياء بعد فقدهم أمر عادي، و ذلك لاختلاف عقولهم و ادراكاتهم و لا يجمع ذلك إلا التثبت على دين نبيّهم و متابعتهم، و هي غير متحقّقة لديهم، و يدلّ قوله تعالى:

فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [سورة الجاثية، الآية: 17]، و الروايات في قتل شبيه المسيح أو غيره مختلفة، و القرآن الكريم أجمل ذلك.

و سيأتي في سورة النساء تفصيل الكلام.

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام في حديث: «بعث اللّه عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور، و العلم، و الحكم و علوم الأنبياء قبله و زاده الإنجيل، و بعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الإيمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلا طغيانا و كفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربّه و عزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغّبهم في ما عند اللّه ثلاث و ثلاثين سنة حتى طلبته اليهود، و ادعت انها عذبته و دفنته في الأرض حيّا، و ادّعى بعضهم أنهم قتلوه

ص: 341

و صلبوه و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنما شبّه لهم، و ما قدروا على عذابه و قتله و لا على قتله و صلبه، لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله تعالى:

بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ بعد أن توفاه.

أقول: هذه الرواية تدلّ على أن مدّة الدعوة كانت ثلاثا و ثلاثين سنة، لا أصل عمره الشريف، و يمكن حمل بقية الروايات عليه أيضا، فقد ورد أن عمره كان أربعا و ستين سنة و قالت النصارى غير ذلك.

و المراد من مسخهم شياطين مسخ قلوبهم، فإن من أدمن على إنكار الحقّ يتغيّر قلبه لا محالة إلى حقيقة كفرهم، قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14].

و يمكن الحمل على مسخهم بجهاتهم الجسمانيّة كما وردت روايات كثيرة في مسخ جملة من العصاة إلى بعض الحيوانات، و قد حكى اللّه تبارك و تعالى في القرآن الكريم عن مسخ اليهود إلى بعض الحيوانات، قال جلّ شأنه: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّاغُوتَ [سورة المائدة، الآية: 60]، و عبدة الطاغوت ليس إلا من الشياطين.

و في العيون: عن الرضا عليه السّلام: «أنه ما شبّه أمر أحد من أنبياء اللّه و حججه على الناس إلا أمر عيسى وحده، لأنه رفع من الأرض حيّا و قبض روحه بين السماء و الأرض، ثم رفع إلى السماء، و ردّ عليه روحه، و ذلك في قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ ، و قال اللّه حكاية عن عيسى يوم القيامة: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ .

أقول: الحديث يدلّ على توفّي عيسى عليه السّلام و موته قبل رفعه إلى السماء، و بهذا يمكن أن يجمع بين جميع الأقوال لفرض صراحة الحديث بأنه مات ما بين السماء و الأرض ثم أرجع اللّه روحه إليه و رفعه.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف

ص: 342

من غزل مريم و من نسج مريم و من خياطة مريم، فلما انتهى إلى الماء نودي: يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا».

أقول: إذا كانت المدرعة المباركة من متاع الدنيا، فما ظنك بما في قلوب البشر الذي هو من أخسّ متاع الدنيا، و كيف يمكن الرفع بهما إلى السماء.

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عن الصادق عليه السّلام: «أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان سيدهم الأتم، و العاقب، و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس و صلّوا، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، هذا في مسجدك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم، فلما فرغوا دنوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إلى ما تدعونا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أني رسول اللّه و أن عيسى عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: قل لهم ما تقولون في آدم عليه السّلام، أ كان عبدا مخلوقا يأكل و يشرب و ينكح، فسألهم النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

أقول: روى مثله السيوطي في الدر المنثور و غيره عن السدي و عكرمة و غيرهما.

و في أسباب النزول للواحدي: «أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال صلّى اللّه عليه و آله: أجل إنه عبد اللّه و رسوله و كلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا و قالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأمرنا مثله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

أقول: مثل هذه الروايات كثيرة تدلّ على سقوط كونه ابن اللّه مطلقا، كما تدلّ على عدم كون اللّه تعالى أباه، ففسدت مزاعم النصارى و القول بالتثليث بأي نحو يتصوّر.

ص: 343

بحث عرفاني:

عالم الأمر أعظم العوالم الربوبيّة من كلّ جهة، و هو محيط بما سواه إحاطة الروح بالجسد، و هو شهود كلّه، بل بحسب بعض درجاته يتّحد فيه الشاهد و المشهود بالذات، لا سيما بناء على ما أثبته بعض أعاظم الفلاسفة من اتحاد العالم و المعلوم بالذات وجودا، و بناء على التفاني المحض في مرضاة المعبود الحقيقي.

و الانقطاع التام إليه يصير العبد مورد إرادته و مشيئته و فعله تبارك و تعالى من جميع الجهات، كالميت بين يدي الغسّال مثلا، و قد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة، و الشاهد الحقيقي في تلك المراتب واحد، و هو اللّه الواحد القهّار و المشهود به ليس إلا جماله و جلاله بالذات، فيتحد الشاهد و المشهود.

و لعلّ التأمّل في سياق قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، يقرب كونها إشارة إلى تلك المرتبة الجليلة الرفيعة، كما أن

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم أرنا الأشياء كما هي»، إشارة إلى تلك المرتبة أيضا، فإنها ليست إلا شوارق الجمال و الجلال التي تظهر للنفوس المستعدّة، إما تدريجا أو دفعة بحسب المقتضيات، لكن بحيث يكون الفيض دائما، و التدرّج و القصور إنما هو من ناحية المستفيض، و للبحث تفصيل لعلّنا نتعرّض له في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و لأجل شدّة صعوبة الوصول إلى تلك المرتبة عبّر سبحانه و تعالى بقوله:

فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، و لم يعبّر بقوله: «من الشاهدين»، لأن شهود الجمال و الجلال خاص لبعض أخصّ خواص الأولياء، كأعاظم الأنبياء و المقرّبين.

و الحمد للّه أولا و آخرا

ص: 344

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.